المدخل لدراسة القرآن الكريم

محمد أبو شهبة

التعريف بالقرآن الكريم

[التعريف بالقرآن الكريم] مقدمة الطبعة الثالثة بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، والصلاة والسلام على شفيعنا يوم المآب. أما بعد: فإن الله تعالى أنزل خاتم كتبه، على خير أنبيائه ورسله؛ ليكون كلمة الله الأخيرة للعالمين، فانقسم الناس في تلقّيه أحزابا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32]. ولئن كان هذا القرءان تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] فإن هناك من يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [التوبة: 32] وما يزال هذا دأبهم جيلا بعد جيل أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: 53] فكان الواجب على علماء الأمة خدمة كتابها، وتبيين علومه، والذبّ عنه، خاصة في تلك الأوقات العصيبة التي تنطلق فيها سهام التشكيك من كل صوب، من وسائل الإعلام العالمية المتنوعة المرئية والمسموعة والمقروءة. ولن تعدم خير الأمم من يقوم بهذا الواجب، فما زالت أيدي علمائها تسطّر من العلوم وتزيل الشبهات بما تبهر به العقول، وتقر أعين المؤمنين، وتنكّس رءوس المنافقين. وكتاب «المدخل» لفضيلة الشيخ العلامة الدكتور محمد أبو شهبة يعد حسن الختام لما كتب في هذا المجال، فقد جمع فيه بين عمق المعرفة، وسلاسة الأسلوب. جمع بين علوم القرءان على نهج المتقدمين، وبين تفنيده لشبهات المستشرقين، مع أدب عال في النقد والحوار، وغيرة شديدة على الإسلام وكتابه وعقيدته الصافية.

وها هو الكتاب يطبع للمرة الثالثة بعد أن نفدت طبعته الثانية تماما، وذلك لما جمع فيه من العلم الغزير مع النية الطيبة الحسنة، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا. وكان المؤلف رحمه الله قد ألحق بقلمه زيادات وتنقيحات على الطبعة الأولى للكتاب، فلما طبع الطبعة الثانية أدخلت هذه الزيادات فيها، ولكنها للأسف أحيانا أدخلت في غير موضعها! وفي أحايين قليلة استبدلت بعض الكلمات ظنا من المصحح أنها تصحيف! لكن بحمد الله قمنا في هذه الطبعة بالمقابلة على الأصل- كما هو منهج المحدثين- فأرجعنا الزيادات إلى أماكنها الصحيحة، واستبقينا الكلمات التي صاغها المؤلف بيده إذا تبين أنها صحيحة لغة، وأن المؤلف قصدها بعينها. وإذا كانت مكتبتنا تشرف بمثل هذا الكتاب، فلا ريب أن المكتبة الإسلامية تزداد به حسنا وبهاء. نسأل الله أن يرحم المؤلف رحمة واسعة على ما قدم لخدمة كتابه، ونسأله سبحانه أن يوفقنا لما فيه رضاه، وأن يجزي خيرا كل من ساهم في خدمة الكتاب وتصحيحه، والقيام على نشره، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. مركز السنة للبحث العلمي بالقاهرة

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي علّم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان، والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: «ما من نبي من الأنبياء إلا وآتاه الله من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة». وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فقد نفدت الطبعة الأولى من هذا الكتاب القويم الذي يدور في فلك القرآن الكريم، من منذ بضع سنين. وقد رغب إليّ الكثيرون ممن قرءوه وانتفعوا به، من طلاب جامعة الأزهر الشريف، وغيرهم من طلاب المعرفة وعشاق الثقافة الإسلامية الأصيلة؛ هذه الثقافة التي تدور حول الأصلين الشريفين: القرآن الكريم، والسنة النبوية المنيفة. وقد رأيت أن تجيء هذه الطبعة الثانية- كما هي سنة الله في التطور والارتقاء- مشتملة على مزيد من التحقيقات، ومن الموضوعات التي لا يستغني عنها الدعاة الذين نصبوا أنفسهم للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ولا سيما فيما أورده المستشرقون والمبشرون على القرآن من شبهات، فقد عرضت للشبه التي أثيرت على الوحي، ورددتها بالقواعد العلمية الصحيحة لا بالعاطفة والعصبية. وكذلك زدت بحوثا حول ثبوت النص القرآني بالتواتر المفيد للقطع واليقين، وسلامة هذ النص من التحريف والتبديل، وهي خصيصة للقرآن لم تتوافر لأي كتاب آخر سماوي. وكذلك زدت فيه بحوثا حول نزول القرآن على سبعة أحرف، ورد شبه

بعض المستشرقين في هذا، والكتاب المعاصرين الذين لم يأخذوا من الدراسات القرآنية بحظ وافر. والله أسأل أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يجعل عملي مقبولا، وأجري موصولا، إنه سميع مجيب، وهو حسبي! ونعم الوكيل. أبو عمر محمد بن محمد أبو شهبة

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده «محمد» القرآن مشتملا على الحكم والأحكام والمواعظ والآداب، والصلاة والسلام على سيدنا «محمد» الذي خصه الله بجوامع الكلم، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب، وعلى آله وصحابته، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الحساب. أما بعد: فإن أحق ما يشتغل به الباحثون، وأفضل ما يتسابق فيه المتسابقون- مدارسة كتاب الله، ومداومة البحث فيه، والغوص عن لآلئه والكشف عن علومه وحقائقه، وإظهار إعجازه وتجلية محاسنه، والدفاع عن ساحته ونفي الشكوك والريب فيه، والقرآن بحر لا يدرك غوره، ولا تنفد درره، ولا تنقضي عجائبه، فما أحق الأعمار أن تفنى فيه، والأزمان أن تشغل به، وكل ساعة يقضيها الباحث في النظر في كتاب الله، والتأمل فيه أو في البحث فيما يتصل به، في سبيل الله، وفي سبيل الإسلام. ولما أسند إليّ تدريس «علوم القرآن» بقسم «الدراسات العليا» بكلية أصول الدين من كليات الجامعة الأزهرية رأيت أن أضع في هذا مؤلفا وسطا: لا هو بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل؛ ليكون مرجعا لطلاب هذا القسم وغيرهم من عشاق القرآن وعلومه. ولما كانت مباحث هذا العلم مدخلا وسبيلا لدراسة «القرآن الكريم» وفهمه وتدبره لم أجد نفسي في حاجة إلى أن أتكلف لهذا المؤلف اسما وسميته: «المدخل لدراسة القرآن الكريم»، ويعتبر هذا «المدخل» أول كتاب ألف في هذا الفن، من أحد رجال الطبقة التي تلي طبقة شيوخنا وأول باكورة شهية، لقسم الدراسات العليا شعبة «التفسير وعلومه، والحديث وعلومه» أقول هذا تحدثا بنعمة الله عليّ ولله الحمد، والمنة. والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وأن يجعل نفعه عاما موصولا. أبو عمر محمد بن محمد أبو شهبة

التعريف بالقرآن الكريم

التعريف بالقرآن الكريم القرآن الكريم: هو كتاب الله- عز وجل- المنزل على خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه، المنقول بالتواتر المفيد للقطع واليقين المكتوب في المصاحف من أول سورة «الفاتحة» إلى آخر سورة «الناس». أحكمه الله فأتقن إحكامه، وفصّله فأحسن تفصيله، وصدق الله كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]، لا يتطرق إلى ساحته نقض ولا إبطال. وصدق العلي العظيم حيث يقول: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) [فصلت: 41 - 42]. وهو المعجزة العظمى، والحجّة البالغة الباقية على وجه الدهر لرسول البشرية سيدنا «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، تحدى به الناس كافة، والإنس والجن أن يأتوا بمثله، أو ببعضه فباءوا بالعجز والبهر. وقد وقع التحدي «بالقرآن» على مرات متعددة، كي تقوم عليهم الحجة تلو الحجة، وتنقطع المعذرة. تحداهم أولا أن يأتوا بمثله فعجزوا وما استطاعوا، قال عز شأنه في سورة «الإسراء» المكية الآية [88] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88). وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) سورة الطور المكية الآية [33 - 34]. ثم تحداهم: أن يأتوا بعشر سور مثله، فما قدروا، قال تعالى في سورة «هود» المكية الآية [13 - 14] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ (¬1) وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا ¬

_ (¬1) هذا من قبيل التنزل مع الخصم، والمساهلة معه في الحجاج، كي يكون الإفحام أدل-

لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) أي أسلموا، فهو طلب برفق ولين وهو لون من ألوان أدب الخطاب في القرآن. ثم تحداهم مرة ثالثة: بأن يأتوا بسورة منه، أيّ سورة مهما قصرت، كسورة «الكوثر» فما رفعوا بذلك رأسا، قال تعالى في سورة «يونس» المكية الآية [38 - 39]: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39). وهذا الذي ارتضاه جمهور العلماء وارتضيته في ترتيب آيات التحدي هو ما يجب أن يصار إليه، ومن العلماء من يجعل آية «يونس» متقدمة على آية «هود»؛ لتقدم نزول سورة يونس على نزول سورة هود، فيجعل التحدي بسورة قبل التحدي بعشر سور (¬1)، والجواب أنه على فرض تسليم ذلك فلا يمنع من تأخر نزول آية في سورة متقدمة، على نزول آية في سورة متأخرة، على أن بعض العلماء يرى تقدم سورة «هود» على سورة «يونس»؛ وحينئذ يكون ما ذهبنا إليه هو الحق والصواب، وإذا كان مستقبحا في الكلام العادي التحدي بشيء فإذا عجز تحداه بعشرة أمثاله فما بالك بأبلغ الكلام، وأحكمه هذا ما لا يمكن أن يكون في الكتاب المعجز المبين ثم كرر التحدي بسورة ما، فقال في سورة «البقرة» المدنية [الآية 23 - 24] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24). فألقموا حجرا، ولم ينبسوا في المعارضة بكلمة ... ! ¬

_ على الإعجاز، أي إن كان مفترى- كما تزعمون- فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، والمراد: المماثلة في الفصاحة والبلاغة وجزالة المعنى وسمو المقاصد والاشتمال على العلوم والمعارف وليس المراد من الآية أن له مثلا. (¬1) تفسير البغوي على هامش تفسير ابن كثير (ج 4/ ص 349).

1 - القرآن كتاب العربية الأكبر

وبذلك ثبت إعجاز «القرآن» على أبلغ وجه وآكده، وإذا ثبت عجز العرب فغيرهم بالعجز أحرى وأولى (¬1). 1 - القرآن كتاب العربيّة الأكبر والقرآن هو كتاب العربية الأكبر، ورمز وحدة العرب الكبرى وجامعتهم العظمى، وبه اكتسبت لغة العرب بقاءها، وحيويتها؛ وبه صار العرب أمة واحدة مؤمنة موحدة، متآلفة القلوب متجانسة المزاج، متحدة اللسان، متشابهة البيان، وبه صار المسلمون في صدر الإسلام أمة واحدة، لا يفرق بينها جنس، ولا لون، ولا لغة، فقد انصهرت كل هذه الفوارق في نور الإسلام، ولم يبق إلا الاعتزاز بالإسلام والقرآن، وصار لسان الواحد منهم يقول: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم ومنه استمد العرب والمسلمون علومهم ومعارفهم، فما من علم من علومهم إلا وله بالقرآن سبب، وله منه ورد ومدد، ولولا هذا الكتاب العربي المبين لاستعجمت لغة العرب، وأضحت في عداد اللغات الميتة، فهو الذي يجدد شبابها كلما اعتراها الهرم والضعف، ويأخذ بيدها إذا ألمّ بها التخلف والركود، ولولا هذا الكتاب لما كانت هذه الثروة الطائلة من العلوم التي تدور حول القرآن، ولغة القرآن وتجول في رحابه الواسعة. وما من عربي- أيا كان دينه- إلا وله بهذا الكتاب مفخرة واعتزاز وحب ووفاء؛ لأنه يخاطب فطرته اللغوية ووجدانه البياني، وروحه العربية الصافية الشفافة. 2 - القرآن كتاب الهداية الكبرى والقرآن هو هداية الخالق لإصلاح الخلق، وشريعة السماء لأهل الأرض. وهو التشريع العام ... الخالد الذي تكفل بجميع ما يحتاج إليه ¬

_ (¬1) اكتفيت في هذا الموضع بهذا القدر، أما إشباع القول في الإعجاز فلذلك محل آخر إن شاء الله.

3 - القرآن حارب التقليد، ودعا إلى النظر، والتأمل في الكون

البشر في أمور دينهم ودنياهم. في العقائد، والأخلاق وفي العبادات وفي المعاملات: المدنية، والجنائية، وفي الاقتصاد، والسياسة، والسلم، والحرب، والمعاهدات، والعلاقات الدولية وهو في كل ذلك حكيم كل الحكمة، لا يعتريه خلل ولا اختلاف، ولا تناقض ولا اضطراب وصدق الله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) [سورة النساء: 82] وأصيل غاية الأصالة، وعدل غاية العدالة، ورحيم غاية الرحمة، وصادق غاية الصدق، وصدق الله وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) [سورة الأنعام: 115]. فلا عجب .. أن كانت السعادة الحقة لا تنال إلا بالاهتداء بهديه، والتزام ما جاء به وأن كان الشفاء لأمراض النفوس وأدواء المجتمع؛ فاهتدت به القلوب بعد ضلال، وأبصرت به العيون بعد عمى، واستنارت به العقول بعد جهالة، واستضاءت به الدنيا بعد ظلمات، وصدق الله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) [سورة الإسراء: 9 - 10]. وقال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) [سورة الإسراء: 82]. وقال: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) [سورة المائدة: 15 - 16]. 3 - القرآن حارب التقليد، ودعا إلى النظر، والتأمل في الكون وهو الكتاب الذي فك العقول من عقالها، وأطلق النفوس من إسارها، وأنحى على التقليد والمقلدين بالذم والتوبيخ، قال عز شأنه: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) [سورة البقرة: 170]، وقال: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ

آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)! [سورة المائدة: 104]. وهو الكتاب الذي وجه العقول والأنظار إلى النظر في الأنفس، وما فيها من عجائب وأسرار وغرائز واستعدادات، قال عز شأنه: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) [سورة الذاريات: 21] والنظر في الآفاق والآيات الكونية علويّها وسفليّها، ظاهرها وخفيها وعما تنطوي عليه من حكم، وما أودع الله فيها من خواص وسنن وأفاض في ذلك في غير ما سورة وآية، وإن شئت اليقين في ذلك فاقرأ قول الحق تبارك وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) [سورة البقرة: 164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) [سورة آل عمران: 190]. وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت: «ويل لمن قرأها ولم يتفكّر» رواه ابن مردويه وعبد بن حميد، وقال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) [سورة ق: 6 - 8] وقال سبحانه: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) [سورة الغاشية 17 - 22] وقال: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ (¬1) يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) [الرعد: 4] إلى غير ذلك من الآيات التي لا يحصيها العد. وقد زخر القرآن العظيم بهذا النوع من الآيات، وكثرت كثرة زادت على ¬

_ (¬1) جمع صنو أي نخلات أصلها واحد ونخلات ليست كذلك وهذه الآية مشتملة على أحكم دليل للرد على الماديين القائلين بالطبيعة، وأن الكون وجد بلا موجد.

4 - القرآن فتح الباب للعلوم التجريبية

آيات الأحكام (¬1)، ولا سيّما في القسم المكي، ولذلك سرّ: ذلك أن هذا النظر، وذاك التأمل غالبا ما ينتهيان بالإنسان العاقل المجرد عن الأهواء والشهوات، إلى الوصول إلى الإيمان بالخالق- جل وعلا- ووحدانيته وتفرده بصفات الكمال والجلال، والجمال والإيمان بالبعث والمعاد، وأن هناك حياة أخرى خيرا من هذه الحياة، والإيمان بالملائكة والرّسل الكرام وإذا ما آمن البشر بهذه العقائد سهل عليهم بعد تلقي الشرائع، والتزامها علما، وعملا، وسلوكا، وخير الإيمان ما كان عن بينة ودليل، وخير العلم والعمل ما كان عن اطمئنان وبحث، واقتناع. 4 - القرآن فتح الباب للعلوم التجريبية والقرآن حينما دعانا إلى النظر في الآيات الآفاقية والأنفسية لم يقف بنا عند حد الاعتبار والاتعاظ بالظواهر والصور والأشكال فحسب، وإنما أراد- إلى ذلك- استكشاف المستور، واستكناه الأسرار، والتقصي عما فيها من عجائب وسنن وخواص عن طريق الملاحظة حينا والتجارب أحيانا أخرى؛ وبذلك يكون القرآن فتح أبوابا للعلوم التجريبية منذ أربعة عشر قرنا من الزمان. ولو أن المسلمين استفادوا بما في هذا الكتاب الكريم من توجيهات وإرشادات؛ لكانوا- كما كان الشأن في سلفهم الأولين- أسبق الأمم إلى الكشوف العلمية والاختراع والابتداع، ولصاروا سادة الدنيا، وأضحى بيدهم زمام الأمور، ولكنهم جمدوا ولم يستفيدوا بهدي القرآن وإرشاداته، فكانوا على ما ترى ... ! 5 - القرآن حارب العنصرية، والعنجهية الجاهلية والقرآن هو الذي قضى على العنجهية، ودعاوى الجاهلية، وقضى على التفرقة العنصرية والنسبية واللونية، ووضع أساس المساواة بين الناس ¬

_ (¬1) أكثر ما قاله العلماء في آيات الأحكام أنها خمسمائة، وغاية ما قالوه في تعداد آيات القرآن ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية.

6 - القرآن كون أمة مثالية

كافة، فالناس ربهم واحد وكلهم لآدم لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض، وإنما التفاضل بالتقوى، والتقوى جماع كل هدى وحق وخير. وصدق الله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) [الحجرات: 13]، فالناس مهما تعددت شعوبهم، وتباينت أممهم فيجمعهم رباط واحد، وهو رباط الإنسانية العام، وهذا أسمى ما يطمع فيه من تشريع! وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [سورة النساء: 1]. 6 - القرآن كوّن أمة مثالية وهو الكتاب الذي صلحت به الدنيا، وحول مجرى التاريخ، وأقام أمة كانت مضرب الأمثال في الإيمان والإخاء والعدل والوفاء، والوفاق والوئام، وأظل العالم بلواء الأمن والسلام حقبا من الزمان، وصيّر من رعاة الإبل والشاء علماء حكماء رحماء، وسادة قادة في الحكم، والسياسة والسلم، والحرب، عقمت الدنيا عن أن تجود بمثلهم. وهو الكتاب الذي لا تفنى ذخائره، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا يزداد على التكرار إلا حلاوة وطلاوة، وصدق القائل: تزداد منه- على ترداده- مِقَة ... وكلّ قول- على التّرداد- مملول وتلك لعمر الحق خصيصة من خصائص «القرآن» ومن كان في شك من هذا فليستفت الذوق والوجدان والقلب والآذان، وليوازن في هذا بين كلام الله وكلام الإنسان، وحينئذ سيتذوق، ومن ذاق عرف، ومن عرف اعترف. ومهما تعاقبت على هذا الكتاب العزيز الأجيال والسنون لا يزداد إلا جدة وطرافة ولا يزال غضا طريا كما أنزل، وكلما تقدمت العلوم والمعارف الإنسانية تكشف للناس منه العجب العجاب وصدق الحق تبارك وتعالى

حيث يقول: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ (¬1) الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) [سورة فصلت: 53] بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. وقصارى القول وحماداه: أنك لن تجد في الكشف عن حقيقة هذا الكتاب وخفاياه وفضائله ومزاياه أوفى مما وصفه به نبينا «محمد بن عبد الله». روى الترمذي (¬2) بسنده عن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على «عليّ» فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث قال: أوقد فعلوها قلت: نعم. قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إنها ستكون فتنة» قلت: وما المخرج منها يا رسول الله قال: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء (¬3) ولا تلتبس به الألسنة (¬4)، ولا يشبع منه العلماء (¬5) ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ¬

_ (¬1) الضمير في أنه عائد على القرآن لأنه معلوم من المقام، وقيل يعود إلى الإسلام، وهما متلازمان، فالقرآن أساس الإسلام، والإسلام كتابه القرآن. (¬2) قال الترمذي فيه: حديث غريب، وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال ولكن ذكره الحافظ «السيوطي» في الإتقان، وقال أخرجه الترمذي، والدارمي وغيرهما، وسكت عنه، وكذا ذكره الحافظ «ابن كثير» في «فضائل القرآن» له، وتعقب كلام الترمذي بما يدل على اعتماده للحديث، والمتأمل فيه يجد فيه قبسا من نور النبوة، وحكما من ينابيع الوحي، مما يجعل القلب يطمئن إليه. (¬3) بفتح التاء: أي لا تميل عن الحق باتباعه الأهواء أو بضمها: أي لا تميله الأهواء المضلة عن نهج الاستقامة إلى الاعوجاج، من الإزاغة: بمعنى: الإمالة والباء لتأكيد التعدية. (¬4) ولا تلتبس: أي لا تتعسر عليه ألسنة المؤمنين، ولو كانوا من غير العرب قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ وقال فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ. (¬5) أي لا يحيطون بكنهه إحاطة من يشبع من الشيء، بل كلما اطلعوا على شيء منه اشتاقوا

7 - عناية الأمة الإسلامية بالقرآن

هو الذي لم ينته الجن إذ سمعوه حتى قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ من قال به صدق، ومن عمل أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم». إن كتابا هذا بعض شأنه لجدير أن يضعه الإنسان بين عينيه، ويجعله أنيسه في خلوته، ورفيقه في سفره، وصديقه الصدوق في يسره وعسره، ومستشاره الأمين في أمور دينه ودنياه، وحجته البالغة في حياته وأخراه. 7 - عناية الأمة الإسلامية بالقرآن فلا عجب- والقرآن كما سمعت- أن عنيت الأمة الإسلامية به عناية فائقة، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فحفظوا لفظه، وفهموا معناه، واستقاموا على العمل به وأفنوا أعمارهم في البحث فيه والكشف عن أسراره، ولم يدعوا ناحية من نواحيه الخصبة إلا وقتلوها بحثا وتمحيصا، وألفوا في ذلك المؤلفات القيمة، فمنهم من ألف في تفسيره ومنهم من ألف في رسمه، وقراءاته، ومنهم من ألف في: محكمه ومتشابهه ومنهم من ألف في مكيّه ومدنيّه ومنهم من ألف في جمعه وتدوينه في الرقاع واللخاف والأكتاف ثم في الصحف، ثم في المصاحف، ومنهم من ألف في استنباط الأحكام منه ومنهم من ألف في ناسخه ومنسوخه، ومنهم من ألف في أسباب نزوله ومنهم من ألف في إعجازه، ومنهم من ألف في مجازه، ومنهم من ألف في أمثاله، ومنهم من ألف في أقسامه، ومنهم من ألف في غريبه، ومنهم من ألف في إعرابه، ومنهم من ألف في قصصه، ومنهم من ألف في تناسب آياته وسوره إلى غير ذلك من العلوم المتكاثرة. وقد تبارى علماؤنا في هذا المضمار الفسيح، وجروا فيه أشواطا بعيدة ¬

_ إلى غيره، ومعنى «ولا يخلق عن كثرة الرد» يخلق- بفتح الياء وضم اللام، وبضم الياء وكسر اللام-: من «خلق» الثوب: إذا بلي، أو من «أخلق»، وعن على بابها؛ أي لا يصدر الخلق عن كثرة تكراره، وقال الحافظ «ابن حجر»: (عن): بمعنى (مع) وفي بعض النسخ للترمذي: «على» مكان «عن»، وهو يؤيد ما ذهب إليه «ابن حجر».

حتى زخرت المكتبة الإسلامية بميراث مجيد من تراث سلفنا الصالح، وعلمائنا الأعلام، وكانت هذه الثروة- ولا تزال- مفخرة نتحدى بها أمم الأرض، ونباهي بها أهل الملل في كل عصر ومصر. وأضحت هذه العناية بحق أروع مظهر عرفه التاريخ لحراسة كتاب هو سيد الكتب وأجلها، وأبعدها من التحريف والتغيير، وبذلك هيأ الله الأسباب المتكاثرة لحفظ كتابه، وهل هذا إلا مصداق قوله- سبحانه وتعالى-: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [سورة الحجر: 9]. ***

المبحث الأول معنى علوم القرآن وتحليل هذا المركب الاضافى

المبحث الأول [معنى علوم القرآن وتحليل هذا المركب الاضافى] 1 - معنى علوم القرآن يقتضينا منهج البحث التحليلي أن نبين معنى كل من طرفي هذا «المركب الإضافي» ثم نبين بعد ذلك المراد منه بعد التركيب ثم بعد ما صار فنّا مدونا. طرفا هذا المركب هما لفظ «علوم» ولفظ «القرآن». أما «العلوم»: فهو جمع «علم»، والعلم في اللغة العربية: مصدر بمعنى الفهم والمعرفة، ويطلق ويراد به: اليقين أيضا (¬1). أما في الاصطلاح: فقد اختلفت فيه عبارات العلماء باختلاف الاعتبارات، فعرفه الشرعيون بتعريف، وعلماء الكلام بتعريف آخر، وعرفه الفلاسفة والحكماء بتعريف ثالث (¬2). وليس شيء من هذه التعريفات بمراد هنا، وإنما المراد: العلم في اصطلاح أهل التدوين وعرفهم، و «العلم» في عرف التدوين العام عبارة عن: «جملة من المسائل المضبوطة بجهة واحدة» سواء أكانت وحدة الموضوع أم وحدة الغاية، والغالب أن تكون تلك المسائل كلية نظرية، وقد تكون ضرورية، وقد تكون جزئية، مثل: «مسائل علم الحديث رواية» كقولهم: «إنما الأعمال بالنيات ... » بعض قوله صلى الله عليه وسلم. أما «العلم» بمعنى: «الملكة التي بها تستحصل هذه المسائل» أو بمعنى: «إدراك المسائل» فغير مراد هنا؛ لأن بحثنا في «العلم» بمعنى: الفن المدون، ومعلوم أن الذي يدوّن ويؤلف هي «المسائل والقواعد» لا الملكة ¬

_ (¬1) في «القاموس المحيط» [علمه كسمعه علما- بالكسر- عرفه، وعلم هو في نفسه] وفي المصباح المنير «العلم اليقين، يقال: علم يعلم. إذا تيقن. وجاء بمعنى المعرفة أيضا». (¬2) عرفه الشرعيون بأنه: «العلم بالله تعالى وما يتعلق به من جليل صفاته وحكيم أفعاله، ومعرفة حلاله وحرامه»، وعرفه المتكلمون بأنه: «صفة تنكشف بها الأشياء لمن قامت به»، وعرفه الحكماء بأنه: «صورة الشيء الحاصلة في العقل».

ولا الإدراك. وأما «القرآن»: لفظ «قرآن» قد اختلف فيه العلماء من جهة الاشتقاق أو عدمه، ومن جهة كونه مهموزا أو غير مهموز، ومن جهة كونه مصدرا أو وصفا على أقوال نجملها فيما يأتي: أما القائلون: بأنه «مهموز» فقد اختلفوا على رأيين: الأول: قال جماعة منهم «اللحياني»، القرآن: مصدر «قرأ» بمعنى: تلا، كالرجحان والغفران، ثم نقل من هذا المعنى المصدري، وجعل اسما للكلام المنزل على نبينا «محمد» صلى الله عليه وسلم، من باب «تسمية المفعول بالمصدر»، ويشهد لهذا الرأي ورود القرآن مصدرا بمعنى: القراءة في الكتاب الكريم، قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) [سورة القيامة: 17 - 18] أي قراءته. وقول «حسان بن ثابت» يرثي «ذا النورين» عثمان- رضي الله عنه-: ضحّوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا أي قراءة وعلى هذا يكون على وزن فعلان. الثاني: قال جماعة منهم الزجاج «إنه وصف على فعلان مشتق من «القرء» بمعنى الجمع، يقال في اللغة: «قرأت الماء في الحوض، أي جمعته، ثم سمي به الكلام المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم لجمع السور والآيات فيه أو القصص والأوامر والنواهي، أو لجمعه ثمرات الكتب السابقة. وهو على هذين الرأيين مهموز، فإذا تركت الهمزة فذلك للتخفيف، ونقل حركتها إلى الساكن قبلها والألف واللام فيه ليست للتعريف، وإنما للمح الأصل وعلى هذا أيضا يكون على وزن فعلان. والقائلون بأنه غير مهموز اختلفوا في أصل اشتقاقه: 1 - فقال قوم منهم «الأشعري» هو مشتق من «قرنت الشيء بالشيء» إذا ضممت أحدهما إلى الآخر وسمي به «القرآن» لقران السور والآيات

والحروف فيه. 2 - وقال «الفراء»: هو مشتق من «القرائن» لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضا، ويشابه بعضها بعضا، وهي قرائن، أي أشباه ونظائر. وعلى هذين القولين: فنونه أصلية، بخلافه على القولين الأولين، فنونه زائدة ويكون وزنه على هذين فعال. رأي خامس: مقابل للأقوال السابقة: وهو أنه اسم علم غير منقول، وضع من أول الأمر علما على الكلام المنزل على «محمد» صلى الله عليه وسلم وهو غير مهموز، وهذا القول مروي عن الإمام «الشافعي»، أخرج البيهقي والخطيب وغيرهما عنه، أنه كان يهمز قراءة، ولا يهمز «القرآن» ويقول: «القرآن» اسم وليس بمهموز ولم يؤخذ من قراءة، ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل. وبالتخفيف قرأ «ابن كثير» وحده؛ أما بقية السبعة فقرءوا بالهمزة. وأرجح الآراء وأخلقها بالقبول «الأول» ويليه الرأي الثاني. ومما يقوي مذهب القائلين بالهمز، أنهم خرجوا التخفيف تخريجا علميا صحيحا، ولا أدري ماذا يقول القائلون بالرأي الأخير في توجيه قراءة لفظ «القرآن» بالهمز، مع أن عليها معظم القراء السبعة، كما ذكرنا آنفا! رأي آخر: يرى بعض الباحثين (¬1): أن «قرآن» مأخوذ من «قرأ» بمعنى «تلا» وهذا الفعل أصله في اللغة الآرامية ثم دخل العربية قبل الإسلام بزمن طويل ولو صح هذا، فلا ضير فيه؛ لأن هذه الكلمة وأمثالها- وإن كانت في الأصل أعجمية- فقد صارت بعد التعريب عربية بالاستعمال وبإخضاعها لأصول العرب في نطقهم ولغتهم، واندمجت فيها حتى صارت جزءا منها فنزل القرآن بها، وهي على ¬

_ (¬1) الأستاذ عبد الوهاب حمودة «مجلة لواء الإسلام» العدد الأول من السنة الأولى ص 28.

2 - "تعريف القرآن" عند الأصوليين والفقهاء، وأهل العربية

هذا الحال. وهذا القول لا يخرج عما ذكره اللحياني فهو مكمل له، لأنه ليس في كلام اللحياني ما ينفي أن يكون أصل الكلمة من اللغة الآرامية. 2 - «تعريف القرآن» عند الأصوليين والفقهاء، وأهل العربية هو كلام الله المنزل على نبيه «محمد» صلى الله عليه وسلم المعجز بلفظه، المتعبد بتلاوته المنقول بالتواتر، المكتوب في المصاحف، من أول سورة «الفاتحة» إلى آخر سورة «الناس» وقد خرج بقولنا: المنزل على نبيه «محمد» المنزل على غيره من الأنبياء كالتوراة والإنجيل والزبور والصّحف. وخرج بالمعجز بلفظه المتعبد بتلاوته الأحاديث القدسية على الرأي بأن لفظها من عند الله، فإنها ليست معجزة ولا متعبد بتلاوتها. وخرج بقولنا (المنقول بالتواتر ... الخ) جميع ما سوى القرآن المتواتر من منسوخ التلاوة. والقراءات غير المتواترة سواء نقلت بطريق الشهرة كقراءة «ابن مسعود» في قوله تعالى في كفارة الأيمان فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [سورة المائدة: 89] بزيادة متتابعات، أو بطريق الآحاد مثل قراءة: متكئين على رفارف خضر وعباقري حسان [الرحمن: 76] بالجمع فإنها ليست قرآنا؛ ولا تأخذ حكمه. ثم إن العلماء بحثوا في الصّفات الخاصة ب «القرآن» فوجدوا أنها تنحصر في الإنزال على النبي صلى الله عليه وسلم والإعجاز، والنقل وبالتواتر، والكتابة في المصاحف، والتعبد بالتلاوة، فرأى بعض العلماء زيادة التوضيح والتمييز، فعرفه بجميع هذه الصفات كما ذكرنا آنفا. واقتصر بعضهم على ذكر الإنزال على النبي، والإعجاز، لأن ما عداهما من الصفات ليس من الصفات اللازمة، لتحقق القرآن بدونها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا في تعريفه: «هو الكلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، المعجز».

واقتصر بعضهم على الإنزال والكتابة في المصاحف، والنقل تواترا، لأن المراد تعريفه لمن لم يدرك زمن النبوة، وإنزال الألفاظ والكتابة في المصاحف والنقل تواترا من أبين اللوازم للقرآن وأوضحها بخلاف الإعجاز فليس من اللوازم البينة؛ إذ لا يعرفه إلا الخواص الواقفون على أسرار اللغة وأساليبها، كما أنه ليس شاملا لكل جزء؛ إذ المعجز هو السّورة أو مقدارها. واقتصر البعض على النقل في المصاحف تواترا، لأنه كاف في الغرض المقصود، وهو تمييز القرآن عن جميع ما عداه، فقد ثبت أن الصحابة- رضوان الله عليهم- بالغوا في ألا يكتب في المصحف ما ليس منه، مما يتعلق به، حتى النّقط والشّكل، واحتاطوا في ذلك غاية الاحتياط، حتى لا يختلط القرآن بغيره. واقتصر بعضهم على ذكر الإعجاز فحسب، لأنه وصف ذاتي للقرآن إذ هو الآية العظمى المثبتة لرسالة نبينا «محمد» صلى الله عليه وسلم، ولكون القرآن المنزل عليه من عند الله لا من عند البشر. ولما كان بحثنا في هذا العلم، إنما يتعلق بنظمه العربي المبين، فقد آثرت ألا أتعرض للقرآن من حيث كونه كلام الله، وصفة من صفاته، لأن هذا البحث محله «علم الكلام» (¬1). ¬

_ (¬1) كما بحث المتكلمون في القرآن من جهة كونه كلام الله وصفة له، بحثوا فيه أيضا من جهة لفظه العربي المنزل على النبي .. وهم في تعريفهم للقرآن من هذه الجهة لم يخرجوا عما ذكره الأصوليون والفقهاء وعلماء العربية في تعريفه وعرفوه من الجهة الأولى بأنه: «الصفة القديمة القائمة بذاته تعالى المتعلقة بالكلمات الحكمية من أول سورة «الفاتحة» إلى آخر «الناس»، وهذه الكلمات الحكمية أزلية مجردة عن المواد مطلقا حسية كانت أو خيالية أو روحانية وهي مترتبة غير متعاقبة وذلك مثل الصور تنطبع في المرآة، مترتبة غير متعاقبة، وقالوا: إنها حكمية، لأنها ليست ألفاظا حقيقية مصورة بصورة الحروف والأصوات. وقالوا: إنها أزلية، ليثبتوا لها معنى القدم، وقالوا: إنها مجردة عن المواد مطلقا- أي الحروف اللفظية أو الذهنية أو الروحية- لينفوا عنها أنها مخلوقة، وقالوا: إنها

لفظ"القرآن" علم شخصي

لفظ «القرآن» علم شخصي: وذهب المحققون من الأصوليين، والفقهاء، وأهل العربية: إلى أن لفظ القرآن «علم شخصي» مدلوله: الكلام المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم من أول سورة «الفاتحة» إلى آخر سورة «الناس» وعلميته: باعتبار وضعه للنظم المخصوص، الذي لا يختلف باختلاف المتلفظين، ولا عبرة بتعدد القارئين والمحال. وعلى هذا فما ذكره الأصوليون، وغيرهم من تعاريف للقرآن، ليس تعريفا حقيقيّا، لأن التعريف الحقيقي لا يكون إلا للأمور الكلية، وإنما أرادوا بتعريفه: تمييزه عما عداه مما لا يسمّى باسمه، كالتوراة والإنجيل، والأحاديث القدسية، وما نسخت تلاوته. لفظ «القرآن» أمر كلي: ويرى بعض العلماء: أن لفظ القرآن موضوع للقدر المشترك بين الكل وأجزائه: فمسماه: كلي. كالمشترك المعنوي وعلى هذا يعرف بما عرّفه العلماء. القرآن مشترك لفظي: ويرى فريق ثالث: أنه مشترك لفظي بين الكل وبين أجزائه، فهو موضوع لكل منهما بوضع. والحق: أنه علم شخصي، مشترك لفظي بين الكل وأجزائه فيقال لمن قرأ اللفظ المنزل كله: قرأ قرآنا، ويقال لمن قرأ بعضه: قرأ قرآنا، وهو ما يفهم من كلام الفقهاء، حينما قالوا: «يحرم على الجنب قراءة القرآن» فإنهم يقصدون: قراءة كله أو بعضه على السواء. ¬

_ غير متعاقبة؛ لأن التعاقب يستلزم الزمان والزمان حادث، وكل هذا من آثار الاشتغال بالفلسفة وتحكيم العقول في الأمور الغيبية. وأما نحن فنقول: «القرآن بألفاظه ومعانيه كلام الله تعالى منه بدأ وإليه يعود، وهو ما عليه السلف الصالح، والعقل أعجز من أن يتحكم في الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا عن الله، أو عن طريق رسله».

3 - أسماء القرآن

3 - أسماء القرآن للقرآن الكريم أسماء كثيرة: أشهرها: «القرآن» ومنها «الفرقان» لأنه فارق بين الحق والباطل، قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) [سورة الفرقان: 1]. ومنها: «الكتاب» وهو مصدر لكتب بمعنى: الجمع والضم، أريد به القرآن لجمعه العلوم والقصص والأخبار على أبلغ وجه، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) [سورة الكهف: 1 - 2]. ومنها: «التنزيل»، مصدر أريد به المنزل، لنزوله من عند الله، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) [فصلت: 41 - 42]، وغيرها من الآيات كثير. ومنها: «الذكر» سمي به القرآن، لاشتماله على المواعظ والزواجر، وقيل: لاشتماله على أخبار الأنبياء، والأمم الماضية، وقيل من الذكر، بمعنى: الشرف، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [سورة الزخرف: 44] أي شرف لأنه نزل بلغتكم، وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [سورة الحجر: 9]. وهذه الأربعة هي أشهر الأسماء بعد لفظ «القرآن»، وقد صارت أعلاما بالغلبة على القرآن في لسان أهل الشرع وعرفهم. وقد تسامح «أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك» - المعروف ب «شيذلة» (¬1) في كتابه «البرهان في مشكلات القرآن» - في عد ما ليس باسم اسما، وبلغ بها خمسة وخمسين اسما وقد نقل ذلك عنه «السيوطي» في «الإتقان» ووافقه ¬

_ (¬1) عزيزي: قيل بضم العين وقيل بفتحها، وشيذلة: بفتح الشين، والذال المعجمة: وهو ابن عبد الملك أحد فقهاء الشافعية المتوفى سنة 494 أربع وتسعين وأربعمائة.

4 - علوم القرآن بالمعنى الإضافي

ثم شرع يوجه ما ذكره من الأسماء (¬1)، وبلغ بها صاحب «التبيان» نيفا وتسعين اسما. ومما ينبغي أن يتنبه إليه أن أغلب ما ذكروه أسماء للقرآن هو في الحقيقة أوصاف له، فمثلا: عدوا من الأسماء لفظ «كريم» أخذا من قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) [سورة الواقعة: 77]، ولفظ «مبارك» أخذا من قوله تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ [الأنبياء: 5] مع أن الظاهر كونهما وصفين للقرآن لا اسمين. كما أن في بعض ما عدوه اسما للقرآن بعدا وتكلّفا في أن المراد به القرآن وذلك مثل عدهم من الأسماء: «مناديا»، لقوله تعالى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ [آل عمران: 193]، ومثل عدهم من الأسماء: «زبورا»، لقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) [الأنبياء: 105] مع أن الظاهر: والذي عليه جمهور المفسرين، أن المراد بالمنادى الرسول وبالزبور الكتاب المنزل على داود- عليه السلام- والذكر التوراة وقيل الزبور: جميع الكتب المنزلة، والذكر: اللوح المحفوظ، ويكون المراد بالزبور الوصفية لا العلميّة، فهو بمعنى المزبور أي المكتوب (¬2). 4 - علوم القرآن بالمعنى الإضافي والآن وقد وضح لنا المراد من كل طرفي «المركب الإضافي» يتبين لنا المراد من الإضافة التي بينهما، فهي تشير إلى كل المعارف والعلوم المتصلة بالقرآن، ومن ثمّ جمع لفظ «علوم» ولم يفرد، لأن المراد شمول كل علم يبحث في القرآن من أي ناحية من نواحيه المتعددة، فيشمل ذلك «علم التفسير» و «علم الرسم العثماني» و «علم القراءات» و «علم غريب القرآن» و «علم إعجاز القرآن» و «علم الناسخ والمنسوخ» و «علم المحكم ¬

_ (¬1) انظر: الإتقان ج 1 ص (50 - 51). (¬2) انظر تفسير ابن كثير والبغوي (ج 5 ص 541).

5 - علوم القرآن بالمعنى اللقبي أي الفن المدون

والمتشابه» و «علم إعراب القرآن» و «علم مجاز القرآن» و «علم أمثال القرآن»، إلى غير ذلك من العلوم الكثيرة التي توسع العلماء في بحثها، وأفردوا لها المؤلفات المتكاثرة. ويكون موضوعه: هو القرآن الكريم من ناحية تفسيره، أو من حيث رسمه، أو من حيث طريقة أدائه، أو من حيث إعجازه، أو من حيث مجازه وهكذا فتأتي بأو التي تدل على أنها علوم متعددة. 5 - علوم القرآن بالمعنى اللقبي أي الفن المدوّن ثم اختصرت هذه المباحث والعلوم المتعددة، وجمعت جلّ أصولها ومسائلها في كتاب واحد، وصار هذا العنوان «علوم القرآن» (¬1) علما ولقبا لهذه المباحث المدونة في موضع واحد، بعد أن كانت مبعثرة في عشرات الكتب، وصار علما واحدا بعد أن كان جملة من العلوم، وبذلك يمكننا أن نعرف هذا الفن بمعناه «العلمي» - بفتح العين واللام- بأنه: «علم ذو مباحث، تتعلق بالقرآن الكريم من حيث نزوله وترتيبه وكتابته وجمعه وقراءاته وتفسيره وإعجازه، وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه إلى غير ذلك من المباحث التي تذكر في هذا العلم». وموضوع هذا العلم القرآن الكريم من هذه النواحي كلها السابقة في تعريفه، بخلاف علوم القرآن بالمعنى الإضافي، فإن موضوع كل علم منها إنما هو «القرآن الكريم» من هذه الناحية فحسب، فعلم «التفسير» مثلا؛ موضوعه: القرآن الكريم من حيث بيان شرحه ومعناه والمراد منه بقدر الطاقة البشرية. وعلم «القراءات» موضوعه: القرآن الكريم من حيث لفظه وأدائه. وعلم الرسم موضوعه: القرآن الكريم من حيث طريقة كتابته، وهكذا. ¬

_ (¬1) ولعل الإبقاء على الجمعية بعد صيرورته علما واحدا لمحا للأصل، وللإشارة إلى أنه خلاصة علوم كثيرة تجمعت في مصب واحد وهو هذا العلم.

وفائدة علوم القرآن

وعلى هذا نقول: موضوع علوم القرآن بمعناه العلمي هو القرآن الكريم من حيث جمعه، وتفسيره، ورسمه، وقراءاته، ومكيه ومدنيه وهكذا فنأتي «بالواو» ولا نأتي «بأو». وفائدة علوم القرآن: (أ) إنه يساعد على دراسة «القرآن الكريم» وفهمه حق الفهم واستنباط الأحكام والآداب منه، إذ كيف يتأتى لدارس القرآن ومفسره أن يتوصل إلى إصابة الحق والصواب، وهو لا يعلم كيف نزل! ولا متى نزل! وعلى أي حال كان ترتيب سوره وآياته! وبأي شيء كان إعجازه! وكيف ثبت! وما هو ناسخه ومنسوخه! .. إلى غير ذلك مما يذكر في هذا الفن، وإلا كان عرضة للزلل والخطأ. فهذا العلم بالنسبة للمفسر مفتاح له، ومثله مثل «علوم الحديث» بالنسبة لمن أراد أن يدرس الحديث دراسة حقة، وقد صرح بذلك الإمام «السيوطي» في مقدمة «الإتقان» حيث قال: «ولقد كنت في زمان الطلب أتعجب من المتقدمين؛ إذ لم يدونوا كتابا في أنواع «علوم القرآن» كما وضعوا ذلك بالنسبة إلى «علم الحديث». (ب) إن الدارس لهذا العلم يتسلح بسلاح قوي حاد، ضد غارات أعداء الإسلام التي شنوها على «القرآن الكريم» زورا وبهتانا، واختلقوا عليه ما شاء لهم هواهم أن يختلقوا، ولا شك أن الدفاع عن القرآن- الذي هو أصل الإسلام- من أوجب الواجبات على الأمة الإسلامية، ولا سيما علماؤها وأهل الرأي فيها وإنه لشرف عظيم، وفضل كبير أن يكون المسلم منافحا عن هذا الكتاب الجليل. (ج) إن الدارس لهذا العلم يكون على حظ كبير من العلم بالقرآن، وبما يشتمل عليه من أنواع العلوم والمعارف، ويحظى بثقافة عالية وواسعة فيما يتعلق بالقرآن الكريم، وإذا كانت العلوم ثقافة للعقول، وصلاحا للقلوب وتهذيبا للأخلاق، وإصلاحا للنفوس والأكوان، وعنوان التقدم والرقي،

6 - تاريخ علوم القرآن

وباعثة للنهضات، ففي القمة- من كل ذلك- «علوم القرآن». فالقرآن أحسن الحديث، وأصدقه، وعلومه أشرف العلوم وأوجبها على كل مسلم أيّا كان تخصصه وأيّا كانت حرفته. 6 - تاريخ علوم القرآن قبل عصر التدوين: كان «القرآن الكريم» ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم متجمعا على حسب الوقائع والحوادث وحاجات الناس، وقد تكفل الله لنبيه أن يقرئه «القرآن» ويفهمه معناه، قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) [القيامة: 16 - 19] أي: جمعه في صدرك، وإثبات قراءته على لسانك، وبيان ما يخفى من معانيه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم من القرآن وعلومه ما لا يعرفه أحد، وذلك بسبب الوحي والفيوضات الإلهية التي كانت تلقى في قلبه. ثم بلّغ الرسول ما أنزل عليه لأصحابه فقرأه على مكث (¬1)؛ ليحفظوا لفظه ويفهموا معناه، ويقفوا على أسراره، وشرحه لهم بأقواله وأفعاله وتقريراته وأخلاقه- أي بسنته الجامعة لكل ذلك- قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل: 44] وقال: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ ... الآية [سورة النساء: 105]. [علم الصحابة بالقرآن] وكان الصحابة- رضوان الله عليهم- يحرصون غاية الحرص على حفظ ما ينزل من «القرآن» على حسب ما يتيسر لكل واحد منهم وتفاوتهم في الحفظ قلة وكثرة، كما كانوا يعرفون من معاني «القرآن» وعلومه وأسراره الشيء الكثير، لكونهم عربا خلّصا متمتعين بمزايا هذه العروبة ومن صفاء القلوب، وذكاء العقول، وسيلان الأذهان، وقوة الحافظة ولأنهم شاهدوا الوحي والتنزيل، وعلموا من الظروف والملابسات ما لم يعلمه غيرهم، ¬

_ (¬1) تؤدة وتمهل، ومن لوازم ذلك التحقق من اللفظ، وتفهم المعنى.

وسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعه غيرهم، ورأوا من أحواله ما لم يره غيرهم، وكان ابن مسعود- رضي الله عنه- من أعلم الصحابة بعلوم القرآن ولا سيما علم أسباب النزول، وعلم المكي والمدني، وعلم قراءاته، روى البخاري بسنده عنه أنه قال: «والله الذي لا إله غيره ما من آية من كتاب الله إلا وأعلم أين نزلت وفيم نزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه المطي لركبت إليه». فإن خفي عليهم من القرآن شيء لم يدركوه بفطرتهم اللغوية، ومعارفهم المكتسبة، رجعوا فيه إلى «النبي» فيعلمهم إياه، فمن ثمّ تجمع لهم من علم «القرآن» شيء كثير. روى البخاري (¬1) أنه لما نزل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) [سورة الأنعام: 82] اهتم الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالظلم: الشرك، أخذا من قول الله تعالى: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان: 13]. وروى البخاري: أنه لما نزل قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة: 187] عمد «عدي ابن حاتم» إلى عقالين، أحدهما: أبيض، والآخر: أسود، ووضعهما تحت وسادة حتى بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالخيطين بياض النهار وسواد الليل (¬2) ... وغير ذلك كثير. ولم يكن همّ الصحابة حفظ ألفاظ القرآن فحسب؛ بل جمعوا إلى حفظ اللفظ فهم المعنى، وتدبر المراد، والعمل بمقتضى ما تضمنه من الأحكام والآداب. قال «أبو عبد الرحمن السلمي» (¬3): حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة لقمان، باب «إن الشرك لظلم عظيم». (¬2) صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة البقرة باب «وكلوا واشربوا ... ». (¬3) هو: «عبد الله بن حبيب بن ربيعة» تلميذ أميري المؤمنين «عثمان» و «علي» وأضرابهما

كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: «فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا»، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة الواحدة، وهذا هو السر فيما روي أن «ابن عمر» أقام على حفظ «البقرة» ثمان سنين ذكره مالك في «الموطأ»، وما يفسر لنا قول «أنس» - رضي الله عنه-: «كان الرجل إذا قرأ «البقرة» و «آل عمران» جد في أعيننا» (¬1) أي: عظم. وعلى ما كان عليه الصحابة من العروبة الخالصة، والتصرف في فنون القول، وأخذهم بزمام الفصاحة، فقد خفيت عليهم بعض ألفاظ «القرآن» اللغوية، ولم يعرفوا معناها. أخرج «أبو عبيد» في «الفضائل» عن إبراهيم التيمي: أن أبا بكر- الصديق- سئل عن قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) [سورة عبس: 31] فقال: «أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم»، وفي سنده انقطاع لأن إبراهيم التيمي لم يلق الصديق (¬2). وأخرج عن «أنس» أن «عمر بن الخطاب» - رضي الله عنه- قرأ على المنبر وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) فقال: «هذه الفاكهة قد عرفناها .. فما الأب» ثم رجع إلى نفسه فقال: «إن هذا لهو الكلف يا عمر؛ وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري: ما الأبّ». لأن عدم معرفة معنى كلمة من القرآن لا تضر المسلم ما دام حافظا للقرآن عاملا بكل ما فيه من الأحكام والآداب. وأخرج أيضا من طريق «مجاهد» عن «ابن عباس» قال: «كنت لا أدري ¬

_ من علماء الصحابة، كابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وكان من خيار التابعين، ومن علمائهم بالقرآن. (¬1) أصول التفسير لابن تيمية ص 6 ط السلفية. (¬2) وأخرجه أيضا ابن جرير وفي سنده انقطاع.

عصر التدوين

ما فاطر السموات (¬1) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأتها». وروي عنه أيضا أنه قال: «ما كنت أدري ما قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 89] حتى سمعت بنت «ذي يزن» - وقد جرى بيني وبينها كلام- تقول: «تعال أفاتحك» تريد، أقاضيك وأخاصمك (¬2). وبلّغ الصحابة ما حملوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير القرآن وعلومه، وما فهموه منه باجتهادهم إلى من جاء بعدهم من التابعين، وبلّغه التابعون إلى من جاء بعدهم، فقد كان المعول عليه في القرون الأولى، في «علوم القرآن» وكذلك الحديث وعلومه- هو الرواية والتلقي عن الغير والمشافهة لا على الخط والكتابة في الصحف وقد استمر الأمر على هذا، إلى أن جاء عصر التدوين، فدونت المعارف والعلوم في الصحف، والسطور، بعد أن كانت مقيدة محفوظة في الصدور. عصر التدوين: لم تكن «علوم القرآن» وغيرها من العلوم مدونة في «العصر الأول» في الكتب والصحف، بل كانت مدونة على صفحات القلوب، وإنما كان المدوّن والمكتوب هو «القرآن الكريم» فحسب (¬3)، وذلك لما ورد في الصحيح: «من النهي عن كتابة غير القرآن»: روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا ¬

_ (¬1) سورة فاطر (1). (¬2) الإتقان (ج 1 ص 111)، ومقدمة تفسير القرطبي (ج 1 ص 14، 18). (¬3) والقرآن الكريم، مع كونه كان مكتوبا في عهد النبي، ثم جمع في عهد «أبي بكر» في الصحف، وفي عهد عثمان في المصاحف، فقد كان يعتمد الحفاظ والقراء على الرواية، وهي التلقي من الشيوخ، وأداء ما تلقوه إلى من جاء بعدهم، ولم يعرف عنهم أنهم كانوا يعتمدون في الحفظ والإقراء على المكتوب فحسب، ولم توجد هذه البدعة إلا في العصر الأخير وإن كان القراء المجيدون لا يزالون إلى عصرنا هذا يعتمدون على التلقي الشفاهي، والأخذ عن الشيوخ.

التدوين في علوم القرآن بالمعنى الإضافي أي العام

عني ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (¬1). فمن ثمّ تحرّج كثير من الصحابة والتابعين من كتابة وتدوين غير القرآن حتى الحديث الشريف لم يدونوه، واكتفوا فيه وفي علومه بالحفظ والرواية .. إلى أن كان عهد «علي» - رضي الله عنه- فأمر «أبا الأسود الدؤليّ» بوضع علم «النحو» فكان هذا فاتحة خير لتدوين علوم الدين، واللغة العربية. وفي العهد الأموي: اتسعت دائرة التدوين والتأليف عن ذي قبل، وفي هذا العهد رأى الخليفة الراشد: «عمر بن عبد العزيز» - رضي الله عنه- أن يجمع الأحاديث؛ فأمر علماء الأمصار بجمع أحاديث الرسول: مخافة أن يذهب شيء منها بذهاب العلماء، وحتى يتميز الصحيح من السقيم، والمقبول من المردود. وفي العصر العباسي الأول: اتسعت دائرة التأليف، واتسعت حتى شملت معظم علوم الدين واللغة العربية بل وغير علومها كالفلسفة وفروعها، فقد ترجم كثير من كتب الفلسفة في هذا العصر. وهكذا نرى: أن حركة التأليف والتدوين نشطت نشاطا قويّا في هذا العصر، وكان «لعلوم القرآن» من هذا النشاط حظ غير قليل. التدوين في علوم القرآن بالمعنى الإضافي أي العام: وكان من الطبعي أن يكون أول ما يدون من «علوم القرآن» هو علم «التفسير»؛ إذ هو الأصل في فهم القرآن وتدبره، وعليه يتوقف استنباط الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام. فألف في تفسير القرآن سفيان الثوري المتوفى سنة 161 هـ، وسفيان ابن عيينة المتوفى سنة 198 هـ، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197 هـ، وشعبة ابن الحجاج المتوفى سنة 160 هـ، ومقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150 هـ، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم- كتاب الزهد- باب التثبت في العلم وحكم كتابة العلم.

وكانت تفاسيرهم جامعة لأقوال الصحابة والتابعين. ثم تلاهم: محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ، فألف تفسيره المشهور، وهو من أجل التفاسير، وأعظمها؛ لأنه أول من تعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، وبذلك يعتبر أول من حاول مزج التفسير بالمأثور بالتفسير بالرأي والاجتهاد. وكان تفسير «ابن جرير الطبري» قطرة تلاها غيث كثير، فألف في التفسير بقسميه: المأثور وغير المأثور، خلق لا يحصون، من أجلة العلماء، ما بين مطنب ومتوسط وموجز، وما بين مفسر للقرآن كله ومفسر لبعضه. وقد شملت هذه الحركة التأليفية كل نوع من أنواع «علوم القرآن» تقريبا فألف في أسباب النزول، عليّ بن المديني، شيخ البخاري المتوفى سنة 234 هـ. وفي الناسخ والمنسوخ: أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224 هـ، وأبو جعفر أحمد بن محمد النحاس المتوفى سنة 338 هـ، وابن حزم المتوفى سنة 456 هـ. وألف في مشكله وغريبه أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ كما ألف في غريبه ومفرداته أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 209 هـ، وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو بكر السجستاني المتوفى سنة 230 هـ والراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502 هـ وغيرهم. وألف في إعرابه: محمد بن سعيد الحوفي المتوفى سنة 430 هـ، وأبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري المتوفى سنة 616 هـ. كما ألف في إعجاز القرآن: الرماني المتوفى سنة 384 هـ، والخطابي المتوفى سنة 388 هـ، وأبو بكر الباقلاني المتوفى سنة 403 هـ وغيرهم. وفي مجاز القرآن: ابن قتيبة، المتوفى سنة 276 هـ، والشريف الرضي المتوفى سنة 406 هـ، والعز بن عبد السلام المتوفى سنة 660 هـ.

7 - علوم القرآن، بمعنى الفن المدون

وفي قراءاته: أبو بكر أحمد بن مجاهد المتوفى سنة 324 هـ، وعلم الدين السخاوي المتوفى سنة 643 هـ، وابن الجزري المتوفى سنة 833 هـ. وفي أقسامه: ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ. وفي أمثاله: أبو الحسن الماوردي المتوفى سنة 450 هـ. وألف في جدله: نجم الدين الطوفي المتوفى سنة 716 هـ. وفي فضائله: أبو عبيد المتوفى سنة 224 هـ، والنسائي المتوفى 303 هـ، وابن كثير المتوفى سنة 774 هـ، إلى غير ذلك من المؤلفات المتكاثرة، التي تناولت كل نواحي القرآن العديدة. وقد سلك هؤلاء العلماء في تأليفاتهم طريقة الاستيعاب والاستقراء لأجزاء الأنواع التي ألفوا فيها، فمن دوّن في: مجاز القرآن، يتتبع كل آية فيها مجاز، ومن يؤلف في: أمثاله، يتتبع كل آية فيها مثل، ومن يؤلف في: أقسامه، يتتبع كل آية فيها قسم، حتى تكونت من كل ذلك ثروة ضخمة في: علوم القرآن، وبحسبك أن تتناول فهرسا لمكتبة من المكاتب العامة، وستجد ما يبهرك، وأن المؤلفات التي تدور في فلك (القرآن) في العصور المتعاقبة تملأ خزانة كبيرة فسيحة. 7 - علوم القرآن، بمعنى الفن المدون وهناك طريقة أخرى في التأليف، فقد رأى بعض العلماء أن يجمعوا هذه الأنواع في كتاب مستقل على غرار ما صنع المحدثون في: «علوم الحديث» فاستخلصوا من هذه العلوم علما واحدا، يكون كالفهرس لها، يجمع خصائصها ومقاصدها، وإن لم يحط بكل مسائلها وجزئياتها فكان هذا العلم الذي سموه «علوم القرآن». وقد جاء التدوين على هذه الطريقة متأخرا عن التدوين على الطريقة الأولى ثم سار بعد ذلك جنبا إلى جنب، فكان بعض العلماء يؤلف في العلم كفن مستقل، والبعض يؤلف في نوع من أنواعه.

متى ظهر هذا الاصطلاح

متى ظهر هذا الاصطلاح كان المعروف لدى الكاتبين في هذا الفن أن ظهور هذا الاصطلاح كان في القرن السادس الهجري، على يد «أبي الفرج بن الجوزي» استنتاجا مما ذكره «السيوطي» في مقدمة «الإتقان». ولكني وقفت على مؤلّف بعنوان: «مقدمتان في علوم القرآن» طبع في عام 1954، ووقف على التصحيح والطبع الأستاذ المستشرق «آرثر جفري»، وإحدى هاتين المقدمتين لمؤلف لم يعرف، لفقدان الورقة الأولى من المخطوطة (¬1) .. التي نقل عنها الطابع، إلا أنه ذكر في الصحيفة الثانية منها: أنه بدأ في تأليف كتابه في سنة أربعمائة وخمس وعشرين، وسماه: «كتاب المباني في نظم المعاني»، وهو تفسير للقرآن الكريم وقد صدره بهذه المقدمة، وهي تقع في عشرة فصول، وهي إحدى المقدمتين المنشورتين، والأخرى: مقدمة التفسير للإمام «عبد الحق بن أبي بكر» المعروف «بابن عطية» المتوفى سنة 543 هـ. وقد ذكر صاحب كتاب «المباني» في فصول هذه المقدمة العشرة: المكي والمدني، ونزول القرآن، وجمع القرآن وكتابة المصاحف، واختلافها، ورد الشّبه الواردة على الجمع والمصاحف وبيان عدد السور والآيات والتفسير والتأويل، والمحكم والمتشابه ونزول القرآن على سبعة أحرف، إلى غير ذلك من مباحث «علوم القرآن». وقد بلغت هذه المقدمة مائتين وخمسين صحيفة من هذا الكتاب المطبوع وتمتاز هذه المقدمة بإشراق اللفظ ونصوع البيان، وقوة الحجة، مما يلقي ضوءا على أن المؤلف من علماء الأندلس كما استنتج المصحح، وعسى أن يتاح لي، أو لأحد الباحثين الوقوف على مؤلف هذا الكتاب- إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) هذه المخطوطة هي الوحيدة من هذا الكتاب، وتوجد في دار الكتب ببرلين تحت رقم 103.

وإن أغلب ما ذكره «السيوطي» في مقدمة «الإتقان» من الكتب المؤلفة في هذا الفن لا يداني هذه المقدمة، بل بعضها لا يزيد عن فصل من فصولها فهي جديرة بأن تذكر في كتب هذا الفن، وهي- بحق- تعتبر محاولة جدية في التأليف في هذا العلم، ولا يغض من قيمتها أنها مقدمة لتفسير، فكتاب الإتقان الذي هو عمدة كتب الفن قد جعله مؤلفه مقدمة لتفسيره الكبير كما ذكر. ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أذكر: أن بعض المفسرين في القديم والحديث صدّروا كتبهم بمقدمات قيمة في «علوم القرآن»، لتكون مفتاحا لهذه التفاسير، ولا تزال إلى اليوم مرجعا للكاتبين في هذا الفن، وذلك كما فعل «ابن جرير الطبري» و «القرطبي» و «الآلوسي» في تفاسيرهم، ولعل أطول هذه المقدمات وأحفلها هي مقدمة تفسير القرطبي، وهي- على طولها- لا تبلغ ما بلغته هذه المقدمة في طولها، وتنوع موضوعاتها. وبذلك أكون قد تقدمت بتاريخ هذا الفن نحو قرن ونصف من الزمان. ويرى أستاذنا الشيخ «محمد عبد العظيم الزرقاني» - رحمه الله وأثابه- في كتابه «مناهل العرفان»: أن هذا الاصطلاح ظهر في مستهل القرن الخامس على يد «الحوفي» المتوفّى سنة 430 هـ في كتابه «البرهان في علوم القرآن»، والرأي عندي: أن هذا الكتاب لا يخرج عن كتب التفسير، التي تتعرض لذكر التفسير، وأسباب النزول والقراءات، والوقف والتمام، ولا فرق بين صنيعه وصنيع «القرطبي» و «الفخر الرازي» في تفسيرهما، فكتابه هذا أمس بالتفسير منه بعلوم القرآن، وإن كانت التسمية تشعر أنه بعلوم القرآن أمس، وقد ذكر- رحمه الله-: أن الجزء الأول مفقود، ولا أدري من أين عرف التسمية ولعله اعتمد على فهرس دار الكتب المصرية، وقد رجعت إلى كتاب «كشف الظنون» الجزء الأول ص 242 فتبين لي أن اسم الكتاب: «البرهان في تفسير القرآن» وبذلك زالت الشبهة في عدّه من علوم القرآن، وثبت أنه كتاب تفسير، وهو الحق والصواب، كما يعلم ذلك من يرجع إلى الأجزاء الموجودة من الكتاب.

المؤلفات في القرن السادس

المؤلفات في القرن السادس: وفي القرن السادس الهجري، ألف الإمام «أبو الفرج بن الجوزي» المتوفّى سنة 597 هـ كتابا سماه: «فنون الأفنان، في علوم القرآن» وكتابا آخر سماه: «المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن» (¬1). المؤلفات في القرن السابع: وفي القرن السابع: ألف الشيخ «علم الدين علي بن محمد السخاوي» المتوفى سنة 643 هـ كتابا سماه «جمال القراء»، وألّف العلامة عبد الرحمن ابن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي المعروف «بأبي شامة» المتوفى سنة 665 هـ كتابا سماه «المرشد الوجيز في علوم تتعلق بالقرآن العزيز». وهذه الكتب- كما قال «السيوطي» -: «عبارة عن طائفة يسيرة، ونبذة قصيرة» بالنسبة للمؤلفات التي ألفت بعد في هذا العلم. المؤلفات في القرن الثامن: ثم أهلّ القرن الثامن: فألف فيه الإمام «بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي» (¬2) المولود سنة 745 والمتوفى سنة 794 هـ كتابا سماه: «البرهان في علوم القرآن»، ذكر فيه سبعة وأربعين نوعا من أنواع علوم القرآن، وقد سردها «السيوطي» في مقدمة إتقانه، ثم نقل عن «الزركشي» قوله: «واعلم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلا ولو أراد الإنسان استقصاءه لأفرغ عمره، ثم لم يحكم أمره، ولكنا اقتصرنا من كل نوع على أصوله، والرمز إلى بعض فصوله، فإن الصناعة طويلة والعمر قصير، وماذا عسى أن يبلغ لسان التقصير». ¬

_ (¬1) هما مخطوطان بدار الكتب. (¬2) هو الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، ولد بالقاهرة سنة 745 هـ، وتفقه بمذهب الإمام الشافعي، ولازم الشيخ جمال الدين الإسنوي رئيس الشافعية بمصر، وتخرج على الشيخ سراج الدين البلقيني والحافظ مغلطاي، وألف في الحديث والفقه الشافعي والأصول، وكانت وفاته سنة أربع وتسعين وسبعمائة.

المؤلفات في القرن التاسع

وهو كتاب جليل، لا يفوقه في هذا العلم إلا كتاب «الإتقان» للسيوطي، وقد اعتمد عليه السيوطي في تأليف إتقانه، كما ستعلم فيما بعد. وللإمام «تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني» المتوفى سنة 728 هـ رسالة في «أصول التفسير» وهي على وجازتها قيمة جدّا، وقد اشتملت على بعض أنواع «علوم القرآن». المؤلفات في القرن التاسع: ثم طلع القرن التاسع: فترعرع فيه هذا العلم، وخطا خطوات فسيحة، فقد ألف فيه الإمام «محمد بن سليمان الكافيجي» (¬1) المتوفّى سنة 879 هـ، كتابا يقول مؤلفه عنه: «إنه لم يسبق إليه» وهو صغير جدّا في بابه، وقد رتبه على بابين وخاتمة: الأول: في ذكر معنى التفسير والتأويل، والقرآن والسورة والآية. والثاني: في شروط القول بالرأي. والخاتمة: في آداب العالم والمتعلم. وفي هذا القرن أيضا، وضع الإمام «جلال الدين البلقيني» (¬2) المتوفّى سنة 824 هـ كتابا أسماه: «مواقع العلوم من مواقع النجوم» قال في مقدمته: «قد اشتهرت عن «الإمام الشافعي» - رضي الله عنه- مخاطبة لبعض خلفاء بني العباس (¬3)، فيها ذكر بعض أنواع القرآن، يحصل منها لمقصدنا ¬

_ (¬1) هو محمد بن سليمان بن سعد بن مسعود الرومي الحنفي، من كبار العلماء بالمعقولات؛ لأنه لازم السيوطي أكثر من أربعة عشر عاما، وعرف بالكافيجي لكثرة اشتغاله بالكافية في النحو، وانتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، توفي سنة 879 هـ. (¬2) هو الشيخ عبد الرحمن بن عمر بن رسلان الكناني العسقلاني، أبو الفضل، جلال الدين- من علماء الحديث بمصر وإليه انتهت رئاسة الفتوى، وولي القضاء بالديار المصرية مرارا، توفي سنة أربع وعشرين وثمانمائة. (¬3) ذلك أنه قد وشى به حساده عند «الرشيد» بأنه يعمل للعلويين، وأنه يؤثر بلسانه ما لا يؤثره المقاتل بسيفه، فأمر به هارون الرشيد فحمل على بغل وهو مكبل بقيود الحديد حتى قدم عليه ببغداد، فدافع عن نفسه حتى ظهرت براءته، ولقد كان لغزارة علمه

الاقتباس وقد صنف في «علوم الحديث» جماعة في القديم والحديث، وتلك الأنواع في سنده دون متنه، أو في مسنديه وأهل فنه (¬1)، وأنواع علوم القرآن شاملة، وعلومه كاملة، فأردت أن أذكر في هذا التصنيف ما وصل إليه علمي، مما حواه القرآن الشريف من أنواع علمه المنيف، وقد ذكر في كتابه هذا خمسين نوعا من علوم القرآن وقد سردها «السيوطي» في مقدمة «الإتقان». ثم جاء فارس هذه الحلبة الإمام «جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين الأسيوطيّ» المولود سنة 849 والمتوفّى سنة 911 هـ، فألف كتابا سماه: «التحبير في علوم التفسير» ضمنه ما ذكره شيخه البلقيني من الأنواع مع زيادة مثلها، وقد فرغ منه سنة 872 هـ، وقد بلغت أنواعه مائة واثنين. لكن نفسه التواقة إلى المعرفة والاستقصاء لم تقنع بهذا المجهود، فعزم على تأليف كتاب جامع يسلك فيه مسلك الإحصاء والجمع، والضبط مع حسن الترتيب، والتبويب، وفي هذه الآونة .. وقف على كتاب «البرهان» للزركشي ولم يكن اطلع عليه من قبل فقوي عزمه على إبراز ما أراد، وسأدع «السيوطي» يتحدث عن نفسه في هذه الفترة، التي خطر له فيها تأليف هذا الكتاب الجامع فيقول: «فبينا أنا أجيل في ذلك فكري، أقدم رجلا وأؤخر أخرى (¬2)، إذ بلغني ¬

_ أكبر شافع له في هذه المحنة فقد تناظر بين يدي الرشيد هو ومحمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة فأدهش الحاضرين بحجته وفلجه بالصواب، ولما أعجب به الرشيد سأله عن علمه بكتاب الله، فقال الشافعي: عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين فإن الله قد أنزل كتبا كثيرة، فقال الرشيد: قد أحسنت، لكني إنما سألت عن كتاب الله الذي أنزل على ابن عمي «محمد» صلى الله عليه وسلم فقال الشافعي: إن علوم القرآن كثيرة، فهل تسألني عن محكمه ومتشابهه أو عن تقديمه وتأخيره أو عن ناسخه ومنسوخه أو عن .. أو عن .. وصار يسرد عليه من علوم القرآن ويجيب على كل سؤال بما أدهش الرشيد والحاضرين وهذه القصة تدل على أن مباحث علوم القرآن كانت معلومة للعلماء مركوزة في نفوسهم قبل أن تدون، وتقيد في الكتب. (¬1) رجاله وأئمته. (¬2) أي وأؤخرها أخرى كناية عن التردد في الشيء، فالمفعول محذوف وهو الضمير

8 - الإتقان في الميزان

أن الشيخ الإمام «بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي» ألف كتابا حافلا يسمى «البرهان في علوم القرآن» فتطلبته، حتى وقفت عليه، ثم قال: «ولما وقفت عليه ازددت به سرورا، وحمدت الله كثيرا، وقوي العزم على إبراز ما أضمرته، وشددت الحزم في إنشاء التصنيف الذي قصدته، فوضعت هذا الكتاب العلي الشأن، الجلي البرهان، الكثير الفوائد والإتقان ورتبت أنواعه ترتيبا أنسب من ترتيب البرهان، وأدمجت بعض الأنواع في بعض، وفصلت ما حقه أن يبان، وزدته على ما فيه من الفوائد والفرائد والقواعد والشوارد ما يشنف الآذان وسميته ب «الإتقان في علوم القرآن». وقد جعله مقدمة للتفسير الكبير الذي شرع فيه، والجامع بين الرواية والدراية، والمسمى: «مجمع البحرين ومطلع البدرين»، وقد جمع ثمانين نوعا من أنواع علوم القرآن (¬1). 8 - الإتقان في الميزان الإمام «السيوطي» - عليه رحمة الله- رجل طلعة باقعة (¬2) لم يدع شاردة ولا واردة، إلا اطلع عليها، فلا عجب أن جاء كتابه كالفهرس لعلوم القرآن، وقد ذكر فيه خلاصات مئات الكتب المؤلفة في هذه العلوم، وفي غيرها، وبحسبك أن تقرأ أسماء الكتب التي اعتمد عليها في تأليف كتابه، وقد سردها في مقدمته، لتتبين صدق هذا القول. ومن محاسن «الإتقان» أن يذكر في مقدمة كل نوع من أنواعه الكتب التي ألفت مستقلة في هذا النوع وهو بهذا يرشد القارئ إلى المراجع، ويحمله على الاستزادة في البحث، والتحري عن الحقائق، واستقصاء ما كتب في الموضوع، ثم يأخذ في ذكر نقول ونماذج من هذه الكتب، توضح ¬

_ و «أخرى» صفة لموصوف محذوف أي «وأؤخرها مرة أخرى». (¬1) انظر الإتقان ج 1 من ص 4 - 18. (¬2) طلعة- بضم الطاء وفتح اللام- كثير الاطلاع، والباقعة، الذكي العارف الذي لا يفوته شيء.

ما عنون له، وفي هذه النقول روايات صحيحة وجياد، لا يرد عليها أي طعن ولا يعلق بها غبار، وفيها مرويات زائفة مدسوسة، وكان الأولى أن ينبه عليها، أو ينزه كتابه عن ذكرها. وقد اتخذ المبشرون والمستشرقون، وأضرابهم المتابعون لهم من هذه الروايات مادة للطعن في «القرآن» والإسلام؛ فقد صادفت هوى في نفوسهم المريضة، فقالوا ما شاء لهم هواهم أن يقولوا من زور وافتراء. والإمام السيوطي من حفاظ الحديث- ولا ريب- ومثله أجل من أن يذكر مثل هذه الروايات الواهية الساقطة التي تصل إلى حد الوضع والاختلاق دون التنبيه عليها، ولعله يرى؛ أنه ما دام ذكر الرواية بسندها أو عزاها إلى مخرجها؛ فقد أعفى نفسه من التبعة، وعلى القارئ أن يبحث ويجدّ في البحث حتى يصل إلى مفصل الحق في هذه الروايات المريبة، وهو رأي لبعض حفاظ الحديث. على أن هناك حقيقة ينبغي التنبه إليها، وهي أن الإمام «السيوطي» من نقاد الحديث، المتشددين جدّا في الحكم بالوضع أو السقوط ومن المتمسكين بحرفية قواعد أصول الحديث، وربما يرجح هذه الحرفية على القرائن التي تكاد تنطق بأن هذه الروايات مدسوسة على الحديث ورجاله. وهناك حقيقة أخر: وهي أن نقاد الحديث وأئمته، ليسوا في درجة واحدة في أصالة النقد وبعد الغور وشفوف النظر، والكشف عن المعايب الخفية، فمنهم الناقد الجهبذ، والصيرفي الماهر، الذي لا يخفى عليه التزييف مهما استتر، ومنه الطبيب النّطاسيّ، الذي يعرف مكمن الداء بمجرد النظر، ومنهم من هو دون ذلك، فمن ثم خفيت هذه الروايات المدسوسة على بعض العلماء دون بعض، واغتر بها البعض فذكرها في كتبه، وتنبه إليها بعضهم؛ فلم يخدع بها بل نبه على وضعها. ومن المآخذ التي أخذتها على مؤلف هذا الكتاب أنه يذكر بعض الأقوال الشاذة والآراء الباطلة، ويمر بها من غير أن يفندها ويبين بطلانها، وليس من شك في أن ذكر هذه الآراء من غير تمحيص، وتحقيق، يضر بالقارئ

عصر نهضة العلوم

الذي لم يتعمق في الدراسات الإسلامية، وليس له من العلم بأصول الدين ما يعصمه من قبول هذه الآراء الزائفة المتسترة، أو على الأقل ما يوقعه في بلبلة فكرية، وشكوك علمية، وسيأتي فيما بعد أمثلة لذلك أثناء البحوث إن شاء الله تعالى. والكتاب مع هذا «نفيس» ولكنه محتاج إلى التحقيق والتعليق، حتى يسلم من هذه العيوب المعدودة، وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه وقد راودتني هذه الفكرة مرارا .. إلا أن الأحوال لم تكن مواتية والفراغ غير ميسر، ومثل هذا العمل يحتاج إلى جهد جهيد وتفرغ، وعسى أن يقوم بهذا العمل الجليل «قسم الدراسات العليا» بكلية أصول الدين، وبهذا يكون قد أسدى للعلم خدمة تذكر فتشكر. وقد كان كتاب «الإتقان» - ولا زال- أوفى مرجع في هذا العلم، وعليه اعتماد من جاء بعد مؤلفه من العلماء إلى عصرنا هذا، وبهذا الكتاب توقف التأليف في «علوم القرآن» أو كاد، ولم نعلم أن أحدا ألف في «علوم القرآن» إلا ما كان من الإمام العلامة الشاه «أحمد» المعروف بولي الله الدهلوي المتوفى سنة 1176 هـ فقد ألف رسالة سماها: «الفوز الكبير في أصول التفسير» وهي رسالة صغيرة .. إلا أنها اشتملت على مباحث قيمة، وهي مطبوعة في «الهند» .. إلى أن جاء العصر الأخير .. عصر نهضة العلوم. عصر نهضة العلوم: لما نهضت العلوم في العصر الأخير كان «لعلوم القرآن» من هذه النهضة نصيب ملحوظ، ونشاط ملموس، فبدأت الحياة تدب في «علوم القرآن» من جديد، والذي ساعد على هذا النشاط، وبعث هذه الحياة، ما أخذ به «الأزهر» في تطوره في القرن الأخير من إدخال الدراسات التخصصية في منهجه فحظي القرآن الكريم وعلومه ببعض شعب التخصص. ولم تقف مباحث علوم القرآن عند الأنواع التي عني بها المؤلفون

المؤلفات في العصر الأخير

القدامى، بل أضيفت مباحث أخرى، فقد جدت بعض المباحث، مثل ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية، وقد تناولها العلماء بالبحث ما بين مجوز ومانع، وألفوا في الانتصار لآرائهم الكتب والرسائل، وكذلك جدت بعض الشبه التي أوردها القسس والمستشرقون، ومتابعوهم من الكتّاب المعاصرين، فرأى الغيارى المخلصون من علماء «الأزهر» وغيرهم أن يناهضوا هذه الحركة الهدامة، التي تتعرض لأقدس ما يقدسه المسلمون، وهو «القرآن الكريم» فوضعوا في الرد على هؤلاء الطاعنين بعض الكتب والرسائل وبذلك أضيفت إلى مباحث هذا العلم مباحث أخرى جديدة، وتضخمت هذه الثروة العلمية أكثر من ذي قبل، ومن هؤلاء الذين حملوا شرف الدفاع عن القرآن الكريم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين- رحمه الله- أحد شيوخ الجامع الأزهر الشريف في العصر الأخير، فقد ألف كتابا قيما في الرد على الدكتور طه حسين فيما ذكره في كتابه «الشعر الجاهلي» من شبهات على القرآن الكريم، وقد فند شبهاته التي أوردها مع العفة في القول، والأصالة في النقد كما هو شأن العلماء الراسخين، وكذلك صنع العالم الكبير الأستاذ الشيخ محمد عرفة- مد الله في عمره (¬1) - في الرد على الدكتور طه فيما كان يلقيه على طلاب الجامعة من محاضرات فيها طعون على القرآن الكريم، وألف في ذلك كتابا صغير الحجم، ولكنه جم الفائدة، وسماه «نقد مطاعن القرآن». المؤلفات في العصر الأخير: في هذا العصر ألفت كتب في «علوم القرآن» بعضها شامل لجميع أنواعه أو لجلها، وبعضها في بعض أنواعه ومباحثه، وبعضها سلك فيه مؤلفه مسلك الإطناب والاستقصاء، وبعضها متوسط؛ وبعضها قصير. فمن المؤلفات التي اشتملت على كثير من أنواعه: كتاب «التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن» للعلامة المغفور له الشيخ «طاهر الجزائري»، ¬

_ (¬1) بعد كتابة هذا توفاه الله، عليه رحمة الله.

9 - رسائل وكتب في بعض علوم القرآن

فرغ من تأليفه سنة 1335 هـ، وهو مختصر لبعض مباحث كتاب «الإتقان» مع بعض زيادات طفيفة. وألف المغفور له العلامة الشيخ «محمود أبو دقيقة» من كبار علماء الأزهر كتابا في «علوم القرآن» سلك فيه مسلك التوسط، إلا أنه لم يتم. جاء بعده المغفور له العلامة الشيخ «محمد علي سلامة» من كبار العلماء، فألف كتابا سماه: «منهج الفرقان في علوم القرآن» وقد سلك فيه مؤلفه مسلكا وسطا، وقد اشتمل على الكثير من أنواع علوم القرآن، ثم سار على هذا المنهج وزاد عليه الأستاذ العلامة الشيخ «محمد عبد العظيم الزرقاني» - رحمه الله- فألف كتابا حافلا في مجلد كبير سماه «مناهل العرفان في علوم القرآن» وهو دون سابقه في استيعاب أنواع علوم القرآن، إلا أنه أوسع فيه القول، وأطنب في بعض موضوعاته إطنابا مشكورا ولا سيما في الرد على الشبه والمشكلات التي أثيرت حول «القرآن» والوحي، ويظهر أن المؤلف- عليه سحائب الرحمة- كان في نيته أن يكمل الكتابة عما ترك من الأنواع في جزء ثان، ولكن المنية عاجلته (¬1). 9 - رسائل وكتب في بعض علوم القرآن كما ألف بعض العلماء والأدباء كتبا ورسائل في بعض أنواعه، منهم: العلامة الشيخ «محمد بخيت المطيعي» - رحمه الله- مفتى الديار المصرية سابقا، وله رسالة سماها: «الكلمات الحسان في الحروف السبعة وجمع القرآن»، والعلامة الشيخ «محمد حسنين العدوي» - رحمه الله-، والعلامة الشيخ «محمد خلف الحسيني» فقد كتب في نزول القرآن على سبعة أحرف، ومنهم أستاذنا العلامة المحدّث الشيخ «محمد حبيب الله الشنقيطي» - رحمه الله-، فقد ألف رسالة سماها: «إيقاظ الأعلام في اتباع رسم المصحف الإمام» وهي رسالة قيمة، تنم عن علم غزير، ومنهم ¬

_ (¬1) بعد كتابة هذا وقفت على جزء ثان صغير في بعض مباحث علوم القرآن وبذلك صار الكتاب في جزءين.

10 - ترجمة القرآن الكريم

الأستاذ الشيخ «عبد العزيز جاويش» - رحمه الله- فقد كتب رسالة بعنوان: «أثر القرآن في تحرير العقل البشري» وألقاها في «نادي دار العلوم»، ومنهم الأستاذ الشيخ «محمد عبد العزيز الخولي» - رحمه الله- فقد ألف كتيبا بعنوان «القرآن الكريم- وصفه- هدايته- أثره- إعجازه»، ومنهم الأديب الكبير «مصطفى صادق الرافعي» - رحمه الله- فألف كتابه «إعجاز القرآن» وهو على كثرة ما كتب في الإعجاز، يعتبر بدعا في بابه وقد كشف فيه عن كثير من إعجاز القرآن الأدبي والعلمي والاجتماعي. وللأستاذ الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء- رحمه الله وأثابه- كتاب جليل سماه: «النبأ العظيم» عرض فيه لإعجاز القرآن، وأبان عنه بطريقة علمية فنية، ثم شرع يدلل على إعجاز القرآن البياني في سورة من سور القرآن، وهي سورة البقرة، إحدى الزهراوين، بما لا يدع مجالا للشك في أن هذا القرآن فوق مستوى قدر البشر، وأنه من عند خالق القوى والقدر. ولو أنه تناول القرآن كله على هذا المنوال لكان ذخيرة من الذخائر القرآنية التي تنتفع بها الأجيال المتعاقبة، فعسى أن يقيض له الله سبحانه من يقوم بإتمام هذه الدراسة القرآنية على هذا المنهج المستقيم البديع. 10 - ترجمة القرآن الكريم وجدت مسألة ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، وتناولها العلماء والأدباء بالجواز والمنع، فألف المغفور له الأستاذ الأكبر «محمد مصطفى المراغي» شيخ الجامع الأزهر سابقا رسالة بعنوان: «بحث في ترجمة القرآن الكريم وأحكامها» ذهب فيها على جواز الترجمة، وألف المرحوم الأستاذ محمد فريد وجدي رسالة بعنوان: «الأدلة العلمية على جواز ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية» وقد أيد فيها الترجمة ورد على المخالفين. وقد انبرى للرد على المجوزين للترجمة العلامة الشيخ «مصطفى

صبري» - رحمه الله- شيخ الإسلام بتركيا سابقا في كتاب دقيق سماه: «مسألة ترجمة القرآن»، كما عارض الترجمة المرحوم الأستاذ الشيخ «محمد سليمان» نائب المحكمة الشرعية العليا سابقا وسمى كتابه: «حدث الأحداث في الإسلام، الإقدام على ترجمة القرآن»، وألف الأديب الصحفي «محمد الههياوي» - رحمه الله- رسالة بعنوان: «ترجمة القرآن الكريم غرض في السياسة وفتنة في الدين». وقد ألف- ولا يزال يؤلف- في بعض أنواع علوم القرآن كثير من الأحياء من أفاضل العلماء والأدباء. وقد كان لي شرف أن أدلي بدلوي في هذه الدلاء، وأن أشارك في التأليف في هذا المضمار الشريف الفسيح، مضمار الدراسات الأصيلة في كتاب الله العزيز فكان هذا الكتاب «المدخل لدراسة القرآن الكريم»، وفي النية- إن شاء الله- متابعة البحث والتنقيب عن كنوز القرآن الكريم وعلومه، حتى أخرج ما تيسر من مباحث هذا العلم المنيف في بضعة أجزاء، والله الموفق والمعين وقد استفدت مما كتبه المؤلفون في القديم والحديث في علوم القرآن، وأمكنني أن آتي بجديد لم يسبقني أحد إليه، وبتحقيق لبعض مسائله لم يحم أحد عليه، وبتهذيب، وبترتيب لبعض مباحثه، وكل ذلك بفضل الله وتوفيقه. ولبعض الزملاء، والأقران وبعض التلاميذ والأبناء في مصر، وغير مصر، وفي الأزهر وغير الأزهر كتب قيمة، ورسائل جيدة، في الدراسات القرآنية أو إن شئت فقل في «علوم القرآن» فجازاهم الله خيرا على صنيعهم هذا، وإنه لمضمار شريف، وفيه فليتنافس المتنافسون. وسيظل هذا الكتاب الكريم منهلا عذبا، وموردا صافيا، ومادة خصبة للباحثين والمفكرين، يدورون في فلكه الدوّار، ويستظلون بظله الظليل، ويستهدون بهديه القويم، ويسيرون على ضوئه ومنارته. وسيستمر مصدر حركة فكرية وباعث حياة شعوب، ومجدد شباب أمة، وحارس لغة هي أشرف اللغات، وأعذبها، ومشغلة للفكر الإنساني حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

المبحث الثاني نزول القرآن الكريم

المبحث الثاني نزول القرآن الكريم هذا المبحث من المباحث المهمة؛ إذ به يعرف تنزلات «القرآن الكريم» ومتى نزل وكيف نزل وعلى من نزل وكيف كان يتلقاه جبريل- عليه السلام- من الله تبارك وتعالى وعلى أي حال كان يتلقّاه الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من جبريل ولا شك أن العلم بذلك يتوقف عليه كمال الإيمان بأن القرآن من عند الله وأنه المعجزة العظمى للنبي، كما أن كثيرا من المباحث التي تذكر في هذا الفن يتوقف على العلم بنزوله، فهو كالأصل بالنسبة لغيره، والعلم بالأصل مقدم على العلم بالفرع، فأقول- ومن الله أستمد العون والتوفيق: 1 - معنى النزول: النزول لغة يطلق ويراد: «الحلول» يقال نزل فلان بالمدينة: حلّ بها، وبالقوم: حلّ بينهم، والمتعدي منه معناه: الإحلال، يقال: أنزلته بين القوم، أي أحللته بينهم (¬1)، ومنه قوله تعالى: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [سورة المؤمنون: 29]. ويطلق أيضا: على تحرك الشيء من علوّ إلى سفل، يقال: نزل فلان من الجبل، والمتعدي منه معناه: التحريك من علو إلى سفل، ومنه قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ... الآية [سورة الرعد: 17]. وكلا المعنيين اللغويين لا يليقان بنزول القرآن على وجه الحقيقة، لاقتضائهما الجسمية والمكانية والانتقال، سواء أردنا بالقرآن: المعنى ¬

_ (¬1) في القاموس: مادة «نزل» (النزول، الحلول، نزلهم وبهم وعليهم، ينزل نزولا ومنزلا: حلّ، ونزله تنزيلا، وإنزالا ومنزلا كمجمل، واستنزله بمعنى، وتنزل: نزل في مهلة) وفي المصباح المنير: (نزل من علو إلى أسفل ينزل نزولا ويتعدى بالحرف والهمزة والتضعيف، فيقال: نزلت به وأنزلته ونزّلته واستنزلته بمعنى أنزلته، والمنزل: موضع النزول، والمنزلة مثله، وهي أيضا المكانة، ونزلت هذا مكان هذا: أقمته مقامه، قال ابن فارس: التنزيل ترتيب الشيء).

2 - أين كان القرآن قبل النزول

القديم القائم بذاته تعالى أو الكلمات الحكمية الأزلية، أو اللفظ العربي المبين؛ الذي هو صورة ومظهر للكلمات الحكمية القديمة؛ لما علمت من تنزه الصفة القديمة ومتعلّقها- وهو الكلمات الغيبية الأزلية- عن المواد مطلقا؛ لأن الألفاظ أعراض سيالة، تنتهي بمجرد النطق بها، ولا يتأتى منها نزول ولا إنزال. وعلى هذا يكون المراد بالنزول المعنى المجازي: والمجاز في اللغة العربية باب واسع (فإن أردنا بالقرآن: الصفة القديمة أو متعلقها، فالمراد بالإنزال: الإعلام به بواسطة إثبات الألفاظ والحروف الدالة عليه، من قبيل: إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وإن أردنا اللفظ العربي الدال على الصفة القديمة) فيكون المراد: نزول حامله به سواء أردنا بالنزول: نزوله إلى سماء الدنيا، أو على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون الكلام من قبيل المجاز بالحذف، وهذا هو ما يتبادر إلى الأذهان عند إطلاق لفظ النزول. وللقرآن الكريم وجودات ثلاثة: 1 - وجوده في اللوح المحفوظ. 2 - وجوده في السماء الدنيا. 3 - وجوده في الأرض بنزوله على النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يقترن لفظ «النزول» إلا بالوجود الثاني والثالث، أما الوجود الأول، فلم يرد لفظ «النزول» مقترنا به قط، وعلى هذا: فلا ينبغي أن نسميه نزولا أو تنزلا. 2 - أين كان القرآن قبل النزول يقول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) [سورة البروج: 21 - 22]، فقد دلت الآية على أن «القرآن» كان قبل نزوله ثابتا موجودا في اللوح المحفوظ وهذا اللوح المحفوظ هو الكتاب المكنون الذي ذكره الله تعالى في قوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) [سورة الواقعة: 77 - 80]، فالظاهر

والذي عليه جمهور المفسرين: أن الكتاب المكنون: هو اللوح المحفوظ، ومعنى «محفوظ»: أي عن استراق الشياطين، ومحفوظ عن التغيير والتبديل، ومعنى «مكنون»: مصون محفوظ عن الباطل، والمعنيان متقاربان. واللّوح المحفوظ: هو السجل العام الذي كتب الله فيه في الأزل كل ما كان وكل ما يكون. والواجب علينا: أن نؤمن به وأنه موجود ثابت، أما البحث فيما وراء ذلك، كالبحث في حقيقته وماهيته، وعلى أي حالة يكون وكيف دونت فيه الكائنات وبأي قلم كتب فلا يجب الإيمان علينا به، إذ لم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث صحيح، وكل ما ورد إنما هي آثار عن بعض الصحابة والتابعين لا تطمئن إليها النفس (¬1). وحكمة وجود «القرآن» في اللوح المحفوظ: نرجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح المحفوظ نفسه وإقامته سجلا جامعا لكل ما كان وما يكون من عوالم الإيجاد والتكوين، فهو شاهد ناطق، ومظهر من أروع المظاهر الدالة على عظمة الله وعلمه وإرادته، وواسع سلطانه وقدرته، ولا شك أن الإيمان به يقوي إيمان العبد بربه من هذه النواحي، ويبعث الطمأنينة إلى نفسه، والثقة بكل ما يظهره الله لخلقه من ألوان هدايته وشرائعه وكتبه وسائر أقضيته، كما يحمل الناس على السكون والرضا بسلطان القدر والقضاء، ومن هنا تهون عليهم الحياة بضرائها وسرائها كما قال جل شأنه: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) [سورة الحديد: 22 - 23]. وللإيمان باللوح والكتابة أثر صالح في استقامة المؤمن على الجهاد في الله وتفانيه في طاعة الله ومراضيه، وبعده عن مساخطه ومعاصيه، لاعتقاده ¬

_ (¬1) انظر تفسير «القرطبي» و «ابن كثير» و «الآلوسي» في تفسير آية البروج.

3 - نزول القرآن الكريم

أنها مسطورة عند الله في لوحه، مسجلة لديه في كتابه (¬1) كما قال جل شأنه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) [سورة القمر: 52 - 53] (¬2). 3 - نزول القرآن الكريم للقرآن الكريم نزولان: الأول: نزول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. الثاني: نزوله من السماء الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل وتوضيح .. وإليك البيان: النّزول الأول: نزول «القرآن الكريم» من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا جملة واحدة، وهذا النزول أكان بعد نبوته صلى الله عليه وسلم أم كان قبل ذلك رأيان للعلماء، أرجحهما الأول، وهو الذي تدل عليه الآثار الآتية، وكان هذا النزول في رمضان ليلة القدر. والدليل على هذا النزول ما يأتي: 1 - قوله تعالى في مفتتح سورة «القدر»: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وقال في مفتتح سورة «الدخان»: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)، وقال في سورة «البقرة»: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 185]، «والإنزال» أكثر ما يرد في لسان العرب فيما نزل جملة واحدة (¬3)، ¬

_ (¬1) مناهل العرفان ج 1 ص 35 ط أولى. (¬2) ومعنى مستطر: مكتوب في السطور. (¬3) الغالب في التعبير القرآني عما نزل دفعة واحدة بلفظ «الإنزال» وما نزل مفرقا «التنزيل» ولهذا لما جمع الله بين القرآن والتوراة والإنجيل عبر في جانب نزول القرآن على النبي بالتنزيل وفي جانب التوراة والإنجيل بالإنزال؛ لأنهما نزلا دفعة واحدة؛ وهذا ما لا خلاف فيه، قال تعالى في سورة «آل عمران» نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ

بخلاف «التنزيل» فإنه يعبر به في جانب ما نزل مفرقا؛ فدلّت الآيات على أن القرآن «نزل جملة واحدة في ليلة القدر! أخذا من سورة «القدر» وهي الليلة المباركة، أخذا من آية «الدخان»، وهي ليلة من شهر رمضان أخذا من آية «البقرة». وأيضا فمن البدهيّ: أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في سنين لا في ليلة واحدة، وأنه نزل في غير رمضان؛ كما نزل في رمضان: فدل هذا على أن النزول الذي نوّهت بشأنه الآيات غير النزول على النبي مفرقا في بضع وعشرين سنة، وأن المراد به: هو النزول جملة واحدة. 2 - قد جاءت الآثار الصحيحة مبيّنة لهذا النزول وشاهدة عليه: (أ) فمنها ما أخرجه النّسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس، أنه قال: «أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة» ثم قرأ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) [الفرقان: 33]، وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء: 106]. (ب) ومنها ما أخرجه الحاكم والبيهقي من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: «أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله بعضه في إثر بعض». (ج) وأخرج الحاكم وغيره، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «فصل القرآن من الذّكر، فوضع في بيت العزّة من سماء الدّنيا فجعل جبريل ¬

_ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ. والتفريق بين الإنزال والتنزيل أمر غالب؛ وليس قاعدة مطردة؛ ولذا عبرت بلفظ «أكثر» بدليل قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32]، فقد استعملوا التنزيل وأرادوا الإنزال، وبدليل قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) [الكهف: 1] فقد عبّر بالإنزال وأراد التنزيل.

ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم»، قال: الحافظ في الفتح: وإسناده صحيح (¬1). (د) أخرج ابن مردويه والبيهقيّ- في كتاب «الأسماء والصفات» عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود، فقال: أوقع في قلبي الشكّ قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وهذا أنزل في شوّال، وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة، وفي المحرم، وصفر، وشهر ربيع، فقال ابن عباس: أنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا (¬2) في الشهور والأيام». ومعلوم: أن هذا لا يقوله ابن عباس بمحض الرأي، فهو محمول على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعه من النبيّ من الصحابة، ومثل هذا له حكم المرفوع؛ لأن القاعدة عند أئمة الحديث: أن قول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليّات فيما لا مجال للرأي فيه له حكم الرّفع، وبذلك ثبتت حجّية هذه الآثار (¬3). وقد ذكر «السيوطي» في «الإتقان» (¬4) عن القرطبي: أنه حكى الإجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، ودعوى الإجماع غير مسلّمة؛ فإن من العلماء من لا يقول به ويحمل الآيات التي ظاهرها ذلك على ابتداء الإنزال. وهناك قول ثان: وهو أن «القرآن» نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر، أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين (¬5)، ينزل الله في كل ليلة منها ما ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 9 ص 4. (¬2) رسلا: أي رفقا، وعلى تمهل، مواقع النجوم: مساقطها، يريد أنه نزل على ما وقع منجما مفرقا يتلو بعضه بعضا على تؤدة ورفق. (¬3) نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 43. (¬4) الإتقان ج 1 ص 40. (¬5) هذا مبني على الخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة أهي عشر سنوات، أم ثلاث عشرة، أم خمس عشرة، وأصحها أوسطها.

يقدر إنزاله في كل السنة، ثم ينزل به جبريل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في جميع السنة، وبه قال «مقاتل بن حيّان» (¬1)، نقله القرطبي في تفسيره عنه، وبقوله قال الحليمي والماوردي، قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر قول الحليمي: «وهذا أورده ابن الأنباري من طرق ضعيفة ومنقطعة». أقول: فلا يعوّل عليه، قال: «وما تقدم من أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك مفرقا هو الصحيح المعتمد». وهناك قول ثالث: هو أن المراد بالآيات السابقة ابتداء إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة على النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال «الشعبي» (¬2) وكأنّ صاحب هذا القول ينفي النزول جملة واحدة إلى السماء الدنيا. وقد ذهب إلى هذا الرأي من المتأخرين الأستاذ الإمام الشيخ «محمد عبده» في تفسير جزء «عمّ»، فقد نقل كلام «الشعبيّ» وقوّاه، وقال: إن ما جاء من الآثار الدّالة على نزوله جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، مما لا يصح الاعتماد عليه؛ لعدم تواتر خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يجوز الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه، وإلا كان اتباعا للظن (¬3). ¬

_ (¬1) هو تابع التابعي مقاتل بن حيان- بحاء مهملة ثم ياء مثناة- النبطي أبو بسطام البلخي، روى عن كثير من التابعين منهم سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر وأبي بردة ابن أبي موسى الأشعري وغيرهم، وروى عنه أخوه مصعب بن حيان وعبد الله بن المبارك وأبو عصمة نوح بن أبي مريم وغيرهم، وقد اختلف فيه العلماء فمنهم من وثّقه، ومنهم من ضعّفه، ومنهم من قال لا بأس به، مات قبل الخمسين ومائة (تهذيب التهذيب 10/ 277 - 278). (¬2) هو الإمام التابعي الثقة الفقيه الحافظ عامر بن شراحيل الهمداني الحميري، روى عنه أنه قال: «أدركت خمسمائة من الصحابة»، وكان يفتي والصحابة متوافرون، ولد في خلافة سيدنا عمر عام جلولاء، وقد اختلف في وفاته اختلافا كثيرا، والأكثرون على أنه عام 109 أو مائة وعشرة. (¬3) تفسير جزء «عمّ» ص 132 ط بولاق.

النزول الثاني

وأعقّب على قول الإمام فأقول: إن مسألة نزول القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليست من العقائد التي يتحتم تواتر الأخبار بها، والتي لا بد فيها من العلم القطعي اليقيني، مثل وجود الله وصفاته، ونحو ذلك من العقائد، وإنما يكفي فيها الأخبار الصحيحة .. التي تفيد غلبة الظن ورجحان العلم، ثم إن من قال إن مثل هذه الحقيقة الغيبية لا بد فيها من تواتر الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم! إن كثيرا من السمعيات يكتفى فيها بالأخبار الصحيحة التي تفيد رجحان العلم بما دلت عليه، وعلى هذا جرى العلماء سلفا وخلفا، ثم إن تأويل الآيات بأن المراد ابتداء الإنزال صرف للآيات عن ظواهرها، وقد بينت أن ظاهر الآيات يشهد للنزول جملة واحدة، والظواهر لا يعدل عنها إلا بصارف، وأنى هو وبعد .. فالقول الأول، هو الراجح والصحيح الذي تشهد له الآيات والآثار. حكمة هذا النزول: والحكمة في هذا النزول أمران: (1) تفخيم شأن القرآن، وشأن من نزل عليه، وشأن من سينزل إليهم، بإعلام سكان السماوات من الملائكة بأن هذا آخر الكتب المنزلة، على خاتم الرسل، لأشرف الأمم، وهي الأمة الإسلامية، وفي هذا تنويه بشأن المنزّل، والمنزّل عليه، والمنزّل إليهم. (2) تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية؛ بأن جمع الله له النزولين: النزول جملة واحدة، والنزول مفرقا، وبذلك شارك الكتب السماوية في الأولى، وانفرد في الفضل عليها بالثانية، وهذا يعود بالتفضيل لنبينا «محمد» على سائر إخوانه من الأنبياء ذوي الكتب المنزلة، وأن الله جمع له من الخصائص ما لغيره وزاد عليها. النزول الثاني: قلنا فيما سبق إن القرآن الكريم نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، في ليلة القدر وهذا هو النزول الأول، وكان النازل به

«جبريل» عليه السلام فألقاه على السفرة الكرام البررة، فقيدوه في صحفهم المكرمة، كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) [سورة عبس: 11 - 16] هم الملائكة المختصون بذلك. وقد بقي القرآن محفوظا في هذه الصحف المرفوعة المطهرة، بأيدي هؤلاء الملائكة الكرام البررة حتى أذن الله لهذا النور الإلهي أن يسطع في أرجاء الأرض، ولهدايته الربانية أن تتدارك الناس، وتخرجهم من ظلمات الشرك والجهالة والضلال، إلى نور الإيمان والهدى والعرفان، على يد مخلّص البشرية، ومنقذ الإنسانية سيدنا ونبينا «محمد بن عبد الله» عليه صلوات الله وسلامه، فأنزل عليه «القرآن» هاديا ومبشرا ونذيرا للخلق أجمعين، وليكون آيته الكبرى، ومعجزته الباقية على وجه الدهر، شاهدة له بالصدق وأنه يوحى إليه من ربه، وهذا هو النزول الثاني للقرآن. وشواهد هذا النزول أكثر من أن تحصى، قال تعالى شأنه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ (¬1) لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [سورة الشعراء: 192 - 195]، وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ (¬2) مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) [سورة النحل: 102]، وقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) [سورة الكهف: 1 - 4]، وقال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) [سورة الفرقان: 1]، وقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [سورة البقرة: 23]. والذي نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم هو أمين الوحي «جبريل» عليه السلام، ¬

_ (¬1) عبر به للدلالة على أن القلب قد وعاه بعد أن وعته الأذنان. (¬2) هو جبريل الأمين على الوحي.

4 - كيف كان هذا النزول ومدته

وهو المقصود بالروح الأمين في آية «الشعراء»، وبروح القدس في سورة «النحل»، وهو الرسول الكريم ذو القوة المتين الأمين في قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) [سورة التكوير: 19 - 22]، والقول كما ينسب لقائله الأول، ينسب لمبلّغه وحامله إلى المرسل إليه. وهو شديد القوى ذو المرة، في قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) (¬1) [سورة النجم: 4 - 7]، وقد جاء النص على أن النازل بالقرآن هو «جبريل» في قوله سبحانه: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) [سورة البقرة: 97 - 98]، والمراد بهم اليهود. 4 - كيف كان هذا النزول ومدّته وقد نزل به «جبريل» - عليه السلام- على النبي صلى الله عليه وسلم منجما مفرقا، على حسب الوقائع، والحوادث، وحاجات الناس، ومراعاة للظروف والملابسات. وقد اختلف العلماء في مدة هذا النزول؛ فقيل: عشرون سنة، وقيل: ثلاث وعشرون سنة، وقيل: خمس وعشرون سنة. ومنشأ هذا الاختلاف إنما هو اختلافهم في مدة مقامه صلى الله عليه وسلم بمكة؛ فقيل عشر سنين، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: خمس عشرة. وأقربها إلى الحق والصواب هو أوسطها؛ وهو ثلاث وعشرون سنة، وهذا على سبيل التقريب، وأبعدها هو آخرها. ولو راعينا التدقيق والتحقيق، تكون مدة نزول القرآن اثنتين وعشرين سنة، وخمسة أشهر (¬2) ونصف شهر تقريبا، وبيان ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نبّئ ¬

_ (¬1) ومعنى ذو مرة: ذو هيئة حسنة، وقيل ذو حصانة في العقل، وإحكام في الرأي. (¬2) راعيت في هذا التحديد، ما ذهب إليه الجمهور من أنه صلى الله عليه وسلم ولد في الثاني عشر من

5 - الدليل على نزول القرآن منجما

على رأسي الأربعين من ميلاده الشريف، وذلك في شهر «ربيع الأول؛ الثاني عشر منه» وقد بدئ الوحي إليه بالرؤيا الصادقة، ومكث على ذلك إلى السابع عشر من رمضان، وهو اليوم الذي نزل عليه فيه صدر سورة «اقرأ» أول ما نزل من القرآن، وجملة ذلك: ستة أشهر وخمسة أيام، وآخر آية نزلت من القرآن هي قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (28) [سورة البقرة: 281]، وقد روي أن ذلك قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسعة أيام، وقيل: بأحد عشر يوما، وقيل: بواحد وعشرين يوما، فلو أخذنا بالمتوسط تكون جملة المدة التي لم ينزل فيها القرآن ستة أشهر وستة عشر يوما. وجملة عمره صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستون عاما؛ لأنه توفي في الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، كما عليه الجمهور، فتكون مدة نبوته: ثلاثا وعشرين سنة، فإذا أنقصنا منها ستة أشهر وستة عشر يوما، يكون الباقي اثنتين وعشرين وخمسة أشهر وأربعة عشر يوما، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وقد ذكر بعض الكاتبين في تاريخ التشريع غير هذا وقد بنى حسابه على أن آخر آية نزلت الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وهو خطأ مشهور وسنبيّن الحق في آخر ما نزل فيما يأتي إن شاء الله. 5 - الدليل على نزول القرآن منجما المعروف الثابت: أن «القرآن الكريم» نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا، ويدل على هذا القرآن، والسنة الصحيحة. أما القرآن، فقوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [سورة الإسراء: 16]، وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ ¬

_ ربيع الأول عام الفيل، وتوفي في الثاني عشر أيضا من ربيع الأول عام إحدى عشرة من الهجرة.

بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) [سورة الفرقان: 32 - 33]، فقد روي: أن المشركين أو اليهود عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم نزول القرآن مفرقا، وقالوا: هلا نزل جملة واحدة، كما نزلت التوراة على موسى، فأنزل الله- سبحانه- هذه الآية، حاكية لأقوالهم، ورادة عليهم ببيان الحكمة في إنزاله مفرقا، أي: أنزلناه مفرقا، لنثبت به فؤادك ولترتله ترتيلا في خاصة نفسك، وعلى أصحابك. أما السنن الصحيحة، فقد ورد فيها ما يدل على نزول «القرآن» منجما مفرقا، ففي الصحيحين وغيرهما عن عائشة- رضي الله عنها-: «أن أول ما نزل صدر سورة «اقرأ» ... إلى قوله تعالى: ما لَمْ يَعْلَمْ، وفي الصحيحين- أيضا- عن جابر: «أن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة «المدثر» إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)، وكذلك روي عن ابن عباس وغيره من الصحابة، القول في تقدم نزول بعض السور والآيات على بعض، وترتيب السور على حسب النزول (¬1)، إلى غير ذلك من الآثار التي لا تدع مجالا للشك في نزول القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا، وهذه الأحاديث والآثار وإن كانت آحادية إلا أنها بمجموعها تفيد التواتر المعنوي المفيد للقطع واليقين في هذا. ... ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 9 - 11.

6 - نزول الكتب السماوية السابقة

6 - نزول الكتب السماوية السابقة أما الكتب السماوية السابقة، فالمشهور بين العلماء، أن ذلك كان جملة واحدة حتى كاد يكون هذا الرأي إجماعا، كما قال «السيوطيّ». والدليل على ذلك آية «الفرقان»: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ... الآية، ووجه الدلالة: أن الله- سبحانه- لم يكذّبهم في دعواهم نزول الكتب السماوية جملة، بل بين لهم الحكمة في نزوله مفرقا، ولو كانت الكتب السماوية نزلت مفرقة لكان كافيا في الرد عليهم أن يقول لهم: إن التنجيم سنة الله في الكتب التي أنزلت على الرسل، كما أجاب بمثل ذلك قولهم: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ... [سورة الفرقان: 7] فقال في الرد عليهم: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 20]، فبين لهم أن ذلك سنن الأنبياء والمرسلين، وكذلك لما قالوا: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء: 3] فردّ عليهم: بأن سنته ألّا يرسل رسلا إلّا من البشر فقال: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) [سورة الأنبياء: 7] ولما قالوا: كيف يكون رسولا ولا همّ له إلا النساء رد عليهم فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد: 38] إلى غير ذلك. ويدل على ذلك أيضا .. قوله تعالى في إنزاله التوراة على موسى عليه السلام يوم الصّعقة: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ [سورة الأعراف: 144 - 145]، وقوله: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) [سورة الأعراف: 154]، وقال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (17) [سورة الأعراف: 171]، والمراد بالألواح: الألواح التي كتبت فيها التوراة. فهذه الآيات دالة على إنزاله- سبحانه- التوراة على «موسى» جملة.

7 - كيف كان جبريل يتلقى الوحي

وهناك آثار (¬1) صحيحة عن «ابن عباس» تفيد نزول «التوراة» جملة؛ منها ما أخرجه النسائي وغيره عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في حديث النتوق قال: «أخذ موسى الألواح بعد ما سكن عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر الله أن يبلّغهم من الوظائف، فثقلت عليهم، وأبوا أن يقرّوا بها حتى نتق الله عليهم الجبل، كأنه ظلّة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأقروا بها». وإذا كانت التوراة، وهي أعظم الكتب السماوية السابقة، وأكثرها أحكاما وهداية، وقد ثبت نزولها جملة واحدة، فأحر بغيرها من الكتب السماوية- كالإنجيل والزبور وصحف إبراهيم- أن تكون قد نزلت جملة واحدة، وآية (الفرقان) - كما ذكرنا- تدلّ على هذا التعميم وتؤيده. 7 - كيف كان جبريل يتلقى الوحي هذا المبحث من أنباء الغيب، فلا يطمئن الإنسان إلى رأي فيه إلا إن ورد عن معصوم، ولم نطّلع في هذا على نقل من المعصوم صلى الله عليه وسلم وإنما هي نقول عن بعض العلماء؛ منها: 1 - ما قاله «الطّيبيّ»: «لعل نزول القرآن على الملك أن يتلقفه تلقفا روحانيّا أو يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم فيلقيه إليه، وكلمة «لعل» لا تفيد القطع، وإنما تفيد التجويز والاحتمال، وقد ردد الإمام «الطّيبي» الأمر بين هذين الاحتمالين، ولم يقطع برأي. 2 - ما ذكره «البيهقي» في تفسير قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) [القدر: 1] قال: يريد- والله أعلم- إنا أسمعنا الملك، وأفهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع، وهذا الرأي أمثل الآراء وأولاها بالقبول، ويشهد له ما رواه «الطبراني» من حديث «النواس بن سمعان» مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا، وخرّوا سجدا فيكون أوّلهم يرفع رأسه «جبريل» فيكلمه ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 42.

8 - كيف كان يتلقى النبي الوحي

الله بوحيه بما أراد، فينتهي به إلى الملائكة فكلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا قال: الحق، فينتهي به حيث أمر» والحديث وإن لم يكن نصّا في القرآن إلا أن «الوحي» يشمل وحي القرآن، وغيره، بل يدخل فيه الوحي بالقرآن دخولا أوليا. وهذا الرأي هو أحد الاحتمالين الّذين جوّزهما «الطيبيّ» وهو مراده بقوله: أن يتلقفه تلقفا روحانيّا. والاحتمال الثاني: وهو حفظه من اللوح المحفوظ وإن كان غير مستبعد إلا أن ما دل عليه النص أولى، وينبغي أن يصار إليه وهو الأليق بالقرآن الكريم. وفي تلقي «جبريل» - عليه السلام- القرآن من ربه دون وساطة: إعظام للقرآن وتفخيم لشأنه، وتنبيه إلى غاية العناية به، والحرص والمحافظة عليه، ومبالغة في صيانته عن التحريف، والتبديل. ألا ترى في دنيا الناس أن الملوك والرؤساء حينما يرسلون رسولا برسالة كتابية أو شفهية فإنهم يسلمونها لهم بأيديهم أو يقرءونها عليهم مبالغة في الحرص عليها، وشدة الاعتناء بها، وتحذيرا لهم من الخيانة فيها أو عدم تبليغها بنصها، وكمالها، فما بالك بملك الملوك، وبالقرآن الذي هو رسالة الرسالات! ألا ترى أن أحد الملوك أو الرؤساء أو الأمراء إذا أرسل رسالة مهمة، في أمر مهم، لرجل ذي شأن فإنه يتخير لها الرسول، ويأبى إلا أن يختمها بختمه، وأن يناولها إليه بيده، أو أن يقرأها عليه بنفسه مبالغة منهم في الحرص عليها، وصيانتها، وعلى تبليغها كما تلقاها بنصها وفصها من غير تحريف لها ولا تزيد فيها. فما بالك بالقرآن الذي هو كلام الله ورسالة الرسالات وأحق الكتب بالتحوط والصيانة، والحفاظ عليه. 8 - كيف كان يتلقّى النبي الوحي كان النبي- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى عن جبريل- عليه

السلام- على حالتين: 1 - أن ينسلخ النبي صلى الله عليه وسلم من حالته الشريفة العادية، إلى حالة أخرى، بها يحصل له استعداد، لتلقي الوحي من «جبريل» عليه السلام، وهو على حالته الملكية وفي هذه الحالة قد يسمع عند مجيء الوحي صوت شديد كصلصلة الجرس (¬1) .. وأحيانا يسمع الحاضرون صوتا عند مجيء الوحي كدويّ النحل .. وتأخذ النبي صلى الله عليه وسلم حالة شديدة روحانية، يغيب فيها عما حوله، ويثقل جسمه، حتى لتكاد الناقة التي يركبها تبرك، وإذا جاءت فخذه على فخذ إنسان تكاد ترضّها ويتصبب عرقه، وربما يسمع له غطيط كغطيط النائم، فإذا ما سرّي عنه وجد نفسه واعيا لكل ما سمع من الوحي فيبلغه كما سمعه، وهذه الحالة أشد حالات الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى هذا قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) [المزمل: 5]؛ وعلى هذه الحالة تلقى القرآن. 2 - أن يتحول «جبريل» - عليه السلام- من الملكية إلى الصورة البشرية، فيأتي في صورة رجل، فيأخذ عنه الرسول ويسمع منه .. وكثيرا ما كان جبريل- عليه السلام- يأتي في هذه الحالة في صورة «دحية الكلبي» (¬2)، أو صورة أعرابي لا يعرف (¬3)، وهذه الحالة أهون الحالين على ¬

_ (¬1) قال الخطابي: والمراد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل: هو صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة في تقدمه، أن يفرغ سمعه للوحي، فلا يبقى فيه مكانا لغيره. (¬2) دحية: بكسر الدال، وكان من أجمل العرب وأنظفهم، ففي صحيح البخاري عن أبي عثمان النهدي أنه قال: «أنبئت أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة فجعل يتحدث معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من هذا» أو كما قال، قالت: هذا دحية فلما قام- يعني النبي- قالت:- يعني أم سلمة- والله ما حسبته إلا إياه حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يخبر خبر جبريل أو كما قال. (كتاب فضائل القرآن- باب كيف نزل الوحي). (¬3) وذلك كما في حديث جبريل المشهور الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما ففي رواية لمسلم: «بينما نحن عند رسول الله إذ طلع علينا رجل .. ولا يعرفه منا أحد» وفي الصحيحين أن النبي قال لأصحابه: «ردوا عليّ الرجل» فذهبوا فلم يجدوه فقال:

الرسول. يدل على هاتين الحالين: ما رواه البخاري، في صحيحه بسنده عن عائشة- رضي الله عنها-: أن الحارث بن هشام- رضي الله تعالى عنه- سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم (¬1) عني، وقد وعيت منه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا، فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة- رضي الله عنها-: «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، وأن جبينه ليتفصّد عرقا» وإنما اكتفى النبي في الجواب بهاتين الكيفيتين دون غيرهما من الكيفيات والأنواع؛ لأن الظاهر أن السؤال كان على الوحي الذي يأتي عن طريق جبريل. والقرآن الكريم لم ينزل منه شيء إلا عن طريق جبريل- عليه السلام- ولم يأت شيء منه عن تكليم أو إلهام (¬2) أو منام، بل كله أوحي به في اليقظة وحيا جليّا، ولا يخالف هذا ما ورد في صحيح مسلم (¬3) عن أنس- رضي الله عنه- قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة (¬4) .. ثم رفع رأسه مبتسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله فقال: إنه نزل عليّ آنفا سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) [سورة الكوثر]. إذ ليس المقصود ب «الإغفاءة» في الحديث: النوم، وإنما المقصود: الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي، وهي الغيبوبة عما حوله. ¬

_ «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم». (¬1) الفصم: القطع من غير إبانة، والتعبير به في هذا المقام صادف محز البلاغة؛ لأنه ينقطع عنه صلى الله عليه وسلم ليعود إليه، أما القصم- بالقاف- فهو القطع مع الإبانة. (¬2) سنفصل الكلام عن الوحي وكيفياته فيما يأتي. (¬3) صحيح مسلم- كتاب الصلاة- باب حجة من قال البسملة آية من كل سورة سوى براءة. (¬4) يقال: أغفى إغفاءة، أي (نام نومة خفيفة) والمراد ما كان يعتريه عند الوحي من الغيبوبة عمن حوله.

وقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا، وبهذا يفسّر أيضا ما ورد في بعض روايات هذا الحديث: أنه أغمي عليه. وقال «السيوطي» في «الإتقان» (¬1) بعد أن ذكر أن من كيفيّات الوحي تكليم الله إما في اليقظة وإما في المنام: «وليس في القرآن من هذا النوع شيء- فيما أعلم- نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة «البقرة» لما تقدم (¬2)، وبعض سورة «الضحى» و «ألم نشرح»، فقد أخرج «ابن أبي حاتم من حديث عديّ بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته، فقلت: أي رب، اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، فقال: يا محمد، ألم أجدك يتيما فآويت، وضالا فهديت، وعائلا فأغنيت، وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي». وما أشار إليه فيما تقدّم: هو ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال: «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى .. الحديث» وفيه: «فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ثلاثا، أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك- من أمته- بالله شيئا .. المقحمات (¬3)» .. وفي «الكامل» للهذليّ: نزلت آمَنَ الرَّسُولُ إلى آخرها بقاب قوسين» (¬4). وأعقب على ما ذهب إليه الإمام «السيوطي» إمكانا: بأن رواية «مسلم» ليس فيها تصريح بنزول خواتيم سورة «البقرة» عن طريق تكليم الله، فلعلّ المراد بإعطائه إيّاها: إعلام الله له باختصاصه صلى الله عليه وسلم وأمته بما تدلّ عليه؛ تمنّنا عليه في هذا الموقف العظيم .. ألا ترى أنه أعطي الصلوات الخمس، وفرضت مع أنها لم ينزل فيها قرآن هذه الليلة! وليس في رواية الهذليّ ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 45. (¬2) يعني في كتابه الإتقان. (¬3) الكبائر. (¬4) الإتقان ج 1 ص 23.

تلقي النبي القرآن عن جبريل وهو على ملكيته

على فرض صحّتها التصريح بنزول الآيتين عن طريق التكليم. وأيضا فالإسراء والمعراج كان قبل الهجرة بمكة، وسورة البقرة كلها مدنية، فكيف تنزل خواتيمها بمكة! وأما حديث «عدي بن ثابت» الذي أخرجه ابن أبي حاتم، فليس فيه أن الله أنزل هذه الآيات وإنما كل ما فيه: التمنن عليه بالمنن التي ذكرت في هذه الآيات، ولا سيّما وألفاظ الحديث مغايرة للنص القرآني للآيات، مما يستبعد معه أن تكون الآيات نزلت في هذا التكليم، والظاهر أن السورتين نزلتا قبل ذلك؛ لأن التمنن إنما يكون بأمر معروف معلوم للمخاطب. فالحق ما قاله الإمام السيوطي أولا، وهو أنه ليس في القرآن من هذا النوع شيء. تلقي النبي القرآن عن جبريل وهو على ملكيته والذي نقطع به- والله أعلم- أن القرآن الكريم كله نزل في الحالة الأولى، وهي الحالة التي يكون فيها جبريل على ملكيته، وتحول النبي صلى الله عليه وسلم من البشرية إلى الملائكية، وهذا هو الذي يليق بالقرآن الكريم، ونفي أي احتمال، أو تلبيس في تلقيه، ولم أقف قط على رواية تفيد نزول شيء من القرآن عن طريق جبريل، وهو في صورة رجل، وكل ما جاء من ذلك في الأحاديث الصحاح كحديث جبريل المشهور وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة وأشراطها، فإنما هو في وحي السنة لا في وحي القرآن. نعم هناك قرائن لا تصل إلى حد الأدلة تدل على نزول القرآن بالطريق الأول، فمن ذلك قول الله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) [المزمل: 5] أي ثقيلا تلقيه، وثقيلا علمه، وذلك إنما يكون في الحالة التي تسود فيها الملائكية عند تلقي الوحي، وقيل: ثقيلا العمل به، والقيام بفرائضه وحدوده، وقيل: ثقيل من الوجهين معا. وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن ابن عباس في قوله

تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) [القيامة: 16] قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه ... » (¬1) وهذه الشدّة لن تكون إلا في الحالة الأولى. وروى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: هل تحسّ بالوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إليّ إلّا ظننت أن نفسي تقبض» رواه أحمد، وروى ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها (¬2) فما تستطيع أن تحرك حتى يسرّى عنه، وعن زيد بن ثابت- رضي الله عنه- أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فكادت ترضّ (¬3) فخذي (¬4)، رواه البخاري في الصحيح. وأيضا فلو أنزل شيء من القرآن في الحالة الثانية وهي مجيء جبريل- عليه السلام- في صورة رجل لكان هذا مثارا للشك، والتلبيس على ضعفاء الإيمان، ولكان فيه مستند للمشركين في قولهم: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ .... وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذا في قوله حكاية لمقالة المشركين وردّا عليهم: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) (¬5) [الأنعام: 8 - 9]، فكان من الرحمة بالعباد، وعدم التلبيس عليهم أن لا ينزل القرآن إلا في هذا الجو الملائكيّ، الروحانيّ. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- باب كيف كان بدء الوحي. (¬2) الجران: باطن العنق. (¬3) تكسر عظامها. (¬4) تفسير ابن كثير ج 9 ص 27 - 28. (¬5) لقضي الأمر بإهلاكهم، فقد جرت سنة الله مع الكافرين أنهم إذا سألوا أسئلة تعنتية، ثم أجيبوا أن يهلكهم.

9 - ما الذي نزل به جبريل على النبي

9 - ما الذي نزل به جبريل على النبي الذي نقطع به، أن «القرآن الكريم» كلام الله سبحانه، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [سورة التوبة: 5]، وأن القرآن لفظه ومعناه من عند الله- سبحانه- قال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) [سورة الزمر: 1]، حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) [سورة غافر: 1 - 2]، وقال: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [سورة الإسراء: 105]. وأن الذي نزل به هو أمين الوحي جبريل- عليه السلام- قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وأن الذي نزل به جبريل هو هذا اللفظ العربي من غير أن يكون له فيه شيء ما، ومن غير أن يزيد فيه حرفا، أو ينقص منه حرفا. وكذلك ليس للنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن شيء إلا التبليغ، وهذا هو الحق الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده ويؤمن به، ولا تلتفت إلى ما زعمه بعض من يهرف بما لا يعرف، أو من يفتري ويختلق؛ من أن جبريل أوحي إليه المعنى، وأنه عبر بهذه الألفاظ الدالة على المعاني بلغة العرب ثم نزل على النبي كذلك، أو أن جبريل أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم المعنى، وأن النبي عبر عن هذه المعاني بلفظ من عنده (¬1)، متمسّكا بظاهر قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [سورة الشعراء 193 - 195]، فإنه زعم وخرص لم تقم عليه أثارة من علم، وما تمسك به هذا الزاعم من الآية لا يشهد له؛ فإن القلب كما ينزل عليه المعنى، ينزل عليه اللفظ، وإنما آثر الحق تبارك وتعالى هذا التعبير للدلالة على أن القرآن كما وعته الأذنان، وعاه القلب اليقظان. وهذا القول خلاف ما تواتر عليه القرآن والسنة، وانعقد عليه إجماع الأئمة: من أن القرآن- لفظه ومعناه- كلام الله، ومن عند الله، ولو جاز ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 43، وقد ذكر السيوطي ذلك ناقلا، وفاته أن يعقب عليه بالبطلان.

نزول جبريل بالسنة

الزعم لما كان القرآن معجزا، ولما كان متعبّدا بتلاوته. وهذا الزعم لا يقول به إلا جاهل استولت عليه الغفلة، أو زنديق يدسّ في الدين والعلم ما ليس منه، ولا تغتر بوجوده في بعض الكتب الإسلامية فأغلب الظن: أنه مدسوس على الإسلام والمسلمين. وإنا لنبرأ إلى الله أن يقول هذا عالم مسلم، متثبّت. وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كما نزل إلى الأمة من غير زيادة ولا نقصان، ولا تحريف ولا تبديل، ولا كتمان لشيء منه، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي، لكتم الآيات التي فيها عتاب له وتنبيه بلطف إلى ترك الأولى في باب الاجتهاد، وبحسبك أن تقرأ معي قول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [سورة المائدة: 67]، وقول الله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) [يونس: 15]، وقوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) [الحاقة: 44 - 47] (¬1). نزول جبريل بالسنة (¬2): وما ذكرنا من محافظة جبريل- عليه السلام- على تبليغ اللفظ كما سمعه، من غير تغيير حتى ولو كان اللفظان بمعنى واحد ... إنما هو فيما يتعلق بتبليغ «القرآن»، أما وحي «السنة» فلا يلتزم فيه جبريل- عليه السلام- اللفظ الذي سمعه، لأن تبليغ «السنة» مبناه: المعنى لا اللفظ، إذ ليس لفظها معجزا، ولا متعبدا بتلاوتها كالقرآن. ¬

_ (¬1) ومعنى باليمين: أي لانتقمنا منه بالقوة، والوتين: عرق متصل بالقلب إذا قطع مات الإنسان. (¬2) السنة النبوية: بعضها بالوحي وبعضها بالاجتهاد على ما هو التحقيق وكلامنا هنا فيما كان منها بوحي.

الفرق بين الوحيين

وللإمام «الجوينيّ» (¬1) في هذا المقام كلام حسن ذكره السيوطي في الإتقان (¬2) وعلق عليه وإليك هذا الكلام. [الفرق بين الوحيين] قال الجويني: «كلام الله المنزل قسمان؛ قسم قال الله لجبريل: قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إن الله يقول: افعل كذا- وكذا وأمر بكذا ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل بعد ذلك إلى النبي وقال له ما قاله ربه» ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان: يقول لك الملك اجتهد في الخدمة، واجمع جندك للقتال، فإذا قال الرسول: يقول لك الملك: لا تتهاون في خدمتي، ولا تترك الجند تتفرق، وحثهم على المقاتلة .. لا ينسب إلى كذب، ولا تقصير في أداء الرسالة. وقسم آخر: قال الله لجبريل: اقرأ على النبي هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين، ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا. قال «السيوطي» قلت: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السنة، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى؛ لأن جبريل أداها بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى لأن جبريل أداه باللفظ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى، والسر في ذلك: أن المقصود منه، التعبد بلفظه، والإعجاز به؛ فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه، وأن تحت كل حرف منه معاني، لا يحاط بها كثرة؛ فلا يقدر أحد أن يأتي بما يشتمل عليه، والتخفيف على الأمة، حيث جعل المنزل إليهم على قسمين، قسم يروونه بلفظه الموحى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشق، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف، فتأمل، وسئل الزهري عن الوحي فقال: الوحي ما يوحي الله ¬

_ (¬1) هو أبو المعالي عبد الملك بن أبي عبد الله بن يوسف الجويني العراقي، شيخ الغزالي، وأعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي، توفي سنة 487 هـ. (¬2) الإتقان ج 1 ص 44.

10 - حكم نزول القرآن منجما مفرقا

به إلى نبي من الأنبياء، فيثبته في قلبه، فيتكلم به ويكتبه وهو كلام الله، ومنه ما لا يتكلم به، ولا يكتبه لأحد، ولا يأمر بكتابته، ولكنه يحدث به الناس حديثا ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه. «وحي السنة»: أما وحي السنة فمنه ما يكون عن طريق أمين الوحي جبريل، وفي إطار الحالة الأولى، وهي الحالة الملائكية. وذلك كما في قصة يعلى بن أمية؛ روى البخاري في صحيحه بسنده عن يعلى قال: قلت لعمر- رضي الله عنه- أرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه، قال فبينما النبي في الجعرانة جاءه رجل فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة، وهو متضمخ بطيب، فسكت النبي ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر- رضي الله عنه- إلى يعلى، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظلّ به، فأدخل رأسه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمّر الوجه، وهو يغط، ثم سري عنه، فقال: «أين السائل عن العمرة» فأتي بالرجل. فقال: «اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات؛ وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك». وبعضه في إطار الحالة الثانية كما في حديث جبريل، وبعضه بالمكالمة كما حدث ليلة الإسراء والمعراج، وبعضه بالإلهام والمنام، وبعضه بالقذف في القلب، وسواء أكانت السنة بوحي جلي أو خفي فلفظها من عند النبي صلى الله عليه وسلم. 10 - حكم نزول القرآن منجما مفرقا لنزول القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا حكم كثيرة، وأسرار عديدة نجملها فيما يأتي: الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتطمين قلبه وخاطره وهي ما أشار إليها الحق- تبارك وتعالى- في رده على المشركين أو اليهود حيث قال: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [سورة الفرقان: 32]، وهذه الحكمة من أجلّ

الحكم وأعظمها، ولذا ذكرها الله أول ما ذكر في الرد على هؤلاء. ويندرج تحت هذه الحكمة: 1 - تثبيت فؤاد النبي، وتقوية قلبه، وإلهاب حماسه، وتسليته، وذلك بسبب تكرر نزول الوحي، وتوالي آياته وما اشتملت عليه الآيات من أن رسالته حق لا شك فيها، وأن العاقبة للمتقين، والنصر إنما هو للأنبياء وأتباعهم، وأن الله مؤيده وناصره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يتحسر ويحزن، لعدم إيمان قومه، كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) (¬1) [سورة الكهف: 6]. فكانت تنزل عليه الآيات مسلية له، فتارة تنهاه أن يذهب نفسه عليهم حسرات، كما قال تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) [سورة فاطر: 8]. وتارة يبين له: أن هدايتهم إنما هي على الله، وإنما عليك البلاغ كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة البقرة: 272]، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص: 56] وقال: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [سورة الرعد: 40]. وكان كلما آذاه قومه ونالوا منه، وسفهوا عليه، نزلت الآيات داعية له إلى التحمل والصبر والثبات عليه، وأن العاقبة للصابرين، كما قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف: 35]، وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) [سورة النحل: 127]، وقال: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) [سورة هود: 115]. وتارة تنزل الآيات قاصّة على النبي أخبار «الأنبياء» مع أممهم وما لاقوه منهم من عنت ومشقة، وكيف كان تحملهم من أقوامهم وما آل إليه أمرهم من الفوز والنصر على الأعداء والمكذبين وذلك مثل قصص «نوح» و «إبراهيم» و «ولوط» و «هود» و «صالح» و «موسى» وما لاقاه من بني ¬

_ (¬1) باخع نفسك: قاتلها غمّا وحزنا.

إسرائيل. وقد ذكر الله هذا في قوله: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [سورة هود: 120]. وحينا آخر- تنزل الآيات بوعيد المكذبين للأنبياء والمناهضين لدعوتهم كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) [سورة الأعراف: 97 - 98]. وقال فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) [سورة فصلت: 13]، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) [سورة الأنفال: 38]. وآونة .. كانت تنزل الآيات بالحجج والبراهين مبطلة لعقائدهم الزائفة، ورادة عليهم ما يتمسكون به من شبه واهية؛ كالآيات الواردة في إثبات الله وصفاته وتوحيده، واستحقاقه للعبادة، وإثبات البعث والحشر، وأحوال اليوم الآخر، وإثبات رسالة الرسل وحاجة البشر إليهم. وكان من ثمرة هذا التثبيت: أن أبدى النبي غاية الثبات والشجاعة، والوثوق بالله تعالى في أحرج المواقف وأشدها هولا؛ ألا ترى إلى قوله للصديق في الغار: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا وإلى ثباته يوم «أحد» و «حنين» يدعو إلى الله وقد فرّ عنه الكثيرون فما زاده إلا إيمانا وثباتا! 2 - تيسير حفظه وفهمه على النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان حريصا على ذلك غاية الحرص، ولقد بلغ من حرصه أنه كان لا ينتظر حتى يفرغ «جبريل» من قراءته، بل كان يتعجل القراءة، فأنزل الله عليه: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [سورة طه: 114]، وقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) [سورة القيامة: 16 - 19] فضمن الله لنبيه الحفظ والفهم. وطبعيّ أن نزول القرآن مفرقا أدعى إلى سهولة حفظه وفهمه، وأيسر وأوفق بالفطرة البشرية.

الحكمة الثانية

وهذا المعنى الذي أراده الحق سبحانه- فيما أراده من حكم لنزول القرآن منجما ومفرقا قطعا قطعا- هو غاية ما وصل إليه أهل التربية في حفظ النصوص الطويلة، وتسهيل فهمها. وهذا المعنى التربوي ما كان يجول بخاطر بشر في هذا العصر، وفي هذه البيئة البدوية، مما يدل على أن منزّل القرآن على هذه الطريقة البديعة هو الله .. العالم بالطبائع البشرية، والنفوس وأسرارها. الحكمة الثانية: التدرج في تربية الأمة دينيّا وخلقيّا واجتماعيّا، وعقيدة وعلما وعملا، وهذه الحكمة هي التي أشار إليها الحق- تبارك وتعالى- بقوله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [سورة الإسراء: 106]، ويندرج تحت هذه الحكمة ما يأتي: التدرج في انتزاع العقائد الفاسدة، والعادات الضارة والمنكرات الماحقة، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يعبدون الأصنام، ويشركون بالله غيره، ويسفكون الدماء، ويشربون الخمر، ويزنون، ويغتصبون الأموال، ويئدون البنات خشية العار، ويقتلون الأولاد خشية الفقر، ويظلمون النساء، ويتزوجون نساء الآباء، ويجمعون بين الأختين، كما كانوا يتظالمون، ويقع بينهم الحروب لأوهى الأسباب كناقة رعت من حمى، أو سبق فرس، أو نحو ذلك. وكانت الحروب تدوم بينهم عشرات الأعوام حتى تأكل الأخضر واليابس، وكان التكافل والتعاون بينهم يكاد يكون معدوما فلا تراحم بين الأغنياء والفقراء، ولا بين السادة والعبيد ولا بين الأقوياء والضعفاء. ومعلوم: أن النفس يشق عليها ترك ما تعودته مرة واحدة «وشديد عادة منتزعة» والإقلاع عما اعتقدته بمجرد النهي عنه؛ لأن للعقائد- حتى ولو كانت باطلة- وللعادات- ولو كانت مستهجنة- سلطانا على النفوس، والناس أسراء ما ألفوا، ونشئوا عليه، فلو أن القرآن نزل جملة واحدة،

وطالبهم بالتخلي عمّا هم منغمسون في حمأته من كفر وجهل ومنكرات مرة واحدة لما استجاب إليه أحد، ولما وفّق الرسول في أداء مهمته، ولعاد ذلك بالنقض على الشريعة الجديدة. لذلك اقتضت حكمة الله سبحانه- ولله الحكمة البالغة- أن يتدرج معهم في انتزاع هذه العقائد والمنكرات، فينهاهم عن عبادة غير الله، فإذا ما أقلعوا عنه، أخذ في النهي عن منكر غيره .. وهكذا. وكذلك كان القرآن يتدرج معهم في انتزاع المنكر الواحد، كما حدث في تحريم الخمر، فقد نزل فيها أول ما نزل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة: 219] فشربها قوم، وتركها آخرون، ثم إن بعض المسلمين صنع طعاما، ودعا أصحابه؛ فأكلوا وشربوا ثم قام أحدهم ليصلي بهم، فقرأ «قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون» فأنزل الله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] فكانوا يتركونها عند الصلوات، وفي الأوقات القريبة منها؛ حتى لا يقعوا في مثل هذا الخلط. وبذلك صار من السهل تحريمها تحريما باتّا قاطعا؛ فقد صنع بعض المسلمين طعاما، فأكلوا وشربوا حتى لعبت الخمر برءوسهم فتقاولوا الأشعار فتشاجروا حتى شج أحدهم رأس الآخر، فقال الفاروق «عمر»: «اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا» فحرّمها الله تحريما باتّا بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [سورة المائدة: 90 - 91] فقال «عمر»: انتهينا (¬1) فمن ثم .. اقتضت الحكمة نزول القرآن مفرقا. 2 - التدرج في تثبيت العقائد الصحيحة، والأحكام التعبدية والعملية والآداب والأخلاق الفاضلة، فأمرهم أولا: بالإيمان بالله وصفاته، وعبادته ¬

_ (¬1) انظر تفاسير: الكشاف، وابن كثير، والقرطبي، والآلوسي في آيات الخمر.

وحده، حتى إذا ما آمنوا بالله دعاهم إلى الإيمان باليوم الآخر، ثم بالإيمان بالرسل، والملائكة، حتى إذا ما اطمأنت قلوبهم بالإيمان وأشربوا حبّه، سهل عليهم بعد ذلك تقبل الأوامر والتشريعات التفصيلية، والأحكام العملية والفضائل والآداب العالية، فأمروا بالصلاة والصدق والعفاف، ثم أمروا بالزكاة، ثم بالصوم ثم بالحج، وبيّنت لهم أحكام النكاح والطلاق والرجعة والمعاملات، من بيع وشراء، وتجارة وزراعة، ودين ورهن .. إلى غير ذلك من المعاملات الصحيحة منها وغير الصحيحة. ولذلك كان مدار الآيات في القسم المكي على إثبات العقائد والفضائل التي لا تختلف باختلاف الشرائع. بخلاف القسم المدني، فكان مدار التشريعات فيه على الأحكام العملية والتشريعات التفصيلية التي تتعلق بصيانة الدماء، والأعراض، والأموال، وصيانة العقول، والمحافظة على الأنساب سواء منها ما يتعلق بالمجتمع الصغير وهي الأسرة، أو ما يتعلق بالمجتمع الكبير وهي الأمة، وذلك كأحكام النكاح والطلاق والرجعة والعدة، والحضانة والنفقة، وكالحدود، والعقود، والمعاهدات والسياسات ونحوها. وتفصيل ما أجمل قبل ذلك من الآداب والفضائل. وقد أشارت السيدة العاقلة العالمة، التي تربت في منزل الوحي «عائشة» - رضي الله عنها- إلى هذه الحكمة، فقالت- كما ورد في صحيح البخاري-: «إنما نزل من القرآن أول ما نزل منه «سورة» (¬1) من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا» (¬2). ولا شك أن من طبيعة التدرج نزول آيات القرآن، وسوره بعضها في أثر ¬

_ (¬1) لعل مرادها: سورة «المدثر» فإنها أول ما نزلت بعد فترة الوحي ففيها الأمر بتوحيد الله، وذكر الجنة والنار، أو أن مرادها بالسورة الجنس أي سور من المفصل، وسور المفصل تدور حول تثبيت العقائد والفضائل، وذكر الجنة والنار. (¬2) صحيح البخاري- كتاب فضائل القرآن- باب تأليف القرآن.

بعض، وقد دل القرآن بهذه السياسة الرشيدة في إصلاح الشعوب وتهذيبها على أنه معجز، وأنه من عند الله؛ فما كان لبشر- مهما كان ذكيّا- أن يتوصل إلى هذه الطرق الحكيمة في ذلك الوقت الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذلك من صنع الحكيم العليم الخبير. 3 - تيسير حفظه وفهمه على الأمة، فقد أوجب الله على المسلمين حفظ ألفاظه، كما أوجب عليهم فهم معانيه، قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) [سورة ص: 29]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) [سورة محمد: 24]. وقد ابتلي المسلمون في مكة بالمشركين، كما ابتلوا في المدينة باليهود والمنافقين هذا إلى اشتغالهم بأمور معايشهم، وبإقامة الدين، ونشر الإسلام، والدفاع عن دعوته، فلو نزل القرآن مرة واحدة لما أمكنهم حفظه ولا فهمه مع وجود هذه الملابسات والظروف المحيطة بهم. لذلك اقتضت حكمته أن ينزل القرآن مفرقا، حتى إذا ما نزلت قطعة منه أمكنهم أن يحفظوها ويجيدوا فهمها. 4 - تثبيت قلوب المؤمنين، وتعويدهم على الصبر والتحمل بذكر قصص الأنبياء والسابقين الفينة بعد الفينة، وتذكيرهم بأن النصر مع الثبات والصبر، وأن العاقبة للمتقين، والخذلان والخسران للكافرين، اقرأ- إن شئت- قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) [سورة البقرة: 214]، فقد ذكر «عطاء» أن المسلمين لما هاجروا إلى المدينة، وتركوا الأهل والوطن والمال، وآثروا رضاء الله ورسوله، وتعرضوا لألوان من الإيذاء والجهد والفقر والمرض، ومعاداة اليهود والمنافقين لهم، شق ذلك على نفوسهم، فأنزل الله هذه الآية. وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) [سورة آل عمران: 142]، وقال تعالى: الم (1) أَحَسِبَ

الحكمة الثالثة

النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) [سورة العنكبوت: 1 - 3]. بل اقرأ هذا الوعد الذي يستحث الهمم، ويقوي العزائم إلى الجهاد والكفاح حتى تقوم لهم دولة ويكون لهم سلطان: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [سورة النور: 55]. وطبعي: أن دواعي هذا التذكير والإرشاد والتوجيه لم تكن في وقت واحد، بل كانت في أزمنة متعددة متفاوتة، فاقتضى ذلك نزول القرآن مفرّقا على حسب ذلك. الحكمة الثالثة: مجاراة الحوادث والنوازل والأحوال والملابسات في تفرقها وتجددها، وهذه الحكمة هي التي أشارت إليها الآية الكريمة في قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) [سورة الفرقان: 33]. ويندرج تحت هذه الحكمة ما يأتي: 1 - بيان حكم الله- سبحانه وتعالى- في الأقضية والوقائع التي تحدث بين المسلمين، فقد اقتضت رحمة الله بعباده أنه كلما وقعت لم يكن حكمها معروفا عند المسلمين أن تنزل الآية أو الآيات عقبها، مبينة حكم الله فيها، ومثال ذلك حادثة الإفك، فقد نزلت فيها آيات من فوق سبع سماوات، ببراءة السيدة الحصان الرزان (¬1) «عائشة» - رضي الله عنها- وإدانة الذين رموها بدون شهود وبينة، وبيان حكم الله فيهم، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ إلى قوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) [سورة النور: 11 - 20]. ¬

_ (¬1) الحصان: العفيفة، الرزان: العاقلة.

ومثل حادثة «خولة بنت ثعلبة» التي ظاهر منها زوجها «أوس بن الصامت» أي قال لها: «أنت عليّ كظهر أمي»، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وتقول: «إن أوسا أخذني وأنا شابة مرغوب فيّ حتى كبرت سني ونثرت (¬1) له بطني ظاهر مني وإن لي أولادا إن ضممتهم إلي جاعوا، وإن ضممتهم إليه ضاعوا» فقال رسول الله: «ما أراك إلا قد حرمت عليه ولم أؤمر في شأنك بشيء». فجعلت تجادل رسول الله وتحاوره، رغبة منها أن يجد لها مخرجا في عشرة زوجها، فأنزل الله- سبحانه- أول سورة «المجادلة» ببيان حكم الظهار في الإسلام: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) إلى قوله تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة المجادلة: 1 - 4]، وغير ذينك كثير. وطبعيّ .. أن الحوادث لم تكن تقع في وقت واحد، فنزل القرآن في هذه الحوادث مفرقا لذلك. 2 - إجابات السائلين على أسئلتهم التي كانوا يوجهونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم سواء أكانت هذه الأسئلة لغرض التثبت والتأكد من رسالته، أم كانت للاسترشاد والمعرفة. ومن النوع الأول: قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) [الإسراء: 85] وقوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ... (83) [الكهف: 83 وما بعدها]. ومن الثاني قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [سورة البقرة: 189] وقوله: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) [سورة البقرة: 215]، وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ¬

_ (¬1) أي أنجبت له أولادا وهو من الكنايات البديعة.

فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [سورة البقرة: 219]، وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [سورة الأعراف: 187]. وطبعي .. أن هذه الأسئلة لم تكن في وقت واحد، بل كانت تحدث متفرقة فكان نزول القرآن مفرقا لذلك. 3 - تنبيه المسلمين من وقت لآخر إلى أخطائهم وأغلاطهم، وتحذيرهم من معاودتها والوقوع فيها؛ وذلك مثل ما حدث في «أحد» فقد خالف الرماة نصيحة رسول الله، متأولين، فكانت النتيجة: أن أتي المسلمون من جهتهم وأن شاعت الهزيمة بينهم، وشج وجه النبي، وكسرت رباعيته، واستشهد منهم عدد كثير، فأنزل الله في ذلك آيات عدة، مسجلة الأغلاط، ومحذرة لهم من المخالفة، والفرار عند اللقاء .. اقرأ- إن شئت- قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ (152) الآيات [سورة آل عمران: 152 وما بعدها]. ومثل ما حدث في «حنين»، فقد اغتر المسلمون بكثرتهم، حتى قال قائل في هذا اليوم: «لن نهزم من قلة». ولم يعتمدوا على الله حق الاعتماد في طلب النصر، فكانوا أن منوا بالهزيمة أولا، ولولا تدارك الله تعالى لهم برحمته، وثبات النبي صلى الله عليه وسلم وحوله فئة قليلة من أبطال أصحابه، وإنزال الملائكة مثبتة لقلوبهم ومقوية لروحهم لكانت الهزيمة ساحقة ماحقة اقرأ معي قول الله سبحانه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) [سورة التوبة: 25 - 27]. وقد كانت «حنين» درسا تعلم منه المسلمون: أن النصر ليس بالعدد والعدّة فحسب، وإنما هو من عند الله، وأن الاغترار ليس من خلق

المسلم، وأن الأسباب العادية لا ينبغي أن تشغل المسلم عن اللجوء إلى الله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران: 126]. ومثل ما حدث من «حاطب بن أبي بلتعة» قبيل الفتح فقد كان رسول الله حريصا على أن تتم غزوة الفتح في سرية تامة ولكن حاطبا كان له أهل في مكة وكانوا ضعفاء فأحب أن تكون لهم يد على قريش كي يكرموا أهله فأرسل إلى قريش رسالة في السر بخبر الغزوة ولكن الوحي نزل مخبرا لرسول الله، فأرسل من أحضر الرسالة، وقد حاول بعض الصحابة قتله، زاعما أنه بعمله صار منافقا ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما استمع إلى وجهة نظره وعلم صدقه عفا عنه، فأنزل الله في ذلك آيات وهو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ... (1) الآيات [سورة الممتحنة: الآية الأولى وما بعدها]. ومعلوم أن هذه الأغلاط لم تقع في وقت واحد: فكان نزول القرآن مفرقا لذلك. 4 - تحذير المسلمين من المنافقين، والكشف عن خبيئة نفوسهم فقد كانوا بحكم تظاهرهم بالإسلام، يختلطون بالمسلمين، ويطلعون على أسرارهم وأحوالهم فينقلونها إلى الأعداء، أو يرجفون بها في المدينة، فكان ضرر هؤلاء المخالطين المداجين على المسلمين أشد من ضرر الأعداء المكاشفين، فلا عجب أن كشف الله أستارهم، وشنع عليهم أشد التشنيع في كثير من الآيات، فقد كان لهم بالمرصاد، فكلما بيتوا أمرا أطلع الله عليه رسوله والمؤمنين، أو كادوا مكيدة ردها الله في نحورهم، أو أخفوا قولا أظهره الله. وطبعي أن هذه الأمور المبيّتة، والمكايد المدبرة، والأقوال السيئة التي كانت تصدر عنهم لم تكن في وقت واحد، بل كانت في أزمنة متفرقة، فمن ثمّ جاء القرآن مفرقا.

الحكمة الرابعة

وإن شئت أمثلة لما كان يفعله المنافقون ويقولونه، وإظهار الله لحالهم، فاقرأ معي- قول الله- سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة: 8 - 20]، وقوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى الآيتين [النساء: 142 - 143]. وقد أنزل الله في شأنهم سورة بتمامها، وهي سورة «المنافقون» كما ذكر الكثير من أحوالهم في سورة «التوبة». وما زال الله- سبحانه- يقول في هذه السورة، ومنهم ... ومنهم ... حتى فضحهم أشد فضيحة، وجعلهم مثلا لسوء الطباع، والأخلاق والنذالة، والدّسّ، والوقيعة- في الأولين والآخرين. الحكمة الرابعة: بيان إعجاز القرآن الكريم على أبلغ وجه وآكده؛ لأن القرآن لو نزل جملة واحدة؛ لقالوا: شيء جاءنا مرة واحدة فلا نستطيع أن نعارضه، ولو أنه جاءنا قطعا قطعا لعارضناه فأراد ربك أن يقطع عليهم دابر المعذرة والتعلل؛ فأنزله مفرقا. وكأن الله- سبحانه- يقول لهم- بعد نزول كل قطعة منه-: إن كنتم ترتابون في أن هذا المنزل على هذا الوضع من عند الله؛ فأتوا أنتم بقطعة مشابهة له. وقد ذكرنا سابقا: أن الله تحدى الناس كافة بالقرآن على مراتب متعددة؛ كي تقوم عليهم الحجة تلو الحجة، ولو أن القرآن نزل جملة واحدة لما أمكن تكرر التحدي المرة بعد المرة وثبوت عجزهم المرة تلو المرة. وهكذا يتبين لنا: أن القرآن بنزوله منجما قد أعطاهم بعد كل نجم فرصة يعارضون فيها؛ فإذا ما عجزوا كان ذلك أدل على الإعجاز، وأقطع للمعذرة.

وأيضا فالقرآن على نزوله مفرقا، وتباعد ما بين أزمان النزول يكوّن سلسلة ذهبية مترابطة الحلقات متآخية الفقرات، منسجمة الشكل؛ لا تنبو كلمة عن كلمة، ولا تنفر آية من آية، بل كله في غاية الفصاحة والبلاغة والإحكام، ولا يسمو بأسلوبه في بعض الآيات وينزل في البعض الآخر، ولا تنبل الغاية والمقصد في بعض الآيات، وتسف في البعض الآخر مما يدل أعظم الدلالة على أنه ليس من عند بشر. ولو أنك نظرت في مؤلفات أديب من الأدباء، مهما بلغ، فإنك- لا شك- واجد تفاوتا بيّنا بين ما ألفه في أول حياته، وما ألفه في آخر حياته سواء أكان في لفظه ومعانيه، أم في أغراضه ومراميه، أم في أسلوبه وتفكيره. وإذا كان القرآن لم يأت على غرار ما يصنع البشر، فقد تعين أن يكون من عند الله خالق القوى والقدر. هذا .. وليست هذه نهاية الحكم، فهناك لمن أحكم النظر، وأجال البصر حكم وحكم. تتمّة: الذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها، أن القرآن كان ينزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بحسب الحاجة: خمس آيات، وعشر آيات، وأكثر أو أقل. وقد صح نزول العشر الآيات في قصة «الإفك» جملة، وصح نزول عشر آيات من أول سورة «المؤمنون» جملة، وصح نزول: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وحدها، في قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ... [سورة النساء: 95] الآية، وكذلك قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة التوبة: 28] نزل بعد أن نزل أول الآية، كما حرره الإمام «السيوطي» في «أسباب النزول» وقد ورد في بعض الآثار نزول بعض السور

11 - الوحي لغة واستعمالاته

جملة واحدة كسورة «الإخلاص» و «الكوثر» و «المرسلات». ولا يخالف ما ذكرنا ما رواه البيهقي في «الشّعب» بسنده عن عمر قال: «تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات؛ فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم خمسا .. خمسا» وما أخرجه ابن عساكر من طريق أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشيّ» ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات، خمس آيات، فإن المراد- إن صح- إلقاؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر حتى يحفظه، ثم يلقي إليه الباقي، لا إنزاله بهذا القدر خاصة. ويشهد لهذا التفسير ما أخرجه البيهقي عن أبي العالية قال: «تعلموا القرآن خمس آيات، خمس آيات؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من جبريل خمسا خمسا»، ويصح أن يراد به أن ذلك هو الغالب الكثير فلا ينافي حصول الوحي بأكثر أو بأقل. وما كان لنا- وقد تكلمنا عن إنزال القرآن- أن نغفل الكلام عن «الوحي» إذ الإنزال متوقف على معرفة معنى «الوحي» وكيفيته، وإمكانه ووقوعه، وهو ما سنتكلم عنه الآن. 11 - الوحي [لغة واستعمالاته] ما هو الوحي .. للوحي معنى في اللغة، ومعنى في الاصطلاح، أما في اللغة .. فإليك ما قاله العلماء في هذا: قال في «الأساس»: «أوحى إليه وأومى إليه بمعنى، ووحيت إليه وأوحيت إذا كلمته بما تخفيه عن غيره، وأوحى الله إلى أنبيائه وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [سورة النحل: 68]. وفي القاموس المحيط: «الوحي: الإشارة والكتابة والمكتوب والرسالة، والإلهام والكلام الخفي، وكل ما ألقيته لغيرك». وقال الراغب: «أصل الوحي: الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة

قيل: أمر وحى، يعني: سريع، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا- عليه السلام-: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) [سورة مريم: 11]، أي: أشار إليهم ولم يتكلم. ومنه: الإلهام الغريزي، كالوحي إلى النحل، قال تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [سورة النحل: 68]، وإلهام الخواطر بما يلقيه الله في روع الإنسان السليم الفطرة، الطاهر الروح، كالوحي إلى «أم موسى»، ومنه ضده (¬1)، وهو وسوسة الشيطان، قال تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ (121) [سورة الأنعام: 121]، وقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112]. فالخلاصة في معنى الوحي اللغوي: أنه الإعلام الخفي السريع، وهو أعم من أن يكون بإشارة أو كتابة أو رسالة، أو إلهام غريزي، أو غير غريزي، وهو بهذا المعنى لا يختص بالأنبياء، ولا بكونه من عند الله سبحانه. وأما في الشرع: فيطلق ويراد به المعنى المصدري، ويطلق ويراد به المعنى الحاصل بالمصدر، ويطلق ويراد به: الموحى به. ويعرف من الجهة الأولى: بأنه: «إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب بواسطة أو غير واسطة» فهو أخص من المعنى اللغوي لخصوص مصدره ومورده؛ فقد خص المصدر بالله سبحانه، وخصّ المورد بالأنبياء. ويعرف من الجهة الثانية: بأنه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من عند الله، سواء أكان الوحي بواسطة أم بغير واسطة. ويعرف من الجهة الثالثة: بأنه ما أنزله الله على أنبيائه، وعرّفهم به من أنباء ¬

_ (¬1) الوحي المحمدي، ص 27.

أقسام الوحي الشرعي وكيفياته

الغيب والشرائع والحكم، ومنهم من أعطاه كتابا، ومنهم من لم يعطه. أقسام الوحي الشرعي وكيفياته: ينقسم الوحي باعتبار معناه المصدري إلى ما يأتي: 1 - تكليم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب ، إما في اليقظة: وذلك مثل ما حدث لموسى- عليه السلام- قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً ومثل ما حدث لنبينا «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- ليلة الإسراء والمعراج. والسلف والمحققون من العلماء على أن موسى- عليه السلام- وغيره من الأنبياء كنبينا محمد- عليه الصلاة والسلام- قد سمع كلام الله حقيقة لا مجازا، والواجب علينا أن نؤمن بما ورد من صفة الكلام في القرآن والسنة الصحيحة من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل. وأما ما زعمه المعتزلة وموافقوهم، من أن معنى كونه متكلما: أنه خالق للكلام كما خلق الكلام في الشجرة لموسى- عليه السلام- فزعم باطل لمخالفته للقواعد اللغوية والشرعية، وأقوى دليل في الرد عليهم قول الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، فقد أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكّد بذكر المصدر انتفى احتماله للمجاز. وكذلك ما زعمه الأشاعرة من التفرقة بين الكلام النفسي، والكلام اللفظي المسموع، وأن الأول قديم دون الثاني، فزعم باطل أيضا، ترده النصوص المتكاثرة من القرآن الكريم القطعي المتواتر، والسنة الصحيحة المتكاثرة وأظهر دليل في الرد عليهم قول الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6]. والإجماع على أن المراد بكلام الله في الآية هو القرآن الكريم، والآية غير محتملة للتأويل قطعا. وإما في المنام: كما في حديث «معاذ» مرفوعا: «أتاني ربي، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى .. » الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي

2 - الإلهام أو القذف في القلب

في سننه وقال: حسن صحيح. 2 - الإلهام أو القذف في القلب : بأن يلقي الله أو الملك الموكل بالوحي في قلب نبيه ما يريد مع تيقنه أن ما ألقي إليه من قبل الله تعالى، وذلك مثل ما ورد في حديث: «إن روح القدس نفث في روعي (¬1): لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» رواه الحاكم وصححه عن ابن مسعود. 3 - الرؤيا في المنام : ورؤيا الأنبياء وحي؛ وذلك مثل: رؤية إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- أن يذبح ابنه، ورؤية نبينا محمد- صلوات الله وسلامه عليه- في منامه أنهم سيدخلون البلد الحرام وقد كان، وفي الحديث الصحيح، الذي رواه «البخاري»: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح .. ». 4 - تعليم الله أنبياءه بوساطة ملك ، والمختص بذلك من ملائكة الله هو أمين الوحي «جبريل» عليه السلام وهذا القسم يعرف ب «الوحي الجلي». وقد بين الله- سبحانه- هذه الأقسام بقوله: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) [سورة الشورى: 51] إذ المراد بالوحي في الآية: الإلهام أو المنام، لمقابلته للقسمين الآخرين: التكليم من وراء حجاب أو بواسطة رسول، والوحي الذي بوساطة جبريل .. له حالات ثلاث: أ- أن يأتي جبريل في صورته التي خلقه الله عليها، وهذه الحالة نادرة، وقليلة، وقد ورد عن السيدة «عائشة»: أن النبي لم ير «جبريل» على هذه الحالة إلّا مرتين: مرة في الأرض، وهو نازل من غار «حراء» ومرة أخرى في السماء، عند «سدرة المنتهى» ليلة المعراج، رواه أحمد. ب- أن يأتي جبريل في صورة رجل كدحية الكلبي، أو أعرابي مثلا، ¬

_ (¬1) الروع بضم الراء: القلب والخاطر، وبالفتح: الفزع، والمراد هنا الأول.

إمكان الوحي ووقوعه

ويراه الحاضرون ويسمعون قوله، ولا يعرفون هويته، ولكن النبي يعلم علم اليقين: أنه جبريل، وذلك كما في حديث جبريل الطويل في الصحيحين (¬1) وحديث أم سلمة، ورؤيتها رجلا على صورة دحية الكلبيّ، فظنته هو، حتى بيّن النبي لها أنه جبريل. ج- أن يأتي على صورته الملكية، وفي هذه الحالة لا يرى، ولكن يصحب مجيئه صوت كصلصلة الجرس، أو دوي كدوي النحل، وقد دلّ على هاتين الحالتين حديث سؤال «الحارث بن هشام» النبي صلى الله عليه وسلم: عن كيفية مجيء الوحي إليه وهو في صحيح البخاري كما تقدم. والوحي بجميع أنواعه يصحبه علم يقيني ضروري من الموحى إليه بأن ما ألقي إليه حق من عند الله ليس من خطرات النفس ولا نزعات الشيطان، وهذا العلم اليقيني لا يحتاج إلى مقدمات، وإنما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانية، كالجوع والعطش والحب والبغض. إمكان الوحي ووقوعه: مبنى الوحي ومداره على أمرين: 1 - وجود «موح» وهو «الله» سبحانه وتعالى أو الملك الذي يبلّغ الوحي وينقله من الله إلى الرسل، والملك: جسم نوراني لا يرى، ولكنه قادر على التشكل بالأشكال المختلفة. 2 - وجود نفس بشرية صافية صالحة لتلقي الوحي من الله أو الملك. أما الأول: فالله- سبحانه- قد قام على وجوده وكماله الدليل العقلي وتواترت عليه الأدلة الآفاقية، والأنفسية، والتنزيلية. وأما الملائكة، فقد أخبر بهم الأنبياء وجاءت بوجودهم الشرائع والكتب السماوية، وقد استفاض القرآن والسنة بالإخبار عنهم بما لا يدع مجالا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وصحيح مسلم- كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان.

"العلم يؤيد معنى الوحي وإمكانه"

للشك في وجودهم، والفلاسفة، والعلماء قديما وحديثا- إلا الشرذمة المادية- يقرون: بوجود عالم غير محسوس، وراء هذا العالم المحسوس، وأن الإنسان ليس هو هذا الجسم المحسوس فحسب، وإنما هو جسم وروح. أما الثاني: وهو استعداد النبي للتلقي عن الله أو الملك، فلا بعد فيه، إذ الأنبياء لهم من سمو فطرتهم، وصفاء أرواحهم، وإعداء الله- سبحانه- لهم إعدادا خاصّا: جسمانيّا وروحيّا ما يؤهلهم لتلقي الوحي من الله، أو الملائكة، والفهم منهم، والتجاوب معهم، وليس لنا في هذا الأمر أن نقيس الغائب على الشاهد، أو عالم الروح على عالم المادة. وإذا ثبت هذان الأمران، فقد ثبت- لا محالة- إمكان الوحي، وأنه لا استحالة فيه. «العلم يؤيد معنى الوحي وإمكانه»: وإذا ثبت وجود عالم الروح، لم يبق مجال إذا لإنكار وجود الملائكة وقد استفاضت الأخبار بوجودهم، عن الأنبياء والشرائع السماوية. وقد تمخض العصر الحديث عن علم يسمى «علم التنويم الصناعي» أو «التنويم المغناطيسي» وقد أثبت هذا العلم وجود قوة خفية وراء هذا الهيكل الإنساني، وهي الروح، وبهذه القوة الخفية، أو الروح يتسلط المنوّم- بكسر الواو- على المنوّم- بفتح الواو- ويلقي الأول إلى الثاني ما يشاء، ويستجيب الثاني إلى ما يريد الأول، وقد أجريت في هذا تجارب عدة حتى أصبح أمرا مسلما به، وهذا يقرب معنى الوحي إلى حد كبير وقد أصبح هذا شجى في حلوق المادّيين، ولم يجدوا لدفعه سبيلا. ثم إن بعض المخترعات الحديثة كاللاسلكي، والمذياع، والتلفزيون ونحوها قد أمكن للإنسان بوساطتها أن يبلغ كلامه إلى من هو أبعد منه بآلاف الأميال، فإذا توصل الإنسان على عجزه- إلى هذه المخترعات، أفنستبعد على خالق القوى والقدر، العليم الخبير- أن يبلغ رسله ما يريد

الدليل على وقوع الوحي

بوساطة، أو بغير وساطة وأن يهيئ للموحى إليهم من الوسائل ما يجعلهم مستعدين لتلقي الوحي. الدليل على وقوع الوحي: وإذا ثبت أن الوحي ممكن وقد أخبر بوقوعه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أنه واقع وثابت لا محالة. أما الأخبار بوقوعه فكثيرة في القرآن والسنة الصحيحة الثابتة، فمن ذلك قوله سبحانه وتعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) [سورة النجم: 1 - 4] وقوله سبحانه: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ... [سورة الشورى: 52 - 53] وقوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) [سورة النساء: 163]، وقوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) [سورة الجن: 1] إلى غير ذلك من الآيات. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم «ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان ما أوتيته وحيا أوحاه الله، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» رواه الشيخان، وحديث عائشة- رضي الله عنها- في الصحيحين: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم .. » وحديث الحارث بن هشام: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي قال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصّد عرقا» رواه البخاري، إلى غير ذلك من الأحاديث المتكاثرة التي تدل بطريق التواتر المعنوي على ثبوت الوحي ووجوده.

وأما صدق الرسول فقد قامت عليه الدلائل المتكاثرة، والمعجزات المتواترة، المعنوية والحسية الدالة على صدق دعوته القائمة مقام قول الله- سبحانه-: صدق عبدي فيما يبلّغ عنّي. وقد أورد الملحدون وأعداء الأديان على الوحي شبها، وإليك هذه الشبه وردها. ***

12 - الشبه التي أوردت على الوحي المحمدي

12 - الشبه التي أوردت على الوحي المحمدي لقد حاول الماديون الذين لا يؤمنون بوجود قوى روحية غيبية وراء المادة، ومن على شاكلتهم ممن يحملون الحقد والضغن للإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم حاول هؤلاء أن يشكّكوا في الوحي المحمدي فنفوا أن يكون وحيا من خارج نفس النبي وقالوا: إنه وحي من داخل نفسه فليس هناك ملك تلقى عن الله ثم ألقى ما جاء به على النبي صلى الله عليه وسلم ولا غير ذلك من أنواع الوحي وإليك هذه الشبهة والرد عليها. شبهة الوحي النفسي قالوا: نحن لا نشك في صدق محمد في خبره عما رأى وسمع، وإنما نقول: إن منبع ذلك من نفسه، وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال: إنه وراء عالم المادة والطبيعة الذي يعرفه جميع الناس، فإن هذا الغيب شيء لم يثبت عندنا وجوده، كما أنه لم يثبت عندنا ما ينفيه ويلحقه بالمحال، ونحن نفسر الظواهر غير المعتادة بما عرفنا، وثبت عندنا، دون ما لم يثبت، فهذا الموحى الذي أخبر به محمد إنما هو إلهام كان يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج؛ ذلك أن منازع نفسه العالية، وسريرته الطاهرة، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته وترك ما سواها من عبادة وثنية، وتقاليد وراثية رديئة- يكون لها في جملتها من التأثير ما يتجلى في ذهنه، ويحدث في عقله الباطن الرؤى، والأحوال الروحية، فيتصور ما يعتقد وجوده إرشادا إلهيّا نازلا عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثل له رجل يلقنه ذلك، يعتقد أنه من عالم الغيب وقد يسمعه يقول ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند الأنبياء، فكل ما يخبر به النبي من كلام ألقي في روعه، أو عن ملك ألقاه على سمعه فهو خبر صادق عنده، ولكن تفسيره عندنا ما ذكرنا من أن ما تخيله إنما هو نابع من نفسه ومن عقله الباطن.

المقدمات الست التى اسندوا اليها

وضربوا مثلا للوحي النفسي قصة «جان دارك» الفتاة الفرنسية التي اعتقدت أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها، ودفع العدو عنه، وادعت أنها تسمع صوت الوحي، فأخلصت في دعوتها وتوصلت بصدق إرادتها إلى رئاسة جيش صغير تغلبت به على العدو، ثم ماتت غبّ انتصارها لما خذلها قومها، ووقعت في يد عدوها فألقوها في النار حية، وقد ذهبت تاركة وراءها اسما يذكر في التاريخ، وقد حظيت بتعظيم قومها، وإجلالهم لها، حتى قررت الكنيسة الكاثوليكية قداستها فيما بعد موتها بزمن (¬1). ومما يؤسف أن هذا التصوير الذي يصورون به ظاهرة الوحي قد سرت شبهته إلى كثير من المسلمين المرتابين، الذين يقلدون هؤلاء الماديين في نظرياتهم المادية أو يقتنعون بها، وأغلب هؤلاء من المتعلمين الذين تلقوا العلم في الغرب، وليس عندهم من الثقافة الإسلامية العميقة ما يعصمهم من الانسياق وراء هؤلاء. [المقدمات الست التى اسندوا اليها] ولأجل أن يؤيدوا فكرة الوحي النفسي ذكروا مقدمات تخيلوها أو تصيدوها زاعمين أنها أساس هذه التشريعات والعلوم التي امتلأ بها عقل النبي الباطن ثم فاضت بها نفسه فقالوا: أ- إن محمدا كان يصحب عمه أبا طالب في كثير من رحلاته التجارية وأنه استفاد من هذه الرحلات بما كان يسمعه من الأعراب الذين كانوا يسكنون الديار التي يمر عليها كديار ثمود، ومدين وغيرهما، وما كان يسمعه من أحبار اليهود ورهبان النصارى وذلك مثل بحيرى الراهب الذي لقيه في مدينة «بصرى» بالشام، وقالوا: إنه كان نسطوريّا من أتباع «آريوس» في التوحيد، وينكر ألوهية المسيح، وعقيدة التثليث، وإن محمدا لا بدّ أن يكون علم منه عقيدته بل غالى بعضهم فزعم أنه كان معلما للنبي ومصاحبا له بعد رسالته. 2 - إن ورقة بن نوفل كان من متنصّرة العرب العالمين بالنصرانية وكان ¬

_ (¬1) الوحي المحمدي للسيد محمد رشيد رضا ص 76 ط السادسة.

يعرف العبرانية، وله علم بالكتب السابقة، وكان قريبا لخديجة- رضي الله عنها- وهو الذي ذهبت إليه خديجة ومعها النبي لما أخبرها بخبر الوحي وغرضهم بهذا إثبات أن النبي أخذ عنه بعض علم أهل الكتاب. 3 - ما كان من انتشار اليهودية والنصرانية في بلاد العرب قبل الإسلام ومن تنصر بعض فصحاء العرب وشعرائهم كقس بن ساعدة الإيادي وأميّة بن أبي الصّلت، وإشادة هؤلاء بما كانوا يسمعونه من علماء أهل الكتاب عن قرب ظهور النبي الذي بشّر به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء وغرضهم بهذا أن النبي استفاد من هؤلاء، واستغل البشارة لنفسه. 4 - زعموا أنه كان بمكة أناس من اليهود والنصارى وأنهم كانوا عبيدا أو خدما، وكانوا يسكنون أطرافها. وكان هؤلاء يتحدثون بالكثير من القصص الذي جاءت به كتبهم فسمع منهم النبي ما سمع واستفاد منهم الكثير مما ذكره من قصص الأولين. 5 - ذكروا ما كان من رحلتي قريش: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، واجتماعهم بالأحبار والرهبان في كلّ منهما كلما مروا بدير أو صومعة، وكان هؤلاء يتحدثون بقرب ظهور نبي من العرب، فتعلقت نفسه بما سمع، وظهر ذلك على لسانه بدعوى النبوة. 6 - قالوا: إن محمدا توصل إلى ما توصل إليه من عقائد بالخلوة في غار حراء، والانقطاع إلى عبادة الله وحده، والتفكر في خلق السموات والأرض من نجوم وكواكب وسهول ونجود وبحار ذات أمواج، وليل ونهار، وكان لهذا التعبد والتفكر أثرهما في صقل نفس محمد، وامتلاء قلبه بوحدانية الله ونظامه البديع في الكون، وما زال يفكر ويتأمل وينفعل بما يرى ويسمع، ويتقلب بين الآلام والآمال، حتى أيقن أنه هو النبي المنتظر الذي سيبعثه الله لهداية البشر، فتجلى له هذا الاعتقاد في الرؤيا المنامية، ثم قوي حتى صار يتمثل له الملك ويلقنه الوحي في اليقظة. وأما المعلومات التي جاء بها في هذا الوحي فهي مستمدة من تلك

تفنيد شبهة الوحي النفسي

الينابيع التي ذكرناها سابقا، وما هداه إليه عقله وتفكره في التمييز يبن ما صح منها وما لا يصح، ثم تجلى له أنها نازلة من السماء، وأنها خطاب الخالق جلّ وعلا؛ بوساطة الناموس الأكبر، ملك الوحي جبريل- عليه السلام- الذي كان ينزل على سلفه من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- إلى غير ذلك من الأباطيل والتّرهات التي أرادوا بها تقريب فكرة «الوحي النفسي» وأن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عقيدة، وتشريع وآداب، فهي من ذات نفسه وعقله الباطن لا من شيء خارج عن نفسه، وهو الوحي عن الله جل وعلا. تفنيد شبهة الوحي النفسي والآن وبعد أن بسطت فكرة الماديين والملحدين في الوحي المحمدي وذكرت خلاصة المقدمات التي تذرعوا بها للوصول إلى ما يريدون سأكرّ عليها بالرد العلمي الذي يدعمه العقل السليم، والنقل الصحيح، والتاريخ الصادق، وإذا أبطلنا المقدمات، فقد بطل ما رتبوه عليها قطعا، وهي النتيجة التي ركبوا كل صعب وذلول في سبيلها. وبعد إبطال المقدمات سأعرض بالرد على المثال الذي ذكروه وهو قصة «جان دارك» فأقول وبالله التوفيق والسداد. [ابطال هذه المقدمات] (الرد على المقدمة الأولى) إن المعروف الثابت الذي رواه كتاب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصحب عمه أبا طالب في التجارة إلا مرة، وهو ابن تسع سنين وقيل ابن اثنتي عشرة سنة وأن الراهب «بحيرى» لما رآه تظلله سحابة من الشمس، ورأى فيه بعض أمارات النبوة ذكر لعمه أنه سيكون له شأن، وحذره أن تناله اليهود بشرّ، ولم تذكر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع في صغره من بحيرى شيئا، أو تعلم منه شيئا من معارف أهل الكتاب، ولما صار رجلا وتاجر للسيدة خديجة في مالها ذهب إلى بلاد الشام ولم يعرف أنه جاوز مدينة (بصرى) ولا أنه اشتغل في هذه الأسفار بغير التجارة، ولا أنه اتصل بأحبار اليهود،

(الرد على المقدمة الثانية)

ورهبان النصارى، ولو أنه حدث ما زعموا لنقله إلينا الرواة المسلمون الذين لم يدعوا صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق بالسيرة المحمدية إلا ذكروها. وأما ما زعموه من أن محمدا مر على ديار مدين وتحدث مع أهلها فغير صحيح؛ وأين مدين من طريق تجارتهم إلى الشام وليس من المعقول من مثل النبي، وهو من هو في رجاحة العقل، وقوة الفطنة أن يعتمد في أخبارهم، وأخبار ثمود وغيرهم من الأمم السابقة، على أعراب لا علم عندهم ولا تحقيق، ولم يعرف عن القوافل التجارية أنها كانت تضيع وقتها في البحث عن الأحبار والرهبان، وما كان للنبي وقد ذهب مع قافلة أن يشتزّ عنها ثم يذهب باحثا عن علماء أهل الكتاب، ولو أنه فعل لما تمكن من تصريف تجارته، مع أنه المنقول أنه كان تاجرا أمينا ناجحا، وأنه كان يربح ربحا وافرا، وهذا لن يتأتى في العادة لمن شغل بغير تجارته، ثم لو سلمنا جدلا أنه سمع من أخبار أهل الكتاب، فهل هذه النتف المبعثرة المشوّشة تكوّن هذا القصص الوافي الدقيق على المنهج الذي جاء به القرآن! (الرد على المقدمة الثانية) وهي ما زعموه من أن ورقة كان من متنصّرة العرب، وأنه كان قريب خديجة، وأن النبي أخذ منه بعض معارف أهل الكتاب، فقد خلطوا فيه الحق والباطل. والذي ثبت في الصحيحين: أن ورقة كان من العرب الذين تنصروا في الجاهلية، وكان يعرف العربية والعبرانية، وكان له علم بالكتب السابقة، وأن السيدة خديجة لما أخبرها النبي ما رأى، وما سمع بغار حراء، وجاءها فزعا خائفا أخذته إلى ابن عمها ورقة، فأخبره النبي بما رأى، فقال له ورقة: هذا هو الناموس (¬1) الذي كان ينزل على موسى، ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك، فقال له النبي: «أو مخرجيّ هم» قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني ¬

_ (¬1) الناموس: رسول الخير وهو أمين الوحي جبريل- عليه السلام.

(الرد على المقدمة الثالثة)

يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي (¬1). ولم تذكر الروايات أن النبي كانت له صلة به قبل هذا، بل السيدة خديجة هي التي عرّفته به، ولا أنه أخذ عنه شيئا من معارف أهل الكتاب، ولم يعرف عن ورقة أنه كان من دعاة النصرانية المبشرين بها، ثم إنه لم يلبث أن توفي، وهذا هو الصحيح المعتمد. وما روي من بقاء ورقة حتى شهد الدعوة المحمدية، والصراع بين المسلمين والمشركين، فغير صحيح، وهي رواية شاذة؛ فهل يعقل أن تكون هذه المقابلة الخاطفة ينبوعا لما جاء به الوحي المحمدي! (الرد على المقدمة الثالثة) وأمّا ما زعموه من انتشار اليهودية والنصرانية في بلاد العرب، ومن تنصّر بعض فصحاء العرب، وشعرائهم، كقس بن ساعدة، وأمية بن أبي الصّلت، ودعوتهم إلى التوحيد، وإشادتهم بقرب ظهور النبي الذي بشرت به التوراة والإنجيل، وتأثر النبي بهم في دعوى النبوة فغير صحيح. فاليهودية والنصرانية لم تكن منتشرة في بلاد الحجاز، وهي التي بعث منها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بمكة يهود ولا نصارى، وإنما كان اليهود بجوار المدينة المنورة، ومع هذا فلم يكن لهم أثر يذكر في جيرانهم- الأوس والخزرج- بالمدينة، ولم يتهود من العرب إلا القلة، والذين تنصروا من العرب أقل من القليل، وكانت معارفهم كمعارف أهل الكتاب بالمدينة وغيرها من أطراف الجزيرة العربية، كنجران وبلاد الشام- مشوشة ملفقة محرّفة، مما لا يعقل معه أن تكون مصدرا لما جاء به سيدنا محمد من أخبار وقصص تتسم بالصدق والحق، وعدم التناقض والاضطراب. وأما قسّ بن ساعدة فقد مات قبل البعثة، ولم يعرف أنه تنصر، وإنما كان من الحنيفيين الذين دعوا إلى التوحيد بفطرتهم، أو تأثروا بما بقي من شريعة الخليل إبراهيم- عليه السلام- وما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه قبل ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاري- باب كيف كان بدء الوحي.

(الرد على المقدمة الرابعة)

البعثة بزمن طويل يخطب الناس في سوق عكاظ على جمل أورق! وأن النبي سرّ بكلامه، قد ضعفه المحدّثون، بل طعن فيها الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي بالوضع والاختلاق، ولو سلمنا بصحة لقاء النبي له قبل البعثة، فإن ما أثر عن قسّ من كلمات لا تصلح أن تكون ملهمة للنبي بهذه الرسالة التامّة الوافية. وأما أمية بن أبي الصّلت، فقد كان شاعر ثقيف، وكان من الحنيفيين الذين يدعون إلى التوحيد، وكان علم أنه سيبعث نبي آخر الزمان من بلاد العرب، فترهب وتعبد، ولبس المسوح (¬1) طمعا في أن ينال النبوة، وقد عاش حتى أدرك النبوة، ولكن استبد به الحقد والغضب أن لم تصادفه النبوة فلم يسلم، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من شعره قال: «وكاد أن يسلم» وقال: «آمن شعره وكفر قلبه». ولم يثبت قط أنه لقي النبي قبل البعثة ولا بعدها، وإن كان عاش إلى سنة تسع من الهجرة فكيف يعقل أن يكون النبي في نشأته قد أخذ عنه وتأثر بأفكاره (الرد على المقدمة الرابعة) وهي زعمهم أنه كان بمكة أناس من اليهود والنصارى، وكانوا عبيدا وخدما، ويسكنون خارج مكة، وأن النبي اتصل بهم وسمع منهم، فهي أوغل في الكذب من سابقتها، وأبعد من نجوم السماء، ولم يكن بمكة يهود ولا نصارى حتى يتعلم منهم النبي .. ولو وقع ما زعموه لاتخذه أعداؤه من المشركين حجة يحتجون بها عليه، وأن ما يدّعيه من الوحي إنما تعلمه من هؤلاء، فإنهم كانوا يوردون في معرض الحجاج والخصام ما هو أضعف وأوهن من هذه الشبهة، فقد كان بمكة قين- حدّاد- رومي يصنع السيوف وغيرها فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقف عنده أحيانا يشاهد صنعته، فطعنوا في النبي بأنه يتعلم منه، فرد الله عليهم قوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ ¬

_ (¬1) جمع مسح- بكسر الميم- وهي لباس الرهبنة.

(رد المقدمة الخامسة)

بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) [النحل: 103]. لقد كان ذكر القصص بمكة من أقوى البراهين على صدق النبي، لأن البيئة المكية لم تكن بيئة علم ومعرفة، ولم يكن فيها يهود ولا نصارى بشهادة الواقع التاريخي الصادق، ولو تأخر ذكر القصص إلى ما بعد الهجرة لربما قالوا إنه تعلمه من أهل الكتاب بالمدينة، وإذا ثبت أن النبي كان أمّيّا، وانتفى أخذه عن أهل الكتاب، فقد تعين أن يكون من عند الله سبحانه وصدق الله حيث يقول: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) [العنكبوت: 48]. وكثيرا ما نبّه الله عز شأنه إلى ما في القصص من دلائل على صدق النبي في دعوته بعد ذكر شيء منها؛ قال سبحانه بعد ذكر قصة موسى في مدين من سورة القصص: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) [القصص 44 - 45]، وقال بعد قصة نوح من سورة هود: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) [هود: 49]، وقال في آخر سورة يوسف: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) [يوسف: 111]. وتأمل في قوله سبحانه: وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فإنها ترد على هذا الافتراء المكشوف. (رد المقدمة الخامسة) وهي استفادة العرب من رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن والشام، بالتقائهم بأهل الكتاب والسماع منهم، وبالتالي استفادة النبي من ذلك فيظهر تهافتها مما قدمناه في رد المقدمات السابقة، وأزيد فأقول، إن هاتين الرحلتين لم يكن لهما أثر يذكر في عقيدة القرشيين؛ لأن مقصدهم

(رد المقدمة السادسة)

كان التجارة لا تلقي العلوم والمعارف من أهل الكتاب، وعلى كثرة تكرار الرحلتين لم نجد أحدا من أهل مكة صار يهوديّا أو نصرانيّا، ومن تنصر في غير مكة إنما هم قلة لا تكاد تذكر، فكيف يتأثر النبي بقوم في شيء هم أجهل الناس به (رد المقدمة السادسة) وأما ما زعموه من أن خلوة النبي وتعبده في حراء وتأمله في الكون علويّه وسفليه، وأنه بتعبده وتفكره خيل إليه أنه النبي المنتظر، وأنه قد تمكن منه هذا التخيل حتى تراءى له أنه يوحى إليه، وأن الملك يلقنه- فدعاوى باطلة، ومقدمة لا تؤدي إلى ما يريدون من نتيجة، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتعبد ما كان يدور بخلده أنه نبي هذه الأمة المبعوث في آخر الزمان، وليس أدل على هذا من قول الحق تبارك وتعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [سورة القصص: 86]. فهي صريحة في أن النبي ما كان يؤمّل ذلك، ولكن ألقى الله إليه بالكتاب رحمة من الله به، وبالناس كلهم، لا كسب له فيه بعلم، ولا عمل ولا رجاء ولا أمل، والنبوة ليست بالتمني ولا بالرياضات الروحية، ولو كانت تنال بذلك لنالها أمية بن أبي الصلت، وأمثاله ممن ترهبوا وتنسكوا، وجاهدوا في سبيل الوصول إليها، وأيضا فغاية التعبد والتفكر في الكون أن يصلا بصاحبه إلى الإيمان بوجود إله خالق مدبر قيوم عالم قادر أما أنهما يؤديان إلى كل هذه العقائد والتشريعات المتنوعة، والآداب والتوجيهات التي لم تكن تخطر على بال إنسان، فهذا أمر غير معهود في سنة الكون ومجرى العادة. وبعد هذا المطاف تبين لك أيها القارئ الحصيف أن المقدمات التي أرادوا أن يرتبوا عليها فكرة الوحي النفسي مقدمات فاسدة غير مسلمة ودعاوى باطلة، لا حقائق تاريخية ثابتة، وإذا بطلت المقدمات، بطل لزوم النتيجة لها ببداهة العقل، وما مثلهم إلا كمثل من أراد أن يبني بيتا من خيوط العنكبوت: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [سورة العنكبوت: 41].

(رد عام لفكرة الوحي النفسي)

(رد عام لفكرة الوحي النفسي) إن فكرة الوحي النفسي كما صوروه مبنية على وجود معلومات وأفكار مدخرة في العقل الباطن وأنها تظهر في صورة رؤى ثم تقوى فيخيل لصاحبها أنها حقائق خارجية، فهل كان الدين الذي جاء به خاتم الأنبياء بعقائده وتشريعاته في العبادات والمعاملات، والحدود والجنائيات، والاقتصاد والسياسة، والأخلاق والآداب، وأحوال السلم والحرب مركوزا ومدخرا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما تنكره العقول بداهة؛ لأن ما جاء به النبي في العقائد يعتبر مناقضا لكل ما كان سائدا في العالم حينئذ من عقائد كالوثنية، والمجوسية، والتأليه، والتثليث والصلب، وإنكار البعث واليوم الآخر، وكذلك جاء النبي بتشريعات ما عرفت في الشرائع السابقة سماوية وغير سماوية، واشتمل القرآن على أسرار في الكون، والآفاق والأنفس ما كانت تخطر على بال بشر قط، ولم يظهر تأويلها إلا بعد تقدم المعارف في العصر الأخير، فكيف تكون هذه الأسرار من داخل نفس النبي صلى الله عليه وسلم وهي لم تخطر له على بال. وأيضا فإن الوحي بعد نزول صدر سورة «اقرأ» على النبي وهو يتعبد بغار حراء قد انقطع مدة من الزمان، لم ينزل فيها قرآن، فكيف سكت النبي طوال هذه المدة، وهو صاحب العقل الباطن المملوء بالمعارف، والوجدان الملتهب، والنفس المتوثبة للإصلاح أخبرونا يا أصحاب العقول. ثم إن العقل الباطن على ما يقول علماء النفس، إنما يفيض بما فيه في غفلة من العقل الظاهر، ولذلك لا يظهر ما فيه إلا عن طريق الرؤى والأحلام، الأمراض، كالحمى مثلا، وفي الظروف غير العادية، والقرآن الكريم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في اليقظة، وفي اكتمال من عقله وبدنه، ولم ينزل منه شيء في الرؤى والأحلام، وهكذا نرى أن ما استندوا

13 - قصة جان دارك

إليه من فكرة العقل الباطن لا تساعدهم بل ترد عليهم. وبعد: فلعلك أيقنت أن ما ذهبوا إليه من فكرة الوحي النفسي إنما قصدوا بها إبطال الوحي المحمدي، ولكن يأبى الله والراسخون في العلم ذلك، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) [سورة التوبة: 32]. 13 - قصة جان دارك إن تمثيلهم الوحي المحمدي بما زعمته جان دارك الفرنسية من أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها، وأنها سمعت صوت الوحي يأمرها بذلك تجن على الرسالة المحمدية، والوحي المحمدي، وأين الحصا من نجوم السماء، بل أين السراب من زلال الماء إن (جاك دارك) لم تدّع النبوة، ولو أنها ادعتها لما صدّقت؛ لأن دعوى النبوة لا تثبت إلا بدليل، وهي المعجزة، وأين ما ظهر على يدها من معجزات وإنما هي فتاة قوية القلب، مرهفة الحس، أهاج وجدانها، وحركه ما كانت تتصف به من شعور ديني كريم، وما كان يعانيه قومها من ذل وعبودية، لقد تلاقى شعورها الديني، وشعورها السياسي، فاستنهضت قومها للجهاد، وقادتهم إلى التخلص من الاستعباد، وقد صادفت دعوتها هوى في نفوس قومها، فأجابوها وخرجوا معها، وكان لهم النصر على العدو، وكونها استغلت مزاعمها في إثارة النفوس وإلهاب الحماس لا يقتضي أنها صادقة فيما زعمت، وما أسهل تهييج حماس أهل فرنسا بمثل هذه المؤثرات، وبما هو أضعف منها، فإن نابليون الأول كان يسوقهم إلى الموت مختارين بكلمة شعرية يقولها ككلمته عند الأهرام، فهي لم تزد عن كونها امرأة شجاعة متدينة، امتلأ قلبها بحب بلادها، ورغبتها في تخليصها من عدوها فقادت جيشا قوامه عشرة آلاف جندي وضابط، وانتصروا على الإنجليز. وإليك ما ذكره البستاني عنها في (دائرة معارفه) قال: «كانت متعودة

الشغل خارج البيت كرعي المواشي، وركوب الخيل إلى العين ومنها إلى البيت، وكان الناس في جوار (دومري) - يعني بلدها- متمسكين بالخرافات، ويميلون إلى حزب (أوليان) في الانقسامات التي مزقت مملكة فرنسا، وكانت (جان) تشترك في الهياج السياسي والحماس الديني، وكانت كثيرة التخيل والورع، تحب أن تتأمل في قصص العذراء، وعلى الأكثر في نبوءة كانت شائعة في ذلك الوقت، وهي أن إحدى العذارى ستخلص فرنسا من أعدائها، ولما كان عمرها ثلاث عشرة سنة كانت تعتقد بالظهورات الفائقة الطبيعية، وتتكلم عن أصوات كانت تسمعها، ورؤى كان تراها، ثم بعد ذلك ببضع سنين خيل لها أنها قد دعيت لتخلص بلادها، وتتوج ملكها، ثم أدفع (البرغنيور) تعديا على القرية التي ولدت فيها، فقوى ذلك اعتقادها بصحة ما خيّل لها» (¬1). وكان انتصارها سنة (1429 م) ثم ذكر أنها بعد ذلك زالت أخيلتها الحماسية، ولذلك هوجمت في السنة التالية (1430 م) فانكسرت وجرحت وأسرت. وهكذا يتبين لنا مما ذكره أن دعوتها شبيهة بدعوات من زعم أنه المهدي المنتظر، ودعوة الباب الإيراني، وكذا البهاء والقادياني، وأمثالهم ممن زعموا أنهم يوحى إليهم، ووجدوا من يغتر بدعواتهم، فأين هذه النوبة العصبية القصيرة الأجل المعروفة السبب، والتي لا دعوة فيها إلى دين وعلم ولا إصلاح اجتماعي أو أخلاقي، والتي لم تلبث أن أفل نجمها، وغربت شمسها، أين هذه الدعوة من دعوة الأنبياء ولا سيما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة التي قامت في بيئة هي أبعد ما تكون عن العلم والمعرفة وأقوى ما تكون عنادا وصلابة وعنجهية، والتي تعرضت لتكالب جيوش الشر والغدر، والحقد والعصبية من العرب والرومان والفرس، فإذا بها تصرعهم جميعا، وتهزمهم في عقر دارهم، وتتمخض عن ميلاد أمة هي خير أمة أخرجت ¬

_ (¬1) الوحي المحمدي ص 79 - 80.

شبهة أخرى على الوحي المحمدي

للناس عقيدة وشريعة، وعلما وعملا، وأخلاقا وفضائل، وعدلا ورحمة، وسياسة وقيادة، أما جان دارك، فلم تصنع بدعوتها أمة، ولم تقم بها حضارة. بل أين حال هذه الفتاة التي كانت كبارقة أو مضت ثم اختفت، وشمعة أضاءت ثم لم تلبث أن خفتت، وثورة قدر سرعان ما زالت من حال شمس النبوة المحمدية التي أشرقت فأضاءت الأرجاء، وسطعت فبددت الظلمات، ظلمات الشرك والجهل والفقر والخرافات، ولا يزال نورها- ولن يزال- متألق السناء، إلا ما أبعد الفرق بين الحالين، وفرق ما بينهما كفرق ما بين الأرض والسماء. شبهة أخرى على الوحي المحمدي لقد أسفّ بعض المستشرقين والمبشرين فزعموا أن الحالة التي كانت تعتري النبي صلى الله عليه وسلم عند تلقي الوحي من جبريل، وهو على حالته الملكية، وهي الحالة التي كان النبي يغيب فيها عن الناس وعما حوله، ويسمع له غطيط كغطيط (¬1) النائم، ويتصبب عرقه، ويثقل جسمه، هي حالة صرع تتمخض عما يخبر به أنه وحي. وإليك رد هذه الفرية لترى أنهم طعنوا في غير مطعن، وطاروا في غير مطار. 1 - إن النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء كان أصح الناس بدنا وأقواهم جسما، وأوصافه التي تناقلها الرواة الثقات تدل على البطولة الجسمانية، وقد بلغ من قوته أنه صارع ركانة بن عبد يزيد فصرعه، وكان ركانة هذا مصارعا ماهرا، ما قدر أحد أن يأتي بجانبه إلى الأرض، ولما عرض عليه النبي الدعوة قال: صارعني فإن أنت غلبتني آمنت أنك رسول الله، فصارعه الرسول فغلبه، فقيل إنه أسلم عقب ذلك (¬2) والمصاب ¬

_ (¬1) صوت النائم إذا احتبست أنفاسه. (¬2) الإصابة في تمييز الصحابة ج 1 ص 520، والاستيعاب ج 1 ص 531 (هامش الإصابة).

بالصرع لا يكون على هذه القوة، وقد شهد للنبي رجل غريب عن الإسلام ولكنه منصف قال الكاتب الأجنبي (بودلي) في كتابه (الرسول حياة محمد) مفنّدا هذا الزعم: (لا يصاب بالصرع من كان في مثل الصحة التي كان يتمتع بها محمد صلى الله عليه وسلم حتى قبل وفاته بأسبوع واحد، وإن كان ممن تنتابه حالات الصرع كان يعتبر مجنونا، ولو كان هناك من يوصف بالعقل ورجاحته، فهو محمد). 2 - إن مريض الصرع يصاب بآلام حادة في كافة أعضاء جسمه يحس بها إذا ما انتهت نوبة الصرع، ويظل حزينا كاسف البال بسببها، وكثيرا ما يحاول مرضى الصرع الانتحار من قسوة ما يعانون من آلام في النوبات فلو كان ما يعتري النبي صلى الله عليه وسلم عند الوحي صرعا لأسف لذلك وحزن لوقوعه ولسعد بانقطاع هذه الحالة عنه، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك. لقد فتر الوحي عن الرسول مدة فحزن لذلك حزنا شديدا، وكان يذهب إلى غار حراء وقمم الجبال عسى أن يعثر على الملك الذي جاءه بحراء وبقي محزون النفس من هذه الحالة حتى سري عنه ربه بوصل ما انفصم من الوحي. 3 - إن الوحي لم يكن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال التي قالوا عنها إنها صرع إلا أحيانا وأحيانا كان يأتيه وهو في حالته الطبيعية فلا غيبوبة ولا قلق ولا غطيط، وذلك حينما كان يأتيه جبريل في صورة رجل، وكان الجالسون لا يعرفون أنه جبريل، ولكن النبي كان يعلم ذلك حق العلم وذلك كما حدث في الحديث الطويل الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما والذي يعتبر سجلا جامعا لأصول الإيمان والإسلام والإحسان. ويدل على حالتي الوحي هاتين الحديث الذي رواه البخاري عن السيدة عائشة- رضي الله عنها-: أن الحارث بن هشام- رضي الله عنه- سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت منه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول»، قالت

عائشة- رضي الله عنها- ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا (¬1). 4 - إن الثابت علميّا أن المصروع حالة الصرع يتعطل تفكيره وإدراكه تعطلا تامّا، فلا يدري المريض في نوبته شيئا عما يدور حوله، ولا ما يجيش في نفسه كما أنه يغيب عن صوابه، وتعتريه تشنجات تتوقف فيها حركة الشعور ويصبح المريض بلا إحساس. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعد الوحي يتلو على الناس آيات بينات، وتشريعات محكمات، وعظات بليغات، وأخلاقا عظيمة، وكلاما بلغ الغاية في الفصاحة والبلاغة تحدى به الناس قاطبة- عربهم وعجمهم- أن يأتوا بأقصر سورة منه فما استطاعوا فهل يعقل من المصروع أن يأتي بشيء من هذا اللهم إن هذا أمر لا يجوز إلا في عقول المجانين إن كانت لهم عقول. 5 - لما تقدمت وسائل الطب، واستخدمت الأجهزة والكهرباء في التشخيص والعلاج، إذا الطب يضيف دليلا لا ينقض، ويقيم حجة لا تحتاج إلى مناقشة على كذب فرية الصرع، ويؤكد أن ما كان يعتري رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو وحي من الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يكون شيئا آخر. لقد ثبت أن نوبات الصرع ناتجة عن تغيرات فسيولوجية عضوية في المخ والدليل على ذلك أنه أمكن تسجيل تغيرات كهربائية في المخ في أثناء النوبات الصرعية مهما كان مظهرها الخارجي، وعلى أية صورة كانت هذه النوبات ومهما ضعفت حدة هذه النوبات ولقد أثبت الطب الحديث أخيرا بعد الاستعانة بالأجهزة، والرسم الكهربائي أن هناك مظاهر عديدة، ومختلفة للنوبات الصرعية، وذلك تبعا لمراكز المخ التي تبدأ فيها التغيرات الكهربائية، وطريقة وسرعة انتشارها، وأهم أنواع الصرع ما يسمى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بالنوبات الصرعية النفسية، وهو ما يشبه أن يكون النوع الذي افتراه الخصوم على الرسول بأنه مصاب به، وفي هذه الحالة تمر بذهن المريض ذكريات أو أحلام مرئية أو سمعية أو الاثنان معا وتسمى «بالهلاوس» وقد أثبت الطب أيضا أن الذكريات التي تمر بالمريض لا بد أن يكون قد عاش فيها المريض نفسه حتما؛ إذ أن النوبة الصرعية ما هي إلا تنبيه لصورة أو صوت مر بالإنسان ثم احتفظ به في ثنايا المخ، وقد أمكن طبيّا إجراء عملية التنبيه هذه بوساطة تيار كهربائي صناعي سلّط على جزء خاص في المخ فشعر المريض بنفس «الهلاوس» التي تنتابه في أثناء نوبة الصرع، وكلما تكررت نوبة الصرع تكررت نفس الذكريات أو «الهلاوس» فهذا مريض يسمع أغنية، أو قطعة من شعر، أو حديثا من أيّ نوع كان في نوبة صرعه، ويتكرر سماعه لها في كل نوبة، ولا بد أن يكون ما سمعه في النوبة قد سمعه يوما في طفولته، أو شبابه، أو قبل مرضه، وكذلك إذا كانت النوبة تثير منظرا لا بد أن يكون قد مر عليه. وبتطبيق ما قرره الطب الحديث في حقائق الصرع على ما كان يعتري النبي صلى الله عليه وسلم نجده يردد آيات لا يمكن إطلاقا أن يكون قد سمعها من قبل في حياته، فهي آيات واردة على لسان الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعمر البشر الأرض مثل قوله سبحانه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) [سورة البقرة: 34 - 25]. وآيات أخرى فيها قول الله يوم القيامة مثل: حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) [النمل: 84] وقوله سبحانه: قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) [المائدة: 119]. وكذلك الآيات التي تحكي عصور ما قبل الإسلام، والمقاولات والمحاورات التي جرت بين أقوام عاشوا قبل الرسول بآلاف السنين وذلك مثل قوله سبحانه وتعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ

يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) [آل عمران: 37] وقوله سبحانه: قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) [المائدة: 24 - 25] إلى غير ذلك من الآيات التي تحكي قصص الأولين، أو تصف أحوال القيامة واليوم الآخر، ولما كانت هذه الأحاديث والأحوال لم تمر بالرسول قطعا فهي لم تختزن بالتالي في المخ لتثيرها نوبات صرعية فيتذكرها، وبذلك يقرر الطب الحديث في أحدث اكتشافاته بالنسبة للصرع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون هناك أدنى شبهة في إصابته بالصرع إطلاقا، وأن ما كان يعتريه إنما هي حالة نفسية وجسدية لتلقي وحي الله سبحانه وتعالى، هذا الوحي الذي أخبره الله فيه عما مضى، وعما يستقبل (¬1). 6 - ثم ما رأي هؤلاء الطاعنين وفيهم من ينتمي إلى بعض الأديان في أنهم لا ينالون من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده، وإنما ينالون من جميع أنبياء الله ورسله الذين كانت لهم كتب أو صحف أوحي بها من عند الله سبحانه فهل تطيب نفوس المقرين بالأديان منهم أن يخربوا بيوتهم قبل أن يخربوا بيوت غيرهم وما رأيهم فيما جاء في كتب العهد القديم والجديد من إيحاءات ونبوءات وهل يقولون في وحي نبي الله موسى وعيسى- عليهما السلام- ما يقولون في وحي نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إن هذا الطعن لا يفوه به إلا أحد رجلين: إما رجل مخرّف، وإما رجل مخرّب مدمر يريد هدم الأديان. إن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل في باب الوحي، وإنه أوحي إليه كما أوحي إليهم وصدق الحق تبارك وتعالى حيث يقول: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ ¬

_ (¬1) مجلة منبر الإسلام العدد 9 السنة 19 رمضان سنة 1381 هـ فبراير 1964 م.

وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) [النساء: 163 - 164]. وقال: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) [الشورى: 51 - 53]. ***

المبحث الثالث أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل منه

المبحث الثالث: أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل منه [فوائد هذا المبحث] هذا المبحث .. المدار فيه على النقل عن الصحابة والتابعين، ولا مجال للعقل فيه إلا بالترجيح بين الأدلة، أو الجمع بين ما ظاهره التعارض منها، ويترتب على العلم بأول ما نزل، وآخر ما نزل فوائد منها: 1 - معرفة الناسخ والمنسوخ: فيما إذا وردت آيتان أو أكثر في موضوع واحد، وحكم إحداهما يغاير الأخرى تغايرا لا يمكن معه الجمع، فنعرف أن المتأخر منها ناسخ للمتقدم. 2 - معرفة تاريخ التشريع الإسلامي: وذلك مثل ما إذا عرفنا أن الآيات التي نزلت في فرضية الصلاة بمكة، قبل الهجرة، وأن الآيات التي نزلت في فرض الزكاة (¬1) والصوم كانت في السنة الثانية بعد الهجرة .. وأن الآيات التي نزلت في فرض الحج كانت في السنة السادسة، على ما هو الراجح، أمكننا أن نرتبها ترتيبا تشريعيّا، فنقول: إن أول ما فرض الصلاة، ثم الصوم ثم الزكاة، ثم الحج. ومثل ما إذا عرفنا: أن آية: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ... [سورة الحج: 28] نزلت بالمدينة في السنة الثانية، علمنا: أن تشريع الجهاد كان بالمدينة، بالسنة الثانية وهكذا بقية التشريعات. 3 - معرفة التدرج في التشريع، فتوصل إلى حكمة الله- سبحانه- العالية في أخذ الشعوب بهذه السياسة الحكيمة في الإسلام، وذلك مثل ما ¬

_ (¬1) بعض العلماء يرى أن الزكاة فرضت بمكة، وإنما الذي كان بالمدينة بيان مصارفها وأنصبتها، ولكن الأكثر على أنها فرضت بالمدينة في السنة الثانية، وقد اختلف هؤلاء: أكان فرضها قبل الصوم أم بعده رأيان، ويرجح الثاني حديث: «قيس بن سعد بن عبادة» عند أحمد، وابن خزيمة، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم، قال قيس: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ثم نزلت فريضة الزكاة فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله» قال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح (فتح الباري ج 3 ص 207).

الأولية والآخرية إما مطلقة وإما مقيدة

إذا عرفنا ترتيب الآيات التي نزلت في شأن تحريم الخمر، وقد ذكرنا ذلك آنفا، ومثل ما إذا عرفنا أن الآيات الداعية إلى أصول العقائد نزلت أولا، وأن الآيات التي نزلت في التشريعات التفصيلية، والأحكام العملية نزلت بعدها، أدركنا أسرار الله في التربية والتشريع، فما لم تعرف الأصول، وتطمئن إليها القلوب، لا يسهل الأخذ بالفروع. الأولية والآخرية إما مطلقة وإما مقيدة: ثم إن أولية النزول وآخريته تارة تكون على الإطلاق أي بالنسبة للقرآن كله، وتارة تكون مقيدة؛ إما بالنسبة لموضوع معين، وذلك مثل أول ما نزل في الجهاد، وآخر ما نزل فيه، وإما بالنسبة لمكان خاص مثل أول ما نزل بمكة، وآخر ما نزل بها، وأول ما نزل بالمدينة وآخر ما نزل بها، وإما بالنسبة لسورة ما؛ مثل أول ما نزل من سورة كذا وآخر ما نزل منها. أما الأولية والآخرية المطلقتان، فسأتناولهما بالتفصيل، وأما المقيدتان فسأكتفي بضرب بعض الأمثلة؛ لأن استيعابها يحتاج إلى مؤلف خاص. ولنبدأ بأول ما نزل وآخر ما نزل على الإطلاق. 2 - أول ما نزل من القرآن اختلف العلماء في هذا على أقوال أربعة: القول الأول: إن أول ما نزل هو قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق 1 - 5]، ويدل لذلك ما يأتي: أ- روى البخاري ومسلم- واللفظ للبخاري- بسندهما عن عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو

التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع (¬1) إلى أهله، ويتزود لذلك (¬2)، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قلت: «ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني (¬3) حتى بلغ مني الجهد (¬4) ثم أرسلني»، فقال: اقرأ، قلت: «ما أنا بقارئ»، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: «ما أنا بقارئ»، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق: 1 - 5] فرجع بها إلى خديجة يرتجف فؤاده، فقال: «زملوني» (¬5)، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة- وأخبرها الخبر- «لقد خشيت على نفسي» (¬6)، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل (¬7)، وتكسب المعدوم وتقري الضيف ... » الحديث (¬8) وقد سقت الحديث بطوله، وشرحته في كتابي «السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة» وعائشة، وإن لم تعاين القصة وتشاهدها، إلا أنه يحتمل أن تكون سمعتها من النبي بعد، أو حدثها بها صحابي سمعها من النبي، وأيّا كان الأمر فهو حديث متصل مرفوع، ولذلك أجمعوا على أن مراسيل الصحابة حجة. ب- وروى الحاكم في «مستدركه» والبيهقي في «دلائل النبوة» وصححاه عن عائشة أنها قالت: أول سورة نزلت من القرآن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ومرادها ¬

_ (¬1) يرجع. (¬2) أي يأخذ معه زاده. (¬3) ضمني وعصرني حتى كاد يحبس أنفاسي. (¬4) بفتح الجيم ونصب الدال أي غاية الوسع، وبضم الجيم، ورفع الدال أي المشقة والحرج أي بلغت مني المشقة غايتها. (¬5) لففوني بالثياب وغطوني حتى يذهب عني الخوف والرعب. (¬6) أي المرض أو الهلاك. (¬7) الضعيف. (¬8) صحيح البخاري: باب كيف كان بدء الوحي، وصحيح مسلم.

القول الثاني

بالسورة صدرها، وإلا فباقيها نزل بعد، كما تدل على ذلك رواية الصحيحين. ج- وروى الطبراني في «المعجم الكبير» - بسند على شرط الصحيح- عن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى- يعني الأشعري- يقرئنا فيجلسنا حلقا، عليه ثوبان أبيضان فإذا تلا هذه السورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) قال: هذه أول سورة أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم. د- وأخرج ابن أشتة في كتاب «المصاحف» عن عبيد بن عمير قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنمط فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فيرون أنها أول سورة أنزلت من السماء. وأخرج أيضا عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بحراء، إذ أتى ملك بنمط من ديباج (¬1) فيه مكتوب اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) إلى ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق 1 - 5] ولعل هذا- إن صح- يفسر لنا الأمر بالقراءة في رواية الصحيحين؛ أي اقرأ ما في هذا النمط إلى غير ذلك من الآثار التي ذكرها الإمام السيوطي في الإتقان وهذا القول هو الصحيح، وعليه جمهور العلماء سلفا، وخلفا. القول الثاني: إن أول ما نزل هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [المدثر: 1 - 5] وهذا القول مروي عن جابر بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ويدل لهذا ما رواه الشيخان- واللفظ للبخاري- عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة عبد الرحمن: أي القرآن أنزل أول فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) فقلت: أنبئت أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) وفي رواية يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1). فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل أول فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) فقلت: نبئت أنه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1). فقال: لا أخبرك ¬

_ (¬1) النمط: الثوب، الديباج الحرير وهو معرب، أي بقطعة من حرير.

إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله: «جاورت في حراء (¬1)، فلما قضيت جواري هبطت، فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت أمامي، وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فإذا هو (¬2) جالس على عرش بين السماء والأرض، فأتيت خديجة، فقلت: «دثروني» وصبوا علي ماء باردا، وأنزل علي يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4). وقد أجاب القائلون بالأول عن هذا بأجوبة أحسنها وأخلقها بالقبول: 1 - أن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) أول ما نزل بعد فترة الوحي، أما «اقرأ» فهي أول ما نزل على الإطلاق. ويؤيد هذا التأويل ويقويه ما رواه الشيخان أيضا من طريق الزهري- واللفظ للبخاري (¬3) - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعبا» (¬4)، فقلت: «زملوني، زملوني، فدثروني»، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) - قبل أن تفرض الصلاة- وهي الأوثان» (¬5). فقوله: وهو يحدث عن فترة الوحي (¬6) نص على أن ذلك كان بعد فترة ¬

_ (¬1) أي أقمت فيه مدة متعبدا، وكان ذلك قبل النبوة، وبعدها، وكان يجاور فيه في رمضان غالبا. (¬2) أي الذي رأيته قبل هذا في حراء، والمراد به جبريل. (¬3) صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة المدثر. (¬4) أي سقطت من الخوف. (¬5) تفسير للرجز، صحيح البخاري- كتاب التفسير- تفسير سورة المدثر، صحيح مسلم- كتاب الإيمان- باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬6) وقد اختلف في هذه الفترة فقيل: أربعون يوما، وقيل: ستة أشهر، وقيل: السنتان ونصف والأول هو ما اخترته ورجحته في كتابي «السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة» ج أول ص 267.

الوحي، فهي أولية مقيدة لا مطلقة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء .. » يدل على أن هذه القصة متأخرة عن قصة حراء، التي نزل فيها: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1). على أننا نلاحظ أن جابرا استنبط ذلك باجتهاده، على حسب علمه من روايته، ولذلك لما روجع لم يجد بدّا من ذكر ما سمعه، ولم يقطع برأي، ثم لما تبين له الأمر، وتذكر الرواية التي فيها أن ذلك كان بعد فترة الوحي، ذكر ذلك صراحة كما في طريق الزهري بخلاف حديث عائشة فالمتيقن أنه من روايتها لا من اجتهادها. ومن الأجوبة التي أجيب بها: 2 - أن أول سورة «المدثر» مقيد بما نزل متعلقا بالإنذار، ولذلك دعا النبي بعدها إلى الله، بخلاف صدر سورة العلق، فهو مطلق غير مقيد بشيء خاص. 3 - أن سورة «المدثر» أول سورة نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة «اقرأ» فإنها أول ما نزل منها صدرها (¬1). أقول هذا الجواب غير مسلم، فقد ذكرت آنفا رواية الصحيحين عن جابر، وفيها «فأنزل الله يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)». فكيف يدعي مدع، أو يقول قائل: إن المدثر أول سورة نزلت بتمامها! فالحق أنه لا يصلح أن يكون جوابا. ولذلك لما تعرض الحافظ ابن حجر في «الفتح» للتوفيق بين الحديثين- حديث عائشة، وحديث جابر- لم يذكر هذا الوجه (¬2)، وإنما ذكره صاحب الإتقان. ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 34. (¬2) فتح الباري ج 8 ص 550، 551.

القول الثالث

القول الثالث: إن أول ما نزل سورة «الفاتحة» وقد عزا هذا القول الزمخشري في «كشافه» إلى أكثر المفسرين، ورد عليه الحافظ ابن حجر: بأن هذا القول لم يقل به إلا عدد أقل من القليل، وإلى هذا الرأي مال الأستاذ الإمام الشيخ: محمد عبده في تفسير سورة «الفاتحة». وقد استدل الذاهبون إليه بما رواه البيهقي في «دلائل النبوة» والواحدي بسنده عن أبي ميسرة- عمرو بن شرحبيل- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، فقد- والله- خشيت أن يكون هذا أمرا» (¬1) فقالت: معاذ الله! ما كان الله ليفعل بك (¬2)، فو الله: إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم وتصدق الحديث، فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له، وقالت: اذهب مع محمد إلى «ورقة» - يعني ابن نوفل- فانطلقا، فقصا عليه، فقال: «إذا خلوت وحدي سمعت نداء من خلفي: يا محمد، يا محمد فأنطلق هاربا في الأفق»!! فقال: لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني، فأخبرني. فلما خلا ناداه: يا محمد قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) حتى بلغ وَلَا الضَّالِّينَ .. الحديث. ويجاب عن هذا القول: بأنه حديث مرسل، وإن كان رجاله ثقات فلا يعارض حديث عائشة المرفوع، فالراجح هو الأول. أقول: وليس فيه التنصيص على أن الفاتحة أول ما نزلت، فيجوز- على فرض صحة هذا المرسل أن تكون من أوائل ما نزل، وإلى هذا ذهب البيهقي قال: وإن كان- أي المرسل- محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه «اقرأ» و «المدثر» (¬3) والظاهر أن الفاتحة من أوائل ¬

_ (¬1) يعني شيئا أكرهه، أو يراد به لي الضرر. (¬2) أي شيئا تكرهه، أو يلحق به ضررا، لأن أخلاقك تبعد عنك أي سوء. (¬3) الإتقان ج 1 ص 24.

القول الرابع

السور نزولا كما يفهم ذلك من صنيع المرتبين للسور، على حسب نزولها. القول الرابع: إن أول ما نزل هو قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ واستند القائل بهذا إلى ما أخرجه الواحدي بإسناده عن عكرمة والحسن، قالا: أول ما نزل من القرآن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وأول سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وأخرج ابن جرير، وغيره عن ابن عباس قال: أول ما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، استعذ، ثم قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وقد أجاب السيوطي عن هذا القول، فقال: وعندي أن هذا لا يعد قولا برأسه، فإن من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها، فهي أول آية نزلت على الإطلاق (¬1). أقول: وهذا الجواب غير مسلم فالأحاديث الصحيحة في بدء الوحي كحديث عائشة وغيره لم تذكر قط نزول البسملة مع صدرها، والظاهر أنها نزلت بعد. عند نزول تمام السورة. وقد ذكر «ابن عطية» في مقدمة تفسيره- عند حكاية هذا القول- أن في بعض طرق حديث خديجة، وحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم قل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقالها، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ (¬2)، فإذا ثبت هذا يكون مؤيدا لما أجاب به السيوطي. نعم هذه الآثار والأحاديث لا تنهض لمعارضة حديث عائشة المرفوع الذي اتفق عليه صاحبا الصحيحين، فهو في أعلى درجات الصحة. «إزالة إشكال»: لكن يشكل على الوجه الذي رجحناه، ما رواه الشيخان عن عائشة قالت: «إن أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار؛ حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام؛ لأنه ليس ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 24. (¬2) مقدمتان في علوم القرآن ص 289.

3 - آخر ما نزل من القرآن

في صدر سورة اقرأ ذكر الجنة والنار، بل ولا في السورة كلها. والجواب: أن «من» مقدرة في الكلام «أي» من أول ما نزل ... ومرادها- رضي الله عنها- سورة المدثر، فإنها أول ما نزل بعد فترة الوحي، وفي آخرها ذكر الجنة والنار، فلعل آخرها نزل قبل نزول بقية «اقرأ» وبهذا يزول هذا الإشكال. 3 - آخر ما نزل من القرآن ليس في هذا الموضوع أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي آثار مروية عن بعض الصحابة، والتابعين، استنتجوها مما شاهدوه من نزول الوحي، وملابسات الأحوال، وقد يسمع أحدهم ما لا يسمعه الآخر ويرى ما لا يرى الآخر، فمن ثم كثر الاختلاف بين السلف والعلماء، في آخر ما نزل وتعددت الأقوال وتشعبت الآراء، وإليك تفصيل القول في هذا. القول الأول: إن آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى في آخر سورة البقرة: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (28) [البقرة: 281] والدليل على ذلك: 1 - روى النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: آخر ما نزل من القرآن وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... الآية. 2 - وروى ابن مردويه بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت من القرآن وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... الآية. 3 - وأخرج ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الآية، ومن طريق الضحاك عنه مثله. 4 - وأخرج ابن أبي حاتم بسنده، عن سعيد بن جبير قال: آخر ما نزل من القرآن كله وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... الآية، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال، ثم مات ليلة الاثنين، لليلتين خلتا من شهر

القول الثاني

ربيع الأول. وأخرج ابن جرير في تفسيره مثله عن ابن جريج. 5 - وذكر البغوي في تفسيره عند هذه الآية عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جبريل ضعها على رأس مائتين وثمانين، من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم- واحدا وعشرين يوما- وقال ابن جريج: تسع ليال وقال سعيد بن جبير: سبع ليال. 6 - وذكر الإمام الآلوسي في تفسيره عند هذه الآية، روي أنه قال- يعني رسول الله-: «اجعلوها بين آية الربا، وآية الدين» وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم، قال: «جاءني جبريل فقال: اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة». وهذا الرأي هو أرجح الآراء والأقوال، وهو الذي تركن إليه النفس بعد النظر في هذه الأحاديث أو الآثار وذلك لما يأتي: أ- لم يحظ قول من الأقوال التي سنذكرها بجملة من الآثار، وأقوال أئمة التفسير مثل ما حظي به هذا القول. ب- ما تشير إليه هذه الآية في ثناياها من التذكير باليوم الآخر، والرجوع إلى الله ليوفّي كلا جزاء عمله، وهو أنسب بالختام. ج- ما ظفر به هذا القول من تحديد الوقت بين نزولها، وبين وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يظفر قول غيره بمثل هذا التحديد، ولا يضر الاختلاف في تحديد المدة، فالروايات التي حددت المدة بينها قدر مشترك، وهو بيان قرب نزول هذه الآية من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. القول الثاني: أن آخر ما نزل هو قوله تعالى في سورة البقرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (78) [البقرة: الآية 278]. ويدل لذلك ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على

القول الثالث

النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا، وأخرج البيهقي عن عمر مثله، والمراد بآية الربا الآية التي ذكرناها. والحق هو الأول ويجاب عن هذا القول: إما بأنها آخر آية نزلت في شأن الربا وإما بأن المراد أنها من أواخر الآيات نزولا. ويؤيد هذا الجواب الأخير، وأنها ليست آخر آية على الإطلاق، ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، عن عمر نفسه قال: «من آخر ما نزل آية الربا». وما ذكره ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر فقال: «إن من آخر القرآن نزولا آية الربا». والظاهر أن هذا هو مراد ابن عباس أيضا في روايته، وهذا التعبير له نظائر في اللغة العربية. ويرى بعض العلماء (¬1) أن المراد بقول ابن عباس «آية الربا» أي الآية التي ختمت بها آيات الربا وهي: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... وعلى هذا تكون رواية البخاري مؤيدة لما ذكرناه عن ابن عباس في القول الأول. القول الثالث: إن آخر آية نزلت آية الدين، وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ... الآية [البقرة: 282] وهي أطول آية في القرآن. أخرج أبو عبيد في كتاب «فضائل القرآن» عن ابن شهاب الزهري قال: «آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا، وآية الدين» وأخرج ابن جرير من طريق ابن شهاب، عن سعيد ابن المسيب: «أنه بلغه أن آخر القرآن عهدا بالعرش آية الدين» مرسل، صحيح الإسناد. ويجاب عن هذا القول: بأن هذه الآية آخر ما نزل في باب «المعاملات» فهي آخرية مقيدة، لا مطلقة كالآية الأولى. ¬

_ (¬1) شرح المختار من تيسير الوصول ص 52.

وقد جمع السيوطي بين هذه الأقوال الثلاثة فقال: «ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا، وآية وَاتَّقُوا يَوْماً ... وآية الدين لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، ولأنها قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح (¬1). ومقتضى هذا الجمع من الإمام السيوطي أن آية الدين آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق. ولكني أقول: إن في النفس من هذا التوفيق شيئا، وما ذكره غير مسلم له، فقد سمعت آنفا قول الفاروق عمر- رضي الله عنه- في أن آية الربا من أواخر الآيات، لا آخرها؛ واستدلال السيوطي بأن الآيات الثلاث في قصة واحدة- غير مسلم فالآية الأولى في ترك ما بقي من الربا عند المدينين بعد نزول آية التحريم، والثانية في التذكير باليوم الآخر، وما فيه من جزاء، والثالثة في أحكام تتعلق بالدين، فكيف يقال إذا إنها في قصة واحدة!! ومما يضعف هذا الطريق في الجمع أيضا، أن آية الربا نزلت (¬2) لما أسلمت ثقيف وأرادوا أن يستمروا على رباهم؛ فاشتكى بنو المغيرة- وكانوا مدينين لهم- إلى عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية آمرة لهم أن يتركوا ما بقي لهم من رباهم قبل التحريم، وإلا فليأذنوا بحرب من الله ورسوله، وثقيف إنما كان إسلامهم في رمضان في السنة التاسعة، والظاهر أن هذه القصة كانت بعد إسلامهم، وأين زمن إسلامهم من زمن اختتام القرآن قبيل وفاة الرسول! وقد ذهب الحافظ ابن حجر في «الفتح» إلى نحو ما ذكرت، ورجح أن آية وَاتَّقُوا يَوْماً ... هي الأليق بالختام فقال: طريق الجمع بين القولين: القول بآية الربا، والقول بآية وَاتَّقُوا يَوْماً ... أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا إذ هي معطوفة عليهن، وأما ما سيأتي في آخر سورة النساء من حديث البراء: «آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 27. (¬2) أسباب النزول للسيوطي على هامش تفسير الجلالين ج 1 ص 69.

القول الرابع

قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ... الآية. فيجمع بينه وبين قول ابن عباس، بأن الآيتين نزلتا جميعا، فيصدق أن كلا منهما آخر بالنسبة لما عداها، ويحتمل أن تكون الآخرية في سورة النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث مثلا بخلاف آية البقرة، ويحتمل عكسه (¬1) والأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول، وحكى ابن عبد السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم- عاش بعد نزول الآية المذكورة- يعني آية البقرة- أحدا وعشرين يوما، وقيل: سبعا (¬2). وبعد هذا التحقيق يتبين لنا أن الصحيح أن آخر ما نزل على الإطلاق هي آية وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... لما حف بها من دلائل وقرائن. القول الرابع: إن آخر ما نزل هو قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ (¬3) [سورة النساء: 176]، وآخر ما نزل من السور «براءة». ويدل على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أنه قال: آخر سورة نزلت «براءة» وآخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ .... ويجاب عن هذا بأن سورة براءة آخر ما نزل في شأن القتال والجهاد، أو أن في الكلام تقديرا؛ أي من أواخر السور نزولا سورة براءة وأن آية الكلالة آخر ما نزل في شأن المواريث، وقد سمعت آنفا قول الحافظ ابن حجر في هذا. ¬

_ (¬1) أي أن تكون آية البقرة آخرية مقيدة بما نزل في أمور القيامة واليوم الآخر وآية الكلالة هي آخر ما نزل على الإطلاق ولكنه رجح الاحتمال الأول. (¬2) فتح الباري ج 8 ص 165 ط البهية. (¬3) والمراد بالكلالة من لا ولد له ولا والد، أولم يرثه والد ولا ولد، وهو رأي الصديق رضي الله عنه ووافق عليه جمهور الصحابة.

القول الخامس

القول الخامس: إن آخر ما نزل قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) [النساء: 93]. واستدل صاحب هذا القول بما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس. قال: نزلت هذه الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها هي آخر ما نزل وما نسخها شيء (¬1). ويجاب عن هذا القول: بأنها آخر ما نزل في حكم قتل المؤمن عمدا فهي آخرية مقيدة، ويؤيد هذا قوله في الحديث: «وما نسخها شيء» فهو يدل على نزول شيء بعدها ولكن ليس بناسخ لها، وقوله في حديث النضر- عند مسلم- عن ابن عباس قال: «إنها لمن آخر ما أنزلت» (¬2) وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عنه: «لقد نزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء» (¬3). القول السادس: إن آخر ما نزل هو قوله تعالى في خاتمة سورة براءة: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) [سورة التوبة: 128 - 129]. والدليل على ذلك ما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي بن كعب قال: «آخر آية نزلت لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... إلى آخر السورة». وروى ابن مردويه عن أبي أيضا قال: «آخر القرآن عهدا بالله هاتان ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة النساء- باب: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي ج 18 ص 158. (¬3) الإتقان ج 1 ص 28.

القول السابع

الآيتان: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... إلى قوله: وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) [سورة التوبة: 128 - 129]. ويجاب عنه: بأنهما آخر ما نزل من سورة براءة، أو أنه أخبر بذلك بحسب ظنه واجتهاده. القول السابع: إن آخر ما نزل سورة المائدة، واستند صاحب هذا القول إلى ما رواه الترمذي، والحاكم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «آخر سورة نزلت المائدة فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه». ويجاب عن هذا القول: بأنها آخر سورة نزلت في الحلال والحرام، ولم ينسخ فيها شيء، ويشير إلى هذا آخر الحديث. القول الثامن: إن آخر سورة نزلت هي: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ... (1) السورة، روى هذا مسلم في صحيحه عن ابن عباس، ورواه النسائي أيضا عنه. ويجاب عن هذا القول: بأنها آخر سورة نزلت بتمامها في حجة الوداع، فلا ينافي نزول آية أو آيات بعدها. أو أنها آخر ما نزل مشعرا بوفاة النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس حين سأله عمر- رضي الله عنه- بمحضر من الصحابة عنها، فقال: «أجل، أو مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت إليه نفسه» (¬1) وفي رواية أخرى للبخاري عن ابن عباس: «هو أجل ¬

_ (¬1) بضم النون وكسر العين، وفتح الياء، وسكون التاء مبنيا للمجهول، من كلام ابن عباس وقد وهم بعض الرواة فزعم أن النبي قال لجبريل لما نزل بها عليه: «نعيت إلى نفسي» بفتح النون، والعين، وسكون الياء، وفتح التاء خطابا لجبريل [فتح الباري ج 8 ص 598]، و «أو» في «أو مثل» للشك.

القول التاسع

رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه» (¬1). فقال عمر- رضي الله عنه- ما أعلم منها إلا ما تقول، وروى أبو يعلى عن ابن عمر: «أن هذه السورة نزلت في حجة الوداع، في أوسط أيام التشريق، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع». القول التاسع: أن آخر ما نزل هو قوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ... [آل عمران: 195] الآية. فقد أخرج ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة أنها قالت: آخر آية نزلت هذه الآية فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ... والظاهر أن مرادها آخر آية نزلت في شأن النساء؛ فقد روي عنها أنها قالت: يا رسول الله، أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء، فأنزل الله: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ... [النساء: 32]، وأنزل الله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الأحزاب: 35]، وأنزل الله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فهذه الآية آخر الثلاثة نزولا. هذا وقد أوصل السيوطي في الإتقان الأقوال إلى عشرة (¬2). وقد عرفت أن القول الأول هو الصحيح الراجح، وعرفت الإجابة عما ورد مخالفا له، وأن المراد أواخر مقيدة، لا مطلقة وهذه الطريقة في التوفيق بين النصوص المتعارضة في هذا الباب هي أعدل الطرق، وهو المنهج الذي سلكه المحققون من العلماء، ولكن القاضي أبا بكر الباقلاني في كتابه «الانتصار» يذهب مذهبا آخر في التوفيق فيقول: هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكل قال ما قاله بضرب من الاجتهاد، وغلبة الظن ويحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك، وإن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة إذا جاء نصر الله والفتح. (¬2) وذلك بزيادة أن آخر ما نزل قوله تعالى: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ الآية: 5 [سورة براءة].

4 - التنبيه إلى خطأ مشهور

لم يسمعه هو. ويحتمل أيضا: أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك؛ فيظن أنها آخر ما نزل في الترتيب. ومرد هذا التوفيق بين الأقوال إلى غلبة الظن، والاجتهاد من القائل بناء على ما سمعه أو شاهده من قرائن، وقد لا يوافق الظن والاجتهاد الواقع ونفس الأمر، وقد تركنا صاحب هذا الرأي بين جملة من الاحتمالات، من غير أن يقطع برأي. ويقرب من هذا الرأي في التوفيق ما ذهب إليه «البيهقي» أيضا حيث قال: «يجمع بين هذه الاختلافات- إن صحت- بأن كل واحد أجاب بما عنده». 4 - التنبيه إلى خطأ مشهور من الأخطاء المشهورة على ألسنة العامة، وبعض الخاصة (¬1) ما يزعمونه من أن قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (3) [المائدة: 3] هي آخر ما نزل من القرآن، فإنها تدل على إكمال الدين، في ذلك اليوم المشهود، الذي نزلت فيه، وهو يوم «عرفة» في حجة الوداع، وكان يوم جمعة، ففهموا منه أن إكمال الدين لا يكون إلا بإكمال نزول القرآن الكريم. والحق: أن هذا الزعم غير صحيح، ولم يقل أحد قط من العلماء إنها آخر ما نزل من القرآن، والإمام السيوطي، وهو الباقعة الذي لا يخفى عليه قول، سرد الأقوال في آخر ما نزل، ولم ينقل عن أحد مثل هذا القول بل نبه على خطئه، وزيفه (¬2). ¬

_ (¬1) وقع في هذا الخطأ بعض المؤلفين في تاريخ التشريع الإسلامي كالأستاذ الشيخ الخضري- رحمه الله- وتابعه بعض المؤلفين في كليات: الشريعة، والحقوق. (¬2) الإتقان ج 1 ص 26 - 28.

بم يفسر الإكمال في الآية

وقد رأيت في الآثار السابقة التي ذكرناها آنفا، أن آية الربا، وآية الكلالة من أواخر القرآن نزولا، بل آية وَاتَّقُوا يَوْماً ... نزلت بعد الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بأكثر من شهرين، فقد حددت رواية ابن أبي حاتم، أن نزولها كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال مما يجعلنا نقطع بأن الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... ليس آخر القرآن نزولا، وأن هذا الزعم لا نصيب له من الصحة. بم يفسر الإكمال في الآية وقد يقول لي قائل: «وإذا كان الأمر كما ذكرت، فبم تفسر إذا إكمال الدين وإتمام النعمة. والجواب أن للعلماء المفسرين في فهم الآية رأيين: الأول: أن المراد بإكمال الدين يومئذ، هو إنجاحه، وإقراره، وإظهاره على الدين كله، ولو كره الكافرون، بفتح مكة، وإتمام حجهم الأكبر ولا شك أن الإسلام في حجة الوداع كان قد ظهرت شوكته وعلت كلمته، وأذل الشرك وأهله، وأجلي المشركون عن البلد الحرام، وانفرد المسلمون بالحج، والطواف بالبيت لم يشاركهم فيهما مشرك، فأي كمال بعد هذا وأي نعمة بعد تلك النعمة وإلى هذا الرأي ذهب العلامة ابن جرير الطبري في تفسيره حيث قال: «الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم دينهم، بإقرارهم بالبلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه، حتى حجه المسلمون، لا يشاركهم المشركون»، ثم أيده بما رواه بسنده عن ابن عباس قال: «كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا، فلما نزلت «براءة» نفي المشركون من البيت، وحج المسلمون، لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان من تمام النعمة وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وهذا الرأي في تفسير الآية لا ينفي نزول آيات بعدها في الحلال والحرام والوعظ والتذكير. الثاني: أن المراد بإكمال الدين إكمال الأحكام، والحلال، والحرام

5 - أمثلة لأوائل وأواخر مقيدة

فلم ينزل بعدها شيء من الفرائض، والتحليل والتحريم روي هذا عن السدي، وجماعة. وعلى هذا الرأي فلا مانع من نزول آيات بعدها ليست منشئة لأحكام جديدة، بل مقررة لما سبق من الأحكام كآية الربا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278). وذلك عند من يرى أنها آخر آية نزلت من القرآن (¬1) فإنها ليست منشئة لتحريم الربا إذ التحريم مستفاد قبل ذلك من آية آل عمران: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وآية البقرة التي هي قبل: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا وإنما جاءت هذه مقررة ومؤكدة للحرمة. وكآيات التذكير بالآخرة والوعظ والترغيب والترهيب وذلك مثل قوله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... فإنها للتذكير باليوم الآخر والترغيب والترهيب. ومن ثم يتبين لنا أن الآية كيفما فهمناها وحملناها لا تدل على أنها آخر القرآن نزولا، وهو ما قاله ثقات المفسرين، وأجمع عليه علماء علوم القرآن. 5 - أمثلة لأوائل وأواخر مقيدة هذا الذي قدمناه في البحثين السابقين إنما أريد به الأوائل والأواخر المطلقة، وإن كان التحقيق العلمي دعانا إلى تنزيل بعضها على أنها أوائل وأواخر مقيدة، وكما بحث العلماء في النوع الأول، بحثوا في الأوائل والأواخر المقيدة بمحرم خاص، أو بموضوع خاص، أو بسورة خاصة، أو ببلد معين وقد ذكروا لذلك أمثلة كثيرة منها: [أول ما نزل فى الخمر وآخر ما نزل فيها] 1 - فمن ذلك الآيات التي نزلت في الخمر، فأول آية نزلت فيها هي ¬

_ (¬1) أما عند المحققين فليست آخر آية كما قدمنا.

أول ما نزل فى الجهاد وآخر ما نزل فيها

قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة: 219] وآخر ما نزل في التحريم قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 90] فحرمت الخمر تحريما باتّا، وأراق الناس ما عندهم حتى سالت طرق المدينة. [أول ما نزل فى الجهاد وآخر ما نزل فيها] 2 - الجهاد: قيل أول ما نزل فيه قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) [الحج: 39 - 41]. روى هذا الحاكم في المستدرك عن ابن عباس: وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية قال: أول ما نزل في القتال بالمدينة وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) [البقرة: 190]. وقيل: إن أول ما نزل في القتال قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) [التوبة: 111] ذكره الحاكم في «الإكليل». والذي تركن إليه النفس هو الأول؛ إذ فيه التصريح بمبررات الجهاد وبيان حكمته في الإسلام، وأن الغرض منه رد الظلم الواقع عليهم من المشركين، ودفعه وتأمين العقيدة حتى تجد سبيلها إلى القلوب، وتأمين أهلها، ومعتنقيها، وتأمين الدعوة إلى الله حتى لا يطغى الباطل على الحق، والكفر على الإيمان، والشر على الخير، وذكر المبررات،

أول ما نزل فى شأن القتل وآخر ما نزل فيها

والحكم هو الأليق ببدء التشريع. أما الآية الثانية فقد ذكر أنها نزلت عام عمرة القضاء (¬1)، لما خاف المسلمون أن يباغتهم المشركون، فأنزل الله الآية مبينة لهم حلّ الدفاع عن النفس، والقتال في هذا الموطن، وتشريع الجهاد كان في السنة الثانية وبينهما بضع سنوات. وأما الآية الثالثة فيبعد كونها أول آية؛ لأن سورة «براءة» من أواخر القرآن نزولا كما رواه البخاري عن البراء بن عازب، وهي إلى الترغيب في الجهاد أقرب منها إلى بدء التشريع. وآخر آية نزلت في شأن الجهاد قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 36]. 3 - [أول ما نزل فى شأن القتل وآخر ما نزل فيها] أول ما نزل في شأن القتل آية الإسراء، وهي قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) [الإسراء: 33]. رواه ابن جرير عن الضحاك. وآخر آية نزلت فيه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) [سورة النساء: 9]. [أول ما نزل فى الأطعمة وآخر ما نزل فيها] 4 - أول آية نزلت في «الأطعمة» بمكة: آية «الأنعام» وهي قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [سورة الأنعام: 145]. ثم آيتا «النحل»: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً ... [النحل: 114 - 115] الآيتين. وبالمدينة: آية «البقرة»: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ¬

_ (¬1) أسباب النزول للسيوطي على هامش الجلالين ج 1 ص 45 ط الحلبي.

أول ما نزل من سورة التوبة وآخر ما نزل فيها

وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) [البقرة: 173] ثم نزلت آية «المائدة»: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ (3) [المائدة: 3]. [أول ما نزل من سورة التوبة وآخر ما نزل فيها] 5 - روي عن مجاهد أنه قال: أول ما نزل من سورة «التوبة» قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ... [التوبة: 26 - 28] الآيات. وعن مسروق، عن أبي الضحى (¬1): إن أول ما نزل من «براءة»: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ... الآية ثم أنزل الله أولها- أي السورة (¬2) - ثم أنزل أخرها. والآيات الأولى نزلت بعد حنين، وأما الآية الثانية، فالظاهر أنها نزلت في «تبوك» وحنين متقدمة على تبوك، فالراجح هو الأول. وآخر ما نزل من «التوبة» هو قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ... الآيتان، وقد ورد أنهما آخر ما نزل من القرآن وأولنا ذلك: بأنهما آخر ما نزل من براءة. [أول سورة نزلت بمكة وآخر سورة نزل فيها] 6 - أول سورة نزلت ب «بمكة»: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي صدرها إلى ما لَمْ يَعْلَمْ وآخر سورة نزلت بها «المؤمنون» ويقال «العنكبوت». 7 - وأول سورة نزلت بالمدينة سورة «البقرة»، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في «الفتح» الاتفاق على ذلك، لكن في دعوى الاتفاق نظر، فقد نقل ¬

_ (¬1) أبو الضحى: هو مسلم بن صبيح بالتصغير، الهمداني الكوفي العطار مشهور بكنيته، ثقة فاضل من الرابعة، مات سنة مائة، روى له الجماعة [تقريب ج 2 ص 245]. (¬2) وذلك في السنة التاسعة، فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم- بصدرها عليّا- كرم الله وجهه- ليقرأها على الناس.

آخر سورة نزلت بالمدينة

«الواحدي» عن علي بن الحسين أن أول سورة نزلت بالمدينة وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1). [آخر سورة نزلت بالمدينة] وآخر سورة نزلت «براءة»، وقيل: سورة «المائدة»، وقيل: «سورة النصر»، أقول: والظاهر أن آخر سورة نزلت بالمدينة بتمامها هي سورة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) ... فقد روي أنها نزلت في حجة الوداع في أوسط أيام التشريق على النبي صلى الله عليه وسلم أما «براءة» و «المائدة» فهما من أواخر السور نزولا، ولم تنزلا دفعة واحدة. ***

المبحث الرابع أسباب النزول

المبحث الرابع أسباب النزول ينقسم القرآن الكريم من حيث سبب النزول وعدمه إلى قسمين: 1 - ما نزل ابتداء من غير سبق سبب نزول خاص، وهو كثير في القرآن الكريم، وذلك مثل الآيات التي اشتملت على الأحكام والآداب، التي قصد بها ابتداء هداية الخلق وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة. 2 - ما نزل مرتبطا بسبب من الأسباب الخاصة، وهو موضوع بحثنا الآن، وليس من قصدنا في هذا المبحث استيعاب آيات القرآن، التي نزلت لأسباب خاصة وذكر أسبابها، إنما قصدنا ذكر مباحث كلية تعين على تفسير كتاب الله، ومعرفة القواعد والاصطلاحات في هذا الباب. وقد ألف في أسباب النزول على سبيل التفصيل جماعة، منهم «علي ابن المديني» شيخ البخاري، ومنهم «الواحدي» و «ابن حجر» و «السيوطي» وله في ذلك كتاب حافل سماه «لباب النقول في أسباب النزول»، وهو مطبوع على هامش تفسير الجلالين. ما هو سبب النزول سبب النزول: هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه، أو مبينة لحكمه أيام وقوعه. والمعنى: أن حادثة وقعت، أو سؤالا وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي بتبيان ما يتصل بهذه الحادثة، أو بجواب هذا السؤال، وذلك مثل حادثة «خولة بنت ثعلبة» التي ظاهر منها زوجها «أوس بن الصامت» فنزلت بسببها آيات الظهار (¬1)، ومثل ما حدث بين الأوس والخزرج من خصومة، بسبب تأليب أحد اليهود العداوة بينهما، فقد نزل عقبها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ ¬

_ (¬1) سورة المجادلة 1 - 4.

طريق معرفة سبب النزول

آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) ... [آل عمران: 100 - 103] الآيات. وسواء أكان هذا السؤال يتعلق بأمر مضى مثل قوله تعالى في سورة الكهف: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) [الآية 83 وما بعدها]، أم يتصل بحاضر؛ مثل قوله تعالى في سورة «الإسراء»: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) [الإسراء: 85]، أم يتصل بمستقبل؛ وذلك مثل قوله تعالى في سورة «الأعراف»: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ... [الأعراف: 187]. والمراد بأيام وقوعه أن تنزل بعده مباشرة، أو بعد ذلك بقليل، مثل الآيات المتعلقة بقصة «أهل الكهف» و «ذي القرنين»، فقد نزلت بعد خمسة عشر يوما من سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم (¬1)، ومثل حادثة الإفك، فقد نزلت الآيات المتعلقة بذلك بعد شهر (¬2). وهذا القيد في التعريف: يخرج الآيات التي تنزل ابتداء، بينما هي تتحدث عن قصص الأنبياء، وأحوال الأمم معهم، أو عن بعض الحوادث الماضية، كسورة «الفيل» مثلا، أو تتحدث عن مستقبل كاليوم الآخر وما فيه من نعيم أو عقاب؛ فإن هذه القصص والأحداث لا تعتبر أسباب نزول فتنبه لذلك، ولا تغلط فيه كما غلط بعض العلماء (¬3). طريق معرفة سبب النزول لا طريق لمعرفة أسباب النزول إلا النقل الصحيح، ولا مجال للعقل فيه إلا بالتمحيص والترجيح؛ قال الواحدي في كتاب «أسباب النزول»: «لا ¬

_ (¬1) راجع أسباب النزول، للسيوطي على هامش الجلالين ج 2 ص 3. (¬2) صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة النور، باب قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ... الآية. (¬3) قال الواحدي في تفسيره: إن سبب نزول سورة الفيل قصة قدوم الحبشة لهدم البيت، وهو وهم لا محالة، انظر الإتقان ج 1 ص 31.

يحل القول في أسباب نزول القرآن إلا بالرواية والسماع، ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها، وجدوا في الطّلاب» أي بالغوا في طلب العلم. فالمعول عليه في أسباب النزول: هم الصحابة، ومن أخذ عنهم من التابعين. ومعرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا، وكثيرا ما يجزم بعضهم بالسبب، وربما لم يجزم بعضهم؛ فقال: أحسب هذه الآية نزلت في كذا، كما قال «الزبير» في قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... الآية. روى الشيخان في صحيحيهما عن عروة بن الزبير عن أبيه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة (¬1) التي يسقون منها النخل فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: «اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك» فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله أن (¬2) كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير: «يا زبير احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (¬3)» فقال الزبير: والله إني لأحسب هذا الآية نزلت في ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ زاد البخاري «فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد أشار على الزبير رأيا أي أراد سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير والله ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) شراج: بكسر الشين وفتح الراء جمع شرجة بفتح الشين وسكون الراء، وهي مسيل الماء، والحرة: الأرض ذات الحجارة السود. (¬2) يعني حكمت له لأن كان ابن عمتك. (¬3) جمع جدار، وهي الحدود والحواجز التي تكون حول الأرض. (¬4) أسباب النزول للسيوطي ج 1 ص 3، صحيح البخاري- كتاب التفسير- تفسير سورة

حكم قول الصحابي في سبب النزول

حكم قول الصحابي في سبب النزول: وقول الصحابي في سبب النزول، له حكم المرفوع، كما نبه على ذلك الحاكم وابن الصلاح وغيرهما من أئمة علوم الحديث؛ لأنه قول فيما لا مجال للرأي فيه، ويبعد كل البعد أن يقول ذلك من تلقاء نفسه، فهو محمول على السماع أو المشاهدة. وقول التابعي في سبب النزول، له حكم المرفوع إلا أنه مرسل، فقد يقبل إذا صح السند إليه، وكان من أئمة التفسير، الآخذين عن الصحابة، كمجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير؛ أو اعتضد بمرسل آخر، ونحو ذلك. وممن كان عالما بذلك من الصحابة «عبد الله بن مسعود» - رضي الله عنه- روى البخاري في صحيحه عنه قال: «والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلّا وأنا أعلم أين نزلت (¬1)، ولا أنزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم فيمن نزلت (¬2) ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل، لركبت إليه». التثبت في القول في سبب النزول: وينبغي التثبت في سبب النزول، وإلّا دخل القائل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: «واتقوا الحديث عليّ إلا ما علمتم فإن من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن كذب على القرآن- بغير علم- فليتبوأ مقعده من النار» رواه أبو داود. وكان السلف الصالح يتحرجون من القول في سبب النزول بغير علم، قال محمد بن سيرين: «سألت عبيدة (¬3) عن آية من القرآن، فقال: ¬

_ النساء- باب قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... (¬1) يريد المكي والمدني. (¬2) يريد أسباب النزول. (¬3) هو عبيدة بن عمرو السلماني التابعي الجليل.

فوائد معرفة سبب النزول

اتق الله، وقل سدادا، ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن». فوائد معرفة سبب النزول لمعرفة سبب النزول فوائد كثيرة منها: الفائدة الأولى : الاستعانة على فهم الآية، وإزالة الإشكال عنها، قال الواحدي في كتاب «أسباب النزول»: لا يمكن معرفة الآية دون الوقوف على قصتها، وبيان نزولها. وقال ابن دقيق العيد: معرفة سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ... ولذلك أمثلة كثيرة منها: أ- أنه أشكل على «عروة بن الزبير» - رضي الله عنهما- أن يفهم فرضية السعي بين الصفا والمروة من قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة: 158] الآية، وذلك لأن الآية نفت (الجناح) ونفي الجناح لا يدل على الفرضية، حتى سأل خالته السيدة (عائشة) - رضي الله عنها- عن ذلك، فأفهمته، أن نفي الجناح ليس نفيا للفرضية، إنما هو نفي لما وقر في أذهان المسلمين يومئذ من التحرج والتأثم من السعي بين الصفا والمروة؛ لأنه من عمل الجاهلية. وقد روي في سبب هذا التحرج: أنه كان على الصفا صنم يقال له: (إساف) وعلى المروة صنم يقال له: (نائلة)، وكان المشركون إذا سعوا تمسحوا بهما، فلما ظهر الإسلام، وكسرت الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك ولأن الله لم يذكر السعي بين الصفا والمروة في القرآن كما ذكر الطواف بالبيت في قوله سبحانه: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ؛ فنزلت الآية لنفي هذا الحرج.

وقيل السبب أن بعض الأنصار كانوا يهلون ل «مناة» (¬1) الطاغية عند «المشلل»، فكان من أهل منهم لمناة: يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة، تعظيما لها، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التحرج، فأنزل الله الآية لرفع التحرج. وقد جاء بهذا وذاك الروايات الصحيحة في الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنها- ولا منافاة بين الروايات، لأن فريقا منهم كان يطوف بينهما في الجاهلية فلما جاء الإسلام تحرج من ذلك، وبعضهم ما كان يطوف بينهما، ويتحرج من ذلك في الجاهلية، تعظيما لصنمهم، فلما جاء الإسلام استمروا على تحرجهم واستفهموا عن هذا، فأنزل الله هذه الآية مزيلة لحرج الفريقين (¬2). وأيّا ما كان الأمر، فالآية لا تنافي الفرضية، كما قالت السيدة عائشة العالمة، ولو أراد الله ذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما، كما قالت في ردها على ابن أختها وقد تأكدت فرضية السعي بين الصفا والمروة بفعله صلى الله عليه وسلم وقوله: «خذوا عني مناسككم»، وقالت عائشة- أيضا- قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، ومعنى «سن» شرع أو فرض، بدليل من السنة، لا من الكتاب، فلولا معرفة سبب النزول لما زال الإشكال ولفهم البعض الآية على غير وجهها. ب- ومن ذلك قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ... [سورة الطلاق: 4] فقد أشكل معنى هذا ¬

_ (¬1) مناة: اسم صنم كان في الجاهلية، قال ابن الكلبي: كانت صخرة نصبها (عمرو ابن لحي) لهذيل كانوا يعبدونها، والطاغية: صفة لها إسلامية. والمشلل: بضم الميم وفتح الشين، واللام الأولى مفتوحة مشددة- موضع قريب من قديد وقديد على صيغة المصغر، قرية بين مكة والمدينة كثيرة المياه قاله أبو عبيد البكري. (¬2) انظر: فتح الباري ج 3 ص 392 وما بعدها: ففيه تحقيق الحق في هذا المقام، وقد أتيت بالخلاصة واضحة مجلوة في هذا الكتاب.

الشرط على بعض الأئمة، حتى قال الظاهرية: بأن الآيسة لا عدة عليها إذا لم ترتب، وقد أزال هذا الإشكال سبب النزول، ذلك أنه لما نزلت الآية التي في سورة «البقرة» في عدد النساء، قالوا: قد بقي عدد- بفتح العين من- عدد- بكسر العين- النساء لم يذكرن: الصغار والكبار، فنزلت الآية، أخرجه الحاكم، عن أبيّ، فعلم بهذا: أن الآية خطاب لمن لم يعلم: ما حكمهن في العدة وارتاب: أعليهن عدة أم لا وأ عدّتهن كاللائي في سورة البقرة أم لا فظهر بهذا أن المعنى: إن ارتبتم- أي إن أشكل عليكم حكمهن، وجهلتم كيف يعتدون- فهذا حكمهن. ج- ومن هذا قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115]. فلو تركت على ظاهرها لاقتضت أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة، سفرا ولا حضرا، وهو خلاف الإجماع. فلما عرف سبب نزولها علم أنها في نافلة السفر أو نزلت في الرد على اليهود الذي سفهوا على النبي والمسلمين بسبب تحويل القبلة إلى الكعبة، أو في من صلى بالاجتهاد وبان له الخطأ، على اختلاف الروايات في ذلك (¬1)، فلولا معرفة السبب لبقيت الآية مشكلة. د- ما حكي عن قدامة بن مظعون (¬2) وعمرو بن معديكرب أنهما كانا ¬

_ (¬1) أسباب النزول للسيوطي عند هذه الآية، ولعل القول الأول هو الأولى، لأنه رواه مسلم والترمذي والنسائي، ويليه الثاني، أما الثالث فروي بأسانيد ضعيفة. (¬2) هذا هو الصحيح أنه «قدامة» وفي البرهان للزركشي ونقله عنه السيوطي في الإتقان أنه «عثمان بن مظعون» وهو غلط لا محالة؛ لأنه رضي الله عنه توفي عقب بدر، أما أخوه قدامة فهو الذي طالت به الحياة إلى خلافة الفاروق رضي الله عنه وكان يتأول الآية على هذا، وقد جلده الفاروق عمر على شربه الخمر، ثم استرضاه في آخر حياته. ذلك أن عمر حج، وحج معه قدامة، وهو مغاضب له، فلما قفلا من حجهما نام عمر بالسقيا- مكان- فلما استيقظ قال: عجلوا بقدامة، فو الله لقد أتاني آت في منامي فقال لي: سالم قدامة فإنه أخوك فجيء به فكلمه واستغفر له، الإصابة ج 3 ص 333 وكانت وفاة قدامة في خلافة عليّ سنة ست وثلاثين وهو ابن ثمان وستين سنة، وقد

يقولان: الخمر مباحة، ويحتجان بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) [المائدة: 93]، ولو أنهما علما سبب النزول لما قالا ذلك، ولكن خفي عليهما، فوقعا في هذا الرأي الشاذ، فقد روي: أن ناسا قالوا لما حرمت الخمر: «كيف بمن قتلوا في سبيل الله، وماتوا، وكانوا يشربون الخمر، وهي رجس فنزلت». رواه أحمد والنسائي وغيرهما. فدل سبب النزول على أن ذلك كان قبل التحريم، وأن الآية لا تصلح دليلا لذلك، وأيضا فكيف تجامع التقوى شرب الخمر، ولذلك لما حاج سيدنا عمر قدامة وصاحبه قال: «كيف يجامع شرب الخمر التقوى»! هـ- ومن ذلك ما روي في الصحيح عن مروان بن الحكم (¬1) أنه أشكل ¬

_ نبهنا إلى هذا الغلط أستاذنا الشيخ المحدث محمد حبيب الله الشنقيطي- رحمه الله- ونحن نقرأ عليه كتاب «الإتقان» ومن العجيب أن الذين علقوا على البرهان وزعموا أنهم حققوه قد فات عليهم هذا الغلط. (¬1) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أبو عبد الملك، وقد ولد بعد سنتين من الهجرة، وقيل سنة ثلاث، وعلى هذا يكون له عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إما ثمان سنين أو سبع، فيكون مميزا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لكن لم تثبت له صحبة ولم يعده أحد في الصحابة، وقد أسلم أبوه يوم الفتح، وأخرج إلى الطائف وهو معه فلم يثبت له أي بعد من الرؤية، ولم تثبت له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي عن غير واحد من الصحابة منهم عمر وعثمان وعلي، وزيد بن ثابت، وغيرهم، وروى عنه بعض الصحابة كسهل بن سعد وهو أكبر منه سنّا وقدرا؛ لأنه صحابي، وروى عنه من التابعين ابنه عبد الملك، وعلي بن الحسين، وعروة بن الزبير وسعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وغيرهم، وكان يعد في الفقهاء، وقد قرنه البخاري بالمسور بن مخرمة في حديث قصة صلح الحديبية، وفي بعضها إنما رويا ذلك عن بعض الصحابة، وفي أكثرها أرسلا الحديث، وهو يعد من كبار التابعين، ومن الثقات، وقد كان مكتبا لعثمان في خلافته ثم ولي إمرة المدينة في عهد معاوية وقد آلت إليه الخلافة بعد موت معاوية بن يزيد، وكانت مدته في الخلافة نحو نصف سنة، وكانت وفاته في شوال سنة خمس وستين للهجرة، وكان قد عهد إلى ولده عبد الملك بالخلافة، قالوا: وهو أول من ضرب

عليه قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) (¬1) [آل عمران: 188] فبعث إلى ابن عباس فسأله: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون!! فقال ابن عباس: إن هذه الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، رواه الشيخان، ومقتضى جواب ابن عباس أن اللفظ وإن كان عامّا إلا أنه أريد به خاص. وقد علق بعض العلماء على جواب ابن عباس- رضي الله عنهما- ما بين موافق ومخالف، قال الزركشي في البرهان: لا يخفى عن ابن عباس- رضي الله عنه- أن اللفظ أعم من السبب، لكن بين أن المراد باللفظ خاص ونظيره تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الظلم بالشرك (¬2) في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ .... وقال بعض العلماء: هذا الجواب مشكل لأن اللفظ أعم من السبب، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: «المتشبّع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» وإنما الجواب أن الوعيد مرتب على أثر الأمرين المذكورين، وهما الفرح وحب الحمد، لا عليهما أنفسهما، إذ هما من الأمور الطبيعية التي لا يعلّق بها التكليف أمرا ونهيا، وقال الخازن في تفسيره: وهذه الآية وإن كانت قد نزلت في اليهود أو المنافقين خاصة، فإن حكمها عام في كل من أحب أن يحمد بما لم يفعل ¬

_ الدنانير الشامية وكتب عليها: «قل هو الله أحد». (¬1) وقد قرئ قوله تعالى: (أتوا) بفتح الهمزة بغير مد، وفتح التاء، وهي القراءة السبعية، أي بما جاءوا به وفعلوه، ومنه قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي جائيّا من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل، وقرئ بضم الهمزة والواو، مبنية للمجهول، من «آتى» بمعنى أعطى، وهي قراءة السلمي، وسعيد بن جبير، والأولى هي التي توافق تفسير ابن عباس، والثانية توافق سؤال مروان. (¬2) البرهان ج 1.

الفائدة الثانية

من الخير والصلاح أو ينسب إلى العلم وليس هو كذلك (¬1). أقول: ولعل القول بالعموم أولى ليشملهم، وكل من على شاكلتهم إلى يوم القيامة، وليس من شك في أن من فرح بما فعل من إنكار الحق، ومحاولته ستره وجحوده، أو بما أعطى فرح بطر وأشر، وحبه أن يحمد بما لم يفعل، وبما ليس فيه من الصفات- ليس بمنجاة من عذاب الله؛ لأنها من الرذائل الخلقية التي لا يرضاها الإسلام. ومن قال: إن هاتين الرذيلتين اللتين تضمنتهما الآية لا يسلم منهما إنسان أنا لا أوافق مروان على هذا، ولا سيما في العصور الأولى الفاضلة، فقد كان معظم المسلمين ممن تأبى أخلاقهم هذا، أما ما رآه ابن عباس فهو اجتهاد منه، وكأنه رأى في سبب النزول صارفا للفظ عن عمومه استقطاعا لما استفظعه مروان، ولا حجر في الإسلام على الاجتهاد، ولكل وجهة هو موليها. الفائدة الثانية: أنه يعين على فهم الحكمة، التي يشتمل عليها التشريع، وفي ذلك فائدة للمؤمن، وغير المؤمن؛ أما المؤمن فيزداد إيمانا وبصيرة بحكمة الله في تشريعه فيدعوه ذلك إلى شدة التمسك بها، وأما غير المؤمن فيعلم أن الشرع قام على رعاية المصلحة، وجلب المنفعة، ودفع المضرة، فيدعوه ذلك إن كان منصفا إلى الدخول في الإسلام، وذلك مثل ما إذا عرفنا سبب تحريم الخمر، عرفنا الحكمة في التحريم؛ إذ أنها توقع العداوة والبغضاء بين الناس وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتذهب العقل والوقار، وتضر بالصحة، وتفني الأموال في غير طائل. الفائدة الثالثة: رفع توهم الحصر: قال الشافعي- ما معناه- في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) تفسير الخازن ج 1 ص 409، وانظر تفسير الآلوسي عند هذه الآية.

الفائدة الرابعة

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ... [الأنعام: 145] الآية، إن الكفار لما حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة، والمحادة، فجاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه، نازلا منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلوى، فنقول له: لا آكل اليوم إلا حلوى، والغرض: المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة؛ فكأنه قال: لا حرام إلا ما أحللتموه من الميتة والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به. ولم يقصد حل ما وراءه، إذ القصد: إثبات التحريم لا إثبات الحل، قال إمام الحرمين (¬1): «وهذا في غاية الحسن، ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات، فيما ذكرته الآية، وهذا قد يكون من الشافعي أجراه مجرى التأويل». الفائدة الرابعة: معرفة اسم من نزلت فيه الآية، وتعيين المبهم فيها، وفي ذلك إسناد الفضل لأهله، ونفي التهمة عن البريء الذي ألصق به ما هو براء منه، وذلك مثل ما روي عن السيدة عائشة- رضي الله عنها- أنها ردت على «مروان بن الحكم» حينما اتهم أخاها «عبد الرحمن بن أبي بكر» بأنه الذي نزل فيه قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ ... [الأحقاف: 17] الآية، وقالت: «والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته» (¬2) رواه البخاري. ومثل ما إذا عرفنا سبب النزول في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) [سورة البقرة: 207] ¬

_ (¬1) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني الشافعي العراقي شيخ الإمام الغزالي، وأعلم أصحاب الشافعي المتأخرين، نسبة إلى جوين كورة بخراسان كما في القاموس، وصاحب التصانيف الكثيرة، توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. (¬2) صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة الأحقاف.

الفائدة الخامسة

عرفنا أن صاحب الفضل هو سيدنا «صهيب بن سنان» الرومي- رضي الله عنه (¬1) - وكذا إذا عرفنا سبب نزول قوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ... [الأحزاب: 37] الآية، علمنا أن المنعم عليه هو سيدنا «زيد بن حارثة» - رضي الله عنه- والآية وإن جاء فيها فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً ولكنها لم تبين من هو زيد هذا فبين سبب النزول أنه زيد بن حارثة. الفائدة الخامسة: معرفة أن سبب النزول غير خارج من حكم الآية فيما إذا كان لفظ الآية عامّا، وورد مخصص لها؛ فبمعرفة السبب يكون التخصيص قاصرا على ما عداه لقيام الإجماع على دخول صورة السبب، ولو لم نعرف السبب لجاز أن يكون مما خرج بالتخصيص، مع أنه لا يجوز. الفائدة السادسة: تخصيص الحكم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ؛ فعند هؤلاء ما لم يعرف السبب لا يمكن معرفة المقصود بالحكم، ولا القياس عليه، وتبقى الآية معطلة خالية من الفائدة. الفائدة السابعة: تثبيت الوحي، وتيسير الحفظ والفهم، وتأكيد الحكم في ذهن من يسمع الآية، إذا عرف سببها؛ وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات، والأحكام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص، والأزمنة والأمكنة، كل ذلك من دواعي تقرر الأشياء؛ وانتقاشها في الذهن، وسهولة استذكارها عند تذكر ما يقارنها، وذلك هو فيما يعرف في علم النفس بقانون «تداعي المعاني». ¬

_ (¬1) انظر أسباب النزول للسيوطي عن بيان سبب نزول هذه الآية.

التعبير عن سبب النزول

التعبير عن سبب النزول للعلماء في ذلك طريقتان، استفيدتا من تتبع عباراتهم في هذا المقام: الأولى: قولهم: سبب نزول هذه الآية كذا، وهذه العبارة نص في بيان السبب، ولا تحتمل غيرها ومثل هذه العبارة أن يذكر الراوي سؤالا أو حادثة ثم يقول: فأنزل الله كذا، فهذه نص أيضا، وقد لا يصرح بالإنزال، ولكن يفهم من فحوى القصة أن هذه الآيات أو الآية نزلت بسبب هذا السؤال أو الحادثة، وذلك مثل رواية «ابن مسعود» الآتية في سبب نزول آية الروح. الثانية: قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، وهذه العبارة ليست نصا في السببية، بل تحتمل السببية، وتحتمل بيان المعنى، وما تضمنته الآية من الأحكام، والقرائن هي التي تعين أحد هذين الاحتمالين أو ترجحه. قال العلامة «تقي الدين ابن تيمية»: «قولهم: نزلت الآية في كذا، يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب؛ كما تقول: عني بهذه الآية كذا، وقد تنازع العلماء في قول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله فيه، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد، وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه الآية، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند». وهذا الذي ذكره ابن تيمية وغيره من أن الآثار التي ذكر فيها سبب النزول صراحة لها حكم المسند المرفوع هو الذي ذهب أئمة علوم الحديث إليه، قال الحاكم في «علوم الحديث»: إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا، فإنه حديث مسند، ومشى على هذا ابن الصلاح وغيره من أئمة الفن، قال ابن الصلاح في مقدمته: «وما قيل من أن تفسير الصحابي حديث مسند فإنما ذلك في تفسير يتعلق

قول التابعي في سبب النزول

بسبب نزول آية يخبر بها الصحابي أو نحو ذلك». وقال «الزركشي» في البرهان: «قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع». قول التابعي في سبب النزول: قد علمت مما تقدم من أن قول الصحابي في سبب النزول له حكم المسند المرفوع، وأما قول التابعي في أسباب النزول فهو مرفوع أيضا، لكنه مرسل لحذف الصحابي، وقد يقبل إذا صح السند إليه، وكان الراوي من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير أو اعتضد بمرسل آخر، أو نحو ذلك. تفريع على ما تقدم: وعلى هذا إذا وردت روايتان أو أكثر، وكانت إحداهما نصّا في بيان سبب النزول والثانية ليست نصّا فيه، أخذنا في السببية بما هو نص، وحملنا الأخرى على بيان المعنى؛ مثل ذلك ما أخرجه «مسلم» في صحيحه عن جابر قال: «كانت اليهود تقول من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله سبحانه: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 222] الآية» أي من أي جهة شئتم، أو على أي حال شئتم، فأنى للكيفية، والحال، لا للمكان. وما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: أنزلت نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ... في إتيان النساء في أدبارهن، يعني في تحريم ذلك. فالمعتمد عليه في بيان السبب هي رواية «جابر» لكونها نصّا في ذلك، أما رواية «ابن عمر» فتحمل على بيان المعنى، وحكم إتيان النساء في أدبارهن وهو التحريم، استنباطا منه، وهذا هو اللائق بالصحابي؛ القول بالتحريم.

تعدد الأسباب، والمنزل واحد

وأما إن قال- كل من الراويين أو الرواة-: نزلت هذه الآية في كذا فهذه العبارة ليست نصّا في السببية كما ذكرنا، بل تحتمل بيان التفسير والمعنى، فإن كان اللفظ يحتمل قول كل حمل على الجميع، وإلا ترجح ما يقتضيه اللفظ أو يشهد له السمع، أو تؤيده الأدلة. وأما إذا كانت كل من الروايتين أو الروايات نصّا في بيان السبب، فهنا يكون البحث والنظر، ولنفرد لذلك عنوانا، فنقول: تعدد الأسباب، والمنزل واحد إذا ذكر كل من الراويين أو الرواة عبارة هي نص في السببية، فلذلك أحوال أربعة، لأنها: 1 - إما أن تكون إحدى الروايتين صحيحة، والأخرى غير صحيحة. 2 - إما أن تكون كل منهما صحيحة، ولكن يمكن الترجيح. 3 - وإما أن تكون كل منهما صحيحة، ولا يمكن الترجيح، ولكن يمكن نزول الآية عقبها. 4 - وإما أن تكون كل منهما صحيحة، ولا يمكن الترجيح، ولا نزول الآية عقبها. وإليك حكم كل حالة من هذه الحالات، وذكر أمثلتها: الحالة الأولى: أن تكون إحدى الروايتين صحيحة، والأخرى غير صحيحة، فالمعتمد عليه في السبب: هي الصحيحة وترك الأخرى غير الصحيحة، مثال ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما، عن جندب قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة، أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت: ما أرى شيطانك إلا قد تركك. فأنزل الله: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3). وما أخرجه الطبراني، وابن أبي شيبة في مسنده، والواحدي وغيرهم بسند فيه من لا يعرف عن حفص بن ميسرة، عن أمه، عن أمها- وكانت

الحالة الثانية

خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جروا دخل بيت النبي، فدخل تحت السرير، فمات فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة ما حدث في بيت رسول الله جبريل لا يأتيني فقلت في نفسي لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم- ترتعد لحيته (¬1) - وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة فأنزل الله وَالضُّحى (1) ... إلى قوله: فَتَرْضى. فالمعتمد عليه هو الرواية الأولى؛ لأنها صحيحة، أما الثانية ففي إسنادها من لا يعرف، قال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: «قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب بل شاذ مردود، وفي إسناده من لا يعرف، فالمعتمد ما في الصحيح» (¬2). الحالة الثانية: أن تكون كلتا الروايتين صحيحة، ولإحداهما مرجح؛ لكون إحدى الروايتين أصح من الأخرى، أو لكون الراوي حاضر القصة، أو نحو ذلك من وجوه الترجيح، فالحكم أن نأخذ في السبب بالرواية الراجحة، دون المرجوحة. مثال ذلك: ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: «كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه فقالوا: حدثنا عن الروح، فقام ساعة، ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال (¬3): قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ ¬

_ (¬1) في مختار الصحاح: الارتعاد: الاضطراب، تقول: أرعده فارتعد، والاسم الرعدة بالكسر- يعني كسر الراء، فمعنى ترتعد: تضطرب. (¬2) فتح الباري ج 8 ص 710 ط السلفية. (¬3) هذه الرواية وإن لم تصرح بالسبب إلا أن السببية مفهومة من فحوى القصة؛ لأنه ذكر الحالة التي يكون عليها النبي عند نزول الوحي، ثم ذكر الآية عقب ذلك، كالنص على السببية، وهذه الرواية هي ما أردت التمثيل بها لما ذكرته آنفا في التعبير عن سبب النزول.

الحالة الثالثة

رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. وأخرج الترمذي، وصححه عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل- يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: اسألوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ... [الإسراء: 85] الآية. فالأولى تدل على أن السائل اليهود، وأن نزولها بالمدينة، والثانية تدل على أن السائل الكفار، وأنها نزلت بمكة، والأولى أرجح لأمرين: 1 - أنها من رواية البخاري، وهي أصح من رواية الترمذي. 2 - أن الراوي في الأولى، وهو ابن مسعود كان حاضر القصة، ومشاهدا لها، أما الثانية فليس فيها أن الراوي لها- وهو ابن عباس- كان مشاهدا لها، ولا شك أن للمشاهدة قوة في التحمل (¬1). الحالة الثالثة: أن تكون كل من الروايتين أو الروايات صحيحة ولا يمكن الترجيح، ولكن يمكن نزول الآية أو الآيات عقب السببين أو الأسباب، لعدم العلم بالتباعد، فيحمل ذلك على تعدد السبب والمنزل واحد. مثال ذلك ما أخرجه البخاري من طريق عكرمة، عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء (¬2) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة، أو حدّ في ظهرك»، فقال: يا رسول الله إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلا، ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «البينة، أو حد في ظهرك»، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما ¬

_ (¬1) يرى ابن كثير الجمع بينهما بتكرر النزول، وكذا قال ابن حجر، وأما الترجيح: فهو رأي السيوطي في الإتقان، وأسباب النزول، انظر: الإتقان ج 1 ص 33 وأسباب النزول للسيوطي على هامش الجلالين، سورة النور. (¬2) سحماء: بالسين ثم الحاء المهملتين: اسم أمه واسم أبيه: عبدة بن مغيث بن الجعد ابن عجلان البلوي حليف الأنصار (الإصابة ج 2 ص 152) وقد ذكر في الإتقان: ابن سمحاء- بتقديم الميم- وهو خطأ مطبعي لا محالة.

يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل، وأنزل الله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ... فقرأ حتى بلغ: إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (¬1). وروى مسلم في صحيحه بسنده، عن أنس بن مالك قال: «إن هلال بن أمية، قذف امرأته بشريك بن سحماء، وكان أخا للبراء بن مالك لأمه، وكان أول رجل لا عن في الإسلام .. » الحديث (¬2). وهذه الرواية تدل أيضا- لكن لا بطريق التصريح- على أن الآية نزلت بسبب «هلال». وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد قال: «جاء (عويمر) إلى عاصم بن عدي فقال: اسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع به فسأل عاصم رسول الله، فكره رسول الله المسائل، فأخبر عاصم عويمرا، فقال: والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتاه فسأله، فقال: «إنه قد أنزل الله فيك، وفي صاحبتك القرآن ... » الحديث. فهاتان الروايتان صحيحتان، ولا مرجح لأحدهما، ويمكن الجمع بينهما بأن أول من سأل «هلال بن أمية» ثم سأل «عويمر» أيضا قبل الإجابة، فأنزل الله آيات اللعان، إجابة لهما معا. وهذا التوفيق بين الروايتين أولى من ردهما، إذ لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع، أو الأخذ بإحداهما دون الأخرى، لما فيه من الترجيح بلا مرجح وهو غير جائز. وإلى هذا جنح الإمام النووي، فقال: ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعا، فلعلهما سألا في وقتين متقاربين، فنزلت الآية فيهما (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- كتاب التفسير- سورة النور، وكتاب النكاح- أبواب اللعان. (¬2) صحيح مسلم- كتاب اللعان، وانظر شرح مسلم للنووي على هامش شرح القسطلاني للبخاري ج 6 ص 314 - 333. (¬3) شرح النووي على مسلم ج 10 ص 120.

الحالة الرابعة

وسبقه الخطيب فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد. وهذا ما رجحه السيوطي في الإتقان، وأسباب النزول. وإذا انضم إلى هاتين الروايتين ما رواه البزار عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «لو رأيت مع أم رومان رجلا، ما كنت فاعلا به» قال: شرّا، قال: «فأنت يا عمر» قال: كنت أقول لعن الله الأعجز، وإنه لخبيث، فنزلت. وعلى هذا تكون الآيات نزلت عقب هذه الأسباب كلها، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: لا مانع أن تتعدد القصص، ويتحد النزول. الحالة الرابعة: استواء الروايتين أو الروايات في الصحة، ولا مرجح لأحدهما، ومع عدم إمكان نزول الآية عقبهما، لتباعد الزمان، فالحكم، أن يحمل الأمر على تكرر النزول، ولا مانع من تكرر النزول؛ بل له حكم، قال «ابن الحصار»: «قد يتكرر نزول الآية تذكيرا وموعظة»، وقال «الزركشي» في ¬

_ وقال الحافظ في الفتح ما خلاصته: وقد اختلف الأئمة في هذا الموضع؛ منهم من رجح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، وجاء عويمر ولم يكن علم بما وقع لهلال، وما أنزل الله بشأنه فأخبره النبي بالحكم وبنزول آيات في ذلك، ومنهم من جمع بينهما، بأن أول من وقع له هلال، وصادف مجيء عويمر أيضا فنزلت في شأنهما معا في وقت واحد، ثم ذكر أن القرطبي جنح إلى تجويز تكرر النزول (الفتح ج 8 ص 213) ولعل ما ذهب إليه السيوطي في الجمع بينهما هو الأولى والأسلم. وقال الحافظ في (الفتح ج 9 ص 271) في شرح أحاديث اللعان، وقد قدمت اختلاف أهل العلم في الراجح من ذلك، وبينت كيفية الجمع بينهما في تفسير سورة «النور» بأن يكون هلال سأل أولا ثم سأل عويمر فنزلت في شأنهما، وظهر لي الآن: احتمال أن يكون عاصم سأل قبل النزول ثم جاء هلال بعد فنزلت عند سؤاله، فجاء عويمر في المرة الثانية التي قال فيها: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فوجد الآية نزلت في شأن هلال، فأعلمه النبي بأنها نزلت فيه، يعني: أنها نزلت في كل من وقع له ذلك؛ لأن ذلك لا يختص بهلال.

البرهان: «قد ينزل الشيء مرتين؛ تعظيما لشأنه، وتذكيرا به عند حدوث سببه، وخوف نسيانه». ومثال ذلك، ما أخرجه البيهقي والبزار عن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد، وقد مثل به، فقال: «لأمثلن بسبعين منهم مكانك» فنزل جبريل- والنبي واقف- بخواتيم سورة «النحل» وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ إلى آخر السورة. وأخرج الترمذي، والحاكم، عن أبيّ بن كعب قال: «لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، منهم حمزة، فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله سبحانه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ... [النحل: 126 - 128]. فالأولى: تفيد أن الآيات نزلت عقب أحد. والثانية: تفيد أنها نزلت يوم الفتح، وبين أحد والفتح حوالي خمس سنين، فيبعد نزول الآيات عقبهما، مع التباعد في الزمن، وإذا، فلا مناص من القول، بتعدد النزول مرة يوم أحد ومرة يوم الفتح. وهذا على أن سورة «النحل» مكية إلا خواتيمها كما روي. وقد ذهب البعض إلى أن سورة «النحل» كلها مكية بما فيها هذه الآيات، وعلى هذا الرأي تكون نزلت ثلاث مرات، مرة بمكة، ومرة ثانية عقب أحد، ومرة ثالثة يوم الفتح. وفي هذا التكرار تذكير الله لعباده بما اشتملت عليه الآيات من الإرشادات والآداب العالية، وهي: تحري العدالة والإنصاف عند الانتصار للنفس، وكبح جماح شهوة التشفي والإسراف في الانتقام عند النصر والظفر بالأعداء، وضبط النفس عند الغضب، والتذرع بالصبر عند وقوع المكروه، والتحلي بسعة الصدر، وجمال التقوى في جميع الحالات. وقد جعل «ابن كثير» و «ابن حجر» من هذا القسم آية الروح، وكأنهما لا

تنبيه مهم

يريان الجمع بين الروايتين بالترجيح كما بينا، ويريان الجمع بينهما بتكرر النزول. ومما ذكر من هذا القبيل سورة «الإخلاص» فقد روي أنها نزلت جوابا للمشركين، وروي أنها نزلت جوابا لأهل الكتاب بالمدينة، فحمل على تكرر النزول. ومن ذلك سورة «الفاتحة» فقد ذكروا أنها نزلت مرتين، مرة بمكة ومرة بالمدينة. وقد أنكر بعض العلماء كون شيء من القرآن تكرر نزوله، وعلله بأن تحصيل ما هو حاصل لا فائدة فيه، وهو مردود بما ذكرنا من الفوائد والحكم (¬1). تنبيه مهم قد يكون في إحدى القصتين: فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فيغلط الراوي فيقول: فنزل كذا، فيظن أن ذلك سبب للنزول وليس كذلك، فينبغي التنبه لذلك، وتحرير لفظ الرواية، وبذلك يسهل علينا الوصول إلى الحق والصواب في أسباب النزول. مثاله: ما أخرجه الترمذي وصححه، عن ابن عباس قال: «مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تقول يا «أبا القاسم» إذا وضع الله السموات على ذه، والأرضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه، فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 67] وقد وهم الراوي في قوله: «فأنزل» والحديث ورد في الصحيح بلفظ: «فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم» وهو الصواب، ومما يؤيد هذا أن الآية مكية لا مدنية. ومن أمثلته: ما أخرجه البخاري، عن أنس قال: «سمع عبد الله ابن ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 26.

تعدد المنزل، والسبب واحد

سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه، فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: 1 - ما أول أشراط الساعة 2 - وما أول طعام أهل الجنة 3 - وما ينزع الولد إلى أبيه، أو إلى أمه قال: «أخبرني بهن جبريل- عليه السلام- آنفا»، قال: جبريل قال: «نعم» قال: ذلك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ... الآية، قال «ابن حجر» في شرح البخاري: ظاهر السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية ردّا على اليهود، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ، قال: وهذا هو المعتمد، فقد صح في سبب نزول الآية قصة غير قصة «ابن سلام» (¬1). وهكذا يتبين لنا أن «فتلا كذا» أو «فقرأ كذا» لا تدل على أنها نزلت حينئذ ويكون ذكرها عقب القصة، للاستشهاد كما في الأولى، أو للرد كما في الثانية. تعدد المنزل، والسبب واحد قد يكون الأمر الواحد سببا لنزول آيتين أو آيات متعددة متفرقة، وذلك عكس ما تقدم، ولا إشكال في ذلك، ولا بعد؛ فقد ينزل في الوقعة الواحدة آيات عديدة في سور شتى، تبيانا وإرشادا للخلق، وإقناعا للسائل. 1 - من أمثلة ذلك- السبب الواحد تنزل فيه الآيتان- ما أخرجه البخاري من حديث زيد بن ثابت: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه لّا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فى سبيل الله ... ، فجاء ابن أم مكتوم وقال: يا رسول الله؛ لو أستطيع الجهاد لجاهدت- وكان أعمى- فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء: 95 - 96]. ¬

_ (¬1) انظر أسباب النزول للسيوطي ج 1 ص 18 - 19 هامش الجلالين.

وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن زيد بن ثابت أيضا قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لواضع القلم على أذني، إذ أمر بالقتال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه، إذ جاء أعمى فقال: كيف لي يا رسول الله وأنا أعمى، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) [التوبة: 91]. 2 - ومن أمثلته أيضا- السبب الواحد تنزل فيه أكثر من آيتين- ما أخرجه الترمذي والحاكم، عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ... [آل عمران: 195]. وأخرج الحاكم عنها- أيضا- قالت: قلت: يا رسول الله، تذكر الرجال ولا تذكر النساء، فأنزل الله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ... [الأحزاب: 35]، وأنزلت: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ... الآية. وأخرج أيضا عنها أنها قالت: تغزو الرجال، ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله سبحانه: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النساء: 32] وأنزل: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ... الآية. فالظاهر أن واقعة السؤال واحدة، وأن الآيات الثلاث نزلت بعد هذا السؤال؛ ولا يبعد هذا اختلاف صيغة السؤال؛ لجواز أن يكون سؤالها عامّا شاملا لكل ما روي، ولكن الراوي اقتصر على بعض السؤال دون بعض، أو تذكر بعضه ونسي البعض. 3 - ومن أمثلته ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة، فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان، فطلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك»، فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ... [التوبة: 74].

عموم اللفظ وخصوص السبب

وأخرجه أحمد والحاكم بهذا اللفظ، وآخره: فأنزل الله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ... [المجادلة: 18]. وهذا البحث الذي حرره الإمام السيوطي واستخرجه بفكره من صنيع الأئمة ومتفرقات كلامهم من الحسن بمكان. عموم اللفظ وخصوص السبب هذا الموضوع من الموضوعات التي عني بها الأصوليون في كتبهم؛ وذلك لأنهم ينظرون في حال الأدلة من حيث إفادتها للأحكام من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد ونحو ذلك، وقد يكون الدليل عامّا مع خصوص السبب فيحتاج الأصولي إلى بيان حال الدليل من حيث كونه يتخصص بسببه أو يعم باعتبار لفظه، ولا نظر للسبب إلا من حيث أن الأفراد التي بتناولها الدليل العام تكون من نوع ذلك السبب، وهو مع كونه من مباحث علم الأصول، فهو بسبب وثيق من مباحث أسباب النزول الذي هو من أنواع «علوم القرآن». وقبل أن نفصل الخلاف في هذا الموضوع نذكر أحوال كل من السبب واللفظ النازل عليه من عموم وخصوص فنقول: القسمة العقلية تقتضي أربع صور وهي: 1 - أن يكون كل من السبب واللفظ النازل عليه خاصّا. 2 - أن يكون كل من السبب واللفظ النازل عليه عامّا. وهذان القسمان ليسا محل خلاف بين العلماء؛ لأن المطابقة حاصلة بين السبب الذي هو بمنزلة السؤال وبين اللفظ المنزل عليه الذي هو بمنزلة الجواب له. 3 - أن يكون السبب عامّا واللفظ النازل عليه خاصّا وهذا القسم وإن صح عقلا لكنه لا يجوز بلاغه لعدم وجود التطابق بين السبب الذي هو بمنزلة السؤال واللفظ النازل عليه الذي هو بمنزلة الجواب له فيكون بمنزلة من يقول هل للمسلمين أن يفعلوا كذا فيجاب بأن لفلان أن يفعل كذا ويترك حال

الباقين، ومن ثم لم يقع هذا في الكلام البليغ كالقرآن والسنة. 4 - أن يكون السبب خاصّا واللفظ النازل عليه عامّا، وهذا القسم جائز عقلا وواقع فعلا إذ لا ضير فيه ولا خلل بل هو أتم وأوفى بالمقصود قال الزمخشري في تفسيره سورة «الهمزة»: يجوز أن يكون السبب خاصّا والوعيد عامّا ليتناول كل من باشر ذلك القبيح وليكون ذلك جاريا مجرى التعريض. وهذا القسم هو محط اختلاف العلماء، فذهب الجمهور من العلماء إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فحادثة «خولة بنت ثعلبة» التي ظاهر منها زوجها «أوس بن الصامت» كانت سببا لنزول آيات الظهار، وهي قوله تعالى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ [المجادلة: 2 - 4]، فاللفظ النازل عام: لأنه اسم موصول، وهو من صيغ العموم ويدخل تحت هذا العموم خولة ومن كان على شاكلتها ممن يظاهر منهن، وحادثة هلال بن أمية الذي رمى امرأته بشريك بن سحماء قد نزل بسببها آيات اللعان هي وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [سورة النور: 6 - 9] الآيات، فاللفظ النازل عام وهو شامل لمن نزلت فيه الآية ولغيره ممن هو على شاكلته، هذا هو رأي الجمهور. وذهب غير الجمهور إلى أن العبرة بخصوص السبب يعني: أن لفظ الآية يكون قاصرا على من نزلت بسببه الآية، فآيات الظهار مثلا لفظها خاص بخولة بنت ثعلبة ومظاهرة زوجها منها. وآيات اللعان لفظها خاص بهلال بن أمية، أما حكم غيرهما ممن يشبههما فلا يكون مستفادا من لفظ الآية إنما يستفاد بطريق القياس أو بالاجتهاد لدخوله تحت القاعدة المعروفة عند الأصوليين وهي: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة (¬1). ¬

_ (¬1) جرت كتب الأصول على عد هذا الكلام حديثا وهو بهذا اللفظ لا يعرف ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو في معنى حديث رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مبايعة النساء: «إني لا أصافح النساء وما قولي لامرأة

تنبيهات

تنبيهات: 1 - ينبغي أن يلاحظ أن هذا الخلاف القائم بين الجمهور وغيرهم محله إذا لم تقم قرينة على تخصيص لفظ الآية العام بسبب نزوله أما إذا قامت تلك القرينة فإن الحكم يكون مقصورا على سببه لا محالة بإجماع العلماء. 2 - لا يتوهمن متوهم أن غير الجمهور يقولون بعدم عموم أحكام الآيات النازلة على أسباب خاصة فالكل من الجمهور وغيرهم متفقون على عموم أحكام هذه الآيات غير أن الجمهور يقولون: إن العموم مستفاد من اللفظ أما غير الجمهور فيقولون: إن صورة السبب معلومة من اللفظ قطعا أما غير صورة السبب فحكمها مستفاد بالقياس أو الاستدلال كما ذكرنا. قال الإمام تقي الدين أحمد بن تيمية في «أصول التفسير» (¬1) ما ملخصه: قد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إذا كان المذكور شخصا. كقولهم إن آية الظهار نزلت في امرأة ثابت بن قيس بن شماس (¬2)، وأن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وأن آية وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ نزلت في بني قريظة والنضير ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم ¬

_ واحدة إلا كقولي لمائة امرأة» انظر: كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ج 1 ص 264. (¬1) مقدمة في أصول التفسير ص 12 - 13، الإتقان ج 1 ص 3. (¬2) المعروف أن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت، وهذا هو الذي تظاهرت عليه الروايات في كتب التفسير وأسباب النزول، وقيل: إنها نزلت بسبب سلمة بن صخر الأنصاري لما ظاهر من زوجته، والحق هو الأول وإن لسلمة قصة أخرى، وعلى كثرة التحري والبحث لم أجد أحدا روى أنها نزلت في امرأة ثابت بن قيس بل رجعت إلى تواريخ الصحابة علّي أجد في ترجمة ثابت ما يدل على ذلك فلم أجد فتأكدت أن هذا سهو من الإمام- رحمه الله- والسهو من طبيعة الإنسان، ولا سيما والإمام ابن تيمية كان جل اعتماده في كتبه على الذاكرة والإلقاء على تلاميذه، ومريديه، ولم يكن عنده من الاستقرار وفسحة الوقت ما يجعله يراجع ما أملاه، ويتدارك ما عسى أن يكون وقع فيه من سهو ونسيان والعصمة لله وحده.

ثمرة الخلاف بين الجمهور وغيرهم

من المشركين بمكة، أو في قوم من اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه ولا يكون فيها بحسب اللفظ، والآية التي لها سبب معين إن كان أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته. [ثمرة الخلاف بين الجمهور وغيرهم] وثمرة هذا الخلاف ترجع إلى أمرين: 1 - أن الحكم على أفراد غير السبب مدلول عليه بالنص النازل فيه عند الجمهور، وذلك النص قطعي الثبوت اتفاقا، وقد يكون مع هذا قطعي الدلالة أما غير الجمهور فالحكم عندهم على غير أفراد السبب ليس مدلولا عليه بالنص بل بالقياس أو الاستدلال بالكلمة المعروفة عند الأصوليين وكلاهما غير قطعي. 2 - أن أفراد غير السبب يتناولها الحكم عند الجمهور ما دام اللفظ قد تناولها، أما غير الجمهور فلا يسحبون الحكم إلا على ما استوفى شروط القياس دون سواه إن أخذوا فيه بالقياس. أدلة الجمهور استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بأدلة نكتفي منها بما يأتي: الدليل الأول: احتجاج الصحابة وغيرهم من الأئمة المجتهدين في جميع الأعصار في وقائع بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة، وهذا أمر شائع ذائع بينهم ولم يعرف عنهم أنهم لجأوا إلى قياس أو استدلال بغير لفظ الآيات، فدل ذلك على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومن ذلك احتجاجهم بآية السرقة في قطع يد كل سارق مع نزولها في حادثة خاصة وهي سرقة المجن أو رداء صفوان واحتجاجهم بآيات حد

القذف على حد كل قاذف مع أنها نزلت بسبب الذين رموا السيدة الحصان عائشة- رضي الله عنها- بالإفك؛ وكذلك بآيات اللعان وبآيات الظهار مع نزولها على أسباب خاصة على ما ذكرت لك آنفا وهكذا. ومما يدل على اعتبار الصحابة ومن بعدهم للعموم ما رواه ابن أبي حاتم بسنده عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ أخاص هو أم عام قال: عام. وروى البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن معقل بن مقرن التابعي الجليل قال: جلست إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد- يعني مسجد الكوفة كما في حديث آخر- فسألته عن الفدية- يعني في قوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فقال: نزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة (¬1). وروى ابن جرير بسنده عن أبي معشر نجيح (¬2) قال: سمعت سعيدا المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي فقال سعيد: إن في بعض كتب الله: إن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين يجترون الدنيا بالدين قال الله تعالى: أعليّ يجترئون وبي يغترون وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران، فقال محمد بن كعب القرظي: هذا في كتاب الله، فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله قال قول الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (¬3) (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها [البقرة: 204 - 205] الآية، فقال سعيد: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- كتاب المحصر- باب الإطعام في الفدية نصف صاع،: انظر رقم 4517. (¬2) نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني أبو معشر، وهو مولى بني هاشم مشهور بكنيته، ضعيف، من السادسة، أسن واختلط، مات سنة سبعين ومائة. (¬3) شديد الخصومة والعداوة للمسلمين.

أدلة غير الجمهور

فقد عرفت فيمن أنزلت فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد. قال ابن كثير (¬1): وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح. الدليل الثاني: قالوا لو لم تكن العبرة بعموم اللفظ للزم استعمال العام في الخاص، وفي هذا صرف له عما وضع له بغير قرينة مانعة من العموم، واللازم باطل فبطل ما أدى إليه، وثبت نقيضه وهو أن العبرة بعموم اللفظ. فإن قال قائل: إن خصوص السبب مانع من حمل اللفظ على العموم فهو قرينة صارفة. قلنا: إن خصوص السبب لا يستلزم إخراج غير السبب من متناول اللفظ فلا يصلح إذا أن يكون صارفا عن استعمال العام في معناه الموضوع له وهو أفراده التي منها صورة السبب وغيره. وبهذا ثبت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. أدلة غير الجمهور استدل غير الجمهور بأدلة نكتفي منها بما يأتي: الأول: قالوا لو كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لجاز إخراج صورة السبب بالتخصيص، لكن التالي باطل فبطل ما أدى إليه وثبت نقيضه وهو أن العبرة بخصوص السبب. أما وجه الملازمة فإن اللفظ العام يجوز إخراج أي صورة منه بالتخصيص فتكون صورة السبب كغيرها في جواز إخراجها من اللفظ العام، وأما وجه بطلان التالي فلأن الإجماع منعقد على عدم جواز إخراج صورة السبب من ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير والبغوي ج 1 ص 647 ط المنار، الإتقان ج 1 ص 29، وقد جاء نص هذا الأثر في الإتقان مصحفا ومحرفا وقد اعتمدت فيما نقلته على تفسيري ابن جرير وابن كثير وفي تفسير القرطبي أن هذا الأثر رواه الترمذي أيضا والمسوك جمع مسك بفتح الميم وهو الجلد.

اللفظ العام، وأجيب عن هذا الدليل بأن عدم جواز إخراج صورة السبب إنما جاء من دليل آخر وهو الإجماع لا من جهة كونه غير عام، ودليلهم إنما يتم لهم الاستدلال به لو أن عدم الجواز جاء من جهة كون اللفظ غير عام وليس الأمر كذلك وعلى هذا فالملازمة غير مسلمة، وباطلة وثبت أن هذا الدليل لا ينهض للاحتجاج به فلا تثبت به الدعوى. الثاني: قالوا لو كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لما كان لذكر السبب فائدة لكن التالي- وهو عدم الفائدة- باطل فبطل ما أدى إليه- وهو ما فرضناه من أن العبرة بعموم اللفظ- وثبت نقيضه وهو أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. وأجيب عن هذا بأننا لا نسلم لكم انتفاء الفائدة مطلقا، إذ لا يلزم من نفي الفائدة المعينة وهي تخصيص الحكم بالسبب نفي الفائدة المطلقة، بل هناك فوائد كثيرة غير هذه، وقد تعرضنا للكثير منها في صدر البحث وبهذا لا يصلح هذا الدليل للاحتجاج فلا تثبت به الدعوى. الثالث: قالوا لو كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لكان اللفظ الذي هو بمنزلة الجواب غير مطابق للسبب الذي هو بمنزلة السؤال، لكن عدم المطابقة باطلة؛ لأنه ينافي كون القرآن في أعلى درجات البلاغة، فبطل ما أدى إليه وثبت نقيضه وهو أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ وقد أجيب عن هذا بمنع الملازمة، وهي عدم المطابقة؛ إذ المطابقة حاصلة، وزيادة الجواب عن السؤال لا تخرجه عن المطابقة؛ لأنه اشتمل على المقصود وزاد عليه، ومثل هذا الأسلوب لا ضير فيه ولا يخل بالبلاغة بحال من الأحوال، وإنما يخل بها لو كان الجواب خاصّا والسؤال عامّا لعدم المطابقة حينئذ، وعلى هذا فلا يصح هذا الدليل فلا تثبت به دعواكم. وإذ قد بطلت أدلة غير الجمهور وبقيت أدلة الجمهور قوية سالمة من البطلان كان رأيهم هو المعول عليه.

مثال للفظ خاص نزل على سبب خاص

مثال للفظ خاص نزل على سبب خاص ما ذكرنا من خلاف بين الجمهور وغيرهم إنما هو في لفظ له عموم ونزل على سبب خاص أما إذا كانت آية نزلت بسبب خاص ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعا وقد مثل الإمام السيوطي في الإتقان (¬1) لذلك بقوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) [الليل: 17 - 18] فإنها نزلت في أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- بالإجماع (¬2) قال: وقد استدل بها الإمام فخر الدين الرازي مع قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ على أنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووهم من ظن أن الآية في كل من عمل عمله إجراء له على القاعدة وهذا غلط، فإن هذه الآية ليست فيها صيغة عموم إذ الألف واللام- يعني قوله «الأتقى» - إنما تفيد العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع، زاد قوم: أو مفرد بشرط أن لا يكون هناك عهد، واللام في «الأتقى» ليست موصولة، لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعا، والأتقى ليس جمعا بل هو مفرد، والعهد موجود خصوصا مع ما يفيده صيغة أفعل من التمييز وقطع المشاركة فبطل القول بالعموم، وتعين القطع بالخصوص والقصر على من نزلت فيه رضي الله عنه. وبعض المفسرين يرى احتمال الآية للعموم مع قولهم: إنها نزلت في الصديق رضي الله عنه فتكون له ولغيره ممن هو على شاكلته وفسروا الأتقى بالتقي كما فسروا «الأشقى» وهو أمية بن خلف بالشقي فتشمله وتشمل غيره ممن يعمل بمثل عمله، ومن هو على صفته واستدلوا لقولهم هذا بقول طرفة ابن العبد: تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 30. (¬2) الأكثرون من العلماء على هذا وقيل نزلت في أبي الدحداح- كما قال عطاء والسدي- ولا يأتي الإجماع إلا إذا أسقطنا من الاعتبار رأي المخالف.

شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام

أي واحد ووحيد، وتوضع أفعل موضع فعيل نحو قولهم: الله أكبر بمعنى كبير وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي هين (¬1) وممن يحمل الآية على العموم العلامة ابن كثير في تفسيره قال (¬2): وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- حتى أن بعضهم (¬3) حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ عموم وهو قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة؛ فإنه كان صديقا تقيّا كريما جوادا بذالا لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل. وأيّا ما كان المراد من لفظ الأتقى فالآيات نص في الدلالة على فضل الصديق الأكبر- رضي الله عنه وأرضاه-؛ لأن السبب يدخل في الآية دخولا أوليّا. شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام قد تنزل بعض الآيات على الأسباب الخاصة وتوضع مع ما يناسبها من الآي العامة رعاية لنظم القرآن وحسن السياق وتناسب الآيات فيكون ذلك الخاص قريبا من صورة السبب في كونه قطعي الدخول في العام، وقد اختار الإمام ابن السبكي في «جمع الجوامع» أنه رتبة متوسطة دون السبب وفوق التجرد، ومثاله قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي ج 20 ص 88، وقوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ في سورة الروم الآية: 37. (¬2) تفسير ابن كثير والبغوي ج 9 ص 226. (¬3) لعل مراده الإمام الرازي.

الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) [النساء: 51 - 52]. فقد نزلت هاتان الآيتان في كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود لما قدموا مكة بعد بدر (¬1) ليحرضوا قريشا على قتال النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بالثأر فنزل كعب بن الأشرف على أبي سفيان بن حرب فأحسن مثواه ونزل بقية اليهود دور قريش فقال سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم، أينا أهدى طريقا نحن أم محمد فقال كعب: اعرضوا عليّ دينكم. فذكر له أبو سفيان بعض فضائلهم فقال كعب أنتم- والله- أهدى سبيلا مما عليه محمد وأصحابه قال هذا مع علمه هو ومن معه من اليهود بما في كتابهم التوراة من نعت النبي الأمي العربي المبعوث في آخر الزمان، وأخذ المواثيق عليهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ولا يكتموا أوصافه، فكان هذا أمانة لازمة لهم وعليهم أن يؤدوها، وكان قول كعب بن الأشرف ومن وافقه خيانة لهذه الأمانة التي ائتمنوا عليها وأمروا بأدائها إذا حان وقتها، وقد وبخهم الله سبحانه وتعالى على خيانتهم هذه ولعنهم وتوعدهم عليها، وقد اقتضى هذا التوعد واللعن الأمر بمقابل خيانتهم، وهو أداء الأمانة الخاصة التي هي بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يجدون نعته عندهم مكتوبا في التوراة، ويعرفونه كما ¬

_ (¬1) هذا ما ذكره السيوطي في الإتقان وفي تفسير الجلالين وما ذكره الجلال المحلي في شرحه على جمع الجوامع. وفي تفاسير البغوي والقرطبي والآلوسي أن قدوم كعب وأصحابه كان بعد أحد والصحيح الأول فقد قتل كعب بن الأشرف قبل أحد على الصحيح «البداية والنهاية» (لابن كثير ج 4 ص 5 وما بعدها) نعم قد جاء في رواية أخرى أن الآيتين نزلتا في الوفد من اليهود الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله وذلك أنهم لما قدموا على قريش سألوهم هذا السؤال فأجابوهم بهذا الجواب ولم يكن في هؤلاء كعب قطعا فلعل من ذكر أن الآية نزلت بسبب الوفد الذين قدموا بعد أحد أراد هذه القصة ولكن وهم في ذكر كعب بن الأشرف في الوافدين.

يعرفون أبناءهم بل أشد، ثم جاء بعده الأمر بأداء الأمانات عامة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) [النساء: 58]. فكانت المناسبة رائعة حقّا، والاتصال وثيقا، والانتقال في غاية الحسن والجمال، إذ أن آية الأمانة عامة في كل أمانة، وما تقدم كان في أمانة خاصة، والعام تال للخاص في الرسم متراخ عنه في النزول، وهذه المناسبة تقتضي دخول ما دل عليه الخاص في العام دخولا أوليّا، فهو كسبب في كونه قطعي الدخول في اللفظ النازل بسببه ولا يجوز خروجه بالإجماع. وقد اعتبر الإمام ابن السبكي هذا النوع مرتبة متوسطة دون السبب وفوق التجرد؛ أما كونه دون السبب فلأن الأولى ليست سببا في الثانية اصطلاحا وأما كونه فوق التجرد فلهذه المناسبة القوية بين الخاص والعام ودخول الأول في الثاني. ولا يرد على ما ذكرناه تأخر الآية الثانية عن الأولى بنحو ست سنين؛ لأن الزمان إنما يشترط في سبب النزول لا في المناسبة؛ لأن المقصود منها وضع الآية في الموضع الذي يناسبها، والآيات كانت تنزل على أسبابها ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في المواضع التي علم من الله أنها مواضعها، وهذا الكلام الذي قاله ابن السبكي ونقله عنه السيوطي في الإتقان من الحسن بمكان، وقد نبه إلى هذه المناسبة البديعة بين الآيات الإمام القرطبي في تفسيره (¬1) حيث قال: وجه النظم بما تقدم أنه- تعالى- أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم وقولهم إن المشركين أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات. ... ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي ج 5 ص 257.

المبحث الخامس نزول القرآن على سبعة أحرف

المبحث الخامس نزول القرآن على سبعة أحرف هذا المبحث من المباحث التي تناولها العلماء في تآليفهم، بل وأفردها بعضهم بالتأليف. وقد اختلفت فيه آراؤهم وأنظارهم اختلافا كثيرا، وكثرت فيه الأقوال كثرة ظاهرة، حتى لقد بلغ بها «السيوطي» في الإتقان- نقلا عن ابن حبان، خمسة وثلاثين قولا. وليس من شك في أن هذا البحث شائك، ودحض مزلة (¬1)، والباحث فيه يحتاج إلى شيء غير قليل من البصر بموضع قدمه، ومن الأناة والصبر، ولا تعجب إذا خفي المراد على بعض العلماء فعد الحديث مشكلا، وتوقف عن بيان المراد منه، وبعضهم جعل حقيقة العدد غير مقصودة، وأن المراد التكثير من غير حصر، وأتى بعضهم بآراء ما أنزل الله بها من سلطان، ولكي نصل إلى بيان الحق والصواب، نرى لزاما علينا ذكر الروايات الثابتة في هذا المعنى بشيء من التفصيل كي تكون لنا نبراسا نهتدي على ضوئه لمعرفة المراد. الحديث متواتر: ويحسن أن ننبه قبل هذا التفصيل إلى أن حديث إنزال القرآن على سبعة أحرف، ورد من رواية جمع كثير من الصحابة، حتى نص الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام على تواتره، فقد رواه من الصحابة: (1) أبيّ ابن كعب، (2) وأنس بن مالك، (3) وحذيفة بن اليمان، (4) وزيد بن أرقم، (5) وسمرة بن جندب، (6) وسليمان بن صرد، (7) وابن عباس، (8) وابن مسعود، (9) وعبد الرحمن بن عوف، (10) وعثمان بن عفان، (11) ¬

_ (¬1) دحضت رجله زلقت، من باب قطع يقطع، ومزلة: بفتح الزاي وكسرها، أي مكان زلق وزل من باب ضرب يضرب، ويقال زل يزل- بفتح الزاي- زللا، فالكلمتان بمعنى، وذكر الثاني بعد الأول للتأكيد.

الروايات الواردة

وعمر بن الخطاب، (12) وعمر بن أبي سلمة، (13) وعمرو بن العاص، (14) ومعاذ بن جبل، (15) وهشام بن حكيم، (16) وأبو بكرة، (17) وأبو جهيم (¬1)، (18) وأبو سعيد الخدري، (19) وأبو طلحة الأنصاري، (20) وأبو هريرة، (21) وأم أيوب الأنصارية- امرأة أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنهم أجمعين-؛ فهؤلاء أحد وعشرون صحابيّا (¬2). وأخرج الحافظ «أبو يعلى» في مسنده: أن عثمان قال على المنبر: أذكر الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها كاف شاف» لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا، فشهدوا بذلك فقال: وأنا أشهد معكم. وهذا يدل على أن الحديث كان معروفا مشهورا غاية الشهرة في زمن الصحابة ولكن هل نقله عنهم في كل طبقة جماعة كثيرون ممن يثبت بهم التواتر هذا ما يحتاج إلى إثبات، وإلا فغاية أمره أنه مشهور. الروايات الواردة 1 - روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، بسنديهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف، فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» زاد مسلم في روايته، قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام (¬3)، يريد أن المعنى واحد، وإن اختلفت الألفاظ. ¬

_ (¬1) أبو جهيم بن الحارث بن الصمة ينتهي نسبه إلى مالك بن النجار، النجاري الأنصاري، قيل اسمه عبد الله، وقيل غير ذلك، وهو صاحب حديث: «لو يعلم المار بين يدي المصلي. قال الحافظ في الإصابة ج 4 ص 36: ولأبي جهيم حديث أخرجه أحمد والبغوي من طريق يزيد بن خصيفة عن مسلم بن سعد مولى الحضرمي عن أبي جهيم الأنصاري أن رجلين اختلفا في آية الحديد وفيه: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف». (¬2) الإتقان ج 1 ص 45، وفي بعض نسخ الإتقان المطبوعة «أبو أيوب» بدل «أم أيوب» وأغلب الظن أنه من الطباعة، وفي النشر لابن الجزري «أم أيوب». (¬3) فتح الباري ج 9 ص 19، صحيح مسلم بشرح النووي ج 6 ص 101.

2 - روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، بسنديهما عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن ابن عبد القاري (¬1) أخبراه: أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم (¬2) يقرأ سورة «الفرقان» في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته؛ فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله؛ فكدت أساوره (¬3) في الصلاة فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: كذبت (¬4)؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به، أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله، اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت»، ثم قال: اقرأ يا عمر؛ فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت؛ إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه» (¬5). 3 - وروى مسلم في صحيحه بسنده عن أبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة (¬6) بني غفار، قال: فأتاه جبريل- عليه السلام- فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وأن أمتي لا تطيق ذلك»، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ ¬

_ (¬1) نسبة إلى القارة، بطن من خزيمة بن مدركة. (¬2) ابن حزام الأسدي على الصحيح، أسلم يوم الفتح هو وأبوه، وكان لهشام فضل، ومات قبل أبيه، وليس له في البخاري رواية، وأخرج له مسلم حديثا واحدا مرفوعا من رواية عروة عنه، وهذا يدل على أنه تأخر إلى خلافة عثمان وعليّ. (¬3) أواثبه وأمسك به في الصلاة. (¬4) أي أخطأت بلغة الحجاز، أو بنى ذلك على غلبة ظنه واعتقاده. (¬5) فتح الباري ج 9 ص 19 - 20، مسلم بشرح النووي ج 6 ص 99 وما بعدها. (¬6) أضاة- بفتح الهمزة، وبضاد معجمة: الماء المستنقع كالغدير؛ وجمعه أضا كحصاة وحصا، وإضاء كأكمة وإكام، وكانت بموضع من المدينة النبوية ينسب إلى بني غفار، لأنهم نزلوا عنده.

أمتك القرآن على حرفين، فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته وأن أمتي لا تطيق ذلك»، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وأن أمتي لا تطيق ذلك»، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف؛ فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا. 4 - وروى مسلم بسنده، عن أبي بن كعب قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه؛ ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرءا، فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما؛ فسقط في نفسي من التكذيب (¬1) ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله- عز وجل- فرقا فقال لي: «يا أبيّ، أرسل إليّ: أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه: أن هون على أمتي»، فرد إليّ الثانية: اقرأه على حرفين؛ فرددت إليه: «أن هون على أمتي»، فرد إليّ الثالثة (¬2): اقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ¬

_ (¬1) يعني أن الشيطان وسوس له من التشكك في النبوة ما أوقعه في حيرة ودهشة، وشوش عليه أمره، وعظم عليه ما ليس عظيما في الواقع ونفس الأمر، إلا أن هذه الوسوسة لم تعد أن تكون خاطرا من الخواطر التي لا يؤاخذ عليها الإنسان، ونزغة شيطانية غير مستقرة لم تلبث أن زالت حين ضرب النبي في صدره فتبخر من قلبه ما حاك فيه من شك وتردد فانشرح صدره، وثبت قلبه على الحق واليقين، وإنما فاض عرقا استحياء من ربه لما تمثل له هذا الخاطر الذي لا يليق بمثله، ومثل هذه الخواطر والنزغات غير المستقرة لا تخل بإيمان أو عقيدة، بل هي أمارة من أمارات قوة الإيمان، وفي صحيح مسلم: أن الصحابة قالوا للنبي: وإنا لنجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «أوجدتموه» قالوا: نعم، قال: «ذلك صريح الإيمان». (¬2) المراد بالثالثة الأخيرة، وهي الرابعة فسماها الثالثة مجازا، بدليل الرواية السابقة، أو يكون أسقط من هذه الرواية بعض المرات فجاءت الرابعة في العد الثالثة، هكذا قال العلماء. والذي يظهر لي- والله أعلم- أنها قصتان متغايرتان، وأن جبريل مرة قال ذلك في المرة الثالثة، ومرة أخرى ذكر السبعة الأحرف في الرابعة، ولعل مما يدل على

ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم- صلى الله عليه وسلم. وقد بين الطبري في روايته: أن المقروء كان من سورة «النحل». 5 - وروى البخاري في صحيحه (¬1) بسنده عن النّزّال بن سبرة عن عبد الله ابن مسعود: «أنه سمع رجلا يقرأ آية، سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كلاكما محسن، فاقرءا». قال شعبة- راوي الحديث-: أكبر علمي قال: «فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكوا». وقد روى هذا الحديث بأوسع من هذا اللفظ ابن حبان والحاكم، وفيه: وإن هذه الآية من سورة من ال «حم» وفي المبهمات للخطيب أنها «الأحقاف» (¬2). 6 - وروى الترمذي بسنده عن أبيّ بن كعب قال: «لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: «يا جبريل؛ إني بعثت إلى أمة أمية، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام والجارية، والرجل الذي لا يقرأ كتابا قط»، فقال لي: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف» قال: هذا حديث صحيح. 7 - وروى أحمد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو: أن رجلا قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فأي ذلك قرأتم ¬

_ أنهما قصتان لا قصة واحدة تغاير السياقين في الحديثين؛ ففي الأول: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، وفي الثانية: أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف، والظاهر أيضا أن تكون قصة أضاة بني غفار بعد هذه، ولذلك حصل لسيدنا أبيّ شك في هذه ولم يحصل في تلك. (¬1) صحيح البخاري- كتاب الخصومات- باب ما يذكر في الإشخاص، وكتاب فضائل القرآن- باب اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم. (¬2) فتح الباري ج 9 ص 83 - 84.

ما يستخلص من الروايات

أصبتم، فلا تماروا فيه» (¬1) إسناده حسن. 8 - وروى النسائي، وابن جرير الطبري- واللفظ له- بسنديهما عن أبيّ ابن كعب، وفي حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن جبريل وميكائيل- عليهما السلام- أتياني فقعد جبريل عن يميني، وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف واحد، وقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف وكل شاف كاف» (¬2)، وفي رواية لأبي بكرة: «فنظرت إلى ميكائيل فسكت، فعلمت أنه قد انتهت العدة» (¬3). 9 - وروى أحمد والطبراني، من حديث أبي بكرة قال: «يا محمد، اقرأ القرآن على حرف، قال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف، قال: كل شاف ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو رحمة بعذاب، نحو قولك: تعال وأقبل، وهلم، واذهب، وأسرع، وعجل». قال السيوطي: هذا اللفظ رواية أحمد، وإسناده جيد، وأخرج أحمد والطبراني أيضا، عن ابن مسعود نحوه، وروى الطبراني عن أبي بكرة نحوه مقتصرا على قوله: «هلم، وتعال»، وبحسبنا هذا القدر في هذا المقام. ما يستخلص من الروايات نستخلص من الروايات السابقة الأصول الآتية: [التيسير على الامة] 1 - لو نزل القرآن على حرف واحد لشق ذلك على الأمة العربية؛ فقد كانت متعددة اللغات واللهجات، وما يتسهل النطق به على البعض لا يسهل على البعض الآخر، وكانت تغلب عليها الأمية، فلا عجب أن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الاستزادة من الحروف حتى بلغت سبعة أحرف، يدل على هذا قوله- في حديث أبيّ-: ثلاث مرات «أسأل الله معافاته ومغفرته، وأن أمتي ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 9 ص 21. (¬2) تفسير الطبري ج 1 ص 12. (¬3) الإتقان ج 1 ص 46.

التوسعة فى الالفاظ لا فى المعانى

لا تطيق ذلك»، وقوله- في حديث الترمذي-: «إني بعثت إلى أمة أمية ... » الحديث. فكان من رحمة الله بهذه الأمة أن أنزل القرآن على سبعة أحرف، رفعا للحرج، وتيسيرا لقراءته وحفظه، وفهمه وتدبره. [التوسعة فى الالفاظ لا فى المعانى] 2 - أن هذه التوسعة إنما كانت في الألفاظ، ولم تكن في المعاني والأحكام وأنها كانت في المعنى الواحد يقرأ بألفاظ مختلفة؛ بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ كلّا من المختلفين على قراءته، بل واستحسان قراءة كل بقوله «كلاكما محسن». وغير معقول أن يكون اختلافهم في المعاني والأحكام، ثم يوافق النبي كلا على قراءته ويستحسنها. [التوسعة فى حدود المنزل من الله لا بالهوى والتشهى] 3 - أن هذه التوسعة والإباحة في القراءة بأي حرف من الحروف السبعة إنما كانت في حدود ما نزل به «جبريل»، وما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بدليل أن كلّا من المختلفين كان يقول: أقرأنيها رسول الله، وأن النبي كان يعقب على قراءة كل من المختلفين بقوله: «هكذا أنزلت» كما في حديث «عمر وهشام» وما يفيده لفظ الإنزال الذي جاءت به جميع روايات الحديث، وليس ذلك إلا التوقيف بالسماع من الرسول، وسماع الرسول من جبريل. ولا يتوهمن متوهم أن التوسعة إنما كانت باتباع الهوى والتشهي، فذلك ما لا يليق أن يفهمه عاقل، فضلا عن مسلم؛ إذ الروايات الواردة ترده وتبطله، ولو كان لكل أحد أن يقرأ بما يتسهل له من غير تلق وسماع من النبي صلى الله عليه وسلم وأن يبدل ذلك من تلقاء نفسه لذهب إعجاز القرآن، ولكان عرضة أن يبدله كل من أراد حتى يصير غير الذي نزل من عند الله، ولما تحقق وعد الله سبحانه بحفظه في قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) واللوازم كلها باطلة، فبطل ما أدى إليها، وثبت نقيضه وهو أن التوسعة كانت في حدود ما أنزل الله.

4 - أن الأمة كانت مخيرة في القراءة بأي حرف منها

وكيف يتفق هذا الوهم الباطل، وقول الحق تبارك وتعالى: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) [سورة يونس: 15 - 16]. 4 - أن الأمة كانت مخيرة في القراءة بأي حرف منها من غير إلزام بواحد منها، وأن من قرأ بأي حرف منها فقد أصاب، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث «عمر»: «فاقرءوا ما تيسر منه»، وقول جبريل- عليه السلام- في حديث المراجعة: فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا. وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أقر كلّا من المختلفين على قراءته، ولم يرجح قراءة واحد على الآخر، بل استحسن قراءة كل. [التوسعة كانت بعد الهجرة] 5 - أن التوسعة على الأمة لم تكن في مبدأ الدعوة، بل كانت بعد الهجرة وبعد أن دخل في الإسلام كثير من القبائل غير قريش، فكانت الحاجة ماسة إلى هذا التسهيل، وتلك التوسعة، يشهد لهذا حديث مسلم: «أن النبي كان عند أضاة بني غفار ... » الحديث وهي بالمدينة النبوية، كما ذكرنا آنفا (¬1). 6 - أن هذه التوسعة مظهر من مظاهر الرحمة والنعمة، فلا ينبغي أن تكون مصدر اختلاف ونقمة: أو أن تكون مثيرة للشك، أو مضعفة لليقين، فقد حذرهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من الاختلاف، كما في حديث «ابن مسعود»، ومن الشك في القرآن كما في حديث عمرو ابن العاص فلا تماروا فيه، وفي رواية لابن جرير الطبري، من حديث أبي جهيم «فلا تماروا في القرآن؛ فإن المراء فيه كفر». 7 - حرص الصحابة- رضوان الله عليهم- البالغ على القرآن الكريم، وغاية تحوطهم في المحافظة عليه، ونفي الريب والتغيير والتبديل عنه؛ ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 9 ص 23.

الأقوال في المراد من الأحرف السبعة

وبحسبك شاهدا على هذا ما كان من الفاروق «عمر» - رضي الله عنه- مع هشام بن حكيم حتى هم أن يأخذ بتلابيبه وهو في الصلاة، وما كان من «أبي» و «ابن مسعود»، و «عمرو بن العاص» مع غيرهم، وأن الصحابة إنما اختلفوا وتنازعوا في قراءة بعض الألفاظ، ورفعوا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلموا: أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلما علموا بهذه الحقيقة اطمأنوا، وقطع بينهم دابر الشقاق والمراء. الأقوال في المراد من الأحرف السبعة اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة، وقد أوصلها «ابن حبان» إلى خمسة وثلاثين قولا، ونقلها عنه «السيوطي» في الإتقان، وسنذكر أشهر هذه الأقوال وأهمها، ونناقش كل قول مناقشة موضوعية خالية من التعصب لقول، أو التحيف على آخر، على ضوء ما قدمنا من روايات، وما استنتجناه من أصول، ومن غير نظر إلى قائله ومنزلته، والحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق، ومن الله نستمد التوفيق والعصمة من الزلل. القول الأول إن الحديث من المشكل الذي لا يدرى معناه؛ لأن الحرف يصدق في لغة على حرف الهجاء، وعلى الكلمة، وعلى المعنى، وعلى الجهة، فهو مشترك لفظي لا يدرى أي معانيه هو المراد. وهذا القول نسب إلى «أبي جعفر محمد بن سعدان النحوي» ونحا نحوه الحافظ السيوطي في شرحه (¬1) على سنن النسائي حيث قال- بعد ذكر الحديث-: في المراد به أكثر من ثلاثين قولا، حكيتها في الإتقان، والمختار عندي: أنه من المتشابه الذي لا يدرى تأويله. وهذا الرأي بمعزل عن التحقيق؛ فإن مجرد كون اللفظ مشتركا لفظيّا لا يلزم منه الإشكال ولا التوقف، وإنما يكون ذلك لو لم تقم قرينة تعين بعض ¬

_ (¬1) أما في الإتقان فقد نقل الأقوال وجعل همه السرد ولم يتعرض للترجيح ولا للاختيار.

القول الثاني

المعاني، أو ترجح بعضها على بعض، وهنا قامت القرينة التي تعين المراد؛ إذ لا يصح إرادة حرف الهجاء؛ لأنه مركب من جميع حروف الهجاء، ولا يصح إرادة الكلمات لأن كلماته تعد بالألوف، ولا يصح إرادة المعنى، لأن معانيه تزيد عن سبعة فتعين أن يكون المراد: الجهة، والجهة تأتي بمعنى الوجه (¬1)، ويشهد لهذا الاستعمال: مجيء الحرف بمعنى الوجه قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فقد قال بعض المفسرين فيه: على ضعف من العبادة، أو على وجه واحد: وهو أن يعبده على السراء دون الضراء، كما في تفسير القرطبي. وإذا كان معنى الحرف غير مشكل فليبحث عن المراد منه في حدود المنقول والمعقول. القول الثاني وهو أنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتوسعة، ولفظة «السبعة» يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين. وهذا الرأي أيضا بعيد من الصواب؛ إذ لا تشهد له رواية من الروايات التي أسلفناها، ويرده ما ورد في حديث الصحيحين: «فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف». وحديث النسائي وفيه: فقال ميكائيل: «استزده حتى بلغ سبعة أحرف» وفي حديث أبي بكرة: «فنظرت إلى ميكائيل فسكت، فعلمت أنه قد انتهت العدة» فهذه الروايات صريحة في أن المراد الحقيقة وانحصار الحروف في سبعة. ¬

_ (¬1) قال في القاموس: والجهة بالكسر والضم الناحية كالوجه والوجهة بالكسر، وقال في المصباح المنير: والوجهة بالكسر- قيل: مثل الوجه، وقيل: كل مكان استقبلته، وتحذف الواو فيقال: جهة مثل عدة، ثم قال: وقوله تعالى: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي جهته التي أمركم بها.

القول الثالث

القول الثالث أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، وإن شئت فقل: سبع لغات من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة، تختلف فيها الألفاظ والمباني مع اتفاق المعاني، أو تقاربها، وعدم اختلافها وتناقضها، وذلك مثل: هلم، وأقبل، وتعال، وإليّ، ونحوي، وقصدي، وقربي، فإن هذه ألفاظ سبعة مختلفة يعبر بها عن معنى واحد، وهو طلب الإقبال. وليس معنى هذا أن كل كلمة كانت تقرأ بسبعة ألفاظ من سبع لغات، بل المراد: أن غاية ما ينتهي إليه الاختلاف في تأدية المعنى هو سبع، فالمعنى الذي تتفق فيه اللغات في التعبير عنه بلفظ واحد يعبر عنه بهذا اللفظ فحسب، والذي يختلف التعبير عنه بلفظين، وتدعو الضرورة إلى التوسعة يعبر عنه بلفظين، وهكذا إلى سبع. ومن أمثلة ذلك من القرآن قوله تعالى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 29] وقد قرأ ابن مسعود: إلا زقية واحدة. وقوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قد قرأ عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: فامضوا إلى ذكر الله (¬1)، ومثل ما روى ورقاء عن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب: أنه كان يقرأ: لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا، «للذين آمنوا أمهلونا»، «للذين آمنوا أخّرونا»، «للذين آمنوا ارقبونا»؛ وبهذا الإسناد عن أبي أنه كان يقرأ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، «سعوا فيه» (¬2). ولا يقال: إن بعض هذه الحروف لا يقرأ بها اليوم؛ لأنا نقول: إن هذا هو معنى الأحرف السبعة، ونحن لا ندعي بقاءها كلها إلى اليوم كما ستعلم عن قريب. ¬

_ (¬1) مقدمتان في علوم القرآن: ص 222. (¬2) تفسير القرطبي ج 1 ص 42.

وهذا الرأي يتفق هو والروايات السابقة الدالة على اختلاف الصحابة في كلمات من القرآن، وتنازعهم، ورفع الأمر إلى رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- ثم إقرار الرسول كلا على قراءته، ويوافق الأصول التي استنتجناها من هذه الروايات؛ فالغرض من النزول على سبعة أحرف التيسير، ورفع الحرج عن الأمة بالتوسعة في الألفاظ ما دام المعنى واحدا، فقد كانوا أمة أمية، وكانت لغاتهم متعددة، وكان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وتغيير للعادة، فمن ثم جعل الله لهم متسعا في اللغات بقراءة المعنى الواحد بألفاظ مختلفة. وقد استمر الأمر على هذا حتى كثر فيهم من يقرأ ويكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لسان قريش، ولا سيما بعد أن صارت لقريش السيادة الدينية والدنيوية معا، وقدروا على النطق بلغة قريش، التي هي أعذب اللغات وأسهلها وأطوعها للألسنة؛ فلم يسعهم أن يقرءوا بخلافها، ولا سيما وقد زالت الضرورة وأصبحت التوسعة في القراءة بالأحرف السبعة مثار اختلاف وتنازع، فقد حدث في عهد الخليفة الثالث «عثمان» - رضي الله عنه- أن اجتمع أهل الشام مع أهل العراق في غزوة «أرمينية» وكانت قراءاتهم مختلفة، فصار يخطّئ بعضهم بعضا، ويقول كل منهم: حرفي الذي أقرأ به خير من حرفك، فجاء حذيفة بن اليمان إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك المسلمين قبل أن يختلفوا في كتابهم اختلاف اليهود والنصارى، وحدث أيضا: أن كان المعلم يعلم قراءة الرجل، والآخر يعلم قراءة رجل آخر، فصار الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع هذا الخلاف إلى المعلمين، وكاد أن يكفر بعضهم بعضا، فقال عثمان: أأنتم عندي تختلفون فمن نأى من الأمصار كان أشد اختلافا، فرأى الخليفة الراشد عثمان- ونعم ما رأى- على ملأ من الصحابة، ومشورة من أهل الرأي منهم أن يجمع الناس على حرف واحد، حتى تضيق

الشبهة الأولى

شقة الخلاف، ويقل التنازع فجمع المصحف، وكتبه على حرف واحد وهو حرف قريش، ونسخ منه نسخا أرسل بها إلى الأمصار، وحرق ما عدا هذا المصحف الذي أمر بجمعه، وعزم على كل من كان عنده مصحف يغاير المصاحف العثمانية أن يحرقه، فاستوثقت له الأمة بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فالتزمت القراءة بحرف قريش؛ وتركت القراءة بالأحرف الستة الباقية، التي عزم عليها إمامها العادل الراشد أن تتركها امتثالا لأمر الإسلام، في طاعة أولي الأمر، ورعاية منهم لمصلحتهم ومصلحة الأمة ممن يأتي بعدهم حتى درست معرفة هذه الأحرف الستة من الأمة وتعفت آثارها فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها، لدثورها، وعفاء آثارها، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منهم لصحتها وصحة شيء منها، فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الباقية (¬1). وإلى هذا الرأي ذهب الجماهير من سلف الأمة وخلفها فذهب إليه الأئمة سفيان بن عيينة، وابن جرير الطبري، ودافع عنه دفاعا حارّا في مقدمة تفسيره والطحاوي، وابن وهب، وخلائق كثيرون، واختاره القرطبي، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء، وهذا الرأي هو الذي أختاره وأميل إليه. ولكي يخلص لنا هذا الرأي ممحصا مصفى، سنذكر بعض التوضيحات له، والشبه التي أثيرت حوله، ونجيب عليها، حتى يتبين لنا أنه الرأي المروي والمختار (¬2). الشبهة الأولى: إن قال قائل: في أي موضوع من القرآن نجد حرفا واحدا مقروءا بسبع ¬

_ (¬1) تفسير الطبري ج 1 ص 20 - 22. (¬2) اعتمدت في هذا غالبا على ما ذكره العلامة ابن جرير في تفسيره، مع التلخيص والتوضيح.

الشبهة الثانية

لغات مختلفات الألفاظ، متفقات المعاني، حتى يصح لنا أن نفسر الحروف السبعة بوجوه ولغات سبع والجواب: أننا لم ندع أن ذلك موجود اليوم، وإنما قلنا: هذا هو معنى الحديث، ثم جدّت ظروف وضرورات اضطرت الأمة بسببها أن تقتصر على حرف واحد منها، وهو حرف قريش. وإنما لم أقل في الجواب إن في القرآن ما يقرأ على سبعة أوجه مثل: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ، فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ و «جبريل»، لأن الاختلاف في هذه اختلاف قراءات: وهو أداء اللفظ الواحد بطرق مختلفة الأداء، وليس اختلاف حروف، أي ألفاظ وكلمات على ما بينا في المذهب المختار، والقراءات الثابتة على اختلافها وتنوعها ترجع إلى حرف واحد، وهو حرف قريش، الذي جمع عثمان عليه المصاحف. الشبهة الثانية: إن قيل: أين ذهبت الأحرف الستة الباقية مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها، وأمرهم بقراءتها، وأنزلهن الله من عنده على نبيّه أنسخت هذه الأحرف الستة الباقية فرفعت وإذا كان، فما الدليل على نسخها ورفعها والجواب: أن الأحرف الستة الباقية لم تنسخ ولم ترفع، ولم تضيعها الأمة وإنما الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخيرت في حفظه وقراءته بأي تلك الأحرف السبعة شاءت، كما أمرت إذا حنثت في يمين وهي موسرة: أن تكفر بأي الكفارات الثلاث شاءت: إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة، فلو أجمعت الأمة جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث، دون حظر ما عداها كانت مصيبة؛ مؤدية في ذلك الواجب عليها من حق الله، ووصفت بأنها مطيعة لا عاصية فكذلك الأمة أمرت بحفظ القرآن وقراءته، وخيرت في قراءاته بأي الأحرف السبعة شاءت، فرأت لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد- قراءته بحرف واحد، وترك ما عداه.

الشبهة الثالثة

فإن قيل، فما العلة قلنا: هي ما قدمنا من أن الأحرف السبعة، التي جعلت للتيسير، ورفع الحرج أضحت سببا للنزاع والاختلاف، بل والتكفير على نحو ما قلنا آنفا. الشبهة الثالثة: إن قيل: كيف يلتئم هذا الرأي الذي اخترتموه في تأويل الحديث مع ما أثر عن عثمان- رضي الله عنه- أنه قال للرهط القرشيين الذين كانوا مع «زيد بن ثابت» في نسخ المصاحف: «ما اختلفتم فيه- أنتم وزيد- فاكتبوه بلسان قريش! فإنما نزل بلسانهم». قلنا في الجواب: إن قول عثمان محمول على ابتداء نزوله، وهو الحرف الأول الذي نزل به جبريل، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة عليه؛ فقد نزل جبريل بهذا الحرف أولا، ثم كان يأتي بالحروف في عرضاته القرآن مع النبي كل عام في رمضان، فكان ينزل الله- سبحانه- في هذه العرضات ما شاء أن ينزل من ألفاظ اللغات الأخرى، التي تدعو إليها الحاجة، ثم كان أن استقر الأمر آخرا بعد زوال الضرورة على هذا الحرف، وهو لغة قريش. أو يكون مراد عثمان: أن معظمه وأكثره نزل بلغة قريش. نقل الإمام «أبو شامة» عن بعض الشيوخ أنه قال: «أنزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها، على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغة إلى أخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل فهم المراد، كل ذلك مع اتفاق المعنى، وعلى هذا يتنزل اختلافهم في القراءة كما تقدم، وتصويب رسول الله كلا منهم». قال الحافظ «ابن حجر» معلقا: وتتمة ذلك أن يقال: إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، أي أن كل واحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته، بل المراعى في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم ويشير إلى ذلك قول كل

الشبهة الرابعة

من عمر وهشام في حديث الباب: أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). الشبهة الرابعة: قالوا: لو كانت الحروف السبعة هي لغات سبع من لغات العرب المشهورة، فكيف اختلفت قراءة عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم- رضي الله عنهما- وهما قرشيان، ولغتهما واحدة والجواب: أن العبرة في القراءة بالحروف هو السماع من النبي صلى الله عليه وسلم لا أن يقرأ كل واحد بهواه، على حسب ما يتسهل له من لغته، وإنكار بعضهم على الآخر لم تكن لأن المنكر سمع ما ليس من لغته فأنكره، وإنما كان لأنه سمع خلاف ما أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم وجائز جدّا، أن يكون أحدهما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم حروفا بغير لغة قريش فحفظها، وسمع الآخر حروفا بلغة قريش فحفظها، وثبت كل واحد منهما على ما سمع من النبي، فمن ثم اختلفا مع كونهما قرشيين، وكون بعض الناس يعرف غير لغته الأصلية، ويتسهل له، وينطق بها كما ينطق بها أهلها أمر مشاهد معروف، وهل قال أحد: إن كل واحد من العرب كان يلتزم القراءة بلغته دون غيرها حتى يستشكل ذلك ولو كان الأمر كذلك لقال عمر لهشام: لقد قرأت بغير لغة قومك، ولكنه لم يحدث، وإنما أنكر عليه حروفا لم يقرئه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم. الشبهة الخامسة: كيف تقولون: إن الحرف الذي استقر عليه الأمر آخرا هو حرف قريش مع أن في القرآن كثيرا من الكلمات بغير لغة قريش مثل: الْأَرائِكِ فقد قيل: إنها بلغة اليمن. ومثل: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أي: أفلم يعلموا بلغة هوازن، ومُراغَماً أي متفسحا بلغة هذيل إلى غير ذلك من الكلمات. ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 9 ص 22.

الشبهة السادسة

وقد ذكر السيوطي في الإتقان في النوع السادس والثلاثين الكثير من ذلك (¬1). والجواب عن هذا: أ) أن ما ورد من هذه الألفاظ، وإن كانت في الأصل من غير لغة قريش لكن قريشا أخذتها واستعملتها حتى صارت قرشية بالاستعمال، ومعروف أن مركز قريش هيأ لها أن تأخذ من اللغات الأخرى أعذبها وأسلسها. ب) أن هذه الكلمات التي ذكرتموها مما توافقت فيه لغة قريش وغيرها إلا أنها عند غير قريش أشهر وأعرف، وتوافق اللغات في بعض الكلمات أمر غير مستنكر ولا مستغرب. وأيا كان الحال فوجود هذه الكلمات في القرآن لا ينافي كون القرآن بلغة قريش. ومثل هذه الكلمات التي جاءت في القرآن، وقيل إنها غير عربية في الأصل كالمشكاة والقسطاس، وإستبرق ونحوها، فإنها إمّا صارت عربية بالاستعمال أو أنها مما توافقت فيها لغة العرب وغيرهم، ولم يطعن وجودها في كون القرآن عربيّا مبينا. الشبهة السادسة: إن قيل: ما هي اللغات السبعة التي نزل بها القرآن ومن أي ألسن العرب كانت قلنا: لا حاجة بنا اليوم إلى معرفة الألسن الستة الأخرى، ولا إلى القراءة بها بعد أن اندرست وعفت آثارها، وبحسبنا هذا اللسان الباقي وهو لغة قريش وقد قيل: إن خمسة منها بلسان العجر من هوازن، واثنين لقريش وخزاعة، روي ذلك عن ابن عباس؛ إلا أنه لا يصح عنه (¬2). ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 133 - 135. (¬2) تفسير الطبري ج 1 ص 23.

منزلة اللغة القرشية بين لغات العرب

وكل ما قيل في تعيين اللغات السبع لم يثبت بطريق صحيح. وقد اختلف في تعيينها اختلافا كثيرا، ومن أراد معرفة ذلك فليرجع إلى الإتقان (¬1). والذي نراه: أنه كان نزل على سبع لغات من لغات العرب المشهورة وأفصحها وليس في البحث عن تحديدها كبير غناء ما دام أن الحرف الباقي وهو حرف قريش أفصحها وأعذبها وأسلسها، وما دامت الأحرف الأخرى قد اندرست، ولم يبق منها شيء. منزلة اللغة القرشية بين لغات العرب ولكي تزداد يقينا بأن قريشا أفصح العرب، ولسانهم أفصح الألسنة وأعذبها ننقل لك بعض ما قاله الأئمة في هذا المقام: قال ابن فارس في فقه اللغة، عن إسماعيل بن أبي عبيد الله، قال (¬2): أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالّهم أن قريشا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم نبي الرحمة محمدا صلى الله عليه وسلم فجعل قريشا قطان حرمه، وولاة بيته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش تعلمهم مناسكهم، وتحكم بينهم، ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم وتسميتها أهل الله؛ لأنهم الصريح من ولد إسماعيل- عليه السلام- لم تشبهم شائبة، ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضيلة من الله- جل ثناؤه- لهم وتشريفا، إذ جعلهم رهط بيته الأدنين، وعترته الصالحين. وكانت قريش مع فصاحتها، وحسن لغاتها، ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 47 - 49. (¬2) التبيان ص 52.

كلامهم فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب، ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولا عجرفة قيس ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة (¬1) ولا الكسر تسمعه من أسد وقيس، مثل «تعلمون» - بكسر التاء- و «ونعلم» - بكسر النون- ومثل «شعير وبعير» - بكسر الأول منهما. وقال الفراء: كانت العرب تحضر الموسم في كل عام؛ وتحج البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات العرب، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ. وقال أبو نصر الفارابي، في أول كتابه المسمى «الألفاظ والحروف»: كانت قريش أجود العرب انتقاء للأفصح وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعا، وأبينها إبانة عما في النفس، والذين عنهم نقلت العربية، وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه وعليهم اتكل في الغريب، وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة: فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم؛ فإنه لم يؤخذ لا من لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد، لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا ¬

_ (¬1) عنعنة تميم إبدالهم العين من الهمزة، والعجرفة جفوة في الكلام والكشكشة إبدال الشين من كاف الخطاب للمؤنث كعليش في «عليك»، والكسكسة إلحاقهم بكاف المؤنث سينا عند الوقوف يقولون في بك «بكس».

القول الرابع

من بكر؛ لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد قيس، وأزد عمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة ولا من بني حنيفة، وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب- قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم. والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء، وأثبتها في كتاب فصيرها علما وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب (¬1). القول الرابع إن الأحرف السبعة هي لغات سبع متفرقة في القرآن كله، وهذه السبع قيل: إنها من لغات العرب كلها، وقيل: من لغات مضر. وليس معنى هذا القول: أن يكون في المعنى الواحد سبع لغات بألفاظ مختلفة كالرأي السابق، بل هذه اللغات متفرقة في القرآن كله، فبعضه بلغة وبعضه بلغة أخرى، وهكذا ... إلى سبع، فيكون المنزل لفظا واحدا لمعنى واحد من لغات متفرقة، وقد استند القائلون بهذا الرأي إلى ما يأتي: 1 - وجود ألفاظ في القرآن المقروء اليوم بغير لغة قريش. 2 - ما روي عن ابن عباس وعمر- رضي الله عنهما- من عدم فهمهما لبعض الكلمات القرآنية، فقد خفي على ابن عباس معنى قوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأتها، فعلم معناها وكذلك خفي عليه معنى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ حتى سمع بنت ذي يزن تقول: تعالى أفاتحك، تريد أقاضيك وأخاصمك فعلم معناها، وكذلك خفي على الفاروق معنى تَخَوُّفٍ في قوله: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ والمراد ب «الأب» ¬

_ (¬1) التبيان ص 53.

في قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مع أنهما قرشيان، فدل ذلك على أن القرآن فيه ألفاظ بغير لغة قريش. وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام وثعلب، وأبو حاتم السجستاني واختاره ابن عطية (¬1) وقال الأزهري في «التهذيب»: إنه المختار، وقد ذكر «السيوطي» أن الزهري ممن قال بهذا: وهو غير صحيح، فظاهر مقالة الزهري المروية في صحيح مسلم تشهد لاختياره للقول السابق الذي رجحناه (¬2)، قال الإمام النووي أثناء ذكره لأقوال العلماء في السبعة الأحرف: وقال آخرون: هي الألفاظ والحروف، وإليه أشار ابن شهاب بما رواه عنه مسلم في الكتاب. وإليك ما قال أبو عبيد في تحرير هذا القول: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات، بل اللغات السبع متفرقة فيه، فبعض بلغة قريش، وبعض بلغة هذيل، وبعض بلغة هوازن، وبعض بلغة اليمن وغيرهم، وبعض اللغات أسعد به من بعض، وأكثر نصيبا. وبهذا التحرير يتبين لنا فرق ما بين هذا القول والقول السابق. وقد اختلف القائلون بهذا في بيان اللغات السبع، فقيل: إنها متخيرة من لغات أحياء العرب كلها، وقيل: كانت في (مضر) خاصة، وقيل: في قريش، قال الحافظ في الفتح: قيل: نزل بلغة مضر خاصة، لقول عمر: نزل القرآن بلغة مضر، وعين بعضهم- فيما حكاه ابن عبد البر- السبع من مضر، إنهم: هذيل، وكنانة، وقيس، وضبة، وتيم الرباب، وأسد بن خزيمة، وقريش، فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات. وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش، وهذيل، وتيم الرباب والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر. واستنكره ابن قتيبة واحتج بقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ¬

_ (¬1) الفتح ج 9 ص 22. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي ج 6 ص 99، 101.

فعلى هذا تكون اللغات السبع في بطون قريش وبذلك جزم أبو علي الأهوازي. وهكذا نرى أن بعض العلماء يرى أن اللغات السبع في العرب كلها، وقيل: في مضر، وقيل: في قريش، وأنهم اختلفوا في تعيين السبعة، مما يدل على أنه ليس في هذا نقل صحيح تطمئن إليه النفس وما احتج به «ابن قتيبة» لقوله غير مسلم؛ فقومه هم العرب لا قريش خاصة والله قال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ولم يقل: قرشيّا. وهذا القول- الرابع- مردود بما يأتي: 1 - أن هذا القول بعيد غاية البعد عن الروايات التي ذكرناها في صدر البحث، كما أنه لا يتفق هو والأصول التي استنتجناها منها، لأنه يقتضي أن القرآن أبعاض؛ كل بعض بلغة وهذا لا يتأتى فيه رفع الحرج والمشقة، والتيسير والتسهيل، إذ كل قبيلة مكلفة شرعا بقراءة القرآن جميعه، وفهمه والعمل به، فهو لا يحقق الغرض الذي لأجله نزل القرآن على سبعة أحرف. 2 - وأيضا فلو كانت الحروف السبعة على ما ذكروا لما تأتى اختلاف بين الصحابة في الألفاظ على ما جاءت به الروايات من اختلاف عمر وهشام وأبيّ بن كعب وابن مسعود وعمرو بن العاص مع آخرين. وكيف يتأتى اختلاف إذا كان المنزل لفظا واحدا والمقروء واحدا فهذا القول يلزم منه رد كل الروايات الصحيحة الواردة في هذا الباب، ودون ذلك خرط القتاد وصعود السماء! 3 - ما استند إليه القائلون به من أن القرآن يشتمل على ألفاظ غير لغة قريش لا يصلح أن يكون دليلا؛ لأننا كما قلنا سابقا إن هذه الكلمات مما تخيرتها قريش من لغات غيرها واستعملتها، فصارت بالاستعمال قرشية، أو أن هذه الألفاظ مما توافقت فيها لغة قريش ولغة غيرهم. 4 - ما استندوا إليه من عدم فهم ابن عباس وعمر لبعض الألفاظ القرآنية

القول الخامس

لا يصلح دليلا لهم أيضا؛ إذ اللغة واسعة وليس بلازم أن يحيط الإنسان بكل معاني لغته وألفاظها، وقد قال الإمام الشافعي في «الرسالة»: لا يحيط باللغة إلا نبي (¬1). على أننا قد ذكرنا أن في القرآن ألفاظا كانت في الأصل غير قرشية، ثم صارت قرشية بالاستعمال فجائز جدّا أن تكون بعض الألفاظ ليست كثيرة الاستعمال عند قريش، وليست معروفة لبعضهم فمن ثم خفيت على بعضهم دون بعض. القول الخامس إن المراد بالسبعة الأحرف: الوجوه التي يرجع إليها اختلاف القراءات وقد ورد في هذا آراء متقاربة لأربعة من العلماء، وسنعرض هذه الآراء الأربعة ثم نناقشها بمرة؛ إذ جميعها تجمعها رابطة قوية، ووشيجة متشابكة. قال ابن قتيبة (¬2) في أول تفسير «مشكل القرآن» (¬3): وقد تدبرت وجوه الاختلاف في القراءات فوجدتها سبعة: الأول: ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ بفتح الراء وضمها (¬4). الثاني: ما يتغير بتغير الفعل مثل قوله تعالى: ربنا بعّد بين أسفارنا ورَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا الأول بصيغة الطلب، والثاني بصيغة الماضي. الثالث: ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة مثل ثم ننشرها ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 36. (¬2) هو الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: أديب الفقهاء وفقيه الأدباء صاحب المؤلفات القيمة منها: «تأويل مختلف الحديث» و «مشكل القرآن» و «المعارف» وكانت وفاته سنة 276 هـ ست وسبعين ومائتين. (¬3) الإتقان ج 1 ص 46، فتح الباري ج 9 ص 23. (¬4) الأول على أن لا ناهية، والثاني على أنها نافية.

القول السادس

ونُنْشِزُها الأول بالراء المهملة والثاني بالزاي (¬1). الرابع: ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج من الآخر مثل: طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وطلع منضود. الخامس: ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ وو جاءت سكرة الحق بالموت. السادس: ما يتغير بالزيادة والنقصان مثل: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) والذَّكَرَ وَالْأُنْثى. السابع: ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها مثل: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ وكالصوف المنفوش. قال ابن قتيبة: وكل هذه الحروف كلام الله تعالى نزل به الروح الأمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن الجزري (¬2): وهو حسن إلا أنه قد فاته- كما فات غيره- أكثر أصول القراءات كالإدغام والإظهار، والإخفاء والإمالة والتفخيم، والمد والقصر وغير ذلك مما هو من اختلاف القراءات، وتغاير الألفاظ، وقد اختلف فيه أئمة القراء، وقد كانوا يترافعون بدون ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويرد بعضهم على بعض. ولكن يمكن أن يكون هذا من القسم الأول، فيشمل الأوجه السبعة على ما قررناه. القول السادس ما قاله في بيان وجوه الاختلاف الإمام أبو الفضل الرازي (¬3) في كتاب ¬

_ (¬1) الأول من أنشر بمعنى أحيا، والثاني من أنشز أي جمعها ووصل بعضها ببعض. (¬2) القراءات واللهجات ص 18. (¬3) أبو الفضل الرازي هو الإمام الزاهد المقرئ النحوي عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن ابن بندار أبو الفضل الرازي، ولد بمكة سنة 371 هـ، وتنقل في البلدان، له تصانيف كثيرة منها: «جامع الوقوف» وتوفي في نيسابور سنة 454 هـ.

القول السابع

«اللوائح»، قال: الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف: الأول: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع، أو تذكير وتأنيث. الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض، ومضارع وأمر. الثالث: وجوه الإعراب. الرابع: النقص والزيادة. الخامس: التقديم والتأخير. السادس: الإبدال، ويدخل تحته إبدال حرف بآخر، وإبدال كلمة بأخرى. السابع: اختلاف اللغات كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإدغام والإظهار ونحو ذلك. قال الحافظ في «الفتح»: وقد أخذ- الرازي- كلام ابن قتيبة ونقحه. القول السابع قول القاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني (¬1) المتوفي سنة 403 هـ قال (¬2): تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا: الأول: ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ- بضم الراء وفتحها (¬3). الثاني: ما لا تتغير صورته ويتغير معناه بالإعراب مثل: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا بإسكان الدال وفتحها، الأول فعل أمر والثاني فعل ماض. الثالث: ما تتغير صورته ومعناه باختلاف الحروف مثل قوله: ¬

_ (¬1) الباقلاني: هو الإمام القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر الباقلاني، ولد في البصرة، واختلفوا كثيرا في زمن مولده، وإليه انتهت رئاسة الأشاعرة، له مصنفات كثيرة منها: «إعجاز القرآن» و «الإبانة» و «التمهيد» توفي سنة 403 هـ. (¬2) تفسير القرطبي ج 1 ص 45، فضائل القرآن لابن كثير ص 36. (¬3) أما أَطْهَرُ بالرفع فعلى أنها خبر المبتدأ هُنَّ وأما الفتح فعلى أن الخبر لَكُمْ وأطهر حال من الضمير المستكن في متعلق الخبر.

القول الثامن

نُنْشِزُها وننشرها. الرابع: ما تتغير صورته ويبقى معناه مثل: ك كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ والصوف المنفوش (¬1). الخامس: ما تتغير صورته ومعناه مثل: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وو طلع منضود (¬2). السادس: التقديم والتأخير كقوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ وو جاءت سكرة الحق بالموت. السابع: الزيادة والنقصان مثل قوله: تسع وتسعون نعجة أنثى وتِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً. وهذا القول متفق في الجوهر مع قول ابن قتيبة. القول الثامن قال ابن الجزري (¬3): قد تتبعت صحيح القراءات، وشاذها، وضعيفها ومنكرها، فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه، لا يخرج عنها، وذلك: 1 - إما باختلاف في الحركات، بلا تغير في المعنى والصورة، نحو قَرْحٌ بفتح القاف وضمها. 2 - أو في الحركات بتغير في المعنى فقط، نحو: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ برفع كلمات ونصبها، أي على أنها فاعل، أو مفعول (¬4). ¬

_ (¬1) القراءة بلفظ الصوف غير متواترة. (¬2) قراءة طلح متواترة أما قراءة طلع فشاذة لا يثبت بها القرآن لأنها تخالف رسم المصحف وبعض ما مثل به من هذا القبيل. (¬3) هو الإمام أبو الخير شمس الدين ابن الجزري محمد بن محمد بن محمد الدمشقي الإمام في القراءات الحافظ المحدث، صاحب التصانيف التي منها: «النشر في القراءات العشر» ولد سنة 751 وتوفي سنة 833 هـ. (¬4) وذلك على حسب إعراب لفظ «آدم» فإن كان فاعلا فلفظ «كلمات» مفعول به، وإن كان مفعولا فلفظ «كلمات» فاعل، أي أدركته، وهما قراءتان سبعيتان قرأ الجماعة بالرفع

3 - أو في الحروف بتغير في المعنى لا الصورة نحو: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ قرئ: تَبْلُوا وتتلوا وهما سبعيتان. 4 - أو عكس ذلك: أي يتغير في الصورة لا المعنى نحو الصِّراطَ والسراط. 5 - أو بتغيرهما: أي المعنى والصورة نحو: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وقرئ فامضوا. 6 - وإما بالتقديم والتأخير نحو فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ الأولى بفتح الياء على البناء للفاعل والثانية بضم الياء للمفعول، وبالعكس. 7 - وإما بالزيادة والنقصان نحو: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ وقرئ وأوصى فهذه سبعة أوجه لا يخرج الاختلاف عنها: قال: وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام والروم والإشمام والتفخيم والترقيق والنقل؛ فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه في اللفظ والمعنى؛ لأن هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا؛ ولئن فرض فيكون من الوجه الأول الذي لا تتغير فيه الصورة والمعنى. وقد رجح هذا القول بعض كبار العلماء، وأئمة الفتوى، وهو المغفور له الشيخ محمد بخيت المطيعي، وسوى بينه وبين مذهب ابن قتيبة، بل حاول جاهدا أن يرجع معظم الأقوال التي ذكرها السيوطي في الإتقان، وذكرناها هنا- إليه (¬1) وهو تكلف لا نوافقه عليه. كما رجح هذا القول أيضا بعض الباحثين، وأرجع إليه الأقوال الثلاثة الأخرى (¬2)، وبين أنها جميعها ترجع إلى رأي واحد، ولعله تابع الشيخ في قوله. ¬

_ وقرأ ابن كثير بالنصب. (¬1) الكلمات الحسان ص 77. (¬2) القراءات واللهجات ص 13 وما بعدها.

نقد هذه الآراء

ورجح رأي الرازي بعض أجلة العلماء (¬1)، وبالغ في الانتصار له، وبيّن ما بين رأي الرازي وغيره من الآراء الثلاثة من فروق. ولكني مع هذا ... لم أركن إلى واحد من هذه الآراء، ولا أرى أنها المقصودة بالحديث وأضع بين يدي القارئ هذه النقود. نقد هذه الآراء يمكننا إجمال النقد فيما يأتي: 1 - إن القائلين بهذا الرأي- على اختلاف أقوالهم- لم يذكر واحد منهم دليلا، إلا أنه تتبع وجوه الاختلاف في القراءة فوجدها لا تخرج عن سبع. وهذا التتبع لا يصلح أن يكون دليلا على أن المراد بالأحرف السبعة الوجوه التي يرجع إليها اختلاف القراءات. ولا يقال: كيف لا يعتبر التتبع، وهو لا يخرج عن كونه استقراء لأنا نقول: إنه استقراء ناقص، بدليل أن طريق تتبع ابن الجزري مخالف لطريق تتبع ابن قتيبة وابن الطيب والرازي، وليس أدل على ذلك من أن الرازي ذكر الوجه السابع، ولم يذكره واحد من الثلاثة الآخرين، بل برر ابن الجزري إهماله، مما يدل على أنه يمكن الزيادة على سبع، وأن الوجه الأول عند الرازي؛ والثاني والسادس ترجع ثلاثتها إلى الوجه الخامس عند ابن الجزري (¬2)، مما يدل على أن هذه الوجوه يمكن أن يتداخل بعضها في بعض، وأن تعينها إنما هو بطريق الاتفاق لا الاستقراء الصحيح. وعلى هذا يكون الحصر في الوجوه السبعة غير مجزوم به، ولا متعين، فهو مبني على الظن والتخمين. 2 - إن الغرض من الأحرف السبعة إنما هو رفع الحرج والمشقة عن الأمة، والتيسير والتسهيل عليها، والمشقة غير ظاهرة في إبدال الفعل ¬

_ (¬1) مناهل العرفان ج 1 ص 132. (¬2) القراءات واللهجات ص 19.

القول التاسع

المبني للمعلوم بالفعل المبني للمجهول، أو العكس، ولا في إبدال فتحة بضمة، أو حرف بآخر، أو تقديم كلمة أو تأخيرها، أو زيادة كلمة أو نقصانها، فإن القراءة بإحداهما دون الأخرى لا توجب مشقة يسأل النبي صلى الله عليه وسلم منها المعافاة، وأن أمته لا تطيق ذلك، ويراجع جبريل مرارا، ويطلب التيسير فيجاب بإبدال حركة بأخرى، أو تقديم كلمة وتأخيرها. فالحق: أنه مستبعد أن يكون هذا هو المراد بالأحرف السبعة. 3 - إن أصحاب هذه الأقوال اشتبه عليهم القراءات بالأحرف، فالقراءات غير الأحرف لا محالة وإن كانت مندرجة تحتها، وراجعة إليها. القول التاسع إن المراد بالأحرف السبعة سبع قراءات. وإننا لنناقش هؤلاء فنقول لهم: إن أردتم أن كل كلمة تقرأ بقراءات سبع، قلنا لكم: إن ذلك نادر وقليل جدّا. وإن أردتم أن بعض الكلمات تقرأ بوجه، وبعضها بوجهين، وبعضها بثلاث ... وهكذا إلى سبع، فذلك مردود أيضا بما يأتي: 1 - إن بعض الكلمات تقرأ على أكثر من سبعة أوجه؛ قال في «منار الهدى في الوقف والابتداء»: قد جاء في القرآن ما قرئ بسبعة أوجه، وعشرة أوجه ك مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) وفي «البحر»: أن في قوله: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ اثنتين وعشرين قراءة، وفي أُفٍّ لغات أوصلها «الرماني» إلى سبع وثلاثين لغة. وقد أجاب الحافظ ابن حجر: بأن غالب ذلك؛ إما لأنه لا تثبت الزيادة؛ وإما أن يكون من قبيل الاختلاف في كيفية الأداء كما في المد والإمالة ونحوها. والحق: إنه جواب لا يدفع الإشكال، لأن دعوى: أنه لا يثبت الزيادة على السبع مكابرة بعد ما نقلناه عن أئمة القراء، وكونه من قبيل الاختلاف في الأداء لا يمنع أنه من القراءات التي تثبت بها الزيادة على سبع، إذ لا

الأحرف السبعة ليست القراءات السبع

فرق بين ما ذكر وبين الاختلاف في وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ وفَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فجعل هذا الاختلاف من القراءات دون الاختلاف في الأداء كالمد والإمالة تحكم ظاهر (¬1). 2 - إن هذا القول مبني على أن القراءات هي الأحرف، والحق- كما قلنا آنفا-: أنها ترجع إليها، وليست ذاتها، ولا حقيقتها. الأحرف السبعة ليست القراءات السبع وأشد من هذا القول بطلانا من يزعم: أن الأحرف السبعة هي القراءات السبع المشهورة، وهو غاية الجهل، قال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل. ولذلك لام كثير من العلماء «ابن مجاهد» (¬2) على اقتصاره على السبعة؛ لأنه أوقع من لا يعلم في هذا الوهم، قال أبو العباس بن عمار: لقد فعل مسبّع هذه السبعة ما لا ينبغي، فأشكل الأمر على العامة، بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الحديث، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة، أو زاد ليزيل الشبهة ووقع له في اقتصاره من كل إمام على راويين أنه صار من سمع قراءة راو ثالث أبطلها، وقد تكون هي أشهر، وأصح، وأظهر، وربما بالغ من لا يفهم فخطأ أو كفر. وقال أبو بكر بن العربي: ليست هذه السبعة متعينة للجواز حتى لا يجوز غيرها كقراءة أبي جعفر، وشيبة، والأعمش ونحوهم، فإن هؤلاء مثلهم أو فوقهم. وكذا قال غير واحد منهم: مكي بن أبي طالب، وأبو العلاء الهمداني، وغيرهم من أئمة القراء (¬3). ¬

_ (¬1) الكلمات الحسان في الحروف السبعة وجمع القرآن ص 53. (¬2) هو أبو بكر أحمد بن مجاهد المتوفى سنة 324 هـ، وهو أول من نوه بالقراءات السبع. (¬3) فتح الباري ج 9 ص 25.

القول العاشر

وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ... ، ثم قال: وأما من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطا عظيما (¬1). وقال القرطبي في تفسيره (¬2): قال كثير من علمائنا كالداودي، وابن أبي صفرة وغيرهما: هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من هذه السبعة، وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف، ذكره ابن النحاس وغيره. ومن هذه النقول يتبين لنا: أن القراءات الثابتة المتواترة ليست منحصرة في السبع المشهورة وأنه لا يجوز بحال من الأحوال أن تكون مرادة من الحديث وكيف يمكن أن تكون القراءات السبع المشهورة هي المرادة من الحديث وهي إنما عرف كونها سبعا من قبل أن رواتها المشهورين سبعة، وهذا شيء علم بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة قرون تقريبا، على يد «ابن مجاهد» فغير معقول أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن على حروف لم تعرف، ولم تشتهر إلا بعده بقرون. وقد علمت: أن حصر القراءات الثابتة في سبع إنما كان أمرا اتفاقيّا فحسب. القول العاشر ذهب البعض إلى أن المراد بالأحرف السبعة: سبعة أصناف من الكلام، وقد اختلف القائلون به في تعيين هذه السبعة، فقيل: إنها أمر، ونهي، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. واحتجوا بما أخرجه الحاكم، والبيهقي، عن ابن مسعود، عن النبي ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 9 ص 31. (¬2) ج 1 ص 46.

صلى الله عليه وسلم قال: «كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد وعلى حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا». وهذا الرأي مردود من جهة الرواية والدراية والعقل بما يأتي: 1 - أن هذا الحديث غير ثابت، فلا يصح الاحتجاج به، قال الإمام أبو عمر بن عبد البر: «هذا حديث لا يثبت؛ لأنه من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، ولم يلق ابن مسعود». وقال الحافظ في «الفتح» (¬1): وقد صحح الحديث المذكور (ابن حبان، والحاكم) وفي تصحيحه نظر؛ لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود. ومعروف أن المنقطع من قبيل الضعيف، فلا يحتج به في مثل هذا مما يتعلق بالقرآن الكريم الذي هو أصل الدين، ومنبع الصراط المستقيم. 2 - لو سلمنا جدلا أن الحديث ثابت، فليس تأويله كما قال هؤلاء، وإنما له تأويلات أخر: أ- وذلك إما أن يكون قوله في الحديث: زاجر، وأمر ... إلخ استئناف كلام وليس بيانا للأحرف، قال أبو العلاء الهمداني، وأبو عليّ الأهواني: إن قوله: زاجر وآمر استئناف كلام آخر، أي هو زاجر- القرآن- ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، وإنما توهم ذلك من توهمه من جهة الاتفاق في العدد. ويؤيده أنه جاء في بعض طرقه: زاجرا، وآمرا- بالنصب- أي نزل على هذه الصفة من الأبواب السبعة. ب- وإما أن تكون بيانا للأبواب السبعة لا للأحرف السبعة، قال العلامة ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 9 ص 24.

أبو شامة: يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب لا للأحرف السبعة أي هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه، وأنزله على هذه الأصناف، لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب. وعلى هذه التأويلات لا يكون الحديث صالحا للاحتجاج به على ما ذهب إليه هؤلاء. ج- وقال البيهقي: المراد بالسبعة الأحرف هنا: الأنواع التي نزل عليها والمراد بها في تلك الأحاديث: اللغات التي يقرأ بها، وكذلك قال القاضي أبو بكر الباقلاني، فكأن البيهقي يسلم أنها بيان للأحرف السبعة في هذا الحديث، لكن على معنى آخر مغاير للمعنى الذي أريد من حديث إنزال القرآن على سبعة أحرف، وهي المعاني أي المقاصد. 3 - هذه الأنواع لا تصلح أن تكون تفسيرا للأحرف السبعة لأن الغرض منها كان التوسعة على الأمة والتيسير بالتعبير في القراءة بأي حرف منها، وما ذكروه من الأنواع لا يتأتى فيه البتة التوسعة والتيسير لأن التوسعة لم تقع في تحليل حرام ولا في تحريم حلال، ولا في إبدال أمر بنهي ولا نهي بأمر ولا محكم بمتشابه ولا عكسه ... وهكذا. فكل هذا مما أجمع العلماء قاطبة على أنه لا يجوز، قال ابن عطية (¬1): هذا القول ضعيف، لأن هذه لا تسمى أحرفا فالإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحريم حلال ولا تحليل حرام ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة. ولعلك على ذكر من مقالة الإمام الزهري التي ذكرناها في صدر البحث من حديث مسلم. 4 - هذا القول يلزم منه رد كل الأحاديث الصحيحة التي قدمناها في صدر المبحث والتي تدل على اختلاف الصحابة، ورفع الأمر إلى الرسول، وإقرار كل واحد على قراءته وحرفه، إذ مستحيل أن يقر النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ ¬

_ (¬1) مقدمتان في علوم القرآن ص 265.

أقوال أخرى

الأمر نهيا، أو النهي أمرا، أو قرأ بدل الأمثال أحكاما، ومن قرأ بدل الأحكام أمثالا، وهكذا، وهو أمر ننزه عنه أي عاقل، فضلا عن أعقل العقلاء. ورد كل هذه الروايات الصحيحة الموثوق بها لأجل رواية ضعيفة ليس من قواعد البحث العلمي الصحيح في شيء، ولعل في حمل هذا الحديث على ما ذهب إليه البيهقي، والقاضي الباقلاني ما يربأ بالقائلين بهذا القول عن هذه السقطة التي لا لعا لهم منها (¬1)، وهو ما يليق بحالهم كعقلاء، فإذا كان هذا مقصدهم فقد كفانا الله وإياهم شر الجدال والنزاع. أقوال أخرى وهناك أقوال أخرى في بيان الأصناف السبعة وإليك بعضها، فقيل: وعد، ووعيد، وحلال، وحرام، ومواعظ، وأمثال، واحتجاج، وقيل: محكم، ومتشابه، وناسخ، ومنسوخ، وخصوص، وعموم، وقصص، وقيل: إظهار الربوبية، وإثبات الوحدانية، وتعظيم الألوهية، والتعبد لله، ومجانبة الإشراك، والترغيب في الثواب، والترهيب من العقاب. وقيل: إنها من أسماء الرب مثل: الغفور الرحيم، السميع العليم، العليم الحكيم، وهكذا ... يعني في إبدال بعضها ببعض. وكلها أقوال باطلة وليس عليها أثارة من علم أو برهان، ومردودة بما رددنا به القول العاشر. وإن لنا لوقفة عند هذا الرأي الأخير والمجوز لتبديل فواصل الآي بعضها ببعض مما هو من صفات الرب، فإن هذا خلاف الإجماع، ويؤدي إلى ذهاب بعض الإعجاز، فإن من إعجاز القرآن هذا التناسب والترابط بين الآية وخاتمتها، فلو جاز إبدال خاتمة بأخرى لعاد بالخلل على إعجاز القرآن. ¬

_ (¬1) يقال: لا لعا لفلان أي لا إقالة لعثرته.

إزالة شبهة في هذا المقام

قال القاضي عياض- نقلا عن المازري- قال: وقول من قال: المراد خواتيم الآي فيجعل مكان «غفور رحيم» «سميع بصير» فاسد أيضا للإجماع على منع تغيير القرآن للناس (¬1). إزالة شبهة في هذا المقام: فإن قيل: فما تقول فيما ذكره السيوطي في الإتقان (¬2)، حيث قال: وعند أبي داود (¬3) عن أبيّ قلت: سميعا عليما، عزيزا حكيما ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو رحمة بعذاب. وعند أحمد من حديث أبي هريرة: «أنزل القرآن على سبعة أحرف عليما حكيما، غفورا رحيما» وعنده أيضا من حديث عمر: «بأن القرآن كله صواب، ما لم تجعل مغفرة عذابا، وعذابا مغفرة» قال: أسانيدها جياد. قلت في الجواب: إن هذه الروايات مهما بلغت من الجودة في الإسناد- على حسب ما زعم السيوطي- فهي مردودة لمخالفتها لما جاء به القرآن من أنه لا يجوز إبدال كلمة بأخرى، قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا الآية، وقال تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) الآية، ولمخالفتها لما أجمع عليه العلماء، وأجمعت عليه الأمة من أنه لا يجوز وضع فاصلة ولا رأس آية مكان أخرى؛ لأن موافقة أواخر الآيات لصدورها من أسرار إعجاز القرآن الكريم، وهذا النظم الكريم الذي جاء في ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم ج 6 ص 100. (¬2) الإتقان ج 1 ص 47. (¬3) في سنن أبي داود باب «أنزل القرآن على سبعة أحرف» قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي أخبرنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن يحيى بن يعمر، عن سليمان بن صرد الخزاعي، عن أبيّ بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبيّ إني أقرئت القرآن- فقيل لي- على حرف أو حرفين» فقال الملك الذي معي: قل على حرفين، «قلت: على حرفين»، فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة فقال الملك الذي معي: على ثلاثة حتى بلغ سبعة أحرف، ثم قال: «ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: سميعا عليما، عزيزا حكيما ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب».

المصاحف قد أجمع عليه العلماء، وثبت بالتواتر المفيد للقطع واليقين، فلا تعارضه روايات آحادية مهما بلغت أسانيدها من الصحة أو من الحسن أو الجودة، لأن الآحادي لا يعارض التواتر ولا يقوى على مناهضته. وعلى فرض تسليم ثبوت هذه الروايات قد تأول العلماء هذه الأحاديث على غير ظاهرها؛ لوجود الصارف لها، وهو ما قدمناه من الإجماع على عدم جواز ذلك. قال الإمام ابن عبد البر- في رواية أبي داود-: إنما أراد ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، أنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها (¬1)، لا يكون في شيء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافا ينفيه ويضاده كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: وهذه أيضا سبعة غير السبعة التي هي وجوه وطرائق، وغير السبعة التي هي قراءات وتوسع فيها، وإنما هي سبعة أوجه من أسماء الله تعالى. وإذا ثبتت هذه الرواية- رواية أبي- حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ، فلا يجوز للناس أن يبدلوا أسماء الله في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالفه (¬2)، وهو تأويل كما ترى. وشكك في صحتها بعض العلماء فقال صاحب التبيان (¬3): وكأن بعض الحفاظ ينكر صحة هذه الرواية، فإنه قال- في إثبات ما ذهب إليه من عدم جواز الرواية بالمعنى- وبرهان ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم «البراء بن عازب» دعاء، وفيه «ونبيك الذي أرسلت» فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ورسولك الذي أرسلت» فأمره- عليه السلام- أن لا يضع «رسول» في موضع لفظة «نبي» وذلك حق لا يحيل معنى وهو- عليه الصلاة والسلام- رسول ونبي، فكيف يسوغ للجهال المغفلين أن يقولوا: ¬

_ (¬1) يريد أنها دالة على ذات واحدة وإن اختلفت ألفاظها. (¬2) مقدمتان في علوم القرآن ص 267. (¬3) التبيان ص 58.

إنه- عليه الصلاة والسلام- كان يجيز أن يوضع في القرآن مكان «عزيز حكيم»، «غفور رحيم» أو «سميع عليم»، وهو يمنع من ذلك في دعاء ليس قرآنا، والله يقول- مخبرا عن نبيه-: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي ولا تبديل أكثر من وضع كلمة موضع أخرى! أقول: ومما ينبغي أن يعلم أن مخالفة المروي للقرآن أو لما اشتهر من السنة أو لإجماع العلماء مما يقلل الثقة بالرواية ويجعلها في عداد الروايات الواهية التي لا يحتج بها. وأما رواية أبي هريرة فليس فيها ما يدل على وضع أحدهما مكان الآخر. والظاهر: أن المراد بالحرف في هذا الحديث غيره في حديث نزول القرآن على سبعة أحرف المشهور، فالمراد به هنا: سبعة أوجه من أسماء الله تعالى، وبمثل هذا قال القاضي الباقلاني في الحديث السابق. وأما حديث «عمر» فليس فيه ما يدل على جواز إبدال فاصلة بأخرى، ومراد النبي بقوله: «إن القرآن كله صواب» يعني في حدود المنزل من عند الله على نبيه، وما تلقاه المسلمون عن النبي فهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: «فأي حرف قرءوا عليه، فقد أصابوا». والدليل على أن هذا التأويل هو المتعين في حديث «عمر» هي القصة التي ورد بسببها هذا القول، ذلك أن «عمر» (¬1) اختصم مع آخر بسبب قراءة كلمة من القرآن فذهبا إلى النبي، فصوب قراءتيهما، وبين أن الكل من عند الله، فدخل قلب «عمر» من ذلك شيء، فضرب النبي في صدره وقال: «أبعد شيطانا» ثم قال: «يا عمر، القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابا ... إلخ» ويكون المقصود بقوله: «ما لم تجعل ... إلخ» النهي عن وضع شيء ما موضع آخر من غير نظر إلى تخصيص ذلك بالرحمة والعذاب. ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 9 ص 31، تفسير الطبري ج 1 ص 10.

إزالة شبهة أخرى

إزالة شبهة أخرى: فإن قال قائل: لقد ذكرت في صدر المبحث استنتاجا من الروايات الحديثية: أن التوسعة في الأحرف إنما كانت في حدود المسموع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرت من تثبيت هذا المعنى في تضاعيف كلامك ... فما تقول فيما ورد من آثار ظاهرها يفيد جواز إبدال اللفظ القرآني بآخر- وإن لم يسمع- ما دام المعنى واحدا مثل ما روي عن ابن مسعود: أنه علّم رجلا قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) [الدخان: 43 - 44] فقال الرجل: طعام اليتيم، فأعاد عليه ابن مسعود الصواب، وأعاد الرجل الخطأ؛ فلما رأى ابن مسعود أن لسان الرجل لا يستقيم على الصواب قال له: أما تحسن أن تقول طعام الفاجر قال: بلى، قال فافعل، رواه أبو عبيد في فضائله وابن المنذر. وروي عن أبي الدرداء مثل ذلك، روى ابن جرير في تفسيره قال: حدثنا محمد بن بشار ثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام ابن الحارث أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلا ... إلخ الأثر. ورواه الحاكم وصححه، وما رواه الأعمش قال: قرأ أنس بن مالك: إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا [المزمل: 6] فقيل له: إنها وَأَقْوَمُ قِيلًا فقال: أقوم، وأصوب، وأهيأ، واحد. رواه أبو يعلى قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا الأعمش أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية ... الأثر. وكذلك روى أن أبا سوار الغنوي كان يقرأ: فحاسوا خلال الديار [الإسراء: 5]- بالحاء غير المعجمة- فقيل له: إنما هي فَجاسُوا فقال: حاسوا وجاسوا واحد. والجواب: إن هذه الروايات وما شابهها مصروفة عن ظاهرها لا محالة؛ لوجود الأدلة القطعية من القرآن والسنة الصحيحة على عدم جواز تبديل كلمة بأخرى في معناها، من غير توقيف وسماع.

وأيضا فقد أجمع علماء الأمة على هذا، وإن شذ عن هذا الإجماع مفسر (¬1)، ونحوي (¬2) فاغترا بظاهر الروايات، وهو قول ساقط عن الاعتبار إذا قيس بإجماع العلماء المحققين الجامعين بين المعقول والمنقول. وكأني بك تقول: إذا كانت الروايات مصروفة عن ظاهرها لا محالة ... فما المراد منها إذا قلت: لك في ذلك طريقان، وإليك البيان: 1 - إما أن نقول: إن هذه كانت أحرف يقرأ بها، وكانت منزلة من عند الله للتوسعة على العرب في أول الأمر، ثم نسخت فيها نسخ في العرضة الأخيرة التي عرضها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلم القارئ بها أنها نسخت. أو أنها تنوسيت واندثرت فيما تنوسي واندثر من الأحرف الستة، غير حرف قريش الذي جمع عليه عثمان المصاحف وعلى هذا يكون ابن مسعود قد سمع القراءتين عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما تعذر على الرجل أحدهما أقرأه الأخرى، وكذلك «أنس» سمع كلا من الألفاظ الثلاثة، وأبو سوار الغنوي سمع كلا من اللفظين. وقد قرأ فحاسوا- بالحاء أبو السّمّال، وطلحة بن مصرف مما يدل على أنها منزلة وليست بالهوى. 2 - وإما أن نقول: إن ما جاءت به الروايات تفسير وتوضيح للفظ القرآن، فابن مسعود لم يرد إقراء الرجل لفظ القرآن، وإنما أراد توضيح المعنى له؛ كي يكون ذلك وسيلة إلى النطق بالصواب، وهو اللفظ القرآني المتلقى عن الرسول، وذلك أن ابن مسعود بين أمرين، إما أن يدعه يقرأ ¬

_ (¬1) هو الزمخشري: انظر تفسير الكشاف ج 2 ص 363، والعجب من مثل الزمخشري أن يقول هذا. تفسير الكشاف عند قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44). (¬2) هو ابن جني، انظر تفسير الفخر الرازي ج 8 ص 337.

لفظ «اليتيم» فيكون في ذلك إخلال باللفظ وإفساد للمعنى، وفي ذلك ضرران محققان، وأمران محظوران؛ وإما أن يقرئه المعنى بلفظ يستقيم به لسانه؛ فيستقيم المعنى، ويبقى الإخلال باللفظ ريثما يتسهل له النطق بالأصل ففيه ضرر واحد. ولا شك أن ارتكاب أخف الضررين، وأهون المحظورين- عند الضرورة- أولى من ارتكابهما معا. قال القرطبي في تفسيره (¬1) - نقلا عن أبي بكر الأنباري-: ولا حجة في هذا للجهال من أهل الزيغ أنه يجوز إبدال الحرف من القرآن بغيره؛ لأن ذلك إنما كان من عبد الله تقريبا للمتعلم، وتوطئة له للرجوع إلى الصواب، واستعمال الحق، والتكلم بالحرف على إنزال الله، وحكاية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال صاحب الانتصاف تعقيبا على قول الزمخشري: قال أحمد (¬2): لا دليل لذلك وقول أبي الدرداء محمول على إيضاح المعنى، ليكون وضوح المعنى عند المتعلم عونا على أن يأتي بالقراءة كما أنزل ... على هذا حمله القاضي أبو بكر في كتاب «الانتصار» وهو الوجه. وكذلك أنس- رضي الله عنه- لم يرد أن هذا قرآنا، وإنما أراد توضيح المعنى، وتفسير لفظ القرآن، قال الإمام الرازي في تفسيره (¬3) بعد أن ذكر رواية أنس، استدلال ابن جني بها على الجواز: وأنا أقول: يجب أن نحمل ذلك على أنه إنما ذكر تفسيرا للفظ القرآن، لا على أنه جعله نفس القرآن، إذ لو ذهبنا إلى ما قاله ابن جنّي لارتفع الاعتماد عن ألفاظ القرآن ولجوزنا أن كل أحد عبر عن المعنى بلفظ رآه مطابقا لذلك المعنى، ثم ربما أصاب في ذلك الاعتقاد، وربما أخطأ، وهذا يجر إلى الطعن في القرآن، ¬

_ (¬1) ج 16 ص 149. (¬2) هو الإمام أحمد بن المنير عالم الإسكندرية وقاضيها وخطيبها، وهو صاحب كتاب «الانتصاف من صاحب الكشاف». (¬3) ج 8 ص 237.

زعم باطل لبلاشير. ورده

فثبت أنه يجب حمل ذلك على ما ذكرنا. ومثل ذلك يقال في فحاسوا فهي تفسير للفظ القرآن فَجاسُوا وربما كانوا يفعلون ذلك في القرآن: اعتمادا على أن اللفظ القرآني معروف ومتحقق، ولا يأتي فيه الالتباس والاشتباه، على أن أثر أنس منقطع فلا يحتج به ولا سيما فيما يتعلق بالقرآن وقراءاته. وقال ابن الأنباري (¬1) - بعد أن ذكر رواية الأعمش، عن أنس-: وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال: من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن، فهو مصيب إذا لم يخالف معنى، ولم يأت بغير ما أراد الله، وقصد له، واحتجوا بقول أنس، وهو قول لا يعرج عليه ولا يلتفت إلى قائله ... إلى أن قال: والحديث الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة لا يصح عن أحد من أهل العلم؛ لأنه مبني على رواية الأعمش، عن أنس، فهو مقطوع (¬2) ليس بمتصل، فيؤخذ به من قبل أن الأعمش رأى أنسا، ولم يسمع منه. ولعلك بعد هذا البيان الشافي ازددت يقينا واطمئنانا إلى أن الإجازة في أحرف القرآن وقراءاته، إنما كانت في حدود المسموع، المتلقّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العزة- جل وعلا- وأن هذا إجماع من العلماء المحققين المتثبتين. زعم باطل لبلاشير. ورده وقد تلقف بعض المستشرقين هذه الروايات الباطلة التي عرضنا لها، والروايات التي لها محامل صحيحة، ولكنهم حرفوا معانيها إلى محامل باطلة فزعموا أنها تدل على جواز قراءة القرآن بالمعنى، وهذه سمة معظم المستشرقين: أنهم يصححون الموضوع، ويحرفون الصحيح عن معناه كي ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي ج 19 ص 40. (¬2) مراده منقطع بدليل ما بعده وبعض العلماء يطلق لفظ المقطوع على المنقطع؛ انظر مقدمة ابن الصلاح ص 51، والمنقطع من قبيل الضعيف فلا يحتج به فيما دون هذا، فكيف يعول عليه في مثل هذا

تساعدهم على أغراضهم من الطعن في القرآن الكريم. ومن هؤلاء «بلاشير» في كتابه «المدخل إلى القرآن» وفي ترجمته للقرآن التي أقحم فيها على النص القرآني بعض الآيات الموضوعات (¬1)، وها هو بلاشير يعرض زعمه في موضوع القراءة بالمعنى، قال: خلال الفترة التي تبدأ من مبايعة عليّ عام 35 هـ حتى مبايعة الخليفة الأموي الخامس «عبد الملك» عام 65 هـ كانت جميع الاتجاهات تتواجه، فالمصحف العثماني قد نشر نفوذه في كل البلاد إذ كان مؤيدا بنفوذ من شاركوا في عمله، وقد كانوا يشغلون مناصب مهمة في الشام وربما كان هذا هو الوقت الذي نشأت فيه نظرية معينة، تدل على أن إصلاح عثمان كان قد أصبح ضروريا فبالنسبة إلى بعض المؤمنين لم يكن نص القرآن بحرفه هو المهم وإنما روحه، ومن هنا ظل اختيار الوجه (الحرف) في القراءات التي تقوم على الترادف المحض أمرا لا بأس به ولا يثير الاهتمام، هذه النظرية التي يطلق عليها القراءة بالمعنى كانت دون شك من أخطر النظريات إذ كانت تكل تحديد النص إلى هوى كل إنسان (¬2). ومن الغريب والمؤسف حقا أن يجيء بعد «بلاشير» رجل مسلم وهو الدكتور «مصطفى مندور» فيتابع أستاذه «بلاشير» على رأيه، بل ويزيد الطين بلّة بما أضاف من تخرّصات أخرى فعقد فصلا في رسالة «الشواذ» - وهي رسالة تكميلية لنيل درجة دكتوراة الدولة من كلية الآداب بجامعة باريس- ¬

_ (¬1) فقد أدخل في ترجمته لسورة النجم بعد قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) هذه العبارات المختلقة المدسوسة: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى اعتمادا على ذكرها في بعض كتب أسباب النزول التي لا يعتبر مؤلفوها من المحدثين الذين يميزون بين الصحيح وغيره، والتي زعموا أنها كانت سببا في نزول قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ... الآية وقد فندت ذلك من جهة العقل والنقل في كتابي «السيرة النبوية»؛ القسم الأول ص 375 - 387، فليرجع إليه من يشاء. (¬2) المدخل لترجمة القرآن 69 - 70 عن تاريخ القرآن للدكتور عبد الصبور شاهين ص 84 - 85.

الرد على هذه المزاعم

بعنوان «القراءة بحسب المعنى» قال فيه: هنالك على الأخص نقطة وقع عليها اتفاق كثيرين، هي أن القرآن ربما قرئ بأوجه كثيرة، ولكن الأساس هو أن يحترم المعنى، وقد أيدت نصوص كثيرة هذه الفكرة فينسب إلى عمر قوله: القرآن كله صواب ما لم تجعل عذابا مغفرة أو مغفرة عذابا، ثم ذكر نصوصا لا تشهد لما ادعاه ثم قال: من هذه الوجوه التفسيرية نشأت فكرة القراءة بحسب المعنى، وهنالك أمثلة ترينا إلى أي حد تبع المؤمنون كلام الله بحرفه ... ثم يسوق أخبارا يستدل بها على انتشار هذه النظرية في المجتمع الإسلامي فيقول: وقد علم عمر بن عبد العزيز أن رجلا كان يقرأ القرآن فيقلب نظام الآيات فلما قوطع في قراءته ادعى أنه لا ذنب في هذا ولا جريرة ما دام يذكر كل النص، في أي نظام، كما روى أن مسلما آخر استبدل بعض الكلمات بمرادفاتها، ثم ذكر مرجعا له كتاب الأغاني (ج 3 ص 61)، وما هو فيه، ولعله اعتمد فيما نقله على بعض كتب الأدب ككتاب «محاضرات الأدباء» وأمثاله من الكتب (¬1) التي لا اعتداد بها في باب الرواية عند العلماء المحدثين الأصلاء في النقد، والذين إليهم المرجع في معرفة الغث من السمين والصحيح من الضعيف من الموضوع المختلق على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة رضوان الله عليهم. الرد على هذه المزاعم وإليك الرد على هذه المزاعم التي زعمها بلاشير ومتابعه مندور: 1 - هذه الروايات لا تثبت أمام النقد العلمي النزيه، ومعظمها روايات باطلة المعنى واهية الإسناد، والاعتماد على أمثال هذه الروايات التي ليس لها زمام ولا خطام تجن على العلم وعلى الحقيقة، ولو لم يكن في نقد هذه ¬

_ (¬1) رسالة «الشواذ» للدكتور مندور ص 113 وما بعدها نقلا عن كتاب «تاريخ القرآن» ص 86، 87 وقد تعقب الدكتور عبد الصبور شاهين بلاشير وتلميذه مندور في ما زعماه وفند ما ارتأياه، وأبان عن أن منهجهما ليس بمنهج علمي صحيح. وقد أتيت في الرد على بلاشير وتلميذه مندور بما أتى به الدكتور شاهين وزدت عليه ردودا أخرى.

المرويات إلا أنها مخالفة للمعقول وما صح من المنقول، وما أجمع عليه المسلمون من عهد الصحابة إلى يومنا هذا مما هو منقول نقلا متواترا، لا يتطرق إليه الشك والارتياب، لكفى فما بالك وهي معلولة الأسانيد وصدق ابن الجوزي الناقد حيث قال: ما أحسن قول القائل: كل حديث رأيته تخالفه العقول، وتناقضه الأصول، وتباينه النقول فاعلم أنه موضوع، وقد عرضنا لهذه المرويات آنفا، وبينا أن معظمها لا يصلح للاحتجاج به، وبعضها على تسليم صحته له مخارج صحيحة. 2 - إن مثل هذه البحوث التي تتعلق بكتاب الله، الذي توفرت له كل وسائل الثبوت واليقين والتحوط البالغ لسلامة النص من التحريف والتبديل والتغيير، لا يجوز ولا يليق بباحث أن يعتمد فيها على روايات تذكر في كتب الأدب أو التاريخ، أو يتندر بها بعض الناس في مجالسهم من غير أن يكون لها أسانيد ثابتة، ولكن المستشرقين وأبواقهم في سبيل تحقيق مزاعمهم يصححون الضعيف، ويعتمدون على المكذوب، على حين نجدهم يضعفون الصحيح من الأحاديث ولا حامل لهم في هذا وذاك إلا الهوى والتشهي والتجني الآثم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن الكريم. 3 - إن هذه التوسعة في الحروف السبعة لم تكن بالهوى والتشهي وإنما كانت في حدود المنزّل من عند الله بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم عقب سماعه قراءة كل من المختلفين «هكذا أنزلت»، وقد نبهت على ذلك آنفا فكن على ذكر منه. 4 - إن البحث العلمي الصحيح الذي يكون القصد منه إصابة الحق والصواب يلزم الباحث النزيه فيما إذا وردت روايات متعارضة أن ينقدها من ناحية السند- النقد الخارجي- ومن ناحية المتن- النقد الداخلي- ولا يزال يمحص الروايات، ويوازن بينها مع ملاحظة ما يوافق البيئة منها، وما لا يوافق، حتى يهتدي إلى الحق والرشاد، أما أن يأخذ ما يشاء على حسب هواه فتلك خيانة للبحث العلمي الصحيح، ثم إن جاز هذا من باحث متعصب ك «بلاشير» فكيف جاز ذلك من باحث مسلم كمصطفى مندور!!

5 - إن المعوّل عليه في حفظ القرآن الكريم هو التلقي الشفاهي فعن النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه ألوف الصحابة العدول الضابطين، وعن الصحابة تلقاه ألوف الألوف من التابعين ولم يكن المعول عليه في الحفظ الصحف أو المصاحف وإنما كانت الكتابة في الصحف والمصاحف لزيادة التوثق والاطمئنان ولا يزال الاعتماد في حفظ القرآن على الشيوخ الحافظين المتقنين إلى يومنا هذا، وهذا القرآن المكتوب في المصاحف ثبت بحفظ الألوف الذين لا يحصيهم العد وأجمع عليه المسلمون في كل عصر وقطر، فكل ما جاء من روايات مخالفة له مخالفة صريحة أو ضمنية فاضرب بهذه الروايات عرض الحائط، وارم بهما دبر أذنيك فإنها لا تساوي المداد الذي تكتب به، والروايات الآحادية وإن صحت لا تعارض ما ثبت بالتواتر، فما بالك إذا كانت الروايات الآحادية ضعيفة 6 - في كلام بلاشير ومتابعه (مندور)، تناقض ودعاوى وافتراضات لم يقم عليها دليل فمن ذلك ما ذكر بلاشير من أن مصحف عثمان قد بسط نفوذه ... فكيف يتفق هذا وقوله: فبالنسبة إلى بعض المؤمنين لم يكن نص القرآن بحرفه هو المهم! ثم كيف ضرب عن الروايات الصحيحة المتكاثرة صفحا وزعم أن نظرية القراءة بالمعنى كانت تكل تحديد النص إلى (هوى كل إنسان)! ثم ما قيمة التخمينات والافتراضات في بحث يتصل بكتاب يعتبر عند المنصفين خير الكتب السماوية وأفضلها بله الأرضية ثم أين النصوص الكثيرة التي أيدت فرية «قراءة القرآن بالمعنى» يا دكتور مندور وما ذكرت إلا بضعة نصوص ضعيفة متهالكة متهافتة وقعت عليها في كتب الأدب ونحوها التي لا اعتبار لها في موازين أهل النقد والرواية! ثم من هم الكثيرون الذين زعمت أنهم اتفقوا على جواز القراءة بالمعنى! وصدق القائل: والدعاوى ما لم تقيموا عليها بيّ ... نات أبناؤها أدعياء

جملة الأقوال في الأحرف السبعة

جملة الأقوال في الأحرف السبعة وقد بلغ بها «السيوطي» - نقلا عن ابن حبان- إلى خمسة وثلاثين قولا ثم قال: قال ابن حبان: فهذه خمسة وثلاثون قولا لأهل العلم واللغة في معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف، وهي أقاويل يشبه بعضها بعضا، وكلها محتملة ويحتمل غيرها. وقال أبو العباس المرسي: هذه الوجوه أكثرها متداخلة، ولا أدري مستندها ولا عمن نقلت ولا أدري لم خص كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر، مع أنها كلها موجودة في القرآن فلا أدري معنى التخصيص؛ ومنها أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة، وأكثرها معارضة حديث عمر وهشام بن حكيم، الذي في الصحيح؛ فإنهما لم يختلفا في تفسيره، ولا أحكامه وإنما اختلفا في قراءة حروفه، وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبع وهو جهل قبيح. أما ما استشكله من حديث عمر وهشام فقد بينا مفصل الحق فيه بما يزيل الإشكال ويطمئن القلب، وبحسبنا ما ذكرنا من الأقوال في هذا المقام فقد أعرضنا عن القشور، واكتفينا باللباب. موقف الشيعة من حديث الأحرف السبعة أما موقف الشيعة من حديث «نزل القرآن على سبعة أحرف» فكانوا على فريقين فمنهم من يرى صحة الحديث، ولم يطعن فيه، وذكر بعض الوجوه في تأويله، ويمثل هذا الفريق الأستاذ الشيخ أبو عبد الله بن الميرزا نصر الله الزنجاني- رحمه الله- في كتابه «تاريخ القرآن» فقد ذكر بعض الأحاديث التي رواها البخاري وغيره في هذا الباب، ثم قال: دلت هذه الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئ القرآن بعض عظماء الصحابة، ويهتم بأن يحفظوه حتى قال لأبي: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك ... » ودلت أيضا على أن الصحابة كانوا يهتمون بحفظ نصوص الآيات بحيث كان زيادة حرف «واو» ونقصيتها أمرا مهتما به مع أن ذلك لا يغير المعنى كثيرا. وكذلك عرض لبيان المراد بالأحرف السبعة، ومال إلى ما رآه الإمام

محمد بن جعفر بن جرير الطبري في تفسيره (¬1) وهو ما رجحناه آنفا. ويمثل الفريق الثاني- وهم الأكثر- السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي في كتابه «البيان في تفسير القرآن» (¬2)، فقد عرض لبعض الروايات الثابتة الصحيحة التي ذكرناها في صدر البحث وقد حاول أن يثبت أنها أحاديث مضطربة متناقضة وأنها ضعيفة الأسانيد من غير أن يقيم على ذلك بينة غير أنها واردة من طرق أهل السنة فهي مرفوضة في نظره وهي أيضا مخالفة لصحيحة زرارة بن أعين (¬3) عن أبي جعفر قال: إن القرآن واحد، نزل من عند واحد، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة، وأن الصادق عليه السلام حكم بكذب الرواية المشهورة بين الناس «نزل القرآن على سبعة أحرف» وقال: «ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد». ولا أدري كيف يستسيغ إخواننا الشيعة أن يردوا حديثا متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية واحد وعشرين صحابيّا عدولا ضابطين، بروايات مقطوعة (¬4) على التابعين ومن بعدهم، وليس مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا موقوفة (¬5) على الصحابي ومهما بلغ شأن التابعي أو تابع التابعي فلن تبلغ روايته مبلغ الرواية المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا تصلح أن تكون معارضة لها بل لو وردت ¬

_ (¬1) تاريخ القرآن للزنجاني من ص 35 - 38. (¬2) البيان ج 1 ص 119 وما بعدها عن «تاريخ القرآن». (¬3) في لسان الميزان ج 2 ص 473: زرارة بن أعين الكوفي أخو حمران يترفض- يعني أنه كان رافضيّا- فهو شيعي غال- وقد روى عنه العقيلي في الضعفاء حديثا له عن محمد بن علي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي لا يغسلني غيرك» وذكر له الذهبي قصة وفيها أخبار جعفر بن محمد عنه أنه من أهل النار، وقد كان يروي عن أبي جعفر- يعني محمد الباقر- وقد قال السفيانان: إنه ما رأى أبا جعفر ولكنه كان يتتبع حديثه، فهذه الصحيحة المزعومة لا يثبت سندها، وكان له أخوان شيعيان، وأشدهم تشيعا هو حمران، وقد ذكر ابن حزم في الجمهرة أنه رجع عن تشيعه، ولزم المصحف، وقال: لا إمام لي غيره. (¬4) المقطوع: هو ما روى عن التابعين من أقوالهم وأفعالهم. (¬5) الموقوف: هو ما روى عن الصحابة من أقوالهم وأفعالهم.

رواية عن بعض الصحابة، وورد عن النبي ما يخالفها أخذنا بالرواية المرفوعة ورفضنا الموقوفة، وهذا هو المنهج الصحيح الذي لا ينبغي أن يختلف فيه شيعي أو سني وهذا هو المنهج العلمي الصحيح الذي وضعه أئمة هذا العلم النبوي في كل عصر ومصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا. وماذا نملك للشيعة ما دام مذهبهم رفض كل المرويات التي رويت في كتب أهل السنة مهما بلغت من الصحة، وثقات رواتها! إذا عارضت ما روي عن أهل البيت. يقول السيد الخوئي: ولا قيمة للروايات إذا كانت مخالفة لما يصح عنهم (أي عن أهل البيت) ولذلك لا يهمنا أن نتكلم عن أسانيد هذه الروايات، وهذا أول شيء تسقط به الرواية عن الاعتبار والحجية (¬1) وهذا المبدأ أبعد ما يكون عن المنطق والصواب فأي راو مهما بلغ من العلم أو النسب غير معصوم، وما دام الأمر كذلك فلتوزن هذه الروايات وغيرها بالميزان الذي وضعه أئمة الجرح والتعديل، وليتعرف صحيحها من سقيمها من موضوعها بالقواعد التي وضعها أئمة أصول الحديث، والتي تعتبر ميزان المنقول، كما اعتبر المنطق ميزان المعقول، ولكي تكون على بينة مما ذكره السيد الخوئي ومنزلته من الحق والصواب أذكر لك بعض المثل مما انتقد به المرويات: يقول: فمن التناقض أن بعض الروايات دل على أن جبريل أقرأ النبي على حرف فاستزاده النبي- فزاده، حتى انتهى إلى سبعة أحرف، وهذا يدل على أن الزيادة كانت بالتدريج، وفي بعضها أن الزيادة كانت مرة واحدة في المرة الثالثة وفي بعضها أن الله أمره في المرة الثالثة أن يقرأ القرآن على ثلاثة أحرف، وكان الأمر بقراءة سبع في المرة الرابعة. وفي الحق أن هذا لا يعد تناقضا ولا اضطرابا ترد به الروايات لأن إمكان الجمع بينها سهل يسير لجواز أن لا تكون هذه الأحاديث في قصة واحدة بل ¬

_ (¬1) البيان ج 1 ص 123.

تكون في قصص ولقاءات متعددة، ففي بعضها أخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الرابعة، وفي بعضها أخبره في المرة الثالثة، أو بالعكس، أو تكون في قصة واحدة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها في أوقات متعددة ففي وقت اكتفى النبي بالإجمال، وفي وقت آخر سلك مسلك التفصيل فجاء الرواة فرووها كما سمعوها أو أن ذلك يرجع إلى أن بعض الرواة قد يقتصر على بعض المرات، والبعض يستوفي المرات، وقد علق العلماء على الروايات فيما سبق بنحو ذلك على أن هذه الأمور اليسيرة السهلة لا تطعن في صحة الحديث نفسه ما دامت الروايات كلها في النهاية تتفق على ذلك، وكل ما ذكره من تناقض أو اختلاف فهو أهون شأنا من هذا. أما الطعن في هذا الحديث بأن الزيادة على الحرف الواحد إنما جاءت من الرواة، فلا أدري أنصدقه فيما زعم، ونرفض ما رواه الأئمة العدول الضابطون، وما يكاد تجمع عليه الأمة سلفها وخلفها من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا! وفيه الصحابة الأجلاء، والأئمة العلماء الذين حكموا بتواتر هذا الحديث، ومعروف أن الحديث المتواتر يفيد القطع واليقين في نسبته إلى قائله!! والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ولا أدري كيف نرجح ما جاء في «صحيحة» زرارة بن أعين المنقطعة بقول إمامين كبيرين، وهما سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة على أحاديث مسندة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تفيد بمجموعها التواتر المعنوي! بل كيف نرجح ما يوجد في كتاب رجل حكم عليه جعفر بن محمد الباقر بأنه من أهل النار أحبّ من علماء الشيعة أن يراجعوا أنفسهم في مثل هذا الكلام الذي لا يشهد له عقل، ولا نقل صحيح، وإنما هي ظنون وتخرصات لا تغني عن الحق شيئا!!.

هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف ...

هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف ... اختلف العلماء في ذلك على أقوال ثلاثة: 1 - ما ذهب إليه الطبري، ومن وافقه على رأيه في الأحرف السبعة من أن المصاحف تشتمل على حرف واحد منها، وهو حرف قريش الذي جمع عثمان عليه المصاحف؛ قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وهو المعتمد. وهذا الرأي هو الذي يوافق ما ذهب إليه الطبري وموافقوه في الأحرف السبعة، وبسطناه فيما سبق غاية البسط، وهو مذهب المحققين. 2 - وذهب جماعة من الفقهاء والمتكلمين إلى أنها مشتملة على جميع الأحرف السبعة، وقالوا: إنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء منها، وقد أجمع الصحابة على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها أبو بكر، وكانت بجميع الأحرف السبعة، وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك. وقد أجيب عنه: بما ذكره ابن جرير: من أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة، وإنما كان جائزا لهم، ومرخصا لهم فيه، فلما رأى الصحابة أن الأمة قد تفترق وتختلف إذا لم يجمعوا على حرف واحد أجمعوا على ذلك إجماعا شائعا، وهم معصومون من الضلالة؛ ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام، وهذا إنما يتأتى على قول من يقول: إنها مفرقة في القرآن كله، أو أنه سبع قراءات من القراءات المشهورة. 3 - وذهب جماعة من السلف والخلف إلى أنها مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل متضمنة لها، لم تترك منها حرفا واحدا. قال ابن الجزري: وهذا هو الذي يظهر صوابه، قلت: لأنه هو الذي يوافق اختياره في الأحرف السبعة، وعلى هذا يتنزل أيضا ما ذكره ابن قتيبة، وأبو بكر الرازي، وأبو بكر الباقلاني. قال في «الفتح» - بعد ذكر بعض هذه الأقوال-: والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله، المقطوع به، المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم

وفيه بعض مما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ في آخر سورة براءة، وفي غيره بحذف من وكذا ما وقع فيه من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة «واوات» ثابتة في بعضها دون بعض (¬1)، وعدة «هاءات» (¬2)، وعدة «لامات» (¬3) ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته لشخصين، أو أعلم بذلك شخصا واحدا أو أمر بإثباتهما على الوجهين، وما عدا ذلك مما لا يوافق الرسم، فهو مما كانت القراءة جوّزت به توسعة على الناس وتسهيلا، فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان وكفر بعضهم بعضا، اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته، وتركوا الباقي. وقال البغوي في «شرح السنة»: المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عثمان بنسخه في المصاحف وجمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك؛ قطعا لمادة الخلاف، فصار ما يخالف المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم. والتحقيق: أن كون المصاحف مشتملة على الأحرف السبعة أو بعضها متوقفة على معرفة المراد بالأحرف السبعة، فمن قال إن المراد به سبع لغات في كلمة واحدة تختلف فيها الألفاظ مع اتفاق المعاني كابن جرير، ومن وافقه قال: إن ما بقي في المصاحف منها هو حرف قريش. ومن قال: إن المراد بالأحرف السبعة: الوجوه التي يرجع إليها اختلاف القراءات على ما ذهب إليه ابن قتيبة، ومن لف لفه، قال: إن المصاحف ¬

_ (¬1) مثل «ووصى» و «أوصى». (¬2) مثل «وما عملت أيديهم» و «وما عملته أيديهم». (¬3) مثل «سيقولون الله» و «وسيقولون لله» في سورة المؤمنون.

العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسم المصحف منها، بمعنى أنها اشتملت من كل واحد منها على ما وافق رسم المصحف منه، بل لم تخل عن وجه منها بالكلية، وإن كان بعض هذه الوجوه قد نسخ بعضه، وقد تكفل ببيان ذلك تفصيلا أحد كبار العلماء (¬1) الكاتبين في هذا الموضوع. ومما ينبغي أن يعلم أن غالب ما يمثل به هذا الفريق للأحرف السبعة إنما هو في نظر الفريق الأول- فريق الطبري، ومن تبعه- قراءات لا حروف، فهم يرون أن القراءات ترجع إلى الحروف، وهي منها، وليست عينها، مما يجعل الباحث غير مطمئن إلى الاحتكام إلى ما هو موجود في المصاحف العثمانية في الواقع، ونفس الأمر اليوم. يوضح ذلك ما أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» عن أبي الطاهر ابن أبي السرح قال: سألت سفيان بن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين، هل هي الأحرف السبعة قال: لا، وإنما الأحرف السبعة مثل: هلم، وتعال، وأقبل، أيّ ذلك قلت أجزأك، قال لي ابن وهب: مثله (¬2). وبعد: فلعلنا بعد هذا المطاف الطويل نكون قد وفقنا إلى عرض هذا البحث عرضا علميّا صحيحا خاليا من التعصب لأحد، أو التحيّف على آخر إلا ما دل عليه الدليل وقامت الحجة. ولعلك- أيها القارئ- تكون قد اقتنعت بما اقتنعنا به من أنه الحق والصواب في بيان المراد بالأحرف السبعة، وإلا فأنت واختيارك فقد عرضنا الأقوال وذكرنا ما لها وما عليها. والحمد لله الذي وفقني إلى ما انتهيت إليه في هذا المبحث العويص، الشائك، وبيان الحق في الروايات الموهمة المشكلة، التي زلت أقلام بعض العلماء بسببها وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. ¬

_ (¬1) الكلمات الحسان في نزول القرآن على سبعة أحرف وجمع القرءان ص 14 - 17. (¬2) فتح الباري ج 9 ص 24.

المبحث السادس المكي والمدني

المبحث السادس المكي والمدني [اهمية البحث] معرفة المكي والمدني من المباحث المهمة التي يحتاج إليها المفسر لكتاب الله ومن نصب نفسه للاجتهاد والفتيا والقضاء كي يمكنهم التوصل إلى الحق والصواب، قال أبو القاسم الحسن بن حبيب النيسابوري في كتاب «التنبيه على فضل علوم القرآن»: من أشرف علوم القرآن: (1) علم نزوله (2) وجهاته (3) وترتيب ما نزل بمكة والمدينة (4) وما نزل بمكة وحكمه مدني (5) وما نزل بالمدينة وحكمه مكي (6) وما نزل بمكة في أهل المدينة (7) وما نزل بالمدينة في أهل مكة (8) وما يشبه نزول المكي في المدني (9) وما يشبه نزول المدني في المكي (10) وما نزل بالجحفة (11) وما نزل ببيت المقدس (12) وما نزل بالطائف (13) وما نزل بالحديبية (14) وما نزل ليلا (15) وما نزل نهارا (16) وما نزل مشيعا (17) وما نزل مفردا (18) والآيات المدنيات في السور المكية (19) والآيات المكيات في السور المدنية (20) وما حمل من مكة إلى المدينة (21) وما حمل من المدينة إلى مكة (22) وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة (23) وما نزل مجملا (24) وما نزل مفسرا (25) وما اختلفوا فيه فقال بعضهم مدني وبعضهم مكي، فهذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ويميز بينها، لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى (¬1). قال السيوطي: وقد أشبعت الكلام على هذه الأوجه فمنها من أفردته بنوع ومنها ما تكلمت عليه في ضمن بعض الأنواع. وقد أفرد المكي والمدني بالتأليف بعض العلماء، كمكي والعز الدريني، وليس من شأننا في هذا المبحث تتبع الجزئيات واستقراء السور والآيات المكية والمدنية فذلك بالتأليف المستقل ألصق، وإنما قصدنا ذكر أحكام كلية وسمات وخصائص للمكي والمدني ومعارف متصلة بهما من ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 8.

فوائد العلم بالمكي والمدني

شأنها أن تنير الطريق لدارس القرآن ورد الشبه التي أوردها على المكي والمدني بعض القساوسة والمستشرقين ومتابعيهم من الكتّاب المعاصرين. فوائد العلم بالمكي والمدني : ومن فوائد العلم بها: 1 - أنه يعرف به الناسخ والمنسوخ فيما لو وردت آيتان متعارضتان وإحداهما مكية والأخرى مدنية فإننا نحكم بنسخ الثانية للأولى لتأخرها عنها. 2 - أنه يعين على معرفة تاريخ التشريع والوقوف على سنة الله الحكيمة في تشريعه؛ وهي التدرج في التشريعات بتقديم الأصول على الفروع والإجمال على التفصيل وقد أثمرت هذه السياسة التشريعية ثمرتها وعادت على الدعوة الإسلامية بالقبول والإذعان والانتشار، وقد ضربت أمثلة لهذا التدرج في التشريع في حكم نزول القرآن مفرقا. الطريق إلى معرفة المكي والمدني: والعمدة في معرفة المكي والمدني النقل الصحيح عن الصحابة الذين كانوا يشاهدون أحوال الوحي والتنزيل، والتابعين الآخذين عنهم، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول، وقد علل ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني «في الانتصار» فقال: ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول؛ لأنه لم يؤمر به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول. ولعل التعليل بأن المسلمين في زمانه صلى الله عليه وسلم لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان لأنهم يشاهدون الوحي والتنزيل، ويشهدون مكانه وزمانه وأسباب نزوله- أولى من ذاك التعليل (¬1). وقد اشتهر بمعرفة المكي والمدني من الصحابة- رضوان الله عليهم- عبد الله بن مسعود- رضي الله تعالى عنه- روى البخاري بسنده عنه أنه قال: «والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين ¬

_ (¬1) مناهل العرفان ج 1 ص 170.

تعريف المكي والمدني للعلماء في تعريفهما اصطلاحات ثلاثة

نزلت ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه» وقال أيوب: سأل رجلا عكرمة عن آية من القرآن فقال: نزلت بسفح الجبل وأشار إلى سلع (¬1). أخرجه أبو نعيم في الحلية. تعريف المكي والمدني للعلماء في تعريفهما اصطلاحات ثلاثة: الأول: ما عليه جمهور العلماء وهو: المكي: ما نزل قبل الهجرة وإن كان نزوله بغير مكة، ويدخل فيه ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في سفر الهجرة. والمدني: ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله بغير المدينة، ويدخل فيه ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره بعد الهجرة كسورة الفتح فقد نزلت على النبي منصرفه من الحديبية. وهذا الاصطلاح لوحظ فيه الزمان، وعليه فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها الآية مدني وإن كانت نزلت بمكة والنبي صلى الله عليه وسلم في جوف الكعبة عام الفتح، وقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً مدني وإن كانت نزلت بعرفة في حجة الوداع وهذا التقسيم حاصر وضابط ومطرد؛ إذ تنعدم على القول به الواسطة ولا يرد عليه ما ينقضه فلذا كان الراجح المقبول. الاصطلاح الثاني: المكي: ما نزل بمكة ويدخل في مكة ضواحيها كالمنزل عليه بمنى وعرفات والحديبية. والمدني: ما نزل بالمدينة ويدخل في المدينة ضواحيها كالمنزل عليه ببدر وأحد وهذا الاصطلاح لوحظ فيه المكان؛ ويرد على هذا التعريف أنه غير حاصر لأنه يثبت الواسطة فما نزل عليه بالأسفار لا يسمى مكيّا ولا مدنيّا وذلك مثل ما نزل بتبوك، وهو قوله تعالى: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً ¬

_ (¬1) بفتح السين وسكون اللام جبل بالمدينة.

لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [التوبة: 43] الآية، ومثل آية التيمم التي في سورة النساء فإنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره (¬1)، وهو منصرفه صلى الله عليه وسلم والجيش من غزوة بني المصطلق. الثالث: المكي: ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني: ما وقع خطابا لأهل المدينة، ويحمل على هذا ما نقل عن ابن مسعود أنه قال: ما كان في القرآن- يا أيها الذين آمنوا- أنزل بالمدينة، وما كان يا أيها الناس فبمكة. وما نقل عن ميمون بن مهران التابعي الجليل أنه قال: ما كان في القرآن يا أيها الناس أو يا بني آدم فإنه مكي، وما كان يا أيها الذين آمنوا فإنه مدني، وهذا الاصطلاح لوحظ فيه المخاطب، ويرد على هذا الرأي أن التقسيم عليه غير حاصر فهنالك آيات كثيرة جدّا في القرآن الكريم ليس فيها يا أيها الناس ولا يا أيها الذين آمنوا كما يرد عليه أنه غير مطرد؛ إذ هو منقوض بسورة «البقرة» المدنية وفيها يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وبسورة «النساء» المدنية ومفتتحها يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ وبسورة «الحج» (¬2) فإنها مكية عند جماعة من العلماء وفي أواخرها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) [سورة الحج: 77]. قال الإمام الرازي في تفسيره (¬3) تعقيبا على هذا الاصطلاح الأخير: قال القاضي: إن كان الرجوع في هذا إلى النقل فمسلّم وإن كان السبب فيه ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 18. (¬2) اختلف في هذه السورة فقيل إنها مكية إلا هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ إلى ست آيات لأنها نزلت بعد بدر في المتبارزين يوم بدر: حمزة، وعبيدة، وعلي بن أبي طالب، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وقيل مدنية إلا قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ الآية وقيل هي مختلطة فيها مكي ومدني وهو قول الجمهور وعلى القائلين بأنها مكية أن يستثنوا أيضا قول الله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الآيات؛ لأن فيها الإذن بالجهاد وهو لم يشرع إلا بالمدينة قطعا فالاعتراض بهذه السورة إنما يتجه على القول الأول. (¬3) ج 1 ص 302.

أنواع السور المكية والمدنية القرآن الكريم على أربعة أنواع

حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فضعيف إذ يجوز أن يخاطب المؤمنين بصفتهم. وباسم جنسهم، ويؤمر من ليس بمؤمن بالعبادة كما يؤمر المؤمن بالاستمرار عليها والازدياد منها فالخطاب في الجميع ممكن فإن قال قائل: إن مراد هؤلاء بمقالتهم هذه أن الغالب والكثير كذلك، قلنا: إن ذلك لا يفيد في التقاسيم والتعاريف إذ مبناها على الضبط والانحصار والاضطراد. أنواع السور المكية والمدنية القرآن الكريم على أربعة أنواع: 1 - مكي خالص. 2 - مدني خالص. 3 - مكي بعضه مدني. 4 - مدني بعضه مكي. أما المكي الخالص فمثل: سورة اقرأ، والمدثر، والقيامة. وأما المدني الخالص: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وأما المكي الذي بعضه مدني فمثل سورة الأنعام، فإنها مكية إلا قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ الآية، فقد صح أنها نزلت في مالك بن الصيف من اليهود (¬1)، وسورة الأعراف، فإنها مكية إلا قوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [سورة الأعراف: 163] الآية إلى خمس آيات أو ثمان بعدها فإنها مدنية، فإن الضمير في وَسْئَلْهُمْ لليهود، ولم يكن بمكة يهود، ومثل سورة الإسراء فإنها مكية إلا قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [سورة الإسراء: 85] الآية فإنها مدنية كما يدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود وقد تقدم في أسباب النزول. ومثل سورة هود فإنها ¬

_ (¬1) أسباب النزول للسيوطي في سبب نزول هذه الآية.

الاعتماد في وصف السورة بكونها مكية أو مدنية

مكية إلا قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [سورة هود: 114] الآية فقد صح أنها نزلت بالمدينة في قصة أبي اليسر (¬1). وأما المدني الذي بعضه مكي فمثل: سورة الأنفال، فإنها مدنية إلا قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الأنفال: 30] الآية فقد روي عن مقاتل أنها مكية واستثني أيضا قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إلى غاية آية [36] فمكيات (¬2). وقد روي عن ابن عباس أن آية وَإِذْ يَمْكُرُ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة تذكيرا له بنعمة الله عليه فهي مدنية على هذا. ومثل سورة «براءة» فهي مدنية إلا قوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [سورة براءة: 113] الآية فالصحيح أنها نزلت في قول النبي لعمه أبي طالب: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» (¬3). الاعتماد في وصف السورة بكونها مكية أو مدنية والذي يظهر أن اعتمادهم في وصف السورة بكونها مكية أو مدنية إنما يكون تبعا لما يغلب فيها أو تبعا لفاتحتها، فقد ورد عن ابن عباس: أنه قال إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت مكية ثم يزيد الله فيها ما شاء، وقال البيهقي في الدلائل: في بعض السور التي نزلت بمكة آيات نزلت بالمدينة فألحقت بها وقال ابن الحصار: كل نوع من المكي والمدني منه آيات مستثناة إلا أن من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل، وقال ابن حجر في الفتح: قد اعتنى بعض الأئمة ببيان ما نزل من الآيات بالمدينة في السورة المكية ... وأما عكس ذلك وهو نزول شيء من سورة ¬

_ (¬1) أبو اليسر- بفتح الياء المثناة والسين المهملة- اسمه كعب بن عمرو السلمي- بفتح السين واللام- وهو صحابي جليل شهد العقبة وبدرا، وهو الذي أسر العباس بن عبد المطلب، وحديثه مطول، وهو في صحيح مسلم، وكانت وفاته وهو مع أبي الحسن عليّ ب «صفين» سنة خمس وخمسين. (¬2) أسباب النزول للسيوطي ج 1 ص 77 على هامش الجلالين، الإتقان ج 1 ص 15. (¬3) أسباب النزول ج 1 ص 210 هامش.

المكي والمدني من السور

بمكة تأخر نزول تلك السورة إلى المدينة فلم أره إلا نادرا، فقد اتفقوا على أن الأنفال مدنية، لكن قيل: إن قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ ... الآية نزلت بمكة (¬1). وترتيب الآيات القرآنية ليس على حسب نزولها، وترتيبها الزمني، إنما يرجع إلى المناسبات التي تقوم على ارتباط المعاني وتماسكها، ووحدة الفكرة أو تجانسها، فلا عجب إذا أن يكون في بعض السور المكية آيات مدنية أو العكس. وليس أدل على هذا من أن بعض الآيات وضعت بجانب بعض الآيات الأخرى مع وجود فاصل زمني بينهما نحو بضع سنين كما قدمنا في أسباب النزول، وذلك مثل نزول قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فقد نزلت بعد قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ بنحو ست سنين. المكي والمدني من السور قد اختلف العلماء في بيان المكي والمدني من السور على أقوال كثيرة ذكرها السيوطي في إتقانه (¬2)، ومن السور ما اتفق العلماء على مكيتها أو مدنيتها، ومنها ما اختلفوا في كونه مكيّا أو مدنيّا، ولا يهولنك تشعب الاختلاف في هذا فمرد معرفة المكي والمدني إلى الأحوال والقرائن والملابسات، ومثل هذه مما تختلف فيها الأنظار، وتتنوع الاستنتاجات، ولعل أوفق هذه الأقوال وأقربها إلى الصواب ما ذكره أبو الحسن بن الحصار قال: إن المدني باتفاق عشرون سورة والمختلف فيها اثنتا عشرة سورة، وما عدا ذلك مكي، وقد نظم ابن الحصار ذلك في منظومة له نقلها السيوطي في الإتقان، وخلاصة ما تضمنه هذا النظم: أن السور المدنية باتفاق هي: (1) البقرة (2) وآل عمران (3) والنساء ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 9 ص 33 - 34. (¬2) ج 1 ص 9 - 14.

المكي والمدني على ترتيب النزول

(4) والمائدة (5) والأنفال (6) والتوبة (7) والنور (8) والأحزاب (9) ومحمد (10) والفتح (11) والحجرات (12) والحديد (13) والمجادلة (14) والحشر (15) والممتحنة (16) والجمعة (17) والمنافقون (18) والطلاق (19) والتحريم (20) والنصر. أما المختلف فيها فهي: (1) الفاتحة (2) والرعد (3) والرحمن (4) والصف (5) والتغابن (6) والتطفيف (7) والقدر (8) ولم يكن (9) وإذا زلزلت (10) والإخلاص (11، 12) والمعوذتان. وأما المكي فهو ما عدا ذلك، وهي اثنتان وثمانون سورة. أقول: إن بعض ما ذكره ابن الحصار غير مسلم؛ لأن على رأيه تكون سورة «الحج» مكية باتفاق مع أنه روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أنها مدنية، وهو الأرجح، وليس من المستساغ أن نعتبر أن هذا الخلاف كلا خلاف إلا إذا سرنا على منهجه حيث قال في آخر منظومته: وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر ولا أدري كيف لا يكون لهذا حظ من النظر وهو الراجح. المكي والمدني على ترتيب النزول وكما عني العلماء ببيان المكي والمدني من السور عنوا أيضا بترتيب السور المكية والمدنية على حسب النزول فقد أخرج ابن الضريس في «فضائل القرآن» رواية عن ابن عباس في هذا الترتيب (¬1) وقد سقط من هذه الرواية فاتحة الكتاب فيما نزل بمكة، كما أخرج أبو بكر محمد بن الحارث ابن أبيض في جزئه المشهور رواية عن جابر بن زيد (¬2)، وجابر بن زيد من علماء التابعين بالقرآن، وقد اعتمد البرهان الجعبري على هذا الأثر في قصيدته التي سماها «تقريب المأمول في ترتيب النزول» وتكاد تتفق الروايتان فيما ذكرناه من ترتيب ولم تفترقا إلا في القليل. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان ج 1 ص 110. (¬2) المرجع السابق ص 25.

الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني

ومما يؤخذ على هاتين الروايتين أنهما اتفقتا على أن أول ما نزل «اقرأ» ثم «ن والقلم» ثم «يا أيها المزمل» ثم «يا أيها المدثر» ... وهو يخالف ما حققناه سابقا من أن أول ما نزل بعد صدر سورة «اقرأ» هو صدر سورة «المدثر» وكان ذلك بعد فترة الوحي، ولعل النظرة الفاحصة في أوائل «ن» و «المزمل» و «المدثر» تهدينا إلى أن «المدثر» هي الأنسب بالتقديم على أختيها إذ قد اشتمل صدرها على الأمر بالإنذار وهو الأليق بالتقديم. ولعل هذا النقد الذي ذكرته هو ما أشار إليه الإمام السيوطي حيث قال بعد أن ذكر رواية جابر بن زيد: هذا سياق غريب وفي هذا الترتيب نظر. الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني لمعرفة المكي والمدني طريقان: 1 - سماعي. 2 - وقياسي. أما السماعي فالنقل الصحيح عن الصحابة أو التابعين بأن سورة كذا أو آية كذا نزلت بمكة أو بالمدينة أو قبل الهجرة أو بعدها. وأما القياسي فضوابط كلية لمعرفة كل منها وهذه الضوابط مبناها على التتبع والاستقراء المبني على الغالب والكثير. ضوابط المكي 1 - كل سورة فيها «كلا» مكية، وقد وردت في القرآن ثلاثا وثلاثين مرة في خمس عشر سورة كلها في النصف الأخير قال الدريني رحمه الله: وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن ... ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى قال العماني: وحكمة ذلك أن النصف الأخير نزل أكثره بمكة، وأكثر أهلها جبابرة فتكررت كلا على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم بخلاف النصف الأول، وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم (¬1). ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 18.

ضوابط المدني

2 - كل سورة في أولها حروف المعجم فهي مكية سوى «البقرة» و «آل عمران» فإنهما مدنيتان باتفاق، وفي «الرعد» خلاف. 3 - كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة. 4 - كل سورة فيها سجدة مكية سوى الحج، عند من يقول إنها مدنية. 5 - كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الماضية مكية سوى «البقرة» و «آل عمران». ضوابط المدني 1 - كل سورة فيها ذكر الحدود والفرائض مدنية. 2 - كل سورة فيها ذكر المنافقين وأحوالهم مدنية سوى سورة العنكبوت فإنها مكية إلا إحدى عشرة آية من صدرها فإنها مدنية وهي التي ذكر فيها المنافقون. 3 - كل سورة فيها الإذن بالجهاد أو الأمر به وأحكامه والصلح والمعاهدات فهي مدنية، سوى سورة «الحج» عند من يرى أنها مكية. مميزات المكي والمدني قد امتاز كل من المكي والمدني غير ما تقدم من الضوابط بأمور كثرت فيه وسمات بارزة تميزه عن غيره وهذه المميزات ترجع إلى المعنى والموضوع والخصائص البلاغية فهي أدل وأدق وأشمل من الضوابط لأن غالبها يرجع إلى اللفظ والشكل. مميزات المكي 1 - الدعوة إلى أصول الإيمان الاعتقادية من الإيمان بالله واليوم الآخر وما فيه من البعث والحشر والجزاء والإيمان بالرسل والملائكة وإقامة الأدلة العقلية والكونية والأنفسية على ذلك، وهذه الثلاثة وأدلتها هي التي يدور عليها غالبا الحديث في السور المكية؛ وذلك لأن القوم كانوا منغمسين في حمأة الشرك والوثنية، وكانوا لا يقرون بالنبوات ولا بالبعث وما بعده، ويقولون: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، فكان اللائق بحالهم دعوتهم أولا إلى الإيمان بهذه الأصول فإذا ما آمنوا بها

خوطبوا بالفروع والتشريعات التفصيلية. 2 - محاجة المشركين ومجادلتهم وإقامة الحجة عليهم في بطلان عبادتهم الأصنام وبيان أنها بمعزل عن الألوهية واستحقاق العبادة وأنها لا تضر ولا تنفع ولا تخلق، ولا تحس، ولا تعي أي شيء، ودعوتهم إلى استعمال عقولهم ونبذ التقليد بغير حجة وعلم قال تعالى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) [الزخرف: 22 - 24] وقال سبحانه: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) [لقمان: 21]، وإقامة الأدلة على أن القرآن حق لا شك فيه، وأنه من عند الله، وقد وقع التحدي بالقرآن في ثلاث سور مكية ولم يقع التحدي به في القسم المدني إلا في سورة البقرة. 3 - الدعوة إلى أصول التشريعات العامة والآداب والفضائل الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان ولا سيما ما يتعلق منها بحفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسب وهي الكليات الخمس التي تتفق فيها جميع الشرائع السماوية وذلك كالحث على الثبات على العقيدة والاستهانة بكل شيء في سبيلها والأمر بالصلاة والصدقة، والصدق، والعفاف وبر الوالدين، وصلة الرحم، والعفو، والعدل، والإحسان والتواصي بالحق، والخير، والصبر، والنهي عن القتل، ووأد البنات، والظلم، والزنا وأكل أموال الناس بالباطل وذلك مثل قوله تعالى في أواخر سورة الأنعام: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الآيتين (¬1)، وفي سورة الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وفي سورة النحل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية، وقوله تعالى في سورة «ن» وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) الآيات. ¬

_ (¬1) استثنى بعض العلماء قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا الآيات وقال: إنها مدنية.

4 - ذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم؛ ليكون في قصصهم عبرة وموعظة لأولي الألباب، لبيان أن دعوة الرسل جميعا واحدة وأنهم جاءوا بالتوحيد الخالص والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن الأنبياء وأتباعهم لاقوا كل أنواع الإيذاء في سبيل عقيدتهم ومع ذلك صبروا وثبتوا على عقائدهم وكان النصر والعاقبة لهم، والهزيمة والخذلان لأعدائهم إلى غير ذلك ولقد كان ذكر القصص في القسم المكي من أعظم الأدلة على أن القرآن من عند الله؛ إذ لو تأخر نزوله إلى المدينة لقالوا: تعلمه من أهل الكتاب قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) [هود: 49]، وقال تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) [يوسف: 111]. 5 - قصر أكثر آياته وسوره؛ وذلك لنزوله بمكة، وأكثر أهلها يومئذ يمتازون بعلو كعبهم في الفصاحة والبلاغة، وتملكهم لناصية القول، والخطابة، والشعر وبلوغهم الغاية في لطف الحس، وذكاء العقل، والألمعية وسرعة الخاطر فكان المناسب لهم النذر القارعة، والعبارات الموجزة، والفقر القصيرة ذات اللفظ الجزل، والجرس القوي، والمعنى الفحل فتصخّ الآذان وتستولي على المشاعر وتعقل ألسنتهم عن المعارضة وتدعهم في حيرة ودهشة مما يسمعون فلا يلبث البليغ منهم بعد سماعها أن يلقي عصا العجز ويرسلها قولة صريحة تشهد بالإعجاز كما قال الوليد بن المغيرة القرشي لما سمع القرآن: والله لقد سمعت كلاما ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته (¬1). ولما أحزنت المشركين مقالته وأكرهوه على أن يقول في القرآن قولا ¬

_ (¬1) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة ج 1 ص 319.

مميزات القسم المدني

ينقض قولته الأولى لم يسعه بعد الصراع النفسي العنيف وتكلف الخروج عن فطرته العربية وملكته الأدبية إلا أن يقول: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) ولكي تتأكد أن الرجل لم يقل ذلك إلا مكرها أقرأ عليك قول الله: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) [المدثر: 18 - 25]. فانظر كيف صور القرآن حالته النفسية هذا التصوير المعجز الذي يصور لك الوليد وقد بدت على وجهه آثار الصراع النفسي العميق العنيف ما بين فطرته اللغوية التي تأبى عليه أن يقول في القرآن غير ما قال، وما بين رغبته في إرضاء قومه التي تلح عليه أن يقول في القرآن ما يرضيهم ويبقي على مودتهم له، فلم يستطع إلا أن يقول: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)!!! وآثر أن يناقض نفسه على أن يغضب قومه!! ولقد كان البليغ منهم- على كفره- يسمع القرآن فيخيل إليه أن العذاب كأنه واقع بهم فلا يجد مندوحة عن أن يناشد النبي صلى الله عليه وسلم الله والرحم أن يكف عن قراءاته، وكان القرشيون يتواصون فيما بينهم أن لا يستمعوا إليه وأن يضعوا أصابعهم في آذانهم، ويستغشوا ثيابهم، حذرا أن ينفذ إلى قلوبهم فإذا هم بعد قليل تغلب عليهم فطرتهم اللغوية فيتناسون الوصية ويلقون إليه بآذانهم وقلوبهم لما يجدون في استماعه من لذة وإرضاء لملكاتهم الأدبية (¬1). مميزات القسم المدني 1 - التحدث عن التشريعات التفصيلية والأحكام العملية في العبادات والمعاملات كأحكام الصلاة، والصيام، والزكاة، والقصاص، والنكاح، والطلاق، والبيوع والمداينات، والربا، والحدود كحد الزنا، والسرقة، والكفارات؛ ككفارة القتل الخطأ والظهار، والأيمان، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه السور المدنية كما في سورة البقرة والنساء والمائدة والنور؛ وذلك لأن حياة المسلمين في المدينة بدأت في الاستقرار ¬

_ (¬1) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة ج 1 ص 322 - 323.

وأصبح لهم كيان ودولة وسلطان، ومن شأن الجماعة التي لها رابطة تربطها أن تكون في مسيس الحاجة إلى تشريع يتكفل بما تحتاج إليه في دينها ودنياها، وأيضا فالتشريعات العملية مرتبطة بسلطان الحكم التنفيذي فلا تشريع لمن لا يملك حكم التنفيذ فمن ثم جاءت التشريعات المدنية على ما ذكرنا. 2 - محاجة أهل الكتاب وبيان ضلالهم في عقائدهم التي ضاهوا بها أسلافهم من زائغي الأمم السابقة كقولهم بالتثليث أو الحلول أو الأبنية أو الصلب، والإنحاء عليهم باللائمة؛ لتحريفهم كتبهم ولا سيما البشارة بالنبي الأمي المبعوث في آخر الزمان، وتغيير بعض الأحكام التي لا تلائم أهواءهم واتخاذهم هذا التغيير وسيلة لابتزاز أموال الناس بالباطل؛ فاليهود قالوا عزير ابن الله، والنصارى غلوا في عيسى فقال بعضهم: إنه الله، وقال بعضهم: ابن الله، وقال آخرون: ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. وغيّر اليهود الرجم إلى الجلد أو تسخيم الوجه والتشهير طمعا في المال أو الزلفى إلى الأشراف وقد جادلهم القرآن بالحسنى والحجة الدامغة والمنطق السليم، وذلك كما ترى في سورة المائدة، وآل عمران، والبقرة، والنساء، والتوبة. 3 - بيان ضلال المنافقين وإظهار فضائحهم والكشف عن خبيئة نفوسهم وإظهار ما بهم من سوء الطباع والجبن والهلع وأنهم لا يبتغون إلا عرض الحياة الدنيا ولا يهمهم أمر الإسلام ونصره كما في سورة البقرة والتوبة التي ما زالت تقول: ومنهم، ومنهم حتى فضحتهم، وقد أنزل الله سورة من المفصل في شأنهم وهي «المنافقون». 4 - قواعد التشريع الخاصة بالجهاد، وحكمة تشريعه، وذكر الأحكام المتعلقة بالحروب، والغزوات؛ من الصلح، والمعاهدات، والغنائم، والفيء وفك الأسارى، وذلك كما في سورة البقرة، والأنفال وبراءة والقتال والفتح والحشر.

الشبه التي أثيرت حول المكي والمدني

5 - طول أكثر آياته وسوره لاشتمالها على الأشياء السابقة، وهي تقتضي البسط والإطناب وإطالة النفس كما أن أهل المدينة لم يكونوا في درجة أهل مكة في البلاغة والفصاحة ولا سيما اليهود الذين كانوا يساكنوهم في المدينة، فكان الحال باعثا على الإطالة، والإطناب في مقام الإطناب لازم، والإيجاز في مقام الإيجاز واجب، ووضع أحدهما مكان الآخر ليس من البلاغة في شيء، وقد سلك القرآن كلتا الطريقتين مع كونه في أعلى درجات البلاغة والفصاحة. الشبه التي أثيرت حول المكي والمدني اعتاد الملاحدة والمنصرون وأعداء الإسلام أن يتلمسوا المطاعن في القرآن، وغرضهم بذلك التشكيك في القرآن وقداسته كي يتوصلوا إلى هدم الإسلام وإضعاف المسلمين بصرف أنظارهم وقلوبهم عن القرآن الذي هو أصل الدين ومنبع الصراط المستقيم، ولما كانوا يصدرون في هذه الطعون عن هوى متبع وعصبية دينية ممقوتة فقد جافاهم الحق والصواب. ومما يؤسف له أن بعض الذين تسموا بأسماء المسلمين، وصنعتهم أوربا بيديها وربتهم على عينيها ومن على شاكلتهم ممن لم يتعمقوا في الدراسات الإسلامية قد استهوتهم هذه الأباطيل فصاروا ينشرونها ويذيعونها في دروسهم، وقد حمل كبر هذا الإفك أديب معروف (¬1) كان يدرس الأدب بالجامعة المصرية حقبة من الزمان، وقد تلقف هذا الأديب هذه الأباطيل مما كتبه المستشرقون والقسس وإن كانوا- والحق يقال- كانوا أعف منه في بعض الأحيان!! ومن عجب أن يسوق هذه الطعون على أنها من بنات أفكاره ومبتكراته فكان كلابس ثوبي زور، ومن عجب أيضا أن يعتبر هذا التجني على القرآن العظيم حرية في البحث، وجراءة في التفكير فيقول: لا شك أن الباحث الناقد، والمفكر الجريء الذي لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كتاب آخر (¬2) .... إلخ ما قال. ولمن يلقي هذا الكلام لطلاب ¬

_ (¬1) هو الدكتور طه حسين. (¬2) انظر نقض مطاعن القرآن من ص 4 - 8.

الشبهة الأولى

لم يعرفوا من الدين إلا قشورا، ومن اللغة العربية إلا حظا يسيرا ثم يطلب إليهم أن ينقدوا كتاب العربية الأكبر الذي خرت لبلاغته جباه البلغاء، وخرست عن معارضته ألسنة الفصحاء من كل جنس، وفي كل عصر، وكيف يتهيأ لمن لا يكاد يبين أن ينقد كتابا عربيّا مبينا وقد قيض الله لهذه الشبه من علماء الأمة (¬1) الذين تذوقوا بلاغة القرآن ووقفوا على أسرار إعجازه من زيفها على أساس من المنطق السليم، والحجة الدامغة والحق الظاهر، والواقع التاريخي الثابت. وهذه الطعون- فضلا عن كونها كفرا دينيّا- هي كفر بقواعد البحث العلمي الصحيح التي طالما تمسحوا بها، وأكثروا من ترديدها في كتاباتهم، ومحاضراتهم وسنقصر ردنا على ما يتعلق بالمكي والمدني من القرآن. الشبهة الأولى قال: إن القسم المكي يمتاز بتقطع الفكرة، واقتضاب المعاني، وقصر السور وقصر الآيات، وأما القسم المدني فهو طويل السور طويل الآيات وأفكاره منسجمة متسلسلة، وعزا ذلك إلى تأثر محمد صلى الله عليه وسلم بالبيئة؛ فأهل مكة قوم أميون لا يقدرون على إنشاء العبارات الطويلة، أما أهل المدينة فهم أهل كتاب أو متصلون بأهل الكتاب لهم قدرة على إنشاء العبارات الطويلة، وغرضه التشكيك في أن القرآن من عند الله سبحانه. وللرد على هذه الشبهة نقول: 1 - إن القول بأن القسم المكي يمتاز بتقطع الفكرة واقتضاب المعاني بخلاف القسم المدني قول من لم يتمعن في القرآن، ولم يعن بدراسته، ومن يرسل القول على عواهنه، ولم يأخذ من اللغة العربية وأسرارها ¬

_ (¬1) من خير من رد عليه هذه المطاعن في القرآن الكريم الأستاذ الكبير الشيخ/ محمد عرفه عضو جماعة كبار العلماء- رحمه الله- وخير من رد عليه في كتابه «الشعر الجاهلي» الأستاذ الأكبر السيد محمد الخضر حسين- رحمه الله- شيخ الأزهر السابق في كتاب سماه «نقض كتاب في الشعر الجاهلي».

وآدابها بحظ وافر، أما من قرأ القرآن قراءة باحث مستبصر غير ذي هوى ورزق التبحر في اللغة، والوقوف على أسرار البلاغة فإنه يصل ولا محالة إلى علم اليقين في هذا؛ وهو أن القرآن كعقد منظم تناسقت حباته، وتآلفت لآلئه، ونظم في سلك من الذهب الخالص، والقرآن كله- مكيه ومدنيه- معانيه متآلفة، وأفكاره منسجمة وآياته متآخية آخذ بعضها بحجز بعض، لا تنقطع آية عن سابقتها ولاحقتها، لا ينفر معنى من آخر، ولو أن هذا الناقد تناول بعض السور المكية وبين لنا بطريقة فنية ما فيها من اقتضاب وتفكك لبينا له ما فيها من ترابط وتماسك، ولظهر وجه الحق لذي عينين، أما وقد أرسلها قولة مجردة فهي لا تخرج عن كونها دعوى عارية عن البرهان. وقد عني العلماء المحققون في القديم والحديث ببحث المناسبات بين الآي والسور وأتوا في ذلك بالعجب العجاب، وقد اشتملت بعض كتب التفسير وكتب البلاغة وأسرارها في ذلك على شيء كثير، وألف بعضهم في ذلك كتبا مستقلة كما فعل البقاعي في كتابه «لقط الدرر في تناسب الآي والسور» والسيوطي في كتابه «أسرار التنزيل» وبحسبنا هذا الإجمال الآن، وعسى أن تكون لنا عودة للبحث التفصيلي في موضعه إن شاء الله. 2 - أن طول الكلام وقصره تابع لمقتضى الحال الذي هو عماد البلاغة العربية، وليس تابعا للبيئة ولا الوسط، وقد بينت آنفا السر في سلوك القرآن الكريم العبارات القصيرة حينا والطويلة حينا آخر، فكن على ذكر منه. 3 - القرآن الكريم قد تحدى العرب قاطبة في بعض السور المدنية كما تحداهم في السور المكية، وقد جاء التحدي في المدينة بسورة مهما قصرت وأما في مكة فقد وقع التحدي بالقرآن كله ثم بعشر سور منه ثم بسورة واحدة أية سورة، فلو أن أهل المدينة- كما زعم الناقد- كانوا أقدر على إنشاء العبارات الطويلة من أهل مكة، وأن القرآن كان متأثرا بهم في الإطالة لكانوا أقدر على معارضته والإتيان ولو بأقصر سورة منه، ولكنهم

الشبهة الثانية

لم ينبسوا ببنت شفة، ورضوا لأنفسهم السكوت وباءوا بالعجز، بل عجزهم أشد من عجز أهل مكة، ثم أي دارس للأدب تسول له نفسه أن يفضل أهل المدينة على أهل مكة في البلاغة والفصاحة والتصرف في فنون القول والقدرة على إنشاء العبارات! ومعروف أن قريشا كانت أوسط العرب دارا وأبرعهم في الخطابة والشعر والتفنن في الأساليب، وإليها كان يحتكم العرب في شعرهم ونثرهم، وقد ساعدها على هذا اجتماع العرب في مواسم الحج، والمجامع الأدبية الحافلة، والأسواق السنوية التي كانت تعقد بالقرب من دارهم في عكاظ ومجنة وذي المجاز، فكانوا يتخيرون من لغتهم ما خف على اللسان، وحسن في الأسماع وجاد من الأساليب. الشبهة الثانية قال: إن القسم المكي يمتاز بميزات الأوساط المنحطة أما القسم الثاني المدني فتلوح عليه أمارات الثقافة والاستنارة، فالقسم المكي ينفرد بالعنف والشدة والقسوة والسباب والوعيد والتهديد مثل: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) السورة، وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2)، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ أما القسم المدني: فهادئ لين وديع مسالم يقابل السوء بالحسنى. وللرد على ذلك نقول: 1 - إن القسم المكي فيه ثقافة واستنارة أيضا، وفيه سمو ورفعة ووقار وجلال ولين، وهو إن قسا فعلى الكافرين والمفسدين، وإذا لان فللأخيار والصالحين وهو في كلا الحالين يدعو لخير الإنسانية جمعاء وعباراته مهذبة غاية التهذيب، وكيف لا يكون فيه ثقافة واستنارة وقد تحدث أكثر ما تحدث عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعن الفضائل والآداب الإنسانية السامية، وبحسبك أن تقرأ أي سورة من السور المكية لتعلم ذلك علم اليقين، ثم ماذا يريد هذا الطاعن بالسباب إن أراد البذاءة والفحش

من القول فقد كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبا، وإن أراد ما اشتمل عليه من الوعيد والإنذار والتقريع فهذا لا يسمى سبابا إلا في دماغ قائله، وكنا نحب من الناقد المخرب أن يربأ بنفسه وأدبه عن هذا الإسفاف في التعبير حينما يتحدث عن كتاب كالقرآن العظيم. 2 - دعواه أن القسم المكي اشتمل على الوعيد والشدة دون القسم المدني دعوى من لم يطلع على القرآن الكريم، أو اطلع ولكن أعمته عصبيته عن إدراك الحق المبين، فالقسم المدني اشتمل على الوعيد والإنذار كما أن القسم المكي اشتمل على الدعوة إلى اللين والعفو والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان. استمع إلى قول الحق تبارك وتعالى في سورة البقرة المدنية الآية 174: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)، وقوله في سورة آل عمران المدنية الآية 10: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)، وفي سورة النساء المدنية الآية 47: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) وفي سورة المائدة الآية 78 - 81: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الآيات، إلى غير ذلك من آيات الوعيد في القسم المدني، ثم استمع إلى ما جاء في السور المكية حثّا على اللين والعفو والتسامح؛ قال تعالى في سورة الأعراف المكية الآية 199: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)، وقال في سورة فصلت المكية الآية 34 - 35: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وفي سورة الشورى المكية الآية 36 - 43: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ

وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إلى قوله وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) فأيّ لين ووداعة بعد هذا وأي دعوة إلى الصبر والعفو والمغفرة تداني هذه الدعوة وهكذا نرى القرآن الكريم يسلك مسلك الوعيد والشدة متى اقتضى المقام ذلك ويسلك مسلك اللين والعفو والصفح إذا اقتضى الحال ذلك، وهذا هو الأسلوب الحكيم، ويرحم الله القائل: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم والقائل: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى 3 - هذه السور والآيات التي ذكرها الطاعن ليس فيها رائحة سباب، ولو علم سبب النزول والمراد بالآيات لما رمى بهذه القولة الجائرة، وإليك ما ورد في سبب نزول سورة أبي لهب. أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي»، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ» قالوا: نعم؛ ما جربنا عليك إلا صدقا قال: «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) وأخرج ابن جرير أن امرأة أبي لهب كانت تأتي بأغصان الشوك فتطرحها في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل كانت تنقل الحديث وتمشي بالنميمة بين الناس؛ فالسورة إذا نزلت ردا على أبي لهب في دعائه على النبي، وإيذائه له، وإنذارا له ولزوجه بأنهما سيصليان النار الشديدة جزاء لهما على ما صنعا، ولا شك أن في هذا

الوعيد ردعا لأبي لهب وزوجته وأمثالهما ممن يناهضون رسالات الرسل ويسعون في الأرض بالفساد ولا أدري في أي عرف أو ذوق يعتبر إنذار مثل هذا المعوق عن الخير والحق أمرا خارجا عن المألوف وسبابا وشدة وماذا كان ينتظر هذا الطاعن في الرد على أبي لهب وزوجته أكان ينتظر من منزل القرآن الحكيم أن يظهر له الرضا على مقالته ويقول له: بخ بخ فيزداد بطرا وأشرا! وأما سورة «والعصر» فليس فيها ما يشتم منه السباب، وليس فيها عنف ولا شدة وكل ما عرضت له السورة أن الناس قسمان: 1 - قسم ناج من الخسران والعذاب فائز برضوان الله، وهم الذين جمعوا عناصر السعادة الأربعة؛ وهي الإيمان بالله، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. 2 - قسم غارق في الخسران، مآله إلى الهلاك والعذاب، وهم الذين لا يقرون بإله ولا يدينون بشريعة ولا يعملون صالحا: فهم جراثيم شرور، ولا يتواصون بحق؛ فالحق بينهم مضيع، ولا يتواصون بصبر؛ فهم في هلع وجزع، ومما لا يقضى منه العجب أن يستشهد هذا الناقد بهذه السورة التي أقر بكفايتها وغنائها الأئمة في القديم والحديث؛ قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده- رحمه الله-: ثم تراها لم تدع شيئا إلا أحرزته في عباراتها الموجزة، حتى قال الإمام الشافعي- رحمه الله-: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم! أو قال: لو لم ينزل الله من القرءان سواها كلفت الناس ولجلالة ما جمعت روي أنه كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة «والعصر» ثم يسلم أحدهما على الآخر؛ ذلك ليذكّر كل منهما صاحبه بما يجب أن يكون عليه فإذا رأى منه شيئا ينبغي أن ينبه إليه فعليه أن يذكره له (¬1). وأما قوله تعالى في سورة الفجر: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَ ¬

_ (¬1) تفسير جزء عم ص 154.

الشبهة الثالثة

رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) فلا سباب فيه ولا عنف وكل ما فيه إخبار من الحق عز شأنه، بأن عادا وثمود وفرعون لما طغوا في البلاد وظلموا العباد وأكثروا من الفساد أنزل الله بهم العقاب جزاء لهم على ظلمهم وإفسادهم، فالمراد بصب السوط إنزال العقوبة الشديدة بهم، وهو من المجازات البديعة، ومعنى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) أنه القائم بتدبير الأمور الرقيب على عباده لا يفوته من شئونهم شيء وهو مجازي كل عامل بعمله فلا يفلت منه أحد، فلا يظن أهل الطغيان الذين يفسدون في الأرض أن يفلتوا من الله وعقابه، وفي هذا الإخبار تحذير للموجودين والمخاطبين أن يفعلوا مثل ما فعلوا فيعاقبوا مثل ما عوقبوا، فانظر- أيها القارئ الفطن- كيف اشتملت هاتان الآيتان على وجازتهما على هذه المعاني الثرية والتحذيرات النافعة المفيدة. وأما سورة «ألهاكم التكاثر» فغاية ما فيها أن يترك الناس التفاخر بالأحساب والأنساب والتكاثر بالأموال والأولاد والتلهي بما لا يفيد وأن يقبلوا على الاشتغال بما ينفع من الإيمان والعمل الصالح، أما التلهي بالتكاثر والتفاخر فلن يكون من ورائه إلا خسران الدنيا والآخرة، فلا عجب أن يردعهم الله، وأن يكرر الردع والزجر فقال: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)، ولو علم اللاهون المتكاثرون علم اليقين لأعرضوا عما فيهم، وأقبلوا على الأعمال الصالحة؛ لأنهم سيرجعون إليه في يوم يحاسبون فيه ويجازون على أعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) فالسورة لا تخرج عن كونها وعيدا وتحذيرا وإرشادا وتعليما. الشبهة الثالثة قال: إن القسم المكي يمتاز بالهروب من المناقشة، وبالخلو من المنطق والبراهين، فيقول: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) إلى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) بخلاف القسم المدني فهو يناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين، فيقول: لَوْ كانَ فِيهِما

آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ويستدل بهذا على تأثر القرآن بالبيئة والوسط، وغرضه التشكيك في أن القرآن من عند الله. وهذا الكلام منقوض بما يأتي: 1 - أنه لا يجرؤ على هذه المقالة إلا أحد رجلين: إما جاهل أغرق في جهله فلا يكاد يميز بين المكي والمدني، وإما زنديق أعمته زندقته عن إدراك الحق الظاهر، وقد سقط هذا الباحث الناقد والمفكر الجريء سقطة لا إقالة له منها، ولا يكاد يقع فيها الطلاب المبتدءون، فضلا عن الباحثين؛ ولو تناول مصحفا وأمر القارئ له أن يقرأ ما كتب قبل مفتتح سورة الأنبياء لوجد سورة الأنبياء مكية وآياتها 112، ولو تناول كتابا من كتب الفن لعلم أن سورة الأنبياء مكية بلا استثناء عند جمهور العلماء، وباستثناء آية أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها عند البعض، ومهما يكن من شيء فالآية التي استدل بها مكية بالإجماع، وكيف تتفق هذا السقطة التي لا تكون من مبتدئ، وما أضفاه على نفسه من الصفات الطنانة والعبارات الجوفاء الحق أنه قدم لنا الخنجر للإجهاز عليه. وأن نظرة بسيطة في السور المكية لترينا أنها استفاضت بالأدلة والبراهين القطعية؛ اقرأ إن شئت في إثبات الإله قوله تعالى في سورة الغاشية: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) [الغاشية: 17 - 20] الآيات، وقوله تعالى في سورة الواقعة: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) إلى قوله فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) [الواقعة: 57 - 74] وقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) [الطور: 35 - 36]. واقرأ أيضا في إثبات الوحدانية في سورة الأنبياء المكية: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22]، ومهما أسهب الفلاسفة وعلماء الكلام في إقامة الأدلة والبراهين على الوحدانية فلن يخرجوا عن فلك هذه الآية على وجازتها وقصرها، وفي سورة «المؤمنون» المكية: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ

وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ [المؤمنون: 91] الآية، وفي سورة النمل: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) إلى قوله قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النمل: 60 - 64]، وقوله تعالى في سورة الروم: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) إلى قوله: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) [الروم: 20 - 26]. واقرأ إن شئت في التدليل على إمكان البعث في سورة «يس» المكية وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) [يس: 79 - 83] إلى آخر السورة، وقوله تعالى في سورة الأحقاف المكية: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) [الأحقاف: 33]. وكذلك يعرض القرآن في السور المكية لإثبات الرسالة بالمنطق السليم والحجج الدامغة، فيقول في جواب المشركين لما قالوا: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 20]، ولما قالوا: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء: 7] قال في جوابهم: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) [الأنبياء: 7]. ولو تتبعنا الأدلة والبراهين التي زخر بها القسم المكي لطال المقام، وبحسبنا هذا المقدار. أما ما ذكره الطاعن من سورة «قل يا أيها الكافرون» فلا يصلح أن يكون دليلا، لأن السورة لم تسق مساق الدليل وإنما سيقت للرد على كفار قريش لما رغبوا إلى النبي أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة، فأنزل الله على نبيه هذه السورة تأييسا لهم وقطعا لأطماعهم، ولبيان أنهم قوم مخادعون، ولن تكون منهم عبادة لله الواحد القهار، وقد جاءت السورة على هذا النسق

الشبهة الرابعة

البديع لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) نفى أن تقع منه عبادة لآلهتهم في الحال، ثم قال: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) فأتى بالجملة الاسمية لإفادة أن عدم عبادته لآلهتهم فيما يستقبل ثابت مستمر ففيه قطع لأطماعهم على أبلغ وجه وآكده، ومثل هذه السورة سورة الإخلاص، فقد أجمل الله فيها العقيدة الخالصة من غير استدلال، لأنها نزلت جوابا للمشركين، أو اليهود؛ لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أنسب لنا ربّك؛ أي بيّن لنا ذاته وصفته، فأنزل الله السورة، ولا يعزب عن أذهاننا أن السورتين بمنزلة النتيجة لمئات الأدلة والبراهين التي أقامها الله على إثبات الصانع جل وعلا ووحدانيته وصفاته واستحقاقه التفرّد بالعبادة، ولعلّ من اللطائف وقوعها في الترتيب الكتابي في آخر القرآن كما تقع النتيجة من مقدماتها فلا عجب أن جاءتا على هذا الوضع. الشبهة الرابعة قال: إن القسم المكي خال من التشريعات التفصيلية والقوانين، أما القسم المدني فينفرد بالتشريعات الإسلامية؛ كالمواريث والوصايا، والزواج، والطلاق، والبيوع، وسائر المعاملات، ولا شكّ أن هذا أثر من آثار التوراة والبيئة اليهودية التي ثقفت المهاجرين إلى يثرب ثقافة واضحة يشهد بها هذا التغيير الفجائي الذي ظهر على أسلوب القرآن، وغرضه بهذا التشكيك في أن القرآن من عند الله. وللرد على هذا نقول: 1 - إن هذا الفرق بين المكي والمدني قد عرضنا له لما تحدثنا عن خصائص المكي والمدني وقد تنبه العلماء إلى هذه الظاهرة منذ مئات السنين، ولكن ليس السبب ما ذكره من تأثر القرآن بالبيئة؛ وإنما السبب في هذا أن أهل مكة كانوا ينكرون أصول الإيمان والشرائع، فكان الملائم لهم دعوتهم إلى هذه الأصول، حتى إذا ما استضاءت قلوبهم بالإيمان وأشربوا حبه كلفوا بالتشريعات التفصيلية، وهذا ما كان. وأن من خطل الرأي أن نأتي لهم بالفروع والأحكام العملية قبل أن يؤمنوا

بالأصول، فكان نهج القرآن معهم، وهو الملائم للفطر وبدائه العقول. 2 - كيف يصحّ في العقول أن يكون النبي والمسلمون قد أخذوا عن أهل الكتاب من اليهود وتثقّفوا بثقافتهم مع أن القرآن الكريم نعى عليهم في غير ما آية وسورة، كفرهم، وفسقهم، وجراءتهم على الله وسفاهتهم على رسله، وبين جحودهم للحق، وإنكارهم له مع معرفتهم وتحريفهم للتوراة، كما نعى عليهم حسدهم وظلمهم وبغيهم وسوء طويتهم، وخبث طباعهم، وخيانتهم وتضييعهم للأمانة، وعدم تناهيهم عن المنكر إلى غير ذلك مما لا يجهله من قرأ القرآن واطلع عليه، وقد لعن القرآن الكريم اليهود في غير موضع وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم كما في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) [البقرة: 94]، وقوله قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: 93]. فلو أن النبي أخذ عن أهل الكتاب، وتعلم منهم وتأثر بثقافتهم لأظهروا ذلك دفاعا عن أنفسهم، ولقالوا: كيف نعلمك وتسفهنا وترمينا بالكفر والفسق والكذب وكيف نثقّفك وتلعننا وتتطاول علينا ولكنهم لم يفعلوا بل ألقموا حجرا وباءوا بالخزي والذلة والتشريد، وهكذا يتبين لنا أن موقف القرآن من اليهود كان موقف المعلم والناقد والناعي، والموبخ والمتحدي، لا موقف المتعلم والآخذ والمستفيد، وهو شيء يقتلع هذا الطعن من أساسه ويرمي به في مهامه الضلال والشكوك. 3 - أن الفرق بين التشريع الإسلامي الذي عرضت له السور المدنية والتشريع الإسرائيلي عظيم جدّا، فالإسلامي أرقى وأعلى وأشمل من الإسرائيلي من كل وجه، وناهيك بكونه تشريعا عاما لجميع البشر، وفي جميع الأزمنة والأمكنة، ومن أسسه المساواة في الحق والعدل بين جميع الشعوب والقبائل والأفراد، لا تمييز فيه بين ملك وسوقة، ولا بين شريف ووضيع، ولا بين قويّ وضعيف، ولا بين غنيّ وفقير ولا بين إسرائيليّ

الشبهة الخامسة

وغير إسرائيليّ. والتشريع الإسرائيلي كان خاصّا بشعب خاص، وموقوتا بوقت خاص فلا يصلح أن يكون أساسا لتشريع عام خالد، وهو تشريع الإسلام الذي انتشل الإنسانية من وهدتها، وأضاء النفوس بعد ظلمتها، وحرر العقول بعد إسارها، وملأ الأرض هداية وعلما، وعدلا ورحمة، بعد أن ملئت كفرا وضلالا وجهلا وظلما وقسوة وتجبرا، وكيف يجوز في العقول أيضا أن يستمد السابقون الأولون من المهاجرين ثقافتهم وتشريعاتهم من اليهود وهم الذين أصلحوا جميع الشعوب بهداية القرآن والتأسي بأكمل الخلق على الإطلاق، وشهدت لهم أعمالهم وأخلاقهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وقد أجمع المؤرخون من الإفرنج وغيرهم على أن أعظم أسباب نجاح الإسلام في انتشاره السريع، وفتوحاته المظفرة الكثيرة ما كان عليه أهل الملل كلها من فسوق وفساد، والدول كلها من ظلم واستبداد وإغراق في الملذات. الشبهة الخامسة قال: إن القسم المكي يكثر فيه القسم بالضحى، والشمس، والقمر، والنجوم، والفجر، والعصر، والليل، والنهار، والتين، والزيتون، إلى آخر ما هو جدير بالبيئات الساذجة التي تشبه بيئة مكة تأخرا وانحطاطا. أما القسم الثاني فقد خلا من القسم بهذه المحسوسات، وغرضه تأثر القرآن بالبيئة ليصل إلى التشكيك في القرآن، وهذا الكلام مردود بما يأتي: 1 - دعوى أن البيئة المكية ساذجة جاهلة لا ترقى إلى ما وراء الحس، دعوى لم يقم عليها دليل، ويكذبها الواقع، والتاريخ الصحيح؛ فقد كان أهل مكة أوفى ذوقا، وأرهف شعورا، وأذكى عقولا من أهل المدينة، وأن فيما قصه القرآن عنهم من مجالات وخصومات وما اشتمل عليه القسم المكي من إيجاز وبراهين ما ينقض هذا الاتهام، وكيف يفهم هذه البراهين من لا يسمو نظره عن المحسوسات، والتاريخ الصحيح أعدل حاكم وخير شاهد على امتياز قريش عن سائر القبائل في عهد نزول القرآن، ولكي تكون

على بينة من ذلك سأذكر لك قصة؛ ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ قال ابن الزبعرى: والله لو وجدت محمدا لخصمته قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم، كل هؤلاء في النار مع آلهتنا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إنهم إنما يعبدون الشيطان، ومن أمرهم بعبادته، فأنزل الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101). وأنزل الله أيضا وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) (¬1). وتأمل في قوله سبحانه خَصِمُونَ وهل يجيد الجدل الجاهل الساذج وهل من يلقي هذه الشبه ولو كانت بواطل يكون ساذجا لا يسمو تفكيره إلى المعقولات 2 - إن الله سبحانه أقسم في القسم المكي بالمعقول كما أقسم بالمحسوسات فمن ذلك قسمه بالقرآن في قوله يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) وأقسم بالملائكة في قوله وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) الآيات، وأقسم بالنفس الناطقة فقال: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) [الشمس: 7 - 8]، وأقسم بحياة الرسول في قوله لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) [الحجر: 72] وأقسم بذاته تعالى فقال فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) [الحجر: 92] فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) [المعارج: 40] وأقسم بما لا يقع تحت الحس والمشاهدة فقال فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) [الحاقة: 38 - 39]. وأقسم بالزمن فقال: وَالْعَصْرِ (1) وهكذا يتبين لنا أن الله أقسم في القسم المكي بالمعقولات كما أقسم بالمحسوسات. 3 - إن القسم بهذه الأشياء لا لكونها محسوسة، وإنما هو تنبيه إلى ما تشتمل عليه من إحكام في الخلق والصنعة وما تنطوي عليه من أسرار ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير والبغوي ج 17 ص 37 - 38.

وعجائب نعم وآلاء، فيؤدي النظر فيها إلى الإيمان بخالقها وموجودها، والإذعان لما جاء به الرسول، كما في القسم بالشمس، والقمر، والنجوم والليل والنهار أو إلى استخدامه في النافع وعدم تضييعه كما في القسم بالعصر، وبعض ما أقسم الله به مما هو محسوس قد يقصد به التذكير بما وراء الحس كما في القسم بالتين والزيتون إلخ. قال الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره (¬1): وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) ما خلاصته: وقد يرجح أنهما- التين والزيتون- النوعان من الشجر ولكن لا لفوائدهما كما ذكروا بل لما يذكران به من الحوادث العظيمة التي لها الآثار الباقية في أحوال البشر، قال صاحب هذا القول: إن الله أراد أن يذكرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسانية الطويل من أول نشأته إلى يوم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فالتين إشارة إلى عهد الإنسان الأول، فإنه كان يستظل في تلك الجنة التي كان فيها بورق التين، والزيتون إشارة إلى عهد نوح فقد أرسل بعض الطيور لعله يأتي بخبر انكشاف الماء عن الأرض، فغاب ولم يأت بخبر، ثم أرسل آخر فجاء إليه يحمل ورقة من الزيتون، فاستبشر وسر وعرف أن غضب الله قد سكن وقد أذن للأرض أن تعمر، وطور سينين إشارة إلى عهد الشريعة الموسوية وظهور نور التوحيد في العالم بعد ما تدنست جوانب الأرض بالوثنية، ثم لما طال الأمد على البشرية حتى كادت أن تطمس معالم التوحيد والحق والشرائع من الله على البشر ببداية تاريخ ينسخ جميع تلك التواريخ ويفصل بين ما سبق من أطوار الإنسانية وبين ما يلحق وهو عهد ظهور النور المحمدي من مكة المكرمة، وإليه الإشارة بذكر البلد الأمين، وقد يكون القسم بالشيء لمنزلته وإظهار كرامته عند الله كما في القسم بحياة الرسول والملائكة، وفي القرآن توافق عجيب بين المقسم به والمقسم عليه قد يخفى على غير ذي العقل الذكي والنظر الشفاف والحس الدقيق الذي يحكم على الأشياء بادئ الرأي من غير روية وتفكير. ¬

_ (¬1) تفسير جزء عم ص 119.

الشبهة السادسة

وقد ألف العلماء في أقسام القرآن كتبا مستقلة، ولعل أحفلها وأجلها- فيما أعلم- «التبيان في أقسام القرآن» لابن القيم، فمن أراد زيادة في معرفة أسرار الأقسام فليرجع إليه ففيه ما يكفي ويشفي. الشبهة السادسة قال: إن القسم المكي قد افتتح كثير من سوره بألفاظ غير ظاهرة المعنى مثل الم، وحم، وطسم، وكهيعص، وحم عسق، والخطاب بها كالخطاب بالمهمل الذي لا يفيد، وهو ينافى كون القرآن هدى وبيانا، وهذه الكلمات ربما قصد بها التعمية أو التهويل أو إظهار القرآن في مظهر عميق مخيف، أو هي رموز وضعت لتميز بين المصاحف المختلفة التي كانت موضوعة عند العرب فمثلا كهيعص (1) رمزا لمصحف ابن مسعود حم (1) عسق (2) رمزا لمصحف ابن عمر، وهلم جرا ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا. وأسرف بعض النصارى في مجاوزة المعقول فقال- على سبيل الحدس- (¬1): إنها أحرف وضعها كتّاب محمد برأس السورة اختصارا من قولهم أوعز إليّ محمد، وذلك على حد ما وضعه بعض كتّابه من اليهود كهيعص (1) برأس سورة مريم اختصارا من قولهم بالعبرانية «كو يعص» أي هكذا أمر (¬2)، وهذا الكلام منقوض بما يأتي: 1 - دعوى أن هذه الألفاظ ليس لها مدلول دعوى من لم يطلع على آراء العلماء فيها، وقد ذهب الكثيرون إلى أنها أسماء للسور، وذهب المحققون إلى أنها أسماء للحروف الهجائية المعروفة، وفائدة ذكرها في فواتح السور، إما إقامة الحجة على إعجاز القرآن من أقصر طريق وأسهله، ذلك أن هذا القرآن مركب من جنس هذه الحروف الهجائية التي منها يركبون ¬

_ (¬1) نقل هذا الهراء عن بعض النصارى «جرجيس سايل» المستشرق الإنكليزي في مقالة عن الإسلام وزعم أنه أدنى إلى الإصابة من أقوال المفسرين في هذه الفواتح وليس هذا بمستغرب منه، فإنها شنشنة نعرفها من أخزم. (¬2) نقض مطاعن القرآن ص 80 هامش.

كلامهم، وبها يتخاطبون، وقد تحداهم المرة تلو المرة أن يأتوا بشيء منه فعجزوا وما استطاعوا، فكان هذا دليلا ساطعا على أنه ليس من عند بشر وإنما هو من عند خالق القوى والقدر، وإما تنبيه السامع إلى ما يتلى بعدها لاستقلالها بنوع من الإغراب فهي كأداة التنبيه لما يتلى بعدها فيفرغ السامع لذلك قلبه وسمعه فتقوم عليه الحجة باستماع القرآن، وقد يقع الكلام من نفسه موقع التأثير فيؤدي به إلى الإيمان، فهي إذا ليست غير مفهومة المعنى، والخطاب بها ليس من قبيل الخطاب بما لا معنى له. ولو سلمنا أنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه فلا تنهض للطعن في كون القرآن هدى وبيانا، لأنها ألفاظ قليلة جدّا بالنسبة إلى الألوف المؤلفة من كلمات القرآن التي تدل على معنى معروف عند المخاطبين (¬1)، وهي على هذا الوجه جاءت لحكمة سامية، وهو الابتلاء والاختبار، ليظهر قويّ الإيمان من ضعيفه وراسخ العلم من غيره فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (7) [آل عمران: 7]، فلم يكن وجودها في القرآن عبثا، وحاشا لله أن يكون في القرآن شيء منه. 2 - دعوى أنها ألفاظ قصد بها التعمية، أو التهويل، أو أنها رموز لمصاحف ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن دعوى لم يقم عليها أثارة من علم، وإنما هو أمر فرضي وتشكيك بين أمرين ثبوت أحدهما ينفي الآخر فكونها قصد بها التهويل إلخ يقتضي أنها نطق بها الرسول وكانت في عهده، وكونها رموز إلخ يقتضي أن لا تكون نطق بها الرسول ولا كانت في عهده، والأمور الفرضية والتشكيكات لا تليق بالبحث النزيه القويم في كتاب كريم، تواترت الدلائل على تواتره في جملته وتفصيله وسلامته من التبديل والتحريف. ولو فتحنا باب الفروض والتخمينات التي لا سند لها من عقل ولا نقل لم ¬

_ (¬1) مجموع هذه الفواتح تسع وعشرون كلمة ومجموع كلمات القرآن سبع وسبعون ألف كلمة وتسعمائة وأربع وثلاثون كلمة.

تثبت حقيقة ولعاد ذلك بالنقض على الكثير من العلوم والمعارف. ودعوى أنها من وضع بعض الكتبة اليهود الذين كانوا يكتبون الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من تلك بطلانا ففي أي كتاب من كتب التواريخ العربي منها وغير العربي أن النبي كان له كتبة من اليهود وكيف يأتمن النبي يهوديّا على كتابة الوحي وعنده صفوة من أصحابه المخلصين الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة وفي أي لغة من لغات العالم أن الم أو طس أو كهيعص معناها أوعز إليّ محمد أو أمرني محمد وما ذكره الطاعن النصراني في كهيعص لا يخرج عن عبث الصبيان، فإن هذه الفاتحة لا تقرأ كما سول له هواه كي يجعل لها نسبا إلى العبرانية وإنما تقرأ على نهج آخر ثبت بالتواتر وتلقاه الخلف عن السلف (¬1)، والقراءة سنة متبعة ليست بالهوى ولا بالتشهي، ولا يغيب عن ذهننا أن جل هذه الفواتح- وبخاصة فاتحة مريم- إنما نزلت بمكة ومن قال: إن مكة كان بها يهودا لحق أن هذا الكلام لا يصدر إلا ممن تجرد من الحياء وصدق القائل: «إذا لم تستح فاصنع ما تشاء». 3 - كيف غاب عن الناقد الباحث أن الصحابة والتابعين بالغوا جدّا في العناية بالقرآن والمحافظة عليه من أي دخيل حتى ولو كان حرفا وأنهم حينما كتبوا المصاحف بالغوا في تجريدها مما ليس بقرآن حتى أنهم لم يعجموها ولم يشكلوها ولم يكتبوا أسماء السور وعدد الآيات في مقدمة كل سورة وما يوجد في المصاحف اليوم من النقط والشكل وكتابة أسماء السور فذلك أمر مستحدث في العصر الأموي فكيف يجوز الناقد الباحث أن تكون هذه ¬

_ (¬1) بعد كتابة هذا الرد بمدة أردت أن أعرف الكلمة العبرية التي زعم بعض النصارى أنها أخذت منها فاتحة سورة مريم، فسألت زميلنا الأستاذ الدكتور عبد العزيز برهام المتخصص في اللغة العبرية فأفادني مشكورا أن الكلمة العبرية هي «كو يعص» «» يعني هكذا قال، أو هكذا أمر، فازددت يقينا بما قلت في الردّ، لأن هناك فرقا بينا بين نطق الكلمة العبرية وبين نطق فاتحة سورة مريم، فإنها تقرأ هكذا: «كاف ها يا عين صاد» وشتان ما بين النطقين.

صلات تتعلق بالمكي والمدني

الألفاظ رموزا لمصاحف الصحابة ثم لحقت بمرور الزمن بالقرآن وهل هذا يتفق هو وقواعد النقد التحليلي الذي كثيرا ما يلهج به وكيف غاب عن ذهن الناقد الباحث أن القرآن لم يكن يتلقى من المصاحف وإنما كان يتلقى بالرواية والسماع وأنه ثابت بالتواتر الشفاهي يأخذه الخلف عن السلف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كانت كتابة القرآن زيادة في التوثق والاطمئنان وليجتمع للقرآن الحفظ في السطور إلى الحفظ في الصدور الحق أنه ما كان يليق بباحث ناقد أن يغفل كل هذا. وبعد ... فلعلك أيها القارئ أدركت معي أن هذه الشبه باطلة، وأنها لا تعدو أن تكون هراء من القول دعا إليه موجدة قديمة، وسخيمة نفس أبت إلا أن تستعلن فبرزت في هذا الزور من القول، أو تعصّب بغيض وجهل فاضح بالقرآن ومقاصده، وإن محاولتهم إطفاء نور الله بأفواههم لمحاولة فاشلة يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) [التوبة: 32] فلا تلق إلى هذه الشبه بالا فهي لا تعدو أن تكون دعاوى من أدعياء، ويرحم الله القائل: والدّعاوى ما لم تقيموا عليها بيّ ... نات أبناؤها أدعياء وجرد من نفسك مجاهدا ينافح عن كتاب الله بلسانه وقلبه فإن المنافحة عن الحق أشرف الجهاد وأسماه، وكتاب الله كله حق وهدى ونور وصدق وعدل وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ [الأنعام: 115]، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) [فصلت: 41 - 42]. صلات تتعلّق بالمكي والمدني وهناك أنواع ذكرها السيوطي في إتقانه، وهي بسبب من المكي والمدني كالحضري والسفري، والليلي والنهاري، والصيفي والشتائي، وما تقدم نزوله على حكمه، وما تأخر نزوله عن حكمه، وأيضا ذكر مما يتعلق بالمكي والمدني وما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة أو غيرها، وقد أفاض الإمام السيوطي في ضرب الأمثلة، ولن نفعل

الصلة الأولى

مثل ما فعل، ولكنا سنكتفي بضرب بعض الأمثلة، ومن أراد استيعابا فعليه بالرجوع إلى الإتقان (¬1). الصلة الأولى الحضري والسفري: أمثلة الحضري كثيرة، وجل القرآن نزل في الحضر، أما السفري فله أمثلة منها: 1 - قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ودليله ما أخرجه ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مضمّخ بالزعفران عليه جبة فقال: كيف تأمرني في عمرتي فنزلت، فقال: «أين السائل عن العمرة ألق عنك ثيابك ثم اغتسل» ... الحديث (¬2). وقوله في هذه الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ [البقرة: 196] الآية، نزلت بالحديبية، كما أخرجه أحمد عن كعب بن عجرة الذي نزلت فيه، والواحدي عن ابن عباس. 2 - قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء: 102] الآية، نزلت بعسفان بين الظهر والعصر، كما أخرجه أحمد عن أبي عياش الزّرقي. 3 - قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ففي الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع. 4 - قوله تعالى: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ [التوبة: 42 وما بعدها] الآيات، نزلت في غزوة تبوك، كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. 5 - سورة الفتح؛ ففي صحيح البخاري في قصة عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي قال: «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه ¬

_ (¬1) ج 1 ص 18 - 23. (¬2) قال ابن كثير في تفسيره بعد ما ساق هذا الحديث: هذا حديث غريب وسياق عجيب، ثم بيّن أن القصة التي في الصحيحين عن يعلى بن أمية، وليس فيها ذكر نزول الآية.

الصلة الثانية

الشمس، ثم قرأ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)» وكان ذلك منصرفه من الحديبية، وأخرج الحاكم في المستدرك عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها. 6 - سورة المنافقين؛ أخرج الترمذي عن سفيان أنها نزلت في غزوة بني المصطلق، وبه جزم ابن إسحاق وغيره. 7 - سورة المرسلات؛ أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه: والمرسلات ... الحديث. الصلة الثانية النهاري والليلي: أمثلة النهاري كثيرة جدّا قال ابن حبيب: نزل أكثر القرآن نهارا، أما الليلي فمن أمثلته: 1 - قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) [آل عمران: 190] فقد أخرج ابن حبان في صحيحه وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي الدنيا في كتاب «التفكر» عن عائشة أن بلالا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه لصلاة الصبح، فوجده يبكي، فقال: يا رسول الله ما يبكيك قال: «وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل عليّ هذه الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» الآية، ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر». 2 - آية الثلاثة الذين خلفوا: وهي وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة: 118] الآية، ففي الصحيحين من حديث كعب بن مالك، فأنزل الله توبتنا حين بقي الثلث الأخير من الليل، والثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. 3 - سورة مريم؛ روى الطبري عن أبي مريم الغسالي، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ولدت لي الليلة جارية، فقال: «والليلة أنزلت علىّ سورة مريم، سمّها مريم». 4 - سورة الفتح؛ ففي الحديث الصحيح أن ذلك كان ليلا.

الصلة الثالثة

5 - آية التيمم التي في المائدة؛ ففي الصحيح عن عائشة وحضرت الصبح فالتمس الماء، فلم يوجد؛ فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إلى قوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6]. 6 - قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران: 128] الآية؛ ففي الصحيح أنها نزلت والنبي في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح حين أراد أن يقنت؛ يدعو على أبي سفيان ومن ذكر معه. الصلة الثالثة الصيفي والشتائي (¬1): مما لا شك فيه أن القرآن نزلت منه آي كثيرة في الصيف، وآي كثيرة في الشتاء وقد أحصى أحد العلماء بعضا من ذلك فمن أمثلة الصيفي: 1 - قال الواحدي: أنزل الله في الكلالة آيتين؛ إحداهما في الشتاء، وهي التي في أول النساء وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء: 12] إلخ، والأخرى في الصيف وهي التي في آخرها يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176] الآية، وفي صحيح مسلم عن عمر قال: ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري وقال: يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر النساء وقد كان ذلك في سفر حجة الوداع، فيعد من الصيفي ما نزل فيها كأول المائدة والْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. 2 - ومن الصيفي الآيات النازلة في غزوة تبوك؛ فقد كانت في شدة الحر كما دل عليه القرآن والسنة. وذلك مثل لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ الآية، ومثل آية وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81] وآية ¬

_ (¬1) الظاهر أن مرادهم بالصيف أيام الحر وما يقرب منها وبالشتاء أيام البرد وما يدنو منها، وبهذا الاعتبار تكون السنة ما بين صيف وشتاء، إذ أيام الاعتدالين الربيع والخريف إما قريبة من الصيف أو قريبة من الشتاء.

الصلة الرابعة

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة: 49] الآية. ومن أمثلة الشتائي: 1 - قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ إلى قوله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ففي الصحيح عن عائشة أنها نزلت في يوم شات. 2 - الآيات التي نزلت في غزوة الخندق في سورة الأحزاب، فقد كانت في شدة البرد كما يدل على ذلك القرآن، وما ذكر في المغازي، ففي حديث حذيفة تفرق الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب إلا اثنى عشر رجلا فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قم فانطلق إلى معسكر الأحزاب» قلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما قمت لك إلا حياء من البرد ... الحديث، وفيه فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب: 9 وما بعدها] إلخ الآيات، أخرجه البيهقي في الدلائل. الصلة الرابعة ما تأخر حكمه عن نزوله وما تأخر نزوله عن حكمه (¬1). فمن أمثلة ما تأخر حكمه عن نزوله: 1 - قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) [الأعلى 14 - 15] فقد روى البيهقي وغيره عن ابن عمر أنها نزلت في زكاة الفطر، وقد استشكل ذلك؛ لأن السورة مكية ولم يكن بمكة عيد مشروع ولا زكاة ولا صوم، وقد أجاب البغوي بأنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم وهو جواب حسن. 2 - قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر: 45] فقد نزلت بمكة قطعا ولم يكن شرع الجهاد، وقد استشكل عمر ذلك ثم تبين له أن المراد بالجمع جمع بدر، فقد روي عنه أنه قال حين نزلت الآية: أي ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 37.

جمع فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) فكانت ليوم بدر، أخرجه الطبراني في الأوسط فيكون من الإشارات والنبوءات الغيبية التي أظهرت الأيام صدقها، وكانت من دلائل النبوة. 3 - قوله تعالى: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) [سبأ: 49] أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أن المراد بالحق السيف، يعني الجهاد، واستشكل بأن الآية مكية متقدمة على فرض القتال، والجواب أن هذا مما تقدم نزوله على حكمه، ويؤيد تفسير ابن مسعود ما أخرجه الشيخان من حديثه أيضا، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا فجعل يطعنها بعود كان في يده ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) أقول: والمتبادر من الحق أنه الأمر الثابت، فتفسيره بالجهاد غير قوي، ويكون المراد بالحق الدين الحق، أو كلمة التوحيد. 4 - قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام: 141] فالمراد بها الزكاة وقوله تعالى في سورة المزمل وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [المزمل: 20] فهذا مما تأخر حكمه عن نزوله، إذ الزكاة إنما شرعت بالمدينة، أقول: وهذا على رأي بعض العلماء، وعلى أن السورتين كلتيهما مكيتان، ولكن بعض العلماء يرى أن آية إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ الآية مدنية وأنها ناسخة لوجوب قيام الليل في صدر السورة. ويرى فريق من العلماء أن فرض الزكاة كان بمكة، أما تفصيل أحكامها وأنصبتها، وبيان مصارفها فكان بالمدينة، وعلى هذا فلا تكون الآيتان من هذا القبيل، وأما الحكمة في تقدم النزول عن الحكم فقد أشار إليها ابن الحصار بقوله: قد ذكر الله الزكاة في السور المكيات كثيرا تصريحا وتعريضا بأن الله سينجز وعده لرسوله ويقيم دينه، ويظهره حتى يفرض الصلاة والزكاة وسائر الشرائع ولم تؤخذ الزكاة إلا بالمدينة بلا خلاف، أقول: لعل مراده بالأخذ التنفيذ العملي؛ فإن ذلك لم يكن إلا بالمدينة

قطعا، أما أصل المشروعية فللعلماء فيها خلاف كما ذكرت، وأيضا وليكون ذلك من أعلام صدقه، ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلة ما تأخر نزوله عن حكمه: 1 - آية الوضوء؛ ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقدا، وأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة، وقال: حبست الناس في قلادة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إلى قوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فالآية مدنية إجماعا، وفرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلاة؛ قال ابن عبد البر: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّ منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند، قال: والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ليكون فرضه متلوا بالتنزيل، وجوز غيره أن يكون أول الآية نزل مقدما مع فرض الوضوء، ثم نزل بقيتها، وهو ذكر التيمم في هذه القصة، ويرد هذا الاحتمال أن الآية مدنية بالإجماع. 2 - آية الجمعة (¬1) فإنها مدنية، والجمعة فرضت بمكة، وأما ما قاله ابن الغرس: إن إقامة الجمعة لم تكن بمكة قط فيرده ما أخرجه ابن ماجة عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الآذان يستغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة فقلت: يا أبتاه أرأيت صلاتك على أسعد بن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لم هذا قال: أي بني كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة؛ أقول: وهذا إنما يصلح للرد إن أراد ابن الغرس بقوله هنا إنها لم تفرض قبل الهجرة، أما إن أراد أنها لم تؤد بجماعة بمكة فلا يصلح ردّا عليه. ¬

_ (¬1) [الجمعة: 9].

الصلة الخامسة

الصلة الخامسة ما حمل من مكة إلى المدينة: فمن أمثلة ذلك سورة سبح، فقد أخرج البخاري عن البراء بن عازب أنه قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرءاننا القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء، فما جاء حتى قرأت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) في سور مثلها من المفصل. ما حمل من المدينة إلى مكة: من ذلك قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [البقرة: 217] الآية، وهذا إنما يتجه على أن السائل هم المشركون، فقد روي أن وفدا منهم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد سرية عبد الله ابن جحش وقتلهم ابن الحضرمي من المشركين، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة، وأرجف المشركون، وقالوا: إنهم قتلوه في الشهر الحرام أي رجب، فأنزل الله الآية دفاعا عن السرية، واعتذارا عما بدر منها، وأنه شيء قليل بجانب ما يصدر عن المشركين من إجرام في حق الله ودينه وبيته والمسلمين فيكون الوفد لما قرئت عليه حملها معه، أو أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من حملها إليهم في مكة. ومن ذلك أيضا صدر سورة براءة؛ فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم به عليّا ليقرأه على الناس في الموسم سنة تسع، كما في الصحيح، ومن ذلك آية الربا في سورة البقرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (78). فقد اختلف بنو عمرو بن عمير من ثقيف مع بني المغيرة بن عبد الله، ورفعوا الأمر إلى أمير مكة عتاب بن أسيد فرفع الأمر إلى رسول الله فنزلت فأرسل بها النبي إلى عتاب بن أسيد (¬1). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير والبغوي ج 2 ص 64.

الصلة السادسة

ما حمل من مكة إلى الحبشة: ومثاله كسورة مريم فقد صح أن جعفر بن أبي طالب قرأها على النجاشي لما ذهب رسولا قريش إلى النجاشي كي يرد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة إلى مكة؛ فأبى حتى يسمع كلامهم، فتكلم جعفر بن أبي طالب فأحسن وأجاد، فقال له النجاشي، هل معك من شيء مما جاء به عن الله تقرؤه عليّ فقال جعفر: نعم، وقرأ عليه سورة مريم، فلما سمع النجاشيّ السورة قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، وقال البطارقة: هذه كلمات تصدر من النبع الذي صدرت منه كلمات سيدنا يسوع المسيح. ما حمل من المدينة إلى الروم: ومثاله قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبها في الكتاب الذي بعث به إلى هرقل عظيم الروم (¬1) والمقوقس عظيم مصر. الصلة السادسة ما نزل مفرقا وما نزل جمعا: أما الأول فأمثلته كثيرة لا يحصيها العدّ؛ لأن غالب القرآن نزل كذلك، فمن ذلك في السور القصار سورة اقرأ؛ فقد نزل صدرها إلى ما لَمْ يَعْلَمْ والمدثر نزل صدرها إلى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) والضحى نزل صدرها إلى فَتَرْضى ثم نزلت أواخرها بعد هذا، وفي السور الطوال صدر سورة براءة، وصدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية، بسبب وفد نجران لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم. ومثال الثاني في السور القصار الفاتحة، والإخلاص، والكوثر، وتبت، ولم يكن، والنصر، والمعوذتان، وفي السور الطوال من المفصل، والمرسلات، وسورة الصف، ومما ذكروه من السور الطوال سورة الأنعام، فقد أخرج أبو عبيد والطبراني عن ابن عباس قال: نزلت ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 160.

سورة الأنعام بمكة ليلا جملة حولها سبعون ألف ملك، وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزلت سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك» وهذا الذي ذكروه غير مسلم، فإن سورة الأنعام، وإن كانت مكية إلا أن منها آيات مدنية قطعا مثل قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إلى ثلاث آيات فقد نزلت بسبب مالك بن الصيف أحد أحبار اليهود، كما يدل على ذلك سبب النزول، واستثنى بعض العلماء غير هذه الآيات الثلاث، وأما الآثار التي ذكروها فلم تثبت، قال ابن الصلاح في فتاويه: الحديث الوارد في أنها نزلت جملة واحدة رويناه من طريق أبي بن كعب، وفي إسناده ضعف، ولم نر له إسنادا صحيحا وقد روي ما يخالفه، فروى أنها لم تنزل جملة واحدة؛ بل نزلت آيات منها بالمدينة، اختلفوا في عددها فقيل ثلاث وقيل ست وقيل غير ذلك (¬1). أما نزولها مشيعة فأمر محتمل إذا تثبت به الرواية، ويكون التشييع لجلها وما نزل منها لا لجميعها كما ذكروا، أو نقول: إن المراد بنزولها يشيعها سبعون ألف ملك نزولها من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في بيت العزة، ويكون نزولها مفرقة على النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد ذلك. ... ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 37.

المبحث السابع جمع القرآن وتاريخه

المبحث السابع جمع القرآن وتاريخه جمع القرآن يطلق تارة ويراد به حفظه وتقييده في الصدور ويطلق تارة ويراد به كتابته في الصحف والسطور، وجمع القرآن بهذا المعنى الثاني مر بأطوار ثلاثة: 1 - جمعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - جمعه في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق- رضي الله عنه. 3 - جمعه في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان- رضي الله عنه. وسنتكلم عن كل جمع منها مبينين خصائصه ومميزاته والأسباب الباعثة عليه. جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور [حفظ النبى للقرآن] كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه القرآن الكريم فيقرؤه على صحابته على تؤدة وتمهل كي يحفظوا لفظه ويفقهوا معناه؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد العناية بحفظ القرآن وتلقفه، حتى بلغ من شدة عنايته به وحرصه عليه أنه كان يحرك به لسانه ويعالجه أشد المعالجة، حتى كان يجد من ذلك شدة؛ يقصد بذلك استعجال حفظ القرآن خشية أن تفلت منه كلمة أو يضيع منه حرف، وما زال كذلك حتى طمأنه ربه ووعده أن يحفظه له في صدره، وأن يقرئه لفظه ويفهمه معناه قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) [القيامة: 16 - 19]. وكان من دواعي حفظ القرآن وتثبيته في قلب النبي صلوات الله وسلامه عليه معارضة جبريل عليه السلام إياه بالقرآن في رمضان من كل عام، حتى كان العام الذي توفي فيه الرسول فعارضه مرتين، وفهم النبي من ذلك قرب انتهاء أجله، وكان القرآن شغل النبي الشاغل في سره وعلانيته، وفي حضره وسفره، وفي وحدته وبين صحابته وفي عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، لا يغيب عن قلبه، ولا يألوا جهدا في الائتمار بأوامره والانتهاء

حفظ الصحابة للقرآن

عن نواهيه والاعتبار بمواعظه وقصصه والتأدب بآدابه وأخلاقه، وتبليغه إلى الناس كافة، فمن ثم كان النبي صلوات الله وسلامه عليه مرجع المسلمين في حفظ القرآن، وفهمه، والوقوف على أسراره، ومراميه. حفظ الصحابة للقرآن: وأما الصحابة رضوان الله عليهم فقد جعلوا القرآن في المحل الأول، يتنافسون في حفظ لفظه ويتسابقون في فهم معناه، وجعلوه مسلاتهم في فراغهم، ومتعبدهم في ليلهم، حتى لقد كان يسمع لهم بقراءته دوي كدوي النحل كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) [الذاريات: 17 - 18]؛ ولقد وصفهم واصف فقال: كانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار، وكان اعتمادهم في الحفظ على التلقي والسماع من الرسول، أو ممن تلقاه من الصحابة من الرسول، وما كانوا يعتمدون في حفظه على النقل من الصحف والسطور؛ لأن الاعتماد في حفظ القرآن على الصحف والمكتوب يفوت على القارئ ركنا مهما من أركان أداء القرآن الكريم على وجهه الصحيح، وهو «علم التجويد». ومن خصائص هذه الأمة حفظها لكتاب ربها وهو القرآن ففي الحديث الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم، قلت أي ربي إذن يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة، فقال: إني مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانا، فابعث جندا أبعث مثلهم،

وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق ينفق عليك» (¬1). فقد أخبر أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء وإنما محلّه القلوب كما جاء في وصف هذه الأمة «أناجيلهم في صدورهم» (¬2) بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرا لا عن ظهر قلب. فلا عجب والحال كما سمعت أن حفظ القرآن جم غفير من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة وحذيفة، وسالم مولى أبي حذيفة، وابن مسعود، وأبو هريرة، وابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وأبوه، وغيرهم من المهاجرين، ومن الأنصار: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وأبو زيد، ومهما يكن من شيء فقد حفظ القرآن الكثيرون من الصحابة في عهد النبي؛ ولقد روي أنه قتل في يوم بئر معونة سبعون من القراء. رواية مشكلة: ولكن يشكل على ما ذكرنا ما رواه البخاري في صحيحه (¬3) عن أنس بن مالك قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة، أبو الدرداء، ¬

_ (¬1) الحديث بتمامه كما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا؛ كل مال نحلته عبدي حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم ينزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانا، وإن الله أمرني أن أحرق قريشا، فقلت: رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ... » الحديث (كتاب الجنة ونعيمها، وصفة أهلها- باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل (النار)، يثلغوا رأسي: يشدخوه ويشجوه كما يشج الخبز. (¬2) المراد كتابهم المقدس وهو القرآن لأن المسلمين ليس لهم أناجيل، وإنما ذلك للنصارى، وقد ذكره ابن كثير في تفسيره عن قتادة في قوله: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) [الأعراف: 154] قال موسى: رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلها أمتي!! قال: تلك أمة أحمد، قال: ربي إني أجد في الألواح نبي أمة هم الآخرون السابقون رب فاجعلها أمتي قال: تلك أمة أحمد، قال رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، رب اجعلهم أمتي! قال تلك أمة أحمد، قال قتادة فذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. (¬3) كتاب فضائل القرآن- باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، وأبو زيد هذا اسمه قيس بن السكن كما رواه ابن أبي داود بإسناد صحيح على شرط البخاري عن أنس: «أنّ أبا زيد الذي جمع القرآن اسمه قيس بن السكن، قال: وكان رجلا منا من بني عدي بن النجار، أحد عمومتي، ومات ولم يدع عقبا ونحن ورثناه» (¬1) قال ابن أبي داود: قد مات قريبا من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فذهب علمه، وكان عقبيا بدريا. والحق أن لا إشكال؛ لأن مراد أنس الحصر الإضافي لا الحقيقي حتى يشكل الأمر إذ لا يتم له الحصر الحقيقي إلا إذا كان أنس لقي كل الصحابة وسألهم واحدا واحدا حتى يتم له الاستقراء، وهذا أمر مستبعد في العادة، ويدل أيضا على أن أنسا لم يقصد القصر الحقيقي أنه سأله قتادة عمن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أربعة كلهم من الأنصار، أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت من أبو زيد قال أحد عمومتي» رواه البخاري فقد ذكر في هذه الرواية «أبي بن كعب» بدل «أبي الدرداء» زد على هذا ما استفاض من أن الذين حفظوا القرآن على عهد الرسول كثيرون غير هؤلاء منهم الخلفاء الأربعة؛ ومما لا يرتاب فيه أن الصديق رضي الله عنه كان يحفظ القرآن جميعه في حياة الرسول لكثرة ملازمته له وحرصه على تلقف كل ما يصدر عنه، وفي الصحيح أنه بني له مسجدا وهو في مكة في فناء داره فكان يقرأ فيه القرآن على ما كان فيه من جهد وبلاء حتى لقد خاف المشركون على نسائهم وأبنائهم أن يفتتنوا بقراءته، ومنهم عبد الله بن مسعود، فقد كان أول من جهر بالقرآن بمكة، وأخذ من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة. وقد أجاب العلماء السابقون- أثابهم الله- على حديث أنس؛ فمن قائل: ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 9 ص 51 - 53 ط السلفية، الإتقان ج 1 ص 199 - 203 طبعة المشهد الحسيني.

1 - لم يجمع القرآن غير هؤلاء الأربعة تلقينا من الرسول، أما غيرهم فأخذوا بعضه بالتلقين وبعضه بالواسطة. 2 - ومن قائل: أن المراد بالجمع الكتابة. 3 - ومن قائل: لم يجمعه بجميع حروفه وقراءاته غير هؤلاء إلى غير ذلك من التأويلات. 4 - والحق ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر في الفتح من أن ذلك بالنسبة إلى الخزرج دون الأوس فلا ينافي أن الكثيرين غيرهم من المهاجرين قد حفظوه قال الحافظ: وفي غالب هذه الاحتمالات تكلف؛ وقد ظهر لي احتمال آخر وهو أن المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس، فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين من المهاجرين؛ لأنه قال ذلك في معرض المفاخرة بين الأوس والخزرج كما أخرجه ابن جرير بسنده عن أنس قال: «افتخر الحيان الأوس والخزرج فقال الأوس: منا أربعة: من اهتز له العرش، سعد بن معاذ، ومن عدلت شهادته شهادة رجلين، خزيمة بن ثابت، ومن غسلته الملائكة حنظلة بن أبي عامر، ومن حمته الدّبر (¬1)، عاصم بن أبي ثابت (¬2) فقال الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن لم يجمعه غيرهم فذكرهم (¬3). وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقد أتم حفظه الألوف المؤلفة من الصحابة وبحسبك أن تعلم أن من قتل من القراء في موقعة اليمامة كانوا سبعمائة على ما قيل، وعن الصحابة حفظه الألوف المؤلفة من التابعين، وهكذا دواليك، تلقته طبقة عن طبقة بالحفظ والعناية والصيانة، حتى وصل إلينا القرآن الكريم، من غير زيادة ولا نقصان ولا تحريف ولا تبديل، فكان تصديقا لقول الله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9). ¬

_ (¬1) الدبر: جماعة النحل، والزنابير. (¬2) هكذا جاء في الإتقان، والصحيح عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، انظر: الإصابة ج 2 ص 244. (¬3) الإتقان ج 1 ص 71.

جمع القرآن بمعنى كتابته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

الحافظات من النساء: ولم يكن حفظ القرآن خاصا بالرجال، بل قد شارك فيه النساء؛ منهن من كانت تحفظ بعضه، ومنهن من كانت تحفظه كله وذلك مثل عائشة وحفصة، وأم سلمة وأم ورقة، قال الإمام السيوطي: ظفرت بامرأة من الصحابيات جمعت القرآن لم يعدها أحد ممن تكلم في ذلك، فأخرج ابن سعد في «الطبقات» قال: أنبأنا الفضل بن دكين، حدثنا الوليد بن عبد الله بن جميع، قال حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت عبد الله ابن الحارث- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، ويسميها الشهيدة، وكانت قد جمعت القرآن-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غزا بدرا قالت له: «أتأذن لي، فأخرج معك أداوي جرحاكم وأمرض مرضاكم، لعل الله يهدي لي شهادة، قال: «إن الله مهد لك شهادة» وكان رسول الله أمرها أن تؤم أهل دارها، وكان لها مؤذن فغمها غلام لها وجارية كانت قد دبرتهما فقتلاها في إمارة عمر رضي الله عنه، فقال عمر: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول: «انطلقوا بنا نزور الشهيدة» (¬1) فأكرم بها من مسلمة حافظة. جمع القرآن بمعنى كتابته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ القرآن وإقرائه لأصحابه وحفظهم له، بل جمع إلى ذلك كتابته وتقييده في السطور، وكان للنبي كتّاب يكتبون الوحي؛ منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبان وخالد ابنا سعيد وخالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب وغيرهم، فكان إذا نزل على النبي من الوحي شيء دعا بعض من يكتب فيأمره بكتابة ما نزل، وإرشاده إلى موضعه، وكيفية كتابته على حسب ما كان يرشده إليه أمين الوحي جبريل، روي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال: «ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا» وروى أحمد وأصحاب السنن ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 72.

الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس عن عثمان بن عفان قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: «ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا». وعن زيد بن ثابت قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع» قال البيهقي: يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم. ولم تكن أدوات الكتابة ميسرة في ذلك الوقت، فلذلك كانوا يكتبونه على حسب ما تيسر لهم في الرقاع والعسب والأكتاف واللخاف والأقتاب (¬1) ونحوها، وقد كان القرآن كله مكتوبا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان مفرقا، وكانت كتابته بالأحرف السبعة التي نزل بها. وأما الصحابة فقد كان بعضهم لا يكتب القرآن، اعتمادا على الحفظ وسيلان الأذهان، كما هو شأن العرب في حفظ شعرها ونثرها وأنسابها، وبعضهم كان يكتب ولكن كان مفرقا؛ وكان بعض الصحابة لا يقتصرون فيما يكتبونه على ما ثبت بالتواتر، بل كانوا يكتبون المنسوخ تلاوة وبعض تفسيرات وتأويلات لمعانيه، وذلك كما فعل ابن مسعود وأبي وغيرهما. وخلاصة القول أن القرآن كله كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان مفرقا، وكذلك كتب بعض الصحابة القرآن أو ما تيسر لهم منه، وإن لم تبلغ كتابتهم في الوثوق مبلغ ما كتب بين يدي النبي، وقد أذن النبي لأصحابه في كتابة القرآن دون السنة، ففي صحيح مسلم: «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» وطبعي أن المكتوب في هذا العهد لم يكن مرتب ¬

_ (¬1) الرقاع جمع رقعة وقد تكون من جلد أو قماش أو ورق، العسب: جمع عسيب طرف الجريد العريض كانوا يكشطون الخوص ويكتبون فيه، والأكتاف جمع كتف وهي العظام العريضة من أكتاف الحيوان كالإبل والبقر والغنم، واللخاف بكسر اللام: جمع لخفة بفتح فسكون، وهي الحجارة الرقيقة، والأقتاب: جمع قتب وهي الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه.

السور والآيات ضرورة التفريق في العسب والأكتاف والرقاع (¬1) ونحوها، وليس معنى هذا أنهم كانوا يقرءونه غير مرتب الآيات- وحاشا- وإنما كانوا يقرءونه مرتب الآيات على حسب ما أوقفهم عليه الرسول، بإرشاد جبريل، عن رب العالمين وعلى ما هو عليه اليوم، والسبب الباعث على كتابته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. 1 - معاضدة المكتوب للمحفوظ لتتوفر للقرآن كل عوامل الحفظ والبقاء، ولذا كان المعول عليه عند الجمع الحفظ والكتابة. 2 - تبليغ الوحي على الوجه الأكمل؛ لأن الاعتماد على حفظ الصحابة فحسب غير كاف؛ لأنهم عرضة للنسيان أو الموت، أما الكتابة فباقية لا تزول، وإنما لم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في مكان واحد لما يأتي: 1 - ما كان يترقبه النبي من تتابع نزول الوحي ونزول بعض آيات ناسخة لبعض أحكامه وألفاظه. 2 - ترتيب آيات القرآن وسوره لم يكن على حسب النزول بل كان حسب تناسب الآي وترابطها وقد تنزل الآية أو السورة بعد الآية أو السورة وتكون في ترتيب الكتابة قبلها، وذلك مثل آية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر فإنها ناسخة لآية الاعتداد بحول، مع أن الأولى مكتوبة في المصاحف قبلها، وهي متأخرة في النزول عنها قطعا لوجوب تأخر الناسخ عن المنسوخ. فلو كتب النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كله في مكان واحد- والشأن كما ذكرنا- لكان عرضة للتغيير والإزالة والكشط والمحو، وقد تكون كتابته في موضع واحد متعذرة إن لم تكن مستحيلة في كتاب نزل منجما في بضع وعشرين سنة، فلما انقضى الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأمن النسخ، وعرف الترتيب ألهم الله سبحانه الخلفاء الراشدين، فقاموا بجمع القرآن في الصحف، كما حدث في عهد الصديق رضي الله عنه، وفي المصاحف كما حدث في عهد عثمان رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) أما ما كان مكتوبا في القطعة الواحدة فقد كان مرتب الآيات ولا ريب.

جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه

وهكذا نرى أن كتابته مفرقا في العهد النبوي ضرورة لا محيص عنها. جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه لما تولى أبو بكر الصديق الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان أول عمل قام به محاربة أهل الردة والقضاء على هذه الفتنة، وبذلك أقام عمود الإسلام، وثبّت دعائمه بعد أن كادت تتقوض، ولما وقعت موقعة اليمامة سنة اثنتي عشرة للهجرة استحر (¬1) القتل في الصحابة، ومات من حفاظ القرآن خلق كثير قيل خمسمائة (¬2)، وقيل سبعمائة، فخشي الفاروق عمر رضي الله عنه الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه أن يكثر القتل في القراء في بقية المواطن، وربما كان عندهم شيء من القرآن، فيضيع بموتهم، فأشار على أبي بكر أن يجمع القرآن في مكان واحد، وصحف مجموعة بدل وجوده مفرقا في العسب، واللخاف، والرقاع، وغيرها، فتردد أبو بكر أول الأمر، ولكن لم يزل به الفاروق حتى وافق، وثبت عنده أن جمع القرآن ليس من المحدثات، وأن قواعد الدين والشريعة تدعو إليه، فأرسل الصديق إلى زيد بن ثابت، وندبه للقيام بهذا العمل الجليل، فراجعهما، ولم يزالا به حتى ظهر له الحق واستبان له الرشد، وعلم أن الحق فيما أشارا به فجمعه بعد جهد جهيد. وإليك ما رواه البخاري في صحيحه (¬3) بسنده عن زيد بن ثابت (¬4) قال: ¬

_ (¬1) أي كثر. (¬2) فضائل القرآن لابن كثير ص 12. (¬3) صحيح البخاري- كتاب فضائل القرآن- باب جمع القرآن. (¬4) هو الصحابي الجليل زيد بن ثابت بن الضحاك ينتهي نسبه إلى مالك بن النجار الأنصاري، الخزرجي، استصغر يوم بدر هو وبعض شباب الصحابة، ثم شهد أحدا وما بعدها، وكان من كتاب الوحي المعدودين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والظاهر أنه كان أكثر الكتاب تفرغا للكتابة، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم كتابة اليهود، فتعلمها في خمسة عشرة يوما كما في صحيح البخاري، وكان من علماء الصحابة، وأئمة الفتوى منهم، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «أفرضكم زيد» رواه أحمد يعني أكثركم علما بعلم المواريث، قال فيه ابن سعد: كان زيد رأسا بالمدينة في القضاء، والفتوى، والقراءة، والفرائض.

أرسل إليّ أبو بكر مقتل (¬1) أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر: إن عمر بن الخطاب أتاني فقال: إن القتل استحر- اشتد- بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن يجمع القرآن فقلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب، عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله، فتتبع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: هو- والله- خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... إلى آخر السورة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر في حياته ثم عند حفصة بنت عمر، وفي رواية أخرى مع خزيمة أو أبي خزيمة بالشك والأولى هي المعتمدة (¬2)، وقد أخرج ابن أبي داود من طريق هشام بن عروة ¬

_ وروى البغوي بإسناد صحيح عن خارجة بن زيد قال: كان عمر يستخلف زيد بن ثابت إذا سافر، فقلما يرجع إلا أقطعه حديقة من نخل، وكان من الراسخين في العلم ومن خصائصه أنه حضر العرضة الأخيرة للقرآن التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام، وهذا من أعظم المؤهلات التي أهلته لهذا العمل الكبير. جمع القرآن في عهد الصديق، وعهد ذي النورين عثمان وكانت وفاته سنة اثنتين، أو ثلاث، أو خمس وأربعين وقيل غير ذلك فرضي الله عنه وأرضاه. (¬1) اسم زمان، أي زمن قتال أهل اليمامة. (¬2) أبو خزيمة الذي وجدت عنده آخر سورة التوبة غير خزيمة الذي وجدت عنده آية الأحزاب، فالأول هو أبو خزيمة بن أوس بن يزيد بن أصرم من بني النجار شهد بدرا وما بعدها وتوفي في خلافة عثمان، وأما الثاني فهو خزيمة بن ثابت بن الفاكه ابن

السبب الباعث على الكتابة

عن أبيه أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه، منقطع رجاله ثقات، وقد اختلف في المراد بالشاهدين، فقال الحافظ ابن حجر: المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة، وقال السخاوي: المراد بالشاهدين أنهما يشهدان أن ذلك مكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غرضهم أن لا يكتب القرآن إلا من عين ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ، وبهذا تعلم أنهم بالغوا في التوثق في كتابة القرآن، فلم يقبلوه إلا من المصدرين معا، وهما الحفظ والكتابة، وعلى ذلك يحمل قول زيد في الحديث السابق، في الآيتين من آخر سورة التوبة، لم أجدهما إلا مع أبي خزيمة الأنصاري أن المراد أنه لم أجدهما مكتوبتين عند غيره ممن كانوا يكتبون الوحي وليس المراد أنه لم يكن يحفظهما غيره بل كان يحفظهما الكثيرون (¬1) ويتلونهما في الصلاة، ومنهم زيد بن ثابت نفسه. السبب الباعث على الكتابة: والسبب الباعث على كتابته في عهد أبي بكر، خوف ضياع شيء منه بموت الكثير من القراء والحفاظ في الحروب، وقد يكون عند أحدهم شيء من القرآن المكتوب يضيع بموته، وقد سمعت آنفا أن الاعتماد في الجمع كان على الحفظ والكتابة ولذلك كانت العناية بالغة بالصحف التي جمعت في عهد أبي بكر فكانت عنده حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة (¬2) حتى طلبها منها عثمان رضي الله عنه في الجمع الثالث. ¬

_ ثعلبة يعرف بذي الشهادتين شهد بدرا وما بعدها، وقتل وهو مع علي بصفين (تفسير الخازن ج 1 ص 9، فتح الباري ج 8 ص 277 - 421، ج 9 ص 12 - 17 لعبد الرحمن محمد). (¬1) وقد ثبت في الروايات أن عمر كان يحفظها وأن عثمان كان يحفظها أيضا وأن أبي بن كعب كان يحفظها (فتح الباري ج 9 ص 10) ولو لم يحفظها إلا هؤلاء الحفاظ الكبار الخمسة لكفى، فالواحد منهم في معيار العدالة والضبط والثقة يعتبر بألف. (¬2) لأن أباها الفاروق كان أوصى بذلك، فهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحق من يرعى هذه الأمانة الغالية ولأنها كانت تحفظ القرآن.

ما روي من جمع علي رضي الله عنه للقرآن

ما روي من جمع علي رضي الله عنه للقرآن: ولا يعارض هذا ما أخرجه ابن أبي داود من طريق ابن سيرين قال: قال عليّ: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم آليت أن لا آخذ عليّ ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعته، فقد قال الحافظ ابن حجر، هذا الأثر ضعيف لانقطاعه وبتقدير صحته فمراده بجمعه حفظه في صدره وما تقدم من رواية عبد خير عنه أصحّ، فهو المعتمد، ومراد الحافظ برواية عبد خير ما أخرجه ابن أبي داود بسند حسن عن عبد خير قال: سمع عليّا يقول: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله. أقول: وعلى فرض صحة ما روي عن سيدنا علي، وأن المراد بالجمع الكتابة لا يعارض الثابت المشهور من أن أبا بكر هو أول من جمع القرآن، إذ ليس في رواية ابن سيرين التصريح بالأولية بل الذي صحّ عن علي خلافها، وغاية ما تدل عليه أنه سارع إلى كتابة القرآن، فهو كغيره من الصحابة الذي عنوا بكتابة مصاحف لأنفسهم خاصة، ولم تكن لهذه المصاحف من الثقة بها والإجماع عليها، والقبول لها مثلما لمصحف أبي بكر، فجمع الصديق أبي بكر بهذه الاعتبارات يعتبر بحق أول جمع. وقد امتاز الجمع في عهد أبي بكر بما يأتي: 1 - أنه اقتصر فيه على ما لم تنسخ تلاوته وجرده من كل ما ليس بقرآن. 2 - أنه لم يقبل فيه إلا ما أجمع الجميع على أنه قرآن وتواترت روايته، وأما ما روي عن زيد في آخر سورة براءة فقد علمت المراد منه. 3 - أنه كان مكتوبا بجميع الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. 4 - أنه كان مرتب الآيات على الوضع الذي نقرؤه اليوم، ولم يكن مرتب السور، فكانت كل سورة مستقلة في الكتابة بنفسها في صحف، ثم جمعت هذه الصحف وشدت بعضها إلى بعض. ومما ينبغي أن يعلم أن الجمع بهذه الدقة الفائقة والتثبت البالغ

جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه

والاشتمال على هذه المميزات لم يكن لغير صحف أبي بكر رضي الله عنه فهي النسخة الأصلية الموثوق بها التي يجب الاعتماد عليها، نعم قد كانت هناك صحف ومصاحف لبعض الصحابة كتبوا فيها القرآن، إلا أنها لم تحظ بما حظيت به صحف أبي بكر من الدقة والميزات فبعض الصحابة كان يكتب المنسوخ، وما ثبت برواية الآحاد، وبعض تفسيرات وتأويلات لآية وبعض أدعية، ومأثورات فكن على ذكر من هذا فإنه سيفيدنا في إزالة إشكال بعض الروايات الواردة عن بعض أصحاب هذه المصاحف، والتي اتخذ منها بعض المارقين وسيلة للطعن في القرآن الكريم. جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه لما كان عهد عثمان رضي الله عنه، وتفرق الصحابة في البلدان وحمل كل منهم من القراءات ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون عند أحدهم من القراءات ما ليس عند غيره، اختلف الناس في القراءات، وصار كل قارئ ينتصر لقراءته، ويخطئ قراءة غيره وعظم الأمر، واشتد الخلاف، فأفزع ذلك عثمان رضي الله عنه، وخشي عواقب هذا الاختلاف السيئة في التقليل من الثقة بالقرآن الكريم وقراءاته الثابتة، وهو أساس عروة المسلمين، ورمز وحدتهم الكبرى. أخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف من طريق أبي قلابة قال: لما كان عهد عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين حتى كفر بعضهم بعضا؛ فبلغ ذلك عثمان فقال: أنتم عندي تختلفون فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافا!! وقد تحقق ظنه لما جاء حذيفة بن اليمان وأخبره بما وقع بين أهل الشام والعراق من الاختلاف في القراءة في غزوة أرمينية فهاله الأمر، وتشاور هو والصحابة فيما ينبغي، فرأى ورأوا معه أن يجمع الناس على مصحف واحد، لا يتأتى فيه اختلاف، ولا تنازع، فأرسل إلى حفصة رضي الله عنها: أن أرسلي إلينا بالصحف التي كتبت في عهد أبي بكر ثم

انتقلت بعد موته إلى عمر ثم بعد عمر إلى حفصة؛ لتكون أساسا في جمع القرآن جمعا يقلل من الاختلاف والتنازع. ثم عهد عثمان إلى زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير (¬1) وسعيد بن العاص (¬2) وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام (¬3) أن ينسخوا الصحف في ¬

_ (¬1) هو الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي، الأسدي أبوه الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمته السيدة صفية، وأمه السيدة أسماء بنت الصديق، ذات النطاقين كما سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أول مولود ولد للمهاجرين بالمدينة، ولما ولد فرح المسلمون وكبّروا، لأن اليهود زعموا أنهم سحروا المهاجرين فلا يولد لهم أحد، ولما ولد جاءت به أمه إلى النبي فحنكه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه عبد الله، ودعا له بخير، وقد جاء إلى النبي وهو ابن سبع أو ثمان سنين، فبايع النبي، وكان أشبه الناس بجده الصديق، وهو أحد العبادلة الأربعة الذين اشتهروا بالعلم، ورواية الأحاديث، وعنوا بحفظ القرآن، وأحد شجعان العرب، وقد دانت له معظم الأقطار الإسلامية بعد موت يزيد بن معاوية، وولي الخلافة ثم قتل شهيدا أثناء حصار الحجاج له بمكة سنة ثلاث وسبعين. وقد أهلته صفاته الخلقية، وخصائصه العلمية، ولا سيما بالقرآن أن يكون أحد الأربعة الذين كتبوا المصاحف في عهد سيدنا عثمان، فرضي الله عنه وأرضاه. (¬2) هو الصحابي الجليل سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي، الأموي، أبو عثمان، قال ابن أبي حاتم عن أبيه: له صحبة، وقال الحافظ ابن حجر: كان له يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين وقتل أبوه يوم بدر، قال ابن سعد: وعدوه لذلك في الصحابة، وحديثه عن عثمان وعائشة في صحيح مسلم، وكان من فصحاء قريش ولذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة المصاحف قالوا فيه: إن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص؛ لأنه كان أشبه الصحابة لهجة برسول الله، وقد ولي إمارة الكوفة، وغزا طبرستان ففتحها، وغزا جرجان، وكان حليما وقورا، مشهورا بالكرم والبر، وكان معاوية يقول: لكل قوم كريم، وكريمنا سعيد، وقد ولاه معاوية إمارة المدينة، مات بقصره بالعقيق سنة ثلاث وخمسين كما في الإصابة وفي الفتح، قال: سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين فرضي الله عنه وأرضاه. (¬3) هو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي، قال ابن حبان: ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه، ثم ذكره في ثقات التابعين، وما قيل من أنه كان ابن عشر في حياة النبي هو وهم، مات أبوه وهو يجاهد في الشام في طاعون عمواس، فتزوج سيدنا عمر أمه، فنشأ في حجره، وتزوج بنت سيدنا عثمان، وقد ذكره البغوي والطبراني في الصحابة، وذكره البخاري وأبو حاتم في التابعين، وكان

مصاحف وقال للرهط القرشيين إذا اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش (¬1) فإنما نزل بلسانهم فقاموا بمهمتهم خير قيام وكتبوا المصاحف مرتبة السور على الوجه المعروف اليوم فلما انتهوا أرسل عثمان إلى كل مصر من الأمصار المشهورة بمصحف ليجتمع الناس في القراءة عليه، تلافيا لما حدث في ذلك الوقت من الاختلاف والتنازع، وأمر بما سواها من المصاحف أن يحرق، أو يخرق، وبذلك وفق الله عثمان والصحابة لهذا العمل الجليل، ثم رد الصحف إلى حفصة فبقيت عندها إلى أن توفيت، فأرسل مروان بن الحكم إلى أخيها عبد الله بن عمر عقب انصرافه من جنازتها أن يرسل إليه هذه الصحف فأرسلها إليه فأمر بها مروان فشققت، وفي رواية أنه أمر بها فغسلت، وفي رواية أخرى أنه حرقها (¬2) وقال: إنما فعلت هذا لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب، وكانت وفاتها- رضي الله عنها- عام واحد وأربعين، وقيل عاشت إلى سنة خمس وأربعين. يدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان رضي الله عنه وكان يغازي (¬3) أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان (¬4) مع أهل العراق، فأفزع حذيفة ¬

_ من أشراف قريش وابنه أبو بكر أحد الفقهاء السبعة مات سنة ثلاث وأربعين، (الإصابة ج 1 ص 66). (¬1) يريد إذا اختلفتم في رسم لفظ من ألفاظ القرآن فاكتبوه بالرسم الذي يوافق لغة قريش كما يدل على ذلك قصة اختلافهم في كتابة لفظ «التابوت». (¬2) لا تنافي بين الروايات لجواز أن تكون غسلت أولا ثم شققت ثانيا ثم حرقت ثالثا. (¬3) أي كان يجمع أهل الشام مع أهل العراق للغزو والفتوحات. (¬4) أرمينية بكسر الهمزة- وتفتح- وسكون الراء وكسر الميم بعدها ياء مثناة خفيفة ساكنة ونون مكسورة، وياء خفيفة مفتوحة، وقد تثقل كما قال ياقوت وهو إقليم كبير يشتمل على بلدان كثيرة أكبرها أرمينية، وأذربيجان بفتح الهمزة وسكون الذال وفتح الراء وكسر الباء بعدها ياء مخففة ثم جيم مفتوحة ممدودة وهما إقليمان، وصارا يعرفان بالقوقاز، وهما الآن تحت الحكم الروسي الشيعي.

جماعة آخرون معاونون

اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف فننسخها ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن أي في كتابته- فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في صحيفة أو مصحف أن يحرق (¬1). وكان ذلك في أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين، وهو الوقت الذي ذكر أهل التاريخ أن أرمينية فتحت فيه، وقد روي أن زيد ابن ثابت قال: فقدت آية من سورة الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) فألحقناها بسورتها في المصحف (¬2)، كما روي أنهم اختلفوا في كتابة التابوت فقال زيد بن ثابت: إنما هو التابوة بالهاء وقال الرهط القرشيون إنما هو التابوت بالتاء فرجعوا إلى عثمان فقال: اكتبوه بلسان قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم (¬3). جماعة آخرون معاونون: وقد أخرج ابن أبي داود من طريق محمد بن سيرين قال: جمع عثمان اثنى عشر رجلا من قريش والأمصار، منهم أبيّ بن كعب، وأرسل الرقعة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- كتاب فضائل القرآن- باب جمع القرآن. (¬2) المرجع السابق. (¬3) فتح الباري ج 11 ص 20.

كتابة المصاحف مكرمة لسيدنا عثمان

التي في بيت عمر، قال: فحدثني كثير بن أفلح، وكان ممن يكتب، قال: إذا اختلفوا في شيء أخروه، قال ابن سيرين: أظنه ليكتبوه على العرضة الأخيرة. وممن عاون مع هؤلاء الأربعة بالكتابة أو الإملاء جماعة آخرون منهم: (1) كثير ابن أفلح كما تقدم (2) ومالك بن أبي عامر جد مالك بن أنس من روايته، ومن رواية أبي قلابة عنه (3) وأبي بن كعب كما ذكرنا (4) وأنس بن مالك (5) وعبد الله بن عباس، وقع ذلك في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن ابن شهاب، فهؤلاء الخمسة إلى الأربعة السابقين صاروا تسعة، وهو ما وقف عليه الحافظ ابن حجر من أسماء الاثنى عشر رجلا الذين ذكرهم ابن أبي داود في كتاب «المصاحف» (فتح الباري ج 9 ص 19). كتابة المصاحف مكرمة لسيدنا عثمان: وقد كانت كتابة المصاحف على هذا الوضع الدقيق البالغ الغاية في التحري والضبط مكرمة من مكرمات ذي النورين عثمان، وما أكثرها. وقد اتخذ بعض المغرضين من أمر عثمان بتحريق ما عدا المصاحف التي كتبها ووجّه بها إلى الآفاق ذريعة للطعن فيه، مع أنه لم يفعل ما فعل إلا بموافقة من الصحابة، ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب «الرد على من خالف مصحف عثمان» عن سويد بن غفلة قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حرّاق المصاحف، ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وروي أيضا عن علي أنه قال: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان، وأخرج ابن أبي داود بسند صحيح من طريق سويد بن غفلة عن علي وفي آخره قال أي عثمان: ما تقولون فقد بلغني إن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا، قلنا: فما ترى قال: أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا

هل يجوز حرق كتب العلم ونحوها

اختلاف، قلنا: فنعم ما رأيت. هل يجوز حرق كتب العلم ونحوها وقد أخذ العلماء من أمر عثمان رضي الله عنه بتحريق الصحف والمصاحف الأخرى حين جمع القرآن في المصاحف المعتمدة جواز تحريق المصاحف البالية والكتب التي يذكر فيها اسم الله تعالى، وأن في ذلك إكراما لها وصيانة عن الوطء بالأقدام وكان طاوس يحرق الصحف إذا اجتمعت عنده وفيها بسم الله الرحمن الرحيم، وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرة. السبب الباعث على جمع عثمان: وقد تبين مما ذكرنا أن السبب الباعث على جمع عثمان هو رفع الاختلاف والتنازع في القرآن، وقطع المراء فيه، وذلك بجمع الناس على القراءة بحرف واحد، وهو لغة قريش، وأما قبله فكانت الصحف مكتوبة بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وما تحتمله من قراءات، وقد وفق الله عثمان لهذا العمل الجليل الذي رفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح الأمة، فرضي الله عنه وأرضاه. ويعجبني في هذا ما قاله الحارث المحاسبي: المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان، وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهدوا من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات، على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن، فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصدّيق، وقد قال عليّ: لو وليت لعملت بالمصاحف الذي عمل بها عثمان (¬1). ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 60.

ما امتاز به الجمع في عهد عثمان

ما امتاز به الجمع في عهد عثمان: وقد امتاز الجمع في عهد عثمان بما يأتي: 1 - الاقتصار فيه على حرف واحد وهو حرف قريش. 2 - الاقتصار فيه على ما ثبت بالتواتر وما استقر عليه الأمر في العرضة الأخيرة، ولم يكتبوا ما ثبت بطريق الآحاد، ولا منسوخ التلاوة. 3 - ترتيب آياته وسوره على الوجه المعروف اليوم. 4 - تجريده من النقط والشكل ومن كل ما ليس بقرآن بخلاف ما كان مكتوبا عند بعض الصحابة فقد كان فيه بعض تأويلات وتفسيرات لبعض ألفاظه. المصاحف التي وجه بها عثمان إلى الأمصار المصاحف جمع مصحف بزنة اسم المفعول من أصحفه أي جمع فيه الصحف، والصحف جمع صحيفة، وهي القطعة من الجلد أو الورق يكتب فيها، هذا في اللغة، وأما في الاصطلاح فقد صار علما على ما جمع فيه القرآن الكريم؛ والظاهر أن التسمية بالمصحف معروفة من زمن الصديق؛ فقد روي أن أبا بكر استشار الناس بعد جمع القرآن، فقال بعضهم نسميه سفرا كما يسمي اليهود فكرهوه، وقال بعضهم نسميه إنجيلا فكرهوه، فقال بعضهم إن في الحبشة مثله يسمّى مصحفا، فارتضى أبو بكر ذلك، وسماه مصحفا (¬1) ولا ينافي هذا كون لفظ «مصحف» عربية الاستعمال، ومخرّجة على القواعد العربية، لجواز أن يكون مما توافقت فيه لغة العرب، ولغة الحبش ومقتضى هذه الرواية أن لفظ المصحف كان معروفا في زمن أبي بكر رضي الله عنه، إلا أن ما كتب في عهده اشتهر في الروايات وألسنة العلماء باسم الصحف، وما كتب في عهد عثمان رضي الله عنه اشتهر باسم المصحف، ولعل اشتهار التعبير عن المكتوب في عهد أبي بكر بالصحف؛ لأن ما كتب فيها كان مرتب الآيات دون السور، أو لعل ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 51.

عدد المصاحف العثمانية

اشتهار تسمية المكتوب بالمصحف لم تكن إلا بعد زمن الصديق في عهد عثمان وإن كانت التسمية به معروفة من قبل. عدد المصاحف العثمانية: وقد اختلف في عدد المصاحف التي كتبت في عهد عثمان، ووجّه بها إلى الأمصار فقيل ستة، وقيل أكثر من ذلك، وقال القرطبي في تفسيره (¬1): قيل سبعة، وقيل أربعة، وهو الأكثر ووجه بها إلى الآفاق فوجه للعراق والشام ومصر بأمهات فاتخذها قراء الأمصار معتمد اختياراتهم ولم يخالف أحد منهم في مصحفه على النحو الذي بلغه وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم فذلك لأن كلا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه إذ كان عثمان كتب هذه المواضع في بعض النسخ ولم يكتبها في بعض إشعارا بأن كل ذلك صحيح وأن القراءة بكل منها جائزة، والذي ذكره الشاطبي أنها ثمانية؛ خمسة متفق عليها وثلاثة مختلف فيها، ومراده بالخمسة: الكوفي والبصري والشامي، والمدني العام والمدني الخاص الذي حبسه لنفسه وهو المسمى بالإمام (¬2)، وبالثلاثة: المكي ومصحف البحرين واليمن، وقيل إن مصر سيّر إليها بمصحف أيضا، والذي تميل إليه النفس أن يكون عثمان أرسل بمصحف إلى كل مصر من الأمصار الإسلامية المشهورة، لتكون مرجعا يرجع إليه عند الاختلاف. الاعتماد في القرآن على التلقي الشفاهي لا على المكتوب: ولما كان المعول عليه في تلقي القرآن هو الأخذ بالرواية والمشافهة لا ¬

_ (¬1) ج 1 ص 54. (¬2) من العلماء من يجعل «المصحف الإمام» خاصّا بالمصحف الذي احتفظ به عثمان لنفسه، وهو الموافق لما هنا، ومنهم من جعل المصحف الإمام عاما لجميع المصاحف التي كتبت بأمر عثمان، والتي وزعها على الأمصار، وأبقى منها واحدا لنفسه.

السبب في تعدد المصاحف

على المكتوب في المصاحف، فقد أمر أو أرسل سيدنا عثمان مع هذه المصاحف من يقرئ المسلمين بما فيها، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب المخزومي مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري وهكذا، وقد أجمع أهل كل مصر على ما في مصحفهم، وترك ما عداه، وبذلك زال الخلاف بين القراء، وتوحدت كلمة الأمة. السبب في تعدد المصاحف: والسبب في تعدد المصاحف أن عثمان والصحابة قصدوا كتابة المصاحف على ما وقع عليه الإجماع، ونقل متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم من القراءات فعدّدوا المصاحف لتكون مشتملة على جميع القراءات المتواترة؛ واختلاف المصاحف له حالتان: 1 - أن تحتمل صورة اللفظ خطا للقراءتين المختلفتين أو القراءات وفي هذه الحالة يكتب اللفظ في جميع المصاحف بصورة واحدة، تحتملها، ذلك مثل نُنْشِزُها بالزاي وننشرها بالراء، ومثل فتثبتوا بالثاء والباء وفَتَبَيَّنُوا بالتاء والباء، وهَيْتَ لَكَ فإنها كانت تكتب بصورة واحدة تحتمل القراءات ومن المعروف أن المصاحف كانت مجردة من الشكل والنقط. 2 - أن لا تكون صورة اللفظ خطا محتملة للقراءات المختلفة وحينئذ تكتب في بعض المصاحف بصورة وفي بعضها بصورة أخرى، وذلك مثل وَوَصَّى، وأوصى من قوله تعالى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة: 132]، فإنها في مصحف أهل المدينة وأوصى وفي مصحف أهل العراق وَوَصَّى، ومثل تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ وتجري من تحتها الأنهار [التوبة: 100] في سورة التوبة، ومثل وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس: 35] وما عملت أيديهم إلى غير ذلك فإنها كتبت في بعض المصاحف بلفظ وفي بعضها بلفظ آخر.

أين المصاحف العثمانية الآن

وإنما لم تكتب مكررة في مصحف واحد لئلا يتوهم أنها نزلت هكذا مكررة، ولم تكتب إحداهما في الأصل والأخرى في الحاشية لئلا يتوهم أنها تصحيح لها. وإنما جردت المصاحف من النقط والشكل: 1 - لما روي عن ابن مسعود «جردوا مصاحفكم» يعني من كل شيء إلا القرآن. 2 - لتحتمل الكلمة التي تكتب بصورة واحدة أكثر من وجه مما صح نقله وثبتت تلاوته عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه القراءات كما بينا آنفا. أين المصاحف العثمانية الآن قال صاحب مناهل العرفان (¬1) - رحمه الله-: ليس بين أيدينا دليل قاطع على وجود المصاحف العثمانية الآن فضلا عن تعيين أمكنتها، قصارى ما علمناه عنها أخيرا أن ابن الجزري رأى في زمانه مصحف أهل الشام ورأى في مصر مصحفا أيضا. أما المصاحف الأثرية التي تحتويها خزائن الكتب والآثار في مصر ويقال عنها إنها مصاحف عثمانية فإنا نشك كثيرا في صحة هذه النسبة إلى عثمان رضي الله عنه، لأن بها زركشة ونقوشا موضوعة كعلامات للفصل بين السور ولبيان أعشار القرآن، ومعلوم أن المصاحف العثمانية كانت خالية من كل هذا ومن النقط والشكل أيضا كما علمت. نعم إن المصحف المحفوظ في خزانة الآثار بالمسجد الحسيني والمنسوب إلى عثمان رضي الله عنه مكتوب بالخط الكوفي القديم مع تجويف حروفه وسعة حجمه جدّا، ورسمه يوافق رسم المصحف المدني أو الشامي حيث رسم فيه كلمة مَنْ يَرْتَدِدْ من سورة المائدة بدالين اثنين، مع فك الإدغام، وهي فيهما بهذا الرسم، فأكبر الظن أن هذا المصحف منقول من المصاحف العثمانية على رسم بعضها، وكذلك المصحف ¬

_ (¬1) ج 1 ص 361.

المحفوظ بتلك الخزانة، ويقال إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتبه بخطه، يلاحظ فيه أنه مكتوب بذلك الخط الكوفي القديم بيد أنه أصغر حجما وخطه أقل تجويفا من سابقه ورسمه يوافق غير المدني والشامي من المصاحف العثمانية، حيث رسمت فيه الكلمة السابقة مَنْ يَرْتَدَّ بدال واحدة مع الإدغام وهي في غيرهما كذلك فمن الجائز أن يكون كاتبه عليّا، أو يكون قد أمر بكتابته في الكوفة (¬1). ثم إن عدم بقاء المصاحف العثمانية قاطبة لا يضرنا شيئا ما دام المعول عليه هو النقل والتلقي ثقة عن ثقة، وإماما عن إمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك متواتر مستفيض على أكمل وجه في القرآن الآن. وقال ابن كثير في الفضائل (¬2): وأما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرق المقصورة والمعمورة بذكر الله، وقد كان قديما بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثماني عشرة وخمسمائة وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي محكم في رقّ أظنه من جلود الإبل والله أعلم. وذكر السيد محمد رشيد رضا- رحمه الله- في تعليقاته على كتاب فضائل القرآن (¬3): إن صحف الأخبار العامة نقلت أن أحد المصاحف الأئمة العثمانية وهو الذي كان محفوظا عند قياصرة الروسية وهبه خلفهم الشيوعيون لأمير بخارى بعد أن أخذوا صورة منه بالآلة الشمسية «الفوتوغرافية» ويقال إن الأصل فقد ولم يصل إلى الأمير. ¬

_ (¬1) وكذلك يقال: إن بخزانة كتب مسجد سيدنا عليّ بالنجف بالعراق مصحفا منسوبا إلى سيدنا علي، وكان بودي وأنا معار إلى كلية الشريعة بجامعة بغداد عام 1383 هـ الموافق عام 1963 م أن أطلع عليه، وذهبت إلى النجف ولكن لم أتمكن من ذلك، وقد أخبرني القيم على المخلفات القيمة أنه مكتوب في أوله (مصحف علي بن أبو طالب) والصحيح أبي، ولعل في هذا الخطأ النحوي ما يشكك في صحة النسبة. (¬2) فضائل القرآن ص 23 وابن كثير توفي عام 774 هـ. (¬3) ص 19.

الشبه التي أوردت على جمع القرآن

الشبه التي أوردت على جمع القرآن لا ينفك أعداء الإسلام عن تلمس المطاعن في القرآن الكريم؛ لأنهم يعلمون أنه أصل الدين، ومنبع الصراط المستقيم، فالتشكيك فيه إضعاف للدين وصرف للمسلمين عن الطريق الذي لا عوج فيه ولا أمت. ومعظم هذه المطاعن مبنية على روايات واهية ومختلفة، اشتملت عليها بعض الكتب الإسلامية، وعلى شبه أوردها بعض الكاتبين في علوم القرآن وفي أصول الفقه، وأجابوا عنها، ولم يدر بخلدهم أنها ذريعة للطعن في القرآن الكريم. وبعضها مبني على روايات صحيحة ولكن لها محامل صحيحة، ومخارج مقبولة، كما اعتمدوا على روايات باطلة أوردها الشيعة في كتبهم وسيأتي بعض منها وردّها وإبطالها. ولكن أعداء الإسلام تعاموا عنها، وصرفوها إلى المحامل التي ترضي أحقادهم وتشفي نفوسهم المريضة. وقد تلقف هذه الشبه، وتلك الروايات، ولا سيما الواهية الباطلة منها، المستشرقون والقسس، فأضافوا إليها ما شاءت لهم نفوسهم الحاقدة على الإسلام والمسلمين أن يضيفوه مما هو من بنات الخيال والأوهام، ومن صنع الأحقاد، فزعموا أنه قد ضاع من القرآن بعضه، ونسي بعضه، بل عنون «نولدكه» المستشرق الألماني في كتابه «تاريخ القرآن» فصلا بعنوان «الوحي الذي أنزل على محمد ولم يحفظ في القرآن». وذكر كاتب مادة، قرآن «في دائرة المعارف الإسلامية أنه مما لا شك فيه أن هناك فقرات من القرآن ضاعت». وفي دائرة المعارف البريطانية في مادة «قرآن» يذكر كاتب المادة أن «القرآن غير كامل الأجزاء» والذي سهل لهم هذا التجني بعض علمائنا- غفر الله لهم- بما ذكروه في كتبهم بحسن نية، وأوردوه في رواياتهم مع إمكان تأويلها تأويلا قريبا صحيحا، ولكن المستشرقين يأخذون الضعيف،

الشبهة الأولى

ويتركون القوي، وينقلون المشكوك فيه، ويسكتون عن الصحيح الصريح، لأنها الخطة التي تلائم أغراضهم، وتتفق ومراميهم. وها هي الشبه التي أوردت قديما وحديثا والرد عليها بما يقنع العقل ويطمئن القلب فأقول وبالله التوفيق: الشبهة الأولى : قالوا: كيف يكون جمع القرآن عن إجماع من الصحابة مع أن عبد الله بن مسعود وهو ذو السابقة في الإسلام قد كره أن يتولى زيد جمع المصحف. وقال: «يا معشر المسلمين كيف أعزل عن جمع المصحف ويتولاه رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر» (¬1)، وقال أيضا: «أعزل عن المصاحف وقد أخذت من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وزيد بن ثابت ذو ذؤابتين يلعب مع الصبيان» وفي رواية «بضعا وسبعين سورة ... » (¬2). والجواب : أن قول ابن مسعود هذا لا يدل على عدم جواز جمع القرآن في المصحف، ولا على أنه كان مخالفا في الجمع، وكل ما يدل عليه أنه يرى أنه أحق من زيد بجمع القرآن لسوابقه في الإسلام، على أنه قال هذا في وقت غضبه فلما سكت عنه الغضب أدرك حسن اختيار عثمان ومن معه من الصحابة لزيد بن ثابت وقد ندم على ما قال واستحيا منه؛ فقد روى أبو وائل هذه القصة ثم قال عقبها: إن عبد الله استحيا مما قال فقال: ما أنا بخيرهم ثم نزل عن المنبر (¬3) ولم يكن اختيار أبي بكر وعثمان لزيد إلا لما له من المزايا التي تؤهله لهذه المهمة الجليلة وقد أفصح عن هذه المزايا الصديق بقوله: إنك رجل، شاب، عاقل، لا نتهمك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وصفه بأربع صفات لا بد منها لمن يقوم بهذا العمل وهي الشباب المقتضي للقوة والصبر والجلد، والعقل وهو جماع ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي من حديث له في جمع القرآن. (¬2) أخرجه ابن أبي داود من طرق عن ابن مسعود. (¬3) مقدمتان في علوم القرآن ص 95.

الشبهة الثانية

الفضائل، والأمانة وعدم التهمة وهي الصفة التي لا بد منها لمن يقوم بهذا العمل، وكتابة الوحي، وبها يتم التوثق والاطمئنان ومع ذلك فقد ضم عثمان إليه ثلاثة من أوثق الصحابة وأعلمهم (¬1)، وهذه الخصائص لا تقتضي أفضليته على عبد الله بن مسعود ولا على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وإنما تقتضي أهليته لما عهد إليه به (¬2). الشبهة الثانية : قالوا: كيف يكون القرآن كله متواترا مع أن زيد بن ثابت قال في أثناء ذكره لحديث الجمع في عهد أبي بكر: «فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره» وقال في أثناء ذكره لكتابة المصاحف في عهد عثمان: «ففقدت آية من الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري، الذي جعل رسول الله شهادته بشهادة رجلين»، فهاتان الروايتان تدلان على أنه اعتمد في جمع القرآن على بعض الروايات الآحادية، وهو يخالف ما هو مقرر عندكم من أن القرآن- في جملته وتفصيله- ثابت بالتواتر المفيد للقطع والجواب : أن هذا الذي نقل لا ينافي تواتر القرآن؛ فقد ذكرنا لك فيما سبق أن الاعتماد في جمع القرآن كان على الحفظ والكتابة، وكان غرضهم من ذلك زيادة التوثق والاطمئنان، وأن ما كتبوه إنما هو من عين ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقول زيد: لم أجدهما، أي لم أجدهما مكتوبتين وهذا لا ينافي أنهما كانتا محفوظتين عند جمع يثبت بهم التواتر، والتواتر إنما هو في الحفظ لا في الكتابة، يدل على ذلك قول زيد في الرواية الثانية: «ففقدت آية من الأحزاب كنت أسمع رسول الله يقرأ بها، فهو إذا ¬

_ (¬1) قد علمت مما علقناه أن اثنين منهم وهما عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص متفق على صحبتهما، وأن ثالثهما وهو عبد الله بن الحارث مختلف فيه، وأدنى أمره أنه من كبار التابعين، وأنه كانت هناك لجنة مساعدة لهذه اللجنة الرباعية الأصلية. (¬2) وأيضا فقد كان مما أهّله لكتابة القرآن في الصحف ثم في المصاحف أنه كان شهد العرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل.

الشبهة الثالثة

كان حافظا لها ومتيقنا لقرآنيتها، وكذلك من كانوا معه كانوا يحفظونها ولكن كان يبحث عن أصلها المكتوب. فإن قيل إن اتجه هذا الجواب، واستقام في الرواية الأولى، فكيف يتجه في الرواية الثانية؛ فقد كانت آية الأحزاب مكتوبة في الصحف التي كتبت في عهد الصديق قلت: لعلها انمحت وتطاير مدادها فلم يبق ما يدل عليها أو لعل الأرضة أكلت موضعها من الصحيفة فاضطر أن يبحث عن أصلها المكتوب فوجده مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، على أن المعول عليه في القرآن التواتر الحفظي لا الكتابي. الشبهة الثالثة : قالوا: إن القرآن قد زيد فيه ما ليس منه بدليل ما ورد أن عبد الله ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، وفي رواية كان يحك المعوذتين من مصحفه، ويقول: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله. والجواب : أن هذه الروايات غير صحيحة، وأغلب الظن أنها مدسوسة على ابن مسعود، وإليك ما قاله الأئمة فيها، قال الإمام النووي في شرح المهذب: «أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منها شيئا كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح»، وقال ابن حزم في كتاب «القدح المعلّى»، تتميم المجلّى: «هذا كذب على ابن مسعود وموضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر عنه، وفيها المعوذتان والفاتحة»، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: «لم يصح عنه أنها ليست من القرآن، ولا حفظ عنه، إنما حكها وأسقطها من مصحفه إنكارا لكتابتها، لا جحدا لكونهما قرآنا لأنه كانت السنة عنده، أن لا يكتب في المصحف إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته فيه، ولم يجده كتب ذلك ولا أمر به» يعني في علمه وظنه، وإلا فقد تيقن قرآنيتهما غيره من الصحابة، وحفظوهما، وكتبوهما في المصاحف كما صنع زيد ومن معه. وذهب الحافظ ابن حجر إلى صحة ما روي عن ابن مسعود، وقال: «قول من قال إنه كذب عليه مردود والطعن في الروايات الصحيحة بغير

الشبهة الرابعة

مستند لا يقبل بل الروايات صحيحة، والتأويل محتمل، وقد أوله القاضي وغيره على إنكار الكتابة كما سبق»، وعلى فرض صحة الرواية يجاب بما يأتي: 1 - عدم كتابتهما أو حكّهما لا يستلزم إنكار كونهما من القرآن لجواز أنه كان لا يكتبهما اعتمادا على حفظ الناس لهما لا إنكارا لقرآنيتهما فالفاتحة يقرؤها كل مسلم في الصلاة، المعوذتان يعوذ بهما المسلمون أولادهم، وأهليهم ويحمل قوله: «كتاب الله» على المصحف، قال ابن قتيبة في مشكل القرآن: «وأما إسقاط الفاتحة من مصحفه فليس لظنه أنها ليست من القرآن، معاذ الله، ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان والزيادة والنقصان» ومعنى ذلك أنه يرى أن الشك والنسيان، والزيادة والنقصان مأمونة في سورة الحمد؛ لقصرها ووجوب تعلمها على كل أحد لأجل الصلاة. 2 - أنها رواية آحادية، فهي لا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، والعبرة في التواتر أن يروى عن جمع يحيل العقل تواطؤهم على الكذب، لا أن لا يخالف فيه مخالف، فظن ابن مسعود أنهما ليستا من القرآن لا يطعن في قرآنيتهما، قال ابن قتيبة في مشكل القرآن: «ظن ابن مسعود أن المعوذتان ليستا من القرآن، لأنه رأى النبي يعوذ بهما الحسن والحسين فأقام على ظنه، ولا نقول إنه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار». 3 - على فرض صحة الرواية فيحمل ذلك على أنه كان قبل أن يستيقن ذلك، فلما علم ذلك وتيقنه رجع إلى رأي الجماعة، وليس أدل على ذلك من أن الذين تعزى قراءاتهم إلى ابن مسعود متفقون على أن هذه السور الثلاث من القرآن؛ قال ابن الصباغ: «إنه لم يستقر عنده القطع بذلك، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك» (¬1)، وهذا الجواب هو الذي تستريح إليه النفس. الشبهة الرابعة : قالوا إن القرآن نقص منه ما كان بعض الصحابة يكتبه في ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 80.

والجواب

مصحفه، يدل على ذلك ما روي عن أبي بن كعب أنه كان يكتب في مصحفه سورتي (¬1) الخلع والحفد، وهو دعاء القنوت: «اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ... ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ... ». والجواب على ذلك: لا نسلّم أنهما من القرآن وكتابة أبي بن كعب لهذا الدعاء في مصحفه لا يدل على القرآنية، ونحن نعلم أن مصاحف الصحابة لم تكن قاصرة على المتواتر؛ بل كان بعضها مشتملا على الآحادي؛ والمنسوخ تلاوة، وعلى بعض تفسيرات، وتأويلات، وأدعية، ومأثورات، ومن ذلك هذا الدعاء الذي يقنت به بعض الأئمة في الوتر ووجوده في مصحف أبيّ لا يدل على أنه قرآن، كما أن القنوت به في الصلاة لا يدل على القرآنية، ولا يشك ذو نظر فاحص وذوق أدبي أن هذا الدعاء ليس عليه مسحة من سحر القرآن وبلاغته وإعجازه وإشراقه، مما يلقي بهذه الشبهة في غيابة الإهمال. 2 - على فرض أن أبيّا أثبتها في المصحف على أنها قرآن فهي رواية آحادية ظنية لا تعارض القطعي الثابت بالتواتر كما أنها لا تكفي في إثبات كونها من القرآن؛ لأن المعول عليه في ثبوت القرآن التواتر. وهنا قاعدتان ينبغي التنبه إليهما في رد كل رواية تفيد زيادة شيء في القرآن، أو نقص شيء منه وهما: 1 - كل رواية آحادية لا تقبل في إثبات شيء من القرآن. 2 - كل رواية آحادية تخالف المتواتر من القرآن لا تقبل، ويضرب بها عرض الحائط. الشبهة الخامسة : ما نقله العلامة الآلوسي عن بعض الشيعة والملاحدة وخلاصته أن عثمان بل وأبا بكر حرفا القرآن، وأسقطا كثيرا من آياته ¬

_ (¬1) بجعل نهاية الأولى لفظ: «يفجرك» وجعل بدء الثانية «اللهم إياك نعبد»، وليس أدل على تهافت الرواية من هذا الخلط بجعل الشيء الواحد من الدعاء شيئين.

والجواب

وسوره. وقالوا: إن القرآن الذي نزل به جبريل كان سبع عشرة ألف آية وأن سورة الأحزاب كانت مثل سورة الأنعام؛ أسقطوا منها فضائل أهل البيت، وأن سورة الولاية أسقطت بتمامها، إلى غير ذلك من الأباطيل والخرافات، والترّهات التي لم تقم عليها أثارة من علم. والجواب : أن هذه دعاوى لم يقم عليها شبه دليل، ولو أن كل دعوى تقبل من غير استدلال لما ثبتت حقيقة، ولما توصل الناس إلى علم ومعرفة وهذا الكلام من غلو الشيعة في آرائهم الجائرة، ولهذا نجد العقلاء منهم يتبرءون من مثل هذه الخرافات. قال الطبرسي في «مجمع البيان» - وهو من علمائهم-: أما الزيادة في القرآن فمجمع على بطلانها، وأما النقصان فيه فروي عن قوم من أصحابنا، وقوم من حشوية العامة والصحيح خلافه. ثم ماذا تقولون أيها المتشيعون لقد صار الأمر إلى علي كرم الله وجهه ودانت له الأقطار كلها ما عدا مصر والشام، والمصاحف التي كتبها عثمان تتلى وقد ظلت دولة أهل البيت ما يقرب من خمس سنين؛ فكيف يسكتون على ذلك وهو منكر شنيع يجب على الإمام أن يسارع إلى إزالته، ولو أن شيئا من ذلك وقع لنقله المؤرخون الأثبات، ولكن شيئا من ذلك لم يكن. الشبهة السادسة : ما زعمه صاحب ذيل «مقالة في الإسلام» (¬1) من أن القرآن قد أسقط منه ما هو منه، وزيد فيه ما ليس منه، وأيد زعمه بما يأتي: 1 - ما ورد في الحديث أن محمدا صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله فلانا لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا وكذا» وفي رواية: «أنسيتها» فهذا فيه اعتراف من النبي بأنه أسقط بعض الآيات، أو أنسيها. 2 - ما جاء في سورة الأعلى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ (7) وزعم هذا المفتري أن النبي صلى الله عليه وسلم أنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها. 3 - قال: إن الصحابة قد حذفوا من القرآن ما رأوا المصلحة في حذفه ¬

_ (¬1) هو قس من القساوسة كتب هذا الذيل وتستر تحت اسم «هاشم العربي».

فمن ذلك آية المتعة، أسقطها عليّ بتة وكان يضرب من يقرؤها، وهذا مما شنعت عائشة به عليه، فقالت: إنه يجلد على القرآن وينهى عنه، وقد حرفه وبدله، وما روي أن أبيّا كان يكتب في مصحفه «اللهم إنا نستعينك ... إلخ» الدعاء ولا يوجد اليوم في المصحف. 4 - قال: إن كثيرا من آياته لم يكن لها من قيد سوى تحفظ الصحابة، وكان بعضهم قد قتلوا في الغزوات، وحروب خلفائه الأولين، وذهب معهم ما كان يتحفظونه من قبل أن يوعز أبو بكر إلى زيد بن ثابت بجمعه، فلذلك لم يستطع زيد أن يجمع سوى ما كان يحفظه الأحياء، أما ما كان مكتوبا على العظام وغيرها فإنه كان مكتوبا عليها بلا نظام، ولا ضبط، وقد ضاع بعضها، وهذا ما حدا العلماء إلى الزعم أن فيه آيات نسخت لفظا لا حكما، وهو من غريب المزاعم، وحقيقة الأمر أنها قد سقطت بضياع العظم، ولم يبق منه سوى المعنى محفوظا في صدورهم. 5 - زعم أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية لم يبق مصحفا إلا جمعه وأسقط منه أشياء كثيرة قد نزلت فيهم، وزاد فيه أشياء ليست منه، وكتب ستة مصاحف وجه بها إلى الأمصار، وهي القرآن المتداول اليوم، وأعدم المصاحف المتقدمة التي كتبها عثمان، وإنما رام بفعله التزلف إلى بني أمية. 6 - زعم أن آية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية من كلام أبي بكر قالها يوم السقيفة، وكذا آية وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى من كلام عمر ثم لما جمع القرآن ضم إليه هذا الكلام. وبالنظر في هذه الدعاوى نجد أنها عارية عن الدليل، وأنها إما ادعاءات وافتراءات، أو تحريفات وتأويلات لبعض الآيات والأحاديث بغير حجة. وسنناقشه فيما قال كي يتبين للمنصفين أنه لا يعدو أن يكون هراء من القول وإليك تفنيد هذه المزاعم. 1 - أما ما ذكره من الحديث فهو ثابت (¬1)، ولكن حمله ما لا يحتمل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن- باب نسيان القرآن- انظر فتح الباري ج 9 ص 55.

وفهمه على غير وجهه، فالرواية الثانية تفسر الأولى، وتدل على أن الإسقاط عن طريق النسيان لا العمد، ولا يضر نسيان النبي صلى الله عليه وسلم، ما دام يحصل له التذكر إما من نفسه، أو من مذكر كما في الحديث، وزيادة في التوضيح نقول النسيان من النبي لشيء من القرآن على قسمين: أحدهما: نسيان الشيء الذي يتذكره عن قرب، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون». والثاني: أن يرفعه عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو المشار إليه بقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ (7). أما الأول: فعارض سريع الزوال يدل عليه قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)، فهذا تكفل من الله تبارك وتعالى أن يحفظ كتابه عن أي نقص أو زيادة، أو تغيير أو تحريف، وقد ثبت أن القرآن الكريم معجزة المعجزات، فوجب التصديق بكل ما جاء فيه. وأما الثاني: فداخل في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها بضم النون وبغير همز، فالنسيان عارض بشري يجوز على الأنبياء فيما ليس طريقه البلاغ من أمور الدين والشريعة، وذلك كالأمور الدنيوية أما ما كان من الدين والشريعة، مما هو واجب البلاغ فيجوز لكن بشرطين: أ- أن يكون بعد تبليغه كما هنا. ب- أن لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكره إما بنفسه، وإما بغيره، وأما قبل التبليغ فلا يجوز أصلا، وهذا ما قام عليه الدليل العقلي؛ إذ لو جاز النسيان قبل التبليغ أو بعده بدون أن يتذكر، أو يذكره الغير لأدى إلى الطعن في عصمة الأنبياء، ولجاز ضياع بعض الشرائع والأديان، وفي هذا تشكيك فيها وإبطال لها. 2 - إن ما استدل به من قوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ (7) فهو تحريف للكلم عن مواضعه، وزعم من لم يعرف سبب نزول الآية، ولا المراد من الاستثناء، ولا الغرض الذي سيقت له الآية، أما سببها فهو

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى، فأزال الله خوفه بهذه الآية، وأما الاستثناء فالمحققون من العلماء على أنه ليس بحقيقي وإنما هو صوري، يراد منه تأكيد عدم النسيان بتعليق الشيء على ما هو مستحيل وقوعه، وليدل على استحالته بالبرهان، وقد ضمن الله لنبيه تحفيظه له فكيف يشاء إنساءه له قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ [القيامة: 16 - 19] الآيات، ومثل هذا الاستثناء قوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (86) [الإسراء: 86]، ونحن نقطع أنه سبحانه ما شاء ذلك والغرض من هذا الاستثناء على هذا: 1 - تعريفه صلى الله عليه وسلم أن عدم النسيان من فضل الله تعالى عليه، فيديم له الشكر والعبادة والذكر في كل وقت. 2 - تعريف أمته ذلك حتى لا يرفعوه صلى الله عليه وسلم من مقام العبودية إلى مقام الألوهية، كما فعل اليهود والنصارى بأنبيائهم. وهناك رأي آخر في الآية: وهو أن المراد بما يشاء الله أن ينساه هو ما أراد الله نسخه، فيذهب من قلبه، وأيّا كان المراد فليس في الآية ما يشهد لما زعمه هذا الطاعن. 3 - ما زعمه من أن الصحابة أسقطوا ما رأوا المصلحة في إسقاطه تجن على الصحابة وعلى الحق، والواقع، وإنما يزعم هذا من يجهل ما كانوا عليه من عنايتهم بالقرآن، وامتزاجه بلحمهم، ودمهم، وحبهم له حبا يفوق الأهل والولد، ومراقبتهم لمنزل القرآن حق المراقبة، وهل يعقل أن تتفق جماعة تعد بالألوف على باطل من غير أن يقوم بينهم من ينكر ذلك ويجهر به وبحسبك أن تقرأ ما كتبناه في جمع القرآن لترى كيف أحاط الصحابة القرآن بسياج قوي من الحفظ والعناية، فلم يزيدوا فيه حرفا أو ينقصوا منه حرفا، أما ما يذكره عن عليّ أنه أسقط آية المتعة ... الخ، فكذب وافتراء عليه ولا أدري ما يريد الطاعن بالمتعة؛ فإن أراد نكاح المتعة فالآية التي يستدل بها بعض القائلين بإباحته موجودة في سورة النساء لم تحذف، وهي قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ

فَرِيضَةً [النساء: 24]، ونكاح المتعة أحل للضرورة ثم حرم إلى يوم القيامة، وإن أراد متعة الحج فآيتها في القرآن موجودة في المصاحف إلى اليوم، قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196]. وأما ما ذكره عن مصحف أبيّ فقد بينت أنه دعاء وليس بقرآن قطعا. 4 - أما ما زعمه من أن القرآن لم يكن له من قيد سوى تحفظ الصحابة ... إلخ فمردود بأن من بقي من حفاظ الصحابة كان أكثر ممن مات؛ بدليل قول عمر رضي الله عنه للصديق: «وإني أخاف أن يستحر القتل بالقراء في المواطن»، وكذلك زعمه أن كتابته مفرقا في العظام وغيرها كانت سببا في ضياع بعضه زعم باطل، ولو أن الاعتماد في حفظ القرآن على الأخذ من الصحف أو من قطع الحجارة أو العظام لجاز هذا الفرض، وليس الأمر كذلك، فالمعول عليه في القرآن هو التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عمن سمع منه، والحفظ في الصدور، وأما الكتابة فإنما كانت لتأكيد المحفوظ في الصدور والوقوف على مرسوم الخط الذي هو توقيفي، ولا شك أن الشيء إذا توارد عليه الأمران الحفظ والكتابة يكون هذا أدعى إلى اليقين، والوثوق به، والاطمئنان إليه، وما دام أن المعول عليه في القرآن الحفظ، فاحتمال ضياع بعض المكتوب فيه لا يضيرنا في شيء، وإن كان هذا الاحتمال بعيدا جدّا؛ إذ كانوا يحافظون على المكتوب غاية الحفظ. 5 - أما دعوى أن الحجاج زاد في القرآن، وأنقص منه فدعوى لا وجود لها إلا في خيال قائلها؛ إذ لم ينقل ذلك في أي تاريخ من التواريخ على كثرتها، وذكرها ما صح وما لم يصح، وكيف يفعل الحجاج أمرا إدّا كهذا له خطره، ويكثر المعارضون له، ولا يرتفع صوت في معارضته ومهما قيل في قسوة الحجاج فقد كان هناك من السلف الصالح من لا يخافون في الحق لومة لائم، ويرون موتهم في هذا السبيل استشهادا، ولو فرضنا أن للحجاج قوة أسكتت المؤمنين المخلصين في حياته؛ أفلا يرجعون إلى كتابهم ويرجعونه إلى حالته الأولى بعد وفاته ومثل هذا العمل من أوجب

الواجبات وأعظم الفرائض على الأمة 6 - ما زعم من أن آية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية، من كلام أبي بكر إغراق في الجهل وإسراف في الوهم، والآية قد نزلت بعد أحد وحفظها كثير من الصحابة؛ ذلك أن المسلمين لما أصيبوا في أحد وأشيع بأن الرسول قد قتل اختل نظام الجيش، وفر الكثيرون، وقال بعضهم ليت لنا رسولا إلى عبد الله ابن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا ما بأيديهم من السلاح، وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم الأول فقال أنس بن النضر عم أنس ابن مالك: يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم ألقى بنفسه في القتال حتى لقي ربه شهيدا فأنزل الله هذه الآية ليبين لهم خطأهم فيما فعلوا وقالوا، حينما علموا أن الرسول قد قتل، وأن النبوة لا تقتضي الخلود، وأنه كغيره من الأنبياء، يجوز عليه ما جاز عليهم، وكأن هذا الحاقد الجاهل قد التبس عليه الأمر بما جرى بعد وفاة الرسول، فقد أنكر عمر- في سورة الغضب، وغمرة الحزن- موت الرسول وتوعد من يقول ذلك وغفل عن هذه الآية، وما أن جاء الصديق ودخل على رسول الله وقبله وقال: «طبت حيّا وميتا» حتى قال: على رسلك يا عمر، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، ثم تلا الآية وَما مُحَمَّدٌ إلخ، قال عمر: «فو الله ما إن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني قدماي» (رواه البخاري) إذ قد تحقق ما غاب عنه من أن موت الرسول حق لا شك فيه. وأما آية وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فليست من كلام عمر، وإنما المروي أن عمر قال: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى بصيغة التمني، فنزلت الآية آمرة بالاتخاذ، فأين أسلوب التمني من الأمر وكون القرآن يوافق عمر في أشياء كان له فيها رأي واجتهاد لا يدل على أنه من كلام عمر

الشبهة السابعة

وليس بعد الحق إلا الضلال فأنى يؤفكون. الشبهة السابعة : روى مسلم (¬1) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن. وروى بعضهم أنها كانت في صحيفة، وفي رواية في جليد، وأنهم اشتغلوا بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل الداجن (¬2) فأكلها، قالوا: والقرآن اليوم ليس فيه ما يدل على خمس رضعات، فتكون الآية الدالة على هذا الحكم قد سقطت من القرآن. والجواب: أن هذه الرواية مهما صحت فهي آحادية لا يثبت بها قرآن؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، ثم هي أيضا لا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، وهو القرآن الذي بين أيدينا اليوم، وغاية ما تدل عليه هذه الرواية أنها خبر لا قرآن. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (¬3)، في معرض ذكر ما يقوي مذهب الجمهور القائلين بتحريم قليل الرضاع وكثيره: وأيضا فقول عائشة: عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات، فمات النبي صلى الله عليه وسلم، وهن مما يقرأ- لا ينهض للاحتجاج على الأصح من قول الأصوليين، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والراوي روى هذا على أنه قرآن لا خبر فلم يثبت كونه قرآنا، ولا ذكر الراوي أنه خبر ليقبل قوله فيه، والله أعلم، ومما يدل على أنه ليس قرآنا، وأنه كان تشريعا ثابتا بالسنة، ثم نسخ بالسنة اختلاف الرواية عنها في القدر المحرم، ففي رواية الموطأ عنها عشر رضعات، وعنها أيضا سبع رضعات، أخرجه ابن أبي خيثمة بإسناد صحيح ¬

_ (¬1) مسلم بشرح النووي ج 10 ص 29 - 30. (¬2) في القاموس (ودجن بالمكان دجونا أقام والحمام والشاة وغيرهما ألفت البيوت وهي داجن). (¬3) ج 9 ص 120.

عنها، وعبد الرزاق أيضا، وجاء عنها أيضا: خمس رضعات، وهي ما يدل عليها رواية مسلم التي معنا، فاختلاف الرواية عنها يدل على أنه كان باجتهاد منها استندت فيه على ما ظهر لها من السنة، ولو كان قرآنا لما نقل عنها كل هذا الاختلاف (¬1). وقال الإمام النووي في شرحه على مسلم (¬2): واعترض أصحاب مالك على الشافعية- يعني القائلين بأن لا حرمة إلا بالخمس- بأن حديث عائشة هذا لا يحتج به عندكم، وعند محققي الأصوليين؛ لأن القرآن لا يثبت بخبر الواحد، وإذا لم يثبت قرآنا لم يثبت خبر الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن خبر الواحد إذا توجه إليه قادح يوقف عن العمل به، وهذا إذا لم يجئ إلا بآحاد مع أن العادة مجيئه متواترا توجب ريبة، والله أعلم. وهكذا يتبين لنا أن الأئمة على أنه ليس بقرآن قط، وأقصى درجاته أن يكون خبرا صحيحا، وأما رواية أكل الداجن فهي مردودة ومتهافتة، وليس أدل على هذا من أن القرآن كان محفوظا في الصدور، فضياع صحيفة منه- فرضا- لا يؤثر في ثبوت قرآنيته ما دامت تحفظه الكثرة الكاثرة من المسلمين، ثم إن القرآن كان مكتوبا في العسب، والرقاع والعظام وصحائف الحجارة، ومثل هذه الأشياء مما لا يتيسر في العادة للداجن أن تأكله، ولا سيما والرواية لم تعين لنا نوع هذا الداجن، أهو شاة أم حمام أم غيرهما. فإن قال قائل: فكيف يتفق ما ذهب إليه من تأويل وما ثبت في الرواية «كان فيما أنزل من القرآن». قلت: المراد كان فيما أنزل من شرح القرآن وبيانه، ولا شك أن السنة شارحة للقرآن ومبينة له قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وأيضا فإن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ويكون ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) ج 10 ص 30.

الشبهة الثامنة

الأمر من نسخ السنة بالسنة، ويكون قولها في الحديث «فتوفي رسول الله وهن مما يقرأ من القرآن» أي من حكم القرآن على أنه سنة لا قرآن، ولا شك أنهم كانوا يعنون بحفظ السنة أيضا، أو يكون المراد وهن فيما يعلم من أحكام القرآن. 2 - وللحديث تأويل آخر، وهو أنه يحمل على أنه كان قرآنا ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، وبعد النسخ لم يعد يسمى قرآنا ولا له حكمه، فإن قيل: هذا تأويل مقبول لولا ما يعارض من قولها: «فتوفي رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن» قلت: إن غرضها الإخبار بأن هذا النسخ لم يقع إلا قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فعلم بالنسخ الكثيرون، وتركوا القراءة به، ولم يعلم البعض، فبقي هذا البعض على القراءة حتى تيقنوا فيما بعد نسخه فتركوا القراءة به؛ قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدّا، حتى أنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى (¬1). وهذا الجواب إنما يتم على مذهب من يرى أن من أقسام النسخ ما نسخت تلاوته وبقي حكمه، وهذا النوع قد أنكره بعض العلماء، قال الإمام السيوطي في الإتقان (¬2): حكى القاضي أبو بكر في الانتصار عن قوم إنكار هذا الضرب، لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها. هذا ولعل الوجه الأول في الجواب أولى وأسلم. الشبهة الثامنة : ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» وفي رواية أخرى له أيضا ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) ج 2 ص 26.

نحو هذا وفي آخرها قال ابن عباس: فلا أدري من القرآن هو أم لا قال: وسمعت ابن الزبير يقول: ذلك على المنبر. وروي عن أنس عن أبي قال: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) (¬1). ورواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس وفي آخره: فلا أدري أمن القرآن هو أم لا وفي رواية أخرى له عن أنس مثله وفي آخره: فلا أدري أشيء نزل أم شيء كان يقوله وروى عن أبي موسى الأشعري قصة وفيها: وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها «لو كان لابن آدم واديان ... إلخ» (¬2) كما روي في غير الصحيحين فظاهر هذه الروايات أنها كانت قرآنا، ولكن أنى هي في المصاحف المقروءة اليوم والجواب: 1 - إن هذه الروايات كلها لا تدل على أن هذا قرآن؛ إذ القرآن لا يثبت إلا بالتواتر؛ وغاية ما تدل عليه أنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وها أنت قد رأيت أن بعض الروايات قد جاءت مصرحة بأن ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، وأما الروايات التي فيها إيهام أن ذلك قرآنا؛ فإنما جاءت على صيغة الشك كما سمعت، وإذا كان الجزم في هذا لا يثبت القرآنية، فما بالك بالشك والتردّد وليس من ريب في أنه إذا تعارض اليقين والشك فالرجحان لليقين وعليه فتكون الروايات التي نسبت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه من كلامه هي المعول عليها، وهذا الذي ذهبنا إليه هو ما سبق إليه أئمة العلم. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (¬3) تعليقا على قول أبي: كنا نرى (¬4) هذا ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 11 ص 212 ومسلم شرح النووي 7/ 189. (¬2) الإتقان في علوم القرآن ج 2 ص 25. (¬3) ج 11 ص 215. (¬4) نرى بضم النون بمعنى نظن.

من القرآن حتى نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) ووجه ظنهم أن الحديث المذكور من القرآن ما تضمنه من ذم الحرص على الاستكثار من جمع المال والتقريع بالموت الذي يقطع ذلك، ولا بد لكل أحد منه فلما نزلت هذه السورة وتضمنت معنى ذلك مع الزيادة عليه علموا أن الأول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - إن هذا كان قرآنا ثم نسخت تلاوته لما أنزل الله أَلْهاكُمُ ثم بقي حكم ذلك مقررا، قال الحافظ ابن حجر: وقد شرحه بعضهم على أن ذلك كان قرآنا ونسخت تلاوته لما نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) فاستمرت تلاوتها، فكانت ناسخة لتلاوة ذلك، فأما الحكم والمعنى فيه فلم ينسخ؛ إذ نسخ التلاوة لا يستلزم المعارضة بين الناسخ والمنسوخ؛ كنسخ الحكم، والأول أولى، وليس ذلك من النسخ في شيء، ومراد الحافظ بالأول أي أنه من كلام النبوة لا قرآنا، ولعل مما يشهد لهذا التأويل الثاني ما ورد في حديث أبي موسى الأشعري في صحيح مسلم، وهو ما ذكرناه آنفا، وهذا الوجه لا يثبت إلا بتسليم كونه قرآنا في أول الأمر، ودون إثبات ذلك خرط القتاد؛ إذ القرآن لا يثبت بالآحاد كما هو رأي المحققين. 3 - إن هذا من قبيل الأحاديث القدسية، التي هي من الله، وقد ورد في بعض الروايات التصريح بنسبته إلى الله بلفظ: «إن الله يقول» ويشهد لذلك أن اسلوبه ومعناه شبيهان بأساليب ومعاني الأحاديث القدسية، إذ هي كثيرا ما تدور حول الزهد والفضائل، قال الحافظ ابن حجر في الفتح في أثناء شرحه لهذا الحديث: «ومنه ما وقع عند أحمد وأبي عبيد في فضائل القرآن من حديث أبي واقد الليثي قال: كنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزل عليه فيحدثنا فقال لنا ذات يوم: «إن الله قال: إني أنزلت المال لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم ... الحديث» وهذا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به عن الله تعالى على أنه من القرآن، ويحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية والله أعلم، وعلى الأول فهو مما نسخت تلاوته جزما، وإن كان حكمه مستمرا.

الشبهة التاسعة

والذي يترجح عندي أن يكون هذا من الأحاديث النبوية أو القدسية إذ ليس فيه شيء من إعجاز القرآن وسحره وجلاله وبلاغته. الشبهة التاسعة: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس حديثا طويلا، وفيه أن عمر قال على المنبر: «إنّ الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها، ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف». وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب لما صدر عمر من الحج وقدم المدينة خطب الناس فكان مما قال: «إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة». وروى أبو عبيدة وغيره عن زر بن حبيش قال: قال لي أبيّ بن كعب: كأيّن تعد سورة الأحزاب قال اثنتين وسبعين آية أو ثلاثا وسبعين آية، قال: إن كانت لتعدل سورة البقرة وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم قلت: وما آية الرجم قال: إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» (¬1)، قالوا: فهذه الروايات تدل على أن القرآن سقطت منه هذه الآية. وللجواب على ذلك نقول: إن رواية أبيّ بن كعب التي هي أصرح الروايات في القرآنية غير صحيحة ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري ج 12 ص 119 - 123، صحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 191، الإتقان ج 2 ص 25.

إذ في سندها عاصم بن أبي النجود، وهو مضعف في الحديث، وإن كان إماما في القراءة (¬1) وقد اختلف العلماء في توثيقه وتضعيفه، وإنما ضعف من جهة حفظه، لا من جهة عدالته، وقد قال فيه ابن علية: سيّئ الحفظ، وقيل اختلط في آخر عمره (¬2). وأما الروايات عن عمر فهي صحيحة ولا شك، وليس من الصواب ولا البحث العلمي الصحيح رد روايات صحيحة بمجرد الهوى، ولكن الواجب أن نحملها على محاملها الصحيحة من غير تعسف، ولا تكلف، وأحب أن أنبه إلى أن رواية الصحيحين ليس فيها التصريح بقوله الشيخ والشيخة ... إلخ، ولا أنها كانت قرآنا، قال الحافظ في الفتح: وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية جعفر الفريابي عن علي بن عبد الله شيخ البخاري فيه، فقال بعد قوله: «أو الاعتراف» وقد قرأناها «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» فسقط من رواية البخاري من قوله «وقرأناها» إلى قوله «البتة» ولعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدا فقد أخرج النسائي عن محمد بن منصور، عن سفيان كرواية جعفر، ثم قال: «لا أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث «الشيخ والشيخة» غير سفيان، وينبغي أن يكون وهم في ذلك «قلت» - أي الحافظ ابن حجر-: وقد أخرج الأئمة هذا الحديث من رواية مالك ويونس ومعمر وصالح بن كيسان وعقيل، وغيرهم من الحفاظ، عن الزهري فلم يذكروها، وقد وقعت هذه الزيادة في هذا الحديث من رواية الموطأ عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب ... إلخ ما قال، وهي الرواية التي أشرت إليها آنفا. ومهما يكن من شيء فقد وردت آثار كثيرة في هذا المعنى، واستشهد الأصوليون بآية «الشيخ والشيخة ... إلخ» لما نسخ لفظه وبقي حكمه، وقد روى حديثها البخاري، ومسلم، ومالك، وأحمد، وأبو داود والنسائي، والترمذي، ولئن كانت روايات الصحيحين خلت من ذكر الآية ¬

_ (¬1) مقدمتان في علوم القرآن ص 83. (¬2) تهذيب التهذيب ج 5 ص 38 - 40.

فقد جاءت في رواية غيرهما وإذ كان الحال على ما سمعت فما هي المحامل الصحيحة لهذا الحديث 1 - إن هذه الروايات آحادية فهي لا يثبت بها قرآن، ولا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، وغاية ما تدل عليه أنها حديث من أحاديث رسول الله، وسنة من سننه، ولا ينافي هذا قول عمر رضي الله عنه: «وكان فيما أنزل عليه» فإن جبريل كما ذكرت- كان ينزل ببعض السنة كما ينزل بالقرآن، وتسميتها آية بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي. وكذلك قوله: «فقرأناها ووعيناها» فالمراد به نرويها عن رسول الله فعبر عن الرواية بالقراءة، ومنه يقال: فلان يقرأ الحديث والسنن على فلان، ويكون قوله «والرجم في كتاب الله حق» أي في شرع الله وحكمه وتقديره (¬1)، أو يكون المراد به الإشارة إلى قوله تعالى: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فقد بينت السنة أن المراد جلد البكر، ورجم الثيب، ويؤيد هذا التأويل قول الفاروق رضي الله عنه: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله لكتبتها في المصحف؛ إذ لا يقال زاد لما عرف أنه منه، لكنه لما كانت عنده سنة مؤكدة وحكما لازما حث على حفظها وقراءتها ودراستها، حتى لا يغفل الناس عنها، كما حث على حفظ آي القرآن، والذي يؤكد هذا التأويل ما رواه ابن حمدويه بسنده عن الحسن أن عمر قال هممت أن أدعو بنفر من المهاجرين والأنصار، معروفة أسماؤهم وأنسابهم، وأكتب شهادتهم في ناحية المصحف أي حاشيته، هذا ما شهد عليه عمر بن الخطاب وفلان وفلان يشهدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم في الزنا وإني خفت أن يجيء قوم من بعد يرون أن لا يجدونها في كتاب الله فيكفرون بها، وعمر رضي الله عنه ما كان يخشى في الحق لومة لائم فلو أنها كانت من القرآن لأثبتها، ولما خاف مقالة الناس، وكونه هم أن يكتبها في الحاشية لا في الصلب دليل على أنها ليست قرآنا، قال العلامة الآلوسي عند تفسير قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ: ¬

_ (¬1) ومثل ذلك قول الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ يعني في حكمه وتشريعاته وتقديره الأزلي ...

إن الجلد نسخ في حق المحصن قطعا، لأن الحكم في حقه الرجم واختلف في الناسخ هل هي السنة القطعية، أو ما رواه عمر رضي الله عنه من الآية المنسوخة «الشيخ والشيخة» قال العلامة ابن الهمام: إن كون السنة القطعية أولى من كون ما ذكر من الآية، لعدم القطع بثبوتها قرآنا ثم نسخ تلاوتها، وإن ذكرها عمر وسكت الناس، فإن كون الإجماع السكوتي حجة مختلف فيه، وبتقدير حجيته، لا نقطع بأن المجتهدين من الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذ ذاك حضورا، ثم لا شك في أن الطريق في ذلك إلى عمر ظني، ولهذا- والله أعلم- قال علي كرم الله وجهه حين جلد شراحة ثم رجمها: «جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم» ولم يعلل الرجم بالقرآن المنسوخ. ويؤيد هذا التأويل أيضا ما أخرجه النسائي أن مروان بن الحكم قال لزيد ابن ثابت: ألا تكتبها في المصحف قال: لا، ألا ترى بأن الشابين الثيبين يرجمان، ولقد ذكرنا ذلك فقال عمر: أنا أكفيكم؛ فقال يا رسول الله: أكتبت آية الرجم قال: «لا أستطيع». وإن نظرة فاحصة في «الشيخ والشيخة ... إلخ» لترينا أنها ليس عليها نور القرآن ومسحته، ولا فيها حكمته وإعجازه، وإن قول زيد رضي الله عنه: «ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان» ما يشير إلى عدم بلوغها الغاية في الدقة والإحكام، كما هو الشأن في القرآن، وهذا يدل على فرق ما بين كلام الله وكلام الإنسان. 2 - إن هذه الآية كانت قرآنا ثم نسخ لفظها وبقي حكمها، قال الإمام النووي رحمه الله: أراد بآية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة»، وهذا مما نسخ لفظه ليس له حكم القرآن في تحريمه على الجنب ونحو ذلك، وفي ترك الصحابة كتابة هذه الآية دلالة ظاهرة على أن المنسوخ لا يكتب في المصحف، وبنحو ذلك قال ابن كثير في تفسيره (¬1)، ¬

_ (¬1) ج 6 ص 51.

الشبهة العاشرة

والحافظ ابن حجر في الفتح (¬1) ولعل السر في نسخ لفظها عدم إحكام معناها، وأن العمل على غير الظاهر من عمومها فقد روى الحاكم عن عمر أنه قال: لما نزلت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أكتبها فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم، هذا إلى ما في ظاهرها من تجرئة الشباب على الوقوع في الزنا؛ إذ الشأن في الكبير والكبيرة البعد من مواطن الإثم والفجور فاقتضت حكمة الله تنزيه الأسماع عن سماعها، وهذا الجواب الثاني إنما يتم بعد تسليم قرآنيتها، وقد خالف في هذا كثير من العلماء. الشبهة العاشرة : ما رواه الإمام أحمد بسنده عن أبي بن كعب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» قال فقرأ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قال فقرأ فيها: ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثانيا، ولو سأل ثانيا فأعطيه لسأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وأن ذات الدين عند الله الحنيفية السمحة غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية، ومن يفعل خيرا فلن يكفره» ورواه الترمذي أيضا وكذلك روي هذا الأثر بزيادات أكثر من هذه (¬2). وللجواب على ذلك نقول: 1 - إن هذا الحديث وأمثاله أحاديث لم تشتهر بين نقلة الحديث، وإنما يرغب فيه من يكتبها طلبا للغريب، وما كان كذلك فليس لأحد أن يعترض به على الكتاب الذي حفظ عن رسول الله بالتواتر، إذ هو على تسليم صحته آحاد فلا يعارض القطعي الثابت بالتواتر ولا يثبت به أيضا قرآن. 2 - إن هذا الحديث طعن فيه بعض أهل العلم بأنه باطل، ولعل مما يدل على بطلانه أن سورة «لم يكن» بلفظها الذي ورد في المصاحف ثبتت متواترة ¬

_ (¬1) ج 12 ص 123. (¬2) مقدمتان في علوم القرآن ص 90.

عن أبي بن كعب وقد قدمنا أن قوله: «لو كان لابن آدم واد من مال ... إلخ» ليس بقرآن، وإنما هو حديث نبوي أو قدسي، وكذلك ما زيد في هذه السورة من ألفاظ هو بالبيان والتفسير أشبه منه بالقرآن، إذ ليس عليه شيء من نور القرآن، ولا له إعجازه، ولا ينبغي أن يعزب عن بالنا أن بعض الصحابة كان يقرأ بعض آيات القرآن على سبيل التفسير والبيان كما كان بعضهم- كأبي وابن مسعود- يكتب في مصحفه بعض تفسيرات، وتأويلات، وأدعية، ومأثورات فيظن من يسمعها أو يقف عليها أنها من القرآن، والحق خلاف ذلك؛ قال أبو بكر الأنباري بعد أن ذكر ما روي أن عكرمة قرأ على عاصم «لم يكن» ثلاثين آية هذا فيها قال: «هذا باطل عند أهل العلم؛ لأن قراءة ابن كثير وأبي عمرو متصلتان بأبي ابن كعب، لا يقرأ فيها هذا المذكور في «لم يكن» مما هو معروف في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أنه من كلام الرسول عليه السلام لا يحكيه عن رب العالمين في القرآن، وما رواه اثنان معهما الإجماع أثبت مما يحكيه واحد مخالف مذهب الجماعة (¬1). وقال بعض العلماء: والذي يؤكد ما قلناه اتصال قراءة أبي جعفر بابن عباس وأبي هريرة وابن مسعود وغيرهم، وهم قرءوا على أبي بن كعب؛ واتصال قراءة ابن كثير بمجاهد وقراءة مجاهد على ابن عباس، وقراءة ابن عباس على أبيّ، واتصال قراءة أبي عمرو بمجاهد وسعيد بن جبير وهما قرءا على ابن عباس وقرأ ابن عباس على أبي، فهؤلاء الأئمة وأعلام الدين الذين رووا عنهم وحفظوا عليهم نبره ومده وتشديده، فلو كان من قراءة أبي ذلك لقرأه عليهم، ولرووا عنه، وحفظوا عليه، لطول تلك الألفاظ (¬2). وأيضا فقد اضطرب النقل في هذا الأثر، فمن قائل: إنه آية من سورة لم يكن، ومن قائل: آية من سورة تشبه سورة براءة، والباطل دائما ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي ج 20 ص 139. (¬2) مقدمتان في علوم القرآن ص 92.

الشبهة الحادية عشرة

لجلج، والحق دائما أبلج، وقد وردت هذه القصة في الصحيحين (¬1) بدون هذه الزيادات ولا شك أن روايات الصحيحين أوثق من غيرها وأولى بالقبول، مما يؤيد أن هذا التخبط المروي باطل. 3 - إن ذلك كان قرآنا ثم نسخ ويكون من حمل ذلك عن أبي إنما هو قبل أن ينسخ ثم لما نسخ رجع أبي عنه، وبقوا هم على قراءته لعدم علمهم بالنسخ أما جمهور المسلمين العارفين بأنه نسخ فلم يقرءوا به ولم ينقلوه، وهذا الجواب على سبيل التنزل والتسليم بأنه كان قرآنا، ودون ذلك صعود السماء. الشبهة الحادية عشرة : روايات (¬2) يوهم ظاهرها سقوط شيء من القرآن. أ- ما روي أن أبيّا كان يقرأ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ [الفتح: 26]، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام. ب- ما روي أن عمر بن الخطاب قال لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد فيما أنزل الله علينا أن «جاهدوا كما جاهدتم أول مرة» فإنا لا نجدها، قال أسقطت فيما أسقط من القرآن. ج- ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال: كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ما نسيناها، غير أني حفظت منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. د- ما روي في الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة الذين قتلوا غدرا، قال أنس: ونزل فيهم قرآنا قرأناه حتى رفع «أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا». هـ- ما روي عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن الزبير يقرأ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 104]، ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري ج 8 ص 589 وما بعدها، صحيح مسلم بشرح النووي ج 16 ص 20. (¬2) الإتقان ج 2 ص 25، مقدمتان في علوم القرآن ص 99.

رد عام

«ويستعينون بالله على ما أصابهم». وما روي عن ابن عباس وأبي أنهما قرءا: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها «من نفسي فكيف أطلعكم عليها». ز- ما روي عن علي أنه قرأ وَالْعَصْرِ (1) ونوائب الدهر إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2). والجواب: 1 - إن هذه الروايات أغلبها باطلة لم يصح منها شيء، وإنما هي غرائب ومناكير رواها الذين أولعوا بهما، وليس أدل على بطلانها من رواية «أكاد أخفيها من نفسي» وهل يعقل أن يخفي الله شيئا من نفسه ومن رواية «والعصر ونوائب الدهر»، فقد تواتر عن علي رضي الله عنه أنه كان يقرأ بقراءة الجماعة، وهل يعقل أن يدع عليّ شيئا يرى أنه من القرآن، ثم لا يثبته ولا سيما أنه قد آلت إليه الخلافة، وصار صاحب الكلمة النافذة بين المسلمين! إن هذا إلا بهتان مبين. 2 - إن هذه الروايات على فرض صحتها تحمل على أن ذلك كان قرآنا، ثم نسخ لفظه وبقي معناه كما تدل على ذلك رواية الصحيحين في أصحاب بئر معونة. 3 - إن بعض هذه الروايات محمول على التفسير والتوضيح، ويكون الراوي سمع من يقرؤها مفسرا ومبينا لمعناها فظن أن الكل قرآن، ولعل هذا يظهر في وضوح في الرواية المتعلقة بقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ الآية والرواية المتعلقة بقوله تعالى: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. رد عام وإليك رد عام يرد به على هذه الشبه وعلى غيرها مما أورد على جمع القرآن. وهو أن المسلمين أجمعوا على أن هذا الذي كتب في المصاحف، وحفظه الألوف عن الألوف، هو القرآن الذي أنزله رب العالمين، على نبيه

محمد صلى الله عليه وسلم، لا زيادة فيه، ولا نقصان، فمن ادعي زيادة عليه، أو نقصانا فقد أبطل الإجماع، وبهّت جمهور الناس، ورد ما قد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير معقول أن نبطل ما أجمع عليه المسلمون بروايات جلها باطل موضوع، وما صح منها فله محامل صحيحة، وليس نصا على ما يزعم الزاعمون، وإن من يزعم أن القرآن نقص منه شيء أو زيد فيه شيء، كمن زعم أن الصلوات المفروضة كانت عشرا فأنقصها المسلمون إلى خمس، أو أنها كانت ثلاثا فصيروها خمسا- سواء بسواء- فإذا صح في العقول شيء من هذا صح ما تقولوه على القرآن. والله سبحانه- وقد وعد بحفظ كتابه- قد هيأ له من الأسباب الداعية إلى حفظه وصيانته من التحريف والتبديل ما لم يتهيأ لكتاب غيره في الدنيا، وعلى كثرة ما صوبه أعداء الإسلام إلى القرآن من سهام غير صائبة، وتلفيقات مزورة فقد بقي القرآن كالطود الشامخ الذي لا تزحزحه عن مكانه الرياح، والأعاصير، مهما اشتدت، وقد تكسرت على صخرته العاتية كل ما راشوا من سهام، وبيتوا من كيد، وسيبقى هكذا، صلدا، قويا حتى يرث الله الأرض وما عليها، وصدق الله حيث يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر: 9]، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) [فصلت: 41 - 42]. ***

المبحث الثامن ترتيب آيات القرآن وسوره

المبحث الثامن ترتيب آيات القرآن وسوره [الآية فى اللغة وفى الاصطلاح] الآية لغة: وردت بمعنى العلامة، ومنه قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ الآية أي: علامة ملكه، وبمعنى الدليل. ومنه قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) أي دلائل قدرته، وبمعنى العبرة، ومنه قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) أي عبرة لمن بعدهم، وبمعنى المعجزة، ومنه قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي من معجزة واضحة وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ... إلى غير ذلك من المعاني. وفي الاصطلاح: جزء من السورة لها مبدأ ونهاية، وآخرها يسمى فاصلة (¬1) وقيل: طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها وعما بعدها، وهذا التعريف غير مانع؛ لدخول السورة فيه، إلا إذا راعينا في التعريف اندراجها في السورة، والمناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي ظاهرة لأنها علامة على نفسها بانفصالها عما قبلها وما بعدها؛ أو لأن فيها عبرا ودلائل لمن أراد أن يتذكر، أو لأنها بانضمامها إلى غيرها تكون معجزة دالة على صدق الرسول. وآيات القرآن تختلف طولا وقصرا، وأكثر الآيات الطوال في السور الطوال، وأكثر الآيات القصار في السور القصار، وأطول آية هي آية الدين (¬2)، وأقصر آية طه، ويس عند من عدهما، وقد تكون الآية مكونة ¬

_ (¬1) الفاصلة هي الكلمة التي تكون آخر الآية، وهي كقافية الشعر، وقرينة السجع، وقال بعض القراء الفاصلة هي الكلمة التي تكون آخر الجملة فهي أعم من رءوس الآي فكل رأس آية فاصلة، ولا عكس، واستدل على ذلك بأن سيبويه ذكر في التمثيل للفواصل، يَوْمَ يَأْتِ ما كُنَّا نَبْغِ وليسا رأس آية بإجماع، مع إِذا يَسْرِ مع أنه رأس آية باتفاق. ورد قوله بأنه مخالف لاصطلاح القراء وما ذكره سيبويه مشى فيه على مصطلح النحويين لا القراء. (¬2) [البقرة: 282].

فوائد معرفة الآيات

من كلمة واحدة ك مُدْهامَّتانِ (64) [الرحمن: 64] وقد تكون مؤلفة من كلمتين مثل: وَالضُّحى (1) وقد تكون من أكثر من ذلك، وهو غالب آيات القرآن، وقال بعض العلماء: ليس في القرآن كلمة واحدة آية إلا مُدْهامَّتانِ (64) ومراده مما اتفق على كونه آية بخلاف ما سواها مما هو كلمة واحدة، أو أقصر منها في التلفظ، فإنه ليس بمتفق عليه مثل طه ويس، والحاقة والقارعة (¬1). وقد يطلق اسم الآية ويراد بعضها مجازا وذلك مثل قول ابن عباس: أرجى آية في القرآن وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ فإنه جزء من آية باتفاق، ووقع إطلاق اسم الآية على أكثر من آية، وذلك مثل قول ابن مسعود: أحكم آية فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) وهاتان آيتان باتفاق، ومثل ذلك يرد كثيرا في كلام السلف والخلف، وففي باب المجاز ما يصحح كل ذلك. فوائد معرفة الآيات: ولمعرفة الآيات وعدها وفواصلها فوائد (¬2) منها: 1 - معرفة الوقف، على رءوس الآي سنة كما يدل عليه بعض الأحاديث الواردة (¬3). 2 - أنه يعين على صحة الصلاة، فإن الإجماع انعقد على أن الصلاة لا تصح بنصف آية، وقال جمع من العلماء تجزي بآية، وآخرون بثلاث آيات وآخرون لا بد من سبع، وكذلك اعتبارها فيمن جهل الفاتحة فإنه يجب بدلها سبع آيات. عند من أوجبها، ومنها اعتبارها في الخطبة، فإنه تجب ¬

_ (¬1) عدها آيات الكوفي. (¬2) الإتقان ج 1 ص 69. (¬3) منها حديث أنس في صفة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة، وأنه كان يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) ويسكت الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) ويسكت الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ويسكت ... الحديث.

عدد آيات القرآن

فيها قراءة آية كاملة، ولا يكفي شطرها إن لم تكن طويلة، وكذا الطويلة على ما عليه الجمهور. 3 - أن الإعجاز لا يقع بأقل من ثلاث آيات قصار أو آية طويلة تعادلها فما لم تعرف الآية لا يمكننا أن نقف على القدر المعجز من القرآن. 4 - ومنها اعتبارها في قراءة قيام الليل، ففي أحاديث: «من قرأ بعشر آيات لم يكتب من الغافلين» «ومن قرأ بخمسين آية في ليلة كتب من الحافظين» «ومن قرأ بمائة آية كتب من القانتين» و «من قرأ بمائتي آية كتب من الفائزين»، «ومن قرأ بثلاثمائة آية كتب له قنطار من الأجر»، و «من قرأ بخمسمائة، وسبعمائة، وآلف آية ... » أخرجها الدارمي في مسنده مفرقة. عدد آيات القرآن: وأما عدد آيات القرآن فقد قال فيه الداني: أجمعوا على أن عدد آيات القرآن ستة آلاف ومائتا آية، ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك فمنهم من لم يزد، ومنهم من قال: ومائتا آية وأربع آيات وقيل وأربع عشرة آية، وقيل: وخمس وعشرون آية، وقيل: وست وثلاثون آية. وذلك يرجع إلى اختلاف القراء البصريين والكوفيين والشاميين والمكيين والمدنيين في العدد. قال أبو عبد الله الموصلي في شرح قصيدته ذات الرشد في العدد: اختلف في عدد الآي أهل المدينة ومكة والشام والبصرة والكوفة، ولأهل المدينة عددان: عدد أول، وهو عدد أبي جعفر بن يزيد ابن القعقاع وشيبة بن نصاح، وعدد آخر: هو عدد إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري (¬1)، وأما عدد أهل مكة فهو مروي عن عبد الله بن كثير عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، وأما عدد أهل الشام ¬

_ (¬1) قال صاحب التبيان ص: 170 (إن عدد المدني الأول غير منسوب إلى أحد بعينه، وإنما نقله أهل الكوفة عن أهل المدينة مرسلا ولم يسموا في ذلك أحد. وعدد المدني الأخير منسوب إلى أبي جعفر بن يزيد بن نصاح ... وقد وهم من نسب عدد المدني الأول إلى أبي جعفر وشيبة وعدد المدني الأخير إلى إسماعيل بن جعفر الخ ما قال).

السبب فى الاختلاف فى عدد الآى

فرواه هارون بن موسى الأخفش، وغيره عن عبد الله بن ذكوان وأحمد بن يزيد الحلواني وغيره، عن هشام بن عمار، ورواه ابن ذكوان وهشام، عن أيوب بن تميم الذماري، عن يحيى بن الحارث الذماري قال: هذا العدد الذي نعده عدد أهل الشام مما رواه المشيخة لنا عن الصحابة، ورواه عبد الله بن عامر اليحصبي لنا وغيره عن أبي الدرداء، وأما عدد أهل البصرة فمداره على عاصم بن العجاج الجحدري، وأما عدد أهل الكوفة فهو المضاف إلى حمزة بن حبيب الزيات وأبي الحسن الكسائي وخلف بن هشام، قال حمزة أخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب (¬1). [السبب فى الاختلاف فى عدد الآى] والسبب في الاختلاف في عدد الآي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على رءوس الآي للتوقيف، فإذا علم محلها وصل للتمام فيحسب السامع حينئذ أنها ليست فاصلة، فمن نظر إلى الوقف قال إنها رأس آية، ومن نظر إلى الوصل لم يقل إنها آية، وآخر كلمة في الآية تسمى فاصلة، وتجمع على فواصل، ومعرفة الفواصل هو العمدة فيما نحن فيه، ولمعرفتها طريقان توقيفي وقياسي. أما التوقيفي: فما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عليه تحققنا أنه فاصلة، وما وصله دائما تحققنا أنه ليس بفاصلة، وما وقف عليه مرة ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريف الفاصلة، أو لتعريف الوقف التام أو للاستراحة، واحتمل الوصل أن يكون غير فاصلة أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها. وأما القياسي: فهو ما ألحق من غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه لأمر يقتضي ذلك، ولا محذور في ذلك: لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان، وإنما غايته أنه محل فصل أو وصل، والوقف على كل كلمة جائز. ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص: 67.

معرفة الآيات توقيفية

معرفة الآيات توقيفية: وآيات القرآن كلها توقيفية لا تعلم إلا من الشارع، قال الزمخشري في تفسيره فإن قلت ما بالهم عدوا بعض الفواتح آية دون بعض؛ قلت: هذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه، كمعرفة السور أما الم فآية حيث وقعت من السور المفتتحة بها، وهي ست، وكذلك المص آية، والمر لم تعد آية، والر ليست بآية في سورها الخمس وطسم آية في سورتيها، وطه ويس آيتان، وطس ليست بآية، وحم آية في سورها كلها، وحم (1) عسق (2) آيتان، كهيعص آية واحدة ص وق ون ثلاثتها لم تعد آية، هذا مذهب الكوفيين ومن عداهم لم يعدوا شيئا منها. فإن قلت فكيف عد ما هو في حكم كلمة واحدة آية قلت. كما عد الرَّحْمنُ وحده ومُدْهامَّتانِ وحدها آيتين على طريق التوقيف. وقال ابن العربي: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة سبع آيات. وسورة الملك ثلاثون آية، وقد صح أنه قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه». كلمات القرآن وحروفه: وكما عدوا آيات القرآن عدوا كلماته؛ فقيل سبعة وسبعون ألف كلمة وتسعمائة وأربع وثلاثون كلمة، وقيل: وأربعمائة وسبع وثلاثون وقيل: ومائتان وسبع وسبعون، وسبب الاختلاف أن الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ ورسم، واعتبار كل منها جائز، وكل من العلماء اعتبر أحد الجوائز. وكذلك عنوا بعد حروفه وبيان أنصافه بالكلمات والحروف، وأثلاثه وأرباعه وأخماسه ... وكذا عدوا ما في القرآن من ألفات، وباءات إلى آخر حروف الهجاء، وليس من قصدي التعرض لمثل ذلك، فإن الاشتغال به- كما قال السيوطي- مما لا طائل تحته، وقد استوعبه ابن الجوزي في فنون الأفنان، وأوسع القول فيه، فمن أراد استيعابا فليرجع إليه، أو إلى

ترتيب الآيات

مقدمتان في علوم القرآن (¬1) فقد فصل القول في ذلك. ترتيب الآيات ترتيب الآيات في سورها توقيفي، فقد كان جبريل عليه السلام يوقف النبي صلى الله عليه وسلم على مواضع الآيات من سورها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ضعوا آية كذا في سورة كذا ... » روى أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس، عن عثمان بن عفان، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب فيقول: «ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» الحديث وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف، وقد أجمع العلماء أن ترتيب الآيات توقيفي وتواردت النصوص الصحيحة على ذلك. أما الإجماع فنقله غير واحد، منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته، ونص عبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره بلا خلاف في هذا بين المسلمين. وقال ابن الحصار: ترتيب السور، ووضع الآيات إنما كان بالوحي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف. وأما النصوص فكثيرة منها ما أخرجه البخاري، عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة: 240] قد نسختها الآية الأخرى (¬2) فلم تكتبها أو تدعها- أي لم تكتبها وهي منسوخة أو لم تدعها مكتوبة وقد نسخت ف «أو» ¬

_ (¬1) مقدمتان في علوم القرآن ص: 235 - 240. (¬2) [البقرة: 234].

للشك من الراوي أي اللفظين قال- قال: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه وكأن ابن الزبير فهم أن ما ينسخ حكمه لا يكتب، فأفهمه سيدنا عثمان أن الأمر في إثبات الآيات في مواضعها إنما هو بالتوقيف وليس لأحد أن يغير شيئا من مكانه. ومنها ما رواه مسلم عن عمر قال: ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري وقال: «أما تكفيك آية الصيف التي في آخر النساء» ومنها الأحاديث الصحيحة في خواتيم سورة البقرة: «من قرأ الآيتين من خواتيم سورة البقرة في ليلة كفتاه» (¬1). رواه البخاري وغيره. ومنها ما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع من هذه السورة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» [النحل: 90] ومنها ما روى أبو يعلى في مسنده عن المسور بن مخرمة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف يا خال، أخبرني عن قصتكم يوم أحد قال: اقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ ... الآية وهو من أقوى الأدلة على أن الترتيب اليوم هو الذي كان في عهدي النبي والصحابة، فإن هذه الآية رقمها المائة وواحد وعشرون من المصحف. ومن النصوص الإجمالية الدالة على ذلك ما ثبت من قراءته صلى الله عليه وسلم لسور عديدة كسورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والم تَنْزِيلُ وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ في صبح الجمعة وق واقْتَرَبَتِ في العيد وغير ذلك من السور، وكان يقرؤها على ترتيبها المعروف وبمشهد من الصحابة الذين أخذوا عنه ونقل ذلك عنهم نقلا متواترا فدل ذلك على أن الترتيب توقيفي. ¬

_ (¬1) هما من قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ ... إلى قوله: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.

ترتيب الآي ليس على حسب النزول

وإليك بعض ما قاله العلماء في هذا. أخرج ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مكي بن أبي طالب القيسي وغيره: ترتيب الآيات في السور بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يأمر بذلك (¬1) في أول بَراءَةٌ تركت بلا بسملة. وقال القاضي أبو بكر: ترتيب الآيات أمر بذلك واجب، وحكم لازم، فقد كان جبريل يقول: «ضعوا آية كذا في موضع كذا»، وقال أيضا: الذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثبات رسمه ولم ينسخه، ولا رفع تلاوته بعد نزوله هو هذا الذي بين الدفتين، والذي حواه مصحف عثمان، وإنه لم ينقص منه شيء ولا زيد فيه، وإن ترتيبه ونظمه ثابت على ما نظمه الله، ورتبه عليه رسوله من آي السور، لم يقدم من ذلك مؤخر ولا أخر منه مقدم، وإن الأمة ضبطت عن النبي صلى الله عليه وسلم ترتيب آي كل سورة ومواضعها، وعرفت مواقعها، كما ضبطت عنه نفس القراءات وذات التلاوة، وأنه يمكن أن يكون الرسول قد رتب سوره وأن يكون وكل كل ذلك إلى الأمة بعده، ولم يتولى ذلك بنفسه، قال: وهذا الثاني أقرب. ترتيب الآي ليس على حسب النزول: ومن المجمع عليه أن ترتيب الآيات ليس بحسب نزولها وإنما يرجع إلى المناسبات والروابط البلاغية فقد تنزل الآية بعد الآية بسنين وتكون في ترتيب الكتابة قبلها. وليس أدل على هذا من تقدم بعض الآيات الناسخة على الآيات المنسوخة، مع أن الناسخ متأخر عن المنسوخ في النزول قطعا، وذلك مثل آية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فإنها ناسخة لآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فالأولى متقدمة في الترتيب متأخرة في النزول. وفي الأثر عن محمد بن سيرين قال: قلت لعكرمة: ألفوه- أي: ¬

_ (¬1) يعني لم يأمر بكتابة البسملة.

السور وترتيبها

القرآن- كما أنزل الأول، فالأول قال: لو اجتمعت الإنس، والجن، على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا، وصدق عكرمة فإن ترتيبه على حسب النزول غير مستطاع لأحد من البشر؛ لأن الله لم يرد أن يكون تأليف كتابه المعجز على حسب النزول، وإنما اقتضت حكمته أن يكون على حسب المناسبات البلاغية، وأسرار الإعجاز. السور وترتيبها [معنى السورة فى اللغة واصطلاحا] السورة في اصطلاح العلماء طائفة من آيات القرآن جمعت وضم بعضها إلى بعض حتى بلغت في الطول والمقدار الذي أراده الله سبحانه وتعالى لها، وكل سور القرآن بدئت بالبسملة إلا براءة (¬1). وقد اختلف في أصل مأخذها فقيل هي مأخوذة من سور المدينة، لإحاطتها بآياتها إحاطة السور بالبنيان، وقيل: لأنها ضمت آياتها بعضها إلى بعض كما أن السور توضع لبناته بعضها فوق بعض حتى يصل إلى الارتفاع الذي يراد، وقيل: مأخوذة من السورة، وهي الرتبة والمنزلة، قال النابغة الذبياني: ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب وسور القرآن مراتب ومنازل يترقى فيها القارئ من منزلة إلى أخرى. وقيل مأخوذة من السؤر، وهو ما بقي من الشراب في الإناء، كأنها قطعة من القرآن وبقية منه وهي على هذا مهموزة وحذفت همزتها تخفيفا. معرفة السور توقيفي: ومعرفة سورة القرآن كلها توقيفي كمعرفة آياته، وسور القرآن تختلف طولا وقصرا، فأطول سورة هي البقرة، وأقصر سورة هي الكوثر. ¬

_ (¬1) الصحيح أن التسمية لم تكن فيها لأن جبريل لم ينزل بها، ويفصح عن السر في ترك البسملة في صدرها ما رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال: سألت علي ابن أبي طالب لم لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم قال: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف.

الحكمة في تسوير القرآن

وكان من علامة ابتداء السورة نزول بسم الله الرحمن الرحيم أول ما ينزل شيء منها، يدل على ذلك ما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من طريق عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ختم السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم وفي رواية: فإذا نزلت بسم الله الرحمن الرحيم علم أن السورة قد انقضت يعني هي دلالة على انقضاء ما قبلها، وعلى ابتداء سورة بعدها (فتح الباري ج 9 ص 420). هل يقال سورة كذا والصحيح جواز أن يقال سورة البقرة: وآل عمران والنساء، والأعراف، وهكذا بدون كراهة، ولا يشترط أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة، وهكذا سائر السور، وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة وأما ما رواه الطبراني والبيهقي عن أنس مرفوعا: «لا تقولوا: سورة البقرة ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء، وكذا القرآن كله» فإسناده ضعيف، بل قال ابن الجوزي: إنه موضوع، وقال البيهقي: إنما يعرف موقوفا عن ابن عمر، ثم أخرجه عنه بسند صحيح، وعلى هذا فيكون رأيا له واجتهادا منه. الحكمة في تسوير القرآن: ولتسوير القرآن سورا فوائد منها: 1 - حسن الترتيب والتنويع والتبويب فالجنس إذا انطوت تحته أنواع وأصناف كان أحسن وأفخم من أن يكون بابا واحدا، ونوعا واحدا، ولا يزال المؤلفون من قديم الزمان إلى يومنا هذا يجعلون كتبهم أبوابا وفصولا، حتى أضحى حسن الترتيب والتبويب من أعظم المشوقات إلى قراءة الكتاب، بل أصبح تبويب الكتب وتنسيقها فنا مستقلا برأسه. 2 - تسهيل الحفظ وبعث الهمة والنشاط، ألا ترى أن القارئ إذا أكمل سورة ثم أخذ في حفظ غيرها كان ذلك أنشط له، وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله، ومثل ذلك المسافر إذا قطع مرحلة ثم شرع

والحكمة في كون سورة طوالا وقصارا

في غيرها ازداد قوة ونشاطا، ولا يزال يتجدد نشاطه، كلما بلغ مرحلة حتى يصل إلى غايته. 3 - أن الحافظ إذا حفظ سورة وحذقها اعتقد أنه أخذ من كتاب الله حظا ونصيبا، فيعظم عنده ما حفظه، ويعظم هو في نفوس الناس، يشير إلى هذا المعنى حديث أنس: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في أعيننا أي: عظم. 4 - أن في التسوير والتفصيل تلاحق الأشكال، والنظائر، وملاءمة بعضها لبعض، ولذلك نجد أغلب سور القرآن يدور الحديث فيها حول موضوع بارز، ولها نمط خاص تستقل به، فسورة يوسف تتحدث عن قصته وسورة إبراهيم تتحدث عنه، وسورة النساء تتحدث عن ما لهن، وما عليهن وسورة آل عمران تتحدث عن قصصهم، وهكذا. وما ذكره الزمخشري في تفسيره من أن الله أنزل التوراة والإنجيل والزبور وما أوحاه إلى أنبيائه مسورة هو الصحيح، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: كنا نتحدث أن الزبور مائة وخمسون سورة كلها مواعظ وثناء ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود، وذكروا أن في الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال (¬1). والحكمة في كون سوره طوالا وقصارا: 1 - التنبيه على أن الطول ليس شرطا للإعجاز فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات، وهي معجزة إعجاز سورة البقرة، وفي هذا إثبات إعجاز القرآن، على أبلغ وجه. ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 66. لكن ينبغي أن يعلم أن السورة والآية قد صارتا علما بالغلبة على سور القرآن وآياته، وأن اليهود والنصارى لا يطلقون عليها اسم السورة. ولكن يسمونها إصحاحا وهي تشتمل على فقرات، وعلى هذا فلا ينبغي أن نسمي الإصحاح سورة، ولا الفقرة آية كما يفعل بعض المسلمين، ولنبق إطلاق السورة والآية على القرآن الكريم فحسب.

أسامي السور

2 - التدرج في تعليم القرآن من السور القصار إلى ما فوقها، وفي ذلك تيسير من الله على عباده لحفظ كتابه إلى غير ذلك من الحكم. عدد السور: وسور القرآن- في المصاحف العثمانية- مائة وأربع عشرة سورة بإجماع من يعتد به، ونقل عن مجاهد أنه مائة وثلاث عشرة سورة بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة، والأول هو الذي عليه المعول، وعدم ذكر البسملة في أول براءة، لا يمنع أن تكون سورة مستقلة، وقد بينت السر في عدم بدئها بالبسملة آنفا. وأما عدد السور في مصحف ابن مسعود فهي مائة واثنتا عشرة سورة لأنه كما قيل لم يكن يكتب المعوذتين في مصحفه. وأما في مصحف أبيّ فمائة وست عشرة، لأنه كتب في آخره دعاء القنوت وجعله في صورة سورتين سماهما سورتي «الخلع والحفد» وقال بعضهم: مائة وخمس عشرة سورة بجعل سورة «الفيل» وسورة «لإيلاف قريش» سورة واحدة. والمعول عليه هو ما في المصاحف العثمانية التي أجمع عليها الصحابة، ولا نلتفت إلى غيرها. أسامي السور وقد يكون للسورة اسم واحد وهو كثير مثل النساء، والأعراف، والأنعام، ومريم، وطه، والشورى، والمدثر، وقد يكون لها أكثر من اسم، فمن ذلك الفاتحة، تسمى فاتحة الكتاب، وأم الكتاب، وأم القرآن والسبع المثاني، والشافية، والكافية، والأساس، وقد أنهى الإمام السيوطي (¬1) أسماءها إلى خمس وعشرين وبراءة تسمى أيضا التوبة، والفاضحة، والبحوث (¬2) بفتح الباء، والمنقرة وقد أنهاها السيوطي إلى عشرة أسماء. والإسراء وتسمى أيضا سبحان، وسورة بني إسرائيل، ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص: 52 - 53. (¬2) البحوث والمنقرة لأنها نقرت وبحثت عن صفات المنافقين ومخازيهم وبالغت في ذلك.

التسمية توقيفية أم اجتهادية

وسورة محمد صلى الله عليه وسلم وتسمى أيضا القتال وسورة سأل وتسمى أيضا المعارج وسورة عمّ وتسمى أيضا النبأ، والتساؤل، والمعصرات، وسورة أرأيت وتسمى أيضا الدين، والماعون، وسورة الإخلاص وتسمى أيضا الأساس، وسورتا الفلق والناس وتسميان أيضا المعوذتين بكسر الواو المشددة، وقد استوعب السيوطي السور ذات الأسماء المتعددة في الإتقان (¬1). وكما سميت السورة الواحدة بعدة أسماء سميت سور عدة باسم واحد، وذلك كالسور المسماة بالم، وحم، والر؛ وذلك على القول بأن فواتح السور أسماء لها، وتكون هذه الأسماء من قبيل المشترك اللفظي والتمييز بين السور بقرينة ضميمة إليها، فيقال: الم البقرة الم آل عمران ويقال: حم غافر وحم فصلت وهكذا. التسمية توقيفية أم اجتهادية قيل: إنها توقيفية، وعليه فنقف عند حد الوارد منها، وقيل: إنها اجتهادية وعلى هذا فلا يعدم الناظر أن يستنتج للسورة الواحدة أسماء أخرى غير الواردة، والظاهر الأول، قال السيوطي: وقد ثبت جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار، ولولا خشية الإطالة لبينت ذلك، وعلى هذا يكون التوقيف أعم من أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة الذين شهدوا الوحي والتنزيل. وللزركشي في هذا المقام كلام حسن قال في البرهان: ينبغي البحث عن تعداد الأسامي، هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات فإن كان الثاني فلم يعدم الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضي اشتقاق أسماء لها، وهو بعيد، قال: وينبغي النظر في اختصاص كل سورة بما سميت به، ولا شك أن العرب تراعي في كثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون في الشيء من خلق أو صفة تخصه، أو تكون معه أحكم، ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص: 52 - 55.

أو أكثر، أو أسبق لإدراك الرائي للمسمى. ويسمون الجملة من الكلام والقصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها. وعلى ذلك جرت أسماء سور القرآن، كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم، لقرينة قصة البقرة المذكورة فيها، وعجيب الحكمة فيها. وسميت سورة النساء بهذا الاسم لما تردد فيها شيء كثير من أحكام النساء. وتسمية سورة الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها. وإن كان ورد لفظ الأنعام في غيرها إلا أن التفصيل الوارد في قوله تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً إلى قوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ الآية، لم يرد في غيرها، كما ورد ذكر النساء في سور إلا أن ما تكرر وبسط من أحكامهن لم يرد في غير سورة النساء. وكذا سورة المائدة لم يرد ذكر المائدة في غيرها فسميت بما يخصها. قال: فإن قيل قد ورد في سورة هود ذكر نوح. وصالح. وإبراهيم ولوط وشعيب، وموسى فلم خصت باسم هود وحده مع أن قصة نوح فيها أوعب وأطول (¬1) قيل: تكررت هذه القصص في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء بأوعب مما وردت في غيرها. ولم يتكرر في واحدة من هذه السور الثلاث اسم هود كتكرره في سورته، فإنه تكرر فيها في أربعة مواضع والتكرار من أقوى الأسباب التي ذكرنا. قال: فإن قيل فقد تكرر اسم نوح فيها في ستة مواضع قيل. لما أفردت لذكر نوح، وقصته مع قومه سورة برأسها. فلم يقع فيها غير ذلك كانت أولى بأن تسمى باسمه من سورة تضمنت قصته وقصة غيره. قال السيوطي تعقيبا وبحثا ولك أن تسأل فتقول: قد سميت سور جرت فيها قصص أنبياء بأسمائهم كسورة نوح، وسورة هود وسورة إبراهيم وسورة يونس وسورة آل عمران، وسورة طس سليمان (¬2) وسورة يوسف. وسورة ¬

_ (¬1) من آية 25 إلى 48 وقصة هود من آية 50 إلى 60. (¬2) هي سورة النمل، ولم تبسط قصة سليمان في سورة مثل ما بسطت في هذه السورة من آية 16 - 44 على ما ذكر في قصته هنا من العجائب كقصة الهدهد، وقصة نقل عرشها، وقصة الصرح الذي بناه لبلقيس ملكة سبأ.

محمد صلى الله عليه وسلم، وسورة مريم، وسورة لقمان، وسورة المؤمن، وقصة أقوام كذلك كسورة بني إسرائيل وسورة أصحاب الكهف وسورة الحجر، وسورة سبأ، وسورة الملائكة، وسورة الجن، وسورة المنافقين، وسورة المطففين، ومع هذا كله لم يفرد لموسى سورة تسمى به مع كثرة ذكره في القرآن حتى قال بعضهم: كاد القرآن أن يكون كله لموسى وكان أولى سورة أن تسمى به سورة طه أو سورة القصص أو الأعراف؛ لبسط قصته في الثلاثة ما لم يبسط في غيرها (¬1): وكذلك قصة آدم ذكرت في عدة سورة ولم تسم به سورة، كأنه اكتفاء بسورة الإنسان، وكذلك قصة الذبيح من بدائع القصص ولم تسم به سورة الصافات، وقصة داود ذكرت في سورة ص ولم تسم به فانظر في حكمة ذلك، على أني رأيت في جمال القراء للسخاوي أن سورة طه تسمى سورة الكليم وسماها الهذلي في كامله سورة موسى وأن سورة ص تسمى سورة داود ورأيت في كلام الجعبري أن سورة الصافات تسمى سورة الذبيح، وذلك يحتاج إلى مستند من الأثر. وهذا الفصل الذي ذكره الزركشي من النفاسة بمكان، وما عقب به الإمام السيوطي يحتاج إلى بحث ونظر في حكمة ذلك. والذي يظهر لي- والله أعلم- أن قصة موسى تكررت في هذه السور أكثر من غيرها وهي متقاربة في الكم كما بينت بالهامش، فلم تكن إحدى السورتين الأخريين أولى من الأخرى، بقيت السور طه وهي وإن كانت أطول إلا أنها لم تعرض لنشأة موسى الأولى، كما عرضت سورة القصص، فلم تكن أولى منها من هذه الحيثية، ولو صح وثبت ما ذكره السخاوي لكان لتسمية طه بسورة الكليم وجه وجيه، ولكن لا مستند له من الأثر كما قال السيوطي. ¬

_ (¬1) ذكرت في سورة طه من آية 9 - 99، وفي القصص من 3 - 46 معظمها طوال، وفي الأعراف من 103 - 155 معظمها قصار، والأولى استغرقت في المصحف نحو ست صفحات، والثانية، والثالثة استغرقت كل منهما خمس صفحات.

تقسيم السور باعتبار الطول والقصر

تقسيم السور باعتبار الطول والقصر قد قسم العلماء السور إلى أربعة أقسام: 1 - الطوال: وهي سبع: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام والأعراف، والسابعة قيل: الأنفال وبراءة لعدم الفصل بينهما بالبسملة، وقيل يونس. 2 - المئون: ما ولي الطوال وهي ما تزيد آياتها عن مائة أو تقاربها. 3 - المثاني: ما ولي المئين؛ وهي السور التي آياتها تقارب مائة، وسميت مثاني لأنها تثنى أكثر مما يثنى الطوال والمئون. 4 - المفصل: ما ولي المثاني من قصار السور سمي بذلك لكثرة الفواصل التي بين السور بالبسملة، وقيل لقلة المنسوخ فيه، وقد اختلف في أوله على أقوال، فقيل: أوله (ق)، وقيل الحجرات، وهو الذي صححه النووي، وللمفصل طوال وأوساط وقصار، فالطوال من الحجرات إلى سورة البروج والأوساط من سورة الطارق إلى سورة لم يكن والقصار من سورة الزلزلة إلى آخر القرآن. تقسيم السورة من حيث عدد الآيات اتفاقا واختلافا تنقسم سور القرآن من هذه الحيثية إلى ثلاثة أقسام: 1 - قسم لم يختلف فيه، لا في إجمال ولا تفصيل. 2 - قسم اختلف فيه، تفصيلا لا إجمالا. 3 - قسم اختلف فيه، إجمالا وتفصيلا. فالأول: أربعون سورة: يوسف، الحجر، النحل، الفرقان، الأحزاب، الفتح، الحجرات، ق، الذاريات، القمر، الحشر، الممتحنة، الصف، الجمعة، المنافقون، التغابن، التحريم، ن، الإنسان، المرسلات، التكوير، الانفطار، التطفيف، البروج، سبح، الغاشية، البلد، الليل، والضحى، ألم نشرح، التين، العاديات، ألهاكم، الهمزة، الفيل، الكوثر، الكافرون، النصر، تبت، الفلق.

ترتيب سور القرآن

والثاني أربع سور: 1 - القصص ثمان وثمانون، عد أهل الكوفة طسم (1) آية والباقون بدلها وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص: 22]. 2 - والعنكبوت تسع وتسعون، عد أهل الكوفة الم والبصرة بدلها فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ والشام وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ [العنكبوت: 28، 65]. 3 - والجن ثمان وعشرون عد المكي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ والباقون بدلها وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. 4 - والعصر ثلاث: عد المدني الأخير وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ دون وَالْعَصْرِ وعكس الباقون فعدوا وَالْعَصْرِ وجعلوا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ... إلى آخر السورة آية، وأما الأولون فقد جعلوها آيتين. والقسم الثالث سبعون سورة، وهي ما عدا ما سبق من السورة منها البقرة وهي مائتان وخمس وثمانون في عدد المكي والمدني والشامي، وست وثمانون في عدد الكوفي، وسبع وثمانون في عدد البصري، وقد اختلفوا في أحد عشر موضعا منها الم (1) عده الكوفي، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عده الشامي إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ عده غير الشامي أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ عده البصري ... الخ. ومن أراد استيعابا في هذا فليرجع إلى كتاب التبيان (¬1) فقد فصل ما أجمله السيوطي في الإتقان. ترتيب سور القرآن اختلف في ترتيب السور على أقوال ثلاثة: الأول: ما ذهب إليه جماعة من العلماء، وهو أن ترتيب السور بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، فلم توضع سورة في موضعها من المصحف إلا بناء على ¬

_ (¬1) التبيان، بحث السور.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتعليمه، أو برمزه وإشارته، على حسب ما فهموه من تلاوته صلى الله عليه وسلم، وممن ذهب إلى هذا أبو جعفر بن النحاس والكرماني (¬1)، وابن الحصار وأبو بكر الأنباري، قال أبو بكر الأنباري، أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا، ثم فرقه في بضع وعشرين سنة فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا لمستخبر، ويوقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع الآية والسورة، فاتساق السورة كاتساق الآيات والحروف، كله عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن. وقال الكرماني في البرهان: ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب، وعليه كان صلى الله عليه وسلم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه، وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين، وكان آخر الآيات نزولا وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فأمره جبريل أن يضعها بين آيتي الربا، والدين (¬2). وقال الطيبي: أنزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا على حسب المصالح، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ. وأخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل، لم قدمت سورة البقرة وآل عمران، وقد نزلت قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما أنزلتا بالمدينة فقال: «قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا مما ينتهي إليه، ولا يسأل عنه». استدل هؤلاء: 1 - بأن الصحابة أجمعوا على ترتيب المصحف الذي كتب في عهد عثمان ولم يخالف في ذلك أحد، حتى من كان عنده مصاحف مكتوبة على ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 62. (¬2) الإتقان ج 1 ص: 177.

ترتيب آخر، فلو لم يكن الأمر توقيفيا لحصل من أصحاب المصاحف الأخرى المخالفة في الترتيب والتمسك بترتيب مصاحفهم، لكن عدولهم عنها وعن ترتيبها بل وإحراقها دليل على أن الأمر ليس للرأي فيه مجال، ولا يشترط أن يكون التوقيف بنص صريح، بل قد يكفي فيه الفعل أو الرمز والإشارة. 2 - بالآثار الواردة التي تدل على التوقيف منها؛ ما أخرجه أحمد وأبو داود عن حذيفة الثقفي قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف ... الحديث، وفيه فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طرأ عليّ حزبي فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه»، فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تحزبون القرآن قالوا: نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور، وحزب المفصل من ق (¬1) حتى نختم، فهذا يدل على أن ترتيب سور المفصل على ما هو في المصحف الآن كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأن غاية ما يدل عليه هو ترتيب المفصل أما ما عداه فلا؛ لأنه عرض للتحزيب لا للترتيب. 3 - مما يدل على التوقيف كون الحواميم رتبت ولاء أي متتابعة، ولم ترتب المسبحات ولاء؛ بل فصل بين سورها بالمجادلة والممتحنة والمنافقون، كما فصل بين طسم الشعراء، وطسم القصص بطس النمل، مع أنها أقصر منها، فلو كان الترتيب اجتهاديا لما حصل الفرق بين المتماثلات من السور في الفواتح مع التناسب في الطول والقصر (¬2). الرأي الثاني: أن الترتيب كان باجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم ونسب هذا القول السيوطي إلى الجمهور وممن قال بهذا الإمام مالك وأبو بكر الطيب في أرجح قوليه، واستدل القائلون بهذا باختلاف ترتيب مصاحف الصحابة قبل الجمع في عهد عثمان رضي الله عنه، فلو كان ¬

_ (¬1) جمهور العلماء على خلاف في هذا، وأنه من الحجرات إلى آخر المصحف. (¬2) سورة الشعراء، والقصص كل منهما نحو تسع صفحات في المصحف.

الترتيب توقيفيا لما اختلفت مصاحفهم في ترتيب السور؛ لكنها اختلفت؛ فمنهم من رتب على النزول كمصحف عليّ رضي الله عنه، كان أوله اقرأ، ثم المدثر، ثم ن، ثم المزمل، ثم تبت، ثم التكوير، ثم سبح وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني. وأما مصحف ابن مسعود فكان مبدوءا بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأعراف، ثم الأنعام، ثم المائدة، ثم يونس ... ، إلخ. ومصحف أبي كان مبدوءا بالحمد، ثم بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأنعام، ثم الأعراف، ثم المائدة .. إلخ، وأجيب عن هذا بأن الاختلاف لا يصلح أن يكون دليلا على أنه ليس توقيفيا؛ وذلك لأن مصاحفهم لم تكن مصاحف عامة، بل كانت مصاحف خاصة جمعت إلى القرآن بعض مسائل العلم والتأويل، وبعض المأثورات، فهي إلى كتب العلم والتأويل أقرب منها إلى المصاحف المجردة، لذلك لم يعتمد عليها عند جمع المصاحف في عهد عثمان، في زيادة أو نقص، وكذلك لم يعول عليها في الترتيب، أو يقال: إن اختلافهم كان قبل العلم بالتوقيف، فلما علموا تركوا ترتيب مصاحفهم واتبعوا ترتيب المصاحف العثمانية. محاولة التوفيق بين الرأيين: وقد حاول الزركشي في البرهان أن يجعل الخلاف بين الفريقين لفظيّا؛ لأن القائل بالثاني- الاجتهاد- يقول إنه رمز إليهم ذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته؛ ولهذا قال مالك: إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم، مع قوله إن ترتيب السور باجتهاد فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي بحيث بقي لهم فيه مجال للنظر، وقد عقب عليه أبو جعفر بن الزبير فقال: الآثار تشهد بأكثر ما نص عليه ابن عطية، ويبقى منها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف كقوله: «اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران» رواه مسلم، وكحديث سعيد بن خالد قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبع الطوال في ركعة» رواه ابن أبي شيبة في مصنفه وفيه أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصل في ركعة.

الرأي الثالث: أن الكثير من السور علم ترتيبها بالتوقيف والبعض كان ترتيبها باجتهاد من الصحابة، وإلى هذا ذهب بعض فطاحل العلماء كالقاضي أبي محمد بن عطية حيث قال: ظاهر الآثار أن السبع الطوال والحواميم والمفصل كان مرتبا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في السور ما لم يرتب فهذا هو الذي رتب وقت الكتب (¬1). وقال البيهقي في المدخل: «كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب، إلا الأنفال وبراءة» فقد حصر البعض الذي هو باجتهاد في هاتين السورتين فقط، وقال الحافظ ابن حجر: ترتيب بعض السور على بعضها أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفيا وقد اختار السيوطي ما ذهب إليه البيهقي حيث قال: والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي، وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال، ولا ينبغي أن يستدل بقراءته صلى الله عليه وسلم سورا ولاء على ترتيبها كذلك، وحينئذ فلا يرد حديث قراءته النساء قبل آل عمران: لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب، ولعله فعل ذلك لبيان الجواز. ويشهد لما ذكره البيهقي ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتموهما في السبع الطوال فقال عثمان رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من يكتب فيقول: «ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا»، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من أواخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتها في السبع الطوال. وأجيب عن هذا ¬

_ (¬1) مقدمتان في علوم القرآن ص 276.

الدليل: 1 - بأن هذا الحديث غير صحيح (¬1) لأن الترمذي الذي هو أحد من خرجه قال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد القاضي عن ابن عباس ويزيد هذا مجهول الحال فلا يصح الاعتماد على حديثه، الذي انفرد به في ترتيب سور القرآن. 2 - على تسليم صحته فيجوز أن يكون عثمان حين إخباره لابن عباس لم يكن عنده شيء مسموع بشأن الترتيب بين السورتين، فلا ينافي أنه علم بعد ذلك. وسواء أكان الترتيب توقيفيا أم اجتهاديا فإنه ينبغي احترامه والأخذ به في كتابة المصاحف؛ لأنه عن إجماع الصحابة؛ ولأن مخالفته تجر إلى الفتنة ودرء الفتنة. وسد ذرائع الفساد واجب. وأما ترتيب السور في التلاوة فليس بواجب، إنما هو مندوب قال الإمام النووي في التبيان: قال العلماء الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف فيقرأ الفاتحة، ثم البقرة، ثم آل عمران، ثم ما بعدها على الترتيب سواء أقرأ في الصلاة، أم في غيرها، ثم قال: قال بعض أصحابنا ويستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التي تليها، ودليل ذلك أن ترتيب المصحف إنما جعل لحكمة، فينبغي أن يحافظ عليه، إلا فيما ورد الشرع باستثنائه كصلاة الصبح يوم الجمعة يقرأ في الأولى الم السجدة وفي الثانية هَلْ أَتى، ولو خالف الموالاة فقرأ سورة لا تلي الأولى، أو خالف الترتيب فقرأ سورة قبلها جاز فقد جاءت بذلك آثار كثيرة، وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الركعة الأولى من الصبح بالكهف، وفي الثانية بيوسف. وقد كره جماعة مخالفة ترتيب المصحف، روي عن الحسن أنه كان يكره أن يقرأ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح ج 9 ص 34: وقد أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث ابن عباس قال: قلت لعثمان ... الحديث ولم ينازع في تصحيحه، وهو من هو في العلم بالتصحيح والتضعيف، ونقد الرجال.

القرآن إلا على تأليفه في المصحف، قال: وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعا مؤكدا لأنه يذهب ببعض الإعجاز، ويزيل حكمة ترتيب الآي، وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له: إن فلانا يقرأ القرآن منكوسا فقال: ذلك منكوس القلب، وأما تعليم الصبيان القرآن من آخر المصحف إلى أوله فحسن، وليس هذا من هذا الباب، فإن ذلك قراءة منفصلة في أيام متعددة على ما فيه من تسهيل الحفظ عليهم. ***

المبحث التاسع كتابة القرآن ورسمه

المبحث التاسع كتابة القرآن ورسمه الكتابة عند العرب : يحسن بنا قبل البحث في كتابة القرآن ورسمه أن نبين كيف كان حال الكتابة في مكة والمدينة قبل البعثة المحمدية، فنقول: يكاد يجمع المؤرخون على أن الخط دخل إلى مكة بوساطة حرب ابن أمية بن عبد شمس، وإن كانوا اختلفوا في المصدر الذي تعلم منه حرب بن أمية الكتابة، ففي رواية ابن الكلبي أن حربا تعلمها من بشر بن عبد الملك، أخي أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، ذلك أن حربا تعرف به في أسفاره إلى العراق، فتعلم منه الكتابة ثم قدم معه بشر إلى مكة وتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان، وبذلك تيسر لجماعة من قريش أن يتعلموا الكتابة والقراءة، وقد أخذ أهل العراق الكتابة عن أهل الأنبار، وأهل الأنبار تعلموا الخط من جماعة من عرب طيّء أخذوا الكتابة عن كاتب الوحي لسيدنا هود عليه السلام. وفي رواية أبي عمرو الداني عن زياد بن أنعم عن ابن عباس أن حربا تعلم الخط من عبد الله بن جدعان، وعبد الله تعلم من أهل الأنبار، وأهل الأنبار تعلموا من طارئ طرأ عليهم من اليمن، وهذا الطارئ تعلم من الخلجان بن موهم وكان كاتب الوحي لهود نبي الله عن الله عز وجل، وبذلك وجد من يكتب بمكة قبل البعثة. وأما الخط في المدينة المنورة فقد ذكر أصحاب السير أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها وكان فيها يهودي يعلم الصبيان القراءة والكتابة، وكان فيها بضعة عشر رجلا يعرفون الكتابة منهم زيد بن ثابت، الذي تعلم كتابة اليهود بعد الهجرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والمنذر بن عمرو، وأبي بن وهب، وعمرو ابن سعيد وغيرهم. ومن ثم نرى أن الكتابة وجدت في العرب قبل الإسلام، وكان الذين يحذقونها قليلين جدّا أما الغالبية العظمى فكانت أمية لا تقرأ ولا تكتب،

الإسلام والكتابة

ولهذا سميت الأمة العربية بالأمة الأمية. وقد كان وجود الكتابة في العرب قبيل الإسلام، إرهاصا (¬1) لبعثة خاتم الرسل: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ليجتمع للقرآن الكتابة في الصحف والتقييد في السطور إلى الحفظ في الصدور، وبذلك يتهيأ للقرآن من دواعي الحفظ ما لم يتهيأ لغيره ويتحقق وعد الحق جل وعلا إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وأيضا بعد صلح الحديبية، فقد كانت الكتابة من أسباب تبليغ الرسالة المحمدية إلى الملوك والأمراء فقد كاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم داعيا إلى عبادة الله وحده، والانضواء تحت لواء الإسلام، ونبذ الشرك وعبادة الأوثان، وبذلك تعدت الرسالة حدود الجزيرة العربية، إلى العالم المعروف آنئذ، وقد عثر على كتاب من هذه الكتب وهو كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس عظيم القبط، وهو أثر من الآثار النبوية القيمة (¬2). الإسلام والكتابة: ولما جاء الإسلام رفع من شأن الكتابة وتعلمها، وشأن العلم والمعرفة وليس أدل على ذلك من أول سورة نزلت منه، أشادت بالقلم وأنه أداة العلم والمعرفة الكسبيين، وهي قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) فقوله عَلَّمَ بِالْقَلَمِ إشارة إلى العلم الكسبي، وقوله عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) إشارة إلى العلم الوهبي. وهذا هو الله سبحانه وتعالى يقسم بالقلم فيقول: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) وفي القسم به من ذي الجلال إشادة به، وتنبيه الناس إلى ما فيه من الفوائد والمزايا. وفي الحديث الصحيح المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله القلم، ثم قال اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» رواه أحمد ¬

_ (¬1) مقدمة بين يدي البعثة. (¬2) انظر صورة الكتاب في كتاب الوسيط في الأدب العربي وتاريخه ص: 122 ط أولى.

كتابة القرآن الكريم

والترمذي وصححه. وإن دينا يشيد بالقلم هذه الإشادة لهو دين العلم والمدنية الصحيحة. وهذا هو النبي صلوات الله وسلامه عليه تواتيه أول فرصة لنشر القراءة والكتابة فينتهزها، كي يتعلمها أكبر عدد من أبناء المسلمين وصبيانهم؛ فقد روى الرواة الأثبات أن المسلمين أسروا في غزوة بدر الكبرى سبعين رجلا من المشركين فقبل النبي ممن عنده مال الفداء، وكان ذلك أربعة آلاف درهم من الموسرين، أما من كان يحسن القراءة والكتابة فقد جعل فداءه أن يعلم عشرة من غلمان المدينة القراءة والكتابة (¬1) وقد فعل النبي هذا في وقت كان المسلمون أحوج إلى درهم ليزيلوا به خصاصتهم ويتقووا به على أعدائهم، ولكن ذا المواهب أدرك أن تعليم الأمة الكتابة خير من المال وأنها من عوامل تقدم الأمة ورقيها وبهذه السياسة الحكيمة كان النبي صلى الله عليه وسلم أول من وضع لبنة في إزالة الأمية من الأمم والشعوب: وأن الإسلام سبق إلى محاربة الأمية والجهل من قرابة أربعة عشر قرنا، على حين كان غيرهم ممن بيدهم مقاليد الأمور يحرصون على أن تبقى شعوبهم منغمسة في حمأة الجهل والخرافات، ولقد كان لهذه السياسة الرشيدة أثرها فقد انتشرت الكتابة بين المسلمين وانتشر العلم والمعرفة وصارت تنتشر في كل قطر فتحه المسلمون، ولا يخالف هذا ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» إذ هو إخبار عما كانت عليه غالبية الأمة، ثم صار العلم والثقافة الأصيلة من أخص خصائص الأمة الإسلامية. كتابة القرآن الكريم لقد كتب القرآن جميعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنه كان مفرقا في العسب، واللخاف، والأكتاف، والرقاع، ونحوها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه شيء من القرآن دعا بعض كتاب الوحي، فيأمره بكتابة ما نزل، ويرشده إلى موضعه من سورته، والكيفية التي تكتب عليها الكتابة، ولم يجاور الرسول الرفيق الأعلى إلا والقرآن كله مكتوب مسطور. ¬

_ (¬1) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة للمؤلف ج 2 ص 128.

كتاب الوحي

ثم كتب في عهد الصديق رضي الله عنه في صحف مجموعة، وكانت كتابته من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كتب في عهد عثمان رضي الله عنه في المصاحف على ما هو عليه، وكانت كتابته من عين ما كتب في عهد الصديق رضي الله تعالى عنه؛ إلا أنه اقتصر في رسمه على ما يوافق حرف قريش، وقد بينا آنفا في مبحث جمع القرآن الأطوار التي مرت بها كتابة القرآن وتدوينه، ولعلك على ذكر منها. كتّاب الوحي لقد كان لكتابة القرآن بين يدي النبي كتاب من الصحابة معروفون بالدين الكامل والأمانة الفائقة والعقل الراجح، والتثبت البالغ، كما كانوا معروفين بالحذق في الهجاء والكتابة، وقد اشتهر منهم بكتابته (1) أبو بكر، (2) وعمر، (3) وعثمان، (4) وعلي، (5) وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو أول من كتب له بمكة، (6) والزبير بن العوام، (7) ومعاوية، (8)، وخالد، (9) وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية، (10) وأبي بن كعب، وهو أول من كتب له بالمدينة، (11) وزيد بن ثابت، وهو أكثرهم كتابة بالمدينة، (12)، وشرحبيل بن حسنة، (13) وعبد الله ابن رواحة (14) وعمرو بن العاص، (15) وخالد بن الوليد، (16) والأرقم ابن أبي الأرقم المخزومي، (17) وثابت بن قيس، (18) وعبد الله بن الأرقم الزهري، (19) وحنظلة بن الربيع الأسدي، (20) ومعيقيب بن أبي فاطمة في آخرين (¬1)، وقد كان هؤلاء يكتبون ما يمليه عليهم الرسول، ويرشدهم إلى كتابته من غير أن يزيدوا فيه حرفا، أو ينقصوا منه حرفا، فقد روى أحمد، وأصحاب السنن الثلاثة، وصححه ابن حبان والحاكم حديث عبد الله بن عباس عن عثمان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 9 ص 18، الاستيعاب ج 1 ص 51 على هامش الإصابة، تهذيب الأسماء واللغات ج 1 ص 29.

يكتب عنده فيقول: «ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا» ويدل على كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عدا هذا أدلة كثيرة منها: 1 - ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه». 2 - ما روي في صحيح البخاري من قول الصديق أبي بكر لزيد بن ثابت: إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 - ما رواه الترمذي أنه لما نزل قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية قال عبد الله بن أم مكتوم وعبد الله بن جحش (¬1) يا رسول الله إنا أعميان، فهل لنا رخصة؛ فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائتوني بالكتف والدواة وأمر زيدا أن يكتبها فكتبها»، فقال زيد: فكأني أنظر إلى موضعها عند صدع في الكتف. ... ¬

_ (¬1) الظاهر أنه غير عبد الله بن جحش الأسدي ابن عمة النبي وشهيد أحد؛ لأنه لم يكن أعمى، أما الذي نزلت بسببه الكلمة فكان أعمى، وقد ذكر هذه الرواية الكلبي في تفسيره، ونقلها عنه الثعلبي، وقد نبه على أنه ليس الأسدي. الإصابة ج 2 ص 287 والذي ذكره الحافظ في الفتح غير هذا فقد قال: إن الصواب أنه أبو أحمد عبد بن جحش من غير إضافة عبد إلى شيء، وهو أخو عبد الله، وقد خرجه الطبري على الصواب، وليس في رواية البخاري ذكر عبد الله بن جحش، وليس فيها أمر زيد بكتابتها، ولا قول زيد: فكأني أنظر إلى موضعها عند صدع في الكتف، والخلاصة أنه إما عبد بن جحش كما صوبه الحافظ وأما عبد الله بن جحش آخر كما قال الثعلبي (فتح الباري ج 8 ص 211) والحمد لله الذي هداني لهذا ص 662 ط السلفية.

رسم المصحف ما هو رسم المصحف

رسم المصحف ما هو رسم المصحف رسم المصحف يراد به الوضع الذي ارتضاه عثمان رضي الله عنه، ومن كان معه من الصحابة في كتابة كلمات القرآن ورسم حروفه في المصاحف التي وجه بها إلى الآفاق، والمصحف الإمام الذي احتفظ به لنفسه، وقد كان علما مستقلا وعني بالتأليف فيه علماء من المتقدمين والمتأخرين، منهم الشيخ الإمام أبو عمرو الداني في كتابه «المقنع»، ومنهم الشيخ العلامة أبو عباس المراكشي (¬1) فقد ألف في توجيه ما خالف قواعد الخط منه كتابا سماه: «عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل» بين فيه أن هذه الأحرف إنما اختلف حالها في الخط بحسب اختلاف أحوال معاني كلماتها، وأن فيها فوائد بلاغية، ولغوية ونحوية ومنهم العلامة الشيخ محمد بن أحمد الشهير بالمتولي، إذ نظم في ذلك أرجوزة، ثم جاء المرحوم العلامة الشيخ محمد على خلف الحسيني، شيخ المقارئ المصرية، فشرح تلك المنظومة، وذيل الشرح له بكتاب له سماه «مرشد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن» وألف فيه أيضا أستاذنا الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي كتيبا صغير سماه «إيقاظ الأعلام إلى اتباع رسم المصحف الإمام». قواعد رسم المصحف: الأصل في المكتوب أن يكون موافقا للمنطوق، من غير زيادة ولا نقص، ولا تغيير ولا تبديل، مع مراعاة الابتداء به والوقف عليه، والفصل والوصل، وقد مهد له العلماء أصولا وقواعد، وقد خالفها في بعض الحروف خط المصحف الإمام ولذلك قيل: خطان لا يقاس عليهما؛ خط المصحف، وخط العروض، أما الأول فلأن المعوّل عليه فيه المأثور المنقول، لا الملفوظ المنطوق، وأما الثاني فلأن المعول عليه في وزن ¬

_ (¬1) هو أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأسدي المراكشي المعروف بابن البناء المتوفى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة.

1 - الحذف

المنطوق الملفوظ. وينحصر أمر الرسم في ستة قواعد (1) الحذف (2) الزيادة (3) الهمز (4) البدل (5) الوصل والفصل (6) ما فيه قراءتان متواترتان وكتب على إحداهما. ولنذكر لذلك أمثلة بقدر الإيضاح من غير استقراء وحصر لجميع ما ورد. 1 - الحذف : وذلك مثل حذف الألف من ياء النداء في يا أَيُّهَا النَّاسُ ومن هاء التنبيه مثل: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ومن (نا) إذا وليها ضمير نحو فَأَنْجَيْناكُمْ وآتَيْناهُ ومن كل جمع تصحيح لمذكر أو مؤنث مثل: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الْمُؤْمِناتِ ووَ الْمُسْلِماتِ وَالْقانِتاتِ إلى آخره، ومن كل جمع على وزن مفاعل وشبهه نحو مَساجِدَ والنَّصارى إلا ما استثني. وتحذف الياء من كل منقوص منون رفعا وجرا مثل غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ومثل وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ والمضاف إلي الياء إذا نودي: مثل يا عِبادِ فَاتَّقُونِ إلا قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا في الزمر يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا في العنكبوت ومن مثل وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُونِ فَارْهَبُونِ فَأَرْسِلُونِ فَاعْبُدُونِ إلا في يس. وَاخْشَوْنِ إلا في البقرة وكِيدُونِ إلا فَكِيدُونِي جَمِيعاً. وتحذف الواو إذا وقعت مع واو أخرى، نحو لا يستون فأوا إلى الكهف وكذلك حذفت من هذه الأفعال الأربعة ويدع الإنسان بالشّرّ دعائه بالخير بالإسراء وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ في الشورى يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ في القمر سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ في اقرأ وسيأتي توجيه ذلك. 2 - الزيادة : وذلك مثل زيادة الألف بعد آخر اسم مجموع أو ما في حكمه مثل مُلاقُوا رَبِّهِمْ بَنُوا إِسْرائِيلَ أُولُوا الْأَلْبابِ وفي مِائَةَ ومِائَتَيْنِ والظُّنُونَا والرَّسُولَا والسَّبِيلَا لَأَذْبَحَنَّهُ في النمل ووَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ في التوبة وفي نحو يَتَفَيَّؤُا أَتَوَكَّؤُا تَفْتَؤُا ولا تَظْمَؤُا وبين الجيم والياء في وجاى في الزمر والفجر فقد كتبت في المصحف هكذا وجاى في السورتين. وتزاد الياء في نحو نبإى المرسلين وملإيهم وملإيه ومن

3 - قاعدة الهمز

آناء الليل وإيتائ ذى القربى في النحل بأيّيكم المفتون والسّماء بنيناها بأييد. وتزاد الواو في نحو أُولُوا أُولئِكَ أُولاءِ أُولاتُ سأوريكم وقد علل ذلك الكرماني فقال في كتاب العجائب: كانت صورة الفتحة في الخطوط قبل الخط العربي ألفا وصورة الضمة واوا وصورة الكسرة ياء فكتبت لأاوضعوا ونحوه بالألف مكان الفتحة وإيتائ ذى القربى بالياء مكان الكسرة وأُولئِكَ ونحوه بالواو مكان الضمة لقرب عهدهم بالخط الأول. وقال الزمخشري في تفسيره: فإن قلت كيف خط في المصحف لأاوضعوا بزيادة ألف قلت: كانت الفتحة تكتب ألفا قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك الإلف- بكسر الهمزة وسكون اللام- أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا، وفتحتها ألف أخرى ونحوه أو لأاذبحنه (¬1). وهذا يشعر أنه يرى ما يراه الكرماني، وأنهما يريان أن خط المصحف بالاجتهاد. أقول: ولو كان الأمر كما يقولان فلم طبق ذلك في هذه الآيات، وفي القرآن ألوف الفتحات، والكسرات، والضمات 3 - قاعدة الهمز : أما الهمزة الساكنة فالأصل فيها أن تكتب بحرف حركة ما قبلها أولا، أو وسطا، أو آخرا نحو ائْذَنْ لِي اؤْتُمِنَ الْبَأْساءِ اقْرَأْ جِئْناكَ وَهَيِّئْ إلا ما استثني مثل فَادَّارَأْتُمْ وَرِءْياً فحذف الحرف فيهما، وكتبت الهمزة مفردة. أما الهمزة المتحركة فإن كانت في أول الكلمة أو اتصل بها حرف زائد كتبت بالألف مطلقا أي سواء كان فتحا. أو ضما، أو كسرا نحو أَيُّوبَ إِذا أُولُوا سَأَصْرِفُ فَبِأَيِّ إلا في مواضع مثل قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ في فصلت أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ في النمل أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا أإن لنا ¬

_ (¬1) تفسير الكشاف ج 2 ص 35 ط بولاق.

(4) قاعدة البدل

في الشعراء فكتبت فيها بالياء وقل أؤنبّئكم وهؤُلاءِ فكتبت بالواو. وإن كانت الهمزة وسطا فإنها تكتب بحرف من جنس حركتها نحو سَأَلَ سُئِلَ نَقْرَؤُهُ إلا ما استثني. وإن كانت طرفا تكتب بحرف حركة ما قبلها مثل سَبَإٍ شاطِئِ وَلُؤْلُؤاً وقد وردت في مواضع من القرآن مخالفة لهذا الأصل مثل تَفْتَؤُا يَتَفَيَّؤُا أَتَوَكَّؤُا لا تَظْمَؤُا ما يَعْبَؤُا وَيَدْرَؤُا يُنَشَّؤُا فإنها رسمت في المصحف بالواو، وزيدت بعدها ألف، فإن سكن ما قبل الهمزة حذف الحرف مثل مِلْءُ الْأَرْضِ دِفْءٌ شَيْءٍ الْخَبْءَ. (4) قاعدة البدل: كتبت في الرسم الألف واوا للتفخيم، أو التهويل، والتفظيع في مثل الصَّلاةَ الزَّكاةَ الْحَياةِ الرِّبَوا غير مضافات كَمِشْكاةٍ وَمَناةَ إلا قوله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال: 35] وقوله تعالى: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام: 162] وقوله: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: 29] وقوله: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم: 39] فقد كتبت بالألف (¬1). وكتبت ياء كل ألف منقلبة عنها نحو كَمِشْكاةٍ في اسم أو فعل اتصل به ضمير، أم لا، بقي ساكنا، أم لا، ومنه إِلَّا يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ ¬

_ (¬1) أقول: يمكن أن يعلل ذلك بأن صلاتهم غير شرعية وغير معتد بها فلا يستأهل التفخيم، وأن قوله إِنَّ صَلاتِي ... مقام تذلل واستسلام لله، فليس المقام بلائق بالتفخيم، وقوله: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا بأن الدهر بين حياتهم ضائعة، فليست جديرة بالتفخيم، وقوله وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً بأن الربا ليس بمعناه الشرعي، فلم يكن ثمت داع للتهويل، والتفظيع.

(5) قاعدة الفصل والوصل

إلا ما استثنى مثل تَتْرا كِلْتَا هَدانِي وَمَنْ عَصانِي وتكتب ألفا نون التوكيد الخفيفة ونون إِذا، ويكتب بالنون نحو وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ وكتبت هاء التأنيث على خلاف الأصل تاء في مواضع من القرآن، وذلك مثل رَحْمَتَ في البقرة وآل عمران وغيرهما ونعمت في البقرة وآل عمران والمائدة وغيرها وسُنَّتُ في الأنفال وفاطر وامْرَأَتُ مع زوجها ولَعْنَتَ في قوله تعالى: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ في آل عمران وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ في النور وو معصيت في لَقَدْ سَمِعَ وشجرت في إنّ شجرت الزّقّوم (43) طعام الأثيم (44) وقُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ وبَقِيَّتُ في قوله تعالى: بَقِيَّتُ اللَّهِ وجنت في قوله: وجنات نعيم إلى غير ذلك إلى غير ذلك. (5) قاعدة الفصل والوصل: وردت بعض الألفاظ في رسم المصحف تارة موصولة، وتارة مفصولة وورد بعضها في الرسم على حالة واحدة وذلك مثل وصل إِلَّا بفتح الهمزة وتشديد اللام وفصلها في عشرة مواضع منها أَنْ لا يَقُولُوا في الأعراف أَنْ لا تَعْبُدُوا في هود ويس وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ في الدخان ووصل مما، إلا فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ في النساء والروم مِنْ ما رَزَقْناكُمْ في المنافقين، ووصل مِمَّنْ مطلقا ووصل عَمَّا إلا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ، ووصل عمن إلا قوله وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ في النور وعَنْ مَنْ تَوَلَّى في النجم، ووصل كلما، إلا كلّ ما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها ومِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ، ووصل أَمِنَ إلا أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا في النساء أَمْ مَنْ أَسَّسَ في التوبة أَمْ مَنْ خَلَقْنا في الصافات أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً، وأَمَّا بكسر الهمزة والتشديد إلا وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ في الرعد. وأنما بفتح الهمزة مطلقا، إلى غير ذلك مما جاء في الرسم تارة موصولا وتارة مفصولا مثل إِنَّما وفَإِنْ لَمْ بالفتح والكسر وأَنْ لَنْ وأَيْنَ ما كى لا وفِي ما. 6 - ما فيه قراءتان وكتب على إحداهما ومرادنا غير القراءات الشاذة ومن

ذلك ملك يوم الدّين (4) ويخدعون ووَعَدَنا تُفادُوهُمْ تُظْهِرُونَ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ فرهن عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أو لمستم النّساء وحرم على قرية سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى إلى غير ذلك، فقد كتبت كلها في المصاحف العثمانية بلا ألف، وقد قرئت بالألف وبحذفها ومثل غيبت الجب في [يوسف: 15] ثمرت من أكمامها في فصلت وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ فقد كتبت كلها بالتاء المفتوحة وبلا ألف وقد قرئت بالجمع والإفراد. ومثل فكهون فقد كتبت بلا ألف وقرئت بالألف وبعدمها ومثل الصِّراطَ كيف وقع وبَصْطَةً في [الأعراف: 69] والْمُصَيْطِرُونَ وبِمُصَيْطِرٍ فقد كتبت بالصاد لا غير، وقد قرئت بالصاد والسين (¬1). وأما القراءات المختلفة المتواترة بزيادة لا يحتملها الرسم نحو وأوصى وَوَصَّى في البقرة تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ ومِنْ تَحْتِهَا في التوبة وما عملت أيديهم وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ في يس، وقوله سَيَقُولُونَ لِلَّهِ وفَسَيَقُولُونَ اللَّهُ في [المؤمنون: 86 - 89] (¬2). فقد كانت تكتب في بعض المصاحف دون بعض كما أسلفنا. وبحسبنا ¬

_ (¬1) وقد عللوا ذلك بأن الأصل في هذه الألفاظ كتابتها بالسين على ما هي اللغة الغالبة ولكنها كتبت في المصاحف العثمانية بالصاد لتتعادل القراءتان القراءة التي يشهد لها الرسم والقراءة التي يشهد لها الأصل. ولو كتبت هذه الكلمات بالسين لفات ذلك، ولاعتبرت الصاد مخالفة للأصل والرسم، ولهذا اختلفت القراءة في بَصْطَةً في الأعراف فقد قرئ بالصاد، والسين ولم يقع بَسْطَةً في البقرة لكونها كتبت بالسين، فانظر كيف بلغ الصحابة في رسم المصاحف إلى هذا الحد من الدقة وتحقيق العلم. (¬2) فقد كتبتا في مصاحف أهل البصرة بلفظ الله بدون اللام جوابا للاستفهام وكتبتا باللام في مصاحب أهل الحرمين والكوفة والشام على المعنى، لأن من رب كذا ولمن هو في معنى واحد، ولذلك جاء جواب الآية الأولى باللام فحسب قال تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) بخلاف الآيتين اللتين تليها.

رسم المصحف توقيفي أم اصطلاحي

ما ذكرنا في التمثيل لهذه القواعد. ومن أرد استيفاء فليرجع إلى الإتقان (¬1) أو كتب القراءات. رسم المصحف توقيفي أم اصطلاحي ذهب جمهور العلماء إلى أن رسم المصحف العثماني توقيفي لا تجوز مخالفته واستدلوا بما يأتي: 1 - أن القرآن الكريم كتب كله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يملي على كتاب الوحي، ويرشدهم في كتابته بوحي من جبريل عليه السلام فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: «ألق (¬2) الدواة وحرف القلم وانصب الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم وحسن الله، ومد الرحمن وجود الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك». هذا إلى إقراره صلى الله عليه وسلم الكتاب على جميع ما كتبوه، وتقريره صلى الله عليه وسلم أحد وجوه السنن المعروفة. 2 - إطباق القراء على إثبات الياء في وَاخْشَوْنِي في [البقرة: 150] وحذفها في الموضعين في المائدة (¬3) وغير ذلك مما خولف بين نظائر مختلفة بالحذف والإثبات والزيادة والنقصان كما ذكرنا آنفا، فلو كان الرسم بالاجتهاد لما خولف فيه بين هذه النظائر والمتشابهات. ولعل قائلا يقول: لعل هذا من تعدد كتاب الوحي، فإنهم لم يكونوا سواء في الحذق بالهجاء فمن ثم نشأ هذا الاختلاف. والجواب: لو كان الأمر على ما يزعم هذا القائل لناقش بعضهم بعضا في هذا. ولا سيما والأمر يتعلق بالأصل الأول للإسلام. وتوفر الدواعي لحرية الرأي في هذا العصر، ولكن لم ينقل إلينا أنهم تناقشوا في هذا، أو ¬

_ (¬1) الإتقان ج 2 ص: 167 - 170. (¬2) في القاموس المحيط لاق الدواة يليقها ليقة وليقا وألاقها جعل لها ليقة أو أصلح مدادها فلاقت الدواة لصق المداد بصوفها أي أصلح مدادها بوضع ليقة فيها، وهو صوفة أو نحوها. (¬3) [المائدة: 3، 44].

أقوال الأئمة في التزام الرسم العثماني

عاب بعضهم بعضا كتابته على هذا الاحتمال يبعد غاية البعد في مثل قوله تعالى: فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) [الحاقة: 19، 20] فقد كتبت كتبيه بغير ألف، وكتبت حِسابِيَهْ بألف والكلمتان سواء. 3 - لما جاور الرسول الرفيق الأعلى، وجمع القرآن في الصحف والمصاحف أجمع الصحابة على رسمه ولا سيما الخلفاء الراشدون ولم يخالف في ذلك أحد وإجماعهم حجة، وقد حث الرسول على الاقتداء بالخليفتين من بعده فقال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة، وفي حديث العرباض بن سارية: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقد أقر هذا الرسم الخلفاء الراشدون، ومن ورائهم الصحابة فكان لزاما على الأمة الإسلامية من بعدهم أن يقتدوا بهم، ويتمسكوا برسم المصحف، ولا يحيدوا عنه، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم. فمن ثم ذهب جمهور الأئمة إلى التزام هذا الرسم. أقوال الأئمة في التزام الرسم العثماني: قال أشهب: سئل مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى. رواه الداني في المقنع، قال: ولا مخالف له من علماء الأمة، وقال في موضع آخر. سئل مالك عن الحروف في القرآن من الواو والألف أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك قال: لا، قال أبو عمرو: يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ، نحو أُولُوا وأُولاتُ. وقال الإمام أحمد: يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو

هل صار النبي قارئا كاتبا

ألف أو نحو ذلك. وفي حواشي المنهج في فقه الشافعية- كلمة «الربوا» - تكتب بالواو والألف كما جاء في الرسم العثماني، ولا تكتب في القرآن بالياء أو الألف، لأن رسمه سنة متبعة. وفي كتاب المحيط البرهاني في فقه الحنفية ما نصه: إنه ينبغي ألا يكتب المصحف بغير الرسم العثماني. وقال البيهقي في شعب الإيمان: من كتب مصحفا ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه، ولا يغير مما كتبوه شيئا فإنهم كانوا أكثر علما، وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم، إلى غير ذلك من أقوال الأئمة في التزام الرسم العثماني. ويسلمنا هذا الرأي إلى معرفة هل تعلم النبي صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة بعد أن لم يكن يعلمها أو أنه استمر على أميته وإليك بيان وجه الحق في هذا. هل صار النبي قارئا كاتبا: اتفق العلماء قاطبة على أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى الناس قاطبة، لم يكن قارئا ولا كاتبا، وذلك كي تقوم عليهم الحجة، وتنتفي الشبهة في ثبوت معجزته الكبرى: وهو القرآن؛ إذ لو كان قارئا كاتبا لراجت شبهتهم وقوي ارتيابهم في أن ما جاء به نتيجة قراءة واطلاع، ونظر في الكتب السابقة، وقد أشار إلى هذا الحق تبارك وتعالى فقال: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت: 48، 49]. أما بعد أن قامت حجته، وعلت كلمته وعجزت العرب عن أن يأتوا بأقصر سورة منه، ولم يعد للريب والظنون موضع فقد كان محل بحث ونظر فمن العلماء من قال: إنه تعلم القراءة والكتابة، ومنهم من منع وقال: إنه استمر على أميته. وقد بسط القول في هذا الإمام الآلوسي: فقد قال عقب تفسيره للآية السابقة ما نصه: واختلف في أنه صلى الله عليه وسلم هل كان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا فقيل إنه عليه

الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة واختاره البغوي في التهذيب، وقال: إنه الأصح، وادعى بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب (¬1) تعرف الكتابة حينئذ وروى ابن أبي شيبة وغيره «ما مات صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ» ونقل هذا للشعبي فصدقه وقال: سمعت أقواما يقولونه وليس في الآية ما ينافيه (¬2) وروى ابن ماجة عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر» ثم قال: ويشهد للكتابة أحاديث في صحيح البخاري وغيره كما ورد في صلح الحديبية: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب: «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله» الحديث (¬3) وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي (¬4)، وأبو الفتح النيسابوري (¬5) وأبو الوليد الباجي من المغاربة (¬6) وحكاه عن السمناني (¬7) ¬

_ (¬1) لعل مراده ظهور فساد الارتياب وأنه لم يعد له مسوغ، وفي فتح الباري ج 7 ص 405: وأمن الارتياب وهي الأظهر. (¬2) وممن رواه البيهقي في السنن الكبرى، ثم قال: فهذا حديث منقطع، في رواته جماعة من الضعفاء والمجهولين والله تعالى أعلم. (¬3) صحيح البخاري- كتاب المغازي- باب عمرة القضاء، ورواه أيضا النسائي في سننه، وأحمد في مسنده، وأما مسلم فرواه بدون «وليس يحسن يكتب» ولكن في روايته إثبات الكتابة كما هنا، والحديث نص في أنه صلى الله عليه وسلم تعلم الكتابة وإن لم يحسنها. (¬4) هو الحافظ عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عنبر الأنصاري المالكي، شيخ الحرم، ولد 355 والمتوفى 434 هـ. (¬5) هو الإمام ناصر بن سليمان بن ناصر بن محمد الأنصاري الشافعي، ولد 489 وتوفي سنة 552 هـ. (¬6) هو القاضي سليمان بن خلف بن سعيد بن أيوب التجيبي القرطبي صاحب المؤلفات النافعة، ولد سنة 453 هـ وتوفي سنة 474 هـ. (¬7) هو القاضي محمد بن محمد بن أحمد السمناني أبو جعفر، فقيه العراق، نسب إلى سمنان، بلد بالعراق، ولي القضاء بالموصل وكانت وفاته بها سنة 444 هـ.

وصنف فيه كتابا وسبقه إليه ابن منية، ولما قال أبو الوليد ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاه وكتب إلى علماء الأطراف، فأجابوا بما يوافقه، ومعرفة الكتابة بعد أميته صلى الله عليه وسلم لا ينافي المعجزة، بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم، وقد رد بعض الأجلة كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب» وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: «كتب» فمعناه أمر بالكتابة كما يقال كتب السلطان بكذا لفلان، وتقديم قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ على قوله سبحانه وَلا تَخُطُّهُ كالصريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب مطلقا، وكون القيد المتوسط راجعا لما بعده غير مطرد، وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده، فقال: يفهم من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولولا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة: وأنت تعلم أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة، إلا إذا قيل بحجية المفهوم، والظان ممن لا يقول بحجيته، ثم قال الآلوسي في تفنيد هذه الردود ما نصه: ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة والسلام «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» ليس نصا في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام، ولعل ذلك باعتبار أنه بعث عليه الصلاة والسلام وهو وأكثر من بعث إليهم، وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون، لا يكتبون ولا يحسبون، فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد، وأما ما ذكر من تأويل «كتب» بأمر بالكتابة فخلاف الظاهر، وفي شرح صحيح مسلم للنووي عليه الرحمة نقلا عن القاضي عياض. أن قوله في الرواية التي ذكرناها «ولا يحسن يكتب فكتب» كالنص في أنه صلى الله عليه وسلم كتب بنفسه فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه، ثم قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة، وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا فالله تعالى أعلم (¬1) والذي يترجح عندي أنه صلى الله عليه وسلم تعلم الكتابة بعد أن لم يكن يعلمها وكفى في هذا دليلا حديث البخاري، ومستبعد جدّا ¬

_ (¬1) تفسير الآلوسي ج 21 ص 4، 5 ط منير، وفتح الباري ج 7 ص 405، 406.

فوائد الرسم العثماني

من مثل رسول الله- في ذكائه وفطنته ولقانته- أن لا يتعلم الكتابة بعد طول إملاء القرآن على الكاتبين ورؤيته لهم وهم يكتبون، على أنه من الممكن جدّا أن يكون الله سبحانه وتعالى علم نبيه القراءة والكتابة كما علمه غيرها- مما لم يكن يعلم بطريق وهبي من غير ضرورة إلى تعلم أو كسب، وأيّا كان الأمر فلا تنافي بين كونه صلى الله عليه وسلم بعث وهو أميّ، وكون رسم القرآن توقيفيا: لأنه إن كان تعلم الكتابة فالأمر ظاهر وإن لم يكن تعلمها فيكون تلقينه وإرشاده الكاتبين إلى طريقة كتابته بتلقين من جبريل ووحي منه. فوائد الرسم العثماني لاتباع رسم المصحف العثماني فوائد منها: 1 - اتصال السند بالقرآن الكريم : فلا يجوز لأحد أن يقرأه أو يقرئه غيره إلا بروايته بسند متصل؛ فمن علم القواعد العربية، ولكن لا يأخذ القرآن عن غيره لا يعرف قراءته على وجهها الصحيح، فإن بعض ألفاظه كتبت على غير النطق بها كما أسلفنا، فإن فواتح بعض سوره كتبت برسم الحروف لا بهيئات النطق بها، وإلا فقل لي- بربك- كيف يتوصل القارئ إلى قراءة كهيعص وحم (1) عسق (2) وطسم والمص (¬1) وغيرها فالذي يعلم العربية والهجاء ولكنه لا يتلقى عن غيره كيفية القراءة والأداء، قد يقرؤها على غير وجهها الصحيح؛ إذ النطق بها صحيحة يتوقف على التلقي والسماع من قراء القرآن وحفاظه المشتغلون به، واتصال السند من خصائص القرآن الكريم بالنسبة لغيره من الكتب السماوية، وبه ظل محفوظا كما وعد الله سبحانه وتعالى بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وليس من شك في أن الرسم المخصوص له أعظم الأثر في اتصال السند؛ إذ لو كانت جميع ألفاظه مكتوبة طبق النطق بها لتجرأ الكثيرون على قراءته ¬

_ (¬1) إنما قطعت حم (1) عسق (2) الشورى في الرسم دون أخواتها المذكورات معها طردا للأولى بأخواتها الستة وهي الحواميم غافر، وفصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف.

2 - الدلالة على أصل الحركة

بغير رواية عن غيره، وحينئذ يفوتهم معرفة ما فيه من طرق الأداء من مد وتخفيف وإمالة وإظهار وإدغام وإخفاء إلى غير ذلك من طرق الأداء. 2 - الدلالة على أصل الحركة ككتابة الكسرة ياء والضمة واوا نحو وإيتائي ذي القربى وسأوريكم أو الدلالة على أصل الحرف ككتابة الصلاة والزكاة والحياة والربا بالواو بدل الألف. 3 - الدلالة على بعض اللغات الفصيحة ككتابة هاء التأنيث تاء في لغة طيّء، ومثل حذف آخر المضارع على المعتل لغير جازم مثل يَوْمَ يَأْتِ في لغة هذيل. 4 - الدلالة على معنى خفي دقيق ، كزيادة الياء في قوله والسّماء بنيناها بأييد بياءين؛ وذلك للإيماء إلى قدرة الخالق جل وعلا- التي بنى بها السماء، وأنها لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى (¬1)، وكزيادة الألف في وجاى بالنّبيّين [الزمر: 69] وجاى يومئذ بجهنّم [الفجر: 23] للتهويل والتفخيم والوعيد والتهديد. ومن هذا القبيل كتابة هذه الأفعال بغير واو وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ [الإسراء: 11] وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ [الشورى: 24] يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [القمر: 6] سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 6] فإنها كتبت في المصاحف العثمانية بغير واو، ولذلك سر دقيق لمن أمعن النظر؛ فالسر في حذفها- كما قال المراكشي-: التنبيه على سرعة وقوع الفعل، وسهولته على الفاعل، وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود، أما الحذف في الأولى فللإشارة إلى أن الإنسان يسارع إلى الدعاء بالشر، كما يسارع إلى الخير بل إثبات الشر إليه من جهة ذاته أقرب إليه من الخير، ولا سيما عند الغضب، وأما السر في حذفها في الثانية فللإشارة إلى سرعة ذهاب الباطل واضمحلاله، وأما السر في حذفها في الثالثة، فللإشارة إلى سرعة الدعاء ¬

_ (¬1) لقد جرى المراكشي على مذهب الخلف المؤولين لليد بالقدرة، والسلف لا يؤولون في هذا، ويؤمنون باللفظ كما ورد مع تفويض معرفة حقيقته إلى الله تبارك وتعالى.

وسرعة إجابة الداعين، وأما السر في حذفها في الرابعة، فللإشارة إلى سرعة الفعل، وإجابة الزبانية (¬1). أقول: وفيه- أيضا- تطابق بين المتجاورين في اللفظ؛ إذ قبلها فَلْيَدْعُ نادِيَهُ وإشارة إلى أن إجابة الزبانية أسرع من إجابة أهل ناديه. وعلل الشيخ العلامة المراكشي لزيادة الواو في قوله تعالى: سأوريكم دار الفاسقين [الأعراف: 145]، وقوله: سأوريكم آيتى للدلالة على ظهور معنى الكلمة في الوجود، في أعظم رتبة للعيان، قال: ويدل على ذلك أن الآيتين جاءتا للتهديد والوعيد، أقول: فيكون فيه تطابق بين اللفظ والمعنى. أقول: وعلى هذا اللون من الاجتهاد في التعليل للرسم يمكن أن نقول (¬2) في زيادة الألف في قوله تعالى: ولأاوضعوا خللكم [براءة: 47] السر فيه الإيماء إلى أن هؤلاء المعتذرين المتخلفين من المنافقين لو خرجوا معكم لأكثروا من الإيضاع في الفتنة، والإفساد- والإيضاع هو الإسراع- ولجاوزوا الحد في هذا، فتوافق الرسم والمعنى. وفي زيادة الياء في قوله تعالى: بأيّيكم المفتون [القلم: 6] أي: المجنون، الإشارة إلى أن جنون المشركين بلغ الغاية، وتجاوز الحد وأنهم المجانين لا أنت لأن مثلك يا محمد في رجاحة عقلك وعظم أخلاقك وسمو فضائلك لا يصح أن يرمى بالجنون، فمن رماك به فقد رجع على نفسه بالجنون، وبذلك يتوافق الرسم، والمعنى، والكلام في ظاهره ترديد بين أمرين، وهو في الحقيقة يراد به ما ذكرت، وهو لون من ألوان الحجاج في القرآن، يدل على غاية النصفة مع الخصوم، ومثله قوله سبحانه: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مع اليقين أن النبي وأتباعه على ¬

_ (¬1) الإتقان ج 2 ص: 108. (¬2) قد استفدت في كثير من هذا بما ذكره العلامة الشيخ المراكشي ولكني زدته توضيحا وبعضها مما اجتهدت فيه كما اجتهد العلماء من قبل.

الهدى، وهم الذين في ضلال بيّن ظاهر. وأن نقول في زيادة الألف آخرا في قوله تعالى: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [يوسف: 85]. الدلالة على كثرة ذلك. وأن سيدنا يعقوب ما كان ينفك عن ذكر يوسف عليه السلام. وفي قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) [النحل: 48] الدلالة على كثرة تفيء الظلال وعمومها لكل ذي جرم. وقوله تعالى: وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) [طه: 119] الدلالة على دوام عدم الظمأ، واستمرار الري لمن كان في الجنة. وقوله تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ [الفرقان: 77] أي: عبادتكم. أو تضرعكم بالدعاء المبالغة في عدم اعتناء الله بمن لا يعبده، ولا يتضرع إليه. وكذلك زيادة الألف في لفظ الرِّبَوا ليتوافق الرسم والمعنى، فالربا زيادة بلا مقابل، وهذه الألف زيادة بلا مقابل في التلفظ. وكذلك نقول في زيادة الألف بعد الفعل المضارع المعل الآخر في قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) [الشورى: 30] فيها الإشارة إلى كثرة عفو الله، واستمراره، وإلا فلو أخذنا الله بمعاصينا وآثامنا لما ترك على ظهر الأرض من دابة. فإن قيل: إن بعد هذه الآية بآيات قوله تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) قلت: أما على قراءة ويعف عطفا على المجزوم قبله (¬1) فحذف الواو ظاهر؛ وأما على قراءة ويعفو بالرفع على الاستئناف بغير ألف؛ فذلك لأنه لما كانت حالة الإهلاك بسبب تسليط الأعاصير على السفن قليلة كان ما يترتب على ذلك من العفو ليس كثيرا أيضا، فلذلك لم ¬

_ (¬1) وهو قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ.

يؤت فيها بالألف بعد الواو، على أن مجيئها بغير ألف هو الأصل فلا يسأل عنه. وكذلك زيادة الألف في قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ [النور: 8] أي: يدفع للإشارة إلى قوة واستمرار درء الحد عنها ما دامت شهدت هذه الشهادات الخمس. وكذلك زيدت الألف بعد الهمزة في قوله تعالى: إني أريد أن تبوءا بإثمي وإثمك [المائدة: 29]. وقوله: لتنوأ بالعصبة أولى القوة [القصص: 76] للإشارة في الأولى إلى أنه يبوء بإثمين بسبب فعل واحد؛ وفي الثانية إلى كثرة مفاتيح قارون كثرة بها ثقلت وأثقلتهم، فكأنها ثقلان فجاء الرسم موحيا بهذا المعنى. وأما حذف الألف من سعوا في قوله تعالى: والّذين سعو فى آياتنا معجزين [سبأ: 5]، فللإشارة إلى أنه سعى بالباطل، لا يصح أن يكون له ثبات في الوجود، وأنهم لن يحصلوا منه على طائل. ومثل ذلك وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116] وقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً [الفرقان: 4] وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) [يوسف: 16] وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف: 18] فهو لبيان أن مجيئهم ليس على وجه صحيح، ويغلب عليه التصنع، والزور، والتمويه: فمن هنا جاء رسم الكلمات على غير المعهود المعروف. وكذلك حذف الألف من قوله: وعتو عتوّا كبيرا للإشارة إلى أنه باطل ولا أثر له يذكر في الوجود. وقالوا: حذفت الألف من معظم الألفاظ الأعجمية في الأصل كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق وهارون ونحوها لكثرة الاستعمال، فقد رسمت في المصاحف بدون ألف، وإنما لم تحذف من داود؛ لأنه حذفت منه الواو، فلم يجحفوا بحذف ألف أخرى. وأما زيادة الياء في قوله تعالى: وإيتائ ذى القربى [النحل: 90]

مذهب الامام الباقلانى وابن خلدون فى ان الرسم اجتهادى

فللإشارة إلى أن الإيتاء ينبغي أن يكون ممدودا موصولا غير منقطع، فيكون فيه تطابق بين اللفظ والمعنى، وفي قوله تعالى: ولقد جاءك من نبإى المرسلين [الأنعام: 34] للإشارة إلى كثرة ما جاء في القرآن من أخبار الأنبياء، وتحملهم الأذى البالغ، والصبر الصابر، حتى جاء نصر الله. وفي قوله: ومن آناء الليل فسبّح وأطراف النّهار لعلّك ترضى [طه: 130] للإشارة إلى أنه ينبغي أن يشغل معظم ساعات الليل بالقيام والتسبيح، فجاءت هيئة رسم اللفظ موحية بهذا المعنى، وفي قوله: أو من وراءي حجاب [الشورى: 51]. للإشارة إلى كلام من وراء وراء فهو وراء فسيح ممدود لا حد له. وهكذا لا يعدم المتأمل في رسم القرآن، بعقل فسيح وقلب مستنير، من أن يجد في الرسم من أسرار القرآن الشيء الكثير، فلله در القرآن ما أعظم بركاته، وما أكثر أسراره معنى ولفظا ورسما. (5) إفادة بعض المعاني المختلفة بطريقة لا خفاء فيها؛ وذلك نحو قطع كلمة (أم) في قوله تعالى: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ووصلها في قوله تعالى: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فقطع الأولى في الكتابة للدلالة على أنها (أم) المنقطعة بمعنى بل، ووصل أم الثانية للدلالة على أنها ليست المنقطعة، وإنما هي المتصلة. (6) احتمال الرسم للقراءات المتواترة والصحيحة، وذلك مثل قوله تعالى: وتمّت كلمت ربّك صدقا وعدلا الآية فقد قرئت بالإفراد والجمع، يعني تمت كلمت ربك أو كلمات ربك. [مذهب الامام الباقلانى وابن خلدون فى ان الرسم اجتهادى] الرأي الثاني إن رسم المصحف اصطلاحي لا توقيفي، وممن ذهب إلى هذا ابن خلدون في مقدمته (¬1) والقاضي أبو بكر الباقلاني في «الانتصار» حيث قالا: ¬

_ (¬1) المقدمة ص 351 فقد قال: إن الكتابة من الصناعات التي تتبع الحضارة تقدما

إن رسم المصحف كان باصطلاح من الصحابة، لأنهم كانوا حديثي عهد بالكتابة وإليك ما قاله القاضي أبو بكر: وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه؛ إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف. وليس في نصوص الكتاب، ولا مفهومه، أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص، وحد محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية؛ بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه، ولم يبين لهم وجها معينا، ولا نهى أحدا عن كتابته؛ ولذلك اختلفت خطوط المصاحف. فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص؛ لعلمه بأن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوج الألف، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك. وإذا كانت خطوط المصاحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة وأن الناس قد أجازوا ذلك وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر، علم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص، كما أخذ عليهم في القراءة والأذان، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري ¬

_ وتأخرا، فكلما كانت الحضارة قوية كانت الكتابة أحكم وأجود، وكلما كانت البداوة مستحكمة كانت الأمية أغلب وأعم، وإن الصحابة لم يكونوا على درجة من إتقان الخط، فمن ثم خالفت خطوط المصاحف ما هو معروف من القواعد الخطية في بعض الآيات القرآنية، وإن من جاء بعدهم اقتدى برسمهم، اتباعا لهم وتبركا بهم ... إلى آخر ما قال.

مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دال على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به، على أي صورة كانت. وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنى له ذلك وقد نوقش هذا المذهب بما يأتي: 1 - بالأدلة التي ساقها جمهور العلماء لتأييد القول بالتوقيف وقد مرت بك عن كثب. 2 - ما ادعاه من أنه ليس في نصوص السنة الخ مردود بما روي من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية: «ألق الدواة، وحرف القلم» الحديث وبما ذكرناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الكاتبين على ما كتبوا والتقرير أحد أنواع السنة. 3 - ما ذكره من قوله: ولذلك اختلفت خطوط المصاحف ... إلخ، غير مسلم لقيام الإجماع على الرسم العثماني، وعد وجود المخالف وتتابع الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم على ما جاء في هذه المصاحف عن غير نكير له. 4 - أما ما ذكره ابن خلدون من أن العرب كانوا مغرقين في البداوة. فنقول: إنهم بعد الإسلام قد خطوا في الحضارة العلمية والكتابية خطوات ملموسة، وذلك لما بينا من أن الإسلام دين العلم والمعرفة، وأنه دعا إلى إزالة الأمية من أول يوم، وأما متابعة من جاء بعد الصحابة لهم في رسم المصحف، تبركا بهم، فلم يكن التبرك هو المعول عليه في هذا العصر، وإنما كان ديدنهم ما وافق الحق والصواب قبلوه، وما خالف الحق والصواب نبذوه، وأما أن الصحابة لم يكونوا على درجة من إتقان الخط فمردود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار كتاب القرآن من الحذاق بالكتابة، ومنهم من كان يعرفها في الجاهلية، ثم جاء الإسلام، فزاده حذقا ومعرفة بها، وقد مرت مثل مما التزموه في الكتابة يدل دلالة أكيدة على أن هذا أمر كان مقصودا لهم، وأنهم كانوا على درجة من الحذق بالهجاء والكتابة.

رأي صاحب الذهب الإبريز

رأي صاحب الذهب الإبريز: ولعل مما يستحسن ذكره في هذا المقام لنفاسته وكفايته في الرد على القائلين بالاجتهاد ما ذكره العلامة ابن المبارك، نقلا عن شيخه العارف بالله الشيخ عبد العزيز الدباغ، إذ يقول في كتابه «الذهب الإبريز» ما نصه: رسم القرآن سر من أسرار الله المشاهدة، وكمال الرفعة، قال ابن المبارك فقلت له: هل رسم الواو في سأوريكم، وأولئك، وأولاء، وأولات، وكالياء في نحو (هديهم)، (ملإيه) و (ملإيهم)، و (بأييكم) هذا كله صادر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو من الصحابة فقال: هو صادر من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أمر الكتاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة. فما نقصوا ولا زادوا على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت له: إن جماعة من العلماء ترخصوا في أمر الرسم، وقالوا: إنما هو اصطلاح من الصحابة مشوا فيه على ما كانت قريش تكتب عليه في الجاهلية، وإنما صدر ذلك من الصحابة؛ لأن قريشا تعلموا الكتابة من أهل الحيرة، وأهل الحيرة ينطقون بالواو في الربا فكتبوا على وفق منطقهم، ينطقون فيه بالألف وكتابتهم له بالواو على منطق غيرهم، وتقليد لهم حتى قال القاضي أبو بكر الباقلاني: كل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه؛ فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع ما يدل على ذلك. فقال: ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها؛ لأسرار لا تهتدي إليها العقول وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز. وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في (مائة) دون (فئة) وإلى سر زيادة الباء في (بأييد) و (بأييكم) أم كيف تتوصل إلى زيادة الألف في (سعوا) بالحج ونقصانها في (سعو) بسبإ وإلى

سر زيادتها في (عتوا) حيث كان، ونقصانها من (عتو) في الفرقان، وإلى سر زيادتها في (آمنوا) وإسقاطها من باءو وفاءو بالبقرة وجاءو في سورتي يوسف والنمل، وتبوءو في سورة الحشر، وإلى سر زيادتها في أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي ونقصانها من أن يعفوا عنهم في النساء؛ أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض، كحذف الألف من (قرءنا) بيوسف والزخرف وإثباتها في سائر المواضع؛ وإثبات الألف بعد واو (سماوات) في فصلت وحذفها من غيرها؛ وإثبات الألف في الميعاد مطلقا وحذفها من الموضع الذي في الأنفال؛ وإثبات الألف في (سراجا) حيثما وقع وحذفه من موضع الفرقان؛ وكيف نتوصل إلى فتح بعض التاءات وربطها في بعض فكل ذلك لأسرار إلهية، وأغراض نبوية، وإنما خفيت عن الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني، فهي بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة التي في أوائل السور، فإن لها أسرارا عظيمة، ومعاني كثيرة، وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها، ولا يدركون شيئا من المعاني التي أشير إليها، فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفا حرفا. وأما قول من قال: إن الصحابة اصطلحوا على أمر الرسم المذكور فلا يخفى ما في كلامه من البطلان؛ لأن القرآن كتب في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وبين يديه، وحينئذ فلا يخلوا ما اصطلح عليه الصحابة، إما أن يكون هو عين الهيئة أو غيرها، فإن كان عينها بطل الاصطلاح؛ لأن سبقية النبي صلى الله عليه وسلم تنافي في ذلك وتوجب الاتباع، وإن كان غير ذلك فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم كتب على هيئة كهيئة الرسم القياسي مثلا، والصحابة خالفوا وكتبوا على هيئة أخرى فلا يصح ذلك لوجهين: أحدهما: نسبة الصحابة إلى المخالفة، وذلك محال. ثانيهما: أن سائر الأمة من الصحابة وغيرهم أجمعوا على أنه لا يجوز زيادة حرف في القرآن ولا نقصان حرف منه، وما بين الدفتين كلام الله عز وجل؛ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت ألف الرحمن والعالمين مثلا، ولم يزد الألف في مِائَةَ ولا في ولا أوضعوا ولا الياء بأييد ونحو ذلك،

والصحابة عاكسوه في ذلك وخالفوه لزم أنهم- وحاشاهم من ذلك- تصرفوا في القرآن بالزيادة والنقصان، ووقعوا فيما أجمعوا هم وغيرهم على ما لا يحل لأحد فعله، ولزم تطرق الشك إلى جميع ما بين الدفتين، لأنا مهما جوزنا أن تكون فيه حروف ناقصة، أو زائدة، على ما في علم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ما عنده، وأنها ليست بوحي، ولا من عند الله، ولا نعلمها بعينها، شككنا في الجميع، ولئن جوزنا للصحابي أن يزيد في كتابته حرفا ليس بوحي لزمنا أن نجوز لصحابي آخر نقصان حرف من الوحي إذ لا فرق بينهما، وحينئذ تنحل عروة الإسلام بالكلية، ثم قال ابن المبارك بعد كلام: فقلت له: فإن كان الرسم توقيفيا بوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كألفاظ القرآن، فلم لم ينقل تواترا حتى ترتفع عنه الريبة، وتطمئن به القلوب كألفاظ القرآن فإنه ما من حرف إلا وقد نقل متواترا لم يقع فيه اختلاف ولا اضطراب، وأما الرسم فإنه إنما نقل بالآحاد كما يعلم من الكتب الموضوعة فيه، وما نقل بالآحاد وقع الاضطراب بين النقلة في كثير منه، قلت: وكيف تضيع الأمة شيئا من الوحي فقال: ما ضيعت الأمة شيئا من الوحي والقرآن بحمد الله محفوظ ألفاظا ورسما؛ فأهل العرفان والشهود والعيان حفظوا ألفاظه ورسمه، ولم يضيعوا منها شعرة واحدة، وأدركوا ذلك بالشهود والعيان الذي هو فوق التواتر، وغيرهم حفظوا ألفاظه الواصلة إليهم بالتواتر، واختلافهم في بعض الحروف في الرسم لا يقدح ولا يصير الأمة مضيعة له كما لا يضر جهل العامة بالقرآن وعدم حفظهم لألفاظه. الرأي الثالث وهو أنه يجوز كتابة المصحف الآن لعامة الناس على الاصطلاحات المعروفة الشائعة، ليكون أبعد عن اللبس والخلط في القرآن، ولكن يجب في الوقت ذاته المحافظة على الرسم العثماني كأثر من الآثار الإسلامية النفيسة الموروثة عن السلف الصالح، فلا يهمل مراعاة للجاهلين بل يجب أن يبقى في أيدي العلماء العارفين الذين لا تخلو منهم الأرض، وإلى هذا الرأي ذهب الإمام ابن عبد السلام، وتابعه صاحب البرهان.

(رأي جديد جدير بالبحث والنظر)

قال صاحب التبيان: وأما كتابته- أي المصحف- على ما أحدث الناس من الهجاء، فقد جرى عليها أهل المشرق بناء على كونها أبعد من اللبس، وتحاماها أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك- وقد سئل: هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى قال في البرهان: قلت: وهذا كان في الصدر الأول والعلم حي غض، وأما الآن فقد يخشى الالتباس ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على المرسوم الأول باصطلاح الأئمة لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه لئلا يؤدي إلى درس العلم، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة (¬1). وهذا الرأي وسط بين المذهبين السالفين، ويقوم على رعاية الاحتياط للقرآن وتنزيه ساحته عن التغيير والتبديل بالإبقاء على الرسم العثماني الذي هو الأصل، وعلى رعاية التسهيل والتخفيف على العامة والناشئة، بكتابته على حسب ما يتيسر لهم ويتسهل عليهم، ولعله الأولى بالقبول. (رأي جديد جدير بالبحث والنظر) ومع أني مقتنع بالتزام التوقيف في المصاحف العثمانية، وأنه لا بد من الإبقاء عليه عند كتابة المصاحف وطبعها؛ ولكني أضع بين يدي القارئ هذا التساؤل: أألخير في الإبقاء على هذا الرسم في المصاحف، والأجزاء، والكتب المؤلفة لطلبة المدارس؛ والمعاهد، والجامعات غير الدينية وفي الصحف، والمجلات ونحوها، على ما في ذلك من التعسير على القراء، ولا سيما هؤلاء الطلاب، وعدم التيسير عليهم في قراءة القرآن! أم الخير في التزام الرسم العثماني، في المصاحف الكاملة، التي كتب فيها القرآن جميعه، والتي هي الحجة والمرجع عند الاختلاف والاحتكام، ¬

_ (¬1) التبيان ص 178، البرهان في علوم القرآن ج 1.

(الشبه التي أثيرت حول كتابة القرآن ورسمه)

وكتابة القرآن فيما عدا هذه المصاحف من الكتب العلمية والأجزاء القرآنية، والمجلات، والصحف ونحوها على الرسم المعروف الآن وقبل الآن، والذي يتلقاه الطلاب والتلاميذ في مدارسهم ومعاهدهم! الذي يترجح عندي وأرى فيه الخير والمصلحة هو الثاني، وبذلك يتيسر على قارئ القرآن الذي لم يتلق القراءة عن شيخ ومعلم، قراءته وحفظه، ونكون قد جذبنا طلاب المدارس إلى القرآن، الذي هو مصدر الإيمان، والهدى والحق والخير، وفي الوقت نفسه حافظنا على الرسم العثماني في ملايين المصاحف المبثوثة في العالمين الإسلامي والعربي. ويمكن زيادة في التحوط عند كتابة القرآن في كتب العلم والدين والأجزاء، والمجلات ونحوها، أن ننبه في الهامش على الكلمات التي كتبت على حسب القواعد الإملائية، وأنها كتبت في المصاحف على رسم كذا، حتى يكون التلاميذ والطلاب على بينة من الأمر، ولا يقعوا في بلبلة وشكوك، وبذلك نكون جمعنا بين الحسنيين وحققنا المصلحتين. وهذا الرأي أشد توثيقا للمصاحف العثمانية، وأرعى لحاجات المسلمين، ومصلحتهم، وأخص من رأي الإمام العز بن عبد السلام؛ لأنه أجاز ذلك في المصاحف وغيرها، وأما أنا فقصرت جواز ذلك على غير المصاحف، واحتفظت للمصاحف بقدسيتها، وجلالها، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. (الشبه التي أثيرت حول كتابة القرآن ورسمه) من دأب القسس (¬1) والمبشرين والمستشرقين أن يتلمسوا المطاعن في القرآن الكريم، وكتابته، ورسمه المجمع عليه في المصاحف العثمانية، وقد مر بك ما أوردوه على جمع القرآن من شبه وترهات، وكذلك صنعوا ¬

_ (¬1) حمل لواء هذا الإفك قس يدعى فندر فألف كتابا سماه ميزان الحق وأولى به أن يسمى ميزان الباطل، وقس آخر مجهول، تستر تحت اسم هاشم العربي في «تذييل مقال في الإسلام» وقس ثالث يدعى «تسدل»، انظر كتاب «أدلة اليقين» ص: 8، 9 للمغفور له أستاذنا الشيخ عبد الرحمن الجزيري.

الشبهة الأولى

حول كتابة القرآن ورسمه، وكل ما استندوا إليه يرجع إما إلى روايات باطلة نسبت إلى السلف الصالح كذبا وزورا، وقد تنبه العلماء إليها من قديم الزمان، وإما إلى اعتراضات (¬1) أوردها المؤلفون في تفسير القرآن وعلومه وأجابوا عنها بما يقنع ويشفي، فجاء هؤلاء القسس الذين تستروا تحت اسم «المستشرقين» فاطلعوا على هذه الروايات والاعتراضات فطاروا بها فرحا، وهولوا ما شاء لهم هواهم أن يهولوا، وظنوا أنهم وصلوا إلى ما يريدون من تشكيك المسلمين في أقدس مقدساتهم وهو القرآن الكريم. وقد قيض الله لهذه الشبه من علماء المسلمين من زيفها وبين بطلانها، وسترى بعد إيرادنا هذه الشبه والرد عليها أنها سراب لا حقيقة له، وأنهم طعنوا في غير مطعن، وطاروا في غير مطار. الشبهة الأولى: قالوا: روي عن عثمان- رضي الله عنه- أنه حين عرض عليه المصحف قال: أحسنتم وأجملتم إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها. وروي عن عكرمة أنه قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها، أو قال ستعربها بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف. قالوا: فكيف تكون المصاحف العثمانية مع هذا موضع إجماع من الصحابة وثقة من المسلمين بل كيف يكون رسم المصحف توقيفيا، وهذا هو عثمان يقول إن فيه لحنا. والجواب: 1 - إن هاتين الروايتين ضعيفتا الإسناد، وإن فيهما اضطرابا وانقطاعا يذهب بالثقة بهما، كما قال الإمام السخاوي في الرواية الثانية، ونقله الإمام الآلوسي في تفسيره (¬2)، وعكرمة لم يسمع من عثمان أصلا وقد روي ¬

_ (¬1) انظر مقدمتان في علوم القرآن ص 104 وما بعدها. (¬2) جزء 6 ص 5 ط منير.

الأثر الثاني عن يحيى بن يعمر عن عثمان وهو أيضا لم يسمع من عثمان، وقد رد الرواية الأولى جماعة من العلماء كالإمام أبي بكر الباقلاني والحافظ أبي عمرو الداني وأبي القاسم الشاطبي والجعبري، وغيرهم، وغير خفي على المتأمل ما في الروايتين من اضطراب وتناقض، فإن قوله: أحسنتم وأجملتم مدح وثناء وقوله: إن فيه لحنا يشعر بالتقصير والتفريط، فكيف يصح في العقول أن يمدحهم على التقصير والتفريط! وأيضا فالغرض من كتابة المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه على حرف قريش أن تكون مرجعا عاما يرجع إليه المسلمون عند الاختلاف في حروف القرآن وقراءاته، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يكل تصحيحها إليهم، إن هذا إن صح فسيصل بنا إلى الدور المحال؛ إذ تكون صحة قراءتهم متوقفة على القراءة وفق المصاحف التي كتبها لهم عثمان، وصحة المصاحف وسلامتها من اللحن متوقفة على صحة قراءتهم، وهذا ما ننزه عنه أي عاقل فضلا عن عثمان رضي الله عنه. 2 - إن هذين الأثرين يخالفان ما كان عليه عثمان رضي الله عنه من حفظه القرآن، وملازمة قراءته، ومدارسته، حتى صار في ذلك ممن يؤخذ عنهم القرآن، وقد حرص غاية الحرص على إحاطة كتابة المصاحف بسياج قوي من المحافظة على القرآن أن يتطرق إليه لحن أو تحريف أو تبديل وجعل من نفسه حارسا أمينا على كتّاب المصاحف في عهده، والمرجع عند أي اختلاف في كيفية الرسم فقد قال للرهط القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش، وقد اختلفوا في التَّابُوتُ أيكتبونه بالتاء أم بالهاء ورفعوا الأمر إليه، فأمرهم أن يكتبوه بالتاء، فإذا كان هذا شأنه وشأنهم في حرف لا يتغير به المعنى، ولا يعتبر تحريفا ولا تبديلا لاستناده إلى الحروف التي نزل بها القرآن فكيف يعقل منه أن يرى في المصاحف لحنا ثم يقرهم عليه وإليك رواية أخرى تدل على مبلغ عنايته بالقرآن عند الكتابة. أخرج أبو عبيد، عن عبد الرحمن بن هانئ مولى عثمان قال: كنت عند

الشبهة الثانية

عثمان وهم يعرضون المصاحف فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها «لم يتسن» وفيها «لا تبديل للخلق» وفيها «فأمهل الكافرين» فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين وكتب لِخَلْقِ اللَّهِ ومحا «فأمهل» وكتب فَمَهِّلِ وكتب لَمْ يَتَسَنَّهْ فألحق فيها الهاء، فهل يصح في العقول ممن هذا شأنه أن يرى لحنا في المصاحف ثم يقرهم عليه، ويدعه للعرب تصلحه ومن أحق بإصلاح اللحن والخطأ منه، وهو من هو في حفظ القرآن والحفاظ عليه. ولو جوزنا فرضا أن عثمان تساهل في إصلاح هذا أفيدعه جمهور المسلمين من المهاجرين والأنصار دون أن يصححوه وهم الذين لا يخشون في الحق لومة لائم، ولا يقرون على الباطل، ولو صحت هذه المقالة عن عثمان لأنكروا عليه غاية الإنكار، ولو أنكروا لاستفاض ونقل إلينا وأنى هو ولقد كانوا يعترضون عليه وعلى غيره فيما دون هذا، فما بالك بأمر يتعلق بالقرآن الكريم الحق أن هذا لا يصدقه إلا من ألغى عقله. 3 - على فرض صحة هذين الأثرين فيمكن أن نؤولهما بما يتفق هو والصحيح المعروف عن عثمان في جمع القرآن، ونسخ المصاحف، وذلك بأن يحمل لفظ لحنا على معنى اللغة، ويكون المعنى أن في رسم القرآن وكتابته في المصاحف وجها في القراءة لا تلين به ألسنة العرب جميعا الآن، ولكنها لا تلبث أن تلين به ألسنتهم جميعا بالمرانة، وكثرة تلاوة القرآن بهذا الوجه. الشبهة الثانية: قالوا: إن سعيد بن جبير كان يقرأ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ (¬1) [النساء: 162] ويقول هو من لحن الكتاب. ¬

_ (¬1) هي من آية من سورة النساء (162) ونصها: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162).

والجواب

والجواب: إن هذه الرواية إن صحت فابن جبير لم يرد باللحن الخطأ وإنما أراد اللغة، وهو أحد معاني اللحن كما في القاموس، وغيره من كتب اللغة ولو كان يريد باللحن الخطأ لما قرأ به، وكيف يقرأ بحرف يرى أنه خطأ وقد قرئت هذه الكلمة بقراءتين سبعيتين؛ قرأ الجمهور بالنصب وقرأ غير الجمهور بالرفع والمقيمون الصلاة أما الرفع فظاهر، إذ هو معطوف على ما قبله، وأما النصب فوجهه النصب على المدح لبيان فضل الصلاة ومنزلتها من شرائع الدين، ولهذا الأسلوب شواهد كثيرة في لغة العرب، وقد عقد له سيبويه في الكتاب بابا فقال: «هذا باب ما ينتصب على التعظيم» ومما أنشده: لا يبعدون قومي الذين هم ... سم العفاة وآفة الجزر النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر وإليك ما قاله إمام من أئمة العربية، قال الزمخشري في تفسيره ج 1 ص 397 عند تفسير هذه الآية: ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب (¬1) ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان وغبي (¬2) عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من يلحق بهم. الشبهة الثالثة: قالوا: روي عن ابن عباس في قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إن الكتاب أخطأ، إنما هو «تستأذنوا» فهذا يدل على أن القرآن دخله بعض التحريف والتبديل بسبب الكتابة. ¬

_ (¬1) مراده كتاب سيبويه وهو علم بالغلبة عند النحويين. (¬2) أي: خفي عليه، ولم يفطن له.

والجواب

والجواب: 1 - أن هذا القول غير صحيح في نسبته إلى ابن عباس وهو مدسوس عليه، دسه الملاحدة والزنادقة، قال أبو حيان ما نصه: إن من روى عن ابن عباس أنه قال ذلك فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين، وابن عباس بريء من ذلك القول. وقال الزمخشري في تفسيره: «وعن ابن عباس وسعيد بن جبير: إنما هو حتى تستأذنوا فأخطأ الكاتب، ولا يعول على هذه الرواية. وقال القرطبي في تفسيره (¬1) بعد ذكر هذا عن ابن عباس أو سعيد ابن جبير وهذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره، فإن مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان فهي التي لا يجوز خلافها، وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس: وقد قال عز وجل: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42). وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)، وقد روى هذا الخبر عن ابن عباس ابن جرير، ولا يخلو إسناده من مدلس أو مضعف (¬2)، ورواه الحاكم وصححه، وتصحيح الحاكم غير معتبر عند أئمة الحديث، وقد تعقبه الإمام الذهبي في نحو مائة حديث موضوع ذكرها في كتابه المستدرك فضلا عن الضعيف والواهي. 2 - يؤيد رد هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ورد عنه تفسير تَسْتَأْنِسُوا بقوله: وتستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها، فثبوت هذا التفسير عنه يرد ما ألصق به، وقد روى هذا التفسير عنه ابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن جرير وابن مردويه (¬3) ولعل الراوي عن ابن عباس وهم حيث فهم من تفسير الاستئناس بالاستئذان أنه الصواب، ¬

_ (¬1) ج 12 ص 214. (¬2) تفسير ابن كثير والبغوي ج 6 ص 91 هامش. (¬3) تفسير الآلوسي ج 18 س 133.

فروى الخبر على ما ظن وهو واهم. ويردها أيضا إجماع القراء السبعة على لفظ (تستأنسوا) ومن المستبعد جدّا أن يقرأ ابن عباس بقراءة يكون الإجماع على خلافها، ولا سيما وهو ممن أخذ القراءة عن زيد بن ثابت وهو عمدة الذين جمعوا القرآن في المصاحف بأمر عثمان رضي الله عنه، وما نقل عن ابن عباس وأبي أنهما كانا يقرءان (تستأذنوا) فمحمول على أنها قراءة تفسير وتوضيح، وأيضا فالقراءة المتواترة الثابتة تَسْتَأْنِسُوا متمكنة في باب الإعجاز من القراءة المزعومة (تستأذنوا). فالاستئذان ينصرف إلى الاستئذان بالقول، وأما الاستئناس فيشمل القول وغيره من الأفعال التي تؤذن بالقدوم كالتسبيح والتحميد والتنحنح وما شابه ذلك، هذا إلى ما تشير إليه القراءة المتواترة من أن يكون الاستئذان يقصد به الأنس وإزالة الوحشة، وعدم إيلام المستأذن عليه، ولا هكذا لفظ (تستأذنوا) فقد يكون الاستئذان مصحوبا بالخشونة، أو الإيحاش أو الإيلام، إلى غير ذلك من الأسرار والمعاني النبيلة التي تظهر لمن يمعن النظر في القرآن. 3 - إن صحت الرواية فيمكن أن تحمل على الخطأ في الاختيار من الكاتب ويكون ذلك على حسب ظن ابن عباس لا بحسب الواقع ونفس الأمر، قال ابن أشتة في كتاب (المصاحف): مراد ابن عباس الخطأ في الاختيار وترك ما هو أولى القراءتين بحسب ظنه. وتكون قراءة ابن عباس مما ترك بسبب جمع الناس على حرف واحد، وهو حرف قريش، فإنهم التزموا جمع ما ثبت بالتواتر دون ما روي آحادا وما ثبت نسخه. 4 - إن هذه الرواية على فرض صحتها رواية آحادية، والآحادي لا يعارض القطعي الثابت بالتواتر، ولا يثبت بها قرآن، ولا سيما وقد خالفت رسم المصحف، فما بالك وهي ضعيفة ومعارضة بروايات أخرى عن ابن عباس كما بينا!

الشبهة الرابعة

الشبهة الرابعة: قالوا: روي عن ابن عباس أنه قرأ: «أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا» فقيل له: إنها في المصحف أفلم يايئس الّذين آمنوا الآية (¬1) فقال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس، وهذا القول يقلل الثقة بكتابة القرآن ورسمه ويعود على القرآن ورسمه بالتحريف. والجواب: 1 - أن هذا القول لم يصح عن ابن عباس، وأنه مختلق عليه قال الإمام الجليل أبو حيان في تفسيره: بل هو قول ملحد زنديق. وقال الآلوسي في تفسيره بعد نقل كلام أبي حيان: وعليه فرواية ذلك- كما في الدر المنثور- عن ابن عباس رضي الله عنهما غير صحيحة، وقال الزمخشري في تفسيره ج 1 ص 655 بعد حكاية هذا الزعم: وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتا بين دفتي الإمام (¬2) وكان متقلبا في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله، المهيمنين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، هذه والله فرية ما فيها مرية. 2 - مما يرد هذه الرواية أن القراءة الصحيحة المتواترة صحت عن ابن عباس فلو كان ما نسب إليه صحيحا لما قرأ بها، قال أبو بكر الأنباري (¬3): روى عكرمة عن ابن أبي نجيح أنه قرأ «أفلم يتبين الذين آمنوا» وبها احتج ¬

_ (¬1) سورة الرعد الآية (31) وكتابتها هكذا في الرسم العثماني بزيادة ألف بعد الياء الأولى. (¬2) يريد بالإمام مصحف عثمان، وغيره من المصاحف التي كتبت بأمر عثمان ووزعت على الأمصار، ومن العلماء من يرى أن المراد بالمصحف الإمام هو المصحف الذي أبقاه عثمان لنفسه. (¬3) تفسير القرطبي ج 9 ص 320.

الشبهة الخامسة

من زعم أنه الصواب في التلاوة، وهو باطل عن ابن عباس؛ لأن مجاهدا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو، وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأيضا لقد أخذ ابن عباس القرآن عن زيد بن ثابت فيمن أخذ عنهم، وزيد كان كاتب الوحي، وهو الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن في عهد عثمان، فغير معقول أن يقرأ ابن عباس على خلاف قراءة زيد بن ثابت وما كتبه في المصاحف العثمانية. وفي مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس أنه سأله عن قوله تعالى: أفلم يايئس الّذين آمنوا فقال ابن عباس: أفلم يعلم بلغة بني ملك، قال- أي نافع- وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم أما سمعت مالك بن عوف يقول: لقد يئس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا (¬1) فلو كانت ثابتة- كما افترى عليه- لما فسرها؛ ولبين للسائل أنها خطأ، ولما استشهد لها بكلام العرب. 3 - على فرض صحة هذه الرواية فهي آحادية فلا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، ولا يثبت بها القرآن ولا سيما وهي مخالفة لرسم المصحف. الشبهة الخامسة: قالوا: روي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إنما هي «ووصى ربك» التزقت الواو بالصاد، وقد ورد هذا الأثر بروايات مختلفة، وفي بعضها: «ولو كان قضاء من الرب لم يستطع أحد رد قضاء الرب، ولكنها وصية أوصى بها العباد». قالوا: وهذا يدل على وقوع تحريف في القرآن. والجواب على ذلك ، نقول: 1 - إن هذه الروايات ضعيفة، ومدسوسة على ابن عباس ونقلها من نقلها ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 121.

الشبهة السادسة

بدون تثبت وتحر قال ابن الأنباري: إن هذه الروايات ضعيفة، والضعف لا يحتج ولا يؤخذ به في دون هذا فما بالك في شيء يتعلق بالقرآن الكريم. 2 - إن ابن عباس رضي الله عنهما قد استفاض عنه أنه قرأ وَقَضى وذلك دليل على أن ما نسب إليه غير صحيح، قال الإمام أبو حيان في البحر المحيط: والمتواتر هو وَقَضى وهو المستفيض عن ابن عباس والحسن وقتادة بمعنى أمر، وقال ابن مسعود وأصحابه: بمعنى وصى، وأما ما روي عن ابن مسعود من أنه كان في مصحفه ووصى وأنه كان يقرأ به فمحمول على التفسير، ولم يكن مصحفه مصحف قرآن فحسب، وإنما مزجه بالتفسير والتأويل لبعض آياته، وذكر بعض الأدعية والمأثورات. 3 - ما استندوا إليه من أن اللفظ القرآني لو كان وَقَضى لما أشرك أحد غير لازم لمن تدبر وتأمل؛ لأن هذا الاعتراض إنما يتجه لو حملنا القضاء على التقدير الأزلي، فأما لو أريد به معناه اللغوي الذي هو البت والقطع فلا يتجه ولا يرد، ولذلك فسر الجمهور قضى بأمر، وهذا التفسير نفسه ثابت عن ابن عباس كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس أنه قال: أمر، وهذا يرد به ما نسب زورا إلى ابن عباس. 4 - إن هذه الروايات معارضة للمتواتر القطعي، وكل ما عارض القطعي فهو ساقط عن الاعتبار. الشبهة السادسة: قالوا: إن ابن عباس كان يقرأ: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا لّلمتّقين (48) [الأنبياء: 48] بدون الواو قبل ضِياءً ويقول: خذوا هذه الواو واجعلوها في الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ وروي عنه أنه قال: انزعوا هذه الواو واجعلوها في الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ونجيب على هذه الشبهة بما يأتي. 1 - إن ما روي عن ابن عباس ضعيف فلا يؤخذ به، ثم هو مخالف

الشبهة السابعة

للقطعي الثابت بالتواتر، فهو مردود لا محالة. 2 - إن ذكر الواو في الآية هو الذي تقضي به البلاغة الفائقة، لا حذفها، سواء أفسر الفرقان بالتوراة أم فسر بالنصر، وقد روي هذا الثاني عن ابن عباس وغيره، ويشهد له قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فالمراد به يوم بدر؛ وبيان ذلك أما على الأول فيكون المراد بالفرقان والضياء والذكر التوراة، وهي فرقان؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل، وضياء لأنها تنير الطريق للسالكين، وهي ذكر لما فيها من التذكير والمواعظ، ومثل هذا الأسلوب يجوز أن يأتي بدون الواو على أنه حال، ويجوز أن يأتي بالواو وكلّ بليغ، ولكن الإتيان بها أبلغ تنزيلا لتغاير الصفة- والحال صفة في المعنى- منزلة تغاير الذوات، ولذلك سر بلاغي؛ وهو الإشارة إلى بلوغها درجة عالية في كونها ضياء، حتى أضحت كأنها جنسا مستقلا برأسه عن سابقه، وهذا السر لا يتم على حذف الواو، ومثل هذا من كلام العرب: إلى المسلك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم وأما على الثاني وهو تفسير الفرقان بالنصر فتكون الواو لازمة البتة لتغاير المعطوف والمعطوف عليه، ويكون المراد بالضياء التوراة أو الشريعة. الشبهة السابعة: قالوا: روي عن ابن عباس في قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النور: 35] أنه قال: هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة، إنما هي «مثل نور المؤمن كمشكاة». [والجواب] وللجواب على ذلك نقول: 1 - إن هذه الرواية معارضة للقطعي الثابت بالتواتر، فهي مردودة وباطلة ولا يثبت بها قرآن قط. 2 - إن هذه الرواية ضعيفة، وأغلب الظن أنها مختلقة عليه، وليس أدل على هذا من أنه قرأ بهذه القراءة المتواترة المعروفة، ولم ينقل عنه أنه قرأ

«مثل نور المؤمن»، وأن المأثور عنه في تفسيرها لا يتفق هو وما نقل عنه؛ فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال: مثل نوره: مثل هداه في قلب المؤمن. وهذا التفسير لا يتأتى إلا إذا عاد الضمير في نُورِهِ على لفظ الجلالة، وهو أرجح الروايتين عنه في مرجع الضمير، ولو سلمنا ما رواه الحاكم عنه من أن مرجع الضمير هو المؤمن فلا يلزم منه رد القراءة المتواترة؛ بل هو تفسير لمرجع الضمير فيها، وأيّا كان المروي عنه فلا يشهد لهذا الدس والاختلاق ويضعف هذه الرواية التي رواها الحاكم عنه أن رجوع الضمير إلى مذكور في الكلام إذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه، أو كان ولكن دلالته عليه خفية خلاف الظاهر جدّا، ولا سيما إذا فات المقصود من الكلام على ذلك (¬1) وإنما تتم الروعة في التمثيل في الآية لو رجع الضمير إلى المذكور، وهو لفظ الجلالة، على أن يكون المراد بالنور الحق الذي قامت عليه السموات والأرض، وصلح به أمر الناس، أو الهدى الذي غرسه الله في قلب المؤمن، وأما على الوجه الآخر ففيه تفكيك للقرآن وتفويت لروعة التمثيل. ولو أن هذا الدس نقل عن أبي بن كعب لكان الأمر أهون إذ هو الذي نقل عنه أنه قرأ «مثل نور المؤمن» وفي رواية «مثل نور المؤمنين» وفي رواية «مثل نور من آمن» (¬2) وهي قراءات شاذة لا يعتد بها ولا يقرأ بها لمخالفتها لرسم المصحف، وعدم تواترها، ولكن شاء الله أن تتم الحبكة في نسج هذه الرواية المكذوبة على ابن عباس، وهكذا الباطل يكون في طيه ما يلقي أضواء على بطلانه. ¬

_ (¬1) انظر تفسير الآلوسي ج 18 ص 165، 166. (¬2) في هذا الاختلاف دلالة قوية على أن ما روي، عن أبي أنه قرأ به إنما مراده به التفسير، وإلا فيبعد أن تكون هذه كلها قراءات ثابتة بالتلقي والسماع، وهذه القراءات التفسيرية كثيرا ما ترد عن بعض الصحابة، والتابعين، فيظن من لا يعرف أنها قراءات تلاوة، والحق ما ذكرنا لك.

الشبهة الثامنة

الشبهة الثامنة: قالوا: روي عن ابن عباس أنه قال: لا تقولوا: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [البقرة: 137] فإن الله تعالى ليس له مثل، ولكن قولوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ وأنه كان يقرأ «فإن آمنوا بما آمنتم به» قالوا: فهذا ينفي القراءة المشهورة التي كتب بها المصحف، ويدل على أن المصحف قد حصل فيه تغيير. والجواب: 1 - هذه الرواية آحادية مخالفة للقطعي الثابت بالتواتر؛ والذي أجمع عليه المسلمون من لدن الصحابة إلى وقتنا هذا، ومخالف القطعي مردود، ثم هي لا يثبت بها قرآن قط. 2 - على فرض ثبوت هذه الرواية، فتحمل على التفسير، وبيان المعنى للقراءة المتواترة، قال ابن عطية الإمام المفسر: هذا من ابن عباس على جهة التفسير، أي: هكذا فليتأول. 3 - إن القراءة المتواترة التي عليها عامة القراء لها وجوه صحيحة ومحامل تحمل عليها، فمنها: أ- إن مَثَلُ زائدة للتأكيد، والمعنى فإن آمنوا بما آمنتم به، وذلك كما قيل في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. ب- إن معنى آمنوا صدقوا والباء زائدة للتوكيد كما زيدت في قوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ والمعنى: فإن صدقوا تصديقا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، وزيادة بعض الحروف والكلمات للتوكيد مستفيض في لغة العرب. الشبهة التاسعة: قالوا: روى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها سئلت عن قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63]، وعن قوله تعالى: إِنَ

والجواب

الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى الآية [المائدة: 69]، وعن قوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء: 162]؛ فقالت: يا ابن أختي هذا خطأ من الكاتب. والجواب: 1 - إن هذه الرواية غير صحيحة عن عائشة، وعلى فرض صحتها فهي رواية آحادية لا يثبت بها قرآن وهي معارضة للقطعي الثابت بالتواتر فهي باطلة ومردودة ولا التفات إلى تصحيح من صحح هذه الرواية وأمثالها فإن من قواعد المحدثين أن مما يدرك به وضع الخبر ما يؤخذ من حال المروي؛ كأن يكون مناقضا لنص القرآن، أو السنة، أو الإجماع القطعي، أو صريح العقل، حيث لا يقبل شيء من ذلك التأويل؛ أو لم يحتمل سقوط شيء منه يزول به المحذور، وهذه الروايات مخالفة للمتواتر القطعي الذي تلقته الأمة بالقبول فهي باطلة لا محالة. 2 - وأما آية إِنْ هذانِ لَساحِرانِ فالذي نص عليه أئمة الرسم والقراءة أن هذن لم تكتب في المصحف العثماني بالألف ولا بالياء، وذلك ليحتمل وجوه القراءات المتواترة كلها، وهذا من أسرار الرسم العثماني، فنسبة الخطأ إلى الكاتب غير معقول، وإنما المعقول أن تخطئ السيدة عائشة رضي الله عنها من يقرأ إِنْ بتشديد النون، وهذان بالألف، وأما من يقرأ بتشديد النون في إِنْ والياء في هذين أو بتخفيف النون في إِنْ والألف في هذانِ فلا وجه في تخطئته، وهذا مما يلقي ضوءا على اختلاف هذه الروايات على عائشة وغيرها، وأنها من وضع الملاحدة، كي يشككوا المسلمين في كتابهم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد قرئ هذا الجزء من الآية القرآنية بقراءات سبعة متواترة، وهاك بيانها: أ- قرأ أبو عمرو: إنّ هذين لسحران بتشديد النون في إِنْ والياء في هذين وهذه القراءة الثابتة قد سلمت من مخالفة المصحف، وجارية

في الإعراب على المهيع المعروف الظاهر، فلا إشكال فيها أصلا. ب- وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه إِنْ هذانِ بتخفيف النون في إِنْ والألف في هذانِ غير أن ابن كثير يشدد نون هذانِ وهذه القراءة أيضا سلمت من مخالفة الرسم العثماني، ومن مخالفة العربية وتخرّج على أن إِنْ هي المخففة، وهي مهملة وهذانِ مبتدأ ولَساحِرانِ خبره، واللام هي الفارقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة ويجوز أن يكون اسمها ضمير الشأن، والجملة بعدها من المبتدأ والخبر خبرها وقيل إن إِنْ نافية، واللام بمعنى إلا، والتقدير ما هذان إلا ساحران، ويشهد له قراءة أبي إن ذان إلا ساحران وهي قراءة تفسير وتوضيح. ج- وقرأ الباقون إِنْ هذانِ لَساحِرانِ بتشديد نون إن وبالألف في هذان، وهي موافقة للرسم، ولكنها مشكلة في الإعراب، وهذه القراءة هي التي زعم الزاعمون أنها خطأ ونسبوا ذلك زورا إلى السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، وهذه القراءة لها وجوه صحيحة في العربية، وقد أفاض في بيانها العلماء، وأحسن هذه الوجوه وأجودها (¬1) أنها جارية على لغة بعض العرب في إلزام المثنى الألف في جميع حالته، وهي لغة لكنانة، ولبني الحارث بن كعب، والخثعم، وزبيد، ومراد وغيرهم، ولذلك شواهد كثيرة من مثل قول الشاعر العربي: واها لسلمى ثم واها واها ... يا ليت عيناها لنا وفاها وموضع الخلخال من رجلاها ... بثمن نرضي به أباها إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها وقد اعتبر العلامة ابن هشام النحوي هذه القراءة أقيس إذ الأصل في ¬

_ (¬1) من أراد استيعابا لما قاله العلماء في توجيه هذه القراءة من الآراء وشواهده في العربية فليرجع إلى تفسير القرطبي ج 11 ص 216، وما بعدها، وتفسير الآلوسي ج 16 ص 222 وما بعدها، ومقدمتان في علوم القرآن ص 109 وما بعدها.

المبني أن لا تختلف صيغته، مع أن فيها مناسبة لألف لَساحِرانِ. 3 - وأما عن آية وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ فلا يصح ذلك عنها، قال الإمام أبو حيان في البحر المحيط ما نصه: وذكر عن عائشة رضي الله عنها، وعن أبان بن عثمان أن كتبها بالياء من خطأ الكاتب، ولا يصح ذلك عنها، لأنهما عربيان فصيحان، وقطع النعوت أشهر في لسان العرب، وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره، وعلى القطع خرج سيبويه ذلك، ولعلك على ذكر مما ذكرته آنفا عن الزمخشري في كشافه، في الرد على من طعن في هذه القراءة المتواترة. 4 - وأما قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) فله وجوه ومحامل صحيحة في العربية. وأحسن هذه الوجوه أن يكون وَالصَّابِئُونَ مقدم من تأخير، وخبر إن قوله مَنْ آمَنَ إلى إلخ، ويكون خبر وَالصَّابِئُونَ محذوف لدلالة خبر إن عليه، والتقدير: والصابئون والنصارى كذلك، ولعل السر في التقديم، وذكرهم بين طوائف أهل الأديان الدلالة على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها تقبل توبتهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح، فغيرهم من أهل الأديان أحرى وأولى ومثل هذا الاستعمال العربي قول الشاعر: فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني- وقيار بها (¬1) - لغريب أو يكون قوله: وَالصَّابِئُونَ وما عطف عليه استئناف آخر، والخبر من آمن إلخ، وقد أغنى هذا الخبر عن خبر إن، ومثل هذا الاستعمال قول الشاعر العربي: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف فقد حذف الخبر من الأول لدلالة الثاني عليه، أي نحن بما عندنا راضون. ¬

_ (¬1) قيار: اسم حماره.

الشبهة العاشرة

الشبهة العاشرة: قالوا: كيف اعتمدتم المصحف وفيه من الخطأ الظاهر واللحن والاختلاط ما لا يكاد يخفى على من له علم بالعربية ومثلوا لذلك بما يأتي: أ- قوله تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة: 177] والظاهر «والصابرون». ب- قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء: 3]، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ [المائدة: 71] والظاهر أن يقول: (وأسرّ) (عمي) (صمّ). ج- قوله تعالى: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون: 10] وكان الظاهر أن يقول «وأكون». والجواب: أن هذه مزاعم باطلة منشؤها الجهل بلغات العرب ومذاهبهم في الخطاب، وأساليبهم في البيان، وقد شاء الله سبحانه- وله الحكمة البالغة- أن يجيء القرآن الكريم- عدا اللغة القرشية السائدة فيه- مشتملا على بعض لغات العرب واستعمالاتهم سواء في ذلك الفصيح والأفصح ولذلك سر؛ ذلك أن القرآن هو كتاب العربية الأكبر، وجامعة العرب الكبرى، ومرجعهم الأوثق في معرفة أساليب العرب في البيان، ومذاهبهم في التعبير، فكان الأليق والأوفق أن يأتي مشتملا على المقبول السهل منها غير المستهجن والمستثقل، ليجد العرب فيه ما يرضي أذواقهم وملكاتهم، وإليك بيان وجه الحق فيما ذكر. أ- أما قوله: وَالصَّابِرِينَ فهو منصوب على المدح يعني وأمدح الصابرين، وإنما غاير في الأسلوب، ولم يأت على نسق ما سبقه، تبيانا لفضيلة الصبر، وبيان منزلته من البر، فكأن الله سبحانه يبين لنا أنه وإن جاء في الذكر آخرا فهو بمكان من الفضيلة والمثوبة الحسنة. وقد قدمت عن أئمة اللغة والنحو ما للعرب من التفنن في النصب على الاختصاص، وغير

الشبهة الحادية عشرة

خفي ما لتغير الأسلوب، والتفنن في الخطاب من أثر جليل من الناحية النفسية، لأنه يجذب الانتباه، ويوقظ الشعور، ويحمل العقول على التساؤل والبحث، فتتمكن المعاني في النفس فضل تمكن؛ فلله در التنزيل، فكم له من أسرار ولطائف. ب- وأما قوله وَأَسَرُّوا ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا فهو وارد على بعض لغات العرب، وهي لغة: أكلوني البراغيث، ولها شواهد كثيرة في العربية، وهذه اللغة تخرج على أن اللواحق بالأفعال ليست ضمائر وإنما هي علامات على التثنية أو الجمع، وما بعدها هو الفاعل، أو أن تكون اللواحق هي الفاعل والظواهر بعدها بدل منها، أو فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور، والتقدير في الآية مثلا: وأسروا النجوى أسرها الذين ظلموا. ج- وأما قوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ففيها قراءتان سبعيتان: الأولى: وأكون بالنصب، وبها قرأ أبو عمرو، ووجهها ظاهر، الثانية: وَأَكُنْ بالجزم، وتخرج على أنها عطف على المعنى، فإن الكلام في معنى الشرط، فكأنه سبحانه قال: «إن أخرتني إلى أجل قريب أصدق وأكن» وهذا النوع يسميه النحويون العطف على التوهم، وهو باب معروف في العربية. الشبهة الحادية عشرة: ما رواه الإمام أحمد بسنده، عن إسماعيل المكي قال: حدثنا أبو خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقالت: مرحبا بأبي عاصم ما يمنعك أن تزورنا أو تلم بنا فقال: أخشى أن أملك فقالت: ما كنت لتفعل، قال: جئت لأسألك عن آية من كتاب الله عز وجل كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها؛ قالت: أية آية قال: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أو «الذين يأتون ما أتوا» فقالت: أيتهما أحب إليك فقلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحب إلى من الدنيا جميعا، أو الدنيا وما فيها. قالت وما هي فقلت «الذين يأتون ما أتوا» فقالت: أشهد أن رسول الله

والجواب

صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرأها وكذلك أنزلت ولكن الهجاء حرف، فهي توهم أن القراءة الأخرى غير ثابتة، وأن الرسم ليس بمجمع عليه. والجواب: 1 - أن هذه الرواية في سندها إسماعيل المكي وهو ضعيف (¬1) فلا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، ولا يثبت بها قرآن، حتى ولو كانت صحيحة. 2 - هذه الرواية على فرض صحتها لا تفيد إنكار القراءة الثابتة التي أجمع عليها السبعة، وهي: يُؤْتُونَ ما آتَوْا (¬2) وقولها: إن رسول الله كان يقرأ بها وكذلك أنزلت، لا ينافي أن تكون القراءة المتواترة منزلة، وقرأ بها النبي ولا سيما وهي المتواترة التي أجمع عليها القراء السبعة، وأما القراءة الأخرى التي وافقت السيدة عائشة السائل على استحسانها فهي غير متواترة ولا يثبت بها قرآن، وقد ذكرت في بعض كتب الحديث؛ ولكن لم يروها القراء من طرقهم (¬3) ولعلها مما نسخ من القراءات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو مما ترك عند جمع القرآن لعدم ثبوتها وتواترها، وأما قولها: إن الهجاء حرف فالمراد بالحرف اللغة أي: القراءة الثابتة لغة، ووجه من وجوه الأداء للقرآن، ولا يصح أن تريد من الحرف الخطأ والتحريف إذ اللغة لا تشهد له. الشبهة الثانية عشرة: قالوا: روي عن خارجة بن زيد أنه قال: قالوا لزيد: يا أبا سعيد أوهمت إنما هي: ثمانية أزواج من الضأن اثنين اثنين، ومن المعز اثنين اثنين، ومن الإبل اثنين اثنين، ومن البقر اثنين اثنين، فقال: لا، إن الله تعالى يقول: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) فهما زوجان كل واحد ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثيرة والبغوي ج 6 ص 26. (¬2) القراءة المتواترة من الإتيان وهو الإعطاء، أي: يعطون ما أعطوا، وأما الثانية فمن الإتيان بمعنى الفعل أي: يفعلون ما يفعلون. (¬3) تفسير الآلوسي ج 17 ص 44.

والجواب

منهما زوج، الذكر زوج، والأنثى زوج. قالوا: فهذه تدل على تصرف النساخ في المصحف، واختيارهم ما شاءوا في كتابة القرآن. والجواب: إن هذه الرواية- على تسليم صحتها- لا تدل على ما زعموا وإنما هي بيان وتوجيه لما كتبه وقرأه، وثبت عنده سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم لا تصرفا من تلقاء نفسه، وقد فهم المستشكل أن الزوج لا يطلق إلا على الاثنين المتزاوجين فبين له سيدنا زيد رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن الزوج كما يطلق على الاثنين المتزاوجين يطلق على كل واحد منهما أنه زوج، واستدل له بالقرآن الكريم الذي هو الحجة البالغة، وقد اقتنع السائل وسكت، والصحابة الذين كتبوا القرآن، والذين حملوه، وبلغوه لمن بعدهم كانوا الغاية في الضبط، والتثبت والأمانة الفائقة، وفي الذروة منهم زيد بن ثابت، الذي كان كاتب الوحي بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي حمل العبء الأكبر في جمع القرآن في عهد الصديق، وعهد عثمان رضي الله تعالى عنهما. «رد عام»: وهنا رد عام، يرد به على كل ما سبق من شبه، وهو أن العمدة في القرآن وحفظه هو التلقي، والسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمع منه أو سمع ممن سمع منه، وهكذا حتى وصل إلينا القرآن غضا كما أنزل ولم يكن يؤخذ القرآن من الصحف، أو المصاحف المكتوبة وإنما كان القصد من المكتوب معاضدة المحفوظ، والرجوع إليه عند الاختلاف في القراءة، أو الرسم، وأن الذين عزيت إليهم هذه الروايات، ولا سيما ابن عباس وتلامذته، قد قرءوا بالقراءات الثابتة المتواترة على خلاف ما نقل عنهم من الطعن فيها مما يدل على بطلان هذه الطعون.

(شكل القرآن)

وبعده: فلعلك رأيت معي أن هذه الشبه وأمثالها أوهى من بيت العنكبوت فلا تلق إليها بالا، ولعلك ازددت يقينا بأن القرآن كما هو في المصاحف اليوم، هو هو ما أنزل على نبينا محمد، وأن كل ما يخالف هذا المتواتر القطعي فهو مردود باطل، وأن القرآن لا يثبت برواية آحادية، ولو بلغت أعلى درجات الصحة، فكن على ذكر من كل ذاك، ثبتنا الله وإياك بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. (شكل القرآن) الشكل: هو ما يدل على عوارض الحرف؛ من حركة وسكون، سواء أكان ذلك في أول الكلمة أو وسطها أو آخرها، قال في القاموس مادة شكل: والكتاب أعجمه كأشكله؛ كأنه أزال عنه الإشكال أي: وشكل الكتاب ولا شك أن ما يميز الحرف من جهة كونه متحركا أو ساكنا يزيل إبهامه، وإشكاله، فبين المعنى اللغوي والاصطلاحي مناسبة ظاهرة. وقد اتفق المؤرخون على أن العرب في عهدهم الأول لم يكونوا يعرفون الشكل بمعناه الاصطلاحي بل كانوا ينطقون بالألفاظ مضبوطة مشكولة بحسب سليقتهم وفطرتهم العربية من غير لحن، ولا غلط، لما كان متأصلا في نفوسهم من الفصاحة والبلاغة، واستقامة ألسنتهم على النطق بالألفاظ المؤلفة على حسب الوضع الصحيح من غير حاجة إلى معرفة القواعد، ولذا لما كتبت المصاحف في العهد الأول جردت من الشكل والنقط، اعتمادا على هذه السليقة، وعلى أن المعول عليه في القرآن هو التلقي والرواية، فلم يكن بهم حاجة إلى الشكل، فلما اتسعت رقعة الإسلام واختلط العرب بالعجم فسدت الفطرة العربية، ودخل اللحن في الكلام، وحدثت حوادث نبهت المسلمين إلى القيام بحفظ القرآن الذي هو أصل الدين ومنبع الصراط المستقيم من أن يتطرق إليه اللحن والخطأ، وكان قد ظهر في المسلمين من عرف أصول النحو وقواعده، وبرع في حفظ القرآن وقراءاته، أمثال أبي الأسود الدؤلي، ويحيى بن يعمر العدواني قاضي

إعجام القرآن

خراسان، ونصر بن عاصم الليثي، وقد حدث أن سمع أبو الأسود الدؤلي قارئا يقرأ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ بجر رسوله فأفزعه ذلك وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، وذهب إلى زياد والي البصرة، وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت، وكان زياد قد سأله أن يضع للناس علامات تدل على الحركات والسكنات فجعل للفتحة نقطة فوق الحرف، وللكسرة نقطة أسفله، وللضمة نقطة بين الحرف، وللتنوين نقطتين، وسار الناس على هذا النهج مدة، ثم بدءوا يزيدون ويبتكرون فجعلوا علامة للحرف المشدد كالقوس ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها على حسب ما قبلها من فتحة، أو كسرة، أو ضمة حتى كان عبد الملك بن مروان، واضطروا إلى وضع النقط الذي هو الإعجام للباء والتاء والثاء إلخ، فالتبس النقط بالشكل، فجعلوا لكل منهما مدادا مخالفا للون الآخر، ثم وضعوا للشكل علامات أخرى وهي العلامات المعروفة اليوم؛ للفتحة والكسرة والضمة والشدة ونحوها، فجعلوا الفتحة ألفا أفقية من فوق الحرف والكسرة ألفا من تحت الحرف والضمة على هيئة رأس الواو والتنوين جعلوه حركة أخرى من جنس ما قبله: ضمة أو فتحة أو كسرة. وبذلك صار القرآن مشكولا. إعجام القرآن الإعجام هو ما يدل على ذوات الحروف، وتمييز الحروف المتماثلة في الرسم بعضها عن بعض، قال في القاموس وشرحه تاج العروس مادة عجم: وأعجم فلان الكلام أي: ذهب به إلى العجمة- بالضم- وكل من لم يفصح بشيء فقد أعجمه، وأعجم الكتاب خلاف أعربه- كما في الصحاح- أي: نقطه، وفي النهاية أزال عجمته كعجمه عجما وعجمه تعجيما ... وقال ابن جني: أعجمت الكتاب أزلت استعجامه، قال ابن سيده: وهو عندي على السلب ... وقالوا عجمت الكتاب فجاءت فعلت للسلب أيضا، كما جاء أفعلت وله نظائره وقد تقدم في مادة شكل أن الشكل هو: الإعجام فكل منهما يرادف الآخر لغة، غير أن الاصطلاح فرق بينهما

اول من نقط المصاحف

كما علمت فخص الشكل بالحركات، والإعجام بالنقط. ولم تكن المصاحف منقوطة في مبدأ الأمر؛ لأن الاعتماد لم يكن على القراءة من المصحف، بل كان على التلقي والسماع، ولتبقى صورة الكلمة الواحدة في الخط صالحة لكل ما صح وثبت من وجوه القراءات، ولما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء أخرجه أبو عبيد وغيره. [اول من نقط المصاحف] وقد اختلف المؤرخون في النقط: فمنهم من يرى أن الإعجام كان معروفا قبل الإسلام لتمييز الحروف المتشابهة، غير أنه ترك عند كتابة المصاحف لما ذكرنا، ومنهم من يرى أن الإعجام لم يعرف إلا من طريق أبي الأسود الدؤلي، ثم اشتهر ووضع في القرآن في عهد عبد الملك بن مروان والظاهر الأول، لأنه يبعد جدّا أن لا يكون للحروف علامات تميز المتشابهات بعضها عن بعض. ومهما يكن من شيء فقد اشتدت الحاجة إليه حينما اتسعت رقعة الإسلام، واختلط العرب بالعجم، وبدأ اللبس والإشكال في قراءة المصاحف، حتى ليشق على الكثير منهم أن يميزوا بين حروف القرآن وقراءاته في مثل قوله تعالى: ننشرها ونُنْشِزُها وقوله: فَتَبَيَّنُوا فتثبتوا فاهتم عبد الملك بن مروان بذلك وأمر الحجاج أن يعنى بهذا الأمر الجليل، فاختار الحجاج له رجلين من خيرة المسلمين نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني، تلميذي أبي الأسود الدؤلي، وكانا من الورع والصلاح؛ وبلوغ الغاية في العربية، والقراءات بمكان، فوضعا النقط من واحدة إلى ثلاث للحروف المتشابهة، وكان في هذا توفيق عظيم للأمة إلى هذا العمل الذي يتوقف عليه حفظ القرآن الكريم. وقيل أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي وأن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر، ويمكن التوفيق بين هذا وما تقدم بأن أبا الأسود أول من نقط المصحف بصفة شخصية، وتبعه في ذلك ابن سيرين، وأما عبد الملك فأول من أمر بنقط المصحف بصفة عامة رسمية شاعت

ما استحدث في كتابة المصاحف

وذاعت بين الناس قاطبة. ما استحدث في كتابة المصاحف: وأما ما استحدث في كتابة المصاحف من التحزيب والتجزئة والتخميس والتعشير (¬1) وكتابة فواتح السور وخواتمها، ونحو ذلك فكل ذلك مما زيد لغرض التيسير على القارئ، ولكن ليس له من الأهمية ما للشكل والنقط قال قتادة: بدءوا فنقطوا ثم خمسوا وعشروا، وقال غيره: أول ما أحدثوا النقط عند آخر الآي ثم الفواتح والخواتم. وقد جزأ العلماء القرآن تجزئات شتى: منها التجزئة إلى ثلاثين جزءا وأطلقوا على كل واحد منها اسم الجزء بحيث لا يخطر بالبال عند الإطلاق غيره، فإذا قال قائل: قرأت جزءا من القرآن تبادر للذهن أنه قرأ جزءا من الأجزاء الثلاثين، ثم جزؤا كل واحد من هذه الأجزاء الثلاثين إلى جزءين، وقد أطلقوا على كل واحد منها اسم الحزب؛ فصارت الأحزاب ستين حزبا، فمثلا من أول الفاتحة إلى قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ جزء: ومن سَيَقُولُ السُّفَهاءُ إلى تِلْكَ الرُّسُلُ جزء وهكذا، ومن أول الفاتحة إلى قوله وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ حزب، ومن أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ إلى وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ حزب، وهكذا وجعلوا الجزء ثمانية أرباع، والحزب أربعة أرباع؛ وقد جرت عادة كثير من نساخ المصاحف أن يذكروا اسم الأجزاء والأحزاب والأرباع في حاشية المصحف غير أنهم يكتبون ذلك بخط مخالف لخطه ومداد مخالف لمداده تحوطا من أن يظن أنه من القرآن. حكم نقط المصحف وشكله وما شابه ذلك: كان العلماء في الصدر الأول يرون كراهة نقط المصحف وشكله ونحوهما مبالغة منهم في المحافظة على القرآن من التزيد، وكتابته في ¬

_ (¬1) التخميس كتابة لفظ خمس، عند رأس كل خمس آيات، والتعشير كتابة لفظ عشر، عن رأس كل عشر آيات، ومنهم من يكتفي بكتابة حرفي (خ)، (ع).

احترام المصحف

المصاحف على هيئة ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج أبو عبيد، عن النخعي أنه كره نقط المصاحف وأخرج ابن أبي داود عنه أنه كان يكره العواشر، والفواتح، وتصغير المصحف وأن يكتب فيه سورة كذا وكذا، ولما أتي بمصحف مكتوب فيه سورة كذا، كذا آية قال: امح هذه فإن ابن مسعود كان يكرهه، وعن الإمام مالك أنه كره العشور التي تكون في المصحف بالحمرة وغيرها، وعنه أنه قال: لا بأس بالنقط في المصاحف التي يتعلم فيها الغلمان، أما الأمهات فلا. ولكن الحال قد تغيرت عما كان في العهد الأول: فاضطر المسلمون إلى نقطه وشكله للمحافظة على القرآن من اللحن والتغيير والتصحيف، وللتيسير على الحفاظ والقارئين، وبعد أن كانوا يكرهون ذلك صار واجبا أو مستحبا، لما هو مقرر في علم الأصول من أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، قال الإمام النووي في التبيان ما نصه: قال العلماء: ويستحب نقط المصحف وشكله، فإنه صيانة من اللحن فيه وتصحيفه، وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط فإنما كرها ذلك في ذلك الزمان خوفا من التغيير فيه، وقد أمن ذلك اليوم، فلا منع، ولا يمنع من ذلك لكونه محدثا، فإنه من المحدثات الحسنة فلا يمنع منه كنظائره، مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات، وغير ذلك والله أعلم والخطب في هذا ونحوه مثل التنبيه على الوقوف والسكتات سهل ما دام الغرض هو التيسير والتسهيل على القارئ، وما دام الأمر بعيدا عن اللبس والتزيد والاختلاق وما دام الأمن متوفرا. احترام المصحف: لا يكاد التاريخ الصادق يعرف كتابا أحيط بهالة من التقديس والتكريم مثل ما عرف ذلك للقرآن الكريم، ولا عجب فقد وصفه الحق جل وعلا بأنه كتاب مكنون، وحكم بأنه لا يمسه إلا المطهرون، وأقسم على ذلك حيث يقول: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ

(76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) [الواقعة: 75 - 80] ولقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن السفر به إلى أرض العدو، إذا خيف وقوع المصحف في أيديهم، كما روي في الصحيحين، وقد أفتى العلماء بكفر من مزقه أو أهانه أو رمى به في قاذورة، وبحرمة من باعه لكافر، ولو ذميّا، وأوجبوا الطهارة لمسه وحمله، بل قالوا لكل ما يتصل به من خريطة (¬1) وغلاف، وصندوق على الصحيح، واستحبوا تحسين كتابته وإيضاحها، وتحقيق حروفها، وتعظيمها، وعدم تصغيرها، كما استحبوا تعظيمه والقيام له، قال الإمام النووي: ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قدم به عليه؛ لأن القيام يستحب للعلماء والأخيار فالمصحف أولى. ويجب على من عنده مصاحف أو أوراق منها غير صالحة للقراءة أن يصونها عن مواطئ الأقدام وعن عبث الصبيان، وعليه أن يحرقها أو يدفنها في الأرض بعيدا عن مواطئ الأقدام والقاذورات، رزقنا الله سبحانه التأدب معه ومع كتابه. ... ¬

_ (¬1) الكيس من الجلد الذي يوضع فيه.

المبحث العاشر ثبوت النص القرآني بالتواتر المفيد للقطع واليقين

المبحث العاشر ثبوت النص القرآني بالتواتر المفيد للقطع واليقين لم يعرف التاريخ في عمره الطويل كتابا أحيط بسياجات من العناية والرعاية مثل ما عرف ذلك للقرآن الكريم، ولا كتابا ثبت في جملته وتفصيله بالتواتر المفيد للقطع واليقين مثل ما عرف ذلك للقرآن الكريم، ولا كتابا أوجب الله حفظه على الأمة كلها غير القرآن الكريم، ولا كتابا سلم من التحريف والتبديل غير القرآن الكريم. وقد احتاط النبي صلوات الله وسلامه عليه، والصحابة رضوان الله عليهم لهذا الكتاب غاية الاحتياط، فلم يكتفوا بحفظه في الصدور، وعلى صفحات القلوب، وإنما جمعوا إلى الحفظ الكتابة في الرقاع، والعسب، والأكتاف، واللخاف ونحوها، ثم في الصحف ثم في المصاحف كما بينت ذلك فيما سبق من الفصول، وبذلك اجتمع للقرآن الوجودان: الوجود في الأذهان والصدور، والوجود في الكتابة والصدور. ولم يكن المعول عليه في حفظ القرآن وتلقيه الأخذ من الرقاع، والصحف، والمصاحف، وإنما كان المعول عليه الأول التلقي الشفاهي، والأخذ بالسماع، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ عن أمين الوحي جبريل عليه السلام، وعن النبي أخذ الكثير من الصحابة النجباء، العدول، الضابطين الأمناء، وعن الصحابة أخذ الألوف من التابعين الفضلاء، وهكذا نقله العدد الكثير، عن العدد الكثير، حتى وصل إلينا كما أنزله الله من غير زيادة، ولا نقصان، ولا تغيير، ولا تحريف مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وقد كان من أسباب توثيق النص القرآني، حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، وحفظ الصحابة له. حفظ النبي للقرآن: قلنا فيما سبق أن أول آيات نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي صدر سورة اقرأ إلى

حرص النبي على القرآن

قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5). ثم فتر الوحي مدة كي يشتاق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد فترة الوحي نزل القرآن، وتتابع، وكان أول آيات نزلن بعد هذه الفترة صدر سورة المدثر إلى قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [المدثر 5]. ثم حمى الوحي وتتابع حتى نزول القرآن كله قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بواحد وعشرين يوما، وقيل: بأحد عشر يوما، وقيل: بتسع ليال، وكان آخر ما نزل على الصحيح هو قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]. حرص النبي على القرآن: وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد العناية بحفظ القرآن، وحريصا على تلقفه من جبريل عليه السلام حتى بلغ من شدة عنايته به، وحرصه عليه أنه كان يحرك به لسانه أكثر من المعتاد عند قراءته، ويعالجه أشد المعالجة حتى كان يجد من ذلك شدة، يقصد بذلك استعجال حفظه خشية أن تفلت منه كلمة، أو يعزب عنه حرف حتى طمأنه ربه، ووعده أن يحفظه له في صدره، وأن يقرئه لفظه، وأن يفهمه معناه فأنزل عز شأنه قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) [القيامة: 16 - 19] أي: جمعه لك في صدرك، وإقراءه لك بوساطة أمين الوحي جبريل، فإذا قرأه جبريل فأنصت، حتى إذا فرغ، فاقرأ عليه ما سمعت منه. ثم إنا سنتكفل لك أيضا ببيان تفسيره، وتوضيح ما أجمل منه، وإزالة إشكال ما عسى أن يستشكل منه، وهو ضمان من الله- عز وجل- بأنه لن يخشى النسيان، أو أن تتفلت منه كلمة أو حرف، وقد ورد تفسير هذه الآيات عن ابن عباس (¬1) رضي الله عنهما. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري باب كيف كان بدء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

معارضة جبريل النبي بالقرآن

معارضة جبريل النبي بالقرآن: وكان من الدواعي القوية لحفظ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن وتثبيته في قلبه الشريف معارضة جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان من كل عام؛ روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة (¬1) فكان جبريل عليه السلام يقرأ والنبي يسمع حينا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وجبريل يسمع، حتى كان العام الذي توفي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فعارضه جبريل بالقرآن مرتين، وقد شهد العرضة الأخيرة أحد مشاهير كتاب الوحي لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وهو زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه. روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلت فاطمة تمشي، وكانت مشيتها (¬2) مشى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مرحبا بابنتي» ثم أجلسها عن يمنيه، أو (¬3) عن شماله، ثم أسر إليها حديثا فبكت، فقلت لها: لم تبكين! ثم أسر إليها حديثا فضحكت، فقلت ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عما قال: فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فسألتها، فقالت: أسر إليّ: أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه (¬4) إلا حضور أجلي، وإنك أول أهل بيت لحاقا بي فبكيت، فقال: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين»، فضحكت (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- باب كيف كان بدء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) مشيتها- بكسر الميم- أي: هيئة مشيتها. (¬3) أو للشك من الراوي. (¬4) بضم الهمزة بمعنى أظنه. (¬5) صحيح البخاري- باب علامات النبوة.

الحفظ عن ظهر قلب خصيصة للقرآن

وكان القرآن شغل النبي الشاغل في صلاته، وتهجده، وفي سره وعلانيته، وفي حضره، وسفره، وفي وحدته، وبين صحابته، وفي عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، ولا يغيب عن قلبه، ولا يألوا جهدا في تعهده وتكراره والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والاعتبار بمواعظه، وقصصه، والتأثر بأمثاله، وحكمه، والتأدب بآدابه، وأخلاقه وتبليغه إلى الناس كافة. كما كان أعلم الناس بأسباب نزوله، ومواقع تنزلاته، ومدلول خطاباته وأحكامه وآدابه، وحدوده، ومعالمه، وظاهره، وباطنه، فمن ثم كان أشد الناس حفظا له، وإجادة لقراءته، ومعرفة لحروفه، وقراءاته، وكان المرجع الأول للمسلمين في حفظ القرآن، وفهمه، والوقوف على معانيه، وأسراره ومراميه والتثبت من نصوصه، وحروفه وقراءاته. الحفظ عن ظهر قلب خصيصة للقرآن: ومن خصائص هذا الكتاب السماوي الكريم أن الله عز وجل كلف الأمة الإسلامية بحفظه كله بحيث يحفظه عدد كثير يثبت بهم التواتر المفيد للقطع واليقين على هذا الوضع، وبهذا الترتيب الذي وجد، ويوجد في المصاحف العثمانية من لدن الصحابة إلى اليوم، فإن لم يحفظه عدد يثبت بهم التواتر أثمت الأمة كلها. بخلاف التوراة والإنجيل والزبور، وصحف إبراهيم، وموسى، وغيرها مما أنزله الله تبارك وتعالى، فلم تكلف أممها بحفظها عن ظهر قلب، بل ترك ذلك لاختيار من يريد، فمن شاء حفظ، ومن شاء اعتمد في القراءة على المكتوب، وهذا الأخير هو الأعم الأغلب من شأن بني إسرائيل وغيرهم، ولم تتوفر الدواعي لحفظ هذه الكتب والصحف كما توفرت للقرآن الكريم. فمن ثم لم يكن لها من ثبوت النص القطعي الموثوق به مثل ما للقرآن العظيم، ومن هنا سهل التحريف، والتبديل في التوراة والإنجيل من

الحكمة في تكليف الأمة بحفظ القرآن

الأحبار والرهبان والقسس، وبعضها كالصحف ضاع بمرور الزمن، ولم يبق له وجود. الحكمة في تكليف الأمة بحفظ القرآن: والسر في أن الله سبحانه وتعالى كلف الأمة المحمدية بحفظ القرآن العظيم، ولم يكلف الأمم السابقة بحفظ كتبها، وصحفها- أن هذه الكتب لم تكن معجزة بألفاظها ولم يشأ الله ذلك لحكمة يعلمها، بخلاف القرآن الكريم، فقد شاء الله سبحانه- وله الحكمة البالغة- أن يكون معجزا بلفظه فضلا عن معانيه، فكان من الضروري المحافظة على النص بالطريق المفيدة للقطع واليقين، وليس ذلك إلا بأن يحفظه العدد الكثير في كل جيل وعصر، الذين لا يجوز عليهم الكذب، ولا الغلط، ولا السهو، وهو ما يعرف في علم الرواية بالتواتر وقد وفر الله له من الدواعي إلى حفظه ما لم يتوفر لغيره من الكتب السماوية، بله (¬1) الأرضية وأيضا من الحكم أن القرآن هو الأصل الأصيل للدين العام الخالد الباقي ما بقي إنسان على وجه هذه الأرض، وهو الإسلام، فكان لا بد من المحافظة على كتابه، ليخلد خلود هذا الدين الذي يعتبر القرآن أصلا له. بخلاف التوراة والإنجيل، فقد كانتا كتبا لدينين يمثلان طورين خاصين محدودين بحدود الزمان والمكان، من الأطوار التي مرت بها الأديان السماوية حتى وصلت إلى الاكتمال، في دين الإسلام قال صلى الله عليه وسلم: «وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» رواه البخاري ومسلم. الأدلة على وجوب حفظ القرآن على الأمة: 1 - ما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم، قلت: أي: ربي إذن يثلغوا رأسي، حتى يدعوه خبزة» (¬2) فقال: «إني مبتليك، ومبتل بك، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء، ¬

_ (¬1) بله اسم فعل بمعنى دع أي دع الكتب غير السماوية فأمرها مفروغ منه. (¬2) أي: مهشما كالقطعة من الخبز.

حفظ الصحابة للقرآن الكريم

تقرؤه نائما (¬1)، ويقظان، فابعث جندا أبعث مثلهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأنفق ينفق عليك» فقد أخبر سبحانه وتعالى أن القرآن لا يكتفى في ثبوته وحفظه بصحيفة أو لوح يغسل بالماء، وإنما محله القلوب، والصدور، وذلك بالحفظ عن ظهر قلب، فإذا انضم إلى الحفظ في الصدور، الكتابة في الصحف فقد ازداد التوثق، والاطمئنان، وقوله: «لا يغسله الماء» صيغة نفي ولكن النفي قد يأتي للنهي والنهي عن غسله بالماء يستلزم عادة الأمر بحفظه فهو مثل قوله لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) وقوله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ. 2 - ما ورد في وصف الأمة الإسلامية أناجيلهم في صدورهم، أي: كتابهم المقدس المعول عليه في بقائه وسلامته من التحريف والتبديل، الحفظ في الصدور بخلاف أهل الكتاب، فإنهم لا يحفظون كتابهم إلا من الصحف، ولا يقرءونه كله إلا نظرا، لا عن ظهر قلب، كما هو الشأن في جمهرة المسلمين، وذكر هذا الوصف في معرض المفاضلة بينهم وبين غيرهم يدل على أن هذا أمر مختص بهم. 3 - ما رواه البخاري في صحيحه في قصة الرجل الذي أراد أن يتزوج المرأة التي عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له بها حاجة، ولم يكن يملك شيئا ليكون مهرا لها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم،: «فما معك من القرآن»، قال: سورة كذا وكذا، قال: «أتقرؤهن عن ظهر قلب»، قال: نعم، قال: «فاذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن» (¬2) وهذا الحديث وإن لم يدل على الوجوب ولكنه يدل على أن الحفظ عن ظهر قلب أمر مرغوب فيه، ومستحب، وفضيلة من الفضائل التي يختص بها المسلمون. حفظ الصحابة للقرآن الكريم: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه الآية، أو الآيتان، أو الخمس أو ¬

_ (¬1) أي: مستلقيا أو مضطجعا كهيئة النائم. (¬2) صحيح البخاري- كتاب فضائل القرآن- باب القراءة عن ظهر قلب.

العشر، أو السورة، يقرأها على أصحابه، ويحفظهم إياها، ويفقههم بها ويبين لهم طريقة أدائها، وآداب تلاوتها، كي يحفظوا اللفظ، ويفقهوا المعنى، ويلتزموا ما نزل عملا، وسلوكا، ويستقيموا عليه. وقد أحل الصحابة- رضوان الله عليهم- القرآن في المحل الأول من نفوسهم، وأنزلوه المنزلة اللائقة به، يتنافسون في حفظ لفظه، ويتسابقون في فقه معناه، وجعلوه متعبدهم في ليلهم، ومسلاتهم في فراغهم، وصاحبهم في أسفارهم، وأنيسهم في وحدتهم، وصديقهم الصدوق، في منشطهم، ومكرههم، ومستشارهم الأمين في شئون دينهم ودنياهم وما ظنك بكتاب يعتقدون- وحق لهم ذلك- أن تلاوته عبادة، والاشتغال به من أعظم القربات إلى الله: وأن عزهم لن يكون إلا به، وسعادتهم في الدنيا والآخرة لن تتحقق إلا بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه، والتخلق بأخلاقه، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على قوم يقدم أكثرهم قراءة للقرآن، وإذا بعث بعثا جعل إمامهم في صلاتهم أكثرهم أخذا للقرآن، بل إذا جمع بين اثنين أو أكثر في قبر لضرورة- كما حدث في شهداء أحد- سأل: «أيهم أكثر أخذا للقرآن» فإذا أشير إليه قدمه في اللحد (¬1). ولم يكن همهم من القراءة مجرد الحفظ من غير تدبر وفهم كما هو الشأن في كثير من الحفاظ اليوم، وإنما المراد الحفظ، والفهم، فالعلم، فالعمل بما حفظوا وعلموا، روي عن أبي عبد الرحمن السلمي (¬2) قال: حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. فالقراء في الصدر الأول كانوا فقهاء فاهمين، وعلماء عاملين ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- كتاب المغازي- باب من قتل من المسلمين يوم أحد. (¬2) هو عبد الله بن حبيب السلمي، من خيار التابعين، وثقاتهم أخذ القراءة عن عثمان ابن عفان، وغيره من القراء المعروفين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفاوت الصحابة في الحفظ

اعتمادهم في الحفظ على التلقي الشفاهي. وكان اعتمادهم- رضوان الله عليهم- في الحفظ على التلقي والسماع من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه من النبي من الصحابة، ولا سيما القارئين المجيدين منهم كعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأمثالهم. وما كانوا يعتمدون في حفظه على المكتوب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على النقل من الصحف والمصاحف بعد كتابتها في عهد ذي النورين عثمان رضي الله عنه. وكذلك من جاء بعد الصحابة من التابعين، وتابع التابعين ومن بعدهم، كان اعتمادهم على التلقي الشفاهي من الشيوخ أو العرض، والقراءة عليهم، وهذا هو الغالب من شأنهم، ولا تزال هذه السنة في حفظ القرآن متبعة، وملتزمة لدى القراء المجيدين إلى عصرنا هذا وبذلك بقيت سلسلة الإسناد متصلة بالقرآن، وستبقى بإذن الله حتى يرث الله الأرض وما عليها. تفاوت الصحابة في الحفظ: وقد كان الصحابة متفاوتين في الحفظ قلة، وكثرة، وإتقانا وتجويدا، فمنهم من كان يحفظه كله، ومنهم من كان يحفظ جله، ومنهم من كان يحفظ بعضه، ومنهم من كان يحفظ السورة، ومنهم من كان يحفظ السورتين، والثلاث، والخمس، والعشر، والأكثر، ولكن مما لا ينبغي أن يشك فيه أن القرآن كله كان محفوظا عند الكثرة الكاثرة منهم، التي تفيد التواتر المفيد للقطع واليقين بحيث كان مجموع القرآن عند مجموعهم (¬1). ¬

_ (¬1) المجموع غير الجميع، فالمجموع هو الجملة الكلية أما الجميع فيشمل كل فرد من الأفراد، أو كل جزء من الأجزاء، فلو أن سورة البقرة حفظها مائة مثلا، وسورة آل عمران حفظها مائة آخرون، وهكذا يقال: إنه متواتر بحسب المجموع، ولو حفظ القرآن من أوله .... سورة الحمد .... إلى آخره ... سورة الناس يقال: إنه متواتر بحسب الجميع، وقد اجتمع التواتران للقرآن الكريم.

المشتهرون بالحفظ والإقراء من الصحابة

المشتهرون بالحفظ والإقراء من الصحابة: وقد اشتهر بحفظ القرآن الكريم، وإقرائه من الصحابة من المهاجرين أبو بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبو هريرة، وعبد الله بن السائب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أم مكتوم، ومصعب بن عمير ... وغيرهم كثير. ومن الأنصار: عبادة بن الصامت، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو زيد قيس بن السكن أحد عمومة أنس ابن مالك، ومجمع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مسلمة وغيرهم كثير. ومن النساء: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وأم ورقة وغيرهن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني على بعض أصحابه القراء المجيدين، حتى يقرأ عنهم، أو ينهج منهجهم من يريد أن يلحق بهم، وذلك أسلوب تربوي عظيم ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» (¬1) وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود كان يعرف بذلك. كما كان صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمعه من بعض أصحابه كابن مسعود (¬2)، ففي صحيح البخاري رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي»! قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل! قال: «نعم» فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) [النساء: 41] قال: «حسبك الآن» فالتفت ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة. ورواه أيضا عن عمر، ورواه الترمذي والنسائي وصححه الدارقطني. (¬2) كتاب فضائل القرآن لابن كثير ص 43 - 48.

العوامل المساعدة على حفظ القرآن

إليه، فإذا عيناه تذرفان يعني: بالدموع إما فرحا بهذه المنزلة التي تفرد بها: وإما حزنا وأسفا لأنه سيشهد على أمته؛ وفيهم المسيء والعاصي. وعن الصحابة حفظه الألوف من التابعين ثم ألوف الألوف ممن جاء بعدهم حتى وصل إلينا القرآن كما أنزله الله من غير زيادة، ولا نقصان ولا تغيير ولا تبديل وتحققت كلمة الله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) صدق الله العظيم وكذلك أمره الله سبحانه أن يقرأه على بعض أصحابه المجيدين لحفظ القرآن كأبي بن كعب رضي الله عنه. العوامل المساعدة على حفظ القرآن: إن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أمرا هيأ له الأسباب، وهذا من رحمته بخلقه، فقد أوجب على الأمة الإسلامية حفظ القرآن، وجعل لهم من الدواعي والحوافز ما أعانهم على حفظه، ومداومة قراءته، وتلاوته فمن هذه العوامل: العامل الأول التعبد بالقرآن الكريم في الصلاة وخارجها: وقد اتفق الفقهاء قاطبة على أن الصلاة سواء أكانت فرضا أم نفلا جماعة، أو غيرها لا تصح إلا بالقرآن، ولا تصح بالأحاديث القدسية، ولا النبوية، ولا بالأذكار المأثورة، فالقراءة ركن في الصلاة، وهذا محل إجماع، إلا أن منهم من جعل قراءة الفاتحة ركنا لا تصح الصلاة إلا به وهم الأئمة مالك والشافعي، وأحمد في المشهور عنه. ومنهم من لم يجعل الفاتحة ركنا، فالصلاة تصح بالفاتحة وغيرها، وهو الإمام أبو حنيفة وأصحابه، إلا أن الصلاة عندهم ناقصة الثواب غير كاملة؛ لأنهم جعلوا قراءة الفاتحة واجبا لا ركنا، فمن ترك قراءتها عمدا أساء، وعليه إعادتها، ومن تركها سهوا جبر بسجود السهو، ومن ذلك يتبين أن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يحفظ من القرآن ما يصحح به صلاته.

وأيضا فقد كان قيام الليل واجبا في صدر الإسلام على النبي، وقيل عليه وعلى أصحابه وعماد القيام بالصلاة ومن أركانها قراءة القرآن قال تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ (¬1) أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) [المزمل: 1 - 4] وكانوا مخيرين في هذا الوجوب بين الثلث أو النصف، أو الثلثين، وقد مكثوا على هذا عاما أو عامين، وقيل عشر سنين حتى كانت تنتفخ أقدام بعضهم من طول القيام فخفف الله عنهم، وصار مستحبا، ونسخ الفرضية بقوله سبحانه في آخر السورة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (¬2) عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (¬3) عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) [المزمل: 20] وبذلك صار مستحبا مرغوبا فيه ووكل إلى كل ما يستطيعه من ساعاته. وقد كان النبي والصحابة ملازمين للقيام وقراءة القرآن حتى بعد التخفيف ونسخ الفرضية حتى استحقوا الثناء من الله عز وجل قال سبحانه: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) [السجدة: 16 - 17]. وقال سبحانه: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) [الذاريات 17 - 19]. وقد كان هذا القيام لونا من ألوان التربية الإسلامية حتى تصفو نفوسهم ¬

_ (¬1) نصفه بدل من الليل أو من قليلا فكان الواجب إما النصف، أو الثلث، أو الثلثان. (¬2) أي: ساعاتهما، ويعلم القدر الذي تقوم منه وأنكم لا يمكنكم المواظبة على هذا، لأن لكم طاقة، كما أنه منكم المرضى، ومنكم من يسعى على رزقه، كما أنه سيفرض عليكم الجهاد فيما بعد، فكان من حكمتي ورحمتي التخفيف عليكم. (¬3) بهذا الجزء من الآية استدل أبو حنيفة وأصحابه على صحة الصلاة بالفاتحة وغيرها.

العامل الثاني الترغيب في قراءة القرآن، وحفظه

هم وتتبدل أخلاقهم، وتقوى عزائمهم وتتربى فيهم ملكات الصبر، والتحمل، وعدم الخضوع لأهواء النفس وشهواتها، ويكونوا على استعداد للتضحية والكفاح في سبيل عقيدتهم ودينهم رضوان الله عليهم، فلا سهر في لهو، ولا في شرب خمر، ولا في متابعة للجواري والحسان ولا في قمار، ولا ميسر إلى غير ذلك من مباذل الجاهلية. وإنما هو سهر في حب الله، وفي مدارسة كتاب الله، وفي الصلاة، والذكر، والدعاء، خلوات ما أحلاها من خلوات، وسمو بالأرواح إلى معارج القدس الأعلى. فلا تعجب إذا كانوا كتب الله لهم النصر والعزة على قلتهم، وأن حملوا رسالة نبيهم فبلغوها إلى الدنيا كلها، وأنهم لم يمض عليهم نصف قرن من الزمان حتى دانت لهم فارس، والروم بل لم يمض قرن على الدعوة حتى بلغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار. وما ظنك برجال كان بعضهم يختم القرآن في ركعة يحيى بها ليله كذي النورين عثمان رضي الله عنه وتميم الداري، بل روي عن سليم بن عتر التجيبي أنه كان يقرأ القرآن في الليلة ثلاث مرات! وروي عن الإمام الشافعي أنه كان يختم في اليوم والليلة من شهر رمضان ختمتين، وفي غيره ختمة، وروي عن أبي عبد الله البخاري صاحب الصحيح أنه كان يختم القرآن في الليلة ويومها من رمضان (¬1) إلى غير ذلك مما ذكر عن بعض السلف، وقد كان الإمام أبو حنيفة ممن يختم القرآن في ليلة، وذلك أنه مر على قوم، فسمعهم يقولون: هذا يختم القرآن في ليلة، فأبت عليه نفسه وأخلاقه إلا أن يكون كما يقولون فواظب على ذلك. العامل الثاني الترغيب في قراءة القرآن، وحفظه: وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى من الأحاديث في الترغيب في قراءة ¬

_ (¬1) كتاب فضائل القرآن لابن كثير ص 81 - 82.

القرآن، وتلاوته كما ينبغي، وحفظه، والوصاية به. فالقرآن الكريم أصدق الحديث وأحسنه، روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم أيضا في صحيحه. والقرآن أفضل الكلام وأشرفه، روى الحافظ أبو بكر البزار بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» ورواه البيهقي في الأسماء والصفات. والقرآن أحب إلى الله من كل شيء، روى الدارمي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: «القرآن أحب إلى الله من السماوات والأرض، ومن فيهن». وأهل القرآن: هم أهل الله وخاصته، روى الإمام أحمد بسنده عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله أهلين (¬1) من الناس» قيل: من هم يا رسول الله قال: «أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته» وبحسبهم شرفا هذه النسبة إلى الله (¬2). وأهل القرآن، وحفظته هم عرفاء الجنة؛ ففي الحديث الذي رواه الطبراني «حملة القرآن عرفاء (¬3) أهل الجنة». ¬

_ (¬1) أي: ناسا من خلقه يرعاهم، ويكرمهم، ويبجلهم كما يرعى ويكرم الملك أهله وخاصته الملتصقين به الملازمين له، فالكلام من قبيل التمثيل والمجاز وليس المراد في هذا وأمثاله الذين يحفظون القرآن من غير علم، عمل به، وإنما المراد الذين جمعوا بين الحفظ والعلم والعمل، وهذا هو الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما الذين كانوا يعرفون بالقراء وهو الذي كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة. (¬2) رواه النسائي، وابن ماجة، والدارمي عن أنس مرفوعا، ورواه الحاكم وصححه، وقال: إنه روى من ثلاثة أوجه عن أنس، وهذا أمثلها. كشف الخفاء ومزيل الإلباس ج 1 ص 293. (¬3) رؤساء.

وتعلم القرآن، وتعليمه يجعل صاحبه خير الناس وأفضلهم، روى الشيخان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» والاشتغال به خير من الاشتغال بصلاة النوافل، روى ابن ماجة في سننه من حديث أبي ذر: «لأن تغدو فتتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة». وقارئ القرآن مأجور على قراءته عمل به أو لم يعمل، فهم معناه أم لم يفهم، وإن كان من فهم وعمل أعظم أجرا، وأكثر ثوابا؛ روى الشيخان في صحيحيهما بسندهما عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، ويعمل به كالأترجة (¬1) طعمها طيب، وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، ويعمل به، كالتمرة طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل المنافق (¬2) الذي يقرأ القرآن، كالريحانة ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مر أو خبيث، وريحها مر» وفي رواية أخرى «ولا ريح لها» وهي أصح من جهة المعنى. والقرآن الكريم حبل ممدود بين السماء والأرض، يصل الإنسان الحافظ له، والعامل به بالله تعالى، روى ابن أبي شيبة من حديث أبي شريح الخزاعي: إن القرآن سبب (¬3) طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا. وروى ابن جرير مرفوعا: «إن هذا القرآن هو حبل الله الممدود من السماء والأرض». وروى ابن مردويه بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه» وفي حديث الترمذي الذي رواه ¬

_ (¬1) نوع من الفاكهة الجيدة كالتفاح ولكنها أكبر. (¬2) المراد نفاق العمل والخلق لا نفاق العقيدة، وقيل: نفاق العقيدة، وفي بعض الروايات «الفاجر». (¬3) حبل.

عن الحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: « ... وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم». والمشتغل بحفظ القرآن عن الذكر، وسؤال الله يعطيه الله أفضل مما يعطي السائلين: ففي الحديث الذي رواه الترمذي بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الرب عز وجل من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه». وقراءة القرآن ومدارسته، تستنزل الملائكة، والسكينة، والرحمة، ففي حديث أسيد بن حضير: أنه قرأ سورة البقرة ذات ليلة، فاضطربت فرسه، فسكت، فسكنت، ثم قرأ فاضطربت، فسكت فسكنت. فلما فرغ من قراءته رفع رأسه إلى السماء، فإذا هو بمثل الظلة (¬1) فيها أمثال المصابيح، عرجت إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له: «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت- أي استمررت في قراءتك- لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم» وفي حديث الصحابي الذي كان يقرأ سورة الكهف فتغشته مثل السحابة، فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فعجب من ذلك، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: «تلك السكينة (¬2) تنزلت للقرآن» متفق عليه وروى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (¬3). وقارئ القرآن، وحافظه، العامل به، يغبطه الناس، ويتمنون أن يكونوا مثله؛ روى البخاري وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ¬

_ (¬1) السحابة. (¬2) السكينة هي الطمأنينة، وراحة القلب والنفس والمراد بها هنا الملائكة التي نزلت بها لسماع القرآن. (¬3) صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء- باب الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر.

«لا حسد (¬1) إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه (¬2) في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل». وحافظ القرآن، وصاحبه الملازم لقراءته، له بكل آية درجة يرقاها يوم القيامة، فانظر أيها القارئ- كم يرقى من الدرجات عن أبي سعيد الخدري قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة. اقرأ، وارق، واصعد فيقرأ، ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه» رواه الإمام أحمد في مسنده. والقرآن أحد الشفعاء الذين تقبل شهادتهم يوم القيامة، روى أبو عبيد، عن أنس مرفوعا: «القرآن شافع مشفع (¬3)، وماجد مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار». وروى مسلم في صحيحه بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه». وروى أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان». وحافظ القرآن عن ظهر قلب، والعامل بما فيه يشفعه الله في أهله يوم القيامة؛ أخرج الترمذي، وابن ماجة، وأحمد من حديث عليّ: «من قرأ ¬

_ (¬1) المراد بالحسد الغبطة، وهي تمني المرء أن يكون له مثل ما للغير من غير أن يتمنى زواله، بخلاف الحسد، ففيه تمني زوال النعمة، وكأنه صلى الله عليه وسلم أطلق الحسد على الغبطة للمشابهة من وجه وللمبالغة في تحصيل الخصلتين كأنه قيل: لو لم يمكنا إلا بالحسد المذموم لترخص فيه، فكيف وتحصيلهما ممكن بالطريق المحمود المشروع. (¬2) ينفقه. (¬3) مشفع- بضم الميم، وفتح الشين، ثم فاء مشددة مفتوحة- أي: مقبول الشفاعة.

القرآن فاستظهره (¬1) فأحل حلاله، وحرم حرامه أدخله الله الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته، كلهم قد وجبت لهم النار. وحافظ القرآن الذي لا يغلط فيه، ولا يغيب عنه شيء مع السفرة الكرام البررة من الملائكة»؛ روى الشيخان، وغيرهما من حديث عائشة مرفوعا: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتعتع فيه (¬2)، وهو عليه شاق له أجران» أما الأول فأجره أكثر، وأضعاف مضاعفة. وما من أحد يقرأ شيئا من القرآن حين يأخذ مضجعه إلا حفظ حتى يصبح، أخرج أحمد في مسنده والترمذي في سننه من حديث شداد بن أوس: «ما من مسلم يأخذ مضجعه، فيقرأ سورة من كتاب الله تعالى إلا وكل الله به ملكا يحفظه، فلا يقربه شيء يؤذيه حتى يهبّ متى هبّ». وفي حديث أبي هريرة وقصته مع الشيطان الذي كان يسرق من الزكاة وقوله له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ أية الكرسي، لم يزل معك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدقك، وهو كذوب (¬3)، ذاك شيطان» رواه البخاري. والبيت الذي يقرأ فيه القرآن يكثر خيره، ويقل شره، روى البزار من حديث أنس مرفوعا: «البيت الذي يقرأ فيه القرآن يكثر خيره، والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يقل خيره». والقلب الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب؛ روى الإمام أحمد والترمذي بسندهما عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب» ومن ذا الذي يرضى أن يكون قلبه خرابا. ¬

_ (¬1) حفظه عن ظهر قلب. (¬2) أي: يتعثر في قراءته. (¬3) هذا تقرير من النبي لما أخبره به الشيطان، ولعل الشيطان عرف بذلك من الرسول فأخبره أبا هريرة، ومعنى صدقك ... أنه صدق في هذه وإن كان الشأن في قوله الكذب.

العامل الثالث الأمر بتعهد القرآن والتحذير من نسيانه

والقرآن هو الغنى الحقيقي، فمن رزقه رزق الغنى كله، ومن حرمه فلا غنى له وإن كان عنده مال قارون، روى الطبراني بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القرآن غنى لا فقر بعده، ولا غنى دونه» (¬1). وقارئ القرآن له بكل حرف حسنة؛ عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ولا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في فضل القرآن، وفضل آيات أو سور خاصة كالفاتحة، وخواتيم سورة البقرة، والبقرة، وآل عمران، والكهف والإخلاص، والمعوذتين وغيرها. فمن ذا الذي يسمع، أو يصل إليه كل هذا الترغيب الحبيب، والوعد الجميل ولا يسارع إلى حفظ القرآن وتفهمه، والعمل به، فلا تعجب إذا كان الصحابة تنافسوا في هذا المضمار الشريف، وكذلك تنافس فيه من جاء بعدهم، حتى حفظ الألوف، بل وألوف الألوف. العامل الثالث الأمر بتعهد القرآن والتحذير من نسيانه: وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وكل من يجيء من الأمة بعدهم بتعهد القرآن وممارسة قراءته حتى لا يتفلت منهم، وضرب لهم في ذلك المثل النوابغ، والكلم الجوامع الزواجر. ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعاهدوا القرآن (¬2) فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها» (¬3). ¬

_ (¬1) أي: لا غنى في غيره. (¬2) تعاهدوا القرآن: أي حافظوا على قراءته، وداوموا على تلاوته. (¬3) التفصي: التخلص والتفلت، عقلها جمع عقال وهو حبل يعقل به البعير أي:

ويزيد النبي صلى الله عليه وسلم الأمر توضيحا فيقول: «إنما مثل صاحب القرآن (¬1) كمثل الإبل المعقّلة (¬2) إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت» رواه الشيخان وفي الأمر بالتعهد والمواظبة عليه تحذير من نسيانه أو ذهابه. وقد جاء الترهيب من نسيان القرآن أو في شيء منه وذم من يهمل حتى ينساه وذلك في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه منها إلا عدله. وما من رجل تعلم القرآن ثم نسيه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم (¬3)» ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعا (¬4) «من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم» قال الحافظ وفي إسناده مقال. وروى أبو عبيد بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة والبعرة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنبا أكبر من آية أو سورة من كتاب الله أوتيها رجل فنسيها». وروى أبو داود والترمذي وأبو يعلى والبزار وغيرهم من حديث ابن أبي داود، عن ابن جريج، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن، أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها»، قال الترمذي: غريب لا ¬

_ يشد به وسط ذراعه وإنما ضرب المثل بالإبل، لأنها أشد الحيوانات نفورا وشرودا، ويصعب إرجاعها بعد استمكان نفورها. (¬1) أي: الحافظ له، والمتمكن من حفظه والملازم له. (¬2) أي: ربطت بالعقال. (¬3) أي مقطوع اليد كناية عن نقصان الأجر، وارتكاب الإثم وقيل: مقطوع السبب من الخير. وقيل: صفر اليدين من الخير. ومعانيها متقاربة وقيل يحشر هكذا يوم القيامة ليكون علامة عليه. (¬4) أي منسوبا إلى النبي من قوله، أو فعله، أو تقرير، وهذا من قوله.

نعرفه إلا من هذا الوجه، وذاكرت به البخاري فاستغربه. وقال الحافظ في الفتح: في إسناده ضعف. ولكن إيراده له في الفتح، وإيراد ابن كثير له في كتاب «فضائل القرآن» يدل على أنه ضعف محتمل يحتج به في مثل هذا. «نسيان القرآن كبيرة»: وقد اعتبر كثير من السلف نسيان القرآن كبيرة من الكبائر لما قدمنا من الأحاديث وغيرها. وقد أخرج أبو عبيد- رحمه الله- من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفا قال: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه؛ لأن الله يقول: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ونسيان القرآن من أعظم المصائب. وروي عن أبي العالية موقوفا، أي: عليه «كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن، ثم ينام عنه حتى ينساه». قال الحافظ ابن حجر: وإسناده جيد، ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن، كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولا شديدا (¬1). قال ابن كثير: وقد أدخل بعض المفسرين هذا المعنى في قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وهذا الذي قاله هذا وإن لم يكن هو المراد جميعه فهو بعضه؛ فإن الإعراض عن تلاوة القرآن وتعريضه للنسيان، وعدم الاعتناء فيه تهاون كبير وتفريط شديد نعوذ بالله منه، ولهذا قال عليه السلام: «تعاهدوا القرآن»، وفي لفظ «استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم ... » أي: أن القرآن أشد تفلتا من الصدور من النعم إذا أرسلت من ¬

_ (¬1) انظر فضائل القرآن لابن كثير ص 67 - 70، وفتح الباري ج 9 ص 70 - 71 وكتاب فضائل القرآن في صحيح البخاري وفضائل القرآن في رياض الصالحين وفضائل القرآن في الإتقان ج 2 ص 151 - 153.

العامل الرابع ارتباط بعض الوظائف الدينية والدنيوية بحفظ القرآن

غير عقال، ثم قال: ولهذا قال إسحاق بن راهويه وغيره: يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوما؛ لا يقرأ فيها القرآن، كما يكره له أن يقرأه في أقل من ثلاثة أيام. العامل الرابع ارتباط بعض الوظائف الدينية والدنيوية بحفظ القرآن: الإمامة في الصلاة بجميع أنواعها من المناصب الدينية الهامة، ولا يتولاها إلا أولوا الفقه والعلم، والفضل، وقد كانت وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته، ولم يتولها أحد في حياته إلا بإذن منه أو باستخلاف إذا سافر أو خرج في غزوة أو نحوها، وكذلك تولى الإمامة في الصلاة الخلفاء الراشدون من بعده رضوان الله عليهم، وتولاها الولاة، والأمراء في الأمصار، والأقاليم، وكذلك تولاها أمراء المؤمنين بعد الخلافة الراشدة. وقد كان حفظ القرآن، واستظهاره، وإجادته، والعلم به، والتفقه فيه المرشح الأول لهذا المنصب الديني الخطير، فكان الأحق بها أقرأ (¬1) الناس لكتاب الله. روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما- أي إسلاما- ولا يؤمّن الرجل الرجل في سلطانه (¬2) ولا يقعد ¬

_ (¬1) ليس المراد بالقراءة مجرد الحفظ من غير فقه وعلم، وإنما المراد بالأقرإ الأحفظ، والأعلم وقد كان القراء هكذا في الصدر الأول وقد مر بك عن قرب ما قاله التابعي عن القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬2) معناه أن صاحب البيت، والمجلس، وإمام المسجد أحق من غيره وإن كان ذلك الغير أفقه، وأقرأ، وأورع، وأفضل منه، فإن حضر السلطان أو نائبه قدم على صاحب البيت، وإمام المسجد وغيرهما؛ لأن ولايته وسلطته عامة، ويستحب لصاحب البيت، أو إمام المسجد، أن يأذن ويقدم من هو أفضل منه.

في بيته على تكرمته (¬1) إلا بإذنه» قال الأشج في روايته مكان سلما: «سنا» أي: أكبرهم سنا. وكذلك كان حفظ القرآن وفقهه من الأسباب المرشحة لتولي الإمامة العظمى كالصديق أبي بكر، والولاية والقضاء، وقيادة السرايا، والجيوش كأبي موسى الأشعري، وسالم مولى أبي حذيفة، وقد كان يحمل اللواء يوم اليمامة، فقيل له: إنا نخاف أن نؤتى من قبلك!! فقال هذه الكلمة التي تنم عن إيمان عميق، وقوة حفظ وفقه للقرآن الكريم: «بئس أنا حامل القرآن إذا». نعم- والله- فما كان لحامل القرآن من أمثال سالم- رضي الله تعالى عنه- أن يفر، أو ينكص على عقبيه، أو لا يرغب عن الشهادة، وقد صدق فيما عاهد الله عليه فصار يتقدم باللواء، ويقاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره، فقطعت يساره، فاحتضنه بعضديه وهو يتلو قول الله تبارك وتعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... وقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) [آل عمران: 144 - 146]. وهكذا كان حفاظ القرآن وقراؤه، لقد كانوا أسبق الناس إلى نشر دعوة الإسلام، وأرغب الناس في الجهاد، والاستشهاد، وأهل البطولات والتضحيات والفداء، وما كان حفظ القرآن ليمنعهم من الخروج في السرايا والغزوات. فأصحاب بئر معونة (¬2) كانوا من القراء، وقد استشهدوا جميعا في سبيل الله بنفس راضية، فلا تعجب إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حزن عليهم حزنا شديدا، ¬

_ (¬1) بفتح التاء وكسر الراء الفراش أو نحوه كالسرير والكرسي مثلا مما يبسط ويعد لصاحب المنزل ويخص به، وهذا من آداب الإسلام الاجتماعية الراقية التي تتفق والأذواق العالية. (¬2) اسم موضع من بلاد هذيل بين مكة، وعسفان وفي هذا المكان كان الغدر والخيانة بأصحاب السرية.

العامل الخامس تفرغ بعض الصحابة ومن بعدهم لحفظ القرآن وضبطه

حتى لقد مكث شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية وهي القبائل التي غدرت بهم، وليس أدل على رضائهم بالشهادة مما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نعى القراء قال: «إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم، فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك، ورضيت عنا، فأخبرهم عنهم فأنزل الله فيهم قرآنا كان يتلى: بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا». ثم نسخ بعد (¬1). وحتى بعد الوفاة كان الفضل والتقدمة لحفاظ القرآن، وقرائه، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين والثلاثة من شهداء أحد في قبر واحد، وكان يسأل: «أيهم أكثر أخذا للقرآن» أي: حفظا له فيقدمه في اللحد، رواه البخاري، فمن ثم عني المسلمون عناية فائقة بحفظ القرآن وإجادته، فقد كان وسيلة من الوسائل للدرجات الدينية، والدنيوية، وقد روى الفاروق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين» رواه مسلم. العامل الخامس تفرغ بعض الصحابة ومن بعدهم لحفظ القرآن وضبطه: وقد تفرغ لحفظ القرآن، والتفقه فيه أناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل الصفة (¬2) وهم أضياف الله، وأضياف الإسلام، كانوا يحتطبون بالنهار، ويقومون الليل ويقرءون القرآن ويحفظونه، ويتدارسونه، ويعلمونه غيرهم، ولم يكونوا رضوان الله عليهم كسالى ولا خاملين، ولا ينأون بأنفسهم عن العمل والكدح كما يزعم بعض المتخرصين عليهم، وإنما كانوا إذا وجدوا عملا عند أحد عملوا، وإذا لم يجدوا احتطبوا، وأطعموا إخوانهم، وجعلوا همهم حفظ القرآن، وأعدوا أنفسهم للجهاد، فكان إذا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- كتاب المغازي- باب سرية الرجيع، وبئر معونة. (¬2) مكان مظلل كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، كان يأوي إليه، من لا دار له، ولا أهل، ولا مال فكانوا يبيتون فيه، ويطعمون، ويعانون.

دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد لبوا سراعا وليس هذا قولا حملني عليه حبهم، أو الدفاع عنهم وإنما هو ما جاءت به الروايات الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما، قصدت تجليته للرد على هؤلاء الذين يشنعون بهم، ويتجنون عليهم. ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: .... وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل، ولا مال، ولا إلى أحد، إذا أتته- أي: النبي صلى الله عليه وسلم- صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها، وأشركهم فيها (¬1)، وكان أبو هريرة منهم. وفي مرسل يزيد بن عبد الله بن قسيط عند ابن سعد: كان أهل الصفة ناسا فقراء، لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره (¬2). وفي حديث عبد الرحمن بن أبي بكر؛ أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام ثلاثة فليذهب برابع ... » الحديث (¬3). وفي صحيح البخاري أيضا، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رعلا، وذكوان، وعصيّة، وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة فقتلوهم، وغدروا بهم (¬4). وفي رواية ثابت عند مسلم: ويشترون الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون ¬

_ (¬1) صحيح البخاري- كتاب الرقاق- باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وتخليهم عن الدنيا. (¬2) فتح الباري ج 11 ص 238. (¬3) صحيح البخاري- باب علامات النبوة. (¬4) صحيح البخاري- كتاب المغازي- باب غزوة الرجيع .. وبئر معونة ..

القرآن (¬1). وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي هريرة قال: رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء (¬2)، إما إزار (¬3)، وإما كساء قد ربطوا- أي الأكسية- في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته (¬4). قال الحافظ ابن حجر في الفتح: يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضا لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبي هريرة، وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابي، والسلمي، والحاكم، وأبو نعيم، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر؛ وفي بعض ما ذكروه اعتراض ومناقشة، لكن لا يسع هذا المختصر تفصيل ذلك (¬5). وقال في موضع آخر من الفتح: ولم أقف على عددهم- يعني أهل الصفة- إذ ذاك وقد تقدم في أبواب المساجد، في أوائل كتاب الصلاة من طريق أبي حازم عن أبي هريرة: «رأيت سبعين من أصحاب الصفة ... » الحديث وفيه إشعار بأنهم كانوا أكثر من ذلك وذكرت أن أبا عبد الرحمن السلمي، وأبا سعيد بن الأعرابي، والحاكم اعتنوا بجمع أسمائهم، فذكر كل منهم من لم يذكر الآخر، وجمع الجميع أبو نعيم في الحلية، وعدتهم تقرب من المائة، لكن الكثير من ذلك لا يثبت وقد بين كثيرا من ذلك أبو نعيم، وقد قال أبو نعيم: كان عدد أهل الصفة يختلف بحسب اختلاف الحال، فربما اجتمعوا فكثروا، وربما تفرقوا إما لغزو، أو سفر، أو استغناء، فقلوا، ووقع في عوارف السهروردي أنهم كانوا أربعمائة (¬6). ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 7 ص 309. (¬2) هو ما يستر أعالي البدن. (¬3) ما يشد في الوسط فيستر النصف الأسفل. (¬4) صحيح البخاري- كتاب الصلاة- باب نوم الرجال في المسجد. (¬5) فتح الباري ج 1 ص 424. (¬6) فتح الباري ج 11 ص 241.

التفرغ للقرآن بعد عصر الصحابة

أقول: والذي يظهر أنهم كانوا كثيرين، وأنهم كانوا يقلون ويكثرون بحسب اختلاف الأحوال كما قال أبو نعيم. ومهما يكن من شيء فقد كان أهل الصفة ثروة عظيمة للقرآن الكريم وكانوا ركائز ودعائم لحفظ القرآن، وإشاعته، ونشره بين المسلمين، كما كانوا جند الله، وجند الإسلام، كلما سمعوا هيعة (¬1) طاروا إليها، وهكذا تبين أنهم برءاء مما رموا به وكذلك كان المشتغلون من الصحابة بزراعاتهم، وتجاراتهم شديدي الحرص على الوحي، ولا سيما القرآن، وحفظ ما نزل منه؛ روى البخاري في صحيحه عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد- أي: ناحية- وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي، وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك ... الحديث (¬2). وهكذا نجد أنهم ما كان يشغلهم دينهم عن دنياهم، ولا تشغلهم دنياهم عن أمور دينهم، وحفظ كتاب ربهم، وسنة نبيهم، ولا عجب فهم رأس الأمة الخيرة، الوسط. وقد اشتهر بإقراء القرآن من الصحابة سبعة: عثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، كما ذكر الذهبي في طبقات القراء. التفرغ للقرآن بعد عصر الصحابة: ثم تفرغ لحفظ القرآن، وإقرائه كثير من التابعين بالأمصار الإسلامية فمنهم من كان بالمدينة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان، وعطاء بن يسار، ومعاذ بن الحارث المعروف بمعاذ القارئ، وعبد الرحمن بن هرمز ¬

_ (¬1) الصيحة إلى الجهاد. (¬2) صحيح البخاري- كتاب العلم- باب التناوب في العلم.

المشهور بالأعرج، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري القرشي عالم الحجاز والشام، وجندب بن مسلم، وزيد بن أسلم. وكان بمكة: عبيد بن عمير، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس بن كيسان اليماني ومجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وابن أبي مليكة. وكان بالكوفة: علقمة، والأسود، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة بن عمرو السلماني وعمرو بن شرحبيل والحارث بن قيس، والربيع بن خثيم وعمرو ابن ميمون وأبو عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وعبيد بن فضيلة، وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، والشعبي. وبالبصرة: أبو العالية، وأبو رجاء، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وقتادة بن دعامة السدوسي. وبالشام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب عثمان، وخليفة بن سعد صاحب أبي الدرداء. ثم تجرد أقوام لحفظ القرآن، وضبط قراءاته، وعنوا بذلك أتم عناية حتى صاروا أئمة في القرآن، والقراءة، يقتدى بهم، ويرحل إليهم. فكان بالمدينة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثم شيبة بن نصاح، ثم نافع ابن أبي نعيم. وبمكة: عبد الله بن كثير، وحميد بن قيس الأعرج، ومحمد بن أبي محيص. وبالكوفة يحيى بن وثاب وعاصم بن أبي النجود، وسليمان بن مهران المعروف بالأعمش، ثم حمزة، ثم الكسائي. وبالبصرة: عبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وأبو عمر بن العلاء وعاصم الجحدري، ثم يعقوب الحضرمي. وبالشام: عبد الله بن عامر، وعطية بن قيس الكلابي، وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر، ثم يحيى بن الحارث الذماري، ثم شريح بن يزيد الحضرمي.

الأئمة القراء السبعة

الأئمة القراء السبعة: واشتهر من هؤلاء في الآفاق الأئمة السبعة: 1 - نافع: قد أخذ عن سبعين من التابعين منهم: أبو جعفر، وابن كثير، وأخذ عن عبد الله بن السائب الصحابي. 2 - وابن عامر: وأخذ عن أبي الدرداء الصحابي الجليل، وأصحاب عثمان رضي الله عنه. 3 - وعاصم: وأخذ عن كثير من التابعين. 4 - وحمزة: وأخذ عن عاصم، والأعمش، والسبيعي، ومنصور بن المعتمر، وغيرهم. 5 - والكسائي: وأخذ عن حمزة، وأبي بكر بن عياش (¬1). ثم انتشرت القراءات في الأمصار، وكثر القراء كثرة تجاوزت الحصر وصار حفاظ القرآن، المتقنون له، المتفرغون لإقرائه في الأقطار الإسلامية يعدون بألوف الألوف فلله الحمد والمنة على ما أنعم به، وعلى توفيق الأمة الإسلامية لحفظ كتابه. العامل السادس اشتهار العرب بقوة الحافظة، وسيلان الأذهان، وصفاء الفطرة: لقد كان العرب تغلب عليهم البداوة والأمية، فكان من الطبعي أن يكون معتمدهم في حفظ أنسابهم، وأشعارهم، وخطبهم، ومفاخرهم، ومفاخر آبائهم، وأجدادهم، وكل ما يتصل بهم على حوافظهم، وذاكراتهم فقد كانوا يعنون غاية العناية بالأنساب، والأحساب، والأشعار، والخطب ومن اعتز بشيء فلا بد أن يسجله، ويقيده، ولما كانوا أمة أمية فقد قامت الحافظة والذاكرة مقام التسجيل بالكتابة فمن ثم كان من خصائصهم التي فاقوا بها كل الشعوب المعاصرة لهم قوة الحافظة، وسيلان الأذهان، وقد ¬

_ (¬1) الإتقان ج 1 ص 72، 73.

العامل السابع العلم بان القرآن هو اصل الدين ومنبع الصراط المستقيم

كان الواحد منهم ك «الشريط المسجل» الذي لا يضل، ولا ينسى، وكان منهم من يحفظ أنساب قبيلته، وأشعارها، ومفاخرها: ومنهم من كان يحفظ أنساب القبائل كلها، وأشعار العرب وخطبهم، ومفاخرهم، ومثالبهم، وقد اشتملت كتب التواريخ والأدب على أمثال عجيبة في هذا. وقد أعانهم على هذا ذكاء العقول، وصفاء النفوس، وسلامة الفطرة وقلة شواغل الحياة وتكاليفها، ولا يزال أهل البوادي والقرى إلى وقتنا هذا جل اعتمادهم على حوافظهم، وذاكراتهم تجلس للواحد منهم وهو أمي فيقص عليك من قصص الماضين من لقيهم، ومن لم يلقهم، الكثير من الأخبار، بل قد وجدنا من أهل القرى عندنا في مصر من يعرف تاريخ كل أسرة وعدد أفرادها، ومن مات منها، ومن بقي، وقد يذكر لك حكاية عن كل من تذكره له، وعمن غبر، وعمن لا يزال حيا، ومع هذا فهو أمي؛ لا يقرأ ولا يكتب، وما من أحد منا إلا وقد جلس إلى جده وجداته وسمع منهن الكثير مما حفظوا ووعوا فما أثر عن العرب ليس بالأمر المستغرب في تاريخ البشر. وقد كان وجود هذه الخصائص العقلية والذهنية والنفسية عند العرب قبل الإسلام من المقدمات بين يدي النبوة المحمدية؛ لأن الله تبارك وتعالى يعلم أنه سيكلف هذه الأمة المحمدية بحفظ كتاب ربها، وسنة نبيها وأنهم هم أول من يقومون بحمل هذا الدين، ونشر رسالته، وتلقي الوحي قرآنا، أو سنة من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم من الذين سيضطلعون بهذا العبء حين يبلغونه إلى الناس كافة، والعرب هم حملة هذا الكتاب الكريم وهم الذين بلغوه إلى كل أبيض وأسود حتى صار الإسلام مقترنا بهم، وصدق المبلغ عن رب العالمين حين قال: «إذا ذلّ العرب، ذل الإسلام» رواه أبو يعلى. والله أعلم حيث يجعل رسالته. العامل السابع [العلم بان القرآن هو اصل الدين ومنبع الصراط المستقيم] القرآن هو أصل الدين، ومنبع الصراط المستقيم وهو الأصل الأول من أصول التشريع في الإسلام، الذي يرجع إليه في الأحكام، ومعرفة الحلال

من الحرام، وهو دستور المسلمين الأكبر، إليه يرجعون في الحكم والسياسة، والولاية، والإدارة، والاقتصاديات، والأخلاقيات، والأحلاف، والمعاهدات والمصالحات، والمهادنات ومعرفة حقوق الإنسان، وعلاقات الأفراد، والجماعات، فالقرآن هو الذي يضع الخطوط العريضة والقواعد الدقيقة، والأصول الأصيلة لكل ذلك، وإنه ليحسن في هذا المقام أن نذكر بالحديث الجامع في وصف القرآن الذي سقته في صدر الكتاب، روى الترمذي في سننه عن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث! قال: أو قد فعلوها قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إنها ستكون فتنة» فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله قال: «كتاب الله. فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد- وفي رواية عن- ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط المستقيم» خذها إليك يا أعور. قال الترمذي: حديث غريب وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث: مقال: إن كتابا هذا بعض شأنه لا بد أن يحفظه المسلمون، وأن يتنافسوا فيه: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ. إننا نجد في القديم والحديث أصحاب الدساتير، وأصحاب القوانين يعنون غاية العناية بدساتيرهم، وأصول قوانينهم، ويضعون لها التفاسير، والشروح فما بالك بالقرآن، وهو دستور الدساتير، والقانون الذي لا يدانيه قانون، والتشريع الذي لا يساميه تشريع وصدق الحكيم العليم: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ

العامل الثامن إعجاز القرآن، وسحر بيانه، وعجائب أسلوبه، وحلاوة كلامه

ومن ذا الذي يسمع من نبيه الأكرم هذا الحديث- وأمثاله كثير- ثم لا يحفظه عن ظهر قلب، ولا يفني عمره فيه؛ إن هذا الكتاب العظيم أحق ما يفنى فيه الشباب، وأجدر ما تنفق فيه الأعمار فلا تعجب إذا كان المسلمون حفظوه غاية الحفظ، وفهموه غاية الفهم، وتدبروه غاية التدبر، وهذا هو ما كان، وهذا هو ما شهد به تاريخ الأجيال، وارجع إلى كتاب التواريخ والرجال والطبقات تقف على ما يقنع العقل، ويثلج الصدر، ويطمئن القلب. العامل الثامن إعجاز القرآن، وسحر بيانه، وعجائب أسلوبه، وحلاوة كلامه: وهذه خصائص للقرآن الكريم، وقد كانت من أعظم العوامل وأقوى الدوافع إلى حفظ القرآن الكريم. والعرب كانوا أرباب الفصاحة، والبلاغة وفرسان البيان، فمن ثم كانت معجزة النبي العظمى القرآن الكريم، وكان العربي تستهويه الكلمة الفصيحة، ويكاد يخر ساجدا للكلام البليغ، ويملك ناصيته البيان المعجز، والأساليب العجيبة، ويجد في الكلام الفصيح البليغ حلاوة ليس بعدها حلاوة؛ لأن فيه إشباعا لغريزته، وإرضاء لفطرته، وتنمية لمواهبه. وإليك ما ذكره ابن إسحاق في سيرته عن ثلاثة من فصحاء العرب وبلغائهم؛ روى عن الزهري قال: حدثت أن أبا جهل، وأبا سفيان، والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل منهم مجلسا، فيستمع منه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فجمعهم الطريق، فتلاوموا!! وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا ..

حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا .. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذه عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها .. فقال الأخنس: أنا- والذي حلفت به- كذلك. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فقال له: يا أبا الحكم فما رأيك فيما سمعت من محمد فقال: ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء؛ فمتى ندرك هذه! فو الله لا نؤمن به أبدا؛ ولا نصدقه (¬1). وهو يدل على استلذاذ العرب لسماع القرآن، استجابة لفطرتهم العربية، وإذا كان تأثير القرآن في أهل الشرك فكيف يكون تأثيره في أهل الإيمان وهذا هو الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنما رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا!. قال: فقل في القرآن قولا يبلغ قومك أنك منكر له. قال: وماذا أقول! فو الله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا ¬

_ (¬1) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة ج 1 ص 322، 323.

العامل التاسع تيسير الوسائل لحفظه في المساجد، والكتاتيب، والبيوت، وغيرها

من هذا، والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة (¬1). وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله (¬2)، وإنه ليعلو ويحطم ما تحته!! فإذا كان هذا تأثير القرآن في مشرك عنيد حتى استشعر هذه الطلاوة وتلك الحلاوة، فكيف بمسلم عمر قلبه بالإيمان، وأشرقت نفسه بنور القرآن وفي الحديث الذي ذكرته آنفا: «لا يخلق على كثرة الرد». أي: لا يبلى ولا تسأمه النفوس مهما تكرر، وكلما كررته لا يزداد إلا حلاوة، وكلما أجلت فيه الفكر والنظر لا يزداد إلا طلاوة، ومن قرأ القرآن غضا طريا كما أنزل، وبخشوع، وتدبر استشعر هذه الحلاوة، فإنها تسري في لعابه ويجدها في لسانه. وهذه الخاصية القرآنية لا تجدها عند قراءة أي كتاب آخر مهما كان، نعم قد يجد المسلم حلاوة، ولكنها دون هذه الحلاوة، حينما يقرأ كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا سيما في جوامع كلمه التي رويت بلفظها، ولم يدخلها الرواية بالمعنى. فمن ثم كانت هذه الخصائص البيانية، والأسلوبية، والوجدانية من أكبر العوامل المساعدة على مداومة تلاوته، وإجادة حفظه والمحافظة على نصوصه. العامل التاسع تيسير الوسائل لحفظه في المساجد، والكتاتيب، والبيوت، وغيرها: ومن العوامل، أيضا تيسير الوسائل لحفظه فهذا المسجد الحرام، وهذا المسجد النبوي ومئات غيرهما في العهد النبوي، ثم ألوف، وألوف فيما بعد ذلك كانت عامرة بتلاوة القرآن، وبقراء القرآن المجيدين له، يتورعون عن أخذ الأجرة على تعليمه، ويرون في قيامهم بالإقراء حسبة لله منزلة ليس ¬

_ (¬1) بضم الطاء وفتحها: بهجة وحسن شكل. (¬2) أي: كثير الغدق أي: الماء والشجر إذا كان أصلها غدقا كانت نامية مخضرة مثمرة.

فوقها منزلة. وقد ثبت في الصحيح أن الصديق بنى له مسجدا في بيته، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن حتى كاد يفتتن بقراءته نساء المشركين وأولادهم، وكان قد أجاره ابن الدغنة فذهبوا إليه واشتكوا من فعل الصديق، فنقض ما بينه وبين ابن الدغنة، ورضي بجوار الله عز وجل. وهؤلاء هم أهل الصفة بالمسجد النبوي، كان من مهماتهم قراءة القرآن وحفظه، وإقرائه لغيرهم، وقد قدمت طرفا من ذلك. وكان الصحابة قليلا من الليل ما ينامون، ولا سيما في رمضان، فلا عجب أن كان يسمع لهم دوي بالقرآن بالليل كدوي النحل في المساجد والبيوت وكان النبي صلوات الله عليه وسلامه يشجعهم ويرغبهم في التلاوة. روى أبو عبيد بسنده عن عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن في المسجد نتدارس القرآن، قال: «تعلموا كتاب الله واقتنوه» (¬1) قال: وحسبت أنه قال: «وتغنوا به (¬2) فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من المخاض» (¬3) من العقل. وكذلك كانت بيوت الصحابة ومن جاء بعدهم معاهد علم؛ ومدارس قرآن فما من بيت إلا ويقرأ فيه القرآن؛ ويتدارس؛ وسواء في ذلك الكبار؛ والصغار؛ والرجال والنساء. وكذلك كانت توجد الكتاتيب (¬4) لتحفيظ القرآن، وتعليم القراءة ¬

_ (¬1) اقتنوه كما تقتنوا الأموال، واجعلوه رأس مالكم. (¬2) أي: استغنوا به عن الناس. (¬3) الإبل. (¬4) الكتاتيب: جمع كتاب، والمراد به هنا المكتب الذي يحفظ فيه القرآن، والأصل فيه جمع كاتب ثم أطلق على المكان مجازا وقد غلط صاحب القاموس الجوهري في صحاحه في جعله الكتاب بمعنى المكتب؛ ولا أرى داعيا لتغليطه فهو إطلاق مجازي من إطلاق الحال وإرادة المحل.

والكتابة؛ وقد أنشئت هذه الكتاتيب في عهد مبكر، وكان لها آثارها العظيمة في حفظ القرآن الكريم فقد ثبت وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من القادرين من أسرى بدر الفداء؛ ومن لم يكن قادرا قبل منه تعليم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة وطبعي أنهم كانوا يزاولون ذلك في مكان غير المسجد النبوي، لأن المشرك ممنوع من دخوله؛ ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس، قال: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة فجاء غلام يبكي إلى أمه فقالت: ما شأنك قال: ضربني معلمي: فقالت: الخبيث يطلب بذحل (¬1) بدر: والله لا تأتيه أبدا. ثم أنشئت كتاتيب بعد ذلك؛ وكثرت كثرة خارجة عن الحصر حتى لا تجد مصرا أو بلدا إلا وفيه كتاب؛ وكتاتيب. وقد كانت مصر- حرسها الله- بمدنها؛ وقراها، وكفورها ودساكرها ونجوعها غاصة بالكتاتيب؛ وفي هذه الكتاتيب حفظ ألوف الألوف القرآن الكريم، وقد كانت هذه الكتاتيب هي الروافد التي تمد الأزهر الشريف بألوف الطلاب كل عام؛ والكثيرون من هؤلاء صاروا أئمة في الفقه والفتوى؛ وفي التفسير؛ والحديث وعلوم اللغة واللسان، والعلوم العقلية والكونية، ومنهم من أثر في إصلاح حياة مصر، بل إصلاح حياة الدول الإسلامية والعربية دينيّا وسياسيّا، واجتماعيّا في العصر الأخير، وكان له الفضل الكبير في إزالة كابوس الاستعمار. والحكام الظالمين المستبدين كعرابي، ومحمد عبده، وسعد زغلول وغيرهم كثير. وبعد هذا المطاف الطويل نصل إلى هذه النتيجة وهي أن القرآن الكريم توفر له من دواعي الحفظ له والمحافظة عليه ما لم يتوفر لكتاب قط لا في القديم، ولا في الحديث، ولا سماويّا، ولا أرضيّا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ¬

_ (¬1) وهو الثأر والعداوة كما في المسند (1/ 247 رقم 2216). الناشر.

وجوب إحياء الكتاتيب

وجوب إحياء الكتاتيب مما ذكرت يتبين أن الكتاتيب كانت تؤدي خدمة عظمى في سبيل تحفيظ القرآن الكريم، ولم تكن فائدتها تقف عند حد تحفيظ القرآن فحسب، بل كانت من أعظم الوسائل في تعليم القراءة والكتابة؛ لأن التحفيظ فيها لم يكن عن طريق التشافه والحفظ في الصدور فحسب، وإنما كان عن طريق كتابة جزء من القرآن خمس آيات أو عشر آيات، أو عشرين آية في اللوح (¬1) كل على حسب استعداده، وعلى قدر طاقته، وطريقة الحفظ عن طريق الكتابة أولا ثم الحفظ لا تجعل الصبي ينسى شيئا من القرآن فيما بعد، ومن ثم نرى أن الكتاتيب كانت أيضا من أعظم وسائل إزالة الأمية، لأن الصبي لكي يكتب لوحه لا بد من تعلمه القراءة والكتابة أولا، وقد كانت الكتابة في اللوح تمرينا عمليا على إجادة القراءة والكتابة، وقد أجدت الكتابة في الكتاب من هذا الطريق ولله الحمد والمنة. وكذلك كانت تعلم فيها مبادئ الدين الإسلامي، ولا أنسى قط درس الدين من يوم الخميس كل أسبوع يلقننا فيه الفقيه أو العريف (¬2) أركان الإسلام المذكورة في الحديث المشهور الصحيح «بني الإسلام على خمس». ونسب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، وأبنائه وبناته، وفرائض الوضوء، وأركان الصلاة، والتشهد، ونحو ذلك، وكذلك كنا نتعلم فيها مبادئ الحساب، ولكن كان ذلك بقدر. فلما أنشئت المدارس الأولية، ثم الإلزامية ... بدأت الكتاتيب تضمحل شيئا فشيئا حتى أوشكت على الزوال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأحب أن أقول إن جمعيات المحافظة على القرآن الكريم، وإن كانت منتشرة في طول البلاد وعرضها. إلا أنها- والحق يقال- لم تغن ¬

_ (¬1) عبارة عن قطعة مستطيلة من الخشب أو نحوه مطلية بطلاء أبيض- يكتب فيها كل صبي ما يريد حفظه، فإذا حفظه- أزاله وكتب غيره وهكذا. (¬2) الفقيه: وينطقها العامة الفقي هو رئيس الكتاب والعماد في تحفيظ القرآن. والعريف- ومن معانيه في اللغة العربية رئيس الجماعة- هو مساعد الفقيه.

في البلاد السودانية

غناء الكتاتيب في تحفيظ القرآن، لأن المنهاج المدرسي غلب عليها، وأصبح التحفيظ فيها عن طريق الحفظ في المصاحف، لا الكتابة في الألواح كما كان أسلوب التحفيظ في الكتاتيب، وتكاد تكون هذه الطريقة مندثرة اليوم في الديار المصرية بعد أن كانت هي المجلية والسابقة في هذا المضمار. في البلاد السودانية ومما يذكر بالاعتزاز والإكبار أن طريقة تحفيظ القرآن الكريم عن طريق الكتابة في الألواح والتصحيح على الفقيه، والعرض عليه مرارا، حتى يسمح له بالانتقال إلى كتابة جزء آخر من القرآن وحفظه، لا تزال في كثير من البلاد السودانية الشقيقة، ولا يزال كثير من إخواننا السودانيين يحتفظون بألواحهم للذكرى والتاريخ، ويعرضونها على الزائر لهم وهم في غاية الغبطة والسرور، ويعتبرون ذلك من المفاخر لهم. وهناك كثيرون من أهل الصلاح والتقوى، والقرآن يجمعون المئات من الصبيان في كتاتيبهم التي يسمونها «دار القرآن الكريم» ويحفظونهم القرآن، ويتكفلون بهم طعاما، وسكنى، وكسوة، وقد زرت بعض هذه البيوت القرآنية وأنا بالجامعة الإسلامية بأم درمان أستاذا بها نسأل الله سبحانه أن تدوم هذه الكتاتيب القرآنية لتكون نارا محرقة لأعداء الله، وأعداء القرآن، ونورا يملأ قلوب حفاظ القرآن الكريم وطلابه، وأن يجزي القائمين عليها خير الجزاء، كفاء ما قدموه للقرآن. أمل ورجاء وقد كانت الديار المصرية زعيمة العالم الإسلامي في حفظ القرآن الكريم، وحذق قراءاته، وفي الكثرة الكاثرة من حفاظه وأهله، وكل ذلك كان بفضل الكتاتيب التي كانت تنتشر في كل مكان. فهل يعمل القائمون على الشئون الدينية في الأزهر بكلياته ومعاهده، ومجمع البحوث الإسلامية. وفي وزارة الأوقاف. وفي المجلس الأعلى

للشئون الإسلامية على إحياء هذه الكتاتيب ولا سيما في القرى التي كانت ولا تزال المورد الأكبر لحفاظ القرآن الكريم؛ وعلى النهوض بجمعيات المحافظة على القرآن الكريم. والإكثار من دروس تحفيظ القرآن الكريم وإنصاف القائمين على التحفيظ بها، وسد حاجاتهم حتى يقوموا بمهمتهم خير قيام. إن ما يؤسف له أن المدارس التي كان يعتبر حفظ القرآن أساسا لدخولها كمدارس المعلمين أصبحت لا تشترط ذلك، ولم يبق اشتراط الحفظ إلا في الأزهر الشريف بمعاهده، وكلياته على تساهل كبير في هذا؛ فبعد أن كان الطالب الأزهري لا يلتحق بالفرقة الأولى الابتدائية إلا بعد حفظ القرآن كله وتجويده، أصبح الآن يكتفى بما دون حفظه كله، وقد يكتفي بالربع. وقد يكتفى بالأجزاء الثلاثة الأخيرة في المصحف وهي مصيبة من أعظم المصائب؛ لأنها تمس أصل الدين الإسلامي. ومنبع الصراط المستقيم. إن في أوقاف المسلمين- وما أكثرها- التي وقفت على إنشاء الكتاتيب وتحفيظ القرآن الكريم ما يقوم ماليا بما يحتاجه إنشاء هذه الكتاتيب، والنهوض بجمعيات المحافظة على القرآن حتى تؤدي رسالتها كاملة. بل في خزانة الدولة في بلد إسلامي عريق، وأهله مسلمون ما يقوم بذلك وإن الإنفاق في مثل هذا لخير ألف مرة مما ينفق بغير حساب في بعض الأبواب الأخرى، التي لا تفيد الشعب بقدر ما تضره. بل في أريحية الخيرين من أبناء هذا البلد الإسلامي العريق ما يقوم بذلك، ولو دعوا دعوة جادة صادقة إلى هذا المشروع القرآني العظيم للبّوا سراعا عن طيب نفس. لقد كان من التشريعات الموفقة في التعليم جعل الدين مادة أساسية من مواد التعليم يترتب عليها نجاح الطالب أو سقوطه، ولكن التشريعات لا تثمر ثمرتها إلا بالعمل، والتطبيق والتنفيذ ثم إن القدر المقرر حفظه على الطالب من القرآن الكريم شيء قليل مع التساهل في حفظه، ولو جعل لتحفيظ القرآن حصص خاصة لكان أجدى وأنفع، ولو كلف التلميذ في

مسائل في آداب تلاوة القرآن، وحفظته

الابتدائي والإعدادي والثانوي (¬1) بجزء من القرآن كل عام- وليس حفظ الجزء بالأمر المعجز- لوصل التلميذ إلى الكليات الجامعية والمعاهد العليا وقد حفظ قسطا كبيرا من القرآن ثم يتم الباقي في الجامعة. وللإنصاف للتلاميذ أرى أنه لا بد لكي يمكن تحقيق ذلك أن يزاح عن كاهلهم بعض ما يكلفون به من علوم لا تفيد عشر معشار ما يفيده القرآن الكريم في بناء الأمة دينيا، ودنيويا، وخلقيا واجتماعيا. ترى أيها القارئ المنصف لو أن هذا الاقتراح نفذ في الأقطار الإسلامية والعربية لأرضت ربها ورسولها، ولكانت الأمة الإسلامية بحق خير أمة أخرجت للناس، إنها لآمال وأماني فهل تتحقق؛ ذلك ما نرجو، وما ذلك على الله بعزيز. مسائل في آداب تلاوة القرآن، وحفظته لقد أفرد هذه الآداب بعض العلماء منهم الإمام النووي في كتابه «التبيان» وقد ذكر فيه وفي «شرح المهذب» وفي كتابه «الأذكار» جملة كبيرة منها: وقد لخصها، وفصلها، وزاد عليها أضعافا مضاعفة الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه «الإتقان في علوم القرآن» (¬2). وسأذكر في هذا الفصل خلاصة ما ذكره السيوطي، وربما زدت عليها زيادات وتعقبات وتوضيحات لما أجمل وإزالة إشكال ما يشكل، فأقول وبالله التوفيق: 1 - قراءة القرآن من أفضل القربات إلى الله وأعظمها بركة، وأجلها نفعا، والقرآن الكريم هو الكتاب المتعبد بتلاوته، ويستحب الإكثار من قراءته، لأنه يرقق القلوب، ويشرح الصدور، ويزيل الهموم، ويكشف الغموم، وقد روي في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ¬

_ (¬1) مدة الابتدائي في جمهورية مصر العربية ست سنوات، والإعدادي ثلاثة والثانوي ثلاثة يعني اثني عشر جزءا. (¬2) ج 1 ص 105 وما بعدها.

حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ... » وروى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، «يقول الرب سبحانه وتعالى من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» إلى غير ذلك من الأحاديث التي سقناها في الدواعي والأسباب الحاملة على حفظ القرآن. وقد كان للسلف في قدر القراءة عادات، فأكثر ما ورد في كثرة القراءة من كان يختم في اليوم والليلة ثمان ختمات أربعا في الليل وأربعا في النهار ويليه من كان يختم في اليوم والليلة أربعا، ويليه ثلاثا (¬1)، ويليه ختمتين، ويليه ختمة، وقد ذمت السيدة عائشة ذلك؛ فأخرج ابن أبي داود، عن مسلم بن مخراق قال: قلت لعائشة إن رجالا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثة، فقالت: قرءوا أو لم يقرءوا، كنت أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة التمام فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا ورغب، ولا بآية فيها تخويف إلا دعا، واستعاذ. ويلى ذلك من كان يختم في ليلتين، ويليه من كان يختم في كل ثلاث وهو حسن، وكره جماعات الختم في أقل من ذلك لما روى أبو داود والترمذي وصححه من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» وأخرج ابن أبي داود، وسعيد بن منصور، عن ابن مسعود موقوفا عليه قال: «اقرءوا القرآن في سبع ولا تقرءوه في أقل من ثلاث». وأخرج أبو عبيد، عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. ويليه من ختم في أربع، ثم في خمس، ثم في ست، ثم في سبع، وهذا أوسط الأمور وأحسنها؛ وهو فعل الأكثرين من الصحابة وغيرهم، ¬

_ (¬1) لعل المراد بذلك إمراره بذلك على القلب واستعراضه في الذهن، أما النطق بالألفاظ ولو على سبيل الإسراع فغير ممكن أن يحدث هذا العدد من الختمات في اليوم والليلة حتى ولو لم ينم، فما بالك لو أنه قرأه بتؤدة وتمهل ونام ولو جزءا قليلا من الليل أو النهار

وأخرج الشيخان عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ القرآن في شهر»، قلت: إني أجد قوة، قال: «اقرأه في عشر» قلت: إني أجد قوة قال: «اقرأه في سبع ولا تزد (¬1) على ذلك» (¬2) وفي بعض الروايات مراجعات منه للنبي فيما كان يشير به عليه حتى انتهى الأمر إلى السبع، قال الحافظ في الفتح: وكأن النهي عن الزيادة ليس على التحريم كما أن الأمر ليس على الوجوب. وفي الصحيح أيضا أنه ندم على ذلك لما كبر وقال: فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أني كبرت، وضعفت. ويلي ذلك من ختم في ثمان، ثم في عشر، ثم في شهر، ثم في شهرين أخرج ابن أبي داود، عن مكحول قال: كان أقوياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرءون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: من قرأ القرآن في كل سنة مرتين فقد أدى حقه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض القرآن على جبريل في السنة التي قبض فيها مرتين، أقول: ولكن عرض القرآن على جبريل لا ينافي أنه كان يقرأه وحده من غير عرض. وكره بعض العلماء تأخير ختمه أكثر من أربعين يوما بلا عذر، نص على ذلك الإمام أحمد؛ لأن عبد الله بن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم في كم تختم القرآن قال: «في أربعين يوما» رواه أبو داود. أقول: وليس في الحديث ما يدل على كراهة الختم في أكثر من أربعين والعبارة ليست حاصرة حتى يكون ما عداها ليس من سنته، وغاية ما يدل عليه أن ذلك كان حالة من حالاته، أو أنه كان الغالب منها. ويعجبني في هذا ما قاله الإمام النووي في «الأذكار» أن ذلك يختلف ¬

_ (¬1) أي: لا تنقص عن ذلك فالمراد بالزيادة بطريق التدلي أي: لا يقرؤه في أقل من سبع. (¬2) صحيح البخاري- كتاب فضائل القرآن- باب في كم يقرأ القرآن.

2 - نسيانه كبيرة

باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف، فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ، وكذلك من كان مشغولا بنشر العلم، أو فصل الحكومات، أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، ولا فوات كماله وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل أو الهذرمة (¬1) في القراءة، وهو تفصيل حسن. [2 - نسيانه كبيرة] 2 - نسيانه كما قلنا سابقا كبيرة صرح بذلك الإمام النووي في «الروضة» وغيرها للحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن، أو آية أوتيها رجل ثم نسيها» وروي أيضا: «من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجذم» وفي الصحيحين مرفوعا: «تعاهدوا القرآن، فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها». [استحباب الوضوء لقراءته] 3 - يستحب الوضوء لقراءة القرآن؛ لأنه أفضل الأذكار؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يذكر الله إلا على طهر، كما ثبت في الحديث. قال إمام الحرمين: ولا تكره القراءة للمحدث؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ مع الحدث، قال في شرح المهذب: وإذا كان يقرأ فعرضت له ريح أمسك عن القراءة حتى يستتم خروجها. وأما الجنب، والحائض والنفساء فتحرم عليهم القراءة نعم يجوز لهم النظر وإمراره على القلب، وأما متنجس الفم فتكره له القراءة، وقيل: تحرم كمس المصحف باليد النجسة، وأما مس المصحف بغير حائل فيحرم على الجنب، والحائض والنفساء، وأما حملهم له في حقيبة أو كيس من غير ملامسة فجوزه الجمهور سلفا وخلفا، وشذ بعض العلماء فأجاز مسه للجنب والحائض، وطعن في الأحاديث الواردة في ذلك بأنها لم يصح منها شيء وقد رد عليه بعض الأئمة بأن أكثرها صحاح: فمن ذلك ما رواه ¬

_ (¬1) الإسراع إلى حد عدم تبيين مخارج الحروف، وعدم مراعاة قواعد تجويد قراءته.

مسنونية قراءته فى مكان طاهر

الدارقطني بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر» ومنها قصة فاطمة بنت الخطاب مع أخيها عمر في طلبه منها الصحيفة التي فيها قرآن، فأبت وقالت له: إنك نجس ولا يمسه إلا المطهرون ... رواها الدارقطني وأصحاب السير (¬1). [مسنونية قراءته فى مكان طاهر] 4 - تسن القراءة في مكان نظيف، وأفضله المسجد، وكره قوم القراءة في الحمام والطريق، قال النووي: ومذهبنا لا تكره فيهما، قال: وكرهها الشعبي في الحش (¬2)، وبيت الرحا وهي تدور قال: وهو مقتضى مذهبنا. ولعل مراد الشعبي بالكراهة، الكراهة التحريمية، وأحر بها أن تكون في الحش محرمة. [استحباب استقبال القبلة حين قراءته] 5 - يستحب لقارئ القرآن أن يجلس مستقبلا القبلة، متخشعا، متحليا بالسكينة والوقار، مطرقا رأسه كما هو شأن الخاشع المتذلل بين يدي ربه. كما يسن أن يستاك تعظيما للقرآن الكريم وتطهيرا لفمه؛ لأنه وسيلة النطق به، والمعبر الذي تخرج منه، وقد روى ابن ماجة عن عليّ موقوفا، والبزار بسند جيد عنه، مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك» قال السيوطي: لو قطع القراءة، وعاد من قرب فمقتضى استحباب التعوذ، إعادة السواك أيضا. [سنية التعوذ قبل القراءة] 6 - يسن التعوذ قبل القراءة، قال تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) أي: أردت قراءته، وشذ البعض فذهب إلى أنه يتعوذ بعدها لظاهر الآية وذهب، قوم إلى وجوبها لظاهر الأمر، قال الإمام النووي: فلو مر على قوم سلم عليهم، وعاد إلى القراءة، فإن أعاد التعوذ كان حسنا. وصفته المختارة «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، وكان جماعة من السلف يزيدون السميع العليم، وعن حمزة القارئ: أستعيذ ونستعيذ ¬

_ (¬1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري ج 3 ص 85، 89. (¬2) الحشّ: مكان قضاء الحاجة؛ فلذلك نزه القرآن عن أن يقرأ فيه.

واستعذت، واختاره صاحب الهداية من الحنفية لمطابقة لفظ القرآن. وعن حميد بن قيس: أعوذ بالله القادر من الشيطان الغادر، وعن أبي السمال: أعوذ بالله القوي، من الشيطان الغوي، وعن قوم أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، وعن آخرين: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم، وفيها ألفاظ أخر ... قال الحلواني في جامعه: ليس للاستعاذة حد ينتهى إليه، من شاء زاد، ومن شاء نقص. وفي النشر لابن الجزري: المختار عند أئمة القراءة، الجهر بها، وقيل يسر مطلقا، وقيل: فيما عدا الفاتحة، قال: وقد أطلقوا اختيار الجهر بها، وقيده أبو شامة بقيد لا بد منه، وهو أن يكون بحضرة من يسمعه؛ قال: لأن الجهر بالتعوذ إظهار شعار القراءة كالجهر بالتلبية، وتكبيرات العيدين أقول: والشيء إذا صار شعارا من شعارات الإسلام، فالأفضل إعلانه ومن فوائد الجهر أن السامع ينصت للقراءة من أولها لا يفوته منها شيء، وإذا أخفى التعوذ لم يعلم السامع بها إلا بعد أن فاته من المقروء شيء، وهذا هو الفارق بين القراءة في الصلاة وخارجها. واختلف المتأخرون في المراد بإخفائها، فالجمهور على أن المراد به الإسرار فلا بد من التلفظ، وإسماع نفسه، وقيل: الكتمان بأن يذكرها بقلبه بلا تلفظ. وإذا قطع القراءة إعراضا: أو لكلام أجنبي، ولو برد السلام، استأنفها، فإن كان يتعلق بالقراءة فلا، قال ابن الجزري: وهل هي سنة كفاية أو عين حتى لو قرأ جماعة جملة فهل يكفي استعاذة واحد منهم كالتسمية على الأكل أو لا؛ لم أر فيه نصا، والظاهر الثاني، لأن المقصود اعتصام القارئ، والتجاؤه إلى الله واعتصامه به من شر الشيطان، فلا يكون تعوذ واحد كافيا عن آخر. أقول: إن ظاهر الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أن التسمية على الأكل سنة عين، وإنما ذهب إلى أنها سنّة كفاية الإمام الشافعي. قال الإمام النووي في الأذكار: وينبغي أن يسمي كل واحد من الآكلين، فلو

7 - قراءة البسملة

سمى واحد منهم أجزأ عن الباقين، نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- وقد ذكرته عن جماعة في كتاب الطبقات في ترجمة الإمام الشافعي، وهو شبيه برد السلام، وتشميت العاطس (¬1) فإنه يجزي فيه قول أحد الجماعة (¬2). والذي يظهر لي أن تشبيهه بالسلام والتشميت غير ظاهر، ولا مسلم؛ لأن المقصود يحصل بدعاء واحد، أما التسمية ففائدتها تعوذ على المسمي لله، فلا يكتفي بتسمية غيره عنه، وكذلك ينبغي أن يكون الشأن في الاستعاذة، فلا يكفي فيها استعاذة غيره. 7 - قراءة البسملة : على القارئ أن يحافظ على قراءة البسملة، أول كل سورة غير براءة؛ لأن أكثر العلماء على أنها آية، فإذا أخل بها كان تاركا لبعض الختمة عند الأكثرين، فإن قرأ من أثناء سورة استحب له أيضا، نص عليه الشافعي فيما نقله العبادي، قال الفراء ويتأكد عند قراءة نحو: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ... لما في ذكر ذلك بعد الاستعاذة من البشاعة، وإيهام رجوع الضمير إلى الشيطان قال ابن الجزري: والابتداء بالآي وسط براءة قل من تعرض له، وقد صرح بالبسملة فيه أبو الحسن السخاوي، ورد عليه الجعبري. 8 - هل تحتاج قراءة القرآن إلى نية لا تحتاج قراءة القرآن إلى نية كسائر الأذكار، إلا إذا نذرها خارج الصلاة فلا بد من نية النذر أو الفرض، ولو عين الزمان، فلو تركها لم تجز، نقله القمولي في الجواهر. 9 - ترتيل القرآن: الترتيل تبيين حروف القرآن عند القراءة، والتأني في أدائها ليكون أدعى إلى فهم معانيها، وقد روى الطبري بسند صحيح عن مجاهد في قوله ¬

_ (¬1) إزالة الشماتة عنه بقوله: يرحمك الله. (¬2) الأذكار للنووي ص 102 ط دار الكتاب.

تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ قال: بعضه في أثر بعض على تؤدة، وعن قتادة: بينه بيانا (¬1). ويسن الترتيل في قراءة القرآن لقوله سبحانه: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4]، وقوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء: 106] أي: على تؤدة وتمهل. وروى أبو داود وغيره عن أم سلمة أنها نعتت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم قراءة مفسرة: حرفا حرفا، وروى البخاري في صحيحه عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: كانت مدا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم. وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلا قال له: إني أقرأ المفصل في ركعة واحدة فقال: هذا كهذّ الشّعر (¬2) إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حم (¬3). وأخرج الآجري في «حملة القرآن» عن ابن مسعود: «لا تنثروه نثر الدقل (¬4) ولا تهذوه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكون هم أحدكم آخر السورة». وأخرج من حديث ابن عمر مرفوعا يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارق في الدرجات، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 10 ص 465 ط الحلبي. (¬2) الهذ: هو الإسراع المفرط بحيث يخفي كثير من الحروف أو لا تخرج من مخارجها وهو المكروه أما الإسراع في القراءة من غير وصول إلى حد الهذ فلا شيء فيه. (¬3) صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن- باب الترتيل في القراءة، والمراد بآل حم السور التي بدئت بحم. أو المراد بآل حم نفسها كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى «لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود أي: داود نفسه. (¬4) الدقل- بفتح الدال والقاف-: أردأ التمر.

كنت تقرؤها. قال في شرح المهذب: واتفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع، قالوا: وقراءة جزء بترتيل أفضل من قراءة جزءين في قدر ذلك الزمان بلا ترتيل، قالوا: واستحباب الترتيل للتدبر؛ لأنه أقرب إلى الإجلال، والتوقير، وأشد تأثيرا في القلب، ولهذا يستحب للأعجمي الذي لا يفهم معناه. وفي النشر اختلف هل الأفضل الترتيل، وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرتها وأحسن بعض أئمتنا فقال: إن ثواب قراءة الترتيل أجل قدرا، وثواب الكثرة أكثر عددا، لأن بكل حرف عشر حسنات. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: والتحقيق أن لكل من الإسراع والترتيل جهة فضل، بشرط أن يكون المسرع لا يخل بشيء من الحروف، والحركات والسكون والواجبات فلا يمتنع أن يفضل أحدهما الآخر، وأن يستويا، فإن من رتل وتأمل، كمن تصدق بجوهرة واحدة مثمنة. ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمتها قيمة الواحدة. وقد تكون قيمة الواحدة أكبر من قيمة الأخريات. وقد يكون بالعكس، وفي البرهان للزركشي: كمال الترتيل تفخيم ألفاظه، والإبانة عن حروفه، وأن لا يدغم حرف في حرف، وقيل: هذا أقله، وأكمله أن يقرأ على منازله، فإن قرأ تهديدا لفظ به لفظ التهديد، أو تعظيما لفظ به لفظ التعظيم. وأزيد فأقول: أو ترحيما، وترقيقا لفظ به لفظ الترحيم والترقيق، أو تعجبا لفظ به لفظ التعجب، أو تيئيسا لفظ به لفظ التأييس، أو توبيخا لفظ به لفظ التوبيخ أو إنابة وتوبة لفظ به لفظ الإنابة والتوبة، أو تندما نطق به نطق المتندم أو خشوعا وتذللا نطق به نطق الخاشع المتذلل، أو فرحا وسرورا لفظ به لفظ الفرح المسرور وهكذا، وبذلك يفسر المعاني بالجرس. ونغم الكلام.

10 - تدبر القرآن وتفهمه

10 - تدبر القرآن وتفهمه: وتسن القراءة بالتدبر. والتفهم. فهو المقصود الأعظم. والمطلوب الأهم، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: 29] وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] وصفة ذلك أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به فيعرف معنى كل آية. ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك. فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر. وإذا مر بآية رحمة استبشر وسأل. أو عذاب أشفق وتعوذ أو تنزيه نزه وعظم. أو دعاء تضرع وطلب. أخرج مسلم عن حذيفة قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها ثم النساء فقرأها. ثم آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل. وإذا مر بتعوذ تعوذ». وروى أبو داود والنسائي وغيرهما عن عوف بن مالك قال: قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقام. فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل. ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، وأخرج أبو داود، والترمذي حديث: «من قرأ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فانتهى إلى آخرها، فليقل: بلى (¬1)، وأنا على ذلك من الشاهدين». ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى آخرها أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) فليقل: بلى. ومن قرأ: والمرسلات فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فليقل: آمنا بالله». وأخرج أحمد، وأبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ ¬

_ (¬1) بلى حرف يجاب به النفي، وهي تنفي النفي فيصير ما بعده مثبتا فصار الكلام بعد الإثبات «الله أحكم الحاكمين». ثم يزيد الأمر توكيدا بأنه على هذه القضية من الشاهدين.

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: «سبحان ربي الأعلى». وأخرج الترمذي، والحاكم عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة فقرأ عليهم سورة «الرحمن» من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجن، فكانوا أحسن مردودا منكم؛ كنت كلما أتيت على قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد». وأخرج أبو داود، وغيره عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ وَلَا الضَّالِّينَ فقال: «آمين» (¬1) يمد بها صوته. وأخرج الطبراني بلفظ: «قال: آمين ثلاث مرات»، وأخرجه البيهقي بلفظ قال: «رب اغفر لي آمين». وأخرج أبو عبيد عن أبي ميسرة أن جبريل لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خاتمة البقرة «آمين»، وأخرج عن معاذ بن جبل أنه كان إذا ختم سورة البقرة قال: «آمين» وهي بالإجماع ليست من القرآن. قال النووي: ومن الآداب إذا قرأ نحو: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] أن يخفض بها صوته كذا كان النخعي يفعل: أقول: وينبغي أن يراعي هذا الأدب في الآيات التي عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عَبَسَ وَتَوَلَّى ومثل يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. ولا بأس بتكرير الآية وترديدها، روى النسائي وغيره عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بآية يرددها حتى أصبح: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) [المائدة 118]. ويستحب البكاء عند قراءة القرآن، والتباكي لمن لا يقدر عليه، والحزن والخشوع قال تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: 109] وفي الصحيحين حديث قراءة ابن مسعود- رضي الله عنه- القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا ¬

_ (¬1) آمين: اسم فعل أمر معناها استجب.

11 - تحسين الصوت بالقراءة وتزيينها

بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً وفيه فإذا عيناه تذرفان أي: تجريان بالدموع، وقيل: إنما بكى رسول الله رحمة لأمته، وشفقة عليهم؛ لأنه علم أنه لا بد أنه يشهد عليهم بعملهم، وعملهم قد لا يكون مستقيما، فقد يفضي إلى تعذيبهم، وقيل: لأنه تمثل أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بالتصديق، وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف، وهو أمر يحق له البكاء، وقيل: بكى فرحا بهذه المنزلة العالية التي لم يعطها أحد من الأنبياء. وفي شعب الإيمان للبيهقي عن سعد بن مالك مرفوعا: «إن هذا القرآن نزل بحزن، وكآبة (¬1)، فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا». وفيه من مرسل عبد الملك بن عمير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني قارئ عليكم سورة، فمن بكى فله الجنة، فإن لم تبكوا فتباكوا». وفي مسند أبي يعلى حديث: «اقرءوا القرآن بالحزن، فإنه نزل بالحزن» وعند الطبراني «أحسن الناس قراءة من إذا قرأ القرآن يتحزن». قال النووي في شرح المهذب: وطريقة تحصيل البكاء أن يتأمل ما يقرأ من التهديد والوعيد الشديد، والمواثيق والعهود، ثم يفكر في تقصيره فيها، فإن لم يحضره عند ذلك حزن، وبكاء، فليبك على فقد ذلك فإنه من المصائب وقد سبق إلى ذلك الغزالي، والبكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين، وشعار الصالحين. وقد كان الصديق الأكبر- رضي الله عنه- بكاء بالقرآن، لا يملك عينيه عند قراءته كما في حديث الهجرة في صحيح البخاري. 11 - تحسين الصوت بالقراءة وتزيينها: يسن تحسين الصوت بقراءة القرآن وتزيينها، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري. وكان حسن الصوت بالقرآن. وكان النبي ¬

_ (¬1) يعني نزل في ظروف كانت مثار أحزان، وآلام وشدائد.

صلى الله عليه وسلم قد سمعه يقرأ القرآن فأعجبه. فقال له: «لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» المراد داود نفسه؛ لأنه لم ينقل أن أحدا من أولاد داود. ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي. والمراد بالمزمار الصوت الحسن، وأصله الآلة أطلق على الصوت الحسن للمشابهة. وروى ابن حبان وغيره: «زينوا القرآن بأصواتكم» وفي لفظ عند الدارمي: «حسنوا القرآن بأصواتكم. فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا» وأخرج البزار وغيره حديث: «حسن الصوت زينة القرآن» وفيه أحاديث صحيحة كثيرة. فإن لم يكن حسن الصوت حسنه ما استطاع بحيث لا يخرج إلى حد التمطيط. القراءة بالألحان والتطريب، والترنيم، والنغم. وإليك الحكم في هذا؛ قال الإمام النووي: وأما القراءة بالألحان فنص الشافعي في المختصر أنه لا بأس بها. وعن رواية الربيع الجيزي أنها مكروهة. فقال أصحابه: ليس الأمر على اختلاف قولين بل على اختلاف حالين. فإن لم يخرج بالألحان على المنهج القويم جاز، وإلا حرم. وحكى الماوردي عن الشافعي أن القراءة بالألحان إذا انتهت إلى إخراج بعض الألفاظ عن مخارجها حرم، وكذا حكى ابن حمدان الحنبلي في الرعاية وقال الغزالي والبندنيجي وصاحب الذخيرة من الحنفية: إن لم يفرط في التمطيط الذي يشوش النظم استحب وإلا فلا. وأغرب الرافعي فحكى عن أمالي السرخسي أنه لا يضر التمطيط مطلقا. وحكاه ابن حمدان رواية عن الحنابلة، وهو شذوذ لا يعرج عليه. والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح؛ ومن جملة تحسينه أن يراعى فيه قوانين النغم فإن حسن الصوت يزداد حسنا بذلك، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها، ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت

12 - الجهر بقراءة القرآن، والإسرار أيهما أفضل

بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام؛ لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء؛ فإن وجد من يراعيهما معا فلا شك في أنه أرجح من غيره؛ لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت، ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء (¬1). وهو كلام من التحقيق والتدقيق بمكان، وقد فصل القول غاية التفصيل وأحسنه، وفيه الكفاية لمن يريد معرفة الحكم الشرعي في هذه المسألة التي كثر فيها الكلام، وقد ورد في هذا المعنى حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها (¬2) وإياكم ولحون أهل الكتابين (¬3) وأهل الفسق، فإنه سيجيء أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية، لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم» أخرجه الطبراني والبيهقي. ويستحب طلب القراءة من حسن الصوت والإصغاء إليها، وذلك لحديث أبي موسى الذي ذكرناه آنفا؛ ففي رواية مسلم في صحيحه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى: «لو رأيتني وأنا أسمع قراءتك البارحة» فقال أبو موسى: أما إني لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيرا؛ أي: لزينته، وحسنته تحسينا. ولا بأس باجتماع الجماعة في القراءة ولا بإدارتها، وهي: أن يقرأ بعض الجماعة قطعة ثم البعض قطعة بعدها، ويستحب قراءته بالتفخيم لحديث الحاكم: «نزل القرآن بالتفخيم» قال الحلبي: ومعناها: أن يقرأه على قراءة الرجال، ولا يخضع الصوت فيه ككلام النساء. 12 - الجهر بقراءة القرآن، والإسرار أيهما أفضل وردت أحاديث تقتضي استحباب رفع الصوت بالقراءة، وأحاديث ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 10 ص 448، 449. (¬2) أي: طريقتهم في الترنم والأداء. (¬3) يعني: كما يفعل اليهود والنصارى في قراءة كتبهم فإنها إلى الغناء والترنيم أقرب منها إلى تحسين الصوت وحسن الأداء وإلى التعمية والخفاء أقرب منها إلى الظهور والوضوح.

13 - أيهما أفضل القراءة من المصحف أم من الحفظ

تقتضي الإسرار وخفض الصوت؛ فمن الأول: حديث الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أذن الله (¬1) لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» وقوله يجهر به: تفسير من أبي سلمة بن عبد الرحمن ليتغنى، أدرج في الحديث، وفي رواية ابن عيينة تفسيره: ب «يستغني به» (¬2) وقد اختلف العلماء في معنى يتغنى على أقوال: أحدها تحسين الصوت بقراءته والجهر به، ثانيها الاستغناء، ثالثها التحزن، رابعها التشاغل، وإنما يتم الاستدلال به على المعنى الأول (¬3) وهو يشهد أيضا لتحسين الصوت بالقرآن. ومن الثاني: حديث أبي داود والترمذي والنسائي «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة»، قال النووي: والجمع بينهما أن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء، أو تأذى مصلون، أو نيام بجهره، والجهر أفضل في غير ذلك؛ لأن العمل فيه أكثر؛ ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين؛ ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم ويزيد في النشاط ويدل لهذا الجمع حديث أبي داود بسند صحيح عن أبي سعيد قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: «ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة». وقال بعضهم: يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها؛ لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار. 13 - أيهما أفضل القراءة من المصحف أم من الحفظ قال السيوطي: القراءة في المصحف أفضل من القراءة من حفظه؛ لأن ¬

_ (¬1) أذن بفتح الهمزة وكسر الذال في الماضي وكذا في المضارع مشترك بين الإباحة والاستماع إلا أن مصدر الأول الإذن بكسرة الهمزة، وسكون الذال ومصدر الثاني الأذن بفتح الهمزة والذال والمراد بالأذن على الثاني في حق الله تعالى إكرام القارئ وإجزال ثوابه والرضا عن فعله؛ لأن ذلك ثمرة الإصغاء والاستماع. (¬2) صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن باب من لم يتغن بالقرآن. (¬3) فتح الباري ج 10 ص 444، 446.

14 - قال في التبيان

النظر فيه عبادة، وقال النووي: هكذا قال أصحابنا، والسلف أيضا، ولم أر فيه خلافا، ثم قال: ولو قيل: إنه يختلف باختلاف الأشخاص، فيختار القراءة فيه لمن استوى خشوعه وتدبره في حالتي القراءة فيه ومن الحفظ ويختار القراءة من الحفظ لمن يكمل بذلك خشوعه، ويزيد على خشوعه وتدبره لو قرأ من المصحف- لكان هذا قولا حسنا قال السيوطي: ومن أدلة القراءة في المصحف ما أخرجه الطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أوس الثقفي مرفوعا: «قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة، وقراءته في المصحف (¬1) تضاعف ألفي درجة». وأخرج أبو عبيد بسند صحيح: «فضل قراءة القرآن نظرا على ما يقرأه ظاهرا. كفضل الفريضة على النافلة» وأخرج البيهقي عن ابن مسعود مرفوعا: «من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف» وقال: إنه منكر، أقول .. والمنكر لا يحتج به، وأخرج بسند حسن عنه موقوفا: «أديموا النظر في المصحف». وحكى الزركشي في البرهان ما بحثه النووي قولا: وحكى معه قولا ثالثا أن من الحفظ أفضل مطلقا، وأن ابن عبد السلام اختاره؛ لأن فيه من التدبير ما لا يحصل بالقراءة من المصحف، وأنا أميل إلى هذا القول، وأرجحه لما فيه أيضا من تثبيت المحفوظ والتأكيد منه ولا كذلك لو قرأ من المصحف. 14 - قال في التبيان: إذا أرتج على القارئ فلم يدر ما بعد الموضع الذي انتهى إليه، فسأل عنه غيره: فينبغي له أن يتأدب بما جاء عن ابن مسعود والنخعي، وبشير ابن ¬

_ (¬1) لعل المراد بالمصحف أي: قراءته من المكتوب؛ لأن تسمية ما فيه القرآن بالمصحف إنما كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان القرآن مكتوبا في العهد النبوي مفرقا لما أسلفنا ولم يبين لنا السيوطي درجة هذا الحديث من الصحة أو الحسن أو الضعف.

أبي مسعود قالوا: إذا سأل أحدكم أخاه عن آية فليقرأ ما قبلها ثم يسكت ولا يقول: كيف كذا وكذا فإنه يلبس عليه، وقال ابن مجاهد: إذا شك القارئ في حرف هل هو بالتاء، أو بالياء فليقرأه بالياء فإن القرآن مذكر، وإن شك في حرف هل هو مهموز، أو غير مهموز فليترك الهمزة (¬1) وإن شك في حرف هل يكون موصولا، أو مقطوعا فليقرأ بالوصل (¬2) وإن شك في حرف هل هو ممدود، أو مقصور، فليقرأ بالقصر، وإن شك في حرف هل هو مفتوح أو مكسور، فليقرأ بالفتح؛ لأن الأول غير لحن في موضع والثاني لحن في بعض المواضع. قال السيوطي: أخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود قال: «إذا اختلفتم في ياء وتاء فاجعلوها ياء، ذكروا القرآن» ففهم منه ثعلب أن ما احتمل تذكيره وتأنيثه كان تذكيره أجود، ورد بأنه يمتنع إرادة تذكير غير الحقيقي التأنيث لكثرة ما في القرآن منه بالتأنيث نحو: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ وإذا امتنع إرادة غير الحقيقي، فالحقيقي أولى؛ قالوا: ولا يستقيم إرادة أن ما احتمل التذكير والتأنيث غلب فيه التذكير؛ كقوله تعالى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فأنث مع جواز التذكير قال تعالى: أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ قالوا: فليس المراد ما فهم بل المراد يذكروا بالموعظة والدعاء، كما قال تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ إلا أنه حذف الجار؛ والمقصود ذكروا الناس بالقرآن، أي: ابعثوهم على حفظه كيلا ينسوه قال السيوطي: أول الأثر يمنع هذا الحمل. وقال الواحدي: الأمر ما ذهب إليه ثعلب، والمراد أنه إذا احتمل اللفظ التذكير والتأنيث ولم يحتج في التذكير إلى مخالفة المصحف ذكر نحو وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ قال: ويدل على إرادة هذا أن أصحاب عبد الله بن مسعود ¬

_ (¬1) لأن الهمزة قد تخفف. (¬2) لأن الأصل الوصل.

15 - هل يجوز قطع القراءة لمكالمة أحد

من قراء الكوفة كحمزة والكسائي، ذهبوا إلى هذا، فقرءوا ما كان من هذا القبيل بالتذكير، نحو يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وهذا في غير الحقيقي. أقول: ولست من هذا الذي ذكروه على ثلج، ولا اطمئنان، فالنص القرآني لا يجوز فيه الاجتهاد، ولا إبدال حرف منه بآخر، ولا كلمة بأخرى ولا يجوز التصرف في حروفه إلا في حدود ما تلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وتلقاه النبي عن رب العزة عن طريق جبريل. ومن شك في حرف أهو بالياء أم بالتاء، وأ هو بالتذكير أم بالتأنيث فليمسك عن قراءته، وليرجع إلى المصحف. أو إلى حافظ ليتأكد من النص القرآني، نعم: ما فيه قراءتان أو أكثر فله أن يقرأه بإحداهما. ولعل أثر ابن مسعود رضي الله عنه إن صح محمول على ما فيه أكثر من قراءة من هذا القبيل فيؤثر قراءة التذكير على التأنيث. لا أنه يقول ذلك ما دام يجوز لغة؛ لأن كثيرا مما جاز لغة لم يجز قراءة؛ وإنما القراءات في حدود المأثور. المنقول بالتواتر. وما من قراءة إلا ولها وجه في اللغة العربية. 15 - هل يجوز قطع القراءة لمكالمة أحد يكره قطع القراءة لمكالمة أحد. وعلل ذلك الحليمي بأن كلام الله لا ينبغي أن يؤثر عليه كلام غيره. وأيده البيهقي بما روي في الصحيح: «كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه»، ويكره أيضا الضحك والعبث. والنظر إلى ما يلهي فإن اضطر إلى مكالمة أحد. أو إلى أي عمل فليختم، فإذا فرغ تعوذ وبدأ من حيث انتهى. 16 - لا يجوز قراءة القرآن بالعجمية (¬1): مطلقا سواء أحسن العربية أم لا، في الصلاة أم خارجها، وعن أبي حنيفة أنه يجوز مطلقا. وعن أبي يوسف ومحمد لمن لا يحسن العربية لكن في شارح البزدوي أن أبا حنيفة رجع عن ذلك، أقول: نعمّا صنع الإمام أبو حنيفة حينما رجع عن ذلك والرجوع إلى الحق فضيلة وهو اللائق بالإمام الجليل. ¬

_ (¬1) العجمية كل ما عدا اللغة العربية التي نزل بها القرآن.

17 - لا تجوز القراءة بالشاذ من القراءات

ووجه المنع وعدم الجواز أنه يذهب إعجازه المقصود منه، والذي هو من أخص خصائص القرآن، والله سبحانه الذي وحد المسلمين تحت راية القرآن يجب أن تتوحد ألسنتهم بلغة القرآن، اللغة العربية الشريفة، ولو جوزنا ذلك لفات هذا الغرض الشريف. وإلى المنع ذهب الإمام القفال من الشافعية، وكان يقول: إن القراءة بالفارسية لا تتصور؛ فقيل له: فإذا لا يقدر أحد أن يفسر القرآن!! فقال: ليس كذلك؛ لأن المفسر يجوز أن يأتي ببعض مراد الله، ويعجز عن البعض، أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد الله تعالى؛ لأن الترجمة إبدال لفظة بلفظة تقوم مقامها، وذلك غير ممكن، بخلاف التفسير. أقول: وما ذكره القفال هو الحق، والذي يجب أن يفتى به؛ فالترجمة الحرفية للقرآن غير ممكنة، أما الترجمة التفسيرية، أو إن شئت الدقة فقل ترجمة تفسيره فهي ممكنة وجائزة. 17 - لا تجوز القراءة بالشاذ من القراءات : وهو ما لم يصح سنده وذلك مثل القراءة الشاذة ملك يوم الدّين على أن ملك فعل ماض، ونصب يوم وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك، لكن ذكر موهوب الجزري جوازها في غير الصلاة قياسا على جواز رواية الحديث بالمعنى. أقول: وما قاله موهوب غير مسلم. والقياس على الرواية بالمعنى قياس مع الفارق، فإن اللفظ في القرآن ركن من أركانه، ولا يتحقق كونه قرآنا إلا به، ولا كذلك الأحاديث، فإن لفظها ليس معجزا والمعول عليه فيها المعنى دون اللفظ، وإن كانت الرواية باللفظ أولى وأفضل عند الجمهور لمن يتيقن منه وحفظه. [مراعاة ترتيب المصحف في القراءة] 18 - الأولى والأفضل أن يقرأ القارئ على ترتيب المصحف؛ لأن هذا الترتيب ارتضاه الصحابة والسلف الصالح- رضوان الله عليهم-: قال في شرح المهذب: لأن ترتيبه لحكمة فلا يتركها إلا فيم ورد فيه

الشرع كصلاة صبح يوم الجمعة بألم تنزيل يعني السجدة وهَلْ أَتى يعني سورة الإنسان، ونظائره، فلو فرق السور، أو عكسها جاز، ولكن قد ترك الأفضل. وقال أيضا: أما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فمتفق على منعه؛ لأنه يذهب بعض أنواع الإعجاز يعني التناسب البلاغي بين الآيات ويزيل حكمة الترتيب. قال السيوطي: وفيه أثر: أخرج الطبراني بسند جيد عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوسا قال: ذاك منكوس القلب. وأما خلط سورة بسورة فعد الحليمي تركه من الآداب لما أخرجه أبو عبيدة عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ببلال وهو يقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة فقال: «يا بلال مررت بك وأنت تقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة» قال: خلطت الطيب بالطيب فقال: «اقرأ السورة على وجهها»، أو قال: «على نحوها»، مرسل صحيح، وهو عند أبي داود موصول عن أبي هريرة بدون آخره. وأخرجه أبو عبيدة من وجه آخر عن عمر بن عفرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «إذا قرأت السورة، فأنفذها» وقال: حدثنا معاذ عن ابن عوف: قال: سألت ابن سيرين عن الرجل يقرأ من السورة آيتين ثم يدعها ويأخذ في غيرها قال: ليتق أحدكم أن يأثم إثما كبيرا وهو لا يشعر، وأخرج عن ابن مسعود قال: إذا ابتدأت في سورة فأردت أن تتحول منها إلى غيرها فتحول إلى قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد فإذا ابتدأت فيها فلا تتحول حتى تختمها. وأخرج عن ابن أبي الهزيل قال: كانوا يكرهون أن يقرءوا بعض الآية ويدعوا بعضها قال أبو عبيد: الأمر عندنا على قراءة الآيات المختلفة، كما أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بلال، وكما أنكره ابن سيرين على من سأله. وأما حديث عبد الله بن مسعود فوجهه عندي أن يبتدئ الرجل في السورة يريد إتمامها، ثم يبدو له في أخرى، فأما من ابتدأ القراءة وهو يريد التنقل من آية إلى آية، وترك التأليف لآي القرآن، فإنما يفعله من لا علم له؛

استيفاء حروف القراءات

لأن الله لو شاء لأنزله على ذلك. وقد نقل القاضي أبو بكر الإجماع على عدم جواز قراءة آية آية من كل سورة. قال البيهقي: وأحسن ما يحتج به أن يقال: إن هذا التأليف لكتاب الله مأخوذ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذه عن جبريل فالأولى للقارئ أن يقرأه على التأليف المنقول وقد قال ابن سيرين: تأليف الله خير من تأليفكم. أقول: والتنقل من آية إلى أخرى ومن سورة إلى أخرى من غير داع يفعله بعض القراء اليوم وبعضهم قد يترك آية تخويف أو زجر ويقرأ ما بعدها، وبعضهم يترك آية السجدة ويستمر في القراءة، والبعض يبدأ حيث لا ينبغي البدء، أو يقف حيث لا يتم الكلام، ومن ذلك أن بعضهم إذا قرأ سورة مريم يبدأ بقوله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) ويدع كهيعص ولا أدري لم هذا ولعل فيما ذكرناه عن السلف وأهل العلم ما يكون فيه مدكر لهم ووازع يزعهم. [استيفاء حروف القراءات] 19 - قال الحليمي: يسن استيفاء كل حرف- أي قراءة- أثبته قارئ ليكون قد أتى على جميع ما هو قرآن: وقال ابن الصلاح والنووي: إذا ابتدأ بقراءة أحد من القراء فينبغي أن لا يزال على تلك القراءة ما دام الكلام مرتبطا، فإذا انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة أخرى، والأولى دوامه على الأولى في هذا المجلس. وقال غيرهما بالمنع مطلقا يعني سواء أكان الكلام مرتبطا بعضه ببعض في المعنى أم لا، قال ابن الجزري: والصواب أن يقال إن كانت إحدى القراءتين منع ذلك منع تحريم؛ كمن يقرأ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ برفعهما أو نصبهما، أخذ رفع آدَمُ من قراءة غير ابن كثير وأخذ رفع كَلِماتٍ من قراءته (¬1)، ونحو ذلك مما لا يجوز في العربية واللغة. ¬

_ (¬1) وأما نصبهما فأخذ نصب آدم من قراءة ابن كثير، ونصب كلمات من قراءة غيره.

الاستماع للقرآن والإنصات إليه

وما لم يكن كذلك فرق فيه بين مقام الرواية، وغيرها، فإن كان على سبيل الرواية حرم أيضا؛ لأنه كذب في الرواية، وتخليط، وإن كان على سبيل التلاوة جاز. أقول: ولعل في هذا زاجرا، وواعظا لبعض القراء الذين يذهبون جمال القرآن بذكر القراءات في اللفظة الواحدة من غير فصل بين قراءة وأخرى، ويريدون إظهار المهارة في القراءات: وما هو- علم الله- من المهارة في شيء، وإنما هو إغراب وإشكال على السامعين، وعدم مراعاة لما يليق بالقرآن، والتأدب في قراءته. [الاستماع للقرآن والإنصات إليه] 20 - يسن الاستماع لقراءة القرآن وترك الكلام والحديث مع الغير واللفظ عند القراءة، والأصل في ذلك قوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) [الأعراف: 304]. وظاهر الأمر للوجوب، وإلى هذا ذهب بعض السلف والعلماء، والجمهور على أنه سنة وليس بواجب في غير الصلاة؛ وذلك لأن الآية نزلت في استماع المأموم عند قراءة الإمام؛ منهم من عمم ذلك في الجهرية والسرية، ومنهم من فرق بين السرية والجهرية، فأوجب القراءة في الأولى دون الثانية ومنهم من لم يفرق بينهما وأوجب القراءة فيهما، والمراد بالاستماع التأمل والتفكير فيه، ولما كان الاستماع قد يكون مع السكوت، وقد يكون مع النطق بكلام آخر لا يحول بين المتكلم وبين فهم ما يسمع عقب الله سبحانه ذلك بالأمر بالإنصات وهو عدم الكلام. وكذلك الإنصات قد يكون مع الاستماع؛ أي: التدبر فيما يسمع والتفكر فيه، وقد يكون مع عدم الاستماع، كأن يكون مفكرا في أمر آخر فمن ثم جمع الله سبحانه وتعالى بينهما؛ لأن المراد الإنصات، مع التدبر والتفكر، فلا يغني أحدهما عن الآخر؛ وقيل المراد بالاستماع الإجابة والعمل، فعلى سامع القرآن أن ينصت؛ ثم يكون العلم والعمل. ¬

_ وهو تلفيق لا يليق ولا يمكن توجيه هذا التلفيق لغة ونحوا أبدا.

21 - السجود عند قراءة آية سجدة.

ومهما يكن من شيء فالإصغاء والاستماع عند قراءة القرآن من الآداب التي ينبغي مراعاتها على كل مسلم تجاه القرآن الذي هو كلام الله. وعسى أن يكون في هذا وازع يزع هؤلاء الذين يرفعون أصواتهم بألفاظ الاستحسان عند سماع القرآن كأنما يستمعون إلى مغن أو مغنية، والله يعلم أنهم لا يعون شيئا مما يسمعون، ومما يزيد الطين بلة أنهم يرفعون أصواتهم المنكرة في المساجد التي هي بيوت الله؛ فلا يراعون لبيوت الله حرمة، كما لا يراعون لكلامه حرمة. 21 - السجود عند قراءة آية سجدة. يسن السجود عند قراءة آية من آيات السجدة في القرآن الكريم. وإلى هذا ذهب الجمهور من العلماء على اختلاف بينهم في أعداد هذه الآيات التي يسجد عندها، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى وجوب السجود للتلاوة، والواجب عنده فوق السنة، ودون الفرض على ما هو اصطلاحه في هذا. وآيات السجدة ذكرت في خمسة عشر موضعا وهي (1) في الأعراف، (2) والرعد، (3) والنحل، (4) والإسراء، (5) ومريم، (6، 7) وفي الحج سجدتان، (8) والفرقان، (9) والنمل، (10) والم تنزيل (11) ص، (12) وحم فصلت (13) والنجم، (14) وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، (15) واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. وقد اختلفت أقوال العلماء في مواضع السجود من هذه المواضع، فذهب الإمام أحمد وآخرون إلى السجود في هذه المواضع الخمسة عشر وذهب الإمام أبو حنيفة وآخرون إلى السجود في أربعة عشر موضعا فعدها كلها إلا سجدة الحج الثانية؛ واعتبر سجدة ص من عزائم السجود. وذهب الإمام الشافعي وطائفة إلى السجود في أربعة عشر موضعا أيضا غير أنه عد آيتي الحج وترك آية ص، وقالوا أنها سجدة شكر وليس من عزائم السجود.

22 - قال الإمام النووي

وذهب الإمام مالك وآخرون إلى السجود في أحد عشر موضعا فأسقط سجدات المفصل- النجم، والانشقاق، واقرأ- وسجدة (ص)، ومواضع السجدات معروفة ومشار إليها في معظم المصاحف، إن لم يكن كلها، واختلفوا في موضع سجدة (حم فصلت)، فقال مالك وطائفة من السلف هي عقب قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ وقال أبو حنيفة والشافعي- رحمهما الله- والجمهور إلى أنها عقب قوله تعالى: وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ وسجود التلاوة واجبا كان أم سنة- على القارئ، والمستمع له ويستحب أيضا للسامع الذي لا يسمع لكن لا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع المصغي (¬1). 22 - قال الإمام النووي: الأوقات المختارة للقراءة أفضلها ما كان في الصلاة، ثم الليل ثم نصفه الأخير، وهي بين المغرب والعشاء محبوبة، وأفضل النهار بعد الصبح ولا تكره في شيء من الأوقات لمعنى فيه، وأما ما رواه ابن أبي داود عن معاذ بن رفاعة عن مشايخه أنهم كرهوا القراءة بعد العصر، وقالوا: هو دراسة يهود فغير مقبول، ولا أصل له، ونختار من الأيام يوم عرفة، ثم الجمعة، والاثنين، والخميس، ومن الأعشار العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، ومن الشهور رمضان، ونختار لابتدائه ليلة الجمعة، ونختمه ليلة الخميس، فقد روى ابن أبي داود عن عثمان بن عفان أنه كان يفعل ذلك، والأفضل، الختم أول النهار، أو أول الليل لما رواه الدارمي بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص قال: «إذا وافق ختم القرآن أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وإن وافق ختمه أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي»، قال في الإحياء: ويكون الختم أول النهار في ركعتي الفجر وأول الليل في ركعتي سنة المغرب، وعن ابن المبارك يستحب الختم في الشتاء أول الليل، وفي الصيف أول النهار، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي ج 5 ص 74 - 77.

23 - التكبير عند قراءة السور القصار من القرآن

وهي آراء على سبيل الاستحباب لا على سبيل الإلزام، ولا أدري ما وجه تفرقة ابن المبارك بين الشتاء والصيف، ويسن صوم يوم الختم، أخرجه ابن أبي داود عن جماعة من التابعين، ويستحب أن يحضر أهله وأصدقاؤه، أخرج الطبراني عن أنس أنه كان إذا ختم القرءان جمع أهله ودعا. وأخرج ابن ابي داود عن الحكم بن عتيبة قال: أرسل إليّ مجاهد، وعنده ابن ابي أمامة وقالا: إنا أرسلنا إليك، لأنا أردنا أن نختم القرآن، ويقول: عنده تنزل الرحمة. 23 - التكبير عند قراءة السور القصار من القرآن: يستحب التكبير من الضحى إلى آخر القرآن، وهي قراءة المكيين، والدليل على هذا ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وابن خزيمة من طريق ابن أبي بزة قال: سمعت عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله المكي فلما بلغت الضحى قال: كبر حتى تختم، فإني قرأت على عبد الله بن كثير فأمرني بذلك، وقال: قرأت على مجاهد فأمرني بذلك، وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب، فأمره بذلك، كذا أخرجناه موقوفا، ثم أخرجه البيهقي من وجه آخر عن ابن أبي بزة مرفوعا، وأخرجه من هذا الوجه- أعني المرفوع- الحاكم في مستدركه، وصححه، وله طرق كثيرة عن البزي وعن موسى بن هارون قال: قال لي البزي: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: إن تركت التكبير فقد تركت سنة من سنن نبيك، قال الحافظ عماد الدين بن كثير وهذا يقتضي تصحيحه للحديث. وقد اختلفت وجهة العلماء في السر في هذا التكبير، فروى أبو العلاء الهمداني عن البزي، أن الأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم انقطع عنه الوحي فقال المشركون: قلا محمدا ربّه، فنزلت سورة الضحى، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير: ولم يرد ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. وقال الحليمي: نكتة التكبير التشبيه للقراءة بصوم رمضان، إذا أكمل

يسن الدعاء عند الختم

عدته يكبر، فكذا هنا يكبر إذا أكمل عدة السورة، قال: وصفته أن يقف بعد كل سورة وقفة قصيرة، ويقول: «الله أكبر» وكذا قال سليم الرازي من الشافعية في تفسيره: يكبر بين كل سورتين تكبيرة، ولا يصل آخر السورة بالتكبير بل يفصل بينهما بسكتة، قال: ومن لا يكبر من القراء حجتهم أن في ذلك ذريعة إلى الزيادة في القرآن، بأن يداوم عليه فيتوهم أنه منه. وكذلك اختلفوا في ابتدائه، أهو من أول الضحى، أم من آخرها، وفي انتهائه. أهو أول سورة الناس أم آخرها، وفي وصله بأولها، أو آخرها وقطعه، والخلاف في الكل مبني على أصل، وهو: أهو لأول السورة أم لآخرها وفي لفظه. فقيل: «الله أكبر» وقيل: «لا إله إلا الله، والله أكبر» وسواء في التكبير في الصلاة، وخارجها، صرح به السخاوي وأبو شامة. [يسن الدعاء عند الختم] 24 - يسن الدعاء عقب الختم وذلك لحديث الطبراني، وغيره عن العرباض بن سارية مرفوعا: «من ختم القرآن فله دعوة مستجابة» وفي شعب الإيمان، من حديث أنس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن وحمد الرب وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، واستغفر ربه، فقد طلب الخير مكانه». [يسن إذا فرغ من ختمة أن يشرع في أخرى] 25 - يسن إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقب الختم؛ لحديث الترمذي وغيره مرفوعا: «أحب الأعمال إلى الله الحال المرتحل، الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما أحل ارتحل». وأخرج الدارمي بسند حسن عن ابن عباس عن أبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) افتتح من الحمد، ثم قرأ من البقرة إلى وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ثم دعا بدعاء الختمة، ثم قام. وقد جرى عمل الناس أنهم إذا وصلوا إلى سورة الإخلاص كرروها ثلاثا وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه منع من تكريرها عند الختم. أقول: ولعل وجهة نظر الإمام أن لا يظن ظان أنها نزلت هكذا مكررة وقال بعضهم: الحكمة فيه ما ورد أنها تعدل ثلث القرآن (¬1) رواه البخاري ¬

_ (¬1) قيل في تعليل كونها تعدل ثلث القرآن أن القرآن عقائد وأحكام؛ ومواعظ

26 - حكم التكسب بالقرآن

فيحصل بذلك ختمة، فإن قيل: كان ينبغي أن تقرأ أربعا ليحصل له ختمتان قلنا: المقصود أن يكون على يقين من ختمة إما التي قرأها، وإما التي حصل على ثوابها بتكرار، قال السيوطي: وحاصل ذلك يرجع إلى جبر ما لعله حصل في القراءة من خلل وكما قاس الحليمي التكبير عند الختم على التكبير عند إكمال رمضان فينبغي أن يقاس تكرير سورة الإخلاص على إتباع رمضان بست من شوال. 26 - حكم التكسب بالقرآن: يكره اتخاذ القرآن معيشة يتكسب بها أي: بقراءته أن لا يكون له عمل غيره أو بالتسول به كما يفعل بعض الناس، والدليل على هذا ما أخرجه الآجري من حديث عمران بن الحصين مرفوعا: «من قرأ القرآن، فليسأل الله به فإنه سيأتي قوم يقرءون القرآن يسألون الناس به» وقد أخرج أبو عبيد، في فضائل القرآن عن أبي سعيد وصححه الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعلموا القرآن، واسألوا الله به قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة نفر: رجل يباهي به ورجل يستأكل به (¬1) ورجل يقرأه لله» وأخرج أحمد وأبو يعلى من حديث عبد الرحمن بن شبل رفعه: «اقرءوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به» الحديث، وسنده قوي كما قال الحافظ، وأخرج أبو عبيد عن عبد الله بن مسعود: سيجيء زمان يسأل فيه بالقرآن فإذا سألوكم فلا تعطوهم (¬2) وروى البخاري في تاريخه الكبير بسند صالح حديث «من قرأ القرآن عند ظالم ليرفع منه لعن بكل حرف عشر لعنات» وذلك لأنه يريد أن يصيب به دنيا من مال أو جاه أو زلفى. ¬

_ وأخبار ورأس العقائد ما يتعلق بالله وتوحيده وصفاته وقد اشتملت السورة على هذا، وقيل معنى ذلك أن ثواب قراءتها يحصل للقارئ مثل ثواب من قرأ ثلث القرآن، وقيل ثواب الثلث من غير تضعيف. (¬1) أي: يطلب الأكل والمعيشة بقراءته. (¬2) فتح الباري ج 10 ص 478.

يكره أن يقول نسيت آية كذا

ومن ثم نرى أن قراءة القرآن بأجر كما يفعل بعض القارئين اليوم، أو للتسول به حرام، أما أخذ الأجر على تحفيظ القرآن وتعليمه للناس أو بيان ما فيه من عقاب وأحكام وحكم فهذا لا شيء فيه بل فاعله مأجور وذو منزلة عند الله وإن كان من لا يأخذ عليه أجرا أعظم أجرا وأعلى منزلة عند الله، وقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (¬1)، رواه أيضا أصحاب السنن الأربعة. وقد كان بعض السلف يكرهون أخذ الأجرة على إقراء القرآن، وتجويده وتعليم العلم، ولكن جمهور العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم العلم والقراءة وسائر الوظائف الدينية كالإمامة والخطابة والوعظ والتذكير، لأنه لو لم يعطوا أجرا لتعطلت هذه الوظائف، ولما وجد من يقوم بها فيدرس العلم ويندر- إن لم ينعدم- العلماء، وحفظة القرآن. [يكره أن يقول نسيت آية كذا] 27 - يكره أن يقول نسيت آية كذا، بل يقول أنسيتها؛ لأن الأولى تفيد التقصير في حق القرآن بخلاف الثانية فإنها لا تشعر بذلك، والأصل في ذلك ما رواه الشيخان في صحيحهما عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت (¬2) بل نسي» أي: بضم النون وتشديد السين المكسورة مبنيا للمجهول هو الذي وقع في جميع الروايات في البخاري، وكذا في أكثر الروايات في غيره، ويؤيده ما وقع في رواية أبي عبيد في الغريب بعد قوله: كيت وكيت ليس هو نسي ولكنه نسى، الأول بفتح النون، وتخفيف السين، والثاني بضم النون وتثقيل السين، هكذا قال الحافظ في الفتح، وذكر القرطبي أنه رواه بعض رواة مسلم مخففا وقال: رواية التثقيل معناه أنه عوقب بوقوع النسيان عليه ¬

_ (¬1) أي: خير المعلمين من قام بتعليم القرآن وتعليمه لغيره؛ أو المراد تعلمه والفقه فيه كما كان الشأن في الصدر الأول للإسلام فإن لم يكن متفقها فيه فهو دون الأول، ويكون غيره خيرا منه، أو أن من مقدرة في الحديث أي: من خيركم، ولا بد في كل هؤلاء من مراعاة الإخلاص الذي هو أساس الخيرية. (¬2) كناية عن الجمل الكثيرة، والحديث الطويل فهي مثل ذيت، وذيت وكذا وكذا.

اختلاف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن للميت

لتفريطه في معاهدته، واستذكاره، ومعنى التخفيف أن الرجل ترك غير ملتفت إليه، وهو كقوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ، أي تركهم في العذاب، أو تركهم من الرحمة (¬1). وقد بين الحافظ في الفتح أن النهي عن قول نسيت آية كذا وكذا ليس للزجر عن هذا اللفظ، بل للزجر عن أسباب تعاطي النسيان المقتضية لقول هذا اللفظ، أقول: أي: أنه من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب، وهو أسلوب معروف في اللغة العربية، قال الحافظ: ويحتمل أن ينزل المنع والإباحة على حالتين: 1 - فمن نشأ نسيانه عن اشتغال بأمر ديني كالجهاد لم يمتنع عليه قول ذلك لأن النسيان لم ينشأ عن إهمال ديني، وعلى ذلك يحمل ما ورد من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسبة النسيان إلى نفسه كما ورد في الحديث الصحيح (¬2) ويكون النهي للتنزيه. 2 - ومن نشأ نسيانه عن اشتغاله بأمر دنيوي، ولا سيما إن كان محظورا امتنع عليه لتعاطي أسباب النسيان. [اختلاف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن للميت] 28 - اختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن للميت، قال السيوطي: الأئمة الثلاثة على وصول ثواب القراءة للميت، ومذهبنا- أي الشافعية- خلافه لقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: 39]. وإليك ما ذكره الإمام الآلوسي في تفسيره لهذه الآية فقد ذكر كلاما حسنا في هذا المقام قال: ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذا جعل ثواب عمله أيّ عمل كان لغيره لا ينجعل، ويلغو جعله- غير تام (¬3). وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لا تلحق ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 10 ص 456، 457. (¬2) المرجع السابق ص 463. (¬3) هذا خبر «أن استدلال ... ».

الأموات، وهو مذهب الإمام مالك، بل قال الإمام ابن الهمام- هو من أئمة الحنفية- إن مالكا، والشافعي، لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة، بل غيرها كالصدقة والحج، وفي الأذكار للنووي عليه الرحمة- المشهور من مذهب الشافعي- رضي الله عنه- وجماعة أنها لا تصل، وذهب أحمد بن حنبل، وجماعة من العلماء، ومن أصحاب الشافعي إلى أنها تصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه: اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، والظاهر أنه إذا قال ذلك ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلان بقلبه كفى، وعن بعضهم اشتراط نية النيابة أول القراءة. قال الآلوسي: وفي القلب منه شيء ثم الظاهر أن ذلك إذا لم تكن القراءة بأجرة، أما إذا كانت بها كما يفعل الناس اليوم، فإنهم يعطون حفظة القرآن أجرة ليقرءوا لموتاهم؛ فيقرءون لتلك الأجرة فلا يصل ثوابها، إذ لا ثواب لها ليصل، لحرمة أخذ الأجرة على قراءة القرآن، وإن لم يحرم لتعليمه، كما حققه خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ محمد الأمين ابن عابدين الدمشقي رحمه الله تعالى، قال: وفي الهداية من كتاب «الحج عن الغير» إطلاق صحة جعل الإنسان عمله لغيره، ولو صلاة، وصوما عند أهل السنة والجماعة، وفيه ما علمت مما مر آنفا، وقال الخفاجي هو- أن كلام صاحب الهداية- محتاج إلى التحرير، وتحريره أن محل الخلاف العبادة البدنية هل تقبل النيابة فتسقط عمن لزمته بفعل غيره سواء كان بإذنه أم لا بعد حياته، أم لا، فهذا وقع في الحج كما ورد في الأحاديث الصحيحة أما الصوم فلا، وما ورد في حديث «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» وكذا غيره من العبادات فقال الطحاوي- هو من محدثي فقهاء الحنفية- إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وليس الكلام في الفدية، وإطعام الطعام فإنه بدل، وكذا إهداء الثواب سواء أكان بعينه أو مثله، فإنه دعاء، وقبوله بفضل الله- عز وجل- كالصدقة فاعرفه انتهى ما ذكره الآلوسي (¬1)، وفي هذا ¬

_ (¬1) تفسير الآلوسي ج 27 ص 58 ط منير.

(حكم الاقتباس وما جرى مجراه)

القدر كفاية في هذه المسألة التي يكثر فيها السؤال دائما. والحق أنه لا خلاف في الدعاء والصدقة لورود الأحاديث الصحيحة الكثيرة فيهما، وكذلك الحج عند الجمهور وأما الصوم ففيه الخلاف وكذا الصلاة. (حكم الاقتباس وما جرى مجراه) ومن المسائل المهمة معرفة حكم الاقتباس من القرآن، وإليك خلاصة ما ذكره العلماء في هذا. قال الإمام السيوطي في الإتقان: الاقتباس تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن لا على أنه منه بأن لا يقال فيه: قال الله تعالى ونحوه، فإن ذلك حينئذ لا يكون اقتباسا، وقد اشتهر عن المالكية تحريمه، وتشديد النكير على فاعله، وأما أهل مذهبنا- يريد الشافعية- فلم يتعرض له الأقدمون، ولا أكثر المتأخرين مع شيوع الاقتباس في أعصارهم واستعمال الشعراء قديما وحديثا. وقد تعرض له جماعة من المتأخرين؛ فسئل عنه الشيخ عز الدين بن عبد السلام فأجازه واستدل بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله في الصلاة وغيرها: «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» (¬1) وقوله: اللهم فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين، واغنني من الفقر (¬2). وفي سياق كلام لأبي بكر الصديق- رضي الله عنه-: «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» (¬3) وفي آخر حديث لابن عمر: قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (¬4). ¬

_ (¬1) هو مقتبس من قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ... الآية [الأنعام: 79]. (¬2) هو مقتبس من قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً الآية 96 من سورة الأنعام. (¬3) هو مقتبس من قوله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا الآية 227 الشعراء. (¬4) هو مقتبس من قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الآية 21 الأحزاب.

وهكذا كله يدل على جوازه في مقام المواعظ، والثناء على الله، والدعاء وفي النثر، ولا دلالة فيه على جوازه في الشعر، وبينهما فرق، فإن القاضي أبا بكر من المالكية صرح بأن تضمينه في الشعر مكروه، وفي النثر جائز. واستعمله أيضا في النثر الإمام القاضي عياض في مواضع من خطبة كتابه «الشفا». وقال الشرف إسماعيل بن المقري اليمني صاحب مختصر الروضة، في شرح بديعته ما كان منه في الخطب، والمواعظ، ومدحه صلى الله عليه وسلم وآله، وصحبه، ولو في النظم فهو مقبول، وغيره مردود. وينبغي أن يلحق بذلك مدح الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين والسلف الصالحين والعلماء العاملين. وقال: في شرح «بديعته»: الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح ومردود: فالأول: ما كان في الخطب، والمواعظ، والعهود. والثاني: ما كان في الغزل، والرسائل، والقصص. والثالث: على ضربين أحدهما، ما نسبه الله إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية عماله فكتب «إن إلينا إيابهم ثم إنا علينا حسابهم» (¬1) [الغاشية: 25، 26]. والآخر: تضمين آية في معنى هزل ونعوذ بالله من ذلك كقوله أحد الشعراء: أرخى إلى عشاقه طرفه ... هيهات، هيهات لما توعدون (¬2) وردفه ينطق من خلفه ... لمثل هذا فليعمل العاملون (¬3) ¬

_ (¬1) أخذ من قوله تعالى في آخر سورة الغاشية الآية 25، 26. (¬2) أخذ هذا من قوله تعالى حكاية لكلام منكري البعث: هَيْهاتَ هَيْهاتَ [المؤمنون: 36]. (¬3) أخذ من هذا من قوله تعالى حكاية: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) [الصافات: 61].

قال السيوطي وهذا التقسيم حسن جدّا، وبه أقول، وأنا أيضا استحسنه جد الاستحسان، وبه أقول. وقد ذكر الشيخ تاج الدين بن السبكي في طبقاته في ترجمة الإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي من كبار الشافعية، وأجلائهم أن من شعره قوله: يا من عدى ثم اعتدى ثم اقترف ... ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف أبشر في قول الله في آية ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف (¬1) ثم عقب فقال: استعمال مثل الأستاذ أبي منصور مثل هذا الاقتباس في شعره له فائدة فإنه جليل القدر، والناس ينهون عن هذا، وربما أدى بحث بعضهم إلى أنه لا يجوز، وقيل إن ذلك إنما يفعله الشعراء الذين هم في كل واد يهيمون ويثبون على الألفاظ وثبة من لا يبالي، وهذا هو الأستاذ أبو منصور من أئمة الدين، وقد فعل هذا، وأسند عنه هذين البيتين الأستاذ أبو القاسم بن عساكر. قال الإمام السيوطي معقبا: ليس هذان البيتان من الاقتباس لتصريحه بقوله الله، وقد قدمنا أن ذلك خارج عنه. وأما أخوه الشيخ بهاء الدين فقال في «عروس الأفراح»: الورع اجتناب ذلك كله، وأن ينزه عن مثله كلام الله ورسوله. ثم قال السيوطي: رأيت استعمال الاقتباس لأئمة أجلاء منهم الإمام أبو القاسم الرافعي وأنشده في أماليه، ورواه عنه أئمة كبار. الملك لله الذي عنت الوجو ... هـ له، وذلت عنده الأرباب متفرد بالملك والسلطان قد ... خسر الذين تجاذبوه وخابوا دعهم وزعم الملك يوم غرورهم ... فسيعلمون غدا من الكذاب (¬2) ¬

_ (¬1) هو مأخوذ من قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38]. (¬2) هو مأخوذ من وقوله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) [القمر: 26].

ما يجري مجرى الاقتباس

وروى البيهقي في شعب الإيمان عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي قال أنشدنا أحمد بن يزيد لنفسه: سل الله من فضله، واتقه ... فإن التقى خير ما نكتسب ومن يتق الله ينع له ... ويرزقه من حيث لا يحتسب (¬1) وأنا أميل إلى عدم استعماله في الشعر، حتى لا يتوهم متوهم أن في القرآن شعرا، وإن كان فعله هؤلاء الأئمة الكبار. وأختم هذا الفصل القيم الذي أمتعنا به الإمام السيوطي في إتقانه (¬2) بأن الكلمة من القرآن الكريم أو الآية يقتبسها المقتبس في كلامه مهما بلغ هذا الكلام من الفصاحة والبلاغة فتضفي على الكلام نورا وبهاء، وروعة وفخامة، وتكون متميزة عما قبلها وما بعدها تميز الدرة اليتيمة الثمينة بين حبات العقد، والجوهرة المتلألئة بين الحصى وحبات الرمل، وكالشمس إذا طلعت كسفت بقوة ضوئها ضوء النجوم والكواكب، وهذا سر من أسرار كتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه ولا تفنى أسراره. ما يجري مجرى الاقتباس ويقرب من الاقتباس شيئان: أحدهما: قراءة القرآن يراد بها الكلام إجابة لسائل، أو ردا على متكلم، أو إفحاما لخصم، أو إشارة إلى ما يراد من معانيه، قال الإمام النووي في التبيان: ذكر ابن أبي داود في هذا اختلافا؛ فروى عن النخعي أنه كان يكره أن يتأول القرآن بشيء، يعرض من أمر الدنيا، وأخرج عن عمر بن الخطاب أنه قرأ في صلاة المغرب بمكة وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) ثم رفع صوته وقال: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يريد بيان أن المراد به مكة. ¬

_ (¬1) هو مأخوذ من قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]. (¬2) ج 1 ص 113، 114.

خاتمة

وأخرج حكيم بن سعد أن رجلا من المحكمة أتى عليّا، وهو في صلاة الصبح فقال: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (¬1) فأجابه في الصلاة: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) (¬2). وقال غيره: يكره ضرب الأمثال من القرآن صرح به من الشافعية العماد البيهقي تلميذ البغوي كما نقله ابن الصلاح في فوائد رحلته. الثاني: التوجيه بالألفاظ القرآنية في الشعر وغيره، والتلويح بها في معانيها القرآنية، وهو جائز- كما قال السيوطي- بلا شك، قال: وروينا عن الشريف تقي الدين الحسيني أنه لما نظم قوله: مجاز حقيقتها فاعبروا ... ولا تعمروا هونوها تهن وما حسن بيت له زخرف ... تراه إذا زلزلت لم يكن خشى أن يكون ارتكب حراما لاستعماله هذه الألفاظ القرآنية في الشعر فجاء إلى شيخ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد يسأله عن ذلك، فأنشده إياهما، فقال له: قل وما حسن كهف .. فقال يا سيدي أفدتني، وأفتيتني. خاتمة [لا يجوز تعدى امثلة القرآن] قال الزركشي في كتابه البرهان: لا يجوز تعدي أمثلة القرآن ولذلك أنكر على الحريري قوله: «فأدخلني بيتا أحرج من التابوت وأوهى من بيت العنكبوت». وأي معنى أبلغ من معنى أكده الله من ستة أوجه حيث قال: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ فأدخل إن، وبنى أفعل التفضيل وبناه من الوهن، وأضافه إلى الجمع، وعرف الجمع باللام وأتى في خبر إن باللام. والإنكار على الحريرى غير متجه؛ فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها والآية تحتمل معنيين أحدهما: ¬

_ (¬1) هو من قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الآية 65 الزمر. (¬2) هو من قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) الآية 60 من الروم.

لا يجوز كتابة القرآن بغير الحروف العربية

فما فوقها في الحجم والمقدار، وثانيهما: فما فوقها أي في الخسة والقدر، يعني فما دونها في الحجم، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب المثل بما دون البعوضة، فقال: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء». وبهذا انتهينا من هذه المسائل والفوائد التي لا يستغنى مسلم عن معرفتها والتأدب بها. نسأل الله سبحانه أن يرزقنا الأدب معه ومع كتابه، ومع نبيه. لا يجوز كتابة القرآن بغير الحروف العربية كنت قد كتبت هذا العنوان ريثما أكتب تحته ما أريد ثم طبع العنوان ص 366 من غير شيء وها أنا ذا أستدرك ما فات، فأقول وبالله التوفيق: من المجمع عليه أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير اللغة العربية لا في الصلاة ولا في خارجها؛ لأن الله أنزله قرآنا عربيا قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]، وقال: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3] وقال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء: 193 - 195] ولم يقل قرآنا أعجميا، وركنا القرآن اللفظ والمعنى معا فإذا قرأ بغير العربية لا يسمى قرآنا. وما روي عن الإمام الأعظم أبي حنيفة أنه جوز القرآن بالفارسية في الصلاة للعاجزين عن العربية قد نقل بعض المحققين من أتباعه أنه رجع عنه (¬1) وبذلك صار الأمر إجماعا من الفقهاء والقرآن كما ذكرت في مقدمة الكتاب هو الذي وحد بين المسلمين في اللسان كما وحد بينهم في العقيدة والشريعة، وبفضل القرآن كان المسلمون على اختلاف أجناسهم ولغاتهم يتكلمون اللغة العربية من المحيط إلى المحيط بل من الفرس، والرومان وغيرهم من أجاد اللغة العربية إجادة العرب الخلص لها، ومؤلفاتهم التي لا ¬

_ (¬1) حدث الأحداث في الإسلام الإقدام على ترجمة القرآن ص 6 ط الثانية.

يحصيها العد أكبر دليل على هذا وهذا أمر لم يكن لغير القرآن، وهو سر من أسرار الإعجاز والبيان وصدق الله تعالى في قوله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) (¬1). وكما لا يجوز قراءة القرآن بغير اللفظ العربي المبين الذي نزل به، لا يجوز بالإجماع كتابته بغير الحروف العربية، لا باللاتينية، ولا بغيرها من اللغات، لأن القرآن عربي في لفظه وعربي في حروفه وكتابته، ورسم القرآن كما رجحنا سابقا توقيفي وسنة متبعة لا تجوز مخالفته، والصحابة رضوان الله عليهم لما كتبوا المصاحف لم يكتبوها إلا بالحروف العربية، وهذا إجماع لا تجوز مخالفته ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما كاتب الملوك والأمراء بعد صلح الحديبية كاتبهم باللغة العربية (¬2)، حتى فيما ليس بقرآن فإذا كان هذا في غير القرآن فما بالك بالقرآن ونصوص الكتب مدونة في كتب السير والحديث والتاريخ ولم أقف على كتاب منها كتب بغير اللغة العربية، والحروف العربية ومن ادعى خلاف ذلك فعليه البيان. فالدعوة إلى كتابة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية أو بغيرها دعوة آثمة ملحدة هدامة تدعو إلى فصم العروة الوثقى التي تربط بين المسلمين جميعا عربا، وغير عرب، وهي القرآن ولغة القرآن. وكما أن اللغة العربية شعار الإسلام والمسلمين، فكذلك الحروف العربية شعارهم ومن منذ نصف قرن قام بعض المصريين وغيرهم يدعون إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، ولكن الله قيض لهم من المخلصين من علماء هذه الأمة من قبرها في مهدها، ورد كيد أهلها في نحورهم، وباءوا بغضب من الله والناس. إننا لو جوزنا هذا في كتابة القرآن الكريم لفتح باب شر مستطير، ¬

_ (¬1) سورة القمر وقد تكررت فيها أربعة مرات. (¬2) انظر صورة كتاب رسول الله إلى المقوقس عظيم الروم في كتاب الوسيط في الأدب العربي ص 122 ط أولى.

فسيكتب كل أصحاب لغة من المسلمين القرآن بحروفهم وحينئذ تكون الطامة الكبرى فسيكون وسيلة لتحريف القرآن الكريم ولزوال الوحدة العربية اللسانية الممثلة في لغة القرآن بين المسلمين، وما من دولة إسلامية غير عربية إلا وهي لا تحفظ القرآن إلا بلفظه العربي المبين، ولا تكتبه إلا بحروفه العربية التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليها المسلمون، بل بعض هذه الدول الإسلامية جعلت تدريس اللغة العربية في مدارسها، وجامعاتها ومعاهدها أمرا لزاما، بل بعضها يسعى في جعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد. إن الدعوة إلى كتابة اللغة العربية أو القرآن بالحروف اللاتينية أو غيرها هي جناية في حق الوطن العربي، بل وفي حق الوطن الإسلامي، فضلا عن كونها جريمة في حق الدين الإسلامي، وقد كانت دسيسة استعمارية أو أثرا من آثار الصليبية، ولكن الله وقى الوطن العربي والإسلامي شرورها، فلله الحمد والمنة. والحمد لله في البداية كما حمدناه في النهاية، وصلى الله تبارك وتعالى على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين. كتبه الفقير إلى عفو ربه محمد بن محمد أبو شهبه من علماء الأزهر الشريف*****

أهم مراجع الكتاب

أهم مراجع الكتاب (1) القرآن الكريم. (2) تفسير ابن جرير، والبغوي، والزمخشري، والرازي، والقرطبي، وابن كثير، والآلوسي، والمنار، وغيرهم. (3) أسباب النزول: للواحدي، والسيوطي وغيرهما. (4) سنن أبي داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، ومسند الإمام أحمد. (5) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري للحافظ ابن حجر. (6) صحيح مسلم بشرحه، للإمام محيي الدين النووي. (7) البرهان في علوم القرآن، للزركشي. (8) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي. ط الحلبي. (9) مناهل العرفان في علوم القرآن، لأستاذنا الشيخ عبد العظيم الزرقاني. (10) منهج القرآن في علوم القرآن، للعالم الشيخ محمد علي سلامة. (11) «التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن»، الشيخ طاهر الجزائري. (12) نقض مطاعن القرآن، للعلامة الشيخ محمد عرفة. (13) كتاب الوحي المحمدي، للعلامة السيد محمد رشيد رضا. (14) النبأ العظيم، للعلامة الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز. (15) رسالة في أصول التفسير، للإمام تقي الدين أحمد بن تيمية. (16) إيقاظ الأعلام في اتباع رسم المصحف الإمام، الشيخ محمد الشنقيطي. (17) القراءات واللهجات، للأستاذ عبد الوهاب حمودة. (18) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، للدكتور محمد محمد أبو شهبة. (19) تاريخ القرآن، للزنجاني. (20) مدخل إلى القرآن، للمستشرق الفرنسي «بلاشير». (21) رسالة في القراءات الشواذ، للدكتور مصطفى مندور. (22) تاريخ القرآن، للمستشرق «نولدكه». (23) دائرة المعارف الإسلامية مادة «قرآن». (24) كتب اللغة: لسان العرب، القاموس المحيط، المصباح المنير.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات الموضوع الصحيفة التعريف بالقرآن الكريم مقدمة الطبعة الثالثة 3 مقدمة الطبعة الثانية 5 مقدمة الطبعة الأولى 7 القرآن هو المعجزة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم 8 تكرار التحدي بالقرآن وحكمته 8 1 - القرآن كتاب العربية الأكبر 10 2 - القرآن الكريم كتاب الهداية الكبرى 10 3 - القرآن حارب التقليد ودعا إلى النظر والتأمل في الكون 11 4 - القرآن فتح الباب للعلوم الكونية والتجريبية 13 5 - القرآن حارب العنصرية، والعنجهية الجاهلية 13 6 - القرآن هو الذي كون الأمة المثالية 14 تقدم العلوم لا يزيد القرآن إلا ثبوتا ورسوخا، ويكشف عما فيه من أسرار 14 حديث من جوامع الكلم في وصف القرآن 15 7 - عناية الأمة الإسلامية بالقرآن 16 المبحث الأول معنى علوم القرآن وتحليل هذا المركب الإضافي 1 - معنى (علوم) ومعنى (القرآن) وهو علم مشتق أم جامد 18 ومهموز أم غير مهموز 19 2 - تعريف القرآن، عند الأصوليين والفقهاء، وأهل العربية 21 معنى القرآن عند المتكلمين 22 القرآن علم شخصي، أم مسماه أمر كلي كالمشترك المعنوي 23 3 - أشهر أسماء القرآن الكريم 24 4 - تعريف علوم القرآن بمعناه الإضافي 25 5 - علوم القرآن بمعناه العلمي على الفن المدون 26

موضوع علوم القرآن على كلا المعنيين 26 فائدة دراسة علوم القرآن 27 6 - تاريخ علوم القرآن 28 قبل عصر التدوين في العهد النبوي وفي عهد الصحابة 28 علم الصحابة بالقرآن 28 رجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا خفي عليهم شيء من عقائده وأحكامه وآدابه 29 رجوعهم إلى لغة العرب إذا غاب عنهم بعض معانيه اللغوية 29 جمع الصحابة بين الحفظ، والعلم، والعمل 29 عصر التدوين 31 بدء التدوين في علوم القرآن بمعناه العام 32 أشهر المؤلفين في التفسير 32 أشهر المؤلفين في أسباب النزول، وفي الناسخ والمنسوخ، وفي مشكله وفي غريبه ومفرداته، وفي إعرابه وفي إعجازه، وفي مجازه، وفي قراءاته وفي أقسامه، وفي أمثاله، وفي فضائله 33 منهج هؤلاء في تأليف كتبهم 34 7 - علوم القرآن بمعنى الفن المدون 34 متى ظهر هذا الاصطلاح 35 رأي السيوطي 35 رأي المؤلف ودليله 35 رأي أستاذنا الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني رحمه الله والتعقيب عليه ببيان الحق 36 المؤلفات في القرن السادس 37 المؤلفات في القرن السابع 37 المؤلفات في القرن الثامن 37 المؤلفات في القرن التاسع وهو القرن الذهبي في تدوين علوم القرآن 38 فارس الحلبة السيوطي 39 جمعه خلاصة الكتب السابقة في كتابه 39 الإتقان في علوم القرآن 40 8 - الإتقان في (الميزان) محاسن الكتاب 40 مآخذي على الكتاب 41 محاولة المؤلف الاعتذار عن صاحب الإتقان 42 عصر نهضة العلوم 42 إدخال الدراسات العليا التخصصية في علوم القرآن في الأزهر الشريف جامعة المسلمين الكبرى 43 جدت مباحث أخرى أضيفت إلى ما ذكره العلماء المتقدمون 43

الرد على الشبه التي أثارها المبشرون والمستشرقون ومتابعوهم على القرآن الكريم 43 أشهر المؤلفات في العصر الأخير 43 9 - رسائل وكتب في بعض علوم القرآن لعلماء، وأدباء 44 10 - كتب ورسائل حول ترجمة القرآن الكريم 45 استمرار التأليف في علوم القرآن، أو بعض أنواعه 46 نشاط هذه الحركة لعلماء أزهريين وغير أزهريين 46 من منن الله عليّ وما أكثرها 46 مشاركتي في هذا المضمار الشريف، ظهور كتب جيدة، ورسائل علمية في مصر وفي غير مصر 46 المبحث الثاني نزول القرآن الكريم 1 - معنى النزول لغة وشرعا 47 وجود القرآن في اللوح المحفوظ 48 وجوده في السماء الدنيا 48 2 - أين كان القرآن قبل النزول 48 نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم 48 ما هو اللوح المحفوظ 49 وما الحكمة في وجوده 49 3 - نزول القرآن الكريم 50 نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا 50 الأدلة على ذلك 50 الحكمة في هذا النزول 54 4 - كيف كان هذا النزول ومدته 55 نزول جبريل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا منجما 56 تحقيق المدة التي نزل فيها القرآن 56 5 - الأدلة على نزول القرآن على النبي مفرقا 57 6 - نزول الكتب السماوية السابقة جملة 59 الدليل عليه 59 7 - كيف كان جبريل عليه السلام يتلقى الوحي من الله 60 8 - كيف كان يتلقى النبي الوحي من جبريل 61 القرآن كله نزل على النبي عن طريق جبريل في اليقظة لا مناما، ولا إلهاما ولا مكالمة من غير واسطة 62 بيان الحق في الروايات التي ظاهرها يخالف هذا 64

تلقي النبي القرآن عن جبريل وهو على صفته الملائكية 65 الأدلة على ذلك 65 ما كان يصاحب نزول جبريل بالوحي من أمارات 65 9 - ما الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم 67 القرآن لفظه ومعناه كلام الله ليس لجبريل، ولا للنبي فيه إلا البلاغ 67 رأيان باطلان مدسوسان على علماء الإسلام ذكرهما السيوطي في (الإتقان) ولم يعقب عليهما بالبطلان 67 نزول جبريل بوحي السنة كما كان ينزل بوحي القرآن 68 الفرق بين الوحيين 69 10 - حكم نزول القرآن الكريم منجّما مفرقا 70 (1) الحكمة الأولى ويندرج تحتها أمران 70 (2) الحكمة الثانية ويندرج تحتها أربعة أمور 73 (3) الحكمة الثالثة ويندرج تحتها أربعة أمور 77 (4) الحكمة الرابعة- تتمة مهمة 81 11 - الوحي لغة واستعمالاته 83 تعريف الوحي شرعا 84 أقسام الوحي الشرعي وكيفياته: 85 (1) تكليم الله أنبياءه من وراء حجاب 85 التكليم في المنام 85 (2) الإلهام أو القذف في القلب 86 (3) الرؤيا في المنام 86 (4) إعلام الله أنبياءه بوساطة جبريل وتحته كيفيات ثلاثة 86 إمكان الوحي ووقوعه 87 إمكان الوحي وعدم استحالته 87 العلم يؤيد معنى الوحي وإمكانه 88 الدليل على وقوع الوحي 89 12 - الشبه التي أوردت على الوحي: 91 شبهة الوحي النفسي 91 المقدمات الست التي استندوا إليها 92 إبطال هذه المقدمات فبطل ما أدت إليه من فكرة الوحي النفسي 94 رد عام لهذه الفكرة 100 13 - زعمهم أن قصة الوحي المحمدي كقصة (جان دارك) الفرنسية 101 إبطال ذلك 102 شبهة أخرى 103

مزاعم بعض المبشرين والمستشرقين وأبواقهم أن ما كان يعتري النبي صلى الله عليه وسلم عن الوحي حالة من حالات الصرع 105 الرد على هذه المزاعم، من ناحية العقل، والعلم، والتاريخ الصحيح حجة علمية دامغة أسفر عنها الطب الحديث ترد هذه الفرية 106 المبحث الثالث أول ما نزل من القرآن، وآخر ما نزل منه 1 - أول ما نزل من القرآن 109 فوائد هذا المبحث 109 2 الأقوال في أول ما نزل من القرآن: 110 (1) القول الأول: أول ما نزل صدر سورة اقرأ 110 (2) القول الثاني: صدر سورة المدثر 112 (3) القول الثالث: أول ما نزل سورة الفاتحة 115 (4) القول الرابع: أول ما نزل البسملة 116 مناقشة الأقوال وبيان أن القول الأول هو الراجح 116 3 - آخر ما نزل من القرآن فيه أقوال عشرة 117 الرأي المختار أن آخر ما نزل هو قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... الآية 118 الإجابة عن باقي الأقوال 118 زعم أن آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... آخر ما نزل من القرآن 125 4 - التنبيه على خطأ مشهور وقع فيه بعض العلماء المتأخرين 125 ما المراد بإكمال الدين في الآية 126 5 - أمثلة لأوائل وأواخر مقيدة بموضوع خاص: 127 أول ما نزل في الخمر وآخر ما نزل فيها 128 أول ما نزل في الجهاد وآخر ما نزل فيه 129 أول ما نزل في شأن القتل وآخر ما نزل فيه 129 أول ما نزل في الأطعمة وآخر ما نزل فيها 129 أول ما نزل من سورة التوبة وآخر ما نزل منها 130 أول سورة نزلت بمكة وآخر سورة نزلت بها 130 أول سورة نزلت بالمدينة 130 وآخر سورة نزلت بالمدينة 131

المبحث الرابع أسباب النزول القرآن منه ما نزل بسبب ومنه ما نزل من غير سبق سبب 132 المؤلفات في أسباب النزول 132 ما هو سبب النزول 132 طريق معرفة سبب النزول 133 من يرجع إليهم في معرفة سبب النزول 134 قول الصحابي في سبب النزول 135 قول التابعي في سبب النزول 135 التثبت في سبب النزول 135 فوائد معرفة سبب النزول: 136 الفائدة الأولى: الاستعانة على فهم الآية وإزالة الإشكال 136 أمثلة خمسة لذلك 136 خطأ وقع فيه الزركشي في البرهان، ولم يتنبه له محقق الكتاب ونقله السيوطي في الإتقان في ذكر عثمان بن مظعون بدل أخيه قدامة بن مظعون في مسألة شربه الخمر متأولا وقد نبهت عليه 138 الفائدة الثانية: يعين على فهم حكمة التشريع 141 الفائدة الثالثة: رفع توهم الحصر في بعض الآيات القرآنية 141 الفائدة الرابعة: تعيين المبهم في بعض الآيات 142 الفائدة الخامسة: عدم خروج السبب من حكم الآية 143 الفائدة السادسة: تخصيص الحكم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب 143 الفائدة السابعة: تثبيت الوحي، وتأكيد الحكم في ذهن السامع 143 التعبير عن سبب النزول 144 قول التابعي في سبب النزول 145 تعدد الأسباب والمنزل واحد 146 لذلك صور أربعة مع ضرب الأمثلة لكل صورة 146 تنبيه مهم 152 تعدد المنزل والسبب واحد 153 عموم اللفظ وخصوص السبب 155 رأي جمهور العلماء أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب 156 رأي البعض أن العبرة بخصوص السبب 156 اتفاق الكل على أن الحكم عام 156

تنبيهات مهمة 157 ثمرة الخلاف بين الجمهور وغيرهم 158 أدلة الجمهور 158 أدلة غير الجمهور 160 مثال للفظ خاص نزل على سبب خاص آية وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى 162 شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام 163 المبحث الخامس نزول القرآن على سبعة أحرف حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، الحديث متواتر 166 الروايات الواردة في الصحيحين وغيرها في هذا المعنى 167 ما يستخلص من الروايات 171 التيسير على الأمة 171 التوسعة في الألفاظ لا في المعاني 172 التوسعة في حدود المنزل من الله لا بالهوى والتشهي 172 الأمة مخيرة في القراءة بأي حرف منها 173 التوسعة كانت بعد الهجرة 173 حرص الصحابة البالغ على المحافظة على النص القرآني 173 الأقوال في الأحرف السبعة: تشعب الأقوال حتى وصلت إلى خمسة وثلاثين قولا 174 القول الأول: بأن الحديث مشكل ورده 174 القول الثاني: بأن المراد بالسبعة التكثير لا التحديد، ورده 175 القول الثالث: وهو سبع ألفاظ (لغات) في المعنى الواحد وهو المختار عند جمهرة العلماء وعندي، ورد ما ورد عليه من شبهات 176 منزلة اللّغة القرشية بين لغات العرب 183 القول الرابع: المراد سبع لغات متفرقة في القرآن كله ومناقشته 185 القول الخامس: لابن قتيبة 188 القول السادس: لأبي الفضل الرازي 189 القول السابع: لأبي بكر الباقلاني 190 القول الثامن: لابن الجزري 191 نقد هذه الآراء الثلاثة 193 القول التاسع ومناقشته 194 الأحرف السبعة ليست هي القراءات السبع بالإجماع 195

القول العاشر: المراد سبعة أنواع من الكلام 196 اختلاف المرويات في تحديد الأنواع 196 نقد هذا الرأي من جهة الرواية (السند) والدراية (المعنى) 197 المحامل الصحيحة لما روي في بيان الأنواع 199 أقوال أخرى باطلة وردها 199 إزالة شبهة في أحاديث مروية في هذا المعنى وبيان مفصل الحق فيها 200 إزالة شبهة أخرى حول ما روي من تغيير بعض ألفاظ القرآن بألفاظ أخرى 203 إجماع علماء الأمة على عدم جواز إبدال لفظ قرآني بآخر بمعناه 204 زعم باطل للمستشرق (بلاشير) في جواز القراءة بالمعنى ومتابعة تلميذة الدكتور مصطفى مندور له في زعمه والزيادة عليه 206 رد هذه المزاعم الباطلة الآثمة 208 جملة الأقوال في الأحرف السبعة ونقد هذه الكثرة 211 موقف الشيعة من حيث الأحرف السبعة، منهم موافق، ومنهم مخالف وطعن في صحة الحديث، وهم الأكثر، الرد عليهم 211 هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف آراء العلماء في هذا 215 المبحث السادس المكي والمدني أهمية البحث، المؤلفون فيه 218 فوائد العلم بالمكي والمدني والطريق إلى معرفة ذلك 219 آراء العلماء في تعريف المكي والمدني، وبيان الرأي المختار 220 أنواع السور المكية والمدنية 222 الاعتماد في وصف السورة بكونها مكية أو مدنية 223 عدد السور المكية باتفاق، والسور المدنية باتفاق، والسور المختلف فيها 224 المكي والمدني على ترتيب النزول 225 الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني 226 مميزات القسم المكي 227 مميزات القسم المدني 230 الشبة التي أثيرت حول المكي والمدني 232 تتلمذ بعض المسلمين والعرب على المستشرقين والمبشرين ونقلهم لآرائهم وإذاعتها بين شباب المسلمين باسم العلم وحرية البحث 232 رد بعض العلماء الأزهريين وغيرهم عليهم 233 الشبهة الأولى 233 الشبهة الثانية 235

الشبهة الثالثة 239 الشبهة الرابعة 242 الشبهة الخامسة 244 الشبهة السادسة 247 صلات تتعلق بالمكي والمدني: 250 الأولى: الحضري والسفري 251 الثانية: النهاري والليلي 252 الثالثة: الصيفي والشتائي 253 الرابعة: ما تأخر حكمه عن نزوله، وما تأخر نزوله عن حكمه 254 الخامسة: ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة وما حمل من المدينة إلى الحبشة، وما حمل من المدينة إلى بلاد الروم 258 السادسة: ما نزل مفرقا، وما نزل جمعا 258 ضرب أمثلة لكل ما تقدم 259 المبحث السابع جمع القرآن وتاريخه الجمع بمعنى الحفظ في الصدر 260 حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن 260 حفظ الصحابة رضوان الله عليهم له 261 حديث أنس في أنه لم يحفظ القرآن غير أربعة 262 والإجابة عنه بما يشفي ويكفي 263 حفظ الألوف للقرآن حتى وصل إلينا كما أنزله الله 264 كتابه القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا، لما لم يكتب في مكان واحد 265 السبب الباعث على كتابته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم 266 كتابة القرآن وجمعه في عهد الصديق أبي بكر رضي الله عنه 268 تولي زيد بن ثابت رضي الله عنه هذه المهمة الشاقة 269 معاونة بعض كبار الصحابة له كعمر رضي الله عنه 269 السبب الباعث على كتابته في هذا العهد 270 ما امتاز به الجمع في عهد الصديق 271 الصحف التي كتبت في عهده هي التي تحظى بالثقة والاطمئنان والصحف التي كانت عند بعض الصحابة لم تقتصر على النص القرآني بل جمعت بعض أدعية، وتفسيرات 271 كتابة القرآن في المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه 272 الجماعة الذين قاموا بكتابة المصاحف 273

كتابة المصاحف مكرمة لسيدنا عثمان 276 إجماع الصحابة على ما ارتآه عثمان 276 شهادة سيدنا علي له واعترافه بفضله في كتابة المصاحف 276 هل يجوز حرق كتب العلم ونحوها 276 السبب الباعث على كتابة المصاحف 277 ما امتاز به جمع القرآن في عهد ذي النورين عثمان 278 متى عرف تسمية القرآن بالمصحف 278 عدد المصاحف التي وجه بها عثمان إلى الأمصار 279 السبب في تعدد المصاحف 280 هل توجد المصاحف العثمانية الآن 281 الشبه التي أوردت على جمع القرآن وردها 283 رد دعاوى المستشرقين والمبشرين على القرآن ومنهجهم في البحث 283 الشبهة الأولى: الزعم بأن الصحابة لم يجمعوا على كتابة المصاحف 284 الشبهة الثانية: دعوى أن بعض آيات القرآن لم تتواتر 285 الشبهة الثالثة: الزعم بأن القرآن زيد فيه ما ليس منه 286 الشبهة الرابعة: دعوى أن القرآن لم يكتب في المصاحف 287 الشبهة الخامسة: مزاعم بعض الشيعة من أن القرآن قد نقص منه بعض الآي والسور 288 الشبهة السادسة: مزاعم صاحب (ذيل مقالة في الإسلام) وهي أن القرآن قد أسقط منه ما هو منه وزيد فيه ما ليس منه 289 الشبهة السابعة: قول السيدة عائشة: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات ... » 295 الشبهة الثامنة: زعم أن قول النبي: «لو كان لابن آدم واديان من مال ... » من القرآن 297 الشبهة التاسعة: حديث «كان مما أنزل الله آية الرجم ... » وبيان مفصل الحق فيه 300 الشبهة العاشرة: الزعم بأن سورة لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قد نقص منها ما هو منها 304 الشبهة الحادية عشر: روايات يوهم ظاهرها سقوط شيء من القرآن وبيان الحق فيها 306 رد عام عن الشبه بعد الردود الخاصة 307

المبحث الثامن ترتيب آيات القرآن وسوره الآية في اللّغة، وفي الاصطلاح 309 معنى الفاصلة 310 اختلاف الآيات طولا وقصرا 310 فوائد معرفة الآيات 310 عدد آيات القرآن 311 السبب في الاختلاف في عدد الآي 312 لمعرفة رءوس الآي طريقان: توقيفي، وقياسي 312 معرفة الآيات توقيفية أي لا مجال للرأي فيها 313 عدد كلمات القرآن وحروفه 313 ترتيب الآيات توقيفي بالإجماع 314 ترتيب آيات القرآن ليس بحسب نزول وإنما يرجع إلى المناسبات والروابط البلاغية 316 السور وترتيبها: معنى السورة لغة، واصطلاحا 317 معرفة السور توقيفي 317 هل يقال سورة البقرة مثلا 318 الحكمة في جعل القرآن الكريم سورا 319 عدد سور القرآن 320 لا يجوز إطلاق السورة والآية على إصحاحات التوراة والإنجيل وفقراتهما 320 أسامي السور 320 التسمية توقيفية أم اجتهادية 321 كلام حسن جيد للزركشي في هذا المقام 321 تعقيب للإمام السيوطي على كلام الزركشي صاحب البرهان: لم لم يفرد لموسى عليه السلام سورة تسمى به وكذلك آدم عليه السلام وداود عليه السلام 322 جواب للمؤلف لم يسبق إليه 323 تقسيم السور باعتبار الطول والقصر الطوال والمئون، والمثاني، والمفصل وبيان أقسام المفصل 324 تقسيم السور من حيث عدد الآيات اتفاقا واختلافا 324 ترتيب سور القرآن، مذاهب العلماء في هذا 325 لا يجوز مخالفة ترتيب المصحف عند كتابة المصاحف وطبعها بالإجماع 330

ترتيب السورة في التلاوة مندوب وليس بواجب 330 المبحث التاسع كتابة القرآن ورسمه الكتابة عند العرب: ممن تعلموها وجودها في العرب قبيل الإسلام إرهاص لبعثة خاتم الرسل 332 الإسلام والكتابة 333 الإسلام رفع من شأن الكتابة والعلم 333 استفاضة القرآن والسنة النبوية بذلك 333 سبق النبي صلى الله عليه وسلم إلى إزالة الأمية من منذ أربعة عشر قرنا 334 كتابة القرآن الكريم 334 كتاب الوحي 335 رسم المصاحف العثمانية 337 ما معنى الرسم 337 أشهر الكتب المؤلفة في الرسم 337 القواعد التي اتبعت في رسم المصاحف 337 1 - الحذف، 2 - الزيادة 338 3 - الهمز 339 4 - البدل 340 5 - الفصل والوصل 341 ما فيه قراءتان متواترتان وكتب على إحداهما 341 رسم المصحف توقيفي أم اصطلاحي 341 مذهب الجمهور أن الرسم توقيفي 343 أدلتهم على هذا 343 أقوال الأئمة في التزام الرسم العثماني 344 هل صار النبي قارئا كاتبا بعد أن لم يكن قارئا كاتبا 345 رأيان للعلماء، وأدلة كل فريق 345 كونه صلى الله عليه وسلم صار يعرف الكتابة وإن لم يحسنها لا يخل بالمعجزة الكبرى وهي القرآن 346 فوائد الرسم العثماني: اتصال السند بالقرآن الكريم 348 الدلالة على أصل الحركة 349 الدلالة على بعض اللغات الفصيحة 349 الدلالة على معان خفية دقيقة تدرك بالذوق والوجدان 349

تعليلات جيدة للشيخ المراكشي 350 اجتهادات للمؤلف في تعليل رسم بعض الآيات 350 مذهب الإمام الباقلاني، وابن خلدون في أن الرسم اجتهادي 353 أدلتهما 354 الرد عليهما 355 رأي الشيخ العلامة عبد العزيز الدباغ في كتابه (الذهب الإبريز) في أن الرسم توقيفي 356 كلام حسن له في هذا 356 رأي ثالث للإمام العز بن عبد السلام، وهو وسط بين الرأيين 358 رأي جديد للمؤلف جدير بالبحث والنظر وهو المحافظة على الرسم العثماني بالنسبة للمصاحف، وكتابة الأجزاء وكتب العلم، والمجلات ونحوها على الرسم المعروف، تيسيرا على الطلاب والتلاميذ والقارئين 359 الشبه التي أثيرت حول كتابة القرآن ورسمه: حمل لواء الإفك في هذا بعض القسس، والمبشرين، والمستشرقين 360 اعتمادهم على روايات ضعيفة ومكذوبة 361 الشبهة الأولى: ما روي أن عثمان قال: (إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ... ) والجواب عنها 361 الشبهة الثانية: اعتراضهم على قراءة وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وزعمهم أنه من لحن الكتاب والجواب عنها 363 الشبهة الثالثة: ما روي أن ابن عباس كان يقرأ: «حتى تستأذنوا» ويقول حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا من خطأ الكاتب 364 الشبهة الرابعة: ما روي عنه أيضا أنه كان يقرأ: (أفلم يتبين) فقيل له أنها أَفَلَمْ يَيْأَسِ فقال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس والجواب عنها 367 الشبهة الخامسة: كان يقرأ أيضا (ووصى ربك) بدل وَقَضى رَبُّكَ والجواب عن ذلك 368 الشبهة السادسة: كان يقرأ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً بغير واو قبل ضياء والجواب عن ذلك 369 الشبهة السابعة: ما روي عنه في قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ قال هي خطأ من الكاتب هو أعظم من ذلك إنما هو (مثل نور المؤمن) والجواب عن ذلك 370 الشبهة الثامنة: إنكاره قوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وكان يقرأ: (بما آمنتم به) والجواب عن ذلك 372 الشبهة التاسعة: ما روي عن السيدة عائشة وقولها لما سئلت عن الآيات إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ فقالت هذا من خطأ الكاتب، والرد على ذلك 372

الشبهة العاشرة: زعمهم أن في هذه الآيات لحنا وهي: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ والجواب عن ذلك بما يشفي ويكفي 376 الشبهة الحادية عشرة: ما روي عنها أيضا في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وأنها (والذين يؤتون ما أتوا) وترجيحها الثانية على الأولى، والجواب عن ذلك 377 الشبهة الثانية عشرة: ما روي عن خارجة بن زيد بن ثابت أنهم قالوا لزيد: أوهمت إنما هي: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين اثنين) والجواب عن ذلك 378 رد عام على كل الشبه المذكورة 379 شكل القرآن: معناه هل كان يعرف العرب الشكل من وضع الشكل المعروف 380 إعجام القرآن. معناه، هل كان النقط معروفا قبل الإسلام رأيان 380 أول من نقط المصحف 382 ما استحدث في كتابة المصاحف 383 حكم نقط المصحف وشكله وما شابه ذلك 383 احترام المصحف 384 المبحث العاشر ثبوت النص القرآني بالتواتر المفيد للقطع واليقين حفظ النبي للقرآن 386 حرص النبي على تلقي القرآن 387 معارضة جبريل النبي بالقرآن 388 تكرر المعارضة في العام الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم 389 الحفظ عن ظهر قلب خصيصة للقرآن بخلاف الكتب السماوية الأخرى 389 الحكمة في تكليف الأمة الإسلامية بحفظ القرآن 390 الأدلة على وجوب حفظ القرآن على الأمة الإسلامية 390 حفظ الصحابة للقرآن 391 عنايتهم إلى الحفظ بالفهم، والعلم، والعمل 392 اعتمادهم في الحفظ على التلقي الشفاهي والسماع من الرسول أو ممن سمع من الرسول 393 تفاوت الصحابة في الحفظ 393

المشتهرون بالحفظ والإقراء من الصحابة والصحابيات 394 العوامل المساعدة على حفظ القرآن، واستمرار تلاوته: (1) التعبد بالقرآن في الصلاة وغيرها 395 (2) الترغيب في قراءة القرآن وحفظه 397 (3) الأمر بتعهد القرآن والتحذير من نسيانه، نسيان القرآن كبيرة 403 (4) ارتباط بعض الوظائف الدينية، والدنيوية بحفظ القرآن 406 (5) تفرغ بعض الصحابة ومن بعدهم لحفظ القرآن، وإقرائه 408 (6) اشتهار العرب بقوة الحافظة، وسيلان الأذهان، وصفاء النفس 413 (7) العلم بأن القرآن هو أصل الدين، ومنبع الصراط المستقيم ودستور المسلمين الأول 414 (8) إعجاز القرآن وسحر بيانه، وعجائب أسلوبه وإشباعه لفطرة العرب اللغوية، والنفسية 416 (9) تيسير الوسائل لحفظه في المساجد، والمدارس والكتاتيب، والبيوت 418 أثر الكتّاب في تحفيظ القرآن، وتنشئة الكثيرين من مشاهير الأمة الإسلامية 419 وجوب إحياء الكتاتيب 421 الكتاتيب في السودان 422 أمل ورجاء 422 مسائل متفرقة في أدب تلاوة القرآن وحفظته: (1) قراءة القرآن من أفضل القربات إلى الله 424 (2) نسيانه كبيرة 427 (3) استحباب الوضوء لقراءته 427 (4) مسنونية قراءته في مكان طاهر 428 (5) استحباب استقبال القبلة حين قراءته 428 (6) سنية التعوذ قبل القراءة 428 (7) قراءة البسملة 430 (8) هل تحتاج قراءة القرآن إلى نية 430 (9) ترتيل القرآن 430 (10) تدبر القرآن وتفهمه 433 (11) تحسين الصوت بقراءة القرآن 435 (12) الجهر بقراءة القرآن والإسرار به أيهما أفضل 437 (13) أيهما أفضل القراءة من المصحف أم من الحفظ 438 (14) إذا أرتج على القارئ ماذا يصنع 439 (15) هل يجوز قطع القراءة للمكالمة 441 (16) لا يجوز قراءة القرآن بالعجمية مطلقا 441

(17) لا تجوز القراءة بالشواذ 442 (18) مراعاة ترتيب المصحف في القراءة 442 (19) استيفاء حروف القراءات 444 (20) الاستماع للقرآن والإنصات إليه 445 (21) السجود عند قراءة آية سجدة 446 (22) الأوقات المفضلة للقراءة 447 (23) التكبير عند قراءة السور القصار 448 (24) يسن الدعاء عند الختم 449 (25) يسن إذا فرغ من ختمة أن يشرع في أخرى 449 (26) حكم التكسب بالقرآن 450 (27) يكره أن يقول نسيت آية كذا 451 (28) اختلاف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن للميت 452 حكم الاقتباس وما جرى مجراه 454 ما يجري مجرى الاقتباس 457 خاتمة: لا يجوز تعدي أمثلة القرآن 458 لا يجوز كتابة القرآن بغير الحروف العربية 459 فهرس بأهم مراجع الكتاب 462 فهرس الكتاب 463

§1/1