المدخل لابن الحاج

ابن الحاج

مقدمة الكتاب

[مُقَدِّمَة الْكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ الْمُضْطَرُّ لِذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَبْدَرِيُّ الْقَبِيلِيُّ الْفَاسِيُّ الدَّارِ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَلَطَفَ بِهِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُنْفَرِدِ بِالدَّوَامِ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْأَيَّامِ الْمُوجِدِ لِلْخَلْقِ بَعْدَ الْعَدَمِ الْمُفْنِي لَهُمْ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الصُّحُفِ كَمَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ الْعَالِمِ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ أَسْرَارُهُمْ فِي الْحَالِ وَفِي الْقِدَمِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ عَبْدٍ مُضْطَرٍّ إلَيْهَا عِنْدَ زَلَّةِ الْقَدَمِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ إلَى أَكْرَمِ الْأُمَمِ. وَبَعْدُ: فَإِنِّي كُنْت كَثِيرًا مَا أَسْمَعُ سَيِّدِي الشَّيْخَ الْعُمْدَةَ الْعَالِمَ الْعَامِلَ الْمُحَقِّقَ الْقُدْوَةَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَمْزَةَ يَقُولُ وَدِدْتُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَيْسَ لَهُ شُغْلٌ إلَّا أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ مَقَاصِدَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ وَيَقْعُدَ إلَى التَّدْرِيسِ فِي أَعْمَالِ النِّيَّاتِ لَيْسَ إلَّا أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ مَا أَتَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ إلَّا مِنْ تَضْيِيعِ النِّيَّاتِ فَقَدْ رَآنِي ذَكَرْتُ بَعْضَ مَا كَانَ يُجْرَى عِنْدَهُ مِنْ بَعْضِ الْفَوَائِدِ فِي ذَلِكَ لِبَعْضِ الْإِخْوَانِ فَطَلَبَ أَنْ أَجْمَعَ لَهُ شَيْئًا لِكَيْ يَعْرِفَ تَصَرُّفَهُ فِي نِيَّتِهِ وَفِي عِبَادَتِهِ وَعَلَيْهِ وَتَسَبُّبَهُ فَامْتَنَعْتُ مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا مِمَّا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ يَمْضُغُونَ أَلِسَنَتَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ. وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَوَّلُ مَا تُسَعَّرُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلٍ عَالِمٍ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ خَلْفَهُ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ لَهُ يَا هَذَا أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» أَوْ كَمَا قَالَ. وَفِي الْحَدِيثِ الْوَارِدِ أَيْضًا «أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلَانِ رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَيَرَى غَيْرَهُ يَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ لِعَمَلِهِ بِهِ وَهُوَ يَدْخُلُ النَّارَ لِتَضْيِيعِهِ الْعَمَلَ وَرَجُلٌ جَمَعَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ وَتَرَكَهُ لِوَارِثِهِ فَعَمِلَ بِهِ الْخَيْرَ فَيَرَى غَيْرَهُ يَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ وَهُوَ يَدْخُلُ النَّارَ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ وَهْبٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا فَامْتَنَعْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ لَمْ يَحْتَوِ عَلَيْهِ عَمَلٌ فَأَقَعَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَكِنْ عَارَضَتْنِي أَحَادِيثُ أُخَرُ لَمْ يُمْكِنِّي الِامْتِنَاعُ لِأَجْلِهَا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ مَعْصِيَةٌ وَتَرْكَ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى سِيَّمَا إذَا طُلِبَ مِنِّي فَارْتِكَابُ مَعْصِيَةٍ وَاحِدَةٍ أَخَفُّ بِالْمَرْءِ مِنْ ارْتِكَابِ مَعْصِيَتَيْنِ بِالضَّرُورَةِ الْقَطْعِيَّةِ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ «أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ» أَوْ كَمَا قَالَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ أَعْمَلَ بِهِ مِمَّنْ بَلَّغَهُ إلَيْهِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا ظَهَرَتْ الْفِتَنُ وَشُتِمَ أَصْحَابِي فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَكَتَمَهُ فَهُوَ كَجَاحِدِ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» انْتَهَى وَهَذَا أَمْرٌ خَطَرٌ. وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ الْعَهْدَ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يُعَلِّمُوا وَأَخَذَ إذْ ذَاكَ الْعَهْدَ عَلَى الْجُهَّالِ أَنْ يَسْأَلُوا فَأَشْفَقْتُ مِنْ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ فَآثَرْتُهُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ فِيهِ فَائِدَةً أُخْرَى كَبِيرَةً وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَذْكِرَةً لِي فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَمُطَالَعَتِهِ فَأَتَذَكَّرُ بِهِ مَا كَانَ يَمْضِي مِنْ بَعْضِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ فِي مَجَالِسِ سَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَأَيْتُ أَنَّ الْإِجَابَةَ قَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيَّ مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مِنْ قِبَلِ نَفْسِي لِلتَّذْكِرَةِ. الثَّانِي: مِنْ قِبَلِ طَالِبِهِ لِئَلَّا أَدْخُلَ بِذَلِكَ فِيمَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ. الثَّالِثُ: لَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَرَاهُ وَيَعْمَلُ بِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ يَدْعُو لِمُؤَلِّفِهِ الْمُنْكَسِرِ خَاطِرُهُ مِنْ قِلَّةِ الْعَمَلِ لَعَلَّ أَنْ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَمَلِ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنِّي لَا أَكْرَهُ الْقِصَصَ إلَّا لِثَلَاثٍ قُلْتُ إحْدَاهُنَّ قَوْله تَعَالَى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] انْتَهَى. لَكِنْ قَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ لَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مَا أَمَرَ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ. قَالَ مَالِكٌ صَدَقَ وَمِنْ هَذَا أَنَّ ارْتِكَابَ مَعْصِيَةٍ وَاحِدَةٍ أَخَفُّ مِنْ ارْتِكَابِ مَعْصِيَتَيْنِ وَلَقَدْ بَدَأْتُهُ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا وَاسْتَدْلَلْتُ عَلَى مَا أُرِيدُهُ بِآيَاتٍ وَأَحَادِيثَ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَبَعْضُ الْأَحَادِيثِ أَتَيْتُ بِهَا النَّصُّ وَالنِّسْبَةُ لِنَاقِلِهَا وَبَعْضُهَا بِالْمَعْنَى وَعَدَمُ النِّسْبَةِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى نَقْلِهِ، كُلُّ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْكُتُبِ الْحَاضِرَةِ فِي الْوَقْتِ وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى بَعْضِ حِكَايَاتٍ تَكُونُ تَفْسِيرًا وَبَيَانًا لِمَا الْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى بَيَانِهِ وَرُبَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى بَعْضِ الْآدَابِ وَوَجَدْتُ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُونَ بِضِدِّهَا فَاحْتَجْتُ إلَى الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ مَعَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَجْهُ الصَّوَابِ وَيَتَّضِحَ بِحَسَبِ مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى وَبَدَأْتُ فِيهِ بِمَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْآكَدُ وَالْأَهَمُّ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَتَّبْتُ ذَلِكَ عَلَى فُصُولٍ لِيَكُونَ كَالْفَصْلِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهِ فَيَكُونَ أَيْسَرَ لِلْفَهْمِ وَأَهْوَنَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُطَالِعَ مَسْأَلَةً مُعَيَّنَةً بِحَسَبِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ وَمَسْطُورٌ فِيهِ وَهَذَا بِحَسَبِ مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَقْتِ فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى نُورًا لَعَلَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سُلَّمًا يَتَرَقَّى بِهِ إلَى غَيْرِهِ وَأَنْ يُدَقِّقَ النَّظَرَ فِيمَا ذَكَرْتُهُ فَلَعَلَّهُ يَبْلُغُ الْكَمَالَ وَيَعْذُرُ مَنْ اعْتَرَفَ بِالتَّقْصِيرِ وَالتَّفْرِيطِ فَإِنْ ظَهَرَ غَلَطٌ أَوْ وَهْمٌ أَوْ تَقْصِيرٌ أَوْ غَفْلَةٌ أَوْ جَهْلٌ أَوْ عِيٌّ فَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِذَلِكَ كَثِيرًا وَهُوَ مِنِّي وَمِنْ الشَّيَاطِينِ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً ظَهَرَتْ لَهُ عَوْرَةٌ أَوْ عَيْبٌ فَسَتَرَ أَوْ عَذَرَ فَاسْتَعْذَرَ وَإِنْ ظَهَرَ خَيْرٌ فَبِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَالْمَنِّ لَهُ بَدْءًا وَعَوْدًا وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصْلِحَ مَا وَجَدَ مِنْ الْغَلَطِ وَالْوَهْمِ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي الْإِصْلَاحِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَنَّ الْبِرَّ خَيْرٌ. وَسَمَّيْتُهُ بِمُقْتَضَى وَضْعِهِ كِتَابَ الْمَدْخَلِ إلَى تَنْمِيَةِ الْأَعْمَالِ بِتَحْسِينِ النِّيَّاتِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ الْبِدَعِ وَالْعَوَائِدِ الَّتِي اُنْتُحِلَتْ وَبَيَانِ شَنَاعَتِهَا وَقُبْحِهَا. فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْكَرِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ وَأَنْ يُرِيَنَا بَرَكَتَهُ يَوْمَ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَحِينَ حُلُولِ الْإِنْسَانِ فِي رَمْسِهِ وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَضَّ عَلَيْهِ أَوْ كَتَبَهُ أَوْ كَسَبَهُ أَوْ طَالَعَهُ أَوْ نَظَرَ فِيهِ وَاعْتَبَرَ وَسَتَرَ وَنَسْأَلُهُ الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ وَالْإِقَالَةَ وَسَتْرَ الْعَوْرَاتِ وَتَأْمِينَ الرَّوْعَاتِ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِوَالِدِ وَالِدَيْنَا وَلِمَشَايِخِنَا وَمَشَايِخِهِمْ وَلِمَنْ عَلَّمَنَا وَلِمَنْ عَلَّمْنَاهُ وَلِمَنْ أَفَادَنَا وَلِمَنْ أَفَدْنَاهُ و

فصل في التحريض على الأفعال كلها أن تكون بنية حاضرة

[فَصْلٌ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْأَفْعَالِ كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ بِنِيَّةِ حَاضِرَةٍ] ٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْإِخْلَاصُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ، وَذَلِكَ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ جَوَارِحَ ظَاهِرَةً وَجَوَارِحَ بَاطِنَةً فَعَلَى الظَّاهِرَةِ الْعِبَادَةُ وَالِامْتِثَالُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] ، وَعَلَى الْبَاطِنَةِ أَنْ تَعْتَقِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مُخْلِصَةً فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] فَالْأَصْلُ الَّذِي تَتَفَرَّعُ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ عَلَى أَنْوَاعِهَا هُوَ الْإِخْلَاصُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَلْبِ فَعَلَى هَذَا الْجَوَارِحُ الظَّاهِرَةُ تَبَعٌ لِلْبَاطِنَةِ، فَإِنْ اسْتَقَامَ الْبَاطِنُ اسْتَقَامَ الظَّاهِرُ جَبْرًا، وَإِذَا دَخَلَ الْخَلَلُ فِي الْبَاطِنِ دَخَلَ فِي الظَّاهِرِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ هِمَّتُهُ وَكُلِّيَّتُهُ فِي تَخْلِيصِ بَاطِنِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ إذْ أَنَّ أَصْلَ الِاسْتِقَامَةِ مِنْهُ تَتَفَرَّعُ، وَهُوَ مَعْدِنُهَا، وَقَدْ نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا وَبَيَّنَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَّا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» فَالْهِجْرَةُ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ لِلَّهِ وَهَذِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا انْطَوَتْ

عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ النِّيَّةُ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَلَا تَرَى أَنَّ السَّاجِدَ لِلَّهِ تَعَالَى وَالسَّاجِدَ لِلصَّنَمِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ عِبَادَةً وَهَذِهِ كُفْرًا بِالنِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ مُحَافِظًا عَلَى نِيَّتِهِ ابْتِدَاءً فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ فِي عَمَلِهِ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي نِيَّتِهِ فَيُحْسِنَهَا، فَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً فَيُنَمِّيَهَا إنْ أَمْكَنَ تَنْمِيَتُهَا وَمَا افْتَرَقَ النَّاسُ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ إلَّا مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِهِمْ تَقَارُبُ أَفْعَالِهِمْ ثُمَّ إنَّهُمْ يَفْتَرِقُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ بِحَسَبِ مَقَاصِدِهِمْ وَتَنْمِيَةِ أَفْعَالِهِمْ. مِثَالُ ذَلِكَ ثَلَاثُ رِجَالٍ يَخْرُجُونَ إلَى الصَّلَاةِ أَحَدُهُمْ يَخْرُجُ وَيَنْظُرُ إنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ لِنَفْسِهِ أَوْ لِبَيْتِهِ قَضَاهَا فِي طَرِيقِهِ وَهُوَ سَاهٍ عَنْ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ بِذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا لَهُ أَجْرُ الصَّلَاةِ لَيْسَ إلَّا وَالْخُطَى الَّتِي اسْتَعْمَلَهَا لِلْمَسْجِدِ قَدْ ذَهَبَتْ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ «لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» فَشُرِطَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حُصُولِ هَذَا الْأَجْرِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ وَهَذَا الْمَذْكُورُ قَدْ أَرَادَ غَيْرَهَا بِالْحَاجَةِ الَّتِي نَوَى قَضَاءَهَا. وَالثَّانِي خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ لَيْسَ إلَّا وَلَمْ يَخْلِطْ مَعَ هَذِهِ النِّيَّةِ غَيْرَهَا، فَهَذَا أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بَرَكَةُ الْخُطَى إلَى الْمَسْجِدِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -. وَالثَّالِثُ خَرَجَ بِمَا خَرَجَ بِهِ الثَّانِي لَكِنَّهُ حِينَ خُرُوجِهِ نَظَرَ فِي نِيَّتِهِ إنْ كَانَ يُمْكِنُ تَنْمِيَتُهَا أَمْ لَا فَوَجَدَ ذَلِكَ مُمْكِنًا مُتَحَصِّلًا فَفَعَلَهُ فَخَرَجَ وَلَهُ مِنْ الْأُجُورِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لَيْسَ إلَّا، بَلْ ذَلِكَ فِي كُلِّ الْأَفْعَالِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا مَهْمَا أَمْكَنَ تَنْمِيَتُهَا فَعَلَ ذَلِكَ. فَيَحْصُلُ بِهِ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ وَالسَّعَادَةُ الْعُظْمَى مَعَ رَاحَةِ الْبَدَنِ مِنْ التَّعَبِ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ ذَلِكَ بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ

وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَهْمَا ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا نَوَاهُ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهِيَةٍ لِلشَّرْعِ فِي فِعْلِهِ فَلْيُبَادِرْ إلَيْهِ. وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ تَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ كَانَ الْأَوْلَى بِهِ وَالْأَفْضَلُ تَرْكَ النِّيَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَاهُ وَقَدَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ دَخَلَ إذْ ذَاكَ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] فَتَكُونُ نِيَّتُهُ تُحَصِّلُهُ فِي هَذَا الْمَقْتِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تُنَمِّي هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَعْمَالَهَا لِاهْتِبَالِهِمْ بِأَمْرِ دِينِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فِيهِ فَإِذَا ظَفِرُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يَتْرُكُوهُ فَيَحْصُلُ لَهُمْ أَجْرُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلُ وَمَا لَمْ يَحْصُلْ حَصَلَ لَهُمْ أَجْرُ النِّيَّةِ. وَقَدْ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوْقَعَ اللَّهُ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ» انْتَهَى فَلَا يَزَالُونَ فِي خَيْرٍ دَائِمٍ وَأُجُورٍ مُتَزَايِدَةٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ يَسْهُو حِينَ الْفِعْلِ أَوْ يَفْعَلُهُ بِنِيَّةٍ فَاسِدَةٍ أَوْ يَفْعَلُهُ وَلَهُ فِيهِ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ. كَتَبَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اعْلَمْ يَا عُمَرُ أَنَّ عَوْنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ بِقَدْرِ النِّيَّةِ فَمَنْ ثَبَتَتْ نِيَّتُهُ تَمَّ عَوْنُ اللَّهِ لَهُ وَمَنْ قَصُرَتْ عَنْهُ نِيَّتُهُ قَصُرَ عَنْهُ عَوْنُ اللَّهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَكَتَبَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ إلَى أَخِيهِ أَخْلِصْ النِّيَّةَ فِي أَعْمَالِك يَكْفِك قَلِيلُ الْعَمَلِ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إلَى النِّيَّةِ بِنَفْسِهِ فَلْيَصْحَبْ مَنْ يُعَلِّمُهُ حُسْنَ النِّيَّةِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ يُمْنُ بْنُ رِزْقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: نَظَرْت فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلَمْ يَأْتِنَا إلَّا مِنْ قِبَلِ الْغَفْلَةِ عَنْ النِّيَّةِ؛ لِأَنِّي نَظَرْت فَوَجَدْت الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا حَرَكَةٌ وَإِمَّا سُكُونٌ وَكِلَاهُمَا عَمَلٌ انْتَهَى كَلَامُهُ بِالْمَعْنَى، فَإِنْ تَحَرَّكَ الْإِنْسَانُ أَوْ سَكَنَ سَاهِيًا أَوْ غَافِلًا كَانَ ذَلِكَ عَمَلًا عَارِيًّا عَنْ النِّيَّةِ فَيَخْرُجُ أَنْ يَكُونَ عَمَلًا شَرْعِيًّا لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ تَحَصَّلَ مِنْهُ أَنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ مَنْزِلَةً وَأَكْثَرَهُمْ خَيْرًا وَبَرَكَةً الْوَاقِفُ مَعَ نِيَّتِهِ فِي حَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلَفِنَا وَخِيَارِ مَنْ تَقَدَّمَنَا

- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لِتَحْسِينِ نِيَّاتِهِمْ وَتَحْرِيرِهَا فَكَانَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ كُلُّهَا عِبَادَةً. وَنَحْنُ الْيَوْمَ إنَّمَا الْعِبَادَةُ عِنْدَنَا مَا كَانَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَأُصُولِ الدِّينِ الْمَعْرُوفَةِ، وَهَذِهِ إنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْمُوَفَّقِينَ مِنَّا أَعْنِي الْمُحَافِظِينَ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ بِوَاجِبِهَا وَمَنْدُوبِهَا وَبَقِيَ مَا عَدَا هَذِهِ الْأَفْعَالِ عِنْدَنَا عَلَى أَقْسَامٍ فَمِنَّا مَنْ يَفْعَلُهَا لِلدُّنْيَا وَمِنَّا مَنْ يَفْعَلُهَا رَاحَةً وَمِنَّا مَنْ يَفْعَلُهَا غَفْلَةً وَنِسْيَانًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ لَنَا فِي تَصَرُّفِنَا فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلَفِنَا. حَكَى الْقُشَيْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي التَّحْبِيرِ لَهُ قَالَ: قِيلَ: إنَّ رَجُلًا مِنْ الصَّالِحِينَ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ قَالَ: غَفَرَ لِي وَرَفَعَ دَرَجَاتِي فَقِيلَ لَهُ: بِمَاذَا فَقَالَ لَهُ: هَاهُنَا يُعَامِلُونَ بِالْجُودِ لَا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَيُعْطُونَ بِالنِّيَّةِ لَا بِالْخِدْمَةِ وَيَغْفِرُونَ بِالْفَضْلِ لَا بِالْفِعْلِ. سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ وَقَعَ قَحْطٌ بِإِفْرِيقِيَّةَ وَاحْتَاجَ النَّاسُ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ فَأَرْسَلَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ إلَى أَخٍ لَهُ فِي اللَّهِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ النَّاسِ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ فَجَاءَ الرَّسُولُ إلَى الشَّيْخِ فَلَمْ يَجِدْهُ فِي بَيْتِهِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: هُوَ فِي أَرْضِهِ يَعْمَلُ فَقَعَدَ يَنْتَظِرُهُ إلَى أَنْ جَاءَ عَشِيَّةً وَمَعَهُ الْبَقَرُ وَآلَةُ الْحَرْثِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَبَلَّغَ إلَيْهِ مَا جَاءَ بِسَبَبِهِ فَسَكَتَ عَنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ جَوَابًا فَبَقِيَ عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُنْتَظِرًا رَدَّ الْجَوَابِ فَلَمْ يُجِبْهُ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الَّذِي أَرْسَلَهُ فَخَرَجَ وَمَرَّ عَلَى الشَّيْخِ، وَهُوَ يَعْمَلُ فِي أَرْضِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي مَا أَرُدُّ لِسَيِّدِي فُلَانٍ فِي الْجَوَابِ فَقَالَ لَهُ: لَوْ عَلِمْت أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنِّي نَفَسٌ لِغَيْرِ اللَّهِ لَقَتَلْت نَفْسِي فَمَنْ يَرَاهُ يَتَسَبَّبُ وَيَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ يَظُنُّ أَنَّهُ طَالِبُ دُنْيَا أَوْ مُبْتَغٍ لَهَا، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْحَالِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي هَذَا مَعَ غَيْرِهِ فِي الصُّورَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ نَفَسٌ عَلَى مَا ذَكَرَ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَافْتَرَقَ الْعَمَلَانِ بِمَا احْتَوَى عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَهِيَ النِّيَّةُ وَكَيْفِيَّتُهَا. حَكَى صَاحِبُ الْقُوتِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مَعَ شَيْخِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْعِرَاقِ فِي أَرْضٍ لَهُ يَزْرَعُ، وَإِذَا بِرَجُلٍ يَمُرُّ

كَالسَّحَابِ فَوَقَفَ مَعَ الشَّيْخِ يَتَحَدَّثُ مَعَهُ سَاعَةً، وَالشَّيْخُ يَقُولُ: لَا أَقْدِرُ ثُمَّ مَضَى فَسَأَلْته مَنْ هَذَا الرَّجُلُ: فَقَالَ: هَذَا بَدَلُ الْإِقْلِيمِ الْفُلَانِيِّ فَقُلْت لَهُ وَمَا طَلَبَ مِنْك حَتَّى امْتَنَعْت مِنْ فِعْلِهِ؟ فَقَالَ: طَلَبَ مِنِّي أَنْ أَقِفَ مَعَهُ اللَّيْلَةَ بِعَرَفَةَ فَقُلْت لَهُ يَا سَيِّدِي وَمَا مَنَعَك مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لِي كُنْت نَوَيْت زِرَاعَةَ تِلْكَ الْبُقْعَةِ اللَّيْلَةَ فَانْظُرْ كَيْفَ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لِأَجْلِ زَرْعِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ فَلَوْ كَانَتْ زِرَاعَتُهَا عِنْدَهُ لِأَمْرٍ مُبَاحٍ لَتَرَكَهَا وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ النِّيَّةُ فِيهَا صَالِحَةً بِحَسَبِ مَا نَوَى لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتْرُكَهَا لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] حُكِيَ لِي عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ سَيِّدِي أَبِي عَلِيٍّ حَسَنٍ الزُّبَيْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ إمَامًا مُعَظَّمًا مُحْتَرَمًا مُقَدَّمًا عِنْدَ مَنْ أَدْرَكْنَاهُ مِنْ الْمَشَايِخِ مِثْلِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ وَسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ وَنَظَائِرِهِمَا. قَالَ: كُنْت مَعَ سَيِّدِي حَسَنٍ فِي حَائِطٍ لَهُ يَعْمَلُ فِيهِ، وَإِذَا بِشَخْصٍ يَدُقُّ الْبَابَ فَمَشَيْت إلَى الْبَابِ لِأَنْظُرَ مَنْ هُوَ فَإِذَا هُوَ سَيِّدِي حَسَنٌ قَدْ لَحِقَنِي فَسَأَلَنِي عَنْ قِيَامِي بِأَيِّ نِيَّةٍ قُمْت فَقُلْت: قُمْت لِأَفْتَحَ الْبَابَ قَالَ: لَا غَيْرَ قُلْت: هُوَ ذَاكَ أَوْ كَمَا قَالَ: قَالَ: فَعَابَ ذَلِكَ عَلَيَّ وَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: فَقِيرٌ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةٍ عَارِيَّةٍ عَنْ النِّيَّةِ ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَامَ لِفَتْحِ الْبَابِ وَعَدَّدَ لِي مَا قَامَ بِهِ مِنْ النِّيَّاتِ، فَإِذَا هِيَ نَحْوُ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ نِيَّةً وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ لَا تَخْرُجُ إلَّا بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِفِعْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا جَاءَ إلَى الْحَجِّ وَوَجَدَ بَعْضَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِمَكَّةَ وَالنَّاسُ يَسْمَعُونَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ فَلَمْ يَجْلِسْ إلَيْهِ وَلَمْ يُسَمِّعْ عَلَيْهِ شَيْئًا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَا خَرَجْت بِهَذِهِ النِّيَّةِ فَلَمَّا أَنْ حَجَّ وَرَجَعَ إلَى بَلَدِهِ رَحَلَ إلَى الشَّيْخِ الْمَذْكُورِ إلَى بَلَدِهِ بِالْيَمَنِ أَوْ غَيْرِهِ فَسَمَّعَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ وَهَذَا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ. وَهُوَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ إذْ أَنَّ النَّبِيَّ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ» . فَأَرَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَجْعَلَ الرِّحْلَةَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " هِيَ الْأَصْلُ وَالْعُمْدَةُ وَمَا وَقَعَ بَعْدَهَا مِنْ النِّيَّاتِ فَتَبَعٌ لَهَا وَفَرْعٌ عَنْهَا تَحَفُّظًا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَجْعَلَ حَدِيثَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَعًا فَيَكُونَ كَقَدَحِ الرَّاكِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَدَحَ الرَّاكِبِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمَاءُ لِقَضَاءِ مَآرِبِهِ مِنْ شُرْبٍ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ تَحْمِيلِ حَوَائِجِهِ كُلِّهَا عَلَيْهَا فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ حَدِيثَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْلًا لَا فَرْعًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] انْتَهَى. وَمِنْ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ تَعْظِيمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَجْعَلَهُ أَصْلًا وَمَتْبُوعًا لَا فَرْعًا تَابِعًا. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَهُ: وَالنِّيَّةُ وَالْعَمَلُ بِهِمَا تَمَامُ الْعِبَادَةِ فَالنِّيَّةُ أَحَدُ جُزْأَيْ الْعِبَادَةِ لَكِنَّهَا خَيْرُ الْجُزْأَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالْجَوَارِحِ لَيْسَتْ مُرَادَةً إلَّا لِتَأْثِيرِهَا فِي الْقَلْبِ لِيَمِيلَ إلَى الْخَيْرِ وَيَنْفِرَ عَنْ الشَّرِّ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَضْعَ الْجَبْهَةِ، بَلْ خُضُوعَ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَتَأَثَّرُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ الزَّكَاةِ إزَالَةَ الْمِلْكِ، بَلْ إزَالَةَ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ، وَهُوَ قَطْعُ عَلَاقَةِ الْقَلْبِ مِنْ الْمَالِ. ثُمَّ قَالَ فَاجْتَهِدْ أَنْ تُكْثِرَ مِنْ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِك حَتَّى تَنْوِيَ لِعَمَلٍ وَاحِدٍ نِيَّاتٍ كَثِيرَةً وَلَوْ صَدَقْت رَغْبَتُك لَهُدِيت لِطَرِيقِهِ وَيَكْفِيك مِثَالٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الدُّخُولَ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْقُعُودَ فِيهِ عِبَادَةٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَمَانِيَةُ أُمُورٍ أَوَّلُهَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ بَيْتُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ دَاخِلَهُ زَائِرُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْوِي ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ زَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ إكْرَامُ زَائِرِهِ» وَثَانِيهَا الْمُرَابَطَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200]

قِيلَ: مَعْنَاهُ انْتَظِرُوا الصَّلَاةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَثَالِثُهَا الِاعْتِكَافُ وَمَعْنَاهُ كَفُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْأَعْضَاءِ عَنْ الْحَرَكَاتِ الْمُعْتَادَةِ فَإِنَّهُ نَوْعُ صَوْمٍ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي الْقُعُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» . وَرَابِعُهَا الْخَلْوَةُ وَدَفْعُ الشَّوَاغِلِ لِلُزُومِ السِّرِّ وَالْفِكْرِ فِي الْآخِرَةِ وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا وَخَامِسُهَا التَّجَرُّدُ لِلذِّكْرِ وَإِسْمَاعُهُ وَاسْتِمَاعُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ غَدَا إلَى الْمَسْجِدِ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُذَكِّرُ بِهِ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى» وَسَادِسُهَا أَنْ يَقْصِدَ إفَادَةَ عِلْمٍ وَتَنْبِيهَ مَنْ يُسِيءُ الصَّلَاةَ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ حَتَّى يَنْتَشِرَ بِسَبَبِهِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ وَيَكُونَ شَرِيكًا فِيهَا وَسَابِعُهَا أَنْ يَتْرُكَ الذُّنُوبَ حَيَاءً مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يُحْسِنَ نِيَّتَهُ فِي نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ حَتَّى يَسْتَحِيَ مِنْهُ مَنْ رَآهُ أَنْ يُقَارِفَ ذَنْبًا وَقِسْ عَلَى هَذَا سَائِرَ الْأَعْمَالِ فَبِاجْتِمَاعِ هَذِهِ النِّيَّاتِ تُزَكَّى الْأَعْمَالُ وَتَلْتَحِقُ بِأَعْمَالِ الْمُقَرَّبِينَ كَمَا أَنَّهُ بِنَقْصِهَا تَلْتَحِقُ بِأَعْمَالِ الشَّيَاطِينِ كَمَنْ يَقْصِدُ مِنْ الْقُعُودِ فِي الْمَسْجِدِ التَّحَدُّثَ بِالْبَاطِلِ وَالتَّفَكُّهَ بِأَعْرَاضِ النَّاسِ وَمُجَالَسَةَ إخْوَانِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَمُلَاحَظَةَ مَنْ يَجْتَازُ بِهِ مِنْ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَمُنَاظَرَةَ مَنْ يُنَازِعُهُ مِنْ الْأَقْرَانِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُرَاءَاةِ بِاقْتِنَاصِ قُلُوبِ الْمُسْتَمِعِينَ لِكَلَامِهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفُلَ فِي الْمُبَاحَاتِ عَنْ حُسْنِ النِّيَّةِ فَفِي الْخَبَرِ «إنَّ الْعَبْدَ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى عَنْ كُحْلِ عَيْنِهِ وَعَنْ فُتَاتِ الطِّيبِ بِأُصْبُعَيْهِ وَعَنْ لَمْسِ ثَوْبِ أَخِيهِ» . فَمِثَالُ النِّيَّةِ فِي الْمُبَاحَاتِ أَنَّ مَنْ يَتَطَيَّبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْصِدَ التَّنْعِيمَ بِلَذَّتِهِ وَالتَّفَاخُرَ بِإِظْهَارِ ثَرْوَتِهِ وَالتَّزْوِيقَ لِلنِّسَاءِ وَأَخْدَانِ الْفَسَادِ وَيَتَصَوَّرُ أَنْ يَنْوِيَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ وَتَعْظِيمَ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَاحْتِرَامَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَدَفْعَ الْأَذَى عَنْ غَيْرِهِ بِدَفْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ وَإِيصَالَ الرَّاحَةِ إلَيْهِمْ بِالرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ وَحَسْمَ بَابِ الْغَيْبَةِ إذَا شَمُّوا مِنْهُ رَائِحَةً كَرِيهَةً وَإِلَى الْفَرِيقَيْنِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَطَيَّبَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَمَنْ تَطَيَّبَ

لِغَيْرِ اللَّهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَنْتَنُ مِنْ الْجِيفَةِ» انْتَهَى. وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ فَالْمُحَاسَبَةُ حَبْسُ الْأَنْفَاسِ وَضَبْطُ الْحَوَاسِّ وَرِعَايَةُ الْأَوْقَاتِ وَإِيثَارُ الْمُهِمَّاتِ. يُبَيِّنُ هَذَا وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قِيلَ لَهُ: لَوْ قِيلَ: لَكَ إنَّك تَمُوتُ الْآنَ بِمَاذَا كُنْت تَحْتَرِفُ؟ أَحْتَرِفُ لِأَهْلِي بِالسُّوقِ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الْقَطْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَمُوتَ إلَّا عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ فَلَمَّا أَنْ اخْتَارَ الْمَوْتَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا فِي السُّوقِ عُلِمَ عِنْدَ ذَلِكَ مَقَاصِدُهُمْ بِالسُّوقِ مَا كَانَتْ وَلِأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا يَخْرُجُونَ إلَيْهَا، وَهَلْ هُمْ مُعْرِضُونَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَوْ حَاضِرُونَ فِي الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ. وَقَدْ قَالَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي لَأَنْكِحُ النِّسَاءَ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ وَأَطَأهُنَّ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ شَهْوَةٌ قِيلَ: وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ ظَهْرِي مَنْ يُكَاثِرُ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ ، فَهَذَا أَعْظَمُ مَلْذُوذَاتِ الدُّنْيَا رَجَعَ مُجَرَّدًا لِلْآخِرَةِ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَى رَبِّهِمْ فَمَا بَالُك بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ لَذَّةً وَشَهْوَةً؟ فَسُبْحَانَ مَنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ وَسَقَاهُمْ بِكَأْسِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ الْيَوْمَ قَدْ أَخَذْنَا فِي الضِّدِّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ هَذِهِ أَحْوَالُ دُنْيَاهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى رَبِّهِمْ وَنَحْنُ الْيَوْمَ قَدْ أَخَذْنَا أَعْظَمَ مَا يُعْمَلُ لِلْآخِرَةِ وَرَدَدْنَاهُ إلَى الدُّنْيَا وَلِأَسْبَابِهَا بَيَانُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ: «مَا أَعْمَالُ الْبِرِّ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ وَمَا أَعْمَالُ الْبِرِّ وَالْجِهَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ» . فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَعْظَمَ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ إنَّمَا هُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الدُّنْيَا صَرْفًا يَقْعُدُ أَحَدُنَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ وَيَبْحَثُ فِيهِ ثُمَّ يَطْلُبُ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْوَقْتِ مِنْ طَلَبِ الْمَنَاصِبِ بِهِ وَالرِّيَاسَاتِ وَمَحَبَّةِ الظُّهُورِ وَالرِّفْعَةِ بِهِ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَمَحَبَّةِ الْحَظْوَةِ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْعَوَامِّ إنْ سَلِمَ مِنْ الدَّاءِ الْعُضَالِ، وَهُوَ التَّرَدُّدُ إلَى أَبْوَابِهِمْ وَإِهَانَةُ هَذَا

الْمَنْصِبِ الشَّرْعِيِّ الْعَظِيمِ بِالْوُقُوفِ بِهِ عَلَى أَبْوَابِ الظَّلَمَةِ وَمُعَايَنَةِ مَا الْعِلْمُ الَّذِي عِنْدَهُ يُحَرِّمُهُ وَيَأْمُرُ بِتَغْيِيرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] فَجَعَلَ الْعُلَمَاءَ فِي ثَانِي دَرَجَةٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَفِي ثَالِثِ مَرْتَبَةٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْنِي فِي الشَّهَادَةِ فَانْظُرْ إلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ وَالسَّعَادَةِ الْعَظِيمَةِ كَيْفَ وَقَعَ وَنَزَلَ بِهِ هَذَا النَّاقِدُ الْمِسْكِينُ الْمُتَشَبِّهُ بِالْعُلَمَاءِ الدَّخِيلُ فِيهِمْ تَسَمَّى بِاسْمٍ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ فَنَزَلَ بِهِ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ؟ لَكِنَّ الْعِلْمَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّمَا نَزَّلَ نَفْسَهُ وَبَخَسَهَا حَظَّهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْعِلْمِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِهِ تَرَكَ عِلْمَهُ عَلَى رَأْسِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ يُوَبِّخُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ وَيَكُونُ سَبَبًا لِإِهْلَاكِهِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوَضِّحُهُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ قَالَ: رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ اُسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْت فِيهَا قَالَ: قَاتَلْت فِيك حَتَّى اُسْتُشْهِدْت قَالَ: كَذَبْت وَلَكِنَّك قَاتَلْت لِيُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ: ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْت فِيهَا قَالَ: تَعَلَّمْت الْعِلْمَ وَعَلَّمْته وَقَرَأْت فِيك الْقُرْآنَ قَالَ: كَذَبْت، وَلَكِنَّك تَعَلَّمْت الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْت الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْت فِيهَا قَالَ: مَا تَرَكْت مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إلَّا أَنْفَقْت فِيهَا لَك قَالَ: كَذَبْت وَلَكِنَّك فَعَلْت لِيُقَالَ فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ «ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى

رُكْبَتَيَّ، وَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيمَنْ لَمْ يُرِدْ بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي رَقَائِقِهِ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَظْهَرُ هَذَا الدِّينُ حَتَّى يُجَاوِزَ الْبِحَارَ وَحَتَّى تُخَاضَ الْبِحَارُ بِالْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ يَأْتِي أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ فَإِذَا قَرَءُوهُ قَالُوا: مَنْ أَقْرَأُ مِنَّا مَنْ أَعْلَمُ مِنَّا ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: هَلْ تَرَوْنَ فِي أُوْلَئِكُمْ مِنْ خَيْرٍ قَالُوا: لَا قَالَ: أُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولَئِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يَعْنِي رِيحَهَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا جُبُّ الْحَزَنِ قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَتَعَوَّذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَدْخُلُهُ قَالَ الْقُرَّاءُ الْمُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ» قَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي كِتَابِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ فِي جَهَنَّمَ لَوَادِيًا إنَّ جَهَنَّمَ لَتَتَعَوَّذُ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْوَادِي كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْوَادِي لَجُبًّا إنَّ جَهَنَّمَ، وَذَلِكَ الْوَادِي لَيَتَعَوَّذَانِ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْجُبِّ، وَإِنَّ فِي الْجُبِّ لَحَيَّةً إنَّ جَهَنَّمَ وَالْوَادِي وَالْجُبَّ لَيَتَعَوَّذُونَ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ تِلْكَ الْحَيَّةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَشْقِيَاءِ مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يَعْصُونَ اللَّهَ تَعَالَى» انْتَهَى. نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ فَانْظُرْ إلَى ذَلِكَ الْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ وَالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا كَيْفَ رَجَعَتْ فِي حَقِّ هَذَا الْقَارِئِ

طلب العلم

الْمِسْكِينِ بِهَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ وَالْمَسْكَنَةِ الْعُظْمَى بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ مِنْ حُبِّ الرِّيَاسَاتِ وَالْمَنَاصِبِ وَالْمُفَاخَرَةِ؟ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ رَجَعَ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا ذُكِرَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ عُلَمَاءِ وَقْتِهِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى طَرَفٍ مِمَّا ذُكِرَ وَيُثْنَى عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ يَقُولُ: نَاقِلٌ نَاقِلٌ خَوْفًا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَنْصِبِ الْعِلْمِ أَنْ يُنْسَبَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذِبًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّاقِلَ لَيْسَ بِعَالِمٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ صَانِعٌ مِنْ الصُّنَّاعِ كَالْخَيَّاطِ وَالْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ هَذَا إذَا كَانَ نَقْلُهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْأَمَانَةِ، وَإِلَّا كَانَ دَجَّالًا فَيُسْتَعَاذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ هُوَ النَّقْلُ لَيْسَ إلَّا، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُلُوبِ. [طَلَب الْعِلْم] وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ إنَّمَا الْعِلْمُ لِمَنْ اتَّبَعَ الْعِلْمَ وَاسْتَعْمَلَهُ وَاقْتَدَى بِالسُّنَنِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْعِلْمِ انْتَهَى يُبَيِّنُ هَذَا وَيُوَضِّحُهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَنْبَارِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ الْبَزَّارِ يَقُولُ: مَا أَظُنُّ الْقُرْآنَ إلَّا عَارِيَّةً فِي أَيْدِينَا، وَذَلِكَ أَنَّا رَوَيْنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَفِظَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي بِضْعِ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمَّا حَفِظَهَا نَحَرَ جَزُورًا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّ الْغُلَامَ فِي دَهْرِنَا هَذَا يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُعَلِّمِ فَيَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لَا يُسْقِطُ مِنْهُ حَرْفًا فَمَا أَحْسَبُ الْقُرْآنَ إلَّا عَارِيَّةً فِي أَيْدِينَا. وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَكَتْبِهِ دُونَ مَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ فَيَكُونَ قَدْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْفَرَ بِطَائِلٍ. ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: اعْلَمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ حَتَّى تَعْمَلُوا قَالَ: ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ قَوْلِ مُعَاذٍ وَفِيهِ

زِيَادَةٌ أَنَّ الْعُلَمَاءَ هِمَّتُهُمْ الرِّعَايَةُ، وَأَنَّ السُّفَهَاءَ هِمَّتُهُمْ الرِّوَايَةُ انْتَهَى نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَهَذِهِ الْآثَارُ وَالْأَحَادِيثُ كُلُّهَا تُبَيِّنُ وَتُوَضِّحُ مُرَادَ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مَنْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ نُورًا كَانَ بَعِيدًا مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ الرُّتْبَةُ الْعُلْيَا الْمَذْكُورَةُ هَنِيئًا لَهُ فَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ طَرَفٌ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ بَقِيَ إمَّا دَجَّالًا أَوْ لِصًّا يَكِيدُ الدِّينَ وَأَهْلَهُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهِ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] وَهَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ إذَا سَلِمَ طَالِبُ الْعِلْمِ مِنْ عِوَضٍ يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَعْلُومٌ يَطْلُبُهُ عَلَى عِلْمِهِ فَقَدْ زَادَ ذَمًّا عَلَى مَذْمُومَاتٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَلَوْ وَقَفَ أَمْرُنَا عَلَى هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ رَحْمَةً بِنَا؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ الْمَرْءُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي احْتَوَى عَلَيْهَا عِلْمُهُ يُرْجَى لَهُ أَنَّهُ مَهْمَا قَدَرَ عَلَى التَّرْكِ بَادَرَ إلَيْهِ وَتَابَ وَأَقْلَعَ وَرَجَعَ إلَى الْأَعْلَى وَالْأَكْمَلِ لَكِنَّا لَمْ نَقِفْ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ، بَلْ زِدْنَا عَلَيْهِ الدَّاءَ الْمُضِرَّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعَهُ تَوْبَةٌ وَلَا اسْتِغْفَارٌ، وَهُوَ أَنَّا نَرَى أَنْفُسَنَا فِي طَاعَةٍ وَخَيْرٍ، وَأَنَّ وُقُوفَنَا عَلَى أَبْوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ بَابِ مَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ بِحَسَبِ مَا سَوَّلَتْ لَنَا أَنْفُسُنَا وَزَيَّنَ لَنَا الشَّيْطَانُ فَأَيُّ تَوْبَةٍ تَحْدُثُ مَعَ هَذَا الْحَالِ؟ وَأَيُّ إقَالَةٍ تَقَعُ لِأَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تُرْجَى لِمَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ؟ أَمَّا الطَّاعَةُ فَلَا يَتُوبُ أَحَدٌ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا تَكَلَّمَ فِي وَقْتِهِ عَلَى شَيْءٍ ظَهَرَ لَهُ أَقَلَّ مِنْ هَذَا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَوْتِ الْأَخْيَارِ وَالْبَقَاءِ مَعَ قَوْمٍ لَا يَسْتَحْيُونَ مِنْ فَضِيحَةٍ وَلَا عَارٍ انْتَهَى. وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا تَأْخُذُهُ عَلَى الْعِلْمِ مِنْ الْمَعْلُومِ نَقُولُ فِيهِ: إنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ فِي نَفْسِ طَلَبِهِ إنَّمَا هُوَ لِلَّهِ وَهَذَا كُلُّهُ خَطَرٌ عَظِيمٌ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ وَلَوْ قَطَعَ عَنَّا مَا نَأْخُذُهُ مِنْ الْمَعْلُومِ وَبَقِينَا عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ لَا نَبْرَحُ وَلَا نَفْتُرُ عَمَّا كُنَّا بِصَدَدِهِ لَكَانَتْ دَعْوَانَا صَحِيحَةً وَلَكِنْ نَنْظُرُ إلَى أَنْفُسِنَا فَنَجِدُ الْوَاحِدَ مِنَّا إذَا قُطِعَ عَنْهُ الْمَعْلُومُ تَسَخَّطَ إذْ ذَاكَ

وَيَقُولُ إذَا كَانَ مُبْتَدِئًا كَيْفَ يُقْطَعُ عَنِّي وَأَنَا قَدْ قَرَأْت الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ وَحَفِظْت كَذَا؟ بَلْ لَا نَحْتَاجُ فِي هَذَا إلَى قَطْعِ الْمَعْلُومِ، بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِينَا مَعَ وُجُودِ الْمَعْلُومِ تَجِدُ الطَّالِبَ مِنَّا يَقُولُ: كَيْفَ يَأْخُذُ فُلَانٌ كَذَا وَأَنَا أَكْثَرُ بَحْثًا مِنْهُ وَأَكْثَرُ فَهْمًا وَأَكْثَرُ حِفْظًا لِلْكُتُبِ وَأَكْثَرُ نَقْلًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ لَنَا الظَّاهِرَةِ لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَّا؟ ، بَلْ إذَا أَرَادَ الطَّالِبُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ أَنْ يَبْتَدِيَ الْقِرَاءَةَ يَبْتَدِيهِ بِهَذَا الِاسْمِ إنْ كَانَ هُوَ الطَّالِبُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ وَلِيَّهُ فَكَذَلِكَ فَيَدْخُلُ أَوَّلًا بِنِيَّةِ أَنْ يَنْشَطَ فِي الْعِلْمِ وَيَظْهَرَ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الْمَعْلُومِ كِفَايَتُهُ وَحَتَّى يَحْصُلَ عَدَالَتُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَاصِبِ الَّتِي نَحْنُ عَامِلُونَ عَلَيْهَا فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْعِلْمُ لِلَّهِ مَعَ هَذَا الْحَالِ وَإِنْ كَانَ مُنْتَهِيًا تَجِدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَظَائِرِهِ التَّنَافُسَ عَلَى مَنَاصِبِ التَّدْرِيسِ وَالسَّعْيَ فِيهِ إلَى أَبْوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ؟ . وَالتَّدْرِيسُ بِالْمَعْلُومِ فِي الْغَالِبِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ هَؤُلَاءِ وَمُبَاشَرَتِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ مَعَهُ طَرَفٌ مِنْ النُّورِ؟ وَذَلِكَ بَعِيدٌ جِدًّا ثُمَّ إذَا قُطِعَ الْمَعْلُومُ تَسَخَّطَ إذْ ذَاكَ وَيَقُولُ: أَيُّ فَائِدَةٍ لِقُعُودِي وَيُبْطِلُونَ الْمَوَاضِعَ مِنْ الدُّرُوسِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَعْلُومُ فَإِذَا أَتَى الْمَعْلُومُ وَجَدْتنَا نَتَسَابَقُ إلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَنَهْرَعُ إلَيْهَا فَصَارَ حَالُنَا كَمَا قَالَ يُمْنُ بْنُ رِزْقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَصْبَحْنَا نَذُمُّ الدُّنْيَا بِالْأَلْسُنِ وَنَجُرُّهَا إلَيْنَا بِالْأَيَادِي وَالْأَرْجُلِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ هَذَا هُوَ حَالُ السَّالِمِ مِنْ النِّيَّةِ السُّوءِ الْيَوْمَ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَأَفْعَالُنَا الْغَالِبُ عَلَيْهَا هَذَا الْمَعْنَى أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْأَذَانِ وَمَا فِيهِ وَفِي فَضْلِ الْإِمَامَةِ وَمَا فِيهَا، وَالْغَالِبُ عَلَى أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ إنْ كَانَ الْمَسْجِدُ لَهُ مَعْلُومٌ حِينَئِذٍ يُعْمَرُ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْلُومٌ تُرِكَ مُغْلَقًا حَتَّى يُخْرَبَ فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ بِالْهَدْمِ وَالْبَيْعِ. فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ وَمَيِّزْ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ حَالِ سَلَفِنَا

فِي أُمُورِ دُنْيَاهُمْ وَحَالِنَا فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي هِيَ لِلْآخِرَةِ تَجِدُ إذْ ذَاكَ الْفَرْقَ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ وَقِسْ عَلَى هَذَا وَانْظُرْ بِنَظَرِك أَيَّ شَبَهٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلَفِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَخَذْنَا وَاَللَّهِ فِي الضِّدِّ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ مِنْ أَحْوَالِنَا وَأَحْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَنَا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَقَاءَ فِي هَذَا سُخْفٌ فِي الْعَقْلِ وَحِرْمَانٌ بَيِّنٌ فَيَحْتَاجُ مَنْ لَهُ لُبٌّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَتُوبَ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ وَيَنْظُرَ بِعَيْنِ الْعِلْمِ فِيهَا وَيُصْلِحَهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ، وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ صَلَاحَهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِتَرْكِهَا بَلْ يَكُونُ بِتَرْكِهَا وَبِالْإِقَامَةِ فِيهَا هَذَا رَاجِعٌ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فَرُبَّ شَخْصٍ لَا يُنَظِّفُهُ إلَّا التَّرْكُ، وَآخَرُ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّرْكِ، بَلْ يُبَدِّلُ النِّيَّةَ وَيُحَسِّنُهَا وَيَسْتَقِيمُ حَالُهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ أَخْذِ الدَّرْسِ فِي الْمَدَارِسِ فَيُلْتَمَسُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَعْنِي مَنْ هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ التَّرْكُ أَوْ غَيْرُهُ إلَّا لِصَاحِبِ الْوَاقِعَةِ أَوْ مَنْ يُبَاشِرُهُ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ وَالتَّمْيِيزِ. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْفَرْقَ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلَفِنَا فِي غَالِبِ أَحْوَالِنَا إنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ النِّيَّةِ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَيْهَا سُوَيْدَاءُ الْقُلُوبِ إذْ أَنَّا نُصَلِّي كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ وَنَصُومُ كَمَا كَانُوا يَصُومُونَ وَنَحُجُّ كَمَا كَانُوا يَحُجُّونَ وَافْتَرَقْنَا لِأَجْلِ افْتِرَاقِ النِّيَّاتِ فَبَعْضُنَا يَكُونُ افْتِرَاقُهُ كَثِيرًا، وَبَعْضُنَا يَكُونُ افْتِرَاقُهُ قَلِيلًا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ. فَمَنْ لَهُ عَقْلٌ يَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ حَالِهِ أَنْ يُصْلِحَ مَا وَقَعَ مِنْ الْخَلَلِ فِي نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ فَيُحَسِّنَ نِيَّتَهُ وَيُزِيلَ عَنْهَا الشَّوَائِبَ ثُمَّ يُنَمِّيهَا مَا اسْتَطَاعَ جَهْدُهُ وَيَلْجَأُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى مَوْلَاهُ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ لَعَلَّهُ يَمُنُّ عَلَيْهِ وَيُلْحِقُهُ بِسَلَفِهِ. وَكَيْفِيَّةُ الْمَأْخَذِ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فصل في كيفية محاولة الأعمال كلها أن ترجع إلى الوجوب أو إلى الندب

[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ مُحَاوَلَةِ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْوُجُوبِ أَوْ إلَى النَّدْبِ] ِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:: «لَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيَّ الْمُتَقَرِّبُونَ بِأَحَبَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِمْ ثُمَّ لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا» . قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَبْقَى تَصَرُّفُهُ كُلُّهُ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ لِلَّهِ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ لِلَّهِ وَإِنْ نَظَرَ نَظَرَ لِلَّهِ وَإِنْ غَضَّ طَرْفَهُ غَضَّهُ لِلَّهِ وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ لِلَّهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي مُحَمَّدٌ الْمَرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّ الْفَقِيرَ حَالُهُ بَيْنَ الْبَاءِ وَالْأَلْفِ يَعْنِي أَنَّ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ خَالِصَةٌ لِرَبِّهِ قَائِمًا فِيهَا بِهِ إذْ أَنَّهُ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا فَهُوَ بِهِ وَإِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ قَوْلَ الْحَلَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَنَفَعَ بِهِ لِمَا قِيلَ: لَهُ أَيْنَ اللَّهُ قَالَ: فِي الْجُبَّةِ يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْجُبَّةِ الَّتِي عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ تَصَرُّفٌ، وَإِنَّمَا التَّصَرُّفُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ عَلَى مُقْتَضَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي نَحْنُ بِسَبِيلِهِ فَأَفْتَى مَنْ يُشَارُ إلَيْهِ فِي وَقْتِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِقَتْلِهِ؛ تَحَفُّظًا مِنْهُمْ عَلَى مَنْصِبِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ غَيْرُ مُحَقِّقٍ فَيَدَّعِي شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ وَيَجْعَلَ قُدْوَتَهُ فِي ذَلِكَ الْحَلَّاجَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ» . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ سَهْلٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: " مَنْ انْتَقَلَ مِنْ نَفَسٍ إلَى نَفَسٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَقَدْ ضَيَّعَ وَأَدْنَى مَا يَدْخُلُ عَلَى مَنْ ضَيَّعَ دُخُولُهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَتَرْكُهُ مَا يَعْنِيهِ، وَقَدْ قَالُوا: إنَّ الذِّكْرَ عَلَى قِسْمَيْنِ: ذِكْرٌ بِاللِّسَانِ وَذِكْرٌ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ مَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ النِّيَّاتِ وَمِنْ الْوُقُوفِ مَعَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَنُقِلَ

عَنْ حَسَّانَ بْنِ أَبِي سِنَانٍ أَنَّهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِمَنْ هَذِهِ الدَّارُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: مَا لِي وَهَذَا السُّؤَالُ وَهَلْ هَذِهِ إلَّا كَلِمَةٌ لَا تَعْنِينِي؟ فَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَصُومَ سَنَةً كَامِلَةً كَفَّارَةً لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَسَبَبُ هَذَا الْوَاقِعِ مِنْهُ وُقُوفُهُ مَعَ نِيَّتِهِ وَالنَّظَرُ فِيهَا وَتَحْرِيرُهَا وَالِاهْتِمَامُ بِهَا فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَنْ يَتَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ بِأَعْظَمَ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ فَيَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ لُبٌّ إنْ قَدَرَ أَنْ يَعْمَلَ الشَّيْءَ عَلَى جِهَةِ الْفَرْضِ كَانَ أَوْلَى بِهِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى رَبِّهِ مِنْ غَيْرِهِ فَيَنْظُرُ أَوَّلًا فِي الْفِعْلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَالْأَفْعَالُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحْكَامِ الشَّرْعِ خَمْسَةٌ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ فَالْحَرَامُ قَدْ تُرِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَلَا سَبِيلَ إلَى فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حُرِّمَ وَالْمَكْرُوهُ مَا كَانَ فِي تَرْكِهِ أَجْرٌ فَلَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ؛ لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ تَرْكَ الْأَجْرِ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي دِينِهِ نَهَّابًا. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَنْهَبَانِ فِيك فَانْهَبْ فِيهِمَا فَهُوَ يَنْهَبُ فِي الْأَعْمَالِ يَفْتَرِسُهَا كَالْأَسَدِ عَلَى فَرِيسَتِهِ يَغْتَنِمُهَا وَيُحَصِّلُهَا؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي مَضَى عَنْهُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ أَبَدًا، وَهُوَ شَاهِدٌ عَلَيْهِ يَوْمَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهُ لِأَجْلِ تَرْكِ الْأَجْرِ فِيهِ وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَالَ: «إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاتِعِ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ أَلَا، وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا، وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا، وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الطَّرِيقِ فَالْمَكْرُوهُ عِنْدَهُمْ كَالْمُحَرَّمِ لَا سَبِيلَ إلَى ذِكْرِهِ فَضْلًا عَنْ فِعْلِهِ وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ وَسَمِعْته يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْحُكَمَاءِ قَالَ: مَا كُنْت لَاعِبًا لَا بُدَّ أَنْ تَلْعَبَ بِهِ فَلَا تَلْعَبَنَّ بِدِينِك. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَعْنَى فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَامِحَ أَحَدًا فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي مُسَامَحَتِهِ

فصل في الهبوب من النوم ولبس الثوب

فِيهِ إثْمٌ وَإِنْ سَامَحَهُ فِي مَالِهِ أَوْ فِي عِرْضِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُصْبِحَ الرَّجُلُ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا فَيَدْعُوهُ إلَى الْفِطْرِ مِنْ صَنِيعٍ يَصْنَعُهُ فَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ: أَنَّهُ إنْ حَلَفَ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْعِتْقِ لَيُفْطِرَن فَلْيُحَنِّثْهُ وَلَا يُفْطِرُ، وَإِنْ حَلَفَ هُوَ فَلْيُكَفِّرْ وَلَا يُفْطِرُ وَإِنْ عَزَمَ عَلَيْهِ وَالِدَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي الْفِطْرِ فَلْيُطِعْهُمَا وَإِنْ لَمْ يَحْلِفَا عَلَيْهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ رِقَّةً مِنْهُمَا عَلَيْهِ لِاسْتِدَامَةِ صَوْمِهِ انْتَهَى فَبَقِيَتْ الْأَفْعَالُ ثَلَاثَةً وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ فَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ لَا فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ وَلَا فِي تَرْكِهِ عِقَابٌ وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَيْهِ سَاعَةٌ إلَّا، وَهُوَ فِيهَا طَائِعٌ لِرَبِّهِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ، وَالسَّاعَةُ الَّتِي يَفْعَلُ فِيهَا الْمُبَاحَ يَكُونُ عَرِيًّا عَنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي. أَمَّا أَهْلُ الطَّرِيقِ فَالتَّصَرُّفُ عِنْدَهُمْ فِي الْمُبَاحِ لَا يُمْكِنُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ إنَّمَا يَكُونُ فِي وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ نَظَرْنَا إلَى الْمُبَاحِ فَوَجَدْنَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يَنْتَقِلُ إلَى النَّدْبِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَبَقِيَتْ الْأَفْعَالُ فِعْلَيْنِ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ لَيْسَ إلَّا، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَعْظَمُ أَجْرًا فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ نَظَرْنَا إلَى الْمَنْدُوبِ هَلْ يُمْكِنُ نَقْلُهُ إلَى الْوَاجِبِ أَمْ لَا؟ فَوَجَدْنَاهُ يَنْتَقِلُ إلَى أَكْثَرِ الْأَعْمَالِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَبَقِيَ التَّصَرُّفُ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْوَاجِبُ أَعْنِي فِي غَالِبِ الْحَالِ وَالْمَنْدُوبُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. [فَصْلٌ فِي الْهُبُوبِ مِنْ النَّوْمِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ] ِ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ وَكَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ انْتَبَهَ الْإِنْسَانُ مِنْ نَوْمِهِ وَقَامَ مِنْ فِرَاشِهِ يَلْبَسُ ثَوْبَهُ فَإِنَّ اللِّبْسَ مِنْ جِهَةِ الْمُبَاحِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ فَذَلِكَ مَوْجُودٌ يَلْبَسُهُ بِنِيَّةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ ثُمَّ لَا يَخْلُو الثَّوْبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ ضَمَّ إلَى نِيَّةِ الْوَاجِبِ امْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي إظْهَارِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ صَلَوَاتُ

اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ «إذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ» . فَيَنْوِي بِذَلِكَ مُبَادَرَتَهُ إلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا لَا يُتَزَيَّنُ بِهِ فَيَنْوِي بِلُبْسِهِ التَّوَاضُعَ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِانْكِسَارَ وَالتَّذَلُّلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِظْهَارَ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ إلَيْهِ وَامْتِثَالَ السُّنَّةِ أَيْضًا لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ «مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ كَسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْيَاقُوتِ» أَوْ كَمَا قَالَ. وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فِي سُنَنِهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَنْ تَرَكَ لُبْسَ جَمَالٍ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ قَالَ بِشْرٌ أَحْسِبُهُ قَالَ: تَوَاضُعًا كَسَاهُ اللَّهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ» هَذَا إذَا كَانَ مِمَّنْ لَهُ اتِّسَاعٌ وَتَرَكَ اللِّبَاسَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ. أَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ الثَّوْبِ فَقَدْ بَقِيَ عَلَى الْوُجُوبِ لَيْسَ إلَّا لَكِنْ يَضُمُّ إلَى نِيَّةِ الْوُجُوبِ الرِّضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ وَتَرْكَ الِاخْتِيَارِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّسْلِيمَ لَهُ فِي حُكْمِهِ، وَهَذَا أَعْظَمُ أَجْرًا إذَا أَحْسَنَتْ نِيَّتُهُ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ الرِّضَى، وَمَقَامُ الرِّضَى عَزِيزٌ جِدًّا لَا يَقُومُ فِيهِ إلَّا وَاحِدُ عَصْرِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى ثِيَابٍ كَثِيرَةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا يَلْبَسُهَا لِأَجْلِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَيَنْوِي بِذَلِكَ دَفْعَ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ عَنْهُ مُمْتَثِلًا فِي ذَلِكَ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِظْهَارَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالِاضْطِرَارَ فِي لُبْسِهِ مَعَ اعْتِقَادِ النِّيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْفَعُ الْحَرَّ أَوْ الْبَرْدَ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ حَكَى بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُ كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ قَاعِدًا لِأَجْلِ الدَّرْسِ، وَإِذَا بِهِ قَدْ أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَ ثَوْبَهُ وَأَوْمَأَ لِذَلِكَ وَتَحَرَّكَ إلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَجَعَلَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: حَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَةٌ إلَى ثَوْبِي فَوَجَدْتنِي قَدْ لَبِسْته مَقْلُوبًا فَعَزَمْت عَلَى

تَعْدِيلِهِ ثُمَّ إنِّي فَكَّرْت أَنِّي كُنْت لَبِسْته حِينَ قُمْت مِنْ الْفِرَاشِ بِنِيَّةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَاسْتَغْفَرْت اللَّهَ تَعَالَى مِمَّا أَرَدْت فِعْلَهُ أَوْ كَمَا قَالَ، وَهَذَا السَّيِّدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا جَعَلَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَمْ تَخْلُصْ لَهُ النِّيَّةُ بِحَضْرَةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْوَقْتِ أَوْ خَلَصَتْ وَخَافَ أَنْ يَشُوبَهَا شَيْءٌ مَا لِأَجْلِ حُضُورِهِمْ فَتَرَكَهُ أَلْبَتَّةَ أَوْ أَرَادَ بِتَرْكِ ذَلِكَ عَلَى حَالِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ مِمَّا أَرَادَ فِعْلَهُ تَعْلِيمَ الطَّلَبَةِ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا فَيَكُونُ لُبْسُ الثَّوْبِ مِنْهُ تَنْبِيهًا عَلَى بَقَائِهَا، وَإِلَّا لَوْ حَوَّلَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَعَدَّلَهُ بِنِيَّةِ إكْمَالِ الزِّينَةِ وَإِظْهَارِ النِّعَمِ عَلَى تَرْتِيبِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُضَادًّا لِنِيَّتِهِ الْأُولَى لَكِنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ أَخَذَتْ بِالْجِدِّ وَالْحَزْمِ فَمَهْمَا وَقَعَ لَهُمْ شَيْءٌ مَا مِنْ الشَّوَائِبِ أَوْ تَوَهَّمُوهَا بِطَرْفٍ مَا تَرَكُوا الْفِعْلَ أَلْبَتَّةَ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مَرَّ بِالْفُرَاتِ وَفِيهِ مَرْكَبٌ مَوْسُوقٌ خَمْرًا، وَكَانَ صَاحِبُ الْخَمْرِ مِنْ الظَّلَمَةِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَى الْخَلْقِ فِي وَقْتِهِ لَا يُطَاقُ لِشِدَّةِ سَطْوَتِهِ فَطَلَعَ الْمَرْكَبَ وَكَسَرَ مَا هُنَاكَ فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ يَتَعَرَّضُ لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ التَّكْسِيرِ جَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَقَفَ عِنْدَهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَرَكَهَا يَعْنِي لَمْ يَكْسِرْهَا ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ وَمَضَى لِسَبِيلِهِ. فَلَمَّا أَنْ أَخْبَرُوا الظَّالِمَ بِقِصَّتِهِ أَمَرَ بِإِحْضَارِهِ فَأُحْضِرَ فَقَالَ: لَهُ مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت فَقَالَ عَمِلْت مَا خَطَرَ لِي فَاعْمَلْ مَا خَطَرَ لَك فَقَالَ لَهُ الظَّالِمُ: فَلِأَيِّ شَيْءٍ تَرَكْت الْجَرَّةَ الْوَاحِدَةَ لَمْ تَكْسِرْهَا وَكَسَرْت الْجَمِيعَ؟ فَقَالَ: ذَلِكَ لِأَنِّي لَمَّا أَنْ رَأَيْت الْمُنْكَرَ لَمْ أَتَمَالَك إلَّا أَنْ أُغَيِّرَهُ فَفَعَلْت فَكَانَ ذَلِكَ خَالِصًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ لَمَّا أَنْ بَقِيَتْ تِلْكَ الْجَرَّةُ خَطَرَ لِي فِي نَفْسِي أَنِّي مِمَّنْ يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ فَرَأَيْت أَنْ قَدْ حَصَلَ لَهَا فِي ذَلِكَ دَعْوَى فَخِفْت أَنْ يَكُونَ كَسْرُ مَا بَقِيَ فِيهِ حَظٌّ لِنَفْسِي فَتَرَكْتهَا وَانْصَرَفْت لِأَسْلَمَ مِنْ آفَاتِهَا أَوْ كَمَا قَالَ فَرَدَّ الظَّالِمُ رَأْسَهُ إلَى خَدَمِهِ وَحَشَمِهِ، وَقَالَ لَهُمْ لَا يَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ هَذَا مُعَامَلَةٌ يَفْعَلُ مَا يَخْتَارُ السَّلَامَةَ السَّلَامَةَ أَوْ كَمَا قَالَ: فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ شِدَّةَ مُلَاحَظَتِهِمْ لِنِيَّاتِهِمْ وَإِخْلَاصَهَا وَتَحْرِيرَهَا وَتَحْرِيمَ رَفْعِ

فصل في الاستبراء وكيفية النية فيه

الشَّوَائِبِ عَنْهَا وَتَرْكِ الدَّعَاوَى وَالْمُبَاهَاةِ لَا جَرَمَ أَنَّ الظَّالِمَ كَانَ لَا يُطَاقُ رَجَعَ لِأَجْلِ بَرَكَةِ مَا ذَكَرَ مِنْ حَالِهِ خَائِفًا مِنْهُ فَزِعًا وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى وَسُنَّتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِمْ وَاحِدَةٌ لَا يَخْذُلُهُمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُتْرَكُ لِنَفْسِهِ مَنْ كَانَ مَعَهَا وَلَوْ فِي وَقْتٍ مَا. أَمَّا مَنْ كَانَ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ بَتَّ طَلَاقَ نَفْسِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ أَمْرَ هَذَا لَا يُطَاقُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْطِقُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَرِيًّا عَنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ مُقْبِلًا عَلَى مَا يَلْزَمُهُ وَيَعْنِيهِ مُعْرِضًا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ جَاءَ مَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: «لَوْ كَادَتْهُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ لَجَعَلْت لَهُ مِنْ أَمْرِهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا» . وَمَنْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي دُنْيَاهُ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ وَكَرَامَتُهُ حِينَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ؟ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وَهَذَا الْخَيْرُ كُلُّهُ أَصْلُهُ النِّيَّةُ وَتَحْرِيرُهَا وَالْوُقُوفُ مَعَهَا وَالِاهْتِمَامُ بِهَا فَكَيْفَ يُغْفَلُ عَنْهَا أَوْ تُتْرَكُ أَوْ يَرْضَى عَاقِلٌ أَنْ يَتْرُكَ لِنَفْسِهِ تَذَكُّرَهَا؟ هَذَا غَيْرُ كَامِلِ الْعَقْلِ ضَرُورَةً نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ فَحَصَلَ لَنَا فِي لُبْسِ الثَّوْبِ مِنْ النِّيَّاتِ سَبْعَ عَشْرَةَ نِيَّةً. وَمَنْ نَظَرَ وَأَعْطَاهُ اللَّهُ نُورًا ازْدَادَ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا ذُكِرَ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَكَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِيهِ] ِ فَإِذَا لَبِسَ الثَّوْبَ عَلَى مَا ذُكِرَ يَحْتَاجُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَسْتَبْرِئَ أَوْ يُزِيلَ حُقْنَةً وَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرًا فَإِذَا دَخَلَ لِرَاحَةِ نَفْسِهِ فَلَهُ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ وَإِنْ دَخَلَ سَاهِيًا أَوْ غَافِلًا فَكَالْأَوَّلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَفْعَالَ قَدْ بَقِيَتْ عَلَى قِسْمَيْنِ: وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ. وَهَذَا عَلَى الْوُجُوبِ لَا شَكَّ فِيهِ وَمَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ كَانَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. بَيَانُ وُجُوبِهِ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَاجِبٌ أَعْنِي اسْتِفْرَاغَ مَا فِي الْمَحَلِّ مِنْ مَادَّةِ الْبَوْلِ وَكَذَلِكَ إزَالَةُ الْحُقْنَةِ أَيْضًا وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ

صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ يَقُولُ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ، وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ» . وَهَذَا نَهْيٌ، وَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَا تَقْرَبُوا» انْتَهَى وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَالصَّلَاةُ لَا يُمْكِنُ إيقَاعُهَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ إلَّا بِإِزَالَةِ الْحُقْنَةِ فَصَارَتْ إزَالَتُهَا وَاجِبَةً فَإِذَا قَامَ إلَى هَذَا الْوَاجِبِ يَفْعَلُهُ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى نِيَّةِ هَذَا الْوَاجِبِ لَيْسَ إلَّا، بَلْ يُضِيفُ إلَيْهَا نِيَّةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ آدَابَ التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَهِيَ تَنُوفُ عَلَى سَبْعِينَ خَصْلَةً يَحْتَاجُ مَنْ قَامَ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِهَا، وَهِيَ كُلُّهَا مَاشِيَةٌ عَلَى قَانُونِ الِاتِّبَاعِ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] . الْأُولَى: الْإِبْعَادُ حَتَّى لَا يُرَى لَهُ شَخْصٌ وَلَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ. الثَّانِيَةُ: الِاسْتِعْدَادُ لِذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِيَسِيرٍ مِنْ الْمَاءِ وَالْأَحْجَارِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُقَدِّمَ الشِّمَالَ وَيُؤَخِّرَ الْيَمِينَ. الرَّابِعَةُ: إذَا خَرَجَ فَلْيُقَدِّمْ الْيَمِينَ أَوَّلًا وَيُؤَخِّرْ الشِّمَالَ. الْخَامِسَةُ: أَنْ يَتَعَوَّذَ التَّعَوُّذَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ النَّجِسِ الرِّجْسِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. السَّادِسَةُ: أَنْ لَا يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ إذْ ذَاكَ. السَّابِعَةُ: أَنْ لَا يَسْتَدْبِرَهَا إلَّا فِي الْمَنَازِلِ الْمَبْنِيَّةِ فَلَا بَأْسَ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي سَطْحٍ فَأُجِيزَ وَكُرِهَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي التَّعْلِيلِ هَلْ النَّهْيُ إكْرَامًا لِلْقِبْلَةِ فَيُكْرَهُ أَوْ إكْرَامًا لِلْمَلَائِكَةِ فَيَجُوزُ؟ وَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ إنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّطْحِ فَيُخْتَلَفُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ. الثَّامِنَةُ: أَنْ لَا يَسْتَقْبِلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِعَوْرَتِهِ فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّهُمَا يَلْعَنَانِهِ. التَّاسِعَةُ: أَنْ يَسْتَتِرَ عِنْدَ التَّبَرُّزِ. الْعَاشِرَةُ: أَنْ يَتَوَقَّى مَسَالِكَ الطُّرُقِ. الْحَادِيَةَ عَشَرَ: أَنْ يَتَوَقَّى مَهَابَّ الرِّيَاحِ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَقَّى الْبَوْلَ فِي الْمَرَاحِيضِ الَّتِي فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُشْبِهُهَا فِيمَا كَانَ مِنْهَا فِي الرَّبُوعَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السَّرَابَ مُتَّسَعًا جِدًّا وَالْمَرَاحِيضُ الَّتِي لِلرَّبْعِ كُلُّهَا نَافِذَةٌ

إلَيْهِ فَيَتَّسِعُ فِيهِ الْهَوَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ إلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْمَرَاحِيضِ وَيَخْرُجُ مِنْ الْأُخْرَى وَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْهَا مَوْضِعَ مَهَابِّ الرِّيَاحِ، فَمَنْ يَبُولُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى بَدَنِهِ وَثَوْبِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ وَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبُولَ فِي وِعَاءٍ ثُمَّ يُفَرِّغُهُ فِي الْمِرْحَاضِ فَيَسْلَمُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشَرَ: أَنْ يَتَوَقَّى مَا عَلَا مِنْ الْأَرْضِ. الثَّالِثَةَ عَشَرَ: أَنْ يُبَالِغَ فِي أَكْثَرِ مَا يَجِدُ مِنْ الْأَرْضِ انْخِفَاضًا وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَائِطُ غَائِطًا؛ لِأَنَّ الْغَائِطَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنْ الْأَرْضِ فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذَا ذَهَبَ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ قِيلَ: ذَهَبَ لِلْغَائِطِ أَيْ: الْمَكَانِ الْمُنْخَفِضِ مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فَسَمَّوْا الْخَارِجَ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ تَنْزِيهًا لِأَسْمَاعِهَا عَمَّا تَنَزَّهَ عَنْهُ أَبْصَارُهَا وَكَانَتْ تَنْظُرُ إلَى الْمَكَانِ الْمُنْخَفِضِ مِنْ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي السَّتْرِ وَأَأْمَنُ مِنْ مَهَابِّ الرِّيَاحِ. الرَّابِعَةَ عَشَرَ: أَنْ لَا يَقْعُدَ حَتَّى يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَشِمَالًا. الْخَامِسَةَ عَشَرَ: أَنْ لَا يَكْشِفَ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنْ الْأَرْضِ. السَّادِسَةَ عَشَرَ: إذَا قَعَدَ لَا يَلْتَفِتْ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا. السَّابِعَةَ عَشَرَ: أَنْ لَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ. الثَّامِنَةَ عَشَرَ: أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى عَوْرَتِهِ. التَّاسِعَةَ عَشَرَ: أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا وَكَذَلِكَ فِي النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ أَيْضًا. الْعِشْرُونَ: أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ إذْ ذَاكَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْجِمَاعِ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: تَرْكُ الْكَلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ ذِكْرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَعِيذَ عِنْدَ الِارْتِيَاعِ وَيَجِبُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فِي أَمْرٍ يَقَعُ مِثْلِ حَرِيقٍ أَوْ أَعْمَى يَقَعُ أَوْ دَابَّةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَا يُسَلِّمُ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يُقِيمَ عُرْقُوبَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى عَلَى صَدْرِهَا. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ يَسْتَوْطِئَ الْيُسْرَى. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَتَوَكَّأَ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَسْرَعُ لِخُرُوجِ الْحَدَثِ. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: يُكْرَهُ الْبَوْلُ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ إلَى أَسْفَلَ خَوْفًا مِنْ الرِّيحِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: يُكْرَهُ

أَنْ يَبُولَ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُنْحَدِرَةِ إذَا كَانَ هُوَ مِنْ أَسْفَلَ؛ لِأَنَّ بَوْلَهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ. الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: اُخْتُلِفَ فِي الْبَوْلِ قَائِمًا فَأُجِيزَ وَكُرِهَ وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ وَكَانَ الْمَوْضِعُ رَخْوًا فَإِنَّهُ يُسْتَشْفَى بِهِ مِنْ وَجَعِ الصُّلْبِ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلُوا مَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ بَالَ قَائِمًا. التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: يَبْتَدِي بِغَسْلِ قُبُلِهِ قَبْلَ دُبُرِهِ لِئَلَّا يَتَطَايَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ عِنْدَ غَسْلِ دُبُرِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتَنَظَّفُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُومَ فَلَا فَائِدَةَ لِغَسْلِهِ أَوَّلًا، بَلْ يَغْسِلُ الدُّبُرَ وَيَتَوَقَّى مِنْ النَّجَاسَةِ أَنْ تُصِيبَ بَدَنَهُ أَوْ ثَوْبَهُ. الثَّلَاثُونَ: يَغْسِلُ يَدَهُ بِالتُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ عِنْدَ الْفَرَاغِ فَهُوَ أَنْظَفُ. الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: يَسْتَجْمِرُ وِتْرًا. الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَا يَسْتَنْجِي فِي مَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَا يَسْلُتُ ذَكَرَهُ إلَّا بِرِفْقٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ كَالضَّرْعِ كُلَّمَا تَسْلُتُهُ يُعْطِي الْمَادَّةَ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا؛ لِعَدَمِ التَّنْظِيفِ. الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: يُفَرِّجُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ عِنْدَ الْبَوْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ وَالْإِسْهَالِ لِئَلَّا يَتَطَايَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ. الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنْ لَا يَعْبَثَ بِيَدِهِ. السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى السَّمَاءِ. السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: إذَا رَجَعَ مِنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَوَّغَنِيهِ طَيِّبًا وَأَخْرَجَهُ عَنِّي خَبِيثًا. الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَحْجَارِ وَالْمَاءِ فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَطْيَبُ لِلنَّفْسِ. التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْجِيَ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ الْيُسْرَى قَبْلَ أَنْ يُبَاشِرَ النَّجَاسَةَ بِيَدِهِ لِئَلَّا تَعْلَقَ بِهَا الرَّائِحَةُ. الْأَرْبَعُونَ: إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَحْجَارٌ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ فَلَا يَتْرُكُ الِاسْتِجْمَارَ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ يَسْتَجْمِرُ بِأُصْبُعِهِ الْوُسْطَى أَوَّلًا بَعْدَ غَسْلِهَا فَيَسْمَحُ بِهَا الْمَسْرُبَةَ وَمَوْضِعَ النَّجَاسَةِ عَلَى سُنَّةِ الِاسْتِجْمَارِ وَمَا لِلنَّاسِ فِيهِ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَالِاخْتِيَارَاتِ ثُمَّ يَغْسِلُهَا مِمَّا تَعَلَّقَ بِهَا ثُمَّ يَسْتَجْمِرُ بِهَا أَيْضًا إلَى أَنْ يُنَقِّيَ فَإِذَا أَنْقَى طَلَبَ الْوِتْرَ مَا لَمْ يُجَاوِزْ السَّبْعَ فَإِنْ جَاوَزَهَا سَقَطَ عَنْهُ طَلَبُ الْوِتْرِ. الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ:

إذَا اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ فَلْيَكُنْ الْإِنَاءُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى يَسْكُبُ بِهَا الْمَاءَ وَيَدُهُ الْيُسْرَى عَلَى الْمَحَلِّ يَعْرُكُهُ وَيُوَاصِلُ صَبَّ الْمَاءِ وَيُبَالِغُ فِي التَّنْظِيفِ خِيفَةَ أَنْ يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ فَيُصَلِّيَ بِالنَّجَاسَةِ وَعَذَابُ الْقَبْرِ مِنْ هَذَا الْبَابِ. الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ لَا يَتَغَوَّطَ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ. الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ لَا يَتَغَوَّطَ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ. الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ تَحْتَ ظِلِّ حَائِطٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مَلَاعِنُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ:: «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ» انْتَهَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ كُلَّهَا هِيَ لِرَاحَةِ النَّاسِ فِي الْغَالِبِ إذَا أَرَادَ الشَّخْصُ أَنْ يَسْتَرِيحَ يَطْلُبُ ظِلًّا أَوْ يَرِدَ النَّهْرَ لِلْمَاءِ فَيَجِدُ مَا يَجْعَلُ هُنَاكَ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ مَنْ فَعَلَ هَذَا. السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَتَجَنَّبَ الْبَوْلَ فِي كُوَّةٍ فِي الْأَرْضِ إذَا لَاقَاهَا بِعَيْنِ الذَّكَرِ وَاخْتُلِفَ إذَا بَعُدَ عَنْهَا فَوَصَلَ بَوْلُهُ إلَيْهَا فَيُكْرَهُ خِيفَةً مِنْ حَشَرَاتٍ تَنْبَعِثُ عَلَيْهِ مِنْ الْكُوَّةِ وَقِيلَ يُبَاحُ لِبُعْدِهِ مِنْ الْحَشَرَاتِ إنْ كَانَتْ فِيهَا. السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَتَجَنَّبَ بِيَعَ الْيَهُودِ. الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَتَجَنَّبَ كَنَائِسَ النَّصَارَى سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي مَسَاجِدِنَا كَمَا نُهِيَ عَنْ سَبِّ الْآلِهَةِ الْمَدْعُوَّةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِئَلَّا يَسُبُّوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: يُكْرَهُ الْبَوْلُ فِي الْأَوَانِي النَّفِيسَةِ لِلسَّرَفِ وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِتَحْرِيمِ اتِّخَاذِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا. الْخَمْسُونَ: يُكْرَهُ الْبَوْلُ فِي مَخَازِنِ الْغَلَّةِ. الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: يُكْرَهُ الْبَوْلُ فِي الدُّورِ الْمَسْكُونَةِ الَّتِي قَدْ خَرِبَتْ لِلْأَذَى. الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: يَسْتَرْخِي قَلِيلًا عِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ اسْتَرْخَى مِنْهُ ذَلِكَ الْعُضْوُ فَيَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ يَغْسِلْهُ عَلَى ظَاهِرِ بَدَنِهِ فَيُصَلِّي بِالنَّجَاسَةِ. الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ: يَحْذَرُ أَنْ يُدْخِلَ أُصْبُعَهُ فِي دُبُرِهِ فَإِنَّهُ مِنْ فِعَالِ أَشْرَارِ النَّاسِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ

الرَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ: يَتَفَقَّدُ نَفْسَهُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ فَيَعْمَلُ عَلَى عَادَتِهِ فَرُبَّ شَخْصٍ يَحْصُلُ لَهُ التَّنْظِيفُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْبَوْلِ عَنْهُ وَآخَرُ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُومَ وَيَقْعُدَ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي أَمْزِجَتِهِمْ وَفِي مَآكِلِهِمْ وَاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَعْهَدُ مِنْ نَفْسِهِ عَادَةً فَيَعْمَلُ عَلَيْهَا فَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ يَتَوَسْوَسَ فِي طَهَارَتِهِ فَيَعْمَلُ عَلَى مَا يَظْهَرُ لَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ حَالِ مِزَاجِهِ وَغِذَائِهِ وَزَمَانِهِ فَلَيْسَ الشَّيْخُ كَالشَّابِّ، وَلَيْسَ مَنْ أَكَلَ الْبِطِّيخَ كَمَنْ أَكَلَ الْجُبْنَ وَلَيْسَ الْحَرُّ كَالْبَرْدِ. الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ: إذَا قَامَ لِلِاسْتِبْرَاءِ فَلَا يَخْرُجُ بَيْنَ النَّاسِ وَذَكَرُهُ فِي يَدِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ ثَوْبِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ شَوْهٌ وَمُثْلَةٌ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَهَذَا قَدْ نُهِيَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ ضَرُورَةٌ فِي الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ إذْ ذَاكَ فَلْيَجْعَلْ عَلَى فَرْجِهِ خِرْقَةً يَشُدُّهَا عَلَيْهِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَإِذَا رَجَعَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَنَظَّفَ إذْ ذَاكَ. السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ: يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ نَتْفِ إبِطٍ أَوْ غَيْرِهِ لِئَلَّا يُبْطِئَ فِي خُرُوجِ الْحَدَثِ، وَالْمَقْصُودُ الْإِسْرَاعُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا يَسَّرَ عَلَيْهِ الطَّهَارَةَ ". السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ: لَا يَسْتَجْمِرُ فِي حَائِطِ مَسْجِدٍ؛ لِحُرْمَتِهِ وَلَا فِي حَائِطٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَلَا فِي حَائِطِ وَقْفٍ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ، وَهُوَ فِي حَوْزِ مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ وَكَثِيرًا مَا يُتَسَاهَلُ الْيَوْمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سِيَّمَا فِيمَا سُبِّلَ لِلْوُضُوءِ فَتَجِدُ الْحِيطَانَ فِي غَايَةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْقَذَرِ لِأَجْلِ اسْتِجْمَارِهِمْ فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ: يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَجْمِرَ فِي حَائِطِ مِلْكَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْمَطَرُ أَوْ يُصِيبُهُ بَلَلٌ مِنْ الْمَاءِ وَيَلْتَصِقُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ إلَيْهِ فَتُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ فَيُصَلِّي بِهَا. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَائِطِ حَيَوَانٌ فَيَتَأَذَّى بِهِ، وَقَدْ

رَأَيْت عِيَانًا بَعْضَ النَّاسِ اسْتَجْمَرَ فِي حَائِطٍ فَلَسَعَتْهُ عَقْرَبٌ كَانَتْ هُنَاكَ عَلَى رَأْسِ ذَكَرِهِ وَرَأَى مِنْ ذَلِكَ شِدَّةً عَظِيمَةً. التَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ: لَا يَسْتَجْمِرُ بِفَحْمٍ؛ لِأَنَّهُ يُلَوِّثُ الْمَحَلَّ وَلَا بِعَظْمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَقِّي وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ زَادُ إخْوَانِنَا مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ وَلَا بِزُجَاجٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَقِّي، وَهُوَ مُؤْذٍ وَلَا بِرَوْثٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ الدَّعْكِ وَلَا يُنَظِّفُ وَيَتَفَتَّتُ، وَهُوَ زَادُ دَوَابِّ مُؤْمِنِي الْجِنِّ وَلَا بِنَجَسٍ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ تَنْجِيسًا وَلَا بِمَائِعٍ؛ لِأَنَّهُ يُلَطِّخُ الْمَحَلَّ وَيَزِيدُهُ تَلْوِيثًا وَلَا بِطَعَامٍ لِحُرْمَتِهِ وَلَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ زَبَرْجَدٍ أَوْ يَاقُوتٍ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ وَلَا بِثَوْبٍ حَرِيرٍ وَلَا بِثَوْبٍ رَفِيعٍ مِنْ غَيْرِ الْحَرِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَرَفٌ وَيَسْتَجْمِرُ بِمَا عَدَا مَا ذُكِرَ. وَقَدْ حَدَّ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِهَذَا حَدًّا يَجْمَعُ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ آلَاتِ الِاسْتِجْمَارِ يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ فَقَالُوا: يَجُوزُ الِاسْتِجْمَارُ بِكُلِّ جَامِدٍ طَاهِرٍ مُنَقٍّ قَلَّاعٍ لِلْأَثَرِ غَيْرِ مُؤْذٍ لَيْسَ بِذِي حُرْمَةٍ وَلَا سَرَفٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَهُوَ ضَابِطٌ جَيِّدٌ انْتَهَى وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ مِنْهُ خَارِجٌ أَنْ يَعْتَبِرَ إذْ ذَاكَ فِي الْخَارِجِ وَفِي نَتِنِهِ وَقَذَرِهِ فَإِنَّ نَفْسَهُ تَعَافُهُ وَيَعْلَمُ وَيَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرْجِعَ بِنَفْسِهِ كَذَلِكَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ يُطْرَحُ قَذَرًا مُنْتِنًا تَعَافُهُ نَفْسُ كُلِّ مَنْ يَرَاهُ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَمُوتُ فَإِذَا دُفِنَ فِي قَبْرِهِ تَدَوَّدَ فَأَكَلَتْهُ الدِّيدَانُ فَإِذَا أَكَلَتْهُ الدِّيدَانُ رَمَتْهُ مِنْ جَوْفِهَا قَذِرًا مُنْتِنًا، وَيُعْلَمُ أَنَّ ثَمَّ قَوْمًا لَا يُدَوِّدُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَلَا تَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ الْأَرْضُ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَالْمُؤَذِّنُونَ الْمُحْتَسِبُونَ. فَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ طُوِيَ بِسَاطُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقِيَتْ الْمَقَامَاتُ الثَّلَاثُ فَيُنْظَرُ مَا فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْمَقَامَاتِ فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ لِيَسْلَمَ بِهِ مِنْ هَذَا الْقَذَرِ وَالنَّتِنِ إنْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ سَنِيَّةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ يُعَايِنُ مَا يُصَارُ إلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي حَالِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَنَا حَتَّى يَعْلَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مَا هُوَ إلَيْهِ صَائِرٌ {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [البقرة: 269] ،

فَمَنْ كَانَ لَهُ لُبٌّ نَظَرَ إلَى أَوَّلِهِ فَوَجَدَهُ نُطْفَةً كَمَا عَايَنَ وَنَظَرَ إلَى آخِرِهِ فَوَجَدَهُ كَمَا رَأَى كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَإِلَى وَسَطِهِ فَوَجَدَهُ حَامِلًا مَا يَرَاهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَخْرُجُ مِنْهُ وَيُعَايِنُهُ فَأَيُّ دَعْوَى تَبْقَى مَعَ هَذَا الْحَالِ؟ وَأَيُّ نَفْسٍ تَشْمَخُ وَلَوْ كَانَ ثَمَّ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْفَيْضُ الرَّبَّانِيُّ وَالْفَضْلُ الْعَظِيمُ فَيَسْتُرُ الْقَبِيحَ وَيُظْهِرُ الْجَمِيلَ وَيَسْتُرُ الْعَوْرَاتِ وَيُؤْمِنُ الرَّوْعَاتِ، وَإِلَّا فَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِكُلِّ رَذِيلَةٍ وَنَقِيصَةٍ كَمَا تَرَى. هَذَا وَجْهٌ مِنْ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَنْظُرَ وَيَعْتَبِرَ فِيمَا انْفَصَلَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا طَيِّبَ الْمَذَاقِ شَهِيًّا لِلنُّفُوسِ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِعِوَضٍ وَالْعِوَضُ فِي الْغَالِبِ قَدْ جَرَتْ الْحِكْمَةُ بِأَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِمُكَابَدَةٍ وَتَعَبٍ فِي الْغَالِبِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ فَهُوَ عَزِيزٌ إذَا يَسَّرَ اللَّهُ أَسْبَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ مَنَعَ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أَسْبَابِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَمَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُوصَلُ إلَيْهِ ثُمَّ، مَعَ هَذِهِ الْعِزَّةِ الَّتِي لَهُ وَالطَّهَارَةِ الَّتِي لَدَيْهِ إذَا خَالَطْنَا قَلِيلًا سُلِبَتْ طَهَارَتُهُ وَذَهَبَ عِزُّهُ وَصَارَ مُنْتِنًا قَذِرًا يُتَحَامَى عَنْهُ وَيَتَوَلَّى الْوَجْهُ مِنْهُ، فَهَذَا كَانَ سَبَبُهُ خُلْطَتَهُ لَنَا وَمُمَازَجَتَهُ بِنَا، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24] فَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَهَبَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ إلَى طَعَامِهِ إذَا صَارَ رَجِيعًا لِيَتَأَمَّلَ حَيْثُ تَصِيرُ عَاقِبَةُ الدُّنْيَا، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَتَعَانَى أَهْلُهَا. وَهَذَا نَظِيرُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَحْدَثَ فَإِنَّ مَلَكًا يَأْخُذُ بِنَاصِيَتِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ فَيَرُدُّ بَصَرَهُ إلَى نَحْرِهِ مُوقِفًا لَهُ وَمُعْجِبًا فَيَنْفَعُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ عَقْلٌ انْتَهَى ثُمَّ إنَّهُ لَمْ نَجِدْ هَذَا فِي الطَّعَامِ وَحْدَهُ، بَلْ فِي كُلِّ مَا نُبَاشِرُهُ إنْ لَبِسْنَا ثَوْبًا جَدِيدًا فَعَنْ قَلِيلٍ يَتَوَسَّخُ وَيَتَقَذَّرُ وَعَنْ قَلِيلٍ يَتَمَزَّقُ وَيَخْلَقُ وَإِنْ مَسَّنَا طِيبًا فَعَنْ قَلِيلٍ تَذْهَبُ رَائِحَتُهُ وَيُسْتَقْذَرُ وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرٌ فَنَتَجَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ

فصل في الوضوء وكيفية النية فيه

يَعْتَبِرُ إذْ ذَاكَ وَيَأْخُذُ نَفْسَهُ فِي الْأَدَبِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْهَرَبُ مِنْ خِلْطَةِ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ آثَارِ هَذِهِ الْخِلْطَةِ لِغَيْرِ الْجِنْسِ كَمَا صَارَ الطَّعَامُ فِي جَوْفِهِ هُوَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إذَا خَالَطَهُ أَحَدٌ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي دِينِهِ أَوْ يَنْفَعُهُ هُوَ فَلْيَحْذَرْ مِنْهُ أَنْ يُغَيِّرَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِسَبَبِ خِلْطَتِهِ كَمَا يَتَغَيَّرُ كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا ذُكِرَ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ فِي طَبْعِهِ وَمِزَاجِهِ أَعْنِي التَّغْيِيرَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك، وَهَذَانِ وَجْهَانِ عَظِيمَانِ فِي السُّلُوكِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ مَعَ الْفَوَائِدِ الْمَاضِيَةِ كُلِّهَا فَهَذِهِ جُمْلَةُ عِبَادَاتٍ كَثِيرَةٍ وَهِيَ عِنْدَنَا عَلَى طَرِيقِ الرَّاحَةِ وَالْإِبَاحَةِ شَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا فَتَحْصُلُ لَنَا مِنْ النِّيَّاتِ فِي الِاسْتِبْرَاءِ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ، وَهَذِهِ الْآدَابُ مِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ وَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِالْحَضَرِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ فِيهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَيِّنٌ لَا يَحْتَاجُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَعْنِي مَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ أَوْ فِي الْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي الْوُضُوءِ وَكَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِيهِ] ِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ وَإِزَالَةِ الْحَقْنَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَرَّ يَحْتَاجُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ فَيُفَرِّغُ قَلْبَهُ وَذِهْنَهُ لِذَلِكَ وَيَنْشَطُ إلَيْهِ وَيَمُرُّ بِبَالِهِ الطَّهَارَةُ لِمَاذَا وَلِأَيِّ شَيْءٍ تُرَادُ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقِفَ بِهَا بَيْنَ يَدَيْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِبَاطِنِهِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْهُ هُوَ بِنَفْسِهِ وَيَنْظُرُ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمَعْلُومَةِ دُونَ مَا عَدَاهَا مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مَا يَتَحَرَّكُ لِلْمُخَالَفَةِ أَسْرَعُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَأَمَرَ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَوَّلًا بِغَسْلِهَا تَنْبِيهًا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى طَهَارَتِهَا الْبَاطِنَةِ «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ» {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] . فَالْمَطْلُوبُ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْبَاطِنُ

وَتَخْلِيصُهُ مِنْ غَمَرَاتِ هُمُومِ الدُّنْيَا وَمُكَابَدَتِهَا وَالْفِكْرَةِ فِيهَا وَالتَّعَرِّي مِنْ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً هَذِهِ هِيَ الطَّهَارَةُ الْبَاطِنَةُ، وَالظَّاهِرَةُ تَبَعٌ لِهَذِهِ وَإِشَارَةٌ إلَيْهَا وَتَحْرِيضٌ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَنَبَّهَ الْغَافِلُ وَالسَّاهِي لِلْمُرَادِ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْجَلِيلِ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ لَهُ: فَالْوُضُوءُ الَّذِي هُوَ غَسْلُ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا مِنْ الْإِسْلَامِ وَطَهَارَةُ الْبَاطِنِ عَلَى مَعْنَى التَّوْبَةِ مِنْ اكْتِسَابِ الْجَوَارِحِ إيمَانًا وَبِهِ يَكْمُلُ الْوُضُوءُ انْتَهَى ثُمَّ إذَا رَتَّبَ غَسْلَهَا عَلَى تَرْتِيبِ سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ فِي الْمُخَالَفَةِ فَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَى التَّحْرِيكِ أَسْرَعُ مِنْ غَيْرِهِ أُمِرَ بِغَسْلِهِ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَأَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ أَوَّلًا، وَفِيهِ الْفَمُ وَالْأَنْفُ وَالْعَيْنَانِ فَابْتَدَأَ بِالْمَضْمَضَةِ أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَعْضَاءِ وَأَشَدُّهَا حَرَكَةً أَعْنِي اللِّسَانَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ قَدْ يَسْلَمُ، وَهُوَ كَثِيرُ الْعَطَبِ قَلِيلُ السَّلَامَةِ فِي الْغَالِبِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ شَأْنِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَعْضَاءَ فِي يَوْمٍ تُنَاشِدُهُ فِي أَنْ يُسْلِمَهَا مِنْ آفَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ لَا يَهْلَكُ وَحْدَهُ بَلْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ وَيُهْلِكُ إخْوَانَهُ. فَإِذَا جَاءَ الْمُؤْمِنُ إلَى غَسْلِ فَمِهِ يَذْكُرُ إذْ ذَاكَ أَنَّ طَهَارَةَ الظَّاهِرِ إنَّمَا هِيَ إشَارَةٌ إلَى تَطْهِيرِ الْبَاطِنِ فَوَجَدَ إذْ ذَاكَ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ مِنْهُ الطَّهَارَةُ الْبَاطِنَةُ فَتَابَ إلَى اللَّهِ وَأَقْلَعَ مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ لِسَانُهُ وَنَطَقَ ثُمَّ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا شَمَّ بِأَنْفِهِ وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا نَظَرَتْ عَيْنَاهُ وَالْتَذَّتْ فَإِذَا تَابَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ دَخَلَ إذْ ذَاكَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا» . جَاءَ الْحَدِيثُ «فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ وَجْهِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ» ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ الشَّرْعُ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ اللِّسَانُ وَنَظَرَتْ الْعَيْنَانِ بَطَشَتْ الْيَدَانِ وَلَمَسَتَا فَالْيَدَانِ بَعْدَهُمَا فِي تَرْتِيبِ الْمُخَالَفَةِ فَأَمَرَ بِطَهَارَتِهِمَا فَإِذَا جَاءَ إلَى طَهَارَتِهِمَا ابْتَدَأَ بِطَهَارَتِهِمَا بَاطِنًا فَتَابَ مِمَّا لَمَسَتْ يَدُهُ أَوْ تَحَرَّكَتْ النَّدَمُ تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا جَاءَ الْحَدِيثُ. «فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ يَدَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظَافِرِ

يَدَيْهِ» ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ الشَّرْعُ بِمَسْحِ رَأْسِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالْمَسْحِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالْغَسْلِ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ مُخَالَفَةٌ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَاوِرٌ لِمَنْ يَقَعُ مِنْهُ الْمُخَالَفَةُ، وَهُوَ اللِّسَانُ وَالْعَيْنَانِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ هُوَ الْمُخَالِفُ لَكِنْ كَانَ مُجَاوِرًا لِلْمُخَالِفِ أُعْطِيَ حُكْمًا بَيْنَ حُكْمَيْنِ فَأُمِرَ بِالْمَسْحِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْغَسْلِ. وَأَيْضًا قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأُذُنَيْنِ هَلْ هُمَا مِنْ الرَّأْسِ أَمْ لَا؟ وَالْأُذُنَانِ قَدْ يَسْمَعَانِ مَا لَا يَنْبَغِي لَكِنْ لَمَّا كَانَ السَّمْعُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي غَالِبِ الْحَالِ، وَهُوَ لَا يَتَعَمَّدُهُ خُفِّفَ أَمْرُهُ فَكَانَ الْمَسْحُ فَإِذَا مَسَحَهُ قَدَّمَ طَهَارَتَهُ الْبَاطِنَةَ بِالتَّوْبَةِ مِمَّا سَمِعَتْ الْأُذُنَانِ وَمِمَّا وَقَعَ فِيهِ مِنْ مُجَاوِرِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ النَّدَمُ تَوْبَةٌ «وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا» جَاءَ الْحَدِيثُ. «فَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ» . ثُمَّ أَمَرَهُ الشَّرْعُ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَيْنِ إذَا نَظَرَتَا وَتَكَلَّمَ اللِّسَانُ وَلَمَسَتْ الْيَدُ وَسَمِعَتْ الْأُذُنُ حِينَئِذٍ تَسْعَى الرِّجْلُ فَالرِّجْلُ آخِرُ الْجَمِيعِ فِي الْمُخَالَفَةِ فَجُعِلَتْ آخِرَ الْجَمِيعِ فِي الْغَسْلِ فَغَسَلَهَا إذْ ذَاكَ وَقَدَّمَ طَهَارَتَهَا الْبَاطِنَةَ فَابْتَدَأَ بِالتَّوْبَةِ مِمَّا سَعَتْ فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ. النَّدَمُ تَوْبَةٌ «وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا» جَاءَ الْحَدِيثُ «فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ رِجْلَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظَافِرِ رِجْلَيْهِ» فَلَمَّا أَنْ غَسَلَ رِجْلَيْهِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَرَادَ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَنْ يُقِيمَهُ فِي أَكْمَلِ الْحَالَاتِ وَأَتَمِّهَا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ» . إشَارَةٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى تَطْهِيرِ الْقَلْبِ مِنْ الِالْتِفَاتِ إلَى الْعَوَارِضِ وَالْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ وَالنَّزَعَاتِ فَفَهِمَ الْمُؤْمِنُ إذْ ذَاكَ الْمُرَادَ فَامْتَثَلَ طَهَارَةَ الْقَلْبِ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ تَجْدِيدِ الْإِيمَانِ وَتَجْدِيدِ التَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يَنْبَغِي

لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ إيمَانُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ جَدِيدًا يَحْتَرِزُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَكُونَ خَلَقًا وَالْخَلَقُ أَنْ لَا يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِتَجْدِيدِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ يَسْتَفِيقُ مِنْ اللَّيْلِ فَيَمُرُّ بِيَدِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَيَتَشَهَّدُ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَمَّا تَشَهُّدِي فَأَتَفَقَّدُ بِهِ الْإِيمَانَ هَلْ بَقِيَ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ أَعْمَالِي لَا تُشْبِهُ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ. أَمَّا تَمْشِيَةُ يَدِي عَلَى وَجْهِي فَأَتَفَقَّدُهُ أَنْ يَكُونَ حُوِّلَ إلَى الْقَفَا أَوْ مُسِخَ أَمْ لَا فَإِذَا وَجَدْته سَالِمًا أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي سَتَرَ عَلَيَّ بِفَضْلِهِ وَلَمْ يُعَاقِبْنِي وَيَفْضَحْنِي بِعَمَلِي. هَذَا قَوْلُهُ وَكَانَ لَهُ قَدَمٌ فِي الدِّينِ وَسَبْقٌ وَتَقَدُّمٌ فَمَا بَالُك بِأَحْوَالِنَا الْيَوْمَ عَلَى مَا يُشَاهِدُ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ، فَبِالْأَحْرَى وَالْأَوْلَى أَنْ نَتَفَقَّدَ الْإِيمَانَ الْيَوْمَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ فَلَمَّا أَنْ أَمَرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ وَتَطْهِيرِ الظَّاهِرِ عَلَى مَا مَضَى شَرَعَ لَهُ عِنْدَ نُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ إذْ ذَاكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ» . وَقَوْلُهُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إسْبَاغِ الْوُضُوءِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ» إشَارَةٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى فِي قَبُولِ مَا قَدْ أَتَى بِهِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» كَمُلَ الْحَالُ وَتَمَّتْ النِّعْمَةُ وَقُبِلَ الدُّعَاءُ بِتَخْيِيرِهِ عَلَى أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ؛ لِأَنَّ هَذَا عَبْدٌ قَدْ تَابَ مِنْ كُلِّ مَا جَنَى وَتَطَهَّرَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ الْحَدِيثُ فِيمَنْ امْتَثَلَ مَا ذُكِرَ مِنْ إسْبَاغِ الْوُضُوءِ وَكَمَالِهِ أَنَّ صَلَاتَهُ نَافِلَةٌ لَهُ وَالنَّوَافِلُ الزَّوَائِدُ إنْ لَمْ تَجِدْ مِنْ الذُّنُوبِ شَيْئًا تَكُونُ الصَّلَاةُ لِلتَّوْبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالتَّطْهِيرِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَبَقِيَتْ صَلَاتُهُ نَافِلَةً أَيْ: زَائِدَةً فَكَانَ مَوْضِعُهَا رَفْعَ الدَّرَجَاتِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَمَّ شَيْءٌ تُكَفِّرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَتَحَصَّلَ لَنَا مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَتُوبُ مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ اللِّسَانُ وَشَمَّ الْأَنْفُ وَنَظَرَتْ الْعَيْنَانِ وَسَمِعَتْ الْأُذُنَانِ وَبَطَشَتْ الْيَدَانِ وَمَشَتْ الرِّجْلَانِ وَخَطَرَ بِالْقَلْبِ، فَإِنْ كَانَ سَالِمًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَتْ التَّوْبَةُ لِلْغَفَلَاتِ الْوَاقِعَةِ، فَإِنْ كَانَ سَالِمًا مِنْ الْغَفَلَاتِ كَانَتْ التَّوْبَةُ لِعَدَمِ التَّوْبَةِ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا يَجِبُ لَهَا، وَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ أَصْلًا

فصل في الركوع بعد الوضوء وكيفية النية فيه

فَهَذِهِ سَبْعَةٌ مُنْضَمَّةٌ إلَى شُرُوطِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَالْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ فِيهِ. فَالشُّرُوطُ خَمْسَةٌ: وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَارْتِفَاعُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَدُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَالْفَرَائِضُ ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَاثْنَتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَهُمَا النِّيَّةُ وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ وَاثْنَتَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا وَهُمَا الْفَوْرُ وَالتَّرْتِيبُ وَسُنَنُهُ اثْنَا عَشْرَ أَرْبَعَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَهِيَ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالِاسْتِنْثَارُ وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ مَعَ تَجْدِيدِ الْمَاءِ لَهُمَا وَثَمَانِيَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا قِيلَ: إنَّهَا مِنْ السُّنَنِ وَقِيلَ: مِنْ الْفَضَائِلِ، وَهِيَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ إنْ أَيْقَنَ بِطَهَارَتِهِمَا وَمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ وَالِابْتِدَاءُ بِالْيَمِينِ قَبْلَ الشِّمَالِ وَالِابْتِدَاءُ بِمُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَرَدُّ الْيَدَيْنِ فِي مَسْحِهِ وَغَسْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْعَارِضِ وَالْأُذُنِ وَاسْتِيعَابُ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ وَتَرْتِيبُ الْمَفْرُوضِ مَعَ الْمَسْنُونِ. واسْتِحْباباتِهِ ثَلَاثَةَ عَشْرَ: وَهِيَ السِّوَاكُ وَيَجْزِي الْأُصْبُعُ الْخَشِنُ عَنْهُ وَجَعْلُ الْإِنَاءِ عَلَى الْيَمِينِ وَالتَّسْمِيَةُ وَأَنْ لَا يَتَوَضَّأَ فِي الْخَلَاءِ وَلَا عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ وَتَخْلِيلُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَتَخْلِيلُ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ وَتَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ وَذِكْرُ اللَّهِ وَأَنْ يَقْعُدَ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ عَنْ الْأَرْضِ لِئَلَّا يَتَطَايَرَ عَلَيْهِ مَا يَنْزِلُ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْمَاءِ وَالصَّمْتُ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَالْإِقْلَالُ مِنْ الْمَاءِ مَعَ إحْكَامِ الْغَسْلِ فِي الْأَعْضَاءِ فَجُمْلَةُ هَذِهِ الْآدَابِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي الرُّكُوعِ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَكَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِيهِ] ِ فَإِذَا أَسْبَغَ الْوُضُوءَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي ذُكِرَ يَحْتَاجُ إذْ ذَاكَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ صَلَّاهُمَا بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ أَرَادَ الْفَرْضَ فَذَلِكَ مُمْكِنٌ بِالنَّذْرِ لَكِنْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْذِرَهُمَا ثُمَّ يَعْجَزَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِهِمَا نَظَرًا لِلْعَوَارِضِ فَيَحْذَرَ مِنْ

فصل في الخروج إلى المسجد وكيفية النية

هَذَا وَيَتْرُكَ النَّذْرَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَنْذِرَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِهِمَا فَذَلِكَ حَسَنٌ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فِعْلُ الْوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ الْعَائِقِ إذْ ذَاكَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ وَقِسْمٌ أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ وَكِلَاهُمَا أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ النَّفْلِ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي الرُّكُوعِ بَعْدَ الْوُضُوءِ. لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّرْغِيبِ وَالنَّدْبِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهَا ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي الدُّعَاءِ بَعْدَ الرُّكُوعِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ «مَنْ أَحْدَثَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ فَقَدْ جَفَانِي وَمَنْ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَلَمْ يَرْكَعْ فَقَدْ جَفَانِي وَمَنْ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَدْعُنِي فَقَدْ جَفَانِي وَمَنْ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَرَكَعَ وَدَعَانِي فَلَمْ أُجِبْهُ فَقَدْ جَفَوْته وَلَسْت بِرَبٍّ جَافٍ وَلَسْت بِرَبٍّ جَافٍ» . وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ بِالصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَجْعَلُوهَا قُبُورًا» فَيَحْصُلُ لَهُ خَيْرٌ عَظِيمٌ بِمَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ مِنْ النِّيَّاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَتَحَصَّلَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعُ نِيَّاتٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ وَكَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ] ِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَأْخُذُ بَعْدَ مَا ذُكِرَ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَنْوِي بِخُرُوجِهِ الْمَشْيَ إلَى أَدَاءِ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ قَضَاءِ حَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ لِئَلَّا يَبْطُلَ أَجْرُ الْخُطَى إلَى الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يُرِيدُ غَيْرَ الصَّلَاةِ» عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَتْ لَهُ بِإِحْدَى خُطْوَتَيْهِ حَسَنَةٌ وَالْأُخْرَى تُمْحَى عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةٌ، فَإِذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ السَّيِّئَاتِ كَانَتْ الِاثْنَتَانِ بِالْحَسَنَاتِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عِنْدَ الْوُضُوءِ لَيْسَتْ لَهُ سَيِّئَةٌ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ

خُرُوجِ الْخَطَايَا حَسَنَاتٌ وَرَفْعُ دَرَجَاتٍ مَعَ أَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ سَالِمًا مِنْ الذُّنُوبِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَمَرْتَبَتِهِ، حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى نِيَّةِ الْخُرُوجِ إلَى أَدَاءِ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى نِيَّةَ زِيَارَةِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِظْهَارَ شِعَارِ الْإِسْلَامِ وَتَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَإِزَالَةَ الْأَذَى مِنْهُ وَالِاعْتِكَافَ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ أَوْ الْجِوَارَ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَشْتَرِطُ فِي الِاعْتِكَافِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً وَأُمُورًا مَعْلُومَةً عَلَى مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِمْ وَأَخْذَ الزِّينَةِ لِلْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . وَتَعَلُّمَ الْعِلْمِ مِنْ الْعَالِمِ وَتَعْلِيمَهُ الْجَاهِلَ وَالْبَحْثَ فِيهِ مَعَ الْإِخْوَانِ وَزِيَارَةَ الْإِخْوَانِ فِيهِ وَزِيَارَةَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ وَزِيَارَةَ الصُّلَحَاءِ فِيهِ وَاقْتِبَاسَ بَرَكَةِ الِاجْتِمَاعِ بِهِمْ فِيهِ وَاقْتِبَاسَ بَرَكَةِ الصَّلَاةِ مَعَهُمْ فِيهِ وَعِيَادَةَ الْمَرِيضِ إنْ وُجِدَ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ «مَنْ خَرَجَ يَعُودُ مَرِيضًا خَرَجَ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ اسْتَقَرَّتْ الرَّحْمَةُ فِيهِ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَعْزِيَةَ الْمُصَابِينَ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ أَجْرٌ مِثْلُ الْمُصَابِ» . فَيَحْصُلُ لَهُ هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ رَأَى شَيْئًا يَعْتَبِرُ فِيهِ وَيَنْوِي السَّلَامَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَنْوِي رَدَّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي السُّوقِ وَامْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي السَّعْيِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالصَّدَقَةَ عَلَى مُحْتَاجٍ إذَا وَجَدَهُ بِاَلَّذِي يُمْكِنُهُ وَإِعَانَةَ ذِي الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفِ وَقَضَاءَ حَاجَةِ مُضْطَرٍّ إنْ وَجَدَهُ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ مَعَهُ مِنْ النَّفَقَةِ وَلَوْ بِيَسِيرٍ وَيَخْرُجَ مَعَهُ عِدَّةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ شَاةً أَوْ غَيْرَهَا تُرِيدُ أَنْ تَمُوتَ بِنَفْسِهَا فَتَكُونُ مَعَهُ آلَةُ الذَّبْحِ فَيُغِيثُ صَاحِبَهَا وَيَجْبُرُهَا عَلَيْهِ بِالتَّذْكِيَةِ وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي النَّفَقَةِ قَدْ يُصَادِفُ مُضْطَرًّا لَهَا فَيَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ، وَإِلَّا إذَا خَرَجَ عَرِيًّا عَمَّا ذُكِرَ، وَقَدْ نَوَى إعَانَةَ ذِي الْحَاجَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ ذَلِكَ دَعْوَى يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا

كُلُّ مَنْ يَدَّعِي بِمَا لَيْسَ فِيهِ كَذَّبَتْهُ شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ وَيَنْوِي إرْشَادَ الضَّالِّ وَأَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْ يَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ وَأَنْ يَحْضُرَهَا إنْ وَجَدَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ، وَأَنْ يُخْمِدَ بِدْعَةً وَيُظْهِرَ سُنَّةً مَهْمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْ يَلْقَى الْمُسْلِمِينَ بِبَشَاشَةِ الْوَجْهِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِقَاءُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِبَشَاشَةِ الْوَجْهِ صَدَقَةٌ» وَأَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ بِتَقْدِيمِ الْيَمِينِ وَتَأْخِيرِ الشِّمَالِ. وَأَنْ يَتَعَوَّذَ التَّعَوُّذَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» . وَيَقُولُ: عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا «بِسْمِ اللَّهِ آمَنْت بِاَللَّهِ وَتَوَكَّلْت عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ» فَإِنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ اعْتَزَلَهُ الشَّيْطَانُ يَقُولُ: قَدْ هُدِيَ وَوُقِيَ فَلَيْسَ لِي عَلَيْهِ سَبِيلٌ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَجْعَلُ غِنَاهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَيَنْوِي اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِي دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ بِأَنْ يُقَدِّمَ الْيَمِينَ وَيُؤَخِّرَ الشِّمَالَ وَأَنْ يَخْلَعَ الشِّمَالَ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَهُ الْيَمِينَ سُنَّتَانِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ، وَكَيْفِيَّةُ مَا يَفْعَلُ أَنْ يَخْلَعَ الشِّمَالَ أَوَّلًا ثُمَّ يَجْعَلَهَا عَلَى النَّعْلِ مِنْ فَوْقِهَا ثُمَّ يَخْلَعَ بَعْدَهَا الْيَمِينَ فَيُدْخِلَهَا فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ يُدْخِلَ رِجْلَهُ الشِّمَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَجْتَمِعَ السُّنَّتَانِ خَلْعُ الشِّمَالِ أَوَّلًا وَتَقْدِيمُ الْيَمِينِ فِي الْمَسْجِدِ أَوَّلًا وَيَنْوِي اتِّبَاعَ السُّنَّةِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِأَنْ يَمْسَحَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ الْبَابِ عِنْدَ دُخُولِهِ وَيَنْظُرَ فِي قَعْرِ نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ شَيْءٌ أَزَالَهُ وَإِلَّا دَخَلَ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: اُدْخُلْ فَقَدْ غُفِرَ لَك وَيَنْوِي انْتِظَارَ الصَّلَاةِ لِمَا جَاءَ فِيهِ «فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ» مَرَّتَيْنِ وَيَنْوِي جُلُوسَهُ فِي مُصَلَّاهُ لِمَا جَاءَ فِيهِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ:» . وَيَنْوِي الِاقْتِدَاءَ وَالِاقْتِبَاسَ بِآثَارِ مَنْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ

وَالصَّالِحِينَ وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِمْ أَعْنِي بِالنَّظَرِ إلَى تَعَبُّدِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ؛ لِأَنَّهُ «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» . حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ صَلَّى بِجَنْبِهِ بَعْضُ النَّاسِ فَجَعَلَ يَدْعُو فِي السُّجُودِ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ: يَا أَخِي عَسَى أَنَّك تَذْهَبُ إلَى فُلَانٍ، وَكَانَ فُلَانٌ مِنْ أَكَابِرِ وَقْتِهِ فَصَلِّ إلَى جَنْبِهِ وَاسْتَمِعْ إلَى الدُّعَاءِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ لَعَلَّك تُفِيدُنِي إيَّاهُ فَمَضَى إلَيْهِ فَصَلَّى إلَى جَنْبِهِ أَيَّامًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي لَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ: يَا أَخِي هَؤُلَاءِ قُدْوَتُنَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ لَمْ نَقْتَدِ بِهِمْ فَبِمَنْ نَقْتَدِي فَعَلَّمَهُ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ وَعَلَّمَهُ كَيْفِيَّةَ الِاقْتِبَاسِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. فَيَنْوِي حِينَ خُرُوجِهِ الِالْتِفَاتَ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمُرَاعَاتِهَا فَإِنَّهَا أَمْرٌ مُهِمٌّ فِي الدِّينِ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ أَهْلًا لِلِاقْتِدَاءِ سَالِمًا مِنْ الْبِدَعِ، وَإِلَّا فَالتَّغَفُّلُ عَنْهُ يَجِبُ إنْ كَانَ الَّذِي يَرَاهُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْأَخْذِ عَلَى يَدِهِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ نَهْيُهُ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ تَغْيِيرِ الْبِدَعِ وَالْمَنَاكِرِ، وَذَلِكَ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِهِمْ مَوْجُودٌ بِمُطَالَعَتِهِ أَوْ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ فِي ذَلِكَ أَجْرُ مَنْ ذَبَّ عَنْ السُّنَّةِ وَحَمَاهَا وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ إزَالَةَ الْأَذَى مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَجَرٍ وَمَدَرٍ وَشَوْكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ إذَا رَأَى مُبْتَلًى فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ فِي عَمَلِهِ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُبْتَلًى فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاهُ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَاءِ» انْتَهَى. لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مِنْ كَسْرِ الْخَوَاطِرِ فِي حَقِّ بَعْضِهِمْ أَوْ التَّشْوِيشِ الْوَاقِعِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ وَيَنْوِي أَنْ يَرْفَعَ وَيُكْرِمَ وَيُعَظِّمَ مَا يَجِدُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الطُّرُقِ بَيْنَ الْأَرْجُلِ مِنْ الْأَوْرَاقِ الَّتِي فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمُ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا أُجُورٌ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْقُشَيْرِيُّ

- رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَوَّلِ كِتَابِ التَّحْبِيرِ لَهُ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى قَالَ: يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا كِتَابٌ يُلْقَى بِمَضْيَعَةٍ مِنْ الْأَرْضِ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمُ نَبِيٍّ إلَّا بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَائِكَةً يَحُفُّونَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَيَرْفَعَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَمَنْ رَفَعَ كِتَابًا مِنْ الْأَرْضِ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ فِي عِلِّيِّينَ وَخَفَّفَ عَنْ أَبَوَيْهِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ» . وَيُرْوَى عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْت مُولَعًا فِي صِبَايَ بِرَفْعِ الْقَرَاطِيسِ مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى عُرِفْت بِذَلِكَ فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي صَحْرَاءَ إذْ وَجَدْت قِرْطَاسًا فِيهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَرَفَعْته وَلَمْ يَكُنْ بِإِزَائِي حَائِطٌ وَلَا شَيْءٌ أَرْفَعُهُ فِيهِ فَبَلَعْته فَرَأَيْت فِي النَّوْمِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِي، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَنْصُورُ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيَرَى لَك مَا فَعَلْت. وَيَنْوِي أَنْ يَرْفَعَ وَيُكْرِمَ وَيُعَظِّمَ مَا يَجِدُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الطُّرُقِ بَيْنَ الْأَرْجُلِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى مُمْتَهَنَةً فَيُعَظِّمَهَا بِرَفْعِهِ لَهَا وَصِيَانَتِهَا. وَيَنْوِي غَضَّ الْبَصَرِ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا وَبَيَّنُوهُ فَقَالُوا: لَيْسَ لِلرَّجُلِ إذَا خَرَجَ فِي السُّوقِ أَنْ يَنْظُرَ إلَّا لِمَوْضِعِ قَدَمِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ زَحْمَةٌ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْأَذَى فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ وَذِكْرُ اللَّهِ» وَيَنْوِي خَفْضَ الْجَنَاحِ، وَهُوَ التَّوَاضُعُ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَمُعَامَلَتُهُمْ بِالْحُسْنَى وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ تَحْسِينَ الْخُلُقِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَيَحْمِلُ عَلَى نَفْسِهِ فِي عَدَمِ أَغْرَاضِهِ لِأَغْرَاضِهِمْ. وَيَنْوِي حَمْلَ الْأَذَى مِنْ إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكَ الْأَذَى لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَوُجُودَ الرَّاحَةِ لَهُمْ وَيَدْعُو النَّاسَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَيَلْقَى إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ بِسَلَامَةِ الصَّدْرِ لِمَا جَاءَ فِيهِ. قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سَلَامَةُ

الصَّدْرِ لَا تُبْلَغُ بِعَمَلٍ» انْتَهَى. وَيَنْوِي تَرْكَ التَّكَبُّرِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَيَنْوِي تَرْكَ الْإِعْجَابِ بِنِيَّتِهِ وَعَمَلِهِ. وَيَنْوِي السُّؤَالَ عَمَّنْ غَابَ مِنْ الْإِخْوَانِ لَعَلَّ عَارِضًا يَعْرِضُ لِأَحَدِهِمْ فَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى إعَانَتِهِ وَإِزَالَتِهِ. وَيَنْوِي السُّؤَالَ عَنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ لَعَلَّ يَسْمَعُ عَلَيْهِمْ خَيْرًا فَيُسَرُّ بِهِ فَيُشَارِكُهُمْ فِي غَزْوِهِمْ فِي الْأُجُورِ بِالسُّرُورِ الَّذِي وَجَدَهُ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ مَاتَ فَلَمْ تُوجَدْ لَهُ حَسَنَةٌ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ لِسُرُورِهِ يَوْمًا وَاحِدًا بِمَا ذُكِرَ، وَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ مَغْفُولٌ عَنْهُ وَيَنْوِي السُّؤَالَ عَنْ أَمْرِ الْعَدُوِّ وَشَأْنِهِ لَعَلَّ يَسْمَعُ خَبَرًا يَتَشَوَّشُونَ مِنْهُ فَيُسَرُّ بِهِ فَلَهُ أَجْرٌ فِي ذَلِكَ أَيْضًا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَكَذَلِكَ فِي الْعَكْسِ إنْ سَمِعَ عَنْهُمْ مَا يَسُرُّهُمْ تَشَوَّشَ هُوَ فَلَهُ الْأَجْرُ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ إنْ سَمِعَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا يُقْلِقُهُمْ جَزِعَ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَحْصُلُ لَهُ الْأَجْرُ الْكَثِيرُ أَجْرٌ بِلَا عَمَلٍ وَلَا تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ. وَيَنْوِي السُّؤَالَ عَنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَعَلَّ يَسْمَعُ مَا يُسَرُّ بِهِ أَيْضًا مِثْلُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءٌ فِي الْخَيْرِ وَضِدِّهِ لَكِنَّ هَذَا بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ السُّؤَالِ فَإِذَا حَصَلَ الْمُرَادُ سَكَتَ وَأَقْبَلَ عَلَى مَا يَعْنِيهِ لِئَلَّا يَكُونَ السُّؤَالُ ذَرِيعَةً إلَى التَّحَدُّثِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ التَّحْذِيرُ عَنْهُ لَمَّا «أُثْنِيَ عَلَى رَجُلٍ مَاتَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَعَلَّهُ كَانَ يَتَحَدَّثُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ» أَوْ كَمَا قَالَ وَهَذَا الْبَابُ كَثِيرًا مَا يَدْخُلُ مِنْهُ الشَّيْطَانُ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ يَبْتَدِئُونَ بِمِثْلِ مَا ذُكِرَ وَبِمَسَائِل الْعِلْمِ وَالْإِقْرَاءِ ثُمَّ يُدْرِجُهُمْ إلَى الْحَدِيثِ فِيمَا لَا يَعْنِي إنْ وَقَعَتْ السَّلَامَةُ مِنْ ذِكْرِ غَائِبٍ أَوْ جِدَالٍ يَقَعُ أَوْ مُفَاوَضَةٌ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ آدَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلَامِ شُرُوطًا أَرْبَعَةً: لَا يَسْلَمُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ الزَّلَلِ إلَّا بِهَا وَلَا يَعْرَى مِنْ النَّقْصِ إلَّا أَنْ يَسْتَرْعِيَهَا: فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي اجْتِلَابِ

نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَخَيَّرَ اللَّفْظَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مُبَاحٍ وَالْكَلَامُ فِيمَا لَا يَعْنِي أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مُبَاحٍ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ لَهُ. أَمَّا الْمُبَاحُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: شُغْلُ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ الْكَاتِبِينَ بِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا فَائِدَةَ وَحَقٌّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَسْتَحِيَ مِنْهُمَا فَلَا يُؤْذِيهِمَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] . وَالثَّانِي: رَفْعُ الْكِتَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ اللَّغْوُ وَالْهَذْرُ فَلْيَحْذَرْ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ وَلْيَخْشَ اللَّهَ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ وَذُكِرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ نَظَرَ إلَى رَجُلٍ يَتَكَلَّمُ فِي الْخَنَا فَقَالَ: يَا هَذَا إنَّمَا تُمْلِي كِتَابًا إلَى رَبِّك فَانْظُرْ مَا تُمْلِي. وَالثَّالِثُ: قِرَاءَتُهُ بَيْنَ يَدَيْ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ بَيْنَ يَدَيْ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ عَطْشَانَ عُرْيَانَ جَوْعَان. وَالرَّابِعُ: اللَّوْمُ وَالتَّعْيِيرُ لِمَاذَا قُلْت وَانْقِطَاعُ الْحُجَّةِ وَالْحَيَاءِ مِنْ رَبِّ الْعِزَّةِ. وَقَدْ قِيلَ: إيَّاكَ وَالْفُضُولَ فَإِنَّ حِسَابَهُ يَطُولُ وَكَفَى بِهَذِهِ الْأُصُولِ وَاعِظًا لِمَنْ اتَّعَظَ انْتَهَى. لَكِنْ إنْ اشْتَغَلَ بَعْدَ السُّؤَالِ بِإِلْقَاءِ الْمَسَائِلِ عَلَيْهِمْ أَوْ بِاقْتِبَاسِهَا مِنْهُمْ أَوْ يُدْخِلَ عَلَيْهِمْ سُرُورًا؛ لِكَوْنِهِمْ يُسَرَّوْنَ بِكَلَامِهِ مَعَهُمْ أَوْ يُسَرُّ هُوَ بِكَلَامِهِمْ مَعَهُ فَحَسَنٌ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى حَالِ مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ اجْتِنَابُ الْبَطَالَةِ، وَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ وَقْتٌ هُوَ فِيهِ عَرِيٌّ عَنْ الطَّاعَةِ. وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي الْمَشْيِ إلَى الْمَسْجِدِ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ «إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تُسْرِعُونَ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ» وَيَنْوِي امْتِثَالَ السُّنَّةِ حِينَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ فِي الدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك. وَيَنْوِي أَيْضًا امْتِثَالَ السُّنَّةِ حِينَ

خُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ بِأَنْ يُقَدِّمَ الشِّمَالَ وَيُؤَخِّرَ الْيَمِينَ وَيَنْوِيَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ حِينَ خُرُوجِهِ بِالدُّعَاءِ الْوَارِدِ أَيْضًا فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِك. وَيَنْوِيَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي أَخْذِ الْقَدَمِ بِالشِّمَالِ حِينَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ وَحِينَ خُرُوجِهِ مِنْهُ فَإِنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ أَنَّ كُلَّ مُسْتَقْذَرٍ يُتَنَاوَلُ بِالشِّمَالِ، وَكُلُّ طَاهِرٍ يُتَنَاوَلُ بِالْيَمِينِ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْمُسْتَحَبُّ فِي التَّخَتُّمِ أَنْ يَكُونَ فِي الشِّمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ وَيُجْعَلُ فِي الشِّمَالِ. فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ وَخَرَجَ بِتِلْكَ النِّيَّةِ لَعَلَّهُ يَسْلَمُ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فَتَرَاهُمْ إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمْ الْمَسْجِدَ يَأْخُذُ قَدَمَهُ بِالْيَمِينِ، وَقَلَّ أَنْ يَخْلُوَ أَحَدُهُمْ مِنْ كِتَابٍ فَيَكُونُ الْكِتَابُ فِي شِمَالِهِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فِي أُمُورِهِ مَحْذُورَاتٌ. مِنْهَا أَنْ يَجْهَلَ السُّنَّةَ فِي هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ فَإِذَا جَهِلَ الطَّالِبُ السُّنَّةَ فِي مُنَاوَلَةِ كِتَابِهِ وَقَدَمِهِ فَكَيْفَ حَالُهُ فِي غَيْرِهَا؟ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ. وَمِنْهَا مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ عِنْدَ أَوَّلِ دُخُولِهِ بَيْتَ رَبِّهِ وَإِلَى أَدَاءِ فَرْضِهِ وَمِنْهَا ارْتِكَابُهُ الْبِدْعَةَ فَيَسْتَفْتِحُ عِبَادَتَهُ بِهَا. وَمِنْهَا اقْتِدَاءُ النَّاسِ بِهِ وَقِلَّةُ تَحَفُّظِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي تَصَرُّفِهِمْ لِأَجْلِ تَصَرُّفِهِ وَمِنْهَا مَا فِيهِ مِنْ التَّفَاؤُلِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ الْجَمِيعِ، وَهُوَ أَخْذُ كِتَابِهِ بِشِمَالِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ. وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ بِأَنْ لَا يَجْعَلَ نَعْلَهُ فِي قِبْلَتِهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ خَلْفَهُ يَتَشَوَّشُ فِي صَلَاتِهِ وَقَلَّ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ جَمْعُ خَاطِرٍ فِيهَا وَإِنْ كَانَ عَنْ يَمِينِهِ فَالسُّنَّةُ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ لِلطَّهَارَاتِ فَمَا بَقِيَ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْيَسَارِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد نَصًّا صَرِيحًا فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ النَّهْيُ عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ حِينَ «رَأَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - النُّخَامَةَ فِي الْقِبْلَةِ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ» وَرُئِيَ مِنْهُ الْكَرَاهِيَةُ لِذَلِكَ وَوَقَعَ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فَإِذَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ النُّخَامَةِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ فَمَا بَالُك بِالْقَدَمِ

الَّتِي قَلَّ أَنْ تَسْلَمَ فِي الطَّرِيقِ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ؟ فَجَعَلَهُ عَلَى يَسَارِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى يَسَارِهِ أَحَدٌ فَلَا يَفْعَلُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى يَمِينِ غَيْرِهِ فَيَجْعَلُهُ إذْ ذَاكَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِذَا سَجَدَ كَانَ بَيْنَ ذَقَنِهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَيَتَحَفَّظُ مِنْ أَنْ يُحَرِّكَهُ فِي صَلَاتِهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مُبَاشِرًا لَهُ فِيهَا فَيُسْتَحَبُّ لَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ لَهُ خِرْقَةٌ أَوْ مِحْفَظَةٌ يَجْعَلُ فِيهَا قَدَمَهُ فَهُوَ أَوْلَى. وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ إدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَمْكَنَهُ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ. وَيَنْوِي امْتِثَالَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ مُنَافَرَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْمَنَاكِرِ لِمَا قَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ هِجْرَانُ مَنْ هُوَ مُجَاهِرٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيَنْوِي تَرْفِيعَ بَيْتِ رَبِّهِ وَتَوْقِيرَهُ بِأَنْ لَا يَنْشُدَ فِيهِ شِعْرًا وَلَا يَنْشُدَ فِيهِ ضَالَّةً وَلَا يَرْفَعَ فِيهِ صَوْتًا وَلَا يُصَفِّقَ فِيهِ بِكَفَّيْهِ وَلَا يَضَعَ كِتَابًا مِنْ يَدِهِ، وَهُوَ قَائِمٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بِيَدِهِ ثَوْبٌ فَلَا يَضَعُهُ، وَهُوَ قَائِمٌ فَيَكُونُ لِوَقْعِهِ فِي الْأَرْضِ صَوْتٌ وَرَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ مَعَ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ بِيَدِهِ مَفَاتِيحُ فَلَا يُلْقِيهَا مِنْ يَدِهِ، وَهُوَ قَائِمٌ فَيَكُونُ لِوُقُوعِهَا فِي الْمَسْجِدِ صَوْتٌ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، وَهُوَ قَائِمٌ يَكُونُ لَهُ صَوْتٌ فَلَا يَفْعَلُهُ؛ لِئَلَّا يَقَعَ فِي النَّهْيِ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ أَنْ يَلْبَسَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ فَيَتَحَفَّظَ أَنْ يُلْقِيَ نَعْلَهُ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ قَائِمٌ فَيَكُونَ لِوُقُوعِهِ فِي الْأَرْضِ صَوْتٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ الطَّرِيقِ فَيَقَعَ لِقُوَّةِ الرَّمْيَةِ فِي الْمَسْجِدِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بَصَقَ فِي نَعْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَلِقُوَّةِ الرَّمْيَةِ يَنْزِلُ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ هَذَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ» . وَالْقَذَاةُ هِيَ مَا يَقَعُ فِي الْعَيْنِ وَلَا تُبَالِي الْعَيْنُ بِهَا فَإِذَا كَانَ يُؤْجَرُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ فَكَيْفَ يُدْخَلُ لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا

الاجتناب والكراهة لما يباشر في المساجد من البدع

ذُكِرَ فَيُخَافُ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ أَنْ لَا يَقُومَ بِمَا نَوَاهُ كُلَّهُ وَمَا فَعَلَهُ فِي جَنْبِ مَا قَلَّ مِنْ الْأَدَبِ مَعَ بَيْتِ رَبِّهِ فَيَحْصُلُ لَهُ النُّقْصَانُ. وَيَنْوِي اجْتِنَابَ اللَّغَطِ فِيهِ وَالْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِي فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ مَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ كَالنَّارِ فِي الْحَطَبِ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ فَيَتَحَفَّظُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَكُونَ قَدْ خَرَجَ إلَى تِجَارَةٍ فَيَرْجِعَ خَاسِرًا بِسَبَبِ لَغَطِهِ وَكَلَامِهِ. وَيَنْوِي الصَّلَاةَ بِالسِّلَاحِ وَيَحْمِلُ ذَلِكَ مَعَهُ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ بِالسِّلَاحِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا أَظُنُّهُ بِسَبْعِينَ. [الاجتناب والكراهة لَمَا يباشر فِي الْمَسَاجِد مِنْ البدع] وَيَنْوِي الِاجْتِنَابَ وَالْكَرَاهَةَ لِمَا يُبَاشَرُ فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِنَا هَذَا مِنْ الْبِدَعِ. سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَذْكُرُ عَنْ شَيْخِهِ الْقُدْوَةِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْمُحَقِّقِ سَيِّدِي أَبِي الْحَسَنِ الزَّيَّاتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا أُبَالِي بِكَثْرَةِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْبِدَعِ، وَإِنَّمَا أُبَالِي وَأَخَافُ مِنْ تَأْنِيسِ الْقَلْبِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ إذَا تَوَالَتْ مُبَاشَرَتُهَا اشْتَهَتْهَا النُّفُوسُ، وَإِذَا أَنِسَتْ النُّفُوسُ بِشَيْءٍ قَلَّ أَنْ تَتَأَثَّرَ لَهُ وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوَضِّحُهُ مِنْ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَهُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» فَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْقَلْبِ هُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ وَالتَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ هُوَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْبُغْضِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَرْئِيِّ وَانْزِعَاجِهِ إذْ ذَاكَ وَقَلَقِهِ، وَهَذَا فِي الْغَالِبِ إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ. أَمَّا الْأَشْيَاءُ الَّتِي تُعْهَدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ فَقَدْ أَنِسَتْهَا النُّفُوسُ وَلَا يَجِدُ الْقَلَقَ وَالِانْزِعَاجَ مِنْهَا إذْ ذَاكَ أَعْنِي مَعَ تَكَرُّرِهَا وَاسْتِمْرَارِهَا إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُنْتَبِهُونَ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ الْعَارِفُونَ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْقَلْبِ هُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ، وَالتَّغْيِيرُ قَدْ عُدِمَ فِي الْغَالِبِ لِاسْتِئْنَاسِ النُّفُوسِ بِمَا يُشَاهَدُ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فَذَهَبَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ، وَإِذَا عُدِمَ أَضْعَفُهُ فَمَاذَا يُرْجَى أَنْ يَبْقَى بَعْدَ عَدَمِ هَذَا الْأَضْعَفِ أَسْأَلُ

اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ. يُبَيِّنُ هَذَا وَيَزِيدُهُ إيضَاحًا مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْقُوتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ بِدْعَةٍ رَأَيْت بُلْت الدَّمَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بُلْتُهُ أَصْفَرَ ثُمَّ تَغَيَّرَ الْأَمْرُ إلَى الْعَادَةِ أَوْ كَمَا قَالَ فَلِقُوَّةِ الْإِيمَانِ إذْ ذَاكَ عِنْدَهُ وَمُبَاشَرَةِ مَا لَمْ يَعْهَدْهُ مِنْ السُّنَّةِ قَوِيَ انْزِعَاجُ تِلْكَ النَّفْسِ الطَّاهِرَةِ حَتَّى تَغَيَّرَ مِزَاجُهُ فَظَهَرَ ذَلِكَ فِي مَائِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَطِبَّاءَ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَا بِالْمَرِيضِ مِنْ الشِّكَايَةِ بِالنَّظَرِ إلَى مَائِهِ فَلَمَّا أَنْ اسْتَمَرَّ أَمْرُ تِلْكَ الْبِدْعَةِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَغْيِيرِهَا لِلْأُمُورِ الْمَانِعَةِ لَهُ فِي وَقْتِهِ تَغَيَّرَ مِنْ ذَلِكَ الِانْزِعَاجُ الْأَوَّلُ لِاسْتِئْنَاسِ النَّفْسِ بِالْعَوَائِدِ وَبَقِيَ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ بِدْعَةٍ هِيَ الَّتِي بَالَ مِنْهَا هَذَا السَّيِّدُ الدَّمَ ثُمَّ سَكَنَ أَمْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَعَلَّهَا مَا حَدَثَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُنْخُلِ أَوْ الْأُشْنَانِ أَوْ الْخِوَانِ أَوْ مَا يُشَاكِلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي زَمَانِهِمْ. أَمَّا زَمَانُنَا هَذَا فَمَعَاذَ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا رَاجِعٌ لِمَا قَالَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَقَدْ أَحْسَنَ فِيهِ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ أَعْنِي مِمَّا رَأَى هَذَا السَّيِّدُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ الْبِدْعَةِ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْت عَلَيْهِ النَّاسَ إلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ فَانْظُرْ كَيْفَ وَقَعَ مِنْهُ الْإِنْكَارُ لِكُلِّ أَفْعَالِهِمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْأَذَانِ؟ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَكَانَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَتَحَ الْكَلَامَ فِي طَرِيقِ الْقَوْمِ، وَهُوَ رَضِيعُ إحْدَى زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا انْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهَا مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَجَدُوهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ يَبْكِي فَسُئِلَ مِمَّ بُكَاؤُك؟ فَقَالَ: وَمَالِي لَا أَبْكِي وَمَا أَعْرِفُ لَكُمْ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْت عَلَيْهِ النَّاسَ إلَّا الْقِبْلَةَ هَذَا فِي زَمَانِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَمَا بَالُك وَظَنُّك بِزَمَانِنَا هَذَا وَمَسَاجِدِنَا هَذِهِ؟ لَكِنْ قَدْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فَكَانَ كَمَا قَالَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا: تَرَكَ سُنَّةً» ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ

إذَا أَطْلَقَهَا الْعُلَمَاءُ فَالْمُرَادُ بِهَا طَرِيقَةُ صَاحِبِ الشَّرْعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَعَادَتُهُ الْمُسْتَمِرَّةُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 23] . {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء: 77] . أَيْ: عَادَةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَعَادَةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَك مِنْ رُسُلِنَا فَلَمَّا أَنْ ارْتَكَبْنَا عَوَائِدَ اصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا بِحَسَبِ مَا سَوَّلَتْ لَنَا أَنْفُسُنَا صَارَتْ تِلْكَ الْعَوَائِدُ الَّتِي ارْتَكَبْنَاهَا وَمَضَيْنَا عَلَيْهَا سُنَّةً لَنَا فَإِذَا جَاءَنَا مَنْ يَعْرِفُ السُّنَّةَ وَيَعْمَلُ بِهَا أَنْكَرْنَاهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِخِلَافِ سُنَّتِنَا وَقُلْنَا: هَذَا يَعْمَلُ بِدْعَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى سُنَّتِنَا الَّتِي اصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا فَإِذَا نَهَانَا عَنْ عَادَتِنَا وَأَمَرَنَا بِتَرْكِهَا وَتَرَكَهَا هُوَ قُلْنَا: هَذَا يَتْرُكُ السُّنَّةَ أَيْ: يَتْرُكُ السُّنَّةَ الَّتِي اصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا فَجَاءَ مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ (عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمًا إلَى الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَنْ قَرِيبٍ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَدِدْت أَنِّي قَدْ رَأَيْت إخْوَانَنَا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَك مِنْ أُمَّتِك؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَتْ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ دُهْمٌ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ مِنْ غَيْرِهَا؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ أَلَا هَلُمَّ أَلَا هَلُمَّ فَيُقَالُ: إنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَك فَأَقُولُ: فَسُحْقًا فَسُحْقًا» انْتَهَى. فَأَتَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِلَفْظِ التَّبْدِيلِ عَلَى طَرِيقِ الْعُمُومِ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّبْدِيلُ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ مِنْ أَحْوَالِنَا فَلَا شَكَّ أَنَّ الرُّجُوعَ إلَى الْعَوَائِدِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِهَا وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ سُخْفٌ

فِي الْعَقْلِ وَحِرْمَانٌ بَيِّنٌ فَيَحْتَاجُ لِأَجْلِ هَذَا أَنْ يَنْوِيَ حِينَ الْخُرُوجِ التَّحَفُّظَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا حَتَّى يَكُونَ مُتَيَقِّظًا إذَا وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهَا فَيُغَيِّرَهُ بِاَلَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ جُهْدُهُ مَرَّةً بِالْيَدِ وَأُخْرَى بِاللِّسَانِ وَأُخْرَى بِالْقَلْبِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَرَاءٌ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ تَرْكِ الثَّالِثِ فَإِنَّ تَرْكَهُ خَطَرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثَالُ ذَلِكَ. مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مَوْجُودٌ الْيَوْمَ بَيْنَنَا فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا مِنْ التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ وَالزِّيَادَةِ فِيهِ بِالْمَدِّ الْفَاحِشِ وَالنَّقْصِ بِحَسَبِ مَا يُوَافِقُ نَغَمَاتِهِمْ فِي الطَّرِيقَةِ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا وَمَضَتْ عَلَيْهَا سُنَّتُهُمْ الذَّمِيمَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هَلْ يَجُوزُ التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ أَمْ لَا لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حَيْثُ يَقُولُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» . فَذَهَبَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ الْأَلْحَانِ فَقَالَ: لَا تُعْجِبُنِي، وَإِنَّمَا هُوَ غِنَاءٌ يَتَغَنَّوْنَ بِهِ لِيَأْخُذُوا عَلَيْهِ الدَّرَاهِمَ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فَحَمَلُوهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ مُؤَوَّلٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى يَتَغَنَّى يَسْتَغْنِي بِهِ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَقْرِ وَقِيلَ: يَجْهَرُ بِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» . قَالَ: عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ. وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ» قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ وَجْهٌ آخَرُ ذَكَرَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَيْ: يَسْتَغْنِي بِهِ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ الْأَخْبَارِ وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِاتِّبَاعِهِ التَّرْجَمَةَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] وَالْمُرَادُ الِاسْتِغْنَاءُ بِالْقُرْآنِ عَنْ عِلْمِ أَخْبَارِ الْأُمَمِ قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَى يَتَغَنَّى بِهِ يَتَحَزَّنُ بِهِ أَيْ: يَظْهَرُ فِي قَارِئِهِ الْحُزْنُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ السُّرُورِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ وَتِلَاوَتِهِ وَلَيْسَ مِنْ الْغُنْيَةِ

لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ الْغُنْيَةِ لَقَالَ: يَتَغَانَى بِهِ، وَلَمْ يَقُلْ يَتَغَنَّى بِهِ ذَهَبَ إلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْحَلِيمِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ وَالنَّسَائِيِّ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ» . الْأَزِيزُ بِزَاءَيْنِ صَوْتُ الرَّعْدِ وَغَلَيَانُ الْقِدْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَؤُمُّ بِالنَّاسِ فَطَرَّبَ فِي قِرَاءَتِهِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ سَعِيدٌ يَقُولُ: أَصْلَحَك اللَّهُ إنَّ الْأَئِمَّةَ لَا تَقْرَأُ هَكَذَا فَتَرَكَ عُمَرُ التَّطْرِيبَ بَعْدُ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ النَّبْرِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَأَنْكَرَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهِ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤَذِّنٌ يُطَرِّبُ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ فَإِنْ كَانَ أَذَانُك سَهْلًا سَمْحًا وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنْ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ. فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ ذَلِكَ فِي الْأَذَانِ فَأَحْرَى أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي حَفِظَهُ الرَّحْمَنُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ: وَقَوْلُهُ الْحَقُّ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ - لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42] . قَالَ أَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» فَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ أَيْ: زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ كَمَا قَالُوا: عَرَضْت الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَرَضْت النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ قَالَ: وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ فَقَدَّمَ الْأَصْوَاتَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَرَوَاهُ طَلْحَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قَالَ: «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ» . أَيْ: الْهَجُوا بِقِرَاءَتِهِ وَاشْغَلُوا بِهِ أَصْوَاتَكُمْ وَاتَّخِذُوهُ شِفَاءً، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْحَضُّ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالدَّأْبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ» وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " حَسِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ ") . ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْقُرْآنَ يُزَيَّنُ بِالْأَصْوَاتِ أَوْ بِغَيْرِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ هَذَا فَقَدْ وَاقَعَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَهُوَ أَنْ يُحْوِجَ الْقُرْآنَ إلَى مَنْ يُزَيِّنُهُ كَيْفَ، وَهُوَ النُّورُ وَالضِّيَاءُ وَالزَّيْنُ الْأَعْلَى لِمَنْ أُلْبِسَ بَهْجَتَهُ وَاسْتَنَارَ بِضِيَائِهِ؟ ثُمَّ قَالَ: إنَّ فِي التَّرْجِيعِ وَالتَّطْرِيبِ هَمْزَ مَا لَيْسَ بِمَهْمُوزٍ وَمَدَّ مَا لَيْسَ بِمَمْدُودٍ فَتَرْجِعُ الْأَلِفُ الْوَاحِدَةُ أَلِفَاتٍ كَثِيرَةً فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى زِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ وَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ مَوْضِعَ نَبْرَةٍ صَيَّرَهَا نَبَرَاتٍ وَهَمَزَاتٍ وَالنَّبْرَةُ حَيْثُمَا وَقَعَتْ مِنْ الْحُرُوفِ فَإِنَّمَا هِيَ هَمْزَةٌ وَاحِدَةٌ لَا غَيْرَ إمَّا مَمْدُودَةٌ، وَإِمَّا مَقْصُورَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسِيرٍ لَهُ عَامَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ» . وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. ، وَقَالَ: فِي صِفَةِ التَّرْجِيعِ (آآ آ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُلْنَا: ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى إشْبَاعِ الْمَدِّ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةُ صَوْتِهِ عِنْدَ هَزِّ الرَّاحِلَةِ كَمَا يَعْتَرِي رَافِعَ صَوْتِهِ إذَا كَانَ رَاكِبًا مِنْ انْضِغَاطِ صَوْتِهِ وَتَقْطِيعِهِ وَضِيقِهِ لِأَجْلِ هَزِّ الْمَرْكُوبِ، وَإِذَا احْتَمَلَ هَذَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ قَالَ: وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ مَا لَمْ يُبْهِمْ مَعْنَى الْقُرْآنِ بِتَرْدِيدِ الْأَصْوَاتِ وَكَثْرَةِ التَّرْجِيعَاتِ فَإِذَا زَادَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ فَذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ كَمَا يَفْعَلُهُ الْقُرَّاءُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ أَمَامَ الْمُلُوكِ وَالْجَنَائِزِ وَيَأْخُذُونَ عَلَيْهِمَا الْأُجُورَ وَالْجَوَائِزَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ وَخَابَ عَمَلُهُمْ فَيَسْتَحِلُّونَ بِذَلِكَ تَغْيِيرَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُهَوِّنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ الِاجْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ بِأَنْ يَزِيدُوا فِي تَنْزِيلِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ جَهْلًا بِدِينِهِمْ وَمُرُوقًا

عَنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ وَرَفْضًا لِسِيَرِ الصَّالِحِينَ فِيهِ مِنْ سَلَفِهِمْ وَتَزْيِيغًا إلَى مَا يُزَيِّنُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا فَهُمْ فِي غَيِّهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَبِكِتَابِ اللَّهِ يَتَلَاعَبُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ لَكِنْ. قَدْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزِينٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْفِسْقِ وَلُحُونَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَسَيَجِيءُ بَعْدِي أَقْوَامٌ يُرَجِّعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ مَفْتُونَةً قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ» اللُّحُونُ جَمْعُ لَحْنٍ، وَهُوَ التَّطْرِيبُ وَتَرْجِيعُ الصَّوْتِ وَتَحْسِينُهُ بِالْقِرَاءَةِ كَالشِّعْرِ وَالْغِنَاءِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَيُشْبِهُ هَذَا الَّذِي يَفْعَلُهُ قُرَّاءُ زَمَانِنَا بَيْنَ يَدَيْ الْوُعَّاظِ فِي الْمَجَالِسِ مِنْ اللُّحُونِ الْأَعْجَمِيَّةِ الَّتِي يَقْرَءُونَ بِهَا مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّرْجِيعُ فِي الْقِرَاءَةِ تَرْدِيدُ الْحُرُوفِ كَقِرَاءَةِ النَّصَارَى وَالتَّرْتِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ هُوَ التَّأَنِّي فِيهَا وَالتَّمَهُّلُ وَتَبْيِينُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ تَشْبِيهًا بِالشِّعْرِ الْمُرَتَّلِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. قَالَ: وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ بِدَلَالَةِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّغَنِّي أَنْ يُحَسِّنَ الْقَارِئُ صَوْتَهُ مَكَانَ مَا يُحَسِّنُ الْمُغَنِّي صَوْتَهُ بِغِنَائِهِ إلَّا أَنَّهُ يَمِيلُ بِهِ نَحْوَ التَّحَزُّنِ دُونَ التَّطْرِيبِ أَيْ: قَدْ عَوَّضَ اللَّهُ مِنْ غِنَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ خَيْرًا مِنْهُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، فَمَنْ لَمْ يُحَسِّنْ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ الْغِنَاءِ فَلَيْسَ مِنَّا إلَّا أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لَا يَدْخُلُهَا شَيْءٌ مِنْ التَّغَنِّي وَفُضُولِ الْأَلْحَانِ وَتَرْدِيدِ الصَّوْتِ مِمَّا يُلْبِسُ الْمَعْنَى وَيَقْطَعُ أَوْصَالَ الْكَلَامِ كَمَا قَدْ دَخَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْغِنَاءِ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ حُسْنُ الصَّوْتِ وَالتَّحْزِينُ بِهِ دُونَ مَا عَدَاهُمَا «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ قِرَاءَةً فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنُ النَّاسِ

قِرَاءَةً مَنْ إذَا سَمِعْته يَقْرَأُ رَأَيْت أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى» . وَقَالَ: «إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ فَاقْرَءُوهُ بِحُزْنٍ؛ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا» انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي التَّحَزُّنِ أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ فِي حَالِ قِرَاءَتِهِ مُتَلَبِّسًا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيَتَعَاطَ أَسْبَابَ الْحُزْنِ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ أَنَّهُ عَلَى الصِّرَاطِ، وَأَنَّ النَّارَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ بَيْنَ يَدَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَذَلِكَ؛ لِيَكُونَ ظَاهِرُهُ مُوَافِقًا لِبَاطِنِهِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ مِنْ التَّحْزِينِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ خُشُوعِ النِّفَاقِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَنُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ كَذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَقَدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلًا يَمْشِي، وَهُوَ مُنْحَنِي الرَّأْسِ فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: ارْفَعْ رَأْسَك الْخُشُوعُ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَى قَلْبِهِ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفَ فَيَحْتَاجُ الْخَارِجُ إلَى الْمَسْجِدِ؛ لَأَنْ يَكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ لِئَلَّا يُعْجِبَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَتَأَثَّرُ قَلْبُهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يَرَى وَكَذَلِكَ مَا يُفْعَلُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ غَيْرِ الْجَائِزِ مِنْ جِنْسِ مَا ذُكِرَ مِمَّا تَأْبَاهُ السُّنَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ فَمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَطَلَبَ الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِهِ تَنَبَّهَ لِذَلِكَ كُلِّهِ فَيَعْرِفُهُ حِينَ رُؤْيَتِهِ، وَقَدْ صَارَتْ كَأَنَّهَا شَعَائِرُ الدِّينِ، وَقَلَّ مَنْ يُنْكِرُهَا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَيَنْوِي مَعَ مَا ذُكِرَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ فِي حَالِ تَلَبُّسِهِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحْضَرَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ إذْ ذَاكَ كَانَ أَعْظَمَ أَجْرًا مِمَّنْ كَانَ غَافِلًا عَنْهَا أَوْ سَاهِيًا. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ رَمَضَانَ إلَى رَمَضَانَ» . وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الصَّوْمِ مَا قَدْ تَقَرَّرَ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُخْبِرًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» فَهَذَا أَجْرُهُ كَمَا تَرَى لَكِنْ لَمَّا أَنْ زَادَ هَذَا نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ زِيدَ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَغْفِرَةً مَا بَيْنَ رَمَضَانَ إلَى رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قَامَ

رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَقِيَامُ رَمَضَانَ فِيهِ الْأَجْرُ ابْتِدَاءً لَكِنْ لَمَّا أَنْ زَادَ هَذَا فِي نِيَّتِهِ إحْضَارَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ زِيدَ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَغْفِرَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَهْلِ وَاجِبَةٌ وَالْوَاجِبُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ أَجْرُهُ أَعْظَمُ وَأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ لَكِنْ لَمَّا أَنْ زَادَ هَذَا نِيَّةَ الِاحْتِسَابِ فِي فِعْلِهِ زِيدَ لَهُ عَلَى أَجْرِ الْوَاجِبِ أَجْرُ صَدَقَتِهِ انْتَهَى. وَإِحْضَارُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ الْفِعْلَ يَسْتَحْضِرُ الْإِيمَانَ إذْ ذَاكَ، وَأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مُنْقَادًا مُطِيعًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَا مُجْبَرًا وَلَا مُسْتَحِيًا، بَلْ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ لَيْسَ إلَّا وَالِاحْتِسَابُ أَنْ يَحْتَسِبَ تَعَبَ الْفِعْلِ الَّذِي يَفْعَلُهُ وَمَشَقَّتَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ عِوَضٍ يَأْخُذُهُ أَوْ ثَنَاءٍ أَوْ مِدْحَةٍ أَوْ مَظْلِمَةٍ تَرْتَفِعُ عَنْهُ أَوْ يُرْجَعُ إلَيْهِ أَوْ يُسْمَعُ قَوْلُهُ أَوْ إشَارَتُهُ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ خَالِصًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُرِيدُ بِهِ بَدَلًا فَإِذَا فَعَلَ الْفِعْلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذَا التَّرْتِيبِ فَقَدْ أَتَى بِالْمَقْصُودِ وَالْمُرَادِ، وَقَدْ كَمَّلَ النِّيَّةَ وَأَتَمَّهَا وَنَمَّاهَا فَيُرْجَى لَهُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا وَعَدَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} [النساء: 122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُطَّرِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا وَاجِبِهَا وَمَنْدُوبِهَا وَلَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ: كُلُّ مَا ذَكَرْته مُتَعَذِّرٌ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَحْتَاجُ إلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ، وَالْأَكْثَرُ مِنْ النَّاسِ أَرْبَابُ ضَرُورَاتٍ فَلَا يُمَكِّنُهُمْ الْوُقُوفُ لِمُرَاعَاةِ مَا ذُكِرَ فَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَأْنِ نِيَّةِ الصَّلَاةِ. قَالَ: قَالَ لَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِثَغْرِ عَسْقَلَانَ: سَمِعْت إمَامَ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ يُحْضِرُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِالصَّلَاةِ النِّيَّةَ وَيُجَرِّدُ النَّظَرَ فِي الصَّانِعِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ حَتَّى يَنْتَهِيَ نَظَرُهُ إلَى نِيَّةِ الصَّلَاةِ قَالَ

وَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَدْنَى لَحْظَةٍ؛ لِأَنَّ تَعْلِيمَ ذَلِكَ الْجُهَّالِ يَفْتَقِرُ إلَى الزَّمَانِ الطَّوِيلِ وَتَذَكُّرَهَا يَكُونُ فِي لَحْظَةٍ انْتَهَى. وَمِنْ تَمَامِ النِّيَّةِ وَتَكْمِلَتِهَا وَحُسْنِهَا وَتَنْمِيَتِهَا أَنْ تَكُونَ مُسْتَصْحَبَةً فِي كُلِّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ لَكِنْ هَذَا فِي الْغَالِبِ صَعْبٌ عَسِيرٌ فِي حَقِّ أَكْثَرِ النَّاسِ، وَذَلِكَ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ فَيُجْزَى بِالنِّيَّةِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَتَحَصَّلَ لَنَا مِنْ النِّيَّاتِ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ اثْنَانِ وَتِسْعُونَ مَعَ مَا يُضَافُ إلَى ذَلِكَ مِنْ نِيَّةِ شُرُوطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَفَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَفَضَائِلِهَا، وَذَلِكَ سَبْعٌ وَسِتُّونَ. فَالشُّرُوطُ خَمْسَةٌ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَانْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَدُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَتَخْتَصُّ الْجُمُعَةُ بِثَمَانِيَةِ شُرُوطٍ: أَرْبَعٌ لِلْوُجُوبِ، وَأَرْبَعٌ: لِلْأَدَاءِ فَأَمَّا الْأَرْبَعُ الَّتِي لِلْوُجُوبِ فَهِيَ الذُّكُورِيَّةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِقَامَةُ وَمَوْضِعُ الِاسْتِيطَانِ. أَمَّا الَّتِي لِلْأَدَاءِ فَهِيَ إمَامٌ وَجَمَاعَةٌ وَمَسْجِدٌ وَخُطْبَةٌ. وَالْفَرَائِضُ ثَمَانِيَةَ عَشْرَ، وَكَذَلِكَ مِنْ السُّنَنِ وَكَذَلِكَ مِنْ الْفَضَائِلِ فَالْفَرَائِضُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ عَشْرَةٌ: وَهِيَ النِّيَّةُ وَالطَّهَارَةُ وَمَعْرِفَةُ الْوَقْتِ وَالتَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَرَفْعُ الرَّأْسِ مِنْ السُّجُودِ وَالْقِيَامُ وَالْجُلُوسُ الْأَخِيرُ وَتَرْتِيبُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَمِنْهَا ثَلَاثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَهِيَ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامُ وَقِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ عَلَى الْإِمَامِ وَالْفَذِّ، وَمِنْهَا خَمْسٌ مُخْتَلِفٌ فِيهَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهِيَ الرَّفْعُ مِنْ الرُّكُوعِ وَطَهَارَةُ الثَّوْبِ وَالْبُقْعَةُ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَالِاعْتِدَالُ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَاثْنَتَانِ مُخْتَلِفٌ فِيهِمَا هَلْ هُمَا شَرْطُ صِحَّةٍ أَوْ شَرْطُ كَمَالٍ؟ وَهُمَا الْخُشُوعُ وَدَوَامُ النِّيَّةِ. أَمَّا السُّنَنُ فَأَوَّلُهَا إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَيَخْتَلِفُ فِي الرَّفْعِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَرَفْعُ الرَّأْسِ مِنْهُ وَالسُّورَةُ الَّتِي تُقْرَأُ مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ وَالْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ بِهَا فِي مَوْضِعِ السِّرِّ، وَالْإِنْصَاتُ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ وَالتَّكْبِيرُ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ قِيلَ: أَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ بِانْفِرَادِهَا

سُنَّةٌ وَسَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لِلْإِمَامِ وَالْفَذِّ، وَالتَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ وَالْجُلُوسُ لَهُ وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ وَالْجُلُوسُ لَهُ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهُ زَائِدًا عَلَى مَا يَقَعُ فِيهِ السَّلَامُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ سُنَّةً وَفَرِيضَةً مُطْلَقَةً فِي غَيْرِهَا وَرَدُّ السَّلَامِ عَلَى الْإِمَامِ وَتَأْمِينُ الْمَأْمُومِ إذَا قَالَ الْإِمَامُ: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] وَقَوْلُهُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ إذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَالْقِنَاعُ لِلْمَرْأَةِ وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. أَمَّا الْفَضَائِلُ فَأَوَّلُهَا أَخْذُ الرِّدَاءِ وَالتَّيَامُنُ بِالسَّلَامِ وَقِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا يُسِرُّ فِيهِ وَإِطَالَةُ الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ وَتَخْفِيفُهَا فِي الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَتَوَسُّطُهَا فِي الْعِشَاءِ وَتَقْصِيرُ الْجِلْسَةِ الْأُولَى وَالتَّأْمِينُ بَعْدَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ لِلْفَذِّ وَالْإِمَامِ فِيمَا يُسِرُّ فِيهِ وَقَوْلُ الْفَذِّ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ وَصِفَةُ الْجُلُوسِ وَالْإِشَارَةُ بِالْأُصْبُعِ فِيهِ وَالْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ وَالْقِيَامُ مِنْ مَوْضِعِهِ سَاعَةَ يُسَلِّمُ وَالسُّتْرَةُ وَاعْتِدَالُ الصُّفُوفِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْيَدَيْنِ فِي الْفَرِيضَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَضْعِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ كَرِهَهَا فِي الْمُدَوَّنَةِ وَمَعْنَى كَرَاهِيَتِهَا أَنْ تُعَدَّ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ. وَالصَّلَاةُ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ عَلَى مَا أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ وَالصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ مُسْتَحَبَّةٌ لِلرَّجُلِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ. أَمَّا إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهَا فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ وَسُنَّةٌ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَهَذَا مُنْتَهَى مَا عَدَّهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَيَجْتَمِعُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآدَابِ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ مِائَةً وَتِسْعَةً وَخَمْسِينَ فَإِنْ أَضَافَ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إلَى الصَّلَاةِ وَعِنْدَ اصْطِفَافِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالدُّعَاءِ فِيهِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مَرْجُوٌّ فِيهِ قَبُولُ الدُّعَاءِ ثُمَّ يَنْوِي الدُّعَاءَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ أَعْنِي دُعَاءَ كُلِّ إنْسَانٍ فِي سِرِّهِ لِنَفْسِهِ وَلِإِخْوَانِهِ دُونَ جَهْرٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا وَيُرِيدَ أَنْ يُعَلِّمَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِذَا رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ تَعَلَّمُوا سَكَتَ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ التَّوْبَةَ حِينَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ السَّقَطَاتِ فِي الْكَلَامِ أَوْ الْغَفَلَاتِ وَالْخَطَرَاتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ، وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالَهُ بَعْضُ

الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعَاقِدِ لِلنِّكَاحِ يَنْبَغِي أَنْ يَتُوبَ قَبْلَ الْعَقْدِ لِيَحْصُلَ الْعَقْدُ مِنْ تَائِبٍ فَتَكُونُ عَدَالَةُ الْوَلِيِّ حَاصِلَةً بِالتَّوْبَةِ الْوَاقِعَةِ إذْ ذَاكَ فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْخِلَافِ الَّذِي فِي الْوَلِيِّ غَيْرِ الْعَدْلِ وَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ يُحَصِّلُ التَّوْبَةَ؛ لِكَيْ يَتَّصِفَ بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ لَعَلَّهُ يَدْخُلُ إذْ ذَاكَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] . وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ تَجْدِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَوْبَتِهِ عِنْدَ الْوُضُوءِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَعَ بَابَ الْمَلِكِ بِالدُّخُولِ فِي مُنَاجَاتِهِ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَاهُ فِي صَلَاتِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. فَهَذِهِ أَرْبَعٌ مُضَافَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ مِائَةً وَثَلَاثَةً وَسِتِّينَ مِنْ الْآدَابِ فَيَنْوِي ذَلِكَ كُلَّهُ فَمَا صَادَفَهُ بَادَرَ إلَى عَمَلِهِ وَمَا لَمْ يُصَادِفْهُ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ، وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ الْعَدَدِ عَلَى جِهَةِ التَّقْصِيرِ فِي النَّظَرِ وَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ نُورًا وَتَأْيِيدًا وَتَوْفِيقًا يَرَى أَكْثَرَ مِمَّا ذُكِرَ وَيَعْلَمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا هُوَ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ النُّورَ لَا يُشْبِهُ الظَّلَامَ، وَنَظَرُ الْعَالِمِ لَيْسَ كَنَظَرِ الْعَامِّيِّ، وَنَظَرُ الْعَامِلِ لَيْسَ كَنَظَرِ الْبَطَّالِ، وَنَظَرُ الْمُتَّبِعِ لَيْسَ كَنَظَرِ الْمُبْتَدِعِ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْفَضَائِلُ فِي الشَّخْصِ وَتَعَرَّى مِنْ هَذِهِ النَّقَائِصِ حَصَلَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَيْسَ إلَّا. لَكِنْ بَقِيَ فِي هَذَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ اغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ هَلْ يُجْزِي عَنْهُمَا أَوْ لَا يُجْزِي أَوْ يُجْزِي عَنْ إحْدَاهُمَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ: يُجْزِي عَنْهُمَا لَا يُجْزِي عَنْهُمَا يُجْزِي عَنْ الْجَنَابَةِ لَيْسَ إلَّا يُجْزِي عَنْ الْجُمُعَةِ لَيْسَ إلَّا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ اغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ وَيَقُولُ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِيَنِي عَنْ غُسْلِ جُمُعَتِي أَعْنِي أَنَّهُ يَنْوِي بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ وَمَسْأَلَتُنَا مِثْلُهَا سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ فَيَنْوِي بِالصَّلَاةِ الْمَشْيَ إلَى أَدَاءِ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ نَفْسِهَا ثُمَّ يَقُولُ: وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِيَنِي عَنْ كَذَا وَكَذَا فَيَتَعَدَّدُ

مَا ذُكِرَ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا خَرَجَ بِمَا تَقَدَّمَ فَمَا وَافَقَ مِمَّا نَوَاهُ بَادَرَ إلَيْهِ يَفْتَرِسُهُ فَيَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ وَمَا لَمْ يُوَافِقْهُ فِي الْوَقْتِ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَوْقَعَ اللَّهُ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ» . وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: انْوُوا بِنَا حَجًّا انْوُوا بِنَا جِهَادًا انْوُوا بِنَا رِبَاطًا وَجَعَلَ يُعَدِّدُ لَهُمْ أَنْوَاعَ الْبِرِّ وَكَثُرَ فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدَنَا كَيْفَ وَأَنْتَ عَلَى هَذَا الْحَالِ؟ فَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ عِشْنَا وَفَّيْنَا وَإِنْ مُتْنَا حَصَلَ لَنَا أَجْرُ النِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ فِي النِّيَّةِ وَتَنْمِيَتِهَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالْغَافِلُ الْمِسْكِينُ صَحِيحٌ مُعَافًى، وَهُوَ فِي عَمًى عَنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ سَاهٍ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ عَمَلِهِ لَكِنْ إذَا نَوَى مَا ذُكِرَ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا مَهْمَا قَدَرَ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ اتِّسَاعِ الزَّمَانِ عَلَيْهِ فَعَلَهُ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] وَفِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] فَيَقَعُ فِي الْمَقْتِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ عَلَى مَا سَبَقَ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَخْطِرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَحَدٍ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَيَقَعُ فِي الْبَلِيَّةِ الْعُظْمَى فَكَانَ تَرْكُهُ لِزِيَادَةِ تِلْكَ النِّيَّاتِ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ إذَا صَحَّتْ فَكَيْفَ بِهِ فِي عَمَلٍ لَمْ يُعْرَفْ صِحَّتُهُ مِنْ سَقَمِهِ؟ ، بَلْ يَخْرُجُ مُحْسِنَ الظَّنِّ بِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ يُسِيءُ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ فَيَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِهِ الشَّرَّ، وَيَعْتَقِدُ فِي غَيْرِهِ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ إذَا رَآهُ يَفْعَلُ الشَّرَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْخَيْرَ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَظُنُّهُ مُحَمَّدَ بْنَ وَاسِعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَنَفَعَنَا بِبَرَكَاتِهِ وَأَعَادَ عَلَيْنَا مِنْ سِرِّهِ أَنَّهُ مَرَّ مَعَ أَصْحَابِهِ بِمَوْضِعٍ فَرُمِيَ عَلَيْهِ مِنْ كُوَّةِ دَارٍ رَمَادٌ فَأَرَادَ أَصْحَابُهُ أَنْ يُعَنِّفُوا أَهْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا هَذِهِ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَفَأْلٌ حَسَنٌ لِمَنْ اسْتَحَقَّ النَّارَ ثُمَّ صُفِحَ عَنْهُ، وَوَقْعُ الصُّلْحِ عَلَى الرَّمَادِ رَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ فِي حَقِّهِ

وَمَا كَانَ سَبَبُ هَذَا الْخُلُقِ مِنْهُ إلَّا سُوءَ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ. وَحُكِيَ عَنْ آخَرَ أَنَّهُ مَرَّ مَعَ أَصْحَابِهِ بِمَوْضِعٍ وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَلَّ أَنْ يُغَيِّرَ مُنْكَرًا فَمَرُّوا بِدُكَّانٍ وَرَجُلٌ يُجَامِعُ امْرَأَةً عَلَى مَسْطَبَةِ الدُّكَّانِ فَغَمَّضَ الشَّيْخُ عَيْنَيْهِ وَمَرَّ فَجَاءَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَأَمْسَكَهُ. وَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي مَا بَقِيَ لَك هَاهُنَا تَأْوِيلٌ أَوْ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ فَقَالَ: لَهُ الشَّيْخُ أَمَا تَعْذُرُهُمْ يَا أَخِي كَثُرَتْ الْعِيَالُ وَضَاقَتْ الْبُيُوتُ حَتَّى احْتَاجَ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِزَوْجَتِهِ لِمِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا تَحْسِينُ ظَنِّهِ بِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَانَ صَاحِبُ حَالٍ فَحَمَلَهُ حَالُهُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَإِلَّا فَتَحْسِينُ الظَّنِّ مُمْكِنٌ وَنَهْيُهُ وَاجِبٌ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلرِّجَالِ أَنْ يَجْتَمِعُوا بِالنِّسَاءِ فِي الطُّرُقِ لِحَدِيثٍ وَلَا لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ لَكِنَّ الْحَالَ حَامِلٌ لَا مَحْمُولٌ. سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إذَا مَرَّ عَلَيْك إنْسَانٌ بِجَرَّةِ خَمْرٍ ثُمَّ غَابَ عَنْك وَرَجَعَ عَرِيًّا عَنْهَا لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَقُولَ: شَرِبَهَا وَلَا أَوْصَلَهَا لِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا، وَإِنَّمَا تَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاهُ وَتَابَ عَلَيْهِ. هَكَذَا تَكُونُ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ مَعَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ أَعْنِي هَذِهِ سَبِيلُهُ مَعَهُمْ مَعَ عَدَمِ الْخِلْطَةِ فَيَدْخُلُ إذْ ذَاكَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سَلَامَةُ الصَّدْرِ لَا تُبْلَغُ بِعَمَلٍ» . أَمَّا مَعَ الْخِلْطَةِ، فَالسُّنَّةُ سُوءُ الظَّنِّ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُمْ سَبَبٌ لِتَحْسِينِ الظَّنِّ بِهِمْ، وَعَلَى هَذَا حَمَلُوا قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مِنْ الْحَزْمِ سُوءُ الظَّنِّ» فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ عَلَى مَا وَصَفَ وَدَخَلَ إلَيْهِ يُحَيِّيهِ فَهُوَ فِي تَحِيَّتِهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ وَإِنْ شَاءَ فَعَلَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَالِاسْتِحْبَابُ بَيِّنٌ وَالْوُجُوبُ بِنَذْرِهَا فَتَصِيرُ وَاجِبَةً ثُمَّ بَعْدَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ يُحْرِمُ بِهَا وَفِعْلُ الْوَاجِبِ فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ مَا فِيهِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَخْلُو أَمْرُهُ مِنْ إحْدَى أُمُورٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ مُهِمٌّ فِي الدِّينِ كَالْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ وَالْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْمُؤَدِّبِ وَالْمُجَاهِدِ وَالْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ

لِلْعِبَادَةِ التَّارِكِ لِلْأَسْبَابِ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ عَلَيْهِمْ يَدُورُ أَمْرُ الدِّينِ فَأَهَمُّهُمْ وَأَعْظَمُهُمْ هُوَ الْعَالِمُ إذْ أَنَّ السِّتَّةَ الْبَاقِينَ كُلَّهُمْ رَاجِعُونَ إلَيْهِ دَاخِلُونَ تَحْتَ أَحْكَامِهِ وَإِشَارَتِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعِلْمُ إمَامٌ وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ» وَكَانَ فِي عَصْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ هُوَ أَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَبِقَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ: ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ لَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقْرِئُهُمْ الْعَشْرَ فَلَا يُجَاوِزُونَهَا إلَى عَشْرٍ أُخْرَى حَتَّى يَتَعَلَّمُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْعَمَلِ فَيَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ جَمِيعًا» وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَسَارٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: كُنَّا إذَا تَعَلَّمْنَا عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ لَمْ نَتَعَلَّمْ الْعَشَرَةَ الَّتِي بَعْدَهَا حَتَّى نَعْرِفَ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا وَأَمْرَهَا وَنَهْيَهَا انْتَهَى. فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ أَعْلَمَ الْقَوْمِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ» . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهُوَ أَكْثَرُ النَّاسِ حَاجَةً إلَى الْعِلْمِ وَالْإِمَامَةُ أَعْلَى الْمَنَاصِبِ وَأَجَلُّهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ عَالِمًا أَعْنِي عَلَى طَرِيقِ الْكَمَالِ، وَإِلَّا فَبِالسُّؤَالِ مِنْ الْعَالِمِ يَسْتَقِيمُ حَالُهُ وَيَصِيرُ عَالِمًا بِأَحْكَامِ خُطَّتِهِ وَمَرْتَبَتِهِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْخَمْسَةِ الْبَاقِينَ كُلٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي أُهِّلَ إلَيْهِ إمَّا بِالتَّعْلِيمِ أَوْ بِالسُّؤَالِ مِنْ الْعَالِمِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَهْلِ الْبَلَاءِ إلَى الْجَنَّةِ، وَالْعُلَمَاءُ وُقُوفٌ فِي الْمَحْشَرِ فَيَقُولُونَ يَا رَبَّنَا بِفَضْلِ عِلْمِنَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ أَيْ: أَنَّهُمْ عَلَّمُوهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي بَلَائِهِمْ وَمَا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأُجُورِ وَكَيْفِيَّةَ الصَّبْرِ وَمَا لِلصَّابِرِينَ فَامْتَثَلُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ فَكَانُوا سَبَبًا لِمَا جَرَى ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمُجَاهِدِينَ وَالْمُصَابِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَالْعُلَمَاءُ وُقُوفٌ يَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا بِفَضْلِ عِلْمِنَا دَخَلُوا

فصل في العالم وكيفية نيته

الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنْتُمْ عِنْدِي كَأَنْبِيَائِي اذْهَبُوا فَاخْتَرِقُوا الصُّفُوفَ فَاشْفَعُوا تُشَفَّعُوا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِ الْعَالِمِ، وَتُقَدَّمُ رُتْبَتُهُ بِالذِّكْرِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الرُّتَبِ الْبَاقِيَةِ إذْ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ لَهُمْ فِي مَقَامِهِ الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ وَالْبَاقُونَ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ مُضْطَرُّونَ لَا تَتِمُّ لَهُمْ صَفْقَةٌ وَلَا يَتَقَوَّمُ لَهُمْ أَمْرٌ إلَّا بِدُخُولِ الْعَالِمِ بَيْنَهُمْ، وَإِلَّا كَانَ سَعْيُهُمْ هَبَاءً مَنْثُورًا فَجَاءَ مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَوَاءً بِسَوَاءٍ «نِعْمَ الرَّجُلُ الْعَالِمُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ نَفَعَ وَإِنْ اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ أَغْنَى نَفْسَهُ بِاَللَّهِ» . وَبِالْكَلَامِ عَلَى الْعَالِمِ وَتَمْيِيزِ مَقَامِهِ يَنْدَرِجُ غَيْرُهُ فِيهِ مِنْ مُتَعَلِّمٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَأَبْقَيْت بَقِيَّةً مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْبَاقِينَ وَسَنَذْكُرُ كُلًّا مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى [فَصْلٌ فِي الْعَالِمِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ] (فَصْلٌ) فِي الْعَالِمِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ وَهَدْيِهِ وَأَدَبِهِ فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ نِيَّتَهُ جَهْدَهُ مَا اسْتَطَاعَ أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مَنْ ذُكِرَ إذْ أَنَّ مَا هُوَ فِيهِ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَعِمَادُهُ، وَكُلُّ مَنْ بَقِيَ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ فَرْعٌ عَنْهُ وَتَابِعٌ لَهُ كَأَصْلِ الشَّجَرَةِ إنْ اسْتَقَامَ اسْتَقَامَتْ الْفُرُوعُ وَإِنْ أَصَابَتْ الْأَصْلَ آفَةٌ هَلَكَتْ الْفُرُوعُ وَالنِّيَّةُ هِيَ الْأَصْلُ لِإِحْرَازِ هَذَا الْأَصْلِ إنْ كَانَ حَسَنًا يَسْلَمُ صَاحِبُهُ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نِيَّةُ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» . وَلَا يُوجَدُ فِي الْأَعْمَالِ كُلِّهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ فِيهِ حَسَنَةً فَإِذَا كَانَتْ النِّيَّةُ حَسَنَةً كَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ، وَإِلَّا فَتَكُونُ الْأَعْمَالُ تَفْضُلُهُ بِحَسَبِ مَا كَانَتْ النِّيَّةُ فِيهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِابْنِ وَهْبٍ لَمَّا أَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ مَا الَّذِي قُمْت إلَيْهِ بِأَوْجَبَ عَلَيْك مِنْ الَّذِي قُمْت عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لَمَّا كَانَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مَا كَانَتْ فَكَانَ طَلَبُ الْعِلْمِ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ وَالصَّلَاةُ تُدْرَكُ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا مُمْتَدٌّ وَمَسَائِلَ الْعِلْمِ تَفُوتُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ

وَلَا تَتَحَصَّلُ لِلْإِنْسَانِ وَحْدَهُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ مَضَتْ الْحِكْمَةُ وَبِهِ وَقَعَ التَّكْلِيفُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» ، وَهُوَ الْآنَ مُتَيَسِّرٌ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مُجَالَسَتِهِ الْإِمَامَ مَالِكًا الَّذِي كَانَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ تَفُوتُهُ مُجَالَسَتُهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالنِّيَّةُ أَوْلَى مَا يُرَاعِي الْعَالِمُ أَوَّلًا ثُمَّ يُنَمِّيهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَيُحَسِّنُهَا وَالْعَالِمُ أَوْلَى بِتَنْمِيَتِهَا وَتَحْسِينِهَا، إذْ الْعِلْمُ الَّذِي عِنْدَهُ يُبَصِّرُهُ بِذَلِكَ وَيَدُلُّهُ عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وَكَيْفِيَّةُ إخْلَاصِ النِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ بِنِيَّةِ أَنْ يَمْتَثِلَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] وَيُقْرَأُ أَيْضًا تُعَلِّمُونَ وَتَعْلَمُونَ بِمَعْنَى تَتَعَلَّمُونَ فَتَجْمَعُ الْقِرَاءَاتُ الثَّلَاثُ الْعِلْمَ وَالتَّعْلِيمَ وَالتَّعَلُّمَ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إلَى قَفَاهُ ثُمَّ ظَنَنْت أَنْ أُنْفِذَ كَلِمَةً سَمِعْتهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ تُجْهِزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا. وَالْأَجْرُ فِي الْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ فِيهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ» وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ قَسَّمَ بَيْنَ عِبَادِهِ الْأَعْمَالَ وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالثَّوَابِ. وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعُبَّادِ كَتَبَ إلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحُضُّهُ عَلَى الِانْفِرَادِ وَتَرْكِ مُجَالَسَةِ النَّاسِ فَكَتَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ قَسَّمَ بَيْنَ عِبَادِهِ الْأَعْمَالَ كَمَا قَسَّمَ الْأَرْزَاقَ فَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي الصِّيَامِ وَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي الصِّيَامِ وَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي كَذَا وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ

فِي كَذَا فَعَدَّدَ أَشْيَاءَ ثُمَّ قَالَ: وَمَا أَظُنُّ مَا أَنْتَ فِيهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا أَنَا فِيهِ، وَكِلَانَا عَلَى خَيْرٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالسَّلَامُ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا، الْعَمَلُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ إذْ هُوَ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ كَانَ حُجَّةً عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَسَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ أَوْ قَالَ لَيْلَةَ تَمَامِهِ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّك بِي مَاذَا عَمِلْت فِيمَا عَلِمْت يَا ابْنَ آدَمَ؟ مَاذَا أَجَبْت الْمُرْسَلِينَ؟» . وَيُرْوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ (مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمِهِ) قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْزَلَ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ أَوْحَى إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ قُلْ لِلَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ فِي غَيْرِ الدِّينِ وَيَتَعَلَّمُونَ لِغَيْرِ الْعَمَلِ وَيَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الْكِبَاشِ وَقُلُوبُهُمْ كَقُلُوبِ الذِّئَابِ أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنْ الصَّبْرِ إيَّايَ يُخَادِعُونَ وَبِي يَسْتَهْزِئُونَ لَأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تَذَرُ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ آدَابِ النُّفُوسِ بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ صَدَقَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُخَادِعُوا اللَّهَ فَإِنَّهُ مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يُخَادِعْهُ اللَّهُ وَنَفْسَهُ يَخْدَعُ لَوْ كَانَ يَشْعُرُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْف يُخَادَعُ اللَّهُ؟ قَالَ: تَعْمَلُ بِمَا أَمَرَك اللَّهُ بِهِ وَتَطْلُبُ بِهِ غَيْرَهُ وَاتَّقُوا الرِّيَاءَ فَإِنَّهُ الشِّرْكُ، وَإِنَّ الْمُرَائِيَ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ يُنْسَبُ إلَيْهَا يَا كَافِرُ يَا فَاجِرُ يَا غَادِرُ يَا خَاسِرُ ضَلَّ عَمَلُك وَبَطَلَ أَجْرُك فَلَا خَلَاقَ لَك الْيَوْمَ فَالْتَمِسْ أَجْرَك مِمَّنْ كُنْت تَعْمَلُ لَهُ يَا مُخَادِعُ» انْتَهَى. ، وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مَا جَاءَ فِي نَصِّ التَّنْزِيلِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: مَعْنَاهُ يُقَابِلُهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَمِنْ

كِتَابِ الْقُرْطُبِيِّ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو أَوْ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَتُتَّخَذُ سُنَّةٌ مُبْتَدَعَةٌ تَجْرِي عَلَيْهَا النَّاسُ فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ: غُيِّرَتْ السُّنَّةُ قِيلَ: مَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: إذَا كَثُرَ قُرَّاؤُكُمْ، وَقَلَّ فُقَهَاؤُكُمْ وَكَثُرَ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّ أُمَنَاؤُكُمْ وَالْتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَتَفَقَّهَ الرَّجُلُ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَوْ أَنَّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ أَخَذُوهُ بِحَقِّهِ أَوْ كَمَا يَنْبَغِي لَأَحَبَّهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ طَلَبُوا بِهِ الدُّنْيَا فَأَبْغَضَهُمْ اللَّهُ وَهَانُوا عَلَى النَّاسِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94] قَالَ: قَوْمٌ وَصَفُوا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَخَالَفُوهُ بِقُلُوبِهِمْ إلَى غَيْرِهِ انْتَهَى. وَمِنْ كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْإِمَامِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَنْسِبُ الْحِكْمَةَ لِغَيْرِ أَهْلِهَا أَمَّا الْحِكْمَةُ فَقَدْ صَارَ هَذَا الِاسْمُ يُطْلَقُ عَلَى الطَّبِيبِ، وَعَلَى الشَّاعِرِ، وَعَلَى الْمُنَجِّمِ حَتَّى عَلَى الَّذِي يُخْرِجُ الْقُرْعَةَ وَاَلَّذِي يَجْلِسُ عَلَى شَوَارِعِ الطُّرُقِ لِلْحِسَابِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ الَّتِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهَا فَقَالَ: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَلِمَةٌ مِنْ الْحِكْمَةِ يَتَعَلَّمُهَا الرَّجُلُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الدُّنْيَا» . ثُمَّ قَالَ وَانْظُرْ كُلَّ مَا ارْتَضَاهُ السَّلَفُ مِنْ الْعُلُومِ قَدْ انْدَرَسَ وَمَا رَكِبَ النَّاسُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فَأَكْثَرُهُ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ، وَقَدْ صَحَّ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ قِيلَ: وَمَنْ الْغُرَبَاءُ؟ فَقَالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي وَاَلَّذِينَ يُحْيُونَ مَا أَمَاتُوهُ مِنْ سُنَّتِي» وَفِي خَبَرٍ آخَرَ مَرْوِيٍّ «هُمْ الْمُتَمَسِّكُونَ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «نَاسٌ قَلِيلُونَ صَالِحُونَ بَيْنَ نَاسٍ كَثِيرٍ مَنْ يَبْغُضُهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ» ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا رَأَيْتُمْ الْعَالِمَ كَثِيرَ الْأَصْدِقَاءِ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ مُخْلِطٌ؛ لِأَنَّهُ

إنْ نَطَقَ بِالْحَقِّ أَبْغَضُوهُ انْتَهَى. وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَيْضًا وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالصَّوْنِ عَنْ طُرُقِ الشُّبُهَاتِ وَيُقَلِّلَ الضَّحِكَ وَالْكَلَامَ بِمَا لَا فَائِدَ فِيهِ وَيَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالْحِلْمِ وَالْوَقَارِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلْفُقَرَاءِ وَيَجْتَنِبَ التَّكَبُّرَ وَالْإِعْجَابَ وَيَتَجَافَى عَنْ الدُّنْيَا وَأَبْنَائِهَا إنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ انْتَهَى وَإِنْ لَمْ يَخَفْ خَالَطَهُمْ بِالظَّاهِرِ مَعَ سَلَامَةِ بَاطِنِهِ لِيُبَلِّغَهُمْ أَحْكَامَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَتْرُكُ الْجِدَالَ وَالْمِرَاءَ وَيَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالرِّفْقِ وَالْأَدَبِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُؤْمَنُ شَرُّهُ وَيُرْجَى خَيْرُهُ وَيُسْلَمُ مِنْ ضَرِّهِ وَأَنْ لَا يَسْمَعَ مِمَّنْ ثَمَّ عِنْدَهُ وَيُصَاحِبُ مَنْ يُعَاوِنُهُ عَلَى الْخَيْرِ وَيَدُلُّهُ عَلَى الصِّدْقِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيُزَيِّنُهُ وَلَا يَشِينُهُ انْتَهَى. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ التَّقْصِيرِ مُشْفِقًا عَلَى نَفْسِهِ فِي التَّبْلِيغِ يَرَى نَفْسَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَهْلًا لِذَلِكَ وَيَرَى نَفْسَهُ أَنَّهُ أَقَلُّ عَبِيدِ اللَّهِ وَأَكْثَرُهُمْ حَاجَةً إلَيْهِ وَأَفْقَرُهُمْ إلَى التَّعْلِيمِ كَمَا قِيلَ: الْعَالِمُ عَالِمٌ مَا كَانَ يَرَى نَفْسَهُ أَنَّهُ جَاهِلٌ فَإِذَا رَأَى نَفْسَهُ أَنَّهُ عَالِمٌ فَقَدْ جَهِلَ بَلْ مُسْتَرْشِدٌ مُتَعَلِّمٌ يَقْعُدُ مَعَ إخْوَانِهِ يُرْشِدُهُمْ وَيَسْتَرْشِدُ مِنْهُمْ وَيُعَلِّمُهُمْ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ وَقَعَ لِي سُؤَالٌ مَعَ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا جِئْت أُرِيدُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لِي أَمَا تَقْرَأُ عَلَى الْعُلَمَاءِ فَقُلْت: أُرِيدُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك فَقَالَ: لِي كَيْفَ تَتْرُكُ الْعُلَمَاءَ وَتَأْتِي تَقْرَأُ عَلَى مِثْلِي فَقُلْت: أُرِيدُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك فَقَالَ: اسْتَخِرْ اللَّهَ تَعَالَى فَاسْتَخَرْت اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ جِئْت إلَيْهِ فَقُلْت: أَقْرَأُ قَالَ: عَزَمْت قُلْت: نَعَمْ فَقَالَ: لِي لَا يَخْطِرُ بِخَاطِرِك وَلَا يَمُرُّ بِبَالِك أَنَّك تَقْرَأُ عَلَى عَالِمٍ وَلَا أَنَّك بَيْنَ يَدَيْ شَيْخٍ إنَّمَا نَحْنُ إخْوَانٌ مُجْتَمِعُونَ نَتَذَاكَرُ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا فَعَلَى أَيِّ لِسَانٍ خَلَقَ اللَّهُ الصَّوَابَ وَالْحَقَّ قَبِلْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا مِنْ الْمَكْتَبِ. فَإِذَا قَعَدَ الْإِنْسَانُ لِلتَّعْلِيمِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي ذُكِرَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مَنْزِلَةً وَأَكْثَرِهِمْ خَيْرًا وَبَرَكَةً أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ

ثُمَّ قَعَدَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ نُودِيَ فِي السَّمَوَاتِ عَظِيمًا» . وَبِهَذَا تَوَاطَأَتْ الْأَخْبَارُ وَنَقَلَتْ الْأُمَّةُ خَلْفًا عَنْ سَلَفٍ أَعْنِي تَعْظِيمَ الْعَالِمِ وَرَفْعَ مَنْزِلَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ دَرَجَةِ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا الْعُلَمَاءُ ثُمَّ بَعْدَ دَرَجَتِهِمْ دَرَجَةُ الشُّهَدَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «لَوْ وُزِنَ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ وَدَمُ الشُّهَدَاءِ لَرَجَحَ عَلَيْهِ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ» . وَهَذَا بَيِّنٌ؛ لِأَنَّ دَمَ الشُّهَدَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ أَوْ سَاعَاتٍ ثُمَّ انْفَصَلَ الْأَمْرُ فِيهِ لِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، وَمِدَادُ الْعُلَمَاءِ هُوَ وَظِيفَةُ الْعُمُرِ لَيْلًا وَنَهَارًا ثُمَّ إنَّهُ مُحْتَاجٌ فِيهِ لِمُبَاشَرَةِ غَيْرِهِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يُعَلِّمَ أَوْ يَتَعَلَّمَ، وَكِلَاهُمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُجَاهِدَةٍ عَظِيمَةٍ لِأَجْلِ خِلْطَةِ النَّاسِ وَمُبَاشَرَتِهِمْ، وَذَلِكَ أَمْرٌ عَسِيرٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنَّ كُلَّ مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ يَنْفَصِلُ، وَهُوَ طَيِّبُ النَّفْسِ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ بِذَلِكَ مَضَتْ السُّنَّةُ وَانْقَرَضَ السَّلَفُ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ تَخْلِيصُ الذِّمَّةِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ فِيهَا، وَعَلَيْهَا مِنْ حُقُوقِ الْإِخْوَانِ فِي الْحَضْرَةِ وَالْغَيْبَةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ لَهُمْ وَمُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمْ وَإِنْصَافِهِمْ فِي الْخِلْطَةِ وَالتَّوْفِيَةُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَعْبٌ عَسِيرٌ فَضْلًا عَنْ مُكَابَدَةِ فَهْمِ الْمَسَائِلِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهَا وَغَامِضِ خَبَايَاهَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ مَعَ مَا يَنْزِلُ مِنْ النَّوَازِلِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ فِي زَمَانِهِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْعُلَمَاءَ بِفَضِيلَةٍ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْبَدُ بِتَقْوَاهُمْ وَيُعْرَفُ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ بِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ مُطَالَبُونَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ مُدَافِعُونَ لِوُجُودِ كُلِّ فِتْنَةٍ وَمِحْنَةٍ وَحَادِثَةٍ وَبِدْعَةٍ انْتَهَى. وَهَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ إذْ بِهِ يُعْبَدُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُطَاعُ وَبِهِ يُنْهَى عَنْ مَعَاصِيهِ وَتُتْرَكُ فَكُلُّ مَنْ تَرَكَ مَعْصِيَةً أَوْ بِدْعَةً فَفِي صَحِيفَتِهِ، بَلْ وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَعَبَدَ اللَّهَ فَذَلِكَ فِي صَحِيفَتِهِ أَيْضًا. وَقَدْ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» فَكَيْفَ تَكُونُ صَحِيفَةُ هَذَا الْعَالِمِ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ مَنْزِلَتُهُ؟ وَكَيْفَ

يَكُونُ حَالُهُ عِنْدَ الْوُفُودِ عَلَى رَبِّهِ عِنْدَ ظُهُورِ السَّرَائِرِ وَالْمُخَبَّآتِ؟ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ الْعِلْمُ يَحْرُسُك وَالْمَالُ تَحْرُسُهُ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو بِالنَّفَقَةِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَالِمُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْمُجَاهِدِ، وَإِذَا مَاتَ الْعَالِمُ انْثَلَمَتْ فِي الْإِسْلَامِ ثُلْمَةٌ لَا يَسُدُّهَا إلَّا خَلْفٌ مِنْهُ» . وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: لَيْسَ شَيْءٌ أَعَزَّ مِنْ الْعِلْمِ الْمُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ وَالْعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خُيِّرَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالْمُلْكِ فَاخْتَارَ الْعِلْمَ فَأُعْطِيَ الْمَالَ وَالْمُلْكَ مَعَهُ. وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مَنْ النَّاسُ فَقَالَ: الْعُلَمَاءُ قِيلَ: فَمَنْ الْمُلُوكُ، قَالَ الزُّهَّادُ: قِيلَ، فَمَنْ السَّفَلَةُ قَالَ الَّذِي يَأْكُلُ بِدِينِهِ دُنْيَاهُ فَلَمْ يَجْعَلْ غَيْرَ الْعَالَمِ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا النَّاسُ عَنْ سَائِرِ الْبَهَائِمِ هُوَ الْعِلْمُ الْإِنْسَانُ إنْسَانٌ بِمَا هُوَ شَرِيفٌ لِأَجْلِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقُوَّةِ الشَّخْصِ فَإِنَّ الْجَمَلَ أَقْوَى مِنْهُ وَلَا بِعِظَمِ جِسْمِهِ فَإِنَّ الْفِيلَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَلَا بِشَجَاعَتِهِ فَإِنَّ السَّبُعَ أَشْجَعُ مِنْهُ وَلَا بِأَكْلِهِ فَإِنَّ الْجَمَلَ أَوْسَعُ بَطْنًا مِنْهُ وَلَا بِمُجَامَعَتِهِ فَإِنَّ أَخَسَّ الْعَصَافِيرِ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى السِّفَادِ، بَلْ لَمْ يُخْلَقْ الْإِنْسَانُ إلَّا لِلْعِلْمِ. وَقَدْ ذُكِرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَمَا جَاءَ فِيهِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَأَكْثَرُ، فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِهِ فَإِنَّهُ أَطْنَبَ فِي ذَلِكَ وَأَمْعَنَ فِيهِ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. لَكِنْ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى تَكُونُ الْمُؤَاخَذَةُ أَشَدَّ إذْ أَنَّهُ يُحَاسِبُ عَلَى أُمُورٍ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا غَيْرُهُ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَمَدَّ رِجْلَهُ لِيَسْتَرِيحَ ثُمَّ قَبَضَهَا وَجَعَلَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى مِمَّا تَقَدَّمَ، وَهَذَا مَوْجُودٌ عِنْدَنَا حِسًّا؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ عِنْدَنَا لَا يُؤَاخِذُ السَّائِسَ بِمَا يُؤَاخِذُهُ بِهِ النَّائِبُ وَالْوَزِيرُ كُلٌّ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَكُلٌّ يُخَاطَبُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَعَقْلِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ

فَيَنْبَغِي لِهَذَا الْعَالِمِ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ حَالِهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ مِنْ أَنْ يُدَنِّسَهُ بِمُخَالَفَةٍ أَوْ بِدْعَةٍ يَتَأَوَّلُهَا أَوْ يُبِيحُهَا أَوْ يَسْهُو عَنْ سُنَّةٍ أَوْ يَغْفُلُ عَنْهَا أَوْ يَتْرُكُ بِدْعَةً مَعَ رُؤْيَتِهَا بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ عَنْهَا أَوْ يَمُرُّ عَلَيْهِ مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِ عِلْمِهِ لَا يَحُضُّ فِيهِ عَلَى السُّنَّةِ وَلَا يَأْمُرُ فِيهِ بِاجْتِنَابِ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا انْعَقَدَتْ مَجَالِسُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانُوا يُكَرِّرُونَ مَجَالِسَهُمْ حِينَ كَانَتْ السُّنَنُ قَائِمَةً وَالْبِدَعُ خَامِدَةً فَكَيْفَ بِهِ الْيَوْمَ؟ . وَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ تَعَيَّنَ الْيَوْمَ عَلَى كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَضْلًا عَنْ مَسَائِلَ لِكَثْرَةِ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ فِي زَمَانِنَا هَذَا وَشَنَاعَتِهَا وَقُبْحِهَا إذْ أَنَّهَا كُلُّهَا صَارَتْ كَأَنَّهَا شَعَائِرُ الدِّينِ وَمِنْ الْأُمُورِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْنَا وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي أَقْوَالِنَا وَتَصَرُّفِنَا وَلَيْسَ لَنَا طَرِيقٌ لِمَعْرِفَةِ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ إلَّا مِنْ مَجَالِسِ عُلَمَائِنَا فَبَانَ مِنْ هَذَا أَتَمَّ بَيَانٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُتَعَيَّنٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يُبَاشِرْ الْبِدَعَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَرَهَا. أَمَّا مَعَ رُؤْيَتِهَا فَلَا يُمْكِنُ لِلْعَالِمِ تَرْكُهَا لِمَا وَرَدَ فِي قَوْله تَعَالَى حِينِ قَرَأَ الْقَارِئُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَقَالَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَأْخُذُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا ظَهَرَ فِيكُمْ الْمُنْكَرُ فَلَمْ تُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّ اللَّهُ الْكُلَّ بِعَذَابٍ» وَسَيَأْتِي لِهَذَا زِيَادَةُ بَيَانٍ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي التَّغْيِيرِ بِالْيَدِ ثُمَّ بِاللِّسَانِ ثُمَّ بِالْقَلْبِ عَلَى مَا مَرَّ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إنَّ التَّغْيِيرَ بِالْيَدِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَبِاللِّسَانِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَبِالْقَلْبِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَمَا قَالُوهُ هُوَ فِي غَالِبِ الْحَالِ، وَإِلَّا فَقَدْ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُ يَتَعَيَّنُ تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ عَلَى غَيْرِ الْأَمِيرِ وَغَيْرِ الْعَالِمِ فَضْلًا عَنْهُمَا. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَنْقَسِمُ التَّغْيِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَالِمِ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَتَغَيَّرُ بِالْيَدِ، وَقِسْمٌ يَتَغَيَّرُ بِاللِّسَانِ، وَالشَّاذُّ النَّادِرُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بِالْقَلْبِ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ مَا هَذَا لَفْظُهُ إنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِمَا لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ إذْ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَأْمُرَ بِالْمُنْكَرِ لِجَهْلِهِ بِحُكْمِهِمَا وَتَتَمَيَّزُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ الْمُنْكَرَ إلَى مُنْكَرٍ أَكْبَرَ مِنْهُ مِثْلَ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فَيُؤَوَّلُ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ إلَى قَتْلِ نَفْسٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ إنْكَارَهُ الْمُنْكَرَ مُزِيلٌ لَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ مُؤَثِّرٌ وَنَافِعٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ وَلَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ. فَالشَّرْطَانِ: الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُشْتَرَطَانِ فِي الْجَوَازِ وَالشَّرْطُ الثَّالِثِ مُشْتَرَطٌ فِي الْوُجُوبِ فَإِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْمُرَ وَلَا يَنْهَى، وَإِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَوُجِدَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي جَازَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى وَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَقِيَ عَلَيْهِ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْلَ فَمَا دُونَهُ فَيَجُوزُ إنْ لَمْ يَأْمَنْ لِحَدِيثِ «أَعْظَمُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ تُقَالُ: عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» . وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة: 105] الْآيَةَ مَعْنَاهُ فِي الزَّمَانِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ فِيهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا يَقْوَى مَنْ يُنْكِرُهُ، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَيَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ وَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ سِوَى الْإِنْكَارِ بِقَلْبِهِ وَلَا يَضُرُّهُ مَعَ ذَلِكَ مَنْ ضَلَّ يُبَيِّنُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى يُتْرَكُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ: إذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي بَنْيِ إسْرَائِيلَ قِيلَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إذَا ظَهَرَ الِادِّهَانُ فِي خِيَارِكُمْ وَالْفَاحِشَةُ فِي شِرَارِكُمْ وَتَحَوَّلَ الْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ وَالْفِقْهُ فِي أَرَاذِلِكُمْ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: «سَأَلْت أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْت: كَيْفَ نَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ

قُلْت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة: 105] الْآيَةَ فَقَالَ: لِي أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهُوا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، فَمَنْ صَبَرَ فِيهِنَّ قَبَضَ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْكُمْ يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» . وَمَا أَشْبَهَ زَمَانَنَا هَذَا بِهَذَا الزَّمَانِ تَغَمَّدَنَا اللَّهُ بِعَفْوٍ مِنْهُ وَغُفْرَانٍ انْتَهَى، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا مُنْتَبِهًا لِتَغْيِيرِ مَا يَقَعُ لَهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ عِنْدَنَا مَوْجُودٌ مُبَاشَرٌ فِي بَعْضِ مَجَالِسِ عِلْمِنَا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَجَالِسِ، وَيَا لَيْتَنَا لَوْ كُنَّا نُبَاشِرُهُ عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ أَوْ مَكْرُوهٌ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَّا كَذَلِكَ لَرُجِيَ لِأَحَدِنَا أَنْ يُقْلِعَ عَنْ ذَلِكَ وَيَتُوبَ، وَلَكِنَّا قَدْ أَخَذْنَا أَكْثَرَ ذَلِكَ فَجَعَلْنَاهُ شَعِيرَةً لَنَا وَدِينًا وَتَقْوَى مُقْتَفِينَ فِي ذَلِكَ آثَارَ مَنْ غَلِطَ أَوْ سَهَا أَوْ غَفَلَ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةً أَوْ حُجَجًا مَرْدُودَةً عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِ حَالِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَقَوْلِهِ وَحُجَّتِهِ، وَنَجْعَلُ ذَلِكَ قُدْوَةً لَنَا فَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ يُغَيِّرُ عَلَيْنَا مَا ارْتَكَبْنَا مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ شَنَّعْنَا عَلَيْهِ الْأَمْرَ. وَقُلْنَا: إنْ حَسَّنَّا بِهِ الظَّنَّ وَكَانَ لَهُ تَوْقِيرٌ فِي قُلُوبِنَا هَذَا وَرَعٌ أَوْ مَرْبُوطٌ قَدْ أَفْتَى فُلَانٌ بِجَوَازِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُغَيِّرُ عَلَيْنَا مِمَّنْ لَا نَعْرِفُهُ وَلَا نَعْتَقِدُهُ فَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنَّا مَا لَا يَظُنُّهُ وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ فِينَا فَصَارَ حَالُنَا بِالنَّظَرِ إلَى مَا ذُكِرَ أَنْ بَقِينَا مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ الَّذِي قَسَّمَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: عَالِمٌ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَالِمٌ فَيُتَعَلَّمُ مِنْهُ وَجَاهِلٌ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ فَعَلِّمُوهُ وَعَالِمٌ، وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّهُ عَالِمٌ فَنَبِّهُوهُ تَنْتَفِعُوا بِهِ وَجَاهِلٌ، وَهُوَ يَجْهَلُ أَنَّهُ جَاهِلٌ فَاهْرَبُوا مِنْهُ فَقَدْ صَارَتْ أَحْوَالُنَا

الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الرَّابِعِ، وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْجَهْلُ بِالْجَهْلِ هَذَا هُوَ السُّمُّ الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّا لَوْ رَأَيْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْجَهْلِ لَرُجِيَ لَنَا الِانْتِقَالُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ الذَّمِيمَةِ وَلَكِنْ مَنْ يَنْتَقِلُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ لَا يَنْتَقِلُ أَحَدٌ عَنْ ذَلِكَ وَظَنَنَّا بِأَنْفُسِنَا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَلَوْلَا مَا تَرَكَّبَ فِينَا مِنْ سُمِّ الْجَهْلِ مَا أَقَمْنَا الْحُجَّةَ فِي دِينِنَا بِمَنْ سَهَا أَوْ غَلِطَ أَوْ غَفَلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ الْإِنْسَانُ فِي دِينِهِ إلَّا مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ وَذَلِكَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ إلَّا أَوْ مَنْ شَهِدَ لَهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخَيْرِ، وَهُوَ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» . وَقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَصْحَابِي مِثْلُ النُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ فَقِيلَ لَهُ: فَمَا بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ الَّتِي ذَكَرْت فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ يَعْنِي لَا شَيْءَ» . وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْقُرُونِ الْمَذْكُورَةِ يَعْنِي فِي غَالِبِ الْحَالِ مِنْهُمْ مَا ذَكَرَ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ لَا يُقْتَدَى بِهِمْ، وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ أَلَا تَرَى إلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذْ قَالَ فِي مُوَطَّئِهِ، وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْت النَّاسَ وَمَا رَأَيْت النَّاسَ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ الْعُلَمَاءَ، فَالنَّاسُ عِنْدَهُمْ هُمْ الْعُلَمَاءُ فَالْحَدِيثُ مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ لَيْسَ إلَّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الْمَخْصُوصِ الْمُشَارِ إلَيْهِ مِنْ صَاحِبِ الْعِصْمَةِ بِالْخَيْرِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَانْظُرْ إلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ وَكَيْفَ خَصَّهُمْ بِالْفَضِيلَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ؟ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْقُرُونِ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ لَكِنْ اخْتَصَّتْ تِلْكَ الْقُرُونُ بِمَزِيَّةٍ لَا يُوَازِيهِمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَصَّهُمْ لِإِقَامَةِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَالْقَرْنُ الْأَوَّلُ

خَصَّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِخُصُوصِيَّةٍ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ أَنْ يَلْحَقَ غُبَارَ أَحَدِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ خَصَّهُمْ بِرُؤْيَةِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمُشَاهَدَتِهِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ غَضًّا طَرِيًّا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ يَتَلَقَّاهُ مِنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَخَصَّهُمْ بِالْقِتَالِ بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ وَنُصْرَتِهِ وَحِمَايَتِهِ وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ وَإِخْمَادِهِ وَرَفْعِ مَنَارِ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَائِهِ وَحِفْظِهِمْ آيِ الْقُرْآنَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ نُجُومًا نُجُومًا فَأَهَّلَهُمْ اللَّهُ لِحِفْظِهِ حَتَّى لَمْ يَضِعْ مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ فَجَمَعُوهُ وَيَسَّرُوهُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَفَتَحُوا الْبِلَادَ وَالْأَقَالِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَهَّدُوهَا لَهُمْ وَحَفِظُوا أَحَادِيثَ نَبِيِّهِمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صُدُورِهِمْ وَأَثْبَتُوهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ عَدَمِ اللَّحْنِ وَالْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ. وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا شَكَّ فِي الْحَدِيثِ تَرَكَهُ أَلْبَتَّةَ فَلَا يُحَدِّثُ بِهِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ قَرْنِهِمْ بَلْ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي فَمَا بَالُك بِهِمْ وَهُمْ خَيْرُ الْخِيَارِ؟ وَصْفُهُمْ فِي الْحِفْظِ وَالضَّبْطِ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ وَلَا يَصِلُ إلَيْهِ أَحَدٌ فَجَزَاهُمْ اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِ خَيْرًا لَقَدْ أَخْلَصُوا لِلَّهِ تَعَالَى الدَّعْوَةَ وَذَبُّوا عَنْ دِينِهِ بِالْحُجَّةِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلِيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا وَأَحْسَنَهَا حَالًا اخْتَارَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ انْتَهَى. فَلَمَّا أَنْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ طَاهِرِينَ عَقَبَهُمْ التَّابِعُونَ لَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَجَمَعُوا مَا كَانَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مُتَفَرِّقًا وَبَقِيَ أَحَدُهُمْ يَرْحَلُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَضَبَطُوا أَمْرَ الشَّرِيعَةِ أَتَمَّ ضَبْطٍ وَتَلَقَّوْا الْأَحْكَامَ وَالتَّفْسِيرَ مِنْ فِي الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِثْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: سَلُونِي مَا دُمْت بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَإِنِّي أَعْرَفُ بِأَزِقَّةِ السَّمَاءِ كَمَا أَنَا أَعْرَفُ بِأَزِقَّةِ الْأَرْضِ " «وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي ابْنِ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانُ

الْقُرْآنِ» ، فَمَنْ لَقِيَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ كَيْفَ يَكُونُ عِلْمُهُ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ وَعَمَلُهُ؟ فَحَصَلَ لِلْقَرْنِ الثَّانِي نَصِيبٌ وَافِرٌ أَيْضًا فِي إقَامَةِ هَذَا الدِّينِ وَرُؤْيَةِ مَنْ رَأَى بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَلِذَلِكَ كَانُوا خَيْرًا مِنْ الَّذِينَ بَعْدَهُمْ ثُمَّ عَقَبَهُمْ التَّابِعُونَ لَهُمْ وَهُمْ تَابِعُو التَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِيهِمْ حَدَثَ الْفُقَهَاءُ الْمُقَلَّدُونَ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِمْ فِي النَّوَازِلِ الْكَاشِفُونَ لِلْكُرُوبِ فَوَجَدُوا الْقُرْآنَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَجْمُوعًا مُيَسَّرًا وَوَجَدُوا الْأَحَادِيثَ قَدْ ضُبِطَتْ وَأُحْرِزَتْ فَجَمَعُوا مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا وَتَفَقَّهُوا فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَاسْتَخْرَجُوا فَوَائِدَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ وَاسْتَنْبَطُوا مِنْهَا فَوَائِدَ وَأَحْكَامًا وَبَيَّنُوا عَلَى مُقْتَضَى الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَدَوَّنُوا الدَّوَاوِينَ وَيَسَّرُوا عَلَى النَّاسِ وَبَيَّنُوا الْمُشْكِلَاتِ بِاسْتِخْرَاجِ الْفُرُوعِ مِنْ الْأُصُولِ وَرَدُّوا الْفَرْعَ إلَى أَصْلِهِ وَبَيَّنُوا الْأَصْلَ مِنْ فَرْعِهِ. فَانْتَظَمَ الْحَالُ وَاسْتَقَرَّ مِنْ الدِّينِ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَبَبِهِمْ الْخَيْرُ الْعَمِيمُ فَحَصَلَتْ لَهُمْ فِي إقَامَةِ هَذَا الدِّينِ خُصُوصِيَّةٌ أَيْضًا بِلِقَائِهِمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى صَاحِبَ الْعِصْمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُبْقُوا لِمَنْ بَعْدَهُمْ شَيْئًا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُومَ بِهِ، بَلْ كُلُّ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ مُقَلِّدٌ لَهُمْ فِي الْغَالِبِ وَتَابِعٌ لَهُمْ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ فِقْهٌ غَيْرُ فِقْهِهِمْ أَوْ فَائِدَةٌ غَيْرُ فَائِدَتِهِمْ فَمَرْدُودٌ كُلُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يَزِيدَ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ أَوْ يَنْقُصَ مِنْهَا فَذَلِكَ مَرْدُودٌ بِالْإِجْمَاعِ. أَمَّا مَا اسْتَخْرَجَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفَرَائِضِ غَيْرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ فَمَقْبُولٌ «لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْقُرْآنِ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ» فَعَجَائِبُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ لَا يَنْقَضِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلُّ قَرْنٍ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ فَوَائِدَ جَمَّةً خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا وَضَمَّهَا إلَيْهِ لِتَكُونَ بَرَكَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَمِرَّةً إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُمَّتِي مِثْلُ

الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَيُّهُ أَنْفَعُ أَوَّلُهُ أَوْ آخِرُهُ» أَوْ كَمَا قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَعْنِي فِي الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ وَالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَبْيِينِ الْأَحْكَامِ لَا أَنَّهُمْ يُحْدِثُونَ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ اللَّهُمَّ إلَّا مَا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ مِمَّا لَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ لَا بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْقَوْلِ وَلَا بِالْبَيَانِ فَيَجِبُ إذْ ذَاكَ أَنْ يُنْظَرَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ عَنْهُمْ الْمُبَيَّنَةِ الصَّرِيحَةِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى أُصُولِهِمْ قَبِلْنَاهُ فَلَمَّا أَنْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ طَاهِرِينَ ثُمَّ أَتَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَلَمْ يَجِدْ فِي هَذَا الدِّينِ وَظِيفَةً يَقُومُ بِهَا وَيَخْتَصُّ بِهَا، بَلْ وَجَدَ الْأَمْرَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا أَنْ يَحْفَظَ مَا دَوَّنُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ وَاسْتَخْرَجُوهُ وَأَفَادُوهُ فَاخْتَصَّتْ إقَامَةُ هَذَا الدِّينِ بِالْقُرُونِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ إلَّا، فَلِأَجَلِ ذَلِكَ كَانُوا خَيْرًا مِمَّنْ أَتَى بَعْدَهُمْ وَلَا يَحْصُلُ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ إلَّا بِالِاتِّبَاعِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالْخَيْرِ فَبَقِيَ كُلُّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ فِي مِيزَانِهِمْ وَمِنْ بَعْضِ حَسَنَاتِهِمْ فَبَانَ مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ فَكُلُّ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ يَقُولُ فِي بِدْعَةٍ إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ثُمَّ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ بِدَلِيلٍ خَارِجٍ عَنْ أُصُولِهِمْ، فَذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، بَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِفَ أَحْوَالَهُمْ فِي الْبِدَعِ أَوَّلًا كَيْفَ كَانَتْ؟ وَكَيْفَ كَانُوا يُرَاعُونَ هَذَا الْأَصْلَ وَيُسْتَحْفَظُونَ عَلَيْهِ؟ فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَعُمْدَتِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ وَكَيْفِيَّةِ جَمْعِهِ وَمَا قَالُوا: بِسَبَبِ ذَلِكَ وَإِشْفَاقِهِمْ مِنْ الْأَخْذِ فِيهِ مَعَ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى جَمْعِهِ إذْ أَنَّهُ لَوْلَا جَمْعُهُ لَذَهَبَ هَذَا الدِّينُ فَانْظُرْ مَعَ جَمْعِهِ وَضَبْطِهِ كَيْفَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ الْكَثِيرُ فِي التَّأْوِيلِ؟ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ التِّلَاوَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كُفْرًا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَرْسَلَ إلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ مَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ

الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ يُجْمَعَ الْقُرْآنُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَقُلْت لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ صَدْرِي فَرَأَيْت الَّذِي رَآهُ عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ: وَغَيْرُهُ وَعُمَرُ جَالِسٌ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّك رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلَا نَتَّهِمُك قَدْ كُنْت تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاَللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْت: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَمَرَ بِهِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقُمْت فَتَتَبَّعْت الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعَسِيبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْت مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [التوبة: 128] إلَى آخِرِ السُّورَةِ انْتَهَى. فَانْظُرْ مَعَ هَذَا النَّفْعِ الْعَظِيمِ الَّذِي وَقَعَ بِجَمْعِهِ أَشْفَقُوا أَنْ يَفْعَلُوهُ وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَدَثًا يُحْدِثُونَهُ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَا بَالُك بِبِدْعَةٍ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا نَفْعٌ أَوْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُظُوظُ النُّفُوسِ أَوْ الرُّكُونُ إلَى الْعَوَائِدِ؟ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَهَا فَضْلًا عَنْ الْكَلَامِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا اخْتِلَافُهُمْ فِي شَكْلِ الْمُصْحَفِ وَنَقْطِهِ وَتَعْشِيرِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعُظْمَى الَّتِي قَدْ ظَهَرَتْ فِي الْأُمَّةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَفْسِيرِهِ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ فِي الْمُصْحَفِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُحْكِمُهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ وَالطِّيبَ فِي الْمُصْحَفِ. وَقَالَ أَشْهَبُ سَمِعْت مَالِكًا حِينَ سُئِلَ عَنْ الْعُشُورِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمُصْحَفِ بِالْحُمْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَلْوَانِ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: تَعْشِيرُ الْمُصْحَفِ بِالْحِبْرِ لَا بَأْسَ بِهِ سُئِلَ عَنْ الْمَصَاحِفِ تُكْتَبُ فِيهَا خَوَاتِمُ السُّوَرِ فِي كُلِّ سُورَةٍ مَا فِيهَا مِنْ آيَةٍ قَالَ: إنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ فِي أُمَّهَاتِ الْمَصَاحِفِ أَنْ يُكْتَبَ فِيهَا

شَيْءٌ أَوْ تُشَكَّلَ فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّمُ بِهِ الْغِلْمَانُ مِنْ الْمَصَاحِفِ فَلَا أَرَى فِي ذَلِكَ بَأْسًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَدَءُوا فَنَقَّطُوا ثُمَّ خَمَّسُوا ثُمَّ عَشَّرُوا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ كَانَ الْقُرْآنُ مُحْكَمًا مُجَرَّدًا فِي الْمَصَاحِفِ فَأَوَّلُ مَا أَحْدَثُوا فِيهِ النُّقَطَ عَلَى الْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ وَقَالُوا: لَا بَأْسَ هُوَ نُورٌ لَهُ ثُمَّ أَحْدَثُوا نُقَطًا عِنْدَ مُنْتَهَى الْآيَةِ ثُمَّ أَحْدَثُوا الْفَوَاتِحَ وَالْخَوَاتِمَ. وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: رَأَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فِي مُصْحَفٍ فَاتِحَةَ سُورَةِ كَذَا فَقَالَ: اُمْحُهُ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لَا تَخْلِطُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَيْسَ مِنْهُ انْتَهَى فَانْظُرْ مَا تَرَتَّبَ عَلَى نَقْطِهِ وَشَكْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْعُظْمَى لِلصِّغَارِ، وَمَنْ لَا يَقْرَأُ مِنْ الْكِبَارِ كَيْفَ كَرِهُوا ذَلِكَ مَعَ هَذِهِ الْفَائِدَةِ الْعُظْمَى؟ عَلَى هَذَا كَانَ مِنْهَاجُهُمْ فِي تَحَرِّيهِمْ لِلْبِدَعِ. أَلَا تَرَى إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لَمَّا أَنْ دَخَلَ الْخَلَاءَ وَرَأَى ذُبَابًا قَدْ وَقَعَ عَلَى فَضْلَةٍ كَانَتْ هُنَاكَ ثُمَّ طَارَ وَوَقَعَ عَلَى ثَوْبِهِ فَعَزَمَ أَنَّهُ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الذُّبَابِ إذَا خَرَجَ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ غَسْلَهُ أَشْفَقَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَكُونُ بِأَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَ بِدْعَةً فِي الْإِسْلَامِ انْتَهَى. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَتْ الْبِدَعُ عِنْدَهُمْ؟ وَكَيْفَ كَانَ تَحَرِّيهِمْ لَهَا؟ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرُوِيَ عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ أَنَّهُ جَاءَ مَعَ الْقُرَّاءِ إلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقِيلَ لَهُ: اقْرَأْ فَرَفَعَ صَوْتَهُ وَطَرِبَ وَكَانَ رَفِيعَ الصَّوْتِ فَكَشَفَ أَنَسٌ عَنْ وَجْهِهِ وَكَانَ عَلَى وَجْهِهِ خِرْقَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا مَا هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَكَانَ إذَا رَأَى شَيْئًا يُنْكِرُهُ كَشَفَ الْخِرْقَةَ عَنْ وَجْهِهِ وَرُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَةُ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَكَرِهَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ كُلُّهُمْ كَرِهُوا رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّطْرِيبِ فِيهِ انْتَهَى. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ عَنْهُمْ فِي أَوْرَادِهِمْ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسَاجِدِهِمْ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ كَأَنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ

صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَيُسْمَعُ لَهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، كُلُّ هَذَا إشْفَاقٌ مِنْهُمْ أَنْ يَرْفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَدَثًا لَا سِيَّمَا فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ النَّهْيِ، وَقَدْ خَرَجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالْقُرْآنِ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: «لَا يَجْهَرُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» . وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الْحِلْيَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي الْبُحْتُرِيِّ قَالَ أَخْبَرَ رَجُلٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْمًا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِيهِمْ رَجُلٌ يَقُولُ: كَبِّرُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا وَسَبِّحُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا وَاحْمَدُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَيَقُولُونَ ذَلِكَ قَالَ: نَعَمْ فَإِذَا رَأَيْتهمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِمَجْلِسِهِمْ قَالَ: فَأَتَيْته فَأَخْبَرْته بِمَجْلِسِهِمْ فَأَتَاهُمْ، وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ لَهُ فَجَلَسَ فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُونَ قَامَ وَكَانَ رَجُلًا حَدِيدًا فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا أَوْ لَقَدْ فُقْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمًا فَقَالَ: أَحَدُهُمْ مُعْتَذِرًا وَاَللَّهِ مَا جِئْنَا بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا وَلَا فُقْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالطَّرِيقِ فَالْزَمُوهُ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَتَضِلُّونَ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْجَامِّ فِي ذَمِّ الْعَوَامّ لَهُ: اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ قَاطِبَةً عَلَى ذَمِّ الْبِدْعَةِ وَزَجْرِ الْمُبْتَدِعِ وَتَعْتِيبِ مَنْ يُعْرَفُ بِالْبِدْعَةِ، فَهَذَا مَفْهُومٌ عَلَى الضَّرُورَةِ بِالشَّرْعِ، وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي مَحِلِّ الظَّنِّ وَذَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبِدْعَةَ وَعُلِمَ بِتَوَاتُرٍ مَجْمُوعُ أَخْبَارٍ تُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ جُمْلَتُهَا فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» . وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِمَا ابْتَدَعُوا

فِي دِينِهِمْ وَتَرَكُوا سُنَنَ أَنْبِيَائِهِمْ وَقَالُوا بِآرَائِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا مَاتَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ فَقَدْ فُتِحَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتْحٌ» . وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَشَى إلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَهُ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ» ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَعْرَضَ عَنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ بُغْضًا لَهُ فِي اللَّهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا وَمَنْ انْتَهَرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ رَفَعَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ دَرَجَةٍ وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ أَوْ لَقِيَهُ بِالْبِشْرِ أَوْ اسْتَقْبَلَهُ بِمَا يَسُرُّهُ فَقَدْ اسْتَخَفَّ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَوْمًا وَلَا صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا حَجًّا وَلَا عُمْرَةً وَلَا جِهَادًا وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَيَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَوْ كَمَا يَخْرُجُ الشَّعْرُ مِنْ الْعَجِينِ» انْتَهَى مَا نَقَلَهُ بِلَفْظِهِ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَحْوَالُهُمْ مُتَعَدِّدَةٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا وَلَا عَدُّهَا وَالْكِتَابُ يَضِيقُ عَنْ الْإِكْثَارِ مِنْهَا وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ كَيْفَ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ عِنْدَنَا مِمَّا نَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى رَبِّنَا؟ وَكَيْفَ كَانَ إسْرَاعُهُمْ إلَى تَغْيِيرِهَا وَانْزِعَاجُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهَا وَشِدَّتُهُمْ فِي أَمْرِهَا؟ فَانْظُرْ بِنَظَرِك فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَجِيبِ مَا بَيْنَ حَالِنَا وَحَالِهِمْ إذْ مَا نَتَقَرَّبُ بِهِ الْيَوْمَ كَانَ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ الِانْزِعَاجِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى اقْتَصَرْت فِي التَّمْثِيلِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ عَلَى مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَصْلِ الدِّينِ وَعُمْدَتِهِ الَّذِي مَنْ يَفْعَلُهُ الْيَوْمَ عِنْدَنَا هُوَ الرَّجُلُ الْأَعْظَمُ الَّذِي تَغْتَنِمُ خَيْرَهُ وَبَرَكَتَهُ فَمَا بَالُك بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَأَصْلُ الدِّينِ وَعُمْدَتُهُ وَقِوَامُهُ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ بِالْجُوعِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى إحْرَازِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ الَّتِي تَأْتِي عَلَيْهِ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَغَيْرِهَا وَالْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ مَا الْإِنْسَانُ مُخَاطَبٌ بِهِ فِي تَغْيِيرِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذَا ظَهَرَ فِي هَذَا الْأَصْلِ الشَّرِيفِ

فَيَبْدَأُ أَوَّلًا بِالتَّغْيِيرِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَيَنْظُرُ إلَى مَا حَدَثَ فِي زَمَانِ مَنْ شُهِدَ فِيهِمْ بِالْخَيْرِ فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيَتَدَيَّنُ بِهِ وَمَا حَدَثَ بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ فَالتَّرْكُ لِذَلِكَ أَوْلَى مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَمُوَاصَلَةِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَالتَّدَيُّنُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِبَعْضِ ذَلِكَ وَالْأَخْذُ عَلَى يَدِ فَاعِلِهِ إنْ كَانَ لِلْإِنْسَانِ شَوْكَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ الْعُلُومِ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ. قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَالْعَالِمُ لَهُ الشَّوْكَةُ بِالضَّرُورَةِ الْقَطْعِيَّةِ وَهِيَ الْعِلْمُ الَّذِي عِنْدَهُ كَمَا قِيلَ: مَنْ دَرَسَ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَكَلَّمَ وَالنَّاسُ قِيَامٌ وَمَا عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أُمِرَ بِتَغْيِيرِهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِالْقَوْلِ فَيَذْكُرُ الْحُكْمَ فِيهِ، فَإِنْ سُمِعَ مِنْهُ وَرُجِعَ إلَيْهِ حَصَلَ الْمُرَادُ وَإِنْ تُرِكَ قَوْلُهُ كَانَ قَدْ أَقَامَ عِنْدَ اللَّهِ عُذْرَهُ وَقَامَ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَيَسْلَمُ أَيْضًا مِنْ الْآفَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي عَلَيْهِ فِي عَدَمِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ «أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَعَلَّقُ الرَّجُلُ بِالرَّجُلِ لَا يَعْرِفُهُ فَيَقُولُ لَهُ: مَا لَك مَا رَأَيْتُك قَطُّ فَيَقُولُ: بَلَى رَأَيْتنِي يَوْمًا عَلَى مُنْكَرٍ فَلَمْ تُغَيِّرْهُ عَلَيَّ» . أَوْ كَمَا قَالَ، وَهَذَا أَمْرٌ خَطَرٌ قَلَّ أَنْ تَقَعَ السَّلَامَةُ مِنْهُ وَبِالْكَلَامِ يَنْجُو مِنْ هَذَا الْخَطَرِ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَلَا تَعَبٌ، وَأَكْثَرُ الْمَنَاكِرِ وَالْبِدَعِ فِي زَمَانِنَا هَذَا لَيْسَ عَلَى الْعَالِمِ مَشَقَّةٌ وَلَا خَوْفٌ فِي الْكَلَامِ فِيهَا وَلَا فِي الْحَضِّ عَلَى تَرْكِهَا، وَإِنَّمَا يَتْرُكُهَا مَعَ رُؤْيَتِهَا وَلَا يَحُضُّ عَلَيْهَا فِي مَجْلِسِهِ فِي الْغَالِبِ لِاسْتِئْنَاسِ النُّفُوسِ بِالْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَهْلَكَ مَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] وَكَذَلِكَ {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ، وَقَدْ أَهْلَكَهَا اللَّهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَهْلَكْتَهُمْ وَكُنْت أَعْرِفُ

فِيهَا رَجُلًا صَالِحًا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَا مُوسَى إنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْ لِي مُنْكَرًا فَأَفَادَ هَذَا الْخَبَرُ أَنَّهُ لَوْ غَيَّرَ عَلَيْهِمْ أَيْ: مَنَعَهُمْ مِنْ فِعْلِ الْمُنْكَرِ مَا هَلَكَ وَلَا هَلَكُوا، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ هِيَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّغْيِيرِ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِتَرْكِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْمُخَالَفَاتِ فَلَمَّا أَنْ وَقَعُوا فِي الْمُخَالَفَاتِ وَسَكَتَ هُوَ كَانَ ذَلِكَ وُقُوعًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ السُّكُوتِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الْمُخَالَفَاتِ فَاسْتَوَى مَعَهُمْ فِي ارْتِكَابِ الْمَنْهِيَّاتِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ إذْ ذَاكَ مَنْ يَدْفَعُ الْبَلَاءَ عَنْهُمْ إذْ نَزَلَ بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ إنَّمَا يَرْفَعُهُ الِامْتِثَالُ فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ إذْ ذَاكَ مُمْتَثِلٌ فَحَصَلَ مَا حَصَلَ وَهَا هُوَ الْيَوْمَ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا خَفَاءَ فِي وُقُوعِ هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَنَا لِوُقُوعِ مَا يَقَعُ وَسُكُوتِ عُلَمَائِنَا فِي الْجَمِيعِ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَلَا يَحُضُّونَ فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ عَلَى تَرْكِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ مُوجِبَاتِ نُزُولِ الْعَذَابِ كُلِّهَا مُتَوَفِّرَةٌ عِنْدَنَا فِي الْغَالِبِ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ. لَا جَرَمَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْخَسْفُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَعَمَّ الْآفَاقَ وَمِنْ الْأَحْيَاءِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْعُلَمَاءُ يُحْشَرُونَ فِي زُمْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْقُضَاةُ يُحْشَرُونَ فِي زُمْرَةِ السَّلَاطِين وَفِي مَعْنَى الْقُضَاةِ كُلُّ فَقِيهٍ قَصَدَ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعِلْمِهِ. قَالَ: وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْدُمُ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي مُوسَى صَفِيُّ اللَّهِ حَدَّثَنِي مُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ حَدَّثَنِي مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ حَتَّى أَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ فَفَقَدَهُ مُوسَى فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُ فَلَا يَحُسُّ لَهُ أَثَرًا حَتَّى جَاءَهُ ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ وَفِي يَدِهِ خِنْزِيرٌ وَفِي عُنُقِهِ حَبْلٌ أَسْوَدُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَعْرِفُ فُلَانًا؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ هَذَا الْخِنْزِيرُ فَقَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: يَا رَبِّ أَسْأَلُك أَنْ تَرُدَّهُ إلَى حَالِهِ حَتَّى أَسْأَلَهُ بِمَ أَصَابَهُ هَذَا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ يَا مُوسَى لَوْ دَعَوْتنِي بِاَلَّذِي دَعَانِي بِهِ آدَم، فَمَنْ دُونَهُ مَا أَجَبْتُك فِيهِ وَلَكِنْ أُخْبِرُك لِمَ صَنَعْت هَذَا بِهِ؟ لِأَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: كَانَ الْخَسْفُ لِمَنْ قَبْلِنَا بِالْإِعْدَامِ وَلِكَرَامَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى

وَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا رُفِعَ عَنَّا خَسْفُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَلَبَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يَخْسِفَ بِأُمَّتِهِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ فَشَفَّعَهُ اللَّهُ فِيمَا طَلَبَ فِي الظَّاهِرِ لِيَقَعَ بِذَلِكَ السَّتْرُ. . أَمَّا خَسْفُ الْبَاطِنِ فَلَمْ يَرْفَعْهُ عَلَى مَا وَرَدَ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لَا يَرْتَابُ أَحَدٌ فِيهِ وَلَا يَشُكُّ أَلَا تَرَى إلَى الْخِنْزِيرِ وَحَالَتِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ التَّنْجِيسِ وَالتَّقْذِيرِ فَانْظُرْ إلَى شَارِبِ الْخَمْرِ هَلْ تَجِدُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا؟ إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَانِي قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذَا نَظَرْت إلَى الثُّعْبَانِ تَجِدُهُ نَاعِمًا أَمْلَسَ مَلِيحَ الْمَنْظَرِ فَإِذَا قَرُبْته قَتَلَك بِسُمِّهِ وَأَنْتَ تَرَى كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْوَقْتِ كَذَلِكَ فَتَنْظُرُ فِي أَحَدِهِمْ تَرَى الْعِبَارَةَ الْعَذْبَةَ وَالْكَلَامَ الطَّيِّبَ، وَكَأَنَّهُ أَعْظَمُ النَّاسِ لَك فِي الْمَحَبَّةِ فَإِذَا اطْمَأْنَنْت إلَيْهِ أَوْ رَكَنْت إلَى جَانِبِهِ أَوْ غِبْت عَنْهُ أَهْلَكَك بِحَسَبِ حَالِهِ وَحَالِك، إمَّا فِي مَالِك أَوْ عِرْضِك أَوْ دِينِك، وَذَلِكَ سُمُّهُ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَانِي جَامِعَةٌ بَيْنَهُمَا. أَلَا تَرَى إلَى السَّبُعِ وَحَالَتِهِ وَإِيذَائِهِ وَرُعْبِهِ لِلنَّاسِ وَخَوْفِهِمْ مِنْهُ إذَا سَمِعُوا بِحِسِّهِ فَضْلًا عَنْ رُؤْيَتِهِ، بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ رُؤْيَتَهُ فَمَا رَآهُ إلَّا وَيَهْلَكُ، وَهُوَ مَطْبُوعٌ عَلَى الضَّرَرِ الْكُلِّيِّ أَلَا تَرَى إلَى حَالِهِ إذْ قَدْ يَكُونُ شَبْعَانًا رَيَّانًا وَمَعَ ذَلِكَ إذَا رَأَى آدَمِيًّا أَوْ مَاشِيَةً لَمْ يَتَمَالَكْ نَفْسَهُ إلَّا أَنْ يَنْقَضَّ عَلَيْهِ يَعْبَثَ بِهِ وَيَقْتُلَهُ ثُمَّ يَمْضِيَ وَيَتْرُكَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ لِشِبَعِهِ فَانْظُرْ إلَى هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ وَمَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ حَتَّى لَمْ يُبْقِ لَهُمْ أُمْنِيَّةً إلَّا وَهِيَ حَاصِلَةٌ فَضْلًا عَنْ الضَّرُورَاتِ ثُمَّ فَضَلَتْ الْأَمْوَالُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ لَهُمْ بِهَا حَاجَةٌ يُدْبِرُونَ عَلَى بَعْضِهَا بِالدَّفْنِ، وَعَلَى بَعْضِهَا بِالْحُرُمَاتِ وَفِي الْبُنْيَانِ وَالْإِسْرَافِ ثُمَّ مَعَ مَا مُدَّ لَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْوَالِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْغَالِبِ أَنْ يَتْرُكَ لِلضَّعِيفِ الْمِسْكِينِ دِرْهَمًا يَكْتَسِبُ بِهِ لِنَفْسِهِ وَعَائِلَتِهِ. بَلْ يَضْرِبُونَ النَّاسَ الْفُقَرَاءَ عَلَى الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الضَّرْبَ الْمُؤْلِمَ وَيَسُوءُونَ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ وَالْغَرَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ

وَالرُّعْبِ لِلْمَسَاكِينِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَا يَسْتَطِيعُونَ رُؤْيَتَهُمْ لِشِدَّةِ سَطْوَتِهِمْ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّبُعِ؟ إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَانِي جَامِعَةٌ بَيْنَهُمَا. أَلَا تَرَى إلَى الْكِلَابِ وَحَالَتِهَا وَإِيذَائِهَا وَتَسْلِيطِهَا عَلَى رُعْبِ النَّاسِ مَرَّةً بِرُؤْيَتِهَا وَمَرَّةً بِصَوْتِهَا وَمَرَّةً بِتَقْطِيعِهَا الثِّيَابَ وَإِيذَائِهَا فِي الْبَدَنِ، وَقَدْ يُؤَوَّلُ أَمْرُهَا أَنَّ كُلَّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ سَوَاءٌ كَانَ صَبِيًّا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ضَعِيفًا إلَى الْإِعْدَامِ أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهَا مَنْ هُوَ كَلْبٌ فَيَهْلَكُ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا كَثِيرًا، وَهُوَ كَثِيرٌ مُتَعَارَفٌ. فَانْظُرْ إلَى هَؤُلَاءِ الْحَرَسِ الْمُجْتَزِئَةِ الْجَنَادِرَةِ فِي إرْعَابِهِمْ الْمُسْلِمِينَ وَتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالْأَذِيَّةِ الْعَظِيمَةِ فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ وَالْمَالِ وَالرُّوحِ وَالرُّعْبِ الْحَاصِلِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ لِلصِّبْيَانِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ الضُّعَفَاءِ الْمَسَاكِينِ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكِلَابِ؟ إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَانِي. أَلَا تَرَى إلَى الْعَقْرَبِ وَحَالَتِهَا وَإِيذَائِهَا وَكَثْرَةِ تَعْقِيدِهَا وَسُمِّهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا صَدْرٌ فَانْظُرْ إلَى بَعْضِهِمْ تَجِدْهُ كَذَلِكَ ضَيِّقَ الصَّدْرِ وَمَعْقُودَ الْوَجْهِ لَا تَسْتَطِيعُ رُؤْيَتَهُ لِتَعَقُّدِ وَجْهِهِ وَضِيقِ صَدْرِهِ، فَإِنْ قَرُبْته وَأَنْتَ لَا تَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِك مِنْهُ حَصَلَ لَك مِنْهُ الْأَذِيَّةُ الْعُظْمَى إمَّا فِي مَالِك أَوْ بَدَنِك أَوْ عِرْضِك، وَذَلِكَ سُمُّهُ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ؟ وَالْمَعَانِي جَامِعَةٌ بَيْنَهُمَا انْتَهَى بِالْمَعْنَى. وَهَذَا كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ وَلَا عَدُّهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَمْثِيلًا لِمَنْ لَهُ لُبٌّ فَيَنْظُرُ إلَى كَيْفِيَّةِ الْخَسْفِ الْوَاقِعِ لِكُلِّ إنْسَانٍ بِحَسَبِ حَالِهِ وَحَالِ دِينِهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى خَسْفِ الْقُلُوبِ وَعَدَمِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ الْمُوَاطَأَةُ مِنْ الْبَعْضِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُخَالَفَاتِ وَمِنْ الْبَعْضِ عَلَى السُّكُوتِ عِنْدَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ أَوْ سَمَاعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تَغْيِيرَ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالْيَدِ مَرَّةً وَبِاللِّسَانِ مَرَّةً وَالشَّاذُّ لُزُومُ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ التَّأْثِيرُ وَالْبُغْضُ الَّذِي يَجِدُهُ فِي قَلْبِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ مِنْ الْآدَابِ

فِي ذَلِكَ وَالْكَمَالِ أَنْ يُغَيِّرَ عَلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا قَبْلَ غَيْرِهِ بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ فَإِذَا اسْتَقَامَتْ النَّفْسُ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ الِامْتِثَالِ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ يُغَيِّرُ عَلَيْهِ بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ بِحَسَبِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ. ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَحْتَاجُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ أَوَّلَ دُخُولِهِ لِمَوْضِعِ التَّدْرِيسِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا فَلَا يَخْلُو مَوْضِعُ التَّدْرِيسِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْتًا أَوْ مَدْرَسَةً أَوْ مَسْجِدًا وَأَفْضَلُ مَوَاضِعِ التَّدْرِيسِ الْمَسْجِدُ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ لِلتَّدْرِيسِ إنَّمَا فَائِدَتُهُ أَنْ تَظْهَرَ بِهِ سُنَّةٌ أَوْ تَخْمَدُ بِهِ بِدْعَةٌ أَوْ يُتَعَلَّمُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَالْمَسْجِدُ يَحْصُلُ فِيهِ هَذَا الْغَرَضُ مُتَوَفِّرًا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ مُجْتَمَعِ النَّاسِ رَفِيعِهِمْ وَوَضِيعِهِمْ وَعَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ بِخِلَافِ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَى النَّاسِ إلَّا مَنْ أُبِيحَ لَهُ، وَذَلِكَ لِأُنَاسٍ مَخْصُوصِينَ، وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ قَدْ أَبَاحَ بَيْتَهُ لِكُلِّ مَنْ أَتَى لَكِنْ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الْبُيُوتَ تُحْتَرَمُ وَتُهَابُ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَحْصُلُ لَهُ الْإِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ الْمَسْجِدُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ فِي تَوْصِيلِ الْأَحْكَامِ وَتَبْلِيغِهَا لِلْأُمَّةِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا بِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْمَسْجِدُ أَفْضَلَ مِنْ الْمَدْرَسَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّلَفَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مَدَارِسُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُدَرِّسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَدْرَسَةِ فِيهِ الْمَنْفَعَةُ وَالْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ لَكِنْ لَمَّا أَنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِلسَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانَ أَخْذُهُ فِي الْمَسَاجِدِ فِيهِ صُورَةُ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَجُوزُ وَكَفَى لَنَا أُسْوَةٌ بِهِمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَدْرَسَةَ لَا يَدْخُلُهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا آحَادُ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَقْصِدُ الْمَدْرَسَةَ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ أَعَمُّهُمْ الْمَسَاجِدَ، وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ أَيْضًا لَهُ رَغْبَةٌ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَإِذَا كَانَ التَّدْرِيسُ أَيْضًا فِي الْمَدْرَسَةِ امْتَنَعَ تَوْصِيلُ الْعِلْمِ عَلَى مَنْ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ بِالتَّدْرِيسِ كَمَا تَقَدَّمَ إنَّمَا هُوَ التَّبْيِينُ لِلْأُمَّةِ وَإِرْشَادُ الضَّالِّ وَتَعْلِيمُهُ وَدَلَالَةُ الْخَيْرَاتِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْمَسْجِدِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَدْرَسَةِ ضَرُورَةً، وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ أَفْضَلَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ إلَى

الْأَفْضَلِ وَيَتْرُكَ مَا عَدَاهُ اللَّهُمَّ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَاتُ لَهَا أَحْكَامٌ أُخَرُ، وَإِذَا قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ أَيْضًا فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ بَارِزًا لِلنَّاسِ بِمَوْضِعٍ يَصِلُ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمِسْكِينُ وَالْعَامِّيُّ الْجَاهِلُ لِكَيْ يَسْمَعُوا أَحْكَامَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ مَسْأَلَةٌ يَجْهَلُهَا، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْهَا سَمِعَهَا اسْتَفَادَهَا حِينَ إلْقَاءِ الْمَسَائِلِ وَالْإِيرَادِ عَلَيْهَا وَالْجَوَابِ عَنْهَا. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ تَنْشِيطًا لَهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ عَنْهُ وَالْعَمَلِ عَلَى تَحْصِيلِهِ فَيَرْجِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَتُوبُ مِنْ جَهْلِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ثَمَّ آخَرُ يَسْأَلُ عَمَّا وَقَعَ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْمَحِلَّ قَابِلًا لِلسُّؤَالِ فَسَأَلَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَآخَرُ تَحْصُلُ لَهُ بَرَكَةُ الْعِلْمِ وَحُضُورِ الْمَجْلِسِ وَآخَرُ تَحْصُلُ لَهُ بَرَكَةُ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَجْلِسَ الَّذِي جَلَسَهُ هَذَا الْعَالِمُ هُوَ الْمَجْلِسُ الْمَشْهُودُ خَيْرُهُ الْمَعْرُوفُ بَرَكَتُهُ الْمُسْتَفِيضُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِرُّهُ وَاحْتِرَامُهُ الشَّائِعُ الذَّائِعُ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى إلَّا حَفَّتْ بِهِمْ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا مَجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَنَحْمَدُهُ لِمَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِهِ فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ

التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ انْتَهَى. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: الذِّكْرُ وَالْمَجَالِسُ الْمَذْكُورَاتُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَجْلِسُ الْعِلْمِ وَهِيَ مَجَالِسُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ هَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟ كَيْفَ يَتَوَضَّأُ؟ وَمَا يَجِبُ فِيهِ وَمَا يُسَنُّ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَيَمْتَنِعُ وَكَيْفَ يُصَلِّي؟ وَمَا يَجِبُ فِيهَا وَيُسَنُّ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَيَمْتَنِعُ وَكَيْفَ يَنْكِحُ؟ وَمَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ وَيُسَنُّ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَيَمْتَنِعُ وَكَيْفَ يَبِيعُ؟ وَكَيْفَ يَشْتَرِي؟ وَمَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ وَيُسَنُّ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَيَمْتَنِعُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالنُّطْقِ وَالصَّمْتِ فَيَجِبُ أَنْ تَعْرِفَ الْأَحْكَامَ عَلَيْك فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِهَذَا هِيَ الْإِشَارَةُ، بَلْ التَّصْرِيحُ مِنْ الصَّحَابِيِّ، وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ خَرَجَ إلَى النَّاسِ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ فَنَادَى فِيهِمْ مَا بَالُكُمْ مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَسَّمُ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ أُمَّتِهِ وَأَنْتُمْ مُشْتَغِلُونَ فِي الْأَسْوَاقِ فَتَرَكُوا السُّوقَ وَأَتَوْا إلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدُوا النَّاسَ حِلَقًا حِلَقًا لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَقَالُوا: وَأَيْنَ مَا ذَكَرْت يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: قَالَ: هَذَا مِيرَاثُ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ وَهَا هُوَ ذَا أَوْ كَمَا قَالَ فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الصَّحَابِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُرَادَ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّهِ «إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» ، وَقَالَتْ الصَّحَابَةُ فِي حَقِّهِ: مَا كُنَّا نَرَى إلَّا أَنَّ مَلَكًا عَلَى لِسَانِهِ يَنْطِقُ، وَأَنَّ مَلَكًا مَعَهُ يُسَدِّدُهُ: يَا أَيَّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ رِدَاءً يُحِبُّهُ، فَمَنْ طَلَب بَابًا مِنْ الْعِلْمِ رَدَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرِدَائِهِ فَإِنْ أَذْنَبَ اسْتَعْتَبَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِئَلَّا يَسْلُبَهُ رِدَاءَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ ذَلِكَ الذَّنْبُ حَتَّى يَمُوتَ فَعَلَى هَذَا الْكَلَامِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِهِ بِاللِّسَانِ انْتَهَى. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ وَالْمُرَادُ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ خَاصَّةً بَلْ الْمَقْصُودُ مَعْرِفَةُ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِهِ وَفُرُوعِهِ وَالْمَشْيِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي هُوَ مُحْتَاجٌ

إلَيْهَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا وَبِهَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ بَابِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ إنْ قَامَ بِهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ الْكَثِيرُ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَقَدْ أَتَى بِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَكُونُ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَرْعًا عَنْ هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي حَصَلَ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَبِيبُ الدِّينِ، وَقَدْ عَهِدْنَا فِي مَرَضِ الْبَدَنِ أَنَّ الطَّبِيبَ لَا يُعْطِي الدَّوَاءَ إلَّا بَعْدَ الْحِمْيَةِ فَإِذَا احْتَمَى الْعَلِيلُ حِينَئِذٍ يُعْطِيهِ الطَّبِيبُ الدَّوَاءَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَرْضَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِالْحِمْيَةِ وَيَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ أَخْذِ الدَّوَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِ الْعَلِيلُ فَقَلَّ أَنْ يُعْطِيَهُ الطَّبِيبُ الدَّوَاءَ، وَإِنْ أَعْطَاهُ قَلَّ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، بَلْ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ الْحِمْيَةُ أَوَّلًا وَهِيَ مَجَالِسُ الْعِلْمِ فَيَعْرِفُ مِنْهَا الْإِنْسَانُ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ وَيَجِبُ وَيُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ وَمَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَوْجَبُ فَيَعْمَلُ عَلَى مُقْتَضَى مَا يَحْصُلُ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَصَلَ لَهُ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ فِي الِامْتِثَالِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى الْمَسَائِلِ بِمَا يَأْتِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِفِعْلِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَتَحْصُلُ لَهُ تِلَاوَةُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّرَضِّي عَنْ أَصْحَابِهِ وَمَعْرِفَةُ فَضْلِهِمْ وَمَحَبَّتُهُمْ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ. وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ تِلَاوَةُ كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَحْصُلُ لِقَلْبِهِ الذِّكْرُ أَيْضًا، وَهُوَ الْفِكْرَةُ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَتَفَهُّمِهَا وَيَحْصُلُ لِأَعْضَائِهِ أَيْضًا كَسْبُهَا، وَهُوَ مَا امْتَثَلَتْ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَا اسْتَفَادَتْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى هَذَا الذِّكْرَ لِوَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ وَأَهْلِهِ لِحَمْلِهِ لَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَمَعْرِفَتِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ ذِكْرِهِ هُوَ ثُمَّ يَتَعَدَّى ذَلِكَ لِمَعَارِفِهِ وَإِخْوَانِهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ لِمُعَامَلَتِهِ لَهُمْ

بِذَلِكَ وَتَصَرُّفِهِ مَعَهُمْ بِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ مِمَّنْ خَالَطَهُ أَوْ اقْتَبَسَ مِنْهُ أَوْ رَآهُ أَوْ رَأَى مَنْ رَآهُ ثُمَّ يَتَعَدَّى ذَلِكَ لِلثَّقَلَيْنِ جِنِّهِمْ، وَإِنْسِهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ لِتَعَلُّمِهِ حُكْمَ اللَّهِ فِي الْجَمِيعِ وَتَعْلِيمُ ذَلِكَ مِثْلِ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ» . وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ كَانَ الْعَالِمُ إذَا مَاتَ بَكَى عَلَيْهِ كُلُّ الْخَلْقِ حَتَّى الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكُ فِي الْمَاءِ لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِ فِي تَبْيِينِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ فَيَرْتَفِعُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ لِأَجْلِ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهِمْ بِالْجَهْلِ عَذَابٌ لَهُمْ نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْمَقْتَلِ وَنَهَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ أَحَدٌ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَسْأَلُ الْعُودَ لِمَ خَدَشَ الْعُودَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ كَثِيرٌ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: أَهْلُ الذِّكْرِ فِي الْآيَةِ هُمْ الْعُلَمَاءُ فَهُمْ يُسْأَلُونَ عَنْ النَّوَازِلِ وَبِفَتْوَاهُمْ يُعْبَدُ اللَّهُ وَيُطَاعُ وَيُمْتَثَلُ أَمْرُهُ وَيُجْتَنَبُ نَهْيُهُ فَعَلَى هَذَا فَأَهْلُ الذِّكْرِ هُمْ الْعُلَمَاءُ لِنَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلِهَذَا الْخَيْرِ الْمُتَعَدِّي الْمَذْكُورِ قَدْ وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَمَجْلِسُ عَالِمٍ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ سَنَةٍ لَا يُعْصَى اللَّهُ فِيهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ» . وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي أَنَّ الْخَشْيَةَ لِلَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ لِلَّهِ تَعَالَى هِيَ الْمَقْصُودُ وَالْمَطْلُوبُ وَلَا يُرَادُ الذِّكْرُ إلَّا لِأَجْلِهَا، وَهِيَ لَا تَحْصُلُ إلَّا لِلْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: " إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ " وَإِنَّمَا لِلْحَصْرِ عَلَى مَا قَالَهُ النَّحْوِيُّونَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وَأَيْنَ هَذَا الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَهَذَا الْفَضْلُ كُلُّهُ مِنْ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي أَنَّ الْخَيْرَ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مِنْ الْخَيْرِ الْقَاصِرِ عَلَى الْمَرْءِ نَفْسِهِ فَبَانَ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ الذِّكْرِ وَالْقَاعِدَةُ فِي أَلْفَاظِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ وَأَوْلَى وَأَفْضَلُ بَلْ الِاقْتِصَارُ عَلَى الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ دُونَ عِلْمٍ مَكْرُوهٍ لِمَا جَاءَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ

أَوْحَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ أَظُنُّهُ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (يَا دَاوُد قُلْ لِلظَّالِمِينَ لَا يَذْكُرُونِي فَإِنِّي آلَيْت عَلَى نَفْسِي أَنَّ مَنْ ذَكَرَنِي ذَكَرْته، فَإِنْ هُمْ ذَكَرُونِي ذَكَرْتهمْ بِالْغَضَبِ) . وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَمْ مِنْ قَارِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ يَقْرَأُ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَهُوَ ظَالِمٌ) انْتَهَى وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الظُّلْمَ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ مَدَّ يَدَهُ لِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ الظُّلْمُ أَعَمُّ فَقَدْ يَكُونُ يَظْلِمُ نَفْسَهُ فِي ارْتِكَابِهِ لِلْمُخَالَفَاتِ أَوْ تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ يَتْلُو الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَمَعَانِيهِ، وَذَلِكَ فِي مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَتِلَاوَتِهِ بِاللِّسَانِ فَرْعٌ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ الْمَقْصُودِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الطَّبِيبِ الْأَعْظَمِ وَصَاحِبِ النُّورِ الْأَكْمَلِ إلَّا عَلَى الْأَصْلِ وَالْمَقْصُودِ الَّذِي يَجْمَعُ الْخَيْرَاتِ كُلَّهَا. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَفَا عَنْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا وَسَاقَهَا فِي فَضْلِ اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ مُجْتَمَعِينَ وَفَضْلِ الْقَارِئِينَ وَالسَّامِعِينَ وَبَيَانِ فَضِيلَةِ مَنْ حَضَّهُمْ وَجَمَعَهُمْ عَلَيْهَا وَنَدَبَهُمْ إلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ مُجْتَمَعِينَ مُسْتَحَبَّةٌ لَهُمْ بِالدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ وَأَفْعَالِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ الْمُتَظَافِرَةِ انْتَهَى. وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى مَعْرِفَةِ تَلَقِّي الصَّحَابَةِ لَهَا كَيْفَ تَلَقَّوْهَا مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ بِالْمَقَالِ وَأَفْقَهُ بِالْحَالِ انْتَهَى؟ . وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا يَنُصُّ عَلَى أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا عَلَى مَا تُرْجِمَ عَلَيْهِ أَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ» فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ يَتَرَاسَلُونَ بَيْنَهُمْ صَوْتًا وَاحِدًا، بَلْ ذَلِكَ عَامٌّ هَلْ كَانَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ

بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ ارْتِكَابِهِمْ ذَلِكَ وَنَهْيِهِمْ عَنْهُ. وَقَدْ ذَكَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نُبَذًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ نَفْسِهِ. فَقَالَ وَعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الدِّرَاسَةَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ هِشَامُ بْنُ إسْمَاعِيلَ فِي قُدُومِهِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُد عَنْ الضَّحَّاكِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ أَنْكَرَ هَذِهِ الدِّرَاسَةَ، وَقَالَ: مَا رَأَيْت وَلَا سَمِعْت وَلَا أَدْرَكْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهَا وَعَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: قُلْت لِمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَأَيْت الْقَوْمَ يَجْتَمِعُونَ فَيَقْرَءُونَ جَمِيعًا سُورَةً وَاحِدَةً حَتَّى يَخْتِمُوهَا فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَعَابَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ يَصْنَعُ النَّاسُ إنَّمَا كَانَ يَقْرَأُ الرَّجُلُ عَلَى الْآخَرِ يَعْرِضُهُ فَقَدْ نَقَلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَبَيَّنَهُ، وَقَدْ قَالَ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي تَرْجَمَهَا مَا قَالَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ ثُمَّ نَقَلَ فِعْلَهُمْ عَلَى الضِّدِّ مِمَّا تَرْجَمَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ كَيْفَ كَانَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي الْمَسْجِدِ يُسْمَعُ لَهُمْ فِيهِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ كُلُّ إنْسَانٍ يَذْكُرُ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ وَلَا بِالْقِرَاءَةِ وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ جَمَاعَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ إنْكَارُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَهُمْ وَقَوْلُهُ لَهُمْ: وَاَللَّهِ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا أَوْ لَقَدْ فُقْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: «لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ وَمُحَالٌ فِي حَقِّهِمْ أَنْ يَكُونَ» - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ فَيَجْتَمِعُونَ لِلذِّكْرِ رَافِعِينَ أَصْوَاتَهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ مُبَادَرَةً لِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ وَلَا يُظَنُّ فِيهِمْ غَيْرُ مَا وَصَفَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ عَزَّ مَنْ قَائِلٍ {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي إشْفَاقِهِ مِنْ غَسْلِ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الذُّبَابُ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَقَوْلُهُ: وَاَللَّهِ مَا أَكُونُ بِأَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَ بِدْعَةً فِي الْإِسْلَامِ

أَمَّا قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ» . فَالدِّرَاسَةُ الْمَذْكُورَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى التِّلَاوَةِ صَوْتًا وَاحِدًا مُتَرَاسِلِينَ؛ لِأَنَّ الْمُدَارَسَةَ إنَّمَا تَكُونُ تَلْقِينًا أَوْ عَرْضًا، وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُمْ. أَمَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ بِمَرْوِيٍّ عَنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. أَمَّا خُرُوجُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا مَجْلِسُكُمْ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ، فَهَذَا أَفْصَحُ بِالْمُرَادِ فِي الْجَمِيعِ وَكَيْفَ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ؟ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ جَهْرًا لَمْ يَحْتَجْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى أَنْ يَسْتَفْهِمَهُمْ بَلْ كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِالْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ فَلَمَّا أَنْ اسْتَفْهَمَ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُمْ كَانَ سِرًّا وَكَذَلِكَ جَوَابُهُمْ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِمْ جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى سِرًّا إذْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذِكْرُهُمْ جَهْرًا لَمَا كَانَ لِأَخْبَارِهِمْ بِذَلِكَ مَعْنًى زَائِدًا إذْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَكَانَ جَوَابُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: جَلَسْنَا لِمَا سَمِعْته أَوْ لِمَا رَأَيْته مِنَّا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُمْ يَتَحَاشَوْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ الْجَوَابُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ فَبَانَ وَاتَّضَحَ أَنَّ ذِكْرَهُمْ كَانَ سِرًّا لَا جَهْرًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] أَوْ كَانُوا يَتَذَاكَرُونَ بَيْنَهُمْ مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْإِيمَانِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَتَعْظُمُ عِنْدَهُمْ النِّعَمُ عِنْدَ تَذَكُّرِ ذَلِكَ فَيَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا. أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَتَذَاكَرُونَ بَيْنَهُمْ الْأَشْيَاءَ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ يَسْمَعُهُمْ فَيَتَبَسَّمُ أَحْيَانًا مِنْ حِكَايَاتِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْحَلْقَةُ الَّتِي خَرَجَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَيْهَا قَاعِدَةً لِذَلِكَ الْمَعْنَى فَحَصَلَ لَهُمْ

مَا حَصَلَ مِنْ الْمُبَاهَاةِ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا تَذَاكَرُوا ذَلِكَ فِيهِ يَعْرِفُونَ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ وَلَا بِقُدْرَتِهِمْ فَتَعْظُمُ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنْ هَدَاهُمْ وَأَنْقَذَهُمْ وَأَضَلَّ غَيْرَهُمْ وَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَاهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ كَمَا جَاءَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الذِّكْرَ الْخَفِيَّ يَفْضُلُ الْجَلِيَّ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً وَمُحَالٌ فِي حَقِّهِمْ أَنْ يَتْرُكُوا مَا هُوَ أَفْضَلُ وَيَفْعَلُونَ الْمَفْضُولَ وَمُحَالٌ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَرَاهُمْ يَفْعَلُونَ الْمَفْضُولَ وَلَا يُرْشِدُهُمْ إلَى الْأَفْضَلِ وَلَا يُنَبِّهُهُمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فَرَأَى مَجْلِسَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَرْغَبُونَ إلَيْهِ. وَالثَّانِي: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَسْأَلُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ. أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ، وَإِنَّمَا بُعِثْت مُعَلِّمًا ثُمَّ عَدَلَ إلَيْهِمْ وَجَلَسَ مَعَهُمْ» انْتَهَى. فَقَدْ فَسَّرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الذِّكْرَ الَّذِي كَانَ بِالْحَلْقَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ الدُّعَاءُ، وَالدُّعَاءُ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ لَا يَكُونُ إلَّا جَهْرًا إذْ أَنَّهُمْ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ الدَّاعِي وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ كَيْفِيَّةَ الدُّعَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَحَادِيثُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا نَصٌّ عَلَى الْمُرَادِ الَّذِي تَرْجَمَ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ وَتَقَرَّرَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَرْكُ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيْنَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. رَوَى الدَّارِمِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَنْ اسْتَمَعَ إلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا) . فَانْظُرْ إنْ كَانَ فِي هَذَا شَيْءٌ يَمَسُّ مُرَادَهُ إذْ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَنْ اسْتَمَعَ إلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَصْوَاتٍ جُمْلَةٍ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ بَلْ ذَلِكَ أَعَمُّ، وَإِذَا كَانَ أَعَمَّ فَيُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ وَلَا سَبِيلَ إلَى عُرْفِ غَيْرِهِمْ وَعَادَتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُدَرِّسُ الْقُرْآنَ مَعَهُ نَفَرٌ يَقْرَءُونَ جَمِيعًا، فَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي أَرَادَ فِي تَرْجَمَتِهِ إذْ التَّدْرِيسُ

لَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ حَضَرَ بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ وَتَعْلِيمُهُ لِوَاحِدٍ لَيْسَ إلَّا فِيهِ كَتْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَمَنْ كَتَمَ عِلْمًا أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ عَلَى مَا وَرَدَ، وَهَذَا مُتَعَارَفٌ مُتَعَاهَدٌ مِنْ زَمَانِهِمْ إلَى زَمَانِنَا هَذَا فَعَلَى التَّدْرِيسِ لِلْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ مُجْتَمِعَيْنِ هَذَا فِي آيَةٍ، وَهَذَا فِي أُخْرَى، وَهَذَا فِي سُورَةٍ، وَهَذَا فِي سُورَةٍ أُخْرَى، وَهَذَا فِي حِزْبٍ، وَهَذَا فِي آخَرَ، وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَمَاعَةِ إذَا اجْتَمَعُوا يُرِيدُونَ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ وَلَا يَسَعُهُمْ الْوَقْتُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ هَلْ يَقْرَأُ الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي حِزْبٍ وَاحِدٍ؛ لِعُذْرِ ضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لَا يَقْرَأُ إلَّا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ فَقَالَ: مَرَّةً يَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَرَأَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ بَقِيَ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِكَثْرَتِهِمْ وَضِيقِ الْوَقْتِ. وَمَرَّةً قَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِقَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا فُهِمَ هَذَا النَّقْلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَقُلْ مَالِكٌ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى، وَهُوَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ كَانَ يُدَرِّسُهُمْ الْقُرْآنَ إمَّا تَلْقِينًا أَوْ فِي الْأَلْوَاحِ أَوْ فِي الْمَصَاحِفِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْجَمَاعَةُ يَقْرَءُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ. أَمَّا الْحُفَّاظُ يَجْتَمِعُونَ لِلْقِرَاءَةِ يَقْرَءُونَ مَعًا لِلثَّوَابِ فَلَيْسَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَلَا بِمَرْوِيٍّ عَنْهُمْ. ، وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْأَذَانِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ إذْ إنَّ ذَلِكَ كَانَ يُفْعَلُ عَلَى زَمَانِ مَنْ مَضَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعَلَى رَأْسِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَيُصَرِّحُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنَّ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ

مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» . فَذَكَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا يُمْكِنُ فِيهِ فَالتَّهْجِيرُ ذَكَرَ لَهُ الِاسْتِبَاقَ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِيهِ وَالْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ ذَكَرَ لَهُمَا الْحَبْوَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ رَاحَةٍ وَغَفْلَةٍ وَنَوْمٍ وَكَسَلٍ فَذَكَرَ لَهُ مَا يَلِيقُ بِالْكَسَلِ، وَهُوَ الْحَبْوُ، وَلَمَّا كَانَ الْأَذَانُ قَدْ يَتَعَذَّرُ فِيهِ الِاسْتِبَاقُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَدْ يَأْتُونَ مَعًا دَفْعَةً وَاحِدَةً وَالزَّمَانُ لَا يَسَعُهُمْ لِلْأَذَانِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ لَا يَسَعُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمْ أَوْلَى بِهَذِهِ الطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي الْإِتْيَانِ فَاحْتَاجُوا إلَى الْقُرْعَةِ فِي ذَلِكَ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ. لَكِنْ قَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إذَا تَزَاحَمَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى الْأَذَانِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ وَضَاقَ الْوَقْتُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَجُوزُ الْأَذَانُ جَمَاعَةً وَشَرَطُوا فِي جَوَازِهِ أَنْ لَا يَكُونَ نَسَقًا وَاحِدًا بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمْ فِي الشَّهَادَتَيْنِ وَالْآخَرُ فِي التَّكْبِيرِ وَالْآخَرُ فِي الْحَيْعَلَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْشِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى صَوْتِ صَاحِبِهِ هَذَا الَّذِي أَجَازَهُ عُلَمَاؤُنَا. أَمَّا مَا اعْتَادَهُ الْمُؤَذِّنُونَ الْيَوْمَ مِنْ الْأَذَانِ جَمَاعَةً مُتَرَاسِلِينَ نَسَقًا وَاحِدًا مُجْتَمَعِينَ فَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ جَوَازُهُ وَهَا هُوَ الْيَوْمَ هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَعْمُولُ بِهِ وَمَنْ فَعَلَ غَيْرَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ كَأَنَّهُ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فِي الدِّينِ وَأَتَى بِشَيْءٍ لَا يُعْرَفُ وَلَا يُعْهَدُ. وَكَذَلِكَ فِي الْمُدَارَسَةِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ كَانُوا يَدْرُسُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْفُرُوعَ وَالْأَحْكَامَ مُجْتَمَعِينَ يَتَلَقَّى بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حِفْظَ ذَلِكَ وَفَوَائِدَهُ فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ الْيَوْمَ وَصَارَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْيَوْمَ إلَّا الْعَوَائِدُ الَّتِي ارْتَكَبْنَاهَا وَمَضَتْ عَلَيْهَا عَادَتُنَا وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ تَرَكْنَاهُ وَرَجَعْنَا نَنْقُلُ عَنْ عَوَائِدَ اتَّخَذْنَاهَا لِأَنْفُسِنَا وَاصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا أَنَّهَا سُنَّةُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَلَفِنَا وَخَلْفِنَا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاقِلَ الْمَذْكُورَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ. وَقَدْ نَقَلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِعْلَ السَّلَفِ حِينَ ذَكَرَ لَهُ ابْنُ وَهْبٍ مَا ذَكَرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ

وَعَابَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ يَصْنَعُ النَّاسُ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُنْكِرَ نَقْلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ فِعْلِ السَّلَفِ وَلَا يَرُدُّهُ لِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ ثِقَتِهِ وَأَمَانَتِهِ فِي نَقْلِهِ عَنْهُمْ. أَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ مَذْهَبِهِ، فَهَذَا الَّذِي الْإِنْسَانُ مُخَيَّرٌ فِيهِ إنْ شَاءَ قَلَّدَهُ، وَإِنْ شَاءَ قَلَّدَ غَيْرَهُ. أَمَّا نَقْلُهُ عَنْ السَّلَفِ فَلَيْسَ إلَى مُخَالَفَتِهِ مِنْ سَبِيلٍ إلَّا أَنْ يَتَأَوَّلَ فِعْلَ السَّلَفِ فَذَلِكَ يُمْكِنُ إنْ كَانَ التَّأْوِيلُ تَقْبَلُهُ أَحْوَالُهُمْ وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِكَوْنِ مَذْهَبِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْأَخْذِ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إذْ أَنَّ لَفْظَهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ عَنْهُ مُخْتَصًّا بِبَلَدِهِ يَقُولُ بِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْت أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا بَلَدُهُ عَلَى مَا هُوَ مَوْجُودٌ عَنْهُ فِي لَفْظِهِ بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِ فَلَمَّا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَهْلَ بَلَدِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَيْضًا فَقَدْ نَقَلَ غَيْرُهُ ذَلِكَ وَصَرَّحَ بِهِ وَلَيْسَ بِبَلَدِهِ، بَلْ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ عَامٌّ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ التَّقْلِيدُ فِي أُمُورِ الدِّينِ لِمَنْ سَهَا أَوْ غَفَلَ أَوْ غَلِطَ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ إنَّمَا يَكُونُ لِخَيْرِ الْقُرُونِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالْخَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقِرَاءَةِ جَمَاعَةً وَالذِّكْرِ جَمَاعَةً أَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ فَلَوْ صَحَّ عِنْدَهُ أَوْ نَقَلَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ كَيْفَ يُمْكِنُهُ التَّصْرِيحُ بِكَرَاهِيَتِهِ؟ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهِ أَوْ يَكْرَهَهُ فَلَمَّا أَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي كَرَاهِيَتِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُمْ فِيهِ إلَّا التَّرْكَ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْإِنْكَارَ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ إذَا شَغَلَ عَبْدِي ثَنَاؤُهُ عَلَيَّ أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ

لَأَنْ أَجْلِسَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مِنْ غُدْوَةٍ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) . وَقَالَ: هُمْ يَتَحَلَّقُونَ الْحِلَقَ وَيَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ هَذَا تَفْسِيرُ خَادِمِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَيْفَ يُقَابِلُهُ تَفْسِيرُ مُتَأَخِّرِي هَذَا الزَّمَانِ؟ وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَزَالُ الْفَقِيهُ يُصَلِّي قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ: لَا تَلْقَاهُ إلَّا وَذِكْرُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ يُحِلُّ حَلَالًا وَيُحَرِّمُ حَرَامًا. قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ ظَفِرْت بِهَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُهَيْمِنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَارُونَ وَمُوسَى لَمَّا بَعَثَهُمَا إلَى فِرْعَوْنَ {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42] فَسَمَّى تَبْلِيغَ الرِّسَالَةِ ذِكْرًا فَعَلَى هَذَا يَتَحَقَّقُ أَنَّ حِلَقَ الْعِلْمِ وَمَا يَتَحَاوَرُونَ فِيهِ فِي الْعِلْمِ وَيَتَرَاجَعُونَ مِنْ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ أَنَّهَا حِلَقُ الذِّكْرِ، وَهَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] يَعْنِي أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ. نَقَلَ ذَلِكَ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الذِّكْرِ لَهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالَمِ الْيَوْمَ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَى الْعَوَائِدِ الَّتِي اصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا وَلَا لِكَوْنِ سَلَفِنَا مَضَوْا عَلَيْهَا إذْ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِهَا غَفْلَةٌ أَوْ غَلَطٌ أَوْ سَهْوٌ وَلَكِنْ يُنْظَرُ إلَى الْقُرُونِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، فَإِنْ فَعَلَ هُوَ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا يَرَاهُ مَصْلَحَةً فِي وَقْتِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ وَيَعْتَرِفَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُ مُحْدِثٌ وَيُبَيِّنَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ فَعَلَ ذَلِكَ. قَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ هَذِهِ الْأَحْزَابَ وَيَقْرَؤُهَا جَمَاعَةً وَيَذْكُرُهَا جَمَاعَةً بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ دَأْبُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى مَوْتِهِ وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُخْبِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِضَرُورَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْهِمَمَ قَدْ قَلَّتْ وَقَلَّ فَقِيرٌ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ أَوْ الْعَصْرَ ثُمَّ يَقُومُ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَقْرَأُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ الْمَشْهُودَيْنِ إلَّا أَنَّهُمْ يَقُومُونَ مِنْ مُصَلَّاهُمْ إمَّا لِلنَّوْمِ إنْ كَانَ فِي الصُّبْحِ أَوْ لِلتَّحَدُّثِ فِيمَا لَا يَعْنِي إنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ إنْ سَلِمُوا مِنْ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فَلَمَّا أَنْ تَحَقَّقُوا وُقُوعَ هَذَا الْمَحْذُورِ وَدَعَوْهُ لِهَذَا الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ مِنْ ارْتِكَابِ

الْمَحْذُورَاتِ هَكَذَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى السُّنَنِ وَحِفْظِهَا فَيُنَبِّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا وَيُعَلِّمُهُمْ بِالْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا وَيُخْبِرُهُمْ بِالضَّرُورَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِفِعْلِهَا وَلِأَجْلِ الْغَفْلَةِ عَنْ هَذَا التَّنْبِيهِ وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ الِادِّعَاءِ بِهَا بِأَنَّهَا سُنَّةُ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ تَحْسِينُ ظَنِّهِمْ بِمَشَايِخِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَ، وَأَنَّهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ لَمْ يَرَ خَطَأَ شَيْخِهِ صَوَابًا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ فَيُحْمَلُ لِأَجْلِ هَذَا مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا فَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ بِذِكْرِهِ لِذَلِكَ وَتَعْلِيلِهِ؛ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا. وَقَدْ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ الْقُدْوَةِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الْمُحَقِّقِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّمَّاطِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَكَى لِي ذَلِكَ عَنْهُ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ كَانَ عَارِفًا بِالْفِقْهِ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً وَكَانَ الْفُقَرَاءُ عِنْدَهُ فِي مَجَالِسِهِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ لَيْسَ لَهُمْ شُغْلٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا الْبَحْثَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟ فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ وَلَمْ يَرْجِعْ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فِيهِ يَأْتُونَ إلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ عَنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُرِيدُونَهَا فَيَأْمُرُهُمْ بِالْخُرُوجِ إلَى الْفُقَهَاءِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْهَا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُحِلْهُمْ عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ أَعْرَفُ النَّاسِ بِالنَّوَازِلِ الَّتِي كَانَتْ تَنْزِلُ بِهِمْ فَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَافُ أَنْ أُفْتِيَهُمْ فَيَقَعَ لَهُمْ الْخَلَلُ بِسَبَبِ أَنِّي إنْ مِتُّ بَقِيَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ مَوْقُوفًا عَلَيَّ لَا يَعْرِفُونَ أَمْرَ دِينِهِمْ إلَّا مِنْ جِهَتِي فَيَقُولُونَ: قَالَ الشَّيْخُ كَذَا وَذَهَبَ الشَّيْخُ إلَى كَذَا، وَكَانَ طَرِيقُ الشَّيْخِ كَذَا. فَيَظُنُّونَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ خُرُوجُهَا مِنْ قِبَلِ الْمَشَايِخِ فَيُرْسِلُهُمْ إلَى الْفُقَهَاءِ لِسَدِّ هَذِهِ الثُّلْمَةِ وَلِكَيْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا أَصْلُهُ وَعِمَادُهُ وَاَلَّذِي يَقَعُ بِهِ الْحَلُّ وَالرَّبْطُ عِنْدَنَا هُوَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَرْعٌ عَنْ ذَلِكَ فَيَنْتَظِمُ الْحَالُ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى مُحَافَظَةِ هَذَا السَّيِّدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ عَلَى مَنْصِبِ الشَّرِيعَةِ كَيْفَ تَرَكَ أَنْ يُجِيبَ الْفُقَرَاءَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ؟ لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَانَ

مَعْرُوفًا وَمَنْسُوبًا إلَى تَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ وَتَسْلِيكِهِمْ وَتَرَقِّيهمْ فِي الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمُنَازَلَاتِ خَافَ أَنْ يُنْسَبَ مَا يُفْتِي بِهِ مِنْ الْفِقْهِ إلَى مَا كَانَ بِصَدَدِهِ مِنْ التَّرْبِيَةِ فَتَرَكَ الْمَنْدُوبَ، وَهُوَ الْفَتْوَى فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ تَحَفُّظًا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُنْسَبَ شَيْءٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ الَّذِي عَنْهُ يُؤْخَذُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَحَفَّظَ مِنْهُ هَذَا السَّيِّدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ الَّذِي أَفْسَدَ الْيَوْمَ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ تَجِدُ أَحَدَهُمْ يَعْمَلُ الْبِدْعَةَ وَيَتَهَاوَنُ بِهَا فَتَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَوْ تُرْشِدُهُ إلَى التَّرْكِ فَيَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ لِكَوْنِهِ رَأَى شَيْخَهُ وَمَنْ يَعْتَقِدُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ: كَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا أَوْ بِدْعَةً. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي فُلَانٌ يَعْمَلُهَا؟ فَيَسْتَدِلُّ بِفِعْلِ سَلَفِهِ وَخَلْفِهِ وَشُيُوخِهِ عَلَى جَوَازِ تِلْكَ الْبِدْعَةِ، وَأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فَصَارَ فِعْلُ الْمَشَايِخِ حُجَّةً عَلَى مَا تَقَرَّرَ بِأَيْدِينَا مِنْ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ وَلَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ وَلَا مِمَّنْ شَهِدَ لَهُمْ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مَرْدُودٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ لَوَقَعَ الْخَلَلُ فِي الشَّرِيعَةِ بِسَبَبِهِ فَأَيٌّ مَنْ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا وَفَعَلَهُ وَأَيٌّ مَنْ كَرِهَ شَيْئًا وَتَرَكَهُ يَقَعُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ؟ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْصًا مَعَاذَ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ بِأَيْدِينَا الْيَوْمَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَقَدْ عَصَمَ اللَّهُ هَذِهِ الْمِلَّةَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِنْ التَّبْدِيلِ فَكُلُّ مَنْ أَتَى بِشَيْءٍ مُخَالِفٍ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مُتَقَدِّمُو هَذِهِ الْأُمَّةِ وَسَلَفُهَا فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ مَحْجُوجٌ بِفِعْلِهِمْ وَبِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَذْهَبَ شَرِيعَةَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْنِي التَّقْلِيدَ لِأَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ دُونَ دَلِيلٍ يَدُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صَارَ أَمْرُهُمْ أَنَّهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مِنْ الْأَحَدِ إلَى الْأَحَدِ يُجَدِّدُ لَهُمْ الْقِسِّيسُ شَرِيعَةً جَدِيدَةً بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ لَهُمْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي وَقْتِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيه نَظَرُهُ وَتَسْدِيدُهُ عَلَى زَعْمِهِ فَتَجِدُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ كَنَائِسِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ لَقَدْ جَدَّدَ الْيَوْمَ شَرِيعَةً مَلِيحَةً، وَقَدْ عَصَمَ اللَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الْعُضَالِ فَإِنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ مَغْفُولٌ

عَنْهُ وَقَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْهُ إلَّا مَنْ كَانَ مُرَاقِبًا لَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ يَزِنُهَا عَلَى أَفْعَالِ السَّلَفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَقْتَدِيَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ إلَّا بِمَا كَانَ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِدَاءِ بِالْمُتَقَدِّمِينَ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِلَّا فَبِالسُّؤَالِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَّبِعِينَ مِنْهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيَتَبَيَّنُ لَهُ. أَمَّا إنْ نَظَرَ إلَى أَفْعَالِهِمْ وَوَزَنَهَا بِغَرَضٍ غَيْرِ هَذَا فَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّشَاغُلِ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَالْبَحْثِ عَنْ مَثَالِبِهِمْ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ لَكِنْ نَذْكُرُ أَوَّلًا مَا بَقِيَ مِنْ الْفَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا النَّاقِلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إجَازَةِ ذَلِكَ. فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ نَقْلِهِ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي نَقَلَهَا فِي ذَلِكَ: وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ مَا ذُكِرَ مِنْ إنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فَعَلَ فَلَمَّا أَنْ نَقَلَ قَوْلَ مَالِكٍ لِابْنِ وَهْبٍ، وَأَنَّهُ عَابَ مَا ذُكِرَ لَهُ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَكَرِهَهُ، وَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ يَصْنَعُ النَّاسُ فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ نَقَلَ هَذَا عَنْهُ:، فَهَذَا الْإِنْكَارُ مِنْهُ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلْفُ وَلِمَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ فَهُوَ مَتْرُوكٌ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ اسْتِحْبَابِهَا انْتَهَى. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى هَذِهِ السُّنَّةِ مِنْ هَذَا النَّاقِلِ مَعَ حِذْقِهِ وَحِفْظِهِ كَيْفَ أَتَى بِنَقْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ وَإِعَابَتِهِ؟ وَلَمْ يُرَدَّ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ وَلَا بِنَقْلٍ عَنْ غَيْرِهِمْ بِضِدِّ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَأْتِ إلَّا بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَا مِنْ فِعْلِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَقَابَلَ مَا نَقَلَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بِقَوْلِهِ: أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ فِعْلَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ وَهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا مِنْ مَذْهَبِهِمْ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ بَلْ نَقَلُوا عَنْ سَلَفِهِمْ وَلَمْ يُقَابِلْهُمْ بِأَنَّ غَيْرَهُمْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُقَلَّدِينَ. وَنَقْلُ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يَرُدُّهُ النَّقْلُ عَمَّنْ هُوَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْهُمْ وَنَقْلُهُمْ يَرُدُّ كُلَّ مَا تُرْجِمَ عَلَيْهِ وَقَرَّرَهُ وَيُبَيِّنُ أَنَّ فِعْلَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ غَيْرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَتَبَيَّنْ ذَلِكَ وَتَفَهَّمْهُ يَظْهَرْ لَك الصَّوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا. أَمَّا فَضِيلَةُ جَمْعِهِمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ

فَفِيهَا نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] انْتَهَى. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ هَلْ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَتَى بِهِ مَا يَمَسُّ مُرَادَهُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ إلَّا أَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ وَفِي نَفْسِهِ أَنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عَهِدَ عَلَيْهِ مَنْ أَدْرَكَ وَمَضَوْا عَلَيْهِ فَظَنَّ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ عَنْهُمْ فِي الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ أَنَّهُ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ الِاجْتِمَاعِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ فَأَتَى بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ إلَى الِاتِّبَاعِ وَالْقُرْبِ فَجَعَلَهُ فِيمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَا هَذَا عَلَيْك بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَآكَدُ مِنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ اتِّبَاعُ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ أَعْرَفُ بِالسُّنَّةِ مِنَّا هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مَعَ خَيْرِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيُبَيِّنُ السَّبَبَ فِي فِعْلِهِ وَالضَّرُورَةَ الدَّاعِيَةَ إلَيْهِ مَخَافَةً مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْمُتَقَدِّمِينَ مَا لَمْ يَفْعَلُوا وَأَنْ يَخْتَلِطَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُ الْمُحْدِثِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَذْهَبُ إلَى غَيْرِ مَا كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا فَكَانَ يَقُولُ إنَّ بَطَالَةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالنَّوْمِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ جَهْرًا إنْ كَانَ الذِّكْرُ جَهْرًا سَالِمًا مِنْ الدَّسَائِسِ الْمَحْذُورَةِ الْمُتَوَقَّعَةِ فِيهِ فَإِنْ دَخَلَهُ شَيْءٌ مِنْ الدَّسَائِسِ فَهُوَ الْخُسْرَانُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخُسْرَانِ وَكَانَ يُبَيِّنُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَنَّ «الذِّكْرَ الْخَفِيَّ يَفْضُلُ الْجَلِيَّ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً» . وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ» وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ» وَذَكَرَ فِيهِمْ «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» وَمِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَنَا

وَعُلِمَ أَنَّ التَّاجِرَ إذَا وَجَدَ الرِّبْحَ فِي سِلْعَةٍ سَبْعِينَ دِينَارًا وَأُخْرَى وَاحِدًا أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا فِيهِ رِبْحُ سَبْعِينَ وَلَا يَأْخُذُ السِّلْعَةَ الَّتِي يَحْصُلُ لَهُ فِيهَا الدِّينَارُ الْوَاحِدُ فَإِنْ عَكَسَ التَّاجِرُ ذَلِكَ وَأَخَذَ السِّلْعَةَ الَّتِي يَحْصُلُ فِيهَا الدِّينَارُ الْوَاحِدُ وَتَرَكَ السِّلْعَةَ الَّتِي يَأْخُذُ فِيهَا السَّبْعِينَ قُلْنَا عَنْهُ تَاجِرٌ سَفِيهٌ وَالتَّاجِرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْمُؤْمِنُ لِأَنَّهُ يَتَّجِرُ فِيمَا يَبْقَى وَغَيْرُهُ يَتَّجِرُ فِيمَا يَفْنَى، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَقْدُمُ عَلَى فِعْلٍ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ وَاحِدٌ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ سَبْعُونَ هَذَا سَفَهٌ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذِهِ التِّجَارَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّاسَ إنَّمَا تَفَاضَلُوا بِحَسَبِ نِيَّاتِهِمْ وَمُحَاوِلَةِ أَعْمَالِهِمْ وَتَنْمِيَتِهَا فَيَحْتَاجُ عَلَى هَذَا أَنْ يُبَادِرَ إلَى تِلَاوَةِ السِّرِّ وَالذِّكْرِ فِي السِّرِّ إذْ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ بِسَبْعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى سِرًّا فَلَوْ ذَكَرَ اللَّهَ مَثَلًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ بِسَبْعِينَ فَتَكُونُ الثَّلَاثُ تَسْبِيحَاتٍ بِمِائَتَيْ حَسَنَةٍ وَعَشْرِ حَسَنَاتٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْفِقَ رَأْسَهُ فِي نَوْمِهِ مِنْ وَقْتِهِ ذَلِكَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مَرَّاتٍ وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَفِيقَ عَلَى نَفْسِهِ قَلِيلًا يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَذْكُرُ اللَّهَ مَا قَدَرَ لَهُ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِسَبْعِينَ ثُمَّ يَغْلِبُ عَلَيْهِ النَّوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَامَ، وَهُوَ مُنْكَسِرُ الْخَاطِرِ يَرَى نَفْسَهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِشَيْءٍ وَيَرَى أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ غَنِمَ وَحَصَّلَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمَشْهُورِ خَيْرًا، وَهُوَ فِي غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ فَيَحْصُلُ لَهُ التَّذَلُّلُ وَالِانْكِسَارُ فَيَكُونُ مَا تَحَصَّلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا فَاتَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إخْبَارًا «عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ اُطْلُبُونِي عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي» . هَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ لَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَّا الْأَفْذَاذُ فَإِنْ زَادَ عَلَى هَذَا بِأَنْ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ فَهُوَ أَعْظَمُ وَأَعْلَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ» . وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ دُعَاءَ الْأَخِ لِأَخِيهِ فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابٌ هَذَا وَأَخُوهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنْ الْخَطَأِ

وَلَا مِنْ الزَّلَلِ فَمَا بَالُك بِاسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ رِضًا مِمَّنْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي وَصْفِهِمْ {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] فَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ إلَى أَنْ يَقُومَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مُصَلَّاهُ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَعْنَاهُ «أَنَّ مَنْ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَيُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى كَعُمْرَةٍ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» وَمَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ أَيَبْقَى عَلَيْهِ ذَنْبٌ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مَا هَذَا لَفْظُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى يُسَبِّحَ رَكْعَتَيْ الضُّحَى لَا يَقُولُ إلَّا خَيْرًا غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ» انْتَهَى. فَاجْتَمَعَ اسْتِغْفَارُ الْمَلَائِكَةِ مَعَ بَرَكَةِ الذِّكْرِ الْخَفِيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَعَ رَاحَةِ الْبَدَنِ فِي الْمَشْيِ أَوْ رَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّعَبِ مَعَ التَّحَقُّقِ بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَلْحَقُهُ فِي الذِّكْرِ بِالْجَهْرِ مَعَ تَرْكِ التَّعَبِ وَمَعَ حُصُولِ فَضِيلَةِ تَرْكِ الْكَلَامِ لِمَا نَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لَهُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْكَلَامَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَقْبَلَ عَلَى الذِّكْرِ أُجِرَ عَلَى الذِّكْرِ، وَعَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ وَإِنْ تَرَكَ الْكَلَامَ وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ أُجِرَ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا إذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ نَامَ مِنْ حِينِ صَلَاتِهِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَوْ فِي أَكْثَرِهَا مُتَيَقِّظًا مُقْبِلًا عَلَى التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأُجُورِ بِتَعْظِيمِ النِّيَّةِ وَالْأَعْمَالِ وَمُحَاوَلَةِ ذَلِكَ وَتَنْمِيَتِهِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهَا إلَّا الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ صَلَّى الصُّبْحَ وَقَامَ مِنْ حِينِهِ مِنْ مُصَلَّاهُ حَتَّى لَا تَجِدُ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ سَبِيلًا إلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ جَهْرًا فَقَدْ يَتْعَبُ مِمَّا يَرْفَعُ صَوْتُهُ، وَهُوَ بَعِيدٌ لَمْ يَصِلْ إلَى الْمِائَتَيْنِ وَالْعَشَرَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي الثَّلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ

فَتَطْلُعُ الشَّمْسُ عَلَى هَذَا، وَهُوَ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ إلَى أَجْرِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِأَجْلِ تَضْعِيفِ الْأُجُورِ لِذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَهَذَا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ كُلِّ مَا يُكْرَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ رِيَاءٌ أَوْ سُمْعَةٌ أَوْ حُظْوَةٌ عِنْدَ شَيْخِهِ أَوْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْحَاضِرِينَ أَوْ يُقَالُ عَنْهُ أَوْ يُشَارُ إلَيْهِ أَوْ تُقَبَّلُ يَدُهُ أَوْ يُثْنَى عَلَيْهِ وَهَذَا أَيْضًا إذَا سَلِمَ مِنْ الْعَجَبِ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ عَظِيمٍ بِسَبَبِ تَعْمِيرِهِ لِذَلِكَ الْوَقْتِ بِالذِّكْرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَالْبَطَالَةُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَجَبِ. وَهَذَا أَيْضًا إذَا سَلِمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ مُجْتَمَعِينَ عَلَى ذَلِكَ صَوْتًا وَاحِدًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الَّذِي هُوَ بَابُ الْجَوَازِ إلَى بَابِ هَلْ يُكْرَهُ أَوْ يَجُوزُ لِأَنَّ الذِّكْرَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ اخْتَلَفَ الشُّيُوخُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيهِ هَلْ يُعْمَلُ رَعْيًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ لِكَيْ يَسْلَمُوا مِنْ الْبَطَالَةِ وَالْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي أَوْ لَا يُعْمَلُ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى فِعْلِهِ رَعْيًا لِلْمَصْلَحَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى مَنْعِهِ لِأَنَّ تِلْكَ صُورَةٌ لَمْ تَكُنْ لِمَنْ مَضَى وَكَفَى بِهَا وَلَوْ كَانَ فِيهَا التَّنْشِيطُ وَغَيْرُهُ إذْ أَنَّهُ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ مُخَالِفٌ لِلِاقْتِدَاءِ. أَلَا تَرَى إلَى جَوَابِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعَامِلِهِ حِينَ كَتَبَ لَهُ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ كَثُرَ عِنْدَنَا شُرْبُ الْخَمْرِ وَكَثُرَتْ الْحُدُودُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَفَتَرَى أَنْ أَزِيدَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فَكَتَبَ إلَيْهِ أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَحُدَّهُ فَإِنْ شَرِبَ فَحُدَّهُ فَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فَلَا رَدَّهُ اللَّهُ أَوْ كَمَا قَالَ وَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ النَّوْمِ وَالْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي بِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ وَمَجَالِسِ الْعِلْمِ فَلَا رَدَّهُ اللَّهُ وَلَوْ سُومِحَ فِي هَذَا لَذَهَبَ الدِّينُ مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ لِأَنَّهُ إذَا وَجَدْنَا مَنْ لَمْ يَرْجِعْ بِالسُّنَّةِ أَحْدَثْنَا لَهُ فِي الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهِمَا شَيْئًا لِيَرْجِعَ بِهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَفِي هَذَا ذَهَابُ الدِّينِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْ عُمَرَ حَيْثُ سَدَّ هَذَا الْبَابَ فَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ الْبَابِ الَّذِي فَتَحَ لَهُ الشَّرْعُ فَلَا حَاجَةَ بِهِ. ثُمَّ نَرْجِعُ لِمَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ

وَهَذَا أَيْضًا إذَا سَلِمَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ مِنْ تَقْطِيعِ الْآيَاتِ لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ نَفَسُهُ فِي آيَةٍ فَيَتَنَفَّسُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُتِمَّ الْآيَةَ فَيَجِدُ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ مَعَهُ قَدْ سَبَقُوهُ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إلَى أَنْ يَقْرَأَ مَا فَاتَهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهُمْ حَرْفًا بِحَرْفٍ فَيَحْتَاجُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضَ آيَاتٍ وَيَتْرُكَ أُخَرَ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ أُنْزِلَ وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنْ التَّخْلِيطِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ تَخْتَلِطُ آيَةُ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ وَآيَةُ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ لَا يَقْدِرُ مَنْ يَقْرَأُ مَعَ جَمَاعَةٍ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى غَيْرِ مَا وُصِفَ وَلَوْ احْتَرَزَ مَا عَسَى، وَهَذَا أَيْضًا إذْ سَلِمَ مِنْ الْجَهْرِ بِذَلِكَ إلَى أَنْ يَخْرُجَ بِهِ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ الْجَهْرُ لَكِنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يَعْقِرُ حَلْقَهُ فَإِذَا كَرِهُوا ذَلِكَ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ الْجَهْرُ فَمَا بَالُك فِيمَا شُرِعَ فِيهِ الْإِسْرَارُ وَالْإِخْفَاءُ وَكَثِيرًا مَا تَجِدُ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَقْعُدُونَ لِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْأَحْزَابِ تَنْعَقِرُ أَصْوَاتُهُمْ لِشِدَّةِ انْزِعَاجِهِمْ فِي جَهْرِهِمْ وَيَخْرُجُونَ بِذَلِكَ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ وَهَذَا أَيْضًا مُشَاهَدٌ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ بَاشَرَهُمْ وَهَذَا أَيْضًا إذَا سَلِمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَسْجِدٍ فَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ النَّهْيِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَوَجَدَهُمْ يَتَنَفَّلُونَ وَيَجْهَرُونَ بِالْقُرْآنِ فَقَالَ لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ تَبَعٌ لِلصَّلَاةِ مَا لَمْ تَضُرَّ التِّلَاوَةُ بِالصَّلَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لَهَا فَإِذَا أَضَرَّتْ بِهَا مُنِعَتْ وَقَلَّ أَنْ يَخْلُوَ مَسْجِدٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَإِنْ خَلَتْ فَهِيَ مُعَرَّضَةٌ لِلصَّلَاةِ فَإِذَا دَخَلَ الدَّاخِلُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِتَحِيَّتِهِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ لِفَرِيضَةٍ فَإِنْ دَخَلَ لِفَرِيضَةٍ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى فَعَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ فَالدَّاخِلُ إلَى الْمَسْجِدِ يَجِدُ التَّشْوِيشَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى صَلَاتِهِ فَيُمْنَعُ كُلُّ مَا يُشَوِّشُ عَلَى الْمُصَلِّي. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي

قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ شَيْءٌ يَتَشَوَّشُ مِنْهُ فَفِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِنَصِّ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ أَوْلَادٌ وَعَائِلَةٌ يَشْتَغِلُ خَاطِرُهُ بِحَدِيثِهِمْ وَكَلَامِهِمْ فَفِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ مَفْضُولًا لِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِخَاطِرِهِ وَهَمِّهِ وَتَحْصِيلُ جَمْعِ خَاطِرِهِ وَهَمِّهِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ فَضِيلَةِ التَّنَفُّلِ فِي الْبَيْتِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِذَا جَاءَ الْإِنْسَانُ إلَى الْمَسْجِدِ لِيُحَصِّلَ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً فِي بَيْتِهِ فَيَجِدُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ مَا هُوَ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا فِي بَيْتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . وَقَدْ وَرَدَ «لَأَنْ تَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِقِرَابِ الْأَرْضِ ذُنُوبًا فِيمَا بَيْنَك وَبَيْنَهُ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَلْقَاهُ بِتَبِعَةٍ مِنْ التَّبِعَاتِ» لِأَنَّك إذَا لَقِيته بِذُنُوبٍ بَيْنَك وَبَيْنَهُ تَلْقَاهُ غَنِيًّا كَرِيمًا مُتَفَضِّلًا مَنَّانًا لَا تَضُرُّهُ السَّيِّئَاتُ وَلَا تَنْفَعُهُ الْحَسَنَاتُ وَلَا يُنْقِصُهُ الْعَطَاءُ غَنِيًّا عَنْ عَذَابِك غَيْرَ مُحْتَاجٍ لِحَسَنَاتِك، وَإِذَا لَقِيته بِشَيْءٍ مِنْ التَّبَعَاتِ فَصَاحِبُ التَّبَعَاتِ فَقِيرٌ مُضْطَرٌّ شَحِيحٌ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ فَزِعٌ مَذْعُورٌ مُشْفِقٌ مِنْ عَدَمِ الْخَلَاصِ يَتَمَنَّى أَنْ لَوْ وَجَدَ حَقًّا لَهُ عَلَى أَبَوَيْهِ أَوْ بَنِيهِ لَعَلَّهُ يَتَخَلَّصُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَإِذَا كَانَ لَهُ قِبَلَ أَحَدٍ حَقٌّ قَلَّ أَنْ يَتْرُكَهُ وَلَوْ كَانَ ذَرَّةً وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يُعْلَمُ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَعْنِي مَنْعَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ وُجُودِ مُصَلٍّ يَقَعُ لَهُ التَّشْوِيشُ بِسَبَبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى أَوْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ مِنْ صَلَاةِ الْجَهْرِ أَنَّهُ إذَا قَامَ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَإِنَّهُ يَخْفِضُ صَوْتَهُ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ فَيَجْهَرُ فِي ذَلِكَ بِأَقَلَّ مَرَاتِبِ الْجَهْرِ، وَهُوَ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه خِيفَةَ أَنْ يُشَوِّشَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسْبُوقِينَ، هَذَا وَهُوَ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ فَمَا بَالُك بِرَفْعِ صَوْتِ مَنْ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ

يُمْنَعَ مِنْهُ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْكَلَامُ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ ذِكْرِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَذِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ تَأَذَّتْ الْمَلَائِكَةُ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ جَهْرًا أَوْ جَمَاعَةً يَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ لِنَصِّ الْعُلَمَاءِ وَفِعْلِهِمْ، وَهُوَ أَخْذُ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - سُئِلَ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ عِلْمٌ وَرَفْعُ صَوْتٍ فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ عِلْمٌ فِيهِ رَفْعُ صَوْتٍ، وَقَدْ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ كَأَخِي السِّرَارِ فَإِذَا كَانَ مَجْلِسُ عِلْمٍ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّبَاعِ فَلَيْسَ فِيهِ رَفْعُ صَوْتٍ فَإِنْ وُجِدَ رَفْعُ صَوْتٍ مُنِعَ مِنْهُ وَأُخْرِجَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ «مَسْجِدُنَا هَذَا لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ» . وَهُوَ عَامٌّ وَالضَّرَرُ وَاقِعٌ فَيُمْنَعُ، وَإِذَا كَانَ فِي الذِّكْرِ بِالْجَهْرِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ وَإِنْ سَلِمَ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا فَقَدْ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا الْبَاقُونَ وَالْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فَإِذَا سَلِمْت أَنْتَ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ لِحُسْنِ نِيَّتِك وَقَصْدِك الظَّاهِرِ فَيُحْتَاجُ أَنْ تُرَاعِيَ حَقَّ أَخِيك الْمُؤْمِنِ وَجَلِيسِك «إنَّ اللَّهَ يَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ» فَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الدَّسَائِسِ وَغَيْرِهَا فَيَقَعُ فِي الْمَحْذُورِ وَتَكُونُ أَنْتَ بِنِيَّتِك الصَّالِحَةِ فِي هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي أَصْلَحْته سَبَبًا لِأَخِيك وَجَلِيسِك وَشَرِيكِك فِي ذِكْرِ رَبِّك لِعَدَمِ الْعِلْمِ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَهُ وَحَصَلَتْ لَهُ حَتَّى وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ نَامَ عَلَى الْحَالَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ذَكَرَ اللَّهَ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ أَنَّهُ فِي أَمَانٍ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا وَغَيْرُهُ مُعَرَّضٌ لَهَا، وَقَدْ قِيلَ لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ جَهْرًا وَجَمَاعَةً فَالْجَوَابُ أَنَّ

الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوَجْهَيْنِ وَجَاءَ فِعْلُ السَّلَفِ بِأَحَدِهِمَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ. أَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ يَقُولُ بِصَوْتِهِ الْأَعْلَى لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» . وَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأُمِّ حَيْثُ قَالَ وَاخْتَارَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَنْ يَذْكُرَا اللَّهَ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ الصَّلَاةِ وَيُخْفِيَا الذِّكْرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا يَجِبُ أَنْ يُتَعَلَّمَ مِنْهُ فَيَجْهَرُ حَتَّى يَرَى أَنَّهُ قَدْ تُعُلِّمَ مِنْهُ ثُمَّ يُسِرُّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالدُّعَاءِ لَا تَجْهَرْ تَرْفَعْ وَلَا تُخَافِتْ حَتَّى لَا تُسْمِعَ نَفْسَك وَأَحْسَبُ مَا رَوَى ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ تَهْلِيلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ تَكْبِيرِهِ كَمَا رَوَيْنَاهُ إنَّمَا جَهَرَ قَلِيلًا لِيَتَعَلَّمَ النَّاسُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي كَتَبْنَاهَا مَعَ هَذَا وَغَيْرِهَا لَيْسَ يُذْكَرُ فِيهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ تَهْلِيلٌ وَلَا تَكْبِيرٌ، وَقَدْ يُذْكَرُ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِمَا وَصَفْت وَيُذْكَرُ انْصِرَافُهُ بِلَا ذِكْرٍ، وَقَدْ ذَكَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مُكْثَهُ وَلَمْ تَذْكُرْ جَهْرًا وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَمْ يَمْكُثْ إلَّا لِيَذْكُرَ ذِكْرًا غَيْرَ جَهْرٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ وَمَا مِثْلُ ذَا قُلْت مِثْلُ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى الْمِنْبَرِ يَكُونُ قِيَامُهُ وَرُكُوعُهُ عَلَيْهِ وَيُقَهْقِرُ حَتَّى يَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ وَأَكْثَرُ عُمْرِهِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ مِمَّا رَأَى أَحَبَّ أَنْ يُعَلِّمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهُ كَيْفَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالرَّفْعُ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَعَةً انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ. فَهَذَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ

التَّعْلِيمِ فَإِنْ حَصَلَ التَّعْلِيمُ أَمْسَكَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يُعْهَدُ الْيَوْمَ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ جَهْرًا وَجَمَاعَةً فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ التَّعْلِيمَ بَلْ الثَّوَابَ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ الْمُجَاهِدِينَ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ إلَى الْآنَ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُجَاهِدِينَ إذَا صَلَّوْا الْخَمْسَ فَيُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَنْ يُكَبِّرُوا جَهْرًا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ لِيُرْهِبُوا الْعَدُوَّ قَالَ فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَنْسُوخًا بِالْإِجْمَاعِ قَالَ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ بِهِ وَالْإِجْمَاعُ لَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِ انْتَهَى، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَيُسْتَحْسَنُ لِيُرْهِبُوا الْعَدُوَّ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَغَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ. أَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي دَاوُد (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ ضَجِيجَ النَّاسِ بِالْمَسْجِدِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ فَقَالَ طُوبَى لِهَؤُلَاءِ كَانُوا أَحَبَّ النَّاسِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فَهَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ الْجَهْرُ لَيْسَ إلَّا وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْقِرَاءَةُ جَمَاعَةً عَلَى مَا يُعْهَدُ الْيَوْمَ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَعَادَتَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ وَمَا رُوِيَ عَنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى عَادَتِهِمْ وَعَادَتُهُمْ إنَّمَا كَانَتْ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ التَّلْقِين أَوْ الْعَرْضِ فَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَلَقَّنُونَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ يَعْرِضُونَ أَوْ يَدْرُسُونَ كُلُّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى شَيْخِهِ أَوْ عَلَى رَفِيقِهِ وَجَلِيسِهِ فَسَمِعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ضَجَّتَهُمْ فَذَكَرَ مَا ذَكَرَ فِي حَقِّهِمْ وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى فَضِيلَةِ مَجْلِسِ الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَجَالِسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَمُدَارَسَتَهُ هُوَ أَصْلُ الْعُلُومِ كُلِّهَا، وَهُوَ مَعْدِنُ الْجَمِيعِ فَإِذَا حُفِظَ فَقَدْ حُفِظَ عَلَى النَّاسِ أَصْلُ دِينِهِمْ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانُوا أَحَبَّ النَّاسِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ اسْتَدَلَّ النَّاقِلُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى إبَاحَةِ الْقُرْآنِ جَمَاعَةً وَجَهْرًا أَيْضًا بِأَنْ قَالَ وَفِي إثْبَاتِ الْجَهْرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. أَمَّا الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فَأَكْثَرُ

مِنْ أَنْ تُحْصَرَ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ. فَهَذَا الِاسْتِدْلَال مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيِّنٌ فِي الْجَهْرِ لَيْسَ إلَّا دُونَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مَا يُعْهَدُ الْيَوْمَ مِنْ الْجَمْعِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَيْضًا رَاجِعٌ إلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي رُوِيَ عَنْهُمْ فِيهَا الْجَهْرُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرْوَ عَنْهُمْ ذَلِكَ مُطْلَقًا بَلْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَكَانُوا يَجْهَرُونَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ قَدْ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَتَوَاعَدُونَ لِضَرُورَاتِهِمْ لِقِيَامِ الْقُرَّاءِ بِاللَّيْلِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ فَيَقْرَأُ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِكَيْ يَسْمَعُوا كَلَامَ رَبِّهِمْ وَكَذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِمْ بِالْحَجِّ وَتَلْبِيَتِهِمْ طُولَ إحْرَامِهِمْ وَذِكْرِهِمْ بَعْدَ الْإِحْلَالِ مِنْ إحْرَامِهِمْ بِمِنًى كَانُوا يَسْمَعُونَ تَكْبِيرَ أَهْلِ مِنًى وَهُمْ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ اتِّصَالِ التَّكْبِيرِ وَكَثْرَةِ النَّاسِ وَكَذَلِكَ فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ وَفِي تَعَلُّمِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ وَفِي إقْرَائِهِمْ وَفِي مُذَاكَرَتِهِمْ وَبَحْثِهِمْ وَكَذَلِكَ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِمَامِ تَعْلِيمَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُشْبِهُ مَا ذُكِرَ مِنْ جَهْرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ مَعْلُومَةٍ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ عَنْهُمْ مِنْ الْجَهْرِ عَلَى مَا وَرَدَ عَنْهُمْ، وَعَلَى مَا تَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ عَنْهُمْ، وَعَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَكُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْك مِمَّا يُشْبِهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْهَا إنْ رُجِعَ إلَى نَقْلِ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ يَتَأَوَّلُ الْأَحَادِيثَ بِحَسَبِ فَهْمِهِ وَيَتْرُكُ تَأْوِيلَ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ فَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ كُلِّهِ وَزُبْدَتِهِ وَفَائِدَتِهِ هُوَ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْفَضَائِلِ وَالْخَيْرَاتِ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ فَالْمُرَادُ بِهَا هَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي جَلَسَهُ هَذَا الْعَالِمُ لِتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَذْكَارِ دَاخِلٌ مُنْطَوٍ تَحْتَ فَضِيلَةِ هَذَا الْمَجْلِسِ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْتَرِمَهُ وَيُعَظِّمَهُ إذْ أَنَّهُ أَعْظَمُ شَعَائِرِ الدِّينِ وَأَزْكَاهَا وَأَرْجَحُهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] ، وَقَالَ تَعَالَى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] وَمِنْ جُمْلَةِ التَّعْظِيمِ لِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْعُظْمَى الْإِجْلَالُ لَهَا بِالْفِعْلِ فَإِذَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ

بِالْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ فَيَكُونُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ أَوْ النَّدْبِ لِيَتَّصِفَ بِالْعَمَلِ كَمَا اتَّصَفَ بِالْقَوْلِ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي قَوْله تَعَالَى {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُؤَذِّنِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنَّ يُؤَذِّنَ عَلَى طَهَارَةٍ لِيَكُونَ عَقِبَ أَذَانِهِ يَرْكَعُ لِأَنَّهُ مُنَادٍ إلَى الصَّلَاةِ فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُبَادِرُ لِمَا نَادَى إلَيْهِ لِيَنْتَفِعَ النَّاسُ بِأَذَانِهِ لِأَجْلِ عَمَلِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ إذَا خَرَجَ مِنْ عَامِلٍ انْتَفَعَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ عَامِلٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ فَيُسْتَحَبُّ لِأَجْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ أَوَّلَ مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَا يَأْمُرُ بِهِ حَتَّى يَنْتَفِعَ النَّاسُ بِأَمْرِهِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا ذَكَرَ الْمُحَرَّمَ أَوْ الْمَكْرُوهَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يُبَادِرُ إلَى التَّرْكِ فَيَكُونُ سَالِمًا مِنْ ارْتِكَابِ الْمَحْذُورَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ بِحَسَبِ جَهْدِهِ وَطَاقَتِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَهَذَا آكَدُ مِنْ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. فَمَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ فَلَا يُقْرَبُ لِنَصِّ هَذَا الْحَدِيثِ وَالنَّهْيُ إذَا وَرَدَ يَتَنَاوَلُ الْمُحَرَّمَ وَالْمَكْرُوهَ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ إذَا وَرَدَ يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ هَذَا الْعَالِمُ عَلَى التَّرْكِ بِالْكُلِّيَّةِ وَغَلَبَتْهُ نَفْسُهُ فِي ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْبِدَعِ فَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَيَكُونُ مُسْتَتِرًا وَيَتُوبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ وَقْتٍ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهُوَ أَقَلُّ الْمَرَاتِبِ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَعْنِي التَّسَتُّرَ بِالْبِدَعِ وَالْمُخَالَفَاتِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بُلِيَ مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيْءٍ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَةَ وَجْهِهِ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ» ) أَوْ كَمَا قَالَ وَالْحُدُودُ رَاجِعَةٌ إلَى حَالِ مَا يَقَعُ مِنْ الشَّخْصِ فَرُبَّ فِعْلٍ حَدُّهُ الْجَلْدُ وَآخَرَ حَدُّهُ الْهِجْرَانُ وَآخَرَ حَدُّهُ الْبُغْضُ وَآخَرَ حَدُّهُ الزَّجْرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ

لَكِنْ الْعَالِمُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسَتُّرُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ شَرَّهُ وَمَعْصِيَتَهُ وَمُخَالَفَتَهُ وَبِدْعَتَهُ إنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ خَيْرَهُ كَذَلِكَ مُتَعَدٍّ لَكِنْ التَّعَدِّي بِهَذَا الْفَنِّ أَكْثَرُ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النُّفُوسِ الِاقْتِدَاءُ فِي شَهَوَاتِهَا وَمَلْذُوذَاتِهَا وَعَادَاتِهَا أَكْثَرُ مِمَّا تَقْتَدِي بِهِ فِي التَّعَبُّدِ الَّذِي لَيْسَ لَهَا فِيهِ حَظٌّ فَإِذَا رَأَتْ ذَلِكَ مِنْ عَالِمٍ وَإِنْ أَيْقَنَتْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ بِدْعَةٌ تُعْذِرُ نَفْسَهَا فِي ارْتِكَابِهَا لِذَلِكَ إنْ سَلِمَتْ مِنْ سُمِّ الْجَهْلِ تَقُولُ لَعَلَّ عِنْدَ هَذَا الْعَالِمِ الْعِلْمَ بِجَوَازِ ذَلِكَ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَوْ رَخَّصَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ لَهُمْ، وَهُوَ كَثِيرٌ مُشَاهَدٌ فَإِذَا رَأَتْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ يَرْتَكِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ الِاسْتِصْغَارُ وَالتَّهَاوُنُ بِمَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ السُّمُّ الْقَاتِلُ. وَقَدْ قَالُوا ارْتِكَابُ الْكَبَائِرِ أَهْوَنُ مِنْ الِاسْتِصْغَارِ بِالصَّغَائِرِ لِأَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ يُرْجَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى اللَّهِ وَيَتُوبَ وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالصَّغَائِرِ قَلَّ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَقَدْ قَالُوا لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَهَذَا بَيِّنٌ لِأَنَّ الصَّغَائِرَ إذَا اجْتَمَعَتْ صَارَتْ كَبَائِرَ فَيَكُونُ هَذَا الْعَالِمُ الَّذِي يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْبِدَعِ سَبَبًا لِعَطَبِ مَنْ يَرَاهُ مِمَّنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ رُتْبَةً فِي الدِّينِ لِاقْتِدَائِهِ بِهِ وَاسْتِسْهَالِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ سَبَكَ الْفَقِيهُ أَبُو الْمَنْصُورِ فَتْحُ بْنُ عَلِيٍّ الدِّمْيَاطِيُّ هَذَا الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ مِنْهَا أَيُّهَا الْعَالِمُ إيَّاكَ الزَّلَلْ ... وَاحْذَرْ الْهَفْوَةَ فَالْخَطْبُ جَلَلْ هَفْوَةُ الْعَالِمِ مُسْتَعْظَمَةٌ ... إنْ هَفَا أَصْبَحَ فِي الْخَلْقِ مَثَلْ وَعَلَى زَلَّتِهِ عُمْدَتُهُمْ ... فِيهَا يَحْتَجُّ مَنْ أَخْطَأَ وَزَلْ لَا تَقُلْ يُسْتَرُ عَلَى زَلَّتِي ... بَلْ بِهَا يَحْصُلُ فِي الْعِلْمِ الْخَلَلْ إنْ تَكُنْ عِنْدَك مُسْتَحْقَرَةً ... فَهِيَ عِنْدَ اللَّهِ وَالنَّاسِ جَبَلْ لَيْسَ مَنْ يَتْبَعُهُ الْعَالِمُ فِي ... كُلِّ مَا دَقَّ مِنْ الْأَمْرِ وَجَلْ

فصل يحترز العالم في حق غيره ممن يجالسه أو يباشره

مِثْلُ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ جَهْلُهُ ... إنْ أَتَى فَاحِشَةً قِيلَ جَهِلْ اُنْظُرْ الْأَنْجُمَ مَهْمَا سَقَطَتْ ... مَنْ رَآهَا وَهْيَ تَهْوِي لَمْ يُبَلْ فَإِذَا الشَّمْسُ بَدَتْ كَاسِفَةً ... وَجَلَ الْخَلْقُ لَهَا كُلَّ الْوَجَلْ وَتَرَامَتْ نَحْوَهَا أَبْصَارُهُمْ ... فِي انْزِعَاجٍ وَاضْطِرَابٍ وَزَجَلْ وَسَرَى النَّقْصُ لَهُمْ مِنْ نَقْصِهَا ... فَغَدَتْ مُظْلِمَةً مِنْهَا السُّبُلْ وَكَذَا الْعَالِمُ فِي زَلَّتِهِ ... يَفْتِنُ الْعَالَمَ طُرًّا وَيُضِلْ يُقْتَدَى مِنْهُ بِمَا فِيهِ هَفَا ... لَا بِمَا اسْتَعْصَمَ فِيهِ وَاسْتَقَلْ فَهُوَ مِلْحُ الْأَرْضِ مَا يُصْلِحُهُ ... إنْ بَدَا فِيهِ فَسَادٌ أَوْ خَلَلْ [فَصْلٌ يَحْتَرِزَ الْعَالم فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُجَالِسُهُ أَوْ يُبَاشِرُهُ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَحْتَرِزَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُجَالِسُهُ أَوْ يُبَاشِرُهُ كَمَا يَحْتَرِزُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِحَقِّ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ وَلِحَقِّ الصُّحْبَةِ وَالْمُشَارَكَةِ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَلِلْوَاجِبِ مِنْ الْخَيْرِ وَالْإِرْشَادِ وَالتَّغْيِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَيَّنٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِاللِّسَانِ فَإِذَا رَأَى أَحَدًا مِنْ جُلَسَائِهِ قَدْ خَالَفَ سُنَّةً أَوْ ارْتَكَبَ بِدْعَةً أَوْ تَهَاوَنَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ نَهَاهُ بِلُطْفٍ وَعَلَّمَهُ بِرِفْقٍ. قَالَ تَعَالَى فِي التَّغْيِيرِ عَلَى عَدُوٍّ مِنْ أَعْدَائِهِ مُنَازِعٍ لَهُ فِي مُلْكِهِ {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] فَإِذَا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِي حَقِّ هَذَا الْعَدُوِّ الْمُتَمَرِّدِ فَمَا بَالُك فِي حَقِّ أَخٍ مُسْلِمٍ رَفِيقٍ جَلِيسٍ جَاءَ مُسْتَرْشِدًا مُتَعَلِّمًا فَيَجِبُ أَنْ يَرْفُقَ بِهِ فَيَأْخُذَ أَمْرَهُ بِاللُّطْفِ وَالسِّيَاسَةِ لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النُّفُوسِ النُّفُورُ عِنْدَ زَجْرِهَا عَنْ الشَّيْءِ فَيَحْتَاجُ الْعَالِمُ إذْ ذَاكَ إلَى أَمْرَيْنِ ضِدَّيْنِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا: مُرَاعَاةُ جَانِبِ السُّنَّةِ وَالتَّغْيِيرُ وَالِانْزِعَاجُ عِنْدَ مُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَالرِّفْقُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي حَقِّ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلِّمُوا وَارْفُقُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» أَوْ كَمَا قَالَ فَيَكُونُ هَذَا الْعَالِمُ إذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ فِي أَحَدٍ مِنْ إخْوَانِهِ أَوْ جُلَسَائِهِ أَوْ الْمُسْتَرْشِدِينَ مِنْهُ يَنْظُرُ فِيهِمْ بِمُقْتَضَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ فَيَرْضَى لِرِضَى الشَّرْعِ وَيَغْضَبُ

فصل من شرع في أخذ الدرس يجب أن تكون عليه السكينة والوقار

لِغَضَبِ الشَّرْعِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُرْجَى لَهُ الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ وَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَعْنِي فِي اتِّبَاعِهِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ الْوَاصِفُ لَهُ «كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا فَإِذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ حُرَمِ اللَّهِ يُنْتَهَكُ كَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ إلَيْهَا نُصْرَةً» انْتَهَى. فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْحَمِيَّةُ وَالنُّصْرَةُ لِلْعَالِمِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا الرِّفْقُ فَلَا يُنَفِّرُهُمْ بَلْ يَسْتَجْلِبُهُمْ وَيَسْرِقُ طَبَائِعَهُمْ بِالسِّيَاسَةِ حَتَّى يَرُدَّهَا إلَى قَانُونَ الِاتِّبَاعِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ وَصَاحَ النَّاسُ بِهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا تَزْرِمُوهُ وَتَرَكَهُ حَتَّى أَتَمَّ بَوْلَهُ ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ ثُمَّ عَلَّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ» وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ وَإِلَى مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ فَلْيُعَامِلْ كُلَّ أَحَدٍ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ اللُّطْفِ وَالسِّيَاسَةِ وَالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَسَاوَوْا فَرُبَّ شَخْصٍ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِاللُّطْفِ فَإِنْ أَخَذْته بِالشِّدَّةِ نَفَّرْته وَرُبَّ شَخْصٍ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِالْغِلْظَةِ فَإِنْ أَخَذْته بِاللُّطْفِ أَطْمَعْته وَقَلَّ أَنْ يَنْتَهِيَ [فَصْلٌ مِنْ شرع فِي أَخَذَ الدرس يَجِب أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ] (فَصْلٌ) فَإِذَا شَرَعَ هَذَا الْعَالِمُ فِي أَخْذِ الدَّرْسِ وَقَرَأَ الْقَارِئُ فَيَحْتَاجُ إذْ ذَاكَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَيَخْشَعُ قَلْبُهُ وَتَخْشَعُ جَوَارِحُهُ لِهَذَا الْمَقَامِ الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَحْكَامَهُ وَلَعَلَّ بَرَكَةَ مَا يَحْصُلُ لَهُ هُوَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ جُلَسَاؤُهُ فَيَتَأَدَّبُونَ بِأَدَبِهِ وَيَتَأَسَّوْنَ بِهِ أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ حِينَ دَخَلَ عَلَى مَالِكٍ فِي أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يُرِيدُونَ سَمَاعَ الْحَدِيثِ قَالَ فَدَخَلْت فَوَجَدْت أَصْحَابَهُ قُعُودًا بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُمْ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ فَقُلْت سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَلَامًا إلَّا مَالِكًا فَإِنَّهُ رَدَّ السَّلَامَ فَقُلْت مَا بَالُكُمْ أَفِي الصَّلَاةِ أَنْتُمْ فَرَمَقُونِي بِأَطْرَافِ أَعْيُنِهِمْ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي قِصَّةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنَّ مَالِكًا كَانَ عِنْدَهُ التَّعْظِيمُ لِلْمَقَامِ الَّذِي

أُقِيمَ فِيهِ فَسَرَى ذَلِكَ لِطَلَبَتِهِ. وَكَذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ أَبَدًا فِي خَلْقِهِ أَيْ مَنْ قَرَأَ عَلَى شَخْصٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْرِقَ طِبَاعَهُ وَطَرِيقَهُ وَاصْطِلَاحَهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا كَانَ بَعْضُهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ أَوَّلًا بِالْأَدَبِ فِيمَا ذَكَرَ فَيَجْمَعُ هِمَّتَهُ وَخَاطِرَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ فَإِذَا فَرَغَ الْقَارِئُ اسْتَفْتَحَ هُوَ الْإِقْرَاءَ فَيَسْتَعِيذُ إذْ ذَاكَ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لِكَيْ يُكْفَى شَرُّهُ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى لِكَيْ يَعْتَزِلَهُ الشَّيْطَانُ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ سُمِّيَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ابْتِدَائِهِ عُزِلَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ حُضُورُهُ. ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَحْصُلَ الْبَرَكَةُ فِي مَجْلِسِهِ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ ذُكِرَ وَحَيْثُ كَانَ ثُمَّ يَتَرَضَّى عَنْ أَصْحَابِهِ لِتَكْمُلَ بِذَلِكَ الْبَرَكَةُ فِي مَجْلِسِهِ لِأَنَّهُمْ الْأَصْلُ الَّذِينَ أَسَّسُوا مَا جَلَسَ إلَيْهِ ثُمَّ يَجْعَلُ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَتَعَرَّى مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَكُونَ سَبْعًا كَانَ أَحْسَنَ كَذَلِكَ كَانَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ثُمَّ يُسْنِدُ أَمْرَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي تَسْدِيدِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَيَفْتَقِرُ فِي ذَلِكَ وَيَضْطَرُّ إلَيْهِ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] وَيَتَعَرَّى إذْ ذَاكَ مِنْ فَهْمِهِ وَذِهْنِهِ وَمُطَالَعَتِهِ وَبَحْثِهِ، وَأَنَّهُ الْآنَ كَأَنْ لَا يَعْرِفْ شَيْئًا فَإِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إذْ ذَاكَ كَانَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَتْحًا مِنْهُ وَكَرَمًا لَا لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُحَاوَلَةِ الْمُطَالَعَةِ وَالدَّرْسِ وَالْفَهْمِ ثُمَّ يَسْتَجِيرُ بِرَبِّهِ مِنْ عَثَرَاتِ اللِّسَانِ وَمِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَمِنْ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ ثُمَّ يَتَكَلَّمُ بِمَا قَدْ تَحَصَّلَ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَرَأَ الْقَارِئُ وَيَذْكُرُ مَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا وَيُوَجِّهُ أَقْوَالَهُمْ وَيَرُدُّ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ إلَى أُصُولِهِمْ الَّتِي اسْتَخْرَجُوا الْأَحْكَامَ مِنْهَا، وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَيَكُونُ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِهِ لِلْعُلَمَاءِ يَتَرَضَّى عَنْهُمْ وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّفُ مَنْ يَحْضُرُهُ بِقَدْرِهِمْ وَفَضِيلَتِهِمْ وَحَقِّ سَبْقِهِمْ. قَالَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْحِكَايَاتُ عَنْ الْعُلَمَاءِ وَمُجَالَسَتِهِمْ أَحَبُّ

إلَيَّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْفِقْهِ لِأَنَّهَا آدَابُ الْقَوْمِ وَأَخْلَاقُهُمْ انْتَهَى. ثُمَّ يُوَجِّهُ مَذْهَبَهُ وَيَنْتَصِرُ لَهُ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ التَّحَفُّظِ عَلَى مَنْصِبِ غَيْرِ إمَامِهِ أَنْ يَنْسِبَ إلَيْهِ مَا يَنْسِبُ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ مِنْ الْغَلَطِ وَالْوَهْمِ لِغَيْرِ إمَامِهِ فَإِنْ كُنْت عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ مَثَلًا فَلَا يَدْخُلُك غَضَاضَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِأَنَّهُمْ الْكُلُّ جَعَلَهُمْ اللَّهُ رَحْمَةً لَك لِأَنَّهُمْ أَطِبَّاءُ دِينِك كُلَّمَا اعْوَجَّ أَمْرٌ فِي الدِّينِ قَوَّمُوهُ وَكُلَّمَا وَقَعَ لَك خَلَلٌ فِي دِينِك اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى ذَهَابِهِ عَنْك وَتَلَافِي أَمْرِك وَإِصْلَاحِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الدَّوَاءِ لَك عَلَى مَا اقْتَضَى اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى مُقْتَضَى الْأُصُولِ فِي تَخْلِيصِك مِنْ عِلَّتِك وَحَمِيَّتِك وَإِعْطَاءِ الدَّوَاءِ لَك فَإِذَا رَجَعْت إلَى طَبِيبٍ مِنْهُمْ وَسَكَنْت إلَى وَصْفِهِ وَمَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَك فَلَا يَكُنْ فِي قَلْبِك حَزَازَةٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ الْبَاقِينَ الَّذِينَ قَدْ شَفَوْا مَرَضَ غَيْرِك مِنْ إخْوَانِك الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ أَقَامَهُمْ اللَّهُ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ وَتَدْبِيرِ دِينِهِمْ فَإِيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ تَجِدَ فِي قَلْبِك حَزَازَةً لِبَعْضِهِمْ وَإِنْ قَامَ لَك الدَّلِيلُ وَوَضَحَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ لِأَنَّ مَنْ قَالَ مَا قَالَ مَا قَالَهُ مَجَّانًا بَلْ مُسْتَنِدًا إلَى الْأُصُولِ وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا يَبْحَثُ مَعَك لَرَأَيْت مَذْهَبَهُ هُوَ الصَّوَابُ لِمَا يَظْهَرُ لَك مِنْ بَحْثِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ رَأَيْته رَجُلًا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى هَذَا الْعَمُودِ أَنَّهُ مِنْ ذَهَبٍ لَفَعَلَ فَيَكُونُ قَلْبُك وَاعْتِقَادُك مَعَ لِسَانِك مُجِلًّا لَهُمْ وَمُعَظِّمًا وَمُحْتَرِمًا وَإِنْ كُنْت قَدْ خَالَفْتَهُمْ بِالرُّجُوعِ إلَى إمَامِك فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ فَإِنَّك لَمْ تُخَالِفْهُمْ فِي أَكْثَرِ الْفُرُوعِ فَالْأُصُولُ قَدْ جَمَعَتْ الْجَمْعَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. أَلَا تَرَى إلَى جَوَابِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْخَلِيفَةِ لَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إلَى الْأَقَالِيمِ بِكِتَابِ الْمُوَطَّأِ وَبِالْأَمْرِ أَنْ لَا يَقْرَأَ أَحَدٌ إلَّا إيَّاهُ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَفَرَّقُوا فِي الْأَقَالِيمِ، وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ عَنْهُمْ. فَانْظُرْ إلَى

فصل ما ينبغي للعالم إذا أخذ يتكلم في الدرس

هَذَا الْكَلَامِ مِنْهُ مَعَ اعْتِقَادِهِ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَرْجَحُ عَلَى مُقْتَضَى الْأُصُولِ وَالنَّظَرِ فَلَمْ يَطْعَنْ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَمْ يَعِبْهُ وَلَمْ يَقُلْ الْأَوْلَى أَنْ يُرْجَعَ إلَى مَا رَأَيْته فَيَكُونُ هَذَا الْعَالِمُ يَتَأَسَّى بِهَذَا الْإِمَامِ فِي التَّسْلِيمِ لِمَذَاهِبِ النَّاسِ فِي الْفُرُوعِ وَالْأَحْكَامِ مَعَ اعْتِقَادِ الصَّوَابِ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ دُونَ تَغْلِيطِ غَيْرِهِ أَوْ تَوْهِيمِهِ ثُمَّ يَمْشِي فِيمَا قَعَدَ إلَيْهِ عَلَى مَا جَلَسَ إلَيْهِ أَوَّلًا مِنْ التَّأَدُّبِ وَالِاحْتِرَامِ فَيَتَكَلَّمُ بِلُطْفٍ وَرِفْقٍ وَيَحْذَرُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ وَأَنْ يَنْزَعِجَ فَيُؤْذِيَ بَيْتَ رَبِّهِ إنْ كَانَ فِيهِ وَبِرَفْعِ صَوْتِهِ يَخْرُجُ عَنْ أَدَبِ الْعِلْمِ وَعَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ وَيُوقِعُ مَنْ جَالَسَهُ فِي ذَلِكَ لِاقْتِدَائِهِمْ بِهِ وَكَذَا أَيْضًا يُحَذِّرُ أَنْ يَرْفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ مِنْ جُلَسَائِهِ فَإِنْ رَفَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ نَهَاهُ بِرِفْقٍ وَأَخْبَرَهُ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَكْرُوهِ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ إذْ ذَاكَ فِيهِ مَحْذُورَاتٌ. مِنْهَا رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إنْكَارُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِذَلِكَ وَمِنْهَا رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ إنْ كَانَ فِيهِ، وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ. وَمِنْهَا قِلَّةُ الْأَدَبِ مَعَ الْعَالِمِ الَّذِي حَكَى مَذْهَبَهُ أَوْ كَلَامَهُ إذْ ذَاكَ وَإِنْ كَانُوا فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَذَاكَرُونَهُ أَوْ أَوْرَدُوهُ إذْ ذَاكَ شَاهِدًا لِمَسْأَلَتِهِمْ فَهُوَ أَعْظَمُ فِي النَّهْيِ وَأَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] فَيَقَعُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي حَبْطِ الْعَمَلِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبَيْنَ رَفْعِهِ عَلَى حَدِيثِهِ كَذَا قَالَ إمَامُ الْمُحَدِّثِينَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - [فَصْلٌ مَا يَنْبَغِي للعالم إذَا أَخَذَ يَتَكَلَّمُ فِي الدَّرْسِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا أَخَذَ يَتَكَلَّمُ فِي الدَّرْسِ فَأُورِدَتْ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ وَالِاعْتِرَاضَاتُ وَالتَّنْظِيرَاتُ أَنْ لَا يُجِيبَ أَحَدًا عَنْ مَسْأَلَتِهِ وَلْيَمْضِ فِيمَا هُوَ بِسَبِيلِهِ وَيُسْكِتُ مَنْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ أَوْ يَأْمُرُ مَنْ يُسْكِتُهُ لِأَنَّ الْإِيرَادَ

إذْ ذَاكَ يَخْلِطُ الْمَجْلِسَ وَلَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ فَيُبَيِّنُ هُوَ الْمَسْأَلَةَ لِنَفْسِهِ وَيُوَجِّهُهَا وَيَسْتَدِلُّ لَهَا وَيُورِدُ عَلَيْهَا وَيَعْتَرِضُ عَلَيْهَا ثُمَّ يُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا تَحَصَّلَ عِنْدَهُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَنْظُرُهَا بِمَا يُشْبِهُهَا مِنْ الْمَسَائِلِ وَمَا يَقْرَبُ مِنْهَا ثُمَّ يُفَرِّعُ عَلَيْهَا مَا يَحْتَمِلُ مِنْ التَّفْرِيعِ بَعْدَ حَلِّهِ أَوَّلًا لِلَفْظِ الْكِتَابِ وَتَبْيِينِهِ حَتَّى يُبَيِّنَ صُورَةَ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لِجَمِيعِ مَنْ حَضَرَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ لِأَنَّ حَلَّ لَفْظِ الْكِتَابِ مَطْلُوبٌ مِنْ الْجَمِيعِ مِنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِمَّنْ يَحْفَظُ الْكِتَابَ وَمِمَّنْ لَا يَحْفَظُهُ، وَهُوَ أَقَلُّ فَائِدَةَ حُضُورِ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَمَا يَقَعُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ فَذَلِكَ الَّذِي تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي فَهْمِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُحَصِّلُ الْجَمِيعَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَصِّلُ الْبَعْضَ عَلَى قَدْرِ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَهْمِ فَيَكُونُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ يَسِيرُ سَيْرَ الضَّعِيفِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. «سِيرُوا بِسَيْرِ أَضْعَفِكُمْ» فَإِذَا تَحَصَّلَ لِلضَّعِيفِ مَقْصُودُهُ، وَهُوَ حَلُّ لَفْظِ الْكِتَابِ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَى مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ ثُمَّ يَتَدَرَّجُ بَعْدَ ذَلِكَ قَلِيلًا قَلِيلًا عَلَى مَا مَرَّ وَالتَّأَدُّبُ وَحُسْنُ السَّمْتِ وَالْوَقَارُ مُسْتَصْحَبٌ مَعَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِذَا فَرَغَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ وَالْبَيَانِ فَلْيُعْطِ إذْ ذَاكَ سَكْتَةً وَيُعْلِمْ مَنْ حَضَرَهُ مِمَّنْ يُرِيدُ الْكَلَامَ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيُورِدْهُ الْآنَ فَإِذَا كَانَ بَقِيَ شَيْءٌ أَوْرَدُوهُ إذْ ذَاكَ فَيَتَنَبَّهُ الشَّيْخُ إلَيْهِ فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ وَالْغَائِبُ أَنَّهُ لَا يَبْقَى إذْ ذَاكَ لِأَحَدٍ مَا يَقُولُ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُرِيدُ الْقَائِلُ أَنْ يَقُولَ إذَا سَكَتَ لِآخَرِ الْمَجْلِسِ يَجِدُ الشَّيْخَ قَدْ أَوْرَدَهُ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَبَيَّنَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ شَتَّ عَنْهُ فَيَسْتَدْرِكُ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ جَوَابِ مَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ وَبَيَانِهِ فَلْيَقْرَأْ الْقَارِئُ إذْ ذَاكَ ثُمَّ يَمْشِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ تَبَيَّنَتْ الْمَسَائِلُ لِكُلِّ الْحَاضِرِينَ وَانْتَفَعُوا، وَقَدْ يَقْطَعُونَ الْكِتَابَ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ بِخِلَافِ أَنْ لَوْ بَقِيَ يُجِيبُ كُلَّ مَنْ سَأَلَهُ فِي أَوَّلِ الْإِقْرَاءِ إذْ لِكُلِّ وَاحِدٍ إيرَادٌ وَسُؤَالٌ وَغَرَضٌ قَدْ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْ جَوَابِ الْبَعْضِ إلَّا، وَقَدْ طَالَ الْمَجْلِسُ وَثَقُلَ عَلَى الْحَاضِرِينَ

فصل ما ينبغي للعالم إذا أوردت عليه المسائل والاعتراضات

وَلَمْ تَحْصُلْ بَعْدُ فَائِدَةٌ فَإِذَا سَكَتُوا إلَى أَنْ يَفْرُغَ كَلَامُ الشَّيْخِ انْتَفَعَ الْجَمِيعُ وَقَلَّ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ إشْكَالٌ أَوْ سُؤَالٌ لِأَنَّ الشَّيْخَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْمَجْلِسِ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِوَظِيفَتِهِ فَقَدْ نَظَرَ إلَيْهِ وَحَصَّلَ مَا لَمْ يُحَصِّلْ غَيْرُهُ [فَصْلٌ مَا يَنْبَغِي للعالم إذَا أُورِدَتْ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ وَالِاعْتِرَاضَاتُ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا إذَا أُورِدَتْ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ وَالِاعْتِرَاضَاتُ أَنْ لَا يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ صَاحِبُ السُّؤَالِ بِكَلَامِهِ إلَى آخِرِهِ أَوْ الْمُعْتَرِضُ بِاعْتِرَاضِهِ إلَى آخِرِهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ بِآخِرِهِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي حَقِّ مَنْ جَالَسَهُ أَنْ لَا يُجِيبُوا عَنْ الْمَسَائِلِ حَتَّى يَفْرُغَ مَنْ يُلْقِيهَا إلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا الْيَوْمَ تَجِدُ أَحَدَ الطَّلَبَةِ يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى مَسْأَلَةٍ أَوْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهَا أَوْ يُعَارِضَهَا أَوْ يَنْظُرَ بِهَا أَوْ يَسْتَدِلَّ لَهَا فَيُقْطَعُ الْكَلَامُ فِي فَمِهِ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَنْطِقْ مِنْهُ إلَّا بِشَيْءٍ مَا وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَسْرِقُ مِنْهُ بَعْضُ النَّاسِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَهُ فَيُقْطَعُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَيَسْتَبِدُّ هُوَ بِالْجَوَابِ أَوْ إلْقَاءِ الْمَسْأَلَةِ لِنَفْسِهِ وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَجُوزُ وَأَصْلُهُ الرِّيَاءُ وَالْعُجْبُ وَالْمُبَاهَاةُ وَالْفَخْرُ وَمَحَبَّةُ النَّقْلِ عَنْهُ وَمَحَبَّةُ الظُّهُورِ عَلَى الْأَقْرَانِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَدْرَكْت النَّاسَ وَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ السُّكُوتَ ثُمَّ هُمْ الْيَوْمَ يَتَعَلَّمُونَ الْكَلَامَ انْتَهَى. فَيَحْذَرُ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ فَإِنْ وَقَعَ امْتَثَلَ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّغْيِيرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَأْتُونَ بِالْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ وَالْفَوَائِدِ النَّفِيسَةِ وَلَا يُرِيدُونَ أَنْ تُنْسَبَ إلَيْهِمْ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَكَانُوا مِنْ ذَلِكَ بُرَآءَ لِشِدَّةِ إخْلَاصِهِمْ وَمُرَاقَبَتِهِمْ لِرَبِّهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ. ، وَقَدْ قَالَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ وَدِدْت أَنَّ النَّاسَ انْتَفَعُوا بِهَذَا الْعِلْمِ وَلَا يُنْسَبُ إلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَالَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا نَاظَرْت أَحَدًا قَطُّ فَأَحْبَبْت أَنْ يُخْطِئَ، وَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا كَلَّمْت أَحَدًا قَطُّ إلَّا أَحْبَبْت أَنْ يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ

فصل يتفقد العالم إخوانه وجلساءه في أثناء المسائل

وَتَكُونَ عَلَيْهِ رِعَايَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى. وَنَحْنُ الْيَوْمَ مَعَ قِلَّةِ الْإِخْلَاصِ وَقِلَّةِ الْيَقِينِ وَالْجَزَعِ مِنْ الْخَلْقِ وَالطَّمَعِ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْمَالِ وَالْجَاهِ نُحِبُّ أَنْ يُسْمَعَ مَا نُلْقِيهِ وَيُخْبَرُ عَنَّا بِهِ وَيُشَاعُ وَيُذَاعُ كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ الْمُوَاطَأَةُ لِبَعْضِنَا بَعْضًا فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ حِينَ جُلُوسِهِ يَعْمَلُ عَلَى التَّحَفُّظِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَتَنَبَّهُ فِي نَفْسِهِ لَهَا وَيُنَبِّهُ أَصْحَابَهُ عَلَيْهَا انْحَسَمَتْ وَقَلَّ أَنْ يَقَعَ فِي مَجْلِسِهِ خَلَلٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَجْحَدَ ضَرُورَةً وَأَنْ لَا يَنْزَعِجَ عِنْدَ إيرَادِ الْمَسَائِلِ عَلَيْهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهَا وَالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِ بِهَا لِأَنَّ الِانْزِعَاجَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْعُلَمَاءِ وَلَا مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَكَذَلِكَ جَحْدُ الْحَقِّ لَيْسَ مِنْ شِيَمِهِمْ بَلْ مِنْ شِيَمِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ فَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا أَيْضًا فِي نَفْسِهِ وَفِي مَجْلِسِهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ حِينَ جُلُوسِهِ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ عَلَى لِسَانِ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ قَبْلَهُ وَيَسَّرَ بِهِ وَلَا يَخْتَارُ بِنِيَّتِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالصَّوَابِ فِي كُلِّ دَرْسِهِ لَيْسَ إلَّا بَلْ يَخْتَارُ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ وَلَا يُعَيِّنُ جِهَةً لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ «لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» انْتَهَى وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَأْخُذُ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَأْخُذْ بِهِ مَنْ يَعْرِفُهُ فَكَيْفَ يَأْخُذُ بِهِ مَنْ يَجْهَلُهُ بَلْ النَّاسُ مُطَالَبُونَ بِتَصَرُّفِ هَذَا الْعَالِمِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَكَمَا لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُحِبُّ لَهَا أَنْ تَتَكَلَّمَ إلَّا بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَيَمْتَثِلُ هَذَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَيُرْشِدُ غَيْرَهُ إلَيْهِ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ [فَصْلٌ يَتَفَقَّدَ الْعَالم إخْوَانَهُ وَجُلَسَاءَهُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنَّ يَتَفَقَّدَ إخْوَانَهُ وَجُلَسَاءَهُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ وَالْفُرُوعِ بِمَعْرِفَةِ السُّنَّةِ وَالْعَمَلِ بِهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَمَعْرِفَةِ فَضْلِهَا وَعُلُوِّ قَدْرِهَا، وَقَدْرِ مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا وَيَتْبَعُهَا وَالتَّجَنُّبِ عَنْ الْبِدْعَةِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا وَمَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ الْمَقْتِ لِفَاعِلِهَا فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ الْيَوْمَ هُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى أَكْثَرِ

فصل ما ينبغي للعالم إذا قعد في مجلس العلم

النَّاسِ لِأَنَّا نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ طَلَبَةِ هَذَا الزَّمَانِ يَقْعُدُونَ فِي مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ صِغَارٌ مِمَّ يَشِيبُونَ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مِنْ حُضُورِ الْمَجَالِسِ وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مِنْهُمْ مَنْ إذَا ذَكَرْت لَهُ سُنَّةً أَوْ بِدْعَةً يَعْرِفُهَا أَوْ يَتَنَبَّهُ لَهَا لِمَا قَدْ تَرَبَّى عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ هَذَا الْفَنِّ إلَّا قَوْلَهُ إنْ كَانَ حَاذِقًا نَبِيهًا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى كَذَا وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى كَذَا، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ كَذَا، وَقَالَ الرَّبِيعُ كَذَا فَيَبْحَثُ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ وَلَا يَعْرِفُ غَيْرَ ذَلِكَ وَهَذَا قُبْحٌ عَظِيمٌ شَنِيعٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمَنْسُوبَةُ لِلْعُلَمَاءِ تَسْأَلُ أَحَدَهُمْ عَنْ السُّنَّةِ فِي بَعْضِ تَصَرُّفِهِ لَا يَعْرِفُهَا أَوْ بِدْعَةٍ فِي زَمَانِهِ لَا يَعْلَمُهَا بَلْ يَحْتَاجُ عَلَى جَوَازِهَا لِأَجْلِ الْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَا نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا ذُكِرَ تَيْقَظُوا لِلسُّنَّةِ فِي تَصَرُّفِهِمْ فَأَحَبُّوهَا وَتَنَبَّهُوا لِلْبِدْعَةِ فَأَبْغَضُوهَا وَهَذَا الْيَوْمَ مُتَعَيِّنٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي مَسْأَلَةٍ فَكَيْفَ بِهَذَا الْعَالِمِ الَّذِي قَعَدَ يُعَلِّمُ الْأَحْكَامَ وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ فَإِذَا تَكَلَّمَ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عُرِفَتْ السُّنَّةُ إذْ ذَاكَ مِنْهُ وَعُرِفَتْ الْبِدْعَةُ وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ أَنْ يَبْقَى كُلُّ مَنْ حَضَرَ يَعْلَمُ مِنْ أَيِّ قِسْمٍ هُوَ وَفِي أَيِّ شَيْءٍ يَتَصَرَّفُ وَهَلْ هُوَ فِي سُنَّةٍ أَوْ فِي بِدْعَةٍ وَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ لِبَقَاءِ هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ نَظِيفًا لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ غَيْرُ مَا هُوَ فِيهِ فَتَزُولُ بِسَبَبِهِ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا فِي زَمَانِنَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي تُنْسَبُ إلَى أَنَّهَا مِنْ السُّنَّةِ فَإِذَا نَبَّهَ عَلَيْهَا هَذَا الْعَالِمُ عُرِفَتْ وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَكْثَرُ مِنْهُمْ يَتْبَعُ وَيَمْتَثِلُ لِأَنَّ الْخَيْرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يُعْدَمْ مِنْ النَّاسِ وَإِنْ عُدِمَ فِي بَعْضِهِمْ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي آخَرِينَ [فَصْلٌ مَا يَنْبَغِي للعالم إذَا قَعَدَ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا إذَا قَعَدَ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ أَنْ يُخْلِصَ نِيَّتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى لِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ رَبِّهِ وَتَعْلِيمِهَا لَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ ثُمَّ قَعَدَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ نُودِيَ فِي السَّمَوَاتِ عَظِيمًا» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَيَنْفِي عَنْهُ الشَّوَائِبَ مَا اسْتَطَاعَ جَهْدَهُ وَهَذَا الَّذِي يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ. أَمَّا مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ فَلَيْسَ هُوَ مُكَلَّفًا بِأَنْ

فصل في ذكر النعوت

لَا يَقَعَ إنَّمَا عَلَيْهِ إذَا وَقَعَ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَيُبْغِضُهُ لِأَنَّ تَكْلِيفَ أَنْ لَا يَقَعَ مِمَّا لَا يُطَاقُ، وَقَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَا يَقْعُدُ لَأَنْ يَرْأَسَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ يُقَالَ فُلَانٌ مُدَرِّسٌ أَوْ مُفِيدٌ أَوْ يَبْحَثُ أَوْ نَبِيهٌ أَوْ حَاذِقٌ أَوْ صَاحِبُ فَهْمٍ مَعَ أَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَقَعَ هَذَا الْيَوْمَ لِكَثْرَةِ تَغَالِيهِمْ فِي الشَّخْصِ فَإِذَا رَأَوْا أَحَدًا يَتَكَلَّمُ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى مَا يَنْبَغِي قَالُوا عَنْهُ مُجْتَهِدٌ هَذَا الشَّافِعِيُّ الصَّغِيرُ هَذَا مَالِكٌ الصَّغِيرُ وَانْسَاغَ لَهُ ذَلِكَ وَمَوَّهَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَحَسِبَ أَنَّهُ كَمَا قَالُوا فَيَكُونُ مِثْلُهُ إذْ ذَاكَ كَمَا قَالُوا مِثْلَ نَائِمٍ يَرَى فِي نَوْمِهِ مَا يَسُرُّهُ وَيُعْجِبُهُ فَيَفْرَحُ بِهِ وَيُخَيَّلُ لَهُ أَنَّهُ حَقٌّ ثُمَّ يَنْتَبِهُ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ حَالُ هَذَا سَوَاءٌ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ النَّاسُ بِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ حَسِبَ نَفْسَهُ إذْ ذَاكَ كَمَا قَالُوا هَذَا ضَرْبٌ مِنْ الْحِلْمِ فَلَوْ تَيَقَّظَ مِنْ هَذِهِ السِّنَةِ وَالْغَفْلَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا أَوْ نَظَرَ إلَى مَا مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ مَالِكًا وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْفَهْمِ الْعَظِيمِ وَالتَّقْوَى الْمَتِينَةِ لَتَلَاشَى عِلْمُهُ إذْ ذَاكَ وَفَهْمُهُ وَتَقْوَاهُ وَيَجِدُ نَفْسَهُ كَمَا قَالَ أَسَدُ بْنُ الْفُرَاتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أَنْ رَأَى بَعْضَ الْعُلَمَاءِ بِجَامِعِ مِصْرَ، وَهُوَ يَقُولُ قَالَ مَالِكٌ كَذَا، وَهُوَ خَطَأٌ وَذَهَبَ مَالِكٌ لِكَذَا، وَهُوَ وَهْمٌ وَالصَّوَابُ كَذَا فَقَالَ مَا أَرَى هَذَا إلَّا مِثْلَ رَجُلٍ جَاءَ إلَى الْبَحْرِ فَرَأَى أَمْوَاجَهُ وَعَجِيجَهُ فَجَاءَ إلَى جَانِبِهِ فَبَالَ بَوْلَةً، وَقَالَ هَذَا بَحْرٌ آخَرَ انْتَهَى فَكَذَلِكَ هَذَا يَجِدُ نَفْسَهُ سَوَاءً أَوْ أَعْظَمَ فَإِذَا تَيَقَّظَ مِنْ سِنَةِ غَفْلَتِهِ لِكَثْرَةِ مَا يَجِدُ عِنْدَ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الْفَضَائِلِ تَلَاشَى مَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ وَرَأَى مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ التَّقْصِيرِ وَالْجُمُودِ وَارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي فِي عِلْمِهِ وَتَصَرُّفِهِ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ النُّعُوتِ] وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهَا كَبِيرٌ أَوْ صَغِيرٌ وَهِيَ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْقَرِيبَةِ

الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ مَضَى، بَلْ هِيَ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَهِيَ فُلَانُ الدِّينِ وَفُلَانُ الدِّينِ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَتَحَفَّظُ نَفْسَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَيَذُبُّ عَنْ السُّنَّةِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْآنَ رَاعٍ عَلَى كُلِّ مَنْ حَضَرَهُ «وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» فَإِذَا نَطَقَ أَحَدٌ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ نَهَاهُ بِرِفْقٍ وَتَلَطَّفَ بِهِ فِي التَّعْلِيمِ، وَنَبَّهَهُ بِمَا وَرَدَ فِي التَّزْكِيَةِ مِنْ النَّهْيِ. وَكَذَلِكَ إذَا نَادَاهُ أَحَدٌ بِهَذَا الِاسْمِ فَيُعَلِّمُهُ كَمَا ذُكِرَ، وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ أَنْ لَا يَسْتَجِيبَ لِمَنْ نَادَاهُ بِهَذَا الِاسْمِ حَتَّى يُنَادِيَهُ بِالِاسْمِ الْمَشْرُوعِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَجْلِسَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ خُصُوصًا التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ وَالتَّعْلِيمُ بِالرِّفْقِ؛ لِأَنَّهُ لِذَلِكَ قَعَدَ. أَلَا تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فِيهَا مِنْ التَّزْكِيَةِ مَا فِيهَا فَيَقَعُ بِسَبَبِهَا فِي الْمُخَالَفَةِ بِدَلِيلِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] وقَوْله تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 49] {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 50] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُزَكُّوا عَلَى اللَّهِ أَحَدًا وَلَكِنْ قُولُوا إخَالُهُ كَذَا وَأَظُنُّهُ كَذَا» . وَأَمَّا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَزْكِيَةِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ ثُمَّ قَالَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مَا قَدْ كَثُرَ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ وَالْعَجَمِ مِنْ نَعَتْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِالنُّعُوتِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّزْكِيَةَ وَالثَّنَاءَ كَزَكِيِّ الدِّينِ وَمُحْيِي الدِّينِ وَعَلَمِ الدِّينِ وَشَبَهِ ذَلِكَ انْتَهَى. فَإِذَا نَادَاكَ مُنَادٍ بِهَذَا الِاسْمِ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَنْبَغِي لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَكَّى الْغَيْرَ وَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ وَأَنْتَ إذَا اسْتَحْبَبْتَ لَهُ صِرْت مِثْلَهُ لِمَا تَقَدَّمَ. أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ

فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَمِنْهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ تَبَاعَدَ عَنْهُ الْمَلَكُ مِيلًا مِنْ نَتْنِ مَا جَاءَ بِهِ» . وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا «لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صَادِقًا وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَاذِبًا» . «وَقَدْ سُئِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيَسْرِقُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قِيلَ: أَيَزْنِي الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قِيلَ: أَيَكْذِبُ الْمُؤْمِنُ قَالَ: إنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَا انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وَقَدْ وَرَدَ فِيمَنْ انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إمْسَاكِهَا فَأَرَاهَا الْمِخْلَاةَ فَتَأْتِي عَلَى أَنَّ الْعَلَفَ فِيهَا فَيُمْسِكُهَا أَنَّهَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ كَذْبَةٌ يُحَاسَبُ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ» ، وَفِعْلُهُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ صِيَانَتِهِ. أَلَا تَرَى إلَى الْبُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أَنْ رَحَلَ مِنْ بِلَادِهِ إلَى بَعْضِ الشُّيُوخِ لِيَسْمَعَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ فَلَمَّا أَنْ جَلَسَ عِنْدَهُ جَاءَ صَغِيرٌ لِيَقَعَ مِنْ مَوْضِعٍ فَقَبَضَ الشَّيْخُ يَدَهُ لِكَيْ يَظُنَّ الصَّبِيُّ أَنْ فِي يَدِهِ شَيْئًا يُعْطِيهِ إيَّاهُ لِيَأْتِيَ فَيَأْخُذُ مَا فِيهَا، فَقَامَ الْبُخَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَتَرَكَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ كَذِبًا وَقَدْحًا فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ، فَإِذَا قَالَ مَثَلًا مُحْيِي الدِّينِ أَوْ زَكِيُّ الدِّينِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُ هَذَا هُوَ الَّذِي أَحْيَا الدِّينَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي زَكَّى الدِّينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ إذْ ذَاكَ حِينَ السُّؤَالِ بَلْ حِينَ أَخْذِهِ صَحِيفَتَهُ فَيَجِدُهَا مَشْحُونَةً بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّزْكِيَةِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ

عَلَيْهِمْ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] هَلْ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ يَكْتُبُونَ كُلَّ مَا يَتَلَفَّظُ بِهِ الشَّخْصُ الْمُكَلَّفُ كَانَ مَا كَانَ أَوْ لَا يَكْتُبُونَ إلَّا مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ بِسَبِيلِهَا إذْ أَنَّهَا احْتَوَتْ عَلَى أَشْيَاءَ مَذْمُومَةٍ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَهِيَ تَزْكِيَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَتَزْكِيَتُهُ لِغَيْرِهِ وَالْكَذِبُ وَمُخَالَفَةُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَوْ وَقَفَ أَمْرُنَا عَلَى هَذَا لَكَانَ قَرِيبًا أَنْ لَوْ كَانَ سَائِغًا؛ لِأَنَّهُ إذَا تَقَرَّرَ عِنْدَنَا أَنَّ هَذَا كَذِبًا وَتَزْكِيَةً يُرْجَى لِأَحَدِنَا التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ وَلَكِنْ زِدْنَا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرَ الْمَخُوفَ وَهُوَ أَنَّا نَرَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِحَسَبِ مَا سَوَّلَتْ لَنَا أَنْفُسُنَا مِنْ أَنَّ النَّاسَ إذَا خُوطِبُوا بِغَيْرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ تَشَوَّشُوا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَتَوَلَّدَتْ الشَّحْنَاءُ وَالْبَغْضَاءُ فَوَضَعْنَا لَهُمْ التَّزْكِيَةَ الْخَالِصَةَ حَتَّى لَا يَتَشَوَّشُوا وَلَا تَتَوَلَّدُ الْبَغْضَاءُ وَلَا الْعَدَاوَةُ، لَا جَرَمَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَالشَّحْنَاءَ قَدْ كَمَنَتْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَحَصَلَ مِنْهَا أَوْفَرُ نَصِيبٍ، كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ فَبَقِيَتْ الْبَوَاطِنُ مُتَنَافِرَةً مَعَ الْأَذْهَانِ فِي الظَّاهِرِ، فَأَدَّتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ إلَى الْأَمْرِ الْمَخُوفِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْمُنَافِقِ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ وَمُعْتَقَدُهُ خِلَافَ ظَاهِرِهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ تَجُوزُ لَمَا كَانَ أَحَدٌ أَوْلَى بِهَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ أَنَّهُمْ شُمُوسُ الْهُدَى وَأَنْوَارُ الظُّلَمِ وَهُمْ أَنْصَارُ الدِّينِ حَقًّا كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. أَلَا تَرَى إلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّاتِي اخْتَارَهُنَّ اللَّهُ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاصْطَفَاهُنَّ لِمَا عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا فِيهِنَّ مِنْ الشِّيَمِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَحْوَالِ الْعَالِيَةِ الْمُرْضِيَةِ «لَمَّا أَنْ دَخَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِزَيْنَبِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ فَقَالَتْ: بَرَّةُ فَكَرِهَ ذَلِكَ الِاسْمَ وَقَالَ لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» . لِمَا فِيهِ مِنْ اشْتِقَاقِ اسْمِ الْبِرِّ، وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا مَا اُخْتِيرَتْ لِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ إلَّا

وَفِيهَا مِنْ الْبِرِّ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَرِهَ ذَلِكَ الِاسْمَ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً لِمَا فِيهِ مِنْ التَّزْكِيَةِ فَجَدَّدَ اسْمَهَا زَيْنَبَ، وَكَذَلِكَ «فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَجَدَّدَ اسْمَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَسَمَّاهَا جُوَيْرِيَةَ» ، فَإِذَا كَرِهَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ فِيهِ ذَلِكَ حَقِيقَةً وَنَهَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ «لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» فَمَا بَالُك بِأَحْوَالِنَا الْيَوْمَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ هَانِئٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «لَمَّا وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يُكَنُّونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ، فَقَالَ: إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِحُكْمِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَكَ مِنْ الْوَلَدِ، فَقَالَ: لِي شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ، قَالَ: شُرَيْحٌ، قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ» . ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مَجَازٌ لَا عِبْرَةَ بِهَا، وَقَدْ صَارَتْ أَيْضًا كَأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ حَتَّى لَا يُعْرَفُ أَحَدٌ إلَّا بِهَا فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ بَابِ التَّزْكِيَةِ إلَى بَابِ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ كَالْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يَرُدُّهُ مَا نُشَاهِدُهُ فِي الْوُجُودِ مُبَاشَرَةً، وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إذَا قِيلَ لَهُ اسْمُهُ الْعَلَمُ الشَّرْعِيُّ كَالْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ تَشَوَّشَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نَادَاهُ بِذَلِكَ وَوَجَدَ عَلَيْهِ الْحَنَقَ لِكَوْنِهِ تَرَكَ ذَلِكَ الِاسْمَ وَعَدَلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَهَذَا يُوَضِّحُ وَيُبَيِّنُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ بَاقِيَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَأَنَّهَا لَمْ تَبْرَحْ وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ مَوْضِعِهَا الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ مَعَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا الْكَذِبُ وَالتَّزْكِيَةُ لَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ» وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ مَا ظَهَرَتْ إلَّا مِنْ قِبَلِهِمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ لِبَعْضِ الشُّيُوخِ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى وَالدِّينِ يَقُولُ: إنَّهُ أَدْرَكَ أَبَاهُ وَمَنْ كَانَ فِي سِنِّهِ لَا يَتَسَمَّوْنَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَلَا يَعْرِفُونَهَا. وَكَانَ سَبَبُهَا

أَنَّ التُّرْكَ لَمَّا تَغَلَّبُوا عَلَى الْخِلَافَةِ تَسَمَّوْا إذْ ذَاكَ هَذَا شَمْسُ الدَّوْلَةِ، وَهَذَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، وَهَذَا نَجْمُ الدَّوْلَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَتَشَوَّفَتْ نُفُوسُ بَعْضِ الْعَوَامّ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ إلَى تِلْكَ الْأَسْمَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّعْظِيمِ وَالْفَخْرِ، فَلَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا إلَيْهَا لِأَجْلِ عَدَمِ دُخُولِهِمْ فِي الدَّوْلَةِ فَرَجَعُوا إلَى أَمْرِ الدَّيْنِ، فَكَانُوا فِي أَوَّلِ مَا حَدَثَتْ عِنْدَهُمْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ إذَا وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ مَوْلُودٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُكَنِّيَهُ لِفُلَانِ الدِّينِ إلَّا بِأَمْرٍ يَخْرُجُ مِنْ جِهَةِ السَّلْطَنَةِ فَكَانُوا يُعْطُونَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْوَالَ حَتَّى يُسَمَّى وَلَدُ أَحَدِهِمْ بِفُلَانِ الدِّينِ، فَلَمَّا أَنْ طَالَ الْمَدَى وَصَارَ الْأَمْرُ إلَى التُّرْكِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ بِالتَّسْمِيَةِ بِالدَّوْلَةِ مَعْنًى إذْ أَنَّهَا قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ فَانْتَقَلُوا إلَى الدَّيْنِ، ثُمَّ فَشَا الْأَمْرُ وَزَادَ حَتَّى رَجَعُوا يُسَمُّونَ أَوْلَادَهُمْ بِغَيْرِ مَالٍ يُعْطُونَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَيْهِ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَلَا عَمَلَ، ثُمَّ صَارَ الْأَمْرُ مُتَعَارَفًا مُتَعَاهَدًا حَتَّى أَنِسَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. كَانَ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِالْعَالِمِ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ فَصَارَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُحْدِثَ الْأَعَاجِمُ، وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ شَيْئًا فَيُقْتَدَى بِالْعَالِمِ وَبِهِمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَكْسِ الْأُمُورِ وَانْقِلَابِ الْحَقَائِقِ. أَلَا تَرَى إلَى الْإِمَامِ الْحَافِظِ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَرْضَ قَطُّ بِهَذَا الِاسْمِ وَكَانَ يَكْرَهُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ وَصَحَّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَا أَجْعَلُ أَحَدًا فِي حِلٍّ مِمَّنْ يُسَمِّينِي بِمُحْيِي الدَّيْنِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ إذَا حَكَى شَيْئًا عَنْ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ قَالَ يَحْيَى النَّوَوِيُّ فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّا نَكْرَهُ أَنْ نُسَمِّيَهُ بِاسْمٍ كَانَ يَكْرَهُهُ فِي حَيَاتِهِ. فَعَلَى هَذَا فَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ إنَّمَا وُضِعَتْ عَلَيْهِمْ تَفَعُّلًا وَهُمْ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَسَمَّى الرَّجُلُ بِيَاسِينَ وَلَا بِجِبْرِيلَ وَلَا بِمُهْدٍ. قِيلَ فَالْهَادِي قَالَ هَذَا أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ الْهَادِيَ هَادِي الطَّرِيقِ «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ سَيِّئَ الْأَسْمَاءِ» مِثْلَ حَرْبٍ وَمُرَّةٍ وَجَمْرَةٍ وَحَنْظَلَةٍ

انْتَهَى. ثُمَّ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَتَسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي كَوْنِهِمْ أَكْثَرُوا النَّكِيرَ عَلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَخْذِهِ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي، ثُمَّ إنَّهُمْ اقْتَدُوا فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِمَنْ أَحْدَثَهَا فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ وَلَيْسُوا بِالْمَدِينَةِ بَلْ بِالْعِرَاقِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَمَلُ أَثْبُتُ مِنْ الْأَحَادِيثِ قَالَ: مَنْ اقْتَدَى بِهِ وَإِنَّهُ لَضَعِيفٌ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ. وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ التَّابِعِينَ تَبْلُغُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ الْأَحَادِيثُ فَيَقُولُونَ مَا نَجْهَلُ هَذَا وَلَكِنْ مَضَى الْعَمَلُ عَلَى غَيْرِهِ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ جَرِيرٍ رُبَّمَا قَالَ لَهُ أَخُوهُ لِمَ لَمْ تَقْضِ بِحَدِيثِ كَذَا فَيَقُولُ: لَمْ أَجِدْ النَّاسَ عَلَيْهِ قَالَ النَّخَعِيُّ لَوْ رَأَيْت الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَتَوَضَّئُونَ إلَى الْكُوعَيْنِ مَا تَوَضَّأْتُ كَذَلِكَ وَأَنَا أَقْرَؤُهَا {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُتَّهَمُونَ فِي تَرْكِ السُّنَنِ وَهُمْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ وَهُمْ أَحْرَصُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَظُنُّ ذَلِكَ بِهِمْ أَحَدٌ إلَّا ذُو رِيبَةٍ فِي دِينِهِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ السُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ سُنَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خَيْرٌ مِنْ الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ الْحَدِيثُ مَضَلَّةٌ إلَّا لِلْفُقَهَاءِ يُرِيدُ أَنَّ غَيْرَهُمْ قَدْ يَحْمِلُ الشَّيْءَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَهُ تَأْوِيلٌ مِنْ حَدِيثٍ غَيْرِهِ أَوْ دَلِيلٌ يَخْفَى عَلَيْهِ أَوْ مَتْرُوكٌ أَوْجَبَ تَرْكَهُ غَيْرُ شَيْءٍ مِمَّا لَا يَقُومُ بِهِ إلَّا مَنْ اسْتَبْحَرَ وَتَفَقَّهَ. قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا فَسَدَتْ الْأَشْيَاءُ حِينَ تَعَدَّى بِهَا مَنَازِلُهَا وَلَيْسَ هَذَا الْجَدَلُ مِنْ الدَّيْنِ بِشَيْءٍ نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ، وَمِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْأَمْرِ الْمَاضِي الْمَعْرُوفِ الْمَعْمُولِ بِهِ. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى مَكِيدَةِ الشَّيْطَانِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَمَا أَوْقَعَ فِيهَا مِنْ سُمِّهِ السَّمُومِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ فِيهِ اسْمُ نَبِيٍّ إلَّا بَعَثَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَيْهِمْ مَلَكَا يُقَدِّسُهُمْ

بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ» انْتَهَى. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَيُوقِفُ الْعَبْدَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اسْمُهُ أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدٌ قَالَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: عَبْدِي أَمَا اسْتَحَيْتَ مِنِّي وَأَنْتَ تَعْصِينِي وَاسْمُك اسْمُ حَبِيبِي مُحَمَّدٍ فَيُنَكِّسُ الْعَبْدُ رَأْسَهُ حَيَاءً وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ فَعَلْت فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا جِبْرِيلُ خُذْ بِيَدِ عَبْدِي وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَإِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أُعَذِّبَ بِالنَّارِ مَنْ اسْمُهُ اسْمُ حَبِيبِي. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعِنَايَةُ الْعُظْمَى فِي اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ بِهَا فِي اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَفَى بِهَا بَرَكَةً أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَوْ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَتَعُودُ عَلَيْهِمْ بَرَكَتُهُ، فَلَمَّا رَأَى الشَّيْطَانُ هَذِهِ الْبَرَكَةَ وَعُمُومَهَا أَرَادَ أَنْ يُزِيلَهَا عَنْهُمْ بِعَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ وَشَيْطَنَتِهِ الْكَمِينَةِ فَلَمْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُزِيلَهَا إلَّا بِضِدِّهَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالضِّدِّ، ثُمَّ إنَّهُ لَا يَأْتِي لِأَحَدٍ إلَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَعْرِفُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ فَلَمَّا أَنْ كَانَ أَهْلُ الْمَشْرِقِ الْغَالِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ وَالرِّيَاسَةِ أَبْدَلَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ الْمُبَارَكَةَ بِمَا فِيهِ ذَلِكَ نَحْوَ عِزِّ الدَّيْنِ وَشَمْسِ الدَّيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ، فَنَزَّلَ التَّزْكِيَةَ مَوْضِعَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمُبَارَكَةِ، وَلَمَّا أَنْ كَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ التَّوَاضُعُ وَتَرْكُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ أَتَى لِبَعْضِهِمْ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَهُ مِنْهُ فَأَوْقَعَهُمْ فِي الْأَلْقَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا لِمُحَمَّدٍ حَمُّو، وَلِأَحْمَدَ حَمْدُوسٌ، وَلِيُوسُفَ يَسْوَ وَلِعَبْدِ الرَّحْمَن رَحْمُو إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ مُتَعَارَفٌ بَيْنَهُمْ، فَأَعْطَى لِكُلِّ إقْلِيمٍ الشَّيْءَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَهُ مِنْهُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ هَذَا فَكَيْفَ يُتَّبَعُ أَوْ كَيْفَ يُرْجَعُ إلَيْهِ هَذَا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ التَّزْكِيَةِ وَالْكَذِبِ فَكَيْفَ مَعَ وُجُودِهِمَا وَالْعَالِمُ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ أَنْ يَنْصَحَ نَفْسَهُ وَيَنْصَحَ جُلَسَاءَهُ وَإِخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ بِإِظْهَارِ سُنَّةٍ وَالْإِرْشَادِ إلَيْهَا وَإِخْمَادِ بِدْعَةٍ وَالنَّهْيِ عَنْهَا وَالتَّهَاوُنِ بِهَا. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَائِدَةِ إلَّا مَعْرِفَةُ الذُّنُوبِ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا وَاَللَّهُ

فصل في اللباس

الْمُوَفِّقُ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَغْتَنِمَ مَا سِيقَ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ الشَّامِلَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ هَذَا أَوْ نَحْوَهُ حَصَلَ لَهُ إذْ ذَلِكَ وَصَارَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَمَنْ لَهُ بِهَذَا وَالْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ الْعَشَرَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، ثُمَّ أَهْلُ بَيْعَةِ الرُّضْوَانِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، ثُمَّ مَا جَاءَ مِنْ الْأَفْرَادِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، ثُمَّ هَذَا الْعَالِمُ الْمَذْكُورُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ فَكَأَنَّمَا أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» وَأَيُّ غَنِيمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ مَشْهُودًا لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَهُوَ فِي هَذَا الزَّمَنِ الْعَجِيبِ. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعِينَنَا عَلَى مَا يَقْرَبُنَا إلَيْهِ بِمَنِّهِ. وَسَيَأْتِي بَاقِي الْكَلَامِ عَلَى كُنَى الرِّجَالِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ الْكَلَامِ فِي نُعُوتِ النِّسَاءِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. [فَصْلٌ فِي اللِّبَاسِ] (فَصْلٌ) فِي اللِّبَاسِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ وَفِيمَنْ يُجَالِسُهُ بِالْقَوْلِ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فِي تَفْصِيلِ ثِيَابِهِ مِنْ طُولِ هَذَا الْكُمِّ وَالِاتِّسَاعِ وَالْكِبَرِ الْخَارِقِ الْخَارِجِ عَنْ عَادَةِ النَّاسِ، فَيَخْرُجُونَ بِهِ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ وَيَقَعُونَ بِسَبَبِهِ فِي الْمَحْذُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ» وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ أَنَّ كُمَّ بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ الْيَوْمَ فِيهِ إضَاعَةُ مَالٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفَصِّلُ مِنْ ذَلِكَ الْكُمِّ ثَوْبًا لِغَيْرِهِ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إزْرَةُ الْمُسْلِمِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا» فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ

يَزِيدُ فِي ثَوْبِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ حَاجَةٌ إلَيْهِ إذْ أَنَّ مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ بِهِ حَاجَةٌ فَمَنَعَهُ مِنْهُ وَأَبَاحَ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ، فَلَهَا أَنْ تَجُرَّ مِرْطَهَا خَلْفَهَا شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ، وَهِيَ التَّسَتُّرُ وَالْإِبْلَاغُ فِيهِ إذْ أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ وَذَلِكَ فِيهَا بِخِلَافِ الرِّجَالِ. وَكَرِهَ مَالِكٌ لِلرَّجُلِ سِعَةَ الثَّوْبِ وَطُولَهُ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ. وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْفِهْرِيُّ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُلْكِ وَالْخُلَفَاءِ لَهُ قَالَ: وَلَمَّا دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ سَيِّدُ الْعِبَادِ فِي زَمَانِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ وَكَانَ ثَوْبُهُ إلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ قَالَ لَهُ بِلَالٌ مَا هَذِهِ الشُّهْرَةُ يَا ابْنَ وَاسِعٍ فَقَالَ لَهُ ابْنُ وَاسِعٍ أَنْتُمْ شَهَرْتُمُونَا هَكَذَا كَانَ لِبَاسُ مَنْ مَضَى وَإِنَّمَا أَنْتُمْ طَوَّلْتُمْ ذُيُولَكُمْ فَصَارَتْ السُّنَّةُ بَيْنَكُمْ بِدْعَةً وَشُهْرَةً انْتَهَى. فَتَوْسِيعُ الثَّوْبِ وَكِبَرُهُ وَتَوْسِيعُ الْكُمِّ وَكِبَرُهُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ بِهِ حَاجَةٌ فَيُمْنَعُ مِثْلُ مَا زَادَ عَلَى الْكَعْبَيْنِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَإِنْ كَانَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ لَكِنْ تَصَرُّفًا غَيْرَ تَامٍّ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمِلْكَ التَّامَّ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَوَاضِعَ وَمَنَعَ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَوَاضِعَ، فَالْمَالُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ هُوَ مَالُهُ وَإِنَّمَا هُوَ فِي يَدِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ عَلَى أَنْ يَصْرِفَهُ فِي كَذَا وَلَا يَصْرِفُهُ فِي كَذَا، وَهَذَا بَيِّنٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَقُولُ أَحَدُهُمْ مَالِي مَالِي وَلَيْسَ لَك مِنْ مَالِكَ إلَّا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْتَ وَمَا لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ وَمَا تَصَدَّقْتَ فَأَبْقَيْتَ» وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى مَعَهُ عَمَلُهُ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ عَبْدٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ تَصَرُّفِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ الْمَالَ إلَّا حَيْثُ أُجِيزَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ إذْ أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيمَا لَا يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ صِفَةِ الِاتِّسَاعِ وَالْكِبَرِ فِي الثِّيَابِ فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ إذْ أَنَّ ذَلِكَ

لَيْسَ بِهِ حَاجَةٌ فَيُمْنَعُ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ عَنْ «عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ لَبِسَ ثَوْبًا فَوَجَدَ كُمَّهُ يَزِيدُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَطَلَبَ شَيْئًا يَقْطَعُهُ بِهِ فَلَمْ يَجِدْ فَأَخَذَ حَجَرًا وَأَلْقَى كُمَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ حَجَرًا آخَرَ فَجَعَلَ يَرُضُّهُ بِهِ حَتَّى قَطَعَ مَا فَضَلَ عَنْ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ تَرَكَهُ كَذَلِكَ مُدَلًّى حَتَّى خَرَجَتْ الْخُيُوطُ مِنْهُ وَتَدَلَّتْ فَقِيلَ لَهُ فِي خِيَاطَتِهِ فَقَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ بِثَوْبٍ كَذَلِكَ وَلَمْ يَخِطْهُ بَعْدُ حَتَّى تَقَطَّعَ الثَّوْبُ» . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَطَعَ كُمَّ رَجُلٍ إلَى قَدْرِ أَصَابِعِ كَفَّيْهِ، ثُمَّ أَعْطَاهُ فَضْلَ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ خُذْ هَذَا وَاجْعَلْهُ فِي حَاجَتِكَ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي طُولِ الْكُمَّيْنِ عَلَى قَدْرِ الْأَصَابِعِ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَرَآهُ مِنْ السَّرَفِ وَخَشَى عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَهُ مِنْهُ عُجْبٌ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ فِي كِتَابِهِ قَالَ: وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ لُبْسُ الثِّيَابِ الْكَثِيرَةِ الْأَثْمَانِ قَالَ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ثَوْبُ أَحَدِهِمْ مِنْ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَكَانُوا لَا يُجَاوِزُونَ هَذَا إلَّا نَادِرًا أَوْ كَمَا قَالَ. وَأَمَّا الْخُرُوجُ بِهِ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ فَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ حَالُهُمْ بِهِ كَيْفَ هُوَ لِخُرُوجِهِمْ بِهِ عَنْ زِيِّ سَائِرِ النَّاسِ وَتَكَلُّفِهِمْ فِي حَمْلِهِ أَنْ تَرَكُوهُ مُدَلًّى ثَقُلَ عَلَيْهِمْ فِي مَشْيِهِمْ فَتَقِلُ مُرُوءَةُ أَحَدِهِمْ بِسَبَبِهِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ الْكَثِيرِ بِسَبَبِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَعَاطِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ بِسَبَبِهِ وَإِنْ رَفَعَ يَدَهُ بِهِ احْتَاجَ إلَى حَمْلِهِ وَفِي حَمْلِهِ كُلْفَةٌ وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي ثَقُلَ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ سِيَّمَا إذَا كَانَ بِبِطَانَةٍ وَتَرَكَهُ مُدَلًّى، وَإِنْ رَفَعَ يَدَهُ بِهِ كَانَ حَامِلًا لِثُقْلٍ فِي صَلَاتِهِ فَهُوَ شُغْلٌ فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ شُغْلًا فِي الصَّلَاةِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ أَنْ يَكْفِتَ أَحَدٌ شَعْرَهُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ يَضُمَّ ثَوْبَهُ» ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ شُغْلٌ فِي الصَّلَاةِ. فَإِذَا ضَمَّ ثَوْبَهُ حِينَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَعَ فِي هَذَا النَّهْيِ الصَّرِيحِ وَإِنْ لَمْ يَضُمَّ وَتَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ انْفَرَشَ عَلَى

الْأَرْضِ حِينَ السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ فَيُمْسِكُ بِهِ إنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ ثِيَابَهُمْ كَانَتْ تَنْقَطِعُ مِنْ عِنْدِ مَنَاكِبِهِمْ لِشِدَّةِ تَرَاصِّهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُسَوِّيَهُمْ وَيُعَلِّمَهُمْ تَرْصِيصَ الصُّفُوفِ» وَكَيْفَ هِيَ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ وَرِجَالٌ مُوَكَّلُونَ بِالصَّلَاةِ، فَإِنْ رَأَوْا أَحَدًا صَلَّى فِي صَفٍّ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ إلَى الْقِبْلَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَدْخُلَهُ ذَهَبُوا بِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَى الْحَبْسِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا مَوْضِعُ قِيَامِهِ وَسُجُودِهِ وَجُلُوسِهِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحُصْرُ الْيَوْمَ عَلَى مَا يُعْهَدُ وَيُعْلَمُ، وَلَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً فَلَا بُدَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بِدْعَةِ هَذِهِ السَّجَّادَةِ. فَإِذَا بَسَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ احْتَاجَ لِأَجْلِ سِعَةِ ثَوْبِهِ أَنْ يَبْسُطَ شَيْئًا كَبِيرًا لِيَعُمَّ ثَوْبَهُ عَلَى سَجَّادَتِهِ فَيَكُونُ فِي سَجَّادَتِهِ اتِّسَاعٌ خَارِجٌ فَيُمْسِكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَوْضِعَ رَجُلَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا إنْ سَلِمَ مِنْ الْكِبْرِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَضُمُّ إلَى سَجَّادَتِهِ أَحَدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ذَلِكَ وَوَلَّى النَّاسُ عَنْهُ وَتَبَاعَدُوا مِنْهُ هَيْبَةً لَكُمِّهِ وَثَوْبِهِ وَتَرَكَهُمْ هُوَ وَلَمْ يَأْمُرُهُمْ بِالْقُرْبِ إلَيْهِ فَيُمْسِكُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ غَاصِبًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمَنْصُوصِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي أَمْسَكَهُ بِسَبَبِ قُمَاشِهِ وَسَجَّادَتِهِ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ حَاجَةٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ غَاصِبٌ لَهُ فَيَقَعُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ بِسَبَبِ قُمَاشِهِ وَسَجَّادَتِهِ وَزِيِّهِ، فَإِنْ بَعَثَ سَجَّادَتَهُ إلَى الْمَسْجِدِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ قَبْلَهُ فَفُرِشَتْ لَهُ هُنَاكَ وَقَعَدَ هُوَ إلَى أَنْ يَمْتَلِئَ الْمَسْجِدُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ فَيَقَعُ فِي مَحْذُورَاتٍ جُمْلَةً مِنْهَا غَصْبُهُ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَتْ السَّجَّادَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْجِزَهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ إلَّا مَوْضِعُ صَلَاتِهِ

وَمِنْ سَبَقَ كَانَ أَوْلَى وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ بِأَنَّ السَّبَقَ لِلسَّجَّادَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ لِبَنِي آدَمَ فَيَقَعُ فِي الْغَصْبِ أَوَّلًا لِكَوْنِهِ مَنَعَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِمَّنْ سَبَقَهُ، فَإِذَا جَاءَ كَانَ غَاصِبًا لِمَا زَادَ عَلَى مَوْضِعِ صَلَاتِهِ بَلْ غَاصِبًا لِلْمَوْضِعِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ كَانَ أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهُ فَيَكُونُ غَيْرُهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ هُوَ، فَلَمَّا أَنْ تَقَدَّمَ عَلَى مَنْ سَبَقَهُ كَانَ غَاصِبًا وَمِنْهَا تَخَطِّيهِ لِرِقَابِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ إتْيَانِهِ لِلسَّجَّادَةِ، وَقَدْ نَصَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ أَنَّهُ مُؤْذٍ وَنَهَى عَنْهُ «فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِي دَخَلَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْت» فَنَهَاهُ وَأَخْبَرَ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مُؤْذٍ. وَقَدْ وَرَدَ «كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ» فَيَقَعُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَيْضًا مِنْ نَصْبِ بِسَاطٍ كَبِيرٍ فِي الْمَسْجِدِ لِكَيْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ هُوَ وَبَعْضُ خَدَمِهِ وَحَشَمِهِ، ثُمَّ يَبْسُطُ عَلَى الْبِسَاطِ هَذِهِ السَّجَّادَةَ فَيُمْسِكُ فِي الْمَسْجِدِ مَوَاضِعَ كَثِيرَةً غَاصِبًا لَهَا فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ مَا يَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْخُيَلَاءِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَوْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْأَعَاجِمِ أَوْ الْجُهَلَاءِ بِدِينِهِمْ لَوَجَبَ عَلَى الْعَالِمِ تَحْذِيرُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَزَجْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ وَالْأَخْذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ أَوْ وَعْظُهُمْ إنْ كَانَ يَخَافُ شَوْكَتَهُمْ فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ الْعَالِمُ فِي نَفْسِهِ. كَانَ النَّاسُ يَقْتَبِسُونَ أَثَارَ الْعَالِمِ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَرْجِعُونَ عَنْ عَوَائِدِهِمْ لِعَوَائِدِهِ فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ فَصَارَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ يُحْدِثُونَ أَشْيَاءَ مِثْلَ هَذَا وَغَيْرِهِ فَيُسْكَتُ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَأْتِي الْعَالِمُ فَيَتَشَبَّهُ بِهِمْ فِي فِعْلِهِمْ فَكَانَ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِالْعُلَمَاءِ فَرَجَعْنَا نَقْتَدِي بِفِعْلِ الْجُهَلَاءِ، وَهَذَا الْبَابُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي تُرِكَتْ مِنْهُ السُّنَنُ غَالِبًا أَعْنِي اتِّخَاذَ عَوَائِدَ يَقَعُ الِاصْطِلَاحُ عَلَيْهَا وَيُمْشَى عَلَيْهَا فَيَنْشَأُ نَاسٌ عَلَيْهَا لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا وَيَتْرُكُونَ مَا وَرَاءَهَا، فَجَاءَ مَا قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَيْلَكُمْ يَا مَعَاشِرَ الْعُلَمَاءِ السُّوءِ الْجَهَلَةِ بِرَبِّهِمْ جَلَسْتُمْ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ تَدْعُونَ النَّاسَ إلَى النَّارِ بِأَعْمَالِكُمْ فَلَا أَنْتُمْ دَخَلْتُمْ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ

أَعْمَالِكُمْ وَلَا أَنْتُمْ أَدْخَلْتُمْ النَّاسَ بِهَا بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ قَطَعْتُمْ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُرِيدِ وَصَدَدْتُمْ الْجَاهِلَ عَنْ الْحَقِّ فَمَا ظَنُّكُمْ غَدًا عِنْدَ رَبِّكُمْ إذَا ذَهَبَ الْبَاطِلُ بِأَهْلِهِ وَقَرَّبَ الْحَقُّ أَتْبَاعَهُ انْتَهَى. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ مَضَى أَنَّهُ كَانَ لِعُلَمَائِهِمْ لِبَاسٌ يُعْرَفُونَ بِهِ غَيْرُ لِبَاسِ النَّاسِ جَمِيعًا لَا مَزِيَّةَ لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الثَّوْبِ وَلَا فِي التَّفْصِيلِ بَلْ لِبَاسُ بَعْضِهِمْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ لِتَوَاضُعِهِمْ وَوَرَعِهِمْ وَزُهْدِهِمْ وَلِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ وَلِفَضِيلَةِ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّرْعِ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُبَادِرُ إلَى الْأَفْضَلِ وَالْأَرْجَحِ وَالْأَزْكَى فِي الشَّرْعِ. نَعَمْ إنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَسْتَحِبُّ لِلْقَارِئِ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ أَبْيَضَ يَعْنِي يَفْعَلُ ذَلِكَ تَوْقِيرًا لِلْعِلْمِ فَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَسِخًا وَلَا قَذِرًا بَلْ نَظِيفًا مِنْ الْأَوْسَاخِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ يُخَالِفُ لِبَاسَ النَّاسِ بِسَبَبِ عِلْمِهِ. قَدْ كَانَ لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثِيَابٌ كَثِيرَةٌ يُوَقِّرُ بِهَا مَجَالِسَ الْحَدِيثِ حِينَ كَانَ يَقْرَؤُهُ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحَدِيثِ إلَّا عَلَى الْعَادَةِ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا طَلَبَهُ الْفُقَهَاءُ لِلدَّرْسِ سَأَلَهُمْ مَا يُرِيدُونَ، فَإِنْ أَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَسَائِلَ الْفِقْهِ خَرَجَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَجِدُونَهُ عَلَيْهَا لَا يَزِيدُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا، وَإِنَّ أَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْحَدِيثَ دَخَلَ إلَى بَيْتِهِ وَاغْتَسَلَ وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَتَبَخَّرَ بِالْمِسْكِ وَالْعُودِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْحَدِيثِ وَيُطْلِقُ الْبَخُورَ بِالْمِسْكِ وَالْعُودِ طُولَ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ تَعْظِيمًا لِلْحَدِيثِ. وَلَقَدْ حَكَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَلَوْنُهُ يَتَغَيَّرُ وَيَصْفَرُّ وَيَتَلَوَّنُ إلَى أَنْ فَرَغَ الْمَجْلِسُ وَانْقَضَى النَّاسُ أَخْرَجَ الْخُفَّ مِنْ رِجْلِهِ، فَإِذَا فِيهِ عَقْرَبٌ قَدْ لَسَعَتْهُ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً قَالَ: فَقُلْت لَهُ يَا إمَامُ مَا مَنَعَك أَنْ تَخْلَعَهُ فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ ضَرَبَتْك فَقَالَ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ يُقْرَأُ وَأَقْطَعُهُ لِضُرٍّ أَصَابَ بَدَنِي أَوْ كَمَا قَالَ. فَكَانَ تَعْظِيمُهُ لِلْحَدِيثِ كَمَا تَرَى. وَهَذَا اللِّبَاسُ الْيَوْمَ لَمْ يَجْعَلُوهُ لِمَجْلِسِ الْحَدِيثِ بَلْ لِمَجَالِسِ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانُوا فِي مَجْلِسِ الْحَدِيثِ فَتَجِدُهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ إذْ ذَاكَ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى

لِقَوْلِهِ {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] الْآيَةَ. قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا فَرْقَ بَيْنَ رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ عَلَى حَدِيثِهِ، فَيُوَقِّرُونَ مَجَالِسَ الْحَدِيثِ فِي اللِّبَاسِ وَيُقِلُّونَ الْأَدَبَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ وَالْبَحْثِ وَالِانْزِعَاجِ إذْ ذَاكَ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي يَقْرَؤُنَّهُ يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ اللِّبَاسِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ «نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ» ، وَمِنْ «أَمْرِهِ بِإِزْرَةِ الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ وَمَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ التَّأْكِيدِ فِي لُبْسِ الْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ إلَّا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةُ لِبَاسِ النَّاسِ لِفَقِيهٍ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَمَجَالِسُ الْعِلْمِ اللُّبْسُ لَهَا أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَقَدْ جُعِلَتْ الْيَوْمَ هَذِهِ الثِّيَابُ لِلْفَقِيهِ كَأَنَّهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلطَّالِبِ مِنْهَا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْعُدَ فِي الدَّرْسِ إلَّا بِهَا، فَإِنْ قَعَدَ بِغَيْرِهَا قِيلَ عَنْهُ مُهِينٌ يَتَهَاوَنُ بِمَنْصِبِ الْعِلْمِ لَا يُعْطِي الْعِلْمَ حَقَّهُ لَا يَقُومُ بِمَا يَجِبُ لَهُ فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ وَدَثَرَتْ السُّنَّةُ، وَنُسِيَ فِعْلُ السَّلَفِ بِفَتْوَى مَنْ غَفَلَ أَوْ وَهَمَ وَاتِّبَاعِهَا وَشَدِّ الْيَدِ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا جَاءَتْ فِيهَا حُظُوظُ النَّفْسِ وَمَلْذُوذَاتُهَا، وَهِيَ التَّمْيِيزُ عَنْ الْأَصْحَابِ وَالْأَقْرَانِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَبِسَ ذَلِكَ الثَّوْبَ عِنْدَهُمْ قِيلَ هُوَ فَقِيهٌ فَيَتَمَيَّزُ إذْ ذَلِكَ عَنْ الْعَوَامّ وَهَذِهِ دَرَجَةٌ لَا تَحْصُلُ لَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ دَرَجَةُ فَضِيلَةٍ تَنْقُلُهُ عَنْ دَرَجَةِ الْعَوَامّ فَبِنَفْسِ اللُّبْسِ لِتِلْكَ الثِّيَابِ انْتَقَلَتْ دَرَجَتُهُ عَنْهُمْ وَرَجَعَ مَلْحُوقًا بِالْفُقَهَاءِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. رَجَعَ الْفِقْهُ بِالزِّيِّ دُونَ الدَّرْسِ وَالْفَهْمِ وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْإِشَارَةُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِقَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» انْتَهَى. وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْعَوَامَّ لَا يَأْتُونَ الْعَوَامَّ يَسْأَلُونَهُمْ وَلَا يَرْأَسُ عَامِّيٌّ عَلَى آخَرَ مِنْ جِهَةِ الْفِقْهِ لَكِنْ لَمَّا صَارَ الْفِقْهُ عِنْدَهُمْ لَهُ خِلْعَةٌ يَخْتَصُّ بِهَا فَجَاءَ

هَذَا الْمُبْتَدِئُ فَلَبِسَ تِلْكَ الْخِلْعَةَ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا أَوْ عَرَفَ الْبَعْضَ وَلَمْ يَعْرِفْ الْبَعْضَ، وَرَآهُ الْعَوَامُّ عَلَى زِيِّ مَنْ هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي زَمَانِهِمْ فَسَأَلُوهُ عَنْ مَسَائِلَ تَقَعُ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْخِلْعَةِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ لِئَلَّا يُنْسَبَ إلَى قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فَيَسْقُطُ مِنْ أَعْيُنِهِمْ بَعْدَ أَنْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، فَتُجْمَعُ عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّسِيسَةُ السُّمَيَّةُ مَعَ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلِهِ وَتَزْيِينِهِ فَيُفْتِي بِرَأْيِهِ وَبِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَيَقِيسُ مَسْأَلَةً عَلَى غَيْرِهَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا مِثْلُهَا أَوْ تُقَارِبُهَا وَلَيْسَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْصِبٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ فَيُرْتَكَبُ الْمَحْظُورَ وَيُدْخِلُ نَفْسَهُ فِي الْخَطَرِ وَيُفْتِي فَيَضِلُّ بِارْتِكَابِهِ لِلْبَاطِلِ وَيُضِلُّ غَيْرَهُ فَحَصَلَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ الْعُظْمَى بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فِي اللِّبَاسِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجَرَّبٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَشْهُورٌ بَيْنَهُمْ أَنَّ السُّنَّةَ إذَا تُرِكَتْ فِي شَيْءٍ لَا يَأْتِي مَا عُمِلَ عِوَضًا مِنْهَا إلَّا تُرِكَ الْخَيْرُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي قَدَمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْخَيْرُ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ» . وَالْجَنَّةُ لَا تُنَالُ إلَّا مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، أَعْنِيَ بِاتِّبَاعِهِ فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا تَقَدَّمَ وَمَا حُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ لَهُ ثَوْبٌ فِيهِ إحْدَى عَشْرَةَ رُقْعَةً إحْدَاهَا مِنْ أُدْمٍ وَمَا زَالَ النَّاسُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَغَيْرِهِ إلَّا بِحُسْنِ هَدْيِهِ وَسَمْتِهِ أَوْ حُسْنِ كَلَامِهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعَالِمُ يُعْرَفُ بِلَيْلِهِ إذَا النَّاسُ نَائِمُونَ وَبِنَهَارِهِ إذَا النَّاسُ مُفْطِرُونَ وَبِبُكَائِهِ إذَا النَّاسُ يَضْحَكُونَ وَبِصَمْتِهِ إذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ وَبِخُشُوعِهِ إذَا النَّاسُ يَخْتَالُونَ وَبِحُزْنِهِ إذَا النَّاسُ يَفْرَحُونَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخُوضَ مَعَ مَنْ يَخُوضُ وَلَا يَجْهَلَ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيُصْفَحُ انْتَهَى. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَلْ قَالَا الْعَالِمُ يُعْرَفُ بِوُسْعِ كُمِّهِ وَطُولِهِ وَوُسْعِ ثَوْبِهِ وَحُسْنِهِ بَلْ وَصَفُوهُ بِمَا

تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْ أَوْصَافِنَا الْيَوْمَ كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ لَمْ يَصِفُوا الْعَالِمَ إلَّا بِمِثْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ. قَالُوا وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ حَامِدًا وَلِنِعَمِهِ شَاكِرًا وَلَهُ ذَاكِرًا وَعَلَيْهِ مُتَوَكِّلًا وَبِهِ مُسْتَعِينًا وَإِلَيْهِ رَاغِبًا وَبِهِ مُعْتَصِمًا وَلِلْمَوْتِ ذَاكِرًا وَلَهُ مُسْتَعِدًّا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنْ ذَنْبِهِ رَاجِيًا عَفْوَ رَبِّهِ وَيَكُونَ خَوْفُهُ فِي صِحَّتِهِ أَغْلِبُ عَلَيْهِ انْتَهَى. فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَنَّهُ يَكُونُ زِيُّهُ كَذَا وَلِبَاسُهُ كَذَا. حِينَ كَانَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا انْتَفَعَ النَّاسُ بِهِمْ وَوَجَدُوا الْبَرَكَةَ وَالْخَيْرَ وَالرَّاحَةَ عَلَى أَيْدِيهِمْ، حَكَى لِي سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ شَيْخِهِ سَيِّدِي أَبِي الْحَسَنِ الزَّيَّاتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ خَرَجَ إلَى بُسْتَانِهِ لِيَعْمَلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ يَخْرُجُ إلَى حَائِطِهِ يَعْمَلُ بِيَدِهِ وَإِذَا بِبَعْضِ الظَّلَمَةِ أَخَذُوهُ مَعَ غَيْرِهِ فِي السُّخْرَةِ لِبْسَتَانِ السُّلْطَانِ فَمَضَى مَعَهُمْ وَقَعَدَ يَعْمَلُ مَعَهُمْ إلَى أَنْ جَاءَ الْوَزِيرُ وَدَخَلَ لَلِبْسَتَانِ لِيَنْظُرَ مَا عُمِلَ فِيهِ فَإِذَا بِهِ، وَقَدْ وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى الشَّيْخِ، وَهُوَ يَعْمَلُ فَطَأْطَأَ عَلَى قَدَمَيْهِ يُقَبِّلُهُمَا وَيَقُولُ: يَا سَيِّدِي مَا جَاءَ بِك هُنَا فَقَالَ: أَعْوَانُكُمْ الظَّلَمَةُ. فَقَالَ: يَا سَيِّدِي عَسَى أَنَّك تُقِيلُنَا وَتَخْرُجُ فَأَبَى، فَقَالَ لَهُ: وَلِمَ، قَالَ: هَؤُلَاءِ إخْوَانِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ أَخْرُجُ وَهُمْ فِي ظُلْمِكُمْ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ فَسَأَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهِمْ فَأَبَى فَقَالَ لَهُ: وَلِمَ؟ فَقَالَ لَهُ: غَدًا تَأْخُذُونَهُمْ أَنْتُمْ إنْ كَانَتْ لَكُمْ بِهِمْ حَاجَةٌ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تَابُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يَسْتَعْمِلُوا أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ظُلْمًا انْتَهَى. فَانْظُرْ إلَى بَرَكَةِ زِيِّ الْعَالِمِ إذَا كَانَ مِثْلَ زِيِّ النَّاسِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ هَذَا فِي وَاحِدَةٍ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهَا وَغَيْرِهَا فَلَوْ كَانَ عَلَى الشَّيْخِ إذْ ذَلِكَ لِبَاسٌ يُعْرَفُ بِهِ لَمْ يُؤْخَذْ فَكَانَتْ تِلْكَ الْبَرَكَةُ تُمْتَنَعُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ أُخِذُوا إذْ ذَلِكَ فِي ظُلْمِ السُّلْطَانِ. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى هَذِهِ الْحِكَايَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِهَذَا السَّيِّدِ الْجَلِيلِ يُؤْخَذُ مِنْهَا الِاسْتِحْبَابُ لِلْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ لِبَاسُهُ مِثْلَ لِبَاسِ سَائِرِ النَّاسِ لِتَحْصُلَ بِهِ الْمَنْفَعَةُ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ. قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ أَكْرَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَشَحُّوا عَلَى دِينِهِمْ وَأَعَزُّوا الْعِلْمَ وَصَانُوهُ وَأَنْزَلُوهُ حَيْثُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَخَضَعَتْ لَهُمْ رِقَابُ الْجَبَابِرَةِ وَانْقَادَتْ لَهُمْ النَّاسُ وَكَانُوا لَهُمْ تَبَعًا وَعَزَّ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَذَلُّوا أَنْفُسَهُمْ وَلَمْ يُبَالُوا بِمَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِمْ إذَا سَلِمَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ وَبَذَلُوا عِلْمَهُمْ لِأَبْنَاءِ الدُّنْيَا لِيُصِيبُوا بِذَلِكَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، فَذَلُّوا وَهَانُوا عَلَى النَّاسِ انْتَهَى. فَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لَا يُكَابَرُ فِيهَا لِوُجُودِهَا حِسِّيَّةً مُشَاهَدَةً عِنْدَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَّا مَعَ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ الْمُفَاخَرَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالْخُيَلَاءِ. فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَدِمَ إلَى الشَّامِ وَكَانَ عَلَى جَمَلٍ خِطَامُهُ لِيفٌ وَرَحْلُهُ وَزَادُهُ تَحْتَهُ وَمُرَقَّعَتُهُ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ الْأَجْنَادُ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا أَبْيَضَ وَأَنْ يَرْكَبَ بِرْذَوْنًا لِيُرْهِبَ الْعَدُوَّ بِذَلِكَ فَفَعَلَ، فَلَمَّا أَنْ اسْتَوَى عَلَى الْبِرْذَوْنِ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَقِيلُوا عُمَرَ عَثْرَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَكُمْ فَرَجَعَ إلَى ثَوْبِهِ وَجَمَلِهِ وَقَالَ بِالْإِيمَانِ اعْتَزَزْنَا فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَتْحِ الْبِلَادِ عَلَى مَا نَقَلَهُ أَهْلُ التَّارِيخِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَإِنَّمَا عَزَّ الْفَقِيهُ بِفَهْمِ الْمَسَائِلِ وَشَرْحِهَا وَمَعْرِفَتِهَا وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا وَتَعْظِيمِهَا وَتَرْفِيعِهَا وَتَعْلِيمِ مَا حَصَلَ مِنْ بَرَكَتِهَا وَخَيْرِهَا وَمَعْرِفَةِ الْبِدَعِ وَتَجَنُّبِهَا وَتَبْيِينِ شُؤْمِهَا وَمَقْتِهَا وَظَلَامِهَا وَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَقْتِ لِفَاعِلِهَا أَوْ الْمُسْتَهِينِ لِلْقَلِيلِ مِنْهَا وَتَبْيِينِ مَا يَحْصُلُ لِفَاعِلِ هَذَا كُلِّهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَمِنْ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ وَالْعَمَلِ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فَجَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ خِلْعَةَ الْعُلَمَاءِ الْخَشْيَةَ وَجَعَلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ خِلْعَةَ الْعَالِمِ تَوْسِيعَ الثِّيَابِ وَالْأَكْمَامِ وَكِبَرِهَا وَحُسْنِهَا وَصِقَالَتِهَا وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ مَعَ الْعِمَامَةِ إلَى طَيْلَسَانٍ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ قَدْ خَنَقَ نَفْسَهُ بِهِ وَيَتَفَقَّدُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ مِنْ جَوَانِبِ خَدَّيْهِ أَنْ يَكُونَ مَالَ إلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَيَظْهَرُ وَجْهُهُ لِلنَّاسِ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ تَحْتَجِبُ تَخَافُ أَنْ تُبَيِّنَ وَجْهَهَا لِلرِّجَالِ حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَيَغْرِزُ الْإِبَرَ فِي الطَّيْلَسَانِ

مَعَ الْعِمَامَةِ حَتَّى لَا يَكْشِفَهُ الْهَوَاءُ عَنْ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَهَكَذَا تَفْعَلُ الْمَرْأَةُ بِالْقِنَاعِ وَالْخِمَارِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ تُمْسِكُ ذَلِكَ بِالْإِبَرِ وَتَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِهَا أَنْ تَنْكَشِفَ رَأْسُهَا مِنْ قِنَاعِهَا أَوْ يَبِينَ وَجْهُهَا لِغَيْرِ مَحَارِمِهَا، وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ الرِّدَاءُ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَكَذَلِكَ الْعِمَامَةُ وَالْعَذْبَةُ لَكِنَّ الرِّدَاءَ كَانَ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ وَنِصْفًا وَنَحْوَهَا، وَالْعِمَامَةُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَنَحْوَهَا يُخْرِجُونَ مِنْهَا التَّلْحِيَةَ وَالْعَذْبَةَ وَالْبَاقِي عِمَامَةٌ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ قَالَ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالتَّلَحِّي وَنَهَى عَنْ الِاقْتِعَاطِ» . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ الْمُحْكَمِ: قَعَطَ الرَّجُلُ عِمَامَتَهُ يَقْتَعِطُهَا اقْتِعَاطًا أَيْ أَدَارَهَا عَلَى رَأْسِهِ وَلَمْ يَتَلَحَّ بِهَا. وَقَدْ نَهَى عَنْهُ. وَكَذَلِكَ فَسَّرَ الِاقْتِعَاطَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْعَيْنِ الِاقْتِعَاطُ أَنْ يَعْتَمَّ الرَّجُلُ بِالْعِمَامَةِ، وَلَا يَتَلَحَّى وَالْمُقْتَعَطَةُ الْعِمَامَةُ، وَقَدْ اقْتَعَطَهَا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْمُعْتَمِّ لَا يُدْخِلُ تَحْتَ ذَقَنِهِ مِنْهَا فَكَرِهَ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ إنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ لِمُخَالَفَةِ فِعْلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اقْتِعَاطُ الْعَمَائِمِ هُوَ التَّعْمِيمُ دُونَ حَنَكٍ، وَهُوَ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ قَدْ شَاعَتْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَنَظَرَ مُجَاهِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَوْمًا إلَى رَجُلٍ قَدْ اعْتَمَّ وَلَمْ يَحْتَنِكْ فَقَالَ: اقْتِعَاطٌ كَاقْتِعَاطِ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ عِمَامَةُ الشَّيَاطِينِ وَعَمَائِمُ قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْمُؤْتَفِكَاتِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْوَاضِحَةِ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ وَدَارِهِ بِالْعِمَامَةِ دُونَ تَلَحٍّ، وَأَمَّا بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ وَالْمَسَاجِدِ فَلَا يَنْبَغِي تَرْكُ الِالْتِحَاءِ، فَإِنَّ تَرْكَهُ مِنْ بَقَايَا عَمَائِمِ قَوْمِ لُوطٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ شَدَّدَ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْكَرَاهَةَ فِي تَرْكِ التَّحْنِيكِ. قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ وَفِي الْمُخْتَصَرِ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ

الْعِمَامَةِ يَعْتَمُّ بِهَا الرَّجُلُ، وَلَا يَجْعَلُهَا تَحْتَ حَلْقِهِ فَأَنْكَرَهَا وَقَالَ: إنَّهَا مِنْ عَمَائِمِ الْقِبْطِ فَقِيلَ لَهُ، فَإِنْ صَلَّى بِهَا كَذَلِكَ قَالَ: لَا بَأْسَ وَلَيْسَتْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ إلَّا أَنْ تَكُونَ عِمَامَةً قَصِيرَةً لَا تَبْلُغُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا اعْتَمَّ جَعَلَ مِنْهَا تَحْتَ ذَقَنِهِ وَسَدَلَ طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْمَعُونَةِ لَهُ: وَمِنْ الْمَكْرُوهِ مَا خَالَفَ زِيَّ الْعَرَبِ وَأَشْبَهَ زِيَّ الْعَجَمِ كَالتَّعْمِيمِ مِنْ غَيْرِ حَنَكٍ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا عِمَامَةُ الشَّيَاطِينِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ السُّنَّةُ فِي الْعِمَامَةِ أَنْ يُسْدِلَ طَرَفَهَا إنْ شَاءَ أَمَامَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِنْ شَاءَ مِنْ خَلْفِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ التَّحْنِيكِ فِي الْهَيْئَتَيْنِ، وَأَمَّا حُكْمُ طَرَفِ الْعِمَامَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَخْيِيرُ الْعُلَمَاءِ فِي سَدْلِهِ إنْ شَاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ عَنْهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ أَرْخَى طَرَفَ عِمَامَتِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ» قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ أَرَ أَحَدًا مِمَّنْ أَدْرَكْته يُرْخِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ الذُّؤَابَةَ وَلَكِنْ يُرْسِلُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ إرْسَالَ الذُّؤَابَةِ بَيْنَ الْيَدَيْنِ بِدْعَةٌ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ السَّلَفِ فَيَكُونُ هُوَ قَدْ أَصَابَ السُّنَّةَ وَهُمْ قَدْ أَخَطَؤُهَا وَابْتَدَعُوهَا أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ قَالَ الْقَرَافِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا أَفْتَى مَالِكٌ حَتَّى أَجَازَهُ أَرْبَعُونَ مُحَنَّكًا انْتَهَى. وَمَا حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا أَفْتَى حَتَّى أَجَازَهُ أَرْبَعُونَ مُحَنَّكًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَذْبَةَ دُونَ تَحْنِيكٍ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ وَصْفَهُمْ بِالتَّحْنِيكِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ امْتَازُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا فَمَا كَانَ لِوَصْفِهِمْ بِالتَّحْنِيكِ فَائِدَةٌ إذْ الْكُلُّ مُجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّمَا الْمَكْرُوهُ فِي الْعِمَامَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِهِمَا، فَإِنْ كَانَا مَعًا فَهُوَ الْكَمَالُ فِي امْتِثَالِ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ خَرَجَ بِهِ عَنْ الْمَكْرُوهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَعَلَى هَذَا إذَا أَرْخَى الْعَذْبَةَ وَتَقَنَّعَ أَكْمَلَ السُّنَّةَ كَمَا لَوْ تَحَنَّكَ وَأَرْخَى الْعَذْبَةَ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ كَانُوا

يَعْتَمُّونَ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ طُلُوعَهَا إنَّمَا يَكُونُ فِي زَمَانِ الْحَرِّ فَيُزِيلُونَهَا عَنْ رُءُوسِهِمْ، وَمَنْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا فِي هَذَا الزَّمَانِ كَأَنَّهُ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فِي الدَّيْنِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَيَرُدُّونَ شَهَادَتَهُ وَيَقَعُونَ فِي حَقِّهِ بِنِسْبَتِهِ أَنَّهُ دَاخِلٌ بِذَلِكَ فِي جُمْلَةِ الْمُوَلِّهِينَ وَأَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ مُرُوءَةٌ بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ ذَلِكَ فَرَجَعَ فِعْلُ السَّلَفِ جُرْحَةً فِي حَقِّ مَنْ اقْتَدَى بِهِمْ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ مَنْ حَضَرَ السَّمَاعَ وَرَقَصَ وَسَقَطَتْ عِمَامَتُهُ وَظَهَرَ مِنْهُ فِعْلُ الْمَجَانِينِ، وَمَا يُذْهِبُ الْمُرُوءَةَ وَالْحِشْمَةَ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُسْقِطُونَهُ وَرُبَّمَا نَسَبُوهُ إلَى الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَرُبَّمَا اعْتَقَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى هَذِهِ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ مِنْ أَئِمَّتِنَا فِي الْعِمَامَةِ وَمَا تَكَلَّمُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّ الْعِمَامَةَ دُونَ تَحْنِيكٍ وَدُونَ عَذْبَةٍ جَائِزَةٌ لَيْسَتْ بِمَكْرُوهَةٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللُّبْسَ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ وَتَرَكَهُ وَمَضَى. فَانْظُرْ إلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ الْعَجِيبِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا مِنْ النُّصُوصِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ اللُّبْسُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ مُطْلَقًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَرْضَ مِنْهُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتُرَ مِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ وَفِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتُرَ جَمِيعَ بَدَنِهَا إلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَالسُّنَّةُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتُرَ جَمِيعَ جَسَدِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِذَلِكَ لِأَجْلِ الِامْتِثَالِ، ثُمَّ الْعِمَامَةُ عَلَى صِفَتِهَا فِي السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالرِّدَاءُ فِي الصَّلَاةِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَكَذَلِكَ هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ بِالْخُرُوجِ إلَى الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ بِثِيَابٍ غَيْرِ ثِيَابِ مِهْنَتِهِ، فَأَيْنَ الْمُبَاحُ الْمُطْلَقُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ كُلُّهُ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، ثُمَّ لَوْ تَنَزَّلْنَا مَعَهُ إلَى مَا قَالَهُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ فَالْأَكْلُ أَيْضًا مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ، لَكِنَّ السُّنَّةَ فِيهِ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ أَوَّلِهِ وَيَأْكُلَ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَأْكُلُ بِيَسَارِهِ وَأَنْ لَا يَنْهَشَ الْخُبْزَ كَاللَّحْمِ وَأَنْ يُصَغِّرَ اللُّقْمَةَ وَيُكْثِرَ مَضْغَهَا وَأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ حَاضِرًا وَأَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ آخِرِهِ، وَكَذَلِكَ فِي شُرْبِهِ الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، وَكَذَلِكَ الدُّخُولُ إلَى الْبَيْتِ

وَالْخُرُوجُ مِنْهُ هُوَ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يُقَدِّمَ الْيُمْنَى وَيُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، فَإِذَا كَانَ نَفْسُ لُبْسِ الْعِمَامَةِ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ فِعْلِ سُنَنٍ بِهَا مِنْ تَنَاوُلِهَا بِالْيَمِينِ وَقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ وَالذِّكْرِ الْوَارِدِ إنْ كَانَ مَا لَبِسَهُ جَدِيدًا وَامْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي صِفَةِ التَّعْمِيمِ مِنْ فِعْلِ التَّحْنِيكِ وَالْعَذْبَةِ وَتَصْغِيرِ الْعِمَامَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَارِكِ شَيْءٍ مِنْ السُّنَنِ وَالْآدَابِ: إنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُقَبَّحَ لَهُ فِعْلُهُ وَيُذَمَّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ وَإِلَّا هُجِرَ مِنْ أَجْلِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ خِلَافِ السُّنَّةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ بِالْجَوَازِ دُونَ كَرَاهَةٍ مَعَ النُّصُوصِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَلَغَنِي أَنَّ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْيَمَنِ وَأَنَّهُ ارْتَدَى بُرْدَةً وَكَانَتْ طَوِيلَةً فَانْجَرَّتْ مِنْ خَلْفِهِ فَقِيلَ لَهُ ارْفَعْ ارْفَعْ فَانْجَرَّتْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ. هَكَذَا الشَّيْءُ يُجْعَلُ بِغَيْرِ قَدْرٍ وَعَزَلَهُ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا قِيلَ لَهُ ارْفَعْ ارْفَعْ لَمَّا انْجَرَّتْ خَلْفَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا» . فَطُولُ الرِّدَاءِ مَكْرُوهٌ مَخَافَةَ أَنْ يَغْفُلَ عَنْهُ فَيَجُرُّهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لِمَنْ فَعَلَهُ بَطَرًا فَالتَّوَقِّي مِنْ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍّ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي يَنْبَغِي. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ مِفْتَاحَ السَّعَادَةِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ حَتَّى فِي هَيْئَةِ أَكْلِهِ وَقِيَامِهِ وَنَوْمِهِ وَكَلَامِهِ لَسْتُ أَقُولُ ذَلِكَ فِي آدَابِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِإِهْمَالِ السُّنَنِ الْوَارِدَةِ فِيهَا بَلْ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الْعَادَاتِ فَبِهِ يَحْصُلُ الِاتِّبَاعُ الْمُطْلَقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فَعَلَيْك بِأَنْ تَتَسَرْوَلَ قَاعِدًا وَتَتَعَمَّمَ قَائِمًا وَتَأْكُلَ بِيَمِينِك وَتُقَلِّمَ أَظْفَارِكَ وَتَبْتَدِئَ بِمُسَبِّحَةِ الْيَدِ الْيُمْنَى

وَتَخْتِمَ بِإِبْهَامِهَا، وَفِي الرِّجْلِ تَبْتَدِئُ بِخِنْصَرِ الْيُمْنَى وَتَخْتِمُ بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِك وَسَكَنَاتِك فَلَقَدْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ لَا يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُنْقَلُ كَيْفِيَّةُ أَكْلِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَهَا أَحَدُهُمْ فَلَبِسَ الْخُفَّ وَابْتَدَأَ بِالْيَسَارِ فَكَفَّرَ عَنْهُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَسَاهَلَ فِي امْتِثَالِ ذَلِكَ فَتَقُولُ: هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَادَاتِ فَلَا مَعْنَى لِلِاتِّبَاعِ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَغْلِقُ عَنْك بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ السَّعَادَاتِ انْتَهَى. قَالَ الْهَرَوِيُّ فِي غَرِيبِهِ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ الْكُرُّ بِالْبَصْرَةِ سِتَّةُ أَوْقَارٍ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْكُرُّ سِتُّونَ قَفِيزًا وَالْقَفِيزُ ثَمَانِيَةُ مَكَاكِيكَ وَالْمَكُّوكُ صَاعٌ وَنِصْفُ، وَهُوَ ثَلَاثُ كِيلَجَاتٍ، فَالْكُرُّ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ اثْنَا عَشْرَ وَسْقًا كُلُّ وَسْقٍ سِتُّونَ صَاعًا انْتَهَى. فَإِنْ زَادَ فِي كِبَرِ الْعِمَامَةِ قَلِيلًا لِأَجْلِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَيُسَامَحُ فِيهِ، وَالذُّؤَابَةُ لَمْ يَكُونُوا يُرْسِلُونَ مِنْهَا إلَّا الْقَلِيلَ نَحْوَ الذِّرَاعِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ قَلِيلًا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الطَّيْلَسَانِ أَنَّهُ رِيبَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ إنَّمَا كَانُوا يُعْرَفُونَ فِي زَمَانِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِفَةِ هَذَا الطَّيْلَسَانِ الْيَوْمَ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَشَبُّهًا بِهِمْ. وَمِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ سُكَيْنَةَ بِنْتَ حُسَيْنٍ أَوْ فَاطِمَةَ بِنْتَ حُسَيْنٍ رَأَتْ بَعْضَ وَلَدِهَا مُقَنِّعًا رَأْسَهُ فَقَالَتْ لَهُ: اكْشِفْ عَنْ رَأْسِك، فَإِنَّ الْقِنَاعَ رِيبَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَمَّا مَنْ تَقَنَّعَ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَعْنَى فِي هَذَا بَيِّنٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَقَنَّعَ بِاللَّيْلِ اُسْتُرِيبَ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ تَقَنَّعَ لِسُوءٍ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ اغْتِيَالِ أَحَدٍ أَوْ شَبَهِ ذَلِكَ، وَإِذَا تَقَنَّعَ بِالنَّهَارِ لَمْ يُكْرِمْهُ مَنْ لَقِيَهُ، وَلَا وَفَّاهُ حَقَّهُ، وَلَا عَرَفَ مَنْزِلَتَهُ وَاضْطَرَّهُ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ وَذَلِكَ إذْلَالٌ لَهُ. وَمِنْ كِتَابِ مُخْتَصَرِ الْعَيْنِ وَالْمِقْنَعَةُ مَا تُقَنِّعُ بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا، وَالْقِنَاعُ أَوْسَعُ مِنْهَا، وَمِنْ صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ وَالْمِقْنَعُ وَالْمِقْنَعَةُ بِالْكَسْرِ مَا تُقَنِّعُ بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا وَالْقِنَاعُ أَوْسَعُ مِنْ الْمِقْنَعَةِ، وَمِنْ النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ الرَّأْسُ

مَوْضِعُ الْقِنَاعِ قَالَ: وَفِي حَدِيثِ بَدْرٍ فَانْكَشَفَ قِنَاعُ قَلْبِهِ فَمَاتَ. قِنَاعُ الْقَلْبِ غِشَاؤُهُ تَشْبِيهًا بِقِنَاعِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ الْمِقْنَعَةِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى جَارِيَةً عَلَيْهَا قِنَاعٌ فَضَرَبَهَا بِالدُّرَّةِ وَقَالَ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ، وَقَدْ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِنْ لِبَاسِهِنَّ انْتَهَى. فَمَا نَقَلُوهُ دَلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمِقْنَعَةَ وَالْقِنَاعَ مَعًا مُخْتَصَّانِ بِالْمَرْأَةِ، وَأَمَّا قِنَاعُ الرَّجُلِ، وَهُوَ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ بِرِدَائِهِ وَيَرُدَّ طَرَفَهُ عَلَى أَحَدِ كَتِفَيْهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ كَحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ، وَالرِّدَاءُ هُوَ السُّنَّةُ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى كَتِفَيْهِ دُونَ أَنْ يُغَطِّيَ بِهِ رَأْسَهُ، فَإِنْ غَطَّى بِهِ رَأْسَهُ صَارَ قِنَاعًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الطَّيْلَسَانُ الْمَعْهُودُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيُكْرَهُ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ كَحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ هَذَا التَّكَلُّفَ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ فِيهِ وَمَا لَمْ يَخْرُجُ بِهِ إلَى حَدِّ هَذَا الْكِبَرِ الشَّنِيعِ، وَكَذَلِكَ الْعِمَامَةُ أَيْضًا وَالْبَقْيَارُ الَّذِي يُرْسِلُونَهُ بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ لَا بَأْسَ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ حَرِيرًا خَالِصًا، وَلَا غَالِبُهُ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ إلَى حَدِّ هَذَا الْكِبَرِ وَأَنْ يَنْظُرَ إلَى عِطْفِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ فَيَعْدِلُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى لِبَاسِهَا وَزِينَتِهَا وَتَعْدِيلِهَا؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الشَّهْوَةِ فَالزِّينَةُ وَالتَّعْدِيلُ لَهَا زِيَادَةٌ لِلرَّجُلِ فِي بَاعِثِ الشَّهْوَةِ لَهَا، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَيَكْفِيهِ مِنْ الزِّينَةِ لُبْسُ الْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ لَا غَيْرُ دُونَ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ إلَى مَا يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ مِنْ الزِّينَةِ وَالتَّعْدِيلِ الْخَارِجِ عَنْ عَوَائِدِ مَنْ مَضَى مِنْ الرِّجَالِ أَوْ لُبْسِ حَرِيرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ الْيَوْمَ، فَتَجِدُ كُمَّ أَحَدِهِمْ لَهُ سِجَافٌ مِنْ حَرِيرٍ نَحْوُ شِبْرٍ، وَكَذَلِكَ فِي أَذْيَالِ ثَوْبِهِ وَذَلِكَ شَرَفٌ وَخُيَلَاءُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْ الْحَرِيرِ فِي ثَوْبِ الرَّجُلِ الْخَيْطُ الرَّقِيقُ وَذَلِكَ قَدْرُ الْأُصْبُعِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْخِلَافُ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ إلَى كَمَالِ

أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ، وَكَثِيرٌ مِنْ بَعْضِهِمْ تَجِدُ سَرَاوِيلَهُ قَدْ نَزَلَتْ عَنْ حَدِّ الْكَعْبَيْنِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ لِلنَّهْيِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ وَيُوَسِّعُونَ ذَلِكَ كَثِيرًا وَيَتَّخِذُونَهُ مِنْ أَرْفَعِ الْقُمَاشِ حَتَّى تَنْكَشِفَ الْعَوْرَةُ بِسَبَبِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَخَفَّفَ فِي بَيْتِهِ وَخَلْوَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَالسَّرَاوِيلُ لَا تَسْتُرُهُ لِرِقَّةِ قُمَاشِهِ فَالْبَشَرَةُ ظَاهِرَةٌ مِنْ تَحْتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَ يَجْمَعُ رُكْبَتَيْهِ، وَهُوَ قَاعِدٌ أَوْ اضْطَجَعَ وَرَفَعَ رُكْبَتَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَنْكَشِفُ الْعَوْرَةُ أَيْضًا لَسِعَةِ كُمِّهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الطَّرْزِ فِي أَكْتَافِ ثَوْبِهِ فَتَجِدُهُ يَرْفَعُ الطَّيْلَسَانَ عَنْ كَتِفَيْهِ وَيُشَمِّرُهُ خِيفَةً عَلَى الطَّرْزِ أَنْ يَتَخَبَّأَ عَنْ النَّاسِ فَلَا يَرَوْنَهُ، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ النِّسَاءِ وَزِينَتِهِنَّ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بِهِنَّ. وَإِنَّمَا أُبِيحَ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا مَحَلُّ الشَّهْوَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَاقِصَةٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إنَّكُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدَيْنٍ» . فَأُبِيحَ لَهُنَّ الْحَرِيرُ وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِنُقْصَانِهِنَّ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَهُوَ مَحَلُّ الْكَمَالِ فَقَدْ كَمَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَزَيَّنَهُ فَمَا لَهُ وَلِزِينَةِ النَّاقِصَاتِ؟ فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ مِمَّا ذُكِرَ إنَّمَا هُوَ نَقْصٌ مِنْ كَمَالِ زِينَتِهِ الَّتِي زَيَّنَهُ اللَّهُ بِهَا، وَأَمَّا الْعَالِمُ فَقَدْ زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَالًا عَلَى كَمَالٍ وَزَيَّنَّهُ وَتَوَّجَهُ بِتَاجِ الرِّيَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَمَا لَهُ وَلِلزِّينَةِ وَالرِّيَاسَةِ بِالْقُمَاشِ بَلْ هِيَ عَاهَةٌ وَآفَةٌ أَتَتْ عَلَى الزِّينَةِ الَّتِي زَيَّنَهُ اللَّهُ بِهَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا لِذَلِكَ. وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَا جَرَّتْ إلَيْهِ بِدْعَةُ هَذِهِ اللِّبْسَةِ الَّتِي جَعَلُوهَا عَلَامَةً عَلَى الْفَقِيهِ كَيْفَ جَرَّتْ إلَى مُحَرَّمٍ اتِّفَاقًا، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْمُخَايِلِينَ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ إذَا عَمِلُوا الْخَيَالَ بِحَضْرَةِ بَعْضِ الْعَوَامّ وَغَيْرِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يُخْرِجُونَ فِي أَثْنَاءِ لَعِبِهِمْ لُعْبَةً يُسَمُّونَهَا بِأَبَّةِ الْقَاضِي فَيَلْبَسُونَ زِيَّهُ مِنْ كِبَرِ الْعِمَامَةِ وَسِعَةِ الْأَكْمَامِ وَطُولِهَا وَطُولِ الطَّيْلَسَانِ فَيَرْقُصُونَ بِهِ وَيَذْكُرُونَ عَلَيْهِ فَوَاحِشَ كَثِيرَةً يَنْسِبُونَهَا إلَيْهِ فَيَكْثُرُ ضَحِكُ مَنْ هُنَاكَ وَيَسْخَرُونَ بِهِ وَيُكْثِرُونَ النُّقُوطَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ

فَلَوْ أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ لَسَلِمُوا مِنْ هَذِهِ الْإِهَانَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، فَإِنَّ الْمُتَّبِعَ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ أَعَزَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَمَاهُ عَنْ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْطِنِ سُوءٍ حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِيهِ أَحَدٌ لَكَانَ مُحَارِبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَثُرَ التَّشْنِيعُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ عَلَى يَدِهِ وَلَمْ يَتْرُكْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذْ الْجَنَابُ رَفِيعٌ جِدًّا لَا يَتَحَمَّلُ الدَّنَسَ، نَعَمْ إنَّمَا يَحْتَاجُ الْعَالِمُ أَنْ يَتَزَيَّنَ وَيُزَيِّنَ مَا زَيَّنَهُ اللَّهُ بِهِ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا وَإِطْرَاحِهَا وَتَرْكِ الْمُبَاهَاةِ بِهَا وَلُبْسِ الْخَشِنِ وَأَكْلِ الْغَلِيظِ وَالْهَرَبِ مِنْ الدُّنْيَا وَمِنْ زِينَتِهَا وَمِنْ أَبْنَائِهَا مَعَ النَّصِيحَةِ لَهُمْ وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَطَلَبِهَا وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا وَمَحَبَّةِ أَهْلِهَا وَخِدْمَتِهِمْ وَالنَّصِيحَةِ لَهُمْ وَالتَّوَاضُعِ لَهُمْ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. هَذِهِ هِيَ زِينَةُ الْعَالِمِ الَّتِي تُزَيِّنُهُ وَتَرْفَعُهُ وَتُعَظِّمُهُ وَتَزِيدُ رِيَاسَتُهُ بِسَبَبِهَا وَيَرْتَفِعُ قَدْرُهُ وَيَعْلُو أَمْرُهُ وَيَظْهَرُ عِلْمُهُ وَيَتَمَيَّزُ وَيَتَوَاضَعُ لَهُ مَنْ يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ بِهِ مَنْ سُلْطَانٍ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ عَامِّيٍّ. أَلَا تَرَى إلَى مَا يُحْكَى عَنْ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ هَيْبَةِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْعَوَامِّ لَهُ مَعَ جُلُوسِهِ فِي الدُّرُوسِ وَغَيْرِهَا مَرَّةً بِكُلُوثَةٍ عَلَى رَأْسِهِ وَمَرَّةً بِقَبَاءٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حُكِيَ عَنْهُ فَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ إلَّا رِفْعَةً وَعِزًّا لِاتِّصَافِهِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ وَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْوَقْتِ مِنْ اسْتِبَاحَةِ مَا يَلْبَسُونَهُ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ أَنَّ ذَلِكَ بِفَتْوَاهُ، فَإِنْ كَانَ اسْتِنَادُهُمْ فِي ذَلِكَ إلَى فَتْوَاهُ فَهُوَ غَلَطٌ مَحْضٌ وَخَطَأٌ صُرَاحٌ وَوُقُوعٌ فِي حَقِّهِ بِمَا لَا يَنْبَغِي وَادِّعَاءٌ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لَا يُجِيزُهُ، وَلَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ إخْوَانه الْمُسْلِمِينَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوَضِّحُهُ جَوَابٌ فِي فَتَاوِيهِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أَنْ سُئِلَ فِيهَا فَقِيلَ لَهُ: هَلْ فِي لُبْسِ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمُوَسَّعَةِ الْأَرْدَانِ وَالْعَمَائِمِ الْكَبِيرَةِ بَأْسٌ أَوْ بِدْعَةٌ تَسْتَعْقِبُ تَوْبِيخًا فِي الْقِيَامَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَحْسِينِ الْخِيَاطَةِ وَالَزِيقِ وَالتَّضْرِيبِ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْوَرَعِ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا هَذَا نَصُّهُ: الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الِاقْتِصَادِ فِي اللِّبَاسِ، وَإِفْرَاطُ تَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ وَالثِّيَابِ

بِدْعَةٌ وَسَرَفٌ وَتَضْيِيعٌ لِلْمَالِ، وَلَا تُجَاوِزُ الثِّيَابُ الْأَعْقَابَ فَمَا زَادَ عَلَى الْأَعْقَابِ فَفِي النَّارِ، وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ لِيُعْرَفُوا بِذَلِكَ فَيُسْأَلُوا، فَإِنِّي كُنْتُ مُحْرِمًا فَأَنْكَرْتُ عَلَى جَمَاعَةِ مِنْ الْمُحْرِمِينَ لَا يَعْرِفُونَنِي مَا أَخَلُّوا بِهِ مِنْ آدَابِ الطَّوَافِ فَلَمْ يَقْبَلُوا، فَلَمَّا لَبِسْت ثِيَابَ الْفُقَهَاءِ وَأَنْكَرْت عَلَى الطَّائِفِينَ مَا أَخَلُّوا بِهِ مِنْ آدَابِ الطَّوَافِ سَمِعُوا وَأَطَاعُوا، فَإِنَّ لُبْسَ شِعَارِ الْفُقَهَاءِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ كَانَ فِيهِ أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ إلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْسِينِ الْخِيَاطَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمِنْ فِعْلِ أَهْلِ الرُّعُونَةِ وَالِالْتِفَاتِ إلَى الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِأُولِي الْأَلْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ انْتَهَى. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ فِي جَوَابِ هَذَا الْعَالِمِ هَلْ فِيهِ شَيْءٌ يُبِيحُ مَا ذَكَرُوهُ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُفْهَمَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدَّمَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ بِأَنْ قَالَ عَنْ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَسَرَفٌ وَتَضْيِيعٌ لِلْمَالِ فَبَعْدَ أَنْ قَعَّدَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَصَرَّحَ بِهَا حِينَئِذٍ قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ لِيُعْرَفُوا بِذَلِكَ فَتَحَفَّظَ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْبِدْعَةِ وَالسَّرَفِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ، ثُمَّ تَحَفَّظَ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ: الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ فَلَوْ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَسَكَتَ لَكَانَ لِلْمُنَازِعِ فِيهِ طَرِيقٌ مَا إلَى الْمَيْلِ إلَى غَرَضِهِ الْخَسِيسِ، فَلَمَّا أَنْ وَصَفَ الْعُلَمَاءَ بِقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ أَزَالَ الِاحْتِمَالَ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ إذَا كَانَ ذَا دِينٍ لَمْ يُسَامِحْ نَفْسَهُ فِي ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ، وَلَا فِي تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ وَاسْتَقَرَّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ سَلَفًا وَخَلْفًا نَقْلًا عَمَّنْ مَضَى وَمُبَاشَرَةً فِيمَنْ يُبَاشِرُهُ مِنْهُمْ وَيُعَايِنُهُ، فَإِذَا كَانَ حَالُهُمْ فِي الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ عَلَى مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ يَرْتَكِبُونَ الْمُحَرَّمَ الْمَمْنُوعَ فِعْلُهُ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ إضَاعَةَ الْمَالِ وَالسَّرَفَ مَمْنُوعَانِ مُحَرَّمَانِ لَا قَائِلَ مِنْهُمْ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَأْتِي الْعَالِمُ الدَّيِّنُ يَقَعُ فِي مُحَرَّمَاتٍ ثَلَاثٍ، وَهِيَ الْبِدْعَةُ وَالسَّرَفُ وَإِضَاعَةُ الْمَالِ هَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ لِأَحَدٍ. فَالْحَاصِلُ مِنْ أَحْوَالِنَا أَنَّ لُبْسَنَا تِلْكَ الثِّيَابِ وَتَعَلُّقَنَا

بِقَوْلِهِ: وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ، وَرَأَيْنَا بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ الْيَوْمَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَلْبَسُ تِلْكَ الثِّيَابَ فَقُلْنَا هَذِهِ تِلْكَ الثِّيَابُ جَهْلًا مِنَّا بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ مِنْهُمْ وَصِفَتِهِمْ. وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى حَالِ مَنْ تَعَلَّقُوا بِفَتْوَاهُ وَمَا جَرَى لَهُ حِينَ سَأَلَهُ السَّائِلُ فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ شَيْءٌ فَقَطَعَ نِصْفَ عِمَامَتِهِ وَدَفَعَهَا لَهُ، ثُمَّ مَرَّ وَسَأَلَهُ آخَرُ فَأَعْطَاهُ النِّصْفَ الْآخَرَ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ خُذْ عِمَامَتِي فَأَبَى عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي أَتَمْشِي هَكَذَا بَيْنَ النَّاسِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا وَمَشَى لِسَبِيلِهِ وَشَقَّ الطَّرِيقَ مِنْ بَابِ زُوَيْلَةَ إلَى مَا بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ، وَالنَّاسُ يَتَزَاحَمُونَ عَلَيْهِ وَيَسْتَفْتُونَهُ وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِ، فَلَمَّا أَنْ جَلَسَ فِي الْمَدْرَسَةِ قَالَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْعِمَامَةَ لِمَنْ جَاءَ النَّاسُ يَسْتَفْتُونَ إلَيْكَ أَوْ إلَيَّ أَوْ كَمَا قَالَ فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِمَنْ هَذَا حَالُهُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا اسْتَبَاحُوهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَمَا شَابَهَهُ قَالَ رَزِينٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا أَتَى عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا لِوَضْعِهِمْ الْأَسْمَاءَ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّيَاتٍ؛ لِأَنَّ لِبَاسَ الْعُلَمَاءِ كَانَ عَلَى وَجْهٍ مَعْرُوفٍ فِيمَنْ مَضَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ تَغَيَّرَ ذَلِكَ وَصَارَ لِبَاسُهُمْ الْيَوْمَ عَلَى مَا يُعْهَدُ، فَجَاءَ هَذَا الْعَالِمُ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِلُبْسِ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ فَظَنَّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْمَقَالَ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْعُلَمَاءُ الْمَذْكُورُونَ وَأَنَّ هَذِهِ الثِّيَابَ هِيَ الْمُرَادُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلِبَاسِهِمْ، وَمَنْ اقْتَدَى بِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَوَقَعَ الِاسْمُ عَلَى غَيْرِ مُسَمًّى فَوَقَعَ مَا وَقَعَ بِسَبَبِ وَضْعِ الْأَسْمَاءِ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّيَاتٍ. وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى قَوْلِهِ فِي تَحْسِينِ الْخِيَاطَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الرُّعُونَةِ وَالِالْتِفَاتِ إلَى الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ مَعَ أَنَّ تَحْسِينَ الْخِيَاطَةِ لَيْسَ فِيهِ خَطَرٌ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُحَرَّمُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يُبِيحُهُ أَوْ يَسْتَحِبُّهُ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ الصَّوَابِ، وَلَا يُتَعَقَّلُ لِذَوِي

الْأَلْبَابِ، وَاَلَّذِي تَكَلَّمَ عَلَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَشَنَّعَ أَمْرَهُ وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ إنَّمَا هُوَ تَحْسِينُ الْخِيَاطَةِ فَكَيْفَ بِهِ الْيَوْمَ تَرَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَزْيَاقَ وَهَذِهِ التَّضَارِيبَ وَهَذِهِ السَّجَفَ الَّتِي رَجَعَتْ الْيَوْمَ كُلُّهَا حَرِيرًا الْخِرْقَةُ وَالْخَيْطُ مَعًا فَبَانَ وَاتَّضَحَ بُطْلَانُ مَا نَسَبُوهُ إلَى هَذَا الْإِمَامِ إنْ كَانَ تَعَلُّقُهُمْ بِفَتْوَاهُ وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُهُمْ بِفَتْوَى غَيْرِهِ، فَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ وُجِدَ هَذَا فَمَحْمُولٌ عَلَى الثَّوْبِ النَّقِيِّ النَّظِيفِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَلَا مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ مَا يُنْقَلُ عَنْهُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ لَيْسَ إلَّا، وَمَنْ لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُ فَلَا سَبِيلَ أَنْ يُرْجَعَ إلَى نَقْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى الدِّينِ، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَعُرِفَتْ فَأَيُّ مَنْ خَالَفَهَا عُرِفَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْحَافِظِ الْجَلِيلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا اللِّبَاسِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَا يَأْخُذُهَا حَصْرٌ لَكِنْ نُشِيرُ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا، فَمِنْهَا مَا ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي بَيْتِهِ يُغْسَلُ لَهُ ثَوْبُهُ وَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يَلْبَسُهُ فَلَبِسَ ثَوْبَ زَوْجَتِهِ وَجَلَسَ يَشْغَلُ وَلَدَهُ حَتَّى تَفْرُغَ أُمُّهُ مِنْ غَسْلِهِ، ثُمَّ احْتَاجَ إلَى خَبْزِ الْعَجِينِ فِي الْفُرْنِ فَأَخَذَ الطَّبَقَ عَلَى يَدِهِ وَالْوَلَدَ عَلَى ذِرَاعِهِ الْآخَرِ وَخَرَجَ لَأَنْ يَخْبِزَ، وَإِذَا بِامْرَأَةٍ عَجُوزٍ لَقِيَتْهُ فَطَلَبَتْ مِنْهُ أَدَاءَ شَهَادَةٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَذَهَبَ مَعَهَا فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ وَالْعَجِينُ عَلَى يَدِهِ وَوَلَدُهُ عَلَى ذِرَاعِهِ حَتَّى جَاءَ إلَى الْقَاضِي وَجَمَاعَةُ الشُّهُودِ عِنْدَهُ فَأَدَّى الشَّهَادَةَ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: وَمَا حَمَلَك عَلَى أَنْ تَأْتِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَقَالَ لَهُ: غَسَلْت ثَوْبِي وَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَلْبَسُهُ فَلَبِسْت ثَوْبَ الزَّوْجَةِ وَكُنْت أَشْغَلُ الْوَلَدَ عَنْ أُمِّهِ، ثُمَّ احْتَجْتُ إلَى الْخُبْزِ فَخَرَجَتْ لِأَخْبِزَ فَلَقِيَتْنِي هَذِهِ الْمَرْأَةُ وَطَلَبَتْ مِنِّي أَدَاءَ الشَّهَادَةِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيَّ فَخِفْت أَنَّهُ لَا يَطُولُ الْعُمُرُ فَبَادَرْت إلَى خَلَاصِ الذِّمَّةِ، وَبَعْدَهَا أُدْرِكُ قَضَاءَ حَاجَتِي فَرَدَّ الْقَاضِي رَأْسَهُ إلَى الْعُدُولِ فَقَالَ لَهُمْ: أَفِيكُمْ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا فَقَالُوا: لَا فَقَالَ: وَأَيْنَ الْعَدَالَةُ. وَكَذَلِكَ

غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مُتَقَدِّمِهِمْ وَمُتَأَخِّرِهِمْ مِنْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْمَغْرِبِ إلَى الْآنَ لَا يَعْرِفُونَ ثِيَابَ الدُّرُوسِ، وَلَا يَعْرُجُونَ عَلَيْهَا فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَقَّى مِنْ الْأَمْرِ بَقِيَّةً تُعَرِّفُ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ الْعَالِمَ الْكَبِيرَ الْمَرْجُوعَ إلَيْهِ فِي الْفَتْوَى وَالْمُقَلَّدَ فِي النَّوَازِلِ الَّذِي يَحْضُرُ عِنْدَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ إذَا قَعَدَ لِأَخْذِ الدُّرُوسِ لَا يُعْرَفُ مِنْ بَيْنِهِمْ بَلْ هُوَ أَقَلُّهُمْ لِبَاسًا؛ لِأَنَّهُ أَزْهَدُهُمْ وَأَوْرَعُهُمْ فَهُوَ أَقَلُّهُمْ تَكَلُّفًا مِنْ الدُّنْيَا وَرُبَّمَا يَخْرُجُ لِلسُّوقِ لِشِرَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَّخِذُونَ لِأَنْفُسِهِمْ خَادِمًا، وَلَا يَشْتَرُونَ عَبْدًا، وَلَا يَتَّخِذُونَ مَرْكُوبًا بَلْ يَحْمِلُ أَحَدُهُمْ حَاجَتَهُ بِيَدِهِ وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ فِي يَدِهِ الْخُضْرَةُ وَالْكَانُونُ وَاللَّحْمُ وَالْعَجِينُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا أَتَاهُ الْقَاضِي بِجَمَاعَتِهِ لِيَسْتَفْتِيَهُ فِي بَعْضِ النَّوَازِلِ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فِي السُّوقِ فَيَقِفُ مَعَهُمْ وَيُفْتِيهِمْ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ وَيَمُرُّ هُوَ إلَى بَيْتِهِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَجْسُرُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ يَدِهِ شَيْئًا أَوْ يَمْشِيَ مَعَهُ اتِّقَاءً عَلَى خَاطِرِهِ وَعَمَلًا عَلَى مَا يَخْتَارُهُ مِنْهُمْ، وَإِذَا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ مِنْ الدَّرْسِ خَرَجَ وَحْدَهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَنْ يَتْبَعُهُ اتِّقَاءً عَلَى خَاطِرِهِ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو الْحَسَنِ الزَّيَّاتُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا خَرَجَ مِنْ أَخْذِ الدُّرُوسِ وَوَجَدَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ بَعْضَ الْجَمَاعَةِ يَنْتَظِرُونَهُ يَسْأَلُهُمْ مَا تُرِيدُونَ، فَإِنْ أَخْبَرُوهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ يَسْأَلُهُمْ أَيَّ طَرِيقٍ تُرِيدُونَ فَيُخْبِرُونَهُ بِالطَّرِيقِ الَّتِي يُرِيدُهَا هُوَ لِكَيْ يَمْشُوا مَعَهُ فَيَقُولُ هُوَ: أَنَا أَمْضِي مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي يُرِيدُونَهَا فَيُبْعِدُ عَلَى نَفْسِهِ الطَّرِيقَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَارًّا بِالطَّرِيقِ فَلَقِيَهُ أَحَدٌ فَسَأَلَهُ وَقَفَ مَعَهُ حَتَّى يُجِيبَهُ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ سَأَلَهُ أَيَّ طَرِيقٍ تُرِيدُ فَيَقُولُ لَهُ الشَّخْصُ هَذِهِ الطَّرِيقَ لِلطَّرِيقِ الَّتِي يَرَى الشَّيْخُ مَارًّا إلَيْهَا فَيَقُولُ هُوَ: وَأَنَا أُرِيدُ هَذِهِ الطَّرِيقَ لِطَرِيقٍ غَيْرِ تِلْكَ وَرُبَّمَا رَجَعَ إلَى الطَّرِيقِ الَّتِي أَتَى مِنْهَا وَيُبْعِدُ عَلَى نَفْسِهِ خَوْفًا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُوطَأَ عَقِبَهُ أَوْ يُقَالُ عَنْهُ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَخْرُجُ لِلْمَسْجِدِ وَالدَّرْسِ

بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ اللِّبَاسِ، وَلَا يَقْصِدُ لِذَلِكَ لِبَاسًا مُعَيَّنًا إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَكَانَ يَخْرُجُ فِي زَمَانِ الصَّيْفِ بِقَمِيصٍ خَامٍ غَلِيظٍ يَصِلُ إلَى نِصْفِ سَاقِهِ أَوْ نَحْوِهِ وَلِبَاسٍ إلَى نِصْفِ سَاقِهِ وَعَلَى رَأْسِهِ طَاقِيَّةٌ طَاقٌ وَاحِدٌ وَمِنْدِيلٌ أَوْ خِرْقَةٌ يَجْعَلُهَا عَلَى أَكْتَافِهِ حِينَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يُزِيلُهَا إذَا فَرَغَ مِنْهَا وَيَجْعَلُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ زَادَ عَلَى ذَلِكَ دَلَقًا وَاحِدًا غَلِيظًا وَفُوطَةً تُسَاوِي سَبْعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ نَحْوَهَا وَعِمَامَةً خَمْسَ طَيَّاتٍ أَوْ نَحْوَهَا، وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَخْرُجُ يَمْلَأُ الْمَاءَ مِنْ الْبَحْرِ بِيَدِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إلَى بَيْتِهِ، فَإِنْ لَقِيَهُ أَحَدٌ وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَنْهُ أَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ فَيَبَرُّ قَسَمَهُ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ عَكْسُ هَذَا سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ نَلْبَسُ هَذِهِ الْخِلَعَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا لَعَلَّ أَنْ نُنْسَبَ بِسَبَبِهَا إلَى الْعُلَمَاءِ، وَلَعَلَّ أَنْ يُسْمَعَ مِنَّا وَيُرْجَعَ إلَيْنَا فِي حُظُوظِ أَنْفُسِنَا، وَأَمَّا أَخْذُ الْعِلْمِ النَّافِعِ مِنَّا وَالِاقْتِدَاءُ بِنَا فِي الْخَيْرِ فَبَعِيدٌ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك، وَإِنْ وَطِئَ أَحَدٌ عَقِبَنَا وَمَشَى مَعَنَا نَرَى لَهُ تِلْكَ الْحُرْمَةَ وَنَنْظُرُ لَهُ فِي الْمَصْلَحَةِ بِتَنْزِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَنَافِعِ، كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ حُبُّ الرِّيَاسَةِ مِنَّا وَالْحَظْوَةُ وَإِيثَارُ الظُّهُورِ عَلَى الْخُمُولِ وَمَحَبَّةُ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَالْجَاهِ وَمَا فَعَلْنَاهُ هُوَ الَّذِي يُذْهِبُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَنَّا وَيَأْتِي بِضِدِّهِ، أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ «مَا مِنْ آدَمِيٍّ إلَّا وَبِرَأْسِهِ حَكَمَةٌ مِثْلُ حَكَمَةِ الدَّابَّةِ بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِنْ تَوَاضَعَ رَفَعَهُ الْمَلَكُ وَقَالَ لَهُ: ارْتَفِعْ رَفَعَكَ اللَّهُ وَإِنْ ارْتَفَعَ ضَرَبَهُ الْمَلَكُ وَقَالَ لَهُ اتَّضِعْ وَضَعَكَ اللَّهُ» . أَوْ كَمَا قَالَ مَعَ أَنَّ الْعَالِمَ إنَّمَا يُزَيِّنُهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ بِمَعْرِفَةِ مَذَاهِبِ النَّاسِ وَاخْتِلَافِهِمْ وَالْمُشَارَكَةِ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ وَاللِّبَاسِ الْحَسَنِ عَلَى زِيِّ مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلْمِ بَلْ يُزِيلُ بَهْجَتَهُ وَيَكُونُ سَبَبًا إلَى ضِدِّ مَا يُوَرِّثُهُ الْعِلْمُ مِنْ الْوَقَارِ وَالْهَيْبَةِ وَالسُّكُونِ، وَلَوْ كَانَتْ الزِّينَةُ تَزِيدُ فِي الْعِلْمِ شَيْئًا لَمْ يَجْرِ عَلَى يُوسُفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا جَرَى لِأَجْلِ حُسْنِ وَجْهِهِ الَّذِي هُوَ خِلْقَةٌ خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا لَا مُسْتَعَارَةٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي وَلَدِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَجْمَلُ مِنْ يُوسُفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَلَقَدْ سُجِنَ وَضُيِّقَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ حُسْنِ وَجْهِهِ بَعْدَ أَنْ وَقَفَ عَلَى بَرَاءَتِهِ بِالشَّاهِدِ الَّذِي أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِتَصْدِيقِهِ وَبَيَانِ بَرَاءَتِهِ، وَبَعْدَ إقْرَارِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ فَحُبِسَ بَعْد ذَلِكَ كُلِّهِ لِحُسْنِ وَجْهِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] فَدَلَّ قَوْله تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ سُجِنَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ لِعِلَّةِ حُسْنِ وَجْهِهِ وَلِيُغَيِّبُوهُ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا فَطَالَ فِي السِّجْنِ حَبْسُهُ حَتَّى إذَا عَبَّرَ الرُّؤْيَا وَقَفَ الْمَلِكُ عَلَى عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فَاشْتَاقَ إلَيْهِ وَرَغِبَ فِي صُحْبَتِهِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف: 54] وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الْمَلِكِ عِنْدَمَا وَقَفَ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ يُوسُفَ وَمَعْرِفَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ وَحُسْنَ عِبَارَتِهِ صَيَّرَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَفَوَّضَ إلَيْهِ الْأُمُورَ فَتَبَرَّأَ مِنْهَا وَصَارَ يُعِينُ الْمَلِكَ كَأَنَّهُ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، فَكَانَ هَذَا الَّذِي بَلَغَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ لَا بِحُسْنِهِ وَلَا بِجَمَالِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] وَلَمْ يَقُلْ إنِّي حَسَنٌ جَمِيلٌ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف: 56] فَوَاَللَّهِ مَا يُبَالِي الْمَرْءُ عَلَى هَذَا بِحُسْنِ وَجْهِهِ أَوْ قُبْحِهِ، وَلَا بِحُسْنِ ثَوْبِهِ وَكُمِّهِ كَانَ مَا كَانَ لَا مَنْفَعَةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَشِينُهُ عَدَمُ عِلْمِهِ وَسُوءُ فَهْمِهِ، وَاَلَّذِي يُزَيِّنُهُ كَثْرَةُ عِلْمِهِ وَجَوْدَةُ فَهْمِهِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ» مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. أَنَّهُ كَانَ لَهُ لِبَاسٌ خَاصٌّ لَا يَلْبَسُ إلَّا إيَّاهُ بَلْ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَلْبَسُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّفَ فَكَانَ يَخْرُجُ بِالْقَلَنْسُوَةِ وَالْعِمَامَةِ وَالرِّدَاءِ وَرُبَّمَا خَرَجَ بِالْقَلَنْسُوَةِ وَالْعِمَامَةِ دُونَ الرِّدَاءِ وَرُبَّمَا خَرَجَ بِالْقَلَنْسُوَةِ دُونَ الْعِمَامَةِ وَالرِّدَاءِ وَرُبَّمَا خَرَجَ عُرْيًا مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ:

- رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْقَلَانِسُ مَا كَانَ لَهَا ارْتِفَاعٌ فِي الرَّأْسِ عَلَى أَيِّ شَكْلٍ كَانَتْ انْتَهَى، وَقَدْ «لَبِسَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْقَبَاءَ وَالضَّيِّقَ مِنْ الثِّيَابِ وَالْوَاسِعَ مِنْهَا» ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ صِفَةُ هَذِهِ الثِّيَابِ الَّتِي فِي وَقْتِنَا هَذَا، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُطَالَبُ بِالِاتِّبَاعِ وَالِاقْتِدَاءِ وَالْفَضَائِلِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مِنْ النَّقْصِ شَيْءٌ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ تِلْكَ الثِّيَابِ لَا يَتَّصِفُ بِالتَّوَاضُعِ غَالِبًا، وَالتَّوَاضُعُ أَصْلٌ فِي الدِّينِ كَبِيرٌ وَإِنْ كَانَ يَزْعُمُ فِي نَفْسِهِ التَّوَاضُعَ، فَالتَّوَاضُعُ فِي النَّفْسِ دَعْوَى بِغَيْرِ حَقِيقَةٍ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ التَّوَاضُعَ لَظَهَرَ فِي اتِّبَاعِهِ لِسَلَفِهِ فِي اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ لُبْسُ ذَلِكَ مِنْهُ حُرْمَةً لِلْعِلْمِ لَيْسَ إلَّا، وَاعْتَقَدَ أَنَّ حُرْمَةَ الْعِلْمِ إنَّمَا تَظْهَرُ بِتِلْكَ الْخِلْعَةِ فَهَذَا أَمْرٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ وَيَسْتَغْفِرَ وَيَعْتَرِفَ بِخَطَئِهِ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَ ذَلِكَ ازْدِرَاءٌ بِالْمَاضِينَ إذْ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ أَصْلًا فَيَكُونُ هُوَ أَعْرَفُ مِنْهُمْ بِإِقَامَةِ حُرْمَةِ الْعِلْمِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفَ يُقِيمُونَ حُرْمَتَهُ فَيَكُونُ هُوَ أَعْرَفَ مِنْ سَلَفِهِ وَأَفْضَلَ. وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بِهَذَا اللِّبَاسِ كَيْفَ جَرَّتْ إلَى حِرْمَانِ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ فَلَقَدْ رَأَيْت وَبَاشَرْت مَنْ لَهُ أَوْلَادٌ يُرِيدُ أَنْ يُشْغِلَهُمْ بِالْعِلْمِ فَيُمْتَنَعُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَجْلِ قِلَّةِ ذَاتِ الْيَدِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُحَصِّلَ لِأَحَدِهِمْ تِلْكَ الثِّيَابَ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْعِلْمِ بِغَيْرِهَا فَتَرَكُوا تَعَلُّمَ الْعِلْمِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ لَإِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ إذْ أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ يُخَالَفُ إبْلِيسُ وَبِتَرْكِهِ يُطَاعُ، فَأَيُّ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ فَتَنَبَّهْ لَهَا، وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ الْوُقُوعُ فِيمَا وَقَعْنَا فِيهِ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ إذْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَنَا عِلْمٌ وَفَهْمٌ لَعَرَفْنَا أَنَّ الْفَضَائِلَ وَالْخَيْرَاتِ لِمَنْ تَقَدَّمَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِاتِّبَاعِهِمْ فَإِذَا خَالَفْنَاهُمْ فَمَا يَحْصُلُ لَنَا إلَّا النَّقْصُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ الْعِلْمُ أَوَّلًا فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى جُلُودِ الضَّأْنِ وَبَقِيَتْ مَفَاتِحُهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ

وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: وَقَدْ قَلَّتْ الْمَفَاتِيحُ وَإِنْ وُجِدَ مِفْتَاحٌ فَقَلَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِيمًا انْتَهَى. وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ عُدِمَتْ الْمَفَاتِيحُ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ صَارَتْ الْعُلُومُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بِحُسْنِ الثِّيَابِ وَطُولِهَا وَوُسْعِهَا. وَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَى هَذَا اللِّبَاسِ مَا أَشْنَعَهَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ مُصَانًا مُرَفَّعًا مُعَظَّمًا لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ إلَّا أَهْلُهُ الْمُتَّصِفُونَ بِهِ فَلَمَّا أَنْ لَبِسُوا لَهُ خِلْعَةً يَخْتَصُّ بِهَا بَقِيَ يَدَّعِيهِ مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بَلْ مَغْمُوسٌ فِي الْجَهْلِ وَاخْتَلَطَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْعَالِمُ مَعَ الْعَامِّيِّ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا حَتَّى لَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ عُدُولِ هَذَا الْوَقْتِ الْمَشْهُورِينَ تَيَمَّمَ عَنْ جُرْحٍ أَصَابَ يَدَهُ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ عَلَى مَذْهَبِ إمَامِهِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَمَسَحَ أُصْبُعَ الْجَرِيحِ فِي حَائِطٍ وَقَالَ هَذَا التَّيَمُّمُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ مَا قَالَ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ: وَيَتَيَمَّمُ عَنْ الْجَرِيحِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالتَّيَمُّمِ عَنْهُ فَلَوْ بَقِيَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ فِي هَدْيِ الْعَالِمِ وَسَمْتِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَتَقَشُّفِهِ وَخَوْفِهِ وَقَلَقِهِ وَهَرَبِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَأَبْنَائِهَا وَحُسْنِ مَنْطِقِهِ وَعُذُوبَةِ عِبَارَتِهِ وَوُقُوفِهِ عَلَى بَابِ رَبِّهِ وَدَعْوَى النَّاسِ إلَى ذَلِكَ وَتَوَاضُعِهِ وَإِشْفَاقِهِ عَالِمًا بِأَهْلِ زَمَانِهِ مُتَحَفِّظًا مِنْ سُلْطَانِهِ سَاعِيًا فِي خَلَاصِ نَفْسِهِ وَنَجَاةِ مُهْجَتِهِ مُقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ عَرَضِ دُنْيَاهُ مُجَاهِدًا لِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ مَا اسْتَطَاعَ وَيَكُونُ أَهَمُّ أُمُورِهِ عِنْدَهُ الْوَرَعَ فِي دِينِهِ وَاسْتِعْمَالَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُرَاقَبَتَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَنَهَاهُ عِنْدَهُ، فَلَوْ بَقِيَ الْعُلَمَاءُ عَلَى بَعْضِ هَذَا لَحُفِظَ بِهِمْ الْعِلْمُ وَتَمَيَّزَ أَهْلُهُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَكِنْ خَلَطُوا فَتَخَلَّطَ الْأَمْرُ وَانْدَرَسَ وَصَارَ لَا يُعْرَفُ الْعَالِمُ مِنْ الْعَامِّيِّ لِتَقَارُبِ النِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا فِي التَّصَرُّفِ وَالْحَالِ، فَتَجِدُ لِبَاسَ بَعْضِ الْعَوَامّ كَلِبَاسِ الْعَالَمِ لِيُدْخِلَ نَفْسَهُ فِي مَنْصِبٍ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَعْرِفُهُ. وَتَجِدُ تَصَرُّفَ الْعَالِمِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَتَصَرُّفِ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِنْ الْجَائِزِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَمْنُوعِ إنَّمَا هُوَ فِي الدُّرُوسِ جَارٍ عَلَى اللِّسَانِ لَيْسَ

إلَّا، وَأَمَّا عِنْدَ التَّصَرُّفِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْفَائِدَةِ فَقَلَّ أَنْ تَجِدَ إذْ ذَاكَ أَحَدًا مِنْهُمْ فِي الْغَالِبِ يَقُومُ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ بِلِسَانِهِ فِي دَرْسِهِ، فَالْعَارِفُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ الْيَوْمَ بِمَسَائِلِ الْفِقْهِ الْمَاهِرُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ بِاللِّسَانِ دُونَ التَّصَرُّفِ أَعْنِي فِي الْغَالِبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقْعُدُ يَبْحَثُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَيُحَرِّرُ فِيهَا النَّقْلَ عَنْ الْعُلَمَاءِ بِالْمَنْعِ أَوْ الْكَرَاهَةِ وَيَنْفُضُ تِلْكَ الْأَكْمَامَ إذْ ذَاكَ وَيَضْرِبُ عَلَى الْحَصِيرِ وَيُقِيمُ الْغَبَرَةَ الَّتِي تَحْتَهُ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ فَيُرْسِلُ إلَى السُّوقِ مَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ الْعَبْدَ الصَّغِيرَ وَالصَّبِيَّ الصَّغِيرَ وَالْمَرْأَةَ وَمَنْ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا وَلَا قَرَأَ، وَفِي السُّوقِ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَوَامّ الْجَهَلَةِ بِمَا يَلْزَمُهُمْ فِي سِلَعِهِمْ مِنْ الْأَحْكَامِ وَمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ وَمِنْ أَيْنَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ الْمَفَاسِدُ وَمِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ الرِّبَا فَيَقَعُ الْبَيْعُ مِنْ جَاهِلٍ وَالشِّرَاءُ مِنْ مِثْلِهِ. هَذَا هُوَ حَالُ بَعْضِهِمْ وَإِلَّا فَالْغَالِبُ مِنْهُمْ يُبَاشِرُونَ شِرَاءَ حَوَائِجِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَعْرُجُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كَوْنِهِ لَا يُجِيزُ الْبَيْعَ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَيْنَهُمْ فِي الْغَالِبِ بَلْ مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ مَعْدُومٌ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ قَرِيبٌ؛ لِأَنَّهُ يُجِيزُ إذَا عُدِمَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ مَا شَارَكَهُمَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الرِّضَى الْبَاطِنِيِّ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ قُصِدَ بِهِ ذَلِكَ فَتَكْفِي الْمُعَاطَاةُ، وَهُوَ أَنْ تُعْطِيَهُ وَيُعْطِيَكَ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ مَذْكُورٍ فِي كُتُبِهِمْ. وَكَذَلِكَ بَيْعُ الِاسْتِئْمَانِ وَالِاسْتِرْسَالِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنْ تَقُولَ لَهُ بِعْنِي كَيْفَ بِعْت فَهَذَانِ وَجْهَانِ سَهْلَانِ قَرِيبَانِ وَمَعَ هَذَا التَّسَاهُلِ وَالتَّرْخِيصِ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ تَرْكُهُ عَلَى مَا يُشَاهَدُ مِنْ بَعْضِهِمْ مُبَاشَرَةً مِنْ شِرَاءِ حَوَائِجِهِمْ عَلَى يَدِ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ، وَفِي السُّوقِ أَيْضًا مِثْلُهُمْ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ كَمَا تَقَدَّمَ فَقَدْ يَخْرِقُونَ الْإِجْمَاعَ بِسَبَبِ التَّعَاطِي فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ إنْ كَانُوا اكْتَسَبُوهُ أَوَّلًا مِنْ وَجْهِ حِلٍّ فَهُوَ يَرْجِعُ إلَى الْحَرَامِ الْبَيِّنِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْكَسْبُ أَيْضًا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَقُبْحٌ عَلَى قُبْحٍ

وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ حُبُّ الرِّيَاسَةِ وَالْحَيَاءُ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَرَوْهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَيَحْمِلُ الْحَاجَةَ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ وَضْعًا مِنْ حَقِّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَانِهِ. وَأَمَّا دُخُولُ الْأَسْوَاقِ وَشِرَاءُ الْحَاجَةِ بِالْيَدِ وَمُبَاشَرَتُهَا فَهِيَ السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا فَبَقِيَتْ عِنْدَهُمْ الْيَوْمَ كَأَنَّهَا عَيْبٌ كَمَا صَارَ الثَّوْبُ الشَّرْعِيُّ عِنْدَهُمْ عَيْبًا أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى ثِيَابِهِمْ وَخِلَعِهِمْ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ الْبَلَاءِ بِمَنِّهِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ فِيهَا وُجُوهٌ مِنْ الْحِكْمَةِ عَدِيدَةٌ، مِنْهَا التَّوَاضُعُ، وَمِنْهَا امْتِثَالُ السُّنَّةِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ، وَمِنْهَا لِقَاءُ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَمُبَاشَرَتُهُمْ وَاغْتِنَامُ بَرَكَةُ بَعْضِهِمْ وَإِرْشَادُ الْبَاقِينَ، وَمِنْهَا النَّظَرُ فِي تَصْفِيَةِ الْغِذَاءِ وَتَخْلِيصِهِ مِنْ الرِّبَا وَالْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ وَمَا لَا يَنْبَغِي، وَمِنْهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعِ الْغَفْلَةِ سِيَّمَا فِي وَقْتِنَا هَذَا لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي نِيَّةِ الْخُرُوجِ إلَى السُّوقِ وَعَدَدِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَضْرِبُ بِالدُّرَّةِ مَنْ يَقْعُدُ فِي السُّوقِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ وَيَقُولُ: لَا يَقْعُدُ فِي سُوقِنَا مَنْ لَا يَعْرِفُ الرِّبَا أَوْ كَمَا كَانَ يَقُولُ. وَقَدْ أَمَرَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِإِقَامَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ مِنْ السُّوقَةِ لِئَلَّا يُطْعِمَ النَّاسَ الرِّبَا. سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَذْكُرُ أَنَّهُ أَدْرَكَ بِالْمَغْرِبِ الْمُحْتَسِبَ يَمْشِي عَلَى الْأَسْوَاقِ وَيَقِفُ عَلَى كُلِّ دُكَّانٍ فَيَسْأَلُ صَاحِبَ الدُّكَّانِ عَنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُهُ فِي سِلَعِهِ وَمِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الرِّبَا فِيهَا وَكَيْفَ يَتَحَرَّزُ عَنْهَا، فَإِنْ أَجَابَهُ أَبْقَاهُ فِي الدُّكَّانِ وَإِنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَقَامَهُ مِنْ الدُّكَّانِ، وَيَقُولُ: لَا نُمَكِّنُك أَنَّك تَقْعُدُ بِسُوقِ الْمُسْلِمِينَ تُطْعِمُ النَّاسَ الرِّبَا أَوْ مَا لَا يَجُوزُ انْتَهَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُسْتَظَلَّ بِجِدَارِ صَيْرَفِيٍّ مَعَ أَنَّ الْأَحْكَامَ كَانَتْ إذْ ذَاكَ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَحْكَامِ فَعَلَى هَذَا الْفَتْوَى الْيَوْمَ يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ غَالِبًا لِلْجَهْلِ بِالْأَحْكَامِ، وَتَصَرُّفُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِمَا لَا يَنْبَغِي فِي جُلِّ الْبِيَاعَاتِ فَالْحُكْمُ فِي الْجَمِيعِ الْيَوْمَ حُكْمُ الصَّيْرَفِيِّ إذْ ذَاكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا كَيْفَ

فصل في القيام للناس في المحافل والمجالس

كَانَ الْعَوَامُّ فِي هَذَا الزَّمَنِ الْقَرِيبِ مِنَّا وَكَيْفَ حَالُ الْعُلَمَاءِ الْيَوْمَ وَمَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ أَمْرٌ طَائِلٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. سُنَّةٌ فِيهَا وُجُوهٌ مِنْ الْحِكَمِ عَدِيدَةٌ صَارَ الْعَالِمُ مِنَّا يَسْتَحِي مِنْ فِعْلِهَا وَيَحْتَشِمُ مِنْ الدُّخُولِ فِيهَا، كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْعَوَائِدِ فِي التَّصَرُّفِ وَالْمَلْبَسِ وَتَرْكِ النَّظَرِ إلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَإِلَى فِعْلِ الْمَاضِينَ مِنْ فُضَلَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. [فَصْلٌ فِي الْقِيَامِ للناس فِي المحافل والمجالس] (فَصْلٌ) فِي الْقِيَامِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ وَفِيمَنْ جَالَسَهُ بِالْقَوْلِ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى وَكَثُرَ وُقُوعُهَا عِنْدَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَّا مِمَّنْ يَعْرِفُ الْعِلْمَ وَمِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ أَعْنِي فِي الْأَكْثَرِ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَهُوَ هَذَا الْقِيَامُ الَّذِي اعْتَادَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمَحَافِلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ سِيَّمَا إنْ كُنَّا فِي مَجْلِسِ عِلْمٍ فَهُوَ أَشَدُّ فِي الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ يَذْكُرُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا دَخَلَ أَحَدٌ عَلَيْنَا إذْ ذَاكَ قَطَعْنَا مَا كُنَّا فِيهِ وَقُمْنَا إلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْنَا، فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ صَبِيًّا صَغِيرًا أَوْ شَابًّا أَوْ مَنْ لَا بَالَ لَهُ فِي دِينِهِ فَيَكُونُ أَعْظَمَ فِي قِلَّةِ الْأَدَبِ مَعَ الْعَالِمِ الَّذِي حَكَيْنَا إذْ ذَاكَ قَوْلَهُ أَوْ مَذْهَبَهُ، فَإِنْ كَانَ مَجْلِسُنَا إذْ ذَاكَ لِلْحَدِيثِ فَهُوَ أَعْظَمُ؛ لِأَنَّهُ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِلَّةُ احْتِرَامٍ وَعَدَمُ مُبَالَاةٍ أَنْ يُقْطَعَ حَدِيثُهُ لِأَجْلِ غَيْرِهِ فَكَيْفَ لِبِدْعَةٍ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُوَقِّرُونَ مَجْلِسَ الْحَدِيثِ حَتَّى فِي رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَرْفَعُوهَا إذْ ذَاكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] الْآيَةَ قَالَ مَالِكٌ وَلَا فَرْق بَيْنَ رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ عَلَى حَدِيثِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ بَلْ كَانُوا لَا يَقْطَعُونَ حَدِيثَهُ، وَلَا يَتَحَرَّكُونَ وَإِنْ أَصَابَهُمْ الضُّرُّ فِي أَبْدَانِهِمْ وَيَتَحَمَّلُونَ الْمَشَقَّةَ الَّتِي تَنْزِلُ

بِهِمْ إذْ ذَاكَ احْتِرَامًا لِحَدِيثِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ صِفَةِ تَوْقِيرِهِمْ لِلْحَدِيثِ كَيْفَ كَانَ وَمَا جَرَى لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي لَسْعِ الْعَقْرَبِ لَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَهُوَ لَمْ يَتَحَرَّكَ، وَتَحَمُّلُهُ لِلَسْعِهَا تَوْقِيرًا لِجَانِبِ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَحَرَّكُ لِضُرٍّ أَصَابَ بَدَنَهُ مَعَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِيمَا وَقَعَ بِهِ فَكَيْفَ بِالْحَرَكَةِ وَالْقِيَامِ إذْ ذَاكَ لَا لِضَرُورَةٍ بَلْ لِبِدْعَةٍ، سِيَّمَا إنْ انْضَافَ إلَى ذَلِكَ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْكَلَامِ الْمُعْتَادِ فِي سَلَامِ بَعْضِنَا عَلَى بَعْضٍ مِنْ التَّمَلُّقِ وَالتَّزْكِيَةِ وَالْأَيْمَانِ بِوُجُودِ الْمَحَبَّةِ وَحُلُولِ الْبَرَكَةِ وَإِحْنَاءِ الرَّأْسِ وَرُكُوعِهِ بَلْ يَقْرُبُ بَعْضُهُمْ مِنْ السُّجُودِ بَلْ يَفْعَلُونَهُ لِبَعْضِ كُبَرَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمْ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ «رَجُلًا يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ وَصَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ قَالَ لَا قَالَ أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ لَا زَادَ رَزِينٌ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ مِنْ سَفَرٍ» انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ وُجُوهٌ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ مِنْهَا ارْتِكَابُ النَّهْيِ فِي التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ، وَقَدْ نَهَانَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَقِيَامُ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ مِنْ فِعْلِهِمْ. وَمِنْهَا أَنَّ فِيهِ إذْلَالًا لِلْقَائِمِ وَإِذْلَالًا لَلْمَقُومِ إلَيْهِ. أَمَّا إذْلَالُ الْقَائِمِ فَبِقِيَامِهِ حَصَلَتْ لَهُ الذِّلَّةُ. وَأَمَّا الْمَقُومُ إلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يَنْحَطُّ إذْ ذَاكَ وَيُقَبِّلُ يَدَهُ أَوْ يُشِيرُ إلَى الْأَرْضِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَاشِرُ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ وَذَلِكَ إذْلَالٌ مَحْضٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ، وَلَا يَشُكُّ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤْمِنَ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» وَمِنْهَا الْحَلِفُ بِاَللَّهِ إذْ ذَاكَ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُوَقِّرُونَ الْحَلِفَ كَثِيرًا وَتَكْثِيرُهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ بَعْدَهُمْ، وَالْيَمِينُ هُنَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُوَقِّرُ أَنْ يَذْكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا عَلَى سَبِيلِ الذِّكْرِ حَتَّى إذَا اُضْطُرُّوا فِي الدُّعَاءِ إلَى مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِمْ بِالْمُكَافَأَةِ لَهُ يَقُولُونَ جُزِيت خَيْرًا خَوْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْرُجَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ بِغَيْرِ صِفَةِ الذِّكْرِ. وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ مِنْ حِرْمَانِ بَرَكَةِ السُّنَّةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ

بِالسَّلَامِ الْمَشْرُوعِ أَوْ الْمُصَافَحَةِ الْمَشْرُوعَةِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا» . وَمِنْهُ أَيْضًا عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا وَحَمِدَا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَاهُ غُفِرَ لَهُمَا» وَذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ صَافَحَ عَالِمًا صَادِقًا فَكَأَنَّمَا صَافَحَ نَبِيًّا مُرْسَلًا» انْتَهَى. وَقَدْ وَرَدَ فِي السَّلَامِ مِنْ الْفَضْلِ وَالتَّرْغِيبِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ كَفَى بِهِ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يَنْطِقُونَ بِهِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِثَالِ وَالتَّشْرِيعِ فَيَكُونُ بِسَبَبِهِ مِنْ الذَّاكِرِينَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إخْبَارًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: «مَنْ ذَكَرَنِي ذَكَرْتُهُ وَأَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي» . فَيَحْصُلُ لَهُمْ هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ وَالنِّعْمَةُ الشَّامِلَةُ، وَالْغَالِبُ أَنَّ السَّلَامَ الْمَشْرُوعَ إذْ ذَاكَ بَيْنَنَا مَتْرُوكٌ، وَكَذَلِكَ الْمُصَافَحَةُ، فَإِنْ وَقَعَ مِنَّا السَّلَامُ كَانَ قَوْلُنَا صَبَّحَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ مَسَّاكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ يَوْمٌ مُبَارَكٌ لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ وَالْحَوَادِثِ وَإِنْ كَانَ دُعَاءً وَالدُّعَاءُ كُلُّهُ حَسَنٌ لَكِنْ إذَا لَمْ يُصَادِمْ سُنَّةً كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ وَالنِّيَّةِ، وَأَمَّا إنْ صَادَمَ سُنَّةً فَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي مَنْعِهِ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْبِدَعِ هَلْ تُمْنَعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ لَا تُمْنَعُ إلَّا إذَا عَارَضَتْ السُّنَنَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَهَذَا مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي عَارَضَ سُنَّةً؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ السَّلَامَ الشَّرْعِيَّ بِسَبَبِهِ وَأَحَلَّ الْقِيَامَ وَالدُّعَاءَ مَحَلَّهُ، وَلَا قَائِلٌ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قَالَ الْعَالِمُ مَثَلًا أَنَا أَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْدَ السَّلَامِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْعَوَامَّ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي الْبِدَعِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ السُّنَّةَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا. وَإِنْ وَقَعَتْ الْمُصَافَحَةُ بَيْنَنَا إذْ ذَاكَ كَانَ عِوَضًا عَنْهَا تَقْبِيلُ الْيَدِ، وَقَدْ وَقَعَ إنْكَارُ الْعُلَمَاءِ لِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمُقَبَّلُ يَدُهُ عَالِمًا أَوْ صَالِحًا أَوْ هُمَا مَعًا فَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَجَازَهُ غَيْرُهُ. وَأَمَّا

تَقْبِيلُ يَدِ غَيْرِ هَذَيْنِ فَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ يَقُولُ بِجَوَازِهِ لَا سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَبَّلُ يَدُهُ ظَالِمًا أَوْ بِدْعِيًّا أَوْ مِمَّنْ يُرِيدُ تَقْبِيلَ يَدَهُ وَيَخْتَارُهُ فَهُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ الْوَاقِعُ بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ وَبِمَنْ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهُمَا لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْوَعِيدِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ وَتَرْكِ الِامْتِثَالِ. كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ تَرْكُ السُّنَّةِ أَوْ التَّهَاوُنُ بِشَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُتْرَكُ أَبَدًا إلَّا وَيَنْزِلُ بِمَوْضِعِهَا عُقُوبَةٌ لِتَارِكِهَا بِدْعَةٌ أَوْ بِدَعٌ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا مِنْ سَيِّئَةٍ إلَّا وَلَهَا أُخَيَّاتٌ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَزَلَ بِالْأَبْطَحِ فَنَظَرَ إلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: إنَّ كُلَّ شَيْءٍ إذَا تَمَّ نَقَصَ، وَإِنْ هَذَا الْقَمَرَ قَدْ تَمَّ فَهُوَ يَنْقُصُ بَعْدَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَإِنِّي لَا أَرَى الْإِسْلَامَ إلَّا وَقَدْ تَمَّ، وَإِنِّي لَا أَرَاهُ إلَّا وَسَيَنْقُصُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَانَ الْأَمْرُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا قَالَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا زَالَ يَنْقُصُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَهُوَ بَعْدُ فِي نَقْصٍ كَمَا سَبَقَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ بِرَحْمَتِهِ انْتَهَى. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ عَامٍ إلَّا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ سَمِعْت ذَلِكَ مِنْ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (مَا مِنْ سَنَةٍ إلَّا وَتُحْيُونَ فِيهَا بِدْعَةً وَتُمِيتُونَ فِيهَا سُنَّةً وَلَنْ تُمِيتُوا سُنَّةً فَتَرْجِعُ إلَيْكُمْ أَبَدًا) وَهَا هُوَ ذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا السَّلَامَ وَهُوَ السُّنَّةُ وَاسْتَعْمَلُوا الْقِيَامَ وَالدُّعَاءَ صَارَ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ مُنْكَرٌ لَا يُعْرَفُ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ السَّلَامَ الشَّرْعِيَّ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ وَقَالُوا عَنْهُ لَا يُنْصِفُ فِي السَّلَامِ مَا يُسَاوِي أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْئًا لَا يَعْبَأُ بِأَحَدٍ لَا يَلْتَفِتُ إلَى أَحَدٍ مُتَكَبِّرٌ لَا يُعَاشَرُ مُتَجَبِّرٌ لَا يُخَالَطُ، وَإِنْ حَسَّنُوا الظَّنَّ بِهِ قَالُوا: مَرْبُوطٌ يَابِسٌ مُشَدِّدٌ ثَقِيلٌ، وَلَرُبَّمَا وَجَدُوا عَلَيْهِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَمْ يُقَرِّبُوهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا مِنْ مَجَالِسِهِمْ حَنَقًا عَلَيْهِ فِيمَا عَامَلَهُمْ بِهِ فَصَارَ مَا مَدَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ

بِقَوْلِهِ {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] مَنْ عَامَلَهُمْ بِذَلِكَ وَجَدُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ وَالْجَهْلِ بِهَا وَالْحِرْمَانِ مِنْ بَرَكَتِهَا وَبَرَكَةِ مَعْرِفَتِهَا وَبَرَكَةِ مَعْرِفَةِ أَهْلِهَا. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَوْ أَتَى بِالْمُصَافَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَرَكَ تَقْبِيلَ الْيَدِ لَوَجَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا وَجَدُوا عَلَى مَنْ قَبْلَهُ أَوْ أَكْثَرَ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَمَا نَحَوْنَا نَحْوَهُ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِحُذَيْفَةَ: كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْتَ بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً» . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فَيَكُونُ هَذَا الْعَالِمُ يَتَحَرَّزُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ كُلِّهِ وَيَتَفَطَّنُ لَهُ وَيَرْعَاهُ إذْ هُوَ رَاعٍ لِمَنْ حَضَرَهُ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَحَصَلَ فِي هَذَا الْقِيَامِ وَمَا جَرَّ إلَيْهِ مِنْ الْخِصَالِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا مَا هَذَا عَدَدُهُ، وَهِيَ مَحَبَّةُ الْقِيَامِ وَفِعْلِهِ وَالِانْحِنَاءِ وَالرُّكُوعِ وَالْكَذِبِ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ التَّزْكِيَةِ وَالتَّمَلُّقِ وَتَكْرَارِ ذَلِكَ وَالْيَمِينِ عَلَيْهِ وَتَكْرَارِهَا وَالْمُدَاهَنَةِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ وَالتَّكَبُّرِ بِذَلِكَ وَالِاحْتِقَارِ لِمَنْ لَا يُقَامُ لَهُ وَالرِّيَاءِ بِالْقِيَامِ وَمَا جَرَّ إلَيْهِ، وَذَلِكَ اثْنَتَا عَشْرَةَ خَصْلَةً أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَغْتَرَّ أَوْ يَمِيلَ إلَى بِدْعَةٍ لِدَلِيلٍ قَامَ عِنْدَهُ عَلَى إبَاحَتِهَا مِنْ أَجْلِ اسْتِئْنَاسِ النُّفُوسِ بِالْعَوَائِدِ أَوْ بِفَتْوَى مُفْتٍ قَدْ وَهِمَ أَوْ نَسِيَ أَوْ جَرَى عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْذَارِ مَا يَجْرِي عَلَى الْبَشَرِ وَهُوَ كَثِيرٌ، بَلْ إذَا نَقَلَ إبَاحَةَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَأْخَذِ الْعَالِمِ الْمَسْأَلَةَ وَتَجْوِيزِهِ إيَّاهَا مِنْ أَيْنَ اخْتَرَعَهَا وَكَيْفِيَّةِ إجَازَتِهِ لَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَحْفُوظٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنَّ أَحَدًا يَقُولُ فِيهِ قَوْلًا وَيَتْرُكُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ فَيُرْجَعُ لِلْقَوَاعِدِ وَلِلدَّلَائِلِ الْقَائِمَةِ، وَيَكُونُ قَوْلُ هَذَا الْعَالِمِ بَيَانًا وَتَفْهِيمًا وَبَسْطًا لِلْقَوَاعِدِ وَالدَّلَائِلِ، وَإِنْ أَتَى عَلَى مَا يَقُولُهُ بِدَلِيلِ فَيُنْظَرُ فِي الدَّلِيلِ، فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا قُبِلَ وَكَانَ لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الْإِصَابَةِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَمْ

يُقْبَلْ وَكَانَ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ هُوَ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى نِيَّتِهِ وَجَدِّهِ وَنَظَرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَأْتِي بِمَسْأَلَةٍ إلَّا وَيَأْتِي بِمَأْخَذِهَا وَدَلِيلِهَا فَيُسْنِدُهَا إلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَوْ إلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ إلَى إجْمَاعٍ أَوْ إلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَوْ فَتَاوِيهِمْ أَوْ أَحْكَامِهِمْ فَيَقُولُ: وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْت أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا وَبِذَلِكَ حَكَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَبِذَلِكَ حَكَمَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِذَلِكَ أَفْتَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَبِذَلِكَ كَانَ رَبِيعَةُ يُفْتِي وَكَانَ ابْنُ هُرْمُزَ يَفْعَلُ كَذَا وَيَقُولُ كَذَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ فِي إسْنَادِهِ كُلَّ مَسْأَلَةٍ يَرُدُّهَا إلَى أَصْلِهَا وَيَعْزُوهَا إلَى نَاقِلِهَا وَالْمُفْتِي فِيهَا أَوْ الْمُنْفَرِدِ فِيهَا أَوْ إجْمَاعِ النَّاسِ فِيهَا هَذَا مَعَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُجْمَعِ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُمْ وَشَاعَ وَذَاعَ شَهَادَتَهُمْ لَهُ بِالتَّقَدُّمَةِ وَقَدْ سُمِّيَ إمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إذَا أَتَوْا بِالْمَسْأَلَةِ ذَكَرُوا مَأْخَذَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُهَا بَيِّنًا جِدًّا لَا يَحْتَاجُونَ إلَى ذِكْرِهِ لِكَثْرَةِ وُضُوحِهِ لِلْغَالِبِ مِنْ النَّاسِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا دَأْبُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمُجْمَعِ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِهِمْ فَكَيْفَ الْمُتَأَخِّرُ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ فَلْنَرْجِعْ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى، وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُ مِنْ الْقِسْمِ الْجَائِزِ أَوْ الْمَنْدُوبِ وَأَلَّفَ عَلَيْهِ تَأْلِيفًا فِي إبَاحَتِهِ وَنَدْبِهِ وَحَاوَلَ ذَلِكَ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقِسْمِ الْمَكْرُوهِ، وَجَعَلَ التَّأْلِيفَ الَّذِي أَلَّفَهُ عَلَى بَابَيْنِ: الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي التَّرْغِيبِ لِذَلِكَ وَالنَّدْبِ إلَيْهِ. وَالْبَابُ الثَّانِي: فِيمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَالِاسْتِعْذَارِ عَنْهُ فَمَنْ يَنْظُرُ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ يَقِفُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَأْخَذًا لِمَسَائِلَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ مِنْ الْقِسْمِ الْجَائِزِ أَوْ الْمَنْدُوبِ، فَنَحْتَاجُ إذَنْ أَنْ نَنْظُرَ إلَى مَأْخَذِ دَلِيلِهِ وَاسْتِبَاحَتِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْقَوَاعِدِ وَشَهِدَتْ لَهُ الْأُصُولُ قَبِلْنَا وَسَلَّمْنَا وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ نَحْتَاجُ أَنْ نُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ وَمَا الْجَائِزُ مِنْهُ وَمَا الْمَنْدُوبُ وَمَا

الْمَكْرُوهُ مِنْهُ وَمَا الْمَمْنُوعُ. وَقَدْ نَقَلَ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - آيَةً وَأَحَادِيثَ جُمْلَةً عَلَى جَوَازِ الْقِيَامِ أَوْ النَّدْبِ إلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا نَحْتَاجُ أَنْ نَأْتِيَ بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَاحِدًا وَاحِدًا وَنُبَيِّنَ مَعْنَى كُلِّ دَلِيلٍ وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ لِلْمَنْعِ لَا لِلْجَوَازِ بَعْدَ بَيَانِ مَأْخَذِ دَلِيلِهِ وَإِيضَاحِهِ فَمِنْ أَيِّ قِسْمٍ ظَهَرَ لَك الصَّوَابُ فَاسْلُكْهُ وَاَللَّهُ يُرْشِدُنَا وَإِيَّاكَ لِطَرِيقِ السَّدَادِ وَيُجَنِّبُنَا وَإِيَّاكَ طَرِيقَ الْجَحْدِ وَالْعِنَادِ وَأَنْ يَرْزُقَنَا وَإِيَّاكَ الْإِنْصَافَ وَالِاتِّصَافَ بِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ. فَبَدَأَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْكِتَابَ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] قَالَ: وَمِنْ الْخَفْضِ لَهُمْ وَالْإِكْرَامِ أَنْ يُحْتَرَمُوا بِالْقِيَامِ لَا عَلَى طَرِيقِ الرِّيَاءِ وَالْإِعْظَامِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ التَّكَرُّمِ وَالِاحْتِرَامِ وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ مَنْ لَا يُحْصَى مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْوَرَعِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَمَاثِلِ وَالْأَعْلَامِ، فَاَلَّذِي يَخْتَارُ الْقِيَامَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمَزِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَطَلَبَتِهِ وَالْوَالِدَيْنِ وَالصَّالِحِينَ وَسَائِرِ أَخْيَارِ الْبَرِيَّةِ، فَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ جُمَلٌ مِنْ الْأَخْبَارِ وَأَنَا أَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَرِيمُ جُمَلًا مِمَّا بَلَغَنِي فِيمَا ذَكَرْته لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا سِوَاهَا مِمَّا حَذَفْتُهُ وَذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَأَقَاوِيلِ السَّلَفِ النَّيِّرَةِ الْحُكْمِيَّةِ: أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ «أَنَّ أُنَاسًا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُومُوا إلَى خَيْرِكُمْ أَوْ إلَى سَيِّدِكُمْ» . وَقَدْ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْقِيَامِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَمِمَّنْ احْتَجَّ بِهِ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فَتَرْجَمَ لَهُ بَابَ مَا جَاءَ فِي الْقِيَامِ، وَكَذَلِكَ تَرْجَمَ لَهُ غَيْرَهُ. وَمِمَّنْ احْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمٌ صَاحِبُ الصَّحِيحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِي قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ حَدِيثًا أَصَحَّ مِنْ هَذَا قَالَ: وَهَذَا الْقِيَامُ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ لَا عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ انْتَهَى. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى هَذِهِ السُّنَّةِ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَالْمُخَاطَبُ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتُهُ مُنْدَرِجُونَ بَعْدَهُ فِي الْخِطَابِ

وَاَللَّهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فَهَلْ يُنْقَلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ قَامَ لِأَحَدٍ أَوْ أَمَرَ بِالْقِيَامِ لِأَحَدٍ مَعَ أَنَّهُ نَدَبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ فَهَلْ بَعْدَ نَدْبِهِ لِذَلِكَ كَانَ يَقُومُ لِتَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ بَلْ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَنَدْبِهِ إلَى تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ كَانَ خَفْضُ جَنَاحِهِ لَهُمْ بِالتَّوَاضُعِ وَالتَّنَازُلِ عَنْ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا الَّتِي وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَكْرَمَهُ بِهَا إلَى مُخَاطَبَتِهِ الضَّعِيفَ الْفَقِيرَ فِي دُنْيَاهُ أَوْ الْفَقِيرَ فِي إيمَانِهِ فَيُبَاسِطُهُمْ وَيُؤَانِسُهُمْ بِحَدِيثِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَهْذِيبِهِ وَتَقْوِيَتِهِ يَقِينَ هَذَا وَإِيمَانَ هَذَا وَتَدْرِيبِهِمْ إلَى الثِّقَةِ بِوَعْدِ اللَّهِ وَمَضْمُونِهِ وَمَا وَهَبَ لِأَوْلِيَائِهِ وَمَا تَوَعَّدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ. هَذَا وَمَا شَابَهَهُ هُوَ الَّذِي نُقِلَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ خَفْضِ جَنَاحِهِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَيْهِ لَا الْقِيَامُ، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُبَيِّنُ لِلْأَحْكَامِ وَعَنْهُ تُتَلَقَّى، وَعِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَيْهِ وَقْتَ الْبَيَانِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ نَدْبُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ إنَّمَا هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي ذَكَرَ فَيَلْطُفُ بِالْكَبِيرِ فِي دُنْيَاهُ فِي تَبْيِينِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ مَعَ إظْهَارِ الْبَشَاشَةِ إلَيْهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَالْمَوَدَّةِ وَالْأُنْسِ وَالْبَسْطِ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ وَالدُّنُوِّ مِنْ الْمَنْزِلَةِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ مَعَهُ وَالْمُبَاسِطِ لَهُ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَنْ كَانَ كَبِيرًا فِي دِينِهِ بِسَبَبِ صَلَاحٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ هُمَا مَعًا فَيَلْطُفُ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّنْ ذَكَرَ قَبْلَهُ أَعْنِي فِي الْأُنْسِ وَالدُّنُوِّ وَالْبَسْطِ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْزِلَةَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ مَنْزِلَةِ الدُّنْيَا فَيَعْظُمُ فِي إكْرَامِهِ عَلَى مَا وَرَدَ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُبَيِّنُ لِلْأَحْكَامِ فَأَفْعَالُهُ مُفَسِّرَةٌ وَمُبَيِّنَةٌ لِأَقْوَالِهِ وَأَحَادِيثِهِ وَلِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَيَمْتَثِلُ قَوْلُهُ وَأَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا امْتَثَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ وَمَعَ أَصْحَابِهِ وَعَلَى مَا امْتَثَلَهُ

أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ مَنْ لَا يُحْصَى مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ - الْفَصْلَ إلَى آخِرِهِ - فَلَوْ ذَكَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا وَسَكَتَ لَكَانَ يَخْطُرُ لِلسَّامِعِ الَّذِي لَمْ يُحَصِّلُ بَعْدُ شَيْئًا أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ السُّنَّةُ، وَلَكِنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ أَتَى بِذِكْرِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَذِكْرِ مَذَاهِبِهِمْ وَاسْتِنَادِهِمْ إلَى مَا ذَكَرَ وَعَيَّنَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَبَسَطَ وَظَهَّرَ الْأَمْرَ لِلْعَالِمِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَوَّلًا الْحَدِيثَ الْمُتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قُومُوا إلَى خَيْرِكُمْ أَوْ إلَى سَيِّدِكُمْ» فَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُنَازَعُ فِي صِحَّتِهِ، وَهُوَ بَيِّنٌ فِي الْقِيَامِ كَمَا ذَكَرَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّ فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ لِلْأَنْصَارِ، وَالْأَصْلُ فِي أَفْعَالِ الْقُرْبِ الْعُمُومُ، وَلَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ قُرْبَةٌ تَخُصُّ بَعْضَ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَرِينَةً تَخُصُّ بَعْضَهُمْ فَتَعُمُّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ. فَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُمْ بِالْقِيَامِ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَّلَ مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَا نَدَبَ إلَيْهِ، وَهُوَ الْمُخَاطَبُ خُصُوصًا بِخَفْضِ الْجَنَاحِ وَأُمَّتُهُ عُمُومًا فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ الْمُهَاجِرِينَ، وَلَا فَعَلُوهُ بَعْدَ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْأَنْصَارِ، بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِيَامَ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَاشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي الْأَمْرِ بِهِ وَفِي فِعْلِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُحْمَلُ أَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْقِيَامِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورَاتِ الْمُحْوِجَاتِ لِذَلِكَ وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قِصَّةِ الْحَدِيثِ وَبِسَاطِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ «بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ إذْ ذَاكَ خَلَّفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ فِي الْمَسْجِدِ مُثْقَلًا بِالْجِرَاحِ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ أَنْ يَخْرُجَ وَتَرَكَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَجُوزًا تَخْدُمُهُ، فَلَمَّا أَنْ نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِهِ أَرْسَلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَهُ فَأُتِيَ بِهِ عَلَى دَابَّةٍ وَهُمْ يُمْسِكُونَهُ يَمِينًا

وَشِمَالًا لِئَلَّا يَقَعَ عَنْ دَابَّتِهِ، فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِ إذْ ذَاكَ قُومُوا إلَى خَيْرِكُمْ أَوْ إلَى سَيِّدِكُمْ» أَيْ قُومُوا فَأَنْزَلُوهُ عَنْ الدَّابَّةِ. وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى مَا ذَكَرَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ إلَيْهِ لِيُنْزِلُوهُ عَنْ الدَّابَّةِ لِمَرَضٍ بِهِ» انْتَهَى. لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ جَرَتْ أَنَّ الْقَبِيلَةَ تَخْدُمُ سَيِّدَهَا فَخَصَّهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَنْزِيلِهِ وَخِدْمَتِهِ عَلَى عَادَتِهِمْ الْمُسْتَمِرَّةِ بِذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا ذَكَرْتُمْ، وَهُوَ الْإِنْزَالُ عَنْ الدَّابَّةِ لَأَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِذَلِكَ مَنْ يَقُومُ بِتِلْكَ الْوَظِيفَةِ وَهُمْ نَاسٌ مِنْ نَاسٍ، فَلَمَّا أَنْ عَمَّهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَمِيعُ إذْ أَنَّ بِبَعْضِهِمْ تَزُولُ الضَّرُورَةُ الدَّاعِيَةُ إلَى تَنْزِيلِهِ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ وَشَمَائِلِهِ اللَّطِيفَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَوْ خَصَّ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْقَوْلِ وَالْأَمْرِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إظْهَارًا لِخُصُوصِيَّتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ قَبِيلَتِهِ، فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ انْكِسَارُ خَاطِرٍ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ وَكَانَتْ إشَارَتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ نَظَرُهُ أَوْ أَمْرُهُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَكْبَرِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَأَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُمْ بِذَلِكَ عُمُومًا تَحَفُّظٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَنْكَسِرَ خَاطِرُ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَتَغَيَّرَ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ مِثْلَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ مَنْ قَامَ بِهِ أَجْزَأَ عَنْ الْبَاقِينَ، فَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ لِلْقَرَائِنِ الَّتِي قَارَنَتْهُ، وَهِيَ هَذِهِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ أَفْعَالَ الْقُرَبِ تَعُمُّ، وَلَا تَخُصُّ قَبِيلَةً دُونَ أُخْرَى، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي أَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِذَلِكَ هَلْ كَانَ لِلْأَنْصَارِ خُصُوصًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَوْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَا وَقَعَ مِنْ الْجَوَابِ يَعُمُّ الْقَبِيلَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَائِبٌ قَدِمَ وَالْقِيَامُ لِلْغَائِبِ مَشْرُوعٌ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ لِتَهْنِئَتِهِ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ هَذِهِ التَّوْلِيَةِ وَالْكَرَامَةِ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ. وَالْقِيَامُ لِلتَّهْنِئَةِ مَشْرُوعٌ. وَقَدْ قَالَ

الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ: الْقِيَامُ لِلرَّجُلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ يَكُونُ الْقِيَامُ فِيهِ مَحْظُورًا وَوَجْهٌ يَكُونُ فِيهِ مَكْرُوهًا وَوَجْهٌ يَكُونُ فِيهِ جَائِزًا وَوَجْهٌ يَكُونُ فِيهِ حَسَنًا. فَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مَحْظُورًا لَا يَحِلُّ فَهُوَ أَنْ يَقُومَ إكْبَارًا وَتَعْظِيمًا لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إلَيْهِ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا عَلَى الْقَائِمِينَ إلَيْهِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ الْقِيَامُ فِيهِ مَكْرُوهًا فَهُوَ أَنْ يَقُومَ إكْبَارًا وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا لِمَنْ لَا يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إلَيْهِ، وَلَا يَتَكَبَّرُ عَلَى الْقَائِمِينَ إلَيْهِ فَهَذَا يُكْرَهُ لِلتَّشَبُّهِ بِفِعْلِ الْجَبَابِرَةِ وَمَا يُخْشَى أَنْ يُدْخِلَهُ مِنْ تَغْيِيرِ نَفْسِ الْمَقُومِ إلَيْهِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ الْقِيَامُ فِيهِ جَائِزًا فَهُوَ أَنْ يَقُومَ تَجِلَّةً وَإِكْبَارًا لِمَنْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَلَا يُشْبِهُ حَالُهُ حَالَ الْجَبَابِرَةِ وَيُؤْمَنُ أَنْ تَتَغَيَّرَ نَفْسُ الْمَقُومِ إلَيْهِ لِذَلِكَ وَهَذِهِ صِفَةٌ مَعْدُومَةٌ إلَّا مَنْ كَانَ بِالنُّبُوَّةِ مَعْصُومًا؛ لِأَنَّهُ إذَا تَغَيَّرَتْ نَفْسُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالدَّابَّةِ الَّتِي رَكِبَ عَلَيْهَا فَمَنْ سِوَاهُ بِذَلِكَ أَحْرَى، وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ الْقِيَامُ فِيهِ حَسَنًا فَهُوَ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ إلَى الْقَادِمِ عَلَيْهِ مِنْ سَفَرٍ فَرِحًا بِقُدُومِهِ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَوْ إلَى الْقَادِمِ عَلَيْهِ سُرُورًا بِنِعْمَةٍ أَوْلَاهُ اللَّهُ إيَّاهَا لِيُهَنِّئَهُ بِهَا أَوْ لِقَادِمٍ عَلَيْهِ مُصَابٍ بِمُصِيبَةٍ لِيُعَزِّيَهُ بِمُصَابِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْآثَارِ، وَلَا يَتَعَارَضُ شَيْءٌ مِنْهَا انْتَهَى. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ نَدَبَكَ الشَّرْعُ أَنْ تَمْشِيَ إلَيْهِ لِأَمْرٍ حَدَثَ عِنْدَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْك الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ فَالْقِيَامُ إلَيْهِ إذْ ذَاكَ عِوَضٌ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي فَاتَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، فَقَدْ حَصَلَ الْقِيَامُ لِسَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْقِسْمِ الْمَنْدُوبِ لِتَهْنِئَتِهِ بِمَا أَوْلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نِعْمَتِهِ بِتِلْكَ التَّوْلِيَةِ الْمُبَارَكَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ. فَقَدْ ذَكَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْ احْتَجَّ بِهِ، وَهُوَ أَبُو دَاوُد وَمُسْلِمٌ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَدِّثِينَ دَأْبُهُمْ أَبَدًا فِي الْحَدِيثِ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إلَى فِقْهِ الْحَدِيثِ فَيُبَوِّبُونَ

عَلَيْهِ وَيَذْكُرُونَ فَوَائِدَهُ فِي تَرَاجِمِهِمْ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَمَا قَالُوا فِي الْبُخَارِيِّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - جُلُّ فِقْهِهِ فِي تَرَاجِمِهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ فِي غَالِبِ أَمْرِهِمْ إلَى التَّفْصِيلِ بِالْجَوَازِ أَوْ الْمَنْعِ أَوْ الْكَرَاهَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إنَّمَا شَأْنُهُمْ سِيَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَالْفُقَهَاءُ يَتَعَرَّضُونَ لِذَلِكَ كُلِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا دَاوُد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ بَوَّبَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي وَقَعَ النَّهْيُ فِيهِ عَنْ الْقِيَامِ فَقَالَ: بَابُ كَرَاهَةِ الْقِيَامِ لِلنَّاسِ بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ تَرْجَمَتِهِ وَتَبْوِيبِهِ عَلَى الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ فِقْهَهُ اقْتَضَى مَنْعَ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى الْقِيَامِ لَمْ يَقُلْ: بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْقِيَامِ، وَلَا اسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ، وَلَا جَوَازِ الْقِيَامِ بَلْ قَالَ: بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِيَامِ وَلَمْ يَزِدْ، وَلَمَّا أَنْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْآخَرَ قَالَ: بَابُ كَرَاهَةِ الْقِيَامِ لِلنَّاسِ فَيَلُوحُ مِنْ فَحْوَى خِطَابِهِ أَنَّهُ يَقُولُ بِالْكَرَاهَةِ، وَلَا يَقُولُ بِالْجَوَازِ، وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا لَمْ نَقُلْ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَلَمْ نَأْخُذْ مِنْهُ الْحُكْمَ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ نَحْكُمَ بِأَنَّهُ أَخَذَ بِأَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ وَتَرَكَ الْآخَرَ إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَالْقَرِينَةُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى مَا ذَكَرَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَخْرَجَ الْإِمَامَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ تَوْبَتِهِ الطَّوِيلِ الْمَشْهُورِ فَذَكَرَهُ إلَى قَوْلِهِ «وَانْطَلَقْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ إلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي وَاَللَّهِ مَا قَامَ إلَيَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ» انْتَهَى. اسْتَدَلَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْقِيَامِ بِفِعْلِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كَوْنُهُ قَامَ إلَيْهِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ بَلْ لَا يُعْطِي الْحَدِيثُ وَنَصُّهُ غَيْرَ ذَلِكَ. بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِيَامُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ إذْ ذَاكَ أَوْ مَشْرُوعًا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَتْرُكَهُ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَا شَرَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نَدَبَ إلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مَنْ جَالَسَهُ

إذْ ذَاكَ يَجْهَلُ هَذَا الْمَنْدُوبَ أَوْ الْجَائِزَ حَتَّى لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ قَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَمْ يَنْهَهُ، وَهَذَا وَقْتُ الْبَيَانِ وَتَأْخِيرُهُ لَا يَجُوزُ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ وَصَرَّحَ فِيهِ بِالْقِيَامِ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَهُوَ كَوْنُهُ قَامَ لِتَهْنِئَتِهِ وَمُصَافَحَتِهِ فَكَانَ قِيَامُهُ لِثَلَاثِ مَعَانٍ، وَهِيَ الْبِشَارَةُ وَالْمُصَافَحَةُ وَالتَّهْنِئَةُ وَلَمْ يَكُنْ لِنَفْسِ الْقِيَامِ إذْ لَوْ كَانَ لَصَرَّحَ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِغَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ غَيْرُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ عَلَى أَنَّ التَّهْنِئَةَ وَالْبِشَارَةَ وَالْمُصَافَحَةَ تَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْخُلْطَةِ وَالْمُمَازَجَةِ بِخِلَافِ السَّلَامِ، فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ، فَقَدْ يَكُونُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَعْبٍ مَا ذَكَرَ فَكَانَ مَا صَدَرَ مِنْهُ لِأَجْلِ زِيَادَةِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَمْرٌ تَقَرَّرَ، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَسَاوَوْا فِي كَثْرَةِ الْمَوَدَّةِ وَتَأْكِيدِ الْحُقُوقِ، فَرُبَّ شَخْصٍ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ وَآخَرَ لَهُ حَقَّانِ وَآخَرَ لَهُ ثَلَاثُ حُقُوقٍ إلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَارَ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ لَيْسَ إلَّا إنْ كَانَ ذِمِّيًّا، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا كَانَ لَهُ حَقَّانِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبًا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، فَإِنْ كَانَ صِهْرًا كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ حُقُوقٍ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا كَانَ لَهُ خَمْسَةُ حُقُوقٍ، فَإِنْ كَانَ صَدِيقَا صَاحِبَ سِرٍّ كَانَ لَهُ سِتَّةُ حُقُوقٍ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ رَأْيٍ وَنَظَرٍ فِي الْعَوَاقِبِ، وَلَا يُخْرَجُ عَنْ رَأْيِهِ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ كَانَ لَهُ سَبْعَةُ حُقُوقٍ، فَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا فِي مَجْلِسِ عِلْمٍ كَانَ لَهُ ثَمَانِيَةُ حُقُوقٍ، فَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا فِي سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ كَانَ لَهُ تِسْعَةُ حُقُوقٍ، فَإِنْ كَانَ صَالِحًا كَانَ لَهُ عَشْرَةُ حُقُوقٍ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا كَانَ لَهُ أَحَدَ عَشْرَ حَقًّا، فَإِنْ كَانَ يُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ حَقًّا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ مُتَعَدِّدٌ كَثِيرٌ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُحْمَلُ فِعْلُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى خُصُوصِيَّةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَعْبٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فَيَأْتِي عَلَى هَذَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ كَانَ مُمْتَثِلًا مَا يَلْزَمُهُ وَمَا يُنْدَبُ إلَيْهِ مَنْ قَامَ حَتَّى بَشَّرَ وَهَنَّأَ وَقَعَدَ. وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى بَلْ هُوَ

الْأَوْجَبُ؛ لِأَنَّا إذَا حَمَلْنَا قِيَامَ طَلْحَةَ لِأَجْلِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَأَنَّهُ مِنْ الْمَنْدُوبِ فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ جَلَسَ وَلَمْ يَقُمْ قَدْ زَهِدَ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، وَقَدْ زَهِدَ فِي فِعْلِ الْمَنْدُوبِ وَتَمَالَئُوا عَلَى تَرْكِهِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مُبَاشِرٌ لَهُمْ وَلَمْ يَنْهَهُمْ وَلَمْ يُرْشِدْهُمْ وَلَمْ يُعَلِّمْهُمْ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ هَذَا بِالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ صَالِحِي أُمَّتِهِ فَكَيْفَ بِمُتَقَدِّمِيهَا فَكَيْفَ بِالصَّحَابَةِ الْخِيَارِ خِيَارِ الْخِيَارِ فَكَيْفَ بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يُقِرُّ عَلَى النِّسْيَانِ، وَلَا الْغَلَطِ، وَلَا الْوَهْمِ لِعِصْمَتِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبِ أَوْ الْمَنْدُوبِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَبَانَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَمْرُ وَاتَّضَحَ أَنَّ قِيَامَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ لَا عَلَى الْجَوَازِ. ثُمَّ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ: «مَا رَأَيْت أَحَدًا أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهَا قَالَتْ: وَكَانَتْ إذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ لَهَا فَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ انْتَهَى. اسْتَدَلَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ مَشْرُوعٌ بِمَا ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِي كُلِّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْبَابِ مَا يُبَيِّنُ بِهِ مُرَادَهُ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ لَوْ سَلَّمَ لَهُ ظَاهِرُهُ لَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ الْقِيَامُ، وَهُوَ التَّقْبِيلُ وَإِجْلَاسُ الْوَارِدِ فِي مَجْلِسِ صَاحِبِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ نَدَبَ إلَى تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ» وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْزِلَةٌ أَعْظَمُ مِنْ مَنْزِلَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ثُمَّ مَنْزِلَتُهَا بَعْدَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّهَا) «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّهَا «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» وَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ وَأَنَّهَا بِضْعَةٌ مِنْهُ فَيَجِبُ تَرْفِيعُهَا وَتَعْظِيمُهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ:

تَرْفِيعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا تَرْفِيعٌ لِنَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُعْرَفُ مِنْهُ تَرْفِيعٌ، وَلَا تَعْظِيمٌ قَطُّ لِنَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ إلَّا مَا كَانَ صَادِرًا بِسَبَبِ تَرْفِيعِ جَنَابِ اللَّهِ تَعَالَى. أَلَا تَرَى إلَى وَصْفِ وَاصِفِهِ «وَكَانَ لَا يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ فَإِذَا رَأَى حُرْمَةً مِنْ حُرَمِ اللَّهِ تُنْتَهَكُ كَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ إلَيْهَا نُصْرَةً» وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا «وَرَدَ عَنْ نِسَائِهِ الطَّاهِرَاتِ فِي كَلَامِهِنَّ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي تَفْضِيلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِزِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ لَهَا وَسَأَلْنَهُ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُنَّ فِي الْمَحَبَّةِ فَأَجَابَهُنَّ بِأَنْ قَالَ: لَمْ يُوحَ إلَيَّ فِي فِرَاشِ إحْدَاكُنَّ إلَّا فِي فِرَاشِهَا» وَلِكَوْنِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَلَّمَ عَلَيْهَا وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ الطَّاهِرَاتِ لِمَا اُخْتُصَّتْ بِهِ وَلِكَوْنِهَا أَيْضًا أُخِذَ عَنْهَا شَطْرُ الدِّينِ، فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَنَاقِبِ وَمَا شَاكَلَهَا كَانَ إيثَارُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهَا عَلَى غَيْرِهَا. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا «مَحَبَّتُهُ فِي خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا غِرْتُ مِنْ أَحَدٍ مَا غِرْت مِنْ خَدِيجَةَ وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أُدْرِكْهَا قَدْ كَانَتْ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ تَأْتِيهِ فَيُكْرِمُهَا وَيَقُولُ: كَانَتْ تَأْتِينَا فِي أَيَّامِ خَدِيجَةَ» وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا مَيَّزَهَا اللَّهُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ تَفْضِيلَهُ لِعَائِشَةَ كَانَ لِلْمَعَانِي الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَخَدِيجَةُ لَهَا مَعَانٍ أُخَرُ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لِمَنْ طَالَعَ الْأَحَادِيثَ أَوْ سَمِعَهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَزِيَّةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَلَّمَ عَلَيْهَا عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَيْنَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِمَّنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا جِبْرِيلُ بَيْنَهُمَا مَا بَيْنَهُمَا وَإِنْ كُنَّ الْكُلُّ فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ الْكَامِلَةُ وَالْخَيْرُ الشَّامِلُ؛ لِأَنَّهُنَّ مَا اُخْتِرْنَ لِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ إلَّا لِاحْتِوَائِهِنَّ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ وَمَكْرُمَةٍ لَكِنَّ زِيَادَةَ الْخُصُوصِيَّةِ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ فَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَزِيدُ لِكُلِّ شَخْصٍ فِي الْمَحَبَّةِ بِحَسَبِ مَا كَانَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي صِفَةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ» أَيْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ

عَلَى مَا مَرَّ لَيْسَ لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ، وَلَا لِلْهَوَى فِيهِ مَطْمَعٌ، وَلَا لِلْعَادَةِ فِيهِ مَدْخَلٌ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةُ الْأَوْلِيَاءِ فَمَا بَالُك بِصِفَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَمَا بَالُك بِصِفَةِ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ قُطْبِ دَائِرَةِ الْكَمَالِ وَمَحَلِّ الْفَضَائِلِ الْعَلِيَّةِ الَّتِي يَعْجِزُ عَنْهَا كُلُّ الْبَشَرِ عَدَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَحَاصِلُهُ أَنَّ تَعْظِيمَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي تَقْبِيلِهَا حِينَ دُخُولِهَا عَلَيْهِ وَإِجْلَاسِهَا فِي مَجْلِسِهِ لِأَجْلِ مَا خَصَّهَا اللَّهُ بِهِ مِنْ الشِّيَمِ الْكَرِيمَةِ وَاللَّطَائِفِ الْجَمِيلَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خُصُوصِيَّةٌ تَمْتَازُ بِهَا إلَّا حُصُولُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صَحِيفَتِهَا فَأَيُّ صَحِيفَةٍ مِثْلُ هَذِهِ وَأَيُّ مَزِيَّةٍ أَكْبَرُ مِنْهَا وَاَللَّهِ مَا وُجِدَتْ قَطُّ، وَلَا تُوجَدُ أَبَدًا، فَسُبْحَانَ مَنْ مَنَّ عَلَيْهَا بِمَا مَنَّ وَتَكَرَّمَ بِمَا تَكَرَّمَ فَكَانَ قِيَامُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقِيَامُهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -؛ لِأَنَّ بُيُوتَهُمْ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ ضِيقِهَا، وَقَدْ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ وَقِلَّةِ الدُّنْيَا سِيَّمَا «فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الَّتِي أَثَّرَتْ الطَّاحُونُ فِي يَدِهَا فَشَكَتْ ذَلِكَ إلَى أَبِيهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالرِّفْدُ قَدْ أَتَاهُ فَحَمَلَهَا عَلَى حَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاخْتَارَ لَهَا مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ فَأَعْطَى النَّاسَ وَتَرَكَهَا لِقُوَّةِ نُورِ إيمَانِهَا، وَعَلَّمَهَا عِوَضًا عَنْ الْخَادِمِ الَّتِي طَلَبَتْ إذَا أَوَتْ إلَى فِرَاشِهَا أَنْ تُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ» . وَقَدْ كَانَتْ تَقْعُدُ الْأَيَّامَ لَا تَأْكُلُ شَيْئًا وَفِيهَا وَفِي بَعْلِهَا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] الْآيَةَ فِي قِصَّةٍ مِنْ الْمُجَاهِدَةِ يَطُولُ ذِكْرُهَا ، وَقَدْ ذَكَرَهَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ، وَمَنَاقِبُهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ يَطُول تَتَبُّعُهَا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَعَرِّضَةِ لِهَذَا الْفَنِّ. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِقْلَالَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ الدُّنْيَا كَانُوا يَمْتَنِعُونَ بِسَبَبِهِ مِنْ فِرَاشٍ زَائِدٍ عَلَى مَا يَضْطَرُّونَ إلَيْهِ أَوْ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى مَا يَقْعُدُونَ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِينَ «بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ

فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا» فَلَوْ كَانَ ثَمَّ وِسَادَةٌ غَيْرُهَا لَجَعَلُوهَا لَهُ دُونَ وِسَادَتِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا إلَّا وَطَاءٌ وَاحِدٌ، وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَلَيْهِ وَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُوهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقْعُدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ عَلَى حَائِلٍ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ أَصْلًا فَاحْتَاجَتْ إلَى الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِهَا حَتَّى يَقْعُدَ أَبُوهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْحَائِلِ، ثُمَّ تَقْعُدُ هِيَ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا عَلَى طَرَفِ الْحَائِلِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذَا دَخَلَتْ هِيَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَى أَبِيهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُفَضِّلُهَا وَيُعَظِّمُهَا بِتَفْضِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْعُدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى حَائِلٍ، وَهِيَ تَقْعُدُ مُبَاشِرَةً لِلْأَرْضِ فَيَقُومُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَتَّى يُجْلِسَهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ جَالِسًا لِأَجْلِ الْمَنْزِلَةِ الْعُظْمَى الَّتِي لَهَا عِنْدَ رَبِّهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُ وَقِيَامَهَا كَانَ لِمَا ذُكِرَ، وَهُوَ الْإِفْسَاحُ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِيثَارُ بِهِ مَعَ التَّقْبِيلِ الْمَذْكُورِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ مَعَانِي الْحَدِيثِ مَا يَأْتِي بَعْدَ هَذَا، وَهُوَ نَصْرٌ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَفِي هَذَا الْجَوَابِ وَإِيضَاحِهِ مَقْنَعٌ مَعَ الْإِنْصَافِ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِهِ فَلَوْ جِئْنَا بِقِرَابِ الْأَرْضِ أَجْوِبَةً وَاضِحَةً لَا يُمْكِنُ التَّسْلِيمُ، وَلَا الْقَبُولُ؛ لِأَنَّ الْإِنْصَافَ هُوَ رَأْسُ الْخَيْرِ وَزُبْدَتُهُ وَمَنْبَعُهُ، فَقَدْ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ وَاتَّضَحَ فَاسْلُكْ أَيَّ الطَّرِيقِينَ شِئْتَ وَاَللَّهُ يُرْشِدُنَا وَإِيَّاكَ لِطَرِيقِ الرَّشَادِ وَيُجَنِّبُنَا وَإِيَّاكَ طَرِيقَ الْجَحْدِ وَالْعِنَادِ. ثُمَّ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ عَمْرَو بْنَ السَّائِبِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فَأَقْبَلَ أَبُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ» انْتَهَى. اسْتَدَلَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ مَشْرُوعٌ وَمَنْدُوبٌ بِقِيَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَقَدْ نَطَقَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْحِكْمَةِ

فِي قَوْلِهِ: كُلُّ كَلَامٍ مَأْخُوذٌ مِنْهُ وَمَتْرُوكٌ إلَّا كَلَامُ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ إلَى هَذَا الْعَالِمِ كَيْفَ جَعَلَ الْقِيَامَ لِلْأَخِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُ وَنَقَلَ هَذَا الْحَدِيثَ وَيَقُولُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُمْ لِأَبِيهِ، وَلَا لِأُمِّهِ وَإِنَّمَا قَامَ لِأَخِيهِ وَالْقَضِيَّةُ وَاحِدَةٌ وَالْمَوْضِعُ وَاحِدٌ، وَقَدْ قَدَّمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ قَوْلَهُ الَّذِي يَخْتَارُ الْقِيَامَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِخْوَةَ، ثُمَّ أَتَى بِهَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَيْهِ لَا لَهُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ لِلْوَالِدَيْنِ وَأَنَّهُ الَّذِي اخْتَارَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْضَحُ دَلِيلٍ وَأَقْوَمُ طَرِيقٍ عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ الْقِيَامِ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْرِهِ بِذَلِكَ لِعُذْرٍ كَانَ هُنَاكَ مَوْجُودًا مِنْ غَيْرٍ قَصْدٍ لِلْقِيَامِ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَإِكْرَامِهِمَا وَقَرَنَ رِضَاهُمَا بِرِضَاهُ وَسَخَطَهُمَا بِسَخَطِهِ. وَقَدْ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» فَلَوْ كَانَ الْقِيَامُ لَهُمَا مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَمْ يَكُنْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِيَتْرُكَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ أَوْجَبَ بِرَّهُمَا مَعَ إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَقَعَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْقِيَامُ لِأَخِيهِ وَذَلِكَ كَافٍ فِي الْجَوَازِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ قِيَامَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَخِيهِ قَدْ تَبَيَّنَ، وَاتَّضَحَ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْقِيَامُ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ «لَمَّا أَقْبَلَ أَبُوهُ بَسَطَ لَهُ طَرَفَ رِدَائِهِ فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ بَسَطَ لَهَا طَرَفَ رِدَائِهِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلَ أَخُوهُ قَامَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَتَّى أَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ» فَدَلَّ أَنَّ قِيَامَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ أَوْ لَهُمَا مَعًا، إمَّا أَنْ يُوَسِّعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ يُوَسِّعَ لَهُ فِي الرِّدَاءِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ وَحَالِ رِدَائِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ رِدَاؤُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا نُقِلَ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ وَنِصْفًا وَنَحْوَهَا فَمِنْ أَيْنَ يَسْعَ عَلَى هَذَا أَرْبَعَةً فَضَاقَ

الرِّدَاءُ عَنْ أَرْبَعَةٍ، وَمِنْ أَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ وَمُعَاشَرَتِهِ الْجَمِيلَةِ لَمْ يَقْدِرْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَقْعُدَ هُوَ بِنَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ وَأَبَوَاهُ عَلَى الرِّدَاءِ وَأَخُوهُ عَلَى الْأَرْضِ مُبَاشِرًا لَهَا فَقَامَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَتَّى فَسَحَ لَهُ فِي الرِّدَاءِ حَتَّى وَسِعَهُمْ أَوْ حَتَّى وَسَّعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ لِئَلَّا يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُمْ أَلَا تَرَى «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَنْ دَخَلَ الْحَائِطَ وَكَانَ مَعَهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَخَذَ عُودًا مِنْ أَرَاكٍ وَقَسَمَهُ نِصْفَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا مُعْوَجًّا وَالْآخَرُ مُسْتَقِيمًا فَأَخَذَ الْمُعْوَجَّ وَأَعْطَى الْمُسْتَقِيمَ لِلْأَعْرَابِيِّ فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَنِي الْمُسْتَقِيمَ وَأَخَذْتَ الْمُعْوَجَّ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنَّ اللَّهَ يَسْأَلُ عَنْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ إذَا سَأَلَنِي أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ فَضَّلْتُكَ فِيهَا عَلَى نَفْسِي» فَإِذَا كَانَ هَذَا دَأْبَهُ وَخُلُقَهُ وَمُعَامَلَتَهُ مَعَ رَجُلٍ لَمْ يُشَارِكْهُ إلَّا فِي دُخُولِ حَائِطٍ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ مَعَ مَنْ شَارَكَهُ فِي الرَّضَاعِ وَالْحِجْرِ وَالتَّرْبِيَةِ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ وَأَبٍ وَاحِدٍ أَعْنِي: الْجَمِيعُ مِنْ الرَّضَاعِ فَكَيْفَ يَكُونُ بِرُّهُ بِهِ وَإِكْرَامُهُ لَهُ فَلَمْ يُمْكِنُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا شَابَهَهَا أَنْ يَقْعُدَ عَلَى حَائِلٍ عَنْ الْأَرْضِ وَأَخُوهُ دُونَ حَائِلٍ. وَأَمَّا إكْرَامُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُ بِالْقِيَامِ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إكْرَامَ الْوَالِدَيْنِ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَحْرَى وَالْأَوْلَى، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَتَرَكَهُ لَكَانَ قَدْ تَرَكَ لِوَالِدَيْهِ شَيْئًا مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَمْ يَفْعَلْهُ مَعَهُمَا، وَهَذَا لَا يَخْطُرُ لِمَنْ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنْ الْإِيمَانِ، وَلَوْ عَلِمَ هَذَا الْقَائِلُ مَا فِي هَذَا الَّذِي قَرَّرَ مِنْ الْخَطَرِ مَا قَالَهُ، وَلَا تَكَلَّمَ بِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ. ثُمَّ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: «إنَّ أُمَّ حَكِيمِ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنَ هِشَامٍ كَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهَرَبَ زَوْجُهَا مِنْ الْإِسْلَامِ حَتَّى قَدِمَ الْيَمَنَ فَارْتَحَلَتْ أُمُّ حَكِيمٍ حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ الْيَمَنَ فَدَعَتْهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَبَ إلَيْهِ فَرِحًا وَمَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ حَتَّى بَايَعَهُ» انْتَهَى. اسْتَدَلَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى النَّدْبِ إلَى الْقِيَامِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهَذَا لَا يُنَازَعُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَامٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَدَمُ قِيَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَبَوَيْهِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِيَامُ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَفَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَبَوَيْهِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَا يَرِدُ مِنْ الْقِيَامِ فَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ الْبِرِّ وَالِاحْتِرَامِ لِمَا ذُكِرَ. وَقَدْ أَجَازَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْقِيَامَ لِلْغَائِبِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الْوَارِدِ أَنَّكَ تَأْتِي إلَيْهِ فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْكَ فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ أَنَّك تَقُومُ مَاشِيًا إلَيْهِ عِوَضًا عَمَّا فَاتَكَ مِنْ الْمَشْيِ إلَى بَيْتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ نَصَّ الْحَدِيثُ أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ بَابِهِ. وَكَذَلِكَ «قَامَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ فَقَبَّلَهُ وَعَانَقَهُ وَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَدْرَى بِأَيِّهِمَا أُسَرُّ أَكْثَرَ هَلْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ أَوْ بِفَتْحِ خَيْبَرَ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَقَدْ حَمَلَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى الْقِيَامِ لِلْغَائِبِ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. ثُمَّ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُنَا فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ» انْتَهَى. فَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ لِمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ ضَرُورَةً لِأَحَدِ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ لِسَيِّدِ الْعُلَمَاءِ وَقُدْوَتِهِمْ أَجْمَعِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قَعَدَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ حَلْقَةً كُلُّ إنْسَانٍ يَتْرُكُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ صَلَاةِ نَافِلَةٍ وَبَحْثٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَجُلُوسٍ فِي مُصَلَّاهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ يَسْمَعُ إذْ ذَاكَ وَيَسْتَفِيدُ مِنْ الْعَالِمِ، فَإِذَا فَرَغَ الْعَالِمُ وَانْصَرَفَ انْصَرَفَ النَّاسُ بِانْصِرَافِهِ إلَى مَا كَانُوا بِصَدَدِهِ أَوْ إلَى قَضَاءِ بَعْضِ ضَرُورَاتِهِمْ أَوْ إلَى مُصَلَّاهُمْ أَوْ إلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورَاتِ الْمُحْوِجَةِ إلَى الْحَرَكَةِ وَالْقِيَامِ، وَبُيُوتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ

إذْ ذَاكَ مَفْتُوحَةٌ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ إذْ ذَاكَ فِي الصِّغَرِ بِحَيْثُ قَدْ عُلِمَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إسْرَاعِهِ فِي الْمَشْيِ بِحَيْثُ قَدْ عُلِمَ فَلَا يُمْكِنُهُمْ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَسْتَوُوا قِيَامًا إلَّا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَخْرَجَ عَنْ بِشْرِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَجُلٍ غَيْرِهِ أَنَّهُ «قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَافِحُكُمْ إذَا لَقِيتُمُوهُ؟ قَالَ: مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إلَّا صَافَحَنِي، وَبَعَثَ إلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي فَلَمَّا جِئْتُ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيَّ فَأَتَيْته، وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ فَالْتَزَمَنِي وَكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ» انْتَهَى. فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ أَيُّ شَيْءٍ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمُصَافَحَةِ وَالِالْتِزَامِ وَبَيْنَ الْقِيَامِ بَلْ فِيهِ التَّعَرُّضُ لِتَرْكِ الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْبَيْتِ عَلَى السَّرِيرِ وَالْتَزَمَهُ إذْ ذَاكَ وَلَمْ يَقُمْ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ، وَلَوْ كَانَ مَنْدُوبًا إذْ ذَاكَ لَفَعَلَهُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَرْمَيَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ» انْتَهَى. اُنْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ إلَى هَذَا الدَّلِيلِ مَا أَعْجَبَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِيَفْتَحَ لَهُ الْبَابَ فَفَتَحَهُ لَهُ وَاعْتَنَقَهُ فَأَخَذَ هُوَ مِنْهُ الدَّلِيلَ لِلْقِيَامِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَقَامَ إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْقِيَامِ إلَى فَتْحِ الْبَابِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّهُ غَائِبٌ قَدْ قَدِمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُجِيزُونَ ذَلِكَ لِلْقَادِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي التَّقْسِيمِ. ثُمَّ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَيُّوبَ فَجَاءَ يُونُسُ فَقَالَ حَمَّادٌ قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ أَوْ قَالَ لِسَيِّدِنَا، وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَتَاهُ أَبُو إبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيُّ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ لَمَّا رَآهُ

أَحْمَدُ وَثَبَ إلَيْهِ قَائِمًا وَأَكْرَمَهُ فَلَمَّا مَضَى قَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: يَا أَبَتِ أَبُو إبْرَاهِيمَ شَابٌّ عَمِلَ بِهِ هَذَا الْعَمَلَ وَتَقُومُ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ لَا تُعَارِضْنِي فِي مِثْلِ هَذَا أَلَا أَقُومُ لِابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَعَنْ أَبِي هَاشِمٍ قَالَ: قَامَ وَكِيعٌ لِسُفْيَانَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ قِيَامَهُ فَقَالَ أَتُنْكِرُ عَلَيَّ قِيَامِي وَأَنْتَ حَدَّثْتَنِي عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى إجْلَالَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ» وَأَخَذَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ إلَى جَانِبِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ: كُنْت عِنْدَ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ يَعْنِي الْحَافِي الزَّاهِدَ فَجَاءَ رَجُلٌ يُسَلِّمُ عَلَى بِشْرٍ فَقَامَ إلَيْهِ بِشْرٌ فَقُمْتُ لِقِيَامِهِ فَمَنَعَنِي مِنْ الْقِيَامِ، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ قَالَ لِي بِشْرٌ يَا بُنَيَّ تَدْرِي لِمَ مَنَعْتُكَ مِنْ الْقِيَامِ لَهُ؟ قُلْتُ: لَا قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ، وَكَانَ قِيَامُكَ لِقِيَامِي فَأَرَدْتُ أَنْ لَا تَكُونَ لَكَ حَرَكَةٌ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي كِتَابِ آدَابِ الصُّحْبَةِ قَالَ: وَيَقُومُ لِإِخْوَانِهِ إذَا أَبْصَرَهُمْ مُقْبِلِينَ، وَلَا يَقْعُدُ إلَّا بِقُعُودِهِمْ وَأَنْشَدُوا فَلَمَّا بَصُرْنَا بِهِ مُقْبِلًا ... حَلَلْنَا الْحَبَا وَابْتَدَرْنَا الْقِيَامَ فَلَا تُنْكِرُنَّ قِيَامِي لَهُ ... فَإِنَّ الْكَرِيمَ يُجِلُّ الْكِرَامَ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْجُلَّةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْقِيَامِ الْجَائِزِ الْمَنْدُوبِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا تَقَدَّمَ لَا عَلَى قَصْدِ قِيَامٍ لَيْسَ إلَّا، وَهَذَا بَيِّنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعَ أَنَّ هَذَا الْعَالِمَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآثَارِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِ أَنْكَرُوا عَلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَخْذِهِ بِعَمَلِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّهُمْ الْجَمُّ الْغَفِيرُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَعِنْدَهُمْ اسْتَقَرَّ أَمْرُ الشَّرِيعَةِ وَبَانَ مَا اُسْتُنْسِخَ وَمَا بَقِيَ وَقَلَّ أَنْ تَذْهَبَ عَنْهُمْ السُّنَنُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ الْقَرِيبِ، وَمَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ كُلِّهَا وَأَكْثَرَ مِنْهَا أَكْثَرُوا النَّكِيرَ عَلَيْهِ وَشَدَّدُوا، ثُمَّ

يَأْتِي هَذَا الْعَالِمُ بَعْدَ إنْكَارِهِ عَلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا ذَكَرَ يَشْرَعُ النَّدْبَ فِي الْقِيَامِ بِفِعْلِ آحَادِ النَّاسِ فِي أَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَعَلَّهَا لِأَعْذَارٍ وَقَعَتْ لَهُمْ إذْ ذَاكَ كَامِنَةٍ عِنْدَهُمْ بَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ مَوْجُودَةٌ كَمَا أَبْدَيْنَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْهَضُ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ: الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ. الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ نَاسِخٍ، وَلَا مُعَارِضٍ. الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ إجْمَاعُ أَكْثَرِهِمْ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَبْنِيٌّ عَلَى آيَةٍ مُحْكَمَةٍ أَوْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ نَاسِخٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْهَضُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَّصِلِ، بَلْ وَقَعَ لِلْآحَادِ مِنْ النَّاسِ فِي أَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَا يَنْهَضُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَّصِلِ فَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ هَذَا الْقَائِلُ لِجَوَازِ ذَلِكَ بِعَمَلِ آحَادٍ مِنْ النَّاسِ فِي أَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا وَقَعَ النَّكِيرُ عَلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كَوْنِهِ يَتَشَرَّعُ بِعَمَلِهِمْ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَشْرِيعٍ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَشْرِيعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي بَابِ الْمَنْدُوبِ، وَبَابُ الْمَنْدُوبِ مَشْرُوعٌ، وَلَوْ جَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ لَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا مُسْتَقِيمًا أَوْ سَلِمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ. ثُمَّ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي سَعِيدٍ الْقَفَّاصِ قَالَ: النُّبَلَاءُ مِنْ الرِّجَالِ وَالْعُلَمَاءِ يَكْرَهُونَ قِيَامَ الرَّجُلِ لَهُمْ لِكَرَاهَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مُبَاحٌ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَقُومَ لِلنَّاسِ انْتَهَى، وَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْقِيَامَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِكَرَاهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مُبَاحٌ

لِبَعْضِ النَّاسِ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقِيَامِ الْمَنْدُوبِ أَوْ الْجَائِزِ مَا تَقَرَّرَ فَافْهَمْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاكَ. ثُمَّ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا مَا تَيَسَّرَ نَاجِزًا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ مِنْ التَّرْخِيصِ فِي الْقِيَامِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَبِأَمْرِهِ بِذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ وَبِتَقْرِيرِهِ حِينَ فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ وَمِنْ فِعْلِ جَمَاعَاتٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي مَوَاطِنَ وَجِهَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَمِنْ جِهَةِ أَئِمَّةِ النَّاسِ فِي أَعْصَارِهِمْ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالزُّهْدِ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ حِينَ أُتِيَ بِهِ وَمَا الْمُرَادُ بِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ لِلْجَوَازِ بَلْ لِلْمَنْعِ أَقْرَبُ كَمَا قَرَّرْنَاهُ. وَقَدْ عَمِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْجُزْءَ الَّذِي عَمِلَهُ فِي إبَاحَةِ الْقِيَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ التَّرْخِيصِ فِي الْقِيَامِ. الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْقِيَامِ وَالْجَوَابِ عَنْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مُسْتَوْفًى وَبَقِيَ الْفَصْلَانِ اللَّذَانِ بَعْدَهُ. فَقَالَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُسْلِمٌ لَا يُنَازَعُ فِيهِ إلَّا أَنَّ تَعْظِيمَ الْحُرُمَاتِ وَالشَّعَائِرِ قَدْ عُرِفَتْ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ لِلْقِيَامِ فِيهَا مَجَالٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. ثُمَّ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى إكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا» مُسْلِمٌ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» التِّرْمِذِيُّ. (عَنْ

مَيْمُونِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً وَمَرَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ فَأَقْعَدَتْهُ فَأَكَلَ فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» انْتَهَى. حَاصِلُهُ أَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَقَرَّرَ عِنْدَهُ، وَفِي نَفْسِهِ أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ عَلَى مَا قُرِّرَ قَبْلُ فَأَخَذَ يَسْتَدِلُّ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَمْ يَكُنْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِيَتْرُكَ بِرَّ وَالِدِيهِ وَإِكْرَامَهُمَا بِالْقِيَامِ. وَانْظُرْ هَلْ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَتَى بِهَا فِي تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ أَنَّ أَحَدًا قَامَ لِأَحَدٍ بَلْ نَزَّلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ فِي إجْلَاسِهِمْ وَفِي إطْعَامِهِمْ زَائِدًا عَلَى غَيْرِهِمْ فَنَمْتَثِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا وَرَدَ عَنْهُمْ فَلَوْ وَرَدَ عَنْهُمْ الْقِيَامُ لِأَشْرَافِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ لَاقْتَفَيْنَاهُ وَقَبِلْنَاهُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ الْقُدْوَةُ وَنَحْنُ الْأَتْبَاعُ وَمَا يُخَالِفُهُمْ إلَّا جَاحِدٌ أَوْ مُعَانِدٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُوَسَّعُ الْمَجَالِسُ إلَّا لِثَلَاثٍ لِذِي عِلْمٍ وَلِذِي سِنٍّ وَلِذِي سُلْطَانٍ» انْتَهَى. فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا كَيْفَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تُوَسَّعُ الْمَجَالِسُ إلَّا لِثَلَاثٍ» وَلَمْ يَقُلْ لَا يُقَامُ إلَّا لِثَلَاثٍ فَيُحْمَلُ إكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَإِجْلَالُهُ وَبِرُّهُ عَلَى مَا ذُكِرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا عَلَى مَا يَخْطُرُ لَنَا مِنْ عَوَائِدِنَا الَّتِي اصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا، فَهَلْ يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ مَضَى فِي تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ مَا نَفْعَلُهُ نَحْنُ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْقِيَامِ، وَاحِدٌ نَقُومُ إلَيْهِ وَنَمْشِي إلَيْهِ خُطُوَاتٍ، وَآخَرُ نَقُومُ إلَيْهِ لَيْسَ إلَّا، وَآخَرُ نَقُومُ إلَيْهِ نِصْفَ قَوْمَةٍ، وَآخَرُ رُبْعَ قَوْمَةٍ، وَآخَرُ التَّحَرُّكَ مِنْ الْأَرْضِ، وَآخَرُ لَا نَتَحَرَّكُ لَهُ إلَّا بِالْبَشَاشَةِ، وَآخَرُ لَا بَشَاشَةَ وَلَا غَيْرَهَا، وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اعْتِزَائِهِ إلَى صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ أَصْلًا بَلْ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ لِأَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ بَلْ لِأَحَدٍ مِنْ تَابِعِ التَّابِعِينَ، وَشَيْءٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذِهِ الْقُرُونِ فَإِطْرَاحُهُ يَتَعَيَّنُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَغَوِيّ (قَدْ «كَانَ

الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَائِمًا عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَالْمِغْفَرُ» وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحِ انْتَهَى. اُنْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ وَإِيَّانَا لِهَذَا الْعَجَبِ كَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِأَنَّ الْقِيَامَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ كَانَ خَادِمَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُخَاطِبُ قَبَائِلَ الْعَرَبِ وَيَذُبُّ عَنْهُ مَنْ أَرَادَ أَذِيَّتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْمُتَمَرِّدِينَ مِنْهُمْ، وَهَذَا لَا يُنْكَرُ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْقِيَامِ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ بَلْ هُوَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُغِيرَةِ أَنْ يَقْعُدَ إذْ ذَاكَ وَيَتْرُكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْعَدُوِّ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ فَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ أَحَدٌ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الْوَاجِبِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ لِلدَّاخِلِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، فَلَوْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ لَكَانَ أَقْرَبَ إذْ أَنَّ قِيَامَ الْمُغِيرَةِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا بَانَ أَنَّ الْقِيَامَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ مَضَتْ أَرْبَعَةٌ وَبَقِيَ الْخَامِسُ الَّذِي هُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ مِثْلُ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ. هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى الْفَصْلِ الثَّانِي الَّذِي قَرَّرَهُ، وَهُوَ تَنْزِيلُ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ. وَبَقِيَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ الْقِيَامِ وَمَا أَجَابَ عَنْهُ. فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التِّرْمِذِيُّ: (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَتَرْجَمَ التِّرْمِذِيُّ لِهَذَا بَابُ كَرَاهَةِ قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ. أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ (خَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ صَفْوَانَ حِينَ رَأَيَاهُ فَقَالَ: اجْلِسَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلَيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَتَرْجَمَ لَهُ بَابُ كَرَاهَةِ الْقِيَامِ لِلنَّاسِ. أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَا فَقُمْنَا إلَيْهِ فَقَالَ: لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقُومُ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ» فَهَذَا مَا بَلَغَنَا فِي النَّهْيِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَافَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ الْفِتْنَةَ بِإِفْرَاطِهِمْ فِي تَعْظِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ» فَكَرِهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيَامَهُمْ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَمْ يَكْرَهْ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بَلْ قَامَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَامُوا لِغَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ بَلْ أَقَرَّهُ وَأَمَرَ بِهِ فِي حَدِيثِ الْقِيَامِ لِسَعْدٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ بَيَانَ هَذَا كُلِّهِ، وَهَذَا جَوَابٌ وَاضِحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْوُدِّ وَالصَّفَاءِ مَا لَا يَحْتَمِلُ زِيَادَةً بِالْإِكْرَامِ بِالْقِيَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقِيَامِ مَقْصُودٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَإِنْ فُرِضَ صَاحِبُ الْإِنْسَانِ قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِيَامِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَقَدْ أُولِعَ أَكْثَرُ النَّاسِ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالْجَوَابِ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ الْأَصَحُّ وَالْأَوْلَى وَالْأَحْسَنُ بَلْ الَّذِي لَا حَاجَةَ إلَى مَا سِوَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ. وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ الصَّرِيحَ الظَّاهِرَ مِنْهُ الزَّجْرُ الْأَكْبَرُ وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْقِيَامِ بِنَهْيٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْآتِي أَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ مَحَبَّةُ الْقِيَامِ. وَلَا يُشْتَرَطُ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ وَخُطُورُ ذَلِكَ بِبَالِهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَخْطُرُ ذَلِكَ بِبَالِهِ وَقَامُوا إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقُومُوا فَلَا ذَمَّ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَحَبَّ فَقَدْ ارْتَكَبَ التَّحْرِيمَ سَوَاءٌ قِيمَ لَهُ أَوْ لَمْ يُقَمْ، فَمَدَارُ التَّحْرِيمِ عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِقِيَامِ الْقَائِمِ، وَلَا نَهْيِهِ فِي حَقِّهِ بِحَالٍ، وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنْ قَالَ: مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ بِأَنَّ قِيَامَ الْقَائِمِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ

هَذَا فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قُلْنَا هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ لَا يَسْتَحِقُّ سَائِلُهُ جَوَابًا. فَإِنْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ قِيلَ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْوُقُوعَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحَبَّةِ فَحَسْبُ انْتَهَى. فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ كَيْفَ قَرَّرَ أَحَادِيثَ النَّهْيِ وَصَحَّحَهَا، ثُمَّ أَجَابَ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ وَفِيهِ مَا فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَّرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَقُومُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَقَامُوا بِحَضْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكْرَهْ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ قَالَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى مَا ظَهَرُوا لَهُ وَاسْتَقَرَّ فِي ذِهْنِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَلَمْ يَكُنْ لِضَرُورَةٍ أَدَّتْ إلَيْهِ كَمَا قَدْ أَبْدَيْنَاهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَقُمْنَا لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَيُّ إطْرَاءٍ فِي ذَلِكَ إنْ جَعَلْنَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَوَاحِدٍ مِنَّا لَمْ نَزِدْ لَهُ شَيْئًا فِي الْإِكْرَامِ فَلَوْ عُكِسَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَمْرُ فَقَالَ: لَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يَقُومُونَ، وَلَا قَامَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَحَدٍ، ثُمَّ قَامُوا لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَنَهَاهُمْ لَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا مُسْتَقِيمًا إذْ أَنَّا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لَخَالَفْنَا الْعَادَةَ الَّتِي يُعَامِلُ بَعْضُنَا بَعْضًا بِهَا وَزِدْنَا لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْخَوْفُ مِنْ الْإِطْرَاءِ، وَأَمَّا إذَا عَامَلْنَاهُ مُعَامَلَةَ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ وَمُعَامَلَتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَنَا فَهَذَا لَا يُقَالُ أَنَّ فِيهِ إطْرَاءً إذْ أَنَّا نَزَّلْنَاهُ مَنْزِلَةَ وَاحِدٍ مِنَّا فِي مُعَامَلَةِ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ وَمُعَامَلَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَنَا، وَلَوْ سَلَّمْنَا لِهَذَا السَّيِّدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرَهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَوَقَعَنَا فِي مُخَالَفَةِ نَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَوْقِيرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] فَإِذَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَكُنَّا نَفْعَلُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ بَعْضُنَا مَعَ بَعْضٍ، وَلَا نَفْعَلُهُ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَنَكُونُ قَدْ ارْتَكَبْنَا النَّهْيَ مُصَادَمَةً إذْ أَنَّا تَرَكْنَا تَوْقِيرَهُ فِي ذَلِكَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنْ نَظُنَّ بِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَكَيْفَ يَتَّفِقُ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِهِ بَلْ فِي هَذَا الْقَوْلِ خَطَرٌ عَظِيمٌ لَوْ تَأَمَّلَهُ هَذَا الْقَائِلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ أَلَا تَرَى إلَى «جَوَابِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -

لَمَّا أَنْ سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ مَحْسُوسًا ظَاهِرًا بَيِّنًا فِي عَوَائِدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمُعَامَلَتِهِ الْجَمِيلَةِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِالْأَمْرِ بِتَوْقِيرِهِ فَكَيْفَ يَنْهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ شَيْءٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ هَذَا أَمْرٌ لَا يُتَعَقَّلُ وَإِنَّمَا هِيَ عَادَةٌ اسْتَمَرَّتْ فَوَقَعَ الِاسْتِئْنَاسُ بِهَا لِمُرُورِهَا، وَالْإِنْسَانُ لَا يَخْلُو مِنْ الْغَفْلَةِ فَوَقَعَ مَا وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ لِلسُّنَّةِ فَبَعِيدَةٌ عَنْ مَنْصِبِ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ بِالْأَخْيَارِ مِنْهُمْ، وَقَدْ وَرَدَ «مَنْ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، فَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَاَللَّهُ يَعْفُو عَنْ الْجَمِيعِ، إذْ لَوْلَا الْعَفْوُ مَا اسْتَحَقَّ أَحَدٌ النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ إلَّا مَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّنْ قَدْ عَلِمَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ يَكُونُ نَهْيُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْقِيَامِ إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَوَاضِعَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْء، وَأَمَّا بَعْدَ الْإِنْزَالِ فَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ أَمْرٌ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّوْقِيرِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهَذَا بَابٌ ضَيِّقٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْغَلَطِ وَالْغَفَلَاتِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُفَضِّلُوا الْأَنْبِيَاءَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ» وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ» وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «آدَم فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» فَهَذِهِ أَحَادِيثُ مُتَعَارِضَةٌ كَمَا تَرَى وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا هُوَ أَنَّ حَدِيثَ الْمُسَاوَاةِ وَعَدَمِ التَّفْضِيلِ كَانَ قَبْلَ الْإِنْزَالِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَالْإِخْبَارِ لَهُ بِالْأَمْرِ، وَأَحَادِيثُ التَّفْضِيلِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ لَهُ بِذَلِكَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أَعْنِي بِالتَّفْضِيلِ مِنْ غَيْرِ تَنْقِيصٍ يَلْحَقُ الْمَفْضُولَ كَمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ بَلْ مَسْأَلَتُنَا آكَدُ وَأَوْلَى. لِأَنَّ فِيهَا الْقُرْآنَ يُتْلَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] ، وَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، ثُمَّ مَنَعَهُ وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ مُتَنَاقِضٌ. وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ

عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْهِجْرَةِ يَغْشَانَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً فَجَاءَ يَوْمًا فِي وَسَطِ الْقَائِلَةِ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدٌ عَلَى السُّرَرِ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إلَّا أَمْرٌ حَدَثَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي قَاعِدٌ عَلَى السَّرِيرِ فَوَسَّعَ لَهُ فِي السَّرِيرِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَقَالَ الصُّحْبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصُّحْبَةُ» فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ كَيْفَ دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَسَّعَ لَهُ وَلَمْ يَقُمْ وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ بِرًّا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا وَتَعْظِيمًا وَتَرْفِيعًا وَتَوْقِيرًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا جَوَابٌ وَاضِحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ انْتَهَى فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى هَذَا اللَّفْظِ مِنْ هَذَا السَّيِّدِ مَا أَعْجَبَهُ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ مَا هَذَا لَفْظُهُ: قِيلَ لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالرَّجُلُ يَقُومُ لِلرَّجُلِ لَهُ الْفِقْهُ وَالْفَضْلُ فَيُجْلِسُهُ فِي مَجْلِسِهِ قَالَ يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُوَسِّعَ لَهُ قِيلَ لَهُ: فَالْمَرْأَةُ تُبَالِغُ فِي بِرِّ زَوْجِهَا فَتَلْقَاهُ فَتَنْزِعُ ثِيَابَهُ وَنَعْلَيْهِ وَتَقِفُ حَتَّى يَجْلِسَ قَالَ: أَمَّا تَلَقِّيهَا وَنَزْعُهَا ثِيَابَهُ وَنَعْلَيْهِ فَلَا بَأْسَ، وَأَمَّا قِيَامُهَا حَتَّى يَجْلِسَ فَلَا، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ رُبَّمَا يَكُونُ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ، فَإِذَا طَلَعَ قَامُوا إلَيْهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَيُقَالُ: إنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ أَوَّلَ مَا وَلِيَ حِينَ خَرَجَ إلَى النَّاسِ فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: إنْ تَقُومُوا نَقُمْ وَإِنْ تَقْعُدُوا نَقْعُدْ وَإِنَّمَا يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا لَفْظُ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَيْفَ يَقُولُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا جَوَابٌ وَاضِحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ وَعَدَالَةُ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَقَدُّمُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَشْهُورَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَوَابِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَالْوَاجِبُ الْعُدُولُ عَنْهُ لِمَا وَرَدَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا صِفَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِشِدَّةِ تَوْقِيرِهِمْ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهَيْبَتِهِمْ لَهُ

حَتَّى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَتَأَمَّلُوهُ، وَلَا يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَمِنْ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْهُ قَطُّ حَيَاءً مِنْهُ وَتَعْظِيمًا لَهُ، وَلَوْ قِيلَ لِي صِفْهُ لَمَا كِدْت) انْتَهَى. هَذَا قَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ مِنْ جُلَّةِ أَصْحَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُبَاسِطُهُمْ وَيَتَوَاضَعُ لَهُمْ وَيُؤَانِسُهُمْ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ، وَلَا أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوضِحُهُ مَا «وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي حَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ رُكُوعِهِ الْفَجْرَ قَالَتْ: إنْ كُنْت مُسْتَيْقِظَةً قَالَ حَدِّثِينِي يَا حُمَيْرَاءُ، وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الصَّلَاةِ» . وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَوْ خَرَجَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَمَا تَحَصَّلَ لَهُ مِنْ الْخَلْعِ وَالْقُرْبِ وَالتَّدَانِي فِي مُنَاجَاتِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِ وَتِلَاوَتِهِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يَكِلُّ اللِّسَانُ أَنْ يَصِفَ بَعْضَهَا لَمَا اسْتَطَاعَ بَشَرٌ أَنْ يَتَلَقَّاهُ. وَلَا يُبَاشِرُهُ، وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ فَيَتَحَدَّثُ مَعَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوْ يَضْطَجِعُ بِالْأَرْضِ حَتَّى يَحْصُلُ التَّأْنِيسُ بِجِنْسِهِمْ، وَهُوَ حَدِيثُهُ مَعَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوْ جِنْسُ أَصْلِ الْخِلْقَةِ الَّتِي هِيَ الْأَرْضُ، فَإِذَا تَحَصَّلَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ مَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَيْهِمْ، وَأَمَّا قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ مُقَابَلَةَ تِلْكَ الْأَنْوَارِ الْجَلِيلَةِ، وَلَا سَمَاعَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْعَذْبَةِ الْمَعْدُومَةِ فِي غَيْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَيَفْعَلُ ذَلِكَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رِفْقًا بِهِمْ وَلِكَيْ يَتَوَصَّلَ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ عَنْ اللَّهِ أَحْكَامَهُ {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] فَهَذَا التَّوْقِيرُ وَالْمَهَابَةُ حَاصِلٌ فِيهِمْ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ مِنْهُمْ كَثِيرًا بَلْ ذَلِكَ فِي أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ أَعْظَمُ مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهُ وَأَكْثَرُ. أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ

وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ هَابَا الْكَلَامَ مَعَ قُرْبِهِمَا وَذُو الْيَدَيْنِ تَكَلَّمَ فَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَأَكَّدَ أَمْرُهُ مَعَهُ كَانَ أَكْثَرَ هَيْبَةً لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَكْثَرَ تَوْقِيرًا وَأَعْظَمَ احْتِرَامًا وَأَكْبَرَ إجْلَالًا، وَإِذَا قُلْنَا أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَيَكُونُونَ قَدْ تَرَكُوهُ لِأَجْلِ قُرْبِهِمْ مِنْهُ فَتُعْطِي هَذِهِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ كَانَ أَقَلَّ تَوْقِيرًا لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَجْلِ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْمَوَدَّةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوْقِيرِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ يَكُونَ الصَّالِحُونَ وَالْأَوْلِيَاءُ أَقَلَّ تَوْقِيرًا مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَجْلِ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْمَوَدَّةِ، وَهَذَا عَكْسُ مَا ظَهَرَ فِي الْوُجُودِ وَمَا اسْتَقَرَّ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ وَنَقْلِ الْأُمَّةِ عَنْ الْأُمَّةِ فَيَأْتِي عَلَى هَذَا الْجَوَابِ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَلْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَجَدْنَا اسْتِعْمَالَ الْأَدَبِ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْبَعِيدِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي دُخُولِهِ عَلَى مَالِكٍ وَقِصَّتِهِ مَعَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ كَانُوا كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ لِشِدَّةِ هَيْبَتِهِمْ لَهُ وَتَوْقِيرِهِمْ لِجَنَابِهِ وَتَعْظِيمِهِمْ لِحُرْمَتِهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لِأَجْلِ بُعْدِهِ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا كَانَ لَهُمْ، فَلَوْ عُكِسَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَمْرُ. وَقَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ الصَّاحِبُ تَأَكَّدَتْ صُحْبَتُهُ، وَلَا لَزِمَ أَمْرُهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِيَامِ لَكَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ الْقَبُولِ مِنْهُ لِأَجْلِ أَنَّ مَنْ قَرُبَ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ازْدَادَ قُرْبًا إلَى اللَّهِ، وَمَنْ ازْدَادَ قُرْبًا إلَى اللَّهِ ازْدَادَ إلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوْقِيرًا وَتَعْزِيرًا وَتَبْجِيلًا وَهَيْبَةً وَإِعْظَامًا وَإِجْلَالًا، وَهَذَا مَوْجُودٌ مَحْسُوسٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ أَمْرٌ نَافِذٌ وَيَرْجِعُ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُنَفِّذُ تَجِدُ أَخْوَفَ النَّاسِ مِنْهُ وَأَهْيَبَهُمْ لَهُ وَأَوْقَرَهُمْ لِدِينِهِ مَنْ كَانَ أَقْرَبَهُمْ إلَيْهِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ مُطَالَبُونَ بِآدَابٍ لَا يُطَالَبُ

بِهَا غَيْرُهُمْ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ لِزِيَادَةِ خُصُوصِيَّتِهِمْ وَمَزِيَّتِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِذَا تَرَكُوا مِنْهَا شَيْئًا عُوقِبُوا عَلَى تَرْكِهَا وَيَتْرُكُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، وَلَا يُبَالُونَ فَلَا يُعَاقَبُونَ وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْقَرِيبَ الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ أَقْوَى، وَالْآدَابُ تُطْلَبُ مِنْهُ أَكْثَرَ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مَدَّ رِجْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِيَسْتَرِيحَ، ثُمَّ ضَمَّهَا مِنْ سَاعَتِهِ وَجَعَلَ يَسْتَغْفِرُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: أَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا مُبَاحًا فَقَالَ: أَمَّا لَكُمْ فَنَعَمْ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاوَرَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ مُدَّةً لَمْ يَبُلْ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ وَلَمْ يَسْتَنِدْ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلْهَيْبَةِ الْقَائِمَةِ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ لِأَجْلِ قُرْبِهِ، وَكَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَنْظُرْ إلَى السَّمَاءِ لِأَجْلِ الْهَيْبَةِ وَالْإِعْظَامِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ وَحِكَايَتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُكْتَبَ أَوْ تُحْصَرَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَوَابِهِ عَنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ إلَى آخَرِ كَلَامِهِ وَعِبَارَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرُدُّ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأُصُولُ وَاسْتَقَرَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ» ، وَهُوَ قَدْ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» انْتَهَى. فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْك أَخُوك الْمُؤْمِنُ فَقُمْت إلَيْهِ وَسُرَّ بِذَلِكَ فَقَدْ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ قِيَامِك أَنْتَ وَحَرَكَتِك لَهُ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي جَوَابِهِ بِقَوْلِهِ: مَدَارُ التَّحْرِيمِ عَلَى الْمَحَبَّةِ فَحَسْبُ سَوَاءٌ قِيمَ لَهُ أَوْ لَمْ يَقُمْ قَدْ ارْتَكَبَ التَّحْرِيمَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ إنَّمَا صَدَرَتْ مِنْهُ لِمُشَاهَدَتِهِ لِلْقِيَامِ فَلَوْ كَانَ لَا يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ لَمْ تَتَشَوَّفْ نَفْسُهُ إلَيْهِ وَلَمْ تُحِبُّهُ وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ قَاعِدَتُهُ فِي تَصَرُّفِهِ كُلِّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَعَ نَفْسِهِ وَمَعَ غَيْرِهِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى نَفْسِهِ لِسَانُ الْعِلْمِ وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَيْئَانِ هُمَا خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنْ عَمِلْت بِهِمَا أَتَكَفَّلُ لَك بِالْجَنَّةِ، وَلَا أَطْوَلُ عَلَيْك قِيلَ وَمَا هُمَا

قَالَ تَعْمَلُ مَا تَكْرَهُ إذَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَتَتْرُكُ مَا تُحِبُّ إذَا كَرِهَهُ اللَّهُ أَوْ قَالَ: فَلَيْسَ الْإِنْسَانُ مُكَلَّفًا بِأَنْ لَا يَقَعَ لَهُ مَحَبَّةُ الشَّيْءِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِأَنْ لَا يَرْضَى بِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَفْسُهُ تُحِبُّهُ فَيَكْرَهُهُ لِكَرَاهِيَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَقَدْ قِيلَ مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ، فَإِذَا أَحَبَّ وَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى وُقُوعِ مَا أَحَبَّ فَقَدْ عُصِمَ مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الَّذِي يَكْرَهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ أَنْ يُعَافِيَهُ مِنْهُ، وَلَا يَرْضَاهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُصَاةِ، وَهُوَ تَبَوُّءُ مَقْعَدِهِ مِنْ النَّارِ لَا يَفْعَلُهُ بِهَذَا الْأَخِ الْمُؤْمِنِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ يُحِبُّ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» انْتَهَى، وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ؛ لِأَنَّك تَكْرَهُ الشَّيْءَ لِنَفْسِك وَتُوقِعُ فِيهِ غَيْرَك بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْخَدِيعَةِ وَالْمَكْرِ، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ بُعَدَاءُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ فَكُلُّ بَابٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ كَانَتْ سَبَبًا إلَى نَجَاةِ أَخِيك مِنْ النَّارِ وَاجِبٌ أَنْ تُعَامِلَهُ بِهَا. وَكَذَلِكَ فِي الْعَكْسِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، فَكُلُّ بَابٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ كَانَتْ سَبَبًا إلَى عِقَابِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَدُخُولِهِ دَارَ الْهَوَانِ وَالْغَضَبِ وَاجِبٌ عَلَيْكَ أَنْ تُعْفِيَهُ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» فَإِذَا قُمْتَ إلَيْهِ، فَإِنَّكَ لَمْ تَنْصَحْهُ بَلْ غَشَشْتَهُ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ بَلْ يَنْبَغِي أَوْ يَجِبُ أَنْ يَعْرِضَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا الْقِيَامَ، فَإِنْ رَأَى نَفْسَهُ أَنَّهَا تُحِبُّ ذَلِكَ وَتَشْتَهِيهِ وَتُؤْثِرُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْعَلَهُ مَعَ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ لِئَلَّا يُوقِعَهُ فِي الْبَلَاءِ الْعَظِيمِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ ، وَإِنْ رَأَى نَفْسَهُ أَنَّهَا لَا تُحِبُّ ذَلِكَ وَتَكْرَهُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَامِلَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ هُوَ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ» فَيَنْظُرُ إلَى

نَفْسِهِ فَمَا يُحِبُّ أَنْ يُفْعَلَ مَعَهُ فَعَلَهُ هُوَ مَعَ أَخِيهِ، وَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُفْعَلَ مَعَهُ لَمْ يَفْعَلْهُ مَعَهُ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ كُلُّهُ هُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا السَّيِّدُ فِيهِ: هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ جَوَابًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ بِمَا يَسَّرَ اللَّهُ فِي الْوَقْتِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا فِعْلُ الصَّحَابَةِ وَفَهْمُهُمْ لِلْحَدِيثِ، وَمَعْنَاهُ لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ فِعْلِنَا وَفَهْمِنَا بَلْ أَوْجَبَ؛ لِأَنَّهُمْ تَلْقَوْهُ مُشَافَهَةً مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى مُعَاوِيَةَ الَّذِي تَلَقَّى الْحَدِيثَ مِنْ فِي صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ كَيْفَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ، وَذَلِكَ الَّذِي فَهِمَ فَكَانَ يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ فِي فَهْمِهِ وَفِقْهِهِ. وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى رُوَاةِ الْحَدِيثِ كَيْفَ بَوَّبُوا عَلَيْهِ بَابَ كَرَاهَةِ الْقِيَامِ لِلنَّاسِ، بَابَ كَرَاهَةِ الْقِيَامِ لِلرَّجُلِ، وَلَمْ يَقُولُوا بَابُ مَا جَاءَ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ وَلَمْ يَقُولُوا مِثْلَ مَا قَالُوا فِي عَكْسِهِ. حَيْثُ قَالُوا: بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِيَامِ فَيُعْطِي ذَلِكَ أَوْ يُفِيدُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْكَرَاهَةِ، وَلَا يَقُولُونَ بِالْجَوَازِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. . وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَصْحَابِهِ لَمَّا أَنْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَامُوا إلَيْهِ: «لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» جَمَعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ شَيْئَيْنِ الْأَوَّلَ النَّهْيَ وَالثَّانِيَ التَّعْلِيلَ، وَهُوَ كَوْنُ الْقِيَامِ إذَا وَقَعَ بِنَفْسِهِ يَكُونُ تَعْظِيمًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَيَّنَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْقِيَامِ الْجَائِزِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْقِيَامَ إذَا وَقَعَ وَلَمْ يَكُنْ بِنِيَّةِ التَّعْظِيمِ كَانَ جَائِزًا، وَهَذَا وَقْتُ الْبَيَانِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ بَلْ لَوْ كَانَ يَجُوزُ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ مَا احْتَاجَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى نَهْيِهِمْ عَنْ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ مِنْهُمْ بِإِكْرَامِهِ وَتَبْجِيلِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَلِعِلْمِهِ مِنْهُ أَنَّهُمْ مُمْتَثِلُونَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ. ثُمَّ اُنْظُرْ أَيْضًا إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَنَا مِنْ أَصْلِ الشَّرْعِ وَالطَّبْعِ وَالْعَادَةِ وَالتَّجْرِبَةِ أَنَّ النَّفْسَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ غَالِبَةٌ مَكَّارَةٌ

خَدَّاعَةٌ مُتَكَبِّرَةٌ مُتَجَبِّرَةٌ مُنَازِعَةٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، فَالشَّيْطَانُ عَلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّيْطَنَةِ وَالتَّمَرُّدِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ وَالْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ لَا يُنَازِعُ الرُّبُوبِيَّةَ، وَهِيَ تُنَازِعُهَا، فَإِنْ شَعَرَتْ مِنْ صَاحِبِهَا أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ مِنْهَا مَا تُبْدِيهِ مِنْ أَحْوَالِهَا السَّيِّئَةِ رَمَتْهُ بِالْجَمِيعِ وَأَظْهَرَتْهُ لَدَيْهِ، وَإِنْ شَعَرَتْ مِنْهُ أَنَّهُ يَرُدُّهَا عَنْ أَحْوَالِهَا الْمُسْتَهْجَنَةِ قَلَّ أَنْ تُظْهِرَ لَهُ شَيْئًا مِنْ خَبَايَاهَا وَبَقِيَتْ تُمَارِي عَلَيْهِ فِي حُظُوظِهَا وَتَزْعُمُ أَنَّهَا طَالِبَةٌ لِلثَّوَابِ وَالْخَيْرِ، وَهِيَ طَالِبَةٌ لِشَهَوَاتِهَا وَحُظُوظِهَا خِيفَةً مِنْهَا إنْ أَظْهَرَتْ مَا أَكَنَّتْهُ أَنْ لَا يُمَكِّنَهَا صَاحِبُهَا مِنْ مُرَادِهَا، وَالْغَالِبُ مِنْهَا مَحَبَّةُ الْحُظْوَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأَقْرَانِ، وَمَحَبَّةُ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ عَلَى النَّاسِ وَالْكِبْرِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي الْقِيَامِ إلَيْهَا فَأَيْنَ النَّفْسُ الَّتِي تَقِفُ لِذَلِكَ وَيَحْصُلُ لَهَا الِانْكِسَارُ وَالتَّذَلُّلُ وَتَرَاهُ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَتَنْوِيهِ عَلَى مَا زَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ، وَالْعَجَبُ مِنْ هَذَا السَّيِّدِ كَيْفَ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا النَّهْيَ الصَّرِيحَ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَيْدٍ وَلَمْ يُخَصِّصْهُ بِحَالَةٍ فَقَالَ: هَذَا يَجُوزُ بِنِيَّةِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ. فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِوُرُودِ الْأَحَادِيثِ الْمُعَارِضَةِ فِي فِعْلِ الْقِيَامِ. فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ عَنْ الْقِيَامِ الْمَذْكُورِ مَا كَانَ سَبَبُهُ وَمَا جَرَى فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ وَفِيمَا وَقَعَ مِنْ الْجَوَابِ مَقْنَعٌ مَعَ الْإِنْصَافِ، وَقَدْ وَقَعَ لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ الْحَرِيصَةُ الْمُبَالِغَةُ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ فَإِذَا رَأَتْهُ دَاخِلًا تَلَقَّتْهُ فَأَخَذَتْ عَنْهُ ثِيَابَهُ وَنَزَعَتْ نَعْلَيْهِ وَلَمْ تَزَلْ قَائِمَةً حَتَّى يَجْلِسَ فَقَالَ: أَمَّا تَلَقِّيهَا إيَّاهُ وَنَزْعُهَا ثِيَابَهُ وَنَعْلَيْهِ فَلَا أَرَى فِي ذَلِكَ بَأْسًا، وَأَمَّا قِيَامُهَا فَلَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَا أَرَى أَنْ تَفْعَلَهُ هَذَا مِنْ التَّجَبُّرِ وَالسُّلْطَانِ فَقُلْتُ وَاَللَّهِ مَا ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ، وَلَا يَشْتَهِي هَذِهِ الْحَالَةَ، وَلَكِنَّهَا تُرِيدُ إكْرَامَهُ وَتَوْقِيرَهُ وَتَأْدِيَةَ حَقِّهِ وَأَنَّهُ لَيَنْهَاهَا عَنْ ذَلِكَ وَيَمْنَعُهَا مِنْهُ فَقَالَ لِي: كَيْفَ اسْتِقَامَتُهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ؟ فَقُلْت لَهُ: مِنْ أَقْوَمِ النَّاسِ طَرِيقَةً فِي كُلِّ أَمْرِهَا؟ فَقَالَ:

تُؤَدِّي حَقَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا، وَأَمَّا هَذَا فَلَا أَرَى أَنْ تَفْعَلَهُ، إنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ، وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الْوُلَاةِ يَكُونُ النَّاسُ جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَهُ فَإِذَا طَلَعَ عَلَيْهِمْ قَامُوا لَهُ حَتَّى يَجْلِسَ فَلَا خَيْرَ فِي هَذَا، وَلَا أُحِبُّهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ، فَأَرَى أَنْ تَدَعَ هَذَا وَتُؤَدِّيَ حَقَّهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلدَّابَّةِ الَّتِي رَكِبَ مَا نَزَلْتُ عَنْهَا حَتَّى تَغَيَّرْت قَالَ: قَالَ مَالِكٌ وَلِعُمَرَ فَضْلُهُ. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ إلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ: «لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا بِالسُّجُودِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» فَانْظُرْ مَعَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ وَالْحَقِّ الَّذِي لِلزَّوْجِ بِنَصِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ لَهَا مَالِكٌ الْقِيَامَ لَهُ لِفَهْمِهِ مَنْعَ الْقِيَامِ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقِيَامِ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ وَالتَّعْظِيمِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهَذَا نَصُّ الْإِمَامِ. وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الْعُظْمَى الَّتِي وَقَعَتْ بِسَبَبِ جَوَازِ هَذَا الْقِيَامِ كَيْفَ وَقَعَ بِسَبَبِهِ ارْتِكَابُ مَا نَهَيْنَا عَنْهُ، وَهُوَ هَذَا الْقِيَامُ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ لِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الْقِيَامِ إذْلَالًا لِلْقَائِمِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو، وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» انْتَهَى، وَقَدْ عَلَا هَذَا الْعَدُوُّ الْكَافِرُ عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ فِي هَذَا الْحَالِ بِسَبَبِ مَا أُجِيزَ مِنْ الْقِيَامِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُؤْمِنُ لَا يَذِلَّ نَفْسَهُ» أَوْ كَمَا قَالَ فَهُوَ قَدْ نَهَى أَنْ يَذِلَّ نَفْسَهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ مُسْلِمٍ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ مَعَ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُنَافِقٍ عَدُوٍّ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَيْفَ يَكُونُ الْقِيَامُ إلَيْهِ وَكَيْفَ يَكُونُ الذُّلُّ لَهُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاءِ مِنْ الِارْتِكَابِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا أَجَازُوا ذَلِكَ إذَا خَافُوا الْفِتْنَةَ مِنْهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ خِيفَةَ الْفِتْنَةِ إنَّمَا سَبَبُهَا اسْتِعْمَالُنَا نَحْنُ الْقِيَامَ حَتَّى جَعَلْنَاهُ بَيْنَنَا شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ وَاحِدٌ مِنَّا لَوَجَدْنَا عَلَيْهِ الْوَجْدَ الشَّدِيدَ، فَلَمَّا أَنْ ارْتَكَبْنَا هَذَا

الْأَمْرَ بَيْنَنَا وَاصْطَلَحْنَا عَلَيْهِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا طَلَبَهُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ مِنَّا؛ لِأَنَّ شَهَوَاتِ النُّفُوسِ وَالْحُظُوظَ؛ النَّاسُ الْكُلُّ مُشْتَرَكُونَ فِي مَحَبَّتِهَا وَالْقَوْلِ بِهَا إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ سِيَّمَا مَنْ كَانَ شَارِدًا عَنْ بَابِ رَبِّهِ مُعْرِضًا عَنْ مَوْلَاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ ثَمَّ شُرُودٌ وَإِعْرَاضٌ أَعْظَمُ وَأَدْهَى وَأَمَرُّ مِنْ الْمُخَالَفَةِ بِالْكُفْرِ وَجَحْدِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَيَكُونُ مَحَبَّةُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ فَلَوْ وَقَفْنَا نَحْنُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَلَمْ نَزِدْ عَلَيْهَا شَيْئًا، وَلَا نَسْتَحْسِنُهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا إلَّا مَا اسْتَحْسَنَهُ صَاحِبُ شَرِيعَتِنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْضَاهُ لَنَا وَرَآهُ مَصْلَحَةً لَنَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ يُخَالِطُنَا فِيهِ، وَلَا يَطْلُبُهُ مِنَّا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ عَلَى اتِّبَاعِهِ فِي أَمْرٍ مَا أَبَدًا لِكُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَامَ الْمَشْرُوعَ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مِنْ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حِسًّا وَمَعْنًى كَيْفَ يَتَحَامَاهُ أَهْلُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَا يَفْعَلُونَهُ مَعَ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا مَعَ مَنْ يُعَامِلُونَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الْقِيَامُ مَشْرُوعًا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَتَحَامَوْهُ كَمَا تَحَامَوْا السَّلَامَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا شَرَعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - انْتَفَتْ مِنْهُ حُظُوظُ النَّفْسِ، فَلَيْسَ لَهُمْ إلَيْهِ سَبِيلٌ، وَمَا يُسْتَعْمَلُ لِحُظُوظِ النَّفْسِ هُوَ الَّذِي يُشَارِكُنَا فِيهِ أَهْلُ الْمِلَلِ، فَلَوْ أَنْكَرْنَا الْقِيَامَ ابْتِدَاءً بَعْضُنَا لِبَعْضٍ مَا طَلَبَهُ أَهْلُ الْمِلَلِ مِنَّا، وَقَدْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُهُ، وَلَا يُعَامِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهِ، فَلَمَّا أَنْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ بَانَ أَمْرُهُ وَاتَّضَحَ وَزَالَ إشْكَالُهُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ نَهَى فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ، وَقَدْ عَلَّلَهُ هَاهُنَا بِأَنَّهُ فِعْلُ الْأَعَاجِمِ حَتَّى نَهَى عَنْهُ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى» فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى

الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ انْتَهَى. وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا فِتْنَةً أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ الْفِتْنَةَ الْمَخُوفَةَ مَا هِيَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ لَوْ تَسَبَّبَ الذِّمِّيُّ فِي قَطْعِ رِيَاسَتِهِمْ أَوْ قَطْعِ مَنْصِبٍ لَهُمْ أَوْ قَطْعِ شَيْءٍ مِنْ جَامِكِيَّتِهِمْ أَوْ عَقَدَ وَجْهَهُ فِي وُجُوهِهِمْ أَوْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ عِنْدَ أُسْتَاذِهِ بِأَمْرٍ مَا كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُمْ فِي جَوَازِ الْقِيَامِ لِأَهْلِ الْمِلَلِ مَعَاذَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ الْخَوْفُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مَعْلُومٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مَشْهُورٌ بَيْنَهُمْ لَيْسَ عَلَى مَا تُسَوِّلُ لَنَا حُظُوظُ أَنْفُسِنَا وَيُزَيِّنُ لَنَا شَيْطَانُنَا وَيَحْمِلُنَا عَلَيْهِ قِلَّةُ يَقِينِنَا، وَأَعْظَمُ فِتْنَةً وَأَدْهَاهَا وَأَمَرُّهَا هَذَا الْأَمْرُ الْمُفْظِعُ الَّذِي وَقَعْنَا فِيهِ وَاصْطَلَحْنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّا نَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ مُعْضِلَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تُسْتَدْرَكُ، وَلَا يُمْكِنُ تَلَافِيهَا لِتَعَذُّرِ وُقُوعِ التَّوْبَةِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَكُونُ مِنْ الْجَائِزِ، وَلَا مِنْ الْمَنْدُوبِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْمَعَاصِي. فَالْحَاصِلُ مِنْ أَحْوَالِنَا فِيهِ أَعْنِي فِي الْقِيَامِ أَنَّا ارْتَكَبْنَا بِهِ بِدْعَةً جَرَّتْ إلَى حَرَامٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقِيَامُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى ارْتِكَابِ الْبِدَعِ، وَالتَّسَامُحِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَمَعْذِرَةِ بَعْضِ عُلَمَائِنَا وَتَسَامُحِهِمْ وَتَغَافُلِهِمْ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ حَتَّى اُرْتُكِبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْكَثِيرُ الْكَبِيرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَسْئُولُ فِي التَّجَاوُزِ وَالْعَفْوِ عَمَّا مَضَى، وَالتَّدَارُكِ وَاللُّطْفِ وَالْإِقَامَةِ مِمَّا بَقِيَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ. وَقَدْ وَقَعَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ هَذَا الْقِيَامَ يَتَعَيَّنُ الْيَوْمَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَقَدْ أَمَرَنَا بِتَرْكِ ذَلِكَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا» الْحَدِيثَ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي إلَى مَا اُحْتُرِزَ مِنْهُ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا أَنْ يَقُومَ لِكُلِّ دَاخِلٍ عَلَيْهِ أَوْ الْعَكْسِ، وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ مَذْهَبٌ لِحُرْمَةِ الْعِلْمِ وَالْمُرُوءَةِ وَقَلَّ أَنْ يَسْتَقِرَّ لَهُ قَرَارٌ فِي مَجْلِسٍ وَيَشْتَغِلُ عَنْ كُلِّ ضَرُورَاتِهِ لِكُلِّ دَاخِلٍ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا. وَهَذَا شَنِيعٌ وَمَعَ شَنَاعَتِهِ يَمْنَعُ مَا الْإِنْسَانُ قَاعِدٌ إلَيْهِ وَيَشْتَغِلُ عَنْهُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ. وَإِنْ قَامَ لِبَعْضِ

فصل في جلوس العالم على حائل مرتفع دون من معه

النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فَهُوَ مَوْضِعُ الْفِتْنَةِ وَالتَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنْ لَا يَقُومَ لِأَحَدٍ فَيَسْلَمُ النَّاسُ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَتَنْحَسِمُ مَادَّةُ التَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَتَبْقَى حُرْمَةُ الْعِلْمِ قَائِمَةً، وَالْمُرُوءَةُ مَوْجُودَةً، وَبَرَكَةُ الِاتِّبَاعِ حَاصِلَةً، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَجَزْنَا ذَلِكَ لِأَجْلِ مَا يَقَعُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ التَّغْيِيرِ لَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى نَسْخِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ كُلَّمَا أَحْدَثُوا حَدَثًا فِي الدِّينِ إنْ لَمْ نُوَافِقْهُمْ عَلَيْهِ حِفْظًا لِخَوَاطِرِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى مَا ذُكِرَ، وَهَذَا عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ مَضَتْ أَنَّ الْعَوَامَّ يُحْدِثُونَ وَالْعُلَمَاءَ يُنْكِرُونَ وَيَزْجُرُونَ فَصَارَ الْيَوْمَ الْحَالُ بِالْعَكْسِ الْعَوَامُّ يُحْدِثُونَ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَتَّبِعُونَ وَبَعْضُهُمْ لَا يُنْكِرُونَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أَوْ كَمَا قَالَ. وَهَذَا عَامٌّ فِي الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ. [فَصْلٌ فِي جلوس الْعَالم عَلَى حَائِلٍ مُرْتَفِعٍ دُونَ مَنْ مَعَهُ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَجْلِسَ عَلَى حَائِلٍ مُرْتَفِعٍ دُونَ مَنْ مَعَهُ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صُورَةَ التَّرَفُّعِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِ الْعُلَمَاءِ إذْ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُدَرِّسِ التَّوَاضُعَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّنْ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى شَيْءٍ مِثْلِ فَرْوَةٍ، أَوْ بِسَاطٍ، أَوْ شَيْءٍ يَتَّكِئُ عَلَيْهِ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَعَابَهُ وَقَالَ: أَتُتَّخَذُ الْمَسَاجِدُ بُيُوتًا وَرَخَّصَ ذَلِكَ لِلْمَرِيضِ، فَعَلَى هَذَا إنْ اضْطَرَّ الْمُدَرِّسُ، أَوْ غَيْرُهُ إلَى شَيْءٍ يَجْعَلُهُ تَحْتَهُ فَلْيَكُنْ قَدْرَ الضَّرُورَةِ وَلْيُبَيِّنْ عُذْرَهُ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْمَاضِينَ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصَابَهُ مَرَضٌ فَاِتَّخَذَ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُ لِأَجْلِ مَرَضِهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْغَدِ خَرَجَ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَقَعَدَ خَارِجًا عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ: هَلَّا تَقْعُدُ بِمَوْضِعِك بِالْأَمْسِ؛ لِأَنَّهُ أَكَنُّ لَك لِأَجْلِ مَرَضِك فَقَالَ: إنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَوْقَ جُلَسَائِي وَكَانَ الْمَوْضِعُ عُلُوُّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ عَرْضُ أُصْبُعَيْنِ، فَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي هَذَا شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَقَالَ: لَوْ وَجَدْت سَبِيلًا أَنْ أَحْفِرَ حُفْرَةً تَحْتَ الْأَرْضِ فَأَقْعُدَ تَحْتَ جُلَسَائِي لَفَعَلْت

فصل في حكم المراوح التي في المسجد

ذَلِكَ، أَوْ كَمَا قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَمَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْمَغْرِبِ وَفُضَلَائِهِمْ يَقْعُدُونَ عَلَى حَائِلٍ دُونَ جُلَسَائِهِمْ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْلِسُ إلَى أَخْذِ الدُّرُوسِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ بَعَثَ لَهُ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَجَّادَةً مِنْ صُوفٍ فَبَقِيَ يَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِهِ فِي إرْسَالِهَا إذْ أَنَّ السَّجَّادَاتِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِدْعَةٌ، وَمِثْلُهُ بَعِيدٌ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: مَا أَرْسَلَهَا إلَّا لِحِكْمَةٍ فَتَرَكَهَا فِي بَيْتِهِ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا فَمَا كَانَ إلَّا قَلِيلٌ وَأَخَذَهُ مَغَصٌ فِي فُؤَادِهِ بِسَبَبِ بُرُودَةِ الْبَلَاطِ الَّتِي تَصْعَدُ مِنْ تَحْتِ الْحَصِيرِ فَبَقِيَ يَخْرُجُ بِهَا إلَى الْمَسْجِدِ وَيَطْوِيهَا حَتَّى تَكُونَ عَلَى قَدْرِ جُلُوسِهِ لَيْسَ إلَّا وَيَسْجُدُ عَلَى الْحَصِيرِ، وَكَانَ يَقُولُ: هَذِهِ هِيَ الْحِكْمَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَرْسَلَهَا هَذَا السَّيِّدُ، فَهَذَا دَأْبُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَالْعُلَمَاءُ أَوْلَى مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ وَيُقْتَفَى آثَارُهُمْ وَيُهْتَدَى بِهَدْيِهِمْ [فَصْلٌ فِي حُكْم الْمَرَاوِحَ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاوِحِ إنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ إذْ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُعْهَدُ فِي الْبُيُوتِ أَنْ تُعْمَلَ فِي الْمَسَاجِدِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي غَيْرِهِ، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَدَارِسِ لِضَرُورَةِ الْحَرِّ وَالذُّبَابِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَنُهَا مِنْ رَيْعِ الْوَقْفِ، أَوْ يُقْطَعُ بِهَا حُصْرُ الْوَقْفِ عِنْدَ الْبَحْثِ وَالِانْزِعَاجِ عِنْدَ إيرَادِ الْمَسَائِلِ، وَمِنْ الطُّرْطُوشِيِّ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَكْرَهُ الْمَرَاوِحَ الَّتِي فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ الَّتِي يَرُوحُ بِهَا النَّاسُ قَالَ: وَمَا كَانَ ذَلِكَ يُفْعَلُ فِيمَا مَضَى، وَلَا أُجِيزُ لِلنَّاسِ أَنْ يَأْتُوا بِالْمَرَاوِحِ يَتَرَوَّحُونَ [فَصْلٌ يَنْبَغِي للعالم أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الْحَلْقَةِ الَّتِي تَعْمَلُ لَهُ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذِهِ الْحَلْقَةِ الَّتِي تُعْمَلُ لَهُ فِي كَوْنِ الطَّلَبَةِ يَبْعُدُونَ عَنْهُ وَالسَّلَفُ كَانُوا لَا يَبْعُدُونَ بَلْ تَمَسُّ ثِيَابُ الطَّلَبَةِ ثِيَابَ الْمُدَرِّسِ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلرِّيَاسَةِ فَذَمُّهُ أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ

فصل لا يكون في مجلس العالم مكان مميز لآحاد الناس

[فَصْلٌ لَا يَكُونَ فِي مَجْلِسِ الْعَالم مَكَانٌ مُمَيَّزٌ لِآحَادِ النَّاسِ] فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ فِي مَجْلِسِهِ مَكَانٌ مُمَيَّزٌ لِآحَادِ النَّاسِ بَلْ كُلُّ مَنْ سَبَقَ لِمَوْضِعٍ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ كَمَا هُوَ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ، وَلَا يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَوْضِعِهِ جَبْرًا وَيَجْلِسُ فِيهِ غَيْرُهُ لِلنَّهْيِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ قَامَ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنْهُ لِضَرُورَةٍ وَعَادَ كَانَ بِهِ أَحَقَّ أَيْضًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مَعْلُومًا عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ فِيهِ إلَّا فُلَانٌ، وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي فَتْوَاهُ وَعِلْمِهِ، فَإِنْ جَلَسَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهُ أَوْ يُعْلَمْ بِمَشَقَّةٍ فَهَذَا مُسْتَثْنًى مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ صَاحِبَ عِلْمٍ وَفَضِيلَةٍ فَحَيْثُمَا جَلَسَ كَانَ صَدْرًا، وَلَيْسَتْ الْمَوَاضِعُ بِاَلَّتِي تُصَدِّرُ النَّاسَ، وَلَا تَرْفَعُهُمْ وَإِنَّمَا يَرْفَعُ الْمَرْءُ مَا هُوَ حَامِلُهُ مِنْ عِلْمٍ وَفَضِيلَةٍ وَدِينٍ وَتَقْوَى، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّخْصِيصُ لِمَنْ ذُكِرَ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهِ فِي فَتْوَاهُ وَعِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ مُقْتَضَاهُ الْعُمُومُ فَالضَّرُورَةُ خَصَّصَتْ الدَّلِيلَ الْعَامَّ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ دَلِيلٍ خُصَّ وَذَلِكَ كَثِيرٌ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إلَى الضَّرَرِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا» [فَصْلٌ وَيَنْبَغِي للعالم أَنْ لَا يَنْزَعِجَ عَلَى مَنْ آذَاهُ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَنْزَعِجَ عَلَى مَنْ آذَاهُ وَيُجَاهِدَ نَفْسَهُ لِتَرْتَاضَ فَيُحْسِنَ لَهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ لَا يُؤَاخِذُ مَنْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ بِالْأَذِيَّةِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ وَيُوَاجِهُهُ بِمَا يُوَاجِهُ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ الْمُحِبِّينَ وَالْمُعْتَقِدِينَ مِنْ طَيِّبِ الْقَوْلِ وَحُسْنِ الْعِبَارَةِ وَعَدَمِ الْجَفَاءِ تَقَرُّبًا بِذَلِكَ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يُقَابِلُ الشَّرَّ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا شِيَمُهُمْ الْحِلْمُ وَالْإِقَالَةُ وَالصَّفْحُ وَالْعَفْوُ، أَلَا تَرَى إلَى مُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ قَاضِي بِلَادِ إفْرِيقِيَّةَ فَكَانَ إذَا قَعَدَ لِأَخْذِ الدُّرُوسِ أَتَاهُ إنْسَانٌ لَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ فَيُحَدِّثُهُ فِي أُذُنِهِ سَاعَةً، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ مُدَّةً، وَكَانَ إذَا أَقْبَلَ يَقُولُ الْقَاضِي لِجَمَاعَتِهِ أَفْسِحُوا لَهُ فَيَأْتِي وَيَفْعَلُ الْعَادَةَ، ثُمَّ انْقَطَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مُدَّةً فَسَأَلَ عَنْهُ مَنْ حَضَرَهُ فَقَالُوا لَا نَعْرِفُ

خَبَرَهُ فَقَالَ اُطْلُبُوهُ فَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ فَأْتُونِي بِهِ فَوَجَدُوهُ فَأَتَوْا بِهِ إلَيْهِ فَأَخَذَهُ وَخَلَا بِهِ وَقَالَ لَهُ مَا مَنَعَك مِنْ عَادَتِك فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدِي لِي بَنَاتٌ قَدْ كَبِرْنَ وَاحْتَجْنَ إلَى التَّزْوِيجِ وَأَنَا فَقِيرٌ فَقَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ إنْ أَغْضَبْت فُلَانًا فَنَحْنُ نُزِيلُ فَقْرَك وَنُجَهِّزُ بَنَاتَك، أَوْ كَمَا قَالُوا فَبَقِيتُ تِلْكَ الْمُدَّةَ أَجِيءُ إلَيْك فَأَقْذِفُك وَأَشْتُمُك وَأَفْعَلُ مَا قَدْ رَأَيْت لَعَلَّك تَغْضَبُ يَوْمًا مَا لِيَحْصُلَ لِي مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَيِسْتُ مِنْ غَضَبِك تَرَكْت ذَلِكَ إذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ لَوْ أَخْبَرْتنِي كُنْت أَقُومُ لَك بِضَرُورَتِك أَعَلَيْكَ سَفَرٌ فَقَالَ يَا سَيِّدِي أَيُّ شَيْءٍ أَشَرْت بِهِ عَلَيَّ فَعَلْته، فَأَمَرَ الْكَاتِبَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا بِالْوَصِيَّةِ عَلَيْهِ إلَى نُوَّابِهِ بِالْبِلَادِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ، وَمِمَّنْ يَعْتَنِي بِهِ الْقَاضِي فَسَافَرَ إلَى الْبِلَادِ، ثُمَّ رَجَعَ وَمَعَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا أَزَالَ فَقْرَهُ وَجَهَّزَ بَنَاتَه. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا مُعَامَلَتَهُ مَعَ مَنْ شَتَمَهُ وَقَذَفَهُ فَيَكُونُ الْعَالِمُ يَقْتَدِي بِهَذَا السَّيِّدِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ فِي الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالشِّيَمِ الْجَمِيلَةِ، وَقُدْوَتُهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سُنَّةُ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ» انْتَهَى. فَمِنْ جُمْلَةِ أَخْلَاقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ وَالْمَغْفِرَةُ وَالثَّوَابُ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَرُتْبَتُهُ مُنِيفَةٌ وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى أَوَّلُهَا، وَفِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي يُؤْذِيكَ هُوَ الْمُحْسِنُ إلَيْك. وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَنَّهُ قَالَ: «جُبِلَتْ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا» وَإِذَا نَظَرْت إلَى النَّاسِ وَجَدْتَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُحْسِنٌ وَمُسِيءٌ فَالْمُحْسِنُ جُبِلَ قَلْبُك عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَهَذَا الْمُحْسِنُ إنَّمَا أَحْسَنَ إلَيْك بِشَيْءٍ يَفْنَى، وَإِذَا نَظَرْت إلَى الْمُسِيءِ بِعَيْنِ التَّحْقِيقِ فَهُوَ مُحْسِنٌ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيْك بِالْبَاقِي إذْ أَنَّك تَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ إنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَإِلَّا أَخَذَ مِنْ سَيِّئَاتِك، وَشَأْنُ أَهْلِ التَّوْفِيقِ اغْتِنَامُ الْبَاقِي فَيَنْبَغِي لَك أَنْ تُكَافِئَهُ عَلَى إحْسَانِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يُبَيِّنُ هَذَا وَيُوَضِّحُهُ، وَهُوَ

فصل ينبغي للعالم أن يحذر أن يتكئ على اليد اليسرى

أَنَّهُ كَانَ مَارًّا بِطَرِيقٍ فَلَقِيَهُ إنْسَانٌ فَصَفَعَهُ وَمَرَّ فِي طَرِيقِهِ فَرَآهُ جَمَاعَةٌ عَلَى بُعْدٍ مِنْهُمْ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ قَالُوا لَهُ: أَتَعْرِفُ مَنْ هَذَا الَّذِي صَفَعْتَهُ قَالَ لَا قَالُوا هُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ فَرَجَعَ إلَيْهِ فَطَأْطَأَ عَلَى قَدَمِهِ فَقَبَّلَهَا وَقَالَ وَاَللَّهِ يَا سَيِّدِي مَا عَرَفْتُك وَسَأَلَهُ الْمُحَالَلَةَ فَقَالَ لَهُ وَاَللَّهِ مَا ارْتَفَعَتْ يَدُك عَنِّي حَتَّى سَأَلْت اللَّهَ تَعَالَى لَك الْمَغْفِرَةَ فَقَالَ لَهُ وَمَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ لِأَنَّك لَمَّا صَفَعْتنِي عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُثِيبُنِي عَلَى ذَلِكَ وَمَا كُنْت بِاَلَّذِي تُوصِلُ إلَيَّ خَيْرًا فَأُوصِلُ إلَيْك شَرًّا. وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ لَوْ كُنْت مُغْتَابًا لِأَحَدٍ لَاغْتَبْت وَالِدَيْ؛ لِأَنَّهُمَا أَحَقُّ بِحَسَنَاتِي فَهُمْ أَبَدًا يَنْظُرُونَ إلَى بَاطِنِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا، وَغَيْرُهُمْ إلَى ضِدِّهَا. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى إلَى هَذَا الْمَقَامِ الْأَسْنَى الَّذِي يَحْصُلُ لِكَاظِمِ الْغَيْظِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ يُدْخِلُهُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَلَامَةُ الصَّدْرِ لَا تُبْلَغُ بِعَمَلٍ» فَنَفْيُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ تُبْلَغَ سَلَامَةُ الصَّدْرِ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا مُتَحَصِّلٌ بِمَا ذَكَرَ [فَصْلٌ يَنْبَغِي للعالم أَنْ يَحْذَرَ أَنْ يَتَّكِئَ عَلَى الْيَدِ الْيُسْرَى] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ أَنْ يَتَّكِئَ عَلَى الْيَدِ الْيُسْرَى إذَا جَعَلَهَا مِنْ خَلْفِهِ قَلِيلًا وَيَتَّكِئَ عَلَى شَحْمَتَيْ أَصْلِ كَفِّهِ تِلْكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ تِلْكَ الْهَيْئَةَ مِنْ فِعْلِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ. [فَصْلٌ لَا يَنْبَغِي للعالم أَنْ يَسْمَعَ مِنْ يَنِمُّ عِنْدَهُ] (فَصْلٌ) وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْمَعَ مَنْ يَنِمُّ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَنْقُلُ أَخْبَارَ النَّاسِ وَمَا جَرَى لَهُمْ مِمَّا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِي هَذَا الْبَابِ مَجَالًا كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي لِأَحَدٍ إلَّا مِنْ الْبَابِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ لِلْعَالِمِ، أَوْ الْعَابِدِ فَيُوَسْوِسُ لَهُ بِالزِّنَا، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ يَأْتِي بِذِكْرِ شَخْصٍ غَائِبٍ فَيُذْكَرُ بِخَيْرٍ فَيَقُومُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ وَيَسْتَثْنِي بِقَوْلِهِ: إلَّا أَنَّ فِيهِ كَذَا وَأَنَّهُ كَذَا، فَيَتَرَتَّبُ الْإِثْمُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ حَضَرَ، فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا، وَرَدَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَيَتَنَفَّسَ فَيَحْرِقُ بِنَفَسِهِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، أَوْ كَمَا وَرَدَ وَهَا هُوَ ذَا بَيِّنٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَثْنِي إذَا اسْتَثْنَى وَلَمْ

فصل في التحرز عن الغيبة فى مجلس العالم

يَرُدَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْحَاضِرِينَ فَقَدْ بَاءُوا جَمِيعًا بِالْإِثْمِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ. [فَصْلٌ فِي التَّحَرُّز عَنْ الْغِيبَة فى مَجْلِس الْعَالم] (فَصْلٌ) وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْغِيبَةِ؛ لِأَنَّهَا مُصِيبَةٌ عُظْمَى فِي الدِّينِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْذِيرِ عَنْ ذَلِكَ إلَّا قَوْله تَعَالَى {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْغِيبَةُ قَالَ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ حَسْبُك مِنْ صَفِيَّةَ قِصَرُهَا قَالَ لَقَدْ قُلْت كَلِمَةً لَوْ مُزِجَ بِهَا مَاءُ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إنْسَانًا فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إنْسَانًا وَلِي كَذَا وَكَذَا» وَمِنْ كِتَابِ ابْنِ رَزِينٍ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ وَلَا مُجَاهِرٍ وَكُلُّ أُمَّتِي مُعَافَى إلَّا الْمُجَاهِرُونَ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ رَجُلًا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ، أَوْ يَمْشِي بِالْحَدِيثِ إلَى الْأَمِيرِ فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرَجَ إلَيْهِمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ» وَالْأَدِلَّةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى هَذَا وَأَشْبَاهِهِ كَثِيرَةٌ. سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبَارَكِينَ بِتُونُسَ فَلَمَّا أَنْ أَرَادُوا الطَّعَامَ أَبْطَأَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ مَا زَالَتْ عَادَتُهُ هَكَذَا، فَقَامَ سَيِّدِي حَسَنٌ الزُّبَيْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ الْيَوْمَ لِي سَنَةٌ لَمْ أَسْمَعْ غِيبَةً فَسَمَّعْتُمُوهَا لِي الْيَوْمَ، وَاَللَّهِ لَا أَقْعُدُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ وَخَرَجَ مِنْ حِينِهِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ شَيْئًا، فَقِسْ عَلَى هَذَا وَانْظُرْ

فصل في التحرز عن الكذب في مجلس العالم

بِنَظَرِك أَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا رَخَّصَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، وَذَلِكَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا: وَهِيَ غِيبَةُ الْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ بِفِسْقِهِ، وَصَاحِبِ بِدْعَةٍ يَدْعُو إلَيْهَا، وَصَاحِبِ بِدْعَةٍ يُخْفِيهَا، فَإِذَا ظَفِرَ بِأَحَدٍ أَلْقَاهَا إلَيْهِ، وَالْغِيبَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِخَصْمِهِ، وَإِذَا سَأَلَ الْحَاكِمُ عَنْ أَحَدٍ فَغِيبَتُهُ جَائِزَةٌ وَعِنْدَ الْعَالِمِ لِلْفَتْوَى، وَعِنْدَ مَنْ يُرْجَى تَغْيِيرُ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ، وَعِنْدَ الْخُطْبَةِ، وَعِنْدَ الْمُرَافَقَةِ فِي السَّفَرِ، وَكَذَلِكَ فِي التِّجَارَةِ لِلشَّرِكَةِ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ يَشْتَرِي دَارًا فَسَأَلَ عَنْ جَارِهَا أَوْ دُكَّانًا، وَالتَّجْرِيحُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْمُشَاوَرَةُ فِي أَمْرٍ مَا مِنْ أُمُورِ الْمُخَالَطَةِ، أَوْ الْمُجَاوِرَةِ، أَوْ الْمُصَاهَرَةِ، وَتَجْرِيحُ الْمُحَدِّثِينَ لِلرُّوَاةِ، وَذِكْرُ الرَّجُلِ بِاسْمٍ قَبِيحٍ يَشْتَهِرُ بِهِ كَالْأَعْمَشِ وَالْأَعْرَجِ وَالْأَخْفَشِ فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الْمُسْتَثْنَاةُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَصْحَابُ الْمُكُوسِ وَالظَّلَمَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُنْتَصِبِينَ لِظُلْمِ الْعِبَادِ وَأَذِيَّتِهِمْ فِي الْعِرْضِ، أَوْ الْمَالِ، أَوْ الْبَدَنِ، وَلَا يُعَيِّنُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ إذَا خَشِيَ الْفِتْنَةَ، فَإِنْ أَمِنَ عَيَّنَ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ الْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَيَحْذَرُونَهُ وَيَهْجُرُونَهُ، وَلَا يَتَعَاطَوْنَ مِثْلَ فِعْلِهِ [فَصْلٌ فِي التحرز عَنْ الْكَذِب فِي مَجْلِس الْعَالم] (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَنْعُ مِنْ النُّعُوتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكَذِبِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى الْكَذِبُ صُرَاحًا، فَيَتَحَرَّزُ مِنْهُ أَنْ يَقَعَ فِي مَجْلِسِهِ، فَإِنْ وَقَعَ فَلْيَنْقِمْ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ، أَوْ يَمْنَعْهُ مِنْ حُضُورِ الْمَجْلِسِ حَتَّى يَتُوبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُقْلِعَ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ وَشُرُوطِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ إلَّا بِقَلْبِهِ قَامَ وَتَرَكَهُ، وَلَا يَكُونُ مُنْكِرًا بِقَلْبِهِ إنْ قَعَدَ، وَيَأْثَمُ إلَّا أَنْ يَعْجِزَ عَنْ الْخُرُوجِ لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلَيْسَ هِيَ الْحَيَاءُ وَتَعْبِيسُ وَجْهِ الْمُنْكَرِ بَلْ مَا يُعَدُّ إنْكَارًا شَرْعِيًّا. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ لَهُ: كُلُّ مَنْ شَاهَدَ مُنْكَرًا وَلَمْ يُنْكِرْ وَسَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، فَالسَّامِعُ شَرِيكُ الْمُغْتَابِ وَيَجْرِي هَذَا فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي حَتَّى فِي مُجَالَسَةِ مَنْ يَلْبَسُ الدِّيبَاجَ وَيَتَخَتَّمُ بِالذَّهَبِ وَيَجْلِسُ عَلَى الْحَرِيرِ، وَالْجُلُوسِ فِي دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ عَلَى حِيطَانِهَا صُوَرٌ، أَوْ فِيهَا أَوَانٍ مِنْ الذَّهَبِ

أَوْ الْفِضَّةِ وَالْجُلُوسِ فِي مَسْجِدٍ يُسِيءُ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ فَلَا يُتِمُّونَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَالْجُلُوسُ فِي مَجْلِسِ وَعْظٍ يَجْرِي فِيهِ ذِكْرُ الْبِدْعَةِ، أَوْ فِي مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ، أَوْ مُجَادَلَةٍ يَجْرِي فِيهَا الْأَذَى، أَوْ الْأَبْحَاثُ بِالسَّفَهِ وَالشَّتْمِ. وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ خَالَطَ النَّاسَ كَثُرَتْ مَعَاصِيه وَإِنْ كَانَ تَقِيًّا فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَتْرُكَ الْمُدَاهَنَةَ فَلَا تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَيَشْتَغِلُ بِالْحِسْبَةِ وَالْمَنْعِ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْوُجُوبُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ وَلَمْ يُتْرَكْ الْمُنْكَرُ وَنَظَرَ إلَيْهِ بِعَيْنِ الِاسْتِهْزَاءِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي مُنْكَرَاتٍ يَرْتَكِبُهَا الْفُقَهَاءُ وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ فَهَا هُنَا يَجُوزُ السُّكُوتُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الزَّجْرُ بِاللِّسَانِ، وَيَجِبُ أَنْ يُفَارِقَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَلَيْسَ يَجُوزُ مُشَاهَدَةُ الْمَعْصِيَةِ بِالِاخْتِيَارِ، فَمَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِ الشُّرْبِ فَهُوَ فَاسِقٌ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ وَمَنْ جَالَسَ مُغْتَابًا، أَوْ لَابِسَ حَرِيرٍ، أَوْ آكِلَ رِبًا، أَوْ حَرَامٍ فَهُوَ فَاسِقٌ وَلْيَقُمْ مِنْ مَوْضِعِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ بِأَنْ يَرَى زُجَاجَةً فِيهَا خَمْرٌ فَيَكْسِرُهَا، أَوْ يَسْلُبَ آلَةَ الْمَلَاهِي مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا وَيَضْرِبَ بِهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُضْرَبُ، أَوْ يُصَابُ بِمَكْرُوهٍ فَهَا هُنَا يُسْتَحَبُّ الْحِسْبَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] . ثُمَّ قَالَ عُمْدَةُ الْحِسْبَةِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: اللُّطْفُ وَالرِّفْقُ وَالْبُدَاءَةُ بِالْوَعْظِ عَلَى سَبِيلِ اللِّينِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْعُنْفِ وَالتَّرَفُّعِ وَالْإِدْلَالِ بِدَلَالَةِ الصَّلَاحِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَكِّدُ دَاعِيَةَ الْمَعْصِيَةِ وَيَحْمِلُ الْعَاصِي عَلَى الْمَنَاكِرِ وَعَلَى الْأَذَى، ثُمَّ إذَا آذَاهُ وَلَمْ يَكُنْ حَسَنَ الْخُلُقِ غَضِبَ لِنَفْسِهِ وَتَرَكَ الْإِنْكَارَ لِلَّهِ وَاشْتَغَلَ بِشِفَاءِ غَلِيلِهِ مِنْهُ فَيَصِيرُ عَاصِيًا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَارِهًا لِلْحِسْبَةِ يَوَدُّ لَوْ تُرِكَتْ الْمَعْصِيَةُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعْتَرِضُ كَانَ ذَلِكَ لَمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ دَلَالَةِ الِاحْتِسَابِ وَعِزَّتِهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا رَفِيقٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ رَفِيقٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ حَلِيمٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ حَلِيمٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ فَقِيهٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ

فصل ينبغي للعالم أن يتحرز من المزاح

فَقِيهٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ» وَوَعَظَ الْمَأْمُونَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاعِظٌ بِعُنْفٍ فَقَالَ يَا رَجُلُ: اُرْفُقْ فَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك إلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي وَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ فَقَالَ لَهُ {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ غُلَامًا شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَتَأْذَنُ لِي فِي الزِّنَا فَصَاحَ النَّاسُ بِهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقِرُّوهُ أَقِرُّوهُ اُدْنُ مِنِّي فَدَنَا مِنْهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتُحِبُّهُ لِأُمِّك فَقَالَ لَا جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، ثُمَّ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتُحِبُّهُ لِابْنَتِك قَالَ لَا قَالَ كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ حَتَّى ذَكَرَ الْأُخْتَ وَالْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ وَهُوَ يَقُولُ كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبَهُ وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ الزِّنَا» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِلْفُضَيْلِ إنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَبِلَ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ فَقَالَ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ إلَّا دُونَ حَقِّهِ، ثُمَّ خَلَا بِهِ وَعَاتَبَهُ بِالرِّفْقِ فَقَالَ يَا أَبَا عَلِيٍّ: إنْ لَمْ نَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ فَإِنَّا نُحِبُّ الصَّالِحِينَ. الْعُمْدَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ قَدْ بَدَأَ بِنَفْسِهِ فَهَذَّبَهَا وَتَرَكَ مَا يَنْهَى عَنْهُ أَوَّلًا. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كُنْت تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ فَلْتَكُنْ مُرَاعِيًا لَهُ قَبْلَ أَخْذِ النَّاسِ بِهِ وَإِلَّا هَلَكْت فَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى حَتَّى يَنْفَعَ كَلَامُهُ وَإِلَّا اُسْتُهْزِئَ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا شَرْطًا بَلْ يَجُوزُ الِاحْتِسَابُ لِلْعَاصِي أَيْضًا. قَالَ أَنَسٌ «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى نَعْمَلَ بِهِ كُلَّهُ قَالَ بَلْ مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلَّهُ وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَجْتَنِبُوهُ كُلَّهُ» ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُرِيدُ أَنْ لَا يَظْفَرَ الشَّيْطَانُ مِنْكُمْ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ وَهُوَ أَنْ لَا تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى تَفْعَلُوا الْأَمْرَ كُلَّهُ يَعْنِي أَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى حَسْمِ بَابِ الْحِسْبَةِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُعْصَمُ مِنْ الْمَعَاصِي [فَصْلٌ يَنْبَغِي للعالم أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الْمِزَاحِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الْمِزَاحِ الْمُخْرِجِ عَنْ حَدِّ الْوَقَارِ وَإِنْ كَانَ الْمِزَاحُ جَائِزًا إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ وَإِبْقَاءِ هَيْبَةِ الْعِلْمِ وَوَقَارِهِ أَلَا

تَرَى إلَى وَاصِفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ وَكَانَ يَمْزَحُ، وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا مِثْلَ «قَوْلِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ لِلَّذِي سَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى جَمَلٍ فَقَالَ لَهُ لَا أَحْمِلُك إلَّا عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ، أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَخَرَجَ إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْمِلَنِي عَلَى جَمَلٍ فَقَالَ لَا أَحْمِلُك إلَّا عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ فَقَالُوا لَهُ وَهَلْ الْجَمَلُ إلَّا وَلَدُ النَّاقَةِ» . وَمِثْلُ «قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمَرْأَةِ الَّتِي شَكَتْ زَوْجَهَا فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا: هُوَ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ فَأَتَتْ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا فَوَجَدَتْهُ نَائِمًا فَجَعَلَتْ تَفْتَحُ عَيْنَيْهِ وَتَنْظُرُ الْبَيَاضَ فَاسْتَفَاقَ مِنْ نَوْمِهِ وَسَأَلَهَا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَأَخْبَرَتْهُ بِكَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا أَمَّا عَلِمْت أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ» ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَرَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي هَذَا الْبَابِ تَخْفِيفًا لِأُمَّتِهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذَا هُوَ تَوْقِيرُ مَجَالِسِ الْعِلْمِ لَا بِالْقُمَاشِ وَحُسْنِ الْمَلْبَسِ بَلْ بِحُسْنِ السَّمْتِ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذِكْرِ الْآدَابِ سَلَفٌ صَالِحٌ مِنْهُمْ الْإِمَامَانِ الْكَبِيرَانِ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَإِنَّمَا ذَكَرْت نُبَذًا مِمَّا احْتَاجَ إلَيْهِ الْوَقْتُ فِي الْأَمْرِ الظَّاهِرِ، وَمَنْ طَلَبَ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ فَلْيَلْتَمِسْهُ فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ، ثُمَّ نَرْجِعُ الْآنَ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ حِينَ خُرُوجِ الْعَالِمِ إلَى الْمَسْجِدِ وَتَحِيَّتِهِ لَهُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْفَرْضِ فَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ مُشْتَغِلًا بِإِلْقَاءِ الْعِلْمِ إذْ ذَاكَ فَلْيَتْرُكْ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ هُوَ وَجُلَسَاؤُهُ وَيَشْتَغِلُونَ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ مَا هُوَ فَرْضٌ يُتْرَكُ لِفَرْضٍ فَيُقَالُ هُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ يُتْرَكُ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ مَالِكٍ مَعَ ابْنِ وَهْبٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ لَهُ مَا الَّذِي قُمْت إلَيْهِ بِأَوْجَبَ عَلَيْك مِنْ الَّذِي قُمْت عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا فِي الْمَسْجِدِ إذْ ذَاكَ، فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ لَهَا رُكُوعٌ قَبْلَهَا فَإِنْ كَانَتْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَهِيَ مِنْ السُّنَنِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُمَا فَرْضًا فَلَهُ

ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنْ يَنْذِرَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِهِمَا فَتَصِيرُ فَرْضًا فِي سُنَّةٍ، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِمَا ثُمَّ يُصَلِّي الْفَرْضَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُفْعَلُ فِيهِ مِنْ اسْتِحْضَارِ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَمِنْ الْآدَابِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا بَعْدَهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِيمَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ، أَوْ يُسْتَحَبُّ وَفِيمَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ، أَوْ يُسْتَحَبُّ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ يَقَعُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي تَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ، أَوْ تَأْخِيرِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ فَيُنْظَرُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمَشْهُودِ وَهُوَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَهُوَ الَّذِي يُتَكَلَّمُ فِيمَا يُفْعَلُ فِيهِ مَا هُوَ الْأَوْلَى بِهِ فِيهِ فَيُقَدَّمُ فِعْلُهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا جَاءَ أَحَدٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةِ عِلْمٍ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَقُولُ يَأْتِي أَحَدُهُمْ فِي صِفَةِ شَيْطَانٍ وَيَسْأَلُ عَنْ مَسْأَلَةِ عِلْمٍ إنْكَارًا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اقْتِدَاءً مِنْهُ بِالسَّلَفِ السَّابِقِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَإِيثَارًا مِنْهُ اشْتِغَالَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالتَّوَجُّهِ وَالْعِبَادَةِ وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى زَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رَاغِبِينَ فِي الْعِلْمِ، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ انْتَشَرُوا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ انْتَشَرُوا فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَالِانْهِمَاكِ عَلَيْهَا غَالِبًا فَقَلَّ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ وَيَأْتُوا الْمَسَاجِدَ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ الَّذِي يُعَلِّمُ الْعِلْمَ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَسَيَأْتِي إذَا كَانَ فِي الْمَدْرَسَةِ، أَوْ غَيْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا فَيَنْبَغِي، أَوْ يَجِبُ إشْغَالُ هَذَا الْوَقْتِ بِالْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ، وَآكَدُهَا الْفِقْهُ وَالْكَلَامُ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يُكْرَهُ وَمَا يُمْنَعُ لَعَلَّهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ وَيَتَعَلَّمُونَ أَحْكَامَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَدْعُوهُمْ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَالْإِصْغَاءِ إلَى فَوَائِدِهِ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَعَهْدِي مِنْ عَادَةِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَغْرِبِ يَأْخُذُونَ الدُّرُوسَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَيَأْتِي الْعَوَامُّ إلَيْهِمْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَكَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الزَّيَّاتُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

فصل ما ينبغي على العالم أثناء السير

أَحَدُ شُيُوخِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ الدَّرْسَ فِي رِسَالَةِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُلِينُ عِبَارَتَهُ لِيُوَصِّلَ إلَى الْعَوَامّ فَهْمَ الْعِلْمِ، وَلَا يَسْمَعُ سُؤَالَ طَالِبٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَقُولُ لَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ دَرْسُ كِتَابِ التَّهْذِيبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنِّي إذَا اشْتَغَلْت بِالْبَحْثِ مَعَكُمْ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ إلَى أَسْبَابِهِمْ وَدَكَاكِينِهِمْ فَهَذِهِ صِفَةُ الْعُلَمَاءِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِمْ وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا جَرَمَ أَنَّ الْعَوَامَّ صَارُوا فِي دَكَاكِينِهِمْ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ بِعِلْمِ مَا يُحَاوِلُونَهُ وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَتَجِدُهُمْ يَبْحَثُونَ فِي دَكَاكِينِهِمْ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي الْمَسَائِلِ حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ لِيُوقِف بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَإِنْ كَانَ هُوَ عَلَى وُضُوءٍ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْ الْإِشْرَاقِ وَتُجْزِئُ عَنْ الضُّحَى إنْ نَوَاهَا وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا فَرْضًا فَعَلَ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فَرَغَ مِنْ مَجْلِسِ الْعِلْمِ عِنْدَ الْإِشْرَاقِ، أَوْ قَبْلَهُ وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهِ فَلَا يَقْطَعُهُ حَتَّى يُتِمَّهُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ فَلْيَرْكَعْ كَمَا سَبَقَ، ثُمَّ يَنْصَرِفْ لِسَبِيلِهِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْآدَابُ فِي خُرُوجِهِ مِنْهُ وَيَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَنْوِيَ سُرْعَةَ الْعُودِ إلَى الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ وَعَدَّ مِنْهُمْ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ» فَإِذَا ذَهَبَ مَارًّا إلَى بَيْتِهِ فَلَهُ فِي رُجُوعِهِ إلَيْهِ نِيَّاتٌ عَدِيدَةٌ تَارَةً تَكُونُ عَلَى الْوُجُوبِ وَتَارَةً تَكُونُ عَلَى النَّدْبِ، فَأَمَّا الْوُجُوبُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ لِيَقُومَ بِالْحَقِّ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَنْ يُرْشِدَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَيَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُمْ وَمَا يَتَعَاطَوْنَهُ فِي فَرْضِهِمْ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ لِمَا وَرَدَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» [فَصَلِّ مَا يَنْبَغِي عَلَى الْعَالم أَثْنَاء السَّيْر] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَشْيِ النَّاسِ مَعَهُ وَمِنْ خَلْفِهِ وَمِنْ وَطْءِ عَقِبِهِ وَتَقْدِيمِهِمْ نَعْلَهُ وَاتِّكَائِهِ عَلَى أَحَدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَثَارُهُ مِنْ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ غَالِبًا، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُتَوَاضِعًا لَكِنْ

فصل ما يجب علي العالم أو يندب له في الطريق حين رجوعه

ظَاهِرُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تُنَافِي ذَلِكَ وَتَجُرُّ إلَى الْمَذْمُومِ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَكَفَى بِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ. قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَضَرُّ مَا عَلَى الْإِنْسَانِ وَطْءُ عَقِبِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ وَوَطْءُ الْعَقِبِ هُوَ الْمَشْيُ خَلْفَهُ [فَصْلٌ مَا يَجِبُ عَلَيَّ الْعَالم أَوْ يُنْدَبُ لَهُ فِي الطَّرِيقِ حِينَ رُجُوعِهِ] (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، أَوْ يُنْدَبُ لَهُ فِي الطَّرِيقِ حِينَ خُرُوجِهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَهُ فِي رُجُوعِهِ [فَصْلٌ مَا يبدأ بِهِ الْعَالم عِنْد دُخُول الْبَيْت] (فَصْلٌ) فَإِذَا بَدَأَ بِدُخُولِ بَيْتِهِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَيُقَدِّمُ الْيَمِينَ وَيُؤَخِّرُ الشِّمَالَ كَمَا وَرَدَ فِي خُرُوجِهِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ ذُكِرَ فَإِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ إنْ كَانُوا حُضُورًا وَإِنْ كَانُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ دُخُولِهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كَامِلَةً لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو فَيَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ الْمَوْلِجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا لِمَا جَاءَ فِيهِ أَيْضًا [فَصْلٌ فِي الْعَالم يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْكَعَ فِي بَيْتِهِ قَبْلَ جُلُوسِهِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْكَعَ فِي بَيْتِهِ قَبْلَ جُلُوسِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا» وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا فَرْضًا كَمَا تَقَدَّمَ [فَصْلٌ فِي وُجُوب تَعْلِيم الْعَالم أَهْلِهِ الْعِلْم] فَصْلٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَهْلَهُ بِمَسَائِلِ الْعِلْمِ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ تَعْلِيمِ غَيْرِهِمْ طَلَبًا لِثَوَابِ إرْشَادِهِمْ فَخَاصَّتُهُ وَمَنْ تَحْتَ نَظَرِهِ آكَدُ؛ لِأَنَّهُمْ رَعِيَّتُهُ وَمِنْ الْخَاصَّةِ بِهِ كَمَا سَبَقَ " كُلُّكُمْ رَاعٍ " الْحَدِيثَ، فَيُعْطِيهِمْ نَصِيبَهُمْ فَيُبَادِرُ لِتَعْلِيمِهِمْ لِآكَدِ الْأَشْيَاءِ فِي الدِّينِ أَوَّلًا وَأَنْفَعِهَا وَأَعْظَمِهَا فَيُعَلِّمُهُمْ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَيُجَدِّدُ عَلَيْهِمْ عِلْمَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوهُ وَيُعَلِّمُهُمْ الْإِحْسَانَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْوُضُوءَ وَالِاغْتِسَالَ وَصِفَتَهُمَا وَالتَّيَمُّمَ وَالصَّلَاةَ وَمَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ، وَكُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ

فصل في آكد الأشياء وأهمها للعالم

سَمِعْتُ سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَمَّا أَنْ تَأَهَّلْت قُلْت لِلزَّوْجَةِ لَا تَتَحَرَّكِي، وَلَا تَتَكَلَّمِي بِكَلِمَةٍ فِي غَيْبَتِي إلَّا وَتَعْرِضِيهَا عَلَيَّ حِينَ آتِي لِأَنِّي مَسْئُولٌ عَنْ تَصَرُّفِك كُلِّهِ، كُنْت مَسْئُولًا عَنْ نَفْسِي لَيْسَ إلَّا وَأَنَا الْآنَ مَسْئُولٌ عَنْ نَفْسِي وَعَنْكِ فَأُسْأَلُ عَنْ عَشْرِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ، وَكُلُّ مَا أَنَا مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَغَيْرِهَا حَتَّى بَالَغَ مَعَهَا بِأَنْ قَالَ لَهَا إنْ نَقَلْتِ الْكُوزَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَأَخْبِرِينِي بِهِ قَالَ وَذَلِكَ خِيفَةً مِنْ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ تَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِيهِ فَبَقِيَتْ تُخْبِرُنِي بِكُلِّ تَصَرُّفِهَا إلَى أَنْ طَالَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَبَقِيَتْ تُخْبِرُنِي بِمَا يَظْهَرُ لَهَا أَنَّ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةٌ وَتَسْكُتُ عَنْ الْبَاقِي فَوَجَدْت نَفْسِي قَلِقًا خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ فِيهِ فَائِدَةً قَدْ يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ فَبَقِيت إذَا دَخَلْت الْبَيْتَ يُنْطِقُ اللَّهُ لِي جِدَارَ الْبَيْتِ حِينَ أَدْخُلُ فَيَقُولُ لِي جَمِيعَ تَصَرُّفِهَا فَأَجْلِسُ فَتَعْرِضُ عَلَيَّ كُلَّ مَا تُرِيدُهُ مِمَّا يَظْهَرُ لَهَا أَنَّ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَأَقُولُ لَهَا هَلْ بَقِيَ شَيْءٌ فَتَقُولُ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهَا هُوَ ذَاكَ، فَأَقُولُ لَهَا وَفَعَلْت كَذَا وَكَذَا وَأَذْكُرُ لَهَا بَقِيَّةَ تَصَرُّفِهَا فَتَقُولُ: أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ الْبَابُ عَلَيَّ مُغْلَقًا، وَلَا أَجِدُ مَعِي فِي الْبَيْتِ أَحَدًا، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلْته فَمَنْ أَخْبَرَك فَمَا بَقِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةٍ حَتَّى تُخْبِرَنِي فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا كَيْفِيَّةَ نَظَرِهِمْ إلَى تَخْلِيصِ ذِمَمِهِمْ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ فَهِمُوا مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» وَعَمِلُوا بِهِ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ وَأَعَادَ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ [فَصْلٌ فِي آكَدِ الْأَشْيَاءِ وَأَهَمِّهَا للعالم] (فَصْلٌ) وَمِنْ آكَدِ الْأَشْيَاءِ وَأَهَمِّهَا تَفَقُّدُ الْقِرَاءَةِ إذْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامِ وَاجِبَةٌ وَسُنَّةٌ وَفَضِيلَةٌ فَالْوَاجِبَةُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ بِجَمِيعِ حُرُوفِهَا وَحَرَكَاتِهَا وَشَدَّاتِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحْكِمْ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا وَالسُّنَّةُ سُورَةٌ مَعَهَا وَالْفَضِيلَةُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَعْنِي فِي غَيْرِ الْفَرَائِضِ؛ لِأَنَّ أَفْضَلَهَا

طُولُ الْقِيَامِ فِيهَا. أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَيْثُ قَالَ «فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ النِّسَاءِ، ثُمَّ الْمَائِدَةِ حَتَّى سَمِعْت هَذَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ رَكَعَ» . وَحَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَةِ الْوِتْرِ الْخَتْمَةَ كُلَّهَا، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ فِي وَلَدِهِ وَعَبْدِهِ وَأَمَتِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِهِمْ عُجْمَةٌ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى النُّطْقِ فَلَا حَرَجَ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالتَّصْرِيحِ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ الصَّلَاةَ وَالْقِرَاءَةَ وَمَا يَحْتَاجَانِ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دِينِ هِمَا كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ إذْ لَا فَرْقَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ رَعِيَّتِهِ، وَقَدْ كَثُرَ الْجَهْلُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ بِهَذَا الْمَعْنَى حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ لَا حَظَّ لَهُمَا فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَذْكُرُ شَيْئًا لَوْ اعْتَقَدَهُ لَكَانَ كُفْرًا لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ جَهْلٌ وَسَخَفٌ وَبِدْعَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهُ وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ وَهُوَ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ صَلَاةَ الْعَبْدِ وَصَوْمَهُ وَبَاقِيَ عِبَادَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ لِسَيِّدِهِ، أَوْ لِسَيِّدَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ. وَكَذَلِكَ يُعَلِّمُهُنَّ مَا يَخُصُّهُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي الْحَيْضِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَرِّفَهُنَّ أَنَّ الْحَيْضَ عَلَى سِتِّ مَرَاتِبَ: أَوَّلُهُ أَسْوَدُ، ثُمَّ حُمْرَةٌ، ثُمَّ صُفْرَةٌ، ثُمَّ غُبْرَةٌ، ثُمَّ كُدْرَةٌ، ثُمَّ قَصَّةٌ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ فَتَصِيرُ جَافَّةً، فَالْخَمْسَةُ الْأُوَلُ حَيْضٌ وَالْقَصَّةُ وَالْجُفُوفُ نَقَاءٌ وَكَثِيرًا مَا يُتَسَاهَلُ الْيَوْمَ فِي هَذَا الْبَابِ لِقِلَّةِ سُؤَالِهِنَّ وَمَنْ يُعَلِّمُهُنَّ، فَمِنْهُنَّ مَنْ تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ إنَّمَا يَحْرُمُ فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَأَمَّا الصُّفْرَةُ وَالْغُبْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فَلَا بَأْسَ بِالْوَطْءِ فِيهَا عِنْدَهُمْ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَطْءَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الْأُوَلِ وَبَعْدَهَا يَجُوزُ الْوَطْءُ وَمِنْهُنَّ مَنْ تَعْتَقِدُ أَنَّ مُدَّةَ الْحَيْضِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ فَإِنْ رَأَتْ الطُّهْرَ قَبْلَ مُضِيِّهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ وَانْتَظَرَتْ

تَمَامَهَا دُونَ غُسْلٍ وَصَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَوَطْءٍ، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ وَصَامَتْ وَوُطِئَتْ مَعَ وُجُودِ الْحَيْضِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» انْتَهَى فَيَسْتَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَتَغَفُّلِ الْأَزْوَاجِ، ثُمَّ يُعَلِّمُهُنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَأَقَلَّهَا وَمَا بَيْنَهُمَا وَيُعَرِّفُهُنَّ مَا إذَا رَأَتْ الطُّهْرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ خَمْسِ رَكَعَاتٍ إلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَلْ يُقَدَّرُ لَهَا قَدْرَ زَمَنِ الْغَسْلِ بِلَا تَرَاخٍ، أَوْ زَمَنِ الرَّكَعَاتِ، وَكَذَا إذَا رَأَتْ الطُّهْرَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالصُّبْحُ إلَى أَنْ يَبْقَى لَهَا مِقْدَارُ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيُحَقِّقُ لَهُنَّ الطُّهْرَ بِمَاذَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ يَخْتَلِفْنَ فِي هَذَا فَوَاحِدَةٌ يَكُونُ طُهْرُهَا بِالْجُفُوفِ وَأُخْرَى يَكُونُ طُهْرُهَا بِالْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَيُعَلِّمُهُنَّ أَيْضًا مَوَانِعَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً مِنْهَا عَشَرَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ وَهِيَ: مَنْعُ رَفْعِ حَدَثِهَا مِنْ حَيْضَتِهَا. وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ صِحَّةُ فِعْلِهَا. صِحَّةُ فِعْلِ الصَّوْمِ دُونَ وُجُوبِهِ. مَسُّ الْمُصْحَفِ. دُخُولُ الْمَسْجِدِ. الِاعْتِكَافُ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ. الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ. الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ. وَمِنْهَا خَمْسَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَهِيَ: مَنْعُ وَطْئِهَا فِيمَا تَحْتَ الْإِزَارِ. مَنْعُ وَطْئِهَا بَعْدَ النَّقَاءِ وَقَبْلَ الْغُسْلِ الْمَشْهُورُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ. الثَّالِثُ مَنْعُ رَفْعِ حَدَثِ غَيْرِهَا. مَنْعُ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ مَائِهَا. قِرَاءَتُهَا الْقُرْآنَ ظَاهِرًا الْمَشْهُورُ الْجَوَازُ، وَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا هَذَا وَهِيَ أَنْ تَقْعُدَ الْمَرْأَةُ بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِهَا فَتَطْلُبَ الصَّابُونَ فِي يَوْمٍ وَتَغْسِلَ ثِيَابَهَا فِي الثَّانِي وَتَغْتَسِلَ فِي الثَّالِثِ وَتُصَلِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَتَقْعُدُ مُدَّةً بِغَيْرِ صَلَاةٍ فِي ذِمَّتِهَا، ثُمَّ تَرْتَكِبُ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَهِيَ أَنَّهَا لَا تُصَلِّي إلَّا مَا أَدْرَكَتْهُ بَعْدَ غُسْلِهَا، وَلَا تَقْضِي مَا فَوَّتَتْهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ مُتَعَمِّدًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهَا حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ هَلْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ أَمْ لَا سَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّهُ هَلْ

هُوَ مُرْتَدٌّ، أَوْ مُسْلِمٌ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مُرْتَدٌّ قَالَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَيَعُودُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ مُرْتَكِبٌ لِكَبِيرَةٍ عُظْمَى فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ وَيَقْضِيَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إلَّا أَنْ تَظْهَرَ اسْتِقَامَتُهُ. وَكَذَلِكَ يُنَبِّهُهُنَّ أَيْضًا عَلَى مَا إذَا تَمَادَى بِهَا الدَّمُ وَزَادَ عَلَى عَادَتِهَا وَانْقَطَعَ، وَحُكْمُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَمَادَى بِهَا وَلَمْ يَنْقَطِعْ وَهِيَ الْمُسْتَحَاضَةُ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُنَبِّهَهُنَّ عَلَى مَا يَفْعَلُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّهُنَّ إذَا انْقَطَعَ الْحَيْضُ عَنْ إحْدَاهُنَّ خَرَجَتْ إلَى الْحَمَّامِ فَتَغْتَسِلُ فِيهِ، وَهِيَ لَا تَدْرِي أَحْكَامَ الْغُسْلِ وَمَا يَلْزَمُهَا فِيهِ بَلْ تُنَظِّفُ جَسَدَهَا وَتَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، فَلَوْ صَلَّتْ بِهَذَا الْغُسْلِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهَا، وَلَا يَحِلُّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا إذْ أَنَّهَا لَمْ تَغْتَسِلْ بَعْدُ مِنْ حَيْضَتِهَا الْغُسْلَ الشَّرْعِيَّ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ تَغْتَسِلَ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ مِنْ حَيْضَتِهَا، أَوْ جَنَابَتِهَا، أَوْ هُمَا مَعًا، فَإِذَا نَوَتْ النِّيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فَقَدْ صَحَّ غُسْلُهَا وَاسْتَبَاحَتْ الصَّلَاةَ وَالْوَطْءَ وَكُلَّ مَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْهُ فِي حَالِ حَيْضِهَا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إزَالَةِ الْوَسَخِ، أَوْ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّ الْغُسْلَ إنَّمَا هُوَ بِدُخُولِ الْحَمَّامِ وَالتَّنَظُّفِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِجَهْلِهِنَّ بِالْحُكْمِ فِي ذَلِكَ وَيُنَبِّهُهُنَّ عَلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ النِّسَاءِ بَلْ الْمُحَرَّمَةِ وَهِيَ أَنَّهُنَّ يَعْتَقِدْنَ أَنَّ إحْدَاهُنَّ لَا تَطْهُرُ حَتَّى تُدْخِلَ يَدَهَا فِي فَرْجِهَا وَتَغْسِلَ دَاخِلَهُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَا غُسْلَ لَهَا فَجَرَّتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ إلَى مُحَرَّمٍ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهَا إذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا وَلَمْ تَغْتَسِلْ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهِيَ لَمْ تَغْتَسِلْ فَتَتْرُكْ الْغُسْلَ نَهَارًا مُحَافَظَةً مِنْهَا عَلَى صِحَّةِ الصَّوْمِ بِسَبَبِ أَنَّهَا تُفْطِرُ بِإِدْخَالِ يَدِهَا فِي فَرْجِهَا، فَلَوْ أَنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ هَذَا الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ اغْتَسَلَتْ نَهَارًا وَحَصَلَ لَهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ مَعًا عَلَى أَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ نَهَارًا لَصَحَّ صَوْمُهَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ فِعْلِهَا هَذَا الْمُحَرَّمَ الشَّنِيعَ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْطِرُ بِذَلِكَ عِنْدَهُ وَيَنْتَقِضُ بِهِ وُضُوءُهَا دُونَ غُسْلِهَا؛ لِأَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ -

لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَمَسُّ فَرْجَهَا هَلْ عَلَيْهَا وُضُوءٌ أَمْ لَا فَقَالَ: إنْ أَلْطَفَتْ فَعَلَيْهَا الْوُضُوءُ قِيلَ وَمَا مَعْنَى أَلْطَفَتْ قَالَ أَنْ تَفْعَلَ كَمَا يَفْعَلُ شِرَارُ النِّسَاءِ وَهِيَ أَنْ تُدْخِلَ أُصْبُعَهَا مَعَهَا انْتَهَى. وَسَبَبُ هَذَا عَدَمُ الْعِلْمِ وَعَدَمُ الْفَهْمِ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْتَسِلُ مِنْ الْحَيْضِ قَالَ: خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً وَتَوَضَّئِي ثَلَاثًا، ثُمَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَحَى وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ، أَوْ قَالَ تَوَضَّئِي بِهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَخَذْتُهَا فَجَذَبْتُهَا فَأَخْبَرْتهَا بِمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» انْتَهَى. وَذَلِكَ أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ لَهُ رَائِحَةٌ فَقَدْ يَشُمُّهَا الرَّجُلُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْفِرَاقِ، وَالْوُضُوءُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَضَاءَةِ يُقَالُ: وَجْهٌ وَضِيءٌ أَيْ حَسَنٌ نَظِيفٌ فَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ تَنْظِيفُ الْمَحَلِّ وَتَطْيِيبُهُ، وَصِفَةُ مَا تَفْعَلُ أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُطْنِ، أَوْ غَيْرِهِ فَتَجْعَلُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْمِسْكِ وَلَوْ قَلَّ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الطِّيبِ إنْ تَعَذَّرَ الْمِسْكُ فَتُرْسِلَهُ مَعَهَا بِرِفْقٍ وَتَلْحِمُ عَلَيْهِ بِحَفَّاضٍ وَتَتْرُكُهُ حَتَّى تَظُنَّ أَنَّ مَا فِي الْمَحَلِّ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ هَكَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَيْسَ هُوَ غَسْلُ بَاطِنِ الْفَرْجِ بِالْمَاءِ كَمَا يَزْعُمْنَ. وَمَعَ ذَلِكَ فَفِيهِ أَذِيَّةُ لَهَا وَلِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إذَا وَصَلَ إلَى بَاطِنِ الْفَرْجِ مَعَ الْأَصَابِعِ أَرْخَى الْمَحَلَّ وَبَرَّدَهُ وَوَسَّعَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَكَيْفَ مَعَ وُجُودِ الضَّرَرِ وَالْإِخْلَالِ بِالْفَرْضِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَالسُّنَّةُ فِي حَقِّهَا أَنْ تَغْسِلَ الْمَحَلَّ كَمَا تَغْسِلُهُ الْبِكْرُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ لَا تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ وَغَيْرَهُنَّ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَعْلِيمُهُنَّ بِمَا أَحْدَثَ بَعْضُ النِّسَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِمَّنْ لَهَا مَنْظَرٌ وَسِمَنٌ فَتَخَافُ إنْ صَامَتْ أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُ جَمَالِهَا، أَوْ سِمَنِهَا فَتُفْطِرُ خِيفَةً مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ اسْتِحْلَالًا فَتَكْفُرُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهَا عَلَى اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ فَهِيَ مُرْتَكِبَةٌ لِمَعْصِيَةٍ كُبْرَى يَجِبُ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: التَّوْبَةُ، وَالْقَضَاءُ

وَالْكَفَّارَةُ وَتُؤَدَّبُ إنْ عَثَرَ عَلَيْهَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فَيَحْتَاجُ الْعَالِمُ أَنْ يَتَبَتَّلَ لِتَعْلِيمِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِلْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] إلَى قَوْلِهِ {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» فَسَوَّى بَيْنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ تَجِدُ أَوْلَادَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ وَإِمَاءَهُمْ فِي غَالِبِ أَمْرِهِمْ مُشْتَرَكِينَ فِي هَذِهِ الْفَضَائِلِ كُلِّهَا. أَلَا تَرَى إلَى بِنْتِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا أَنْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا وَكَانَ مِنْ أَحَدِ طَلَبَةِ وَالِدِهَا فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ أَخَذَ رِدَاءَهُ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: إلَى أَيْنَ تُرِيدُ فَقَالَ: إلَى مَجْلِسِ سَعِيدٍ أَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ فَقَالَتْ: لَهُ اجْلِسْ أُعَلِّمُكَ عِلْمَ سَعِيدٍ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْمُوَطَّأَ فَإِنْ لَحَنَ الْقَارِئُ فِي حَرْفٍ، أَوْ زَادَ، أَوْ نَقَصَ تَدُقُّ ابْنَتُهُ الْبَابَ فَيَقُولُ أَبُوهَا لِلْقَارِئِ ارْجِعْ فَالْغَلَطُ مَعَك فَيَرْجِعُ الْقَارِئُ فَيَجِدُ الْغَلَطَ. وَكَذَلِكَ مَا حُكِيَ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَأَنَّهُ اشْتَرَى خَضِرَةً مِنْ جَارِيَةٍ وَكَانُوا لَا يَبِيعُونَ الْخَضِرَةَ إلَّا بِالْخُبْزِ فَقَالَ لَهَا: إذَا كَانَ عَشِيَّةً حِينَ يَأْتِينَا الْخُبْزُ فَائْتِينَا نُعْطِيك الثَّمَنَ فَقَالَتْ: ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَقَالَ لَهَا: وَلِمَ فَقَالَتْ: لِأَنَّهُ بَيْعُ طَعَامٍ بِطَعَامٍ غَيْرُ يَدٍ بِيَدٍ فَسَأَلَ عَنْ الْجَارِيَةِ فَقِيلَ لَهُ إنَّهَا جَارِيَةُ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ كَانَ حَالُهُمْ وَإِنَّمَا عَيَّنْت مَنْ عَيَّنْت تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ، وَقَدْ كَانَ فِي زَمَانِنَا هَذَا سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَرَأَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ الْخَتْمَةَ فَحَفِظَتْهَا. وَكَذَلِكَ رِسَالَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَنِصْفُ الْمُوَطَّإِ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَكَذَلِكَ ابْنَتَاهَا قَرِيبَانِ مِنْهَا فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي زَمَانِنَا فَمَا بَالُكَ بِزَمَانِ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَحْمِلُ أَهْلَهُ وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ فَيَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ جُهْدَهُ فَإِنَّهُمْ

فصل في آداب الأكل

آكَدُ رَعِيَّتِهِ وَأَوْجَبُهُمْ عَلَيْهِ وَأَوْلَاهُمْ بِهِ فَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. [فَصْلٌ فِي آدَابِ الْأَكْلِ] ِ وَيَتَحَرَّزُ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ طَعَامٌ خَاصٌّ بِهِ وَزُبْدِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِهِ وَكُوزٌ خَاصٌّ بِهِ أَلَا تَرَى حَدِيثَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كُنْت أَشْرَبُ مِنْ الْإِنَاءِ فَيَأْخُذُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَشْرَبُ مِنْهُ فَيَضَعُ فَاهُ فِي مَوْضِعِ فِي» انْتَهَى. وَهَذَا تَشْرِيعٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِتَغْتَنِمَ أُمَّتُهُ بَرَكَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَتَكُونُ مَنْفَعَتُهُمْ عَامَّةً بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سُؤْرُ الْمُؤْمِنِ شِفَاءٌ» فَيُحْرَمُ الْمِسْكِينُ هَذِهِ الْبَرَكَةَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيَالِهِ» انْتَهَى فَإِذَا كَانَ لَهُ طَعَامٌ خَاصٌّ بِهِ فَهُوَ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ نَفْسِهِ فَكَيْفَ بِالْعَالِمِ الَّذِي هُوَ إمَامُهُمْ وَقُدْوَتُهُمْ وَهَذِهِ دَسِيسَةٌ مِنْ دَسَائِسِ إبْلِيسَ دَسَّهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِوَاسِطَةِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُنَّ يَجِدْنَ السَّبِيلَ إلَى إطْعَامِ الرَّجُلِ مَا يَخْتَرْنَ مِنْ السِّحْرِ وَغَيْرِهِ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ وَدِينِهِنَّ إذْ أَنَّهُنَّ مَصَائِدُ الشَّيْطَانِ وَغَيْرَتُهُنَّ تَحْمِلُهُنَّ عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ يُشَارِكُهُنَّ فِي الْأَكْلِ مَا وَجَدَ إبْلِيسُ لِفَتْحِ هَذَا الْبَابِ مِنْ سَبِيلٍ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى شَيْنِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ تَجُرُّ إلَى مُحَرَّمَاتٍ، وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ فَاعِلَهُ مُتَّصِفٌ بِالْكِبْرِ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى النَّاسِ بِالتَّوَاضُعِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْمُبَادَرَةِ إلَيْهَا وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الْأَكْلِ وَحْدَهُ لِمَا وَرَدَ «شَرُّ النَّاسِ مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ وَضَرَبَ عَبْدَهُ وَمَنَعَ رِفْدَهُ» انْتَهَى اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ حَمِيَّةٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ صَوْمٍ، أَوْ وِصَالٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَدْ خَرَجَ هَذَا عَنْ هَذَا الْبَابِ إلَى بَابِ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُخَلَّى مَنْ أَتَاهُ بِطَعَامٍ أَنْ يُذِيقَهُ مِنْهُ شَيْئًا مَا وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامٍ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً

فصل غسل اليد عند الأكل

أَوْ لُقْمَتَيْنِ، أَوْ أَكْلَةً، أَوْ أَكْلَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ» انْتَهَى. وَمَا ذَاكَ إلَّا لِقُوَّةِ بَاعِثِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْخَادِمِ، وَلَا فَرْقَ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ بَيْنَ الْخَادِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُبَاشِرُ ذَلِكَ، أَوْ يَرَاهُ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْأَكْلِ وَالْعَيْنَانِ تَنْظُرَانِ» حَتَّى لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ هِرٌّ، أَوْ كَلْبٌ فَقَدْ جَعَلَهُ الْعُلَمَاءُ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ مَنْ عَمِلَ لَهُ الطَّعَامَ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ فَلْيُنَاوِلْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ مَا يُنَاوِلُهُ مِنْ أَوَّلِهِ لَا مَنْ فَضْلَتِهِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الْأَكْلِ وَأَحَدٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ إذْ ذَاكَ فَإِنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ قَلَّ إنْ سَلِمَ مِنْ وُجُودِ الْكِبْرِ، وَكَثِيرٌ مَنْ يَفْعَلُ الْيَوْمَ هَذَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الذُّبَابُ كَثِيرًا فَيَقُومُ شَخْصٌ عَلَى رُءُوسِ الْآكِلِينَ فَيَنُشُّ عَلَيْهِمْ وَيُرَوِّحُ وَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ، فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فَلْيَكُنْ فَاعِلُهُ جَالِسًا حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ وَمِنْ الْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ عَبْدَهُ، أَوْ أَمَتَهُ، أَوْ كَائِنًا مَنْ كَانَ [فَصْلٌ غَسَلَ الْيَد عِنْد الْأَكْلَ] (فَصْلٌ) فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ يَدُهُ نَظِيفَةً أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ نَظِيفَةً فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْغَسْلِ، أَوْ التَّرْكِ، وَالْغَسْلُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الْتِزَامَهُ أَعْنِي الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ فَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِهِ شَيْءٌ، أَوْ حَكَّ بَدَنَهُ، أَوْ مَسَّ عَرَقَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الْغَسْلُ قَبْلَ الطَّعَامِ يَنْفِي الْفَقْرَ وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ» يَعْنِي الْجُنُونَ وَيَنْوِي بِغَسْلِهِ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ، وَهَذَا فِيمَا كَانَ لَهُ مِنْ الطَّعَامِ دَسَمٌ، فَإِنْ يَكُنْ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ الْغَسْلِ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَمَنْدَلُونَ بِأَقْدَامِهِمْ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهَا وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى تَرْفِيعِهِمْ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ فِي الْيَدِ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ الطَّعَامِ مَا تَمَنْدَلُوا بِالْأَقْدَامِ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِلَعْقِ الْيَدِ بَعْدَ الْأَكْلِ، أَوْ يُلْعِقُهَا أَخَاهُ، وَقَدْ «أَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَصْعَةً بَقِيَ لُعَاقُهَا قَالَ فَلَعِقْتُهَا فَشَبِعْت» ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ لَهُ، وَقَدْ رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ مَالِكٍ

أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَجَلَسَ سَاعَةً، ثُمَّ دَعَا بِالطَّعَامِ وَدَعَا بِالْوَضُوءِ لِغَسْلِ يَدِهِ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ ابْدَءُوا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَغْسِلُ فَقَالَ مَالِكٌ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَا يَغْسِلُ يَدَهُ فَاغْسِلْ أَنْتَ يَدَك فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ لِمَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَدْرَكْت عَلَيْهِ أَهْلَ بَلَدِنَا وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زِيِّ الْعَجَمِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ إيَّاكُمْ وَزِيَّ الْعَجَمِ وَأُمُورَهَا، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إذَا أَكَلَ مَسَحَ يَدَهُ بِظَهْرِ قَدَمَيْهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ أَفَتَرَى لِي تَرْكَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إيْ وَاَللَّهِ فَمَا عَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ إلَى ذَلِكَ انْتَهَى. فَإِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى آدَابٍ مِنْهَا أَنْ يُشْعِرَ نَفْسَهُ فَيَنْظُرَ فِيمَا حَضَرَهُ كَمْ مِنْ عَالَمٍ عُلْوِيٍّ وَسُفْلِيٍّ خَدَمَهُ فِيهِ لِمَا قِيلَ: إنَّ الرَّغِيفَ لَا يَحْضُرُ بَيْنَ يَدَيْ آكِلِهِ حَتَّى يَخْدُمَ فِيهِ ثَلَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عَالِمًا عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ فَإِذَا أَشْعَرَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ فَيَعْلَمُ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي إحْضَارِ هَذَا الرَّغِيفِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُقَدِّرُ شُكْرَهَا بِأَنْ يَعْلَمَ مَا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ النِّعَمِ وَعَجْزَهُ عَنْ شُكْرِهَا. ثُمَّ الْأَكْلُ فِي نَفْسِهِ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ: وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ، فَالْوَاجِبُ مَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ لِأَدَاءِ فَرْضِ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْمَنْدُوبُ مَا يُعِينُهُ عَلَى تَحْصِيلِ النَّوَافِلِ وَعَلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَاتِ، وَالْمُبَاحُ الشِّبَعُ الشَّرْعِيُّ وَالْمَكْرُوهُ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ قَلِيلًا وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ، وَالْمُحَرَّمُ الْبِطْنَةُ وَهُوَ الْأَكْلُ الْكَثِيرُ الْمُضِرُّ لِلْبَدَنِ وَرُتْبَةُ الْعَالِمِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَكْلِ الْمُبَاحِ وَالْمَنْدُوبِ، وَقَدْ سَبَقَ حَدُّهُمَا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ فَلْيَقُلْ عِنْدَهُ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ أَوْ مَعَهَا كَيْفِيَّةَ السُّلُوكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَكْلِهِ فَيَنْوِيَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَكْلِهِ ذَلِكَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ» انْتَهَى. وَيُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ الِافْتِقَارِ وَالْحَاجَةِ

وَالْإِضْرَارِ وَالْمَسْكَنَةِ مَعَ نِيَّةِ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ الْمُتَقَدِّمِي الذِّكْرِ فِي التَّقْسِيمِ، وَنَوْعٌ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالتَّعَلُّقِ بِمَوْلَاهُ وَالشُّكْرِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ فِي أَكْلِهِ وَفِي تَخْلِيصِهِ مِنْ آفَةِ أَكْلِهِ فَإِنَّ لَهُ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالطَّعَامِ وَآخَرَ بِالشَّرَابِ فَإِذَا أَخَذَ لُقْمَةً سَوَّغَهَا لَهُ الْمَلَكُ وَمِثْلُهُ فِي الشَّرَابِ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَشْرَقُ تَخَلَّى عَنْهُ الْمَلَكُ بِإِذْنِ رَبِّهِ حَتَّى يَنْفُذَ فِيهِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي تَسْوِيغِ هَذِهِ اللُّقْمَةِ وَالشَّرْبَةِ فَكَيْفَ بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُفَكِّرُ فِي حَالِهِ حِينَ الْأَكْلِ إذْ أَنَّهُ مُتَوَقَّعٌ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ وَفِي كُلِّ شَرْبَةٍ، وَكَثِيرٌ مَنْ جَرَى لَهُ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى فِي مَجْلِسِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حِينَ قَالَ: إنَّ اللَّهَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ بِالنِّعَمِ قَتَلَ بِالنِّعَمِ وَلَوْ كَانَ مَا كَانَ، أَوْ كَمَا قَالَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَيَقْتُلُ بِالزُّبْدِ فَقَالَ نَعَمْ فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ الْمَجْلِسِ قَالَ: مَا أَتَغَدَّى الْيَوْمَ إلَّا بِالزُّبْدِ حَتَّى أَرَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ أَأَحَدٌ يَمُوتُ بِالزُّبْدِ فَأَخَذَ خُبْزًا وَزُبْدًا وَجَاءَ إلَى بَيْتِهِ فَرَفَعَ لُقْمَةً فَأَكَلَهَا فَشَرِقَ بِهَا فَمَاتَ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَنْ طَلَبَ أَهْلَ الْكِتَابِ لِلْمُبَاهَلَةِ فَامْتَنَعُوا «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ فَعَلُوا لَمَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرِيقِهِ» ، أَوْ كَمَا قَالَ: فَإِذَا كَانَ الْمَوْتُ مُتَوَقَّعًا مَعَهُ فِي حَالِ بَلْعِهِ رِيقَهُ فَمَا بَالُكَ بِاللُّقْمَةِ، أَوْ الشَّرْبَةِ، وَالْمَوْتُ مُتَوَقَّعٌ مَعَهُ فِي حَالِ طَلَبِهِ لِلْحَيَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِي غَالِبِ الْحَالِ لَا يَطْلُبُهُمَا النَّاسُ إلَّا لِلْحَيَاةِ، وَقَدْ يَمُوتُ بِهِمَا فَنَفْسُ سَبَبِ الْحَيَاةِ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إنَّ الْمَلَكَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ اللُّقْمَةَ وَالْآخَرَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الشَّرْبَةَ وَظِيفَتُهُمَا التَّسْوِيغُ لَيْسَ إلَّا وَلَهُ مَلَكٌ آخَرُ مُوَكَّلٌ بِالْغِذَاءِ فَيَقْسِمُ قُوتَهُ عَلَى الْبَدَنِ فَيُرْسِلُ لِكُلِّ عُضْوٍ وَجَارِحَةٍ وَعِرْقٍ مَا يَصْلُحُ لَهُ وَيَحْتَمِلُهُ بَعْدَ تَصْفِيَتِهِ فَيُعْطَى اللَّطِيفُ لَطِيفًا وَالْكَثِيفُ كَثِيفًا قُدْرَةُ قَادِرٍ، وَمَلَكٌ آخَرُ يَأْخُذُ مَا لَا قُوتَ فِيهِ وَهُوَ الْفَضْلَةُ فَيُرْسِلُهُ لَلْمُصْرَانِ فَلَوْ بَقِيَ مَعَهُ ذَلِكَ الثُّفْلُ لَمَاتَ بِهِ، أَوْ زَادَ خُرُوجُهُ

عَلَى الْعَادَةِ لَمَاتَ فَهُوَ عَبْدٌ مُفْتَقِرٌ مُضْطَرٌّ مُحْتَاجٌ إلَى شَيْءٍ يَأْكُلُهُ وَإِلَى مَنْ يُسَوِّغُهُ لَهُ وَإِلَى مَنْ يَدْفَعُهُ عَنْهُ. فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَرَقَّبَ الْمَوْتَ عِنْدَ كُلِّ نَفَسٍ؛ لِأَنَّ أَنْفَاسَهُ عَلَيْهِ مَعْدُودَةٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نَعُدُّ عَلَيْهِمْ الْأَنْفَاسَ فَتَصِيرُ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَى شَيْخِهِ لِيَزُورَهُ قَالَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَوَجَدْته يُصَلِّي فَأَوْجَزَ فِي صَلَاتِهِ وَقَالَ لِي مَا حَاجَتُك فَإِنِّي مَشْغُولٌ فَقُلْت لَهُ وَمَا شَغَلَك؟ قَالَ أُبَادِرُ خُرُوجَ رُوحِي وَقَالَ غَيْرُهُ جِئْت إلَى شَيْخِي لِأُسَلِّمَ عَلَيْهِ فَخَرَجَ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَرَأَى فِي كِسَائِي عُقْدَةً فَقَالَ مَا هَذِهِ فَقُلْت أَخِي فُلَانٌ أَعْطَانِي لُوَيْزَاتٍ عَزَمَ عَلَيَّ أَنْ أُفْطِرَ عَلَيْهَا فَقَالَ لِي وَأَنْتَ تَظُنُّ أَنَّك تَعِيشُ إلَى الْمَغْرِبِ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُك بَعْدَهَا أَبَدًا، أَوْ كَمَا قَالَ. وَكَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ يَتَلَفَّتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَالُوا لَهُ لِمَنْ أَنْتَ تَتَلَفَّتُ قَالَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَنْظُرُ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ يَأْتِي لِقَبْضِ رُوحِي وَلِمَصَالِحِ الْإِنْسَانِ مَلَائِكَةٌ عَدِيدَةٌ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِحِفْظِهِ وَحِرَاسَتِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا نَامَ فَهُوَ مَحْرُوسٌ مِنْ الْخَشَاشِ وَالْجَانِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِحِرَاسَتِهِ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِهِ، وَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَمْرًا تَخَلَّوْا عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ دَلِيلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] وَمِنْ مُسْنَدِ ابْنِ قَانِعٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «وَكَّلَ اللَّهُ بِالْعَبْدِ سِتِّينَ وَثَلَاثَمِائَةِ مَلَكٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِالْبَصَرِ سَبْعَةُ أَمْلَاكٍ وَلَوْ وُكِلَ الْعَبْدُ إلَى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَاخْتَطَفَتْهُ الشَّيَاطِينُ» انْتَهَى. فَإِذَا نَظَرَ الْعَبْدُ إلَى هَذِهِ الْحِكَمِ تَبَيَّنَ لَهُ قَدْرُ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ إذْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْفَظُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَتَحْرُسُهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ «أَنَّ الْحَفَظَةَ تَصْعَدُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَقُولُ يَا رَبَّنَا وَكَّلْتَنَا بِعَبْدِك فُلَانٍ، وَقَدْ مَاتَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، أَوْ كَمَا قَالَ فَمَا نَفْعَلُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ

انْزِلَا إلَى قَبْرِهِ وَاعْبُدَانِي وَاكْتُبَا لَهُ ذَلِكَ فِي صَحِيفَتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَانْظُرْ إلَى هَذِهِ الْمِنَّةِ الْعُظْمَى وَالْكَرْمِ الشَّامِلِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ يَا ذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فِي حَالِ أَكْلِهِ وَكَيْفِيَّةِ أَمْرِهِ فَيَكُونُ مَشْغُولًا بِذَلِكَ التَّفَكُّرِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِيءُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ بَقِيَ أَكْلُهُمْ أَكْلَ الْمَرْضَى وَنَوْمُهُمْ نَوْمَ الْغَرْقَى فَيَكُونُ مُشْعِرًا نَفْسَهُ بِذَلِكَ مُتَهَيِّئًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا فَالِاتِّبَاعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى، وَلَا يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ إذْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ فَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُشَرِّعُونَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّبِعِينَ، وَكَذَلِكَ لَا يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِسْمِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَقُولُ فِي أَوَّلِ لُقْمَةٍ بِسْمِ اللَّهِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ وَفِي الثَّالِثَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ يُسَمِّي بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ وَهَذَا مِثْلُ مَا سُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حِينَ قِيلَ لَهُ كَيْفَ نَقُولُ فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، أَوْ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَقُولُ وَبِحَمْدِهِ تَحَفُّظًا مِنْهُ عَلَى الِاتِّبَاعِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إلَى مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إذْ أَنَّهُ ذِكْرٌ حُسْنٌ لَكِنَّ الِاتِّبَاعَ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ أَبَدًا، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ وَهُوَ قَائِمٌ، أَوْ مَاشٍ بَلْ حَتَّى يَجْلِسَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ الْجُلُوسَ إلَى الطَّعَامِ عَلَى الْهَيْئَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يُقِيمَ رُكْبَتَهُ الْيُمْنَى وَيَضَعَ الْيُسْرَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا وَالْهَيْئَةُ الثَّانِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ يُقِيمُهُمَا مَعًا وَالْهَيْئَةُ الثَّالِثَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ يَجْلِسَ كَجُلُوسِهِ لِلصَّلَاةِ، وَأَمَّا جُلُوسُ الْمُتَرَبِّعِ وَالْجَالِسِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ الْكَابِّ رَأْسَهُ عَلَى الطَّعَامِ فَهَاتَانِ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا وَإِنَّمَا كُرِهَ أَنْ يَكُبَّ رَأْسَهُ لِئَلَّا يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ فَضَلَاتِ فَمِهِ فِي الطَّعَامِ سِيَّمَا إذَا كَانَ سُخْنًا فَيَعَافُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ وَيَعَافُهُ غَيْرُهُ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الْعِمَامَةُ كَبِيرَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَنْعِ غَيْرِهِ مِنْ مَدِّ يَدِهِ لِلْمَائِدَةِ، أَوْ

حَصْرِهَا وَكَفَى بِهَاتَيْنِ الْهَيْئَتَيْنِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ فِيهِمَا. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا» قَالَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْسَبُ أَكْثَرُ الْعَامَّةِ أَنَّ الْمُتَّكِئَ هُوَ الْمَائِلُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى مَذْهَبِ الطِّبِّ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْبَدَنِ إذْ كَانَ مَعْلُومٌ أَنَّ الْآكِلَ مَاثِلًا عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ ضَغْطٍ يَنَالُهُ فِي مَجَارِي طَعَامِهِ، وَلَا يُسِيغُهُ، وَلَا يَسْهُلُ نُزُولُهُ إلَى مَعِدَتِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْمُتَّكِئُ هَا هُنَا هُوَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى الْوِطَاءِ الَّذِي تَحْتَهُ وَكُلُّ مَنْ اسْتَوَى قَاعِدًا عَلَى وِطَاءٍ فَهُوَ مُتَّكِئٌ وَالِاتِّكَاءُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوِكَاءِ وَوَزْنُهُ الِافْتِعَالُ وَمِنْهُ الْمُتَّكِئُ وَهُوَ الَّذِي أَوْكَأَ مُقْعَدَتَهُ وَشَدَّهَا بِالْقُعُودِ عَلَى الْوِطَاءِ الَّذِي تَحْتَهُ، وَالْمَعْنَى إنِّي إذَا أَكَلْت لَمْ أَقْعُدْ مُتَّكِئًا عَلَى الْأَوْطِئَةِ وَالْوَسَائِدِ فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَيَتَوَسَّعَ فِي الْأَلْوَانِ وَلَكِنِّي آكُلُ عَلَقَةً وَآخُذُ مِنْ الطَّعَامِ بُلْغَةً فَيَكُونُ قُعُودِي مُتَوَفِّزًا لَهُ. وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْعُدُ مُقْعِيًا وَيَقُولُ: أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ» انْتَهَى. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ الْمُقْعِي هُوَ الَّذِي يُلْصِقُ أَلْيَتَهُ بِالْأَرْضِ وَيَنْصِبُ سَاقَيْهِ انْتَهَى، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ بِيَدِهِ، وَلَا يُدْخِلَ أَصَابِعَهُ فِي فَمِهِ، ثُمَّ يَرُدُّهَا إلَى الْقَصْعَةِ فَإِنَّهُ يُصِيبُهَا شَيْءٌ مِنْ لُعَابِهِ فَيَعَافُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ، أَوْ يَعَافُهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَرَاهُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ جَاهِلًا، أَوْ نَاسِيًا فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ إنْ لَمْ يَكُنْ اكْتَفَى مِنْ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ لَعْقَ الْأَصَابِعِ إنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الطَّعَامِ خَوْفًا مِنْ الِاسْتِقْذَارِ وَحِفْظًا لِنَعَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تُمْتَهَنَ وَطَرَدُوا ذَلِكَ حَتَّى فِي التَّمْرِ قَالُوا: إنَّهُ إذَا أَكَلَ التَّمْرَ يَأْخُذُ نَوَاةَ التَّمْرِ عَلَى ظَهْرِ يَدِهِ فَيُلْقِيهَا، أَوْ يُلْقِيهَا بِفِيهِ خِيفَةً مِنْ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ النَّوَاةَ مِنْ فِيهِ بِبَاطِنِ أَصَابِعِهِ أَنْ يَتَعَلَّقَ لُعَابُهُ بِالتَّمْرَةِ الَّتِي يَرْفَعُهَا ثَانِيًا، وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَهُ نَوًى

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ حَتَّى يَمَسَّهُ الْجُوعُ، وَلَا يَأْكُلَ بِالْعَادَةِ دُونَ أَنْ يَجِدَهُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَطِيبَ لَهُ الْخُبْزُ وَحْدَهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَذُمَّ طَعَامًا لِمَا وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا ذَمَّ طَعَامًا قَطُّ إنْ أَعْجَبَهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ» وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَعْجِلَ عَلَى الْأَكْلِ إذَا كَانَ الطَّعَامُ سُخْنًا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «رُفِعَتْ الْبَرَكَةُ مِنْ ثَلَاثٍ الْحَارِّ وَالْغَالِي وَمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يُطْعِمْنَا نَارًا» وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ بِهَذِهِ الْمَلَاعِقِ، وَلَا بِغَيْرِهَا وَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مُخَالَفَةُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ فِي فَمِهِ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى الطَّعَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِلَّةُ الْمَنْعِ. وَالثَّالِثُ: فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الرَّفَاهِيَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَأَرْبَابُ الْأَعْذَارِ لَهُمْ حُكْمٌ خَاصٌّ بِهِمْ مَعْلُومٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْحَدِيثَ عَلَى الطَّعَامِ فَإِنَّ تَرْكَهُ عَلَى الطَّعَامِ بِدْعَةٌ، وَلَا يُكْثِرُ مِنْهُ فَإِنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ بِدْعَةٌ أَيْضًا وَلِأَنَّهُ قَدْ يَشْغَلُ غَيْرَهُ عَنْ الْأَكْلِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدْعِيَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ الْكَلَامَ، فَإِنَّ الْأُنْسَ بِالْكَلَامِ جَانِبٌ قَوِيٌّ مِنْ الْقِرَى. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَمْزَحَ عَلَى الْأَكْلِ خِيفَةَ أَنْ يَشْرَقَ هُوَ، أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ يَشْتَغِلَ عَنْ ذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اسْتِحْضَارِ ذِكْرِ اللَّهِ وَشُكْرِ النِّعَمِ وَذِكْرِ الْمَوْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ مَهْمَا قَدَرَ عَلَى تَكْثِيرِ الْأَيْدِي عَلَى الطَّعَامِ فَعَلَ لِمَا وَرَدَ «أَنَّ خَيْرَ الطَّعَامِ مَا كَثُرَتْ عَلَيْهِ الْأَيْدِي» وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَجْمِعُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكُ لَكُمْ فِيهِ» وَلِمَا رُوِيَ «مَنْ أَكَلَ مَعَ مَغْفُورٍ غُفِرَ لَهُ» وَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ مِنْ الْفَوَائِدِ: أَحَدُهُمَا: بَرَكَةُ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ. وَالثَّانِي: كَثْرَةُ الْبَرَكَةِ لِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ تَحْصُلُ فِي الطَّعَامِ إذَا حَضَرَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُبَارَكِينَ، أَوْ أَكَلَ مِنْهُ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ مَلَائِكَةٌ مَعَهُ فَبِقَدْرِ عَدَدِ الْجَمَاعَةِ تَتَضَاعَفُ الْمَلَائِكَةُ وَمَهْمَا كَثُرَ عَلَيْهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ ذُنُوبٌ كَانَتْ الْبَرَكَةُ فِيهِ أَكْمَلَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ مِنْ الطَّعَامِ ثُلُثَ بَطْنِهِ وَلِلْمَاءِ الثُّلُثُ وَلِلنَّفَسِ الثُّلُثُ فَهُوَ مِنْ الْآدَابِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَيَنْبَغِي

لَهُ أَنْ يَلْعَقَ الْإِنَاءَ إذَا فَرَغَ الطَّعَامُ مِنْهُ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْقَصْعَةَ تَسْتَغْفِرُ لِلَاعِقِهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ شَبِعَ الشِّبَعَ الشَّرْعِيَّ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَجُوعَ فَيَلْعَقَهَا، أَوْ يَأْتِيَ غَيْرَهُ مُحْتَاجًا فَيَلْعَقَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ يُلْقِمَ زَوْجَتَهُ اللُّقْمَةَ وَاللُّقْمَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَخَدَمِهِ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ أَصْهَارًا كَانُوا، أَوْ ضُيُوفًا، أَوْ أَصْدِقَاءَ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حَتَّى اللُّقْمَةُ يَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِهِ» فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ مَعَ أَنَّ وَضْعَ اللُّقْمَةِ فِي فِي امْرَأَتِهِ لَهُ فِيهَا اسْتِمْتَاعٌ فَغَيْرُهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى الَّذِي هُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ ذَلِكَ إلَّا لِلَّهِ خَالِصًا، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْتَسِبَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَعْنِي إحْضَارَ الطَّعَامِ وَالْإِطْعَامِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الثَّوَابُ ابْتِدَاءً لَكِنْ لَمَّا أَنْ زَادَ هَذَا نِيَّةَ الِاحْتِسَابِ جَعَلَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ الِاحْتِسَابِ صَدَقَةً، فَإِنْ اسْتَحْضَرَ مَعَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ كَانَ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَغْفِرَةُ مَا تَقَدَّمَ كَمَا مَرَّ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَغِّرَ اللُّقْمَةَ وَيُكْثِرَ الْمَضْغَةَ لِلسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لَهُ فِي أَوَّلِ اللُّقْمَةِ أَنْ يَبْدَأَ فِي مَضْغِهَا بِنَاحِيَةِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ هِيَ السُّنَّةُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا» وَهَذَا عَامٌّ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَأْكُلُ كَيْفَ شَاءَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ شَابًّا جَاءَ لِزِيَارَتِهِ فَقَدَّمَ لَهُ شَيْئًا لِلْأَكْلِ فَابْتَدَأَ الْأَكْلَ بِجِهَةِ الْيَسَارِ فَقَالَ لَهُ مَنْ شَيْخُك فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدِي إنَّ نَاحِيَةَ الْيَمِينِ تُوجِعُنِي فَقَالَ لَهُ كُلْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْك وَعَمَّنْ رَبَّاك، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ: إنَّ الشَّخْصَ إذَا وَرَدَ يُعْرَفُ فِي تَصَرُّفِهِ مَنْ هُوَ فَإِنْ كَانَتْ حَرَكَاتُهُ وَسَكَنَاتُهُ عَلَى السُّنَّةِ عُرِفَ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الْعَوَامّ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَنْ سُئِلَ فِي كَمْ يَعْرِفُ الشَّخْصَ قَالَ إنْ سَكَتَ فَمِنْ يَوْمِهِ وَإِنْ نَطَقَ فَمِنْ حِينِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا ذُكِرَ، وَيَنْبَغِي لَهُ

أَنْ لَا يَأْكُلَ إلَّا مِمَّا يَلِيه اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ مَعَ أَهْلِهِ، أَوْ هُوَ الَّذِي أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ فَلَهُ أَنْ يَجُولَ بِيَدِهِ حَيْثُ شَاءَ. وَكَذَلِكَ فِي الْفَاكِهَةِ وَالتَّمْرِ عُمُومًا مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ وَسَطِ الْقَصْعَةِ، وَلَا أَعْلَاهَا بَلْ مِنْ جَانِبِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ اللُّقْمَةُ أَمَاطَ عَنْهَا الْأَذَى وَأَكَلَهَا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَقْرِنَ فِي التَّمْرِ وَمَا أَشْبَهَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ لُقْمَةً حَتَّى يَبْتَلِعَ مَا قَبْلَهَا فَإِنَّ أَخْذَهَا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ مِنْ الشَّرَهِ وَالْبِدْعَةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى الْآكِلِينَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْثِرَ غَيْرَهُ وَيَتْرُكَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَلِهَذِهِ الْمُصْلِحَةِ يَتَفَقَّدُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَيَأْمُرُهُ بِالْأَكْلِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُصَوِّتَ بِالْمَضْغِ، فَإِنْ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَمَكْرُوهٌ كَمَا لَا يُصَوِّتُ بِمَجِّ الْمَاءِ مِنْ الْمَضْمَضَةِ حِينَ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ وَمَكْرُوهٌ أَيْضًا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ عَدَمَ الرِّيَاءِ فِي الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ مَنْ رَاءَى فِي أَكْلِهِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَائِيَ فِي عَمَلِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَصْحَابَهُ أَثْنَوْا عَلَى شَخْصٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مِرَارًا وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَرُدُّ جَوَابًا فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ سُكُوتِهِ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يُرَائِي فِي أَكْلِهِ وَمَنْ رَاءَى فِي أَكْلِهِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَائِيَ فِي عَمَلِهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا أَخَذَ لُقْمَةً لَا يَرُدُّ بَعْضَهَا إلَى الصَّحْفَةِ خِيفَةً مِنْ إصَابَةِ لُعَابِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا وَلَكِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْعَالِمِ فِي الْأَكْلِ رُتْبَتَيْنِ قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا قَبْلُ فَإِذَا كَانَتْ الْأَلْوَانُ اسْتَدْعَى ذَلِكَ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى رُتْبَتَيْهِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ لَوْنٍ شَهْوَةً بَاعِثَةً غَالِبًا فَإِنْ كَانَ عَمَلُ الْأَلْوَانِ لِأَجْلِ شَهْوَةِ عِيَالِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ فَلَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ لَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَوْنًا وَاحِدًا مِنْ الطَّعَامِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ وَبَيْنَ شَهْوَةِ مَنْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَدَّمَ إلَيْهِ أَلْوَانَ طَعَامٍ فَفَرَّغَ الْجَمِيعَ فِي صَحْفَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ خَلَطَهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَكَلَ تَحَفُّظًا مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ وَيَنْبَغِي

لَهُ أَنْ يُقَابِلَ الْأَطْعِمَةَ فَيَأْكُلُ ثَقِيلًا بِخَفِيفٍ وَرَطْبًا بِيَابِسٍ وَحَارًّا بِبَارِدٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْسِمَ الصَّائِمُ أَكْلَهُ بَيْنَ الْفُطُورِ وَالسُّحُورِ فَيَسْلَمُ مِنْ الشِّبَعِ وَيَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُتَابِعَ الشَّهَوَاتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُسْرِفَ فِي الْأَكْلِ، وَعَلَامَتُهُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ وَهُوَ يَشْتَهِيهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَنْهَشَ الْبِضْعَةَ وَيَرُدَّهَا فِي الْقَصْعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُسْتَقْذَرٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْكُلَ عَلَى حَائِلٍ عَنْ الْأَرْضِ، وَلَا يَأْكُلُ عَلَى هَذِهِ الْأَخْوِنَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ وَفِيهَا نَوْعٌ مِنْ الْكِبْرِ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ أَنَّ أَوَّلَ مَا حَدَثَ مِنْ الْبِدَعِ أَرْبَعٌ وَهِيَ الْمُنْخُلُ وَالْخُوَانُ وَالْأُشْنَانُ وَالشِّبَعُ انْتَهَى. أَمَّا الْمُنْخُلُ فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ الْمَطْحُونُ بِالْيَدِ، أَوْ بِرَحَى الْمَاءِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنْخُلَ بِدْعَةٌ إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ إلَّا مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ، وَإِنْ كَانَ الطَّحِينُ بِالدَّوَابِّ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنْخُلَ يَتَعَيَّنُ إنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ رَوْثِ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا الْخُوَانُ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَفِي بَعْضِهَا يَأْكُلُ عَلَى سُفْرَةٍ» . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْخُوَانَ مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَهُوَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ جِنْسُهُ مِنْ نُحَاسٍ، أَوْ خَشَبٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمُتَّبِعِينَ إذَا جَاءَتْهُ زُبْدِيَّةٌ لَهَا قَعْرٌ مُرْتَفِعٌ يَكْسِرُ قَعْرَهَا وَحِينَئِذٍ يَأْكُلُ مِنْهَا وَيَقُولُ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ خُوَانًا لِعُلُوِّهَا عَنْ الْأَرْضِ فَنَقَعُ فِي التَّشَبُّهِ بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَمَّا الْأُشْنَانُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، أَوْ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّ لُحُومَهَا لَيْسَتْ فِيهَا ذَفْرَةٌ بَلْ لَهَا رَائِحَةٌ عِطْرِيَّةٌ كَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي دِيَارِ مِصْرَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَظِّفَ يَدَيْهِ مِنْ ذَفَرِ لُحُومِهَا، وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ الْأُشْنَانُ فَيَسْتَغْنِي بِغَيْرِهِ مَا اسْتَطَاعَ تَحَفُّظًا عَلَى السُّنَّةِ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى غَسْلِهِ بِهِ فَعَلَ، وَأَمَّا الشِّبَعُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَرَاتِبُ الْأَكْلِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْعَالِمُ فِي

بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ ، فَإِذَا أَكَلَ مَعَ الضَّيْفِ فَلَهُ زِيَادَةُ آدَابٍ مِنْهَا أَنْ يَخْدُمَ الضَّيْفَ بِنَفْسِهِ إنْ اسْتَطَاعَ وَيَنْوِيَ بِذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَلَّى أَمْرَ أَصْحَابِ النَّجَاشِيِّ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ فَقِيلَ لَهُ أَلَا نَكْفِيكَ فَقَالَ خَدَمُوا أَصْحَابِي فَأُرِيدُ أَنْ أُكَافِئَهُمْ» فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ صَبَّ الْمَاءِ عَلَى يَدِ الضَّيْفِ حِينَ غَسْلِ يَدَيْهِ، وَيُقَدِّمَ لَهُ مَا حَضَرَ وَلْيَحْذَرْ التَّكَلُّفَ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ إلَى التَّبَرُّمِ بِالضَّيْفِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ بَلْ هُوَ قَبِيحٌ مِنْ الْفِعْلِ، وَيَنْبَغِي إذَا حَضَرَ مَنْ دَعَا أَنْ يُقَدِّمَ لَهُمْ مَا عِنْدَهُ مُعَجِّلًا، وَلَا يُبْطِئُ لِيَتَكَثَّرَ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَخَيَّرَ الْمَدْعُوُّ عَلَى الدَّاعِي إنَّمَا يَأْكُلُ مَا حَضَرَ وَيَنْبَغِي إنْ خُيِّرَ الْمَدْعُوُّ أَنْ لَا يَتَشَطَّطَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَكَلُّفٌ وَيُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى مَنْ خَيَّرَهُ، وَالتَّكَلُّفُ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ شَيْئًا بِالدَّيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ جِهَةٌ يُعَوِّضُ مِنْهَا، أَوْ يَكُونُ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الدَّيْنَ مُتَكَرِّهًا لِمَا يَبْذُلُ لَهُ، أَوْ يَكُونُ الْمُتَدَايِنُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْذُلَ وَجْهَهُ فِي أَخْذِ الدَّيْنِ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ هُوَ التَّكَلُّفُ الْمَمْنُوعُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الدَّيْنُ يُسَرُّ بِذَلِكَ وَالْآخَرُ يُدْخِلُ عَلَيْهِ السُّرُورَ مَعَ كَوْنِ الْوَفَاءِ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ التَّكَلُّفِ فِي شَيْءٍ، وَمَا أَعَزَّهُ إذَا كَانَ لِلَّهِ خَالِصًا بَلْ هَذَا النَّوْعُ مَفْقُودٌ فِي زَمَانِنَا هَذَا. وَيَنْبَغِي لِلْمَدْعُوِّ أَنْ لَا يُعْطِيَ مِنْ الطَّعَامِ لِأَحَدٍ شَيْئًا إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بَعْضَ مَا تَيَسَّرَ لَهُمْ أَخْذُهُ فَيَخْتَلِسُونَهُ وَيَجْعَلُونَهُ تَحْتَهُمْ حَتَّى إذَا رَجَعُوا إلَى بُيُوتِهِمْ أَخْرَجُوهُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ السَّرِقَةِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. وَيَنْبَغِي إذَا حَضَرَ مَنْ دُعِيَ وَأُحْضِرَ الطَّعَامُ فَلَا يُنْتَظَرُ مَنْ غَابَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْضِرَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْحِفَ بِأَهْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَلْوَانًا؛ لِأَنَّ الضَّيْفَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُ حُكْمِ أَهْلِ الْبَيْتِ إذْ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا الْأَلْوَانَ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ بِخِلَافِ الضُّيُوفِ فَقَدْ لَا يُقِيمُونَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ

تَكُونُ شَهْوَةُ بَعْضِ الضُّيُوفِ فِي لَوْنٍ، وَآخَرُ شَهْوَتُهُ فِي آخَرَ، فَإِذَا كَانَتْ الْأَلْوَانُ لِهَذَا الْغَرَضِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَلَهُ فِي ذَلِكَ جَزِيلُ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْجَمِيعِ وَفِي إدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَدْ عُلِمَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إذَا جَاءَهُ الْأَضْيَافُ يُقَدِّمُ لَهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَا يَقُومُ بِنَفَقَتِهِ شَهْرًا، أَوْ نَحْوَهُ فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ: قَدْ وَرَدَ أَنَّ بَقِيَّةَ الضَّيْفِ لَا حِسَابَ عَلَى الْمَرْءِ فِيهَا فَكَانَ لَا يَأْكُلُ إلَّا فَضْلَةَ الضُّيُوفِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَرُوحَ عَلَيْهِمْ صَاحِبُ الْبَيْتِ، أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَكَذَلِكَ يَنُشُّ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ قَائِمًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ مِنْ الْكَرَاهَةِ. وَيَنْبَغِي لِمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ أَنْ لَا يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ لِمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ أَرْبَعَةً لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا. الْآكِلُ وَالْجَالِسُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَالْمُؤَذِّنُ وَالْمُلَبِّي وَزَادَ بَعْضُ النَّاسِ قَارِئَ الْقُرْآنِ. وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْبَيْتِ، أَوْ مَنْ يُقِيمُهُ مَقَامَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَكْلِ إينَاسًا لِلضُّيُوفِ فَيُؤَاكِلُهُمْ، وَلَا يُمْعِنُ فِي الْأَكْلِ حَتَّى إذَا شَبِعَ الْأَضْيَافُ، أَوْ قَارَبُوا حِينَئِذٍ يَأْكُلُ بِانْشِرَاحٍ وَيَعْزِمُ عَلَيْهِمْ بِالْأَكْلِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ بَقِيَ بَعْضُهُمْ بِدُونِ شِبَعٍ، وَقَدْ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ رَجُلٌ مِنْ التُّجَّارِ فَكَانَ يَعْمَلُ الطَّعَامَ الشَّهِيَّ فِي بَيْتِهِ وَيَجْمَعُ الْفُقَرَاءَ فَيَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى غَسْلِهَا، وَيُقَدِّمُ لَهُمْ الطَّعَامَ، فَإِذَا شَبِعُوا قَعَدَ يَأْكُلُ وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ اشْتَهَتْ نَفْسِي هَذَا الطَّعَامَ فَجَعَلْت كَفَّارَةَ شَهْوَتِهَا أَنْ تَأْكُلُوهُ قَبْلِي فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غَسْلِ أَيْدِيهِمْ وَقَفَ لَهُمْ عَلَى الْبَابِ وَدَفَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْئًا مِنْ الْفِضَّةِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْخُبْزَ قَبْلَ الْأُدْمِ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْأُدْمِ بَعْدَهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ غَيْرَ مُتَطَلِّعَةٍ لِشَيْءٍ يَبْقَى بَعْدَ الْأَضْيَافِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ النَّاسِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَصِفَ طَعَامًا لِلْحَاضِرَيْنِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ التَّشْوِيشُ بِذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ. وَيَنْبَغِي لِلْمَدْعُوِّ إنْ كَانَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ بِالدَّعْوَةِ أَنْ

يُصْبِحَ مُفْطِرًا فَهُوَ أَفْضَلُ وَذَلِكَ فِقْهٌ حَالٌّ، فَإِذَا حَضَرَ الْمَدْعُوُّ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عِنْدَهُ الْخَبَرُ وَكَانَ صَائِمًا فَلْيَدَعْ. وَيَنْبَغِي لِلْمَدْعُوِّ أَنْ لَا يَسْتَحْقِرَ مَا دُعِيَ إلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْت وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْت» وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَ الضَّيْفَ فِي أَثْنَاءِ أَكْلِهِ وَيَجْعَلَ خِيَارَ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يُحْوِجُهُ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحْيِ مِنْ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الضَّيْفُ فِيهِ مِنْ الْإِدْلَالِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِتَرْكِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَفَرْقَدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَضَرَا عَلَى طَعَامٍ فَكَانَ فَرْقَدٌ يَلْتَقِطُ اللُّبَابَ مِنْ الْأَرْضِ وَيَأْكُلُهُ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ الصَّحْفَةِ شَيْئًا، وَكَانَ الْحَسَنُ يَنْظُرُ إلَى أَطْيَبِ الطَّعَامِ فَيَأْكُلُهُ، فَلَمَّا أَنْ خَرَجَا جَاءَ إنْسَانٌ مِنْ الْحَاضِرِينَ إلَى فَرْقَدٍ فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ مَا رَأَى مِنْهُ فَقَالَ: لَهُ أَغْتَنِمُ بَرَكَةَ سُؤْرِ الْإِخْوَانِ وَلِأُكْرِمَ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنِّي إنْ لَمْ أَلْتَقِطْ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ فَتَدُوسُهُ الْأَقْدَامُ، ثُمَّ رَاحَ إلَى الْحَسَنِ فَسَأَلَهُ كَمَا سَأَلَ فَرْقَدًا فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي مَا أَجَبْتُهُ حِينَ دَعَانِي إلَّا لِأُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَيْهِ وَكَيْفَمَا بَالَغْت فِي الْأَكْلِ وَتَنَاوَلْت أَطَايِبَ الطَّعَامِ الَّذِي انْتَخَبَهُ فَفِيهِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَ مَنْ كَانَ حَالُهُ كَحَالِ فَرْقَدٍ فِي أَكْلِهِ فَيُؤَكِّدُ عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ حَالُهُ كَحَالِ الْحَسَنِ فِي ذَلِكَ فَيُسَرُّ بِهِ وَيَشْكُرُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي إذَا حَضَرَ الْخُبْزُ بَيْنَ يَدَيْ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَنْتَظِرُونَ غَيْرَهُ مِنْ الْأُدْمِ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَدَمَ احْتِرَامٍ لِلْخُبْزِ، وَاحْتِرَامُهُ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، فَإِنْ كَانَ الْخُبْزُ كَثِيرًا أَبْقَاهُ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَسَّرَهُ، وَإِنْ كَسَّرَهُ مَعَ كَثْرَتِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ سَتْرًا عَلَى الْآكِلِينَ كُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ وَتَكْسِيرُ الْخُبْزِ بِالسِّكِّينِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَفِيهِ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الْخُبْزِ، وَكَذَلِكَ لَا يَعَضُّ فِي الْخُبْزِ حِينَ الْأَكْلِ، وَلَا يَنْهَشُهُ بِخِلَافِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَتْ الْعَضَّ وَالنَّهْشَ فِي اللَّحْمِ دُونَ الْخُبْزِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَتَسَاهَلُونَ فِي

هَذِهِ الْأُمُورِ فَيَقْطَعُونَ اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ إذَا أَرَادُوا أَكْلَهُ وَمِثْلُهُ الْخُبْزُ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْعَلَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كُسِّرَ الْخُبْزُ يَجْعَلُ النَّاحِيَةَ الْمَكْسُورَةَ مِنْ جِهَةِ الْآكِلِينَ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَهُ لِنَاحِيَةِ الزَّبَادِيِّ فَإِنَّ تَعَمُّدَ ذَلِكَ بِدْعَةٌ بَلْ يَضَعُ الْخُبْزَ كَيْفَ تَيَسَّرَ، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْفُخُ فِي الطَّعَامِ، وَلَا فِي الشَّرَابِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ رِيقِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بُصَاقًا فِيهِ وَهُوَ مُسْتَقْذَرٌ وَفِيهِ امْتِهَانٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ اللُّقْمَةَ بِشِمَالِهِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْكُلَ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ يَدِهِ الْيَمِينِ، وَهِيَ الْمُسَبِّحَةُ وَالْإِبْهَامُ وَالْوُسْطَى إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَرِيدًا وَمَا أَشْبَهَهُ فَيَأْكُلُ بِالْخَمْسَةِ مِنْهَا كَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ، وَمَضَى عَمَلُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْدَؤُنَّ بِأَكْلِ اللَّحْمِ قَبْلَ الطَّعَامِ، وَلَا يَأْكُلُ مُضْطَجِعًا إلَّا الشَّيْءَ الْخَفِيفَ كَالْبَقْلِ وَغَيْرِهِ لَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَنَاوَلَ تَمَرَاتٍ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، وَكَذَلِكَ لَا يَشْرَبُ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ خِيفَةَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي شُرْبِهِ وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يُخْلِيَ الْمَائِدَةَ مِنْ شَيْءٍ أَخْضَرَ بَقْلٍ، أَوْ غَيْرِهِ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ: إنَّهُ يَنْفِي الْجَانَّ، أَوْ الشَّيَاطِينَ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَإِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ فَلَا يَجْعَلُ عَلَيْهِ الْخُبْزَ خِيفَةَ أَنْ يَتَلَوَّثَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ الطَّعَامَ وَيَجْعَلُهُ عَلَى الْخُبْزِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَأْكُلُ ذَلِكَ الْخُبْزَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُلَوَّثُ فَلَا يُجْعَلُ الْخُبْزُ عَلَيْهِ احْتِرَامًا لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَأْكُلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمْسَحَ يَدَهُ فِي الْخُبْزِ فَإِنَّ فِيهِ امْتِهَانًا لَهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُخَلِّي أَضْيَافَهُ مِنْ شَيْءٍ حُلْوٍ وَإِنْ قَلَّ، بَلْ هُوَ آكَدُ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ، فَلَوْ أَطْعَمَهُمْ لَوْنًا وَاحِدًا مَعَ شَيْءٍ حُلْوٍ بَعْدَهُ كَانَ أَوْلَى مِنْ عَمَلِ الْأَلْوَانِ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ حُلْوٌ فَإِنْ جَمَعَهُمَا فَيَا حَبَّذَا، وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَتْ أَلْوَانًا وَقَدَّمَ لَهُمْ بَعْضَهَا، وَقَدْ بَقِيَ بَعْضُهَا أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ

عِنْدَهُ مِنْ الْأَلْوَانِ كَذَا وَكَذَا حَتَّى لَا يَكْتَفُوا مِنْ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ لَوْ عَلِمَ بِالطَّعَامِ الثَّانِي لَانْتَظَرَهُ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَأَتَى بِهِ وَحْدَهُ عَلَى كِفَايَةٍ مِنْ الْأَوَّلِ فَيَحْرِمُهُ شَهْوَتَهُ وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ سُرُورِهِ بِأَكْلِ الْمَدْعُوِّ فَيَكُونُ قَدْ بَخَسَ نَفْسَهُ حَظَّهَا، وَكَذَلِكَ يُخْبِرُهُمْ بِالْحَلَاوَةِ إنْ كَانَ مَا أَحْضَرَهَا مَعَ الطَّعَامِ، وَكَذَلِكَ الْفَاكِهَةُ وَالنَّقْلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي إنْ كَانَتْ أَلْوَانًا أَنْ يُقَدِّمَ خَفِيفَهَا قَبْلَ ثَقِيلِهَا فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْأَكْلِ الْتَقَطَ مَا سَقَطَ مِنْ اللُّبَابِ. وَيَنْبَغِي لِلْأَضْيَافِ أَنْ يَتْرُكُوا فَضْلَةً مِنْ الطَّعَامِ وَإِنْ قَلَّ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ فِي بَقِيَّةِ سُؤْرِهِ، وَيُقَدِّمُ لَهُمْ مَا يَغْسِلُونَ بِهِ أَيْدِيَهُمْ فَيَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ كَمَا فَعَلَ قَبْلَ الْأَكْلِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِالْغَسْلِ أَفْضَلُهُمْ، ثُمَّ يَدُورُ عَلَى يَمِينِ مَنْ يَصُبُّ عَلَيْهِمْ الْمَاءَ لِلْغَسْلِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ آخِرَهُمْ غَسْلَ يَدٍ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَصُبُّ عَلَيْهِمْ الْمَاءَ لِلْغَسْلِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْصُقَ أَحَدٌ فِي الْمَاءِ، وَلَا يَغْسِلُ بِالْأُشْنَانِ، وَلَا بِالتُّرَابِ فَإِذَا غَسَلُوا بِالْمَاءِ مَسَحُوا أَيْدِيَهُمْ بَعْدَ الْغَسْلِ بِأَخْمَصِ أَقْدَامِهِمْ إنْ كَانَتْ نَظِيفَةً، أَوْ بِخِرْقَةِ صُوفٍ مُعَدَّةٍ لِذَلِكَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ شَيْءٍ خَشِنٍ عَدَا الْمُحَرَّمِ شَرْعًا لِيُزِيلُوا بِذَلِكَ بَقِيَّةَ الدَّسَمِ عَنْ أَيْدِيهِمْ مُحَافَظَةً عَلَى النَّظَافَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ الْغَسْلِ بِالْأُشْنَانِ وَالتُّرَابِ خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَشْرَبَ هَذَا الْمَاءَ إذْ أَنَّ شُرْبَهُ شِفَاءٌ وَمَا زَالَ السَّلَفُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ بِالْأُشْنَانِ وَالتُّرَابِ يَحْرِمُ بَرَكَةَ ذَلِكَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَشْرَبَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فَيَدْخُلُ فِي جَوْفِهِ التُّرَابُ وَالْأُشْنَانُ وَالْبُصَاقُ وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَشْرَبُ هَذَا الْمَاءَ فَيَغْسِلُ بِمَا شَاءَ مِنْ تُرَابٍ وَغَيْرِهِ. وَالْغَسْلُ بِالْأُشْنَانِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَعَ تَعَذُّرِ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَشْفُونَ بِهَذَا الْمَاءِ وَيَتَشَاحُّونَ عَلَيْهِ وَيَتَنَافَسُونَ فِيهِ حَتَّى أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ النِّدَاءَ عَلَيْهِ وَيَبِيعُونَهُ بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ بَرَكَةُ ذَلِكَ اغْتِنَامًا مِنْهُمْ لِلْبَرَكَةِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ

«هِرَقْلَ لَمَّا أَنْ سَأَلَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ حَالُهُمْ فِي تَصَرُّفِهِمْ مَعَهُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُمْ يَتَبَرَّكُونَ بِالْمَاءِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ وَبِبُصَاقِهِ» وَمَا شَاكَلَهُمَا فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَكَذَلِكَ الْمُتَّبِعُونَ لَهُ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ هَذِهِ الْبَرَكَةُ حَاصِلَةٌ لَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ مِثْلَهَا لَكِنْ بِبَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ وَرِثُوا مِنْهَا أَوْفَرَ نَصِيبٍ. وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَنَا بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ الْقَاضِيَ الْأَعْظَمَ بِهَا وَكَانَ يُعْرَفُ بِابْنِ الْمَغِيلِيِّ وَكَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّلَحَاءِ الْكِبَارِ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا إلَى أَنْ أَشْرَفَ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَكَانَ بِالْبَلَدِ طَبِيبٌ حَاذِقٌ فِي وَقْتِهِ عَارِفٌ بِالطِّبِّ فَأَيِسَ مِنْهُ، وَقَالَ لَهُمْ اُتْرُكُوهُ يَأْكُلُ كُلَّ مَا شَاءَ وَاخْتَارَ فَإِنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهُ عَلَى مُقْتَضَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الصَّنْعَةِ، فَأَرْسَلَتْ زَوْجَةُ الْقَاضِي إلَى الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي عُثْمَانَ الْوَرْكَالِيِّ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا جَرَى مِنْ الطَّبِيبِ فَأَخَذَ الشَّيْخُ الْمَاءَ وَتَوَضَّأَ فِي إنَاءٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِمَاءِ وُضُوئِهِ إلَى زَوْجَةِ الْقَاضِي وَقَالَ لَهَا اسْقِيهِ هَذَا الْمَاءَ فَسَقَتْهُ ذَلِكَ، ثُمَّ بَقِيَ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَ يُرِيدُ قَضَاءَ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَأُتِىَ لَهُ بِإِنَاءٍ فَقَضَى حَاجَتَهُ فِيهِ فَوَجَدْت فِيهِ كُبَّةً عَظِيمَةً سَوْدَاءَ فَتَعَجَّبَ كُلُّ مَنْ رَآهَا فَأَرْسَلَتْ زَوْجَةُ الْقَاضِي إلَى الطَّبِيبِ الَّذِي مَا شَكَّ أَنَّهُ يَمُوتُ كَمَا تَقَدَّمَ فَأَرَتْهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ فَتَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا شَدِيدًا وَقَالَ: هَذَا أَمْرٌ إلَهِيٌّ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا الْبَشَرُ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُخْرِجَ هَذَا مِنْ فُؤَادِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَوْ بَقِيَ مَعَهُ لَقَتَلَهُ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِ فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى إلَى هَذِهِ الْبَرَكَةِ كَيْفَ هِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْمُتَّبِعِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذِهِ الْعِصَابَةُ فِيهِمْ مَنْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْفَاهُ فَلَا يُعْرَفُ فَيَغْتَنِمُ بَرَكَةَ الْجَمِيعِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَبِّهَ مَنْ حَضَرَهُ وَغَيْرَهُمْ عَلَى مَا يُفْعَلُ الْيَوْمَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ بَلْ الْمُحَرَّمِ لِلسَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَهِيَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ غَسْلِ الْأَيْدِي بِمَاءِ الْوَرْدِ وَتَنْشِيفِهَا بِالْمَنَادِيلِ وَالْفُوَطِ الْحَرِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَظِيفَةَ الْعَالِمِ فِي التَّغْيِيرِ الْكَلَامُ بِاللِّسَانِ فَيَبُثُّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ إذَا قَدَرَ بِشَرْطِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ

لَا يَأْكُلَ أَحَدٌ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَاءُ، فَإِنَّ الْأَكْلَ بِغَيْرِ حُضُورِهِ بِدْعَةٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ وَفِيهِ خَطَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْرَقُ بِاللُّقْمَةِ فَلَا يَجِدُ مَا يُسِيغُهَا بِهِ فَيَكُونُ قَدْ تَسَبَّبَ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا فَرَغَ مِنْ أَكْلِهِ انْتَشَرَ وَخَرَجَ، وَلَا يَلْبَثُ، وَلَا يَتَحَدَّثُ بَعْدَ تَمَامِ الطَّعَامِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْتَعْجِلَ بِرَفْعِ السُّفْرَةِ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: بَسْطُ الْجَمَاعَةِ بِزِيَادَةِ الْأُنْسِ لَهُمْ. الثَّانِي: لَعَلَّ أَنْ يَأْتِيَ وَارِدٌ فَيَحْصُلُ لِمَنْ حَضَرَ بَرَكَتُهُ، أَوْ أَجْرُهُ، أَوْ هُمَا مَعًا. الثَّالِثُ: لِمَا وَرَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ مَا دَامَ الْمَأْكُولُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَهَذَا عَامٌّ وَلَوْ فَرَغُوا مِنْ الْأَكْلِ فَتُتْرَكُ لِأَجْلِ ذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّ فِي تَرْكِهَا التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ، وَالتَّشَبُّهُ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ. وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَمْتَثِلُوا السُّنَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ الْحَمْدُ لِلَّهِ اللَّهُمَّ أَبْدِلْنَا خَيْرًا مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَبَنًا فَالسُّنَّةُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ اللَّهُمَّ زِدْنَا مِنْهُ. وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ طَلَبُ الزِّيَادَةِ مِنْ الْفِطْرَةِ أَعْنِي فِطْرَةَ الْإِسْلَامِ الَّتِي قُبِضَ عَلَيْهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ أُتِيَ لَهُ بِطَسْتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَمْلُوءٌ لَبَنًا، وَالْآخَرُ خَمْرًا، فَقَبَضَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى طَسْتِ اللَّبَنِ فَوَقَعَ النِّدَاءُ قَبَضَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْفِطْرَةِ فَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَسْتَزِيدُ مِنْهَا فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَوَقَعَ الْإِشْكَالُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خُيِّرَ أَنْ تُسَيَّرَ مَعَهُ جِبَالُ تِهَامَةَ ذَهَبًا وَفِضَّةً تُسَيَّرُ لِسَيْرِهِ وَتَقِفُ لِوُقُوفِهِ فَأَبَى فَكَيْفَ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ مِنْ هَذَا الشَّيْءِ الْيَسِيرِ؟ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ. الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ، فَأَيُّ ذَلِكَ قَالَ: فَقَدْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ وَإِنْ أَتَى بِالْجَمِيعِ فَيَا حَبَّذَا، وَيَزِيدُ الضَّيْفُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْطَرَ

عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ» انْتَهَى زَادَ بَعْضُهُمْ «وَذَكَرَكُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» . وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِشُرْبِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُضِرٌّ بِالْبَدَنِ عَلَى مُقْتَضَى صِنَاعَةِ الطِّبِّ سِيَّمَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ سُخْنًا فَإِنَّهُ يُبَخِّرُ الْفَمَ وَيُتْلِفُ الْأَسْنَانَ وَيُفَجِّجُ الطَّعَامَ وَيُنْزِلُهُ مِنْ الْمَعِدَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْضَجُ وَذَلِكَ ضَرَرٌ كَبِيرٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِذَا شَرِبَ شَيْئًا نَوَى بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ فِي الْأَكْلِ، ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ فَقَطْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ إذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ عِنْدَ الْأَكْلِ فَفِي الشُّرْبِ هُنَا كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ فِي الْأَكْلِ لَا يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ وَفِي الشُّرْبِ يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فَإِنَّ السُّنَّةَ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَتْ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الْأَكْلِ مَرَّةً وَالتَّحْمِيدَ فِي آخِرِهِ كَمَا سَبَقَ وَجَعَلَتْ فِي الشُّرْبِ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُصَّ الْمَاءَ مَصًّا، ثُمَّ يَقْطَعَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ يُسَمِّيَ، ثُمَّ يَشْرَبَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ يَحْمَدَ اللَّهَ عَقِبَهَا، ثُمَّ يُسَمِّيَ، ثُمَّ يَشْرَبَ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَحْمَدَ اللَّهَ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ وَيُدْرِجَ شُرْبَ الْمَاءِ فَتَكُونُ الْأُولَى هِيَ الْأَقَلُّ وَالثَّانِيَةُ أَكْثَرَ مِنْهَا وَالثَّالِثَةُ يَبْلُغُ بِهَا كِفَايَتَهُ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِنِيَاطِ الْقَلْبِ مَوْضِعًا رَقِيقًا لَطِيفًا فَإِذَا جَاءَ الْمَاءُ دَفْعَةً وَاحِدَةً قَطَعَهُ، وَقَدْ يَمُوتُ بِسَبَبِهِ فَيُؤْنِسُ الْأُولَى بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ وَرَدَ فِيمَنْ شَرِبَ الْمَاءَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ الْمَاءَ يُسَبِّحُ فِي جَوْفِهِ مَا بَقِيَ فِي جَوْفِهِ فَيَبْقَى فِي عِبَادَةٍ وَإِنْ كَانَ نَائِمًا، أَوْ غَافِلًا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِهِ لِمَعَالِمِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الشُّرْبِ نَفَسًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ نَهْيُ تَأْدِيبٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَرَعَهُ جَرْعًا وَاسْتَوْفَى رِيَّهُ مِنْهُ نَفَسًا وَاحِدًا تَكَاثَرَ الْمَاءُ فِي مَوَارِدِ حَلْقِهِ وَأَثْقَلَ مَعِدَتَهُ. وَقَدْ رُوِيَ (ثَلَاثَةٍ كَانَ أَنْفَعَ لِرِيِّهِ وَأَخَفَّ لِمَعِدَتِهِ وَأَحْسَنَ فِي الْأَدَبِ وَأَبْعَدَ مِنْ فِعْلِ ذِي الشَّرَهِ انْتَهَى. وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ فِي شُرْبِ الْمَاءِ، وَأَمَّا اللَّبَنُ

فَيَعُبُّهُ عَبًّا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَيُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ وَيَحْمَدُهُ فِي آخِرِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهَا بَيْنَ الْعَبِّ وَالْمَصِّ وَيَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ وَيُسِرُّ بِالتَّحْمِيدِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَخْذِ فِي الْأَكْلِ، بِخِلَافِ التَّحْمِيدِ جَهْرًا فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بَعْدُ، وَأَمَّا فِي شُرْبِ الْمَاءِ فَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ لَكِنَّ الْعَالِمَ الْجَهْرُ فِي حَقِّهِ أَوْلَى لِيُقْتَدَى بِهِ. وَيَنْبَغِي لِلْجَمَاعَةِ أَنْ لَا يَرْفَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَدَهُ قَبْلَ أَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْمَدُ جَهْرًا كَمَا تَقَدَّمَ إذْ فِي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ لَهُمْ عَمَّا هُمْ بِصَدَدِهِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِمَا وَرَدَ مِنْ نَهْيِ الشَّارِعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ ذَلِكَ وَكَفَى بِهِ. وَالثَّانِي: خَشْيَةَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْإِنَاءِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ فَيَتَأَذَّى بِهَا الشَّارِبُ وَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ قَائِمًا لِحَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ لَهُ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ فَشَرِبَ قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: إنَّ أَحَدَكُمْ يَكْرَهُ أَنْ يَشْرَبَ قَائِمًا، وَقَدْ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ» . وَيَنْبَغِي إنْ كَانَ فِي كُوزٍ ثُلْمَةٌ أَنْ لَا يَشْرَبَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِمَاعِ الْوَسَخِ، وَقَدْ نَصَّ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْرَبَ مِنْ نَاحِيَةِ أُذُنِ الْكُوزِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَشْرَبُ مِنْهَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ فِي السَّقْيِ بِأَفْضَلِهِمْ، ثُمَّ يَدُورُ عَلَى يَمِينِهِ وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا شَرِبَ بَعْضُ مَنْ يَحْتَرِمُونَهُ قَامُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ شُرْبِهِ فَيَنْحَنُونَ لَهُ وَيُقَبِّلُونَ أَيْدِيَهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَقُومُونَ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الشُّرْبِ وَيَفْعَلُونَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَبَعْضُهُمْ يَقُومُونَ نِصْفَ قَوْمَةٍ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا، أَوْ أَكْثَرَ مَعَ الْإِشَارَةِ إلَى الْأَرْضِ بِالتَّقْبِيلِ وَقَوْلِهِمْ صِحَّةٌ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَفِيهِ التَّشَبُّهُ بِالْأَعَاجِمِ وَبَعْضُهُمْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لِمَنْ يَفْرُغُ مِنْ الشُّرْبِ صِحَّةٌ وَهَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ دُعَاءً حَسَنًا فَاِتِّخَاذُهُ عَادَةً عِنْدَ الشُّرْبِ بِدْعَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأُمِّ أَيْمَنَ لَمَّا أَنْ شَرِبَتْ بَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صِحَّةٌ يَا أُمَّ أَيْمَنَ لَنْ تَلِجَ

النَّارُ بَطْنَك» . فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَاءٌ يُشْرَبُ وَإِنَّمَا هُوَ الْبَوْلُ، وَهُوَ إذَا شُرِبَ عَادَ بِالضَّرَرِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: صِحَّةٌ لِيَنْفِيَ عَنْهَا مَا تَتَوَقَّعُهُ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ بَوْلِ غَيْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ دُعَاءً وَإِخْبَارًا وَذَلِكَ بِخِلَافِ شُرْبِ الْمَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذَا اللَّفْظُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْطِنِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِدْعَةً، وَلْيَحْذَرْ مِنْ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْمِلَ الْآدَابَ مَعَهُمْ حَتَّى يَحُوزَ فَضِيلَةَ الِاتِّبَاعِ وَالسَّبَقِ فَيُقَدِّمُ لَهُمْ نِعَالَهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ وَيَمْشِي مَعَهُمْ خُطُوَاتٍ لِتَوْدِيعِهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ «ثَلَاثٌ مُحَقَّرَاتٌ أَجْرُهُنَّ كَبِيرٌ صَبُّ الْمَاءِ عَلَى يَدِ أَخِيكَ حَتَّى يَغْسِلَهَا وَتَقْدِيمُ نَعْلِهِ إذَا خَرَجَ وَإِمْسَاكُ الدَّابَّةِ لَهُ حَتَّى يَرْكَبَهَا» فَيَحْصُلُ لَهُ فِي هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ فَيَكُونُ مُتَّصِفًا بِالِاتِّبَاعِ مَعَ حُصُولِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْإِخْوَانِ، وَهَذِهِ مِنْ أَكْمَلِ الْحَالَاتِ. هَذَا حَالُ الْعَالِمِ مَعَ الضَّيْفِ. وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا دُعِيَ الْعَالِمُ إلَى دَعْوَةٍ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَارِعَ إلَى الدَّعَوَاتِ كُلِّهَا مَا خَلَا دَعْوَةَ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مُنْكَرٌ بَيِّنٌ وَهُوَ فِي الْأَكْلِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَكَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ، فَإِنْ أُهْدِيَ لَهُ طَعَامٌ فَلْيَنْظُرْ فِي ذَلِكَ بِلِسَانِ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ، فَلِسَانُ الْعِلْمِ مَعْرُوفٌ، وَكَذَلِكَ الْوَرَعُ، وَالْوَرَعُ أَعْلَى وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَيِّهِمَا يَسْلُكُ، وَلَهُ فِي الْعِلْمِ سَعَةٌ إنْ شَقَّ عَلَيْهِ الْوَرَعُ، وَيَنْظُرُ فِي سَبَبِ صَاحِبِ الطَّعَامِ، فَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا بِلِسَانِ الْعِلْمِ عَمِلَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا قَامَ عَلَيْهِ بِسَطْوَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَزَجَرَهُ وَأَخْبَرَهُ بِمَا فِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ فَيَتَلَطَّفُ لَهُ فِي الْجَوَابِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الْعَادَةِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ وَهِيَ أَنْ يُهْدِيَ أَحَدُ الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ طَعَامًا فَلَا يُمْكِنُ الْمُهْدَى إلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْوِعَاءَ فَارِغًا حَتَّى يَرُدَّهُ بِطَعَامٍ، وَكَذَلِكَ الْمُهْدِي إنْ رَجَعَ إلَيْهِ الْوِعَاءُ فَارِغًا وَجَدَ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ وَكَانَ سَبَبًا لِتَرْكِ الْمُهَادَاةِ

فصل في عيادة المريض

بَيْنَهُمَا، وَلِسَانُ الْعِلْمِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ غَيْرَ يَدٍ بِيَدٍ، وَيَدْخُلُهُ أَيْضًا بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُتَفَاضِلًا وَيَدْخُلُهُ الْجَهَالَةُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْبِيَاعَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْهَدَايَا، وَقَدْ سُومِحَ فِي ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مُسَلَّمٌ لَوْ مَشَوْا فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى الْهَدَايَا الشَّرْعِيَّةِ لَكِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ضِدَّ ذَلِكَ لِطَلَبِهِمْ الْعِوَضَ، فَإِنَّ الدَّافِعَ يَتَشَوَّفُ لَهُ وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ يَحْرِصُ عَلَى الْمُكَافَأَةِ، فَخَرَجَ بِالْمُشَاحَّةِ مِنْ بَابِ الْهَدَايَا إلَى بَابِ الْبِيَاعَاتِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُنَبِّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ [فَصْلٌ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ] ِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ وَفِي غَيْرِهِ بِالْقَوْلِ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ أَنَّ يَهُودِيًّا كَانَ طَبِيبًا لِمَلِكٍ مِنْ الْمُلُوكِ فَمَرِضَ الْمَلِكُ مَرَضًا شَدِيدًا وَكَانَ الْيَهُودِيُّ لَا يُفَارِقُ عِيدَهُ، فَجَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَأَرَادَ الْيَهُودِيُّ أَنْ يَمْضِيَ إلَى سَبْتِهِ فَمَنَعَهُ الْمَلِكُ فَمَا قَدَرَ الْيَهُودِيُّ أَنْ يَسْتَحِلَّ سَبْتَهُ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ سَفْكَ دَمِهِ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ إنَّ الْمَرِيضَ لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِ يَوْمَ السَّبْتِ فَتَرَكَهُ الْمَلِكُ وَمَضَى لَسَبْتِهِ، ثُمَّ شَاعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الْبِدْعَةُ، وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَمِدُونَهَا حَتَّى أَنِّي رَأَيْت بَعْضَ الْفُضَلَاءِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ يَنْسِبُهَا إلَى السُّنَّةِ وَيَسْتَدِلُّ بِزَعْمِهِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَارَ الْقُبُورَ يَوْمَ السَّبْتِ، فَأَخَذَ مِنْ هَذَا بِزَعْمِهِ أَنَّ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ يَوْمَ السَّبْتِ تَفَاؤُلًا عَلَى مَوْتِ الْمَرِيضِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّفَاؤُلِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ التَّشَاؤُمِ وَالطِّيَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا، وَالْمُسْلِمُونَ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ . وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ وَفِي غَيْرِهِ بِالْقَوْلِ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ أَيْضًا وَهِيَ أَنَّ مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَا بُدَّ أَنْ

يَأْتِيَ مَعَهُ بِشَيْءٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَإِلَّا وَقَعَ الْكَلَامُ فِيهِ بِمَا لَا يَنْبَغِي، وَلَمْ تَرِدْ السُّنَّةُ بِذَلِكَ بَلْ الْمَطْلُوبُ الْعِيَادَةُ لَيْسَ إلَّا فَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْهَدَايَا وَالصَّدَقَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي هَدَايَا الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ فِي الطَّعَامِ وَسَيَأْتِي تَمَامُ الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ جَرَّتْ إلَى تَرْكِ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ إذَا اشْتَكَى صَاحِبُهُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْهِ تَرَكَ عِيَادَتَهُ وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلْقَطِيعَةِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْعَمَى وَالضَّلَالِ. هَذَا حَالُ الْعَالِمِ فِي مُنَاوَلَةِ غِذَائِهِ مَعَ أَهْلِهِ وَأَضْيَافِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى ذِكْرِ بَقِيَّةِ تَصَرُّفِهِ فِي بَيْتِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ بِدْعَةِ هَذِهِ الْأَسَامِي الَّتِي أَحْدَثَهَا النِّسَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي نُعُوتِ الرِّجَالِ مَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ الْحَافِظُ الْقُدْوَةُ الْمَعْرُوفُ بِالنَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ فَكَفَى غَيْرَهُ مُؤْنَةَ ذَلِكَ فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَلْتَمِسْهُ فِي كِتَابِهِ. لَكِنْ بَقِيَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ النُّعُوتَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: شَنِيعٌ قَبِيحٌ وَهُوَ النَّعْتُ بِسِتِّ الْخَلْقِ وَسِتِّ الْإِسْلَامِ وَسِتِّ الْحُكَّامِ وَسِتِّ الْقُضَاةِ وَسِتِّ الْعُلَمَاءِ وَسِتِّ الْفُقَهَاءِ وَسِتِّ النَّاسِ وَسِتِّ النِّسَاءِ وَسِتِّ الْكُلِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. أَلَّا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ ذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصُّلَحَاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْيَارِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ وَالْمُتَلَفِّظُ بِهِ لَا يَعْتَقِدُونَ دُخُولَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ تَحْتَ الْعُمُومِ، وَإِذَا لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ فَهُوَ تَعَمُّدُ كَذِبٍ مَحْضٍ بِلَا ضَرُورَةٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالتَّزْكِيَةِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ. وَأَمَّا مَا سِوَاهَا كَسِتِّ الْعِرَاقِ وَسِتِّ الْيَمَنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّزْكِيَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهُنَّ بِأُمِّ فُلَانِ الدِّينِ وَفُلَانُ الدِّينِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّزْكِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ نُعُوتِ الرِّجَالِ لَكِنْ نَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّاتِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِنَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَعَظَّمَ

فِيهِ قَدْرَهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] الْآيَةَ مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي لَا يُشَكُّ فِيهَا، وَلَا يُرْتَابُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى تَعْظِيمِ الْحُرُمَاتِ وَالشَّعَائِرِ، مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُسَمِّ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ الطَّاهِرَاتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النُّعُوتِ الْمُحْدَثَةِ وَكَفَى بِهَا، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّ ابْنَتِهِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي قَالَ فِي حَقِّهَا «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي» فَإِذَا كَانَتْ بَضْعَةً مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَاهِيكَ بِهَا مَنْزِلَةً رَفِيعَةً فَيَجِبُ تَعْظِيمُهَا مَا أَمْكَنَ، ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَزِدْ عَلَى اسْمِهَا الْمَعْلُومِ شَيْئًا وَوَاجِبٌ الِاعْتِقَادُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَّى لَهَا حَقَّهَا وَلِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَتُكْرَمُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ لَهُنَّ فِيهَا شَيْءٌ مَا مِنْ الْخَيْرِيَّةِ لَمْ يَتْرُكْهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَبَيَّنَ الْجَوَازَ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً لِتَعْظِيمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلشَّعَائِرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تَعْظِيمَهُنَّ مِنْ الشَّعَائِرِ، ثُمَّ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ النُّعُوتُ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ أَعْنِي أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سَالِمَةً مِنْ التَّزْكِيَةِ وَالْكَذِبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا بِالنُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَكَانَ أَمْرُهَا أَقْرَبَ، وَلَكِنْ وَضَعُوا النُّعُوتَ فِي بَابِ الْمَكْرُوهِ، أَوْ الْمُحَرَّمِ بِحَسَبِ حَالِ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَهَؤُلَاءِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبُنَاتُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - أَسْمَاؤُهُنَّ مَعْلُومَةٌ وَهُنَّ اللَّاتِي أُمِرْنَا بِأَخْذِ شَرِيعَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْهُنَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تَرَكْتُ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي» انْتَهَى. فَهَذِهِ عِتْرَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ الرَّاوِي عَنْهُنَّ عَنْ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ زِيَادَةً عَلَى أَسْمَائِهِنَّ الْمَعْرُوفَةِ هَذَا مَعَ عِلْمِ مَنْ نَقَلَ عَنْهُنَّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنْ تَعْظِيمِ

حُقُوقِهِنَّ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَظُنَّ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الَّتِي وَصَفَهُمْ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالْخَيْرِيَّةِ أَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ فَاتَهُمْ تَعْظِيمُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْخَيْرِيَّةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِهِمْ لَكِنَّهُ عَلَى أُصُولِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمْ فَنَعَمْ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى بَابِ الْمَكْرُوهِ، أَوْ الْمُحَرَّمِ وَهَذِهِ النُّعُوتُ الْمُحْدَثَةُ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ مَثَلًا أُمُّ شَمْسِ الدِّينِ وَأُمُّ ضِيَاءِ الدِّينِ وَنَحْوُهُمَا فَلَا خَفَاءَ أَنَّهَا احْتَوَتْ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّزْكِيَةِ وَهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْكَذِبُ فَحَرَامٌ، وَأَمَّا التَّزْكِيَةُ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ مَا ذُكِرَ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الشَّخْصِ فَمَكْرُوهٌ «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِينَ أَثْنَوْا عَلَى الرَّجُلِ بِحَضْرَتِهِ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ، أَوْ ظَهْرَ أَخِيكُمْ» فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّنَا نُنْكِرُ الْكُنَى الشَّرْعِيَّةَ فَإِنَّ مَا وَرَدَ مِنْهَا لَيْسَ فِيهِ تَزْكِيَةٌ. وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» فَهَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ التَّزْكِيَةِ، وَكَذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ رُومَانَ وَأُمُّ مَعْبَدٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَقِسْ عَلَى هَذَا تُصِبْ، فَالْكُنَى الْمَشْرُوعَةُ أَنْ يُكَنَّى الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ، أَوْ بِوَلَدِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُكَنَّى بِوَلَدِهَا، أَوْ بِوَلَدِ غَيْرِهَا كَمَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ وَجَدَتْ عَلَى كَوْنِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ تَتَكَنَّى بِهِ فَقَالَ لَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: تَكَنِّي بِابْنِ أُخْتِك يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -» ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِالْحَالَةِ الَّتِي الشَّخْصُ مُتَّصِفٌ بِهَا كَأَبِي تُرَابٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيُكَنَّى الصَّبِيُّ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ كَنَّيْت ابْنَك أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ أَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُهُ وَلَكِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يُكَنُّونَهُ فَمَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ فِي تَكْنِيَةِ الصَّبِيِّ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ أَحْسَنُ

فصل في لبس النساء

عِنْدَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي كُنْيَةِ ابْنِهِ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُهُ وَلَكِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يُكَنُّونَهُ وَإِنَّمَا كَانَ تَرْكُهُ أَحْسَنَ لِمَا فِي ظَاهِرِهِ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْكَذِبِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا وَلَدَ لَهُ يُكَنَّى بِذَلِكَ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ وَالِدُ الْمُكَنَّى بِاسْمِهِ، وَإِنَّمَا تُجْعَلُ الْكُنْيَةُ الَّتِي يُكَنَّى بِهَا عَلَمًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ فِي لُبْسِ النِّسَاءِ] ِ قَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَك اللَّهُ نِيَّةُ الْعَالِمِ وَهَدْيُهُ فِي لُبْسِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَبَقِيَ الْكَلَامُ هُنَا عَلَى لُبْسِ أَهْلِهِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا النِّسَاءُ فِي لِبَاسِهِنَّ، وَهُنَّ كَمَا وَرَدَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ فَلُبْسُهُنَّ كَذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَالذِّكْرُ لِلنِّسَاءِ وَالْكَلَامُ مَعَ مَنْ سَامَحَهُنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأَزْوَاجِ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَأْخُذُ عَلَى أَهْلِهِ وَبِرَدِّهِنَّ لِلِاتِّبَاعِ مَهْمَا اسْتَطَاعَ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلْبَسْنَ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الضَّيِّقَةِ الْقَصِيرَةِ وَهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ بِضِدِّهِمَا؛ لِأَنَّ الضَّيِّقَ مِنْ الثِّيَابِ يَصِفُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَكْتَافَهَا وَثَدْيَيْهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ، هَذَا فِي الضَّيِّقِ، وَأَمَّا الْقَصِيرُ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْهُنَّ أَنْ يَجْعَلْنَ الْقَمِيصَ إلَى الرُّكْبَةِ، فَإِنْ انْحَنَتْ أَوْ جَلَسَتْ أَوْ قَامَتْ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهَا، وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ أَنَّ ثَوْبَ الْمَرْأَةِ تَجُرُّهُ خَلْفَهَا وَيَكُونُ فِيهِ وُسْعٌ بِحَيْثُ إنَّهُ لَا يَصِفُهَا، فَإِنْ قُلْنَ إنَّ السَّرَاوِيلَ يُغْنِي مِنْ الثَّوْبِ الطَّوِيلِ فَصَحِيحٌ أَنَّ فِيهِ سُتْرَةً لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ السُّرَّةِ وَهُنَّ يَعْمَلْنَهُ تَحْتَهَا بِكَثِيرٍ. وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ كَحُكْمِ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ وَحُكْمُهُمَا أَنَّ مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ لَا يَكْشِفُهُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبَدَنِ، فَتَكُونُ قَدْ ارْتَكَبَتْ النَّهْيَ فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى حَدِّ السَّرَاوِيلِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ كَثِيفًا لَا يَصِفُ وَلَا يَشِفُّ وَقَدْ اتَّخَذَ بَعْضُهُنَّ هَذَا السَّرَاوِيلَ عِنْدَ الْخُرُوجِ لَيْسَ إلَّا، وَأَمَّا فِي الْبَيْتِ فَتَقْعُدُ بِدُونِهِ وَهِيَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ لَا يَدْخُلُهُ غَيْرُ زَوْجِهَا أَوْ هُوَ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ

فصل لبس النساء العمائم التي يعملنها على رؤسهن

الْأَوَّلُ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ الرَّفِيعُ وَالضَّيِّقُ الَّذِي يَصِفُ كُلَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا جَارِيَةٌ فِي الْبَيْتِ أَوْ عَبْدٌ أَوْ أَخٌ أَوْ وِلْدَانٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ ظُهُورِ أَطْرَافِهَا لِذِي الْمَحَارِمِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَقْعُدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ بِهَذِهِ الثِّيَابِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ بِغَيْرِ سَرَاوِيلَ بَيْنَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَلَا يَلْبَسْنَ السَّرَاوِيلَ إلَّا عِنْدَ الْخُرُوجِ فَيَكُونُ الْعَالِمُ يَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْقَبَائِحِ وَيَذُمُّهَا وَيُعَلِّمُهُنَّ أَمْرَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَهَى النِّسَاءَ عَنْ لُبْسِ الْقَبَاطِيِّ قَالَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَشِفُّ فَإِنَّهَا تَصِفُ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَبَاطِيُّ ثِيَابٌ ضَيِّقَةٌ مُلْتَصِقَةٌ بِالْجَسَدِ لِضِيقِهَا فَتُبْدِي ثَخَانَةَ جِسْمِ لَابِسِهَا مِنْ نَحَافَتِهِ وَتَصِفُ مَحَاسِنَهُ وَتُبْدِي مَا يُسْتَحْسَنُ مِمَّا لَا يُسْتَحْسَنُ فَنَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَلْبَسْنَهَا النِّسَاءُ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] . [فَصْلٌ لَبِسَ النِّسَاء الْعَمَائِمِ الَّتِي يَعْمَلْنَهَا عَلَى رُؤْسِهِنَّ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ عَنْ هَذِهِ الْعَمَائِمِ الَّتِي يَعْمَلْنَهَا عَلَى رُؤْسِهِنَّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَعْنَى ذَلِكَ مَا هَذَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ» يَعْنِي أَنَّهُنَّ كَاسِيَاتٌ بِالثِّيَابِ عَارِيَّاتٌ مِنْ الدِّينِ لِانْكِشَافِهِنَّ وَإِبْدَاءِ بَعْضِ مَحَاسِنِهِنَّ، وَقِيلَ كَاسِيَاتٌ ثِيَابًا رِقَاقًا يَظْهَرُ مَا تَحْتَهَا وَمَا خَلْفَهَا فَهُنَّ كَاسِيَاتٌ فِي الظَّاهِرِ عَارِيَّاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَقِيلَ كَاسِيَاتٌ فِي الدُّنْيَا بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ مِنْ الْحَرَامِ وَمِمَّا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ، عَارِيَّاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ» قِيلَ مَعْنَاهُ زَائِغَاتٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ طَاعَةِ الْأَزْوَاجِ

فصل توسيع النساء الأكمام التي أحدثنها مع قصر الكم

وَمَا يَلْزَمُهُنَّ مِنْ صِيَانَةِ الْفُرُوجِ وَالتَّسَتُّرِ عَنْ الْأَجَانِبِ وَمُمِيلَاتٌ يُعَلِّمْنَ غَيْرَهُنَّ الدُّخُولَ فِي مِثْلِ فِعْلِهِنَّ، وَقِيلَ مَائِلَاتٌ مُتَبَخْتِرَاتٌ يُمِلْنَ رُءُوسَهُنَّ وَأَعْطَافَهُنَّ لِلْخُيَلَاءِ وَالتَّبَخْتُرِ وَمُمِيلَاتٌ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يُبْدِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَطِيبِ رَائِحَتِهِنَّ، وَقِيلَ يَتَمَشَّطْنَ الْمَيْلَاءَ يَهِيَ مِشْطَةُ الْبَغَايَا، وَالْمُمِيلَاتُ اللَّوَاتِي يُمَشِّطْنَ غَيْرَهُنَّ مِشْطَةَ الْمَيْلَاءِ، ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ» مَعْنَاهُ يُعَظِّمْنَ رُءُوسَهُنَّ بِالْخُمُرِ وَالْمَقَانِعِ وَيَجْعَلْنَ عَلَى رُءُوسِهِنَّ شَيْئًا يُسَمَّى عِنْدَهُنَّ النَّاهِرَةَ لَا عَقْصُ الشَّعْرِ وَالذَّوَائِبُ الْمُبَاحَةُ لِلنِّسَاءِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ» فَهَذَا مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ، إذْ أَنَّ فِي عِمَامَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَنَامَيْنِ، وَأَقَلُّ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ أَنَّ رَأْسَهَا يَعْتَلُّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْعِمَامَةِ ؛ لِأَنَّهُنَّ اتَّخَذْنَهَا عَادَةً مِنْ فَوْقِ الْحَاجِبَيْنِ وَفِي ذَلِكَ مَفَاسِدُ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحِلٌّ لِاسْتِمْتَاعِ الرَّجُلِ وَأَعْظَمُ جَمَالٍ فِيهَا وَجْهُهَا وَهِيَ تُغَطِّي أَكْثَرَهُ فَتَقَعُ بِذَلِكَ فِي الْإِثْمِ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ زَوْجَهَا حَقَّهُ وَلَوْ رَضِيَ زَوْجُهَا بِذَلِكَ فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْهُ لِمُخَالَفَتِهَا لِلسُّنَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ مَسْتُورَةً، فَإِذَا احْتَاجَتْ إلَى الْوُضُوءِ تَحْتَاجُ إلَى كَشْفِهَا حَتَّى تَغْسِلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا غَسَلَتْهُ فَقَدْ تُسْتَهْوَى؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ قَدْ اعْتَادَ التَّغْطِيَةَ فَإِذَا كَشَفَتْهُ عِنْدَ الْغَسْلِ قَدْ تَتَضَرَّرُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِ فَرْضَيْنِ: أَحَدُهُمَا: غَسْلُ الْوَجْهِ. وَالثَّانِي: مَسْحُ الرَّأْسِ. وَالثَّالِثُ: الزِّينَةُ الَّتِي جَمَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي وَجْهِهَا سَتَرَتْهَا عَنْ زَوْجِهَا، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ لِلْفِرَاقِ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بَشِعَةَ الْمَنْظَرِ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ فِيهِ بَعْضَ جَمَالٍ لَهَا فَهَذَا نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ، فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ جَمَالٌ لَهَا فَتُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُخَالَفَتِهَا لِلسُّنَّةِ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ [فَصْلٌ تَوْسِيعِ النِّسَاء الْأَكْمَامِ الَّتِي أَحْدَثْنَهَا مَعَ قِصَرِ الْكُمِّ] فَصْلٌ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ تَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ الَّتِي أَحْدَثْنَهَا مَعَ قِصَرِ الْكُمِّ فَإِنَّهَا إذَا رَفَعَتْ يَدَهَا ظَهَرَتْ أَعْكَانُهَا وَنُهُودُهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ وَهَذَا

فصل السنة في هيئة خروج النساء إن اضطرت إلي الخروج

مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ مِنْ الْمُتَبَرِّجَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْقَصِيرِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَتَرْكِ السَّرَاوِيلِ وَتَقِفُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فِي بَابِ الرِّيحِ عَلَى هَذِهِ السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا، فَمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ أَوْ الْتَفَتَ رَأَى عَوْرَتَهَا، وَالشَّرْعُ أَمَرَهَا بِالتَّسَتُّرِ الْبَالِغِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ. [فَصْلٌ السُّنَّةَ فِي هيئة خُرُوجِ النِّسَاء إنْ اضْطَرَّتْ إِلَيَّ الْخُرُوج] فَصْلٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُنَّ السُّنَّةَ فِي الْخُرُوجِ إنْ اضْطَرَّتْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ فِي حَفْشِ ثِيَابِهَا وَهُوَ أَدْنَاهُ وَأَغْلَظُهُ، وَتَجُرُّ مِرْطَهَا خَلْفَهَا شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا وَيُعَلِّمُهُنَّ السُّنَّةَ فِي مَشْيِهِنَّ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ حَكَمَتْ أَنْ يَكُونَ مَشْيُهُنَّ مَعَ الْجُدَرَانِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ الطَّرِيقَ» وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ وَقَدْ اخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ: اسْتَأْخِرْنَ فَلَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تُضَيِّقْنَ الطَّرِيقَ عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ» فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْصَقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى أَنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا انْتَهَى. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ رَزِينٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي فِي طَرِيقٍ وَأَمَامَهُ امْرَأَةٌ فَقَالَ لَهَا: تَنَحِّي عَنْ الطَّرِيقِ فَقَالَتْ: الطَّرِيقُ وَاسِعٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ» انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ مَشْيُهُنَّ مَعَ الْجُدْرَانِ نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْبَوْلِ هُنَاكَ لِئَلَّا يَنْجَسَ مِرْطُ مَنْ مَرَّتْ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ الشَّرْعِيَّةِ، وَفَوَائِدُهَا مُتَعَدِّدَةٌ، وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ السُّنَنِ كَيْفَ انْدَرَسَتْ فِي زَمَانِنَا هَذَا حَتَّى بَقِيَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تُعْرَفْ لِمَا ارْتَكَبْنَ مِنْ ضِدِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الشَّرْعِيَّةِ، فَتَقْعُدُ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَتِهِنَّ بِحَفْشِ ثِيَابِهَا وَتَرْكِ زِينَتِهَا وَبِحَمْلِهَا، وَبَعْضُ شَعْرِهَا نَازِلٌ عَلَى جَبْهَتِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْسَاخِهَا وَعَرَقِهَا حَتَّى لَوْ رَآهَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ لَنَفَرَ

فصل في خروج النساء إلى شراء حوائجهن وما يترتب على ذلك

بِطَبْعِهِ مِنْهَا غَالِبًا فَكَيْفَ بِالزَّوْجِ الْمُلَاصِقِ لَهَا، فَإِذَا أَرَادَتْ إحْدَاهُنَّ الْخُرُوجَ تَنَظَّفَتْ وَتَزَيَّنَتْ وَنَظَرَتْ إلَى أَحْسَنِ مَا عِنْدَهَا مِنْ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ فَلَبِسَتْهُ، وَتَخْرُجُ إلَى الطَّرِيقِ كَأَنَّهَا عَرُوسٌ تُجَلِّي، وَتَمْشِي فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ وَتُزَاحِمُ الرِّجَالَ وَلَهُنَّ صَنْعَةٌ فِي مَشْيِهِنَّ حَتَّى أَنَّ الرِّجَالَ لَيَرْجِعُونَ مَعَ الْحِيطَانِ حَتَّى يُوَسِّعُوا لَهُنَّ فِي الطَّرِيقِ أَعْنِي الْمُتَّقِينَ مِنْهُمْ، وَغَيْرُهُمْ يُخَالِطُوهُنَّ وَيُزَاحِمُوهُنَّ وَيُمَازِحُوهُنَّ قَصْدًا، كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ عَدَمُ النَّظَرِ إلَى السُّنَّةِ وَقَوَاعِدِهَا وَمَا مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِذَا نَبَّهَ الْعَالِمُ عَلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ انْسَدَّتْ هَذِهِ الْمَثَالِمُ وَرُجِيَ لِلْجَمِيعِ بَرَكَةُ ذَلِكَ فَمَنْ رَجَعَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي فَهُوَ الْقَصْدُ الْحَسَنُ وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ عُلِمَ أَنَّهُ مُكْتَسِبٌ لِلذُّنُوبِ فَيَبْقَى مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَفِي الْكَسْرِ مِنْ الْخَيْرِ مَا قَدْ عُلِمَ، وَمَنْ انْكَسَرَ رُجِيَ لَهُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ [فَصْلٌ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى شِرَاءِ حَوَائِجِهِنَّ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ] َ وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَتْ لِأَهْلِهِ حَاجَةٌ مِنْ شِرَاءِ ثَوْبٍ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلْيَتَوَلَّ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ إنْ كَانَتْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ أَوْ بِمَنْ يَقُومُ عَنْهُ بِذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَلَا يُمَكِّنْهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ أَلْبَتَّةَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْمُنْكَرِ الْبَيِّنِ الَّذِي يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْهُنَّ الْيَوْمَ جِهَارًا أَعْنِي فِي جُلُوسِهِنَّ عِنْدَ الْبَزَّازِينَ وَالصَّوَّاغِينَ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهَا تُنَاجِيهِ وَتُبَاسِطُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَهُمَا، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى وُقُوعِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بَاعِدُوا بَيْنَ أَنْفَاسِ النِّسَاءِ وَأَنْفَاسِ الرِّجَالِ» ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ «لَوْ كَانَ عِرْقٌ مِنْ الْمَرْأَةِ بِالْمَشْرِقِ وَعِرْقٌ مِنْ الرَّجُلِ بِالْمَغْرِبِ لَحَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ» ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَكَيْفَ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْكَلَامِ وَالْمُزَاحِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى

فصل في سكنى النساء على البحر

عَدَمِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إنَّ لِلْمَرْأَةِ فِي عُمْرِهَا ثَلَاثَ خَرَجَاتٍ: خَرْجَةٌ لِبَيْتِ زَوْجِهَا حِينَ تُهْدَى إلَيْهِ، وَخَرْجَةٌ لِمَوْتِ أَبَوَيْهَا، وَخَرْجَةٌ لِقَبْرِهَا، فَأَيْنَ هَذَا الْخُرُوجُ مِنْ هَذَا الْخُرُوجِ، وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا حَاصِلَةٌ فِي خُرُوجِهِنَّ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِنَّ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فِيمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أَمْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالصَّرْفِ وَكَيْفِيَّةِ حُكْمِ الرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِهِنَّ مَعَ الْجَهْلِ بِذَلِكَ كُلِّهِ، بَلْ أَكْثَرُ الرِّجَالِ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الْغَيْرَةُ مِنْ الْإِيمَانِ» أَوْ كَمَا قَالَ وَمَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ شَبَهٌ؛ فَإِنَّ نِسَاءَهُنَّ يَبِعْنَ وَيَشْتَرِينَ وَيَجْلِسْنَ فِي الدَّكَاكِينِ وَالرِّجَالُ فِي الْبُيُوتِ، وَالشَّرْعُ قَدْ مَنَعَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ. [فَصْلٌ فِي سُّكْنَى النِّسَاء عَلَى الْبَحْرِ] فَصْلٌ فِي السُّكْنَى عَلَى الْبَحْرِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ السُّكْنَى عَلَى الْبَحْرِ مَهْمَا اسْتَطَاعَ جَهْدَهُ وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: نَهْيُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الطُّرُقَاتِ، وَمَنْ كَانَ فِي دَارٍ عَلَى الْبَحْرِ فَهُوَ كَالْجَالِسِ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ طَرِيقٌ لِلْمُرُورِ فِيهِ بِالْمَرَاكِبِ، فَإِذَا نَظَرَ كَشَفَ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ يَشْتَمِلُ عَلَى عَوْرَاتٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا: كَشْفُ عَوْرَاتِ النَّوَاتِيَّةِ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ مَرْئِيٌّ، وَكَذَلِكَ كَشْفُ عَوْرَاتِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُغْتَسِلِينَ فِيهِ، وَالْكَلَامُ الْفَاحِشُ الَّذِي يُمْنَعُ لِلرِّجَالِ سَمَاعُهُ فَكَيْفَ بِالْمَرْأَةِ؟ وَمِنْهَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَكُونُ مَعَهُمْ الْمَغَانِي فِي الشَّخَاتِيرِ، وَغَيْرِهَا فَإِحْدَاهُنَّ تَضْرِبُ بِالطَّارِ، وَأُخْرَى بِالشَّبَّابَةِ، وَمَعَهُنَّ مَنْ يُصَوِّتُ بِالْمِزْمَارِ مَعَ رَفْعِ أَصْوَاتِهِنَّ بِالْغِنَاءِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ظُهُورِ هَذِهِ الْعَوْرَاتِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهَا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَهُ يَنْكَشِفْنَ بِجُلُوسِهِنَّ فِي الطُّرُقَاتِ وَغَيْرِهَا وَيُشَاهِدْنَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ بَنَاتٌ أَوْ إمَاءٌ أَوْ غَيْرُهُنَّ فَتَزِيدُ الْمَفَاسِدُ بِحَسَبِ ذَلِكَ

الثَّالِثُ: أَنَّ شَاطِئَ الْبَحْرِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ لِلسُّكْنَى وَلَا لِغَيْرِهَا إلَّا الْقَنَاطِرَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ الْبِرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهَا مَرَافِقُ لِلْمُسْلِمِينَ فَمَنْ جَاءَ يَرْتَفِقُ بِهَا يَجِدُ هُنَاكَ نَجَاسَةً فَيَقُولُ لَعَنْ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَإِذَنْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ اللَّعْنَ بِهَذَا الْفِعْلِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُمَّتِهِ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَنَهَاهُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُلْعَنُونَ بِسَبَبِهِ، هَذَا وَهُوَ مِمَّا يَذْهَبُ بِالشَّمْسِ، وَالرِّيحِ وَغَيْرِهِمَا فَكَيْفَ بِالْبِنَاءِ عَلَى النَّهْرِ الْمُتَّخَذِ لِلدَّوَامِ غَالِبًا، وَقَدْ قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ اتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَاخْتِلَافِهِمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ لَا يَجُوزُ تَضْيِيقُهَا انْتَهَى. وَالْبِنَاءُ عَلَى النَّهْرِ أَكْثَرُ ضَرَرًا وَأَشَدُّ مِنْ تَضْيِيقِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ يُمْكِنُ الْمُرُورُ فِيهَا مَعَ تَضْيِيقِهَا بِخِلَافِ النَّهْرِ فَمَنْ بَنَى عَلَيْهِ كَانَ غَاصِبًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْرِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ يَرِدُ الْمَاءَ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَدُورَ مِنْ نَاحِيَةٍ بَعِيدَةٍ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَكَانَ مَنْ أَحْوَجَهُ إلَى ذَلِكَ غَاصِبًا، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَنْ أَرْسَلَ سَجَّادَتَهُ إلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ إتْيَانِهِ فَوُضِعَتْ هُنَاكَ لِيَحْصُلَ بِهَا الْمَكَانُ، أَوْ كَانَ فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَصْبٌ، هَذَا وَهُوَ مِمَّا لَا يَدُومُ فَكَيْفَ بِالْبِنَاءِ عَلَى النَّهْرِ كَمَا تَقَدَّمَ؟ ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ حَرِيمَ الْعُيُونِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمَ الْأَنْهَارِ أَلْفُ ذِرَاعٍ وَاخْتَلَفُوا فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ فَقِيلَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَقِيلَ خَمْسُونَ، وَقِيلَ ثَلَثُمِائَةٍ، وَقِيلَ خَمْسُمِائَةٍ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَوْضِعِ الْبِئْرِ وَلِأَيِّ شَيْءٍ هِيَ هَلْ هِيَ لِلزَّرْعِ أَوْ لِلْمَاشِيَةِ أَوْ فِي الْبَادِيَةِ أَوْ فِي الْبَلَدِ، نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ فِي تَبْصِرَتِهِ وَابْنُ يُونُسَ فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يَحُدَّ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ حَدًّا إلَّا مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ فَعَلَى هَذَا وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ ذِرَاعٍ إذَا

أَضَرَّ بِهِمْ يُمْنَعُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَعَكْسُهُ إنْ كَانَ أَقَلَّ وَلَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ لَمْ يُمْنَعْ، ثُمَّ أَفْضَى الْأَمْرُ مِنْ أَجْلِ كَثْرَةِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ إلَى أَنْ امْتَنَعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَخْذُ الْمَاءِ مِنْهُ لِلشُّرْبِ وَغَيْرِهِ إلَّا مَوَاضِعَ قَلِيلَةً، وَمَعَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فِتَنٌ لِمَنْعِ أَصْحَابِ الدُّورِ مَنْ يَرِدُ الْمَاءَ مِنْ السَّقَّائِينَ الَّذِينَ يَبِيعُونَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ جَرَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ إلَى أَنْ وَصَلَتْ إلَى عِمَادِ الدِّينِ وَأَصْلِهِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ بِإِفْسَادِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا صَلَّى أَحَدٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ فِي الصِّحَّةِ، وَالْفَسَادِ وَهَذَا مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَوْضِعُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ كَمَوْضِعِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ» انْتَهَى. فَإِذَا كَانَتْ مَنْزِلَةُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ الْعُظْمَى فَكَيْفَ يَرْضَى لَبِيبٌ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي مَوْضِعٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْبَحْرِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْضُلَ شَيْءٌ مِنْ آلَةِ الْعِمَارَةِ أَوْ يَنْهَدَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ الدُّورِ فَيَقَعُ ذَلِكَ فِي الْبَحْرِ غَالِبًا فَتَجِيءُ الْمَرَاكِبُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ فَتَمُرُّ عَلَى ذَلِكَ فَيَكْسِرُهَا غَالِبًا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ الْحِجَارَةُ مَبْنِيَّةً بَارِزَةً مَعَ الزَّرَابِيِّ الْخَارِجَةِ عَنْ الْبُيُوتِ فِي دَاخِلِ الْبَحْرِ، ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْأَذِبَّةِ يَمْنَعُونَ أَصْحَابَ الْمَرَاكِبِ مِنْ أَنْ يَلْتَصِقُوا إلَيْهَا، وَالْمَوْضِعُ مُبَاحٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ اخْتِصَاصٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَرَاكِبَ قَدْ تَأْتِي فِي وَقْتِ هَوْلِ الْبَحْرِ مَعَ ثِقَلِهَا بِالْوَسْقِ فَيُرِيدُ صَاحِبُهَا أَنْ يُرْسِيَ فِي الْمَوْضِعِ الْقَرِيبِ مِنْهُ لِيَسْلَمَ مِنْ آفَاتِ الْبَحْرِ فَلَا يَجِدُ لِذَلِكَ سَبِيلًا مِنْ كَثْرَةِ الدُّورِ الَّتِي هُنَاكَ فَيَمْضِي لِسَبِيلِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ الدُّورَ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَرَقِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي ذِمَّةِ الْبَانِي هُنَاكَ. السَّادِسُ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يَلْبَسْنَ وَيَتَحَلَّيْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ الَّتِي عَلَى الْبَحْرِ عَلَى مَا اعْتَدْنَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي الْخُرُوجِ إلَى الطُّرُقَاتِ وَعَلَيْهِنَّ مِنْ جَمَالِ الزِّينَةِ، وَالتَّحَلِّي مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّهُنَّ يُبَالِغْنَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا شَعَرْنَ أَنَّ الْعُيُونَ تَنْظُرُ إلَيْهِنَّ، فَقَدْ يَرَاهَا مِنْ يَشْغَفُ قَلْبُهُ بِصُورَتِهَا فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْهَا فَيَحْتَالُ الْحِيَلَ

الْكَثِيرَةَ عَلَى الْوُصُولِ إلَيْهَا إمَّا بِالطَّوَاعِيَةِ مِنْهَا إنْ قَدَرَ أَوْ يَأْتِي بِاللَّيْلِ قَهْرًا، فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهَا وَقَعَتْ الْفَاحِشَةُ الْكُبْرَى، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَقَدْ يَشْغَفُ آخَرُ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ الْحُلِيِّ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُزُولِ الْمَنَاسِرِ عَلَيْهِمْ بِاللَّيْلِ وَمَا يُقَارِبُهُ مِنْ السَّرِقَةِ، وَالْخِلْسَةِ، وَقَدْ تَشْغَفُ هِيَ بِبَعْضِ مَنْ تَرَاهُ مِنْ الشَّبَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الرَّجُلِ، وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقُلُوبَ تَتَعَلَّقُ غَالِبًا بِمَا رَأَتْ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ الْعِلْمِ عِنْدَهُمَا، فَإِذَا قَرُبَ زَوْجَتَهُ قَدْ يَجْعَلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ الصُّورَةَ الَّتِي تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِهَا، وَكَذَلِكَ هِيَ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرَامًا كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ شَرِبَ الْمَاءَ يَعُدُّ أَنَّهُ خَمْرٌ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ يَصِيرُ فِي حَقِّهِ حَرَامًا، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعُ: أَنَّ فِي ذَلِكَ سَرَفًا وَإِضَاعَةَ مَالٍ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمَا، إذْ لَا يَخْلُو السَّاكِنُ هُنَاكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَسْكُنَ فِي مِلْكِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَسْكُنَ بِأُجْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، فَقَدْ أَضَاعَ مَالَهُ لِمَا يَئُولُ إلَيْهِ الْأَمْرُ كَمَا قَدْ عَلِمَ مِنْ مُجَاوِرَةِ الْبَحْرِ فَفِي ذَلِكَ تَغْرِيرٌ بِمَالِهِ وَبِأَهْلِهِ وَبِوَلَدِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَهَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَدْ أَلْقَى بِنَفْسِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَإِنْ كَانَ يَسْكُنُ بِالْأُجْرَةِ فَلَا يُثَابُ عَلَى مَا دَفَعَ مِنْهَا لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي مِنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِمِصْرَ قَبْلَ هَذَا الزَّمَنِ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِمْ الْمِلْكُ لِلْبَيْعِ صَعِدُوا عَلَى سَطْحِهِ، فَإِذَا رَأَوْا الْبَحْرَ لَا يُعْطُونَ فِيهِ شَيْئًا وَيَقُولُونَ عَنْهُ: إنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِمَا يَخَافُونَ عَلَيْهِ مِنْ وُصُولِ الْبَحْرِ إلَيْهِ فَيُتْلِفَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْا الْبَحْرَ حِينَئِذٍ يَتَسَاوَمُونَ فِيهِ، وَهُمْ الْيَوْمَ بِضِدِّ ذَلِكَ يُرِيدُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَبْنِيَ فِي قَلْبِ الْبَحْرِ وَمَنْ بَنَى فِي قَلْبِ الْبَحْرِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ رَمَى مَالَهُ فِيهِ إلَّا أَنَّ الَّذِي رَمَى مَالَهُ فِيهِ هُوَ الَّذِي عَجَّلَ إتْلَافَهُ، وَاَلَّذِي بَنَى فِيهِ أَجَّلَ إتْلَافَهُ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَعَلَى هَذَا فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى بِنَاءِ الْمَسْكَنِ

فصل في زيارة النساء للقبور

عَلَيْهِ فَلْيَكُنْ بِمَوْضِعٍ يَرَاهُ مِنْهُ إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ فِي الْبُعْدِ بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّهُ إذْ كَانَ كَذَلِكَ انْزَاحَتْ تِلْكَ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا وَسَقَطَ عَنْهُ التَّغْيِيرُ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا طَرِيقٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ قَبْلُ كَمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ أَحْدَثَ مِئْذَنَةً عَلَى دُورٍ سَبَقَتْهَا أَنَّهُ إذَا صَعِدَ الْمُؤَذِّنُ عَلَيْهَا وَرَأَى النَّاسَ فِي بُيُوتِهِمْ وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ مَيَّزَ ذَلِكَ مُنِعَ إحْدَاثُهَا، وَالصُّعُودُ عَلَيْهَا وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حُكْمَ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهِ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: بَعِيدٌ مِنْ الْعُمْرَانِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ فِي إحْيَائِهِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي إحْيَائِهِ ضَرَرٌ عَلَى مَنْ يَخْتَصُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَأَمَّا الْبَعِيدُ مِنْ الْعُمْرَانِ فَلَا يَحْتَاجُ فِي إحْيَائِهِ إلَى اسْتِئْذَانِ الْإِمَامِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ عَلَى مَا حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ، وَأَمَّا الْقَرِيبُ مِنْهُ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِي إحْيَائِهِ عَلَى أَحَدٍ فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا الْقَرِيبُ مِنْهُ الَّذِي فِي إحْيَائِهِ ضَرَرٌ كَالْأَفْنِيَةِ الَّتِي يَكُونُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا ضَرَرًا بِالطَّرِيقِ وَشِبْهُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ بِحَالٍ، وَلَا يُبِيحُ ذَلِكَ الْإِمَامُ ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ [فَصْلٌ فِي زِيَارَةِ النِّسَاء لِلْقُبُورِ] فَصْلٌ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْقُبُورِ، وَإِنْ كَانَ لَهُنَّ مَيِّتٌ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ حَكَمَتْ بِعَدَمِ خُرُوجِهِنَّ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِنِسَاءٍ خَرَجْنَ فِي جِنَازَةٍ أَتَحْمِلْنَهُ فِيمَنْ يَحْمِلُهُ قُلْنَ لَا قَالَ: أَفَتُنْزِلْنَهُ قَبَرَهُ فِيمَنْ يُنْزِلُهُ قُلْنَ: لَا قَالَ: أَفَتَحْثِينَ عَلَيْهِ التُّرَابَ فِيمَنْ يَحْثِي قُلْنَ: لَا قَالَ: فَارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ» «وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِفَاطِمَةَ ابْنَتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ لَقِيَهَا فِي طَرِيقٍ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت فَقَالَتْ مِنْ عِنْدِ جِيرَانٍ لَنَا عَزَّيْتُهُمْ فِي مَيِّتِهِمْ فَقَالَ لَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

بناء الدور في القبور

لَعَلَّك بَلَغْت مَعَهُمْ الْكَدَاءَ يَعْنِي الْقُبُورَ فَقَالَتْ: لَا وَاَللَّهِ سَمِعْتُك تَنْهَى عَنْهَا فَقَالَ: لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكَدَاءَ وَذَكَرَ وَعِيدًا شَدِيدًا» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَعَنْ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ، وَالسُّرُجَ» أَخْرَجَهُ أَبُو دؤاد فِي سُنَنِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَدْ رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِسَاءً فِي جِنَازَةٍ فَطَرَدَهُنَّ وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَأَرْجِعُ إنْ لَمْ تَرْجِعْنَ، وَحَصَبَهُنَّ بِالْحِجَارَةِ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي حُضُورِ الْجِنَازَةِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي خُرُوجِهِنَّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِالْمَنْعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي بِالْجَوَازِ عَلَى مَا يُعْلَمُ فِي الشَّرْعِ مِنْ السَّتْرِ، وَالتَّحَفُّظِ عَكْسُ مَا يُفْعَلُ الْيَوْمَ. وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَجَالَّةِ، وَالشَّابَّةِ فَيَجُوزُ لِلْمُتَجَالَّةِ وَيُمْنَعُ لِلشَّابَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي نِسَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَكُنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ فِي الِاتِّبَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا خُرُوجَهُنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، أَوْ مَنْ لَهُ مُرُوءَةٌ، أَوْ غَيْرَةٌ فِي الدِّينِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَعَتْ ضَرُورَةٌ لِلْخُرُوجِ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مَا يُعْلَمُ فِي الشَّرْعِ مِنْ السَّتْرِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ الذَّمِيمَةِ فِي هَذَا [بِنَاء الدُّور فِي الْقُبُور] وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ لِبَعْضِهِمْ فِي بِنَاءِ هَذِهِ الدُّورِ فِي الْقُبُورِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَرَعَ دَفْنَ الْأَمْوَاتِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْإِيمَانَ بُنِيَ عَلَى النَّظَافَةِ، فَإِذَا دُفِنَ الْمُؤْمِنُ فِي الصَّحْرَاءِ، فَالصَّحْرَاءُ عَطْشَانَةٌ فَأَيُّ فَضْلَةٍ خَرَجَتْ مِنْ الْمَيِّتِ شَرِبَتْهَا الْأَرْضُ فَيَبْقَى الْمُؤْمِنُ نَظِيفًا فِي قَبْرِهِ. فَلَمَّا أَنْ رَأَى الشَّيْطَانُ هَذِهِ السُّنَّةَ الْمُبَارَكَةُ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ سَوَّلَ لَهُمْ ضِدَّهَا، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ مَيِّتٌ خَرَجُوا بِأَهْلِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ إلَى قَبْرِهِ فَيَسْكُنُونَ فِي دَارٍ إلَى جَانِبِهِ وَلَا بُدَّ لِلدَّارِ مِنْ بَيْتِ الْخَلَاءِ وَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمِيَاهِ، فَإِذَا أَقَامُوا هُنَاكَ نَزَلَتْ تِلْكَ الْفَضَلَاتُ وَهِيَ سَرِيعَةُ السَّرَيَانِ فِي الْأَرْضِ فَتَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ فَتُنَجِّسُهُ، وَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ بِالْفَضَلَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ، وَالنَّجَاسَاتُ الَّتِي انْجَذَبَتْ إلَيْهِ عَكْسُ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَهُمْ يُقِيمُونَ عَلَى مَيِّتِهِمْ

هُنَاكَ بِقَدْرِ عِزَّتِهِ عِنْدَهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقِيمُ الشَّهْرَ، وَالشَّهْرَيْنِ، وَالثَّلَاثَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَمَا جَرَّتْ إلَيْهِ، فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ الْمَبِيتِ فِي الْقُبُورِ لِمَا يُخْشَى مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِ الْمَوْتَى، وَقَدْ سَتَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ عَنَّا رَحْمَةً بِنَا فَمَنْ يَبِتْ هُنَاكَ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ إلَى زَوَالِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى شَيْئًا يَذْهَبُ بِهِ عَقْلُهُ. وَنَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ أَنْ يُتْبَعَ الْمَيِّتُ بِنَارٍ حِين تَشْيِيعِهِ إلَى قَبْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَفَاؤُلٌ رَدِيءٌ وَهَؤُلَاءِ يُوقِدُونَ الشُّمُوعَ وَغَيْرِهَا عِنْدَهُ مَعَ مَا يُوقِدُونَهُ مِنْ الْأَحْطَابِ لِطَعَامِهِمْ اللَّهُمَّ عَافِنَا مِنْ قَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَقَدْ قَالَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ إنَّهُ بَنَى دَارًا حَوْلَ الْقُبُورِ فَسَكَنَ هُنَاكَ فَأَصْبَحَتْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيهِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا رَأَتْ فِي النَّوْمِ شَيْخًا كَبِيرًا ذَا شَيْبَةٍ وَجَمَالٍ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ وَهُوَ يَقُولُ نَحْنُ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ سُكَّانٌ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَأَنْتُمْ تَدُقُّونَ عَلَى رُؤْسِنَا بِالْهَاوُنِ بِاللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَقَدْ شَوَّشْتُمْ عَلَيْنَا قَالَ فَأَخْلَيْت ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَأَمَرْت بِهَدْمِهِ عَنْ آخِرِهِ فَالْبِنَاءُ فِي الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إذَا كَانَتْ فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَلَا يَحِلُّ الْبِنَاءُ فِيهَا، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ تَارِيخَ مِصْرَ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَنْ فَتْحَ مِصْرَ وَأَخَذَ الْبِلَادَ مِنْ الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ مِصْرَ أَعْطَاهُ الْمُقَوْقِسُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ الْقَرَافَةِ مَالًا جَزِيلًا فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كِتَابًا يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ الْمُقَوْقِسَ أَعْطَاهُ فِي أَرْضٍ مِنْ الْأَمْوَالِ كَذَا وَكَذَا، وَهِيَ لَا تَنْفَعُ لِشَيْءٍ وَرَأَيْت أَنَّ هَذَا الْمَالَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْخُذُ هُوَ أَرْضًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا لَكِنِّي وَقَفْت فِي ذَلِكَ لِأَمْرِك فَانْظُرْ مَا تَرَى فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا بَعْدُ فَاسْأَلْهُ لِمَاذَا بَذَلَ هَذَا الْمَالَ فِيهَا، وَهِيَ لَا تَنْفَعُ لِشَيْءٍ فَسَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: إنَّا نَجِدُ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ

أَنَّهَا تُرْبَةُ الْجَنَّةِ فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّى لَا أَعْرِفُ تُرْبَةَ الْجَنَّةِ إلَّا لِأَجْسَادِ الْمُؤْمِنِينَ فَاجْعَلْهَا لِمَوْتَاهُمْ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَإِذَا جَعَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِدَفْنِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ مُنِعَ الْبِنَاءُ فِيهَا. وَقَدْ قَالَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ وَأَسْكُنُ إلَى قَوْلِهِ: إنَّ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى هَدْمِ كُلِّ مَا فِي الْقَرَافَةِ مِنْ الْبِنَاءِ كَيْفَ كَانَ فَوَافَقَهُ الْوَزِيرُ فِي ذَلِكَ وَفَنَّدَهُ وَاحْتَالَ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ لَهُ: إنَّ فِيهَا مَوَاضِعَ لِلْأُمَرَاءِ وَأَخَافُ أَنْ تَقَعَ فِتْنَةٌ بِسَبَبٍ ذَلِكَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَعْمَلَ فَتَاوَى فِي ذَلِكَ فَيَسْتَفْتِي فِيهَا الْفُقَهَاءَ: هَلْ يَجُوزُ هَدْمُهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالُوا بِالْجَوَازِ فَعَلَ الْمَلِكُ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إلَى فَتَاوِيهِمْ فَلَا يَقَعُ تَشْوِيشٌ عَلَى أَحَدٍ. فَاسْتَحْسَنَ الْمَلِكُ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَشَارَ بِهِ قَالَ: فَأَخَذَ الْفَتَاوَى وَأَعْطَاهَا إلَيَّ وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْشِيَ بِهَا عَلَى مَنْ وُجِدَ فِي الْوَقْتِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَمَشَيْت بِهَا عَلَيْهِمْ مِثْلُ الظَّهِيرِ التَّزْمَنْتِيِّ وَابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ وَنَظَائِرِهِمَا فِي الْوَقْتِ، فَالْكُلُّ كَتَبُوا خُطُوطَهُمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى لِسَانٍ وَاحِدٍ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَهْدِمَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَلِّفَ أَصْحَابَهَا رَمْيَ تُرَابِهَا فِي الْكِيمَانِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ. قَالَ فَأَعْطَيْت الْفَتَاوَى لِلْوَزِيرِ فَمَا أَعْرِفُ مَا صَنَعَ فِيهَا وَسَكَتَ عَلَى ذَلِكَ وَسَافَرَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ إلَى الشَّامِ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ فَلَمْ يَرْجِعْ وَمَاتَ بِهِ، فَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِيهَا فَعَلَى هَذَا، فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدْ خَالَفَهُمْ وَمِنْ كِتَابِ ابْنِ بَشِيرٍ: وَلَيْسَتْ الْقُبُورُ مَوْضِعَ زِينَةٍ وَلَا مُبَاهَاةٍ؛ وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ بِنَائِهَا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي الْمُبَاهَاةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْرُمُ مَعَ هَذَا الْقَصْدِ وَوَقَعَ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ فِيمَنْ أَوْصَى أَنْ يُبْنَى عَلَى قَبْرِهِ بَيْتٌ أَنَّهُ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ وَقَالَ: لَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ وَلَا كَرَامَةَ، وَظَاهِرُ هَذَا التَّحْرِيمِ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَنَفَّذَ وَصِيَّتَهُ، وَنَهَى عَنْهَا ابْتِدَاءً انْتَهَى. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ فَيَأْتِي عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الصَّلَاةِ فِي الدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ، بَلْ هَذَا الْغَصْبُ أَشَدُّ مِنْ

التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا غَصْبٌ لِحَقِّ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَوَّلُ لِلْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ، فَالْأَحْيَاءُ قَدْ يُمْكِنُ التَّحَلُّلُ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْأَمْوَاتِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ قَبْرًا لِيُدْفَنَ فِيهِ إذَا مَاتَ؛ لِأَنَّهُ تَحْجِيرٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ سَبَقَ كَانَ أَوْلَى بِالْمَوْضِعِ مِنْهُ وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا غَصْبَ فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ تَذْكِرَةٌ لِمَنْ حَفَرَ لَهُ، وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا مَعَ وُجُودِ السَّلَامَةِ مِنْ هَتْكِ الْحَرِيمِ، وَالْمَخَاوِفِ الَّتِي تَقَعُ لَهُمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَلَامٍ وَلَا بَيَانٍ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَذُبُّ عَنْ الدِّينِ وَيَذْكُرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَغَيْرَهَا، وَيُعَظِّمُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَيَنْشُرُهَا حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا مِنْ الْقَبَائِحِ، وَيُبَيِّنَ السُّنَّةَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَلَّ مَنْ يَعْلَمُ آدَابَهَا فِي الْوَقْتِ أَعْنِي فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، ثُمَّ أَبَاحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» فَجَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَائِدَةَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ تَذْكِرَةَ الْمَوْتِ [التوسل بالنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَصِفَةُ السَّلَامِ عَلَى الْأَمْوَاتِ أَنْ يَقُولَ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمَاتِ رَحِمَ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ) انْتَهَى. ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ) وَمَا زِدْت، أَوْ نَقَصْت فَوَاسِعٌ، وَالْمَقْصُودُ الِاجْتِهَادُ لَهُمْ فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُمْ أَحْوَجُ النَّاسِ لِذَلِكَ لِانْقِطَاعِ أَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِي قِبْلَةِ الْمَيِّتِ وَيَسْتَقْبِلُهُ بِوَجْهِهِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يَجْلِسَ فِي نَاحِيَةِ رِجْلَيْهِ إلَى رَأْسِهِ، أَوْ قُبَالَةِ وَجْهِهِ، ثُمَّ يُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا حَضَرَهُ مِنْ الثَّنَاءِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ الْمَشْرُوعَةَ، ثُمَّ يَدْعُو لِلْمَيِّتِ بِمَا أَمْكَنَهُ، وَكَذَلِكَ يَدْعُو عِنْدَ هَذِهِ الْقُبُورِ عِنْدَ نَازِلَةٍ نَزَلَتْ بِهِ، أَوْ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي زَوَالِهَا وَكَشْفِهَا عَنْهُ وَعَنْهُمْ، وَهَذِهِ صِفَةُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ عُمُومًا. فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْمُزَارُ مِمَّنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ فَيَتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَكَذَلِكَ يَتَوَسَّلُ الزَّائِرُ بِمَنْ يَرَاهُ الْمَيِّتُ مِمَّنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

بَلْ يَبْدَأُ بِالتَّوَسُّلِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذْ هُوَ الْعُمْدَةُ فِي التَّوَسُّلِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَالْمُشَرَّعُ لَهُ فَيَتَوَسَّلُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَنْ تَبِعَهُ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إذَا قُحِطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّك فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ) انْتَهَى. ثُمَّ يَتَوَسَّلُ بِأَهْلِ تِلْكَ الْمَقَابِرِ أَعْنِي بِالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ، ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدِيهِ وَلِمَشَايِخِهِ وَلِأَقَارِبِهِ وَلِأَهْلِ تِلْكَ الْمَقَابِرِ وَلِأَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَحْيَائِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلِمَنْ غَابَ عَنْهُ مِنْ إخْوَانِهِ وَيَجْأَرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ وَيُكْثِرُ التَّوَسُّلَ بِهِمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اجْتَبَاهُمْ وَشَرَّفَهُمْ وَكَرَّمَهُمْ فَكَمَا نَفَعَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا فَفِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ، فَمَنْ أَرَادَ حَاجَةً فَلْيَذْهَبْ إلَيْهِمْ وَيَتَوَسَّلُ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَخَلْقِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ وَعُلِمَ مَا لِلَّهِ تَعَالَى بِهِمْ مِنْ الِاعْتِنَاءِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ، وَمَا زَالَ النَّاسُ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَكَابِرِ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا يَتَبَرَّكُونَ بِزِيَارَةِ قُبُورِهِمْ وَيَجِدُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ حِسًّا وَمَعْنًى، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ النُّعْمَانِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِسَفِينَةِ النَّجَاءِ لِأَهْلِ الِالْتِجَاءِ فِي كَرَامَاتِ الشَّيْخِ أَبِي النَّجَاءِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ مَا هَذَا لَفْظُهُ: تَحَقَّقَ لِذَوِي الْبَصَائِرِ، وَالِاعْتِبَارِ أَنَّ زِيَارَةَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ مَحْبُوبَةٌ لِأَجْلِ التَّبَرُّكِ مَعَ الِاعْتِبَارِ، فَإِنَّ بَرَكَةَ الصَّالِحِينَ جَارِيَةٌ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ كَمَا كَانَتْ فِي حَيَاتِهِمْ وَالدُّعَاءُ عِنْدَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ، وَالتَّشَفُّعُ بِهِمْ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ انْتَهَى، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَلْيَذْهَبْ إلَيْهِمْ وَلْيَتَوَسَّلْ بِهِمْ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ

الْجَلِيلُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ آدَابِ السَّفَرِ مِنْ كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ مَا هَذَا نَصُّهُ: الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُسَافِرَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ إمَّا لِجِهَادٍ، أَوْ حَجٍّ إلَى أَنْ قَالَ: وَيَدْخُلُ فِي جُمْلَتِهِ زِيَارَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَقُبُورِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ، وَكُلُّ مَنْ يُتَبَرَّكُ بِمُشَاهَدَتِهِ فِي حَيَاتِهِ يُتَبَرَّكُ بِزِيَارَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَيَجُوزُ شَدُّ الرِّحَالِ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» . لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ؛ لِأَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ زِيَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ، وَإِنْ كَانَ يَتَفَاوَتُ فِي الدَّرَجَاتِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَذَكَرَ الْعَبْدَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِهِ لِرِسَالَةِ ابْن أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا هَذَا لَفْظُهُ: وَأَمَّا النَّذْرُ لِلْمَشْيِ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ فَلَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ وَإِلَى الْمَدِينَةِ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنْ الْكَعْبَةِ وَمِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُسْلِمٌ صَحِيحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا مُشْرِكٌ، أَوْ مُعَانِدٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي كِتَابِ اتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ قَالَ: اتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَحَبَّةٌ، وَنَقَلَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي تَهْذِيبِ الطَّالِبِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْفَاسِيِّ أَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبَةٌ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ يُرِيدُ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ. وَالْحَاصِلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَنَّهَا قُرْبَةٌ مَطْلُوبَةٌ لِنَفْسِهَا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِغَيْرِهَا فَتَنْفَرِدُ بِالْقَصْدِ وَشَدِّ الرَّحَّالِ إلَيْهَا، وَمَنْ خَرَجَ قَاصِدًا إلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا فَهُوَ فِي أَجَلِّ الطَّاعَاتِ وَأَعْلَاهَا فَهَنِيئًا لَهُ، ثُمَّ هَنِيئًا لَهُ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّك يَا كَرِيمُ. سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: اُنْظُرْ إلَى سِرِّ مَا وَقَعَ مِنْ هِجْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْمَدِينَةِ وَإِقَامَتِهِ بِهَا

حَتَّى انْتَقَلَ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ أَنَّ حِكْمَةَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ مَضَتْ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَتَشَرَّفُ الْأَشْيَاءُ بِهِ لَا هُوَ يَتَشَرَّفُ بِهَا فَلَوْ بَقِيَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مَكَّةَ إلَى انْتِقَالِهِ إلَى رَبِّهِ تَعَالَى لَكَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَدْ تَشَرَّفَ بِمَكَّةَ، إذْ أَنَّ شَرَفَهَا قَدْ سَبَقَ بِآدَمَ، وَالْخَلِيلِ وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ كَانَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ هِجْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْمَدِينَةِ فَتَشَرَّفَتْ الْمَدِينَةُ بِهِ أَلَا تَرَى إلَى مَا وَقَعَ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْبِقَاعِ الْمَوْضِعُ الَّذِي ضَمَّ أَعْضَاءَهُ الْكَرِيمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَفْضَلُ مِنْ الْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا وَانْظُرْ إلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي بَاشَرَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَجِدْهَا أَبَدًا تَتَشَرَّفُ بِحَسَبِ مُبَاشَرَتِهِ لَهَا وَبِقَدْرِ ذَلِكَ يَكُونُ التَّشْرِيفُ أَلَا تَرَى «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِي الْمَدِينَةِ: تُرَابُهَا شِفَاءٌ» . وَمَا ذَاكَ إلَّا لِتَرَدُّدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِتِلْكَ الْخُطَى الْكَرِيمَةِ فِي أَرْجَائِهَا لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ، أَوْ إغَاثَةِ مَلْهُوفٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمَّا أَنْ كَانَ مَشْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْجِدِهِ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ تَرَدُّدِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَظُمَ شَرَفُهُ بِذَلِكَ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ وَلَمَّا أَنْ كَانَ تَرَدُّدُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْنَ بَيْتِهِ وَمِنْبَرِهِ أَكْثَرَ مِنْ تَرَدُّدِهِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ الشَّرِيفَةُ بِنَفْسِهَا رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» انْتَهَى. وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا يُحَصِّلُ لِصَاحِبِهِ رَوْضَةً فِي الْجَنَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِنَفْسِهَا تُنْقَلُ إلَى الْجَنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْآدَابِ، وَهُوَ فِي زِيَارَةِ الْعُلَمَاءِ، وَالصُّلَحَاءِ وَمَنْ يَتَبَرَّكُ بِهِمْ. وَأَمَّا عَظِيمُ جَنَابِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ -

فصل زيارة سيد الأولين والآخرين

فَيَأْتِي إلَيْهِمْ الزَّائِرُ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ قَصْدُهُمْ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، فَإِذَا جَاءَ إلَيْهِمْ فَلْيَتَّصِفْ بِالذُّلِّ، وَالِانْكِسَارِ، وَالْمَسْكَنَةِ، وَالْفَقْرِ، وَالْفَاقَةِ، وَالْحَاجَةِ، وَالِاضْطِرَارِ، وَالْخُضُوعِ وَيُحْضِرْ قَلْبَهُ وَخَاطِرَهُ إلَيْهِمْ، وَإِلَى مُشَاهَدَتِهِمْ بِعَيْنِ قَلْبِهِ لَا بِعَيْنِ بَصَرِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَبْلَوْنَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ، ثُمَّ يُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَتَرَضَّى عَنْ أَصْحَابِهِمْ، ثُمَّ يَتَرَحَّمُ عَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، ثُمَّ يَتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ فِي قَضَاءِ مَآرِبِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ وَيَسْتَغِيثُ بِهِمْ وَيَطْلُبُ حَوَائِجَهُ مِنْهُمْ وَيَجْزِمُ بِالْإِجَابَةِ بِبَرَكَتِهِمْ وَيُقَوِّي حُسْنَ ظَنِّهِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ بَابُ اللَّهِ الْمَفْتُوحِ، وَجَرَتْ سُنَّتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَبِسَبَبِهِمْ وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِمْ فَلْيُرْسِلْ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَذِكْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ حَوَائِجِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ وَسَتْرِ عُيُوبِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ السَّادَةُ الْكِرَامُ، وَالْكِرَامُ لَا يَرُدُّونَ مَنْ سَأَلَهُمْ وَلَا مَنْ تَوَسَّلَ بِهِمْ، وَلَا مَنْ قَصَدَهُمْ وَلَا مَنْ لَجَأَ إلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامُ فِي زِيَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُرْسَلِينَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عُمُومًا. [فَصْلٌ زِيَارَةِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ] فَصْلٌ وَأَمَّا فِي زِيَارَةِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَكُلُّ مَا ذُكِرَ يَزِيدُ عَلَيْهِ أَضْعَافَهُ أَعْنِي فِي الِانْكِسَارِ، وَالذُّلِّ، وَالْمَسْكَنَةِ؛ لِأَنَّهُ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ الَّذِي لَا تُرَدُّ شَفَاعَتُهُ وَلَا يَخِيبُ مَنْ قَصْدَهُ وَلَا مَنْ نَزَلَ بِسَاحَتِهِ وَلَا مَنْ اسْتَعَانَ، أَوْ اسْتَغَاثَ بِهِ، إذْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قُطْبُ دَائِرَةِ الْكَمَالِ وَعَرُوسُ الْمَمْلَكَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ رَأَى صُورَتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَإِذَا هُوَ عَرُوسُ الْمَمْلَكَةِ فَمَنْ تَوَسَّلَ بِهِ، أَوْ اسْتَغَاثَ بِهِ، أَوْ طَلَبَ حَوَائِجَهُ مِنْهُ فَلَا يُرَدُّ وَلَا يَخِيبُ لِمَا شَهِدَتْ بِهِ الْمُعَايَنَةُ، وَالْآثَارُ وَيَحْتَاجُ إلَى الْأَدَبِ الْكُلِّيِّ فِي زِيَارَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ

اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ الزَّائِرَ يُشْعِرُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا هُوَ فِي حَيَاتِهِ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ أَعْنِي فِي مُشَاهَدَتِهِ لِأُمَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْوَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ وَعَزَائِمِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ جَلِيٌّ لَا خَفَاءَ فِيهِ. فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ: هَذِهِ الصِّفَاتُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ مَنْ انْتَقَلَ إلَى الْآخِرَةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَحْوَالَ الْأَحْيَاءِ غَالِبًا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى مِنْ حِكَايَاتٍ وَقَعَتْ مِنْهُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ حِينَ عَرْضِ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ عَلَيْهِمْ وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مَغِيبَةٌ عَنَّا. وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِعَرْضِ الْأَعْمَالِ عَلَيْهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ، وَالْكَيْفِيَّةُ فِيهِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا وَكَفَى فِي هَذَا بَيَانًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» انْتَهَى. وَنُورُ اللَّهِ لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ هَذَا فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ؟ ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَذْكِرَتِهِ مَا هَذَا لَفْظُهُ: ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إلَّا وَتُعْرَضُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْمَالُ أُمَّتِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً فَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ؛ فَلِذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] ، قَالَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالْآبَاءِ، وَالْأُمَّهَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا تَعَارُضَ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَصَّ نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْعَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ انْتَهَى. فَالتَّوَسُّلُ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُوَ مَحَلُّ حَطِّ أَحْمَالِ الْأَوْزَارِ وَأَثْقَالِ الذُّنُوبِ، وَالْخَطَايَا؛ لِأَنَّ بَرَكَةَ شَفَاعَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعِظَمَهَا عِنْدَ رَبِّهِ لَا يَتَعَاظَمُهَا ذَنْبٌ، إذْ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ الْجَمِيعِ فَلْيَسْتَبْشِرْ

مَنْ زَارَهُ وَيَلْجَأْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِشَفَاعَةِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ لَمْ يَزُرْهُ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا مِنْ شَفَاعَتِهِ بِحُرْمَتِهِ عِنْدَك آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَمَنْ اعْتَقَدَ خِلَافَ هَذَا فَهُوَ الْمَحْرُومُ أَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] فَمَنْ جَاءَهُ وَوَقَفَ بِبَابِهِ وَتَوَسَّلَ بِهِ وَجَدَ اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُنَزَّهٌ عَنْ خُلْفِ الْمِيعَادِ، وَقَدْ وَعَدَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالتَّوْبَةِ لِمَنْ جَاءَهُ وَوَقَفَ بِبَابِهِ وَسَأَلَهُ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، فَهَذَا لَا يَشُكُّ فِيهِ وَلَا يَرْتَابُ إلَّا جَاحِدٌ لِلدِّينِ مُعَانِدٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْحِرْمَانِ، وَقَدْ جَاءَ بَعْضُهُمْ إلَى زِيَارَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَدْخُلْ الْمَدِينَةَ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، بَلْ زَارَ مِنْ خَارِجِهَا أَدَبًا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَدْخُلُ فَقَالَ: أَمِثْلِي يَدْخُلُ بَلَدَ سَيِّدِ الْكَوْنَيْنِ لَا أَجِدُ نَفْسِي تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ كَمَا قَالَ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِرَسُولِ الْخَلِيفَةِ لَمَّا أَنْ أَتَى إلَيْهِ بِالْبَغْلَةِ لِيَرْكَبَهَا حَتَّى يَأْتِيَ إلَيْهِ لِعُذْرِهِ فِي كَوْنِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ انْخَلَعَتْ يَدَاهُ وَرُكْبَتَاهُ مِنْ الضَّرْبِ الَّذِي قَدْ وَقَعَ بِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ فَأَبَى أَنْ يَرْكَبَ، وَقَالَ: مَوْضِعٌ وَطِئَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَقْدَامِهِ الْكَرِيمَةِ مَا كَانَ لِي أَنْ أَطَأَهُ بِحَافِرِ بَغْلَةٍ وَمَشَى إلَيْهِ مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ إلَى الْخَلِيفَةِ فِي خَارِجِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَجَرَى لَهُ مَعَهُ مَا جَرَى. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْخَلِيفَةِ لَمَّا أَنْ سَأَلَهُ إذَا دَخَلَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يَتَوَجَّهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ إلَى الْقِبْلَةِ فَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَيْفَ تَصْرِفُ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ لَهُ: وَزِيَارَةٌ قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْمُسْلِمِينَ مَجْمَعٌ عَلَيْهَا وَفَضِيلَةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي» . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ زَارَنِي فِي الْمَدِينَةِ مُحْتَسِبًا كَانَ فِي جِوَارِي وَكُنْت لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي» قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْفَقِيهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمِمَّا لَمْ يَزَلْ مِنْ شَأْنِ مَنْ حَجَّ الْمُرُورُ بِالْمَدِينَةِ، وَالْقَصْدُ إلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّبَرُّكُ بِرُؤْيَةِ رَوْضَتِهِ وَمِنْبَرِهِ وَقَبْرِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَلَامِسِ يَدَيْهِ وَمَوَاطِئِ قَدَمَيْهِ، وَالْعَمُودِ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَيْهِ وَيَنْزِلُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ فِيهِ عَلَيْهِ وَبِمَنْ عَمَّرَهُ وَقَصَدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالِاعْتِبَارُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ سَمِعْت بَعْضَ مَنْ أَدْرَكْته يَقُولُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك يَا مُحَمَّدٌ يَقُولُهَا سَبْعِينَ مَرَّةً نَادَاهُ مَلَكٌ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك يَا فُلَانُ وَلَمْ تَسْقُطْ لَهُ حَاجَةٌ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَهْدِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمَّا وَدَّعْته قَالَ لِي أَلَك حَاجَةٌ إذَا أَتَيْت الْمَدِينَةَ سَتَرَى قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ قَالَ غَيْرُهُ وَكَانَ يُبْرِدُ إلَيْهِ الْبَرِيدَ مِنْ الشَّامِ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ: إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَا يَقِفُ وَوَجْهُهُ إلَى الْقَبْرِ لَا إلَى الْقِبْلَةِ، وَيَدْنُو وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَمَسُّ الْقَبْرَ بِيَدِهِ، وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَبْرِ رَأَيْته مِائَةَ مَرَّةٍ، وَأَكْثَرُ مَا يَفْعَلُ يَجِيءُ إلَى الْقَبْرِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّلَامُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَى أَبِي حَفْصٍ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَيَقُولُ إذَا دَخَلَ مَسْجِدَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: بِسْمِ اللَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَالسَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَصَلَّى اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك

وَجَنَّتِك وَاحْفَظْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ اقْصِدْ إلَى الرَّوْضَةِ وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ، وَالْمِنْبَرِ فَارْكَعْ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ وُقُوفِك بِالْقَبْرِ تَحْمَدُ اللَّهَ فِيهِمَا وَتَسْأَلُهُ تَمَامَ مَا خَرَجْت إلَيْهِ، وَالْعَوْنَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ رَكْعَتَاك فِي غَيْرِ الرَّوْضَةِ أَجْزَأْتُك، وَفِي الرَّوْضَةِ أَفْضَلُ، ثُمَّ تَقِفُ بِالْقَبْرِ مُتَوَاضِعًا مُتَوَقِّرًا فَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا يَحْضُرُك وَتُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَتَدْعُو لَهُمَا قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ وَخَرَجَ قَالَ مُحَمَّدٌ وَإِذَا خَرَجَ جَعَلَ آخِرَ عَهْدِهِ الْوُقُوفَ بِالْقَبْرِ، وَكَذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مُسَافِرًا، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَبْسُوطَةِ: وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَخَرَجَ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْوُقُوفُ بِالْقَبْرِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْغُرَبَاءِ فَقِيلَ لَهُ إنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَقْدِمُونَ مِنْ سَفَرٍ وَلَا يُرِيدُونَهُ إلَّا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً، أَوْ أَكْثَرَ فَيُسَلِّمُونَ وَيَدْعُونَ سَاعَةً فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ بِبَلَدِنَا، وَلَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ إلَّا لِمَنْ جَاءَ مِنْ سَفَرٍ، أَوْ أَرَادَهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَرَأَيْت أَهْلَ الْمَدِينَةِ إذَا خَرَجُوا مِنْهَا، أَوْ دَخَلُوهَا أَتَوْا الْقَبْرَ فَسَلَّمُوا قَالَ، وَذَلِكَ دَأْبِي قَالَ الْبَاجِيُّ: فَفَرْقٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْغُرَبَاءِ؛ لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ قَاصِدُونَ إلَى ذَلِكَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ مُقِيمُونَ بِهَا لَمْ يَقْصِدُوهَا مِنْ أَجْلِ الْقَبْرِ، وَالتَّسْلِيمِ. وَفِي الْعُتْبِيَّةِ يَبْدَأُ بِالرُّكُوعِ قَبْلَ السَّلَامِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ كِتَابِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْهِنْدِيِّ وَمَنْ وَقَفَ بِالْقَبْرِ لَا يَلْتَصِقْ بِهِ وَلَا يَمَسَّهُ وَلَا يَقِفْ عِنْدَهُ طَوِيلًا انْتَهَى. يَعْنِي بِالْوُقُوفِ طَوِيلًا أَنَّ الْحُجْرَةَ الشَّرِيفَةَ دَاخِلُ الدَّرَابِيزِ، فَإِذَا وَقَفَ طَوِيلًا ضَيَّقَ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا لَوْ وَقَفَ خَارِجَ الدَّرَابِيزِ فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقَّ الصَّلَاةِ وَانْتِظَارَهَا، وَالِاعْتِكَافَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ مِنْ دَاخِلِ الدَّرَابِيزِ الَّتِي هُنَاكَ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ مَحَلُّ احْتِرَامٍ وَتَعْظِيمٍ فَيُنَبِّهُ الْعَالِمُ

غَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ هُنَاكَ فَتَرَى مِنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ يَطُوفُ بِالْقَبْرِ الشَّرِيفِ كَمَا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ الْحَرَامِ وَيَتَمَسَّحُ بِهِ وَيُقَبِّلُهُ وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ مَنَادِيلَهُمْ وَثِيَابَهُمْ يَقْصِدُونَ بِهِ التَّبَرُّكَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاتِّبَاعِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَا كَانَ سَبَبُ عِبَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ لِلْأَصْنَامِ إلَّا مِنْ هَذَا الْبَابِ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ التَّمَسُّحَ بِجِدَارِ الْكَعْبَةِ، أَوْ بِجُدْرَانِ الْمَسْجِدِ، أَوْ بِالْمُصْحَفِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَبَرَّكُ بِهِ سَدًّا لِهَذَا الْبَابِ وَلِمُخَالِفَةِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ التَّعْظِيمِ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكُلُّ مَا عَظَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُعَظِّمُهُ وَنَتَّبِعُهُ فِيهِ، فَتَعْظِيمُ الْمُصْحَفِ قِرَاءَتُهُ، وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ لَا تَقْبِيلُهُ وَلَا الْقِيَامُ إلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ تَعْظِيمُهُ الصَّلَاةُ فِيهِ لَا التَّمَسُّحُ بِجُدْرَانِهِ. وَكَذَلِكَ الْوَرَقَةُ يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ فِي الطَّرِيقِ فِيهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، أَوْ اسْمُ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. تَرْفِيعُهُ إزَالَةُ الْوَرَقَةِ مِنْ مَوْضِعِ الْمَهَانَةِ إلَى مَوْضِعٍ تُرْفَعُ فِيهِ لَا بِتَقْبِيلِهَا، وَكَذَلِكَ الْخُبْزُ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مُلْقًى بَيْنَ الْأَرْجُلِ؛ تَعْظِيمُهُ أَكْلُهُ لَا تَقْبِيلُهُ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ تَعْظِيمُهُ اتِّبَاعُهُ لَا تَقْبِيلُ يَدِهِ وَقَدَمِهِ، وَلَا التَّمَسُّحُ بِهِ، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ تَعْظِيمُهُ بِاتِّبَاعِهِ لَا بِالِابْتِدَاعِ عِنْدَهُ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي الْمُصْحَفِ مُصَيْحِفٌ، وَفِي الْكِتَابِ كُتَيِّبٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ حِينَ مُنَاوَلَتِهِمْ الْمُصْحَفَ، وَالْكِتَابَ لَفْظَةَ حَاشَاك، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ مُسَيْجِدٌ وَفِي الدُّعَاءِ اُدْعُ لِي دُعَيْوَةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ شَنِيعَةٌ قَبِيحَةٌ لَوْ عَلِمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْخَطَرِ مَا تَكَلَّمُوا بِهَا، إذْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَعْظِيمُهُ مَطْلُوبٌ، وَالتَّصْغِيرُ ضِدُّهُ، وَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعَنْ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» انْتَهَى، فَإِذَا كَانَ هَذَا الذَّمُّ الْعَظِيمُ فِيمَنْ اتَّخَذَ الْمَوْضِعَ مَسْجِدًا فَكَيْف بِالطَّوَافِ عِنْدَهُ ، وَأَمَّا أَكْلُ التَّمْرِ عِنْدَهُ فِي الرَّوْضَةِ الْمُشَرَّفَةِ فَمَمْنُوعٌ، إذْ أَنَّ فِيهِ قِلَّةُ أَدَبٍ وَاحْتِرَامٍ مَعَهُ وَمَعَ مَسْجِدِهِ وَمَعَ

رَوْضَتِهِ الَّتِي عَظَّمَهَا وَرَفَعَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَامَّتَهُمْ يُلْقُونَ النَّوَى هُنَاكَ وَهُوَ أَذًى فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الذُّبَابُ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْأَذَى لِلْمَوْضِعِ الشَّرِيفِ مَا فِيهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُعَامِلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي عَظَّمَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالنَّقِيضِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَكَلَ التَّمْرَ حَصَلَ لُعَابُهُ فِي النَّوَاةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا وَيُلْقِيهَا فِي الْمَسْجِدِ وَلُعَابُهُ عَلَيْهَا، وَهَذَا بُصَاقٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ وَقِلَّةِ الِاحْتِرَامِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ . فَإِذَا زَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ قَدَرَ أَنْ لَا يَجْلِسَ فَهُوَ بِهِ أَوْلَى، فَإِنْ عَجَزَ، فَلَهُ أَنْ يَجْلِسَ بِالْأَدَبِ، وَالِاحْتِرَامِ، وَالتَّعْظِيمِ، وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ الزَّائِرُ فِي طَلَبِ حَوَائِجِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ أَنْ يَذْكُرَهَا بِلِسَانِهِ، بَلْ يُحْضِرُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْلَمُ مِنْهُ بِحَوَائِجِهِ وَمَصَالِحِهِ وَأَرْحَمُ بِهِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الْفَرَاشِ تَقَعُونَ فِي النَّارِ وَأَنَا آخُذُ بِحُجُزِكُمْ عَنْهَا» . أَوْ كَمَا قَالَ، وَهَذَا فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ أَعْنِي فِي التَّوَسُّلِ بِهِ وَطَلَبِ الْحَوَائِجِ بِجَاهِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ زِيَارَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجِسْمِهِ فَلْيَنْوِهَا كُلَّ وَقْتٍ بِقَلْبِهِ وَلْيُحْضِرْ قَلْبَهُ أَنَّهُ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَشَفِّعًا بِهِ إلَى مَنْ مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ السَّيِّدِ الْبَطَلْيُوسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رُقْعَتِهِ الَّتِي أَرْسَلَهَا إلَيْهِ مِنْ أَبْيَاتٍ إلَيْك أَفِرُّ مِنْ زَلَلِي وَذَنْبِي ... وَأَنْتَ إذَا لَقِيت اللَّهَ حَسْبِي وَزَوْرَةُ قَبْرِك الْمَحْجُوجُ قِدَمًا ... مُنَايَ وَبُغْيَتِي لَوْ شَاءَ رَبِّي فَإِنْ أُحْرَمْ زِيَارَتَهُ بِجِسْمِي ... فَلَمْ أُحْرَمْ زِيَارَتَهُ بِقَلْبِي إلَيْك غَدَتْ رَسُولَ اللَّهِ مِنِّي ... تَحِيَّةُ مُؤْمِنٍ دَنِفٍ مُحِبِّ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا شَفَاعَتَهُ وَلَا عِنَايَتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ وَأَدْخَلْنَا بِفَضْلِك فِي زُمْرَةِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ بِجَاهِهِ عِنْدَك، فَإِنَّ جَاهَهُ عِنْدَك عَظِيمٌ، ثُمَّ يُسَلِّمُ

عَلَى صَاحِبِهِ وَأَوَّلِ خُلَفَائِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَتَرَضَّى عَنْهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا حَضَرَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ كَذَلِكَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَتَوَسَّلُ بِهِمَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقَدِّمُهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ شَفِيعَيْنِ فِي حَوَائِجِهِ، ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْبَقِيعِ لِيَزُورَ مَنْ فِيهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا أَتَى إلَى الْبَقِيعِ بَدَأَ بِثَالِثِ الْخُلَفَاءِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ يَأْتِي قَبْرَ الْعَبَّاسِ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يَأْتِي مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَكَابِرِ وَيَنْوِي امْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي كَوْنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَزُورُ أَهْلَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الزِّيَارَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا قُرْبَةٌ بِنَفْسِهَا مُسْتَحَبَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا فِي الدِّينِ ظَاهِرَةٌ بَرَكَتُهَا عِنْدَ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ، وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ كَانَتْ إقَامَتُهُ كَثِيرَةً بِالْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، وَالسَّلَامِ. فَأَمَّا الزَّائِرُ أَيَّامًا وَيَرْجِعُ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ مُشَاهَدَتِهِ وَجِوَارِهِ، وَالْمُقَامِ عِنْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَإِنَّهُ عَرُوسُ الْمَمْلَكَةِ وَبَابُ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ دِينًا وَدُنْيَا وَأُخْرَى فَيَذْهَبُ إلَى أَيْنَ، وَقَدْ فَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَيْنَ الْأَفَّاقِي، وَالْمُقِيمِ فِي التَّنَفُّلِ بِالطَّوَافِ، وَالصَّلَاةِ فَقَالُوا: الطَّوَافُ فِي حَقِّ الْأَفَّاقِي أَفْضَلُ لَهُ، وَالتَّنَفُّلُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ أَفْضَلُ، وَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى فَمَنْ كَانَ مُقِيمًا خَرَجَ إلَى زِيَارَةِ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَمَنْ كَانَ مُسَافِرًا فَلْيَغْتَنِمْ مُشَاهَدَتَهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَقَدْ قَالَ لِي سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا أَنْ دَخَلَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ: مَا جَلَسْت فِي الْمَسْجِدِ إلَّا الْجُلُوسَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، وَمَا زِلْت وَاقِفًا هُنَاكَ حَتَّى رَحَلَ الرَّكْبُ وَلَمْ أَخْرُجْ إلَى بَقِيعٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَمْ أَزُرْ غَيْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ قَدْ خَطَرَ لِي أَنْ أَخْرُجَ إلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَقُلْت: إلَى أَيْنَ أَذْهَبُ؟ هَذَا بَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَفْتُوحُ

لِلسَّائِلِينَ، وَالطَّالِبِينَ، وَالْمُنْكَسِرِينَ، وَالْمُضْطَرِّينَ، وَالْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يُقْصَدُ مِثْلُهُ، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى هَذَا ظَفَرَ وَنَجَحَ بِالْمَأْمُولِ، وَالْمَطْلُوبِ، أَوْ كَمَا قَالَ . ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُ ذَلِكَ، فَإِذَا زَارَ فَلْيَعْتَبِرْ فِي حَالِ مَنْ زَارَهُ وَمَا صَارَ إلَيْهِ فِي قَبْرِهِ مِنْ الْحَمَإِ الْمَسْنُونِ وَهِيَ الطِّينَةُ الْحَارَّةُ الْمُنْتِنَةُ الْعَفِنَةُ، وَمَاذَا سُئِلَ عَنْهُ، وَبِمَاذَا أَجَابَ وَمَا هُوَ حَالُهُ هَلْ فِي جَنَّةٍ، أَوْ ضِدِّهَا، وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّرَحُّمِ عَلَيْهِ وَرَفْعِ مَا بِهِ مِنْ الْكَرْبِ إنْ كَانَ بِهِ وَيَسْأَلُ لَهُ جَلْبَ الرَّحْمَةِ وَرَفْعَ الدَّرَجَاتِ وَيُشْعِرُ نَفْسَهُ أَنَّهُ حَصَلَ فِي عَسْكَرِهِمْ، إذْ كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ كَمَا قِيلَ: مَنْ عَاشَ مَاتَ وَمَنْ مَاتَ فَاتَ وَأَنَّهُ الْآنَ كَأَنَّهُ يَسْأَلُ وَيُفَكِّرُ فِي مَاذَا يُجِيبُ، وَهُوَ فِي قَبْرِهِ وَحِيدٌ فَرِيدٌ قَدْ رَحَلَ عَنْهُ أَهْلُهُ وَمَعَارِفُهُ وَوَلَدُهُ وَمَالُهُ فَيَكُونُ مَشْغُولًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» انْتَهَى. فَيَتَعَلَّقُ بِمَوْلَاهُ فِي الْخَلَاصِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَطِرَةِ الْعَظِيمَةِ وَيَلْجَأُ إلَيْهِ وَيَتَوَسَّلُ وَلَا يَقْرَأُ الزَّائِرُ عِنْدَ قَبْرِ الْمَيِّتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَغْلِهِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ يَحْتَاجُ صَاحِبُهَا إلَى التَّدَبُّرِ وَإِحْضَارِ الْفِكْرَةِ فِيمَا يَتْلُوهُ وَفِكْرَتَانِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَنَا أَعْتَبِرُ فِي وَقْتٍ وَأَقْرَأُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَالْقِرَاءَةُ إذَا قُرِئَتْ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ، إذْ ذَاكَ فَلَعَلَّ أَنْ يَلْحَقَ الْمَيِّتَ مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ شَيْءٌ يَنْفَعُهُ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تَرِدْ بِذَلِكَ وَكَفَى بِهَا. الثَّانِي: شَغْلُهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفِكْرَةِ، وَالِاعْتِبَارِ فِي حَالِ الْمَوْتِ وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْوَقْتُ مَحَلٌّ لِهَذَا فَقَطْ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى سِيَّمَا لِأَجْلِ الْغَيْرِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ فِي بَيْتِهِ وَأَهْدَى لَهُ لَوَصَلَتْ، وَكَيْفِيَّةُ وُصُولِهَا أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ تِلَاوَتِهِ وَهَبَ ثَوَابَهَا لَهُ، أَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ثَوَابَهَا لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ دُعَاءٌ بِالثَّوَابِ؛ لَأَنْ يَصِلَ إلَى أَخِيهِ، وَالدُّعَاءُ يَصِلُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقُبُورِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى قَبْرِهِ سَبَبًا لِعَذَابِهِ، أَوْ

لِزِيَادَتِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِهِ آيَةٌ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا فَيُقَالُ لَهُ: أَمَا قَرَأْتَهَا أَمَا سَمِعْتهَا فَكَيْفَ خَالَفْتهَا فَيُعَذَّبُ، أَوْ يُزَادُ فِي عَذَابِهِ لِأَجْلِ مُخَالِفَتِهِ لَهَا كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ؛ أَنَّهُ رُئِيَ فِي عَذَابٍ عَظِيمٍ فَقِيلَ لَهُ: أَمَا تَنْفَعُك الْقِرَاءَةُ الَّتِي تُقْرَأُ عِنْدَك لَيْلًا وَنَهَارًا فَقَالَ: إنَّهَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ عَذَابِي وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْقُبُورِ بِدْعَةٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ وَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ الْكَرَاهَةُ انْتَهَى. فَيَكُونُ الْعَالِمُ يُبَيِّنُ هَذِهِ السُّنَّةَ فِي الزِّيَارَةِ وَيُوَضِّحُهَا حَتَّى تُعْرَفَ وَيَتَعَاهَدَهَا النَّاسُ، وَيُبَيِّنُ لِمَنْ حَضَرَهُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي الزِّيَارَةِ مِنْ الْبِدَعِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَكِلُّ السَّمْعُ عَنْهَا فَكَيْفَ بِرُؤْيَتِهَا وَمُبَاشَرَتِهَا فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي رُكُوبِهِنَّ عَلَى الدَّوَابِّ فِي الذَّهَابِ، وَالرُّجُوعِ وَفِي مَسِّ الْمُكَارِي لَهُنَّ وَتَحْضِينِهِ لِلْمَرْأَةِ فِي إرْكَابِهَا، وَإِنْزَالِهَا وَحِينَ مُضِيِّهَا يَجْعَلُ يَدَهُ عَلَى فَخْذِهَا وَتَجْعَلُ يَدَهَا عَلَى كَتِفِهِ مَعَ أَنَّ يَدَهَا وَمِعْصَمَهَا مَكْشُوفَانِ لَا سِتْرَ عَلَيْهِمَا سِيَّمَا مَعَ مَا يَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْخَوَاتِمِ، وَالْأَسَاوِرِ مِنْ الذَّهَبِ، أَوْ الْفِضَّةِ، أَوْ هُمَا مَعًا مَعَ الْخِضَابِ فِي الْغَالِبِ وَتَقْصِدُ مَعَ ذَلِكَ إظْهَارَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ فَعَلَهُ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ لَا يَعْرِفُ لَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ وَمُنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَرَاهُ الزَّوْجُ، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ، أَوْ الْعَالِمُ، أَوْ غَيْرُهُمْ فَيَسْكُتُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ مَعَ أَنَّهَا تُنَاجِي الْمُكَارِيَ وَتُحَدِّثُهُ كَأَنَّهُ زَوْجُهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا، بَلْ الْعَجَبُ أَنَّ زَوْجَهَا وَغَيْرَهُ مِمَّنْ ذُكِرَ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ بِالْحَضْرَةِ وَيَعْلَمُونَهُ بِالْغَيْبَةِ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ، وَكُلُّ مَنْ يُعَايِنُهُمْ مِنْ النَّاسِ سُكُوتٌ لَا يَتَكَلَّمُونَ وَلَا يُغَيِّرُونَ وَلَا يَجِدُونَ لِذَلِكَ غَيْرَةً إسْلَامِيَّةً فِي الْغَالِبِ، فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ إذَا رَآهُ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ مَنْ يُجَالِسُهُ وَيَرَاهُ تَنَبَّهَ النَّاسُ لِهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَلَّ فَاعِلُهَا، فَإِنْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ يَعْلَمُ بِسَبَبِ إشَاعَةِ الْعَالِمِ ذَلِكَ كُلَّهُ أَنَّهُ عَاصٍ وَكَفَى بِهَذِهِ نِعْمَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا ذَلِكَ رُجِيَ لَهُمْ التَّوْبَةُ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي ذَهَابِهِنَّ وَعَوْدِهِنَّ. وَأَمَّا فِي حَالِ زِيَارَتِهِنَّ الْقُبُورَ فَأَشْنَعُ وَأَعْظَمُ؛ لِأَنَّهَا

اشْتَمَلَتْ عَلَى مَفَاسِدَ عَدِيدَةٍ: فَمِنْهَا: مَشْيُهُنَّ بِاللَّيْلِ مَعَ الرِّجَالِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ مَعَ كَثْرَةِ الْخَلَوَاتِ هُنَاكَ وَكَثْرَةِ الدُّورِ الْمُتَيَسِّرَةِ، وَكَشْفُهُنَّ لِوُجُوهِهِنَّ وَغَيْرِهَا حَتَّى كَأَنَّهُنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ خَالِيَاتٌ فِي بَيْتِهِنَّ، وَيَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ مُحَادَثَتُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ وَمَزْحُهُنَّ وَمُلَاعَبَتُهُنَّ وَكَثْرَةُ الضَّحِكِ مَعَ الْغِنَاءِ فِي مَوْضِعِ الْخُشُوعِ، وَالِاعْتِبَارِ، وَالذُّلِّ، فَإِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْحُزْنِ، وَالْخَوْفِ ضِدَّ مَا يَفْعَلُونَهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا الْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ، وَالرَّفَثَ فِي الصِّيَامِ، وَالضَّحِكَ عِنْدَ الْمَقَابِرِ» انْتَهَى. فَيَحِقُّ لِمَنْ مَصِيرُهُ إلَى هَذَا عَدَمُ اللَّهْوِ، وَاللَّعِبِ، وَخُرُوجُهُنَّ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَوْ كَانَ بِالنَّهَارِ لَخِيفَ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْكُبْرَى فَكَيْفَ بِهِ لَيْلًا، وَيَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْوُعَّاظِ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَالْكَرَاسِيِّ، وَالْمُحَدِّثِينَ مِنْ الْقُصَّاصِ بَيْنَ الْمَقَابِرِ فِي اللَّيَالِي الْمُقْمِرَةِ وَغَيْرِهَا، وَاجْتِمَاعِ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مُخْتَلِطِينَ، وَكَذَلِكَ الْقُرَّاءُ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِالتَّرْجِيعِ، وَالزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ، وَالْوَقَارِ، وَالتَّمْطِيطِ، وَالْمَدِّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَتَخْفِيفِ الْمُشَدَّدِ وَعَكْسِهِ، وَتَرْتِيبِهَا عَلَى تَرْتِيبِ هَنُوكِ الْغِنَاءَ، وَالطَّرَائِقِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ وَسَوَاءٌ كَانَ الزُّوَّارُ رِجَالًا، أَوْ نِسَاءً فَكُلُّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ صِفَةُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ الْمَشْرُوعَةِ أَعْنِي لِلرِّجَالِ، إذْ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لِلنِّسَاءِ حِينَ رَآهُنَّ فِي جِنَازَةٍ: «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِفَاطِمَةَ ابْنَتِهِ لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكَدَاءَ يَعْنِي الْقُبُورَ وَذَكَرَ وَعِيدًا شَدِيدًا، هَذَا وَهُنَّ فِي حَالِ التَّشْيِيعِ لِلْجِنَازَةِ فَمَا بَالُك بِهِنَّ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَكَذَلِكَ زِيَارَتُهُنَّ فِي النَّهَارِ مَمْنُوعَةٌ أَيْضًا، بَلْ النَّهَارُ أَشَدُّ كَشْفًا لِمَا يُظْهِرْنَهُ مِنْ الزِّينَةِ وَكَشْفِهَا وَعَدَمِ الْحَيَاءِ فِي ذَلِكَ

كُلِّهِ. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مَا قَرَّرَهُ النِّسَاءُ فِي هَذِهِ الزِّيَارَةِ الَّتِي ابْتَدَعْنَهَا لِأَنْفُسِهِنَّ فَإِنَّهُنَّ جَعَلْنَ لِكُلِّ مَشْهَدٍ يَوْمًا مَعْلُومًا فِي الْجُمُعَةِ حَتَّى أَتَيْنَ عَلَى أَكْثَرِ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ لِيَجِدْنَ السَّبِيلَ إلَى وُصُولِهِنَّ إلَى مَقَاصِدِهِنَّ الذَّمِيمَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ فَجَعَلْنَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلسَّيِّدِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَالسَّبْتِ لِلسَّيِّدَةِ نَفِيسَةَ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَالْجُمُعَةِ لِلْقَرَافَةِ لِزِيَارَةِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ لِأَمْوَاتِهِنَّ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي تَرَتَّبَتْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الدَّيِّنَ الْغَيُورَ مِنْهُمْ عَلَى زَعْمِهِ لَا يُمَكِّنُ زَوْجَتَهُ أَنْ تَخْرُجَ وَحْدَهَا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا الْخُرُوجَ، أَوْ تُفَارِقُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّشْوِيشَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا مِنْهَا مِنْ الِامْتِنَاعِ وَغَيْرِهِ بِسَبَبِ مَنْعِهِ لَهَا فَيَخْرُجُ مَعَهَا لِئَلَّا يُفَارِقَهَا فَيُبَاشِرُ مَا ذُكِرَ، أَوْ بَعْضَهُ، أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِ، أَوْ يَسْمَعُ وَيَرَى وَهِيَ كَذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهَا وَيَقَعُ اسْتِمْتَاعُ الْأَجَانِبِ بِزَوْجَتِهِ بِالْمُزَاحِ، وَالْبَسْطِ، وَالْمُلَاعَبَةِ مَعَهَا، وَاللَّمْسِ لَهَا بِحُضُورِهِ، وَقَدْ يَرَى هَذَا مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَالسِّيَاسَةِ، وَالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عِرْضِ زَوْجَتِهِ وَعَلَى عِرْضِ مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ مِنْ زَوْجَتِهِ. وَقَدْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ، وَهَذَا بَلَاءٌ عَظِيمٌ وَخَسْفٌ بَاطِنٌ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ هَذَا إنْ احْتَمَلَ الزَّوْجُ مَا رَأَى مِمَّا وَقَعَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ الْعَدِيدَةِ، وَإِنْ غَلَبْته الْغَيْرَةُ، وَضَاقَ ذَرْعُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا فَعَلَ مَعَ زَوْجَتِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَيَقَعُ الضَّرْبُ، وَالْخِصَامُ، وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى الْوَالِي، وَالْحَاكِمِ، وَالْحَبْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. هَذَا إنْ كَانَ الزَّوْجُ سَالِمًا مِنْ الرِّيَاسَةِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَرَأَّسُ، أَوْ هُوَ رَئِيسٌ وَلَا يَرْضَى أَنْ يَخْرُجَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتْرُكَهَا وَحْدَهَا لِمَا يَعْلَمُ هُنَاكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَيُرْسِلُ مَعَهَا مَنْ يَكُونُ لَهَا عَوْنًا عَلَى ذَلِكَ مِنْ صَبِيٍّ، أَوْ عَبْدٍ، أَوْ عَجُوزٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا كَانَ أَكْثَرَ فَسَادًا مِنْ خُرُوجِهَا وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَهَابُ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَيَبْتَدِئُهَا بِكَلَامٍ، أَوْ مُزَاحٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ هَذَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً لَمْ تَبْتَدِئْ أَحَدًا بِكَلَامٍ وَلَا مُزَاحٍ، فَإِنْ وَجَدُوا مَعَهَا أَحَدًا مِمَّنْ ذُكِرَ

فصل في خروج النساء إلى دور البركة

تَوَصَّلُوا بِسَبَبِهِ إلَى مَا يَخْتَارُونَ مِنْهَا بِسَبَبِ تَوَسُّلِ الْوَاسِطَةِ وَتَحْسِينِهِ وَتَزْيِينِهِ لِلْفِعْلِ الذَّمِيمِ وَتَيْسِيرِهِ لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ قَدْ عَدِمَ الطَّرَفَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَسْتَحْيِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ زَوْجَتِهِ. وَالثَّانِي لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مَنْ يُرْسِلُهُ مَعَهَا وَعِنْدَهُ غَيْرَةٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتْرُكَهَا تَخْرُجُ وَحْدَهَا وَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا الْخُرُوجَ فَيَخْرُجُ مَعَهَا وَيَمْشِي بَعِيدًا عَنْهَا، وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي الْفَسَادِ، وَالْفِتْنَةِ بِكَثْرَةٍ تَتَبُّعِ فُرُوعِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعِصْمَةَ فِي الْحَرَكَاتِ، وَالسَّكَنَاتِ، وَقَدْ قَالَ لِي بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَكَانَ وَرَدَ إلَى مَدِينَةِ مِصْرَ: وَاَللَّهِ مَا عِنْدَنَا أَحَدٌ بِبَغْدَادَ يَفْعَلُ هَذَا وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ عِنْدَنَا وَنَفَرَ النُّفُورَ الْكُلِّيَّ مِنْ إقَامَتِهِ بِإِقْلِيمِ مِصْرَ، وَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرُدَّهُ إلَى بَغْدَادَ، إذْ أَنَّهَا عِنْدَهُ أَقَلُّ مَفَاسِدَ مِنْ مِصْرَ، فَإِذَنْ كَانَتْ بَغْدَادُ عَلَى هَذَا أَقَلَّ مَفَاسِدَ مِنْ مِصْرَ وَهِيَ مُقَامُ التَّتَارِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهَا الْمَدِينَةُ الْمَلْعُونَةُ يُخْسَفُ بِهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَى الْمَشْرِقِ» فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ [فَصْلٌ فِي خُرُوجِ النِّسَاء إلَى دُورِ الْبِرْكَةِ] فَصْلٌ فِي خُرُوجِهِنَّ إلَى دُورِ الْبِرْكَةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبِرْكَةِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، إذْ أَنَّهَا احْتَوَتْ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَمِنْهَا: رُكُوبُهُنَّ إلَيْهَا عَلَى الدَّوَابِّ فِي الذَّهَابِ، وَالْعَوْدِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمِنْهَا خُرُوجُ بَعْضِهِنَّ مِنْ الْبُيُوتِ الَّتِي هُنَاكَ عَلَى شَاطِئِ الْبِرْكَةِ فِي الطَّرِيقِ مُتَبَرِّجَاتٍ مُتَزَيِّنَاتٍ مُخْتَلِطَاتٍ بِالرِّجَالِ، وَبَعْضُهُنَّ يَغْتَسِلْنَ فِي الْبِرْكَةِ، وَبَعْضُ الرِّجَالِ يَنْظُرُونَ فِي الْغَالِبِ إلَيْهِنَّ وَمَا يَفْعَلْنَ أَيْضًا مِنْ تَبَرُّجِهِنَّ إنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْبُيُوتِ مَنْ يَنْظُرُهُنَّ مِنْ الطَّاقَاتِ وَأَبْوَابِ الرِّيحِ، وَالْأَسْطِحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُظْهِرْنَ مَا بِهِنَّ مِنْ الزِّينَةِ وَمَا عَلَيْهِنَّ مِنْ حُسْنِ الثِّيَابِ، وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمُمَازَحَتِهِنَّ لِلرِّجَالِ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي

فصل في خروج النساء إلى الدور التي على البساتين

أَيَّامِ الْخَضِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَحَلٌّ لِفُرْجَةِ الرِّجَالِ وَفُسْحَتِهِمْ فَقَلَّ مَنْ تَرَاهُ هُنَاكَ إلَّا وَهُوَ رَافِعٌ رَأْسَهُ إلَى الطَّاقَاتِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِنَّ الزِّينَةُ، وَالتَّبَرُّجُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِ الْمُتَفَرِّجِينَ أَنَّهُمْ لَا يَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ عَنْ الْمَحَارِمِ وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَرْتَكِبُونَ الْمُحَرَّمَ جِهَارًا فَيَمْشُونَ فِي زُرُوعِ النَّاسِ قَصْدًا وَيَتَّخِذُونَهَا طَرِيقًا وَمَجَالِسَ وَرُبَّمَا عَمِلُوا فِيهَا السَّمَاعَ، وَإِنْشَادَ الشَّعْرِ الرَّقِيقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى التَّغَزُّلَاتِ الَّتِي تُمِيلُ قُلُوبَ الرِّجَالِ فَكَيْفَ بِالنِّسَاءِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رِفْقًا بِالْقَوَارِيرِ» انْتَهَى. يَعْنِي النِّسَاءَ، وَذَلِكَ لِضَعْفِهِنَّ عَنْ سَمَاعِ الصَّوْتِ الْحَسَنِ فَكَيْفَ بِهِ مَعَ التَّغَزُّلَاتِ، وَقَدْ قَالُوا: إنَّ الْغِنَاءَ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ فَتَرِقُّ طِبَاعُهُنَّ لِمَا يَسْمَعْنَ وَيَرَيْنَ مِنْ ذَلِكَ وَيُشَاهِدْنَهُ فَيَمِلْنَ إلَيْهِ فَيَدْخُلُ الْفَسَادُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا، وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ إلَى الْفِرَاقِ، وَالْبَقَاءِ عَلَى دَخَنٍ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ [فَصْلٌ فِي خُرُوج النِّسَاء إلَى الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبَسَاتِينِ] فَصْلٌ فِي الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبَسَاتِينِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبَسَاتِينِ، إذْ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَشْفَةً لَهُنَّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبُسْتَانُ لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ أَخَفُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ فِي الدُّخُولِ إلَى الْبُسْتَانِ تَحَرَّزَ مِمَّا يَتَوَقَّعُهُ بِغَلْقِ الطَّاقَاتِ، وَالْأَبْوَابِ، وَالْأَسْطِحَةِ وَيَمْنَعُهُنَّ مِنْ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيُبَاحُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ أَهْلَهُ إلَى الْبُسْتَانِ بِشَرْطَيْنِ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ الْبُسْتَانُ لَا يُكْشَفُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَأَنْ لَا يَدْخُلَهُ مَعَ أَهْلِهِ غَيْرُ ذِي مَحْرَمٍ [فَصْلٌ فِي رُكُوبِ النِّسَاء الْبَحْرَ] فَصْلٌ فِي رُكُوبِهِنَّ الْبَحْرَ وَيَنْبَغِي لَهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى مَوْضِعٍ يَحْتَجْنَ فِيهِ إلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ لِلْفُرْجَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مُبَاحًا، إذْ أَنَّ رُكُوبَ الْبَحْرِ كَشْفَةٌ لَهُنَّ، وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ رُكُوبِ الدَّوَابِّ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى

فصل في خروج النساء إلى المحمل

تَقَصِّي جُزْئِيَّاتِهِ هَذَا إنْ كَانَ مَوْضِعُ الْفُرْجَةِ لَا مُنْكَرَ فِيهِ وَلَا فِتْنَةً يَتَخَوَّفُ وُقُوعَهَا، وَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ مَفْسَدَةٌ فَالْأَوْلَى الْمَنْعُ مِثْلُ خُرُوجِهِنَّ إلَى الْقَنَاطِرِ وَغَيْرِهَا وَاجْتِمَاعِ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ وَمَا يَجْرِي هُنَاكَ مِمَّا يَكِلُّ السَّمْعُ عَنْهُ فَكَيْفَ بِرُؤْيَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ كَسْرِ الْخَلِيجِ وَمَا يَجْتَمِعُ فِيهِ مِنْ الْغَوْغَاءِ وَمَا فِيهِ الْيَوْمَ مِنْ الْفِتَنِ وَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى إزْهَاقِ النُّفُوسِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَرَقِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ اعْتَادُوا فِيهِ عَادَةً ذَمِيمَةً وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْحَرَافِيشِ وَغَيْرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَمُدُّونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ يُجَرِّدُونَهُ وَيَأْخُذُونَ مَا مَعَهُ وَيَضْرِبُونَهُ وَرُبَّمَا قَتَلُوهُ وَأَعْدَمُوهُ أَلْبَتَّةَ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَاكِمٌ؛ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ فِيهِمْ عَلَى مَا يَزْعُمُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ [فَصْلٌ فِي خُرُوج النِّسَاء إلَى الْمَحْمَلِ] فَصْلٌ فِي خُرُوجِهِنَّ إلَى الْمَحْمَلِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى شُهُودِ الْمَحْمَلِ حِينَ يَدُورُ وَيَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي يَسْتَعِدُّ فِيهَا لِدَوَرَانِ الْمَحْمَلِ، إذْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ أَشْيَاءُ عَدِيدَةٌ فَمِنْهَا تَزْيِينُ الدَّكَاكِينِ فِي الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا بِالْقُمَاشِ مِنْ الْحَرِيرِ، وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ لَا يُنَازَعُ فِيهِ، وَتَحْرِيمُهُ لَا خَفَاءَ فِيهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ دَوَرَانِهِ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ، وَيَقَعُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ الْمَفَاسِدِ اسْتِمْتَاعُ الرِّجَالِ بِالْحَرِيرِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ فِي الشَّرْعِ لِحَكَّةٍ، أَوْ جِهَادٍ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ فَسَمَّى اسْتِعْمَالَ الْحَصِيرِ لُبْسًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لُبْسَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَزْيِينِهِمْ بِمَسَانِدِ الْحَرِيرِ وَالْبَشْخَانَاتِ الْمُعَلَّقَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حَرَامٌ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِيهَا صُوَرٌ مُحَرَّمَةٌ فَيَتَأَكَّدُ الْوَعِيدُ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحُ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا» . . وَمَا وَرَدَ أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُصَوِّرِينَ فِي الدُّنْيَا: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ انْتَهَى. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ أَعْنِي فِي لُحُوقِ الْإِثْمِ بَيْنَ مَنْ صَنَعَهَا وَبَيْنَ مِنْ اسْتَحْسَنَهَا وَبَيْنَ مَنْ جَلَسَ إلَيْهَا وَبَيْنَ مَنْ رَضِيَ بِهَا وَأَحَبَّهَا وَبَيْنَ مَنْ رَآهَا وَلَمْ يُنْكِرْ وَلَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّغْيِيرِ بِحَسَبِ مَرَاتِبِ التَّغْيِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَهَذَا فِيمَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ اسْتَحَلَّهُ فَالْحُكْمُ فِيهِ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا فَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِرَجُلٍ وَلَا لِامْرَأَةٍ عُمُومًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لُبْسَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْلِسَ تَحْتَ الْبَشْخَانَاتِ وَلَا مَسَانِدِ الْحَرِيرِ وَشِبْهِهَا، وَلَا أَنْ يَمْشِيَ تَحْتَهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى فِعْلِهَا، بَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِهَا بِشَرْطِ أَنْ يُزِيلَهَا دُونَ إفْسَادِهَا وَلَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ. أَمَّا الرِّجَالُ فَتَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بَيِّنٌ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالْأَدِلَّةُ مَانِعَةٌ لَهُنَّ مِنْ اسْتِعْمَالِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَعْنِي مِنْ الْمَسَانِدِ وَالْبَشْخَانَاتِ الْحَرِيرِ وَشِبْهِهَا. وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْكَتَّانِ الرَّفِيعِ، أَوْ الْقُطْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا فَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ وَلَا يَصِلُ إلَى التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُبَاحٌ أَعْنِي لُبْسَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ شَرْعًا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ، وَفِيهِ ضَرْبٌ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا يُبْلِيهَا وَتَتَدَنَّسُ بِمَا يُلَاقِيهَا مِنْ غُبَارٍ وَدُخَانِ مِصْبَاحٍ وَغَيْرِهِمَا دُونَ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَالْأَدِلَّةُ دَالَّةٌ عَلَى مَنْعِ اسْتِعْمَالِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى النِّسَاءِ كَالرِّجَالِ إلَّا مَا أَبَاحَ الشَّرْعُ لَهُنَّ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ وَلِهَذَا أَبَاحَ الْعُلَمَاءُ لَهَا اللِّحَافَ، وَالْفِرَاشَ مِنْ الْحَرِيرِ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ لُبْسٌ لَهُنَّ وَلَمْ يَعُدُّوهُ إلَى غَيْرِ اللُّبْسِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا اتِّخَاذُ الْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ كَانَتْ لِلزِّينَةِ، أَوْ لِلِاسْتِعْمَالِ فَذَلِكَ كُلُّهُ حَرَامٌ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ كَانَتْ عَاصِيَةً وَيَجِبُ

عَلَيْهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ زَكَاةُ تِلْكَ الْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِشُرُوطِهَا مَعَ وُجُودِ الْإِثْمِ، إذْ أَنَّ التَّوْبَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ، وَالتَّوْبَةُ لَا تَصِحُّ مِنْهَا إلَّا بَعْدَ الْإِقْلَاعِ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي تَابَتْ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَا دَامَتْ تِلْكَ الْآنِيَةُ عَلَى حَالِهَا إلَّا بِإِخْرَاجِهَا مِنْ يَدِهَا وَعَنْ مِلْكِهَا لِمَنْ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ لَهَا وَذَلِكَ إذَا تَمَكَّنَتْ مِنْ فِعْلِهِ فَإِنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهِ فَتَوْبَتُهَا صَحِيحَةٌ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا اسْتِعْمَالُ الْفِرَاشِ، وَاللِّحَافِ مِنْ الْحَرِيرِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لَهَا خَاصَّةً وَأَمَّا زَوْجُهَا، فَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لَهَا فَلَا يَدْخُلُ الْفِرَاشَ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهَا وَلَا يُقِيمُ فِي الْفِرَاشِ بَعْدَ قِيَامِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ قَامَتْ ضَرُورَةٌ، ثُمَّ تَرْجِعُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ، بَلْ يَنْتَقِلُ مِنْهُ لِمَوْضِعٍ يُبَاحُ لَهُ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى فِرَاشِهَا وَإِنْ قَامَتْ وَهُوَ نَائِمٌ فَتُوقِظُهُ حَتَّى يَنْتَقِلَ إلَى مَوْضِعٍ يُبَاحُ لَهُ، أَوْ تُزِيلُهُ عَنْهُ انْتَهَى. هَذَا حُكْمُ الزَّوْجِ مَعَهَا إنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالْحُكْمِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهَا الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَتْ جَاهِلَةً بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ يُعَلِّمُهُ فَيُعَلِّمَهَا، أَوْ يَأْذَنَ لَهَا فِي الْخُرُوجِ لِتَتَعَلَّمَ وَإِنْ أَبَى أَنْ تَخْرُجَ فَلْتَخْرُجْ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا وَلَا تَكُونُ عَاصِيَةً وَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ لَهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَذِنَ لَهَا الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا الْأَوْلَادُ الذُّكُورُ فَفِيهِمْ خِلَافٌ، وَالْمَنْعُ أَوْلَى، وَهَذَا الْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي شَأْنِ الْحَرِيرِ فِي الْبُيُوتِ وَأَمَّا فِي الْأَسْوَاقِ، وَالدَّكَاكِينِ فَالزِّينَةُ فِيهَا أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ دِينًا وَدُنْيَا؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ فِي الْغَالِبِ خَاصٌّ بِأَهْلِهِ فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْأَسْوَاقِ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ هَذَا مَعَ مَا فِي الزِّينَةِ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَالْمُبَاهَاةِ، وَالتَّفَاخُرِ الْمَوْجُودِ بِالْفِعْلِ، وَالتَّكَاثُرِ بِعَرَضِ الدُّنْيَا الدَّنِيئَةِ وَكَسْرِ خَوَاطِرِ الْفُقَرَاءِ إذَا رَأَوْا ذَلِكَ أَمَّا إضَاعَةُ الْمَالِ فَلِأَنَّهُمْ يُوقِدُونَ الْقَنَادِيلَ عَلَيْهِ لَيَالِيَ الزِّينَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُقْمِرَةً وَتَبْقَى اللَّيْلَ كُلَّهُ مُوقَدَةً وَذَلِكَ إضَاعَةُ مَالٍ لِلزَّيْتِ الَّذِي يَحْتَرِقُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ

فصل في اجتماع النساء بعضهن مع بعض

شَرْعِيَّةٍ، بَلْ لِلْمَضَرَّةِ بِتَسْوِيدِ الْقُمَاشِ مِنْ كَثْرَةِ الدُّخَانِ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْوَقُودُ بِالزَّيْتِ الْحَارِّ فَإِنَّهُ يَضُرُّ بِهِ وَيُنْقِصُ ثَمَنَهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: الْخَوْفُ عَلَى الْقُمَاشِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مُتَوَقَّعٌ مِنْ السَّرِقَةِ، وَالْخِلْسَةِ وَغَيْرِهِمَا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكَلُّفِ السَّهَرِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا حَاجَةٍ، بَلْ لِلْبِدْعَةِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَكَفَى بِهَا. الْخَامِسُ: أَنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ أَعْنِي الزِّينَةَ، فَإِنَّ الَّذِي قَرَّرَهَا كَانَ، وَالِيًا بِمِصْرَ وَصَارَتْ بَعْدَهُ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ حَتَّى شَاعَتْ وَذَاعَتْ، وَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى أَمْرٍ مَهُولٍ، وَهُوَ أَنْ ادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَوَامّ لَعِيبَ عَلَيْهِمْ وَعُنِّفُوا وَزُجِرُوا عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَنْ يُصَرِّحَ بِذَلِكَ، أَوْ يَعْتَقِدَهُ بِمَقَالِهِ، أَوْ حَالِهِ، وَالْعِلْمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ، وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَأْبَى ذَلِكَ فَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَنْ خَالَفَهَا، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ كَيْفَ تَعَدَّتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ إلَى مُحَرَّمَاتٍ؟ مِنْهَا أَنَّ النِّسَاءَ، وَالرِّجَالَ يَخْرُجُونَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَيَجْتَمِعُونَ فِي لَيَالِي الزِّينَةِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ تَحْتَ سِتْرِ ظَلَامِ اللَّيْلِ، وَكُلُّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ تَيَسَّرَ لَهُ مَا يُرِيدُهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي بِخِلَافِ خُرُوجِهِنَّ إلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذَكَرُهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّاسِ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى تِلْكَ الْأَمَاكِنِ فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا لِإِنْفَاذِ غَرَضِهِ الْخَسِيسِ. فَإِذَا تَيَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ فَعَلَهُ فَكَانَتْ الزِّينَةُ سَبَبًا لِتَسْهِيلِ الْمَعَاصِي وَتَيَسُّرِهَا عَلَى مَنْ أَرَادَهَا وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَهُوَ وَقُودُ الْقَنَادِيلِ، وَالشُّمُوعِ نَهَارًا يَوْمَ دَوَرَانِ الْمَحْمَلِ، وَقَدْ نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَقُودَ بِالنَّهَارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ دُونَ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ [فَصْلٌ فِي اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ بَعْضُهُنَّ مَعَ بَعْضٍ] ٍ وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَمْنَعَ أَهْلَهُ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بِالنِّسْوَةِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ مَهْمَا

أَمْكَنَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَسْتَحْيِنَ أَنْ يَسْأَلْنَ الرِّجَالَ، وَلَا يُمْكِنُهُ مُبَاشَرَتُهُنَّ بِالْكَلَامِ، وَيَرَى أَنَّ بَذْلَ الْعِلْمِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لَهُنَّ فَيَجُوزُ، أَوْ يَجِبُ بِحَسَبِ الْحَالِ الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى فِعْلُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْعَالِمِ تُبَلِّغُ عَنْهُ أَحْكَامَ الشَّرْعِ لِلنِّسَاءِ عُمُومًا وَلِبَعْضِ الرِّجَالِ خُصُوصًا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مُخَاطَبَةِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْلِيمِ زَوْجَةِ الْعَالِمِ لِلنَّاسِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَرَكْت فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي» انْتَهَى. لِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ لَمْ يَزَالُوا يُبَلِّغُونَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، وَقَدْ كَانَ كِبَارُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ أَرْسَلُوا إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَهُنَّ فَيَرْجِعُونَ إلَى مَا يُفْتِينَ بِهِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «خُذُوا عَنْهَا شَطْرَ دِينِكُمْ» فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَالِمَ يُعَلِّمُ زَوْجَتَهُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَهِيَ تُعَلِّمُهَا النَّاسَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْلُومِ الْمَشْرُوعِ، وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِالزَّوْجَةِ، بَلْ كُلُّ مَنْ عَلَّمَهُ الْعَالِمُ مِنْ زَوْجَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا صَارَ عَالِمًا بِذَلِكَ الْحُكْمِ وَيُعَلِّمُهُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَأَصْحَابَهُ، ثُمَّ عَلَّمُوا النَّاسَ وَانْتَشَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَكَانَ الْجَمِيعُ فِي صَحِيفَتِهِمْ وَهُمْ وَمَا فِي صَحِيفَةِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخَرِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَذَلِكَ مَاضٍ إلَى أَنْ يُرْفَعَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا إنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِالْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ طَالَبَتْهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ طَالَبَتْهُ بِالْخُرُوجِ إلَى التَّعْلِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا فِي الْخُرُوجِ خَرَجَتْ بِغَيْرِ، إذْنِهِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَهَذَا الْقِسْمُ أَعْنِي طَلَبَ النِّسَاءِ حُقُوقَهُنَّ فِي أَمْرِ الدِّينِ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْنَ إلَّا لِأَجْلِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] قَدْ أُهْمِلَ الْيَوْمَ وَصَارَ مَتْرُوكًا قَدْ دُثِرَ مَنَارُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ

لَمْ يُعْرَفْ لِعَدَمِ الْكَلَامِ فِيهِ مِنْ الزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ فِي الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَةَ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا فِي غَالِبِ الْحَالِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إنَّمَا هُوَ فِي النَّفَقَةِ، وَالْكِسْوَةِ وَفِيمَا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَلَا يَهُمُّهُمْ شَأْنُهُ غَالِبًا وَلَا يَكْتَرِثُونَ بِهِ، بَلْ لَا يَخْطِرُ لِبَعْضِهِمْ بِبَالٍ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْخِطَابِ، فَظَاهِرُ حَالِهِمْ كَحَالِ مِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى تَرْكِهِ فَلَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ حَقَّهَا فِي أَمْرِ دِينِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَرَفَعْته إلَى الْحَاكِمِ وَطَالَبَتْهُ بِالتَّعْلِيمِ لِأَمْرِ دِينِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَهَا إمَّا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ إذْنِهِ لَهَا فِي الْخُرُوجِ إلَى ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ جَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَجْبُرُهُ عَلَى حُقُوقِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ، إذْ أَنَّ حُقُوقَ الدِّينِ آكَدُ وَأَوْلَى، وَإِنَّمَا سَكَتَ الْحَاكِمُ عَمَّا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ إلَّا بَعْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَاكِمُ قَاضِيًا، أَوْ مُحْتَسِبًا، أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّنْ يَنْفُذُ أَمْرُهُ ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ زَوْجَةُ الْعَالِمِ بِالنِّسْوَةِ؛ لَأَنْ تُعَلِّمَهُنَّ الْأَحْكَامَ فَلْتَحْذَرْ أَنْ يَسْرِيَ إلَيْهَا مِمَّنْ اجْتَمَعَتْ بِهِنَّ مِنْ النِّسْوَةِ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ، إذْ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ اجْتِمَاعِهِنَّ لَا يَخْلُو مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ الْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ الَّتِي نَشَأْنَ عَلَيْهَا وَتَمَكَّنَتْ مِنْ قُلُوبِهِنَّ حَتَّى كَأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّعْلِيمِ لِلنِّسَاءِ فَيَئُولُ الْأَمْرُ إلَى ضَرَرٍ يَلْحَقُ أَهْلَهُ بِمَعْرِفَةِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ، أَوْ بَعْضِهَا وَيَتَضَرَّرُ هُوَ لِذَلِكَ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُمَا الْأَمْرُ بِالتَّعْلِيمِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَعْنِي تَعْلِيمَهَا لِغَيْرِهَا وَإِذْنَ زَوْجِهَا لَهَا وَيَبْقَى الْعَالِمُ مَأْمُورًا بِالتَّعْلِيمِ، فَإِنْ تَخَوَّفَ وُقُوعَهُ، فَالتَّعْلِيمُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ لَمْ تُحَقَّقْ لَكِنْ يَحْتَرِزُ مِنْهَا جَهْدَهُ، وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ فَمِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُهُنَّ وَاسْتَحْكَمَ حُبُّهَا فِي قُلُوبِهِنَّ، وَالْعَمَلِ بِهَا الذِّكْرُ لِلنِّسَاءِ، وَالْكَلَامُ مَعَ مَنْ سَامَحَهُنَّ مِنْ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ بَاشَرَ، أَوْ رَأَى وَسَكَتَ كَمَنْ فَعَلَ وَمِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ مَا رَتَّبْتَهُ فِي بَعْضِ أَيَّامِ السَّنَةِ وَأَيَّامِ الْجُمُعَةِ، فَكُلُّ يَوْمٍ فَعَلُوا فِيهِ أَفْعَالًا مَخْصُوصَةً لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِ وَمَنْ خَالَفَ مِنْهُنَّ ذَلِكَ يَتَطَيَّرْنَ بِهِ وَيَنْسُبْنَهُ إلَى الْجَهْلِ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ فَمِنْ

فصل ما يفعلنه النساء في يوم السبت

ذَلِكَ شِرَاؤُهُنَّ اللَّبَنَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ وَهِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ السَّنَةِ وَيَزْعُمْنَ أَنَّ ذَلِكَ تَفَاؤُلٌ بِأَنْ تَكُونَ سَنَتُهُمْ كُلُّهَا عَلَيْهِمْ بَيْضَاءَ وَهَذَا مِنْهُمْ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ؛ أَمَّا الْبِدْعَةُ فَاِتِّخَاذُهُمْ ذَلِكَ عَادَةً وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا مَضَى عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّفَاؤُلِ، وَالتَّفَاؤُلُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الَّذِي لَا يَقْصِدُهُ الْإِنْسَانُ حَتَّى يَسْمَعَهُ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُهُ فَلَيْسَ مِنْ التَّفَاؤُلِ فِي شَيْءٍ. وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ التَّفَاؤُلُ فِي فَتْحِ الْخِتْمَةِ، وَالنَّظَرِ فِي أَوَّلِ سَطْرٍ يَخْرُجُ مِنْهَا، أَوْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ؛ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ لَهُ مِنْهَا آيَةُ عَذَابٍ وَوَعِيدٍ فَيَقَعُ لَهُ التَّشْوِيشُ مِنْ ذَلِكَ فَرُفِعَ عَنْهُ ذَلِكَ حَتَّى تَنْقَطِعَ عَنْهُ مَادَّةُ التَّشْوِيشِ، بَلْ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ لَهُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى الْخَطَرِ الْعَظِيمِ أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِبَعْضِ الْمُلُوكِ أَنَّهُ فَتَحَ الْمُصْحَفَ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الْفَأْلَ فَوَجَدَ فِي أَوَّلِ سَطْرٍ مِنْهُ {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15] فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا عَظِيمًا حَتَّى خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ حَالِ الْمُسْلِمِينَ وَجَرَتْ مِنْهُ أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا لِمُنَافَرَتِهَا لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ الذَّخِيرَةِ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ أَخْذَ الْفَأْلِ بِالْمُصْحَفِ وَضَرْبَ الرَّمَلِ وَنَحْوَهُمَا حَرَامٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ مَعَ أَنَّ الْفَأْلَ حَسَنٌ بِالسُّنَّةِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ هُوَ مَا يَعْرِضُ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِثْلُ قَائِلٍ يَقُولُ: يَا مُفْلِحُ وَنَحْوُهُ. وَالتَّفَاؤُلُ الْمُكْتَسَبُ حَرَامٌ كَمَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ انْتَهَى. أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ، وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاؤُهُمْ الْفُقَّاعَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَذَلِكَ الْيَوْمِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ فَيَفْتَحُونَ فَمَهْ فِي الْبَيْتِ فَيَصْعَدُ نَاحِيَةَ السَّقْفِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الرِّزْقَ يَفُورُ لَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَيُوَسَّعُ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ مُجَاوَرَةِ الْقَبَطِ، وَالْأُنْسِ بِعَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ وَيَفْعَلُونَ فِيهِ أَفْعَالًا مِنْ جِهَةِ الْبَسْطِ قَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى إزْهَاقِ النُّفُوسِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا جَهْلٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهُ [فَصْلٌ مَا يَفْعَلْنَهُ النِّسَاء فِي يَوْمِ السَّبْتِ] (فَصْلٌ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلْنَهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَهُوَ أَنَّهُنَّ لَا يَشْتَرِينَ فِيهِ

السَّمَكَ وَلَا يَأْكُلْنَهُ وَلَا يُدْخِلْنَهُ بُيُوتَهُنَّ، وَهَذِهِ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا يَصْطَادُونَ السَّمَكَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَلَا يُدْخِلُونَهُ بُيُوتَهُمْ وَلَا يَأْكُلُونَهُ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ فَمَنَعَهُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ، وَكَثِيرٌ مِنْهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ فِيهِ الْحَمَّامَ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ قَدْ ارْتَفَعَ عَنْهَا حَيْضُهَا تَتْرُكَ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَلَا يَشْتَرِينَ فِيهِ الصَّابُونَ وَلَا السِّدْرَ وَلَا الْأُشْنَانَ وَلَا يَغْسِلْنَ فِيهِ الثِّيَابَ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ خِصَالِ الْيَهُودِ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ انْتَقَلْنَ مِنْ خَصْلَةِ الْيَهُودِ إلَى خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ النَّصَارَى فِي كَوْنِهِنَّ لَا يَعْمَلْنَ فِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ وَلَا فِي يَوْمِهِ شُغْلًا، وَأَمَّا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمُ الثُّلَاثَاءِ فَعِنْدَهُنَّ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ فِيهِمَا جَمِيعُ مَا يَخْتَرْنَهُ، وَيَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لَا يَشْتَرِينَ فِيهِ اللَّبَنَ وَلَا يُدْخِلْنَهُ بُيُوتَهُنَّ وَلَا يَأْكُلْنَهُ، وَيَوْمُ الْخَمِيسِ لِلْإِشْغَالِ، وَالْحَوَائِجِ الَّتِي لَهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمُ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا يَعْمَلْنَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ غَزْلِ كَتَّانٍ وَلَا مَحْرِهِ وَلَا تَسْرِيحِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ مَنْعُهُنَّ خُرُوجَ النَّارِ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَاعُونِ الْبَيْتِ عَشِيَّةَ كُلِّ يَوْمٍ وَيُبَالِغْنَ فِي مَنْعِ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُنَّ يَتَعَشَّى فِي ضَوْءِ السِّرَاجِ، ثُمَّ جَاءَ أَحَدٌ يُسْرِجُ مِنْهُ فَلَا يَتْرُكْنَهُ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ أَذِنَ لَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسْرِجَهُ، ثُمَّ يُطْفِئَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ وَيُوقِدَهُ فِي الرَّابِعَةِ وَحِينَئِذٍ يَذْهَبُ بِهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ النَّارَ لَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الِاقْتِبَاسِ مِنْهَا، إذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِهِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الضَّرَرِ، وَالضِّرَارِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إنْ اضْطَرَّ أَحَدٌ إلَى أَخْذِ الْغِرْبَالِ جَعَلْنَ فِيهِ حَجَرًا، أَوْ مِلْحًا، أَوْ غَيْرَهُمَا، وَهَذَا مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الْحِجَامَةِ، وَالِاطِّلَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: أَتَفْعَلُهُ أَنْتَ قَالَ نَعَمْ وَأُكْثِرُهُ وَأَتَعَمَّدُهُ، وَقَدْ احْتَجَمْتُ فِيهِ وَلَا أَكْرَهُ شَيْئًا مِنْ حِجَامَةٍ وَلَا اطِّلَاءٍ

وَلَا نِكَاحٍ وَلَا سَفَرٍ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَيَّامِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ ذَلِكَ: وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَفْعَلَ؛ لِأَنَّ مَنْ تَطَيَّرَ، فَقَدْ أَثِمَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَلَا طِيَرَةَ، وَالطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ، وَالطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ أَيْ عَلَيْهِ إثْمُ مَا تَطَيَّرَ بِهِ لَا أَنَّ مَا تَطَيَّرَ بِهِ يَكُونُ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: وَلَا طِيَرَةَ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْعَوَائِدُ الرَّدِيئَةُ كُلُّهَا وَمَا شَاكَلَهَا إنَّمَا سَبَبُهَا ارْتِكَابُ مَا نَهَى عَنْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يُجَاوِرُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَمَرَ أَنْ يَكُونُوا بِمَعْزِلٍ فِي مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ مُنْحَازِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ، وَكَذَلِكَ هُمْ لَا يُشَارِكُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي بَقِيَّةِ الْبَلَدِ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَا قَرَّرَ لَهُمْ إبْلِيسُ اللَّعِينُ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ كَيْفَ جَرَتْ إلَى مَا هُوَ أَرْدَأُ مِنْهَا مِنْ أَوْجُهٍ سَبْعَةٍ: مِنْهَا فِي التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَا الذِّكْرِ، وَهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ يَوْمِ السَّبْتِ وَيَوْمِ الْأَحَدِ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ تَشَبُّهُهُمْ أَيْضًا فِي تَرْكِ الشُّغْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ وَرَدَ عَنْ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّهُ أَوْقَعَهُمْ فِي مُخَالَفَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَمَّ مَنْ مَنَعَ الْمَاعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هُوَ مَاعُونُ الْبَيْتِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: مَا أَحْرَمَهُمْ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَالْخَيْرِ الْجَسِيمِ مِنْ غَيْرِ كَبِيرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ، وَهُوَ مَا وَرَدَ أَنَّ الْقِدْرَ إذَا أَعَارَهَا الْإِنْسَانُ، أَوْ الْغِرْبَالَ، أَوْ غَيْرَهُمَا كَانَ لَهُ أَجْرُ مَا يُفْعَلُ بِذَلِكَ فَمَا طُبِخَ فِيهَا كَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ قُرِئَ عَلَى ضَوْءِ السِّرَاجِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ شَيْءٌ فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَالْفَاعِلِ لِذَلِكَ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ، أَوْقَعَهُمْ فِي النَّهْيِ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الطِّيَرَةِ» وَهُمْ يَتَطَيَّرُونَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: مَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ فِي كَوْنِهِمْ يُحْدِثُونَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ

فصل ما يفعله الناس إذا نزلت الشمس في برج الحمل

أَشْيَاءَ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ وَلَا هِيَ مُسْتَحْسَنَةٌ عَقْلًا؛ لِأَنَّ فِيهَا تَرْكَ الْمُبَادَرَةِ لِلْمَعْرُوفِ، وَالنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي، فَإِنَّهُمْ إذَا أَوْقَدُوا الْمِصْبَاحَ مِنْ عِنْدَهُمْ، أَوْ أَخَذُوا الْغِرْبَالَ فَعَلُوا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَابْتَدَعُوا مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ الشَّرْعُ فِيهِ [فَصْلٌ مَا يَفْعَلهُ النَّاس إذَا نَزَلَتْ الشَّمْسُ فِي بُرْجِ الْحَمَلِ] (فَصْلٌ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ إذَا نَزَلَتْ الشَّمْسُ فِي بُرْجِ الْحَمَلِ فَيَخْرُجُونَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا مُخْتَلِطِينَ أَقَارِبَ وَأَجَانِبَ فَيَجْمَعُونَ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ يُسَمُّونَهُ بِالْكَرْكِيشِ فَيَقْطَعُونَ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعِهِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْخَوَاتِمِ النَّفِيسَةِ، وَالْأَسَاوِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُلِيِّ وَيَتَكَلَّمُونَ عِنْدَ قَطْعِهِ بِكَلَامٍ أَعْجَمِيٍّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَا يُدْرِيه لَعَلَّهُ كُفْرٌ وَيَجْعَلُونَ مَا يَقْطَعُونَ مِنْ تِلْكَ الْحَشِيشَةِ فِي خَرَائِطَ مَصْبُوغَاتٍ بِزَعْفَرَانٍ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْخَرِيطَةَ فِي الصُّنْدُوقِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ يَكُونُ سَبَبًا لِإِكْثَارِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِغْنَائِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَأَنَّ الْفَقْرَ يُوَلِّي عَنْهُمْ وَشَاعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ حَتَّى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ يُذْكَرُ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَبَعْضُهُمْ يَسْتَحْسِنُهُ وَبَعْضُهُمْ يَسْكُتُ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ التَّشَبُّهَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ وَأَشْبَاهَهُ خَرَجَ مِنْ جِهَةِ الْقَبَطِ الثَّانِي: مَا فِيهِ مِنْ الْكَشَفَةِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ فِي اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَالشَّبَابِ وَرُبَّمَا اخْتَلَطُوا وَتَزَاحَمُوا عَلَى ذَلِكَ. الثَّالِثُ: مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِغِنَاهُمْ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَرَّضَ مَا مَعَهُ مِنْ الْآلَةِ الَّتِي يَقْطَعُ بِهَا إلَى إضَاعَةِ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقْطَعُ بِمَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ ` يَسْقُطُ مِنْ يَدِهِ وَيَقَعُ فِي شَقٍّ مِنْ تِلْكَ الشُّقُوقِ فَيُدْخِلُ يَدَهُ لِيَأْخُذَهُ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَوْتِهِ، أَوْ لِلْوُقُوعِ فِي أَمْرَاضٍ خَطِرَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الشِّقِّ ثُعْبَانٌ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي؛ فَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ بِلَسْعِهَا

فصل زعم بعضهم أنه إذا دخل الحمام أربعين أربعاء

وَإِمَّا أَنْ يَمْرَضَ، وَقَدْ يُشْرِفُ عَلَى الْمَوْتِ بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبَ مِنْ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا اسْتَعَارَ بَعْضُهُمْ الذَّهَبَ أَوْ غَيْرَهُ لِيَقْطَعَ بِهِ تِلْكَ الْحَشِيشَةِ فَضَاعَ مِنْهُ، أَوْ سَقَطَ فِي تِلْكَ الشُّقُوقِ فَيَقَعُ فِي التَّشْوِيشِ مَعَ غُرْمِ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فَهَذَا قَدْ عُجِّلَ لَهُ الْفَقْرُ بِمَا سَقَطَ مِنْهُ أَوْ ضَاعَ ضِدَّ مُرَادِهِ، وَهَكَذَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى أَبَدًا جَارِيَةٌ فِيمَنْ طَلَبَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ الَّذِي شَرَعَهُ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ [فَصْلٌ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ أَرْبَعِينَ أَرْبِعَاءَ] . (فَصْلٌ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ أَرْبَعِينَ أَرْبِعَاءَ مُتَوَالِيَاتٍ فَإِنَّهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِ بِالدُّنْيَا، وَذَلِكَ قُبْحٌ عَظِيمٌ وَسَخَافَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ تَسْوِيلِ اللَّعِينِ حَتَّى يُوقِعَهُمْ فِي ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَ الْحَمَّامِ فِيهِ أَشْيَاءُ مُسْتَهْجَنَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ فِيهِ إحْدَاثًا، وَالْحَدَثُ مَمْنُوعٌ. الثَّالِثُ: مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَنْ ذَكَرَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ عَدَّ فِيهَا طَلَبَ الرِّزْقِ بِالْمَعَاصِي وَلَا شَكَّ أَنَّ دُخُولَ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مَعْصِيَةٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت: 17] فَلَا يُنَالُ ذَلِكَ إلَّا بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ حُصُولَ ذَلِكَ بِالْمُخَالَفَةِ نَقِيضُ الْمُرَادِ مِنْهُمْ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ [فَصْلٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ مَا يَفْعَلُهُ النِّسَاء فِي الْمَوَاسِمِ] [المرتبة الْأُولَى المواسم الشَّرْعِيَّة وَهِيَ ثَلَاثَة] [الموسم الْأَوَّل عِيد الأضحي] عِيد الأضحي (فَصْلٌ) وَمِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَوَاسِمِ وَهُمْ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الْمَوَاسِمُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَوَاسِمُ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَوَاسِمُ الَّتِي تَشَبَّهُوا فِيهَا بِالنَّصَارَى؛ فَأَمَّا الْمَوَاسِمُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ

فَأَوَّلُهَا عِيدُ الْأَضْحَى الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مَوَاسِمِ الْمُسْلِمِينَ تَرَكَ بَعْضُهُمْ فِيهِ سُنَّةَ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي سَنَّهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَرَغَّبَ فِيهَا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَفْضَلَ مِنْ إرَاقَةِ دَمٍ» ، أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هَلْ هِيَ فَرْضٌ، أَوْ سُنَّةٌ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا وَاجِبَةٌ يَعْنِي وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَتْرُكُونَ الْأُضْحِيَّةَ وَيَشْتَرُونَ اللَّحْمَ وَيَطْبُخُونَ أَلْوَانَ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي تَكُونُ الْأُضْحِيَّةُ الْمَشْرُوعَةُ بِبَعْضِ ثَمَنِ مَا أَنْفَقُوهُ، أَوْ مِثْلِهِ، أَوْ يُقَارِبُهُ حَتَّى حَرَمَهُمْ إبْلِيسُ اللَّعِينُ هَذِهِ الْبَرَكَةَ الْعُظْمَى، وَالْخَيْرَ الشَّامِلَ بِتَسْوِيلِهِ وَتَزْيِينِهِ لَهُمْ، ثُمَّ إنَّ مَنْ يُضَحِّي مِنْهُمْ يَذْبَحُ لَيْلَةَ الْعِيدِ، وَذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهَا الْأُضْحِيَّةَ، أَوْ لَا، فَإِنْ نَوَاهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَيَّنَهَا، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَيَّنَهَا أَثِمَ فِي ذَبْحِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وَيَكُونُ حَرِجَةً فِي حَقِّهِ إنْ قَدِمَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي الْجَاهِلِ هَلْ هُوَ كَالْمُتَعَمِّدِ، أَوْ كَالنَّاسِي، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَالْمُتَعَمِّدِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهَا فِي وَقْتِهَا إذَا وَجَدَهَا وَلِلْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا وَنَوَى بِهَا الْأُضْحِيَّةَ حِينَ ذَبَحَهَا لَمْ تُجْزِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهَا فِي وَقْتِهَا إذَا وَجَدَهَا، وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهَا الْأُضْحِيَّةَ، فَقَدْ أَسَاءَ فِي فِعْلِهِ بِارْتِكَابِهِ الْبِدْعَةَ، وَالْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ إذَا دَخَلَ وَقْتُهَا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا فِي وَقْتِهَا وَيُفْطِرَ عَلَى زِيَادَةِ الْكَبِدِ مِنْهَا. فَإِنْ

لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى الْأُضْحِيَّةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَهُوَ السَّبَبُ فِي حِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ هَذَا الثَّوَابِ الْجَزِيلِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ، ثُمَّ إنَّ مَنْ يُضَحِّي مِنْهُمْ بَعْضُهُمْ يَعْمَلُ الطَّعَامَ بِلَيْلٍ حَتَّى إذَا جَاءُوا مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ وَجَدُوا ذَلِكَ مُتَيَسِّرًا فَأَكَلُوا هُمْ وَمَنْ يَخْتَارُونَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَشْتَغِلُونَ بِذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ قَدَّمَ بَعْضُهُمْ الذَّبْحَ بِاللَّيْلِ لِأَجْلِ عَمَلِ الطَّعَامِ فَوَقَعَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ ارْتِكَابُ بِدْعَةٍ وَمُخَالَفَةٍ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الْجَلِيلَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يُضَحِّي بِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَكْفِيه بَاعَ الثَّانِي وَاشْتَرَى بِهِ الْأُضْحِيَّةَ، وَكَذَلِكَ فِي ثَوْبِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلَةٌ تَدَايَنَ لِيُحَصِّلَ هَذِهِ الْقُرْبَةَ الْعَظِيمَةَ، وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَكِيدَةِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ وَمَا أَدْخَلَ مِنْ سُمِّهِ السَّمُومِ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِتَسْوِيلِهِ لَهُمْ تَرْكَ هَذِهِ السُّنَّةِ الْعُظْمَى، وَحَرَمَهُمْ جَزِيلَ ثَوَابِهَا بِمَا أَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْعِلَلِ الْقَبِيحَةِ الشَّنِيعَةِ فَزَيَّنَ لِكُلِّ أَهْلِ إقْلِيمٍ مَا يَقْبَلُونَهُ مِنْهُ، فَإِذَا قُلْت لِبَعْضِ مَنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ: لِمَ لَا تُضَحِّي؟ فَيَقُولُ: لِي مَعَارِفُ كَثِيرَةٌ وَخَرُوفٌ وَاحِدٌ لَا يَعُمُّهُمْ، فَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ يَلُومَنِي وَلَا يَلْزَمُنِي أَكْثَرُ مِنْ خَرُوفٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا قُلْت لِلْفَقِيرِ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ: لِمَ تَتَكَلَّفُ الْأُضْحِيَّةَ وَهِيَ لَا تَجِبُ عَلَيْك فَيَقُولُ: قَبِيحٌ مِنْ الْجِيرَانِ، وَالْأَهْلِ، وَالْمَعَارِفِ أَنْ يَقُولُوا: فُلَانٌ لَمْ يُضَحِّ فَصَارَتْ هَذِهِ الْقُرْبَةُ بِالنَّظَرِ إلَى فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا مَشُوبَةٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْخَلْقِ وَتَحْسِينِهِمْ وَتَقْبِيحِهِمْ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْمَوْسِمِ الْعَظِيمِ كَيْفَ تَرَكُوا بَرَكَتَهُ وَانْحَازُوا عَنْهَا بِمَعْزِلٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ «مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّهُ لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ وَأَمَرَ بِزِيَادَةِ الْكَبِدِ فَصُنِعَ لَهُ، ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَيْهِ» تَشَبُّهًا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَفَاؤُلًا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَا يَفْطُرُونَ

فِيهَا عَلَى زِيَادَةِ كَبِدِ الْحُوتِ الَّذِي عَلَيْهِ قَرَارُ الْأَرَضِينَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّفَاؤُلِ بِذَلِكَ، إذْ أَنَّهُ عَرُوسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ يُشَرِّعُ لِأُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْجَلِيِّ الْجَلِيلِ، ثُمَّ إنَّ مَنْ يُضَحِّي مِنْهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي، بَعْضُهُمْ يَبِيعُ جُلُودَ الْأُضْحِيَّةِ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعَنْ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَحَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» فَيَدْخُلُ الْمِسْكِينُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ. وَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَبِيعُهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي تَفْرِقَةِ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ، إذْ أَنَّهُمْ يُهْدُونَ اللَّحْمَ لِلْجَارِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ تَتَشَوَّفُ نَفْسُهُ لِلْعِوَضِ عَنْهُ، ثُمَّ إنَّ الْجَارَ وَغَيْرَهُ يُكَافِئُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ بِمِثْلِهِ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، وَالْمُعْطِي، وَالْآخِذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْظُرُ فِيمَا يُعْطِيَهُ صَاحِبُهُ مِنْ الْعِوَضِ فَيَرْضَى بِهِ، أَوْ يَسْخَطُهُ، فَقَدْ خَرَجَ هَذَا عَنْ بَابِ الْمُهَادَاةِ بِقَصْدٍ مِنْ قَصْدِ الْعِوَضِ عَنْهُ. وَالْأُضْحِيَّةُ لَا يُتَعَوَّضُ عَنْهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْهَدَايَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا الْعِوَضِيَّةُ بِشَرْطِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَدِيَّةِ الْجِيرَانِ الطَّعَامُ يَتَعَوَّضُونَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ فَاعِلَ السُّنَّةِ فِيمَا ذُكِرَ قَلِيلٌ مِنْ قَلِيلٍ، وَاعْلَمْ وَفَّقْنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ هَذَا الْمَنْعَ الْمَذْكُورَ فِي إهْدَاءِ اللَّحْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الذَّمِيمَةِ وَمَا شَاكَلَهَا، وَأَمَّا مَنْ كَانَ يُعْطِي لِلَّهِ تَعَالَى وَيَأْخُذُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى التَّعْوِيضِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِ فَهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، بَلْ هُوَ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَأَسْنَاهَا، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ فِي هَدَايَا الْجِيرَانِ وَالْأَقَارِبِ الطَّعَامَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَكِيدَةِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ كَيْفَ يَتَّبِعُ السُّنَنَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَيُلْقِي لِمَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ وَسْوَسَتَهُ حُجَجًا لِتَرْكِ تِلْكَ السُّنَّةِ وَاسْتِعْمَالِ غَيْرِهَا بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُحَرَّمٌ بَيِّنٌ، أَوْ بِدْعَةٌ بَيِّنَةٌ، يَرَى ذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ مَنْ لَهُ نُورٌ

أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ فِي الْعِيدِ بِإِسْرَاعِ الْأَوْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَى الْأَهْلِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِقَطْعِ تَشَوُّفِ الْأَهْلِ لِوُرُودِ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَذَكَاةِ الْأُضْحِيَّةِ إنْ كَانَتْ وَاجْتِمَاعِهِمْ وَفَرَحِهِمْ بِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّمَا هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَذِكْرِ اللَّهِ مَوْضِعَ وَبِعَالٍ انْتَهَى. يَعْنِي بِذَلِكَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَلَمَّا عَلِمَ إبْلِيسُ مَا لَهُمْ فِيهِ مِنْ النَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْبَرَكَةِ الشَّامِلَةِ، وَالرَّاحَةِ الْمُعَجَّلَةِ الْمُثَابِ عَلَيْهَا وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ مَا يُلْقِيه لَهُمْ مِنْ تَرْكِ السُّنَّةِ مُجَرَّدًا، وَمِنْ عَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِتَرْكِ سُنَّةٍ حَتَّى يُعَوِّضَ لَهُمْ عَنْهَا شَيْئًا يُخَيَّلُ إلَيْهِمْ أَنَّهُ قُرْبَةٌ. عَوَّضَ لَهُمْ عَنْ سُرْعَةِ الْأَوْبَةِ زِيَارَةَ الْقُبُورِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْعِيدِ وَزَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَأَرَاهُمْ أَنَّ زِيَارَةَ الْأَقَارِبِ مِنْ الْمَوْتَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَزِيَادَةِ الْوُدِّ لَهُمْ وَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةِ التَّفَجُّعِ عَلَيْهِمْ، إذْ فَقَدَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْعِيدِ، وَفِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ الْبِدَعِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَكَيْفَ بِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ النِّسَاءُ يَلْبَسْنَ وَيَتَحَلَّيْنَ ابْتِدَاءً، وَيَتَجَمَّلْنَ فِيهِ بِغَايَةِ الزِّينَةِ مَعَ عَدَمِ الْخُرُوجِ فَكَيْفَ بِهِنَّ فِي الْخُرُوجِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَتَرَاهُنَّ يَوْمَ الْعِيدِ عَلَى الْقُبُورِ مُتَكَشِّفَاتٍ قَدْ خَلَعْنَ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْهُنَّ، فَبَدَّلَ لَهُمْ مَوْضِعَ السُّنَّةِ مُحَرَّمًا وَمَكْرُوهًا، فَالْمَكْرُوهُ فِي كَوْنِهِ أَخَّرَهُمْ عَنْ سُرْعَةِ الْأَوْبَةِ إلَى الْأَهْلِ؛ لِأَنَّهَا السُّنَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُحَرَّمُ مَا يُشَاهِدُ الزَّائِرُ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ فِي الْمَقَابِرِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ كُلُّهَا لَمْ يَقْنَعْ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ بِهَا، بَلْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ مُحَرَّمًا شَنِيعًا، وَهُوَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ بَنَاتِ الْعِيدِ وَفِيهِنَّ الْأَبْكَارُ، وَالْمُرَاهِقَاتُ وَغَيْرُهُنَّ اللَّاتِي يَخْرُجْنَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَعْلُومَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ ظَاهِرَاتٍ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَمَا يَفْعَلْنَهُ مِنْ الْغِنَاءِ، وَالدُّفُوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

الموسم الثاني عيد الفطر

فِي الطُّرُقِ، وَالْأَسْوَاقِ وَدُخُولِهِنَّ الْبُيُوتَ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ يَفْتَتِنُ بِهِنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَيَسْكُتُ لَهُنَّ الْعَالِمُ وَغَيْرُهُ وَيَعِظُونَهُنَّ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِنَّ ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ [الموسم الثَّانِي عِيدُ الْفِطْرِ] . عِيدُ الْفِطْرِ (فَصْلٌ) ، وَالسُّنَّةُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ التَّوْسِعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَهْلِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ الْمَأْكُولِ، إذْ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ فَمَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ فِيهِ، فَقَدْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهِ طَعَامًا مَعْلُومًا، إذْ هُوَ مِنْ الْمُبَاحِ لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّكَلُّفِ فِيهِ وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يَجْعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً يُسْتَنُّ بِهَا فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً، وَإِذَا وَصَلَ الْأَمْرُ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَفِعْلُ ذَلِكَ بِدْعَةٌ، إذْ أَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ يُنْسَبُ إلَى السُّنَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ. وَأَمَّا مَا يُفْعَلُ الْيَوْمَ مِنْ شِرَاءِ الْخُشْكِنَانِ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامَيْنِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْكَعْكِ الْمَحْشُوِّ بِالْعَجْوَةِ؛ لِأَنَّ مَا فِي بَاطِنِهِ تَبَعٌ لِظَاهِرِهِ بِخِلَافِ الْخُشْكِنَانِ وَالْبُسْنَدُودِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ تَبَعٌ لِبَاطِنِهِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَكْسِرَ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَيَرَى جَمِيعَ مَا فِي بَاطِنِهَا. وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ كَسْرٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكْسِرَ وَاحِدَةً وَيُعَايِنَ جَمِيعَ مَا فِي بَاطِنِهَا، ثُمَّ يَشْتَرِيَ الْبَاقِيَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَفِيهِ مِنْ الْبِدَعِ كَوْنُهُمْ يَبُخُّونَهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ. وَالْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَهُمْ صِيَامٌ، وَحَالُ فَمِ الصَّائِمِ كَمَا قَدْ عُلِمَ، وَكَذَلِكَ فِعْلُهُمْ فِي بَخٍّ الْكَعْكِ بِالشَّيْرَجِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَهُمْ صِيَامٌ أَيْضًا، وَحَالُ فَمِ الصَّائِمِ كَمَا قَدْ عُلِمَ فَيُعَرِّضُ الصَّائِمُ نَفْسَهُ لِلْفِطْرِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ مُسْتَقْذَرًا، وَكَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ يَعْمَلُونَهُ وَيَبِيعُونَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُؤْتَمَنُونَ مِنْ أَنْ يَبُخُّونَهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُونَ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ سُؤْرَ الْيَهُودِيِّ

وَالنَّصْرَانِيِّ مَكْرُوهٌ إنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِي أَفْوَاهِهِمْ نَجَاسَةً فِي وَقْتِ الْفِعْلِ لِذَلِكَ، أَوْ كَانَتْ قَبْلَهُ وَلَمْ يُطَهِّرْ فَمَهُ بَعْدَهَا، فَمَا أَصَابَهُ بِرِيقِهِ مُتَنَجِّسٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ إذَا كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ فَكَيْفَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِالسُّنَّةِ وَالسَّلَفِ، وَالْخَلَفِ لِمَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَأْكُولُ عَلَى سَبِيلِ السَّلَامَةِ مِمَّا ذُكِرَ لَكَانَ بَعِيدًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَالطِّبِّ: أَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ. وَأَمَّا الطِّبُّ فَإِنَّ الصَّوْمَ يُجَفِّفُ الرُّطُوبَاتِ غَالِبًا وَيَعْصِمُ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ الصَّوْمِ أَفْطَرُوا عَلَى الْكَعْكِ الَّذِي يَزِيدُهُمْ جَفَافًا وَإِمْسَاكًا فَيَتَضَرَّرُ الْبَدَنُ بِذَلِكَ، فَقَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْأَدْوِيَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ، وَالْأَطِبَّاءِ وَكَانُوا فِي غِنًى عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ السَّمَكَ الْمَشْقُوقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْفَاضِلِ الَّذِي يُعْتِقُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مِنْ الرِّقَابِ بِقَدْرِ مَا أَعْتَقَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ الْمَرْءُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَى كَسْبِ الْحَسَنَاتِ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ كُلِّهِ اتِّقَاءُ الْمَحَارِمِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَا تَقْرَبُوا» . فَاتَّخَذَ هَؤُلَاءِ فِطْرَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الشَّرِيفِ عَلَى شَيْءٍ مُمَكَّسٍ، وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعِدَّ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِإِفْطَارِهِ شَيْئًا حَلَالًا مِنْ جِهَةٍ يَرْضَاهَا الشَّرْعُ لَعَلَّهُ يَلْحَقُ بِالْقَوْمِ. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي كَوْنِهِمْ يَتَّبِعُونَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَهُمْ فِيهَا حَظُّ نَفْسٍ وَمُبَاهَاةٌ وَشَهْوَةٌ خَسِيسَةٌ فَانِيَةٌ يَحْرِصُونَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعًا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَوَلَدٍ وَعَبْدٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ وَيَسْتَعِدُّونَ لِذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ شَرْعًا، وَاَلَّذِي لَهُمْ فِيهِ الثَّوَابُ الْجَسِيمُ وَالْخَيْرُ الْعَمِيمُ يَتَسَاكَتُونَ عَنْهُ وَيُهْمِلُونَ أَمْرَهُ، وَلَمْ يُطَالِبْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا هَذَا الْغَالِبُ مِنْهُمْ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ هُوَ مَا شَرَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ فِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْيَوْمَ إخْرَاجُهُ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ، إذْ أَنَّهُ قُوتُ جَمِيعِهِمْ

الموسم الثالث يوم عاشوراء

فَفَعَلَ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ فِي يَوْمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي كَوْنِهِمْ يَتْرُكُونَهَا لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِمْ بِهَا وَيُنْفِقُونَ أَضْعَافَ ثَمَنِهَا، أَوْ مِثْلَهُ فَعَوَّضُوا مَكَانَ السُّنَنِ الْمَطْهَرَةِ عَوَائِدَهُمْ الرَّدِيئَةَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَفِي لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ مِنْ الْبِدَعِ سَهَرُ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِمَا، أَوْ فِي بَعْضِهِمَا لَا لِعِبَادَةٍ، بَلْ لِلشُّغْلِ بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمَا شَاكَلَهَا وَإِضَاعَةِ الْمَالِ بِصَقْلِ الْقُمَاشِ الَّذِي يُفْضِي إلَى تَقْطِيعِهِ وَتَرْكِ إحْيَاءِ اللَّيْلَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ بِعِبَادَةِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَنْدُوبِ إلَى إحْيَائِهِمَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي عِيدِ الْأَضْحَى مَا فِيهِ مِنْ بَنَاتِ الْعِيدِ، وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَتَأْخِيرِ الرُّجُوعِ إلَى الْبُيُوتِ وَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ بِتِلْكَ الْمَقَاصِدِ الذَّمِيمَةِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ هُنَا، فَتَفْرِقَةُ الْكَعْكِ هَاهُنَا مُقَابِلَةٌ لِتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ فِي الْأَضْحَى [الموسم الثَّالِث يَوْمُ عَاشُورَاءَ] يَوْمُ عَاشُورَاءَ الْمَوْسِمُ الثَّالِثُ مِنْ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَالتَّوْسِعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَهْلِ، وَالْأَقَارِبِ، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ وَزِيَادَةُ النَّفَقَةِ، وَالصَّدَقَةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا بِحَيْثُ لَا يُجْهَلُ ذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطٍ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَدَمِ التَّكَلُّفِ، وَمِنْ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ سُنَّةً يُسْتَنُّ بِهَا لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا، فَإِنْ وَصَلَ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَيُكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ سِيَّمَا إذَا كَانَ هَذَا الْفَاعِلُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ؛ لِأَنَّ تَبْيِينَ السُّنَنِ وَإِشَاعَتَهَا وَشُهْرَتَهَا أَفْضَلُ مِنْ النَّفَقَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ مَضَى فِيهِ طَعَامٌ مَعْلُومٌ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتْرُكُونَ النَّفَقَةَ فِيهِ قَصْدًا لِيُنَبِّهُوا عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ فِيهِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ مِنْ أَنَّ عَاشُورَاءَ يَخْتَصُّ بِذَبْحِ الدَّجَاجِ وَغَيْرِهَا، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَكَأَنَّهُ مَا قَامَ بِحَقِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكَذَلِكَ طَبْخُهُمْ فِيهِ الْحُبُوبَ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَتَعَرَّضُونَ فِي هَذِهِ الْمَوَاسِمِ وَلَا يَعْرِفُونَ تَعْظِيمَهَا إلَّا بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ

وَالصَّدَقَةِ، وَالْخَيْرِ وَاغْتِنَامِ فَضِيلَتِهَا لَا بِالْمَأْكُولِ بَلْ كَانُوا يُبَادِرُونَ إلَى زِيَادَةِ الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الصَّدَقَةَ الْيَوْمَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مَعْدُومَةٌ، أَوْ قَلِيلَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَصَدَّقُ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهَا الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ، ثُمَّ إنَّهُمْ يَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ بِدْعَةً، أَوْ مُحَرَّمًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ الزَّكَاةُ مَثَلًا فِي شَهْرِ صَفَرٍ، أَوْ رَبِيعٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ فَيُؤَخِّرُونَ إعْطَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَفِيهِ مِنْ التَّغْرِيرِ بِمَالِ الصَّدَقَةِ مَا فِيهِ، فَقَدْ يَمُوتُ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ، أَوْ يُفْلِسُ فَيَبْقَى ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ، وَأَقْبَحُ مَا فِيهِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ شَهِدَ فِيهِ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» . وَفِيهِ بِدْعَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حَدَّ لِلزَّكَاةِ حَوْلًا كَامِلًا وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَفِي فِعْلِهِمْ الْمَذْكُورِ زِيَادَةٌ عَلَى الْحَوْلِ بِحَسَبِ مَا جَاءَهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَدْ يَكُونُ كَثِيرًا، وَقَدْ يَكُونُ قَلِيلًا، وَعِنْدَ بَعْضِ مَنْ ذُكِرَ نَقِيضُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ قَبْلَ وَقْتِهَا لِأَجْلِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَرْضًا مِنْهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِيه كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيه عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجْزِيه بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ دَافِعُ الزَّكَاةِ وَآخِذُهَا بَاقِيَيْنِ عَلَى وَصْفَيْهِمَا مِنْ الْحَيَاةِ، وَالْجِدَةِ، وَالْفَقْرِ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُزَكَّى عَنْهُ، وَفِي هَذَا مِنْ التَّغْرِيرِ بِمَالِ الصَّدَقَةِ كَالْأَوَّلِ. وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ فِيهِ مِنْ الْبِدَعِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ، وَنَفْسُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمَعْلُومِ بِدْعَةٌ مُطْلَقًا لِلرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ يَنْضَمُّ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ خُرُوجِ النِّسَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ اخْتِصَاصِ النِّسَاءِ بِدُخُولِهِنَّ الْجَامِعَ الْعَتِيقَ بِمِصْرَ وَهُنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ الْخَسِيسَةِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ التَّحَلِّي، وَالزِّينَةِ الْحَسَنَةِ، وَالتَّبَرُّجِ لِلرِّجَالِ وَكَشْفِ بَعْضِ أَبْدَانِهِنَّ وَيُقِمْنَ فِيهِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الزَّوَالِ لَا يُشَارِكُهُنَّ فِيهِ الرِّجَالُ وَيَتَمَسَّحْنَ فِيهِ بِالْمَصَاحِفِ وَبِالْمِنْبَرِ، وَالْجُدَرَانِ وَتَحْتَ اللَّوْحِ

فصل من البدع التي أحدثها النساء استعمال الحناء في يوم عاشوراء

الْأَخْضَرِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كَانَ السَّبَبُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ [فَصْلٌ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثَهَا النِّسَاءُ اسْتِعْمَالُ الْحِنَّاءِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاء] . (فَصْلٌ) وَمِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثَهَا النِّسَاءُ فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْحِنَّاءِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا مِنْهُنَّ فَكَأَنَّهَا مَا قَامَتْ بِحَقِّ عَاشُورَاءَ، وَمِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا مَحْرُهُنَّ فِيهِ الْكَتَّانَ وَتَسْرِيحُهُ وَغَزْلُهُ وَتَبْيِيضُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ وَيَشِلْنَهُ لِيَخِطْنَ بِهِ الْكَفَنَ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا لَا يَأْتِيَانِ مَنْ كَفَنُهَا مِخْيَطٌ بِذَلِكَ الْغَزْلِ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الِافْتِرَاءِ، وَالتَّحَكُّمِ فِي دِينِ اللَّهِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ فَكَيْفَ بِمَنْ رَآهُ، وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ فِيهِ مِنْ الْبِدَعِ الْبَخُورُ. فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِهِ مِنْهُنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَتَبَخَّرْ بِهِ فَكَأَنَّهُ ارْتَكَبَ أَمْرًا عَظِيمًا وَكَوْنُهُ سُنَّةً عِنْدَهُنَّ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا، وَادِّخَارِهِنَّ لَهُ طُولَ السَّنَةِ يَتَبَرَّكْنَ بِهِ وَيَتَبَخَّرْنَ إلَى أَنْ يَأْتِيَ مِثْلُهُ يَوْمُ عَاشُورَاءَ الثَّانِي، وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُ إذَا بُخِّرَ بِهِ الْمَسْجُونَ خَرَجَ مِنْ سِجْنِهِ وَأَنَّهُ يُبْرِئُ مِنْ الْعَيْنِ، وَالنَّظْرَةِ، وَالْمُصَابِ، وَالْمَوْعُوكِ، وَهَذَا أَمْرٌ خَطِرٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ أَمْرٌ بَاطِلٌ فَعَلْنَهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ فَهَذِهِ الْمَوَاسِمُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الْمَوَاسِمُ الشَّرْعِيَّةُ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ كَمْ مِنْ بِدْعَةٍ أَحْدَثُوا فِي ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. [المرتبة الثَّانِيَة المواسم الَّتِي ينسبونها إلَى الشِّرْع وليست مِنْهُ] [مِنْ البدع المحدثة فِي الليلة الْأُولَى مِنْ شَهْر رجب] الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ الْمَوَاسِمُ الَّتِي نَسَبُوهَا إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ فَمِنْهَا أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ فَيَتَكَلَّفُونَ فِيهِ النَّفَقَاتِ، وَالْحَلَاوَاتِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا» . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الصُّوَرِ الَّتِي لَهَا رُوحٌ وَدَلِيلٌ عَلَى عَذَابِ مَنْ صَوَّرَهَا، فَمَنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ فَهُوَ مُعِينٌ لَهُمْ عَلَى تَصْوِيرِهَا، وَمَنْ أَعَانَهُمْ كَانَ شَرِيكًا لَهُمْ فِيمَا تَوَاعَدُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ الْحَلَاوَةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِصُورَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ بَيْعِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ وَقَفَ يَنْظُرُ إلَيْهَا، أَوْ تُعْجِبُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ فَكُلُّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ، وَكَثِيرٌ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْمَسْأَلَةَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّغْيِيرِ

وَيُسْمَعُ كَلَامُهُ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَنْهَى عَنْهُ بَلْ يَقِفُ بَعْضُهُمْ وَيَنْظُرُ إلَى ذَلِكَ كَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ مَا رَأَى، وَمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ الْعُدُولِ وَلَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارٌ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ نَظَرٌ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ حَتَّى تَقَعَ مِنْهُمْ التَّوْبَةُ بِشُرُوطِهَا، وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ أُجْرَةً عَلَى الشَّهَادَةِ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِمَا ذَكَرَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ أَخَذَ حَرَامًا وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي بُكَاءِ وَلَدِهِ، أَوْ سَخَطِ زَوْجَتِهِ، أَوْ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَعْذَارَ الشَّرْعِيَّةَ مَعْرُوفَةٌ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَلَاوَةُ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ فِعْلِهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَنْعِ، وَمَا مُنِعَ فِعْلُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ فَلَوْ كَسَّرَهَا وَبَاعَهَا مَكْسُورَةً لَجَازَ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا لَكِنْ يُكْرَهُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ أَنْ يَشْتَرُوهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ صِفَةً فِعْلُهَا مُحَرَّمٌ وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي زَجْرِ فَاعِلِهَا عَلَى الصِّفَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَهُوَ آثِمٌ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ التَّصْوِيرِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ التَّوْبَةَ بِشُرُوطِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مِنْ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِهَذَا الْمَوْسِمِ عَلَى زَعْمِهِمْ، ثُمَّ زَادُوا فِيهِ مِنْ التَّكَلُّفِ أَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى مُهَادَاةِ الْأَقَارِبِ وَالْأَصْهَارِ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الْمُصَاهَرَةُ جَدِيدَةً، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِالزَّوْجَةِ بَعْدُ فَلَا بُدَّ مِنْ خِرْقَةٍ عَلَى صِينِيَّةٍ مَعَ أَطْبَاقِ الْحَلَاوَاتِ وَغَيْرِهَا كَمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِمْ. وَالْغَالِبُ مِنْ النِّسْوَةِ أَنَّهُنَّ يُكَلِّفْنَ أَزْوَاجَهُنَّ بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَرُبَّمَا يَئُولُ أَمْرُهُمْ إنْ قَصَّرَ فِي التَّوْسِعَةِ إلَى الْفِرَاقِ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَمَا شَاكَلَهُ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَا وَأُمَّتِي بُرَآءُ مِنْ التَّكَلُّفِ» فَمَنْ تَكَلَّفَ، أَوْ كَلَّفَ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الدُّخُولِ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ. وَالتَّكَلُّفُ مَذْمُومٌ فِي الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ الدِّينِيَّةِ فَكَيْفَ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْسِمٍ شَرْعِيٍّ وَلَا عُرْفِيٍّ، بَلْ مُحْدَثٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَا كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُعَظِّمُونَ هَذَا الشَّهْرَ أَعْنِي شَهْرَ رَجَبٍ وَيَحْتَرِمُونَهُ

من البدع المحدثة صلاة الرغائب في الجمعة الأولي من رجب

إلَّا بِزِيَادَةِ الْعِبَادَةِ فِيهِ، وَالتَّشْمِيرِ لِأَدَاءِ حُقُوقِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِقَامَةِ حُرْمَتِهِ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَأَوَّلَ شُهُورِ الْبَرَكَةِ وَافْتِتَاحِ تَزْكِيَةِ الْأَعْمَالِ لَا بِالْأَكْلِ وَالرَّقْصِ وَلَا بِالْمُفَاخَرَةِ بِالطَّعَامِ وَالْهَدَايَا. [مِنْ البدع المحدثة صَلَاة الرغائب فِي الْجُمُعَةَ الأولي مِنْ رجب] وَمِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ: أَنَّ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْهُ يُصَلُّونَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي الْجَوَامِعِ، وَالْمَسَاجِدِ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي بَعْضِ جَوَامِعِ الْأَمْصَارِ وَمَسَاجِدِهَا وَيَفْعَلُونَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ وَيُظْهِرُونَهَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ بِإِمَامٍ وَجَمَاعَةٍ كَأَنَّهَا صَلَاةٌ مَشْرُوعَةٌ، وَانْضَمَّ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ مَفَاسِدُ مُحَرَّمَةٌ، وَهِيَ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ، وَالرِّجَالِ فِي اللَّيْلِ عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ اجْتِمَاعِهِمْ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا لَا يَنْبَغِي مَعَ زِيَادَةِ وَقُودِ الْقَنَادِيلِ وَغَيْرِهَا. وَفِي زِيَادَةِ وَقُودِهَا إضَاعَةُ الْمَالِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الزَّيْتُ مِنْ الْوَقْفِ فَيَكُونُ ذَلِكَ جُرْحَةً فِي حَقِّ النَّاظِرِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْوَاقِفُ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَهُ لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا. وَزِيَادَةُ الْوُقُودِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ سَبَبٌ لِاجْتِمَاعِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ عَالِمًا بِذَلِكَ فَهُوَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَأَمَّا إنْ حَضَرَ لِيُغَيِّرَ وَهُوَ قَادِرٌ بِشَرْطِهِ فَيَا حَبَّذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالطُّرْطُوشِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَقْبِيحَ اجْتِمَاعِهِمْ وَفِعْلِهِمْ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ فِي جَمَاعَةٍ، وَأَعْظَمَ النَّكِيرَ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: إنَّهَا بِدْعَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ حَدَثَتْ فِي زَمَانِهِ وَأَوَّلُ مَا حَدَثَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَحْدَثَهَا فُلَانٌ سَمَّاهُ فَالْتَمَسَهُ هُنَاكَ هَذَا قَوْلُهُ فِيهَا، وَهِيَ عَلَى دُونِ مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّدْبِ إلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى فِعْلِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَإِظْهَارِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الرَّجُلُ يَفْعَلُهَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَيُصَلِّيهَا سِرًّا كَسَائِرِ النَّوَافِلِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا سُنَّةً دَائِمَةً لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ

من البدع التي أحدثوها في ليلة المعراج

الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ بِالسَّنَدِ الضَّعِيفِ قَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا: إنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا وَلِكِنِّهَا لَا تُفْعَلُ عَلَى الدَّوَامِ فَإِنَّهُ إذَا عَمِلَ بِهَا، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ، فَإِنْ يَكُنْ الْحَدِيثُ صَحِيحًا، فَقَدْ امْتَثَلَ الْأَمْرَ بِهِ، وَإِنْ يَكُنْ الْحَدِيثُ فِي سَنَدِهِ مَطْعَنٌ يَقْدَحُ فِيهِ فَلَا يَضُرُّهُ مَا فَعَلَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ خَيْرًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَعِيرَةً ظَاهِرَةً مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ كَقِيَامِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى صِفَةِ الْجَمْعِ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي أَشْكَلَ عَلَيْنَا صِحَّتُهُ، وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَإِنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ مَكْرُوهٌ فِعْلُهَا، وَذَلِكَ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ؛ لِأَنَّ تَكْرِيرَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ يَمْنَعُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - [مِنْ البدع الَّتِي أحدثوها فِي لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ] وَمِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِيهِ أَعْنِي فِي شَهْرِ رَجَبٍ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ الَّتِي هِيَ لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ الَّتِي شَرَّفَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ بِمَا شَرَعَ لَهُمْ فِيهَا بِفَضْلِهِ الْعَمِيمِ وَإِحْسَانِهِ الْجَسِيمِ، وَكَانَتْ عِنْدَ السَّلَفِ يُعَظِّمُونَهَا إكْرَامًا لِنَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَادَتِهِمْ الْكَرِيمَةِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِبَادَةِ فِيهَا وَإِطَالَةِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّضَرُّعِ، وَالْبُكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الْجَمِيلَةِ فِي تَعْظِيمِ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِامْتِثَالِهِمْ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ يَقُولُ: تَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ اللَّهِ، وَهَذِهِ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَحَاتِ وَكَيْفَ لَا، وَقَدْ جُعِلَتْ فِيهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِخَمْسِينَ إلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَهَذَا هُوَ الْفَضْلُ الْعَظِيمُ مِنْ غَنِيٍّ كَرِيمٍ، فَكَانُوا إذَا جَاءَتْ يُقَابِلُونَهَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ شُكْرًا مِنْهُمْ لِمَوْلَاهُمْ عَلَى مَا مَنْحَهُمْ وَأَوْلَاهُمْ نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ آمِينَ، فَجَاءَ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ فَقَابَلُوا هَذِهِ اللَّيْلَةَ الشَّرِيفَةَ بِنَقِيضِ مَا كَانَ السَّلَفُ يُقَابِلُونَهَا بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا فِيهَا مِنْ الْبِدَعِ أَشْيَاءَ، فَمِنْهَا إتْيَانُهُمْ الْمَسْجِدَ الْأَعْظَمَ وَاجْتِمَاعُهُمْ فِيهِ، وَمِنْهَا زِيَادَةُ وَقُودِ الْقَنَادِيلِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ لِمَا وَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، وَمِنْهَا مَا

يَفْرِشُونَهُ مِنْ الْبُسُطِ، وَالسَّجَّادَاتِ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهَا أَطْبَاقُ النُّحَاسِ فِيهَا الْكِيزَانُ، وَالْأَبَارِيقُ وَغَيْرِهِمَا كَأَنَّ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى بَيْتُهُمْ، وَالْجَامِعُ إنَّمَا جُعِلَ لِلْعِبَادَةِ لَا لِلْفِرَاشِ، وَالرُّقَادِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ. فَإِنْ احْتَجَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ» وَبِفِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي مُلَازَمَتِهِ الْمَسْجِدَ وَمَبِيتِهِ فِيهِ حَتَّى إنَّهُ كَانَ يُسَمَّى حَمَامَةَ الْمَسْجِدِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْتِزَامَهُمْ الْمَسْجِدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمَبِيتَهُمْ فِيهِ لِمَعْنًى بَيِّنٍ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ لَيْسَ لَهُمْ بَرَاحٌ مِنْهُ لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا فَكَيْفِيَّةُ الْتِزَامِهِمْ مَعْلُومَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ، إذْ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَزَالُونَ فِي أَحْوَالٍ سَنِيَّةٍ إمَّا صَلَاةٍ، أَوْ ذِكْرٍ، أَوْ تِلَاوَةٍ، أَوْ فِكْرٍ كُلُّ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَإِنْ غَلَبَ النَّوْمُ عَلَى أَحَدِهِمْ أَعْطَى الرَّاحَةَ لِنَفْسِهِ بِأَنْ يَجْلِسَ مُحْتَبِيًا قَلِيلًا، ثُمَّ يَنْهَضُ لِمَا كَانَ بِسَبِيلِهِ أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُمْ لَيْسُوا كَمِثْلِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَيْهِ زَائِرٌ يَزُورُهُ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي فَانْتَظَرَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَالُهُ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ أُحَدِّثُهُ فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ قَامَ يَتَنَفَّلُ فَخَافَ الزَّائِرُ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ تَنَفُّلَهُ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَقَالَ الزَّائِرُ: إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ أُكَلِّمُهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَقْبَلَ عَلَى الذِّكْرِ، وَالتِّلَاوَةِ فَخَافَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ وِرْدَهُ فَقَعَدَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ، فَقَالَ: إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ أُكَلِّمُهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَامَ يَتَنَفَّلُ كَذَلِكَ إلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ، فَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَقَامَ يَتَنَفَّلُ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُهُ إلَى أَنْ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَقْبَلَ عَلَى الذِّكْرِ، وَالتِّلَاوَةِ إلَى أَنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ يَتَنَفَّلُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ يَذْكُرُ اللَّهَ، وَالزَّائِرُ يَنْتَظِرُهُ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُكَلِّمَهُ فَخَفَقَتْ رَأْسُ هَذَا السَّيِّدِ فَاسْتَفَاقَ عِنْدَ خَفَقَانِ رَأْسِهِ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ

وَيَسْتَغْفِرُ وَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَيْنٍ لَا تَشْبَعُ مِنْ النَّوْمِ فَقَالَ الزَّائِرُ فِي نَفْسِهِ: يَحْرُمُ عَلَيَّ أَنْ أُكَلِّمَ مَنْ هَذَا حَالُهُ. فَانْصَرَفَ عَنْهُ وَمَضَى فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ كَيْفَ صَارَ حَالُ هَذَا، وَهُوَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ دَرَجَةِ مَنْ ذَكَرَ حَالَهُمْ فَجَعَلَ السِّنَةَ الَّتِي لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ ذَنْبًا يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ فَمَا بَالُك بِالسَّادَةِ الْكِرَامِ فَكَيْفَ يَحِلُّ الِاسْتِدْلَال بِهِمْ عَلَى اللَّهْوِ، وَاللَّعِبِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ وَاتِّبَاعِ أَهْوَاءِ النَّفْسِ وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ الْيَوْمَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ، وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ لِمَنْ يَظُنُّ فِيهِ، أَوْ يَتَوَهَّمُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ يَشْتَرِيَ: مَا تَفْعَلُ وَمَا تُرِيدُ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَوَهَّمَهُ يَقُولُ لَهُ عَلَيْك بِسُوقِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هَذَا سُوقُ الْآخِرَةِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا السَّقَّاءُونَ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ جُمْلَةٌ فَمِنْهَا الْبَيْعُ، وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَوَازُ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَهِيَ أَنْ تُعْطِيَهُ وَيُعْطِيَك مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْبَيْعِ يَكُونُ بَيْنَكُمَا، وَقَدْ مُنِعَ فِي الْمَسْجِدِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظُ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَلَوْ شِرَاءً مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ فَقَطْ، وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ مَنْ سَبَّلَ شَيْئًا مِنْ الْمَاءِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلَ لِيَسْقِيَ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ لَجَازَ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَضْرِبَ بِالنَّاقُوسِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا غَيْرِهِ، وَمَنْعُهُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْجَبُ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ: الْمَاءُ لِلسَّبِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ. الرَّابِعُ: أَنْ لَا يُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ بِقَدَمِهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمْشُونَ حُفَاةً وَيَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَأَقْدَامُهُمْ مُتَنَجِّسَةٌ. الْخَامِسُ: إنْ كَانَ لَهُ نَعْلٌ فَلَا يَجْعَلُهُ تَحْتَ إبْطِهِ، أَوْ خَلْفَ ظَهْرِهِ دُونَ شَيْءٍ يُكِنُّهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَذًى وَقَعَ

فِي الْمَسْجِدِ وَلِذَلِكَ لَا يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ لَهُ لِمَا ذُكِرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَيْنَ يَضَعُ نَعْلَهُ حِينَ صَلَاتِهِ، وَلَوْ تَحَفَّظَ النَّاسُ الْيَوْمَ كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَتَحَفَّظُونَ لَمَا احْتَاجُوا إلَى بِدْعَةِ السَّجَّادَةِ، وَالْحُصُرِ. وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ الْبُسُطِ وَغَيْرِهَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي السَّقَّاءِ فَلَيْسَ بِخَاصٍّ بِهَذِهِ اللَّيْلَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي بَلْ الْمَنْعُ عَامٌّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَحَيْثُ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَقَعَ الْمَنْعُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، وَمِنْهَا اجْتِمَاعُهُمْ حَلَقَاتٍ كُلُّ حَلْقَةٍ لَهَا كَبِيرٌ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي الذِّكْرِ، وَالْقِرَاءَةِ وَلَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ ذِكْرًا، أَوْ قِرَاءَةً لَكِنَّهُمْ يَلْعَبُونَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى فَالذَّاكِرُ مِنْهُمْ فِي الْغَالِبِ لَا يَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، بَلْ يَقُولُ: لَا يِلَاهَ يِلَّلَّهُ فَيَجْعَلُونَ عِوَضَ الْهَمْزَةِ يَاءً وَهِيَ أَلِفُ قَطْعٍ جَعَلُوهَا وَصَلًا، وَإِذَا قَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ يَمُطُّونَهَا وَيُرْجِعُونَهَا حَتَّى لَا تَكَادُ تُفْهَمُ، وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَزِيدُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَيُنْقِصُ مِنْهُ مَا هُوَ فِيهِ بِحَسَبِ تِلْكَ النَّغَمَاتِ، وَالتَّرْجِيعَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْغِنَاءَ، وَالْهُنُوكَ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الذَّمِيمَةِ، ثُمَّ فِيهَا مِنْ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ أَنَّ الْقَارِئَ يَبْتَدِئُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالْآخَرُ يُنْشِدُ الشِّعْرَ، أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِدَهُ فَيُسْكِتُونَ الْقَارِئَ، أَوْ يَهُمُّونَ بِذَلِكَ، أَوْ يَتْرُكُونَ هَذَا فِي شِعْرِهِ، وَهَذَا فِي قِرَاءَتِهِ لِأَجْلِ تَشَوُّقِ بَعْضِهِمْ لِسَمَاعِ الشَّعْرِ وَتِلْكَ النَّغَمَاتِ الْمَوْضُوعَةِ أَكْثَرَ، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ اللَّعِبِ فِي الدِّينِ أَنْ لَوْ كَانَتْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مُنِعَتْ فَكَيْفَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ سِيَّمَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ، بَلْ ضَمُّوا إلَيْهِ اجْتِمَاعَ النِّسَاءِ، وَالرِّجَالِ فِي الْجَامِعِ الْأَعْظَمِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ مُخْتَلَطِينَ بِاللَّيْلِ، وَخُرُوجَ النِّسَاءِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ الزِّينَةِ، وَالْكِسْوَةِ، وَالتَّحَلِّي، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ فَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي مُؤَخَّرِ الْجَامِعِ وَبَعْضُ النِّسَاءِ يَسْتَحْيِنِ أَنْ يَخْرُجْنَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِنَّ فَيَدُورُ عَلَيْهِنَّ إنْسَانٌ بِوِعَاءِ فَيَبُلْنَ فِيهِ

وَيُعْطِينَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، أَوْ يُخْرِجُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَعُودُ كَذَلِكَ مِرَارًا، وَالْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ فِي وِعَاءٍ حَرَامٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ، وَالشَّنَاعَةِ وَبَعْضُهُمْ يَخْرُجَ إلَى سِكَكِ الطُّرُقِ فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِيهَا، ثُمَّ يَأْتِي النَّاسُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فَيَمْشُونَ إلَى الْجَامِعِ فَتُصِيبُ أَقْدَامَهُمْ النَّجَاسَةُ، أَوْ نِعَالَهُمْ وَيَدْخُلُونَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ فَيُلَوِّثُونَهُ. وَدُخُولُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ فِيهَا مَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الْإِثْمِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهَا خَطِيئَةٌ هَذَا وَهِيَ طَاهِرَةٌ بِاتِّفَاقٍ فَكَيْفَ بِالنَّجَاسَةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْكِي أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا يَوْمًا مَعَ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الزَّوَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَانَ مِنْ جُلَّةِ الْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَكَابِرِ فِي الْعِلْمِ، وَالدِّينِ وَهُوَ شَيْخُ الشَّيْخَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْقَرَوِيَّيْنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ شَيْخُهُمَا الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ شُبَّاكٌ فِيهِ عَلَى الطَّرِيقِ فَتَنَخَّمَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الزَّوَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَرَكَ النُّخَامَةَ فِي فِيهِ وَلَمْ يُلْقِهَا حَتَّى قَامَ وَمَشَى خُطْوَتَيْنِ وَأَخْرَجَ فَمَهْ مِنْ الْمَسْجِدِ وَحِينَئِذٍ أَلْقَاهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ. قَالَ: فَقُلْت لَهُ: لِمَ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ وَأَنْتَ جَالِسٌ بِمَوْضِعِك؛ لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إلَّا خَارِجَ الْمَسْجِدِ. فَقَالَ لِي: إنَّ النُّخَامَةَ إذَا خَرَجَتْ لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ الْبُصَاقِ، وَلَوْ مِثْلَ رُءُوسِ الْإِبَرِ، أَوْ دُونَهُ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ بُصَاقٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ خَطِيئَةٌ فَقُمْت؛ لَأَنْ أَسْلَمَ مِنْ تِلْكَ الْخَطِيئَةِ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى احْتِرَازِ هَذَا الْعَالِمِ الْجَلِيلِ فِيمَا فَعَلَ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى انْعِكَاسِ الْأُمُورِ وَانْقِلَابِ الْحَقَائِقِ إلَى ضِدِّهَا فَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ بَعْضُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى نُورًا وَبَصِيرَةً رَأَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَعْنِي فِي الْخَيْرِ وَضِدِّهِ

فصل من البدع المحدثة في ليلة النصف شعبان

[فَصْلٌ مِنْ البدع المحدثة فِي لَيْلَةُ النِّصْفِ شَعْبَانَ] لَيْلَةُ نِصْفِ شَعْبَانَ (فَصْلٌ) ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى ذِكْرِ مَوْسِمِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَهُ مَوْسِمًا وَلَيْسَ بِمَوْسِمٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَوَاسِمَ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ الْعِيدَانِ وَعَاشُورَاءُ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هَلْ هِيَ هَذِهِ اللَّيْلَةُ، أَوْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ. الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَلَهَا فَضْلٌ عَظِيمٌ وَخَيْرٌ جَسِيمٌ وَكَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُعَظِّمُونَهَا وَيُشَمِّرُونَ لَهَا قَبْلَ إتْيَانِهَا فَمَا تَأْتِيهِمْ إلَّا وَهُمْ مُتَأَهِّبُونَ لِلِقَائِهَا، وَالْقِيَامُ بِحُرْمَتِهَا عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ احْتِرَامِهِمْ لِلشَّعَائِرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هَذَا هُوَ التَّعْظِيمُ الشَّرْعِيُّ لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ، ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ فَعَكَسُوا الْحَالَ كَمَا جَرَى مِنْهُمْ فِي غَيْرِهَا فَمَا ثَمَّ مَوْضِعٌ مُبَارَكٌ، أَوْ زَمَنٌ فَاضِلٌ حَضَّ الشَّرْعُ عَلَى اغْتِنَامِ بَرَكَتِهِ، وَالتَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِ الْمَوْلَى سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى فِيهِ إلَّا وَتَجِدُ الشَّيْطَانَ قَدْ ضَرَبَ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَجَمِيعِ مَكَايِدِهِ لِمَنْ يُصْغِي إلَيْهِ، أَوْ يَسْمَعُ مِنْهُ حَتَّى يَحْرِمَهُمْ جَزِيلَ مَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ وَيُفَوِّتَهُمْ مَا وُعِدُوا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَمِيمِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَمَرُّدِهِ وَشَيْطَنَتِهِ وَإِغْوَائِهِ بِمَا نَالَ مِنْهُمْ فِي كَوْنِهِمْ سَمِعُوا مِنْهُ وَنَالَ مِنْهُمْ بِأَنْ حَرَمَهُمْ مَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ حَتَّى أَبْدَلَ لَهُمْ مَوْضِعَ الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ إحْدَاثِ الْبِدَعِ وَشَهَوَاتِ النُّفُوسِ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ، وَالْحَلَاوَاتِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ، وَالْوَعِيدِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حِكَايَةً عَنْ اللَّعِينِ إبْلِيسَ بِقَوْلِهِ {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] ،

وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَجِدُ اللَّعِينَ لَا يَجِدُ مَوْضِعًا فِيهِ امْتِثَالُ سُنَّةٍ إلَّا وَيَعْمَلُ عَلَى تَبْدِيلِهَا بِمَا يُنَاقِضُهَا حَتَّى صَارَ مَا أَبْدَلَهُ سُنَّةً لَهُمْ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً» . وَهَذَا الْحَدِيثُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، أَوْ يُشِيرُ بِهِ إنَّمَا هُوَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَارَةً يُؤَكِّدُ ذَلِكَ فَيُوجِبُهُ وَتَارَةً يُخَفِّفُ عَنْ الْعِبَادِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سُنَّةً، فَإِذَا سَمِعْت بِالسُّنَّةِ فَهِيَ عَادَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَرِيقَتُهُ، ثُمَّ بِهَذِهِ السُّنَّةِ أَعْنِي فِي اتِّخَاذِ السُّنَّةِ عَادَةً فَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عَادَةٌ، أَوْ طَرِيقَةٌ فَتِلْكَ سُنَّتُهُ فَلَمَّا أَنْ اعْتَادَ النَّاسُ عَوَائِدَ وَمَضَتْ الْأَعْوَامُ عَلَيْهَا كَانَتْ سُنَّتَهُمْ. فَإِذَا جَاءَ الْإِنْسَانُ يَتْرُكُ عَادَتَهُمْ قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً، فَإِذَا جَاءَ يَفْعَلُ سُنَّةً أَعْنِي سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا فَعَلَ بِدْعَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى أَنَّهُ خَالَفَ عَادَتَهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا جَرَى بَعْدَ انْقِطَاعِ الثَّلَاثَةِ قُرُونٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِمْ خَيْرَ الْقُرُونِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحُذَيْفَةَ «كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً» انْتَهَى. هَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ هُوَ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، إذْ أَنَّ أَكْثَرَ الْبِدَعِ الْمُسْتَهْجَنَةِ مَا حَدَثَتْ إلَّا بَعْدَهُمْ، وَفِي كُلِّ عَامٍ تَزِيدُ الْبِدَعُ وَتَنْقُصُ السُّنَنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ عَامٌ إلَّا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ خَيْرٌ مِنْهُ قَالَ مَالِكٌ مَا أَرَاهُ مُنْذُ زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّ عَامَنَا هَذَا أَخْصَبُ وَأَرْخَصُ سِعْرًا مِنْ الْعَامِ الْمَاضِي فَقَالَ: فَأَيُّهُمَا أَكْثَرُ فِقْهًا وَقِرَاءَةً وَأَحْدَثُ عَهْدًا بِالنُّبُوَّةِ فَقَالَ الَّذِي مَضَى فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْت وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي» . وَهَا هُوَ ذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى إلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ كَانَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ يَقُولُ: لَا تَسْأَلُوهُمْ الْيَوْمَ عَمَّا أَحْدَثُوا فَإِنَّهُمْ قَدْ أَعَدُّوا لَهُ جَوَابًا وَلَكِنْ سَلُوهُمْ عَنْ السُّنَنِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهَا وَكَانَ الشَّعْبِيُّ إذَا نَظَرَ إلَى مَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ الرَّأْي، وَالْهَوَى يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ الْقُعُودُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا يَعْدِلُ بِهِ فَمُذْ صَارَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْمُرَاءُونَ، فَقَدْ بَغَّضُوا إلَيَّ الْجُلُوسَ فِيهِ وَلَأَنْ أَقْعُدَ عَلَى مَزْبَلَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تُجَادِلَ عَنْ السُّنَّةِ وَلَكِنَّك تُخْبِرُ بِهَا، فَإِنْ قُبِلَ مِنْك وَإِلَّا فَاسْكُتْ وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ، فَقَدْ صَارَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا وَصَارَتْ السُّنَّةُ بِدْعَةً، وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً انْتَهَى. وَالْغَرِيبُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَنْ أَوْصَاهُ «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» . وَلَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِك قَالَ: الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إذَا فَسَدَ النَّاسُ» انْتَهَى وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي» «وَلَمَّا أَنْ ذَكَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْفِتَنَ قَالَ بَعْضُهُمْ مَا تَأْمُرُنِي بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا أَدْرَكَنِي ذَلِكَ الزَّمَانُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك» يَعْنِي أَنْ يَتَّخِذَ بَيْتَهُ كَأَنَّهُ ثَوْبُهُ الَّذِي يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ فَيُلَازِمُهُ وَلَا يُفَارِقُهُ إذَا عَمَّتْ الْفِتَنُ وَكَثُرَتْ، وَهَذَا مَوْجُودٌ مُشَاهَدٌ؛ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الْعِبَادَاتِ رَجَعَتْ لِلْعَادَاتِ، بَلْ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ قَدْ صَارَتْ الْيَوْمَ وَسَائِلَ لِلدُّخُولِ فِي الدُّنْيَا وَأُكُلِهَا، وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُهَا لِلرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ فِي الْغَالِبِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْهَرَبُ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبَادَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ الْيَوْمَ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْعَدِيدَةِ إلَى قُعُودِ الْإِنْسَانِ فِي بَيْتِهِ أَسْلَمُ لَهُ

بَلْ أَوْجَبُ عَلَيْهِ إنْ قَدَرَ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرِهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَقُلْ مِنْ فَوْقِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ لِلْعَبْدِ جِهَةُ الْفَوْقِيَّةِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَ بِالنَّصْرِ مِنْهَا لَهُ فَلَا يُبَالِي الْمُكَلَّفُ بِتَعَدُّدِ جِهَاتِ اللَّعِينَ إبْلِيسَ لِإِبْقَاءِ الْبَابِ الْعُلْوِيِّ الْمَفْتُوحِ لَهُ بِمَحْضِ الْفَضْلِ، وَالْكَرَمِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» انْتَهَى. فَبَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَمَهْمَا وَقَعَ الْمُؤْمِنُ فِي شَيْءٍ مَا مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ فِيهِ الْعَتَبُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى التَّوْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِذَا أَوْقَعَهَا بِشُرُوطِهَا الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا وَجَدَ الْبَابَ، وَالْحَمْدَ لِلَّهِ مَفْتُوحًا لَا يُرَدُّ عَنْهُ وَلَا يُغْلَقُ دُونَهُ بِكَرَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ التَّائِبِ وَقُوَّةِ صِدْقِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَلَا تَرَى إلَى قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمَا جَرَى لَهُ فِي بَدْءِ تَوْبَتِهِ وَنُزُولِهِ عَنْ فَرَسِهِ وَدَفْعِهِ ثِيَابَهُ لِلصَّيَّادِ وَأَخْذِهِ ثِيَابَ الصَّيَّادِ وَمَرَّ لِسَبِيلِهِ فَرَأَى إنْسَانًا قَدْ وَقَعَ عَنْ قَنْطَرَةٍ فَقَالَ لَهُ: قِفْ. فَوَقَفَ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى وَصَلَ إلَيْهِ فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ وَأَلْقَاهُ عَلَى الْقَنْطَرَةِ سَالِمًا وَمَا ذَاكَ إلَّا لِصِدْقِ تَوْبَتِهِ وَحُسْنِ نِيَّتِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَوْبَتِهِ وَفِي الرُّجُوعِ إلَيْهِ وَفِي مُلَازَمَتِهِ سُنَّةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسُنَّتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْكُلِّ وَاحِدَةٌ أَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ وَيُقِيلُهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا مَضَى وَيَعُودُ عَلَيْهِمْ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ عَاجِلًا وَآجِلًا، أَلَا تَرَى إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ يُونُسَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَنْ ابْتَلَعَهُ الْحُوتُ وَابْتَلَعَ الْحُوتَ حُوتٌ آخَرُ وَنَزَلَ بِهِ إلَى قَعْرِ الْبَحْرِ وَهُوَ يُنَادِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] فَسَمِعَهُ قَارُونُ وَهُوَ يُخْسَفُ بِهِ فَسَأَلَ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِعَذَابِهِ أَنْ يَقِفُوا بِهِ حَتَّى يَسْأَلَ صَاحِبَ الصَّوْتِ فَلَمَّا أَنْ سَأَلَهُ وَأَجَابَهُ قَالَ لَهُ قَارُونُ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَإِنَّك إذَا رَجَعْت إلَيْهِ تَجِدُهُ فِي أَوَّلِ قَدَمٍ تَرْجِعُ إلَيْهِ فِيهِ. فَقَالَ لَهُ يُونُسُ عَلَى نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

فَمَا مَنَعَك أَنْتَ أَنْ تَرْجِعَ إلَى رَبِّك فَقَالَ لَهُ: إنَّ تَوْبَتِي وُكِّلَتْ إلَى ابْنِ خَالَتِي مُوسَى فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنِّي فَهَذَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي قَبُولِ التَّائِبِ عِنْدَ صِدْقِهِ فِي رُجُوعِهِ إلَى مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَعْنَاهُ لَكِنْ قَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَسْلَمُ لِذِي دِينٍ إلَّا مَنْ فَرَّ مِنْ شَاهِقٍ إلَى شَاهِقٍ كَطَائِرٍ بِأَفْرَاخِهِ، أَوْ كَثَعْلَبٍ بِأَشْبَالِهِ» . أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ثُمَّ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا أَتْقَاهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَا أَتْقَاهُ» فَظَاهِرُ الْحَدِيثَيْنِ التَّعَارُضُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ هَذَا بِالْإِقَامَةِ فِي بَيْتِهِ وَأَمَرَ هَذَا بِالْفِرَارِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ، وَالْفِرَارِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ مَا مَعْنَاهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي الْفِرَارِ مَحْمُولٌ عَلَى زَمَانٍ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ الْمَوَاضِعِ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ فِيهَا وَأُخْرَى فَاسِدَةً، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَفِرَّ بِدَيْنِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْفَاسِدَةِ إلَى الْمَوَاضِعِ الصَّالِحَةِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الزَّمَانُ قَدْ اسْتَوَى فِي عُمُومِ مُخَالَفَةِ السُّنَنِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ يَفِرُّ إلَيْهِ فَلْيَكُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إذَا رَأَيْت الْفَسَادَ قَدْ كَثُرَ فِي مَوْضِعٍ وَعَلَا أَمْرُهُ فَلَا تَخْرُجُ فِرَارًا مِنْهُ وَاعْتَزِلْ مَا قَدَرْت عَلَيْهِ وَكُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّك إذَا خَرَجْت مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ وَصِرْت إلَى غَيْرِهِ وَجَدْتَهُ أَكْثَرَ فَسَادًا وَمَنَاكِرَ وَبِدَعًا مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي خَرَجْت عَنْهُ فَتَنْدَمُ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى خُرُوجِك مِنْهُ وَتُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى مَوْضِعِك الَّذِي كُنْت فِيهِ فَتَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِشَارَةِ، وَالِاسْتِخَارَةِ وَتَبْدِيلِ الْحَالِ بِطُرُقِ الْأَسْفَارِ وَمُبَاشَرَةِ مَا كُنْت مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ وَمُلَاقَاةِ الْمَخَاوِفِ

وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَرِي الْمُسَافِرِينَ، فَإِذَا وَصَلْت إلَى مَوْضِعِك الَّذِي كُنْت فِيهِ وَجَدْته قَدْ تَغَيَّرَ حَالُهُ إلَى مَا هُوَ أَشَدُّ فَتَنْدَمُ عَلَى رُجُوعِك إلَيْهِ، وَتَرَى أَنَّ إقَامَتَك فِي مَوْضِعِك الَّذِي كُنْت سَافَرْت إلَيْهِ أَقَلُّ فَسَادًا فَتَقَعُ فِي ضَيَاعِ الْأَوْقَاتِ، وَالْمَشَاقِّ وَارْتِكَابِ الْأَهْوَالِ وَرُؤْيَةِ الْمُخَالَفَاتِ وَمُبَاشَرَتِهَا عِيَانًا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يُسَافِرْ، ثُمَّ يَبْقَى حَالُهُ كَذَلِكَ مُذَبْذَبًا لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ، أَوْ كَمَا قَالَ وَفِي أَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْإِقَامَةِ فِي الْبُيُوتِ رِفْقٌ عَظِيمٌ وَرَحْمَةٌ شَامِلَةٌ لِأُمَّتِهِ بِبَرَكَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَفَعَ عَنْهُمْ تِلْكَ الْمَشَقَّاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا بِالْجُلُوسِ فِي، أَوْطَانِهِمْ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نِعْمَ الصَّوَامِعُ بُيُوتُ أُمَّتِي» . هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْضِعَ إذَا كَثُرَ فِيهِ الْفَسَادُ، وَأَهْلُهُ الْمُقِيمُونَ مَعَهُ عَلَى حَالِهِمْ لَمْ يُصِبْهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْبَلَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى قُوَّةِ حَالِ الْوَلِيِّ الْمُقِيمِ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا قُوَّةُ حَالِهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَكَانَتُهُ عِنْدَهُ وَقُرْبُهُ مِنْهُ مَا انْدَفَعَتْ الْعُقُوبَةُ عَنْهُمْ فَبِنَفْسِهِ وَهِمَّتِهِ الْعَالِيَةِ وَحُلُولِهِ بَيْنَهُمْ أَخَّرَ الْمَوْلَى الْكَرِيمُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ لِيَتُوبَ مَنْ يَتُوبُ وَيَرْجِعَ مَنْ يَرْجِعُ، أَوْ يُصِيبُ الْعَذَابُ بَعْضَهُمْ خُصُوصًا وَلَا يَقَعُ عَامًّا. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفُ بِالصِّقِلِّيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُخْلِ الْأَرْضَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ؛ إمَّا قَائِمٌ لَهُ بِحُجَّةٍ، وَإِمَّا مَدْفُوعٌ بِهِ الْبَلَاءُ انْتَهَى. فَالْقَائِمُ بِالْحُجَّةِ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمَدْفُوعُ بِهِ الْبَلَاءُ قَدْ يُعْرَفُ، وَقَدْ لَا يُعْرَفُ، وَقَدْ يَعْرِفُهُ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ آخَرِينَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوَضِّحُهُ مَا جَرَى لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ الْمَعْرُوفِ بِالْقُرَشِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا أَنْ رَأَى فِي وَقْتِهِ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ بِأَهْلِ مِصْرَ بَلَاءٌ قَالَ: أَيَقَعُ هَذَا وَأَنَا فِيهِمْ قِيلَ لَهُ: اُخْرُجْ مِنْ بَيْنِهِمْ فَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَخَرَجَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى الشَّامِ فَأَقَامَ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ خُرُوجِهِ نَزَلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ أَسْأَلُ اللَّهِ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ، فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ عَذَابًا عَامًّا وَفِيهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَعَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْفِرَارُ إلَى الْبُيُوتِ

لَكِنْ بِشَرْطِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى إظْهَارِ مَعَالِمِ الشَّرْعِ، وَالنُّهُوضِ إلَيْهَا فَيُبَادِرُ إلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ يَتَخَوَّفُ مِنْهُ أَعْنِي مِنْ الْبِدَعِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لَهُ هَلْ الْمُقَامُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ الرُّجُوعُ إلَى بَيْتِهِ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنُوبُهُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي بَيْتِهِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَفْضَلَ وَأَكْثَرَ نَفْعًا بَادَرَ إلَى فِعْلِهِ سِيَّمَا إذَا كَانَ النَّفْعُ مُتَعَدِّيًا، وَإِنْ كَانَ يَتَخَوَّفُ مِنْ شَيْءٍ فِيهِ فَالرُّجُوعُ إلَى بَيْتِهِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ وَإِقَامَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَا ذُكِرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ، إذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ لَحَصَلَ لَهُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ وَزِيَارَةُ جِوَارِ بَيْتِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالِاعْتِكَافُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ. فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ يُرْشِدُهُ، أَوْ يَسْتَرْشِدُ هُوَ مِنْهُ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ، إذْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ، وَالْمَقْصُودَ مِنْ كَوْنِهِ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ إنَّمَا هُوَ طَلَبُ السَّلَامَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِي زَمَنِهِ فَيَكُونُ فِرَارًا بِدِينِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى بَيْتِ رَبِّهِ وَمِنْ بَيْتِ رَبِّهِ إلَى بَيْتِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] ، وَالْفِرَارُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْمُبَادَرَةُ إلَى اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ فَلَا يَتْرُك الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ مَا حَدَثَ مِنْ الْبِدَعِ، إذْ أَنَّ الصَّلَوَاتِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ وَمِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَوَّلُ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَبَدَانِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ صَلَاتِهِ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، بَلْ حَيْثُمَا قَلَّتْ الْبِدَعُ مِنْ الْمَسْجِدِ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ أَوْلَى وَأَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَسْجِدًا سَالِمًا مِمَّا ذُكِرَ وَقَلَّ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ إلَى أَقَلِّ الْمَسَاجِدِ بِدَعًا فَلْيُصَلِّ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ بِدْعَةٌ وَاحِدَةٌ أَشَدَّ مِنْ بِدَعٍ جُمْلَةٍ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ وَلْيُصَلِّ فِيمَا عَدَاهُ، وَإِذَا صَلَّى مَعَ ذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ جَهْدَهُ وَيُغَيِّرْ مَا اسْتَطَاعَ بِشَرْطِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْقَلْبِ أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّغْيِيرِ، فَإِنْ كَانَتْ لَيْلَةٌ تَزِيدُ فِيهَا الْبِدَعُ وَتَكْثُرُ فَتَرْكُ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ، إذْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا وَلَكِنْ تَكْثِيرُ سَوَادِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاجِبٌ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ مُتَعَيِّنٌ فَيَتْرُكُ الْمَنْدُوبَ لَهُ وَهُوَ

الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَلِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لِلْحَاضِرِينَ فِي أَمَاكِنِ الْبِدَعِ فِي الْإِثْمِ هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَأْنَسُ قَلْبَهُ بِتِلْكَ الْبِدَعِ فَيَئُولُ إلَى تَرْكِ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَدْنَى رُتَبِ التَّغْيِيرِ لِمَا وَرَدَ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَحْسِنَ شَيْئًا مِمَّا يَرَاهُ، أَوْ يَسْمَعَ بِهِ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ وَهُوَ الْإِحْدَاثُ فِي الدِّينِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» . يَعْنِي مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ عَمَلَ امْرِئٍ حَتَّى يُتْقِنَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا إتْقَانُهُ قَالَ: يُخَلِّصُهُ مِنْ الرِّيَاءِ، وَالْبِدْعَةِ» ، وَقَدْ وَرَدَ «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ حَدَثًا: هَبْ أَنِّي أَغْفِرُ لَك مَا بَيْنِي وَبَيْنَك فَاَلَّذِي أَضْلَلْتهمْ مِنْ النَّاسِ» انْتَهَى. فَإِذَا وَقَعَ اسْتِحْسَانُ شَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ كَائِنًا مَا كَانَ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ مَعَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ قَلَّ أَنْ يَقَعَ أَعْنِي أَنْ تَعُمَّ تِلْكَ الْبِدَعُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ جَمِيعَ مَسَاجِدِ الْبَلَدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَمَالُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَاصِلٌ لَهُ أَعْنِي الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ السَّالِمِ مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ، أَوْ مِنْ أَكْثَرِهَا، وَلَوْ امْتَنَعَ بَعْضُ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا الْبِدَعُ لَانْحَسَمَتْ الْمَادَّةُ وَزَالَتْ الْبِدَعُ كُلُّهَا، أَوْ أَكْثَرُهَا، أَوْ بَعْضُهَا لَكِنْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ عَلَى تَعَاطِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ إذَا خَتَمَ وَلَدُهُ الْقُرْآنَ، أَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ. وَسَنُبَيِّنُ مَا فِي ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ وَقَعَ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّهُمْ أَوْقَدُوا جَامِعَهَا الْأَعْظَمَ فَزَادُوا فِي الْوَقُودِ الزِّيَادَةَ الْكَثِيرَةَ فَجَاءَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَشْتَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ عَلَى عَادَتِهِ فَرَأَى ذَلِكَ فَوَقَفَ وَلَمْ يَدْخُلْ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَدْخُلُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ إلَّا

ثَلَاثَةُ قَنَادِيلَ، أَوْ خَمْسَةٌ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَامْتَثَلُوا إذْ ذَاكَ قَوْلَهُ، وَحِينَئِذٍ دَخَلَ فَوَقَعَ هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ بِتَغْيِيرِ شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ الشُّيُوخِ فَكَيْفَ بِهِ لَوْ كَانَ زِيَادَةً عَلَى الْوَاحِدِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى التَّسَامُحِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى جَرَّ الْأَمْرُ إلَى اعْتِيَادِ الْبِدَعِ وَيَنْسُبُهَا أَكْثَرُ الْعَوَامّ إلَى الشَّرْعِ بِسَبَبِ حُضُورِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فَظَنَّ أَكْثَرُ الْعَوَامّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَشْرُوعِ، وَهَذَا أَعْظَمُ خَطَرًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ، إذْ ذَاكَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ السَّالِمِ مِنْ الْبِدَعِ مَنْ يُصَلِّي فِيهِ فَتَتَأَكَّدُ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ وَحْدَهُ إحْيَاءُ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَالسَّعَادَةِ مَا فِيهِ، أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ مِنْ «قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الَّذِي يُصَلِّي فِي الْبَرِّيَّةِ وَحْدَهُ إنَّهُ يُصَلِّي عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ يَسَارِهِ مَلَكٌ، فَإِذَا أَذَّنَ لَهَا وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ» . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً، فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ» ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا لَمْ يَمْتَلِئْ بِالنَّاسِ كُمِّلَ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ، فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي بِصَلَاتِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَحْضُرُ مَوْضِعًا إلَّا وَيَقْوَى الرَّجَاءُ فِي قَبُولِ مَا يُعْمَلُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ إذَا حَضَرَ مَوْضِعًا، وَمَنْ هَرَبَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَأَوَى إلَى السُّنَّةِ فِي غَالِبِ أَمْرِهِ فَيَقْوَى الرَّجَاءُ فِي وِلَايَتِهِ، إذْ أَنَّهُ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ. وَالتَّشَبُّهُ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ إمَامَ الْمَسْجِدِ إذَا صَلَّى فِيهِ وَحْدَهُ قَامَ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا جَاءَتْ جَمَاعَةٌ بَعْدَهُ فَلَا يَجْمَعُونَ فِيهِ وَيُصَلُّونَ أَفْذَاذًا، وَالْإِمَامُ لَا يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَتَى إلَى الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَكَانَ فِيهَا بَعْضُ طِينٍ وَظَلَامٍ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ هُوَ وَخَادِمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا، فَحَصَلَ لَهُ سُرُورٌ فَسَأَلَهُ خَادِمُهُ مَا سَبَبُ سُرُورِهِ فَقَالَ لَهُ: أَلَا تَرَى مَا حَصَلَ لَنَا فِي

هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَمَا خَصَّصَنَا بِهِ مِنْ إحْيَاءِ بَيْتِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَنَا وَلَمْ يُشَارِكْنَا فِيهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَهَذَا فَرَحُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمَسْجِدٌ سَالِمٌ مِنْ الْبِدَعِ فَكَيْفَ بِالْهَارِبِ مِنْ مَوَاضِعِ الْبِدَعِ إلَى مَوَاضِعَ تَحْصُلُ فِيهَا السَّلَامَةُ، وَالْخَيْرُ، وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي إحْيَاءِ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا طَالَ الْكَلَامُ فِي ذِكْرِ مَا يُعْمَلُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَعْنِي لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لِأَجْلِ مَا أَحْدَثُوهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ أَعْنِي فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِيهَا لَكِنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ زَادَتْ فَضِيلَتُهَا وَمُقْتَضَى زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ زِيَادَةُ الشُّكْرِ اللَّائِقِ بِهَا مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَأَنْوَاعِهَا فَبَدَّلَ بَعْضُهُمْ مَكَانَ الشُّكْرِ زِيَادَةَ الْبِدَعِ فِيهَا عَكْسُ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِالشُّكْرِ لِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ ضِدَّ شُكْرِ النِّعَمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، أَلَا تَرَى إلَى مَا فَعَلُوهُ مِنْ زِيَادَةِ الْوَقُودِ الْخَارِجِ الْخَارِقِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْجَامِعِ قِنْدِيلٌ وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يُوقَدُ إلَّا أَوْقَدُوهُ حَتَّى إنَّهُمْ جَعَلُوا الْحِبَالَ فِي الْأَعْمِدَةِ، وَالشُّرَافَاتِ وَعَلَّقُوا فِيهَا الْقَنَادِيلَ وَأَوْقَدُوهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّعْلِيلُ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَرِهَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى التَّمَسُّحَ بِالْمُصْحَفِ، وَالْمِنْبَرِ، وَالْجُدَرَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ السَّبَبَ فِي ابْتِدَاءِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَزِيَادَةِ الْوَقُودِ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِعَبَدَةِ النَّارِ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَبَدَةَ النَّارِ يُوقِدُونَهَا حَتَّى إذَا كَانَتْ فِي قُوَّتِهَا وَشَعْشَعَتِهَا اجْتَمَعُوا إلَيْهَا بِنِيَّةِ عِبَادَتِهَا، وَقَدْ حَثَّ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلَى تَرْكِ تَشَبُّهِ الْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ حَتَّى فِي زِيِّهِمْ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعُ كَثِيرٍ مِنْ النِّسَاءِ، وَالرِّجَالِ، وَالْوِلْدَانِ الصِّغَارِ الَّذِينَ يَتَنَجَّسُ الْجَامِعُ بِفَضَلَاتِهِمْ غَالِبًا وَكَثْرَةِ اللَّغَطِ، وَاللَّغْوِ الْكَثِيرِ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ وَأَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ لَيْلَةِ السَّابِعِ، وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ، وَفِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ وَأَكْبَرُ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْوَقُودِ فِيهَا فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدَعِ كَيْفَ يَجُرُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى

الْمُحَرَّمَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَامِعَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ رَجَعَ كَأَنَّهُ دَارُ شُرْطَةٍ لِمَجِيءِ الْوَالِي، وَالْمُقَدَّمِينَ، وَالْأَعْوَانِ وَفَرْشِ الْبُسُطِ وَنَصَبِ الْكُرْسِيِّ لِلْوَالِي لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ فِي مَكَان مَعْلُومٍ وَتُوقَدُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَشَاعِلُ الْكَثِيرَةُ فِي صَحْنِ الْجَامِعِ وَيَقَعُ مِنْهَا بَعْضُ الرَّمَادِ فِيهِ وَرُبَّمَا وَقَعَ الضَّرْبُ بِالْعَصَا، وَالْبَطْحُ لِمَنْ يَشْتَكِي فِي الْجَامِعِ، أَوْ تَأْتِيهِ الْخُصُومُ مِنْ خَارِجِ الْجَامِعِ وَهُوَ فِيهِ، هَذَا كُلُّهُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ. وَإِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْجَامِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ مِنْ الْخُصُومِ، وَالْجَنَادِرَةِ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ اللَّغَطُ وَاقِعٌ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ فَكَيْفَ بِهِ إذَا انْضَمَّ إلَى الشَّكَاوَى وَأَحْكَامِ الْوَالِي يَا لَيْتَهُمْ اقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ إقَامَةُ حُرْمَةٍ لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ وَلِبَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّهُمْ أَتَوْهُ لِيُعَظِّمُوهُ، وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْقُرَبِ، وَهَذَا أَمْرٌ أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ، إذْ أَنَّهُمْ لَوْ اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مَكْرُوهٌ لَرُجِيَ لَهُمْ الْإِقْلَاعُ عَنْهُ وَلَكِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَلَا يَتُوبُ أَحَدٌ مِنْ الْقُرَبِ، وَمَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تُرْفَعُ أَيْ تُغْلَقُ وَلَا تُفْتَحُ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَرْفِيعَهَا إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحْكَامَ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَذَلِكَ يَتَلَقَّى عَنْ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْآخِذِينَ عَنْهُ، وَتَعْظِيمُهُمْ لَهَا إنَّمَا كَانَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَا يَعُمُّ جَعْفَرًا يَعُمُّنَا إذَا كُنَّا صَالِحِينَ وَمَا يَخُصُّهُ يَخُصُّنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أَيْ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ بَنَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَحْبَةً خَارِجَ الْمَسْجِدِ تُسَمَّى الْبَطْحَاءُ، وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِدَ شِعْرًا، أَوْ يَنْشُدَ ضَالَّةً فَلْيَخْرُجْ إلَى هَذِهِ الرَّحْبَةِ فَإِنَّمَا الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

«مَنْ نَشَدَ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك» . وَقَدْ وَرَدَ «مَنْ سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَاحْرِمُوهُ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَسْجِدُنَا هَذَا لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَاجْعَلُوا وُضُوءَكُمْ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ» انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَصَلَاةُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِمَا فِيهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِعْلَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي جَمَاعَةٍ بِدْعَةٌ، وَلَوْ صَلَّاهَا إنْسَانٌ وَحْدَهُ سِرًّا لَجَازَ ذَلِكَ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ فِي كَرَاهِيَتِهِ تَكْرَارِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لِاتِّبَاعِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ يَا لَيْتَهُمْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ لَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَشْنَعُ وَهُوَ خُرُوجُ الْحَرِيمِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، وَهَذِهِ اللَّيْلَةُ فِيهَا زِيَادَةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى غَيْرِهَا أَعْنِي كَثْرَةَ خُرُوجِهِنَّ إلَى الْقُبُورِ، وَمَعَ بَعْضِهِنَّ الدُّفُّ يَضْرِبْنَ بِهِ وَبَعْضُهُنَّ يُغَنِّينَ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُنَّ مُتَجَاهَرِينَ بِذَلِكَ لِقِلَّةِ حَيَائِهِنَّ وَقِلَّةِ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِنَّ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُنَّ خَرَجْنَ لِلْعِبَادَةِ وَهِيَ زِيَارَةُ قُبُورِ الْأَوْلِيَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالصُّلَحَاءِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بَعْضُ مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ مِنْ الشُّبَّانِ، وَالرِّجَالِ فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي وَأَكْثَرُهُمْ مُخْتَلِطُونَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضِ نِسَاءٌ وَشُبَّانٌ وَرِجَالٌ قَدْ رَفَعُوا جِلْبَابَ الْحَيَاءِ، وَالْوَقَارِ عَنْهُمْ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ كَأَنَّهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ، إذْ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي الْقُبُورِ بَيْنَ النِّسَاءِ، وَالرِّجَالِ أَعْنِي فِي كَشْفِ الْوُجُوهِ، وَالْأَطْرَافِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ فَيَا لِلْعَجَبِ فِي انْكِشَافِهِنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الِاعْتِبَارِ، وَالتِّذْكَارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا رَجَعْنَ إلَى الْبَلَدِ يَرْجِعْنَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مِنْ كَشْفِ السُّتْرَةِ عَنْهُنَّ، فَإِذَا وَصَلْنَ إلَى الْبَلَدِ تَنَقَّبْنَ، إذْ ذَاكَ

وَاسْتَتَرْنَ، ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ بَيْنَهُنَّ شَعِيرَةً يَتَدَيَّنُ بِهَا أَعْنِي فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَتِرُ فِي الْبَلَدِ، وَفِي الْقُبُورِ، وَالطَّرِيقِ إلَيْهَا مَكْشُوفَةُ الْوَجْهِ لَا تَسْتَتِرُ مِنْ أَحَدٍ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةٌ مِنْ الْمَفَاسِدِ مِنْهَا اجْتِمَاعُهُمْ كَمَا سَبَقَ. الثَّانِي: انْتِهَاكُ حُرْمَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُعَظَّمَةِ، وَهَذَا الْيَوْمُ الْعَظِيمِ، وَهَذَا الشَّهْرُ الْكَرِيمُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ أَعْظَمُوا الْمَعْصِيَةَ بِفِعْلِهَا عَلَى الْقُبُورِ؛ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْخَشْيَةِ، وَالْفَزَعِ، وَالِاعْتِبَارِ، وَالْحَثِّ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِهَذَا الْمَصْرَعِ الْعَظِيمِ الْمَهُولِ أَمْرُهُ، فَرَدُّوا ذَلِكَ لِلنَّقِيضِ، وَجَعَلُوهُ فِي مَوْضِعِ فَرَحٍ وَمَعَاصٍ كَحَالِ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الرَّابِعُ: أَذِيَّةُ الْمَوْتَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ. الْخَامِسُ: قِلَّةُ احْتِرَامِهِمْ لِتَعْظِيمِ جَنَابِ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالصُّلَحَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى زَعْمِهِمْ يَمْضُونَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ وَيَفْعَلُونَ عِنْدَهُمْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ. السَّادِسُ: أَنَّهُمْ اتَّصَفُوا بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ بِصِفَةِ النِّفَاقِ؛ لِأَنَّ النِّفَاقَ صِفَتُهُ قَصْدُ الْمَعْصِيَةِ وَإِظْهَارُهَا فِي الصُّورَةِ أَنَّهَا طَاعَةٌ فَيَا لِلْعَجَبِ كَيْفَ يَقْدِرُ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَسْمَعَ بِهَذِهِ الْمُنَاكِرِ وَلَا يَتَنَغَّصُ لَهَا وَلَا يَتَشَوَّشُ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الْحَدِيثِ فِيمَنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ» . فَكَيْفَ يَتْرُكُ حَرِيمَهُ، أَوْ أَقَارِبَهُ، أَوْ مَنْ يَلُوذُ بِهِ يَخْرُجْنَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رُكُوبِهِنَّ الدَّوَابَّ مَعَ الْمُكَارِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّسَاءَ لَيْسَ لَهُنَّ نَصِيبٌ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْجَنَائِزِ وَلَا الْقُبُورِ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا ثَلَاثُ خَرَجَاتٍ عَلَى مَا سَبَقَ وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ فِي الْقُبُورِ حَتَّى صَارَ أَمْرُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُومُ إنْسَانٌ بِشَيْءٍ يَحْمِلُهُ كَالْقُبَّةِ عَلَى عَمُودٍ حَوْلَهَا قَنَادِيلُ كَثِيرَةٌ فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النِّسَاءِ، وَالشُّبَّانِ، وَالرِّجَالِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ يَتَزَاوَرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَجْرِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ مِنْ الْآفَاتِ فِي الدِّينِ، وَالدُّنْيَا مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يُقِيمُونَ خَشَبَةً عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ، أَوْ الْمَيِّتَةِ وَيَكْسُونَ ذَلِكَ الْعَمُودَ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَلِيقُ بِهِ عِنْدَهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْ الْعُلَمَاءِ، أَوْ

الصُّلَحَاءِ جَعَلُوا يَشْكُونَ لَهُ مَا نَزَلَ بِهِمْ وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ مَا يُؤَمِّلُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَهْلِ، وَالْأَقَارِبِ، وَالْمَعَارِفِ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَجَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ مَعَهُ وَيَذْكُرُونَ لَهُ مَا حَدَثَ لَهُمْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ عَرُوسًا، أَوْ عَرُوسَةً كَسَوْا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا كَانَ يَلْبَسُهُ فِي حَالِ فَرَحِهِ فَيَكْسُونَ الْمَرْأَةَ ثِيَابَ الْحَرِيرِ وَيُحَلُّونَهَا بِالذَّهَبِ وَيَجْلِسُونَ يَبْكُونَ وَيَتَبَاكَوْنَ وَيَتَأَسَّفُونَ، وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مُتَنَاقِضَةٌ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا سَوَّلَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَهَذَا الَّذِي يَصْنَعُونَهُ مِنْ الْكِسْوَةِ عَلَى الْخَشَبَةِ فِيهِ تَشَبُّهٌ فِي الظَّاهِرِ بِالنَّصَارَى فِي كِسْوَتِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ، وَالصُّوَرِ الَّتِي يُعَظِّمُونَهَا اخْتِلَاقًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فِي مَوَاسِمِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ مِنْ الْخَطَرِ، وَفِي ذَلِكَ مَقْنَعٌ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ مِمَّنْ يُنْسَبُ فِي الظَّاهِرِ إلَى الْمَشْيَخَةِ، وَالْهِدَايَةِ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَفَعَلَ فِي زَاوِيَتِهِ بِالْمَقَابِرِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْوَقُودِ بِالْجَامِعِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ حَتَّى صَارَ النَّاسُ يَخْرُجُونَ إلَى ذَلِكَ قَصْدًا وَيَتْرُكُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْوَقُودِ فِي الْبَلَدِ لِاشْتِمَالِ مَا عِنْدَهُ مِنْ الزِّيَادَاتِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ لِتَحْصِيلِ أَغْرَاضِهِمْ الْخَسِيسَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ تَنَاوُلُ تِلْكَ الْأَغْرَاضِ فِي الْبَلَدِ وَسَمَّى هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيْلَةَ الْمَحْيَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاسْمُ يَلِيقُ بِهَا لَكِنْ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْخَيْرِ، وَالتَّضَرُّعِ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَطَلَبِ الْفَوْزِ بِطَاعَتِهِ، وَالنَّجَاةِ بِفَضْلِهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ وَمَعَاصِيهِ لَا بِمَا يَفْعَلُهُ هُوَ وَمَنْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ وَأَمْثَالُهُمْ، وَصَارَ الرِّجَالُ، وَالنِّسَاءُ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَهُ وَتَمَادَى ذَلِكَ وَاشْتَهَرَ حَتَّى صَارَ عَادَةً لَهُمْ فَبَقِيَ النَّاسُ يَهْرَعُونَ لِذَلِكَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا وَنَصَبُوا الْخِيَامَ خَارِجَ الزَّاوِيَةِ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ وَزَادَتْ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ بِذَلِكَ وَكَثُرَتْ الْبِدَعُ وَوَقَعَ الضَّرَرُ لِمَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الْمَوْطِنَ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَلِمَنْ فِيهِ مِنْ الْأَمْوَاتِ فَحُصُولُ الضَّرَرِ لِلْأَحْيَاءِ بِحُضُورِ ذَلِكَ وَاسْتِحْسَانِهِ. وَحُصُولُ الضَّرَرِ لِلْأَمْوَاتِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ، إذْ أَنَّهُمْ فِي دَارِ الْحَقِّ وَيَعْظُمُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَحْيَاءِ

فصل في مولد النبي والبدع المحدثة فيه

وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَقَابِرِ وَتَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجُلُوسِ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي تِلْكَ الْمَوْضِعِ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ قَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَى الْمَقَابِرِ فَيَقَعُونَ فِي النَّهْيِ الصَّرِيحِ فَلَمَّا أَنْ مَضَى لِسَبِيلِهِ وَتَوَلَّى ذَلِكَ مَنْ تَوَلَّى قَامَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ كَعَادَةِ شَيْخِهِمْ وَاسْتَأْكَلُوا بِذَلِكَ بَعْضَ الْحُطَامِ الَّذِي فِي أَيْدِي بَعْضِ مَعَارِفِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ مِنْ الذَّمِّ وَصَارَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ قَلَّمَا يَفُوتُهُمْ الْخُرُوجُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إلَى شُهُودِ ذَلِكَ، فَأَيْنَ الشَّفَقَةُ، وَالرَّحْمَةُ لِلْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصِيحَةِ لِنَفْسِهِ، وَلِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ؟ أَيْنَ شِعَارُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؟ أَيْنَ شِعَارُ أَهْلِ الْإِيمَانِ؟ أَيْنَ شِعَارُ الْعُلَمَاءِ؟ أَيْنَ شِعَارُ الْأَوْلِيَاءِ؟ أَيْنَ شِعَارُ الْمُتَّقِينَ؟ أَيْنَ شِعَارُ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَزُورُونَهُمْ وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِمْ؟ هَيْهَاتَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ، إذْ أَنَّ تَعْظِيمَهُمْ وَحُصُولَ بَرَكَتِهِمْ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاتِّبَاعِ لَهُمْ وَاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ لَا بِالْمُخَالَفَةِ وَاقْتِرَافِ الذُّنُوبِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ خَسْفِ الْقُلُوبِ وَانْقِلَابِ الْحَقَائِقِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ. [فَصْلٌ فِي مَوْلِدِ النَّبِيّ والبدع المحدثة فِيهِ] فَصْلٌ فِي الْمَوْلِدِ

وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ مَوْلِدٍ وَقَدْ احْتَوَى عَلَى بِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةٍ. فَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُمْ الْمَغَانِي وَمَعَهُمْ آلَاتُ الطَّرَبِ مِنْ الطَّارِ الْمُصَرْصَرِ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ آلَةً لِلسَّمَاعِ وَمَضَوْا فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي كَوْنِهِمْ يَشْتَغِلُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي فَضَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَظَّمَهَا بِبِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّمَاعَ فِي غَيْرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِيهِ مَا فِيهِ. فَكَيْفَ بِهِ إذَا انْضَمَّ إلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفَضَّلَنَا فِيهِ بِهَذَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَرِيمِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ آلَاتِ الطَّرَبِ إذَا اجْتَمَعَتْ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الطَّارَ الَّذِي فِيهِ الصَّرَاصِرُ مُحَرَّمٌ وَكَذَلِكَ الشَّبَّابَةُ وَيَجُوزُ الْغِرْبَالُ لِإِظْهَارِ النِّكَاحِ. فَآلَةُ الطَّرَبِ وَالسَّمَاعِ أَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تَعْظِيمِ هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِيهِ بِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْخَيْرِ شُكْرًا لِلْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مَا أَوْلَانَا مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزِدْ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ شَيْئًا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِرَحْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُمَّتِهِ وَرِفْقِهِ بِهِمْ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ كَمَا وَصَفَهُ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] . لَكِنْ أَشَارَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

إلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ «بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلسَّائِلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ» فَتَشْرِيفُ هَذَا الْيَوْمِ مُتَضَمِّنٌ لِتَشْرِيفِ هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ. فَيَنْبَغِي أَنْ نَحْتَرِمَهُ حَقَّ الِاحْتِرَامِ وَنُفَضِّلَهُ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْأَشْهُرَ الْفَاضِلَةَ وَهَذَا مِنْهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «آدَم وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» انْتَهَى. وَفَضِيلَةُ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بِمَا خَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ فِيهَا لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ لَا تَتَشَرَّفُ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا التَّشْرِيفُ بِمَا خُصَّتْ بِهِ مِنْ الْمَعَانِي. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ هَذَا الشَّهْرَ الشَّرِيفَ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ فِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُلِدَ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي إذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الْكَرِيمُ أَنْ يُكَرَّمَ وَيُعَظَّمَ وَيُحْتَرَمَ الِاحْتِرَامَ اللَّائِقَ بِهِ وَذَلِكَ بِالِاتِّبَاعِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَوْنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَخُصُّ الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ بِزِيَادَةِ فِعْلِ الْبِرِّ فِيهَا وَكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ» فَنَمْتَثِلُ تَعْظِيمَ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ بِمَا امْتَثَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا (فَصْلٌ) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ الْتَزَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا الْتَزَمَهُ فِي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ مِمَّا قَدْ عُلِمَ وَلَمْ يَلْتَزِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ مَا الْتَزَمَهُ فِي غَيْرِهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يَلْتَزِمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَيْئًا فِي هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ إنَّمَا هُوَ مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ فِي كَوْنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُرِيدُ التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ وَالرَّحْمَةَ لَهُمْ سِيَّمَا فِيمَا كَانَ يَخُصُّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّ حَرَمِ الْمَدِينَةِ «اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَأَنِّي أُحَرِّمُ

الْمَدِينَةَ بِمَا حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَشْرَعْ فِي قَتْلِ صَيْدِهِ وَلَا فِي قَطْعِ شَجَرِهِ الْجَزَاءَ تَخْفِيفًا عَلَى أُمَّتِهِ وَرَحْمَةً لَهُمْ فَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَنْظُرُ إلَى مَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا فِي نَفْسِهِ يَتْرُكُهُ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ فَمَا أَكْثَرَ شَفَقَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُمَّتِهِ جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا خَيْرًا أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا شَرَعَهَا الشَّارِعُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْيَمِينِ الَّذِي أَجَازَ الْحَلِفَ بِهَا وَأَمَّا مَنْ يَتَعَمَّدُ الْيَمِينَ الْكَاذِبَةَ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ إنَّمَا سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِانْغِمَاسِ صَاحِبِهَا فِي النَّارِ وَلَمْ تَرِدْ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُشَرِّعُونَ. فَكَذَلِكَ قَتْلُ الصَّيْدِ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ إذْ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنَعَ مِنْ الصَّيْدِ فِيهِ وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ جَزَاءً عَلَى مَنْ قَتَلَهُ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ عَلَى قَاتِلِهِ الْجَزَاءَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَرَمِ مَكَّةَ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ يَتَحَصَّلُ مِنْهُ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ فَعَلَى هَذَا فَتَعْظِيمُ هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ إنَّمَا يَكُونُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ الزَّاكِيَاتِ فِيهِ وَالصَّدَقَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرُبَاتِ فَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَيُكْرَهُ لَهُ تَعْظِيمًا لِهَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا فِي غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ أَكْثَرُ احْتِرَامًا كَمَا يَتَأَكَّدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَيَتْرُكُ الْحَدَثَ فِي الدِّينِ وَيَجْتَنِبُ مَوَاضِعَ الْبِدَعِ وَمَا لَا يَنْبَغِي. وَقَدْ ارْتَكَبَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ضِدَّ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الشَّرِيفُ تَسَارَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ بِالدُّفِّ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ. فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْإِسْلَامِ وَغُرْبَتِهِ وَغُرْبَةِ أَهْلِهِ وَالْعَامِلِينَ بِالسُّنَّةِ. وَيَا لَيْتَهُمْ لَوْ عَمِلُوا الْمَغَانِيَ لَيْسَ إلَّا بَلْ يَزْعُمُ

بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَتَأَدَّبُ فَيَبْدَأُ الْمَوْلِدَ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَيَنْظُرُونَ إلَى مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مَعْرِفَةً بِالْهُنُوكِ وَالطُّرُقِ الْمُهَيِّجَةِ لِطَرِبِ النُّفُوسِ فَيَقْرَأُ عَشْرًا. وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وُجُوهٌ. مِنْهَا مَا يَفْعَلُهُ الْقَارِئُ فِي قِرَاءَتِهِ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا وَالتَّرْجِيعُ كَتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. الثَّانِي أَنَّ فِيهِ قِلَّةَ أَدَبٍ وَقِلَّةَ احْتِرَامٍ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الثَّالِثُ أَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ قِرَاءَةَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُقْبِلُونَ عَلَى شَهَوَاتِ نُفُوسِهِمْ مِنْ سَمَاعِ اللَّهْوِ بِضَرْبِ الطَّارِ وَالشَّبَّابَةِ وَالْغِنَاءِ وَالتَّكْسِيرِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُغَنِّي وَغَيْرِ ذَلِكَ. الرَّابِعُ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ غَيْرَ مَا فِي بَوَاطِنِهِمْ وَذَلِكَ بِعَيْنِهِ صِفَةُ النِّفَاقِ وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا وَهُوَ يُرِيدُ غَيْرَهُ اللَّهُمَّ إلَّا فِيمَا اُسْتُثْنِيَ شَرْعًا. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَبْتَدِئُونَ الْقِرَاءَةَ وَقَصْدُ بَعْضِهِمْ وَتَعَلُّقُ خَوَاطِرِهِمْ بِالْمَغَانِي. الْخَامِسُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَلِّلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَى لَهْوِهِ بِمَا بَعْدَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ. السَّادِسُ أَنَّ بَعْضَ السَّامِعِينَ إذَا طَوَّلَ الْقَارِئُ الْقِرَاءَةَ يَتَقَلْقَلُونَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ طَوَّلَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَسْكُتْ حَتَّى يَشْتَغِلُوا بِمَا يُحِبُّونَهُ مِنْ اللَّهْوِ. وَهَذَا غَيْرُ مُقْتَضَى مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَهْلَ الْخَشْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُمْ يُحِبُّونَ سَمَاعَ كَلَامِ مَوْلَاهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَدْحِهِمْ {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83] فَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ بِمَا ذُكِرَ وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يَسْتَعْمِلُونَ الضِّدَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا سَمِعُوا كَلَامَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ قَامُوا بَعْدَهُ إلَى الرَّقْصِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالطَّرَبِ بِمَا لَا يَنْبَغِي فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ يَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الشَّيْطَانِ وَيَطْلُبُونَ الْأَجْرَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ فِي تَعَبُّدٍ وَخَيْرٍ وَيَا لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ يَفْعَلُهُ سَفَلَةُ النَّاسِ وَلَكِنْ قَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى فَتَجِدُ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ يَفْعَلُهُ وَكَذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ أَعْنِي فِي

تَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِيمَا ذُكِرَ. ثُمَّ الْعَجَبُ كَيْفَ خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَكِيدَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَالدَّسِيسَةُ مِنْ اللَّعِينِ. أَلَا تَرَى أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ إذَا شَرِبَهُ أَوَّلَ مَا تَدِبُّ فِيهِ الْخَمْرَةُ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ فَإِذَا قَوِيَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ حَيَاؤُهُ وَوَقَارُهُ لِمَنْ حَضَرَهُ وَانْكَشَفَ مَا كَانَ يُرِيدُ سَتْرَهُ عَنْ جُلَسَائِهِ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْمُغَنِّي إذَا غَنَّى تَجِدْ مَنْ لَهُ الْهَيْبَةُ وَالْوَقَارُ وَحُسْنُ الْهَيْئَةِ وَالسَّمْتِ وَيَقْتَدِي بِهِ أَهْلُ الْإِشَارَاتِ وَالْعِبَارَاتِ وَالْعُلُومِ وَالْخَيْرَاتِ يَسْكُتُ لَهُ وَيُنْصِتُ فَإِذَا دَبَّ مَعَهُ الطَّرَبُ قَلِيلًا حَرَّكَ رَأْسَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْخَمْرَةِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ إذَا تَمَكَّنَ الطَّرَبُ مِنْهُ ذَهَبَ حَيَاؤُهُ وَوَقَارُهُ كَمَا سَبَقَ فِي الْخَمْرَةِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَيَقُومُ وَيَرْقُصُ وَيُعَيِّطُ وَيُنَادِي وَيَبْكِي وَيَتَبَاكَى وَيَتَخَشَّعُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ كَأَنَّهُ جَاءَهُ الْمَدَدُ مِنْهَا وَيُخْرِجُ الرَّغْوَةَ أَيْ الزَّبَدَ مِنْ فِيهِ وَرُبَّمَا مَزَّقَ بَعْضَ ثِيَابِهِ وَعَبِثَ بِلِحْيَتِهِ. وَهَذَا مُنْكَرٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَمْزِيقَ الثِّيَابِ مِنْ ذَلِكَ هَذَا وَجْهٌ. الثَّانِي أَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْعُقَلَاءِ إذْ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْمَجَانِينِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ. الثَّالِثُ أَنَّهُ أَلْحَقَ نَفْسَهُ بِالْبَهَائِمِ إذْ التَّكْلِيفُ إنَّمَا خُوطِبَ بِهِ الْعُقَلَاءُ. وَهَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ سُلِبَ عَقْلُهُ وَلَوْ صَدَقَ فِي دَعْوَاهُ لَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مُدَّةً وَلَكِنَّا نَرَاهُ عِنْدَ سُكُوتِ الْمُغَنِّي يَسْكُنُ إذْ ذَاكَ وَيَرْجِعُ إلَى هَيْئَتِهِ وَيَلْبَسُ ثِيَابَهُ وَيَلُومُ الْمُغَنِّيَ عَلَى سُكُوتِهِ وَلَوْمُهُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ مَعَ حُظُوظِ نَفْسِهِ سَامِعٌ لِقَوْلِ الْمُغَنِّي إذْ لَوْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ وَهُوَ عِنْدَ رَبِّهِ كَمَا يَزْعُمُ لَمَا أَحَسَّ بِالْمُغَنِّي وَلَا غَيْرِهِ إنْ تَكَلَّمُوا أَوْ سَكَتُوا. يَا لَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ وَلَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الدَّاءَ الْعُضَالَ وَهُوَ الْكَذِبُ الْمَحْضُ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ عَاقِلٌ وَأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِأَشْيَاءَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِهَا فِي سِرِّهِمْ فَإِنْ يَكُنْ مَا قَالُوهُ حَقًّا وَهُوَ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِمَا ذَكَرُوا فَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى إلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَدْ

لَا يَحْتَاجُونَ إلَى الشَّيْطَانِ إذْ أَنَّ نُفُوسَهُمْ أَغْنَتْ الشَّيْطَانَ عَنْ تَكَلُّفِ أَمْرِهِمْ فَهِيَ تُحَدِّثُهُمْ وَتُسَوِّلُ لَهُمْ فَيَتَحَدَّثُونَ فِي سِرِّهِمْ بِمَا يَخْطُرُ لِنُفُوسِهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ خُوطِبْنَا بِكَذَا وَكَذَا. وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُطْلِعَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِهِ مَنْ هُوَ مُخَالِفٌ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِكِتَابِهِ وَلِسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ قَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ ذُكِرَ لَهُ بِالْوِلَايَةِ فَقَصَدَهُ فَرَآهُ يَتَنَخَّمُ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَمِينًا عَلَى أَسْرَارِ الْحَقِّ. وَقَدْ وَعَظَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمًا مَنْ حَضَرَهُ فَقَامَ رَجُلٌ فَصَاحَ وَمَزَّقَ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ قُلْ لَهُ يُمَزِّقُ لِي عَنْ قَلْبِهِ لَا عَنْ جَيْبِهِ انْتَهَى. ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ ضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَطَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُغَنِّي شَابًّا نَظِيفَ الصُّورَةِ حَسَنَ الْكِسْوَةِ وَالْهَيْئَةِ أَوْ أَحَدًا مِنْ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَتَصَنَّعُونَ فِي رَقْصِهِمْ بَلْ يَخْطُبُونَهُمْ لِلْحُضُورِ فَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ مِنْهُمْ رُبَّمَا عَادُوهُ وَوَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِ وَحُضُورِهِ فِتْنَةً كَمَا تَقَدَّمَ سِيَّمَا وَهُمْ يَأْتُونَ إلَى ذَلِكَ شَبَهَ الْعَرُوسِ الَّتِي تَجَلَّى لَكِنَّ الْعَرُوسَ أَقَلُّ فِتْنَةً لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ حَيِيَّةٌ وَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ الْعَنْبَرُ وَالطِّيبُ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ بَيْنَ أَثْوَابِهِمْ وَيَتَكَسَّرُونَ مَعَ ذَلِكَ فِي مَشْيِهِمْ إذْ ذَاكَ وَكَلَامِهِمْ وَرَقْصِهِمْ وَيَتَعَانَقُونَ فَتَأْخُذُهُمْ إذْ ذَاكَ أَحْوَالُ النُّفُوسِ الرَّدِيئَةِ مِنْ الْعِشْقِ وَالِاشْتِيَاقِ إلَى التَّمَتُّعِ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ الشُّبَّانِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ الشَّيْطَانُ وَتَقْوَى عَلَيْهِمْ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَيَنْسَدُّ عَلَيْهِمْ بَابُ الْخَيْرِ سَدًّا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لَأَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى سَبْعِينَ عَذْرَاءَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى شَابٍّ. وَقَوْلُهُ هَذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ الْعَذْرَاءَ تَمْتَنِعُ النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ ابْتِدَاءً مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا بِخِلَافِ الشَّابِّ. لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى سُمٌّ وَالشَّابُّ لَا يَتَنَقَّبُ وَلَا يَخْتَفِي بِخِلَافِ الْعَذْرَاءِ. وَالشَّيْطَانُ مِنْ دَأْبِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ كُبْرَى أَجْلَبَ عَلَيْهَا بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَبِعَمَلِ الْحِيَلِ الْكَثِيرَةِ

وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ خَاطِرُ النَّاظِرِ بِالْعَذْرَاءِ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الشَّابِّ. هَذَا فِي حُضُورِ الشَّابِّ لَيْسَ إلَّا. فَكَيْفَ إذَا كَانَ مُغَنِّيًا حَسَنَ الصَّوْتِ وَالصُّورَةِ وَيَنْشُدُ التَّغَزُّلَ وَيَتَكَسَّرُ فِي صَوْتِهِ وَحَرَكَاتِهِ فَيُفْتَنُ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ الرِّجَالِ. وَبَعْضُ النِّسْوَةِ يُعَايِنُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ نَظَرِهِنَّ مِنْ السُّطُوحِ وَالطَّاقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَيَرَيْنَهُ وَيَسْمَعْنَهُ وَهُنَّ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَقَلُّ عُقُولًا فَتَقَعُ الْفِتْنَةُ فِي الْفَرِيقَيْنِ. وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ لَدَيْهِ بَعْضُ عِلْمٍ أَوْ هُمَا مَعًا وَلَهُ غَيْرَةٌ إسْلَامِيَّةٌ كَيْفَ يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَصِفَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ الشُّبَّانِ لِزَوْجَتِهِ أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِهِ. فَإِنَّ سَمَاعَ مِثْلِ ذَلِكَ لَهُنَّ يُهَيِّجُ قُلُوبَهُنَّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِقَّتِهِنَّ وَقِلَّةِ عُقُولِهِنَّ مِنْ الْمَيْلِ إلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ. فَكَيْفَ يَتَسَبَّبُ فِي حُضُورِهِنَّ حَتَّى يُعَايِنَّ مَا يَفْتِنُهُنَّ وَيُغَيِّرُهُنَّ عَنْ وُدِّهِ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى قَطْعِ الْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إلَى الْفِرَاقِ فَيَفْسُدُ حَالُ الزَّوْجِ وَحَالُ الزَّوْجَةِ جَزَاءً وِفَاقًا ارْتَكَبُوا مَا نُهُوا عَنْهُ فَجَوَّزُوا عَلَيْهِ بِالنَّكِدِ الْعَاجِلِ إذْ أَنَّ الْغَالِبَ إذَا حَصَلَ ذَلِكَ دَخَلَ الْأَقَارِبُ وَالْجِيرَانُ وَالْجَنَادِرَةُ وَالْقَاضِي بَيْنَهُمْ وَتَشَتَّتَتْ أَحْوَالُهُمْ بَعْدَ جَمْعِهِمْ وَصَارُوا فِرَقًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ يَا عُصْبَةً مَا ضَرَّ أُمَّةَ أَحْمَدَ ... وَسَعَى عَلَى إفْسَادِهَا إلَّا هِيَ طَارٌ وَمِزْمَارٌ وَنَغْمَةُ شَادِنٍ ... أَرَأَيْت قَطُّ عِبَادَةً بِمَلَاهِي وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ اللُّوطِيَّةُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ طَائِفَةٌ تَتَمَتَّعُ بِالنَّظَرِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِأَنَّ النَّظْرَةَ إلَى الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ إجْمَاعًا. بَلْ صَحَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ يَتَمَتَّعُونَ بِالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُبَاسَطَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَدَا فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى. وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النَّظَرِ وَالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُبَاسَطَةِ وَالْمُعَانَقَةِ أَقَلُّ رُتْبَةً مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ بَلْ الدَّوَامُ عَلَيْهِ يُلْحِقُهُ بِهَا لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَإِذَا دَاوَمَ عَلَى الصَّغَائِرِ صَارَتْ كَبَائِرَ

هَذَا الْكَلَامُ فِيمَنْ دَاوَمَ عَلَى الصَّغَائِرِ وَصَارَتْ بِدَوَامِهِ عَلَيْهَا كَبَائِرَ. وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى. فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفَاسِدَ جُمْلَةٍ مِنْ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا لَا يَحِلُّ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ. وَيُقَالُ إنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ وَيَغْضَبُ الرَّبُّ تَعَالَى لِثَلَاثَةِ أَعْمَالٍ لِقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ وَإِتْيَانِ الذَّكَرِ لِلذَّكَرِ. وَرُكُوبِ الْأُنْثَى الْأُنْثَى. وَفِي الْخَبَرِ «لَوْ اغْتَسَلَ اللُّوطِيُّ بِالْبِحَارِ لَمْ يُطَهِّرْهُ إلَّا التَّوْبَةُ» وَقَدْ قَالَ بَعْضُ صُوفِيَّةُ الشَّامِ نَظَرْت إلَى غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ حَسَنِ الْوَجْهِ فَوَقَفْت أَنْظُرُ إلَيْهِ فَمَرَّ بِي ابْنُ الْجَلَاءِ الدِّمَشْقِيُّ وَأَخَذَ بِيَدِي فَاسْتَحَيْتُ مِنْهُ فَقُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ تَعَجَّبْت مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَسَنَةِ وَهَذِهِ الصَّنْعَةِ الْمُحْكَمَةِ كَيْفَ خُلِقَتْ لِلنَّارِ فَغَمَزَ يَدِي وَقَالَ لَتَجِدَنَّ عُقُوبَتَهَا بَعْدَ حِينٍ فَعُوقِبْت بِتِلْكَ النَّظْرَةِ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً. وَحَدَّثَنِي بَعْضُ الْأَشْيَاخِ عَنْ مَنْصُورٍ الْفَقِيهِ. قَالَ رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ السُّكَّرِيِّ فِي النَّوْمِ فَقُلْت لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ. فَقَالَ أَوْقَفَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْعَرَقِ حَتَّى سَقَطَ لَحْمُ وَجْهِي. قُلْت وَلِمَ ذَلِكَ. قَالَ نَظَرْت إلَى غُلَامٍ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا. وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ الْمَشْهُورُ بِالطُّرْطُوشِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ الَّذِي وَضَعَهُ فِي إنْكَارِ الْغِنَاءِ وَالسَّمَاعِ مُطْلَقًا مَعَ سَلَامَتِهِ مِمَّا ذُكِرَ. وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ فَكَيْفَ بِهِ إذَا انْضَافَ إلَيْهِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ. قَالَ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا مَعْنَاهُ. وَلَا شَكَّ أَنَّك لَوْ مَثَّلْت بَيْنَ عَيْنَيْك جُلُوسَ هَؤُلَاءِ الْمُغَنِّينَ وَتَزَيُّنَهُمْ. وَهَذِهِ الْآلَاتِ وَهَيْئَتَهَا وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ السَّمَاعُ الْيَوْمَ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَوَجَدْت نَفْسَكَ تُنَزِّهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ حُضُورِ هَذِهِ الْمَجَالِسِ وَرُؤْيَتِهَا فَكَيْفَ يَفْعَلُهَا مَنْ يَنْتَمِي إلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى. لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ الصَّادِقِينَ شِعَارُهُمْ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ وَهُوَ

مَشْيُهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَرْكِ اللَّعِبِ وَالْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ وَالْخُلْطَةِ وَالْجُمُوعِ وَالْقِيلِ وَالْقَالِ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَوْمِ الصَّادِقِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَشْنَعَهَا وَمَا أَقْبَحَهَا وَكَيْفَ تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ خَالَفُوا السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ وَفَعَلُوا الْمَوْلِدَ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى فِعْلِهِ بَلْ زَادُوا عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَبَاطِيلِ الْمُتَعَدِّدَةِ فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ شَدَّ يَدَهُ عَلَى امْتِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى ذَلِكَ وَهِيَ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنَّا إذْ هُمْ أَعْرَفُ بِالْمَقَالِ وَأَفْقَهُ بِالْحَالِ. وَكَذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلْيَحْذَرْ مِنْ عَوَائِدِ أَهْلِ الْوَقْتِ وَمِمَّنْ يَفْعَلُ الْعَوَائِدَ الرَّدِيئَةَ وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ مُرَكَّبَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمَوْلِدِ إذَا عَمِلَ بِالسَّمَاعِ فَإِنْ خَلَا مِنْهُ وَعَمِلَ طَعَامًا فَقَطْ وَنَوَى بِهِ الْمَوْلِدَ وَدَعَا إلَيْهِ الْإِخْوَانَ وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ بِدْعَةٌ بِنَفْسِ نِيَّتِهِ فَقَطْ إذْ أَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ مِنْ أَنْ يَزِيدَ نِيَّةً مُخَالِفَةً لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْظِيمًا لَهُ وَلِسُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُمْ قَدَمُ السَّبْقِ فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَوَى الْمَوْلِدَ وَنَحْنُ لَهُمْ تَبَعٌ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ فِي الْمَصَادِرِ وَالْمَوَارِدِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَصِيرَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا» انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ مَا قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فِي طَاعَةٍ وَمَنْ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ بَخِيلٌ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَالَ أَيْضًا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاء كَلَامًا مَنْظُومًا فِي وَصْفِ زَمَانِنَا هَذَا كَأَنَّهُ شَاهَدَهُ ذَهَبَ الرِّجَالُ الْمُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ ... وَالْمُنْكِرُونَ لِكُلِّ أَمْرٍ مُنْكَرِ

وَبَقِيت فِي خُلْفٍ يُزَكِّي بَعْضُهُمْ ... بَعْضًا لِيَدْفَعَ مُعْوَرٌ عَنْ مُعْوَرِ أَبُنَيَّ إنَّ مِنْ الرِّجَالِ بَهِيمَةً ... فِي صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ الْمُبْصِرِ فَطِنٍ بِكُلِّ مُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ ... فَإِذَا أُصِيبَ بِدِينِهِ لَمْ يَشْعُرْ فَسَلْ الْفَقِيهَ تَكُنْ فَقِيهًا مِثْلَهُ ... مَنْ يَسْعَ فِي عِلْمٍ بِلُبٍّ يَظْفَرْ (فَصْلٌ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَشْنَعَهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا ابْتَدَعُوا فِعْلَ الْمَوْلِدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَشَوَّفَتْ نُفُوسُ النِّسَاءِ لِفِعْلِ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ فَكَيْفَ إذَا فَعَلَهُ النِّسَاءُ لَا جَرَمَ أَنَّهُنَّ لَمَّا فَعَلْنَهُ ظَهَرَتْ فِيهِ عَوْرَاتٌ جُمْلَةٌ وَمَفَاسِدُ عَدِيدَةٌ فَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ بَعْضُ النِّسَاءِ يَنْظُرُ إلَى الرِّجَالِ فَيَقَعُ مَا يَقَعُ مِنْ التَّشْوِيشِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي الْمَوْلِدِ الَّذِي يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَدْهَى لِأَنَّ بَعْضَ الرِّجَالِ يَتَطَلَّعُ عَلَيْهِنَّ مِنْ بَعْضِ الطَّاقَاتِ وَمِنْ السُّطُوحِ وَرُبَّمَا عَرَفَ الرِّجَالُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَعْضَ النِّسْوَةِ الْحَاضِرَاتِ فَيَقُولُونَ هَذِهِ زَوْجَةُ فُلَانٍ وَهَذِهِ بِنْتُ فُلَانٍ وَرُبَّمَا تَعَلَّقَتْ نُفُوسُ بَعْضِ الرِّجَالِ بِبَعْضِ مَنْ يَرَوْنَ. وَكَذَلِكَ بَعْضُ النِّسْوَةِ رُبَّمَا تَعَلَّقَ خَاطِرُهَا بِمَنْ رَأَتْهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا مِنْ الرِّجَالِ وَالشُّبَّانِ. فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى وُقُوعِ الْفِتْنَةِ الْكُبْرَى وَالْمَفْسَدَةِ الْعُظْمَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ بَلْ هُوَ أَشَدُّ هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُنَّ اقْتَدَيْنَ بِالرِّجَالِ فِي الذِّكْرِ جَمَاعَةً بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِنَّ كَمَا يَفْعَلُ الرِّجَالُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ بِأَدِلَّتِهِ سِيَّمَا وَأَصْوَاتُ النِّسَاءِ فِيهَا مِنْ التَّرْخِيمِ وَالنَّدَاوَةِ مَا هُوَ فِتْنَةٌ فِي الْغَالِبِ فِي الْوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ فَكَيْفَ بِالْجَمَاعَةِ فَتَكْثُرُ الْفِتْنَةُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَسْمَعُهُنَّ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الشُّبَّانِ وَأَصْوَاتُهُنَّ عَوْرَةٌ فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ الَّذِي يُعْمَلُ فِيهِ الْمَوْلِدُ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ عَلَى السُّوقِ زَادَتْ الْفِتْنَةُ وَعَمَّتْ الْبَلْوَى لِكَثْرَةِ مَنْ يَسْمَعُ أَوْ يَرَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ. الثَّالِثُ: أَنَّ تَصْفِيقَهُنَّ

بِالْأَكُفِّ فِيهِ فِتْنَةٌ وَزِيَادَةٌ فِي إظْهَارِ الْعَوْرَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا نَابَهَا شَيْءٌ فِي صَلَاتِهَا وَاضْطُرَّتْ إلَى التَّصْفِيقِ أَنَّهَا تُصَفِّقُ بِبَعْضِ أَصَابِعِهَا عَلَى ظَهْرِ يَدِهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا خِيفَةَ صَوْتِ بَاطِنِ كَفَّيْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ بَعْضَهُنَّ يَرْقُصْنَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي رَقْصِ الشُّبَّانِ وَالرِّجَالِ مِنْ الْعَوْرَاتِ وَالْمَفَاسِدِ وَفِي رَقْصِهِنَّ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ. وَلِذَلِكَ أُمِرْنَ بِالسِّتْرِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّجَالِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] وَقَدْ عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِ النِّسْوَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا فِي الْغَالِبِ حَتَّى تَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهَا وَتَتَطَيَّبُ وَتَتَزَيَّنُ ثُمَّ تُفْرِغُ عَلَيْهَا مِنْ الْحُلِيِّ مَا تَجِدُ السَّبِيلَ إلَيْهِ فَإِذَا رَقَصَتْ وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ زَادَتْ خَشْخَشَةُ الْحُلِيِّ فَقَدْ تُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ فَتَزِيدُ الْفِتْنَةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ إذْ لَا يَخْلُو أَمْرُهُنَّ فِي الْغَالِبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الرِّجَالِ يَسْتَمِعُونَ وَبَعْضُهُمْ يَنْظُرُونَ فَتَكْثُرُ الْفِتَنُ وَتَفْسُدُ الْقُلُوبُ وَتَتَشَوَّشُ. فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَطَرَأَ عَلَيْهِ سَمَاعُ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ رُؤْيَتُهُ تَشَوَّشَ مِنْ ذَلِكَ إذْ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ بَاطِنُهُ مِنْ الْفِتْنَةِ الْمَعْهُودَةِ لَوَقَعَ لَهُ التَّشْوِيشُ مِنْ جِهَةِ مَا يَرَى أَوْ يَسْمَعُ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ فَإِنْ كَانَ التَّشْوِيشُ الْوَاقِعُ فِي بَاطِنِهِ مِنْ جِهَةِ مَا يَجِدُهُ الْبَشَرُ غَالِبًا فَقَدْ يُؤَوَّلُ ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ يَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ تَعَبُّدِهِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَيَخَافُ أَنْ يُصِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الْعُقُوبَةِ إمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا لِأَجْلِ فَسَادِ حَالِهِ مَعَ رَبِّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَخُرُوجُهَا لِلْمَوْلِدِ لَيْسَ لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بَلْ لِلْبِدَعِ وَالْمَنَاكِيرِ وَالْمُحَرَّمَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. ثُمَّ إنَّهُنَّ لَا يَجْتَمِعْنَ لِلْمَوْلِدِ الَّذِي احْتَوَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ إلَّا بِحُضُورِ مَنْ يَزْعُمْنَ أَنَّهَا شَيْخَةٌ عَلَى عُرْفِهِنَّ وَقَدْ تَكُونُ وَهُوَ الْغَالِبُ مِمَّنْ تُدْخِلُ نَفْسَهَا فِي التَّفْسِيرِ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتُفَسِّرُ وَتَحْكِي قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ

- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وَتَزِيدُ وَتُنْقِصُ وَرُبَّمَا وَقَعَتْ فِي الْكُفْرِ الصَّرِيحِ وَهِيَ لَا تَشْعُرُ بِنَفْسِهَا وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَرُدُّهَا وَيُرْشِدُهَا. وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي بَيْتِ شَيْخٍ مِنْ الشُّيُوخِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي الْوَقْتِ وَلَا غَيَّرَ عَلَيْهَا أَحَدٌ بَلْ أَكْرَمُوهَا وَأَعْطَوْهَا. وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْجُلُوسَ إلَى الْقُصَّاصِ مِنْ الرِّجَالِ أَعْنِي الْوُعَّاظَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ كَانُوا يَرَوْنَ الْقِصَصَ بِدْعَةً وَيَقُولُونَ لَمْ يُقَصُّ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَتَّى ظَهَرَتْ الْفِتْنَةُ فَلَمَّا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ ظَهَرَ الْقُصَّاصُ. وَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى مَجْلِسِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ قَاصًّا يَقُصُّ فَوَجَّهَ إلَى صَاحِبَ الشُّرْطَةِ أَنْ أَخْرِجْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَهُ فَلَوْ كَانَتْ الْقِصَصُ مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْقُصَّاصُ عُلَمَاءَ لَمَا أَخْرَجَهُمْ ابْنُ عُمَرَ مِنْ الْمَسْجِدِ هَذَا مَعَ وَرَعِهِ وَزُهْدِهِ. وَرَوَى أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ الْقَصَصُ بِدْعَةٌ. وَرَوَيْنَا عَنْ عَوْنِ بْنِ مُوسَى عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ سَأَلْت الْحَسَنَ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قُلْت أَعُودُ مَرِيضًا أَحَبُّ إلَيْكَ أَوْ أَجْلِسُ إلَى قَاصٍّ قَالَ عُدْ مَرِيضَكَ قُلْت أُشَيِّعُ جِنَازَةً أَحَبُّ إلَيْك أَوْ أَجْلِسُ إلَى قَاصٍّ قَالَ شَيِّعْ جِنَازَتَكَ قُلْت إنْ اسْتَعَانَ بِي رَجُلٌ فِي حَاجَتِهِ أُعِينُهُ أَوْ أَجْلِسُ إلَى قَاصٍّ قَالَ اذْهَبْ فِي حَاجَتِك. وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَقَالَ مَا أَخْرَجَنِي مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا الْقَاصُّ وَلَوْلَاهُ مَا خَرَجْت. وَقَالَ ضَمْرَةُ قُلْت لِلثَّوْرِيِّ نَسْتَقْبِلُ الْقَاصَّ بِوُجُوهِنَا فَقَالَ وَلُّوا الْبِدَعَ ظُهُورَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ دَخَلْت عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فَقَالَ مَا كَانَ الْيَوْمَ مِنْ خَبَرٍ فَقُلْت نَهَى الْأَمِيرُ الْقُصَّاصَ أَنْ يَقُصُّوا. وَقَدْ قَسَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامِ فَوَصَفَهُمْ بِأَمَاكِنِهِمْ فَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ ثَلَاثَةٌ أَصْحَابُ الْكَرَاسِيِّ وَهُمْ الْقُصَّاصُ وَأَصْحَابُ الْأَسَاطِينِ وَهُمْ الْمَفْتُون وَأَصْحَابُ الزَّوَايَا وَهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ انْتَهَى. وَقَدْ مَنَعَ عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

كُلَّ مَنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي جَامِعِ الْبَصْرَةِ حِينَ مَشَى عَلَيْهِمْ وَسَمِعَ كَلَامَهُمْ مَا خَلَا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ وَسَأَلَهُ فَأَجَابَهُ بِمَا يَنْبَغِي أَبْقَاهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ مِثْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى امْتَحَنَهُ فَكَيْفَ الْحَالُ فِي زَمَانِنَا هَذَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَقَامَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ وَأَدْيَنُ وَأَوْرَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا هَذَا وَصُلَحَائِهِمْ إذْ أَنَّهُمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِذَلِكَ وَنَحْنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ فِيهِمْ بِضِدِّ حَالِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ بَعْضِ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ وَصِفَةُ مَا يُفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَسَبَبُ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ الْقِصَّةَ عَلَى مَا نُقِلَ فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْحِكَايَاتِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ أَنْ تُنْسَبَ لِمَنْصِبِ مَنْ نُسِبَتْ إلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ قَالَ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي غَيْرِ التِّلَاوَةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُ عَصَى أَوْ خَالَفَ فَقَدْ كَفَرَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَكَثِيرٌ مِنْ الرِّجَالِ مِمَّنْ يُطَالِعُ الْكُتُبَ وَيَعْرِفُ الصَّحِيحَ مِنْ السَّقِيمِ قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْمُخَاصَمَةِ فَكَيْفَ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي هِيَ مُعْوَجَّةٌ أَصْلًا وَفَرْعًا ثُمَّ إنَّهَا مَعَ اعْوِجَاجِهَا قَلِيلَةُ الْمُطَالَعَةِ وَإِنْ طَالَعَتْ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَسْتَوِي عِنْدَهَا الصَّحِيحُ وَالسَّقِيمُ وَالْغَالِبُ فِي الْقَصَصِ وَالْحِكَايَاتِ الضَّعْفُ وَالْكَذِبُ فَتَنْقُلُهُ إنْ كَانَتْ ثِقَةً عَلَى مَا رَأَتْهُ فَيَقَعُ الْخَطَأُ فَكَيْفَ بِهَا إذَا حَرَّفَتْهُ فَزَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ فِيهِ فَتَضِلَّ وَتُضِلَّ فَيَدْخُلْنَ النِّسْوَةُ فِي الْغَالِبِ وَهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ فَيَخْرُجْنَ وَهُنَّ مُفْتَتَنَاتٌ فِي الِاعْتِقَادِ أَوْ فُرُوعِ الدِّينِ. أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22] الْآيَةَ فِي سُورَةِ طَه قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَّا الْيَوْمَ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ إلَّا إذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ قَوْله تَعَالَى عَنْهُ أَوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ فَأَمَّا أَنْ نَبْتَدِئَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِنَا فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبَائِنَا الْأَدْنَيْنَ إلَيْنَا الْمُمَاثِلِينَ لَنَا فَكَيْفَ بِأَبِينَا

الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ الْأَكْبَرِ لِلنَّبِيِّ الْمُقَدَّمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ انْتَهَى. ثُمَّ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ الْمَوْلِدَ بِالْمَغَانِي وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ كَمَا تَقَدَّمَ لِأَجْلِ مَوْلِدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ انْتَقَلَ إلَى كَرَامَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفُجِعَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ وَأُصِيبَتْ بِمُصَابٍ عَظِيمٍ لَا يَعْدِلُ ذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الْمَصَائِبِ أَبَدًا فَعَلَى هَذَا كَانَ يَتَعَيَّنُ الْبُكَاءُ وَالْحُزْنُ الْكَثِيرُ وَانْفِرَادُ كُلِّ إنْسَانٍ بِنَفْسِهِ لِمَا أُصِيبَ بِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِيُعَزِّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَائِبِهِمْ الْمُصِيبَةُ بِي» انْتَهَى فَلَمَّا ذَكَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُصِيبَةَ بِهِ ذَهَبَتْ كُلُّ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُ الْمَرْءَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَبَقِيَتْ لَا خَطَرَ لَهَا. وَلَقَدْ أَحْسَنَ حَسَّانُ حِينَ رَثَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ كُنْتَ السَّوَادَ لِنَاظِرِي ... فَعَمَى عَلَيْكَ النَّاظِرُ مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ ... فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَاذِرُ فَانْظُرْ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَيْفَ يَلْعَبُونَ فِيهِ وَيَرْقُصُونَ وَلَا يَبْكُونَ وَلَا يَحْزَنُونَ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْحَالِ لِأَجْلِ اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ وَالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ مِنْ أَجْلِ فَقْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ ذَلِكَ مُذْهِبًا لِلذُّنُوبِ وَمُمْحِيًا لِآثَارِهَا مَعَ أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَالْتَزَمُوهُ لَكَانَ أَيْضًا بِدْعَةً وَإِنْ كَانَ الْحُزْنُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ دَائِمًا لَكِنْ لَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ لِذَلِكَ وَالتَّبَاكِي وَإِظْهَارِ التَّحَزُّنِ بَلْ ذَلِكَ أَعْنِي الْحُزْنَ فِي الْقُلُوبِ فَإِنْ دَمَعَتْ الْعَيْنُ فَيَا حَبَّذَا وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ إذَا كَانَ الْقَلْبُ عَامِرًا بِالْحُزْنِ وَالتَّأَسُّفِ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الذِّكْرُ لِهَذَا الْفَصْلِ لِكَوْنِهِمْ فَعَلُوا الطَّرَبَ الَّذِي لِلنُّفُوسِ فِيهِ رَاحَةٌ وَهُوَ اللَّعِبُ وَالرَّقْصُ وَالدُّفُّ وَالشَّبَّابَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ الْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّفْسِ فِيهِ رَاحَةٌ بَلْ الْكَمَدُ وَحَبْسُ النُّفُوسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا وَمَلَاذِّهَا. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ أَنَا أَعْمَلُ الْمَوْلِدَ لِلْفَرَحِ وَالسُّرُورِ لِوِلَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فصل بعض ما يفعله النساء في المولد النبوي

ثُمَّ أَعْمَلُ يَوْمًا آخَرَ لِلْمَأْتَمِ وَالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ عَلَيْهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ طَعَامًا بِنِيَّةِ الْمَوْلِدِ لَيْسَ إلَّا وَجَمَعَ لَهُ الْإِخْوَانَ فَإِنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ. هَذَا وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ ظَاهِرُهُ الْبِرُّ وَالتَّقَرُّبُ لَيْسَ إلَّا فَكَيْفَ بِهَذَا الَّذِي جَمَعَ بِدَعًا جُمْلَةً فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. فَكَيْفَ إذَا كَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِلْفَرَحِ وَمَرَّةً لِلْحُزْنِ فَتَزِيدُ الْبِدَعُ وَيَكْثُرُ اللَّوْمُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصْلٌ بَعْض مَا يَفْعَلهُ النِّسَاء فِي المولد النبوي] (فَصْلٌ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كَيْفَ زَادَتْ عَلَى مَا فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ فَتَعَدَّتْ فِتْنَةُ الرِّجَالِ إلَى النِّسَاءِ ثُمَّ تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ آلَ أَمْرُهُمْ إلَى الْخُرُوجِ إلَى الْمَقَابِرِ وَهَتْكِ الْحَرِيمِ هُنَاكَ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالشُّبَّانِ مُخْتَلَطِينَ عَلَى الْوَاعِظِ أَوْ الْوَاعِظَةِ وَتُنْصَبُ لَهُمْ الْمَنَابِرُ وَيَصْعَدُونَ عَلَيْهَا يَعِظُونَ وَيَزِيدُونَ وَيَنْقُصُونَ وَيَتَمَايَلُونَ كَمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ أَفْعَالِ الْوُعَّاظِ وَزَعَقَاتِهِمْ بِتِلْكَ الطُّرُقِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ وَالْهُنُوكُ الْمَذْمُومَةُ شَرْعًا الَّتِي لَا تَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ مَفْتُونَةً قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ مَنْ أَعْجَبَهُمْ شَأْنُهُمْ وَيَتَمَايَلُونَ مَعَ كُلِّ صَوْتٍ وَيَرْجِعُونَ بِحَسَبِ حَالِ ذَلِكَ الصَّوْتِ مَعَ التَّكْسِيرِ وَالضَّرْبِ بِأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْكُرْسِيِّ وَإِظْهَارِ التَّحَزُّنِ وَالْبُكَاءِ وَهُوَ خَالٍ مِنْ الْبُكَاءِ وَالْخَشْيَةِ وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ عَرِيٍّ عَنْ التَّوْفِيقِ فِيهِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ «إذَا اسْتَكْمَلَ نِفَاقُ الْمَرْءِ كَانَتْ عَيْنَاهُ بِحُكْمِ يَدِهِ يُرْسِلُهُمَا مَتَى شَاءَ» انْتَهَى وَهَذَا نُشَاهِدُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَتَجِدُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمَكَّاسِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الظَّلَمَةِ تُذَكِّرُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَوَاعِظِ أَوْ التَّخْوِيفِ فَيُرْسِلُونَ دُمُوعَهُمْ إذْ ذَاكَ وَيَتَخَشَّعُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ ثُمَّ يَبْقَوْنَ عَلَى حَالِهِمْ لَا يُقْلِعُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَفِي خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى الْقُبُورِ مِنْ الْكَشَفَةِ مَا قَدْ تَقَدَّمَ وَإِنَّ النِّسَاءَ كَأَنَّهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ لَا يَحْتَجِبْنَ فَكَأَنَّ الرِّجَالَ فِي الْقُبُورِ صَارُوا نِسَاءً فَإِذَا دَخَلُوا الْبَلَدَ رَجَعُوا رِجَالًا يُسْتَحْيَا مِنْهُمْ فِيهَا (فَصْلٌ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى نِكَايَةِ هَذَا الْعَدُوِّ اللَّعِينِ بَلْ

بَعْضُهُمْ لَا يَفْتَقِرُ إلَى وَسْوَسَتِهِ إذْ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَقَدْ قَرَّرُوا وَأَصَّلُوا أَنَّ كُلَّ زَمَانٍ فَاضِلٍ يَشْغَلُونَهُ فِي الْغَالِبِ بِارْتِكَابِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَلَا تَرَى أَنَّ خُرُوجَ النِّسَاءِ إلَى الْقُبُورِ فِيهِ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ مِمَّا يَعُمُّ وُجُودُهُ مِنْهُنَّ غَالِبًا وَلَا يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إلَّا فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الشَّرِيفَةِ كَلَيَالِي الْجُمَعِ سِيَّمَا الْمُقْمِرَةُ مِنْهَا فَإِنَّ الْفِتْنَةَ فِيهَا تَكْثُرُ فَعَامَلُوهَا بِالنَّقِيضِ عَلَى عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ إذْ أَنَّ اللَّيَالِيَ الْمُقْمِرَةَ هِيَ لَيَالِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ اللَّيَالِيِ الْمَعْلُومِ فَضْلُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى فَإِنْ اجْتَمَعَ إلَى الْأَيَّامِ الْبِيضِ وَلَيَالِيِهَا شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَشْهُرِ أَوْ الْأَيَّامِ أَوْ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ فَتَزِيدُ الْفَضَائِلُ إلَى فَضَائِلَ أُخَرَ فَتَتَأَكَّدُ الْحُرْمَةُ وَيَقَعُ تَعْظِيمُ الثَّوَابِ وَالْخَيْرَاتِ لِمَنْ قَامَ بِحُرْمَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. فَلَمَّا أَنْ زَادَتْ هَذِهِ الْفَضَائِلُ قَابَلْنَهَا بِضِدِّ مَا يُرَادُ مِنْهُنَّ عَلَى عَوَائِدِهِنَّ الذَّمِيمَةِ وَإِنْ كُنَّ لَمْ يَقْصِدْنَ ذَلِكَ لَكِنَّ الْوَاقِعَ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ بِالنَّقِيضِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَيَنْهَتِكْنَ فِي الْغَالِبِ فِي الْجُمُعَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَوْمِ الْخَمِيسِ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْقُبُورِ وَالْجُمُعَةِ فِي إقَامَتِهِنَّ فِيهَا وَالسَّبْتِ فِي رُجُوعِهِنَّ إلَى بُيُوتِهِنَّ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ وَكَذَلِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَالْعِيدَيْنِ وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَكِنْ زَادَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِسَبَبِ الْوُقُودِ فِي الزَّاوِيَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْكَثِيرَةِ بِسَبَبِ الْوَقُودِ فِيهَا وَفِي الْقُبُورِ أَشْنَعُ إذْ فِيهِ تَفَاؤُلٌ لِمَنْ هُنَاكَ مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَنْ يُتْبَعَ الْمَيِّتُ بِنَارٍ فَكَيْفَ يُفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى قَبْرِهِ وَأَعْظَمُ فِتْنَةٍ فِيهَا اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ وَالشُّبَّانِ وَالرِّجَالِ مُخْتَلَطِينَ وَاجْتِمَاعُهُمْ فِتْنَةٌ حَيْثُ وُجِدُوا لَكِنْ فِي الْقُبُورِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ (فَصْلٌ) ثُمَّ إنَّهُمْ ضَمُّوا لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِزِيَارَةِ السَّيِّدِ الْحُسَيْنِ وَحُضُورِ بَعْضِهِنَّ سُوقَ الْقَاهِرَةِ لِمَا يَقْصِدْنَ فِيهِ مِنْ الْأَغْرَاضِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا. وَجَعَلْنَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِزِيَارَةِ السِّتِّ نَفِيسَةَ أَوْ حُضُورِ سُوقِ مِصْرَ

فصل مفاسد البنيان في القبور

لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِنَّ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ. وَيَوْمَ الْأَحَدِ لِحُضُورِ سُوقِ مِصْرَ أَيْضًا فَلَمْ يَتْرُكْنَ الْإِقَامَةَ فِي الْغَالِبِ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا وَهُوَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ إنْ سَلِمْنَ فِيهِ مِنْ الزِّيَارَةِ لِمَنْ يَخْتَرْنَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ النِّسَاءِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَأَيْنَ الضَّرُورَةُ الشَّرْعِيَّةُ. وَلَوْ حُكِيَ هَذَا عَنْ الرِّجَالِ لَكَانَ فِيهِ شَنَاعَةٌ وَقُبْحٌ فَكَيْفَ بِهِ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ [فَصْلٌ مفاسد الْبُنْيَانُ فِي الْقُبُورِ] (فَصْلٌ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فَإِنَّهَا لَا تَأْتِي إلَّا بِالشَّرِّ. وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ قَدْ وَقَعَتْ بِهَدْمِ بُنْيَانِ الْبُيُوتِ الَّتِي فِي الْقُبُورِ عَلَى مَا سَبَقَ فَلَوْ امْتَثَلْنَا أَمْرَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الْمَثَالِمُ كُلُّهَا وَكُفِيَ النَّاسُ أَمْرَهَا فَبِسَبَبِ مَا هُنَاكَ مِنْ الْبُنْيَانِ وَالْمَسَاكِنِ وَجَدَ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ السَّبِيلَ إلَى حُصُولِ أَغْرَاضِهِ الْخَسِيسَةِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا قَدْ قِيلَ مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ فَإِذَا هَمَّ الْإِنْسَانُ بِالْمَعْصِيَةِ وَأَرَادَهَا وَعَمِلَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَفْعَلُهَا أَوْ وَجَدَهُ وَلَكِنْ لَا يَجِدُ مَكَانًا لِلِاجْتِمَاعِ فِيهِ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْعِصْمَةِ. فَكَانَ الْبُنْيَانُ فِي الْقُبُورِ فِيهِ مَفَاسِدُ. مِنْهَا هَتْكُ الْحَرِيمِ بِخُرُوجِهِنَّ إلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ فَيَجِدْنَ أَيْنَ يُقِمْنَ أَغْرَاضَهُنَّ هَذَا وَجْهٌ. الثَّانِي تَيْسِيرُ الْأَمَاكِنِ لِاجْتِمَاعِ الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ فَتَيْسِيرُ الْمَسَاكِنِ هُنَاكَ سَبَبٌ وَتَسْهِيلٌ لِوُقُوعِ الْمَعَاصِي هُنَاكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَبْنِي الْبَيْتَ مُجَاوِرًا لِلتُّرْبَةِ الَّتِي تَكُونُ لَهُ ثُمَّ يَمُوتُ هُوَ وَأَهْلُهُ وَمَعَارِفُهُ وَتَنْقَطِعُ آثَارُهُمْ وَتَبْقَى الدِّيَارُ خَالِيَةً فَيَجِدُ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ السَّبِيلَ إلَى مُرَادِهِ وَقَدْ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ حَيَاةِ صَاحِبِهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ. وَقَدْ يَنْقَلِعُ بَابُهَا فَتَبْقَى مَأْوَى لِلْفَسَقَةِ وَاللُّصُوصِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَكْبَرُ وَأَشْنَعُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَقْفٌ عَلَيْهِ مَا دَامَ مِنْهُ شَيْءٌ مَا مَوْجُودًا فِيهِ حَتَّى يَفْنَى فَإِذَا فَنِيَ حِينَئِذٍ يُدْفَنُ غَيْرُهُ فِيهِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مَا مِنْ عِظَامِهِ فَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ

كَجَمِيعِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْفَرَ عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَلَا يُكْشَفَ عَنْهُ اتِّفَاقًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ قَبْرِهِ قَدْ غُصِبَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَلْحَدَ مَيِّتًا وَأُهِيلَ عَلَيْهِ بَعْضُ التُّرَابِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّ يَاقُوتَةً وَقَعَتْ فِي الْقَبْرِ لَهَا قِيمَةٌ أَوْ نَفَقَةٌ كَثِيرَةٌ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ مَا أُهِيلَ عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ لِأَخْذِ مَا وَقَعَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ أَوْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَجْلِ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ فَلَا يَجُوزُ الْكَشْفُ بَعْدَ إهَالَةِ شَيْءٍ مِنْ التُّرَابِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْكَشْفِ عَنْهُ خَشْيَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ حَالُ الْمَيِّتِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَمَنَعُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ السَّتْرِ عَلَيْهِ. وَقَدْ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] فَالسَّتْرُ فِي الْحَيَاةِ سَتْرُ الْعَوْرَاتِ وَفِي الْمَمَاتِ سَتْرُ جِيَفِ الْأَجْسَادِ وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِهَا فَكَانَ الْبُنْيَانُ فِي الْقُبُورِ سَبَبًا إلَى خَرْقِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فِي حَفْرِ قُبُورِهِمْ وَالْكَشْفِ عَنْهُمْ بَلْ يَأْخُذُونَ مَا وَجَدُوا مِنْ الْأَمْوَاتِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنْ قِدَمٍ أَوْ طَرَاوَةٍ فِي الْقِفَافِ فَيَرْمُونَ ذَلِكَ فِي الْمَزَابِلِ أَوْ يَدْفِنُونَهُ بَعْضَ دَفْنٍ وَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ فَيَعْمَلُونَ فِي مَوَاضِعِ الْقُبُورِ الْبُيُوتَ الْعَالِيَةَ وَالْمَرَاحِيضَ وَالسَّرَابَاتِ وَيَنْقُلُونَ الْمَوْتَى وَفِيهِمْ الْعُلَمَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالْأَشْرَافُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ كَانَ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِأَنَّهُمْ مَاتُوا بِمِصْرَ فَيَعْمَلُونَ فِي مَوَاضِعِهِمْ السَّرَابَاتِ الَّتِي لِلْمَرَاحِيضِ فَتَعُمُّ الْأَذِيَّةُ لِمَنْ نُقِلَ مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَمْ يُنْقَلْ لِقُوَّةِ سَرَيَانِ النَّجَاسَةِ الْمُنْبَعِثَةِ إلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ. وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ لَا شَوْكَةَ لَهُ وَيَسْكُتُ لَهُ لِلْعَادَةِ الذَّمِيمَةِ الْجَارِيَةِ فِيهِمْ وَبَيْنَهُمْ. وَقَدْ رَأَيْت ذَلِكَ عِيَانًا حَفَرَ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا شَوْكَةَ لَهُ مَوْضِعَ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ فَرَأَيْت الْفَعَلَةَ وَهُمْ يَنْقُلُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ فَيَرْمُونَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حَتَّى بَنَى دَارًا عَظِيمَةً عَلَى زَعْمِهِمْ وَحَمَّامًا وَإِصْطَبْلًا

وَبِئْرًا وَحَوْضًا لِلسَّبِيلِ عَلَى زَعْمِهِ بَلْ ارْتَكَبَ بَعْضُ مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ أَمْرًا عَظِيمًا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَنْ يُبَاشِرُ نَبْشَ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُبُورِهِمْ الْأُسَارَى مِنْ كُفَّارِ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ فَيَأْخُذُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى فِي الْقُفَفِ بَعْدَ حَفْرِهِمْ عَلَيْهِمْ أَذِيَّةً وَنِكَايَةً وَحَسِيفَةً فَيَكْسِرُونَ الْعِظَامَ وَيَخْرِقُونَ حُرْمَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَسْرُ عَظْمِ الْمُسْلِمِ مَيِّتًا كَكَسْرِهِ حَيًّا» انْتَهَى ثُمَّ إذَا أَخْرَجُوا الْعِظَامَ فِي الْقُفَفِ لِيَرْمُوهَا يَتَضَاحَكُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْتَهْزِئُونَ وَقَدْ يُنَادِي بَعْضُ الْأُسَارَى عَلَى الْقُفَّةِ الَّتِي مَعَهُ فِيهَا عِظَامُ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ كَأَنَّهُ يَبِيعُ شَيْئًا يَقُولُ قُفَّةٌ بِرُبْعٍ قُفَّةٌ بِأَرْبَعِ فُلُوسٍ قُفَّةٌ بِفَلْسَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَكَيْفَ لَا وَهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ وَقَدْ وَجَدُوا السَّبِيلَ إلَى الْجِهَادِ عَلَى زَعْمِهِمْ فَانْتَهَكُوا ذَلِكَ وَطَابَتْ خَوَاطِرُهُمْ بِمَا نَالُوا مِنْهُ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ مَا أَعْظَمَ قُبْحَهَا وَمَا أَشْنَعَهَا وَارْتِكَابِ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ فِيهَا كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ تَسَامُحُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْوَقْتِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْبُنْيَانِ فِي الْقُبُورِ وَوَقَعَ ذَلِكَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ بَلْ بَعْضِ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَالْوُصُولِ إلَى أَرْبَابِ الْأُمُورِ تَجِدْ لَهُمْ فِيهَا مَوَاضِعَ عَالِيَةً عَظِيمَةً عِنْدَهُمْ وَتَشَبَّهُوا فِي ذَلِكَ بِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بَلْ يَقِفُ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى عَلَى تُرَبِهِمْ الْأَوْقَافَ عَلَى الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالذَّاكِرِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ حَالِهِمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تِلْكَ الطُّرُقِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَقِفُونَ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَالْبَوَّابِ وَالْقَيِّمِ وَالْمُؤَذِّنِ وَعَلَى الزَّيْتِ لِوَقُودِ الْمَكَانِ وَيُمْنَعُ الْوُقُودُ هُنَاكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مُخَالَفَةُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ. وَالثَّانِي: مَا فِيهِ مِنْ التَّفَاؤُلِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَنْ يُتْبَعَ الْمَيِّتُ بِنَارٍ فَكَيْفَ بِهِ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ عَلَى قَبْرِهِ. وَالثَّالِثُ: إضَاعَةُ الْمَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالْعَجَبُ الْعَجِيبُ مِنْ كَوْنِهِمْ يُفْتُونَ

فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْبَشَ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ وَلَا أَنْ يُتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَرَاحِيضِ وَالْفَسَاقِي الْمَمْلُوءَةِ بِالْمَاءِ لِلِاسْتِعْمَالِ ثُمَّ يَقِفُونَ عَلَى ذَلِكَ وَقْفًا فَيَكُونُ الْوَقْفُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَنْ يَبُولُ عَلَيْهِمْ وَيُنَجِّسُهُمْ فَتَجِدُ أَكْثَرَ دُورِهِمْ أَكْثَرَ تَنْجِيسًا لِزِيَادَةِ الِاجْتِمَاعِ عِنْدَهُ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَقَوْمَةِ الْمَكَانِ وَمَنْ كَانَ يَأْتِي إلَيْهِمْ وَإِلَى زِيَارَتِهِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. فَإِذَا عُلِمَ مَا ذُكِرَ وَتَحَقَّقَ بِمُشَاهَدَتِهِ عِيَانًا بَطَلَ إذْ ذَاكَ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ، وَهَذَا كَمَا تَرَاهُ مُنَافٍ لِلْقُرْبَةِ قَطْعًا فَأَيْنَ الْقُرْبَةُ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ يَتَفَاخَرُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى فِي صِفَةِ الرُّخَامِ الَّذِي يَفْرِشُونَهُ حَوْلَ الْقَبْرِ وَعَلَيْهِ. وَأَمَّا بُنْيَانُ الْقَبْرِ وَالْأَعْمِدَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالسُّقُوفِ الْمُذَهَّبَةِ وَالتَّصَاوِيرِ الَّتِي فِي بَعْضِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ كَيْفَ يَنْعَكِسُ مُرَادُ مَنْ خَالَفَهُ إلَى ضِدِّهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا وَقَفُوا الْأَوْقَافَ عَلَى مَنْ ذُكِرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَمَا قَصَدُوا بِالْأَوْقَافِ إلَّا كَثْرَةَ التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا أَنْ جَعَلُوهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ انْعَكَسَ عَلَيْهِمْ الْأَمْرُ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَدَمِ التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ مِمَّنْ يَأْتِي لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ، أَوْ يَمُرُّ بِهَا إذْ أَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِتِلْكَ الْقُصُورِ وَالْأَبْوَابِ وَالْحُجَّابِ مِنْ الطَّوَّاشِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى حَالِ رِيَاسَتِهِمْ وَمُفَاخَرَتِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَصْحَبُوا ذَلِكَ حَتَّى فِي الْقُبُورِ (فَصْلٌ) ثُمَّ الْعَجَبُ كَيْفَ غَابَ عَنْهُمْ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ وَعُمْدَتُهَا إذْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ الْوَرَعُ وَكُلُّ أَحَدٍ فِيهِ عَلَى مَرْتَبَتِهِ وَالْوَرَعُ بِالْمَرْءِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ مَوْتِهِ، أَوْلَى بِهِ بَلْ أَوْجَبُ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فِي حَيَاتِهِ إذْ أَنَّهُ مَا بَقِيَ لَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا إقَامَةٌ إلَّا أَنْفَاسٌ يَسِيرَةٌ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِلِقَاءِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَرَعِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَوْ قُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْحَنَايَا وَصُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْأَوْتَارِ وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَرَعٌ حَاجِزٌ لَمْ يَمْنَعْكُمْ ذَلِكَ مِنْ النَّارِ» انْتَهَى. فَعَكَسَ هَؤُلَاءِ الْأَمْرَ وَجَمَعُوا الْمَالَ مِنْ وَجْهِهِ وَمِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ وَغَصَبُوا مَوَاضِعَ قُبُورِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ رَاحِلُونَ لِأَوَّلِ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ وَبَنَوْا وَشَيَّدُوا الدِّيَارَ وَغَيْرَهَا مِنْ مَالٍ جُمِعَ مِنْ الشُّبُهَاتِ، أَوْ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ هُمَا مَعًا عَكْسُ خِصَالِ الْمُتَّقِينَ بَلْ الْمُسْلِمِينَ وَالْغَصْبُ مِنْ الْكَبَائِرِ فِيمَا هُوَ لِلْأَحْيَاءِ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ لِلْمَوْتَى خُصُوصًا فَغَصَبُوا حُقُوقَ الْمَوْتَى وَبَنَوْا فِيهَا بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» انْتَهَى. ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى وَقَفُوا مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا أَوْقَافًا عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْمَغْصُوبَةِ وَتَسَبَّبُوا بِذَلِكَ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى انْبِعَاثِ النَّجَاسَاتِ عَلَى قُبُورِ أَنْفُسِهِمْ وَقُبُورِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. ثُمَّ الْعَجَبُ فِي حُكْمِهِمْ بِصِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ كَيْفَ يُمْكِنُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَاقِفُ لِلْوَقْفِ مَصْرِفًا غَيْرَ مَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ فَلِمَنْ يَرْجِعُ ذَلِكَ مَعَ الْحُكْمِ بِبُطْلَانِهِ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ فَلَا يَنْبَغِي الدُّخُولُ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ لِلتَّرَحُّمِ وَلَا لِحُضُورِ دَفْنِ الْجِنَازَةِ هُنَاكَ وَلَا لِغَيْرِهِمَا إذْ أَنَّ تِلْكَ الْمَوَاضِعَ مَغْصُوبَةٌ لِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَنْبَغِي وَمَعَ ذَلِكَ يَخْرُجُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ عَنْ أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ لِنَصِّ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ انْتَهَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْإِنْكَارُ هَاهُنَا لَا مَحَلَّ لَهُ إذْ أَنَّ مَنْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ قَدْ مَاتَ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ فِي تَرْكِ الدُّخُولِ فِيهِ فَائِدَةً كُبْرَى إذْ أَنَّ فِيهِ رَدْعًا وَزَجْرًا لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِ مِنْ الْأَحْيَاءِ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ كَيْفِيَّةَ تَتَبُّعِ اللَّعِينِ إبْلِيسَ السُّنَنَ الشَّرِيفَةَ

لَا يَجِدُ سُنَّةً إلَّا وَيَعْمَلُ عَلَى تَرْكِهَا بِكَيْدِهِ وَتَسْوِيلِهِ وَتَزْيِينِهِ ثُمَّ يُبَدِّلُهَا بِضِدِّهَا أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي النِّسَاءِ فِي حَالِ حَيَاتِهِنَّ الِاخْتِفَاءُ وَالْحِجَابُ الْمَنِيعُ وَمَهْمَا أَمْكَنَ كَانَ أَوْلَى وَأَوْجَبَ وَفِي حَالِ الْمَمَاتِ لَمْ تُفَرِّقْ السُّنَّةُ بَيْنَ قُبُورِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَعْنِي فِي كَيْفِيَّةِ الْقُبُورِ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا زِيٌّ يَخْتَصُّ بِهِ. وَأَنْتَ تَرَى حَالَ بَعْضِ النِّسْوَةِ الْيَوْمَ عَلَى النَّقِيضِ مِنْ ذَلِكَ فَتَرَاهُنَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ يَتَبَرَّجْنَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَغَيْرِهَا ثُمَّ إنَّهُنَّ إذَا مُتْنَ يَجْعَلْنَ عَلَى قُبُورِهِنَّ أَعْنِي مَنْ قَدَرَ مِنْهُنَّ فَيَجْعَلْنَ فِي التُّرَبِ الْحُجَّابَ مِنْ الطَّوَّاشِيَّةِ وَالْبَوَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِمَّنْ لَمْ يَرْضَوْهُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ فَعَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُنَّ فِي قُبُورِهِنَّ عَكْسُ الْحَيَاةِ فَانْتَهَى الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَيْهِنَّ شَيْءٌ مِنْ بَرَكَةِ مَنْ يَزُورُ الْقُبُورَ، أَوْ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهَا، أَوْ يَمُرُّ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ مَنْ يُبَكِّرُ مِنْ الرِّجَالِ وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ إلَّا بِالشَّيْءِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ أَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَتَّصِفُ بِهِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ، وَإِنَّمَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالذُّلِّ وَالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالتَّصَاغُرِ فَهَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا أَشْبَهَهَا هِيَ الَّتِي تَنَزَّهَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَرَفٌ وَلَا تَقَرُّبٌ إلَّا بِهَا فَإِنْ انْخَرَمَ شَيْءٌ مِنْهَا نَقَصَ مِنْ حَالِهِ مَعَ رَبِّهِ تَعَالَى بِقَدْرِ ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَكْسِ الْحَالِ. كَانَ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِالْعُلَمَاءِ فَصَارَ الْيَوْمَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ يَرْتَكِبُ مَا لَا يَنْبَغِي كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَأْتِي الْعَالِمُ فَيَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ فَعَمَّتْ الْفِتْنَةُ وَاسْتَحْكَمَتْ هَذِهِ الْبَلِيَّةُ فَلَا تَجِدُ فِي الْغَالِبِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ وَلَا مَنْ يُعِينُ عَلَى زَوَالِهِ، أَوْ يُشِيرُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، أَوْ مُحَرَّمٌ. فَإِنْ قِيلَ إنَّ مَنْ تَرَحَّمَ عَلَى الْقُبُورِ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي تَرَحُّمِهِ مَنْ كَانَ خَلْفَ بُنْيَانٍ، أَوْ غَيْرِهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ قَصْدَ الزَّائِرِ أَوْ الْمَارِّ التَّرَحُّمُ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ وَمَنْ رَآهُمْ مِنْ الْقُبُورِ. وَأَمَّا مَنْ هُوَ خَلْفَ حِجَابٍ وَلَمْ

يَقْصِدْهُ فَلَا يَصِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ تَرَحُّمِهِ لِانْعِزَالِ الْمَدْفُونِ بِحِجَابِ مَا بِالتُّرْبَةِ الْمُشَيَّدَةِ وَغَيْرِهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعُمَّ بِدُعَائِهِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ فَيَدْخُلُ فِيهِمْ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مَأْمُورٌ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ بِالْقَلْبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّى الدُّعَاءَ وَالتَّرَحُّمَ لِمَنْ قَبْرُهُ عَلَى مَا وُصِفَ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ بِشَرْطِهِ مَا بَنَوْهُ وَشَيَّدُوهُ وَغَصَبُوهُ لِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَوَاضِعِ دَفْنِهِمْ وَمَنْ دَعَا لَهُمْ أَوْ تَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِمْ إذَا اتَّصَفُوا بِمَا ذُكِرَ لَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى أُمِرْنَا بِهِجْرَانِ مَنْ أُمِرْنَا بِهِجْرَانِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ، وَأَمَّا الْأَمْوَاتُ فَلَا فَائِدَةَ فِي هِجْرَانِهِمْ بِتَرْكِ الدُّعَاءِ لَهُمْ فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُكَلَّفَ الْعَالِمَ بِلِسَانِ الْعِلْمِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِنْهُمْ فَلَا يَدْعُو لَهُمْ. وَفِي عَدَمِ التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ أَيْضًا فَائِدَةٌ كُبْرَى، وَهُوَ الرَّدْعُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُمْ وَيَحْذُوَ حَذْوَهُمْ وَلَوْ فِي بَعْضِ النَّاسِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا الْحَالِ لَعَلَّهُ يَحْصُلُ لَهُ عِوَضًا مِنْ ذَلِكَ ثَوَابُ التَّأَسُّفِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ فَلَعَلَّهُ يُكْتَبُ مِنْ حِزْبِهِمْ إذْ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا كَمَا يَنْبَغِي شَرْعًا أُلْحِقَ بِهِمْ. وَلَمْ تَزَلْ الْأَكَابِرُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُوصُونَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ بِأَنْ يُدْفَنُوا عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِكَيْ يَصِلَ إلَيْهِمْ بَرَكَةُ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَتَرَحَّمُ، أَوْ يَسْتَغْفِرُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَدْ خَرَجْنَا عَمَّا كُنَّا بِصَدَدِهِ مِنْ فِعْلِ الْمَوْلِدِ بِالْقُبُورِ وَوَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَسَائِلِهَا. ثُمَّ نَرْجِعُ الْآنَ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْمَوْلِدِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَتَوَرَّعُ عَنْ فِعْلِ الْمَوْلِدِ بِالْمَغَانِي الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَيُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ الْقُرَّاءَ وَالْفُقَرَاءَ الَّذِينَ

فصل عمل المولد لأجل جمع الدراهم

يَذْكُرُونَ مُجْتَمَعِينَ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَالْهُنُوكِ كَمَا عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْقُرَّاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَكَذَلِكَ الْفُقَرَاءُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْع ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَوْلِدِ فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَوْلِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا أَطْعَمَ الْإِخْوَانَ لَيْسَ إلَّا بِنِيَّةِ الْمَوْلِدِ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ فَكَيْفَ بِهِ هُنَا فَمِنْ بَابِ أَحْرَى الْمَنْعُ مِنْهُ. وَقَدْ يَحْصُلُ فِي هَذَا مِنْ الْمَفَاسِدِ بَعْضُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ أَكْثَرُ، أَوْ مِثْلُهُ. وَبَعْضُهُمْ يَتَوَرَّعُ عَنْ هَذَا وَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ بِقِرَاءَةِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْحَدِيثِ فِي نَفْسِهَا مِنْ أَكْبَرِ الْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ وَفِيهَا الْبَرَكَةُ الْعَظِيمَةُ وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ لَكِنْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِشَرْطِهِ اللَّائِقِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ كَمَا يَنْبَغِي لَا بِنِيَّةِ الْمَوْلِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ فَعَلَهَا إنْسَانٌ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُشْرَعِ لَهَا لَكَانَ مَذْمُومًا مُخَالِفًا فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمَا بَالَك بِغَيْرِهَا [فَصْلٌ عَمَلُ الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ جَمْعِ الدَّرَاهِمِ] . (فَصْلٌ) وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ الْمَوْلِدَ لَا لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ وَلَكِنْ لَهُ فِضَّةٌ عِنْدَ النَّاسِ مُتَفَرِّقَةٌ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا فِي بَعْضِ الْأَفْرَاحِ وَالْمَوَاسِمِ وَيُرِيدُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا وَيَسْتَحْيِ أَنْ يَطْلُبَهَا بُدَاءَةً فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِأَخْذِ مَا اجْتَمَعَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ، وَهَذَا فِيهِ وُجُوهٌ مِنْ الْمَفَاسِدِ: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَشَدُّهَا أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِصِفَةِ النِّفَاقِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ إذْ ظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ عَمِلَ الْمَوْلِدَ يَبْتَغِي بِهِ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَبَاطِنُهُ أَنَّهُ يَجْمَعُ بِهِ فِضَّتَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ جَمْعِ الدَّرَاهِمِ وَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْهُمَا عَلَى قِسْمَيْنِ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ تَكُونَ لَهُ دُنْيَا وَيَتَظَاهَرُ بِأَنَّهُ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ لِتَزِيدَ دُنْيَاهُ بِمُسَاعَدَةِ النَّاسِ لَهُ فَيَزْدَادَ هَذَا فَسَادًا عَلَى الْمَفَاسِدِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْمَفَاسِدِ، وَهُوَ أَشْبَهُ مِنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَطْلُبُ بِذَلِكَ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَيْهِ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ الْمَحَامِدَ كَثِيرًا، وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ إلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ يَخَافُ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَشَرِّهِ فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ حَتَّى يُسَاعِدَهُ النَّاسُ تَقِيَّةً عَلَى

فصل في خصوصية مولد الرسول بشهر ربيع الأول

أَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ فَيَزْدَادَ مِنْ الْحُطَامِ بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنْ الْخِصَالِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا، وَهَذَا أَمْرٌ خَطِرٌ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ مِمَّنْ يُخَافُ مِنْ شَرِّهِ فَهُوَ مَعْدُودٌ بِفِعْلِهِ مِنْ الظَّلَمَةِ. الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفَ الْحَالِ فَيُرِيدَ أَنْ يَتَّسِعَ حَالُهُ فَيَعْمَلَ الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ ذَلِكَ. الثَّانِي مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْفُقَرَاءِ لَكِنْ لَهُ لِسَانٌ يُخَافُ مِنْهُ وَيُتَّقَى لِأَجْلِهِ فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الدُّنْيَا مِمَّنْ يَخْشَاهُ وَيَتَّقِيهِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ تَعَذَّرَ مِنْ حُضُورِ الْمَوْلِدِ الَّذِي يَفْعَلُهُ أَحَدٌ مِنْ مَعَارِفِهِ لَحَلَّ بِهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا يَتَشَوَّشُ بِهِ وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى الْعَدَاوَةِ، أَوْ الْوُقُوعِ فِي حَقِّهِ فِي مَحَافِلِ بَعْضِ وُلَاةِ الْأُمُورِ قَاصِدًا بِذَلِكَ حَطَّ رُتْبَتِهِ بِالْوَقِيعَةِ فِيهِ، أَوْ نَقْصَ مَالِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْصِدُهُ مَنْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ» ، أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَتَشَوَّفُ نَفْسُهُ إلَى الثَّنَاءِ وَالْمِدْحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَفَاسِدِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدَّسَائِسِ وَدُخُولِ وَسَاوِسِ النُّفُوسِ وَشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مِمَّا يَتَعَذَّرُ حَصْرُهُ. فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ أَعْطَى قِيَادَهُ لِلِاتِّبَاعِ وَتَرَكَ الِابْتِدَاعَ. وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ بِمَنِّهِ [فَصَلِّ فِي خصوصية مولد الرَّسُول بشهر ربيع الْأَوَّل] (فَصْلٌ) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خُصَّ مَوْلِدُهُ الْكَرِيمُ بِشَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَبِيَوْمِ الِاثْنَيْنِ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْمَشْهُورِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَفِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَاخْتُصَّ بِفَضَائِلَ عَدِيدَةٍ وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَهَا الْحُرْمَةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَلَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَا فِي لَيْلَتِهَا. فَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ انْتَهَى. وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ أَنَّ خَلْقَ الْأَقْوَاتِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْخَيْرَاتِ الَّتِي يَتَغَذَّى بِهَا بَنُو آدَمَ وَيَحْيَوْنَ وَيَتَدَاوَوْنَ وَتَنْشَرِحُ صُدُورُهُمْ لِرُؤْيَتِهَا

وَتَطِيبُ بِهَا نُفُوسُهُمْ وَتَسْكُنُ بِهَا خَوَاطِرُهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا لِاطْمِئْنَانِ نُفُوسِهِمْ بِتَحْصِيلِ مَا يُبْقِي حَيَاتَهُمْ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ حِكْمَةِ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوُجُودُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الشَّهْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ قُرَّةُ عَيْنٍ بِسَبَبِ مَا وُجِدَ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَالْبَرَكَةِ الشَّامِلَةِ لِأُمَّتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ ظُهُورَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي شَهْرِ رَبِيعٍ فِيهِ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَنْ تَفَطَّنَ إلَيْهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى اشْتِقَاقِ لَفْظَةِ رَبِيعٍ إذْ أَنَّ فِيهِ تَفَاؤُلًا حَسَنًا بِبِشَارَتِهِ لِأُمَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالتَّفَاؤُلُ لَهُ أَصْلٌ أَشَارَ إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْ اسْمِهِ نَصِيبٌ هَذَا فِي الْأَشْخَاصِ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفَصْلُ الرَّبِيعِ فِيهِ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَمَّا فِي بَاطِنِهَا مِنْ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَرْزَاقِهِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْعِبَادِ وَحَيَاتُهُمْ وَمَعَايِشُهُمْ وَصَلَاحُ أَحْوَالِهِمْ فَيَنْفَلِقُ الْحَبُّ وَالنَّوَى وَأَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَالْأَقْوَاتِ الْمُقَدَّرَةِ فِيهَا فَيَبْتَهِجُ النَّاظِرُ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا وَتُبَشِّرُهُ بِلِسَانِ حَالِهَا بِقُدُومِ رَبِيعِهَا وَفِي ذَلِكَ إشَارَةٌ عَظِيمَةٌ إلَى الِاسْتِبْشَارِ بِابْتِدَاءِ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إذَا دَخَلْت بُسْتَانًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ تَنْظُرُ إلَيْهِ كَأَنَّهُ يَضْحَكُ لَك وَتَجِدُ زَهْرَهُ كَأَنَّ لِسَانَ حَالِهِ يُخْبِرُكَ بِمَا لَكَ مِنْ الْأَرْزَاقِ الْمُدَّخَرَةِ وَالْفَوَاكِهِ. وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ إذَا ابْتَهَجَ نَوَارُهَا كَأَنَّهُ يُحَدِّثُكَ بِلِسَانِ حَالِهِ كَذَلِكَ أَيْضًا. فَمَوْلِدُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي شَهْرِ رَبِيعٍ فِيهِ مِنْ الْإِشَارَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ وَذَلِكَ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى التَّنْوِيهِ بِعَظِيمِ قَدْرِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَحِمَايَةٌ لَهُمْ مِنْ الْمَهَالِكِ وَالْمَخَاوِفِ فِي الدِّينِ وَحِمَايَةٌ لِلْكَافِرِينَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] وَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَإِدْرَارُ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا يَكْثُرُ عِنْدَ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَنِ أَنْبِيَائِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَمُخَالَفَةِ الْعَدُوِّ

اللَّعِينِ وَجُنُودِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ خُرُوجِهِ إلَى هَذَا الْوُجُودِ لَمْ يَقْدِرْ اللَّعِينُ إبْلِيسُ وَجُنُودُهُ عَلَى الْقَرَارِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَلَا فِي الثَّانِيَةِ وَلَا فِي الثَّالِثَةِ إلَى أَنْ نَزَلُوا إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ فَخَلَتْ الْأَرْضُ مِنْهُمْ بِبَرَكَةِ وُجُودِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى خُلُوِّ الْأَرْضِ مِنْ هَذَا اللَّعِينِ وَجُنُودِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُمْ يُقَيَّدُونَ فَأَيْنَ التَّقْيِيدُ مِنْ نَفْيِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ إلَى تُخُومِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَفِي هَذَا إشَارَةٌ عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَرَامَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ رَبِّهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ وَبِمَنْ تَبِعَهُ. فَإِنْ قِيلَ إنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ تُقَيَّدُ الشَّيَاطِينُ فِي جَمِيعِهِ. فَلَا شَكَّ أَنَّ نَفْيَهُمْ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى فِي يَوْمِ مَوْلِدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْظَمُ مِنْ تَقْيِيدِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ إذْ فِيهِ ظُهُورُ مَزِيَّةِ الْوَقْتِ الَّذِي خَلَتْ الْأَرْضُ مِنْ الْعَدُوِّ وَجُنُودِهِ فِيهِ فَلْيَفْهَمْ مَنْ يَفْهَمُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. فَوَقَعَتْ الْبَرَكَاتُ وَإِدْرَارُ الْأَرْزَاقِ وَمِنْ أَعْظَمِهَا مِنَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِهِدَايَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُمْ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ. أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَرِّفَنَا بَرَكَةَ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَيَرْزُقَنَا اتِّبَاعَهُ دِينًا وَدُنْيَا وَآخِرَةً بِفَضْلِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ آمِينَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا فِي شَرِيعَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ شَبَهِ الْحَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فَصْلَ الرَّبِيعِ أَعْدَلُ الْفُصُولِ وَأَحْسَنُهَا إذْ لَيْسَ فِيهِ بَرْدٌ مُزْعِجٌ وَلَا حَرٌّ مُقْلِقٌ وَلَيْسَ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ طُولٌ خَارِقٌ بَلْ كُلُّهُ مُعْتَدِلٌ وَفَصْلُهُ سَالِمٌ مِنْ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْعَوَارِضِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا النَّاسُ فِي أَبْدَانِهِمْ فِي زَمَانِ الْخَرِيفِ بَلْ النَّاسُ تَنْتَعِشُ فِيهِ قُوَاهُمْ وَتَصْلُحُ أَمْزِجَتُهُمْ وَتَنْشَرِحُ صُدُورُهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَبْدَانَ يُدْرِكُهَا فِيهِ مِنْ إمْدَادِ الْقُوَّةِ مَا يُدْرِكُ النَّبَاتَ حِينَ خُرُوجِهِ إذْ مِنْهَا خُلِقُوا فَيَطِيبُ لَيْلُهُمْ لِلْقِيَامِ وَنَهَارُهُمْ لِلصِّيَامِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ اعْتِدَالِهِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ شَبَهَ الْحَالِ بِالشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مِنْ رَفْعِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ شَاءَ الْحَكِيمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَتَشَرَّفُ بِهِ الْأَزْمِنَةُ وَالْأَمَاكِنُ لَا هُوَ يَتَشَرَّفُ بِهَا بَلْ يَحْصُلُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُبَاشِرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى وَالْمَزِيَّةُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ زِيَادَةِ الْأَعْمَالِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلَوْ وُلِدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَكَانَ ظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِهَا فَجَعَلَ الْحَكِيمُ جَلَّ جَلَالُهُ مَوْلِدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِهَا لِيَظْهَرَ عَظِيمُ عِنَايَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ وَكَرَامَتُهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي «قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلسَّائِلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْت فِيهِ وَلَمَّا أَنْ صَرَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْت فِيهِ» عُلِمَ بِذَلِكَ مَا اخْتَصَّ بِهِ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِنْ كَانَ «يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ» وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ الْمَشْهُورُ بِالطُّرْطُوشِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ وَالْأَخْيَارِ أَنَّهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقَوَّى - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ بِحَدِيثٍ قَالَ فِي كِتَابِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ وَذَكَرَ فِيهِ «أَنَّ آدَمَ خُلِقَ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إلَى اللَّيْلِ انْتَهَى» ؛ لِأَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُوَ سَاكِنُ الدَّارِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ إذْ أَنَّ الدَّارَ لَا تُرَادُ لِنَفْسِهَا بَلْ لِسَاكِنِهَا. قَالَ وَقَدْ كَانَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إذَا صَلَّتْ الْعَصْرَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَتُقْبِلُ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَلَا تُكَلِّمُ أَحَدًا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَتَقُولُ إنَّ السَّاعَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَتُؤْثِرُ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ السَّاعَةَ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا آدَم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ صَادَفَ السَّاعَةَ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْوُجُودِ، وَهُوَ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا أَنَّهُ قَدْ نَجَحَ سَعْيُهُ وَظَفِرَ بِمُرَادِهِ. إذْ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ تِلْكَ السَّاعَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ هُوَ خَلْقُ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَا بَالُكَ بِالسَّاعَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «آدَم وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» انْتَهَى. وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ أُهْبِطَ آدَم وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ. وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ خَيْرٌ كُلُّهُ وَأَمْنٌ كُلُّهُ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ خُصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْخُطْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ يُخَفِّفُ فِيهِ الْأَمْرَ عَنْ أُمَّتِهِ فَلَا يُكَلِّفُهُمْ فِيهِ زِيَادَةَ عَمَلٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَنْ أَخْرَجَهُ إلَى الْوُجُودِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يُكَلِّفْ الْأُمَّةَ فِيهِ زِيَادَةَ عَمَلٍ إكْرَامًا لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ بِسَبَبِ عِنَايَةِ وُجُودِهِ فِيهِ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ عُمُومًا وَلِأُمَّتِهِ خُصُوصًا. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ عَدَمُ التَّكْلِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الدَّلَالَاتِ لَهُ مَا هَذَا لَفْظُهُ. إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ نَبِيِّهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ النَّبِيِّينَ بَعْدَهُ ثُمَّ الصِّدِّيقِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ الْمُخْتَارِينَ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ نُورَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَجَعَلَهُ فِي عَمُودٍ أَمَامَ عَرْشِهِ يُسَبِّحُ اللَّهَ وَيُقَدِّسُهُ ثُمَّ خَلَقَ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ نُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلِقَ نُورُ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مِنْ نُورِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - انْتَهَى. وَقَدْ أَشَارَ الْفَقِيهُ

الْخَطِيبُ أَبُو الرَّبِيعِ فِي كِتَابِ شِفَاءِ الصُّدُورِ لَهُ أَشْيَاءُ جَلِيلَةٌ عَظِيمَةٌ. فَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا شَاءَ الْحَكِيمُ خَلْقَ ذَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُبَارَكَةِ الْمُطَهَّرَةِ أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ وَأَنْ يَأْتِيَهُ بِالطِّينَةِ الَّتِي هِيَ قَلْبُ الْأَرْضِ وَبَهَاؤُهَا وَنُورُهَا. قَالَ فَهَبَطَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَلَائِكَةُ الْفِرْدَوْسِ وَمَلَائِكَةُ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ مَوْضِعِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ بَيْضَاءُ مُنِيرَةٌ فَعُجِنَتْ بِمَاءِ التَّسْنِيمِ وَغُمِسَتْ فِي مَعِينِ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ حَتَّى صَارَتْ كَالدُّرَّةِ الْبَيْضَاءِ وَلَهَا نُورٌ وَشُعَاعٌ عَظِيمٌ حَتَّى طَافَتْ بِهَا الْمَلَائِكَةُ حَوْلَ الْعَرْشِ وَحَوْلَ الْكُرْسِيِّ وَفِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفِي الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ فَعَرَفَتْ الْمَلَائِكَةُ وَجَمِيعُ الْخَلْقِ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَضْلَهُ قَبْلَ أَنْ تَعْرِفَ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَضَعَ فِي ظَهْرِهِ قَبْضَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَسَمِعَ آدَم فِي ظَهْرِهِ نَشِيشًا كَنَشِيشِ الطَّيْرِ. فَقَالَ آدَم يَا رَبِّ مَا هَذَا النَّشِيشُ. قَالَ هَذَا تَسْبِيحُ نُورِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي أُخْرِجُهُ مِنْ ظَهْرِكَ فَخُذْهُ بِعَهْدِي وَمِيثَاقِي وَلَا تُودِعْهُ إلَّا فِي الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ. فَقَالَ آدَم يَا رَبِّ قَدْ أَخَذْتُهُ بِعَهْدِكَ وَمِيثَاقِكَ وَلَا أُودِعُهُ إلَّا فِي الْمُطَهَّرِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُحْصَنَاتِ مِنْ النِّسَاءِ. فَكَانَ نُورُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَلَأْلَأُ فِي ظَهْرِ آدَمَ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تَقِفُ خَلْفَهُ صُفُوفًا يَنْظُرُونَ إلَى نُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ اسْتِحْسَانًا لِمَا يَرَوْنَ. فَلَمَّا رَأَى آدَم ذَلِكَ. قَالَ أَيْ رَبِّ مَا بَالُ هَؤُلَاءِ يَقِفُونَ خَلْفِي صُفُوفًا. فَقَالَ الْجَلِيلُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ يَا آدَم يَنْظُرُونَ إلَى نُورِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي أُخْرِجُهُ مِنْ ظَهْرِكَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ أَرِنِيهِ فَأَرَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ فَآمَنَ بِهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ مُشِيرًا بِأُصْبُعِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِالْإِصْبَعِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ. فَقَالَ آدَم رَبِّ اجْعَلْ

هَذَا النُّورَ فِي مُقَدَّمِي كَيْ تَسْتَقْبِلَنِي الْمَلَائِكَةُ وَلَا تَسْتَدْبِرَنِي فَجَعَلَ ذَلِكَ النُّورَ فِي جَبْهَتِهِ فَكَانَ يُرَى فِي غُرَّةِ آدَمَ دَائِرَةٌ كَدَائِرَةِ الشَّمْسِ فِي دَوَرَانِ فَلَكِهَا أَوْ كَالْبَدْرِ فِي تَمَامِهِ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تَقِفُ أَمَامَهُ صُفُوفًا يَنْظُرُونَ إلَى ذَلِكَ النُّورِ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّنَا اسْتِحْسَانًا لِمَا يَرَوْنَ. ثُمَّ إنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ يَا رَبِّ اجْعَلْ هَذَا النُّورَ فِي مَوْضِعٍ أَرَاهُ فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ النُّورَ فِي سَبَّابَتِهِ فَكَانَ آدَم يَنْظُرُ إلَى ذَلِكَ النُّورِ. ثُمَّ إنَّ آدَمَ قَالَ يَا رَبِّ هَلْ بَقِيَ مِنْ هَذَا النُّورِ شَيْءٌ فِي ظَهْرِي. فَقَالَ نَعَمْ بَقِيَ نُورُ أَصْحَابِهِ. فَقَالَ أَيْ رَبِّ اجْعَلْهُ فِي بَقِيَّةِ أَصَابِعِي فَجَعَلَ نُورَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْوُسْطَى وَنُورَ عُمَرَ فِي الْبِنْصِرِ وَنُورَ عُثْمَانَ فِي الْخِنْصَرِ وَنُورَ عَلِيٍّ فِي الْإِبْهَامِ فَكَانَتْ تِلْكَ الْأَنْوَارُ تَتَلَأْلَأُ فِي أَصَابِعِ آدَمَ مَا دَامَ فِي الْجَنَّةِ. فَلَمَّا صَارَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ انْتَقَلَتْ الْأَنْوَارُ مِنْ أَصَابِعِهِ إلَى ظَهْرِهِ انْتَهَى. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ نُورُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْبَلَ ذَلِكَ النُّورُ يَتَرَدَّدُ وَيَسْجُدُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَسَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ. فَخَلَقَ مِنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ الْعَرْشَ. وَمِنْ الثَّانِي الْقَلَمَ. وَمِنْ الثَّالِثِ اللَّوْحَ ثُمَّ قَالَ لِلْقَلَمِ اجْرِ وَاكْتُبْ. فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا أَكْتُبُ. قَالَ مَا أَنَا خَالِقُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَجَرَى الْقَلَمُ عَلَى اللَّوْحِ وَكَتَبَ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ. وَأَقْبَلَ الْجُزْءُ الرَّابِعُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَسَمَهُ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ فَخَلَقَ مِنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ الْعَقْلَ وَمِنْ الثَّانِي الْمَعْرِفَةَ وَأَسْكَنَهَا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ وَمِنْ الْجُزْءِ الثَّالِثِ نُورَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنُورَ الْأَبْصَارِ وَالْجُزْءُ الرَّابِعُ جَعَلَهُ اللَّهُ حَوْلَ الْعَرْشِ حَتَّى خَلَقَ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَسْكَنَ ذَلِكَ النُّورَ فِيهِ، فَنُورُ الْعَرْشِ مِنْ نُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُورُ الْقَلَمِ مِنْ نُورِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُورُ اللَّوْحِ مِنْ نُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُورُ النَّهَارِ مِنْ نُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُورُ الْعَقْلِ مِنْ نُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُورُ

الْمَعْرِفَةِ وَنُورُ الشَّمْسِ وَنُورُ الْقَمَرِ وَنُورُ الْأَبْصَارِ مِنْ نُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ لِأَبِي الرَّبِيعِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ آدَم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا نُقِلَ يَا أَبَا مَعْنَايَ وَيَا ابْنَ صُورَتِي. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ قَالَ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» انْتَهَى. فَلَئِنْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ اُخْتُصَّ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَعَظِيمِ قَدْرِهَا الْمَشْهُورِ الْمَعْرُوفِ، وَأَنَّ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ عَلَى الرَّاجِحِ، وَأَنَّ قِيَامَهَا يَعْدِلُ عِبَادَةَ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي أَشَقِّ الْعِبَادَاتِ، وَهُوَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى. فَعِلْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ حَصَلَ لَنَا بِإِخْبَارِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفَضِيلَةُ الْأَوْقَاتِ تَلَقَّيْنَاهَا مِنْهُ وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَشَهْرُ رَبِيعٍ وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَلَيْلَتُهُ عَلِمْنَا فَضْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِظُهُورِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهَا فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُطْبُ دَائِرَةِ الْكَوْنِ وَاَلَّذِي خُلِقَ الْوُجُودُ لِأَجْلِهِ وَاَلَّذِي فُضِّلَتْ الْأَوْقَاتُ بِبَرَكَتِهِ وَاَلَّذِي خُصَّتْ أُمَّتُهُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ أَجْلِهِ وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مَا وَرَدَ مِنْ مُنَاظَرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْن عَيَّاشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ يَقُولُ لَهُ أَأَنْت الْقَائِلُ مَكَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ وَفِيهَا بَيْتُهُ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَلَا فِي بَيْتِهِ شَيْئًا أَأَنْت الْقَائِلُ إلَى آخِرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَمِنْ الْمُنْتَقَى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ لَضَرَبَهُ يُرِيدُ لِأَدَبِهِ عَلَى تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ لِاعْتِقَادِهِ تَفْضِيلَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ، أَوْ هُوَ يَرَى تَرْكَ الْأَخْذِ فِي تَفْضِيلِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ لِمَا شُهِرَ مِنْ أَخْذِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ دُونَ نَكِيرٍ. فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ. وَمِنْ كِتَابِ

مُسْنَدِ مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لِأَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَافِقِيِّ الْجَوْهَرِيِّ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اُفْتُتِحَتْ الْقُرَى بِالسَّيْفِ وَافْتُتِحَتْ الْمَدِينَةُ بِالْقُرْآنِ» وَمِنْهُ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ تَكَلَّمَ مَرْوَانُ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ مَكَّةَ وَأَطْنَبَ فِي ذِكْرِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَدِينَةَ فَقَامَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ فَقَالَ مَالَك يَا هَذَا ذَكَرْت مَكَّةَ فَأَطْنَبْت فِي ذِكْرِهَا وَلَمْ تَذْكُرْ الْمَدِينَةَ وَأَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» انْتَهَى. مَعَ أَنَّهُ قَدْ خَصَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عُمُومَ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَقَالَ إنَّهَا خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ فِي كَثْرَةِ الرِّزْقِ وَبَرَكَةِ الثِّمَارِ، وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَمَعْنَى لَأْوَائِهَا هُوَ الْجُوعُ وَالشِّدَّةُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَبَعِيدٌ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى كَثْرَةِ الثِّمَارِ إذْ هُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُشَرِّعُ وَالْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مُرَادَهُ وَمَا هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ رَبِّهِ وَالْأَعْلَى وَالْأَخَصُّ. وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّصَ عُمُومُ الْحَدِيثِ وَالْمَدِينَةُ قَدْ اشْتَمَلَتْ وَاخْتَصَّتْ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيًّا وَمَيِّتًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ رَزِينٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ الْكُتُبَ الصِّحَاحَ وَذَكَرَ فِي بَابِ فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مَا هَذَا لَفْظُهُ (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ جَالِسًا وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ فَاطَّلَعَ رَجُلٌ فِي الْقَبْرِ فَقَالَ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِئْسَمَا قُلْت. فَقَالَ الرَّجُلُ إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا إنَّمَا أَرَدْت الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِثْلُ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا عَلَى

الْأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا مِنْهَا ثَلَاثًا» انْتَهَى. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَا احْتَوَى عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الْفَوَائِدِ الْجَمَّةِ وَالْأَسْرَارِ الْبَيِّنَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ بِحُلُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا حَصَلَتْ لَهَا هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ الْعُظْمَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَابَ قَوْلَ الْقَائِلِ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ. بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِئْسَمَا قُلْت فَمَفْهُومُهُ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرُ مَضْجَعِ الْمُؤْمِنِ. ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِجَوَابِهِ حِينَ قَالَ الرَّجُلُ إنَّمَا أَرَدْت الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَلَا مِثْلَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] {فَرِحِينَ} [آل عمران: 170] الْآيَةَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَدِدْت أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ» وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ مَشْهُورَةٌ. ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَضَّلَ الدَّفْنَ فِيهَا لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَلِغَيْرِهِ عَلَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْخُصُوصِيَّةِ الْعُظْمَى. هَذَا، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى ظَهْرِهَا فَكَيْفَ بَعْدَ أَنْ حَلَّ فِي جَوْفِهَا {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُحْصَرَ فَضِيلَةُ ذَلِكَ وَلَا يُقَدَّرُ قَدْرُهَا. وَمِنْ الْمُوَطَّأِ أَنَّ مَوْلَاةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَتْهُ فِي الْفِتْنَةِ فَقَالَتْ إنِّي أَرَدْت الْخُرُوجَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ اُقْعُدِي لَكَاعِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» انْتَهَى. قَالَ الْبَاجِيُّ قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ هُوَ شَكٌّ مِنْ الْمُحَدِّثِ وَلَأْوَاؤُهَا هُوَ الْجُوعُ وَالشِّدَّةُ وَتَعَذُّرُ الْكَسْبِ وَالشِّدَّةُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا اللَّأْوَاءَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا كُلَّ مَا يَشْتَدُّ بِسَاكِنِهَا وَتَعْظُمُ مَضَرَّتُهُ وَقَوْلُهُ شَفِيعًا الشَّفَاعَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ عِنْدَ كَثِيرٍ

مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهِيَ شَفَاعَةٌ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ لِمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَشَفَاعَةٌ فِي الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ خَاصَّةً وَقَوْلُهُ، أَوْ شَهِيدًا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ شَهِيدٌ لَهُ بِالْمَقَامِ الَّذِي فِيهِ الْأَجْرُ وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ لِشَهَادَتِهِ فَضْلًا فِي الْأَجْرِ وَإِحْبَاطًا لِلْوِزْرِ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ سُكْنَاهُ فِي الْمَدِينَةِ وَالْبَقَاءَ بِهَا يَثْبُتُ لَهُ وَيُوجَدُ ثَابِتًا فِي جُمْلَةِ حَسَنَاتِهِ إلَّا أَنَّ شَهَادَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زِيَادَةٌ فِي الْأَجْرِ. وَكَذَلِكَ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلَى أُحُدٍ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ فَضِيلَةَ اسْتِيطَانِ الْمَدِينَةِ وَالْبَقَاءِ بِهَا بَاقِيَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى، وَهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِمَّا جَاءَ فِي الصَّائِمِ مِنْ قَوْله تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَإِذَا كَانَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ الْمُجَازِي عَلَيْهِ فَلَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْعُقُولُ وَفِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ شَبَهٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِحُلُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْبَلَدِ عَمَّتْ بَرَكَتُهُ لِجَمِيعِ مَنْ دُفِنَ فِيهَا وَمَنْ لَمْ يُدْفَنْ فَبَرَكَتُهُ لِلْأَحْيَاءِ مَعْلُومَةٌ وَكَذَلِكَ لِلْأَمْوَاتِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا» فَلَمْ يَكْتَفِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي فَضِيلَتِهَا بِمَا بَيَّنَهُ وَصَرَّحَ بِهِ أَوَّلَ الْحَدِيثِ حَتَّى قَالَ «مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا مِنْهَا ثَلَاثًا» انْتَهَى. وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي الْمَدِينَةِ كُلِّهَا. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى بَعْضِ سِرِّ تَكْرَارِهِ ذَلِكَ ثَلَاثًا إذْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ مِنْ عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَلْقَى أَمْرًا لَهُ خَطَرٌ وَبَالٌ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْمَدِينَةِ وَمَا قَارَبَهَا وَمَا خَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ الْعَمِيمَةِ وَالْبَرَكَاتِ الشَّامِلَةِ الْعَظِيمَةِ إذْ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعُزَيْرِ حَاكِيًا عَنْ حَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] فَمَا يَفْضُلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَعْظُمُهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ رَبِّهِ

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَيُّ بَلَدٍ وَأَيُّ بُقْعَةٍ تَصِلُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ. وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَالتَّقْرِيبِ فِيهِ وَالْقَاضِي فِي الْمَعُونَةِ وَتَدَاخُلُ كَلَامِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ يَحْرُسُونَهَا لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ» وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا» وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ. وَأَوْضَحُهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَأَنَا أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاك إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ» وَدُعَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ دُعَاءِ إبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّ فَضْلَ الدُّعَاءِ عَلَى قَدْرِ فَضْلِ الدَّاعِي. وَمِنْهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا لَنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُحَبِّبَ إلَيْهِ الْأَدْوَنَ عَلَى الْأَعْلَى. وَمِنْهَا مَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَتَّى قَالَ عُمَرُ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ يُخَاطِبُهُ أَأَنْت الْقَائِلُ مَكَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ ثَلَاثًا وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إلَّا أَبْدَلَهَا اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ» وَمِنْهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُمِرْت بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ تَأْكُلُ الْقُرَى إلَّا رُجْحَانُ فَضْلِهَا عَلَيْهَا وَزِيَادَتُهَا عَلَى غَيْرِهَا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» وَتَخْصِيصُهُ إيَّاهَا بِذَلِكَ لِفَضْلِهَا عَلَى جَمِيعِ الْبِقَاعِ الَّتِي لَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْلُوقٌ مِنْهَا، وَهُوَ خَيْرُ الْبَشَرِ فَتُرْبَتُهُ أَفْضَلُ التُّرَبِ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْهِجْرَةِ إلَيْهَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمُقَامِ بِهَا طَاعَةً وَقُرْبَةً وَالْمُقَامُ بِغَيْرِهَا ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى فَضْلِهَا

عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ انْتَهَى كَلَامُهُمَا. فَلَمَّا أَنْ عُلِمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَى رَبِّهِ هَذِهِ الْبُقْعَةُ أَحَبَّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا إذْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُعْلَمْ لَهُ شَيْءٌ قَطُّ يُفَضِّلُهُ لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بَلْ بِحَسَبِ مَا فَضَّلَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَوَابًا لِنِسَائِهِ حِينَ تَكَلَّمْنَ مَعَهُ فِي تَفْضِيلِهِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَيْهِنَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - فَأَجَابَهُنَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ «إنَّهُ لَمْ يُوحَ إلَيَّ فِي فِرَاشِ إحْدَاكُنَّ إلَّا فِي فِرَاشِهَا» . فَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُفَضِّلُ الْأَشْيَاءَ بِحَسَبِ مَا فَضَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا التَّنْبِيهُ كَافٍ. وَمَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ «، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ بِدُونِ الْأَلْفِ، وَأَنَّهَا تَفْضُلُ غَيْرَهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ بِالْأَلْفِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ» لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ. وَبِقَوْلِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مَكَّةُ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَاضِلَةً فِي نَفْسِهَا فَإِذَنْ فَضَلَتْهَا الْمَدِينَةُ. وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ وَكَفَى بِهَا مِنْ الْفَضِيلَةِ أَنَّهَا مَطْلَعُ شَمْسِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفِيهَا نُبِّئَ وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ وَمِنْهَا أُسْرِيَ بِهِ إلَى قَابِ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّتْ بِهِ فَحَصَلَتْ لَهَا الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. لَكِنْ جَرَتْ حِكْمَةُ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ جَعَلَ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَتْبُوعًا، وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تَتَشَرَّفُ بِهِ وَيَعْلُو قَدْرُهَا وَفَضْلُهَا بِسَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَوْ أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ وَظَهَرَ أَمْرُهُ بِهَا حَتَّى انْتَقَلَ مِنْهَا إلَى رَبِّهِ لَكَانَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ تَشَرَّفَ بِمَكَّةَ فَكَانَ انْتِقَالُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْمَدِينَةِ لِيَخُصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِبَلَدٍ وَحْدَهُ وَحَرَمٍ أَوْ مَسْجِدٍ وَرَوْضَةٍ وَوُفُودٍ تَسِيرُ إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْفَرْضِ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِسْلَامُ إلَّا بِهِ، وَهُوَ

شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَوْ اقْتَصَرَ أَحَدٌ عَلَى الشَّهَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يُقِرَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالرِّسَالَةِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ إسْلَامٌ وَلَا إيمَانٌ فَلَمْ يَصِحَّ التَّوْحِيدُ إلَّا مَعَ الْإِقْرَارِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالرِّسَالَةِ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَفَضَّلَهَا بِذَلِكَ جَعَلَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَابِلَتَهَا فَالْوُفُودُ تَسِيرُ مِنْ كُلِّ الْآفَاقِ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَكَذَلِكَ تَسِيرُ إلَى زِيَارَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَمَّا أَنْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْبَيْتَ الْعَتِيقَ حَرَمًا جَعَلَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَمًا يُقَابِلُهُ. وَلَمَّا أَنْ جَعَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَهُ فَضِيلَةً فِي الصَّلَاةِ فِيهِ جَعَلَ مَسْجِدَ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَذَلِكَ فِي تَضْعِيفِ الْأُجُورِ وَلَمَّا أَنْ كَانَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَشْهَدُ لِلَامِسِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا شَهِدَ لِلَامِسِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ جَعَلَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُقَابَلَتِهِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْمَعُونَةِ لَهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ خَصَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فِيهَا لِفَضْلِهِ عَلَى بَقِيَّتِهَا فَكَانَ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى فَضْلِهَا عَلَى سِوَاهَا أَوْلَى انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَلْ هِيَ بِنَفْسِهَا فِي الْجَنَّةِ أَوْ الْعَمَلُ فِيهَا يُوجِبُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ خَرَّجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ أَلْفِ صَلَاةٍ وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلَاةٍ وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلَاةٍ» قَالَ وَلَا نَعْلَمُ هَذَا الْحَدِيثَ يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَعَالَى قَاعِدَةُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِنْ عَارَضَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ إلَّا لِأَمْرٍ أَوْجَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَكَانَ الْعَمَلُ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ كَالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُخْرِجْهُ مَنْ اشْتَرَطَ

الصِّحَّةَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالرُّجُوعُ إلَى الْعَمَلِ أَرْجَحُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ شَرَعَ الْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَلَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلَا فَرْقَ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِعَدَمِ الْجَزَاءِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَخْبَرَهُمْ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ عَمَلًا؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَمَلِ قَدْ يَقَعُ بَعْضُهُمْ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ فِي تَرْكِهِ فَيَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى الْخُسْرَانِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فَرَفَعَ عَنْهُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ التَّقْصِيرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ حَتَّى رَدَّ الْخَمْسِينَ إلَى خَمْسٍ بِبَرَكَةِ شَفَاعَتِهِ وَشَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَسُؤَالِهِ فِي الرِّفْقِ بِهِمْ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَالْوُفُودُ تَسِيرُ إلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ بِخِلَافِ زِيَارَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَنْظُرُ أَبَدًا مَا فِيهِ الْأَفْضَلُ لِأُمَّتِهِ فَيُرْشِدُهُمْ إلَيْهِ وَمَا كَانَ فِيهِ تَكْلِيفٌ يَرْفَعُهُ عَنْهُمْ مُكْتَفِيًا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ فَتَجِدُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي كُلِّ مَا يَخُصُّ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ يُخَفِّفُهُ عَنْ أُمَّتِهِ. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ بَرَكَاتِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ عَلَى رَبِّهِ وَشُمُولِ عِنَايَتِهِ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذُكِرَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى: 4] فَكُلُّ مَقَامٍ، أَوْ مَكَان أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أُقِيمَ فِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فِي الْفَضِيلَةِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا يَشُكُّ وَلَا يُرْتَابُ أَنَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ انْتِقَالِهِ إلَى رَبِّهِ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِهِ وَأَتَمِّهَا إذْ هُوَ الْخِتَامُ وَالْخِتَامُ يَكُونُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ وَأَعْظَمَ مِنْهُ فَلَئِنْ كَانَتْ مَكَّةُ مَوْضِعَ شَمْسٍ مَشْرِقِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَالْمَدِينَةُ مَوْضِعُ شَمْسِ مَغْرِبِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفِيهَا حَلَّ وَأَقَامَ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْإِيمَانُ يَأْرِزُ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ»

يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا بَيْنَ مَطْلِعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَغْرِبِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِثْلُهُ أَعْنِي بِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ وَمَا وَقَعَ فِي شَهْرِ مَوْلِدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ إخْمَادِ نَارِ فَارِسَ وَانْشِقَاقِ إيوَانِ كِسْرَى وَمَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنْ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَنُزُولِ إبْلِيسَ وَجُنُودِهِ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ لَاكْتَفَى فِي فَضِيلَتِهِ بِوُجُودِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] وَمَعْنَى لَعَمْرُكَ لَحَيَاتُكَ فَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِمَخْلُوقٍ إلَّا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ تَعَالَى {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 2] قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لَا بِمَعْنَى التَّأْكِيدِ. وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنَّمَا تَكُونُ لَا لِلتَّأْكِيدِ إذَا عُدِمَتْ الْفَائِدَةُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا لَفْظَةُ لَا وَالْفَائِدَةُ مَوْجُودَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] مَعْنَاهُ أَيُّ قَدْرٍ وَأَيُّ خَطَرٍ لِهَذَا الْبَلَدِ حَتَّى يُقْسَمَ بِهِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهِ، وَإِنَّمَا الْقَدْرُ وَالْخَطَرُ لَكَ فَأَنْتَ الَّذِي يُقْسَمُ بِكَ لِعَظِيمِ جَاهِكَ وَحُرْمَتِكَ عِنْدَنَا. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى سِرِّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إذْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَلَدِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَكَّةُ اتِّفَاقًا، وَمَكَّةُ قَدْ تَظَافَرَتْ النُّصُوصُ عَلَى تَفْضِيلِهَا. فَإِذَا كَانَتْ مَكَّةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ الْفَضِيلَةِ الْعُظْمَى وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقْسِمُ بِهَا مَعَ وُجُودِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهَا إذْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَالشَّمْسِ لَا تَظْهَرُ الْكَوَاكِبُ مَعَهَا بَلْ هُوَ الَّذِي كُسِيَتْ الْأَكْوَانُ مِنْ بِهَاءِ نُورِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ مَنْ مَدَحَهُ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ الْجَمِيلَةِ حَيْثُ يَقُولُ إلَى الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ أَحْمَدُ قَدْ دَنَا ... وَنُورُهُمَا مِنْ نُورِهِ يَتَلَأْلَأُ

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَوْضِعُ مَقَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَائِمًا لَا يُوَازِيهِ غَيْرُهُ وَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ الْأَدِلَّةُ بِالْفَضِيلَةِ الْعُظْمَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَمَا شَابَهَهُ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ فَاضِلٌ وَبَيْنَ مَا هُوَ أَفْضَلُ فَإِنَّك إذَا قُلْت مَثَلًا الشَّمْسُ أَكْثَرُ ضَوْءًا مِنْ الْبَدْرِ السَّالِمِ مِنْ كُلِّ مَا يَعْتَرِيهِ فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ إذْ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ شَارَكَهَا الْبَدْرُ فِي بَعْضِ الضِّيَاءِ لَكِنْ لِلشَّمْسِ زِيَادَةُ ضِيَاءٍ أَضْعَافُ ذَلِكَ فَظَهَرَتْ فَضِيلَةُ الشَّمْسِ عَلَى الْبَدْرِ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ وَإِذَا فَضَلَتْ عَلَى الْبَدْرِ فَعَلَى غَيْرِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَالْبَدْرُ يَفْضُلُ عَلَى مَا دُونَهُ فِي الضِّيَاءِ وَالْجُرْمِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْمَدِينَةُ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ مُقَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيًّا وَمَيِّتًا الَّتِي قَدْ خُصَّتْ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَكْرَمُ مِنْ غَيْرِهَا بِوُجُودِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَكَّةَ مَعَ عَظِيمِ قَدْرِهَا لَمْ يُقْسِمْ بِهَا لِأَجْلِ حُلُولِهِ إذْ ذَاكَ بِهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَفْضُلَ مَوْضِعًا حَلَّ فِيهِ وَأَقَامَ بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا فَكَيْفَ يَفْضُلُهُ غَيْرُهُ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ فِي وُجُودِ الْفَضِيلَةِ إذْ لَا فَرْقَ فِي الِاحْتِرَامِ لِرَفِيعِ جَنَابِهِ الْعَزِيزِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْنَ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ. وَقَدْ رَأَيْت لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ مِنْ فَضَائِلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ نَبِيٍّ دُفِنَ إلَّا وَقَدْ رُفِعَ بَعْدَ ثَلَاثٍ غَيْرِي فَإِنِّي سَأَلْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ مَاتَ بِأَحَدِ الْحَرَمَيْنِ كُنْت لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَسَوَّى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْنَهُمَا فِي الشَّفَاعَةِ لَهُمْ ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَصَّصَ الْمَدِينَةَ بِالذِّكْرِ وَحَضَّ عَلَى مُحَاوَلَةِ ذَلِكَ بِالِاسْتِطَاعَةِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا» وَالِاسْتِطَاعَةُ هِيَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي ذَلِكَ فَزِيَادَةُ عِنَايَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِإِفْرَادِ الْمَدِينَةِ بِالذِّكْرِ دَلِيلٌ عَلَى تَمْيِيزِهَا. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

«حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ» فَجَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ كِلَيْهِمَا سِيَّانِ فِي الْفَضِيلَةِ فِي تَعَدِّي نَفْعِهِ وَبَرَكَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأُمَّتِهِ أَوَّلِهَا وَوَسَطِهَا وَآخِرِهَا فَنَصَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى عُمُومِ نَفْعِهِ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا. كَيْفَ لَا، وَهُوَ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَسَيِّدُ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى وَكَانَ مِنْ رَبِّهِ فِي الْقُرْبِ وَالتَّدَانِي مَعَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ كَقَابَ قَوْسَيْنِ، أَوْ أَدْنَى. ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَعْنَى كَلَامِ سَيِّدِي الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ ثُمَّ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبِأُمَّتِهِ فَقَالَ تَعَالَى {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3] ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ فِي حَقِيقَةِ الْمَعْنَى هُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأُمَّتُهُ أَوْلَادُهُ. إذْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ سَبَبًا لِلْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ السَّرْمَدِيَّةِ وَالْخُلُودِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَسَلَامَتِهِمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ الْعَظِيمِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَثَابَةِ الْوَالِدِ» انْتَهَى، وَهَذَا ظَاهِرٌ قَالَ تَعَالَى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] فَحَقُّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْظَمُ مِنْ حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» فَقَدَّمَ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَدَّمَهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِ كُلِّ مُؤْمِنٍ. وَمَعْنَى ذَلِكَ إذَا تَعَارَضَ لَهُ حَقَّانِ حَقٌّ لِنَفْسِهِ وَحَقٌّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَآكَدُهُمَا عَلَيْهِ وَأَوْجَبُ. حَقُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَجْعَلُ حَقَّ نَفْسِهِ تَبَعًا لِلْحَقِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ كَذَلِكَ فِي تَتَبُّعِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ. وَإِذَا تَأَمَّلْت الْأَمْرَ فِي الشَّاهِدِ وَجَدْت نَفْعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَك أَعْظَمَ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ إذْ أَنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ وَجَدَك غَرِيقًا فِي بِحَارِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا الْمُوجِبَةِ لِغَضَبِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَنْقَذَك وَأَنْقَذَ آبَاءَك وَأَبْنَاءَك وَمَنْ مَشَى عَلَى مَشْيِك، وَغَايَةُ أَمْرِ أَبَوَيْك أَنَّهُمَا أَوْجَدَاك فِي الْحِسِّ فَكَانَا سَبَبًا لِإِخْرَاجِك إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ وَمَحَلِّ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ فَأَوَّلُ ذَنْبٍ يُوقِعُهُ الْمَرْءُ فِيهَا اسْتَحَقَّ بِهِ النَّارَ وَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ

فِي الْمَشِيئَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَخَذَ بِالْعَدْلِ وَإِنْ شَاءَ عَفَا بِالْفَضْلِ. فَبِبَرَكَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ أَنْقَذَك اللَّهُ الْكَرِيمُ مِمَّا قَدْ كَانَ حَلَّ بِك وَنَزَلَ بِسَاحَتِك مِمَّا لَا طَاقَةَ لَك بِهِ فَتَنَبَّهْ لِعَظِيمِ قَدْرِهِ وَرَفِيعِ مِقْدَارِهِ عِنْدَ رَبِّهِ وَعَظِيمِ إحْسَانِهِ وَجُودِهِ عَلَيْك قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَتِهِ: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ» انْتَهَى فَخَيْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ بَيِّنٌ جِدًّا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَآهُ، أَوْ أَدْرَكَهُ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ أَبَدًا فِي فَضِيلَةِ مَزِيَّةِ رُؤْيَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَوُقُوعِ ذَلِكَ النَّظَرِ الْكَرِيمِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَوْتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلِأَنَّ أَعْمَالَ أُمَّتِهِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَقَارِبِ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَمَا رَآهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْأَعْمَالِ حَسَنًا سُرَّ بِهِ وَدَعَا لِصَاحِبِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ اسْتَغْفَرَ لِصَاحِبِهِ، وَهَذَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زِيَادَةٌ فِي التَّلَطُّفِ بِك وَالْإِحْسَانِ إلَيْك بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فَإِنَّهُمْ يُسَرُّونَ، أَوْ يَحْزَنُونَ لَيْسَ إلَّا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. اللَّهُمَّ بِحُرْمَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَك عَرِّفْنَا قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي مَنَنْت عَلَيْنَا بِدَوَامِهَا وَلَا تُعَرِّفْهَا لَنَا بِزَوَالِهَا عَنَّا إنَّك وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ آمِينَ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ ابْنُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ ابْنِ الشَّيْخِ أَبِي مَرْوَانَ عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَكْرِيِّ عُرِفَ بِابْنِ السَّمَّاطِ، وَهُوَ أَخُو الشَّيْخِ الْأَجَلِّ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السِّمَاطِ شَيْخِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ مِنْ الْأَكَابِرِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ

أَعَلِمْت أَنَّك يَا رَبِيعَ الْأَوَّلِ ... تَاجٌ عَلَى هَامِ الزَّمَانِ مُكَلَّلُ مُسْتَعْذَبُ الْإِلْمَامِ مُرْتَقَبُ اللِّقَا ... كُلُّ الْفَضَائِلِ حِينَ تُقْبِلُ تُقْبِلُ مَا عُدْت إلَّا كُنْت عِيدًا ثَالِثًا ... بَلْ أَنْتَ أَحْلَى فِي الْعُيُونِ وَأَجْمَلُ شَرَفًا بِمَوْلِدِ مُصْطَفًى لَمَّا ... بَدَا أَخْفَى الْأَهِلَّةَ وَجْهُهُ الْمُتَهَلِّلُ وَحَوَيْت مَنْ أَصْبَحْت ظَرْفَ زَمَانِهِ ... ظَرْفًا بِهِ فِي بُرْدِ حُسْنِك تَرْفُلُ وَمَلَكْت أَنْفُسَهَا بِلُطْفِ شَمَائِلَ ... بِنَسِيمِهَا نَفْسُ الْعَلِيلِ تُعَلَّلُ وَإِذَا حَدَا الْحَادِي بِمَنْزِلَةِ الْحِمَى ... فَالْقَصْدُ سُكَّانُ الْحِمَى لَا الْمَنْزِلُ فَضْلُ الشُّهُورِ عَلَا فَفَاخَرَهَا فَإِنْ ... فَخَرْت بِأَطْوَلِهَا فَأَنْتَ الْأَطْوَلُ وَاسْتَثْنِ مِنْهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي ... أَثْنَاءَهَا نَزَلَ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ وَاصْغَ لِقَوْلِ اللَّهِ فِيهَا إنَّهَا ... مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فِي الْإِبَانَةِ أَفْضَلُ وَاسْتَكْمِلْ الْبُشْرَى فَإِنَّك لَمْ تَزَلْ ... لَك فِي الْقُلُوبِ مَكَانَةٌ لَا تُجْهَلُ لِمَ لَا وَعَشْرُك وَاثْنَتَاك أَرَيْنَنَا ... قَمَرًا بِهِ شَمْسُ الضُّحَى لَا تُعْدَلُ وَمِنْ الْعَجَائِبِ أَنَّ بَدْرًا يَسْتَوِي ... لِتَمَامِ عَشْرٍ وَاثْنَتَيْنِ وَيَكْمُلُ وَيَفُوقُ أَقْمَارَ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا ... لِلنَّقْصِ مِنْ بَعْدِ الزِّيَادَةِ تُنْقَلُ وَكَمَالُ هَذَا الْبَدْرِ لَا يُعْزَى إلَى ... نَقْصٍ وَلَا عَنْ حَالِهِ يَتَحَوَّلُ بَلْ نُورُهُ يَزْدَادُ ضَعْفًا كُلَّمَا ... طَفِقَ الْمَحَاقُ سَنَا الْبُدُورِ يُبَدَّلُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَهَذَا الشَّهْرُ لَمْ نَجِدْ فِيهِ زِيَادَةً فِي الْأَعْمَالِ كَمَا نَجِدُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ وَاللَّيَالِيِ وَالْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ تِلْكَ الْأَزْمِنَةَ حَصَلَتْ لَهَا الْفَضِيلَةُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ فِيهَا، وَهَذَا الشَّهْرُ حَصَلَ لَهُ التَّشْرِيفُ بِظُهُورِ مَنْ جَاءَتْ الْأَعْمَالُ وَالْخَيْرَاتُ الَّتِي حَصَلَتْ بِهَا الْفَضِيلَةُ لَتِلْكَ الْأَوْقَاتِ عَلَى يَدَيْهِ وَبِسَبَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ. وَوَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حَيْثُ يَقُولُ فِي صِفَتِهِ {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] فَكَانَ دَأْبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ التَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ مَهْمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَوَجَدَ السَّبِيلَ إلَيْهِ فَعَلَهُ فَلَمَّا أَنْ كَانَ هَذَا الشَّهْرُ اُخْتُصَّ بِظُهُورِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ لَمْ يُكَلِّفْ أُمَّتَهُ زِيَادَةَ عَمَلٍ فِيهِ بَلْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْآفَاقِ

فصل المرتبة الثالثة في ذكر بعض مواسم أهل الكتاب

قَدْ حَرُمَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْحَاجَّ ضَيْفُ اللَّهِ تَعَالَى فَوَقَعَتْ الضِّيَافَةُ لِأَهْلِ الْأَقَالِيمِ كُلِّهَا كَرَامَةً لَهُمْ فَكَيْفَ بِالزَّمَنِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ مَنْ شُرِعَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُخَاطِبُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَوْلَا أَنْتَ مَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا وَلَا حَجَجْنَا بَيْتَ رَبِّنَا انْتَهَى فَكَانَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ غَالِبًا وَعَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّ أُمَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ فِي ضِيَافَةِ وُجُودِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَمَّا أَنْ كَانَ تَحْرِيمُ الصَّوْمِ عَلَى أَهْلِ الْآفَاقِ كَرَامَةً لِلْحُجَّاجِ الَّذِينَ هُمْ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الْخَلِيلِ وَوَلَدِهِ الْكَرِيمِ إسْمَاعِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَلَمَّا أَنْ كَانَ شَهْرُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْوُجُودِ. كَانَتْ الضِّيَافَةُ الشَّهْرَ كُلَّهُ لَكِنْ تَرَكَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُمَّتَهُ رَحْمَةً بِهِمْ فِي عَدَمِ التَّكْلِيفِ لَهُمْ بِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ وَالْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ خُصُوصًا لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا سَبَقَ وَشَأْنُ الرَّحْمَةِ التَّوَسُّعَةُ أَلَا تَرَى إلَى عَدَمِ وُجُوبِ جَزَاءِ الصَّيْدِ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فَلْيَفْهَمْ مَنْ يَفْهَمُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ [فَصَلِّ المرتبة الثَّالِثَةُ فِي ذِكْر بَعْض مَوَاسِم أَهْل الْكتاب] [مِنْ المواسم يَوْم النيروز] (فَصَلِّ) فِي ذِكْر بَعْض مَوَاسِم أَهْل الْكتاب فَهَذَا بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَوَاسِمِ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَوَاسِمِ الَّتِي اعْتَادَهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَوَاسِمُ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَتَشَبَّهَ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ بِهِمْ فِيهَا وَشَارَكُوهُمْ فِي تَعْظِيمِهَا يَا لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ خُصُوصًا وَلَكِنَّك تَرَى بَعْضَ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ وَيُعِينُهُمْ عَلَيْهِ وَيُعْجِبُهُ مِنْهُمْ وَيُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ بِتَوْسِعَةِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى زَعْمِهِ بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ يُهَادُونَ

بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوَاسِمِهِمْ وَيُرْسِلُونَ إلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَهُ لِمَوَاسِمِهِمْ فَيَسْتَعِينُونَ بِذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ كُفْرِهِمْ وَيُرْسِلُ بَعْضُهُمْ الْخِرْفَانَ وَبَعْضُهُمْ الْبِطِّيخَ الْأَخْضَرَ وَبَعْضُهُمْ الْبَلَحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي وَقْتِهِمْ وَقَدْ يَجْمَعُ ذَلِكَ أَكْثَرُهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ. وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ أَشْهَبُ قِيلَ لِمَالِكٍ أَتَرَى بَأْسًا أَنْ يُهْدِيَ الرَّجُلُ لِجَارِهِ النَّصْرَانِيِّ مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى هَدِيَّةٍ أَهْدَاهَا إلَيْهِ قَالَ مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] الْآيَةَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلُهُ مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى هَدِيَّةٍ أَهْدَاهَا إلَيْهِ إذْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ هَدِيَّةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهَدَايَا التَّوَدُّدُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ» ، فَإِنْ أَخْطَأَ وَقَبِلَ مِنْهُ هَدِيَّتَهُ وَفَاتَتْ عِنْدَهُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهَا حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ فَضْلٌ فِي مَعْرُوفٍ صَنَعَهُ مَعَهُ. وَسُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ مُؤَاكَلَةِ النَّصْرَانِيِّ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ قَالَ تَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ وَلَا يُصَادِقُ نَصْرَانِيًّا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَجْهُ فِي كَرَاهَةِ مُصَادَقَةِ النَّصْرَانِيِّ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ. فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُبْغِضَ فِي اللَّهِ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ وَيَجْعَلُ مَعَهُ إلَهًا غَيْرَهُ وَيُكَذِّبُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمُؤَاكَلَتُهُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ تَقْتَضِي الْأُلْفَةَ بَيْنَهُمَا وَالْمَوَدَّةَ فَهِيَ تُكْرَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ عَلِمْت طَهَارَةَ يَدِهِ. وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الرُّكُوبِ فِي السُّفُنِ الَّتِي يَرْكَبُ فِيهَا النَّصَارَى لِأَعْيَادِهِمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ مَخَافَةَ نُزُولِ السُّخْطِ عَلَيْهِمْ لِكُفْرِهِمْ الَّذِي اجْتَمَعُوا لَهُ. قَالَ وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُهْدِيَ إلَى النَّصْرَانِيِّ فِي عِيدِهِ مُكَافَأَةً لَهُ. وَرَآهُ مِنْ تَعْظِيمِ عِيدِهِ وَعَوْنًا لَهُ عَلَى مَصْلَحَةِ كُفْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّصَارَى شَيْئًا مِنْ مَصْلَحَةِ عِيدِهِمْ لَا لَحْمًا وَلَا إدَامًا وَلَا ثَوْبًا وَلَا يُعَارُونَ دَابَّةً وَلَا يُعَانُونَ

عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّعْظِيمِ لِشِرْكِهِمْ وَعَوْنِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ انْتَهَى. وَيُمْنَعُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَمَعْنَى ذَلِكَ تَنْفِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُوَافَقَةِ الْكُفَّارِ فِي كُلِّ مَا اخْتَصُّوا بِهِ. وَقَدْ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَكْرَهُ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ حَتَّى قَالَتْ الْيَهُودُ إنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أَنْ لَا يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ. وَقَدْ جَمَعَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيمَا ذُكِرَ وَالْإِعَانَةِ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَيَزْدَادُونَ بِهِ طُغْيَانًا إذْ أَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ يُوَافِقُونَهُمْ أَوْ يُسَاعِدُونَهُمْ، أَوْ هُمَا مَعًا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِغِبْطَتِهِمْ بِدِينِهِمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَكَثُرَ هَذَا بَيْنَهُمْ. أَعْنِي الْمُهَادَاةَ حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيُهَادُونَ بِبَعْضِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي مَوَاسِمِهِمْ لِبَعْضِ مَنْ لَهُ رِيَاسَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيَشْكُرُونَهُمْ وَيُكَافِئُونَهُمْ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَغْتَبِطُونَ بِدِينِهِمْ وَيُسَرُّونَ عِنْدَ قَبُولِ الْمُسْلِمِ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ صُوَرٍ وَزَخَارِفَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ أَرْبَابَ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَالْمُشَارُ إلَيْهِمْ فِي الدِّينِ وَتَعَدَّى هَذَا السُّمُّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَسَرَى فِيهِمْ فَعَظَّمُوا مَوَاسِمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَكَلَّفُوا فِيهَا النَّفَقَةَ. وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ فَيُكَلِّفُهُ أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَدَايَنَ لِفِعْلِهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَفْعَلُ إلَّا ضَحِيَّةً لِجَهْلِهِ وَجَهْلِ أَهْلِهِ بِفَضِيلَتِهَا، أَوْ قِلَّةِ مَا بِيَدِهِ فَلَا يَتَكَلَّفُ هُوَ وَلَا هُمْ يُكَلِّفُونَهُ ذَلِكَ. مَعَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَالُوا يَتَدَايَنُ لِلْأُضْحِيَّةِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ بَاعَ أَحَدَهُمَا وَأَخَذَ بِهِ الْأُضْحِيَّةَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ لِتَأْكِيدِ أَمْرِهَا فِي الشَّرْعِ. فَأَوَّلُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ اتَّخَذُوا طَعَامًا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ فَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي فِعْلِ النَّيْرُوزِ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ التَّشْوِيشِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الزَّلَابِيَةِ وَالْهَرِيسَةِ وَغَيْرِهِمَا

كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالصَّانِعِ يَبِيتُ عِنْدَهُ فَيَقْلِيهَا لَيْلًا حَتَّى لَا تَطْلُعَ الشَّمْسُ إلَّا وَهِيَ مُتَيَسِّرَةٌ فَيُرْسِلُونَ مِنْهَا لِمَنْ يَخْتَارُونَ وَيَجْمَعُونَ الْأَقَارِبَ وَالْأَصْحَابَ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ عِيدٌ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ يَأْكُلُونَ فِيهِ الْبِطِّيخَ الْأَخْضَرَ وَالْخَوْخَ وَالْبَلَحَ إذَا وَجَدُوهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُلْزِمُهُ النِّسَاءُ لِأَزْوَاجِهِنَّ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ اكْتَسَبْنَ ذَلِكَ مِنْ مُجَاوَرَةِ الْقِبْطِ وَمُخَالَطَتِهِنَّ بِهِمْ فَأَنِسْنَ بِعَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ. ثُمَّ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَفْعَالًا قَبِيحَةً مُسْتَهْجَنَةً شَرْعًا وَطَبْعًا. فَمِنْ ذَلِكَ مُضَارَبَتُهُمْ بِالْجُلُودِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ أَكْلِهِمْ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ. فَبَعْضُ مَنْ لَهُ رِيَاسَةٌ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي بُيُوتِهِمْ، أَوْ فِي بَسَاتِينِهِمْ. وَبَعْضُ مَنْ لَا يَسْتَحْيِ، أَوْ لَيْسَ لَهُ رِيَاسَةٌ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الطُّرُقِ وَالْأَزِقَّةِ وَالْأَسْوَاقِ وَعَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْمُرُورِ فِيهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَلْ صَارَ ذَلِكَ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَهُمْ حَتَّى إنَّ الْوَالِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يَحْكُمُ لِأَحَدٍ مِمَّنْ زَهَقَتْ نَفْسُهُ بِضَرْبِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَوْ سُلِبَ مَا مَعَهُ كَأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُمْ فِيهِ نَهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِبَاحَةُ دِمَائِهِمْ أَعْنِي مَنْ وَجَدُوهُ فِي غَيْرِ بَيْتِهِ. وَهَذَا الْيَوْمُ شَبِيهٌ بِمَا يَفْعَلُونَهُ فِي يَوْمِ كَسْرِ الْخَلِيجِ وَهُمَا خَصْلَتَانِ مِنْ خِصَالِ فِرْعَوْنَ بَقِيَتَا فِي آلِهِ وَهُمْ الْقِبْطُ فَسَرَى ذَلِكَ مِنْهُمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ جَرَّ ذَلِكَ إلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ السَّفَلَةِ إذَا كَانَ لَهُ عَدُوٌّ يُخَبِّئُ لَهُ ذَلِكَ لِأَحَدِ الْيَوْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَيَأْخُذُ جِلْدَةً، أَوْ غَيْرَهَا فَيَجْعَلُ فِيهَا حَجَرًا، أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُمْكِنُ الْقَتْلُ بِهِ فَيَضْرِبُ بِهِ عَدُوَّهُ عَلَى جِهَةِ اللَّعِبِ فَيَهْلِكُ فَيَذْهَبُ دَمُهُ هَدَرًا لَا يُؤْخَذُ لَهُ بِثَأْرٍ لِأَجْلِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ وَلَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي عَامَّةِ النَّاسِ بَلْ سَرَى ذَلِكَ إلَى بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فَتَرَى الْمَدَارِسَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا تُؤْخَذُ فِيهَا الدُّرُوسُ أَلْبَتَّةَ. وَلَا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَسْأَلَةٍ بَلْ تَجِدُ بَعْضَ الْمَدَارِسِ مُغْلَقَةً فَيَلْعَبُونَ فِيهَا حَتَّى لَوْ جَاءَهُمْ الْمُدَرِّسُ، أَوْ غَيْرُهُ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَأَسَاءُوا الْأَدَبَ فِي حَقِّهِ وَرُبَّمَا أَخْرَقُوا الْحُرْمَةَ وَأَلْقَوْهُ فِي الْفَسْقِيَّةِ

أَوْ قَارَبُوا ذَلِكَ، أَوْ صَالَحَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِخْرَاقِ بِهِ بِدَرَاهِمَ يَأْخُذُونَهَا مِنْهُ تَقْرُبُ مِنْ الْغَصْبِ الَّذِي يَبْحَثُونَ فِيهِ فِي مَجَالِسِهِمْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إجْمَاعًا فَيَأْكُلُونَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَرْعَ، وَهَذِهِ خِصَالٌ مُسْتَهْجَنَةٌ مِنْ الْعَوَامّ فَكَيْفَ يَفْعَلُهَا مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ، أَوْ مَنْ يَزْعُمُ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمُشَارَ إلَيْهِ حَصَلَتْ لَهُ غَيْرَةُ أَهْلِ الدِّينِ كَمَا يَزْعُمُ لَغَيَّرَ عَلَيْهِمْ مَا فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَزَجَرَهُمْ عَنْهُ إذْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ مَا فَلَوْ قَالَ امْنَعُوا هَذَا أَنْ يَدْخُلَ الْمَدْرَسَةَ، أَوْ أَخْرِجُوهُ مِنْهَا، أَوْ لَا يَحْضُرُ فِي مَجْلِسِي، أَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمْ مَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّ فِيك قِلَّةَ هَذَا الْأَدَبِ، أَوْ أَنْتُمْ لَا تَتَأَدَّبُونَ بِآدَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْمُرُوءَةِ مِنْ الْعَوَامّ، أَوْ مَنْ لَهُ حَسَبٌ وَنَسَبٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ، أَوْ مِثْلُكُمْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، أَوْ لَا كَثَّرَ اللَّهُ مِنْكُمْ، أَوْ أَدَّبَ بَعْضَ أَكَابِرِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَانْزَجَرَ مَنْ دُونَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَحُسْنِ التَّأَنِّي وَالتَّوَاضُعِ فِي الْعِشْرَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الرِّيَاسَةِ وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَتْ الرِّيَاسَةُ بِمَا تُسَوِّلُ النُّفُوسُ، وَإِنَّمَا هِيَ بِالِاتِّبَاعِ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَآدَابِهَا الْحَسَنَةِ وَأَخْلَاقِهَا الْجَمِيلَةِ. وَلَوْ تَأَمَّلَ هَذَا مَنْ وَقَعَ فِيهِ لَحَقَّ لَهُ الْبُكَاءُ عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنْ قَبِيحِ فِعْلِهِ إذْ أَنَّهُ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ وَالتَّغْيِيرِ، وَهُوَ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْيَدِ لِلْأُمَرَاءِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ وَبِاللِّسَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ وَبِالْقَلْبِ لِلْعَوَامِّ. وَهَذَا قَدْ نَزَلَ عَنْ رُتْبَتِهِ الَّتِي هِيَ التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ بَلْ تَرَكَ رُتْبَةَ الْعَوَامّ الَّتِي هِيَ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ» انْتَهَى. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى بَلِيَّةِ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَقُوَّةِ سَرَيَانِ سُمِّهَا فِي الْقُلُوبِ كَيْفَ أَوْقَعَتْ هَذَا الْعَالِمَ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ الْعَظِيمَةِ فَتَرَكَ التَّغْيِيرَ وَكَانَ سَهْلًا عَلَيْهِ بِأَدْنَى إشَارَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ

وَهَذِهِ خِصَالٌ ذَمِيمَةٌ كَمَا تَرَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعِبُ الْمُؤْمِنِ فِي ثَلَاثٍ» ، وَهَذَا عَرِيَ عَنْهَا كُلِّهَا. ثُمَّ إنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَامّ جَمَعُوا فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مَفَاسِدَ جُمْلَةً مُسْتَهْجَنَةً. فَمِنْهَا إخْرَاقُ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِإِدْخَالِ التَّشْوِيشِ عَلَيْهِمْ وَوُقُوعِ الضَّرَرِ بِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنْ قَضَاءِ ضَرُورَاتِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ سِيَّمَا إنْ كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ مَرِيضٌ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ يُلَاطِفُهُ بِهِ، أَوْ مَيِّتٌ يَحْتَاجُ إلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى تَجْهِيزِهِ، أَوْ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُ عَادَتَهُمْ الذَّمِيمَةَ، أَوْ نَاسٍ لِمَا يُفْعَلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَمَا شَعَرَ بِنَفْسِهِ حَتَّى حَصَلَ بَيْنَهُمْ فَأَوْقَعُوا بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى الْخِصَالِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ لَا يُنْتَجُ مِنْهَا إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْقَبَائِحِ. ثُمَّ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ مَفْسَدَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَأْبَاهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُسْلِمُونَ إحْدَاهُمَا شُرْبُ الْخَمْرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلنَّصَارَى لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُهُ جِهَارًا وَتَعَدَّى ذَلِكَ لِبَعْضِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَبَعْضُهُمْ لَا يَسْتَحْيُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّسَاءِ يَلْعَبْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ مُخْتَلَطِينَ نِسَاءً وَرِجَالًا وَشُبَّانًا وَبَنَاتٍ أَبْكَارًا وَيَبُلُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِذَا ابْتَلَّ ثَوْبُ أَحَدِهِمْ بَقِيَ بَدَنُهُ مُتَّصِفًا يَحْكِي النَّاظِرُ أَكْثَرَهُ فَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى وَلَا يُعَدُّ مِنْ الْقَبَائِحِ الرَّدِيئَةِ. وَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ أَعْظَمُ فَسَادًا وَفِتْنَةً مِمَّا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَوْلِدِ مِمَّا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْمَوْلِدِ يَخْتَلِطُونَ لَكِنْ بِثِيَابِهِمْ مُسْتَتِرِينَ بِخِلَافِ فِعْلِهِمْ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ فَإِنَّهُمْ فِيهِ مُنْهَتِكُونَ؛ لِأَنَّهُمْ نَزَعُوا فِيهِ ثِيَابَهُمْ وَخَلَعُوا فِيهِ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْهُمْ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ عُرْيَانًا عَدَا الْمِئْزَرِ وَآخَرَ عَلَيْهِ خِلْقَةٌ أَوْ قَمِيصٌ رَفِيعٌ لِلْمُحْتَشِمِ أَوْ الْمُحْتَشِمَةِ مِنْهُمْ فَإِذَا أَتَى عَلَيْهِ الْمَاءُ صَارَ كَأَنَّهُ عُرْيَانًا وَالْغَالِبُ مِنْ عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ أَنَّ الْجَارَةَ لَا تَسْتَحِي مِنْ الْجَارِ، وَأَنَّ الشَّابَّ إذَا تَرَبَّى بَيْنَهُنَّ لَا يَسْتَحْيِينَ مِنْهُ وَإِنْ صَارَ رَجُلًا وَلَا يَسْتَحْيِينَ مِنْ ابْنِ الْعَمِّ وَلَا مِمَّنْ شَابَهَهُ مِنْ الْأَقَارِبِ وَكَذَلِكَ أَصْدِقَاءُ الزَّوْجِ وَأَصْدِقَاءُ الْأَبِ وَالْأَصْهَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ هَذِهِ أَحْوَالُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ وَزَادُوا فِي

هَذَا الْيَوْمِ مِنْ رَفْعِ بُرْقُعِ الْحَيَاءِ عَنْهُمْ مَا هُوَ شَنِيعٌ فِي ذِكْرِهِ فَكَيْفَ بِرُؤْيَتِهِ فَكَيْفَ بِفِعْلِهِ، وَهُوَ أَنَّ ثِيَابَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ النَّظَرَ لِأَكْثَرِ الْبَدَنِ وَلَا تَمْنَعُ نُعُومَةَ الْبَدَنِ ثُمَّ يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ يَلْعَبُ مَعَهُ وَيُبَاسِطُهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَيَسْتَمْتِعُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ كَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كُلَّهُمْ نِسَاءٌ لِعَدَمِ حَيَاءِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَتَصَارَعُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَمَا أَقْبَحَ هَذَا وَأَشْنَعَهُ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ وَيَدِينُ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى غُرْبَةِ الْإِسْلَامِ وَغُرْبَةِ أَهْلِهِ وَدُثُورِ أَكْثَرِ مَعَالِمِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَوْ الدِّينِ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْغَالِبِ إلَّا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ رَزِينٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ وُضِعَتْ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّيَاتٍ. فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ (فَصْلٌ) وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ إنْسَانًا مِنْهُمْ فَيُخَالِفُونَ فِيهِ السُّنَّةَ أَعْنِي فِي تَغْيِيرِ ظَاهِرِ صُورَتِهِ وَخِلْقَتِهِ فَيَدْخُلُونَ بِذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعَنَ اللَّهُ الْمُغَيِّرَاتِ وَالْمُغَيِّرِينَ لِخَلْقِ اللَّهِ» ، أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيُغَيِّرُونَ وَجْهَهُ بِجِيرٍ، أَوْ دَقِيقٍ ثُمَّ يَجْعَلُونَ لَهُ لَحَيَّةً مِنْ فَرْوَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا وَيُلْبِسُونَهُ ثَوْبًا أَحْمَرَ، أَوْ أَصْفَرَ لِيُشْهِرُوهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ كَسَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ ذُلٍّ وَصَغَارٍ ثُمَّ أَشْعَلَهُ عَلَيْهِ نَارًا» انْتَهَى ثُمَّ يَجْعَلُونَ عَلَى رَأْسِهِ طُرْطُورًا طَوِيلًا ثُمَّ يُرَكِّبُونَهُ عَلَى حِمَارٍ دَمِيمٍ فِي نَفْسِهِ وَيَجْعَلُونَ حَوْلَهُ الْجَرِيدَ الْأَخْضَرَ وَشَمَارِيخَ الْبَلَحِ وَيَجْعَلُونَ فِي يَدِهِ شَيْئًا يُشْبِهُ الدَّفْتَرَ كَأَنَّهُ يُحَاسِبُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُمْ مِنْ السُّحْتِ وَالْحَرَامِ فَيَطُوفُونَ بِهِ فِي أَزِقَّةِ الْبَلَدِ وَشَوَارِعِهَا عَلَى الْأَبْوَابِ وَفِي الْأَسْوَاقِ عَلَى أَكْثَرِ الدَّكَاكِينِ وَالْبُيُوتِ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُونَ عَلَى شَبَهِ الظُّلْمِ وَالْغَصْبِ وَالتَّعَسُّفِ وَيَأْكُلُونَهُ وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ آذَوْهُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ التُّرَابُ

فَيُهِينُونَهُ بِالضَّرْبِ وَالْكَلَامِ الْفَاحِشِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا وَإِنْ رَضِيَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَسْطِ وَالْمِزَاحِ فَهُوَ مَذْمُومٌ شَرْعًا. إذْ شَرْطُ الْمِزَاحِ وَالْبَسْطِ أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَمِزَاحُهُمْ قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ الْكَذِبِ وَذِكْرِ الْفَوَاحِشِ وَمَنْ تَحَصَّنَ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتِ فَأَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ لِيَسْلَمَ مِنْ أَذَاهُمْ عَظُمَتْ بَلِيَّتُهُمْ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا كَسَرُوا بَعْضَ الْأَبْوَابِ الضَّعِيفَةِ وَرُبَّمَا صَبُّوا الْمِيَاهَ الْكَثِيرَةَ فِي الْبَابِ حَتَّى قَدْ يُمْنَعُ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ وَرُبَّمَا أَخْرَجُوا صَاحِبَ الْبَيْتِ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ لَهُمْ مَا يَخْتَارُونَهُ وَإِلَّا أَخْرَقُوا حُرْمَتَهُ وَزَادُوا فِي أَذِيَّتِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِالنَّيْرُوزِ وَيَقُولُونَ لَيْسَ فِيهِ حَرَجٌ وَلَا أَحْكَامٌ تَقَعُ، وَأَمَّا الْمُشَالِقُونَ فَأَكْثَرُ قُبْحًا وَشَنَاعَةً مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِهِ لِشُهْرَتِهِ وَمُعَايَنَةِ مَا فِيهِ مِنْ الْمَثَالِبِ وَالْمَفَاسِدِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ مِنْ الرَّذَائِلِ وَالْأَفْعَالِ الْخَسِيسَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِذَوِي الْعُقُولِ فَكَيْفَ بِأَهْلِ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: وَكُلُّ هَذَا فِي ذِمَّةِ الْعَالِمِ إذَا لَمْ يُنَبِّهْ عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَيَنْهَ عَنْهَا وَيُقَبِّحْهَا وَيُكْثِرْ التَّشْنِيعَ عَلَى فَاعِلِهَا وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِالْعَالِمِ وَحْدَهُ بَلْ فِي أَرْبَابِ الْأُمُورِ أَشَدُّ كَالْمُحْتَسِبِ وَالْحَاكِمِ وَمَنْ لَهُ أَمْرٌ نَافِذٌ؛ لِأَنَّ مَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَجَزَ عَنْ التَّغْيِيرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ، فَإِنْ غَيَّرُوا وَقَامُوا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ أُجِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ تَرَكُوا ذَلِكَ أَثِمُوا وَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ مَنْ بَلَّغَهُمْ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ غَيْرِ الْحَاكِمِ إنَّمَا هُوَ بِالْكَلَامِ الْحَسَنِ وَالرَّدْعِ الْجَمِيلِ، أَوْ يُوصَلَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ أَعْنِي وُلَاةَ الْأُمُورِ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَوْسِمُ الَّذِي تَشَبَّهُوا فِيهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْقَبَائِحِ الْمُسْتَهْجَنَةِ وَالرَّذَائِلِ الْفَظِيعَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ لَكَانَ فِيهِ مَا فِيهِ فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا تَرَى، وَمَا بَقِيَ أَكْثَرُ مِمَّا وُصِفَ فَلَوْ كَانَ مَنْ مَعَهُ عِلْمٌ يَتَكَلَّمُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَتَحَفَّظُ مِنْهُ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الْمَثَالِمُ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اشْتَهَى عَلَيْهِ بَعْضُ أَوْلَادِهِ شَهْوَةً وَكَانَتْ تِلْكَ الشَّهْوَةُ

فصل من المواسم خميس العدس

مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْمَوَاسِمِ الَّتِي لِأَهْلِ الْكِتَابِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ لَا يَأْكُلَ إلَّا بِشَهْوَتِهِمْ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيَالِهِ» وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَجُوزُ شَرْعًا أَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يُتَحَرَّزَ مِنْ عَوَائِدِ الْوَقْتِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُمَاكَسَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ شَرْعًا وَذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَوْسِمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا مَا يُفْعَلُ فِيهِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَا أَرَادُوهُ فَعَزَمُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَتَرَكَ إجَابَتَهُمْ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُوَاقَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ. وَالثَّانِي: رُبَّمَا يَرَاهُ أَحَدٌ فَيَقْتَدِي بِهِ فِي فِعْلِهِ فَحُسِمَ الْبَابُ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ. فَلَوْ كَانَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ يَمْشُونَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ إلَّا نَادِرًا إذْ أَنَّ الْعَالِمَ هُوَ الْقُدْوَةُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ جَيِّدُهُمْ وَرَدِيئُهُمْ رَاجِعُونَ إلَيْهِ إمَّا بِالطَّوَاعِيَةِ، أَوْ بِالْجَبْرِ وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ [فَصْل مِنْ الْمَوَاسِمِ خميس العدس] فَصْلٌ فِي خَمِيسِ الْعَدَسِ، وَهُوَ الْمَوْسِمُ الثَّانِي مِنْ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي شَارَكَهُمْ فِيهَا بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ اُتُّخِذَتْ فِيهِ أَشْيَاءُ لَا تَنْبَغِي. فَمِنْهَا خُرُوجُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِشِرَاءِ الْبَخُورِ وَالْخَوَاتِمِ وَغَيْرِهِمَا فَتَجِدُهُنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّجَالِ فَمَنْ يَمُرُّ بِالسُّوقِ مِنْ الرِّجَالِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْي فِيهِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ لِزَحْمَةِ النِّسَاءِ وَقَدْ يُزَاحِمُهُنَّ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مَا فِي خُرُوجِهِنَّ وَاجْتِمَاعِهِنَّ بِالرِّجَالِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا دَوَاءَ لَهَا فِي الْغَالِبِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَنَعَ أَهْلَهُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوَقَعَ التَّشْوِيشُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ إلَى الْفِرَاقِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ إلَى السُّلْطَانِ أَمْرُ مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ مِنْ جُلُوسِهِنَّ عِنْدَ الصَّوَّاغِينَ حَتَّى يَمْتَنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى

وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى الصَّوَّاغِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الصَّوَّاغِينَ مَعَ أَنَّهُنَّ كُنَّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ السِّتْرِ الشَّرْعِيِّ وَالدِّينِ الْمَتِينِ وَكَذَلِكَ الصَّوَّاغُونَ إذْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِضِدِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّوَّاغِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْبَيَّاعِينَ فِي كُلِّ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ الْغَالِبُ أَنَّ النِّسَاءَ هُنَّ اللَّاتِي يُبَاشِرْنَ ذَلِكَ كُلَّهُ بَلْ تَجِدُ الْمَرْأَةَ فِي الْغَالِبِ تَشْتَرِي لِزَوْجِهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ لِبَاسِهِ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ لِأَرْبَابِ الْأُمُورِ حَتَّى يَمْنَعُوهُنَّ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ، وَمَا أَحْدَثُوهُ فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْبَخُورِ لَهُنَّ وَلِغَيْرِهِنَّ مِنْ الرِّجَالِ فَيُبَخِّرُونَ بِهِ ثُمَّ يَتَخَطَّوْنَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَنْفُضُونَ عَلَيْهِ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَصْرِفُ عَنْهُمْ الْعَيْنَ وَالْكَسَلَ وَالْوَعْكَةَ مِنْ الْجَسَدِ وَيَتَكَلَّمُ مِنْ يَرْقِي الْبَخُورَ بِكَلَامٍ لَا يُعْرَفُ وَلَعَلَّهُ كُفْرٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُمْ فِيهِ الْعَدَسَ الْمُصَفَّى وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَالْبِدْعَةُ تَحَرِّيهِمْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ مُوَافَقَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوَاسِمِهِمْ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْهُمْ تَشَوَّشَ هُوَ وَأَهْلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ ذَلِكَ صَبْغُهُمْ فِيهِ الْبَيْضَ أَلْوَانًا لِأَوْلَادِهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَتَعَدَّى ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ إلَى أَنْ صَارَ الْمُقَامِرُونَ وَغَيْرُهُمْ يَلْعَبُونَ بِهِ جِهَارًا وَلَا أَحَدَ فِيمَا أَعْلَمُ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاؤُهُمْ فِيهِ السَّلَاحِفَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَطْرُدُ الشَّيْطَانَ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الشَّيْطَانُ لَا يُطْرَدُ بِالِابْتِدَاعِ، وَإِنَّمَا يُطْرَدُ بِالِاتِّبَاعِ فَكُلُّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا أَشْبَهَهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَهْجَنَةِ وَالْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ وَفِيهِ تَعْظِيمُ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَغْبِيطُهُمْ بِدِينِهِمْ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ أَعْنِي فِي تَعْظِيمِ مَوَاسِمِهِمْ يَقْوَى ظَنُّهُمْ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الثُّلْمَةِ مَا أَشَدَّ قُبْحَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ قُبْحُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي النَّيْرُوزِ مَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِ مِثْلِهِ هُنَا إذْ

فصل من المواسم اليوم الذي يزعمون أنه سبت النور

الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ تَعْظِيمُ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَنِ. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ [فَصْلٌ مِنْ المواسم الْيَوْمِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سَبْتُ النُّورِ] فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْيَوْمِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سَبْتُ النُّورِ. وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ بِضِدِّ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَلْيَقُ لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي عَوَامِّ النَّاسِ لَكِنْ تَجِدُ بَعْضَ الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى طَرَفِ عِلْمٍ، أَوْ صَلَاحٍ، أَوْ هُمَا مَعًا يُسَمُّونَهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَذَلِكَ تَعْظِيمٌ مِنْهُمْ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَيُشَارِكُونَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ الذَّمِيمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَفِي تَشَبُّهِهِمْ بِهِمْ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِمَوَاسِمِهِمْ وَتَغْبِيطٌ لَهُمْ بِدِينِهِمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ بِسَبَبِ تَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ لِمَوَاسِمِهِمْ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ بِمُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْقَبَائِحِ وَالرَّذَائِلِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَفِي ذَلِكَ غُنْيَةٌ عَنْ إعَادَةِ مِثْلِهِ هُنَا. لَكِنْ نُشِيرُ إلَى بَعْضِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْخَاصِّ، وَمَا يُظْهِرُونَ فِيهِ مِنْ الْعَوْرَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي سَحَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ فِي أَمْسِهِ وَرَقَ الشَّجَرِ عَلَى أَنْوَاعِهَا حَتَّى الرَّيْحَانَ وَغَيْرَهُ فَيُبِيتُونَهُ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَيَغْتَسِلُونَ بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ غَسْلِهِمْ وَيُلْقُونَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي مَفْرِقِ الطَّرِيقِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ عَنْهُمْ الْأَمْرَاضَ وَالْأَسْقَامَ وَالْكَسَلَ وَالْعَيْنَ وَالسِّحْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ يَمُرُّ بِهِ تُصِيبُهُ تِلْكَ الْعِلَلُ وَيَنْتَقِلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ إلَى مَنْ تَخَطَّاهُ مِنْ الْمَارِّينَ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ. وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ قَصْدُهُمْ لِذَلِكَ مُحَرَّمًا إذْ فِيهِ قَصْدُ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ حُفْرَةً أَوْقَعَهُ اللَّهُ فِيهَا» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» انْتَهَى فَأَوَّلُ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي ذَلِكَ

الْيَوْمِ قَصْدُهُمْ الْمُحَرَّمُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» انْتَهَى وَهَؤُلَاءِ قَدْ قَصَدُوا الضَّرَرَ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ أَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَذًى وَمَعَ ذَلِكَ يَرْمُونَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِيُصِيبَهُمْ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ النُّشْرَةِ فَقَالَ هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» انْتَهَى عَلَى أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرُّخْصَةُ فِي النُّشْرَةِ بِوَرَقِ الْأَشْجَارِ لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ فَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَرَقَ فِي مَاءٍ يَغْمُرُهُ فَإِذَا أَصْبَحَ أَخَذَهُ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَبَلَّ يَدَهُ مِنْهُ وَمَشَّاهَا عَلَى بَدَنِهِ هَذَا هُوَ النُّشْرَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الْغُسْلُ بِهِ فَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا أَضَافُوا إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَهِيَ لَا تَجُوزُ فِي الشَّرْعِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمُرُوءَاتِ وَمِنْ ذَلِكَ اكْتِحَالُهُمْ فِي صَبِيحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالسَّذَابِ أَوْ الْكُحْلِ الْأَسْوَدِ، أَوْ غَيْرِهِمَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ اكْتَحَلَ مِنْ ذَلِكَ يَكْتَسِبُ نُورًا زَائِدًا فِي بَصَرِهِ يَرَى بِهِ الْخِشَاش فِي طُولِ سَنَتِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَذَلِكَ تَحَكُّمٌ مِنْهُمْ وَالشَّاهِدُ يُكَذِّبُ ذَلِكَ حِسًّا وَمَعْنًى. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ شُرْبِ الدَّوَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ شُرْبَ الدَّوَاءِ فِيهِ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَشْتَكِي بِحَكَّةٍ فَإِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ وَيَفْعَلُونَ أَفْعَالًا قَبِيحَةً يَسْتَحْيِ مِنْ فِعْلِهَا أَهْلُ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَيَعِيبُونَ عَلَى فَاعِلِهَا وَيَنْسُبُونَهُ إلَى عَدَمِ الْحَيَاءِ وَالْغَيْرَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يَتَعَرَّيْنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَتَّى إنَّهُنَّ لَا يُبْقِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ السُّتْرَة بِالثِّيَابِ شَيْئًا لَا مِئْزَرًا وَلَا سَرَاوِيلَ ثُمَّ يَدَّهِنَّ بِالْكِبْرِيتِ وَيَقْعُدْنَ فِي الشَّمْسِ أَكْثَرَ يَوْمِهِنَّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِنَّ بَرًّا وَبَحْرًا وَلَا يَسْتَحِينَ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بَعْضُ الرِّجَالِ

فصل من المواسم ما يفعلوه في مولد عيسى عليه السلام

أَيْضًا بِمَكَانٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ آخِرُ النَّهَارِ دَخَلُوا فِي الْبَحْرِ وَاغْتَسَلُوا فِيهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْبَسُونَ ثِيَابَهُمْ وَيَسْتَتِرُونَ كَأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ وَالنَّظَرَ إلَيْهَا مِنْ كِلَيْهِمَا مُبَاحٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَنْ يَخْرُجُ إلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ دَخَلَ الْحَمَّامَ فِي الْغَالِبِ فَاغْتَسَلَ فِيهِ، أَوْ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْغُسْلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نُشْرَةٌ حَيْثُ كَانَ وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ مَوَاسِمِهِمْ الْمُسْتَهْجَنَةِ لَيْسَ فِيهَا أَقْبَحُ وَلَا أَشْنَعُ مِنْ هَذَا الْمَوْسِمِ الْمَذْكُورِ إذْ كُلُّ مَا ذُكِرَ لَيْسَ فِيهِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَلَا عَدَمُ الْحَيَاءِ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ جَرَى فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ مَا جَرَى لَكِنْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ شَيْءٌ مِنْ السُّتْرَةِ بِخِلَافِ كَشْفِهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَقَرِيبٌ مِمَّا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْمَوْسِمِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي الْمَنَاشِرِ أَعْنِي الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَغْسِلُونَ فِيهَا الثِّيَابَ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا نِسَاءٌ وَرِجَالٌ وَأَجَانِبُ. وَالنِّسَاءُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ قِصَرِ الثِّيَابِ فَكَأَنَّ الْمَرْأَةَ هُنَاكَ مَعَ زَوْجِهَا بَلْ هَذَا أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا يُفْعَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَمَا تَقَدَّمَ يُفْعَلُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ. وَأَمَّا اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِالطَّمِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ حَالِهَا وَتَفْصِيلِ أَمْرِهَا إذْ أَنَّ الْأَقْلَامَ تُنَزَّهُ عَنْ كَتْبِ ذَلِكَ. وَيُنَزَّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَنْ ذِكْرِ مَا يُفْعَلُ فِيهَا بَيْنَهُمْ. ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَعَدَّدَتْ مَوَاضِعُهَا وَكَثُرَتْ. وَقَلَّ مَنْ تَحْصُلُ لَهُ حَمِيَّةُ الْإِسْلَامِ فَيُغَيِّرُ لِمَا تَدَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَلَوْ بِالْكَلَامِ وَإِشَاعَةِ مَا فِيهَا مِنْ الْقُبْحِ وَالرَّذَائِلِ لَعَلَّ أَنْ يَتَنَبَّهَ لِذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُغَيِّرُونَ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ إلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ كَأَنَّ الْجَمِيعَ شَرِبُوا مِنْ مَنْهَلٍ وَاحِدٍ. فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى ذَهَابِ أَكْثَرِ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ لِكَثْرَةِ مَا يَحْدُثُ فِيهِ وَمَنْ يَسْكُتُ عَمَّا أُحْدِثَ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ [فَصْلٌ مِنْ المواسم مَا يفعلوه فِي مَوْلِدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام] فَصْلٌ فِي مَوْلِدِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلْنَهُ فِي مُوَافَقَةِ النَّصَارَى فِي مَوْلِدِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

فصل في موسم الغطاس

مَعَ أَنَّهُ أَخَفُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. لَكِنَّ اتِّخَاذَ ذَلِكَ عَادَةً بِدْعَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُنَّ يَعْمَلْنَ صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَصِيدَةً لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا لِكَثِيرٍ مِنْهُنَّ وَيَزْعُمْنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا، أَوْ يَأْكُلْ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ الْبَرْدُ فِي سَنَتِهِ تِلْكَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ فِيهَا دِفْءٌ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ وَمَعَ كَوْنِ فِعْلِهَا بِدْعَةً فَالشَّاهِدُ يُكَذِّبُ مَا افْتَرَيْنَهُ مِنْ قَوْلِهِنَّ الْبَاطِلَ وَالزُّورَ فَكَأَنَّهُنَّ يَشْرَعْنَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالِ [فَصْلٌ فِي مَوْسِمِ الْغِطَاسِ] وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي مَوْسِمِ الْغِطَاسِ. وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي تَزْعُمُ النَّصَارَى أَنَّ مَرْيَمَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - اغْتَسَلَتْ فِيهِ مِنْ النِّفَاسِ. فَاِتَّخَذَ النَّصَارَى ذَلِكَ سُنَّةً لَهُمْ فِي كَوْنِهِمْ يَغْتَسِلُونَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ حَتَّى الرَّضِيعُ فَتَشَبَّهَ بِهِمْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَوْنِهِمْ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ مَوْسِمًا. أَعْنِي أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِيهِ النَّفَقَةَ وَيُدْخِلُونَ فِيهِ السُّرُورَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ بِأَشْيَاءَ يَفْعَلُونَهَا فِيهِ.، وَهَذَا فِيهِ مِنْ التَّعْظِيمِ لِمَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا سَبَقَ فِي غَيْرِهِ فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ وَبَعْضُ مَنْ انْغَمَسَ فِي الْجَهْلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَغْطِسُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَمَا يَغْطِسُونَ. وَمِنْ أَشْنَعِ مَا فِيهِ أَنَّهُمْ يَزِفُّونَ فِيهِ بَعْضَ عِيدَانِ الْقَصَبِ وَعَلَيْهَا الشُّمُوعُ الْمَوْقُودَةُ وَالْفَاكِهَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ. وَبَعْضُهُمْ يُهْدِي ذَلِكَ لِلْقَابِلَةِ وَيَتَهَادَوْنَ فِيهِ بِأَطْنَانِ الْقَصَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ [فَصْلٌ مِنْ المواسم عِيدِ الزَّيْتُونَةِ] فَصْلٌ فِي عِيدِ الزَّيْتُونَةِ وَمِنْ ذَلِكَ بَعْضُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحَدِ أَعْيَادِ الْقِبْطِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عِيدَ الزَّيْتُونَةِ فَتَخْرُجُ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْمَطَرِيَّةُ إلَى بِئْرٍ هُنَاكَ تُسَمَّى بِئْرَ الْبَلْسَمِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ. فَيَجْتَمِعُ إلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الْغَالِبِ

فصل بعض عوائد اتخذها بعض النساء المسلمات أخلت ببعض الفرائض

جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ الْقِبْطِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بِلَادٍ كَثِيرَةٍ يَأْتُونَ إلَيْهَا لِلْغُسْلِ مِنْ مَائِهَا. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيُهْرَعُونَ إلَيْهِ كَمَا تَفْعَلُ النَّصَارَى وَيَغْتَسِلُونَ كَغُسْلِهِمْ وَيَنْكَشِفُونَ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ. وَهَذَا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ وَتَعْظِيمِ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَزِيدُ هَذَا أَنَّهُمْ يُسَافِرُونَ إلَيْهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ نِسَاءً وَرِجَالًا وَشُبَّانًا وَيَجْتَمِعُونَ هُنَاكَ وَيَنْهَتِكُونَ فِيهِ كَغَيْرِهِ. وَفِي اجْتِمَاعِهِمْ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. لَكِنْ فِي هَذَا زِيَادَةُ مَفْسَدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ نَظَرُ الذِّمِّيَّةِ إلَى جَسَدِ الْمُسْلِمَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ وَقَدْ مَنَعَهُ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. هَذَا وَإِنْ كَانَ الْغُسْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مُبَاحًا فِعْلُهُ لَكِنْ فِي غَيْرِ وَقْتِ اجْتِمَاعِهِمْ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ. [فَصْلٌ بَعْضِ عَوَائِدَ اتَّخَذَهَا بَعْضُ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ أخلت بِبَعْضِ الْفَرَائِضِ] فَصْل فِي بَعْضِ عَوَائِدَ اتَّخَذَهَا بَعْضُ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ آلَ الْأَمْرُ فِيهَا إلَى الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الْفَرَائِضِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ مِنْ إفْطَارِهِنَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ قَدْرُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ مُبْدِنَةً وَتَخَافُ أَنَّهَا إنْ صَامَتْ اخْتَلَّ عَلَيْهَا حَالُ سِمَنِهَا فَتَفْطُرُ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْبَنَاتِ الْأَبْكَارِ يُفْطِرُهُنَّ أَهْلُهُنَّ خِيفَةً عَلَى تَغَيُّرِ أَجْسَامِهِنَّ عَنْ الْحُسْنِ وَالسِّمَنِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَتْ مِنْهُنَّ قَدْ عَقَدَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا بَعْدُ فَتَتْرُكُ الصَّوْمَ خِيفَةً عَلَى بَدَنِهَا أَنْ يَنْقُصَ وَكُلُّ هَذَا مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِكُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ وَالْإِثْمُ وَالْكَفَّارَةُ فِي ذَلِكَ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَهَذَا الْفَعْلُ الْقَبِيحُ مَشْهُورٌ بَيْنَهُنَّ لَا جَرَمَ أَنَّهُنَّ لَمَّا خَالَفْنَ الشَّرْعَ وَارْتَكَبْنَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ بَيْنَهُمْ تَوْفِيقًا فِي الْغَالِبِ

إذْ التَّوْفِيقُ إنَّمَا يَنْتُجُ عَنْ الِامْتِثَالِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْهُنَّ فِي الْغَالِبِ فَتَجِدُ أَكْثَرَهُنَّ يَشْتَكِينَ وَيَبْكِينَ وَيُكَابِدْنَ الْهُمُومَ وَكَذَلِكَ أَزْوَاجُهُنَّ وَيَأْكُلْنَ بِالْفَرْضِ بَعْدَ الْمُشَاجَرَةِ أَوْ الْوُقُوفِ إلَى الْحُكَّامِ أَوْ هُمَا مَعًا وَكَشْفُ السِّتْرِ عَنْهُنَّ بِدُخُولِ الْأَجَانِبِ بَيْنَهُمَا مِنْ جِنْدَارٍ وَوَكِيلٍ وَأَبٍ وَقَرِيبٍ وَجَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ الْغَالِبَ مِنْهُنَّ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا إلَى مُنْتَهَاهُ ثُمَّ يَتَعَلَّقُ خَاطِرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ وَيَفْعَلُونَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ الْيَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنْ الِاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمِ الْبَيِّنِ التَّحْرِيمِ الَّذِي يَسْتَحِي الْمَرْءُ أَنْ يَحْكِيَهُ فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ ثُمَّ يَرُدُّهَا إلَى الْعِصْمَةِ عَلَى مَا يَزْعُمُونَ ثُمَّ يَرْجِعْنَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَا اعْتَدْنَهُ مِنْ الْمُضَارَرَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَسُوءِ الْعِشْرَةِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ ذَلِكَ لَا يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ وَهُمَا آثِمَانِ مَا دَامَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَكَذَلِكَ مَنْ عَقَدَ لَهُمَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ انْتَهَى كَلَامُهُ بَعْضُهُ بِاللَّفْظِ وَبَعْضُهُ بِالْمَعْنَى جَزَاءً وِفَاقًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَالرَّذَالَةِ إلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَكَانَ يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَهْرُبَ مِنْهُ إذْ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مُعَجَّلَةٌ لَا مُؤَخَّرَةٌ وَهُوَ أَنَّ التَّجْرِبَةَ قَدْ مَضَتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ سُلِّطَ عَلَيْهِ الْفَقْرُ الْمُدْقِعُ فِي الْوَقْتِ وَفِي ذَلِكَ مَقْنَعٌ لِمَنْ خَافَ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا وَأَمَّا خَوْفُ الْآخِرَةِ فَذَلِكَ لِلْمُفْلِحِينَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا لَا تَحِلُّ بِذَلِكَ إجْمَاعًا وَذَلِكَ أَنَّ الْغَالِبَ عِنْدَهُنَّ أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَتَحَلَّلْنَ بِهِ رَجُلٌ مَعْلُومٌ فَتَجِيءُ الْمَرْأَةُ تَتَحَلَّلُ بِهِ ثُمَّ تَأْتِي ابْنَتَهَا تَتَحَلَّلُ بِهِ، وَكَذَلِكَ أُمُّهَا وَجَدَّتُهَا وَهِيَ لَا تَحِلُّ بِذَلِكَ إجْمَاعًا وَلَا يَحِلُّ لِلْمُحَلِّلِ وَطْءُ ابْنَةِ مَنْ تَحَلَّلَتْ بِهِ وَلَا أُمِّهَا وَلَا جَدَّتِهَا وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. فَلَوْ كَانَ الْعَالِمُ يَتَكَلَّمُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَا أَشْبَهَهُ وَيُشَنِّعُ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ وَيُقَبِّحُ فِعْلَهُ وَيُشَنِّعُ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَأْمُرُ مَنْ حَضَرَهُ بِإِشَاعَتِهَا لَانْحَسَمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ وَقَلَّ فَاعِلُهَا

فصل في صوم أيام الحيض

[فَصْلٌ فِي صَوْمِ أَيَّامِ الْحَيْضِ] ِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا اتَّخَذَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّهَا إذَا حَاضَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَصُومُ وَلَا تُفْطِرُ ثُمَّ لَا تَقْضِي تِلْكَ الْأَيَّامَ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا حَائِضًا وَيُعَلِّلُ بَعْضُهُنَّ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّوْمَ يَصْعُبُ عَلَيْهِنَّ فِي حَالِ كَوْنِ النَّاسِ مُفْطِرِينَ. وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهَا آثِمَةٌ وَأَنَّ قَضَاءَ مُدَّةِ الْحَيْضِ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ وَأَنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا. وَمِنْهُنَّ مَنْ تُفْطِرُ إذَا جَاءَهَا الْحَيْضُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَتَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ تَمَادِي الدَّمِ بِهَا وَيَزْعُمْنَ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي لَا يُصَامُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثَةُ الْأَيَّامُ الْأُوَلُ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَالصِّيَامُ فِيهِ وَاجِبٌ وَيُجْزِئُ. وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ وَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ. وَمِنْهُنَّ مَنْ تَصُومُ مُدَّةَ الْحَيْضِ وَتَقْضِيهَا بَعْدَهُ وَفَاعِلَةُ ذَلِكَ مِنْهُنَّ آثِمَةٌ فِي صَوْمِهَا فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا مُصِيبَةٌ فِي الْقَضَاءِ بَعْدَهُ وَمِنْهُنَّ مَنْ تُفْطِرُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ لَكِنَّهُنَّ يُجَوِّعْنَ أَنْفُسَهُنَّ فِيهِ فَتُفْطِرُ إحْدَاهُنَّ عَلَى التَّمْرَةِ وَنَحْوِهَا وَيَزْعُمْنَ أَنَّ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ الثَّوَابَ، وَهَذَا بِدْعَةٌ وَهِيَ آثِمَةٌ فِي التَّدَيُّنِ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا حَالُهَا فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا فِي رَمَضَانَ كَحَالِهَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ وَالْعَجَبُ الْعَجِيبُ فِي صَوْمِ بَعْضِهِنَّ فِي أَيَّامِ حَيْضَتِهَا مُحَافَظَةً مِنْهَا عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى زَعْمِهِنَّ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ مِنْهُنَّ يَتْرُكُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ إلَّا أَنَّهُنَّ اتَّخَذْنَ ذَلِكَ عَادَةً حَتَّى لَوْ أَمَرْت إحْدَاهُنَّ بِالصَّلَاةِ يَعِزُّ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَتَقُولُ أَعَجُوزًا رَأَيْتنِي فَكَأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى الشَّابَّةِ وَالْفَرْضُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ طَعَنَ مِنْهُنَّ فِي السِّنِّ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَيَّ نِسْبَةٍ بَيْنَ الِاحْتِيَاطِ فِي الصَّوْمِ حَتَّى صَامَتْ أَيَّامَ حَيْضَتِهَا وَبَيْنَ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَبِهَا قِوَامُهُ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَوْضِعُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ مَوْضِعُ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ» وَقَدْ اخْتَلَفَ

فصل في الوطء في مدة الحيض

الْعُلَمَاءُ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ مُتَعَمِّدًا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ. [فَصْلٌ فِي الْوَطْءِ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ] ِ وَمِنْهُنَّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَمْنَعُ الرَّجُلَ مِنْ الْوَطْءِ مَعَهُ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثَةُ الْأَيَّامُ الْأُوَلُ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يَطَأَ فِيهِ. وَهَذَا افْتِرَاءٌ وَكَذِبٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ. وَمِنْهُنَّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ وَالْغَبَرَةَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ أَيْضًا. وَمِنْهُنَّ مَنْ يَزْعُمُ جَوَازَ وَطْءِ الْمَرْأَةِ إذَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ وَقَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ، وَهَذَا شَنِيعٌ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أَيْ يَنْقَطِعُ عَنْهُنَّ الدَّمُ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ أَيْ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَبَاحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَطْأَهَا فَقَالَ تَعَالَى {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] [فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ مِنْ أَسْبَابِ السِّمَنِ] ِ وَمِنْهُنَّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا مُسْتَهْجَنًا قَبِيحًا جَمَعَ بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ مِنْ الرَّذَائِلِ: أَحَدُهُمَا: مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. الثَّانِي: إضَاعَةُ الْمَالِ. الثَّالِثُ: الصَّلَاةُ بِالنَّجَاسَةِ. الرَّابِعُ: كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُنَّ اتَّخَذَ عَادَةً مَذْمُومَةً وَهِيَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَتَتْ إلَى فِرَاشِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَعَشَّتْ وَمَلَأَتْ جَوْفَهَا فَتَأْخُذُ عِنْدَ دُخُولِهَا الْفِرَاشَ لُبَابَ الْخُبْزِ فَتُفَتِّتُهُ مَعَ جُمْلَةِ حَوَائِجَ أُخَرَ فَتَبْتَلِعُ ذَلِكَ بِالْمَاءِ إذْ أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى أَكْلِهِ لِكَثْرَةِ شِبَعِهَا الْمُتَقَدِّمِ وَرُبَّمَا تُعِيدُ ذَلِكَ بَعْدَ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ يَمْضِي عَلَيْهَا وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ الزِّيَادَةِ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَرْءُ وَهِيَ قَدْ زَادَتْ فِي عَشَائِهَا حَتَّى لَمْ تَتْرُكْ مَوْضِعًا لِسُلُوكِ الْمَاءِ فِي الْغَالِبِ مِمَّنْ يُرِيدُ السِّمَنَ مِنْهُنَّ، وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى زِيَادَةٍ. وَذَلِكَ مِمَّا يُحْدِثُ الْأَمْرَاضَ وَالْعِلَلَ وَالْأَسْقَامَ ضِدَّ مُرَادِهَا. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ وَلَدَهُ أَكَلَ

وَزَادَ عَلَى أَكْلِهِ الْمُعْتَادِ فَمَرِضَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَقَالَ وَالِدُهُ لَوْ مَاتَ مَا صَلَّيْت عَلَيْهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ قَدْ تَسَبَّبَ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ وَمَنْ لَهُ فَضْلٌ وَدِينٌ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ فَهَذَانِ وَجْهَانِ أَعْنِي فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُخَالَفَةَ الشَّرْعِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، أَمَّا مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ فَلِمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَذَكَرَ الثَّالِثَ أَمْ لَا ثُمَّ يَظْهَرُ فِيهِمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ» انْتَهَى. وَأَمَّا إضَاعَةُ الْمَالِ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الشِّبَعِ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ إذْ أَنَّهُ يُفْعَلُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَقَدْ أَدَّى الْأَمْرُ بِسَبَبِ تَعَاطِي السِّمَنِ إلَى أَمْرٍ شَنِيعٍ فَظِيعٍ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُنَّ يَأْكُلْنَ مَرَارَةَ الْآدَمِيِّ لِأَجْلِ أَنَّ مَنْ اسْتَعْمَلَهَا مِنْهُنَّ يُكْثِرُ أَكْلَهَا وَقَلَّ أَنْ تَشْبَعَ فَتَسْمَنُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِنَّ. وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْرِيمِهِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ بَعْضَهُنَّ يَعْبِلْنَ بِكَثْرَةِ السَّمْنِ وَالشَّحْمِ حَتَّى أَنَّ يَدَهَا لَتَقْصُرُ عَنْ الْوُصُولِ لِغَسْلِ مَا عَلَى الْمَحَلِّ مِنْ النَّجَاسَةِ لِأَجْلِ مَا تَسَبَّبَتْ فِيهِ مِنْ عَبَالَةِ الْبَدَنِ وَهُنَّ فِي ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ فَقِيرَةً لَا تَقْدِرُ عَلَى شِرَاءِ مَنْ يُزِيلُ ذَلِكَ عَنْهَا فَتُصَلِّي بِالنَّجَاسَةِ إذْ أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى زَوَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ تَقْدِرَ عَلَى تَحْصِيلِ مَنْ يُبَاشِرُ ذَلِكَ مِنْهَا وَيُزِيلُهُ عَنْهَا فَتَقَعُ فِي كَشْفِ الْعَوْرَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَقَدْ لَا تَكْفِيهَا الْجَارِيَةُ الْوَاحِدَةُ فَتَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةٍ فَتَزِيدُ الْمُحَرَّمَاتُ بِكَثْرَةِ مَنْ يَكْشِفُ عَوْرَتَهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ لَوْ صَلَّتْ وَالنَّجَاسَةُ مَعَهَا لَكَانَ أَخَفَّ مِنْ كَشْفِ عَوْرَتِهَا؛ لِأَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ مُؤَكَّدٌ أَمْرُهُ ثُمَّ إنَّهُنَّ يَرْتَكِبْنَ مَعَ ذَلِكَ أَمْرًا قَبِيحًا مُحَرَّمًا أَقْبَحَ وَأَشْنَعَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ

أَنَّهُنَّ اعْتَدْنَ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَتَنَظَّفُ مِنْ النَّجَاسَةِ حَتَّى تُدْخِلَ يَدَهَا فِي فَرْجِهَا فَتُنَظِّفُ مَا تَصِلُ إلَيْهِ بِالْمَاءِ مَعَ يَدِهَا وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا ثُمَّ أَنَّهَا إنْ عَجَزَتْ عَنْ ذَلِكَ لِقِصَرِ يَدِهَا كَمَا سَبَقَ وَتَوَلَّى غَيْرُهَا مِنْهَا ذَلِكَ احْتَاجَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي دَاخِلِ فَرْجِهَا لِيَغْسِلَ لَهَا مَا هُنَاكَ مِنْ الْأَذَى، وَهَذَا قُبْحٌ عَلَى قُبْحٍ وَذَمٌّ عَلَى مَذْمُومَاتٍ وَهُوَ مِنْ فِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ وَهُوَ اشْتِغَالُ النِّسَاءِ بِالنِّسَاءِ وَلَوْ كَانَتْ صَائِمَةً أَفْطَرَتْ بِذَلِكَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهَا بِنَفْسِهَا أَوْ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهَا بِهَا. الْخَامِسُ: وَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ أَنَّهَا تَسَبَّبَتْ فِي إسْقَاطِ فَرْضٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقِيَامُ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُنَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ الرُّكُوعُ فِي الْغَالِبِ فَتُصَلِّي جَالِسَةً وَهِيَ الَّتِي أَدْخَلَتْ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهَا. اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى شَنَاعَةِ مَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْ زَادَ فِي أَكْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَالِدُهُ لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ هَذَا حَالُهُ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ الْحَالُ فِيمَنْ اتَّخَذَ ذَلِكَ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً حَتَّى وَصَلَ بِهِ السِّمَنُ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سِيَّمَا وَهِيَ إذَا وَقَعَ لَهَا مَرَضٌ أَوْ مَوْتٌ فَالْغَالِبُ أَنَّهَا هِيَ الْمُتَسَبِّبَةُ فِي جَلْبِ ذَلِكَ لِنَفْسِهَا بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْأَكْلِ الْكَثِيرِ عَلَى مَا مَضَى بَيَانُهُ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَبْلُغُ بِهَا السِّمَنُ إلَى أَنْ يَصِلَ الشَّحْمُ إلَى قَلْبِهَا فَيُطْغِيَهَا فَتَمُوتَ بِهِ وَقَدْ يَصْعَدُ إلَى دِمَاغِهَا فَيُشَوِّشُ عَلَى الدِّمَاغِ فَيَذْهَبَ عَقْلُهَا وَقَدْ يَصْعَدُ إلَى عَيْنِهَا فَيُعْمِيهَا فَتَكُونُ هِيَ الْمُتَسَبِّبَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا. وَقَدْ وَرَدَ «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا تَعَاطِي مَا ذُكِرَ مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ إذْ هُوَ عَرَى مِنْ الْمَقَاصِدِ جُمْلَةً إذْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَزِيدَ حُسْنُهَا فِي زَعْمِهَا وَيَغْتَبِطُ الرَّجُلُ بِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّ السِّمَنَ فِيهِ يَقْبُحُ وَتَعَاطِي ذَلِكَ بِأَسْبَابِهِ مِنْ الرِّجَالِ أَقْبَحُ وَأَقْبَحُ. وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قَالَ «إنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] » انْتَهَى. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ السِّمَنُ فِيهِ خِلْقَةً لَمْ يَتَسَبَّبْ فِيهِ فَلَا حَرَجَ إذًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ فِي شَيْءٍ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مُوَافَقَةِ الشَّرْعِ مَا أَكْثَرَ بَرَكَتَهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْءَ إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْغِذَاءِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي لَا يَقُومُ الْبَدَنُ بِدُونِهِ إلَّا وَيَتَضَرَّرُ وَيَضْعُفُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَادَ عَلَى الْغِذَاءِ الشَّرْعِيِّ زِيَادَةً بَيِّنَةً فَإِنَّ الْقُوَّةَ تَضْعُفُ بِحَسَبِ مَا زَادَ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مُجَرَّبٌ فَالْخَيْرُ لِلْقَالَبِ وَالْقَلْبِ وَلِلدِّينِ وَلِلْمُرُوءَةِ وَلِلْعَقْلِ وَلِلرُّوحِ وَلِلسِّرِّ إنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِاتِّبَاعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمُوَافَقَةِ سُنَّتِهِ وَضِدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ أَعْنِي مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الشِّبَعِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يُحْدِثُ ضِدَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحُسْنِ وَهُوَ الْقُبْحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا مَضَى. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُنَّ فِي ارْتِكَابِهِنَّ لِلزِّيَادَةِ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُنَّ أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ فِي الْحُسْنِ وَتَغْتَبِطُ الرِّجَالُ بِهِنَّ ثُمَّ يَفْعَلْنَ مَا يَحْدُثُ لَهُنَّ ضِدَّ ذَلِكَ وَهُوَ أَكْلُهُنَّ لِلطَّفْلِ وَالطِّينِ وَذَلِكَ يُحْدِثُ عِلَلًا فِي الْبَدَنِ مِنْهَا صُفْرَةُ الْوَجْهِ وَتَفَتُّحُ الْفُؤَادِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِلَلِ الَّتِي يَطُولُ تَتَبُّعُهَا وَهُوَ مِمَّا يُذْهِبُ لَوْنَ الْبَدَنِ وَعَافِيَتَهُ وَيُضْطَرُّ مَعَهَا إلَى أَخْذِ الْأَدْوِيَةِ مَعَ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي أَكْلِهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ إنَّهُ مُحَرَّمٌ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ وَالْمَشْهُورُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَكْرُوهٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُبَاحٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْإِبَاحَةِ يَحْدُثُ مَا ذُكِرَ. وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ لَا يَتَسَبَّبُ فِيمَا يَضُرُّ بَدَنَهُ أَوْ عَقْلَهُ نَقَلَ مَعْنَاهُ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ أَعْنِي فِي تَحْلِيلِ ذَلِكَ وَكَرَاهَتِهِ. وَنَقَلَ ابْنُ بَشِيرٍ وَغَيْرُهُ التَّحْرِيمَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ إفْطَارِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ جِهَارًا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ مِثْلَ بَعْضِ التَّرَّاسِينَ وَغَيْرِهِمْ وَلَا أَحَدَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَيَدْخُلُونَ

فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] وَالنَّهْيُ عَنْ هَذَا آكَدُ وَأَوْجَبُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ إذْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْغَالِبِ لَا يَتَحَقَّقُ تَرْكُهَا إلَّا بِإِقْرَارٍ مِنْ فَاعِلِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْإِفْطَارِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ بَيِّنٌ لَيْسَ فِيهِ تَأْوِيلٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إمَّا مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ وَهَؤُلَاءِ يُفْطِرُونَ وَلَيْسُوا بِمَرْضَى وَلَا مُسَافِرِينَ وَمِنْ ذَلِكَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ أَلَمٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَهُ أَوْ يَتَوَضَّأَ تَرَكُوا الصَّلَاةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً وَلَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ إذَا كَانَ فِي عُضْوَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَكَانَ الْوَاجِبُ الْغُسْلَ أَوْ الْوُضُوءَ مَسَحَ مَا تَعَذَّرَ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا يُعْرَفُ فِي مَذْهَبِهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَيُجْمَعُ بَيْنَ غَسْلِ مَا صَحَّ وَالتَّيَمُّمِ عَلَى مَا تَعَذَّرَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْقَ إلَّا عُضْوٌ وَاحِدٌ أَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَلْبَتَّةَ فَيَتَيَمَّمُ وَهُمْ يَتْرُكُونَ التَّيَمُّمَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِقِلَّةِ إشَاعَةِ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ فِي الْغَالِبِ مَحْجُوبٌ عَنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَوَّابِينَ وَالنُّقَبَاءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ تَنْظِيفَ الْبَيْتِ وَكَنْسَهُ عَقِيبَ سَفَرِ مَنْ سَافَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَيَتَشَاءَمُونَ بِفِعْلِ ذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِهِ وَيَقُولُونَ إنَّ ذَلِكَ إنْ فُعِلَ لَا يَرْجِعْ الْمُسَافِرُ. وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ حِينَ خُرُوجِهِمْ مَعَهُ إلَى تَوْدِيعِهِ فَيُؤَذِّنُونَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَرُدُّهُ إلَيْهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَمِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي أَحْدَثَتْ بَعْدَهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَذْكُرُ النَّاسُ أَنَّهَا إنْ فُعِلَتْ أَوْ لَمْ تُفْعَلْ يَجْرِي فِيهَا مِنْ الْأُمُورِ مَا يُكْرَهُ وُقُوعُهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا وَقَعَ لِأَجْلِ شُؤْمِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالتَّدَيُّنِ بِالْبِدْعَةِ فَعُومِلُوا بِالضَّرَرِ الَّذِي هُمْ يَتَوَقَّعُونَهُ وَقَدْ شَاءَ الْحَكِيمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمَكْرُوهَاتِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالِامْتِثَالِ فَكَانَ وُقُوعُ ذَلِكَ لَهُمْ بِسَبَبِ

فصل في خروج العالم إلى قضاء حاجته في السوق واستنابته لغيره في ذلك

مُخَالَفَتِهِمْ لِمَا أُمِرُوا بِهِ جَزَاءً وِفَاقًا. وَمِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النِّسَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُنَّ إذَا كَانَتْ حَائِضًا لَا تَكْتَالُ الْقَمْحَ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَلَا تَحْضُرُ مَوْضِعَهُ لِأَجْلِ حَيْضِهَا، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مَنْ شَرِبَ الدَّوَاءَ لَا يَغْسِلُ الْآنِيَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا الدَّوَاءُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَبِدَعٌ أَخْتَرَعْنَهَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِنَّ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالِ [فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْعَالِمِ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ وَاسْتِنَابَتِهِ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ] َ ثُمَّ نَرْجِعُ لِذِكْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَالِمُ فِي تَصَرُّفِهِ، فَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهِهَا وَبَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ فِي حَمْلِ سِلْعَتِهِ بِيَدِهِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ عَاقَهُ عَنْ ذَلِكَ عَائِقٌ شَرْعِيٌّ فَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ مَنْ لَهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ ذَلِكَ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يَبْحَثُ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَالْأَحْكَامِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي الدُّرُوسِ وَيَسْتَدِلُّ وَيُجِيزُ وَيَمْنَعُ وَيَكْرَهُ فَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ أَرْسَلَ إلَى السُّوقِ مَنْ يَقْضِي لَهُ الْحَاجَةَ صَبِيًّا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ عَجُوزًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَفِي السُّوقِ الْيَوْمَ مَا قَدْ عُهِدَ وَعُلِمَ مِنْ جَهْلِ أَكْثَرِ الْبَيَّاعِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ فِي سِلَعِهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ وَفِي الْأَسْوَاقِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهَا جُمْلَةً. فَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ الكشكاك وَالْمُحَبَّبَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا وُجُوهًا مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي فِيهِمَا إنْ كَانَ لَحْمُ الْبَقَرِ الْيَوْمَ فَهُوَ مُمَكَّسٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شِرَائِهِ إلَّا مِنْ الْمَكَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِإِعَانَةِ الْمَكَّاسِ بِالشِّرَاءِ

مِنْهُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا إذْ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْهُ ضَمِنَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْعَالِمُ يَتَحَرَّى ذَلِكَ لَاقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ وَفَسَدَ عَلَى الْمَكَّاسِ مُرَادُهُ. هَذَا إنْ كَانَ شِرَاؤُهُ فِي غَيْرِ النَّيْرُوزِ. وَأَمَّا فِي النَّيْرُوزِ فَيَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ لِشِرَاءِ لَحْمِ الْبَقَرِ مُطْلَقًا لِزِيَادَةِ تَعْظِيمِ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الْكُفَّارِ عَلَى زَعْمِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ فِي فِعْلِهِمْ فِي النَّيْرُوزِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي مَا يَدْخُلُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْجَهَالَةِ وَالْمُغَابَنَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ اللَّحْمَ وَالدُّهْنَ أَكْثَرَ مِنْ الْقَمْحِ وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَ الْقَمْحَ أَكْثَرَ مِنْ اللَّحْمِ وَالدُّهْنِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَلَى وَزْنٍ مَعْلُومٍ وَالْجَهَالَةُ فِي ذَلِكَ حَاصِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَمْ وَزْنُ اللَّحْمِ وَالدُّهْنِ وَلَا كَمْ وَزْنُ الْقَمْحِ لِإِمْكَانِ إعْطَاءِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْهَرِيسَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِيهَا إذْ أَنَّ اللَّحْمَ وَالْقَمْحَ صَارَا مَعًا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطَى أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ وَلَا أَقَلَّ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَكِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ جِهَةِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّهُ مُمَكَّسٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنْ سَلِمَ اللَّحْمُ مِنْ الْمَكْسِ فَهِيَ جَائِزَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ فَيُمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّصَارَى فَيُحَذِّرُ الْعَالِمُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْعَالِمُ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ صَارَ هَذَا الْأَمْرُ الْيَوْمَ بَيْنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فَتَرَاهُمْ يَوْمَ النَّيْرُوزِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْهُمْ بِالزُّبْدِيَّةِ فِي يَدِهِ لِشِرَاءِ الْهَرِيسَةِ وَمِنْ فَاتَتْهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَكَأَنَّهُ فَاتَهُ خَيْرٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ أَنَا أَشْتَرِي الكشكاك وَالْمُحَبَّبَةَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِذَا حَصَلَ فِي الْوِعَاءِ وَعَايَنْته أَخَذْته مِنْهُ جِزَافًا إذْ أَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْجِزَافَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلَمَّا أَنْ دَخَلَهُ الْوَزْنُ قَبْلَ شِرَائِهِ مِنْهُ جِزَافًا انْتَفَتْ الْجَهَالَةُ لِعِلْمِهِمَا بِحَمْلَتِهِ وَزْنًا وَبَقِيَتْ الْجَهَالَةُ وَالْمُغَابَنَةُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَيُمْنَعُ

شِرَاؤُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ جِزَافًا ابْتِدَاءً فَيُمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَالِمٌ بِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ وَإِنْ لَمْ يَزِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمِغْرَفَةَ الَّتِي بِيَدِهِ يَعْلَمُ بِهَا مِقْدَارَهُ وَزْنًا فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ جِزَافًا ابْتِدَاءً اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَغْرِفَ لَهُ بِغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ لَحْمِ السَّمِيطِ نِيئًا وَمَطْبُوخًا وَالشِّوَاءُ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} [الأنعام: 145] قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي الْعُرُوقِ مِنْ الدَّمِ وَلَقَدْ كُنَّا نَطْبُخُ الْبُرْمَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ الصُّفْرَةَ لَتَعْلُوَهَا مِنْ الدَّمِ انْتَهَى. تَعْنِي بِتِلْكَ الصُّفْرَةِ فَضْلَةَ مَا فِي الْعُرُوقِ مِنْ الدَّمِ وَهُوَ غَيْرُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَهُمْ الْيَوْمَ يَذْبَحُونَ فَيَخْرُجُ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فَتَتَخَبَّطُ الذَّبِيحَةُ فِيهِ وَيَمْتَلِئُ رَأْسُهَا وَبَعْضُ جِلْدِهَا. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُمْ ذَبَائِحُ جُمْلَةٌ أَلْقَوْا ذَلِكَ فِي دَسْتٍ وَاحِدٍ فِيهِ مَاءٌ يَغْلِي فَيَحِلُّ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فِيهِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ كُلَّهُ كَأَنَّهُ دَمٌ عَبِيطٌ وَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَكَيْ يُنْتَفَ لَهُمْ الصُّوفُ وَهُوَ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَمْتَلِئَ الْأَعْضَاءُ الْبَاطِنَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَتَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَى بَاطِنِ الذَّبِيحَةِ مَعَ أَنَّ حَلْقَهَا مَفْتُوحٌ وَدُبُرَهَا فَتَدْخُلُ النَّجَاسَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَتَخْرُجُ مِنْ الْآخَرِ فَإِذَا أَخَذُوا الصُّوفَ وَعَلَّقُوا الذَّبِيحَةَ فِي مَوْضِعٍ وَقَدْ تَمَكَّنَتْ النَّجَاسَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا مِنْهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَيُطَهِّرُونَهَا عَلَى زَعْمِهِمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَتُمَسُّ النَّجَاسَةُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَتَجْمُدُ فِي بَاطِنِ الذَّبِيحَةِ وَالْمَسَامِّ فَيَبْقَى مُتَنَجِّسًا فِي الشَّاهِدِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ ثُمَّ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ إلَى سُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَيَبِيعُونَهُ فِيهِ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ مِنْ تِلْكَ النَّجَاسَاتِ وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ الَّذِي يَغْسِلُونَهُ بِهِ مَاءً قَرَاحًا لَكَانَ فِيهِ شَبَهُ مَا فِي التَّطْهِيرِ فَكَيْفَ وَالْمَاءُ الَّذِي يَغْسِلُونَهُ بِهِ فِي الْغَالِبِ تَرَاهُ مُتَغَيِّرًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا. وَالشِّوَاءُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَمِيطٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ أَوْ يَبِيعَهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ

رَاجِعُونَ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَوَامُّ النَّاسِ لَكَانَ مَذْمُومًا وَلَكِنْ قَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى حَتَّى إنَّ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ وَيُرْسِلُ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِهَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ بَلْ يُبَاشِرُ بَعْضُهُمْ شِرَاءَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مَعَ مَنْ لَهُ أَمْرٌ لَكَانَ يُغَيِّرُهُ بِأَيْسَرَ شَيْءٍ إذْ أَنَّهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ كُلْفَةٌ فِي أَنْ يَغْسِلُوا الْمَنْحَرَ وَغَيْرَهُ مِمَّا أَصَابَهُ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُدْلُونَهُ فِي الدَّسْتِ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ مَشَقَّةٍ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْمَشَقَّةُ مَوْجُودَةً لَوَجَبَ فِعْلُهَا لِكَيْ يَسْلَمَ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ فَكَيْفَ وَلَا مَشَقَّةَ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى التَّسَاهُلِ فِي ارْتِكَابِ مَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ إلَّا أَنَّهَا عَادَةٌ اُتُّخِذَتْ وَوَقَعَ التَّسَامُحُ فِيهَا لِغَفْلَةِ بَعْضِ مَنْ غَفَلَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَعَدَمِ السُّؤَالِ لَهُمْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ. وَهَذَا بَعِيدٌ لِقَوْلِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْبَيْضَ الْكَثِيرَ إذَا صُلِقَ وَوُجِدَتْ فِيهِ بَيْضَةٌ فِيهَا فَرْخٌ فَإِنَّ الْبَيْضَ كُلَّهُ يَتَنَجَّسُ وَلَا يُؤْكَلُ إذْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ مَعَ أَنَّ قِشْرَةَ الْبَيْضِ لَيْسَ لَهَا مَسَامُّ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فِيهَا شَيْءٌ أَوْ يَخْرُجَ فَمَا بَالُك بِاللَّحْمِ الَّذِي بَاشَرَ الدَّمَ الْعَبِيطَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ غَسْلِهِمْ لَهُ أَنَّهُمْ يَغْسِلُونَهُ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ مِمَّا تَعُمُّ فِي الْغَالِبِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَذْبَحُونَ فِيهِ مُسْتَدْبَرٌ فَالْقَلِيلُ مِنْهُمْ الَّذِي يَكُونُ ذَبْحُهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَمِنْ تَعَمَّدَ الذَّبْحَ إلَى غَيْرِهَا فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً يُكْرَهُ أَكْلُ الْمَذْبُوحِ بِسَبَبِ تَرْكِهَا، وَسَبَبُ وُجُودِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا تَرْكُ السُّؤَالِ مِنْ الْعَامَّةِ وَتَرْكُ تَفَقُّدِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عِنْدَ مَبْدَأِ أَمْرِهَا فَاسْتَحْكَمَتْ الْمَفَاسِدُ وَمَضَتْ عَلَيْهَا الْعَوَائِدُ الرَّدِيئَةُ فَيُطْعِمُونَ النَّاسَ الطَّعَامَ الْمُتَنَجِّسَ وَأَجَازُوا بَيْعَهُ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَالسُّكُوتِ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ. أَمَّا الْعَامَّةُ فَبِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَبِالْكَلَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَ

فِي هَذَا كَبِيرُ أَمْرٍ. وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ خُصُوصًا عَلَى أَرْبَاب الْأُمُورِ وَعَلَى مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ. ثُمَّ إنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَنَّهُمْ يَعْجِنُونَ التُّرَابَ الَّذِي يَسُدُّونَ بِهِ التَّنُّورَ الَّذِي فِيهِ الذَّبَائِحُ بِالْمَاءِ الَّذِي صَارَ كَأَنَّهُ دَمٌ عَبِيطٌ فَيَتَنَجَّسُ التُّرَابُ بِهِ إنْ كَانَ طَاهِرًا وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَيُضِيفُونَ نَجَاسَةً إلَى مِثْلِهَا فَإِذَا أَحَسَّ بِحَرَارَةِ النَّارِ عَرِقَ وَقَطَرَ مِنْهُ عَلَى الشِّوَاءِ وَغَيْرِهِ مَا يُنَجِّسُهُ ظَاهِرًا أَنْ لَوْ كَانَ طَاهِرًا فَكَيْف وَبَاطِنُهُ مُتَنَجِّسٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَكَذَلِكَ يَقْطُرُ فِي نَفْسِهِ هُوَ وَالشِّوَاءُ عَلَى الْجَذَّابَةِ الَّتِي تَحْتَهُ فَتَتَنَجَّسُ بِذَلِكَ فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ مُتَنَجِّسًا، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ مَرْئِيٌّ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُخْرِجُونَهُ إلَى سُوقِ الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُونَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. وَكَذَلِكَ تَعَدَّتْ هَذِهِ النَّجَاسَةُ إلَى أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَذْبَحُونَ الدَّجَاجَ وَغَيْرَهُ وَيَأْتُونَ بِهِ إلَى الْمَسْمَطِ فَيُدْلُونَهَا فِي الْمَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَتَنَجَّسُ كُلُّ ذَلِكَ. وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ انْضَمَّ إلَيْهِ مُحَرَّمٌ آخَرُ اتِّفَاقًا وَهُوَ إضَاعَةُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَا تَنَجَّسَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَلَا بَيْعُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عُمِلَ بِتِلْكَ الدَّجَاجَةِ الْمَسْمُوطَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَغَيْرِهَا مِنْ السَّمِيطِ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ فِي الْبُيُوتِ أَوْ عِنْدَ الشَّرَائِحِيِّ أَوْ عِنْدَ الطَّبَّاخِينَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ كُلُّهُ مُتَنَجِّسًا لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَيَجِبُ غَسْلُ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي جُعِلَ فِيهَا نِيئًا كَانَ أَوْ مَطْبُوخًا وَيَغْسِلُ مَا أَصَابَ ذَلِكَ مِنْ بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ مَكَان أَوْ وِعَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ النَّجَاسَةُ مِثْلُ السُّمِّ يَعْنِي فِي سُرْعَةِ سَرَيَانِهَا وَأَنْتَ تَرَى ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ شَيْئًا مِنْهُ إلَّا بَعْدَ تَطْهِيرِهِ، وَاللَّحْمُ وَالْأَطْعِمَةُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا فَلَا يَجُوزُ أَكْلُهَا وَلَا بَيْعُهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ اللَّحْمَ بَعْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهُ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا عُمِلَ فِيهِ وَلَا تَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَى بَاطِنِهِ فَجَوَابُهُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ يَرُدُّهُ الشَّاهِدُ؛ لِأَنَّك إذَا عَمِلْت اللَّحْمَ فِي مَاءٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مِلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَاءِ مِلْحٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ أَوْ فُلْفُلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ تَجِدُ طَعْمَهُ

فِي اللَّحْمِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي قَلْبِ الْقِطْعَةِ مِنْ اللَّحْمِ. فَإِنْ قِيلَ إنَّ طَعْمَ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا بَعْدَ النُّضْجِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ دُخُولَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي اللَّحْمِ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ إذَا أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ يَغْلِي فَقَدْ سَرَى إلَى بَاطِنِهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ سَوَاءٌ فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَقْبَلُ مَا أُلْقِيَ فِيهِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ قَدْ وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِيهِ بَعْدَ نُضْجِهِ وَطَبْخِهِ فَيَكْفِي فِيهِ التَّطْهِيرُ بِالْمَاءِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْمَسَامِّ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ قِيَاسًا عَلَى مَا قَالَهُ سَحْنُونَ فِي زَيْتُونِ مِلْحٍ ثُمَّ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَضِجَ فِي الْمِلْحِ فَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْضَجْ بَعْدُ فَهُوَ مُتَنَجِّسٌ لَا يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ وَلَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ مَا وَقَعَ فِيهِ قَبْلَ نُضْجِهِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللَّحْمِ سَوَاءٌ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَدَّعِي الِاضْطِرَارَ إلَى اسْتِعْمَالِ السَّمِيطِ وَالشِّوَاءِ لِوَصْفِ طَبِيبٍ لِمَرِيضٍ أَوْ غَيْرِهِ إذْ أَنَّ لَحْمَ الْمَاعِزِ مَوْجُودٌ لِلْأَصِحَّاءِ نِيئًا وَمَشْوِيًّا؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ سَلِيخًا لَا سَمِيطًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ السَّمِيطِ إنْ جُعِلَ مَعَهُ فِي التَّنُّورِ أَوْ يَسْقُطُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ التُّرَابِ أَوْ الطِّينِ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي يُسَدُّ بِهِ التَّنُّورُ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّ لَحْمَ الضَّأْنِ الصَّغِيرِ السَّلِيخِ مَوْجُودٌ أَيْضًا. وَأَمَّا لَحْمُ السَّمِيطِ الطَّاهِرِ فَمَوْجُودٌ لِلْمَرْضَى وَلِمَنْ احْتَاجَهُ مِنْ الْأَصِحَّاءِ فَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ الشِّوَاءَ سَالِمًا مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ مِمَّا يَعْتَرِي الْمُسْلِمِينَ فِي سِمْطِ ذَلِكَ فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بِتَطْهِيرِ ذَلِكَ أَجْدَرَ وَأَوْلَى فَمَا أَقْبَحَ هَذَا وَأَشْنَعَهُ أَنْ يَمْتَازَ الْيَهُودُ بِتَطْهِيرِ ذَلِكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلرَّشَادِ بِمَنِّهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ فَلَا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ هُوَ يَتَعَدَّى إلَى كُلِّ مَنْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا تَنَاوَلَهُ بِهِ مِثْلُ الْجَزَّارِ يَكُونُ عِنْدَهُ سَلِيخٌ أَوْ سَمِيطٌ فَإِنَّهُ إذَا مَسَّ السَّمِيطَ بِيَدِهِ أَوْ سِكِّينِهِ تَنَجَّسَ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ يَتَنَجَّسُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ وَاللَّحْمُ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ أَوْ سِكِّينُهُ الَّتِي يَقْطَعُ بِهَا

مِنْ السَّمِيطِ وَبَعْضُ مَنْ يَحْتَرِزُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ السَّمِيطِ قَدْ يَقَعُ فِي هَذَا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ثُمَّ تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى تَنْجِيسِ الْوِعَاءِ الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ إلَى الْبُيُوتِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ يَتَنَجَّسُ مَا يُطْبَخُ فِيهَا أَوْ يُؤْكَلُ فِيهَا فَظَهَرَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ النَّجَاسَةَ كَالسُّمِّ لِسُرْعَةِ سَرَيَانِهَا. وَأَمَّا الرُّءُوسُ فَهِيَ جَائِزَةٌ إذَا سَلِمَتْ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ فِي السَّمِيطِ وَقَدْ جُمِعَتْ الْمَفَاسِدُ الَّتِي فِي السَّمِيطِ وَزَادَتْ عَلَيْهِ الْمَكْسُ الَّذِي اُخْتُصَّتْ بِهِ دُونَ السَّمِيطِ إذْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى شِرَائِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُكَّاسِ وَالْأَكَارِعُ كَذَلِكَ تَنْجِيسُهَا وَمَكْسُهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا النَّقَانِقُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا لِلْجَهَالَةِ بِمَا فِي بَاطِنِهَا. هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا أَنْ يَشُقَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَيَرَى دَاخِلَهَا كُلَّهَا وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ إذَا رَأَى وَاحِدَةً مِنْهَا وَاطَّلَعَ عَلَى مَا فِي بَاطِنِهَا وَأَخَذَ الْبَاقِيَ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْخُشْكِنَانِ. هَذَا لَوْ سَلِمَتْ مِنْ الْمَكْسِ وَهِيَ الْآنَ مُمَكَّسَةٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا، وَهَذَا إنْ كَانَ بَيْعُهَا بَعْدَ نُضْجِهَا، وَأَمَّا إنْ كَانَ يَبِيعُهَا نِيئَةً وَيَزِنُهَا لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَأْخُذُهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَقْلِيهَا لَهُ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي السَّمَكِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ وَزْنًا مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ مَقْلُوًّا بَعْضَ قَلْيٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ نِيئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ كَذَلِكَ فَفِيهِمَا وُجُوهٌ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَلَاهُ لَهُ بَعْدَ وَزْنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا يَعْرِفُ كَمْ وَزْنُهُ بَعْدَ الْقَلْيِ فَهُوَ مَجْهُولٌ هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى مِنْهُ الدُّهْنَ الَّذِي قَلَاهُ لَهُ بِهِ وَهُوَ مَجْهُولٌ. الثَّالِثُ: مَا أَوْقَدَ بِهِ تَحْتَهُ كَذَلِكَ مَجْهُولٌ. الرَّابِعُ: أُجْرَةُ قَلْيِهِ مَجْهُولَةٌ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَجْهُولٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ عَمِلُوا عَلَيْهِ الدَّقِيقَ كَثِيرًا لَمْ يُعْلَمْ كَمْ وَزْنُ الدَّقِيقِ وَلَا كَمْ

وَزْنُ السَّمَكِ الَّذِي يُؤْخَذُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ وَلَوْ قَلَاهُ لَهُ قَبْلَ الْوَزْنِ إذْ أَنَّ الْجَهَالَةَ مَوْجُودَةٌ فِيهِ قَبْلَ الْقَلْيِ وَبَعْدَهُ فَهَذِهِ خَمْسَةُ وُجُوهٍ مِنْ الْمَوَانِعِ فَكَيْفَ يُرْتَكَبُ ذَلِكَ. وَالتَّوَصُّلُ إلَى أَكْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ شَرْعًا سَهْلٌ يَسِيرٌ بِأَنْ يُنْضِجَهُ الْبَائِعُ بِالْقَلْيِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ ثُمَّ يَبِيعَهُ لِلْمُشْتَرِي وَزْنًا أَوْ جِزَافًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الدَّقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ يَسِيرًا مُحْتَاجًا إلَيْهِ. وَأَمَّا الْكُبُودُ فَإِنْ سَلِمَتْ مِنْ الْمَكْسِ لَكَانَتْ جَائِزَةً وَهِيَ الْآنَ مُمَكَّسَةٌ فَيُمْنَعُ شِرَاؤُهَا. وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ كُلُّ مَا هُوَ مُمَكَّسٌ وَيُسْتَغْنَى بِغَيْرِهِ عَنْهُ مِثْلَ النَّشَا وَالسِّمْسِمِ الْمَقْشُورِ وَلَحْمِ الْجَمَلِ وَلَحْمِ النَّعَامِ وَأَمَّا اللِّسَانُ الْبَلَدِيُّ وَالْقُدُورُ الْبَلَدِيَّةُ وَالْكِيزَانُ الْبِيضُ أَيْضًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ فَكَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الشِّرَاءَ مِنْهُمْ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى الْمُحَرَّمِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ فَقَدْ اتَّصَفَ بِتَرْكِ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْقُلُ عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صُورَةَ الْمَكْسِ أَنْ يَحْتَكِرَ شَخْصٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ سِلْعَةً أَوْ سِلَعًا لَا يَبِيعُهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ أَوْ غَيْرُهُمْ أَوْ مَنْ يَخْتَارُهُ أَوْ يَخْتَارُونَهُ وَإِنْ كَثُرُوا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَأْخُذُوا السِّلْعَةَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُ، وَالظُّلْمُ هُوَ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ بَاعَ فَعَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا فَهَذَا لَا يُمْتَنَعُ مِنْ شِرَائِهِ وَلَا بَيْعِهِ، إذْ لَيْسَ فِيهِ إعَانَةٌ انْتَهَى. وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا يُرْضِيهِ بِمَنِّهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ. وَأَمَّا الْمَنْفُوشُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ إذَا اشْتَرَى الْفَطِيرَ عَلَى حِدَةٍ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَاللَّطُوخُ مِثْلُهُ. وَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَيُمْنَعُ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ الْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ مُخْتَلِفَانِ فِي ذَلِكَ فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ اللَّطُوخِ أَكْثَرَ مِنْ فَطِيرِ الْمَنْفُوشِ وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ فَطِيرِ الْمَنْفُوشِ أَكْثَرَ مِنْ اللَّطُوخِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ بَيْعِ الْمُغَابَنَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ بِالْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَمْ وَزْنُ الْفَطِيرِ وَلَا كَمْ وَزْنُ اللَّطُوخِ. وَالْبِيَاعَاتُ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَكِيلٌ وَمَوْزُونٌ

وَجُزَافٌ، وَهَذَا غَيْرُ مَكِيلٍ وَقَدْ اشْتَرَاهُ عَلَى الْوَزْنِ وَأَخَذَهُ مَجْهُولًا وَلَوْ أَخَذَهُ جُزَافًا مِنْ غَيْرِ وَزْنٍ بَعْدَ تَعْيِينِ ذَلِكَ لَهُ لَمُنِعَ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَعْرِفُ مِقْدَارَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ اللَّطُوخِ غَالِبًا وَإِنْ لَمْ يَزِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْمُحَبَّبَة وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا بَيْعُ الْفُقَّاعِ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا وَذَلِكَ إذَا صَبَّ مَا فِي الْكُوزِ فِي وِعَاءٍ وَعَايَنَهُ الْمُشْتَرِي وَعَلِمَ قَدْرَهُ وَصِفَتَهُ. وَأَمَّا عَلَى مَا يَبِيعُونَهُ الْيَوْمَ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلِ أَنَّ كُوزَ الْفُقَّاعِ مِنْ الْأَوَانِي الَّتِي نُهِيَ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِيهَا مِثْلُ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ لِسُرْعَةِ التَّخْمِيرِ الَّذِي يَسْرِي إلَيْهَا بِسَبَبِ سَدِّ مَسَامِّهَا وَكُوزُ الْفُقَّاعِ كَذَلِكَ وَقَدْ يَبِيتُ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَبِيعُهُ لِلنَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَفَقَّدُهُ وَقَدْ يُسْرِعُ إلَيْهِ التَّخْمِيرُ فَيَشْتَرِيهَا الْمُشْتَرِي وَقَدْ صَارَتْ خَمْرًا هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَسُدُّ فَمَ الْكُوزِ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَضَعُهُ عَلَى فَمِهِ فَقَدْ يَكُونُ فَمُهُ لَمْ يُسَدَّ كُلُّهُ فَيَنْزِلُ مَا فِي الْكُوزِ أَوْ بَعْضُهُ فَإِنْ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ مَا فِيهِ فَيَظُنُّهُ مَلْآنًا وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي الْمُحَقَّرَاتِ، وَهَذَا مِنْهَا فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُك وَالْمُشْتَرِي قَدْ اشْتَرَيْت أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ مِمَّا نَقَلُوهُ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَجُوزُ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ إذَا فَرَغَ مَا فِي الْكُوزِ وَعَايَنَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ مَوْضِعِ سُؤْرِ الْكُفَّارِ مَكْرُوهٌ وَالْفُقَّاعُ يَشْرَبُهُ النَّصْرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَكُونُ فَمُهُ مُتَنَجِّسًا فَيُنَجِّسُهُ وَقَدْ لَا يَغْسِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْغُسْلَ الشَّرْعِيَّ قَبْلَ مَلْئِهِ ثَانِيًا ثُمَّ يَأْتِي الْمُسْلِمُ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فَمِ النَّصْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتَحَرَّزُ مِنْ النَّجَاسَةِ. وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ خَاصًّا بِالْفُقَّاعِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُشْبِهُهُ، مِثْلُ السِّقَاءِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْقُونَ مَنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَمَنْ تَعَافُهُ النُّفُوسُ، مِثْلُ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ وَالْيَهُودِيِّ

وَالنَّصْرَانِيِّ ثُمَّ يَأْتِي غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَصِحَّاءِ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فَمِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا فِيهِ ثُمَّ مَعَ هَذَا فَقَدْ عَرِيَ عَنْ أَقْسَامِ الْبِيَاعَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَلَا جُزَافٍ إذْ أَنَّ الْجُزَافَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا مَحْزُورًا يُحِيطُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي بِقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَهَذَا غَائِبٌ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ وَلَا صِفَتُهُ وَلَا يَأْخُذُهُ حَزْرٌ فَهَذِهِ وُجُوهٌ عَدِيدَةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَقُولُ إنَّهُ مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُحَقَّرَاتِ وَغَيْرَهَا فِي شَرْطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَفَسَادِهِ سَوَاءٌ إلَّا مَا اُغْتُفِرَ فِي ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِيهَا وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ الْمَيْلِ إلَى فَتْوَى مُفْتٍ يَطْرَأُ عَلَيْهِ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ فَيَأْنَسُ بِالْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ فَيَخْرُجُ بِسَبَبِهَا عَنْ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ بِسَبَبِ اسْتِمْرَارِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاءُ الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ الْبِيَاعَاتِ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فَشِرَاءُ الْخُبْزِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ وَزْنًا أَوْ جُزَافًا. وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ وَأَنْتَ تَرَى بَعْضَهُمْ يُخْرِجُ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِسَبَبِ أَنَّهُ يَزِنُ الْخُبْزَ فَيَجِدُهُ يَشِحُّ عَنْ الْوَزْنِ فَيُخْرِجُهُ مِنْ كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَيُعْطِيهِ لِلْمُشْتَرِي وَيَدْفَع لَهُ عِوَضًا عَمَّا نَقَصَ مِنْ وَزْنِهِ كِسْرَةً جُزَافًا فَقَدْ خَرَجَ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ الْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ وَزْنِ الْأَوَّلِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ نَاقِصًا وَلَا قَدْرَ الْكِسْرَةِ الَّتِي دَفَعَهَا إلَيْهِ جُزَافًا فَقَدْ دَخَلَ عَلَى وَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَخَذَ مَجْهُولًا وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ فَلَوْ زَادَ الْكِسْرَةَ أَوْ الْخُبْزَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى حَقَّقَ كَمَالَ الْوَزْنِ لَكَانَ جَائِزًا وَإِنْ رَجَحَ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ هِبَةٌ مَجْهُولَةٌ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَكَذَلِكَ لَوْ وَفَّى لَهُ الْوَزْنَ وَدَفَعَ لَهُ الْكِسْرَةَ جُزَافًا لَجَازَ وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ فِي وَزْنِ الْخُبْزِ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ مَجْهُولًا خَاصًّا بِهِ بَلْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي أَكْثَرِ الْبِيَاعَاتِ كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِيهِ مَا يُفْعَلُ فِي الْخُبْزِ مِنْ الْمَحْذُورِ فَلْيُحْذَرْ

مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ الثَّمَنَ مِنْ حِلِّهِ وَيَأْكُلُهُ حَرَامًا بِتَصَرُّفِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَمِنْ ذَلِكَ الشِّرَاءُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَةِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ شِرَاءِ الْمَائِعَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى يَتَدَيَّنُونَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ إنَّمَا هِيَ دَمُ الْحَيْضِ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَا عَدَاهُ طَاهِرٌ عَلَى زَعْمِهِمْ فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ يَبُولُ فِي دُكَّانِهِ وَيَتَنَاوَلُ الْمَائِعَ وَغَيْرَهُ بِيَدِهِ وَلَا يُطَهِّرُهَا، وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ الْمَقْلُوُّ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُكْثِرُ مُبَاشَرَتَهُ لَهُ حَتَّى قَدْ يَصِلُ ذَلِكَ إلَى تَعْيِينِ النَّجَاسَةِ يَقِينًا فَالشِّرَاءُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا مَكْرُوهٌ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا يَأْكُلُهُ حَتَّى يَغْسِلَهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ غَسْلُهُ هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ شِرَاءَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَكْرُوهٌ لَوْ كَانَ طَاهِرًا بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ فِي الشِّرَاءِ مِنْهُمْ مَنْفَعَةً لَهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ أَحَقُّ بِالنَّفْعِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُورٌ بِإِعَانَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ. وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ أَنَّ مَالِكًا ذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْبُلْدَانِ يَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي أَسْوَاقِهِمْ صَيَارِفَةً وَجَزَّارِينَ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَرَى لِلْوُلَاةِ أَنْ يَفْعَلُوا فِي ذَلِكَ فِعْلَ عُمَرَ. قَالَ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْصِبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهْلِ دِينِهِمْ مَجْزَرَةً عَلَى حِدَةٍ وَيُنْهَوْنَ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُنْهَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُمْ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ رَجُلُ سَوْءٍ لَا يُفْسَخُ شِرَاؤُهُ وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ الْيَهُودِيِّ مِثْلَ الطَّرِيفَةِ وَشِبْهِهَا مِمَّا لَا يَأْكُلُونَهُ فَيُفْسَخُ عَلَى كُلِّ حَالٍ انْتَهَى. وَالطَّرِيفَةُ هِيَ مَا يُوجَدُ مِنْ الرِّئَةِ مَلْصُوقَةً بِالشَّحْمِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَذْكِيَتِهِمْ لِهَذِهِ وَكُلِّ ذِي ظُفُرٍ وَالشُّحُومِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ. فَحَكَى اللَّخْمِيُّ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا: قَوْلٌ بِالْجَوَازِ وَقَوْلٌ بِالْمَنْعِ وَقَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ وَقَوْلٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ فَقِيلَ يُؤْكَلُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَقِيلَ

لَا يُؤْكَلَانِ وَقِيلَ يُؤْكَلُ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا يُؤْكَلُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ انْتَهَى. فَإِذَا تَرَكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَاشْتَرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الشِّرَاءِ مِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُمْ مِنْ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَشْتَرُونَ الْخِرَقَ مِمَّنْ يَجْمَعُهَا مِنْ الطُّرُقِ وَالْكِيمَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَقْذَرَةِ بِالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَثَرِ الْحَيْضِ أَوْ مِنْ أَثَرِ مَنْ يُعَافُ أَثَرُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاءِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا أَيْدِيَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ الْأَوْعِيَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ سِيَّمَا الصَّلَاحِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ مَنْ يُصَلِّي مِنْهُمْ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ مَنْ هُوَ أَنْظَفُ وَجْهًا؛ لِأَنَّ النَّظَافَةَ وَالْوَضَاءَةَ غَالِبًا لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْوُضُوءِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْوَضِيءِ فَالْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَمِنْ ذَلِكَ الشِّرَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبْلِيَّاتِ وَالدِّكَكِ الْمُسْتَدِيمَةِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يَقْعُدُ فِي طَرِيقِهِمْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ لِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَمُرَّ فِي حَاجَتِهِ أَوْ يَقِفَ قَدْرَ ضَرُورَتِهِ وَلَا يَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ دُكَّانٌ يَبِيعُ فِيهِ وَيَشْتَرِي؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقَاتِهِمْ وَلَوْ كَانَتْ مُتَّسِعَةً فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَا سِيَّمَا وَالطُّرُقُ فِي هَذَا الْوَقْتِ قَدْ ضَاقَتْ عَنْ الطَّرِيقِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلنَّاسِ وَذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَمُرَّ جَمَلَانِ مَعًا مُحَمَّلَانِ تِبْنًا فِي الطَّرِيقِ لَا يَمَسُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى حَدِّ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ وَإِلَى مَا عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الْيَوْمَ فَكَيْفَ يَجُوزُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَا سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ فِي وَقْتِ مُنْصَرَفِ النَّاسِ إلَى الْخَمْسِ صَلَوَاتٍ أَوْ إلَى تَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْجُلُوسِ بِالطَّبْلِيَّاتِ عَلَى أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ فَيُضَيِّقُونَ عَلَى النَّاسِ طَرِيقَهُمْ إلَى بَيْتِ رَبِّهِمْ فَهُمْ غَاصِبُونَ لِذَلِكَ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ

إلَيْهِ. وَكُلُّ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ فَقَدْ أَعَانَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ مِنْ الْغَصْبِ فَهُوَ شَرِيكٌ مَعَهُمْ فِي الْإِثْمِ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِيهَا الشَّيْءُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِالْحَبْلَقَةِ فَإِنَّهُ يَنْضَافُ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ مَفْسَدَةٌ أَكْبَرُ مِنْهَا تَقَدَّمَ مِثْلُهَا فِي السِّقَاءِ وَالْفُقَّاعِ وَهِيَ أَنَّ تِلْكَ الْمِلْعَقَةَ الَّتِي يَغِطُّهَا لِلنَّاسِ لَا يَرُدُّ عَنْهَا أَحَدًا مِمَّنْ كَانَ كَالْأَجْذَمِ وَالْأَبْرَصِ وَالصَّبِيِّ وَالصَّغِيرِ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ اللِّفْتَ وَاللُّوبِيَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ فِيهِمَا النَّشَادِرَ حَتَّى يَخْضَرَّا بِذَلِكَ وَهُوَ نَجِسٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ غَيْرُهُمَا مِنْ الْمَائِعَاتِ فَكُلُّ مَا يُبَاشِرُهُ مِنْهَا تَنَجَّسَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّمِيطِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَمِنْ بَابٍ أَحْرَى إذْ أَنَّهُ لَا يُتَحَرَّزُ مِنْ بَوْلِ نَفْسِهِ فِي طَعَامِهِ فَضْلًا عَمَّا يَعْمَلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِمَّنْ يَجْلِسُ فِي الْمَقَاعِدِ الَّتِي فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إذْ أَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ فَشَا هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ حَتَّى قَدْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ يُكْرِي تِلْكَ الْمَقَاعِدَ الَّتِي تَلِي بَيْتَهُ أَوْ مِلْكَهُ أَوْ مَا هُوَ حَاكِمٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُ أُجْرَةَ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ بَيْنَهُمْ فَلَا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَضِيَا مَعًا بِذَلِكَ فَالشَّرْعُ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالْمَقَاعِدِ لَيْسَ إلَّا بَلْ كُلُّ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ فَلَا يَنْبَغِي مُعَامَلَتُهُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بُدٌّ كَهَذِهِ الدَّكَاكِينِ الَّتِي يَعْمَلُونَ بِهَا مَسَاطِبَ يَقْطَعُونَهَا مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ خَارِجَةً عَنْ حَوَانِيتِهِمْ قَدْ ضَاقَ الطَّرِيقُ بِهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ عَدَمُ النَّظَرِ إلَى مَا كُلِّفَهُ الْمَرْءُ مِنْ مُرَاعَاةِ الشَّرْعِ وَغَفْلَةُ مَنْ غَفَلَ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَتَرْكُ السُّؤَالِ مِنْ الْعَامَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ مُنِعَ الشِّرَاءُ مِنْ الْمُكَّاسِ مَوْجُودٌ فِي الشِّرَاءِ مِمَّنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إذْ أَنَّهُ لَوْ تَحَامَى الْمُسْلِمُونَ الشِّرَاءَ مِنْهُ لِأَجْلِ مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ غَصْبِ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَنَزَعَ عَنْ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالشِّرَاءُ مِنْهُمْ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ، وَذَلِكَ

لَا يَنْبَغِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَصِيرُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي إثْمِ غَصْبِهِمْ لِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ. أَلَا تَرَى إلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ شَيْخٌ مِنْ الصُّلَحَاءِ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ وَكَانَ الْإِمَامُ يُعَظِّمُهُ لِخَيْرِهِ وَبَرَكَتِهِ ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ الشَّيْخَ لَيَّسَ جِدَارَ بَيْتِهِ بِالطِّينِ مِنْ الْخَارِجِ فَتَرَكَهُ الْإِمَامُ وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إذَا جَاءَ إلَيْهِ أَجْلَسَهُ إلَى جَانِبِهِ وَرَحَّبَ بِهِ فَلَمَّا أَنْ بَلَغَهُ عَنْهُ ذَلِكَ تَرَكَهُ وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَبَقِيَ كَذَلِكَ أَيَّامًا فَسَأَلَ الشَّيْخُ أَصْحَابَ الْإِمَامِ عَنْ سَبَبِ إعْرَاضِهِ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّك لَيَّسْت جِدَارَ بَيْتِك بِالطِّينِ مِنْ خَارِجِ فَجَاءَ الشَّيْخُ إلَى الْإِمَامِ فَسَأَلَهُ عَنْ مُوجِبِ هِجْرَانِهِ لَهُ فَأَخْبَرَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ لِي ضَرُورَةٌ فِي تَلْيِيسِ الْجِدَارِ وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ أَمْرٍ فِي حَقِّ الْمَارِّينَ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ: ذَلِكَ غَصْبٌ فِي طَرِيقِهِمْ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: هُوَ نَزْرٌ يَسِيرٌ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ الْيَسِيرُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُ كَيْفَ أَفْعَلُ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ تُزِيلَ التَّلْيِيسَ وَإِمَّا أَنْ تُنْقِصَ الْجِدَارَ وَتُدْخِلَهُ فِي مِلْكِك قَدْرَ التَّلْيِيسِ فَتَبْنِيهِ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تُلَيِّسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ الْإِمَامُ حَتَّى امْتَثَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ مَرَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِجَانِبِ قَمْحٍ قَدْ سَنْبَلَ فَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَدَهُ عَلَى السُّنْبُلِ ثُمَّ نَزَعَهَا فِي الْوَقْتِ فَرَآهُ الشَّيْخُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ صَاحِبِ الْقَمْحِ وَيَسْتَحِلَّ مِنْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْفَقِيرُ: يَا سَيِّدِي أَلَيْسَ السُّنْبُلُ قَدْ وَقَفَ كَمَا هُوَ وَمَا ضَرَّهُ مَا فَعَلْت بِهِ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أَرَأَيْت لَوْ مَرَّ بِهِ أَلْفُ رَجُلٍ أَوْ أَكْثَرُ فَفَعَلُوا مَا فَعَلْت أَكَانَ يَرْقُدُ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ لَك فِي ذَلِكَ حِصَّةٌ مِنْ الظُّلْمِ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ، وَلَمْ يَصْحَبْهُ حَتَّى اسْتَحَلَّ مِنْهُ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى بَرَكَةِ تَفَقُّدِ الْعُلَمَاءِ لِلْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي زَمَانِهِمْ كَيْفَ يَتَلَقَّوْنَهَا بِهَذَا التَّلَقِّي الْحَسَنِ الْجَمِيلِ. فَلَوْ بَقِيَ الْعُلَمَاءُ عَلَى طَرَفٍ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَتْ هَذِهِ الْمَوَادُّ تَنْحَسِمُ أَوْ يَقِلُّ فَاعِلُهَا وَلَكِنَّ السُّكُوتَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَعَدَمَ السُّؤَالِ مِنْ

الْعَامَّةِ لَهُمْ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَصَارَ مُتَزَايِدًا وَفَّقَنَا اللَّهُ لِمَرْضَاتِهِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَبْصِرَتِهِ: وَأَمَّا مَا يَكُونُ بَيْنَ الدِّيَارِ مِنْ الرِّحَابِ وَالشَّوَارِعِ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْهَا إلَى دَارِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ وَبِأَهْلِ الْمَوَاضِعِ مُنِعَ، وَإِنْ فَعَلَ هُدِمَ عَلَيْهِ وَاخْتُلِفَ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ. فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ الْجَوَازُ وَالْكَرَاهَةُ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ يُهْدَمُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ اقْتَطَعَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْنِيَتِهِمْ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرَّ بِكِيرِ حَدَّادٍ بِالسُّوقِ فَأَمَرَ بِهَدْمِهِ وَقَالَ تُضَيِّقُونَ عَلَى النَّاسِ. وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا تَشَاحُّوا فِي الطَّرِيقِ فَسَبْعَةُ أَذْرُعٍ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ انْتَهَى. فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَا فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ فِي قَضَاءِ مَآرِبِهِ إنْ قَدَرَ خِيفَةً مِنْ الْمَفَاسِدِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ وَلِوُجُوهٍ أُخْرَى نَذْكُرُ بَعْضَهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةً جَلِيَّةً لِغَيْرِ الْعَالِمِ فَكَيْفَ لِلْعَالِمِ. فَمِنْهَا إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَيَنْوِي بِذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِي الْخُرُوجِ إلَى السُّوقِ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ التَّوَاضُعِ مَعَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَنِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ وَتَهْذِيبِهِمْ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنْ دُخُولِ الرِّبَا عَلَيْهِمْ إذْ أَنَّ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فِي جُلِّ بِيَاعَاتِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَفَ لِجَرِّ الْمَنْفَعَةِ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنْتَ تَرَى كَثْرَةَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ يُعَامِلُ الْآخَرَ فَيَشْتَرِي مِنْهُ السِّلَعَ الَّتِي فِي دُكَّانِهِ ثُمَّ إنْ أَعْوَزَهُ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ ثَمَنَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَامِلْهُ مَا أَقْرَضَهُ حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِهِ السِّلْعَةَ

الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ لَتَشَوَّشَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ لَا يُقْرِضُهُ ثَمَنَ ذَلِكَ إلَّا بِكُرْهٍ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً. وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَفَاسِدِ مِثْلُ عَدَمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَكَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ دُخُولِ الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ عَلَيْهِمْ وَالسَّلَفِ وَالصَّرْفِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذِهِ الْمَعَانِي وَغَيْرُهَا كَثِيرَةٌ بَيْنَهُمْ فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يُبَاشِرُهُمْ فِي ذَلِكَ انْحَسَمَتْ مَادَّةُ الْمَفَاسِدِ وَقَلَّ وُقُوعُهَا بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ الَّذِي يَدُورُ بَيْنَهُمْ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ تَرْكَ التَّكَبُّرِ وَتَرْكَ التَّجَبُّرِ وَتَرْكَ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ إذْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْأَسْوَاقَ وَحَمَلَ سِلْعَتَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ إلَى السُّوقِ فِي خِلَافَتِهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ فِي الْغَالِبِ إلَّا النَّبَطَ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِهِ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وَعَذَلَهُمْ فِي تَرْكِهِمْ السُّوقَ، فَقَالَ لَهُ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَغْنَانَا عَنْ الْأَسْوَاقِ بِمَا فَتَحَ بِهِ عَلَيْنَا، فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَيَحْتَاجَنَّ رِجَالُكُمْ إلَى رِجَالِهِمْ وَنِسَاؤُكُمْ إلَى نِسَائِهِمْ وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا رَأَى النَّبَطَ يَقْرَءُونَ الْعِلْمَ يَبْكِي إذْ ذَاكَ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْعِلْمَ إذَا وَقَعَ لِغَيْرِ أَهْلِهِ يَدْخُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا أَنْتَ تَرَاهُ وَاَللَّهُ يُرْشِدُنَا لِمَا فِيهِ السَّدَادُ بِمَنِّهِ. وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ مِنْ إرْشَادِ الضَّالِّ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَالسَّلَامِ عَلَى إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي السُّوقِ إنْ شَاءَ سِرًّا، وَإِنْ شَاءَ جَهْرًا فَالسِّرُّ فِيهِ فَائِدَةٌ كُبْرَى وَهِيَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعِ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْرُ فِيهِ ذَلِكَ وَزِيَادَةُ تَنْبِيهٍ لِلنَّاسِ عَلَى ذِكْرِ رَبِّهِمْ وَحَدُّ الْجَهْرِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمِنْ يَلِيهِ وَفَوْقَ ذَلِكَ قَلِيلًا وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِحَيْثُ إنَّهُ يَعْقِرُ حَلْقَهُ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ وَيُضِيفُونَ إلَيْهِ التَّلْحِينَ وَالتَّرْجِيعَ، وَذَلِكَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَحَدُّ السِّرِّ تَحْرِيكُ اللِّسَانِ بِمَا يُرِيدُهُ وَهُوَ أَنْ يَتَشَهَّدَ فَيَقُولَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ

وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ التَّامَّةَ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ هَذَا السُّوقِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ بِذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ فَيَغْتَنِمُ بَرَكَةَ الِامْتِثَالِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَعْتَبِرُ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْرُجُ إلَى السُّوقِ وَلَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إلَّا أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ وَيُسَلِّمَ عَلَى إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمَا. وَالْخُرُوجُ إلَى السُّوقِ مِنْ شِعَارِ الصُّلَحَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ يَخْرُجُونَ إلَى السُّوقِ وَيَقْعُدُونَ فِيهِ انْتَهَى. وَمَا سُمِّيَ السُّوقُ سُوقًا إلَّا لِنَفَاقِ السِّلَعِ فِيهِ فِي الْغَالِبِ وَأَكْبَرُ سِلَعِ الْمُؤْمِنِ الَّتِي يَطْلُبُ رِبْحَهَا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ وَإِرْشَادُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ فِي الْغَالِب مَوْجُودٌ فِي الْأَسْوَاقِ لِكَثْرَةِ وُجُودِ إخْوَانِهِ فِيهَا وَفِيهِمْ الْعَالِمُ بِمَا يُحَاوِلُهُ وَالْجَاهِلُ بِذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا فِي الْأَسْوَاقِ يَتَّجِرُونَ وَفِي حَوَائِطِهِمْ يَعْمَلُونَ وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَسَلَفُهَا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يُمْكِنُ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَذَلِكَ امْتِهَانٌ لِحَقِّ الْعِلْمِ وَنَقْصٌ لِحُرْمَةِ الْعَالِمِ وَاسْتِهَانَةٌ بِقَدْرِهِمَا وَأَهْلُ الْأَسْوَاقِ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْأَلُونَ فِي الْغَالِبِ وَبَذْلُ الْعِلْمِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا سُئِلَ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْعَالِمَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ تَرْكَ السُّؤَالِ وَتَرْكَ التَّعْلِيمِ مِنْ الْمُنْكَرِ الْبَيِّنِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَنْ يَنْصَحَ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ التَّلَطُّفِ لَهُمْ وَامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَالتَّعْلِيمُ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرُ بَيَانًا مِنْ غَيْرِهَا لِوُجُودِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَعًا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ الْبَائِعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ فِي السِّلَعِ الَّتِي فِي دُكَّانِهِ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَنْسَاهُ فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ «ارْجِعْ

فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا حَتَّى قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي فَعَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَالِمَ لَا يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ حَتَّى يُسْأَلَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ دَلِيلٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ تِلْكَ لَا تَجُوزُ فَغَيَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنَّ يُغَيِّرَ عَلَى النَّاسِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَإِذَا غَيَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ سَأَلُوهُ فَأَجَابَهُمْ وَإِنَّمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ مَعَ الْأَعْرَابِيِّ ثَلَاثًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْأَلَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ مِرَارًا قَبْلَ الْإِلْقَاءِ ثَبَتَ الْعِلْمُ بَعْدَهُ كَمَا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَا مُعَاذُ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ يَا مُعَاذُ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ فَأَلْقَى إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ» . وَحِكْمَةُ تَنْبِيهِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثَيْنِ ثَلَاثًا أَعْنِي حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ وَحَدِيثَ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ إذَا وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ لَهُ قَدْرٌ وَبَالٌ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا وَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ مُعَاذٍ فِي الِاعْتِقَادِ وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَمَحَلُّ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ مَحَلُّ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ كَرَّرَهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثًا، وَكَذَلِكَ كَرَّرَ مَا نَاسَبَهُمَا وَمَا لَمْ يَتَأَكَّدْ أَمْرُهُ يَكْتَفِي فِيهِ مِنْ التَّنْبِيهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَنْ عَقَلَ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ يَزِيدُ لَهُ فِي التَّنْبِيهِ حَتَّى يَعْقِلَ. وَلَمْ يَزَلْ عَلَى هَذَا شَأْنُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ إذْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَالْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا أَكَّدَ هَذَا الْأَمْرَ وَبَيَّنَهُ وَأَثْبَتَهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَالْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّتْ الْأُمَّةُ إلَى هَلُمَّ جَرًّا. أَلَا تَرَى

إلَى مَا جَرَى لِلْإِمَامِ الطُّرْطُوشِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَانَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمَّا أَنْ وَرَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ لِيَحُجَّ فَلَمَّا أَنْ حَجّ وَرَجَعَ وَجَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ شَاغِرَةً مِنْ الْعِلْمِ وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فِي مَسْأَلَةٍ جِهَارًا وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُمْسِكَ فِي يَدِهِ كِتَابًا لِغَلَبَةِ الْأَمْرِ مِنْ السَّلْطَنَةِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ لِبِدْعَةٍ كَانَتْ فِيهِمْ تَدَيَّنُوا بِهَا فَلَمَّا أَنْ رَأَى الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْحَالَ وَدَّعَ رَفِيقَهُ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَأَرْسَلَ السَّلَامَ إلَى وَلَدِهِ بِالْمَغْرِبِ، وَقَالَ: هَذِهِ بِلَادٌ لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْهَا لِمَا غَلَبَ فِيهَا مِنْ الْجَهْلِ فَجَعَلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْعُدُ عَلَى دُكَّانِ بَيَّاعٍ فَيُعَلِّمُهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عَقِيدَتِهِ وَفَرَائِضِ وُضُوئِهِ وَسُنَنِهِ وَفَضَائِلِهِ، وَكَذَلِكَ تَيَمُّمُهُ وَغُسْلُهُ وَصَلَاتُهُ ثُمَّ يَنْظُرُ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ السِّلَعِ فَيُعَلِّمُهُ مَا فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُهُ وَكَيْفِيَّةَ تَعَاطِيهِ بَيْعَهَا وَشِرَاءَهَا وَكَيْفِيَّةَ دُخُولِ الرِّبَا عَلَيْهِ وَالسَّلَامَةَ مِنْهُ إنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ يَقُولُ لَهُ عَلِّمْ جَارَك ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى دُكَّانٍ آخَرَ حَتَّى قَامَ الْعِلْمُ عَلَى مَنَارِهِ وَزَالَ الْجَهْلُ فِي حِكَايَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا فَكَانَ السَّبَبَ لِانْتِشَارِ الْعِلْمِ وَظُهُورِهِ فِي الْأَسْوَاقِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى يُطْلَبَ مِنْهُ التَّعْلِيمُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ مِمَّنْ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ بِبَرَكَةِ التَّوَاضُعِ وَامْتِثَالِ السُّنَّةِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ السَّلَفِ فِي دُخُولِ الْأَسْوَاقِ وَمُرَاجَعَةِ الْعَوَامّ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي. فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ الْعِلْمِ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ لِتَعْلِيمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مُعْرِضِينَ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ كَانَ النَّاسُ مُعْرِضِينَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ الْمُكَرَّمَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ لِيَتَّبِعُوهُ وَيَنْصُرُوهُ إذْ أَنَّ الْغَنِيمَةَ عِنْدَهُمْ إرْشَادُ شَارِدٍ عَنْ بَابِ رَبِّهِ أَوْ ضَالٍّ لَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ فَيَرُدُّونَهُمْ إلَى بَابِ مَوْلَاهُمْ وَيُوقِفُونَهُمْ عَلَى بِسَاطِ كَرَامَتِهِ بِاتِّبَاعِ

أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي حَسَنٌ الزُّبَيْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنِّي لَا أُرِيدُ أَحَدًا مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَا مِنْ الْعُلَمَاءِ يَأْتِينِي إذْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِي وَلَا حَاجَةَ لِي بِهِمْ وَإِنَّمَا أُرِيدُ مَنْ هُوَ شَارِدٌ عَنْ بَابِ رَبِّهِ فَأَرُدَّهُ إلَيْهِ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ قَعَدَ فِي السُّوقِ، وَلَمْ يَأْتِ الْعُلَمَاءَ وَالصُّلَحَاءَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِتِلْكَ الْحَالِ أَنَّهُ شَارِدٌ عَنْ بَابِ رَبِّهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ سِيَاسَةُ مَنْ هَذَا حَالُهُ حَتَّى يُوقِفَهُ بِبَابِ رَبِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى نِيَّةِ الْعُلَمَاءِ إذَا صَلُحَتْ كَيْفَ يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا مَعَ الْبَاعَةِ وَمَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْبُعْدِ وَالْجَهْلِ فَيَرُدُّونَهُمْ بِالْعِلْمِ إلَى أَسْنَى الْأَحْوَالِ وَأَرْفَعِهَا لَا جَرَمَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْمُبَارَكِ انْتَفَعُوا وَنَفَعُوا وَعَمَّتْ بَرَكَتُهُمْ لِأَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهِمْ بِخِلَافِ مَا يُعْهَدُ مِنْ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ مَعَ أَنَّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يَعْدَمْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ إذْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْمَغْرِبِ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَمْ يُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ بُعْدُ الزَّمَانِ وَلَا مُخَالَطَةُ غَيْرِ الْجِنْسِ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ فَانْتَفَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِمْ وَعَمَّتْ بَرَكَتُهُمْ عَلَى النَّاسِ كَافَّةَ مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ وَصُلَحَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ. وَقَدْ نَصَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ تَعْيِينُ جِهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «طَائِفَةٌ بِالْمَغْرِبِ» . وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ» فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَقِيَ الْخَيْرُ مُتَّصِلًا وَبِسَبَبِ وُجُودِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ارْتَدَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَلَّ ظُهُورُهَا وَأَهْلُهَا وَنَزَلَتْ الْبَرَكَاتُ وَجَاءَتْ الْخَيْرَاتُ وَبَقِيَ النَّاسُ فِي خَفَارَتِهِمْ مَحْمُولِينَ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ عَكْسُ مَا هُوَ عَلَيْهِ الْحَالُ الْيَوْمَ فِي الْغَالِبِ فِي الْوَقْتِ فَتَجِدُ بَعْضَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ يَتَشَبَّهُ بِالْمُلُوكِ فِي الْبَوَّابِينَ وَالْحُجَّابِ وَمَنْ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الطَّرَّادِينَ حَتَّى قَلَّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمُضْطَرِّينَ وَالْمُحْتَاجِينَ إلَى مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلْمِ فَيَتَحَيَّلُونَ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ بِوَسَائِطَ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ

وَهَذَا الْحَالُ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ هُوَ مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْغَالِبُ مِنْ بَعْضِ الْعَوَامّ الْيَوْمَ الشُّرُودُ عَنْ الْعِلْمِ وَالنُّفُورُ عَنْ أَهْلِ الْخَيْرِ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الْهِمَمِ لِغَيْرِ سَبَبٍ فَكَيْفَ بِهِمْ إذَا وَجَدُوا السَّبَبَ وَيَعْسَرُ عَلَيْهِمْ أَمْرُ السُّؤَالِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ فَيَقَعُ الْفِرَارُ وَالشُّرُودُ أَكْثَرُ فَكَانَ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ جَمِيعُهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ فِي ذِمَّةِ مَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّا مَنَعَهُمْ بِهِ عَنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ. ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ بَقِيَّةِ فِعْلِ الْعَالِمِ فِي السُّوقِ وَأَدَبِهِ فَإِذَا مَشَى فِي السُّوقِ فَيَضَعُ بَصَرَهُ حَيْثُ يُرِيدُ أَنْ يَضَعَ قَدَمَهُ وَيَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ رَفْعِ بَصَرِهِ لِئَلَّا يَقَعَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ رُؤْيَتُهُ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَفَعَ بَصَرَهُ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَا رَفَعَهُ إلَّا وَيَنْظُرُ إلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ إذْ أَنَّ مِنْ عَادَةِ بَعْضِ نِسَائِهِمْ الْجُلُوسُ فِي الطَّاقَاتِ وَأَبْوَابِ الرِّيحِ، وَذَلِكَ عَلَى الْأَسْوَاقِ وَالطَّرَقَاتِ فِي الْغَالِبِ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَكْرَهُونَ فُضُولَ النَّظَرِ كَمَا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ. وَقَدْ دَخَلَ بَعْضُ النَّاسِ وَمَعَهُ وَلَدُهُ عَلَى بَعْضِ السَّلَفِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ يَا سَيِّدِي أَمَا تَخَافُ أَنْ تَقْعُدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى السُّقُوطِ، فَقَالَ لَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْت ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ خَشَبَةٌ مَكْسُورَةٌ فِي سَقْفِهِ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ مَا أَكْثَرَ فُضُولَك لِي الْيَوْمَ أَرْبَعُونَ سَنَةً فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا رَأَيْت سَقْفَهُ وَأَنْتَ مِنْ حِينِك رَأَيْته أَوْ كَمَا قَالَ وَقَدْ مَكَثَ بَعْضُهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت لَهُمْ مُحِبًّا إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّا قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فَيَتَأَكَّدُ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ صَارَ عِنْدَهُمْ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ مِثْلُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ اللَّغَطِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ فَيُنَبِّهُ الْعَالِمُ عَلَى هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ، إذْ الْكَلَامُ قَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَيُصْلِحُ ذَاتَ الْبَيْنِ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ

كُلُّ ذَلِكَ مَعَ الرِّفْقِ بِهِمْ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ وَتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ مِنْهُمْ وَزِيَارَةِ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ بِالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَالدِّينُ أَهَمُّ. وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ عِيَادَةَ الْمَرْضَى عَلَى وَجْهِهَا إنْ وَجَدَ لِذَلِكَ سَبِيلًا. وَقَدْ يَجِدُ بَعْضُهُمْ فِي سُوقِهِ فَتَحْصُلُ لَهُ النِّيَّةُ وَالْعَمَلُ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جِنَازَةٍ إنْ وَجَدَهَا عَلَى السُّنَّةِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ وَالْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَا عَلَى وُضُوءٍ فِي كُلِّ الْحَالَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِسِلَاحِهِ فَإِذَا وَجَدَ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَجَدَ السَّبِيلَ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ الْقُرُبَاتِ غَالِبًا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُفَارِقَ عِدَّةً تَكُونُ مَعَهُ إذْ أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ فِي السُّوقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ شَاةً أَوْ غَيْرَهَا تُرِيدُ أَنْ تَمُوتَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ صَاحِبِهَا مَا يَذْبَحُهَا بِهِ فَيُجْبِرُهَا عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا. وَقَدْ يَجِدُ دَابَّةً قَدْ انْخَنَقَتْ بِحَبْلٍ فَيَقْطَعُهُ بِمَا مَعَهُ مِنْ تِلْكَ الْآلَةِ فَإِنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ هَذَا حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِنِيَّةِ السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ جُيُوشِهِمْ وَمَا يَجْرِي لَهُمْ فَيُسَرُّ لِخَيْرٍ إنْ سَمِعَهُ عَنْهُمْ وَيَحْزَنُ لِضِدِّهِ فَيَكُونُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ يَسْأَلُ عَمَّنْ غَابَ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَيُسَرُّ وَيَحْزَنُ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ شَرِيكًا لِلْوَاقِعِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا عَمَلٍ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى السُّوقِ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ إذَا خَرَجَ وَلَيْسَ السَّلَامُ الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ فَكَانُوا مُشْتَغِلِينَ فِي خَيْرٍ كَانَ شَرِيكًا لَهُمْ فِيهِ، وَإِنْ خَاضُوا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي خَرْجِهِ وَيُؤَخِّرُ الْيُسْرَى ثُمَّ يَسْتَعِيذُ فَيَقُولَ (اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلُ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ثُمَّ

يَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ خُرُوجِهِ فَإِنْ كَانَ لِلسُّوقِ طَرِيقَانِ فَلْيَخْتَرْ أَقْرَبَهُمَا يَمْشِي فِيهِ؛ لِأَنَّ الْخُطَى الزَّائِدَةَ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهَا وَكَوْنُهُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ لِإِلْقَاءِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْقُرُبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ تِلْكَ الْخُطَى الزَّائِدَةِ وَمَعَ ذَلِكَ يُرِيحُ بَدَنَهُ مِنْ زِيَادَةِ التَّعَبِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ الْمَشْيِ فِي ثَنِيَّاتِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِ بَعْضِهِمْ فِيهَا بَلْ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ فَإِنَّ فِيهَا السَّلَامَةَ، وَإِنْ بَعُدَتْ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ أَنْ يَتَرَبَّصَ قَلِيلًا فِي الْبَيْتِ حَتَّى يُفَكِّرَ أَهْلَهُ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِكَيْ يَكُونَ مَشْيُهُ إلَى السُّوقِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِئَلَّا يَحْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى حَوَائِجَ أُخَرَ فَيَحْتَاجَ أَنْ يَتَكَرَّرَ إلَى السُّوقِ مِرَارًا فَيَكُونَ ذَلِكَ ضَيَاعًا لِلْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقُرُبَاتِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِنْ حُضُورِ الْأَسْوَاقِ فَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقُ إلَى السُّوقِ بَعِيدَةً يَصْعُبُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ لِبُعْدِهَا أَوْ كَانَ ضَعِيفًا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ، وَإِنْ قَرُبَ فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ التَّوَاضُعِ، فَإِذَا رَكِبَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي الذِّكْرِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ شَهِدْت عَلِيًّا أُتِيَ لَهُ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَك إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْت، فَقَالَ «إنَّ رَبَّك لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ» انْتَهَى. وَيَعْتَبِرُ عِنْدَ رُكُوبِهِ عَلَيْهَا إذْ أَنَّ الدَّابَّةَ لَا تَحْمِلُ نَفْسَهَا فَكَيْفَ تَحْمِلُ غَيْرَهَا {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41] فَالْأَرْضُ مُمْسَكَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهِيَ عَاجِزَةٌ عَنْ إمْسَاكِ

نَفْسِهَا فَكَيْفَ تُمْسِكُ غَيْرَهَا فَيَسْتَصْحِبُ هَذَا النَّظَرَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فَيَشْهَدُ بِذَلِكَ رُؤْيَةَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ وَاسِطَةٍ فَيَقْوَى بِذَلِكَ إيمَانُهُ وَيَقِينُهُ وَيَرْجِعُ لَهُ الْإِيمَانُ حَالًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَقَالًا، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَمْشِيَ بِالدَّابَّةِ عَلَى رِفْقٍ وَلَا يُزْعِجُهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ» . وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي إيصَالِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَوَصَّلُونَ بِذَلِكَ إلَى سُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ مَعَ تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي رُجُوعِهِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ لِلْمُكَارِي فَيَشْتَرِطُ أَنْ لَا يُمَكِّنَ الْمُكَارِيَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الْعَنِيفِ الَّذِي اعْتَادُوهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَلْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ إذَا رَأَى قِرْطَاسًا فِي سِكَّةِ الطَّرِيقِ رَفَعَهُ وَأَزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِ الْمِهْنَةِ إلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَصُونُهُ فِيهِ وَلَا يُقَبِّلْهُ وَلَا يَضَعْهُ عَلَى رَأْسِهِ إذْ إنَّ فِعْلَ ذَلِكَ بِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَسَوَاءٌ كَانَ مَكْتُوبًا أَوْ غَيْرَ مَكْتُوبٍ فَإِنْ كَانَ مَكْتُوبًا فَقَدْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الثَّوَابِ مَا فِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مَكْتُوبٌ فَيَكُونُ أَخْذُهُ لِذَلِكَ تَوْقِيرًا وَتَعْظِيمًا لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ إنَّ الْوَرَقَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ النَّشَا، وَإِنْ قَلَّ، وَكَذَلِكَ يَنْوِي إذَا وَجَدَ خُبْزًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ مِمَّا يُؤْكَلُ فَإِنَّهُ يُزِيلُهُ عَنْ مَوْضِعِ الْمِهْنَةِ إلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَصُونُهُ فِيهِ وَلَا يَضَعُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَلَا يُقَبِّلُهُ تَحَرُّزًا مِنْ الْبِدْعَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا جَاءَهُ الْقَمْحُ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا مِنْ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّاوِيَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَعْمَلُ عَمَلًا حَتَّى يَلْتَقِطُوا مَا وَقَعَ مِنْ الْحَبِّ عَلَى الْبَابِ أَوْ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُونَ إلَى مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَهَذَا الْبَابُ مُجَرَّبٌ كُلُّ مَنْ عَظَّمَ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ، وَإِنْ وَقَعَتْ الشِّدَّةُ بِالنَّاسِ جَعَلَ اللَّهُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت ذَا حَزْمٍ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا قَدَرَ أَنْ يَحْمِلَ الْحَوَائِجَ كُلَّهَا بِنَفْسِهِ

أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ فَهُوَ بِهِ أَوْلَى لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ رَاكِبَهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَالِامْتِثَالِ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ. وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ وَأَحَدٌ يَمْشِي مَعَهُ إلَى السُّوقِ أَنْ يُرْدِفَهُ خَلْفَهُ لِيَكْمُلَ لَهُ امْتِثَالُ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَاضُعُ فَيُذْهِبُ عَنْهُ مَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِمَّنْ يَتَحَامَى ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى مَنْ يَحْمِلُ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْحَوَائِجِ فَيَسْتَأْجِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعْطِي لِغَيْرِهِ أَنْ يَحْمِلَ بِلَا أُجْرَةٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ إبْرَارُ قَسَمِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنْ لَا يَحْلِفَ بَعْدُ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ خَوْفًا أَيْ يَتَعَجَّلُ أَجْرَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَكَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَتَحَرَّزُونَ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرًا وَقَدْ رَأَيْت الشَّيْخَ الْجَلِيلَ أَبَا إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمَ التِّنِّيسِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَهْلِ تِلِمْسَانَ وَكَانَ فَاضِلًا فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ إلَى خَارِجِ الْبَلَدِ فَعَطِشُوا وَاشْتَدَّ عَطَشُهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَاءٌ فَرَأَوْا عِمَارَةً فَجَاءُوا إلَيْهَا يَطْلُبُونَ الْمَاءَ فَإِذَا بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَكَانَ قَدْ قَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فَذَهَبَ فَأَتَى بِلَبَنٍ فِيهِ سُكَّرٌ فَأَعْطَاهُ لِلشَّيْخِ لِيَشْرَبَ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ وَلِمَ وَهُوَ مِنْ وَجْهٍ حِلٍّ؟ فَقَالَ لَهُ؛ لِأَنَّك قَرَأْت عَلَيَّ وَلَا يُمْكِنِّي أَنْ آخُذَ مِنْكَ شَيْئًا لِئَلَّا أَتَعَجَّلَ ثَوَابَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَرَغَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَسْتَقْضِي حَاجَةً مِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ، وَذَلِكَ خِيفَةً مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَدْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَرَجَ إلَى السُّوقِ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَوَائِجِهِ فِي وَقْتٍ فَأَخَذَ جُمْلَةَ حَوَائِجِهِ فَأَشْغَلَ يَدَيْهِ مَعًا فَنَزَلَ الْبَيَّاعُ مِنْ الدُّكَّانِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ بَعْضَ الْحَوَائِجِ فَأَبَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَعْطَاهُ شَيْئًا حَمَلَهُ لَهُ ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ الْبَيَّاعُ رُؤْيَا رَآهَا فَسَكَتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا سَيِّدِي أَمَا تُعَبِّرُهَا لِي، فَقَالَ لَهُ لَا يُمْكِنِّي ذَلِكَ وَأَنْتَ تَحْمِلُ لِي شَيْئًا فَيَكُونُ ذَلِكَ أُجْرَةً عَلَى الْعِلْمِ فَرَغَّبَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ حَاجَتَهُ

يَحْمِلُهَا بِنَفْسِهِ فَمِنْ رَغْبَةِ الرَّجُلِ فِي تَعْبِيرِ تِلْكَ الرُّؤْيَا أَعْطَاهُ حَوَائِجَهُ فَحَمَلَهَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَبَّرَ لَهُ رُؤْيَاهُ وَمَضَى لِسَبِيلِهِ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى تَحَرُّزِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فِيهَا فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ فَيَكُونُ الْعَالِمُ مُتَيَقِّظًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِمَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْهُ إرْشَادٌ مَا أَوْ تَعْلِيمٌ مَا فَيَتَحَفَّظُ مَنْ هَذَا جَهْدَهُ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ. فَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ إمَّا لِضَعْفٍ مِنْ كِبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ شَغْلٍ مَعَ طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَوْ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ الضَّرُورِيِّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَالنِّيَابَةُ إذْ ذَاكَ لَهُ أَفْضَلُ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ فِي وَقْتِهِ إذْ أَنَّ إلْقَاءَ الْعِلْمِ لِأَهْلِهِ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ لِلْعَمَلِ بِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا لَوْ تَوَالَتْ بِهِ الْأَشْغَالُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ إحْيَاءِ هَذِهِ السُّنَّةِ أَعْنِي الْخُرُوجَ إلَى السُّوقِ وَلَوْ مَرَّةً فِي وَقْتٍ مَا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ عَلَيْهِ فَلْيَخْرُجْ إلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَشْتَغِلُونَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَذْمُومِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي وَطْءِ الْأَعْقَابِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَا خَرَجُوا مَعَهُ إلَّا لِضَرُورَةِ تَعْلِيمِهِمْ وَخَرَجَ هُوَ لِإِظْهَارِ سُنَّةٍ وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا كَلَامُ الْبَشَرِ، نَعَمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَ حَدِيثَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَرِيقِهِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَتَعَيَّنُ احْتِرَامُهُ وَتَعْظِيمُهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَشْيِ مَعَهُ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ إنَّمَا هُوَ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ فِتْنَةِ وَطْءِ عَقِبِهِ فَإِنْ وَقَعَ لَهُ خَوْفٌ مَا مِنْ هَذِهِ السَّيِّئَةِ فَتَرْكُ هَذِهِ السُّنَّةِ أَوْلَى بِهِ أَوْ يَخْرُجُ لِفِعْلِهَا وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ فَيَسْتَنِيبُ مَنْ يَقْضِي لَهُ ذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي مُحَاوَلَةِ مَا خَرَجَ إلَيْهِ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا يُكْرَهُ إلَى

فصل في رجوع العالم من السوق إلى بيته وكيفية نيته

غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ. فَجُمْلَةُ مَا تَحْصُلُ فِي خُرُوجِهِ إلَى السُّوقِ مِنْ النِّيَّاتِ وَالْآدَابِ يَنُوفُ عَنْ خَمْسِينَ خَصْلَةً وَهِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ لِمَا عَدَاهَا فَلْيَتَنَبَّهْ مَنْ يَتَنَبَّهُ مِمَّنْ يُوَفَّقُ لِذَلِكَ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُ الْجَمِيعَ بِمَنِّهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ النِّيَّاتِ إلَى الْمَسْجِدِ يَخْرُجُ بِهِ إلَى السُّوقِ وَمَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَحْدَهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ مَذْكُورٌ قَبْلَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ. وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ وَجَدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ النُّورِ وَالْحُضُورِ [فَصْلٌ فِي رُجُوعِ الْعَالِمِ مِنْ السُّوقِ إلَى بَيْتِهِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ] ِ فِي ذَلِكَ فَإِذَا رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَيَنْوِي فِي رُجُوعِهِ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى السُّوقِ وَمِنْهُ تَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ وَالتَّعَلُّمُ مِنْ عَالِمِهِمْ وَيَنْوِي فِي رُجُوعِهِ إلَى بَيْتِهِ نِيَّةَ الْخَلْوَةِ عَنْ النَّاسِ فَيَكُونُ مَأْجُورًا فِي خُطَاهُ إلَى الْخَلْوَةِ وَإِذَا وَصَلَ إلَى بَيْتِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى أَهْلِهِ بِنِيَّةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حِينَ دُخُولِهِ وَيُؤَخِّرُ الْيُسْرَى، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ عِنْدَ خُرُوجِهِ وَلَا تَقَعُ التَّفْرِقَةُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ إلَّا بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَبَيْتِ الْخَلَاءِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ حَمَّامٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَوَاضِعِ الْفَضَلَاتِ وَيُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى حِينَ دُخُولِهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فِي الدُّعَاءِ الْوَارِدِ حِينَ الدُّخُولِ إلَى الْبَيْتِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ (اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا) ثُمَّ يَتَعَوَّذُ وَيَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إلَى آخِرِهَا. وَيَنْوِي حِينَ دُخُولِهِ إلَى بَيْتِهِ نِيَّةَ الْخَلْوَةِ عَنْ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ يَنْوِي بِذَلِكَ لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ لِسَانِهِ وَنَظَرِهِ وَسَمْعِهِ وَبَطْشِهِ وَسَعْيِهِ وَحَسَدِهِ وَبَغْيِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ الرَّدِيئَةِ إذْ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَرُبَ مِنْ بَابِ رَبِّهِ تَعَالَى كَانَ أَسْوَأَ ظَنًّا بِنَفْسِهِ كَمَا قَدْ

حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ لَمَّا انْعَزَلَ فِي خَلْوَتِهِ عَنْ النَّاسِ وَانْفَرَدَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ قَالَ وَجَدْت لِسَانِي كَلْبًا عَقُورًا قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ مَنْ خَالَطَهُ فَحَبَسْت نَفْسِي لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَآفَتِهِ. وَفِي هَذِهِ النِّيَّاتِ مِنْ الْخَيْرَاتِ أَشْيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا أَنَّهَا تَحْتَوِي عَلَى عَدَمِ الدَّعْوَى وَعَلَى عَدَمِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ الرَّدِيئَةِ فَبِنَفْسِ هَذِهِ النِّيَّةِ تَنْدَفِعُ كُلُّهَا وَفِي الْخَلْوَةِ مِنْ الْخَيْرَاتِ أَشْيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ تَحْصُلُ لَهُ دُونَ كُلْفَةٍ يَتَكَلَّفُهَا وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ حَالِ الْمُرِيدِ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُ بِالْجَمِيعِ بِمَنِّهِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَنْوِيَ بِالْخَلْوَةِ سَلَامَتَهُ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاءٌ عُضَالٌ وَالْعَطَبُ فِيهِ مَوْجُودٌ إذْ أَنَّ فِيهِ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِغَيْرِهِ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا حِينَ رُجُوعِ الْعَالِمِ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَيْتِهِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ بَعْضُ ذَلِكَ هُنَا زِيَادَةَ تَنْبِيهٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ، فَإِنْ احْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى أَوْ نَسِيَ شَيْئًا مِمَّا خَرَجَ إلَيْهِ فَلَا يَعُودُ إلَى السُّوقِ وَيَتْرُكُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَخَافُ فَوَاتَ أَمْرٍ، مِثْلُ مَرِيضٍ يَحْتَاجُ إلَى فَصَادٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غِذَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَمْضِيَ عَلَيْهِ الزَّمَانُ فِي الْأَسْوَاقِ كَمَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ الْأَهْلَ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ مَهْمَا أَعْوَزَهُمْ شَيْءٌ يُقْضَى لَهُمْ تَكْثُرُ حَوَائِجُهُمْ وَيَضِيعُ عَلَيْهِ وَقْتُهُ فَإِذَا عَلِمُوا مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً جَمَعُوا لَهُ الْحَوَائِجَ كُلَّهَا فِي خُرُوجِهِ فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ وَقْتَهُ وَإِذَا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ وَبَنِيهِ فَأَجْرُ الْخَلْوَةِ حَاصِلٌ لَهُ، فَإِنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ الْقُرَبِ بِحَضْرَتِهِمْ أَوْ مَعَ عِلْمِهِمْ فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ وَلَهُ تَضْعِيفُ الثَّوَابِ فِيهِ إذْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ قَالُوا ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا تَخْرُجُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ، وَإِنْ عُمِلَتْ فِي الْجَهْرِ وَهِيَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ إذَا مَرَّ التَّالِي بِسَجْدَةٍ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي سِرِّهِ فَيَسْجُدُ لَهَا بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ صَائِمًا فَدُعِيَ إلَى طَعَامٍ، فَقَالَ إنِّي صَائِمٌ، وَإِذَا كَانَ مَعَ أَهْلِهِ يَعْمَلُ عَمَلًا وَهُمْ مَعَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ وَلَا عَنْ الْخَلْوَةِ. أَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ إذَا مَرَّ

بِسَجْدَةٍ يَسْجُدُ لَهَا فَإِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَلَا يَتْرُكُهَا لِأَجْلِ الْغَيْرِ إذْ أَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ وَالرِّيَاءُ مَمْنُوعٌ فِعْلُهُ. وَأَمَّا الصَّوْمُ فَيَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ إذَا خَافَ التَّشْوِيشَ عَلَى مَنْ دَعَاهُ حَتَّى يُرْفَعَ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يَتَوَقَّعُ مِنْ تَشْوِيشِ خَاطِرِهِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِحَضْرَةِ أَهْلِهِ فَلَوْ كُلِّفَ أَنْ لَا يَعْمَلَ الْعَمَلَ إلَّا بِغَيْبَتِهِ عَنْهُمْ لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ وَفَتْحُ بَابٍ لِتَرْكِ الْعَمَلِ، لَكِنْ إذَا أَرَادَ جَمْعَ خَاطِرِهِ وَقَدَرَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْزِلٍ عَنْ الْأَهْلِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ، وَهَذَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الضَّعِيفِ الَّذِي يُخِلُّ بِحَالِهِ الِاجْتِمَاعُ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي التَّنَفُّلِ فِي الْبَيْتِ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّنَفُّلِ فِي الْمَسْجِدِ يَعْنِي لِفَضِيلَةِ عَمَلِ السِّرِّ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَوْلَادٌ أَوْ مَنْ يُفَرِّقُ خَاطِرَهُ فِي عِبَادَتِهِ فَفِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ انْتَهَى. وَأَمَّا أَهْلُ التَّمْكِينِ فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَّرَهُ أَهْلُهُ وَاحْتَرَمُوهُ كَثِيرًا فَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَثُرَ لَغَطُهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَخْتَارُونَ فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَسْمَعُ مَا نَقُولُ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ كَيْفَ تَنْصَرِفُ هِمَّتُهُ لِرُؤْيَةِ الْأَوْلَادِ مُمَازَجَتِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تَكُونُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ تَكُونُ فِي الْبَيْتِ الْحَرَكَةُ الْكَثِيرَةُ وَالْبُكَاءُ الْكَثِيرُ مِنْ الْأَوْلَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُشَوِّشُ الْخَاطِرَ فَلَا أَسْمَعُهُ وَلَا أَعْرِفُ بِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَالِي وَبَعْضُ الْأَوْقَاتِ أَشْعُرُ بِهِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا بِحَسَبِ الْحُضُورِ وَالتَّفْرِقَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي تِلَاوَتِهِ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَبَعْضُ الْأَيَّامِ أُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ أَسْتَفْتِحُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَمَا يَجِيءُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِقَلِيلٍ إلَّا وَأَنَا قَدْ خَتَمْت، وَبَعْضُ الْأَيَّامِ لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحُضُورِ فَإِنْ كُنْت حَاضِرًا كَانَ ذَلِكَ وَبِحَسَبِ التَّفْرِقَةِ يَكُونُ الْبُطْءُ فِي الْخَتْمِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوِيَّ وَالضَّعِيفَ لَا يَسْتَوِيَانِ، فَعَلَى هَذَا فَالْخَلْوَةُ عَنْ الْأَهْلِ مُشْتَرَطَةٌ فِي حَقِّ الضَّعِيفِ

أخذ الدرس في البيت والمدرسة

وَفِي وَقْتِ التَّفْرِقَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْطِيَهُمْ حَظَّهُمْ مِنْهُ فِي وَقْتِ مَا وَيُؤَاكِلُ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ وَجَوَارِيَهُ وَعَبِيدَهُ مِنْ صَحْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَرُبَّمَا كَانَ هَذَا أَفْضَلَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ خَلَوَاتِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ وُجُوهًا مِنْ الْخَيْرِ مِنْهَا امْتِثَالُ السُّنَّةِ وَالتَّوَاضُعُ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مَنْ رَأَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ وَقَوْلُهُ هَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلْبَ مَقْطُوعٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مُحْتَمَلٌ لِدُخُولِهَا إلَّا مَنْ اُسْتُثْنِيَ فَالْكَلْبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَفْضَلُ مِنْهُ وَفِي الْأَكْلِ مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ تَرْكُ رُعُونَةِ النَّفْسِ وَتَرْكُ رِيَاسَتِهَا وَالتَّعَاظُمِ وَالْفَخْرِ وَاتِّصَافِهَا بِالْخَوْفِ وَالْوَجَلِ وَرُؤْيَةِ الْفَضْلِ لِغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ بَيِّنٌ وَاضِحٌ فَيَقْوَى الرَّجَاءُ لِمَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ النَّاجِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُنْجِيَنَا مِنْ جَمِيعِ الْمَهَالِكِ بِفَضْلِهِ أَجْمَعِينَ. وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْخَلْوَةِ مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِ فَهُوَ عَلَى جَادَّةِ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَمَذْهَبُ بَعْضِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ عَمَلَ السِّرِّ هُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ بِهِ الْمَلَكَانِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ آدَابِ الْعَالِمِ فِي أَخْذِهِ الدَّرْسَ فِي الْمَسْجِدِ [أَخْذُ الدَّرْسِ فِي الْبَيْتِ وَالْمَدْرَسَةِ] ِ وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى أَخْذِهِ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي الْمَدْرَسَةِ فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ لِضَرُورَةٍ مَا أَعْنِي لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ لِأَجْلِهَا فَأَخْذُهُ الدَّرْسَ فِي الْبَيْتِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ فِيهِ ضَرَرٌ فِي الْغَالِبِ عَلَيْهِ وَعَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَالْأَدَبُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ يَخْتَصُّ الْبَيْتُ بِبَعْضِ الْآدَابِ، وَإِنْ كَانَتْ مَطْلُوبَةً فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ فِي الْبَيْتِ تَتَأَكَّدُ، فَمِنْهَا كَثْرَةُ تَوَاضُعِهِ لِلدَّاخِلَيْنِ عَلَيْهِ أَعْنِي فِي تَلَقِّيهمْ بِبَشَاشَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ التَّلَقِّي إذْ أَنَّ الْبَيْتَ مَحَلُّ انْقِبَاضِهِمْ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَبْسُطْ لَهُمْ الْأُنْسَ وَإِلَّا كَانَ

سَبَبًا لِانْقِبَاضِهِمْ أَوْ عَدَمِ مَجِيئِهِمْ أَوْ يَقِلُّ فَهْمُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ مَا يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ وَمِنْهَا أَنْ يَأْذَنَ لِلطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِفْتَاءِ أَوْ التَّعْلِيمِ أَوْ لِيَسْمَعَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْخَلِيفَةِ أَدْرَكْت الْعُلَمَاءَ وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْعِلْمَ إذَا مُنِعَ عَنْ الْعَامَّةِ لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ الْخَاصَّةُ انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَا يُوَفَّقُونَ لِلْعَمَلِ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ثَوَابَ الْعِلْمِ يَكْثُرُ بِانْتِشَارِهِ، فَكُلَّمَا انْتَشَرَ زَادَ الثَّوَابُ لِمُعَلِّمِهِ وَحَصَلَ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ. وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِصَاصُ بِهِ امْتَنَعَ انْتِشَارُهُ، وَإِذَا امْتَنَعَ انْتِشَارُهُ ذَهَبَ بَعْضُ ثَوَابِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُحْرَمَ الْخَاصَّةُ فَهْمَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَمَعَانِيهَا؛ لِأَنَّ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ نَوْعَ تَكَبُّرٍ وَتَجَبُّرٍ وَبُخْلٍ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُنْفِقُوهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فَحُرِمُوا الْفَهْمَ فِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] الْآيَةَ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَبِّرِينَ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَلَكِنَّهُمْ مَنَعُوا فَائِدَتَهُ وَهِيَ الْفَهْمُ فِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ فَبَقِيَ الْعَوَامُّ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُسْتَعَانُ. وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنَ مَشْهُورًا مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ عَدَمَ اشْتِهَارِهِ سَبَبٌ لِقِلَّةِ انْتِشَارِ الْعِلْمِ أَوْ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ كَتْمٍ لَهُ. وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ أَخْذِ الدَّرْسِ فِي الْبَيْتِ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ فِيهِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ حِسٌّ وَلَا كَلَامٌ خِيفَةً مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا يُشْعَرُ بِهَا. وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَقَعَ الضَّرَرُ بِهِ وَبِمَنْ يَأْتِي إلَيْهِ إذْ أَنَّ وَقْتَ الْإِذْن بَقِيَ غَيْرَ مَضْبُوطٍ لَهُمْ. وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ فِي أَثْنَاءِ الدَّرْسِ قَطَعَ وَقَامَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ لِيَتَأَهَّبُوا لِلصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ. فَإِذَا خَرَجَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إلَى الْمَسْجِدِ ظَهَرَتْ بِذَلِكَ الشَّعَائِرُ وَاقْتَدَى بِهِ النَّاسُ فِي ذَلِكَ وَحَصَلَ لَهُمْ بَرَكَةُ امْتِثَالِ السُّنَّةِ لِمَا فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ مِنْ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ

وَالثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. أَلَا تَرَى إلَى وَصَفَ الْوَاصِفُ لِبَعْضِ حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ فَيَحْصُلُ لِلْعَالِمِ بَرَكَةُ الِامْتِثَالِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى الْخَيْرَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْعَالِمِ فِي الْبَيْتِ فِي جَمَاعَةٍ مَعَ طَلَبَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ يَحُوزُونَ بِهَا فَضِيلَةَ الِاجْتِمَاعِ لَكِنْ يَذْهَبُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ إذَا صَلَّوْا فِي الْبَيْتِ الْفَضَائِلَ وَالْأُجُورَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْمَشْيِ إلَى الْمَسْجِدِ وَيَكُونُ مَا وَقَعَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَكْرُوهَةِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً إذْ أَنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِهِ وَبِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ إلَى تَعْطِيلِ الْمَسَاجِدِ أَوْ بَعْضِهَا مِنْ الْجَمَاعَاتِ. إذْ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَعْدَمُونَ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُمْ فِي الْبُيُوتِ فَيَجِدُونَ السَّبَبَ لِلْقُدْوَةِ بِالْعَالِمِ فِي تَرْكِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ ضَرُورَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِأَجْلِهَا فَأَرْبَابُ الضَّرُورَاتِ لَهُمْ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرَ لِمَنْ حَضَرَهُ أَنَّهُ مَضْرُورٌ لِتَرْكِ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَرَكَ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا كُلُّ الْأَعْذَارِ تُبْدَى. وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَافِظُونَ عَلَى آدَابِ الشَّرِيعَةِ كَمَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْوَاجِبَاتِ مِنْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ إلَى الْمَسْجِدِ لِشِدَّةِ مَرَضِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهِ يَتَهَادَى بَيْنَ اثْنَيْنِ لِأَجْلِ شُهُودِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ لِيَشْهَدَ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَاغْتِنَامَ بَرَكَتِهِمْ وَالصَّلَاةَ مَعَهُمْ وَخَلْفَهُمْ إذْ الْغَالِبُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ رَغْبَةً مِنْهُ فِي فَضِيلَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَإِذَا امْتَلَأَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى الصَّفِّ الَّذِي يَلِيه، وَهَكَذَا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى آخِرِ النَّاسِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَمَّا سَبْقِي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلِأَحُوزَ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَعَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَأَمَّا انْتِقَالِي إلَى مَا سِوَاهُ فَلَعَلَّ أَنْ أُصَلِّيَ خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ فَيُغْفَرَ لِي سِيَّمَا

إنْ كَانَ الْمَغْفُورُ لَهُ إمَامًا فَبَخٍ عَلَى بَخٍ. فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَمُهِمَّاتِهِ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ أَعْتَقَ رَقَبَةً. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ لِلْعَالِمِ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ فِي الْبَيْتِ عَنْ الْمَسْجِدِ فَلْيَأْذَنْ لِمَنْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ الطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ إظْهَارِ شَعِيرَةِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُمْسِكُهُمْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ مَعَهُمْ وَيُصَلِّي هُوَ مَعَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ إنْ أَمْكَنَ فَإِذَا قَضَوْا صَلَاتَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ رَجَعُوا إلَيْهِ إنْ كَانَ بَقِيَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ وَظِيفَتِهِمْ إنْ شَاءُوا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ فِي الْبَيْتِ صَلَّى فَذَا فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ وَأَبْرَكُ لِأَجْلِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي إذْنِهِ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِإِظْهَارِ السُّنَّةِ وَالشَّعِيرَةِ كَمَا سَبَقَ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَثْرَةَ الْمَسَاجِدِ وَقِلَّةَ الْمُصَلَّيْنَ فِيهَا. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ كَثْرَةَ الْمَسَاجِدِ فِي الْمَحَلَّةِ الْوَاحِدَةِ. رُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ لَمَّا دَخَلَ الْبَصْرَةَ جَعَلَ كُلَّمَا خَطَا خُطْوَتَيْنِ رَأَى مَسْجِدًا، فَقَالَ مَا هَذِهِ الْبِدْعَةُ كُلَّمَا كَثُرَتْ الْمَسَاجِدُ قَلَّ الْمُصَلَّوْنَ أَشْهَدُ لَقَدْ كَانَتْ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا مَسْجِدٌ وَاحِدٌ وَكَانَ أَهْلُ الْقَبِيلَةِ يَتَنَاوَبُونَ الْمَسْجِدَ الْوَاحِدَ فِي الْحَيِّ مِنْ الْأَحْيَاءِ. وَاخْتَلَفُوا إذَا اتَّفَقَ مَسْجِدَانِ فِي مَحَلَّةٍ فِي أَيِّهِمَا يُصَلَّى. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي أَقْدَمِهِمَا. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: وَكَانُوا يُجَاوِزُونَ الْمَسَاجِدَ الْمُحْدَثَةَ إلَى الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا انْسَدَّتْ هَذِهِ الثُّلْمَةُ فَلَمْ يُوجَدْ تَعْطِيلٌ بِبَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ. وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ بِمَنِّهِ. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ أَوْ يَغْتَرَّ بِبَعْضِ عَوَائِدِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَذَلِكَ أَنَّك تَجِدُ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى يَسْمَعُ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَلَا يُزَعْزِعُهُ ذَلِكَ وَلَا يَتَحَرَّكُ لِلْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَوْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ وَيَنْتَظِرُ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَحَدٌ مِنْ الطَّلَبَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيُصَلِّيَ مَعَهُ

الْفَرْضَ وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ السِّيَاسَةِ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ دُونَ خُرُوجٍ وَحَرَكَةٍ إلَى الْمَسْجِدِ وَدُونَ مُخَالَطَةِ الْعَوَامّ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فِي الْوَقْتِ وَخَشِيَ خُرُوجَهُ صَلَّى مَعَ أَهْلِهِ إنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ وَإِلَّا صَلَّى فَذًّا، وَقَدْ يَكُونُ الْمَسْجِدُ عَلَى بَابِهِ أَوْ بِجِوَارِهِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ أَحَدٌ وَقَدْ يُصَلِّي فِيهِ مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ بَعِيدًا لَكَانَ الْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَهْرَعُ إلَيْهِ حِينَ قَرَعَ سَمْعَهُ النِّدَاءُ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَكْثَرَكُمْ أَجْرًا أَبْعَدُكُمْ دَارًا» مَعَ عِلْمِهِ بِمَا فِي الْجَمَاعَةِ وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْبَرَكَاتِ وَالْكُنُوزِ فِي الْغَالِبِ لَا يُبَادِرُ إلَيْهَا إلَّا مَنْ يَعْرِفُهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ ثَلَاثًا. رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَرَجُلٌ سَمِعَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَلَمْ يُجِبْ.» انْتَهَى. ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ تَجِدُ الْجَامِعَ الْأَعْظَمَ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ إذَا صَلَّى الْإِمَامُ يَسْتُرُهُ عَوَامُّ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ، وَقَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ سَهْوٌ، فَلَا يَجِدُ مِنْ يُسَبِّحُ لَهُ وَلَا مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ إنْ جَرَى عَلَيْهِ أَمْرٌ يُحْوِجُهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِإِفْسَادِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ، ثُمَّ إنَّك إذَا نَظَرْت إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَا تَجِدُ فِيهِ فِي الْغَالِبِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» انْتَهَى، وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِنْهُمْ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ إلَى آخِرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ مِنْهُمْ كَانُوا أَسْرَعَ سَبْقًا لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَأَخَّرَ عَنْ مَوَاضِعِهِمْ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ أُمِيتَتْ وَتُرِكَتْ فِي الْغَالِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لَكِنْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ بَقِيَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ قَائِمَةٌ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّك تَجِدُ بِهَا الْمَسَاجِدَ مُصَانَةً مُرَفَّعَةً عَظِيمَةً لَا تُرْفَعُ فِيهَا الْأَصْوَاتُ، وَلَا تُدْخَلُ إلَّا لِلصَّلَاةِ أَوْ لِمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ التَّرْتِيبِ

فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَغَيْرِهِ، فَهُمْ مَاشُونَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ. وَلَهُمْ عَادَةٌ حَسَنَةٌ قَدْ مَضَى ذِكْرُهَا وَهِيَ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ الصُّفُوفَ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ لَكِنَّ الَّذِينَ يَسْتُرُونَ الْإِمَامَ هُمْ أَكْثَرُ امْتِيَازًا مِنْ غَيْرِهِمْ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ، وَهُمْ مَعْلُومُونَ قَلَّ أَنْ يَغِيبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَإِنْ غَابَ لِضَرُورَةٍ قَدَّمُوا مَوْضِعَهُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ، فَيُصَلِّي الْإِمَامُ وَهُوَ مُطْمَئِنُّ الْقَلْبِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ، إذْ أَنَّهُمْ فِي الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا يَغْفُلُونَ عَنْ حَرَكَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَهَذَا عَكْسُ مَا الْحَالُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ حَتَّى إنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ الْيَوْمَ فِي الْمَسْجِدِ لَرَأَيْته بَعِيدًا مِنْ الْإِمَامِ، وَقَدْ لَا يُصَلِّي فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَتَقَدَّمُهُ السَّجَّادَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ. فَهَذَا بَعْضُ الْآدَابِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْعَالِمِ إذَا أَخَذَ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ يَأْخُذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ فَآدَابُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَسْجِدِ، لَكِنَّ الْمَسْجِدَ لَهُ آدَابٌ تَخُصُّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَالْمَدْرَسَةُ لَهَا آدَابٌ تَخُصُّهَا سَنَذْكُرُهَا قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنَّ أَخْذَ الدَّرْسِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ لِأَجْلِ كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْعِلْمِ لِمَنْ قَصَدَهُ وَمَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ، بِخِلَافِ الْمَدْرَسَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي إلَيْهَا غَالِبًا إلَّا مَنْ قَصَدَ الْعِلْمَ أَوْ الِاسْتِفْتَاءَ فَأَخْذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ أَقَلُّ رُتْبَةً فِي الِانْتِشَارِ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَخْذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ أَكْثَرُ انْتِشَارًا مِنْهُ فِي الْبَيْتِ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ أَخْذَ الدَّرْسِ فِي الْمَدْرَسَةِ إلَّا لِأَجْلِ الْمَعْلُومِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ إذَا أَخَذَ الدَّرْسَ فِي الْمَدْرَسَةِ أَنْ يَأْخُذَ بِتِلْكَ النِّيَّاتِ الَّتِي وُصِفَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَتِلْكَ الْآدَابِ. بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي إخْلَاصِ نِيَّتِهِ وَيَدْفَعَ الشَّوَائِبَ عَنْ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِالْمَعْلُومِ أَوْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ بِقَلْبِهِ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» انْتَهَى، فَإِذَا جَاءَهُ الْمَعْلُومُ دُونَ سُؤَالٍ وَلَا اسْتِشْرَافِ نَفْسٍ فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ. هَذَا عَلَى جَادَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيمُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَعَلَامَةُ صِدْقِهِ فِيمَا وَصَفَ مِنْ تَعْلِيمِهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ عَنْهُ الْمَعْلُومَ لَا يَتْرُكُ التَّعْلِيمَ وَلَا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَتَبَرَّمُ وَلَا يَتَضَجَّرُ، بَلْ يَكُونُ فِي وَقْتِ قَطْعِ الْمَعْلُومِ أَكْثَرَ تَعْلِيمًا وَأَشَدَّ حِرْصًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْلُومُ قَدْ قُطِعَ عَنْهُ اخْتِبَارًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَرَى صِدْقَهُ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ بِهِ، فَإِنَّ رِزْقَهُ مَضْمُونٌ لَهُ مُطْلَقًا لَا يَنْحَصِرُ ذَلِكَ فِي جِهَةٍ دُونَ أُخْرَى. قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَكَفَّلَ اللَّهُ بِرِزْقِ طَالِبِ الْعِلْمِ» انْتَهَى، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، لَكِنَّ حِكْمَةَ تَخْصِيصِ طَالِبِ الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ أَنَّ ذَلِكَ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ كَمَا سَبَقَ، فَجَعَلَ نَصِيبَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ فِي الدَّرْسِ وَالْمُطَالَعَةِ وَالتَّفَهُّمِ لِلْمَسَائِلِ وَإِلْقَائِهَا، وَذَلِكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ اللُّطْفِ بِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ. وَهَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الْعُلَمَاءِ أَعْنِي فَهْمَ الْمَسَائِلِ وَحُسْنَ إلْقَائِهَا وَالْمَعْرِفَةَ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ فِي تَعْلِيمِهَا، كَمَا أَنَّ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهَا أَشْيَاءُ أُخَرُ يَطُولُ تَعْدَادُهَا مِثْلَ الْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصُونَ هَذَا الْمَنْصِبَ الشَّرِيفَ مِنْ التَّرَدُّدِ لِمَنْ يُرْجَى أَنْ يُعِينَ عَلَى إطْلَاقِ الْمَعْلُومِ أَوْ التَّحَدُّثِ فِيهِ أَوْ إنْشَاءِ مَعْلُومٍ عِوَضُهُ. وَقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَكَانَ يُدَرِّسُ فِي مَدْرَسَةٍ فَانْقَطَعَ الْمَعْلُومُ عَنْهُ وَعَنْ طَلَبَتِهِ أَوْ نُقِصَ مِنْهُ، فَقَالُوا لِلْمُدَرِّسِ: لَعَلَّك أَنْ تَمْشِيَ إلَى فُلَانٍ وَكَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لِتَجْتَمِعَ بِهِ

عَسَى أَنْ يَأْمُرَ بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ الْمَعْلُومِ، فَقَالَ: نَعَمْ مِرَارًا إلَى أَنْ عَزَمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَسْتَحْيِ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَكْذِبَ هَذِهِ الشَّيْبَةُ عِنْدَهُ، فَقَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنِّي أُصْبِحُ كُلَّ يَوْمٍ أَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت فَأَقُولُ هَذَا وَأَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ مَخْلُوقٍ أَسْأَلُهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهِ لَا فَعَلْته فَلَمْ يَمْشِ إلَيْهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَذْكُرَ قَطْعَ الْمَعْلُومِ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يُشْهِرُهُ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الضَّجَرِ وَقِلَّةِ الثِّقَةِ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّعَرُّضِ إلَى اطِّلَاعِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَثِقُ بِرَبِّهِ فِي الْمَنْعِ وَالْعَطَاءِ، بَلْ الْمَنْعُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ هُوَ عَطَاءٌ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ أَحْسَنُ وَأَوْلَى مِنْ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ، إذْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَدْرَسَةِ عَلَى مَا وُصِفَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ التَّوَاضُعِ وَالْقُرْبِ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ الطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا مُنِعَ عَنْ الْعَامَّةِ لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ الْخَاصَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِغْلَاقُ بَابِ الْمَدْرَسَةِ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ عَنْ الْعَامَّةِ وَمَنْعُهُمْ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِلْعِلْمِ وَالتَّبَرُّكِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ، وَكَذَلِكَ الْبَوَّابُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِجَابٌ عَنْ الْعِلْمِ أَيْضًا وَاخْتِصَاصٌ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ يَفْتَحُ الْبَابَ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الدُّخُولَ كَمَا هُوَ فِي الْمَسْجِدِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا جُعِلَ الْبَوَّابُ لِأَجْلِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعَوَامّ إذَا دَخَلُوا الْمَدْرَسَةَ تَشَوَّشَ الْمَوْضِعُ وَكَشَفُوا عَوْرَاتِهِمْ عِنْدَ الْفَسْقِيَّةِ، وَقَدْ يَسْرِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضَ أَقْدَامِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ يَكْثُرُ لَغَطُهُمْ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْبَوَّابَ الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الْبَابِ أَوْ غَيْرِهِ يَكُونُ وَاقِفًا عِنْدَ أَخْذِهِمْ الدَّرْسَ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا أَنْ يَقْرُبَ مِنْ نَاحِيَةِ أَقْدَامِهِمْ، وَإِنْ رَأَى أَحَدًا يُرِيدُ أَنْ يَكْشِفَ عَوْرَتَهُ نَهَاهُ وَزَجَرَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَتَّخِذَ نَقِيبًا بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِمًا كَانَ أَوْ جَالِسًا، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ الْيَوْمَ مِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي لَيْسَتْ لِمَنْ

مَضَى؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَمْ يَكُنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَفِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ اتِّخَاذِ الْحَاجِبِ وَالْبَوَّابِ وَالنَّقِيبِ إنَّمَا يَفْعَلُهُ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ: إمَّا مُتَكَبِّرٌ فِي نَفْسِهِ مُتَجَبِّرٌ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَهُ الِاتِّسَامُ بِالْعِلْمِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْمُتَكَبِّرِينَ، وَإِمَّا رَجُلٌ جَاهِلٌ يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ بِجَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ حَالَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي تَوَاضُعِهِمْ لَتَشَبَّهَ بِهِمْ إنْ سَلِمَ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ. وَالثَّالِث وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَأَعْظَمُ ثُبُوتًا فِي الصُّدُورِ وَهِيَ الْعَوَائِدُ الْمُسْتَمِرَّةُ، حَتَّى إنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْوَهْمُ فِي تِلْكَ الْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ فَقَدْ يَجْعَلُهَا مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ إنْ سَلِمَ مِنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا مُسْتَنِدًا فِي ذَلِكَ إلَى مَا أَنِسَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ لِكَوْنِهِ نَشَأَ فَوَجَدَهَا مَعْمُولًا بِهَا، وَالْعُلَمَاءُ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَفِي فِعْلِ مَنْ يُسْكِتُ الطَّلَبَ إخْمَادٌ لِلْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون بَعْضُ الطَّلَبَةِ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَيُرِيدُ أَنْ يَبْحَثَ فِيهَا حَتَّى تَبِينَ لَهُ، أَوْ عِنْدَهُ سُؤَالٌ وَارِدٌ يُرِيدُ أَنْ يُلْقِيَهُ حَتَّى يُزِيلَ مَا عِنْدَهُ، فَيُسْكَتَ إذْ ذَاكَ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الْمَقْصُودِ. وَكَذَلِكَ الْمُدَرِّسُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُسْكِتَ أَحَدًا إلَّا إذَا خَرَجَ عَنْ الْمَقْصُودِ أَوْ كَانَ سُؤَالُهُ وَبَحْثُهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فَيُسْكِتُهُ الْعَالِمُ بِرِفْقٍ وَيُرْشِدُهُ إلَى مَا هُوَ أَوْلَى فِي حَقِّهِ مِنْ السُّكُوتِ أَوْ الْكَلَامِ، فَكَيْفَ يَقُومُ عَلَى الطَّلَبَةِ شَخْصٌ سِيَّمَا إذَا كَانَ مِنْ الْعَوَامّ النَّافِرِينَ عَنْ الْعِلْمِ فَيُؤْذِيهِمْ بِبَذَاءَةِ لِسَانِهِ وَزَجْرِهِ بِعُنْفٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى نُفُورِ الْعَامَّةِ أَكْثَرَ سِيَّمَا وَمِنْ شَأْنِهِمْ النُّفُورُ فِي الْغَالِبِ مِنْ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهِمْ، وَالنُّفُوسُ فِي الْغَالِبِ تَنْفِرُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهَا، فَإِذَا رَأَى الْعَوَامُّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الْمَذْمُومَ يُفْعَلُ مَعَ الطَّلَبَةِ أَمْسَكَتْ الْعَامَّةُ عَنْ السُّؤَالِ عَمَّا يُضْطَرُّونَ إلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَتْمًا لِلْعِلْمِ وَاخْتِصَاصًا بِهِ كَمَا سَبَقَ. وَشَأْنُ الْعَالِمِ سَعَةُ الصَّدْرِ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَضِيقَ عَنْ سُؤَالِ الْعَامَّةِ وَجَفَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَيْهِ؛ إذْ أَنَّهُ مَحَلُّ الْكَمَالِ

وَالْفَضَائِلِ وَقَدْ عَلِمَ مَا فِي سَعَةِ الْخُلُقِ مِنْ الثَّنَاءِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنَاقِبِ الْعُلَمَاءِ مَا لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فَتَخْصِيصُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخُلُقَ بِالذِّكْرِ فِيهِ تَخْصِيصٌ عَظِيمٌ وَإِرْشَادٌ بَلِيغٌ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ، وَالِاتِّصَافِ بِهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ الْمَمْدُوحَةِ شَرْعًا. فَإِنْ قَالَ الْعَالِمُ مَثَلًا: إنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُسْكِتَهُمْ فَأَدَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى مَنْ يُسْكِتُهُمْ عَنْهُ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يَرُدُّهُ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى هَلُمَّ جَرًّا. أَمَّا فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ حَجّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى نَاقَتِهِ، وَهَذَا يَسْأَلُهُ، وَهَذَا يُحَدِّثُهُ، وَهَذَا يُنَادِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ ثَمَّ حَاجِبٌ وَلَا طَرَّادٌ وَلَا إلَيْك إلَيْك وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةَ» . وَإِنَّمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَلِكَ لِلتَّشْرِيعِ لِأُمَّتِهِ فَإِنَّهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ الْكُبْرَى وَالْمَنْزِلَةِ الْمُنِيفَةِ الْعُظْمَى عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقْعُدُ لِلنَّاسِ عُمُومًا وَيَتَكَلَّمُ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهِ مِنْ التَّبْلِيغِ وَتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاَللَّهُ يُعْطِي» انْتَهَى. فَأَخْلَصَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَطِيَّةَ وَالْهِبَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. وَكَلَامُهُ كَانَ عَامًّا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يَخُصَّ قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ بِإِلْقَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ إذْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَسَاوَوْا فِي الْأَحْكَامِ وَبَقِيَتْ الْمَوَاهِبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَخُصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ فِي أَمْرٍ أَنَّهُ لَا يَنْجَحُ، وَمِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ أَنْ يَخْتَارَ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّعْلِيمِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا فِعْلُ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ فَكَثِيرٌ فِي هَذَا

الْبَابِ بِحَيْثُ لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا جَلَسَ أَنْ يَنْوِيَ بِجُلُوسِهِ إظْهَارَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ عَادَتْ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ بَرَكَةُ تِلْكَ النِّيَّةِ السُّنِّيَّةِ فَيُوَفَّقُ وَيُسَدَّدُ وَيُعَانُ وَيُحْمَلُ وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا يَتَوَقَّعُهُ غَيْرُهُ، أَوْ يُصِيبُهُ مِنْ الْمَلَلِ وَالسَّآمَةِ وَالضَّجَرِ وَالْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَيَحْتَمِلُهُمْ كَاحْتِمَالِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، بَلْ هُمْ أَعْظَمُ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً مِنْ أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّ جُلُوسَهُ مَعَهُمْ إنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا عَنْ حَظِّ النَّفْسِ، وَشَفَقَتُهُ عَلَى أَوْلَادِهِ لَهُ فِيهَا حَظُّ الْبَشَرِيَّةِ فِي الْغَالِبِ فَكَانَ احْتِمَالُهُ لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْبَرَكَةُ حَاصِلَةٌ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْبَوَّابِ وَالنَّقِيبِ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ بَابِ الْمَدْرَسَةِ وَأَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَبْوَابِهِمْ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِالْحَاجِبِ وَالنَّقِيبِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ بِفَتْوَى إلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ يَجِدُ الْحَاجِبَ وَالْبَوَّابَ وَغَيْرَهُمَا يَمْنَعُونَهُ، بَلْ يَمْتَنِعُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الْبِغَالَ وَالْغِلْمَانِ الَّذِينَ عَلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ، وَلَا يَتَجَاسَرُ أَنْ يَصِلَ الْبَابَ بَلْ يَنْصَرِفُ وَيَتْرُكُ مَا جَاءَ بِسَبَبِهِ. وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الرُّكُوبَ عَلَى الدَّوَابِّ مَكْرُوهٌ، بَلْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ جَائِزًا فَمَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ، وَهُوَ صَحِيحُ الْبَدَنِ فَرُكُوبُهُ مِنْ الْقِسْمِ الْجَائِزِ، وَمَنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَكَانَ أَخْذُ الدَّرْسِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَيَزِيدُ مَرَضُهُ بِهِ زِيَادَةً تَضُرُّهُ شَرْعًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَاجِبًا. وَأَمَّا مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَرِيبَ الدَّارِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمَشْيَ فِي حَقِّ هَذَا أَفْضَلُ، إذْ أَنَّهُ مَاشٍ إلَى أَصْلِ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَفْتِي قَوِيًّا فِي دِينِهِ وَجَاءَ إلَى بَيْتِ الْمَدْرَسَةِ وَجَدَ الْحُجَّابَ أَغْلَظَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْبَابِ وَجَدَ مَنْ يَمْنَعُ وُصُولَ خَبَرِهِ إلَى الْعَالِمِ حَتَّى إنَّهُ قَدْ يَبْذُلَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى يُوصِلَ الْفَتْوَى إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ يُكَلِّمَهُ. وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ فِعْلِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، فَلَوْ كَانَ

الْعَالِمُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَكَانَ النَّاسُ يَتَوَصَّلُونَ إلَى قَضَاءِ أَغْرَاضِهِمْ مِمَّا يُضْطَرُّونَ إلَيْهِ فِي دِينِهِمْ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا خَرَجَ مِنْهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَخْرُجُ فِي الْغَالِبِ عَلَى صِفَةٍ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَامّ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ، وَقَدْ يَخْرُجُ بَعْضُهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ نَقِيبٍ وَلَا غَيْرِهِ وَهُوَ نَادِرٌ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَتَفْصِيلُ هَذَا يَطُولُ وَبِالْجُمْلَةِ فَفِيمَا أُشِيرُ إلَيْهِ غُنْيَةٌ عَنْ الْبَاقِي. وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا جَاءَتْهُ الْفَتْوَى أَنْ يَسْأَلَ عَمَّنْ وَقَعَتْ لَهُ حَتَّى يَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِهِ إنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ يُسَهِّلَ حُضُورَهُ وَيَتَثَبَّتَ فِي فَهْمِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَسْمَعُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَرَقَةَ قَدْ يُكْتَبُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ فَيُفْتِي عَلَى وَهْمٍ أَوْ غَلَطٍ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْخَطَرِ مَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ صَوَابًا عَلَى مَا رَآهُ مَكْتُوبًا، فَإِنْ تَعَذَّرَ حُضُورُ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ النَّازِلَةُ فَشَأْنُ الْعَالِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ جَهْدَهُ وَأَنْ يَأْمُرَ مَنْ أَتَى بِالْفَتْوَى أَنَّهُ يُعَاوِدُ صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ إنْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَقْصُودُ وَالْمَطْلُوبُ أَنْ لَا يُفْتِيَ إلَّا بَعْدَ التَّحَرُّزِ الْكُلِّيِّ وَالتَّحَفُّظِ الْعَظِيمِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ وَيَنْشَرِحَ صَدْرُهُ، ثُمَّ بَعْدَ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ لِذَلِكَ وَالْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِ الْفَتْوَى لَا يُعَجِّلُ بِالْكَتْبِ عَلَيْهَا بَلْ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ إلَى وَقْتِ الدَّرْسِ، فَيَعْرِضُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَرَى رَأْيَهُ وَرَأْيَهُمْ فِيهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ فَإِنْ وَافَقَ مَا عِنْدَهُ مَا قَالُوهُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ خَالَفُوهُ بَحَثَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَبْدَى لَهُمْ مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ كَتَبَ عَلَيْهَا بِمَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ الصَّوَابُ عِنْدَهُ وَلْيَحْذَرْ مِنْ الْعَجَلَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ وَيُفْتِي بِمَا تَحَقَّقَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الْغَلَطَ فِي ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يُسْتَدْرَكَ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَعْرُوفُ بِالزَّيَّاتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَاسْتَفْتَتْهُ فَأَجَابَهَا ثُمَّ مَضَتْ لِسَبِيلِهَا فَمَا هُوَ إلَّا قَلِيلٌ، وَإِذَا بِالشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَجَعَلَهُ فِي فَمِهِ وَخَرَجَ يَجْرِي حَافِيًا إلَى أَنْ لَحِقَ الْمَرْأَةَ فَأَخَذَ الْفَتْوَى

مِنْهَا، ثُمَّ رَجَعَ فَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ، فَقَالَ: ذَكَرْت أَنِّي وَهَمْت فِي جَوَابِهَا فَأَسْرَعْت لِئَلَّا تَفُوتَنِي، فَقَالُوا لَهُ: لَوْ أَمَرْتنَا لَفَعَلْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا هِيَ فِي ذِمَّةِ أَحَدٍ مِنْكُمْ فَلَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَكَانَ أَحَدُكُمْ يَقُومُ عَلَى هَيِّنَتِهِ، وَحَتَّى يَلْبَسَ نَعْلَيْهِ، وَحَتَّى يَمْشِيَ الْمَشْيَ الْمُعْتَادَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ قَلِيلًا، فَقَدْ تَفُوتُ الْمَرْأَةُ وَلَا تُعْلَمُ جِهَتُهَا، وَاَلَّذِي تَتَعَلَّقُ الْمَسْأَلَةُ بِذِمَّتِهِ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا جَرَى عَلَيْهِ فَيُبَادِرُ إلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ. وَقَدْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا جَاءَتْهُ الْفَتْوَى يَقُولُ لِمَنْ أَتَى بِهَا: مَا يُمَكِّننِي أَنْ أَكْتُبَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْخَطَّ قَدْ يُزَادُ فِيهِ وَيُنْقَصُ فَيَقَعُ مُخَالِفًا لِمَا الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ، فَلَا يُفْتِي حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُ النَّازِلَةِ، فَإِذَا حَضَرَ سَأَلَهُ عَمَّا وَقَعَ لَهُ فَيُخْبِرُهُ بِهِ فَيَقُولُ لَهُ: إذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ يَحْضُرُ الْجَوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِذَا جَاءَ مِنْ الْغَدِ يَسْأَلُهُ الْجَوَابَ يَقُولُ لَهُ الشَّيْخُ: أَعِدْ عَلَيَّ الْمَسْأَلَةَ فَإِذَا أَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِمَا قَالَهُ بِالْأَمْسِ بَحَثَ فِيهَا مَعَ مَنْ حَضَرَهُ ثُمَّ أَفْتَاهُ أَوْ كَتَبَ لَهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ خَالَفَ مَا قَالَهُ بِالْأَمْسِ قَالَ لَهُ الشَّيْخُ: أَيُّمَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي بِالْأَمْسِ أَوْ الَّذِي بِالْيَوْمِ فَيَرُدُّهَا وَلَا يُفْتِي لَهُ فِيهَا بِشَيْءٍ، وَيَقُولُ لَهُ: لَا أَعْلَمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ حَتَّى أُفْتِيَ عَلَيْهِ، هَكَذَا هُوَ حَالُ الْعُلَمَاءِ فِي التَّحَرُّزِ عَلَى ذِمَمِهِمْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً لَا تَحْتَاجُ إلَى بَحْثٍ وَلَا تَطْوِيلِ نَظَرٍ، فَلَا بَأْسَ بِالْجَوَابِ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلسَّدَادِ بِمَنِّهِ. فَلَوْ مَشَى الْعَالِمُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ الْقَوِيمِ لَحَصَلَ لَهُ فَائِدَتَانِ عَظِيمَتَانِ: إحْدَاهُمَا: بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ. وَالثَّانِي: انْتِفَاعُ مَنْ حَضَرَهُ وَتَعْلِيمُهُمْ فِي أَقَلِّ زَمَانٍ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الدَّرْسِ سَهْلٌ يَسِيرٌ فِي الْغَالِبِ إذْ النُّبَهَاءُ مِنْ الطَّلَبَةِ قَدْ طَالَعُوا عَلَيْهِ غَالِبًا، وَهُمْ قَدْ عَرَفُوا مَأْخَذَهُ وَمُرَادَهُ وَمُشْكِلَاتِهِ وَالْجَوَابَ عَنْهَا وَحَلَّهَا وَالْفَتَاوَى لَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا نَوَازِلُ تَنْزِلُ عَلَى غَيْرِ تَعْبِيَةٍ وَلَا أُهْبَةٍ، وَفِيهَا تَظْهَرُ نَبَاهَةُ طَلَبَتِهِ وَتَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا الْفَائِدَةُ الْجَمَّةُ وَالتَّثَبُّتُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقَعُ لَهُمْ مِنْهَا. وَعَنْ ابْنِ يُونُسَ قَالَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَيُؤْخَذُ مِمَّنْ سِوَاهُمْ: لَا يُؤْخَذُ مِنْ مُبْتَدِعٍ يَدْعُو إلَى بِدْعَتِهِ، وَلَا سَفِيهٍ

مُعْلِنٍ بِسَفَهِهِ، وَلَا مِمَّنْ يَكْذِبُ فِي حَدِيثِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الشَّأْنَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ وَلَا يَكُونُ إمَامًا أَبَدًا، ثُمَّ قَرَأَ {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42] انْتَهَى، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتَرَدَّدَ لِأَحَدٍ أَوْ يَسْعَى فِي طَلَبِ التَّدْرِيسِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ مَدْرَسَةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْلِسُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيُعَلِّمُ وَيَتَعَلَّمُ وَيُفِيدُ وَيَسْتَفِيدُ لِكَيْ يَظْهَرَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَرَّمَهُ أَوْ كَرِهَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، فَمَا كَانَ أَصْلُهُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا جَانَسَهَا فَيَنْبَغِي بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْلِطَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ أَقْذَارِ الدُّنْيَا. وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَعَالِي الْأُمُورِ وَأَكْمَلِهَا إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ وَهُدًى لِلْمُهْتَدِينَ، فَإِذَا رَآهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَتَسَبَّبُ فِيمَا ذُكِرَ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي طَلَبِ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَالْغَالِبُ أَنَّ النُّفُوسَ تَأْنَسُ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَ ذَمُّهُ مَوْجُودًا فِي الْكُتُبِ وَأَحْوَالِ السَّلَفِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَكِنَّ شَأْنَ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي الْغَالِبِ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ فِي وَقْتِهِمْ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ إيثَارًا لِلتَّوَصُّلِ إلَى أَغْرَاضِهِمْ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِهِ صِيَانَةً لِلْعِلْمِ وَإِقَامَةً لِحُرْمَتِهِ، بَلْ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلْيَتَرَبَّصْ وَلْيَسْتَخِرْ اللَّهَ تَعَالَى وَيَسْتَشِرْ وَلَا يَعْجَلْ، فَإِنَّ الْعَجَلَةَ مِنْ الشَّرَاهَةِ، وَالشَّرَاهَةُ مَذْمُومَةٌ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» انْتَهَى. وَإِذَا فَعَلَ مَا ذُكِرَ وَكَانَ أَخْذُهُ لِذَلِكَ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِشْرَافٍ مِنْهُ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَالْبَرَكَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ وَالْمَأْمُولُ؛ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الْقَلِيلِ أَغْنَتْ عَنْ الْكَثِيرِ وَأَعَانَتْ عَلَى طَاعَةِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا سَأَلَهُ كَانَتْ يَدُهُ سُفْلَى، وَلَيْسَ هَذَا مَنْصِبَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعُلَمَاءِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هِيَ الْعُلْيَا، وَلَا

فصل للعالم أن لا يتردد لأحد ممن ينسب إلى أنه من أبناء الدنيا

عُذْرَ لَهُ فِي الطَّلَبِ لِمَا ذُكِرَ لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ وَالْمُلَازِمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ تَقِيَّةً عَلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ لَمْ يُضَيِّعْ اللَّهُ الْكَرِيمُ قَصْدَهُ، وَأَتَاهُ بِهِ أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْبِهِ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ، وَسَدَّ خَلَّتَهُ وَأَعَانَهُ عَلَى مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، وَلَيْسَ رِزْقُهُ بِمُنْحَصِرٍ فِي جِهَةٍ بِعَيْنِهَا. وَعَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَبَدًا مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَرْزُقُ مَنْ هَذَا حَالُهُ مِنْ غَيْرِ بَابٍ يَقْصِدُهُ أَوْ يُؤْمَلُهُ، بَلْ الْأَمْرُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ مَنْ لِلَّهِ تَعَالَى بِهِ اعْتِنَاءٌ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ بِهِ كُلَّ جِهَةٍ يُؤَمِّلُهَا أَوْ يَقْصِدُهَا؛ لِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ انْقِطَاعُهُمْ إلَيْهِ وَتَعْوِيلُهُمْ فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ عَلَيْهِ وَلَا يَنْظُرُونَ إلَى الْأَسْبَابِ، بَلْ إلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ وَمُدَبِّرِهَا وَالْقَادِرِ عَلَيْهَا. وَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْعَالِمُ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرْشِدُ لِلْخَلْقِ وَالْمُوَضِّحُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لِلسُّلُوكِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَنْ تَرَكَ جِهَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ قَاصِدٌ إلَى أُخْرَى فَيُبَدَّلُ عَنْهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا. قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» انْتَهَى فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَالِمَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ بَيْتٍ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءً فِي حَقِّهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِيءُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ عَنْهُ الْمَعْلُومُ لَا يَتَسَخَّطُ وَلَا يَتَضَجَّرُ وَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، بَلْ يَزِيدُ فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ [فَصْلٌ للعالم أَنْ لَا يَتَرَدَّدَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى أَنَّهُ مِنْ أبناء الدنيا] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ لَا يَتَرَدَّدَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى أَنَّهُ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ يَنْبَغِيَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ عَلَى بَابِهِ لَا عَكْسَ الْحَالِ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَلَى أَبْوَابِهِمْ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي كَوْنِهِ يَخَافُ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ حَاسِدٍ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِمَّنْ يَخْشَى أَنَّهُ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ، أَوْ يَرْجُو أَحَدًا مِنْهُمْ فِي دَفْعِ شَيْءٍ مِمَّا يَخْشَاهُ، أَوْ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنْهُمْ، فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ عُذْرٌ

يَنْفَعُهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ ذَلِكَ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ خَائِفًا مِمَّا ذُكِرَ فَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ إشْرَافِ النَّفْسِ، وَقَدْ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ مَنْ يَتَرَدَّدُ إلَيْهِ فِي مَعْلُومِهِ عُقُوبَةً لَهُ مُعَجَّلَةً. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ يَرْتَكِبُ أَمْرًا مَحْذُورًا مُحَقَّقًا لِأَجْلِ مَحْذُورٍ مَظْنُونٍ تَوَقُّعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْوَقْتِ بِعَدَمِ ارْتِكَابِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا، بَلْ الْإِعَانَةُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا هُوَ الِانْقِطَاعُ عَنْ أَبْوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالرُّجُوعُ إلَيْهِ، إذْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْقَاضِي لِلْحَوَائِجِ وَالدَّافِعُ لِلْمَخَاوِفِ وَالْمُسَخِّرُ لِقُلُوبِ الْخَلْقِ وَالْإِقْبَالُ بِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ كَيْفَ يَشَاءُ. قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ خِطَابًا لِسَيِّدِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ: «لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ» فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا فِي مَعْرَضِ الِامْتِنَانِ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْعَالِمُ إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لَهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ سِيَّمَا فِي التَّعْوِيلِ عَلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالسُّكُونِ إلَيْهِ دُونَ مَخْلُوقَاتِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُعَامِلُهُ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي عَامَلَ بِهَا نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَسْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ التَّرَدُّدِ إلَى أَبْوَابِ مَنْ لَا يَنْبَغِي كَاَلَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَهُوَ سُمٌّ قَاتِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَحْوَالِهِمْ يَا لَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ لَا غَيْرُ، بَلْ يَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ مَا هُوَ أَشَدُّ وَأَشْنَعُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ تَرَدُّدَهُمْ إلَى أَبْوَابِهِمْ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ أَوْ مِنْ بَابِ إرْشَادِهِمْ إلَى الْخَيْرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْطِرُ لَهُمْ وَهُوَ كَثِيرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى، وَإِذَا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ فَقَدْ قَلَّ الرَّجَاءُ مِنْ تَوْبَتِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إذْ أَنَّهُ لَا يَتُوبُ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ الْخَيْرِ. وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْعَدْلَ إذَا تَرَدَّدَ لِبَابِ الْقَاضِي فَإِنَّ ذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ وَتُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّرَدُّدِ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَهُوَ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ سَالِمٌ مَجْلِسُهُ مِمَّا يَجْرِي فِي مَجَالِسِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، فَكَيْفَ التَّرَدُّدُ لِغَيْرِ

فصل ترك العالم الدرس لعوارض تعرض له من جنازة أو غيرها

الْقَاضِي، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَوْجَبُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ [فَصْلٌ تُرُكَ الْعَالم الدَّرْسَ لِعَوَارِضَ تَعْرِضُ لَهُ مِنْ جِنَازَةٍ أَوْ غَيْرهَا] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَ الدَّرْسَ لِعَوَارِضَ تَعْرِضُ لَهُ مِنْ جِنَازَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إنْ كَانَ يَأْخُذُ عَلَى الدَّرْسِ مَعْلُومًا، فَإِنَّ الدَّرْسَ إذْ ذَاكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَحُضُورُ الْجِنَازَةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ يَتَعَيَّنُ، فَإِنَّ الذِّمَّةَ مَعْمُورَةٌ بِهِ وَلَا شَيْءَ آكَدُ وَلَا أَوْجَبُ مِنْ تَخْلِيصِ الذِّمَّةِ، إذْ تَخْلِيصُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، فَلَوْ حَضَرَ الْجِنَازَةَ وَأَبْطَلَ الدَّرْسَ لِأَجْلِهَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْقِطَ مِنْ الْمَعْلُومِ مَا يَخُصُّ ذَلِكَ، بَلْ لَوْ كَانَ الدَّرْسُ لَيْسَ لَهُ مَعْلُومٌ لَتَعَيَّنَ عَلَى الْعَالِمِ الْجُلُوسُ إلَيْهِ، إذْ أَنَّهُ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَسَمَاعُ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعَالِمِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حَجَّةً مَبْرُورَةً كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ فَضْلِ الْجِنَازَةِ؟ ، وَقَدْ مَاتَ أَحَدُ أَوْلَادِ الْحَسَنِ أَوْ الْحُسَيْنِ فَخَرَجَ لِجِنَازَتِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَبَقِيَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَخْرُجُ إلَى جِنَازَةِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ مُجِيبًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ: صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ حُضُورِ جِنَازَةِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا فَضَّلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ نَافِلَةً عَلَى حُضُورِهَا فَمَا بَالُكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَمَا بَالُكَ بِإِلْقَاءِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ خَيْرُ مُتَعَدٍّ سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا. وَكَذَلِكَ لَا يَتْرُكُ الدَّرْسَ لِأَجْلِ مَرِيضٍ يَعُودُهُ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ التَّعْزِيَةِ وَالتَّهْنِئَةِ الْمَشْرُوعَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَنْدُوبٌ، وَإِلْقَاءُ الْعِلْمِ مُتَعَيِّنٌ إنْ كَانَ يَأْخُذُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْلُومًا بَلْ لَوْ عَرِيَ عَنْهُمَا مَعًا لَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ مِنْ أَنَّهُ يَتْرُكُ مَا نُدِبَ إلَيْهِ لِأَجْلِهِ، فَمَا بَالُكَ بِبَطَالَةِ الدَّرْسِ لِأَجْلِ بِدْعَةٍ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ كَثُرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَيُبْطِلُونَ الدَّرْسَ لِأَجْلِ

فصل ينبغي للعالم أن ينظر أولا في المدرسة إذا عرضت عليه

الصُّحْبَة لِأَجْلِ الْمَيِّتِ أَوْ الثَّالِثِ لَهُ أَوْ تَمَامِ الشَّهْرِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْفَرَحِ كَالْعَقِيقَةِ وَغَيْرِهَا كَالسَّلَامِ عَلَى الْغَائِبِ وَالتَّهْنِئَةِ بِوِلَايَةٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَنْدُوبًا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الدَّرْسِ إذَا سَلِمَ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْبِدَعِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ مَعَ إظْهَارِ تَقْبِيحِهِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَى فَاعِلِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ بِمَا أَمْكَنَهُ. وَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ مَاشِيًا عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ انْسَدَّتْ بِهِ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يُبْطِلُونَ الدُّرُوسَ لِبِدْعَةِ الصُّبْحَةِ أَوْ الثَّالِثِ أَوْ التَّهْنِئَةِ بِوِلَايَةِ خُطَّةٍ أَوْ السَّلَامِ عَلَى غَائِبٍ قَدِمَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَيَتْرُكُونَ الْوَاجِبَ وَيَصِيرُ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ مَا فِيهِ، وَيَمْضُونَ إلَى بِدْعَةٍ يَا لَيْتَهُمْ لَوْ فَعَلُوهَا وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِحَسْبِ مَا يَخْطِرُ لَهُ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي تَأْبَاهَا قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ. مِثَالُهُ أَنْ يَتْرُكَ الدَّرْسَ وَيَرُوحَ إلَى تَهْنِئَةِ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَنْصِبَ مِنْ يَدِهِ أَوْ يَرْجُوهُ لِمَنْصِبٍ آخَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِهِمْ [فَصْلٌ يَنْبَغِي للعالم أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي المدرسة إذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي الْمَدْرَسَةِ إذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ هَلْ هِيَ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ فَلَا بَأْسَ إذَنْ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ شُبْهَةٍ فَالْعُلَمَاءُ مُنَزَّهُونَ عَنْ الشُّبُهَاتِ بَلْ يَتَأَكَّدُ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِمْ. وَقَدْ يَصِيرُ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ فِي حَقِّهِمْ وَاجِبًا؛ لِأَنَّهُمْ الْقُدْوَةُ وَالنَّاسُ لَهُمْ تَبَعٌ، فَإِذَا اقْتَحَمُوا الشُّبُهَاتِ اقْتَدَى بِهِمْ النَّاسُ فِي تَنَاوُلِهَا، وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَعْلُومِ الَّذِي قُرِّرَ لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْغَصْبُ، وَأَمَّا مَعَ التَّعْيِينِ فَلَا يَحِلُّ وَقَدْ كَثُرَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَغْصِبُ الْمَوَاضِعَ، وَكَذَلِكَ الْآلَاتُ مِثْلَ الْأَعْمِدَةِ وَالرُّخَامِ وَالشَّبَابِيكِ. وَقَدْ يَأْخُذُونَ بَعْضَ

ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْمَسَاجِدِ وَبَعْضِ الْبُيُوتِ وَبَعْضِ الْحَمَّامَاتِ عَلَى يَقِينٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُغْضِبُونَ النَّاسَ مِنْ الصُّنَّاعِ وَغَيْرِهِمْ فِي بِنَائِهَا بِذَلِكَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيِّ قَلَّمَا يُوضَعُ الْأَسَاسُ إلَّا وَقَدْ وَقَعَتْ الْخُطْبَةُ فِي طَلَبِ تَوْلِيَةِ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ، وَلَا يَصِلُ إلَى تَوْلِيَتِهَا إلَّا مَنْ لَهُ الشَّوْكَةُ الْقَوِيَّةُ فَكَيْفَ يَقَعُ السَّعْيُ فِي مَوْضِعٍ وَقَعَ بِنَاؤُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ شَيْءٌ فَلْيَأْتِ لَقَامَ نَاسٌ يَدَّعُونَ مَا لَهُمْ فِيهِ مِنْ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُثْبِتُونَ ذَلِكَ، فَيَصِيرُ تَصَرُّفُ هَذَا الْعَالِمِ فِي مِلْكِ النَّاسِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، وَهَذَا أَمْرٌ قَبِيحٌ لَوْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْعَوَامّ فَكَيْفَ يُقْدِمُ عَلَيْهِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَثِيرٌ مِنْ الْمَدَارِسِ بُنِيَتْ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ حَرَامًا بِخِلَافِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ عَلَى مَدْرَسَةٍ قَدِيمَةٍ فَيَقُولُ: كُلُّ مَنْ غُصِبَ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ فَلْيَأْتِ يَأْخُذُ مَا غُصِبَ مِنْهُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ لِانْقِرَاضٍ صَاحِبِهَا وَانْقِرَاضِ وَرَثَتِهِ أَوْ الْجَهْلِ بِهِمْ فِي الْغَالِبِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ مَجْهُولًا لَا تُعْرَفُ جِهَاتُهُ وَلَا أَرْبَابُهُ فَيَرْجِعُ إذْ ذَاكَ إلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ مُرْصَدٌ فِيهِ لِمَصَالِحِهِمْ وَمِنْ أَهَمِّهَا إقَامَةُ وَظِيفَةِ إلْقَاءِ الْعِلْمِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ وَتَحْصِيلِهِ، فَقَدْ افْتَرَقَا فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ احْتَجَّ بِهَذَا عَلَى جَوَاز التَّصَرُّفِ فِي الْحَرَامِ الْبَيِّنِ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ صَارَ فِي الذِّمَّةِ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُعَيَّنًا، فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِصَاحِبِهِ وَالْغَاصِبُ لَهُ مَأْمُورٌ فِي كُلِّ زَمَنٍ بِرَدِّهِ لِمُسْتَحِقِّهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذِمَّةَ هَذَا الْغَاصِبِ مُسْتَغْرَقَةٌ لِكَثْرَةِ غَصْبِهِ وَكَثْرَةِ الْحُقُوقِ الْمُرَتَّبَةِ فِيهَا، فَصَارَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَإِنْ كَثُرَتْ مُسْتَحَقَّةٌ لِأَرْبَابِهَا، وَتَبْقَى الْفَضَلَاتُ الْكَثِيرَةُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ مَا فِي يَدِهِ فِي الْغَالِبِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَقُولُ: إنَّ الضَّرُورَاتِ أَلْجَأَتْ إلَى أَخْذِ هَذِهِ الْجِهَاتِ وَالْمَوَاضِعِ لِكَثْرَةِ الْعَائِلَةِ وَالْمَلَازِمِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مَأْخُوذٌ

مِمَّا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ وَصَرَّحَ بِهِ. قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ فِي مَعْرَضِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ عَدَا الرُّسُلَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - فَإِنَّهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ. وَمَعَ كَثْرَةِ عَائِلَتِهِمْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْإِقَامَةِ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، فَكُلٌّ فِي ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى مَا أُرِيدَ مِنْهُ. وَقَدْ كَانَ عَيْشُهُمْ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ وَاشْتُهِرَ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ وَخَشِنِ الْمَلْبَسِ وَقِلَّةِ الْجِدَّة، تَكْرِيمًا لَهُمْ وَتَرْفِيعًا لِمَنَازِلِهِمْ السَّنِيَّةِ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُحِبُّونَ الْفَقْرَ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ وَيَهْرُبُونَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا، لَا جَرَمَ أَنَّا لَمَّا أَخَذْنَا فِي الضِّدِّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ جَاءَ الْخَوْفُ مِنْ الْفَقْرِ وَالِاعْتِلَالِ بِالْعَائِلَةِ، فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ احْتَجَّ بِالضَّرُورَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَوَابِ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وَأَحْوَالِ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: مَا أَتَى عَلَى مَنْ أَتَى فِي هَذَا الزَّمَانِ إلَّا مِنْ الضَّرُورَاتِ الْمُعْتَادَاتِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ، فَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هَذِهِ الضَّرُورَاتُ تُقْطَعُ مِنْ أَصْلِهَا، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهَا. مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الْفَقِيهُ: لَا بُدَّ مِنْ فَوْقَانِيَّةٍ عَلَى صِفَةٍ، لَا بُدَّ مِنْ عِمَامَةٍ عَلَى صِفَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ كُتُبٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَابَّةٍ، فَإِذَا جَاءَتْ الدَّابَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ غُلَامٍ وَكُلْفَةٍ فِي الْغَالِبِ، وَلَا بُدَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَغْلَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُ لِغُلَامِهِ بَغْلَةً أَيْضًا، وَقَدْ يَحْتَاجُ الْغُلَامُ إلَى زَوْجَةٍ، فَلَا يَزَالُ هَكَذَا فِي ضَرُورَاتٍ حَتَّى يَرْجِعَ فِي الدُّنْيَا مُتَّسِعَ الْحَالِ وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ مَضْرُورٌ، حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ فِي الْوَقْتِ مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا الْمُتَّسِعَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقُول: أَسْتَحِقُّ أَخْذَ الزَّكَاةِ نَظَرًا مِنْهُ إلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَأَشْبَاهِهِ مِنْ الْمَسْكَنِ عَلَى صِفَةٍ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ وَالْأَوَانِي وَالْجَوَارِي وَالْخَدَمِ وَالْغِلْمَانِ، فَتَأْتِي الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَهُوَ مَهْمُومٌ تَجِدُهُ يَشْكُو مِنْ كَثْرَةِ الضَّرُورَاتِ الَّتِي يَدَّعِيهَا، فَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

فصل ينبغي للعالم أن يكون آكد الأمور وأهمها عنده القناعة

يَقُولُ: هَذِهِ الضَّرُورَاتُ تُقْطَعُ مِنْ أَصْلِهَا فَلَا ضَرُورَةَ إلَّا شَرْعِيَّةٌ، وَالضَّرُورَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا فِي الْغَالِبِ إلَى كُلْفَةٍ. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الضَّرُورَاتِ الَّتِي لَهُمْ إنَّمَا حَدَثَتْ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَتَّبِعُ الشَّرْعَ وَيَحُثُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ الْقُدْوَةُ، وَعَلَى أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ يَدُورُ أَمْرُ النَّاسِ فِي اقْتِدَائِهِمْ بِهِ فِي ذَلِكَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ [فَصْلٌ يَنْبَغِي للعالم أَنْ يَكُونَ آكد الأمور وَأَهَمُّهَا عِنْدَهُ الْقَنَاعَةَ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ آكَدُ الْأُمُورِ وَأَهَمُّهَا عِنْدَهُ الْقَنَاعَةَ؛ لِأَنَّ بِهَا يَسْتَعِينُ عَلَى مَا أَخَذَ بِصَدَدِهِ، فَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْصِبٌ مِنْ حِلٍّ وَكَانَ لَهُ غُنْيَةٌ عَنْهُ، فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى أَخْذِهِ، وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَخْذِهِ وَالتَّصَدُّقِ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِنْ الرِّفْقِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ طَلَبِ الدُّنْيَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَخْذِهَا وَالتَّصَدُّقِ بِهَا. وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ كَانَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنْ رَفْضِ الدُّنْيَا.، وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ ثَوْرٍ قُلْت لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ رَجُلَانِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الدُّنْيَا بِحَلَالِهَا فَأَصَابَهَا فَوَصَلَ بِهَا رَحِمَهُ وَقَدَّمَ فِيهَا لِنَفْسِهِ وَرَجُلٌ رَفَضَ الدُّنْيَا قَالَ: أَحَبُّهُمَا إلَيَّ الَّذِي رَفَضَ الدُّنْيَا، قَالَ: فَأَعَدْت عَلَيْهِ الْقَوْلَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا اعْتَدَلَ الرَّجُلَانِ أَحَبُّهُمَا إلَيَّ الَّذِي جَانَبَ الدُّنْيَا انْتَهَى. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ وَيُبَيِّنُهُ مَا خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ قَالُوا: بَلَى قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى. الْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُبَادِرُ إلَى أَعْلَى الْأُمُورِ وَأَسْنَاهَا؛ وَلِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَجَلِّهَا، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ عِوَضًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ بِالنِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فَنَعَمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا جَرَى لِلشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ التِّنِّيسِيِّ فِي شَرْبَةِ لَبَنٍ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى مَا هُنَا، بَلْ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْمَنْصِبُ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ وَيَتْرُكَهُ إقَامَةً لِحُرْمَةِ الْعِلْمِ، وَلِكَيْ

فصل في مواضع الجلوس في الدروس وغيرها من مواضع الاجتماع

يَتَّصِفَ بِصِفَاتِ أَهْلِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ دُونَ زِيَادَةٍ، وَيَقْتَصِرَ عَلَيْهَا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، انْسَدَّتْ بِهِ هَذَا الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ لَهُ فِي الْمَدْرَسَةِ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا، وَفِي الْأُخْرَى دُونَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، فَتَجِدُ بَعْضَ الْمُدَرِّسِينَ لَهُ دُنْيَا كَثِيرَةٌ، وَهُوَ يَدَّعِي الضَّرُورَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَظَرِهِمْ إلَى الضَّرُورَاتِ الْمُعْتَادَاتِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يَأْخُذُ عَلَيْهِ الْمَعْلُومَ إنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى تَعْلِيمِهِ عِوَضًا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مَعَ أَنَّ التَّرْكَ أَوْلَى وَأَرْفَعُ. وَإِذَا أَخَذَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ عَلَى نِيَّةِ الْإِعَانَةِ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لَا عَلَى الْعِوَضِ وَالْإِجَارَةِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ تَعْلِيمُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَخْذُهُ الرِّزْقَ لِلَّهِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي مَوَاضِعِ الْجُلُوسِ فِي الدُّرُوسِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ الِاجْتِمَاعِ] ِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيَّ وَإِلَيْك الْقَوْلُ فِي الْقِيَامِ لِلدَّاخِلِ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ وَتَفْصِيلِهِ وَمَا يَجُوزُ فِيهِ وَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى مَوَاضِعِ الْجُلُوسِ وَتَبْيِينِ مَا أَحْدَثُوا فِيهِ مِنْ الْعَوَائِدِ، فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُحَذِّرَ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ الْمُسْتَهْجَنَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ إذْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِمَنْ مَضَى، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَوْلَى بِالتَّوَاضُعِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ النَّاسِ مُطَالَبِينَ بِذَلِكَ. وَطَلَبُ مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ لِلْجُلُوسِ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالِازْدِرَاءِ بِمَنْ دُونَهُ غَالِبًا، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَمَّنْ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ سِيَّمَا مَنْ هُوَ جَالِسٌ لِإِلْقَائِهِ أَوْ لِسَمَاعِهِ، وَالْعِلْمُ يَطْلُبُهُ بِتَرْكِ مَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ طَلَبِ الْحُظُوظِ الْخَسِيسَةِ وَالْأَمَانِي الْفَاسِدَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ

فِي بَابِ الْقِيَامِ أَنَّ سِمَةَ الْعَالِمِ إنَّمَا هِيَ بِوُجُودِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَالتَّقَشُّفِ وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّنَازُلِ لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِضِدِّهِ، وَطَلَبُ مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ لَا خَفَاءَ بِهِ، وَالْعُلَمَاءُ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَنْ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَكَانَ عَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ تُجَاهَهُ وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ، وَقَالَ: أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا» قَالَ أَنَسٌ: فَهِيَ سُنَّةٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ جِهَةَ الْيَمِينِ أَفْضَلُ. وَقَدْ كَانَ الْأَعْرَابِيُّ فِي جِهَتِهَا وَالصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْيَسَارِ، فَلَمْ يَضُرَّ أَبَا بَكْرٍ ذَلِكَ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ فَضِيلَتِهِ الَّتِي أَوْلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهَا إذْ أَنَّ الْفَضِيلَةَ إنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ لَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ؛ فَإِنْ ظَهَرَتْ الْفَضْلَةُ لِلنَّاسِ وَأُمِرُوا بِتَعْظِيمِ صَاحِبِهَا فَلْيَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، أَلَا تَرَى «أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا أَنْ أَسْتَأْذَنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقَدِّمَ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْك أَحَدًا فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ» . وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -: لَمَّا أَنْ أَقْرَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ بَيْنَ رَجُلٍ وَوَلَدِهِ فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِلْوَلَدِ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: آثِرْنِي بِهَا يَا بُنَيَّ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: الْجَنَّةُ هَذِهِ يَا أَبَتِ لَا يُؤْثِرُ بِهَا أَحَدٌ أَحَدًا فَانْظُرْ - رَحِمنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ - كَيْفَ فَعَلَ هَذَا الصَّحَابِيُّ هَذَا الْفِعْلَ مَعَ أَبِيهِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَرَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مُتَأَكِّدٌ طَلَبُهُ فِي الشَّرْعِ لَكِنْ عَلَى مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ لَا عَلَى مَا يَخْطِرُ لَنَا أَوْ يَهْجِسُ فِي أَنْفُسِنَا. أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي قِصَّتِهِ مَعَ الْخَلِيفَةِ لَمَّا أَرَادَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ الْمُوَطَّأِ وَجَلَسَ الْخَلِيفَةُ إلَى جَانِبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَمَرَ وَزِيرَهُ جَعْفَرًا

أَنْ يُقْرَأَ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَمْ يُؤْخَذْ إلَّا بِالتَّوَاضُعِ وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَأَنْ تَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ، فَقَامَ الْخَلِيفَةُ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، هَذَا وَهُوَ خَلِيفَةُ ذَلِكَ الزَّمَانِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْفَضِيلَةِ كَانَ بِحَيْثُ يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ مِنْهَا، وَلِأَجْلِ مَا عِنْدَهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ انْقَادَ إلَى الْأَدَبِ وَالتَّوَاضُعِ، وَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ إلَّا رِفْعَةً وَهَيْبَةً، بَلْ ارْتَفَعَ قَدْرُهُ بِذَلِكَ وَبَقِيَ يُثْنِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ إذَا جَمَعَ الْعَالِمُ ثَلَاثًا تَمَّتْ النِّعْمَةُ بِهِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ الصَّبْرُ وَالتَّوَاضُعُ وَحُسْنُ الْخَلْقِ، وَإِذَا جَمَعَ الْمُتَعَلِّمُ ثَلَاثًا تَمَّتْ النِّعْمَةُ بِهِ عَلَى الْعَالِمِ الْعَقْلُ وَالْأَدَبُ وَحُسْنُ الْفَهْمِ انْتَهَى. فَمَنْ أَرَادَ الرِّفْعَةَ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لَا تَقَعُ إلَّا بِقَدْرِ النُّزُولِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا نَزَلَ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ صَعِدَ إلَى أَعْلَاهَا، فَكَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ مَا صَعِدَ بِك هَاهُنَا أَعْنِي فِي رَأْسِ الشَّجَرَةِ وَأَنْتَ قَدْ نَزَلْت تَحْتَ أَصْلِهَا، فَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِهِ يَقُولُ: مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ سَبَقَ إلَى مَوْضِعٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَوْنُهُ يُقِيمُ أَحَدًا مِنْ مَوْضِعِهِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْبِدْعَةِ وَارْتِكَابِ النَّهْيِ وَالتَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ «نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا» انْتَهَى. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ فَعَلَى هَذَا فَحَيْثُمَا بَلَغَ بِالْإِنْسَانِ الْمَجْلِسُ جَلَسَ فَهِيَ السُّنَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَارْتِكَابِ النَّهْيِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْفَضِيلَةُ عِنْدَ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إنَّمَا هِيَ بِالِاتِّصَافِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَلَيْسَتْ بِالْمَوَاضِعِ وَلَا بِالْخُلَعِ وَلَا بِوُجُودِ الْمَنَاصِبِ، وَلَكِنْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي التَّوَاضُعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، فَلَوْ جَلَسَ مَنْ لَهُ فَضِيلَةٌ عِنْدَ الْأَقْدَامِ لَصَارَ مَوْضِعُهُ صَدْرًا وَعَكْسُهُ عَكْسَهُ، فَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذَا التَّنَافُسِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا، فَإِنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ لِفَاعِلِهِ وَلِمَنْ يَقْتَدِي بِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ قَبِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي الْقِيَامِ وَاللِّبَاسِ، بَلْ هَذَا أَشَدُّ قُبْحًا

لِأَنَّهُ مُصَادِمٌ لِلنَّهْيِ. فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ: إنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّرْفِيعِ لِلْعِلْمِ وَالتَّوْقِيرِ لَهُ. فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، وَلَا يُتَّبَعُ غَيْرُهُمْ وَلَا يُرْجَعُ إلَّا إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حُظُوظَ النُّفُوسِ وَمُخَالَفَةَ السُّنَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَلَا شَيْءَ أَعْلَى وَلَا أَرْفَعَ مِنْ اتِّبَاعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاتِّبَاعِ أَصْحَابِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ هَذَا لَزَمَانٌ لَا يُشْبِهُ ذَلِكَ الزَّمَانَ لِتَعْظِيمِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لِأَجْلِ عِلْمِهِمْ الْغَزِيرِ وَدِيَانَتِهِمْ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكِتَابَ الْعَزِيزَ وَالسُّنَّةَ الشَّرِيفَةَ وَرَدَا جَمِيعًا لِأَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، وَلَمْ يَخُصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ قَرْنًا دُونَ قَرْنٍ وَلَا قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ، بَلْ أَتَى بِذَلِكَ عُمُومًا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ» انْتَهَى. أَيْ اعْمَلْ بِهِ فَالْمَنْزِلَةُ الَّتِي يُرَاعَى حَقُّهَا فِي الشَّرْعِ إنَّمَا بِالْعِلْمِ وَالِاتِّصَافِ بِالْعَمَلِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَقْدِيمُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا هُوَ لِتَعْظِيمِ الدُّنْيَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ خِلْعَةٌ أَوْ هَيْئَةٌ قَدَّمُوهُ فِي الْمَجَالِسِ، وَمَنْ كَانَ رَثَّ الْحَالِ أَخَّرُوهُ عَكْسُ حَالِ السَّلَفِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ عَوَائِدِ أَكْثَرِهِمْ، فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذِكْرِ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ فِي ذَلِكَ. الْغَالِبُ مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ الْإِنْصَافَ فِي ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ جَائِزًا فِي الشَّرْعِ. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا: أَنَّ ذَلِكَ مُجَرَّدُ حَظٍّ مَذْمُومٍ شَرْعًا كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ يُوَضِّحَ الْأَمْرَ وَيُنْكِرَهُ وَيَزْجُرَ فَاعِلَهُ وَيُقَبِّحَ لَهُ فِعْلَهُ وَيُشَنِّعَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ حَسْبَ اسْتِطَاعَتِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّخْصُ مِمَّنْ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ لِلْفَتْوَى، وَهُوَ مَقْصُودٌ

فصل في ذكر آداب المتعلم

فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَكَانَ لَهُ مَكَانٌ يُعْرَفُ بِهِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ وَالضَّرُورَاتُ لَهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ] ِ قَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ ذِكْرُ بَعْضِ آدَابِ الْعَالِمِ، وَفِي ذِكْرِهِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ إذْ أَنَّ الْغَالِبَ فِيمَا ذُكِرَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي ذَلِكَ، لَكِنْ قَدْ يَخْتَصُّ الْمُتَعَلِّمُ بِبَعْضِ نُبَذٍ يَسِيرَةٍ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِي التَّعْلِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يُظْهِرَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ثُمَّ هُوَ فِي حَقِّ الْمُتَعَلِّمِ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مُتَّصِفٌ بِالْجَهْلِ فَيَحْرِصُ عَلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ مِنْ الشَّوَائِبِ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِأَجْلِ أَنْ يَرْتَفِعَ قَدْرُهُ عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ يُعْرَفَ بِالْعِلْمِ، أَوْ لِمَعْلُومٍ يَأْخُذُهُ بِهِ، أَوْ لَأَنْ يَرْأَسَ بِهِ عَلَى الْجُهَّالِ، أَوْ لَأَنْ يُشَارَ إلَيْهِ، أَوْ لَأَنْ يُسْمَعَ قَوْلُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُظُوظِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا الَّتِي تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ يَفْعَلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُرِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ اتَّصَفَ بِبَعْضِ مَا ذُكِرَ: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ اذْهَبْ فَخُذْ الْأَجْرَ مِنْ غَيْرِي» ، وَلَا تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِذَا كَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ فَيَتَعَيَّنُ تَخْلِيصُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَبْتَدِئُهُ أَوَّلًا بِالْإِخْلَاصِ الْمَحْضِ، حَتَّى يَكُونَ الْأَصْلُ طَيِّبًا فَتَأْتِيَ الْفُرُوعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الطَّيِّبِ فَيُرْجَى خَيْرُهُ، وَتَكْثُرَ بَرَكَتُهُ، وَالْقَلِيلُ مِنْ الْعِلْمِ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ أَنْفَعُ وَأَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ الْكَثِيرِ مِنْهُ مَعَ تَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ

وَمِنْ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِوَجْهِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُعَانًا، وَمَنْ طَلَبَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُهَانًا انْتَهَى هَذَا إذَا كَانَ هُوَ الدَّاخِلُ بِنَفْسِهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ وَلِيُّهُ هُوَ الَّذِي يُرْشِدُهُ لِذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُعَلِّمَهُ النِّيَّةَ فِيهِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُرْشِدَهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِسَبَبِ أَنْ يَرْأَسَ بِهِ، أَوْ يَأْخُذَ مَعْلُومًا عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِنَّ هَذَا سُمٌّ قَاتِلٌ يُخْرِجُ الْعِلْمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ يَقْرَأُ، وَيَجْتَهِدُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. فَإِنْ جَاءَ شَيْءٌ مِنْ غَيْبِ اللَّهِ تَعَالَى قَبِلَهُ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ فُتُوحٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ لَا لِأَجْلِ إجَارَةٍ، أَوْ مُقَابَلَةٍ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ إذْ أَنَّ أَعْمَالَ الْآخِرَةِ لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهَا عِوَضٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى رَاوِيَ الْمُوَطَّأِ لَمَّا أَنْ جَاءَ إلَى مَالِكٍ لِيَقْرَأَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: اجْتَهِدْ يَا بُنَيَّ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ شَابٌّ فِي سِنِّك فَقَرَأَ عَلَى رَبِيعَةَ، فَمَا كَانَ إلَّا أَيَّامٌ وَتُوُفِّيَ الشَّابُّ فَحَضَرَ جِنَازَتَهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ، وَلَحَدَهُ رَبِيعَةُ بِيَدِهِ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ فِي النَّوْمِ، وَهُوَ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لِي، وَقَالَ لِمَلَائِكَتِهِ: هَذَا عَبْدِي فُلَانٌ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَبْلُغَ دَرَجَةَ الْعُلَمَاءِ فَبَلِّغُوهُ دَرَجَتَهُمْ فَأَنَا مَعَهُمْ أَنْتَظِرُ مَا يَنْتَظِرُونَ. قَالَ فَقُلْت: وَمَا يَنْتَظِرُونَ قَالَ: الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعُصَاةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْعَى لِطَلَبِ الْمَعْلُومِ، وَلَا فِي زِيَادَتِهِ، وَلَا فِي تَنْزِيلِهِ فِي الْمَدَارِسِ، وَلَا فِي الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ يُرْجَى ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ الذَّمُّ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَدْرَسَةِ إلَى غَيْرِهَا، وَلَا مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى غَيْرِهِ إلَّا لِفَائِدَةٍ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ، إمَّا لَأَنْ يَكُونَ مُدَرِّسُ الْمَدْرَسَةِ الْأُخْرَى أَعْلَمَ، أَوْ أَفْيَدَ، أَوْ أَصْلَحَ مِنْ الْأَوَّلِ، أَوْ لَأَنْ تَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْعِلْمِ، وَتَثْبُتَ، وَإِنْ كَانَ

الثَّانِي أَقَلَّ عِلْمًا مِنْ الْأَوَّلِ لَا لِأَجْلِ مَعْلُومٍ، فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ غَيْرَ مَا ذُكِرَ كَانَ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمُبْتَدِي يَحْتَاجُ إلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُنْتَهِي؛ لِأَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَارِفٌ بِالدَّسَائِسِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ إنْ حَصَلَ لَهُ التَّوْفِيقُ لَهُ بِخِلَافِ الْمُبْتَدِي ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَضُرُّهُ أَخْذُ الْمَعْلُومِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا سَبَقَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ تَعَلُّقِ خَاطِرِهِ بِالْأَسْبَابِ، وَيَأْخُذُ الْمَعْلُومَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَتَرْكُ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي بَحْرٍ مَخُوفٍ، وَالْغَالِبُ فِيهِ الْعَطَبُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ يَقُولُ: «مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ شَيْئًا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» أَوْ كَمَا قَالَ. - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَعَلُّمُ الْعِلْمِ فَيُخَافُ عَلَيْهِ، فَتَرْكُهُ أَوْلَى بِهِ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى مَسْأَلَةٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهَا أَهْلَ الْعِلْمِ، وَحِينَئِذٍ يَقْدُمُ عَلَيْهَا، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا عَلِمْت عِلْمًا فَلْيُرَ عَلَيْك أَثَرُهُ، وَسَمْتُهُ، وَسَكِينَتُهُ، وَوَقَارُهُ، وَحِلْمُهُ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» . وَعَنْ ابْنِ يُونُسَ، وَذُكِرَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَهْذِرُونَ الْكَلَامَ هَكَذَا، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ شَهْرٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: مِنْ الْعُلَمَاءِ طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى الْعِلْمُ أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ: أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَمَّا أَنْ قَرَأَ الْعِلْمَ وَجَدَ قَوَاعِدَهُ مَاشِيَةً عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ، فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ الْوَاجِبَ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا فِعْلُهُ، وَكَذَلِكَ الْمُحَرَّمُ عَكْسُهُ، وَالْمَنْدُوبُ مَا لَهُ فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ عِقَابٌ، وَالْمَكْرُوهُ ضِدُّهُ، وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ فَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ فِي فِعْلِهِ، وَفِي تَرْكِهِ فَاتَّبَعَ الْعِلْمَ، وَبِاتِّبَاعِهِ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ أَوَّلًا فَوَجَدَ الْعِلْمَ يَمْنَعُهَا

فَتَرَكَهَا. وَقَدْ نَقَلَ مَعْنَى هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ فَقَالَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْعِلْمُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَمَلُ لِلَّهِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَطْلُبُ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَيَرُدُّهُ الْعِلْمُ إلَى اللَّهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ انْتَهَى. هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا إنْسَانٌ غُرَّ فَسَلِمَ، وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَغُرَّ بِنَفْسِهِ، وَيَرْجُوَ أَنْ يَسْلَمَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ تَدْعُو الضَّرُورَةُ، وَهُوَ الْغَالِبُ إلَى طَلَبِ الْمَعْلُومِ، وَإِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَدَارِسَ جَمَّةٍ لِأَجْلِ قِيَامِ الْبِنْيَةِ، وَضَرُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِنْهُ، وَقَعَ الْخَلَلُ، وَرَجَعَتْ أَعْمَالُ الْآخِرَةِ لِمُجَرَّدِ الدُّنْيَا، وَهُوَ عَطَبٌ عَظِيمٌ إذْ أَنَّ الدُّنْيَا لَا تُطْلَبُ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو طَالِبُ الْعِلْمِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا فِي دِينِهِ وَاثِقًا بِرَبِّهِ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَاشْتِغَالُهُ بِالْعِلْمِ، وَإِقْبَالُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَنْ يَدُورَ عَلَى الْمَدَارِسِ، أَوْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِهِ خُصُوصًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] فَجَعَلَ الْمَشْيَ سَبَبًا لِلرِّزْقِ، فَالْجَوَابُ أَنَّك إذَا نَظَرْت إلَى تَمَامِ الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] بَانَ لَك أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِيهِ التَّنْبِيهُ لِلْمُتَسَبِّبِينَ عَلَى التَّحَفُّظِ فِي مَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا، إذْ أَنَّ يَوْمَ النُّشُورِ فِيهِ الْحِسَابُ فَفِي ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْوَرَعِ فِي السَّبَبِ خِيفَةً مِنْ الْحِسَابِ وَالْمُنَاقَشَةِ يَوْمَ النُّشُورِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ» انْتَهَى. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا» انْتَهَى. فَأَرْشَدَنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ هَذَا إلَى تَرْكِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَعْمَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ ثِقَةً بِاَللَّهِ تَعَالَى

وَبِكِفَايَتِهِ، فَإِنَّهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الْكَرِيمُ، فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّغَفُ بِالْأَسْبَابِ فَقَالَ: طَيَرَانُ الطَّائِرِ سَبَبٌ فِي رِزْقِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ طَيَرَانَ الطَّائِرِ فِي الْهَوَاءِ لَا يُمَاثِلُ التَّسَبُّبَ فِي الرِّزْقِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ لَيْسَ فِيهِ حَبٌّ يُلْتَقَطُ، وَلَا جِهَةٌ تُقْصَدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَا عَقْلَ لَهُ يُدْرِكُ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَيَرَانَهُ فِي الْهَوَاءِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ الرِّزْقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ حَرَكَةِ يَدِ الْمُرْتَعِشِ لَا حُكْمَ لَهَا، فَيَتَرَدَّدُ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى يُؤْتَى بِرِزْقِهِ إلَيْهِ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ إلَى رِزْقِهِ، وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ حَمْلُ طَيَرَانِ الطَّائِرِ عَلَيْهِ أَعْنِي فِي أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الرِّزْقِ، وَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّاهُ مُتَوَكِّلًا مَعَ طَيَرَانِهِ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ بِهِ، وَالْعَاقِلُ الْمُكَلَّفُ أَوْلَى بِالتَّوَكُّلِ مِنْهُ سِيَّمَا مَنْ دَخَلَ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ الْعَاجِزُ عَنْ التَّوَكُّلِ لِعَدَمِ قُوَّةِ الْيَقِينِ عِنْدَهُ فَالْأَسْبَابُ عَلَيْهِ مُتَّسِعَةٌ فَيَتَسَبَّبُ فِي شَيْءٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ، بَلْ أَوْجَبُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ أَوْسَاخَ النَّاسِ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ، وَيَكْفِيهِ مَعَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنْ الْعِلْمِ، وَقَدْ يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ فَيَصِيرُ كَثِيرًا. وَعَلَى هَذَا كَانَ حَالُ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فِي كَوْنِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعْلُومٌ عَلَى سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْأَرْزَاقُ عَلَى أَعْمَالِ الْآخِرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنْهُ دَخَلَ الْفَسَادُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ تَعَاطَى أَسْبَابَ الْآخِرَةِ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْدَادُ بِعِلْمِهِ بُغْضًا لِلدُّنْيَا، وَتَرْكًا لَهَا، فَالْيَوْمَ يَزْدَادُ الرَّجُلُ بِعِلْمِهِ لِلدُّنْيَا حُبًّا، وَلَهَا طَلَبًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ عَلَى الْعِلْمِ، وَالْيَوْمَ يَكْتَسِبُ الرَّجُلُ بِعِلْمِهِ مَالًا، وَكَانَ يُرَى عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ زِيَادَةُ إصْلَاحٍ فِي بَاطِنِهِ، وَظَاهِرِهِ، فَالْيَوْمَ تَرَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَسَادَ الْبَاطِنِ، وَالظَّاهِرِ انْتَهَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ

إنَّهُ لَا يُمْكِنُ طَالِبَ الْعِلْمِ التَّسَبُّبُ فِي الصَّنَائِعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ سَمْتِهِ، وَوَقَارِهِ، وَزِيِّهِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فَرْقٌ فِي الزِّيِّ، وَلَا الْمَلْبَسِ لِفَقِيهٍ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى أَئِمَّةِ الْهُدَى أَنْ يَكُونُوا فِي مِثْلِ أَدْنَى أَحْوَالِ النَّاسِ لِيَقْتَدِيَ بِهِمْ الْغَنِيُّ، وَلَا يَزْرِي بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ، وَعُوتِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي لِبَاسِهِ، وَكَانَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ مِنْ الْكَرَابِيسِ قِيمَةُ قَمِيصِهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ إلَى خَمْسَةٍ، وَيَقْطَعُ مَا فَضَلَ عَنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَقَالَ: هَذَا أَدْنَى إلَى التَّوَاضُعِ، وَأَجْدَرُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّنَعُّمِ، وَقَالَ: «أَلَا إنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ» ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ شِرَارِ أُمَّتِي الَّذِينَ غُذُّوا بِالنَّعِيمِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ، وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ» انْتَهَى. أَلَا تَرَى إلَى قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ثَوْبِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إحْدَى عَشْرَةَ رُقْعَةً إحْدَاهَا مِنْ أَدِيمٍ، هَذَا وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ لَائِقٍ بِهِمْ، وَهَذَا زَمَانٌ لَا يَلِيقُ بِهِ مَا ذَكَرْتُمْ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزَّمَانَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ سَوَاءٌ إذْ أَنَّ الْكُلَّ عَمَّهُمْ الْخِطَابُ، وَتَنَاوَلَتْهُمْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ شَرْعًا، أَوْ بِجُلِّهَا، وَقَدْ مَضَتْ حِكَايَةُ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَوَاضُعِهِ فِي تَصَرُّفِهِ، وَكَذَلِكَ حِكَايَةُ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ الْمَعْرُوفِ بِالزَّيَّاتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَمَا جَرَى لَهُ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ الصُّلَحَاءِ فِي وَقْتِهِ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إذَا جَلَسَ إلَى الدَّرْسِ يَجْتَمِعُ لَهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ، أَوْ سِتِّمِائَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَحْضُرُونَ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ مَجْلِسِهِ قَامَ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَأَخْرَجَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى

رَأْسِهِ، أَوْ فِي يَدِهِ مِنْ قَمْحٍ يَطْحَنُهُ، أَوْ عَجِينٍ يَخْبِزُهُ، أَوْ شِرَاءِ خُضْرَةٍ، أَوْ حَاجَةٍ مِنْ السُّوقِ، أَوْ حَصَادٍ لِزَرْعِهِ بِيَدِهِ، أَوْ غَسْلِ ثِيَابٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحَوَائِجِ، وَلَهُ مِنْ الْهَيْبَةِ بِحَيْثُ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنْ الطَّلَبَةِ، أَوْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ فَالْخَيْرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَاقٍ لِمَنْ أَرَادَهُ، وَتَحْصِيلُهُ مُمْكِنٌ، وَإِنَّمَا بَقِيَ التَّوْفِيقُ فَمَنْ وُفِّقَ، وَتَرَكَ الْعَوَائِدَ الرَّدِيئَةَ، وَالطَّبَائِعَ النَّفْسَانِيَّةَ، فَقَدْ أَرْشَدَ، وَجَاءَهُ الْعَوْنُ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى طَائِفَةٌ بِالْمَغْرِبِ انْتَهَى. مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُمَّتِي كَالْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَيُّهُ أَنْفَعُ أَوَّلُهُ، أَوْ آخِرُهُ» ، أَوْ كَمَا قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا يَقْطَعُ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْإِيَاسَ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَاقٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَرَمِهِ، وَقَدْ رَأَيْت وَبَاشَرْت بَعْضَ طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِالْمَغْرِبِ يَأْخُذُونَ الْمِسْحَاةَ، وَيَأْتُونَ إلَى مَوَاقِفِ الْبَنَّائِينَ، فَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ سَبَبٌ مَشَوْا فِيهِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، وَإِلَّا رَجَعُوا إلَى الدَّرْسِ، وَالِاشْتِغَالِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَطُولُ ذِكْرُهُ فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنْ يَدْخُلَ الْمُتَعَلِّمُ إلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ بِجِدٍّ، وَاجْتِهَادٍ، وَحُسْنِ نِيَّةٍ، وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْعَوَارِضِ، وَالْأَسْبَابِ، وَالْعَوَائِدِ الَّتِي اُنْتُحِلَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ يُقْدِمُ عَلَيْهَا، أَوْ يَتْرُكُهَا ثِقَةً بِهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا سَبَقَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ التَّوَاضُعَ لِمَنْ يُعَلِّمُهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا فِي الْعَالِمِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى فِي الْمُتَعَلِّمِ الْمُحْتَاجِ إلَى التَّعْلِيمِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ تَوَاضُعُهُ أَكْثَرَ حَتَّى لَوْ صَارَ أَرْضًا تُوطَأُ كَانَ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ يَطْلُبُهُ؛ وَلِأَنَّ التَّوَاضُعَ يُقْبَلُ بِالْقُلُوبِ عَلَيْهِ، وَيُنَشِّطُ مَنْ يُعَلِّمُهُ لِتَعْلِيمِهِ، وَإِرْشَادِهِ، وَالتَّوَاضُعُ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ، وَبَرَكَةُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا اتَّصَفَ الْمُتَعَلِّمُ بِمَا ذُكِرَ انْتَفَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي الْوَقْتِ مِنْ نَظَرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْمَعْلُومِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: كَيْفَ يَأْخُذُ فُلَانٌ كَذَا، وَكَذَا، وَأَنَا أَكْثَرُ مِنْهُ بَحْثًا، وَقَدْ حَفِظْت الْكِتَابَ

الْفُلَانِيَّ، وَالْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ، وَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ شَنَآنٌ، وَاتِّصَافٌ بِالْحَسَدِ، وَمَا شَاكَلَهُ. وَخَرَجَ ذَلِكَ إلَى بَابِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَوَقَعُوا بِسَبَبِهِ فِي الْوَعِيدِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ» إلَخْ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ لَا يَتَّصِفُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ إلَّا أَنْ يَبْنِيَ أَمْرَهُ عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ إذْ أَنَّ الْبِنَاءَ إذَا طَلَعَ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَسَاسٍ صَحِيحٍ جَيِّدٍ يُعْمَلُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُبْنَى عَلَيْهِ. وَالْأَسَاسُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُبْتَدِي فِي هَذَا الْفَنِّ اتِّبَاعُ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ، وَكَانَتْ أَحْوَالُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْهَرَبَ مِنْ الدُّنْيَا، وَأَسْبَابِهَا، فَإِنْ فُتِحَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا قَالُوا: ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ، وَإِنْ أَصَابَهُمْ ضِيقٌ سُرُّوا بِذَلِكَ، وَفَرِحُوا بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ غَنِيمَتَهُمْ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ، وَيُرْجَعُ إلَى أَقْوَالِهِمْ، وَأَحْوَالِهِمْ، وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا مَعْنَاهُ يَا مُوسَى إذَا رَأَيْت الدُّنْيَا أَقْبَلَتْ فَقُلْ: ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ، وَإِذَا رَأَيْتهَا أَدْبَرَتْ فَقُلْ: أَهْلًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ، وَقَدْ دَعَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَطَلَبَ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُغْنِيَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَا مُوسَى أَمَا تُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَ بِغَدَائِك رَقَبَةً مِنْ النَّارِ، وَبِعَشَائِك رَقَبَةً مِنْ النَّارِ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ قَالَ: هُوَ كَذَلِكَ، أَوْ كَمَا قَالَ فَكَانَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَتَغَدَّى عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَيَتَعَشَّى عِنْدَ آخَرَ، وَكَانَ ذَلِكَ رِفْعَةً فِي حَقِّهِ لِتَعَدِّي النَّفْعِ إلَى عِتْقِ مَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعِتْقِ رَقَبَتِهِ مِنْ النَّارِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ كَانَ فِي السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَكَابِرُ لَهُمْ أَمْوَالٌ، وَأَسْبَابٌ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اتِّخَاذَهُمْ الْأَمْوَالَ، وَالْعَمَلَ عَلَى الْأَسْبَابِ لَا يُمْنَعُ إذَا دَخَلَ فِيهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي عَدَمِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا، إذْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا سَوَاءٌ أَقْبَلَتْ، أَوْ أَدْبَرَتْ، فَإِنْ أَقْبَلَتْ قَابَلُوهَا بِالْإِيثَارِ، وَالْبَذْلِ لِلَّهِ، وَإِنْ أَدْبَرَتْ قَابَلُوهَا بِالصَّبْرِ، وَالرِّضَا، وَالتَّسْلِيمِ لِمَنْ الْأَمْرُ بِيَدِهِ، وَهِمَّتُهُمْ، وَبُغْيَتُهُمْ إنَّمَا

كَانَ تَحْصِيلَ زَادِهِمْ لِمَعَادِهِمْ فِي الْفَقْرِ، وَالْغِنَى، وَالْحَرَكَةِ، وَالسُّكُونِ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هَذِهِ الْحَالَةُ اُخْتُصَّ بِهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ عَجَزَ غَيْرُهُمْ عَنْهَا انْتَهَى. يَعْنِي فِي الْغَالِبِ فَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مَنْ اشْتَغَلَ بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ إلَّا أَضَرَّ بِالْآخَرِ، يَعْنِي مَنْ اشْتَغَلَ بِالدُّنْيَا أَضَرَّ بِالْآخِرَةِ، وَمَنْ اشْتَغَلَ بِالْآخِرَةِ أَضَرَّ بِالدُّنْيَا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَجَمْعُك بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ عَجِيبٌ فَإِذَا اتَّصَفَ الطَّالِبُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ التَّفَاوُتُ لِمَنْ زِيدَ لَهُمْ فِي الْمَعْلُومِ، أَوْ نُقِصَ، وَكَذَلِكَ يَتَسَاوَى عِنْدَهُ مَوَاضِعُ الْجُلُوسِ فِي الِارْتِفَاعِ، وَالِانْخِفَاضِ، كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ سَوَاءٌ فَحَيْثُ أَجْلَسَهُ اللَّهُ جَلَسَ، وَمَا سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ رَضِيَهُ، وَشَكَرَهُ، وَمَا مَنَعَهُ مِنْهُ حَمِدَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَآهُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَطَاءً، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا مِنْ حَالِهِ انْتَفَتْ عَنْهُ الشَّوَائِبُ الْمَذْمُومَةُ، وَبَقِيَ الْعِلْمُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا صَارَ الْعِلْمُ كَذَلِكَ، وَصَحِبَهُ الْعَمَلُ بِهِ جَاءَ مِيرَاثُهُ الْعَاجِلُ، وَهُوَ الْخَشْيَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، وَإِذَا حَصَلَتْ الْخَشْيَةُ قَوِيَ الرَّجَاءُ فِي الْقَوْلِ، وَأَنَّهُ مَاشٍ عَلَى مِنْهَاجِ السَّلَامَةِ، وَالْغَنِيمَةِ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ، وَعَكْسُ هَذَا الْحَالِ فِي النَّقِيضِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فَلْيَنْسِجْ عَلَى مِنْوَالِ مَنْ مَضَى، فَالْخَيْرُ بِحَذَافِيرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَبِأَحْوَالِهِمْ فِي الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ بِمُحَمَّدٍ، وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِمْ، وَسَلَّمَ. وَأَصْلُ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِي تَعْلِيمِهِ، وَهُوَ آكَدُ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] فَإِذَا اتَّصَفَ الْمُتَعَلِّمُ بِالتَّقْوَى كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُعَلِّمَهُ، وَهَادِيَهُ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُعَلِّمَهُ، وَهَادِيَهُ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، وَهَذَا لَفْظٌ عَامٌّ فَقَدْ يَحْصُلُ لِلْمُتَعَلِّمِ نَفَائِسُ مِنْ الْمَسَائِلِ لَا تُؤْخَذُ بِالدَّرْسِ، وَلَا بِالشُّيُوخِ لِأَجْلِ مَا حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ

وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ، وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ فِي التَّقْوَى اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ» ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَا تَقْرَبُوا» فَإِذَا اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعَمَلِ وَمِنْ آكَدِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ تَخْلِيصُ ذِمَّتِهِ مِنْ إخْوَانِهِ، وَجُلَسَائِهِ، وَمَعَارِفِهِ، وَغَيْرِهِمْ إذْ تَخْلِيصُ الذِّمَّةِ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ فَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْخَطِرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ عَمَّتْ بِهِمَا الْبَلْوَى لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِمَا عَلَى الْأَلْسُنِ، وَهُمَا الْغِيبَةُ، وَالنَّمِيمَةُ فَالنَّمِيمَةُ: أَنْ تَنْقُلَ حَدِيثَ قَوْمٍ إلَى آخَرِينَ، وَالْغِيبَةُ: أَنْ تَقُولَ فِي غَيْبَةِ الشَّخْصِ مَا يَكْرَهُهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا، وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ بَاطِلًا فَهُوَ الْبُهْتَانُ بِعَيْنِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، وَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ إلَى أَنْ قَالَ: أَلَا هَلْ بَلَّغْت أَلَا هَلْ بَلَّغْت مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا» فَأَكَّدَ الْأَمْرَ فِي الثَّلَاثِ كَمَا تَرَى، وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ مُنْقَسِمُونَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ لَا خَامِسَ لَهَا: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: السَّالِمُ مِنْ الْجَمِيعِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11] {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] . الْقِسْمُ الثَّانِي: عَكْسُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَنْ كَانَتْ لَهُ الْقُدْرَةُ، وَالْجِدَّةُ، وَوَاقَعَ الْجَمِيعَ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ عَجَزَ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَكَانَتْ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَالْوَقِيعَةِ فِي الْأَعْرَاضِ، وَوَاقَعَهُمَا مَعًا، فَقَدْ لَحِقَهُ الْإِثْمُ فِي فِعْلِهِ، وَالْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ بِنِيَّتِهِ إذْ لَوْلَا عَجْزُهُ عَنْهُ لَفَعَلَهُ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَنْ عَجَزَ عَنْ الدِّمَاءِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَوَقَعَ فِي الْأَعْرَاضِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا فَيَكُونُ آثِمًا فِي الثَّالِثِ لِفِعْلِهِ لَهُ مُلْحَقًا بِأَصْحَابِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ بِنِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ، وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا

فصل في أوراد طالب العلم

عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ عِنْوَانُ الصِّدْقِ فِيمَنْ ادَّعَى الْوَرَعَ عَنْ الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ اسْتِعْفَافَهُ عَنْ الْأَعْرَاضِ، فَإِنْ اسْتَعَفَّ عَنْهَا كَانَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ فِي تَرْكِ الْفِعْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَإِنْ تَعَاطَى الثَّالِثَ، أَوْ بَعْضَهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ فِي الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي فَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُلْحَقَ بِهِمَا أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ غِيبَةَ كُلِّ إنْسَانٍ بِحَسْبِ حَالِهِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - غِيبَةُ الصَّالِحِينَ فِي ثَلَاثٍ مِنْهَا أَنْ يُذْكَرَ شَخْصٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ يَقَعُونَ بِسَبَبِ غَيْرَتِهِمْ فِي الدِّينِ يَقُولُونَ: فُلَانٌ فَعَلَ كَذَا، وَكَذَا عَلَى سَبِيلِ الْغَيْرَةِ مِنْهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ شَفَقَتُهُمْ، وَرَحْمَتُهُمْ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَيَقُولُونَ: مِسْكِينٌ فُلَانٌ، وَاقَعَ كَذَا، وَكَذَا مِمَّا يَكْرَهُ ذِكْرَهُ الْمَقُولُ فِيهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، وَعُلِمَ فَيَحْتَاجُ الْعَالِمُ، وَالْمُتَعَلِّمُ أَنْ يَكُونَا مُتَيَقِّظَيْنِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَمَا شَاكَلَهَا، وَيَتَحَفَّظَانِ مِنْهَا إذْ أَنَّ بِتَحَفُّظِهِمَا يَتَحَفَّظُ كُلُّ مَنْ رَآهُمَا أَوْ عَلِمَ حَالَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قُدْوَةٌ لِلْمُهْتَدِينَ [فَصْلٌ فِي أَوْرَادِ طَالِبِ الْعِلْمِ] ِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا إذْ أَنَّهَا سَبَبُ الْإِعَانَةِ عَلَى مَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ، وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ» انْتَهَى. ) ، وَمَا يُسْتَعَانُ بِهِ لَا يُتْرَكُ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِيَّاكَ لِحِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ، وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ» فَعَمَّ الطَّرَفَيْنِ، وَجَعَلَ مِنْ الثَّالِثِ جُزْءًا، وَالْغُدْوَةُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الزَّوَالِ، وَالرَّوْحَةُ مَا كَانَ مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ، وَالْمُكَلَّفُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَشْتَغِلَ فِي غُدْوَتِهِ، أَوْ فِي رَوْحَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ فَهِيَ الِاسْتِعَانَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِقِصَّةِ «مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا أَنْ بَعَثَهُمَا النَّبِيُّ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْيَمَنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ الدِّينَ فَافْتَرَقَا لِذَلِكَ، ثُمَّ اجْتَمَعَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ: أَقْرَأُهُ قَائِمًا، وَقَاعِدًا، وَمُضْطَجِعًا، وَأَفُوقُهُ تَفْوِيقًا، وَلَا أَنَامُ، وَقَالَ مُعَاذٌ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ، وَأَنَامُ، وَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي فَلَمْ، يُسَلِّمْ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ حَتَّى أَتَيَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ أَفْقَهُ مِنْك يَعْنِي مُعَاذًا الَّذِي كَانَ يَحْتَسِبُ نَوْمَهُ كَقِيَامِهِ» لَكِنَّ هَذَا بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَاشِيًا عَلَى مِنْهَاجِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ، وَلِأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ، وَحُسْنِ نِيَّاتِهِمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا مِنْ حَسَنَةٍ إلَّا، وَلَهَا أُخَيَّاتٌ، وَإِنْ كَانَ فِي سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا فَذَلِكَ عَوْنٌ لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَأَنْ أَمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رِجْلِي أَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ عَلَى فِرَاشِي، وَقَدْ كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ انْقَطَعَ لِلْعِبَادَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى يَصْفُوَ بِهَا قَلْبُهُ، وَيَنْشَرِحَ صَدْرُهُ، فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِي تَعَلُّمِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِطُولِ أَعْمَارِهِمْ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَدْرَكْت النَّاسَ، وَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ إلَى أَنْ يَصِلَ أَحَدُهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَيَنْقَطِعَ لِلْعِبَادَةِ، وَيَطْوِيَ الْفِرَاشَ انْتَهَى. وَمَعْنَى طَيِّ الْفِرَاشِ مِثْلُ مَا كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَفْعَلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ «، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطْوِي فِرَاشَهُ، وَيَشُدُّ مِئْزَرَهُ، وَيُوقِظُ أَهْلَهُ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ» ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ فِي أَوَّلِ طَلَبِهِ الْعِلْمَ أَنْ يَمْزُجَهُ بِالتَّعَبُّدِ، إذْ أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ عُمُرٌ طَوِيلٌ فِي الْغَالِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى يَتْرُكَ لَهُ بُرْهَةً مِنْهُ فَيُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ، وَهُوَ فِي السَّبَبِ قَبْلَ وُصُولِهِ لِلْمَقْصُودِ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَعَلَّمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَتَعَلَّمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَعْمَلُوا؛ وَلِأَنَّ الْعِلْمَ كَالشَّجَرَةِ، وَالتَّعَبُّدَ كَالثَّمَرَةِ، فَإِذَا كَانَتْ الشَّجَرَةُ لَا ثَمَرَ لَهَا فَلَيْسَ لَهَا فَائِدَةٌ كُلِّيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةَ الْمَنْظَرِ نَاعِمَةً، وَقَدْ يُنْتَفَعُ بِهَا لِلظِّلِّ

وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ قَدْ عُدِمَ مِنْهَا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَكَلَّمُوا بِالْحَقِّ تُعْرَفُوا بِهِ، وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ انْتَهَى. وَلْيُحْذَرْ أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنْ الْعَمَلِ مَا عَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةٌ، أَوْ يُخِلَّ بِاشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ، إذْ أَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالْعِلْمِ أَفْضَلُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا بَابٌ كَثِيرًا مَا يَدْخُلُ مِنْهُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ إذَا عَجَزَ عَنْ تَرْكِهِمْ لَهُ فَيَأْمُرُهُمْ بِكَثْرَةِ الْأَوْرَادِ حَتَّى يَنْقُصَ اشْتِغَالُهُمْ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْعُدَّةُ الَّتِي يَتَلَقَّى بِهَا، وَيُحَذِّرُ مِنْهُ بِهَا فَإِذَا عَجَزَ عَنْ التَّرْكِ رَجَعَ إلَى بَابِ النَّقْصِ، وَهُوَ بَابٌ قَدْ يَغْمُضُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ بَابُ خَيْرٍ، وَعَادَةُ الشَّيْطَانِ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ عَلَى الطَّالِبِ فَيُخِلُّ بِحَالِهِ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِي عِلْمِهِ مِثْلَ الْمِلْحِ فِي الْعَجِينِ إنْ عُدِمَ مِنْهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ، وَالْقَلِيلُ مِنْهُ يُصْلِحُهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشُدَّ يَدَهُ عَلَى مُدَاوَمَتِهِ عَلَى فِعْلِ السُّنَنِ، وَالرَّوَاتِبِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ قَبْلَهُ، أَوْ بَعْدَهُ، فَإِظْهَارُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ كَمَا كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَفْعَلُ مَا عَدَا مَوْضِعَيْنِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لَا يَفْعَلُهُمَا إلَّا فِي بَيْتِهِ، وَهُمَا الرُّكُوعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَالرُّكُوعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ. أَمَّا الْجُمُعَةُ فَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لَمَّا أَنْ قَامَ بَعْضُ النَّاسِ يَرْكَعُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَأَقْعَدَهُ عُمَرُ، وَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ تُشْبِهُ الْجُمُعَةُ بِمَنْ فَاتَتْهُ رَكْعَتَانِ مِنْ الظُّهْرِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إلَيْهِ فَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِ» ، وَلِأَنَّهَا لَوْ صُلِّيَتْ فِي الْمَسْجِدِ لَكَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ لِأَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ صِحَّةَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إلَّا خَلْفَ إمَامٍ مَعْصُومٍ، وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَمِنْ بَابِ اللُّطْفِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا صِيَامًا، وَأَنَّ مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ مِنْ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ يَنْتَظِرُونَ صَاحِبَ الْبَيْتِ حَتَّى يَأْتِيَ فَيَأْكُلُونَ مَعَهُ، فَلَوْ رَكَعَ فِي الْمَسْجِدِ لَتَشَوَّفُوا إلَى مَجِيئِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَانَ إذَا سَمِعَ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ بُكَاءَ الصَّبِيِّ يُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَتَنَ أُمُّهُ» سِيَّمَا فِي حَقِّ

الْعَالِمِ، وَالْمُتَعَلِّمِ؛ لِأَنَّهُمَا قُدْوَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْفَرَائِضِ، وَكَذَلِكَ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ إنْ كَانَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ السُّنَنَ، وَعَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ رُكُوعِ الضُّحَى لِقَوْلِ عَائِشَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَوْ نُشِرْ لِي أَبَوَايَ مَا تَرَكْتهَا، وَمَعْنَاهُ لَوْ أُحْيِيَا لِي، وَقَامَا مِنْ قَبْرَيْهِمَا مَا اشْتَغَلْت بِهِمَا عَنْهَا ، وَكَذَلِكَ يُحَافِظُ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَلَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْهُ، وَهُوَ خَمْسُ تَسْلِيمَاتٍ غَيْرَ الْوِتْرِ، وَيَقْرَأُ فِيهَا بِمَا خَفَّ مِنْ الْقُرْآنِ يَكُونُ لَهُ فِي تِلْكَ الرَّكَعَاتِ حِزْبٌ مَعْلُومٌ مِنْ حِزْبَيْنِ إلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنْ كَانَ الْحِزْبُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَفُوتَ لِقِلَّةِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ فَهَذَا الْمِقْدَارُ مِنْ التِّلَاوَةِ يَكْفِيهِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ، وَلَا يَنْسَى الْخَتْمَةَ فِي الْغَالِبِ إذَا دَامَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَاجِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي بُيُوتِهِمْ طُولَ السَّنَةِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ الَّذِي يَقُومُونَ بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ، لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ لَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ كُلَّهُ جُعِلَ لَهُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ يَجْمَعُونَ فِيهِ فِي الْمَسَاجِدِ لِيَسْمَعَ مَنْ لَمْ يَجْمَعْ الْخَتْمَةَ كَلَامَ رَبِّهِ، فَإِنْ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ، وَوَجَدَ مَعَهُ الْكَسَلَ، وَثِقَلَ النَّوْمِ، فَإِذَا كَانَ الْحِزْبُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ سَهُلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَأَتَى بِهِ، وَرَجَعَ إلَى النَّوْمِ إنْ لَمْ يَطْلُعْ عَلَيْهِ الْفَجْرُ، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ مَنْ مَضَى أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ فَاتَهُ وِرْدُهُ مِنْ اللَّيْلِ: إنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَقَدْ كَانُوا يُغْلِسُونَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ كَمَا هُوَ فِي الْحَدِيثِ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ، وَذَلِكَ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى خِفَّةِ الْوَرْدِ، وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إنَّمَا هُوَ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْجِدِّ، وَالِاجْتِهَادِ، وَأَمَّا مَعَ النَّشَاطِ، وَقُوَّةِ الْعَزْمِ فَيَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ مَا اسْتَطَاعَ، وَمَا وَجَدَ إلَيْهِ السَّبِيلَ فَإِنْ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ فِي التِّلَاوَةِ فَلْيَمْضِ فِيهَا، وَلَا يَقْتَصِرْ عَلَى حِزْبِهِ الْمُعْتَادِ، وَلَوْ خَتَمَ الْخَتْمَةَ، وَابْتَدَأَهَا ثَانِيًا، وَثَالِثًا، وَهَكَذَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ مَثَلًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِحِزْبٍ فَالْمَشْرُوعُ فِي الثَّانِيَةِ أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا بِمِثْلِ الْأُولَى، أَوْ أَقَلَّ،

فَلَوْ وَجَدَ الْحَلَاوَةَ فِي الثَّانِيَةِ فَلْيَمْضِ لِسَبِيلِهِ مَا دَامَ يَجِدُ ذَلِكَ، وَلَوْ طَالَ الْأَمْرُ، فَإِنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ فَلْيَرْجِعْ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ إلَى الِاشْتِغَالِ بِفَرْضِ الْوَقْتِ لَكِنْ يُكْمِلُ خَمْسَ تَسْلِيمَاتٍ مُخَفَّفَةٍ كَمَا لَوْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ فَإِنَّهُ يُوقِعُهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ إذَا وَجَدَ الْحَلَاوَةَ فِي شَيْءٍ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ. مِثْلَ أَنْ يَجِدَ الْحَلَاوَةَ فِي الدُّعَاءِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يَقْطَعُهُ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْرَادِ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ الْحَلَاوَةَ فِي الرُّكُوعِ فَلَا يَرْفَعُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَهَا فِي السُّجُودِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى فَوَاتِ الْفَرَائِضِ فِي الْجَمَاعَةِ فَلْيَقْطَعْ ذَلِكَ لِأَجْلِهَا. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُغْلِسُونَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَيْرُ جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ بِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُقَرِّبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ لَعَلَّ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْحَلَاوَةِ فِي الْمُنَاجَاةِ فِي وِرْدِهِ، أَوْ الدُّعَاءِ، أَوْ غَيْرِهِمَا، إلَّا أَنْ يَعْرِضَ الْفَرْضُ فَيَفْعَلَ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ مَرَّ فِي وِرْدِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] فَبَقِيَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُكَرِّرُهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ» ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَنَفَعَنَا بِهِ أَنَّهُ خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ صَلَّى الْعِشَاءَ فَخَرَجَ خَلْفَهُ بَعْضُ إخْوَانِهِ، وَهُوَ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ رَفَعَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ بِيَدِهِ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ شَاخِصًا إلَى السَّمَاءِ، فَوَقَفَ الرَّجُلُ خَلْفَهُ يَنْتَظِرُهُ إلَى أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ رَجَعَ أَبُو يَزِيدَ إلَى الْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ خَلْفَهُ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَبُو يَزِيدَ، وَإِلَى تَرْكِهِ مَا كَانَ فِيهِ، وَإِتْيَانِهِ إلَى الْفَرْضِ فِي جَمَاعَةٍ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ كَانَ الْقُرْآنُ يَنْفَلِتُ مِنْهُ لِقِلَّةِ حِفْظِهِ: فَلْيَقُمْ بِهِ فِي اللَّيْلِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُثَبِّتُهُ لَهُ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِبَرَكَةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ

فِي قِيَامِ اللَّيْلِ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي الثُّلُثِ الْآخِرِ مِنْهُ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْبَرَكَاتِ، وَالْخَيْرَاتِ. أَلَا تَرَى إلَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي الثُّلُثِ الْآخِرِ مِنْ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟» إلَخْ، وَمَعْنَى النُّزُولِ هَاهُنَا نُزُولُ طَوْلٍ وَمَنٍّ، وَتَفَضُّلٍ، وَكَرَمٍ عَلَى عِبَادِهِ، لَا نُزُولُ انْتِقَالٍ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَفِي قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ الْفَوَائِدِ جُمْلَةٌ، فَلَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَفُوتَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَمِنْهَا: أَنْ يَحُطَّ الذُّنُوبَ كَمَا يَحُطُّ الرِّيحُ الْعَاصِفُ الْوَرَقَ الْيَابِسَ مِنْ الشَّجَرَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُنَوِّرُ الْقَلْبَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحَسِّنُ الْوَجْهَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُذْهِبُ الْكَسَلَ، وَيُنَشِّطُ الْبَدَنَ. الْخَامِسُ: أَنَّ مَوْضِعَهُ تَرَاهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ السَّمَاءِ كَمَا يَتَرَاءَى الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ لَنَا فِي السَّمَاءِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ بِلَالٍ، وَأَبِي أُمَامَةَ قَالَا: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ» ، وَلَعَلَّك تَقُولُ: إنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ إنْ فَعَلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ تَعَطَّلَتْ عَلَيْهِ وَظَائِفُهُ مِنْ الدَّرْسِ، وَالْمُطَالَعَةِ، وَالْبَحْثِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ نَفْحَةً مِنْ هَذِهِ النَّفَحَاتِ تَعُودُ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ بِالْبَرَكَاتِ، وَالْأَنْوَارِ، وَالتُّحَفِ مَا قَدْ يَعْجِزُ الْوَاصِفُ عَنْ وَصْفِهِ، وَبِبَرَكَةِ ذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ أَضْعَافُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ، مَعَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ عَزِيزٌ قَلَّ أَنْ يَقَعَ إلَّا لِلْمُعْتَنِي بِهِ، وَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ إنَّمَا هُمَا وَسِيلَتَانِ لِمِثْلِ هَذِهِ النَّفَحَاتِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ اللَّهِ» انْتَهَى. وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيمَا حَكَاهُ الْبَاجِيُّ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ عَادَةَ السَّلَفِ مَضَتْ عَلَى فِعْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ طُولَ السَّنَةِ فِي الْبُيُوتِ يُؤْخَذُ مِنْهُ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ

لَا يُفْعَلُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ إلَّا فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَحْدَهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَفِعْلُ الْقِيَامِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فِي غَيْرِ الْبُيُوتِ بِدْعَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا تَأْتِي إلَّا بِشَرٍّ، وَالْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَقَدْ نَصَّ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ يُمْنَعُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ إنْ فُعِلَ فِي غَيْرِ الْبُيُوتِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنَّ قِيَامَ السُّنَّةِ فِي الْبُيُوتِ فِيمَا عَدَا رَمَضَانَ مُخَالِفٌ لِقِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي كَوْنِهِ يُفْعَلُ بَعْدَ النَّوْمِ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يُفْعَلُ قَبْلَهُ، وَيَكْفِي. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ قَبْلَ النَّوْمِ، وَبَعْدَهُ، وَالْغَالِبُ أَنَّ فِعْلَهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَكْثَرُ، وَلَا يَجْمَعُونَ لَهُ، وَلَا يُشْهِرُونَهُ بِخِلَافِ قِيَامِ رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ إلَّا قَبْلَ النَّوْمِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ يَعْنِي مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَقَامَ آخِرَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ قَامَ أَوَّلَهُ فَقَطْ، وَأَمَّا قِيَامُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَذَلِكَ أَفْضَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا فَرَغُوا مِنْ قِيَامِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَسْتَعْجِلُونَ الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ أَفْضَلُ مِمَّنْ قَامَ بَعْضَهُ؛ لِأَنَّهُ حَازَ فَضْلَ اللَّيْلِ كُلِّهِ فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَلَا شَكَّ فِي فَضِيلَتِهِ، أَوْ يَقُومَ أَوَّلَهُ، وَآخِرَهُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ، أَوْ يَقُومَ آخِرَهُ دُونَ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَفْضَلِيَّةِ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ، وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ أَوَّلَهُ دُونَ آخِرِهِ، وَهُوَ الْمَفْضُولُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى وِرْدِ الصَّوْمِ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَلَّلَ بِأَنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْهُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ، إذْ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ مَشَقَّةٍ فِي الْغَالِبِ سِيَّمَا عَلَى مَا كَانَ يَصُومُهَا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّهُ كَانَ يُفْطِرُ تِسْعَةَ أَيَّامٍ، وَيَصُومُ عَاشِرَهَا، وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَإِنْ وَجَدَ النَّشَاطَ، وَالْقُوَّةَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَادَرَ إلَيْهِ مَعَ عَدَمِ وُقُوعِ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ بِسَبِيلِهِ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ

فصل في زيارة الأولياء والصالحين

مَعَ طَلَبِ الْعِلْمِ فَيَنْبَغِي لِهَذَا أَنْ يَتْرُكَ طَلَبَ الْعِلْمِ فِي تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، وَيَصُومَهَا، لِئَلَّا تَفُوتَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْحَسَنَةُ بِعَشْرٍ» فَيَكُونُ ذَلِكَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ، ثُمَّ كَذَلِكَ يَكُونُ حَالُهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ اشْتِغَالَهُ بِالدَّرْسِ، وَالْمُطَالَعَةِ، وَالتَّفَهُّمِ، وَالْبَحْثِ مَعَ الْإِخْوَانِ الَّذِينَ يُرْتَجَى النَّفْعُ بِهِمْ، وَلِقَاءِ مَشَايِخِ الْعِلْمِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ سَبَبًا لِلْفَتْحِ، وَالْخَيْرِ، وَيُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ [فَصْلٌ فِي زِيَارَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ] َ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ زِيَارَةِ الْأَوْلِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ بِرُؤْيَتِهِمْ يُحْيِي اللَّهُ الْقُلُوبَ الْمَيِّتَةَ كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ، فَتَنْشَرِحُ بِهِمْ الصُّدُورُ الصُّلْبَةُ، وَتَهُونُ بِرُؤْيَتِهِمْ الْأُمُورُ الصَّعْبَةُ إذْ هُمْ وُقُوفٌ عَلَى بَابِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ فَلَا يُرَدُّ قَاصِدُهُمْ، وَلَا يَخِيبُ مُجَالِسُهُمْ، وَلَا مَعَارِفُهُمْ، وَلَا مُحِبُّهُمْ إذْ هُمْ بَابُ اللَّهِ الْمَفْتُوحُ لِعِبَادِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَتَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ إلَى رُؤْيَتِهِمْ، وَاغْتِنَامِ بَرَكَتِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ بِرُؤْيَةِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْفَهْمِ، وَالْحِفْظِ، وَغَيْرِهِمَا مَا قَدْ يَعْجِزُ الْوَاصِفُ عَنْ وَصْفِهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى تَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ اتَّصَفَ بِمَا ذُكِرَ لَهُ الْبَرَكَةُ الْعَظِيمَةُ فِي عِلْمِهِ، وَفِي حَالِهِ، فَلَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُحَافِظًا عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَزُورَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمِمَّنْ لَا خَطَرَ لَهُ فِي الدِّينِ إلَّا بِالتَّمْوِيهِ، وَبَعْضِ الْإِشَارَاتِ، وَالْعِبَارَاتِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ قَلَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ يَضْطَرُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْمُدَّعِينَ بَلْ قَدْ تَجِدُ بَعْضَ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ يَقْعُدُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ مَنْ يَدَّعِي الْفَقْرَ وَالْوِلَايَةَ، وَهُوَ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ، وَقَدْ تَذْهَبُ عَلَيْهِ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ، وَيَعْتَذِرُونَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُحَزِّبُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْفُقَرَاءِ الصُّلَحَاءِ رَحَلَ

إلَى زِيَارَةِ شَخْصٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ حَتَّى اجْتَمَعَ بِهِ، وَهُوَ عُرْيَانٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَسْتُرُهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَعْضُ قُضَاةِ الْبَلَدِ، وَرُؤَسَائِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ شَنِيعٌ فِي الدِّينِ، وَقِلَّةُ حَيَاءٍ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ، وَارْتِكَابِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ إذْ أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مُحَرَّمٌ، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَيْهَا، وَإِخْرَاجُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا فَيَرْتَكِبُونَ مُحَرَّمَاتٍ جَمَّةً، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ مَا، وَإِلَّا فَالْمَفَاسِدُ الَّتِي تَعْتَوِرَهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، أَوْ تَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ مَعْرُوفٍ فِي الْغَالِبِ فَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مَطْلُوبٍ، وَيَغَارُ عَلَيْهَا إنْ تَغَيَّرَتْ مَعَالِمُهَا بِأَنْ يُنْسَبَ إلَيْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا فَإِذَا تَعَارَضَ لِطَالِبِ الْعِلْمِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى السُّنَّةِ، وَزِيَارَةُ مَنْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ هَا، فَالتَّرْكُ لِزِيَارَتِهِ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَتَحْسِينُ الظَّنِّ بِهِ مُخَالِفٌ مَعَ عَدَمِ الِاجْتِمَاعِ بِهِ، وَأَمَّا مَعَ الِاجْتِمَاعِ فَقَدْ يَضِيقُ عَلَيْهِ التَّأْوِيلُ، وَيَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُخِلَّ بِجَانِبِ السُّنَّةِ، أَوْ بَعْضِهَا فَالْهَرَبَ الْهَرَبَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بِشَخْصٍ يَحْتَاجُ أَنْ يَعْتَذِرَ عَنْهُ، أَوْ يَتَأَوَّلَ لَهُ، وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَكَثُرَتْ الطُّرُقُ، وَاخْتَلَفَتْ الْأَحْوَالُ، وَتَشَعَّبَتْ السُّبُلُ. وَلَوْ قُلْت لِأَحَدِهِمْ مَثَلًا: السُّنَّةُ كَذَا، وَكَذَا قَابَلَك بِمَا لَا يَلِيقُ فَيَقُولُ: كَانَ شَيْخِي يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، وَمَا هَذَا طَرِيقُ شَيْخِي، وَكَانَ شَيْخِي يَقُولُ: كَذَا، وَكَذَا، وَيُصَادِمُ بِذَلِكَ كُلِّهِ السُّنَّةَ الْوَاضِحَةَ، وَالطَّرِيقَةَ النَّاجِحَةَ، يَا لَيْتَهُمْ لَوْ وَقَفُوا عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ لَوْ كَانَ سَائِغًا، بَلْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَخُوفِ، وَهُوَ مَا بَلَغَنِي مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ، وَنَقَلَ فِيهَا عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ نَقْلًا تَأْبَاهُ الشَّرِيعَةُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرُدُّ هَذَا فَأَجَابَهُ بِأَنْ قَالَ: حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يُرَادُ لِلتَّبَرُّكِ، وَالشُّيُوخُ هُمْ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَهَذَا إنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِمَا قَالَهُ كَانَ كَافِرًا حَلَالَ الدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ مُرْتَكِبٌ لِكَبِيرَةٍ عُظْمَى

يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا مَعَ الْأَدَبِ الْمُوجِعِ. وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا، وَهُوَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ اعْتِقَادِ بَعْضِ النِّسْوَةِ، وَزِيَارَتِهِنَّ، وَهُنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ بَلْ عَدَمِ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِهِنَّ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَيْهِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مِنْ يَتَسَمَّى بِالشَّيْخَةِ مِنْ الذِّكْرِ جَمَاعَةً بِأَصْوَاتِ النِّسْوَةِ، وَفِي أَصْوَاتِهِنَّ مِنْ الْعَوْرَاتِ مَا لَا يَنْحَصِرُ بِسَبَبِ تَرْخِيمِ أَصْوَاتِهِنَّ، وَنَدَاوَتِهَا سِيَّمَا، وَبَعْضُ الشَّيْخَاتِ عَلَى زَعْمِهِنَّ مِنْ شِعَارِهِنَّ إلْبَاسُ الصُّوفِ لِمَنْ تَابَتْ عَلَى يَدِهَا، وَدَخَلَتْ فِي طَرِيقَتِهَا. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ لِبَاسِ الصُّوفِ لِلرِّجَالِ فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي الشُّهْرَةِ، وَمِنْ غَلِيظِ الْقُطْنِ مَا هُوَ فِي مِثْلِ ثَمَنِهِ، وَأَبْعَدُ مِنْ الشُّهْرَةِ انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، بَلْ لِبَاسُ ذَلِكَ لَهُنَّ مُثْلَةٌ، وَشُهْرَةٌ، وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِنِسَاءِ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِنَّ أَعْنِي فِي لِبَاسِهِنَّ الصُّوفَ، وَالتَّخَلِّي عَنْ الْأَزْوَاجِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ ضِدُّ مُرَادِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَسَلَامُهُ حَيْثُ يَقُولُ: «جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ» انْتَهَى. وَمِنْ حُسْنِ التَّبَعُّلِ لُبْسُ الْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ، وَالتَّحَلِّي وَالتَّزَيُّنُ لِزَوْجِهَا، فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ تَحَصَّلَ مِنْهُ أَنَّ فَاعِلَ هَذَا مُصَادِمٌ لِلسُّنَّةِ مُخَالِفٌ لَهَا فَيَنْبَغِي زَجْرُهُ وَهَجْرُهُ، فَكَيْفَ يُعْتَقَدُ، وَأَنْتَ تَرَى كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُ رِيَاسَةٌ، وَمِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ رِيَاسَةٌ يَتَحَدَّثُونَ بِفَضَائِلَ مَنْ هَذَا حَالُهَا، وَيُثْنُونَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، وَيُطَرِّزُونَ بِذِكْرِهَا مَجَالِسَهُمْ، وَيَزُورُونَهَا فِي بَيْتِهَا، وَيَسْتَعْمِلُونَ خُطَاهُمْ إلَى زِيَارَتِهَا، أَوْ تَأْتِي هِيَ إلَيْهِمْ، وَيُعَظِّمُونَهَا، وَيُكَرِّمُونَهَا، وَمَنْ لَا يَلْبَسُ الصُّوفَ مِنْ الشَّيْخَاتِ لَهُنَّ عَوْرَاتٌ أُخَرُ أَكْثَرُ، وَأَشْنَعُ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا مِمَّا تُنَزَّهُ الْأَلْسُنُ عَنْ ذِكْرِهَا، وَالْأَقْلَامُ عَنْ كَتْبِهَا. وَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ قِيلَ: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاَللَّهِ؟ قَالَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْت إلَى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْك شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْت مِنْك خَيْرًا قَطُّ» ، وَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

«كَمُلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا أَرْبَعٌ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَعَائِشَةُ» انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْذَرُوا الِاغْتِرَارَ بِالنِّسَاءِ، وَإِنْ كُنَّ نِسَاءً صَالِحَاتٍ فَإِنَّهُنَّ يَرْكَنَّ إلَى كُلِّ بَلِيَّةٍ، وَلَا يَسْتَوْحِشْنَ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ، وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَنَفَعَنَا بِهِ: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا شِعَارُهُ لُزُومُ بَيْتِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ: كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك» انْتَهَى. فَكَيْفَ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ يُشْرَعْ لَهَا الْخُرُوجُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، وَاعْتِقَادُ الشَّيْخَاتِ يَسْتَدْعِي خُرُوجَ رَبَّاتِ الْخُدُورِ، وَغَيْرِهِنَّ، وَفِي خُرُوجِهِنَّ مِنْ الْفِتْنَةِ مَا قَدْ عُلِمَ، وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ صَالِحَاتٌ، وَلَا عَابِدَاتٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ ثُمَّ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ فِي اعْتِقَادِ بَعْضِهِنَّ فِي هَؤُلَاءِ الشَّيْخَاتِ مِنْ النِّسْوَةِ، وَهُنَّ كَمَا قَدْ عُلِمَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يَمْضِينَ لِمَوْضِعٍ يَعْمَلْنَ فِيهِ إلَّا بَعْدَ إطْلَاقِهِنَّ عَنْ ضَامِنَةِ الْمَغَانِي، فَمَفَاسِدُ مُرَكَّبَةٌ عَلَى مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ، ثُمَّ الْعَجَبُ أَيْضًا مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ مِمَّنْ لَهُ الْحِشْمَةُ أَوْ الْمَشْيَخَةُ يَتَوَرَّعُونَ عَنْ سَمَاعِ الْمَغَانِي، وَيُعَوِّضُونَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخَةَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا فَتَجِيءُ بَعْدَ إطْلَاقِهَا مِنْ الضَّامِنَةِ، وَمَعَهَا حَفَدَتُهَا، وَيَرْفَعْنَ عَقِيرَتَهُنَّ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ جَمَاعَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ جَمَاعَةً لِلرِّجَالِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. وَأَنْكَرَ مَالِكٌ لِذَلِكَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ، فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، وَفِي أَصْوَاتِهِنَّ مِنْ النَّدَاوَةِ، وَالتَّرْخِيمِ، وَالْفِتْنَةِ مَا قَدْ عُلِمَ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كَلَامِ الْمُتَجَالَّةِ أَمَّا الَّتِي كَلَامُهَا أَحْلَى مِنْ الرُّطَبِ فَلَا انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً فَكَيْفَ بِهِ فِي الشَّابَّةِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا مِنْ سَاقِطَةٍ إلَّا وَلَهَا لَاقِطَةٌ، وَسَبَبُ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا قِرَاءَةُ الرِّجَالِ جَمَاعَةً، وَذِكْرُهُمْ

جَمَاعَةً فَجَرَّ ذَلِكَ إلَى هَذَا الْمُحَرَّمِ الَّذِي يَفْعَلُهُ النِّسْوَةُ فِي الْفَرَحِ، وَالْمَوْلِدِ، وَغَيْرِهِمَا، وَزِدْنَ عَلَى ذَلِكَ قِيَامَهُنَّ يَرْقُصْنَ، وَيُعَيِّطْنَ، وَتَأْخُذُهُنَّ الْأَحْوَالُ عَلَى زَعْمِهِنَّ، وَفِي رَقْصِهِنَّ مِنْ الْعَوْرَاتِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ مِنْ وُقُوعِ الْفِتَنِ، وَفَسَادِ الْقُلُوبِ، وَالتَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِيهِ دِينٌ، أَوْ خَيْرٌ مَا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى خَسْفِ الْقُلُوبِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَاسْتِعْمَالِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ، وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ، وَقَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَانْقِلَابِ الْمَقَاصِدِ، وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ لِلْمَفَاسِدِ، وَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا، وَلَا عَدُّهَا فَاللَّبِيبُ مَنْ تَرَكَ هَذَا كُلَّهُ إذْ أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَهُ يُحَرِّمُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِتَغْيِيرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ، وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ أَنْ لَا يَشْهَدَ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ، وَلَا يَتْرُكَ أَحَدًا يَشْهَدُهَا، وَلَا يَرْضَى بِفِعْلِهَا، وَلَا يَذْكُرَهَا سِيَّمَا بِحَضْرَتِهِ بَلْ يَعِيبُ ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ أَمْرَ الشَّرْعِ فِيهِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ رَزِينٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يَكُنْ أَحَدُكُمْ إمَّعَةً يَقُولُ: أَنَا مَعَ النَّاسِ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنْت، وَإِنْ أَسَاءُوا أَسَأْت، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا لَا تَظْلِمُوا انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَزْهَدَ فِي زِيَارَةِ الْأَكَابِرِ، وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ إذْ أَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ بِسِيمَاهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] ، وَقَالَ تَعَالَى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّ قَسَمَهُ» انْتَهَى. فَإِنْ خَفِيَ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَمْرُ أَحَدٍ مِمَّنْ يَرَاهُ فَلْيَنْظُرْ فِي تُصَرِّفْهُ، فَإِنْ كَانَ عَلَى السُّنَّةِ فَلْيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَاقَعَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَهْرُبْ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لِصٌّ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أُثْنِيَ عِنْدَهُ عَلَى شَخْصٍ كَانَ فِي وَقْتِهِ فَخَرَجَ هُوَ، وَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ إلَى زِيَارَتِهِ، وَدَخَلَا الْمَسْجِدَ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ فَلَمْ يَجِدَاهُ فَجَلَسَا يَنْتَظِرَانِهِ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ تَنَخَّمَ، وَبَصَقَ فِيهِ، فَخَرَجَ هَذَا السَّيِّدُ، وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ

فصل في الاشتغال بالعلم يوم الجمعة

الشَّخْصُ الَّذِي كَانَ أَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: لِمَ خَرَجْت، وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إذَا كَانَ إنْسَانٌ لَمْ يَأْتَمِنْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ فَكَيْفَ يَأْتَمِنُهُ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِهِ، وَنَقَلْت مِنْ الْقُوتِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى السُّنَّةِ، وَتَرْفِيعُهَا، وَتَعْظِيمُ قَدْرِهَا إذْ أَنَّهَا أَوَّلُ بَابٍ فِي الْخَيْرِ، وَهِيَ آخِرُهُ فَشُدَّ يَدَك عَلَيْهَا إنْ كُنْت مِنْ أَهْلِهَا، أَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ آمِينَ بِمُحَمَّدٍ، وَآلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ -، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [فَصْلٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] ِ وَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مُوَاظِبًا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِهِ فَإِنَّ التَّرْكَ مُضِرٌّ، وَلَوْ قَلَّ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْقُلُ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ الزَّيَّاتِ مَا مَعْنَاهُ إذَا تَرَكَ الطَّالِبُ الِاشْتِغَالَ يَوْمًا كَأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةً: وَإِنْ تَرَكَهُ يَوْمَيْنِ كَأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّتَيْنِ، وَإِنْ تَرَكَهُ ثَلَاثًا لَا يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَاتِبَ خَطُّهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ أَحْسَنُ مِنْهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِتَرْكِ الْكَتْبِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الِاشْتِغَالَ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ تَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الِاشْتِغَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ فَضْلٍ عَظِيمٍ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُبَادِرَ إلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَيَعْمَلَهَا فِيهِ، وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ طَلَبُ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ إنْ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قَدْ يُخْشَى أَنْ يَفُوتَهُ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ مِنْ وَظَائِفِ الْجُمُعَةِ مِثْلَ الْغُسْلِ، وَقَصِّ الشَّارِبِ، وَالْأَظَافِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَيَحْضُرَ مَجْلِسَ الْعِلْمِ فِي الْجَامِعِ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَعْنِي بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ الْمَجْلِسَ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا مَجْلِسَ الْقُصَّاصِ وَالْوُعَّاظِ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الْجُلُوسِ إلَى الْقُصَّاصِ فَقَالَ: مَا أَرَى أَنْ يُجْلَسَ

إلَيْهِمْ، وَإِنَّ الْقَصَصَ لَبِدْعَةٌ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرَاهَةُ الْقَصَصِ مَعْلُومٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى قَالَ: خَرَجَ مَعَنَا فَتًى مِنْ طَرَابُلُسَ إلَى الْمَدِينَةِ فَكُنَّا لَا نَنْزِلُ مَنْزِلًا إلَّا وَعَظَنَا فِيهِ حَتَّى بَلَغْنَا الْمَدِينَةَ فَكُنَّا نَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ إذَا هُوَ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا كَانَ يَفْعَلُ بِنَا، فَرَأَيْته مِنْ سِمَاطِ أَصْحَابِ التَّيَقُّظِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُحَدِّثُهُمْ، وَقَدْ لَهَوْا عَنْهُ، وَالصِّبْيَانُ يَحْصِبُونَهُ، وَيَقُولُونَ لَهُ: اُسْكُتْ يَا جَاهِلُ فَوَقَفْت مُتَعَجِّبًا مِمَّا رَأَيْت فَدَخَلْنَا عَلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَأَلْنَاهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ مَا رَأَيْنَاهُ مِنْ الْفَتَى فَقَالَ مَالِكٌ: أَصَابَ الرِّجَالُ إذْ لَهَوْا عَنْهُ، وَأَصَابَ الصِّبْيَانُ إذْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ بَاطِلَهُ، وَقَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْت مَالِكًا يُكَرِّهُ الْقَصَصَ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَإِذًا تَكْرَهُ مِثْلَ هَذَا فَعَلَامَ كَانَ يَجْتَمِعُ مَنْ مَضَى؟ فَقَالَ: عَلَى الْفِقْهِ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ انْتَهَى. وَقَوْلُ مَالِكٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصَابَ الرِّجَالُ إذْ لَهَوْا عَنْهُ، وَأَصَابَ الصِّبْيَانُ إذْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ بَاطِلَهُ إنَّمَا صَوَّبَ فِعْلَ الرِّجَالِ لِكَوْنِ الصِّبْيَانِ قَدْ كَفَوْهُمْ مُؤْنَةَ التَّغْيِيرِ، فَلَوْ لَمْ يُغَيِّرْ الصِّبْيَانُ لَبَادَرُوا إلَى التَّغْيِيرِ، وَمِنْ كِتَابِ الْجَامِعِ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ الْقَصَصَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ قَالَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَعْنِي أَدْعُو اللَّهَ، وَأَقُصُّ، وَأُذَكِّرُ النَّاسَ فَقَالَ عُمَرُ: لَا فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ: أَنَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَاعْرِفُونِي. وَقَالَ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ قَالَ مَالِكٌ: وَنَهَيْت أَبَا قُدَامَةَ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَيَقُولَ افْعَلُوا كَذَا، وَكَذَا، وَقَالَ أَبُو إدْرِيسَ: لَأَنْ أَرَى فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ نَارًا تُؤَجَّجُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى فِي نَاحِيَتِهِ قَاصًّا يَقُصُّ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: لَمْ يُقَصَّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَا فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَتَّى ظَهَرَتْ الْفِتْنَةُ، وَظَهَرَ الْقُصَّاصُ، وَلَمَّا دَخَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ أَخْرَجَ الْقُصَّاصَ مِنْهُ، وَقَالَ: لَا يُقَصُّ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي عُلُومِ الْأَعْمَالِ

فَاسْتَمَعَ إلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ. وَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ إلَى مَجْلِسِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ قَاصًّا يَقُصُّ فَوَجَّهَ إلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ أَنْ أَخْرِجْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَهُ. وَقِيلَ لِابْنِ سِيرِينَ: لَوْ قَصَصْت عَلَى إخْوَانِك فَقَالَ: قَدْ قِيلَ: لَا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ إلَّا أَمِيرٌ، أَوْ مَأْمُورٌ، أَوْ أَحْمَقُ، وَلَسْت بِأَمِيرٍ، وَلَا مَأْمُورٍ، وَأَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ الثَّالِثَ انْتَهَى. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَقُصُّ إلَّا أَمِيرٌ، أَوْ مَأْمُورٌ، أَوْ مُخْتَالٌ» انْتَهَى. وَقَالَ الطُّرْطُوشِيُّ أَيْضًا: قَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: رَأَيْت سَيَّارًا أَبَا الْحَكَمِ يَسْتَاكُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَقَاصًّا يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ فَقُلْت لَهُ: يَا أَبَا الْحَكَمِ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْك فَقَالَ: الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا هُمْ فِيهِ أَنَا فِي سُنَّةٍ، وَهُمْ فِي بِدْعَةٍ، وَلَمَّا أَنْ دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ الْأَعْمَشُ الْبَصْرَةَ نَظَرَ إلَى قَاصٍّ يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: فَتَوَسَّطَ الْأَعْمَشُ الْحَلْقَةَ، وَجَعَلَ يَنْتِفُ شَعْرَ إبْطَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْقَاصُّ: يَا شَيْخُ أَلَا تَسْتَحِي نَحْنُ فِي عِلْمٍ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَشُ: الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِنْ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ قَالَ: كَيْفَ فَقَالَ: لِأَنِّي فِي سُنَّةٍ، وَأَنْتَ فِي كَذِبٍ، أَنَا الْأَعْمَشُ، وَمَا حَدَّثْتُك مِمَّا تَقُولُ شَيْئًا، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذِكْرَ الْأَعْمَشُ انْفَضُّوا عَنْ الْقَاصِّ، وَاجْتَمَعُوا حَوْلَهُ، وَقَالُوا: حَدِّثْنَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَكْذَبُ النَّاسِ الْقُصَّاصُ، وَالسُّؤَالُ، وَمَا أَحْوَجَ النَّاسَ إلَى قَاصٍّ صَدُوقٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْمَوْتَ، وَعَذَابَ الْقَبْرِ قِيلَ لَهُ: أَكُنْت تَحْضُرُ مَجَالِسَهُمْ قَالَ لَا، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ: وَحُضُورُ الرَّجُلِ مَجَالِسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ، وَصَلَاتُهُ أَفْضَلُ مِنْ حُضُورِهِ مَجَالِسَ الْقُصَّاصِ، وَرُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «حُضُورُ مَجْلِسِ عِلْمٍ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَلْفِ رَكْعَةٍ» ، وَفِي الْخَبَرِ «لَأَنْ يَتَعَلَّمَ أَحَدُكُمْ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ، أَوْ يُعَلِّمَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ صَلَاةِ أَلْفِ رَكْعَةٍ» ، وَفِي خَبَرٍ «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ

فَقَالَ: وَهَلْ تَنْفَعُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ إلَّا بِعِلْمٍ» فَالصَّلَاةُ إذَا عُدِمَ مَجْلِسُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ، وَالتَّفَقُّهُ فِي دِينِ اللَّهِ أَزْكَى مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْقَصَصِ، وَمِنْ الِاسْتِمَاعِ إلَى الْقُصَّاصِ، فَإِنَّ الْقَصَصَ كَانَ عِنْدَهُمْ بِدْعَةٌ، وَكَانُوا يُخْرِجُونَ الْقُصَّاصَ، وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ قُلْت لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: أَخٌ لِي يَقْعُدُ إلَى الْقُصَّاصِ قَالَ: انْهَهُ قُلْت: لَا يَقْبَلُ قَالَ: عِظْهُ قُلْت: لَا يَقْبَلُ قَالَ: اُهْجُرْهُ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: فَأَتَيْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَذَكَرْت لَهُ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَالَ: قُلْ لَهُ يَقْرَأُ فِي الصُّحُفِ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ، وَيَطْلُبُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْت: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ: بَلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ قُلْت: فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَهْجُرُهُ قَالَ: فَتَبَسَّمَ، وَسَكَتَ انْتَهَى. ، وَكَذَلِكَ لَا يُحْضِرُ الْكُتُبَ الَّتِي تُقْرَأُ، وَفِيهَا الْأَحَادِيثُ الْمُشْكِلَةُ عَلَى السَّامِعِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يُبَيِّنُ أَحْكَامَهَا، وَمَعْنَاهَا، وَيَحِلُّ مُشْكِلَهَا، وَلَوْ كَانَ ثَمَّ مَنْ يَحِلُّ الْمُشْكِلَ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ صَوْتُهُ يَعُمُّ مَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ كَمَا يَعُمُّهُمْ صَوْتُ الْقَارِئِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعُمَّهُمْ، فَالْغَالِبُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُومُ، وَعِنْدَهُ الرِّيبَةُ فِي اعْتِقَادِهِ، وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الْحَدِيثِ فِي جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي اهْتِزَازِ الْعَرْشِ، وَعَنْ حَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» ، وَعَنْ الْحَدِيثِ فِي السَّاقِ فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُتَحَدَّثَنَّ بِهِ، وَمَا يَدْعُو الْإِنْسَانَ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ، وَهُوَ يَرَى مَا فِيهِ مِنْ التَّغْرِيرِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَنْبَغِي لِمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ، وَيَخَافُهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِمِثْلِ هَذَا قِيلَ لَهُ: فَالْحَدِيثُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَضْحَكُ فَلَمْ يَرَهُ مِنْ هَذَا، وَأَجَازَهُ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْعَرْشِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ هُوَ مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّهُ قَالَ: «اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَأَنَّهُ قَالَ: اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» ، وَمَا رُوِيَ «مِنْ أَنَّ أُمَّهُ بَكَتْ، وَصَاحَتْ لَمَّا أُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَرْقَأْ دَمْعُك، وَيَذْهَبْ حُزْنُكِ، فَإِنَّ وَلَدَك أَوَّلُ مَنْ ضَحِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ، وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ» ، وَمَا يُرْوَى مِنْ «أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَقَالَ: مَنْ هَذَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي مَاتَ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَدْ مَاتَ» . وَالْحَدِيثُ فِي السِّيَاقِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ هُوَ مَا يُرْوَى «أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَجَلَّى لِلْخَلْقِ فَيَقُولُ: مَنْ تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا فَيَقُولُ: وَهَلْ تَعْرِفُونَ رَبَّكُمْ فَيَقُولُونَ: إذَا تَعَرَّفَ إلَيْنَا سُبْحَانَهُ عَرَفْنَاهُ قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إلَّا خَرَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَاجِدًا» ، وَإِنَّمَا نَهَى مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُتَحَدَّثَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ «أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» ، وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ، وَسَبِيلُهَا إذَا صَحَّتْ الرِّوَايَاتُ بِهَا أَنْ تَتَأَوَّلَ عَلَى مَا يَصِحُّ مِمَّا يَنْتَفِي بِهِ التَّشْبِيهُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا يُصْنَعُ بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ التَّشْبِيهَ، وَهُوَ كَثِيرٌ كَالْإِتْيَانِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة: 210] ، وَالْمَجِيءِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] انْتَهَى. وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] أَيْ عَذَابُهُ، وَنِقْمَتُهُ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ، وَأَلْحَدَ فِي آيَاتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ، وَجَاءَ رَبُّك. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الظُّهُورَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنَّمَا الْحِجَابُ مِنَّا، فَإِذَا كَشَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحِجَابَ عَنَّا ظَهَرَ لَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ غَيْرِ حَدٍّ، وَلَا تَكْيِيفٍ جَلَّ جَلَالُهُ عَنْ الصُّورَةِ، وَالْكَيْفِيَّةِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالِاسْتِوَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4] مَعْنَاهُ اسْتَوْلَى قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْقَهْرُ، وَالْغَلَبَةُ تَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَوَى زَيْدٌ عَلَى أَرْضِ كَذَا أَيْ مَلَكَهُمْ وَقَهَرَهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ وَلَمَّا أَنْ كَانَ الْعَرْشُ أَعْظَمَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَهُولَةِ اكْتَفَى بِذَكَرِهِ عَمَّا دُونَهُ، إذْ أَنَّ مَا دُونَهُ

تَبَعٌ لَهُ، وَفِي حُكْمِهِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا يَفْعَلُ أَيْضًا بِمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَالضَّحِكِ، وَالنُّزُولِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تُكْرَهْ رِوَايَتُهَا لِتَوَاتُرِ الْآثَارِ بِهَا انْتَهَى. أَمَّا الضَّحِكُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَصْدُرُ مِنْ الْمُتَّصِفِ بِذَلِكَ مِنَّا مِنْ الرِّضَا، وَالْإِحْسَانِ، وَأَمَّا النُّزُولُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ سَبِيلَهَا كُلِّهَا فِي اقْتِضَاءِ ظَاهِرِهَا التَّشْبِيهَ، وَإِمْكَانِ تَأْوِيلِهَا كُلِّهَا عَلَى مَا يَنْتَفِي بِهِ تَشْبِيهُ اللَّهِ عَزَّ، وَجَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَقْرَبَهَا كُلِّهَا أَنَّ عَرْشَ الرَّحْمَنِ قَدْ اهْتَزَّ لِمَوْتِ سَعْدٍ؛ لِأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا تَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالِاهْتِزَازُ، وَإِضَافَتُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ لَهُ كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ، وَحَرَمُهُ لَا أَنَّهُ مَحَلٌّ لَهُ، وَمَوْضِعٌ لِاسْتِقْرَارِهِ، إذْ لَيْسَ فِي مَكَان فَقَدْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ الْمَكَانُ فَلَا يَلْحَقُهُ عَزَّ وَجَلَّ بِاهْتِزَازِ عَرْشِهِ مَا يَلْحَقُ مَنْ اهْتَزَّ عَرْشُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ مِنْ تَحَرُّكِهِ بِحَرَكَتِهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَجَازًا فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِتَحْرِيكِ الْعَرْشِ حَرَكَةَ حَمَلَتِهِ اسْتِبْشَارًا وَفَرَحًا بِقُدُومِ رُوحِهِ، وَهَذَا جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ: اهْتَزَّ الْمَجْلِسُ بِقُدُومِ فُلَانٍ عَلَيْهِ أَيْ اهْتَزَّ أَهْلُهُ لِقُدُومِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يُرِيدُ أَهْلَهَا، وَمِثْلَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُحُدٌ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا، وَنُحِبُّهُ» أَيْ: يُحِبُّنَا أَهْلُهُ وَنُحِبُّهُمْ، وَأَمَّا حَدِيثُ السَّاقِ فَلَمْ يُضَفْ السَّاقُ فِيهَا إلَى أَحَدٍ، وَمَعْنَاهُ عَنْ شِدَّةٍ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعْنَى شِدَّةِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَامَتْ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] أَيْ عَنْ شِدَّةٍ مِنْ الْأَمْرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة: 29] أَيْ الْتَفَّتْ سَاقُ الدُّنْيَا بِسَاقِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ أَمْرُ الدُّنْيَا بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْمَالُ الدُّنْيَا بِمُحَاسَبَةِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» فَإِنَّهُ حَدِيثٌ يُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى

صُورَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، فَأَمَّا رِوَايَةُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ فِي صِحَّتِهَا لِاشْتِهَارِ نَقْلِهَا مِنْ غَيْرِ مُنْكِرٍ لَهَا، وَلَا طَاعِنٍ فِيهَا، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ فَمِنْ مُصَحِّحٍ لَهَا، وَمِنْ طَاعِنٍ فِيهَا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ، وَعَلَى أَنَّهُ غَلَطٌ، وَقَعَ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ لِبَعْضِ النَّقْلَةِ تَوَهُّمُ أَنَّ الْهَاءَ تَرْجِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَنَقَلَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ، فَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْمَحْفُوظَةُ فَهِيَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى رَجُلٍ مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ، وَأَبُوهُ أَوْ مَوْلَاهُ يَضْرِبُ وَجْهَهُ لَطْمًا، وَيَقُولُ: قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَك فَقَالَ: «إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَك، وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَك فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ سَبَّ آدَمَ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ عَلَى صِفَتِهِ، وَمَنْ دُونَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا، وَمِنْهَا أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ عَلَى صُورَتِهِ تَرْجِعُ إلَى آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلِذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا - أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَفَائِدَتُهُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُشَوِّهْ خَلْقَهُ حِينَ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ. وَالثَّانِي - أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَفَائِدَتُهُ إبْطَالَ قَوْلِ أَهْلِ الزَّيْغِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا إنْسَانَ إلَّا مِنْ نُطْفَةٍ، وَلَا نُطْفَةَ إلَّا مِنْ إنْسَانٍ، وَلَا دَجَاجَةَ إلَّا مِنْ بَيْضَةٍ، وَلَا بَيْضَةَ إلَّا مِنْ دَجَاجَةٍ لَا إلَى أَوَّلٍ. الثَّالِثُ - مَعْنَاهُ وَفَائِدَتُهُ إبْطَالُ قَوْلِ أَهْلِ الزَّيْغِ، وَالْمُنَجِّمِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ بِتَأْثِيرِ الْعُنْصُرِ، وَالْفَلَكِ، وَاللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ آدَمَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الصُّورَةِ، وَالتَّرْكِيبِ، وَالْهَيْئَةِ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِعْلُ طَبْعٍ، وَلَا تَأْثِيرُ فَلَكٍ، وَخَصَّ آدَمَ بِالذِّكْرِ مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُهَا، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِهِ دُونَ مُشَارَكَةِ فِعْلِ طَبْعٍ، أَوْ تَأْثِيرِ فَلَكٍ فَوَلَدُهُ، وَمَنْ سِوَاهُمْ عَلَى حُكْمِهِ كَذَلِكَ. وَقَدْ

قِيلَ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ: أَنَّ فَائِدَةَ الْحَدِيثِ تَكْذِيبُ الْقَدَرِيَّةِ فِيمَا زَعَمَتْ مِنْ أَنَّ صِفَاتِ آدَمَ مِنْهَا مَا خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْهَا مَا خَلَقَهَا آدَم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِنَفْسِهِ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَكْذِيبِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى جَمِيعِ صُورَتِهِ، وَصِفَتِهِ، وَمَعَانِيهِ، وَأَعْرَاضِهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: عَرِّفْنِي هَذَا الْأَمْرَ عَلَى صُورَتِهِ إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَهُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ، وَالِاسْتِقْصَاءِ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي جَاءَتْ، وَهِيَ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّقْلِ لَا يُصَحِّحُ الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ، وَأَنَّ الرَّاوِيَ سَاقَ الْحَدِيثَ عَلَى مَا ظَنَّهُ مِنْ مَعْنَاهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ إضَافَةَ تَشْرِيفٍ عَلَى طَرِيقِ التَّنْوِيهِ بِذِكْرِ الْمُضَافِ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] فَإِنَّهَا إضَافَةُ تَخْصِيصٍ وَتَشْرِيفٍ تُفِيدُ التَّحْذِيرَ، وَالرَّدْعَ مِنْ التَّعَرُّضِ لَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] وقَوْله تَعَالَى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] ، وَقَوْلُ النَّاسِ: الْكَعْبَةُ بَيْتُ اللَّهِ، وَالْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ. فَشَرُفَتْ صُورَةُ آدَمَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ اخْتَرَعَهَا، وَخَلَقَهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ انْتَهَى. وَمِنْ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ: قَطُّ قَطُّ وَعِزَّتِك، وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ» ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ وُجُوهًا عِدَّةً فَمِنْهَا أَنَّ الْكَافِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ يُسَمَّى قَدَمًا، وَالنَّارُ مَوْعُودَةٌ بِهِمْ، فَإِنْ لَمْ تُحَصِّلْهُمْ فِي جَوْفِهَا بَقِيَتْ مَلْهُوفَةً عَلَيْهِمْ كَمَا هِيَ الْأُمُّ حِينَ تَفْقِدُ أَوْلَادَهَا، فَإِذَا حَصَلُوا فِي جَوْفِهَا تَقُولُ: قَطُّ قَطُّ أَيْ حَسْبِي حَسْبِي؛ لِأَنَّهَا قَدْ أَخَذَتْ أَوْلَادَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9] ، وَالْهَاوِيَةُ: اسْمٌ لِإِحْدَى طَبَقَاتِ النَّارِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ جَمِيعِ دَرَكَاتِهَا بِنُورِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي - أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُفْهَمُ عِنْدَنَا مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ الْحَقِيرَ التَّافِهَ الَّذِي لَا يُبَالَى

بِهِ يُدَحْرَجُ بِالْقَدَمِ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْغَضَبِ عَلَيْهِ وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْحَقَارَةِ لَهُ كَمَا الْأَمْرُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الرَّفِيعَةَ، وَالطَّاهِرَةَ تُتَنَاوَلُ بِالْيَمِينِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ يَقُولُ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» ، وَهُوَ حَجَرٌ مَرْئِيٌّ مَحْسُوسٌ فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْجَارِحَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَادَةَ فِيمَا يَصْدُرُ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ كَمَا سَبَقَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ يَشْهَدُ لِلَامِسِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ شَهِدَ لَهُ رُحِمَ، وَغُفِرَ لَهُ، فَضِدُّ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ الْقَدَمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ إذْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الصُّورَةِ، وَالْكَيْفِيَّةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ. وَقَدْ حَصَلَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمِثَالِ فِي الْآيِ، وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْإِشْكَالُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْعِلْمَ، وَالْمَحَامِلِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَيْهَا مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَوْلَى وَالْأَحْسَنُ، بَلْ الَّذِي لَا يَنْبَغِي: أَنْ يُعْرَجَ عَنْهُ، وَهُوَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّهُ لَا يَتَحَدَّثُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ خِيفَةً مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الضُّعَفَاءِ أَنْ يَدْخُلَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْفِتْنَةِ فِي عَقِيدَتِهِمْ، فَكَيْفَ يُقْرَأُ ذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْعَوَامّ، وَالنِّسَاءُ حُضُورٌ يَسْمَعْنَ فَالْغَالِبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ، وَهُمْ مُؤْمِنُونَ فَيَخْرُجُونَ، وَهُمْ مُفْتَتِنُونَ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ إنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُوقِعُ فِي الْقَلْبِ مَعْنًى مِنْ التَّشْبِيهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْخٍ عَارِفٍ عَالِمٍ بِالسُّنَّةِ، وَمَعَانِي مَا احْتَوَى عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ جَهِيرَ الصَّوْتِ يَسْمَعُهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، فَيَحِلُّ مُشْكِلَهَا، وَيُبَيِّنُ مَعْنَاهَا، وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ جَالِسًا عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ عَنْهُمْ لِيَعُمَّ صَوْتُهُ الْجَمِيعَ كَمَا تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ مَا هُمْ يَفْعَلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنَّ الْقَارِئَ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ فَيَعُمُّ صَوْتُهُ الْجَمِيعَ فِي الْغَالِبِ، وَالشَّيْخُ جَالِسٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَصَوْتُهُ خَفِيٌّ فَلَا يَعْرِفُ مَا قَالَ إلَّا مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ عُدِمَ هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي

فصل في تحفظ طالب العلم من العمل على المناصب

فَتُمْنَعُ قِرَاءَةُ الْكُتُبِ، وَالْمَوَاعِيدُ الَّتِي تُفْعَلُ، فَإِنْ فَعَلَهَا أَحَدٌ أُدِّبَ عَلَى ذَلِكَ، وَزُجِرَ، وَأُخْرِجَ مِنْ الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَطَالِبُ الْعِلْمِ قُدْوَةٌ، فَإِذَا رَآهُ أَحَدٌ مِنْ الْعَوَامّ يَحْضُرُ هَذَا الْمَجْلِسَ يَقْتَدِي بِهِ فِي حُضُورِهِ فَقَدْ يَجْلِسُ فِيهِ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَيَقُومُ، وَعِنْدَهُ شَكٌّ وَرَيْبٌ فِي اعْتِقَادِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ طَالِبُ الْعِلْمِ بِحَذَرٍ مِنْ هَذَا، وَأَشْبَاهِهِ، هَذَا وَجْهٌ فِي الْكَرَاهَةِ، وَوَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ كَرِهُوا تَرْكَ الشُّغْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَنْ يُخَصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ خِيفَةً مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ فِي السَّبْتِ، وَبِالنَّصَارَى فِي الْأَحَدِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُحْذَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ أَنْ يُتْرَكَ الْعَمَلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِئَلَّا يَصْنَعُوا فِيهِ كَمَا صَنَعَتْ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى فِي السَّبْتِ وَالْأَحَدِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِمُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيَنْهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلْحِدُوا، وَلَا تَشُقُّوا فَإِنَّ اللَّحْدَ لَنَا، وَالشَّقَّ لِغَيْرِنَا» أَيْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُ قَالَ «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا، وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُورِ» ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ [فَصْلٌ فِي تَحَفُّظِ طَالِبِ الْعِلْمِ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى الْمَنَاصِبِ] ِ، أَوْ التَّشَوُّفِ إلَيْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّهُ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ التَّدْرِيسَ، وَلَا أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْطُبَ لَهُ، وَيَجِدَهُ عَلَى وَجْهِهِ السَّائِغِ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدِلَّ هُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُدْخِلُ عَلَيْهِ الْخَلَلَ فِي نِيَّتِهِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي أَخْذِ الدَّرْسِ فَمِنْ بَابِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى فِي الْأَحْكَامِ، بَلْ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ أَشَدُّ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» انْتَهَى. ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ صَبِيَّيْنِ جَاءَاهُ يَتَخَايَرَانِ فِي خَطَّيْهِمَا فَنَظَرَ

فِي الْخَطَّيْنِ ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنَّهُ حُكْمٌ لَقُلْت: إنَّ أَحَدَهُمَا أَحْسَنُ مِنْ الْآخَرِ، وَلَكِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يُحْشَرُ الْحَاكِمُ، وَيَدَاهُ مَغْلُولَتَانِ إلَى عُنُقِهِ لَا يَفُكُّهُمَا إلَّا عَدْلُهُ» ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أُحْشَرَ مَغْلُولَ الْيَدَيْنِ) ، أَوْ كَمَا قَالَ، وَلَمْ يَزَلْ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - يَهْرُبُونَ مِنْهُ الْهَرَبَ الْكُلِّيَّ حَتَّى قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ تَوَلَّاهُ فِي الظَّاهِرِ حَتَّى رُفِعَ عَنْهُ ذَلِكَ، وَقَدْ جَرَى لِلْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ فَقَالَ: إنِّي لَا أَصْلُحُ فَقِيلَ لَهُ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ قَالُوا لِمَ قَالَ: لِأَنِّي بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ أَكُونَ صَادِقًا فِيمَا قُلْته فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُوَلُّوا مَنْ لَا يَصْلُحُ، وَإِنْ كُنْت كَاذِبًا، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُوَلُّوا كَاذِبًا فَتَرَكُوهُ. وَحِكَايَتُهُمْ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ مِنْ الِابْتِلَاءِ، وَيَسْتَعِيذُونَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّهُمْ قَدْ يَهْجُرُونَ بَعْضَ مَنْ تَوَلَّى مِنْ مَعَارِفِهِمْ، وَقَدْ جَرَى لِسَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الزَّيَّاتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا أَنْ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ مَا قَدْ ذُكِرَ، وَقَدْ جَرَى لِسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي إفْرِيقِيَّةَ لَمَّا أَنْ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ، وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الرِّجَالِ لِاسْتِخْلَاصِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَقُومُ بِكِفَايَتِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَالُوا: وَلِمَ ذَلِكَ قَالَ: لِأَنَّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُوصِلَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَنْصُوصَةٌ فِي الْمَذْهَبِ قَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ رُشْدٍ. - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لَهُ فَلَمَّا أَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ ذَلِكَ عَمِلُوا حِسَابَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ، فَوَجَدُوهُ مَالًا كَثِيرًا فَشَحُّوا بِإِخْرَاجِهِ فَتَرَكُوهُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي لِمَنْ وَلِيَ أَيَّ خُطَّةٍ أَنْ يَنْظُرَ إلَى نَفْسِهِ فِي يَوْمِ عَزْلِهِ مِنْهَا، وَلَا يَنْظُرُ إلَى يَوْمِ تَوْلِيَتِهِ انْتَهَى. وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّهُ إذَا نَظَرَ إلَى يَوْمِ تَوْلِيَتِهِ هَلَكَ فِي الْغَالِبِ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَإِذَا نَظَرَ إلَى يَوْمِ عَزْلِهِ سَلِمَ فِي الْغَالِبِ. وَقَدْ

جَرَى بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ السُّلْطَانَ أَجَبَرَ الشَّيْخَ الْجَلِيلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عِمْرَانَ عَلَى الْقَضَاءِ، فَاسْتَشَارَ بَعْضَ الْأَكَابِرِ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: لَا تَتَوَلَّى، وَإِنْ تَوَقَّعْت الْمَوْتَ قَالَ لَهُ آخَرُونَ: إنْ تَوَقَّعْت الْمَوْتَ تَوَلَّ، وَاحْكُمْ بِالْعَدْلِ، وَهُمْ يَعْزِلُونَك فَسَمِعَ مِنْ الثَّانِي فَتَوَلَّى، وَحَكَمَ بِالْعَدْلِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً، وَعَزَلُوهُ فِي حِكَايَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْهَرَبُ الْكُلِّيُّ مِنْ الْوِلَايَةِ، وَأَسْبَابِهَا إذْ أَنَّهَا احْتَوَتْ - سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ - عَلَى حُظُوظِ النُّفُوسِ مِنْ الرِّيَاسَةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ الَّذِي هُوَ مُعَلَّقٌ بِالْقُلُوبِ فِي الْغَالِبِ يُبْذَلُ فِي الْمَنَاصِبِ، وَلَا تُبْذَلُ الْمَنَاصِبُ فِيهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: الزُّهْدُ فِي الرِّيَاسَةِ أَفْضَلُ، وَأَعْظَمُ مِنْ أَلْفِ زُهْدٍ فِي الْمَالِ، وَلْيُحْذَرْ مِنْ أَنْ يَمِيلَ إلَى خَاطِرِ النَّفْسِ، وَالْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ، وَالْإِلْزَامِ الْمُعَيَّنَةِ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، فَقَدْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ، أَوْ أَحَدٌ مِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّهُ مِنْ الصِّنْفِ الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ الْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَيَقَعُ بِالْقَضَاءِ فِي الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ آفَةٌ عَلَيْهِ عَاجِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عَلَيْهِ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ إنْ كَانَ شَابًّا إذْ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إذَا جَاءَهُ الْخَصْمَانِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمُطَالَعَةِ الْمَسَائِلِ، أَوْ غَيْرِهَا، وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ تَرْكُ الضَّرُورَاتِ كُلِّهَا إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ شَرْعًا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ قَوْلِهِ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي، وَهُوَ غَضْبَانُ» انْتَهَى. وَعَدَّاهُ الْفُقَهَاءُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَا سِنٍّ فَأَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا بَلَغَ أَحَدُهُمْ الْأَرْبَعِينَ طَوَى الْفِرَاشَ، وَانْعَزَلَ عَنْ النَّاسِ، وَتَبَتَّلَ لِلْعِبَادَةِ، وَتَرَكَ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ إذْ ذَاكَ، فَمَا بَالُك بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ أَعْنِي: أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِيءُ لِلْإِنْسَانِ إلَّا بَعْدَ الطَّعْنِ فِي السِّنِّ حِينَ تَوَقُّعِ هُجُومِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ غَالِبًا لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ يَقُولُ: «مُعْتَرَكُ مَنَايَا أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ» ، وَيَكْفِي مِنْ التَّنْفِيرِ عَنْهُ مَا حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ

الْقُضَاةِ كَانَ إذَا جَلَسَ لِلْأَحْكَامِ جَلَسَ إلَى جَانِبِهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ الْوَجْهِ أَبْيَضُ الْبَدَنِ، فَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ الْحُكْمَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ نَظَرَ إلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ يَفْصِلُ الْحُكْمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ: اسْأَلُوهُ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَنْبُشُ الْقُبُورَ فَمَاتَ قَاضِي الْبَلَدِ قَالَ: فَذَهَبْت إلَيْهِ لَيْلًا فَنَبَشْت عَلَيْهِ حَتَّى وَصَلْت إلَيْهِ، وَجِئْت آخُذُ الْكَفَنَ، وَإِذَا بِشَخْصَيْنِ قَدْ دَخَلَا فَرُعِبْت مِنْهُمَا فَرَجَعْت فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْقَبْرِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى قَدَمَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ: هَاتَانِ قَدَمَانِ مَا عَصَتَا اللَّهَ قَطُّ، فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى فَرْجِهِ فَشَمَّهُ فَقَالَ: هَذَا فَرْجٌ مَا عَصَى اللَّهَ قَطُّ، فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى بَطْنِهِ فَشَمَّهَا فَقَالَ هَذِهِ بَطْنٌ مَا أَكَلَتْ الْحَرَامَ قَطُّ، فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى يَدَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ: هَاتَانِ يَدَانِ مَا عَصَتَا اللَّهَ قَطُّ، فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى فِيهِ فَشَمَّهُ فَقَالَ: هَذَا لِسَانٌ مَا عَصَى اللَّهَ قَطُّ، فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى عَيْنَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ: هَاتَانِ عَيْنَانِ مَا عَصَتَا اللَّهَ قَطُّ، فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى أُذُنَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَسَكَتَ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُك؟ فَقَالَ لَهُ: هَاتَانِ أُذُنَانِ جَاءَهُ يَوْمًا خَصْمَانِ فَأَصْغَى إلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ فَارْتَفَعَا يَضْرِبَانِهِ، فَهَرَبْت فَحَصَلَ لِي هَذَا مِنْ هُوِيِّ الْمِقْمَعَةِ فَأَصْبَحَ وَجْهِي كَمَا تَرَى انْتَهَى. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْحِكَايَةِ مَا أَعْجَبَهَا، فَأَيْنَ الْحَاكِمُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ هَذَا السَّيِّدُ هُوَ، وَاَللَّهِ أَعَزُّ شَيْءٍ يَكُونُ، وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ يَنْظُرُ إلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يُضْطَرُّ فِيهِ إلَى الصَّبْرِ فَيَهْرُبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْبَشَرِيَّةَ فِي الْغَالِبِ عَاجِزَةٌ عَنْ الصَّبْرِ، فَإِنْ وَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَارَهُ، وَيُضْطَرَّ إلَيْهِ فَالِاسْتِغَاثَةُ إذْ ذَاكَ بِرَبِّهِ لَعَلَّ أَنْ يُصَبِّرَهُ عَلَى مَا ابْتَلَاهُ بِهِ، فَبُعْدُهُ مِنْ بَابِ الِابْتِلَاءِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ يُرْجَى لَهُ أَنْ يُعَانَ، وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْ الْآفَاتِ الْمَنُوطَةِ بِهِ يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ قَوْلِهِ: «لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إذَا أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا» ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ» انْتَهَى. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى الْغَالِبِ

مِنْ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ فِي تَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ، وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا، بَلْ يَبْذُلُ بَعْضُنَا الْمَالَ فِي تَحْصِيلِهَا فَأَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَ هَذَا الْحَالِ، وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ» ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ. . .» الْحَدِيثَ، فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ بِهِ قُبْحُ تَعَاطِيهِمْ لِذَلِكَ. فَإِنْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْبَذْلُ فِي ذَلِكَ لِمَا يَرَاهُ مِنْ أَنَّ فِيهِ أَهْلِيَّةً لِلْمَنْصِبِ دُونَ غَيْرِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ - أَنَّ فِي هَذَا تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. الثَّانِي - أَنَّ التَّعَرُّضَ لِلْأَحْكَامِ فِيهِ إشْغَالُ الذِّمَّةِ بِأَمْرٍ لَا يُعْلَمُ هَلْ يُتَخَلَّصُ مِنْهُ أَمْ لَا؟ وَخَلَاصُ الذِّمَّةِ مُتَعَيِّنٌ، فَإِنْ اُحْتُجَّ بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ مَعْصُومُونَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهُمْ أَلَا تَرَى إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ طَلَبَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَذَلِكَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى سَبِيلِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ نَبِيٌّ مَلِكٌ، فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ خَافَ عَلَى غَيْرِهِ إنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ يَهْلَكُ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ أَمِنَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ عِصْمَتِهِ، هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ الصِّدِّيقَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَقَعُ بِالنَّاسِ شِدَّةٌ وَغَلَاءٌ خَافَ عَلَيْهِمْ إنْ تَوَلَّى غَيْرُهُ ذَلِكَ أَنْ يَهْلَكُوا هَلَاكَ اسْتِئْصَالٍ فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، فَطَلَبَ مَا طَلَبَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَشِيَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَصِّرُوا فِي حَقِّهِ، وَالتَّقْصِيرُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ إذْ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 34] ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْوِلَايَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَعْدِلُ

بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا، وَالسَّلَامَةُ غَالِبًا إنَّمَا تُتَوَقَّعُ فِي تَرْكِ الْوِلَايَاتِ، فَكَيْفَ تُبْذَلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ لَا جَرَمَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ الْأَمْرُ فِيهَا إلَى بَذْلِ الْأَمْوَالِ صَارَ يَطْلُبُهَا مَنْ لَيْسَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لَهَا، وَلَا يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ فَضَاعَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ طَلَبِهَا، وَدُخُولِ الْأَمْوَالِ فِيهَا، وَصَارَتْ التَّوْلِيَةُ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فَإِذَا فُهِمَ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ الْهَرَبُ مِنْ الْوِلَايَةِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَالْعَمَلُ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، وَهُوَ أَبْرَأُ لِلذِّمَّةِ، وَأَخْلَصُ مِنْ التَّبَعَاتِ عَاجِلًا وَآجِلًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا التَّفْرِقَةُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنْ كَانَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ بِسَبَبِ الِاقْتِدَاءِ بِفَتْوَى مَنْ وَهَمَ، وَأَلْحَقَ الرِّشْوَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ السُّحْتِ وَالْحَرَامِ بِبَابِ الْجَعَالَةِ، وَإِلْحَاقُهَا بِبَابِ الْجَعَالَةِ لَا يَجُوزُ لِفَقْدِ شُرُوطِ الْجَعَالَةِ فِيهَا إذْ أَنَّ الْجَعَالَةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لَهَا شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ مَعْلُومًا. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَنْقُدَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْجَاعِلِ إلَّا بِتَمَامِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُضْرَبُ لِلْعَمَلِ الْمَجْعُولِ فِيهِ أَجَلٌ، فَمَتَى انْخَرَمَ أَحَدُ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَمْ تَجُزْ، وَقَدْ فُقِدَ فِي الرِّشْوَةِ أَكْثَرُ هَذِهِ الشُّرُوطِ. وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنْ الِاتِّبَاعِ يَزِلُّ الزَّلَّةَ فَتُحْمَلُ عَنْهُ فِي الْآفَاقِ، وَقَالَ آخَرُ: زَلَّةُ الْعَالِمِ مِثْلُ انْكِسَارِ السَّفِينَةِ تَغْرَقُ، وَتُغْرِقُ الْخَلْقَ انْتَهَى. وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ: إنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْآخِذِ لِلرِّشْوَةِ لَيْسَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ قَدْ تَسَبَّبَ فِي وُقُوعِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي هَذَا الْمُحَرَّمِ فَصَارَ شَرِيكًا لَهُ فِي إثْمِ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الظَّلَمَةَ يُحْشَرُونَ وَأَعْوَانَهُمْ، حَتَّى مَنْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةً، فَإِذَا كَانَ مَنْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةً يُحْشَرُ مَعَهُمْ، فَمَا بَالُك بِمَنْ أَخَذَ مَالًا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ عَلَى شَيْءٍ هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَنْفَعَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ شَفَعَ لِأَحَدٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا» ، وَمِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ لِلْإِمَامِ

فصل في العدالة

أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ ظُفْرٍ الْحَمَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْله تَعَالَى {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]-: قَالَ الْحَسَنُ: هُمْ حُكَّامُ الْيَهُودِ يَسْتَمِعُونَ الْكَذِبَ مِمَّنْ يَأْتِيهِمْ بِرِشْوَةٍ، وَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ: رِشْوَةُ الْحَاكِمِ مِنْ السُّحْتِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ شَفَعَ لِرَجُلٍ لِيَدْفَعَ عَنْهُ مَظْلِمَةً فَأَهْدَى إلَيْهِ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا فَذَلِكَ السُّحْتُ فَقِيلَ: لَهُ كُنَّا نَرَى أَنَّ السُّحْتَ الرِّشْوَةُ فِي الْقَضَاءِ فَقَالَ: ذَلِكَ الْكُفْرُ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ الرِّشْوَةَ فِي الْقَضَاءِ أَكَلَ السُّحْتَ وَكَفَرَ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ لَعَنَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ» فَالرَّائِشُ: هُوَ الَّذِي يُرْشِي الْمُرْتَشِيَ مِنْ مَالِ الرَّاشِي فَيَأْخُذُ لَهُ الرِّشْوَةَ مِنْهُ فَكُلُّ مَالٍ كَسَبَهُ ذُو الْوَجَاهَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ مِنْ ذَوِي الْحَوَائِجِ إلَيْهِ بِجَاهِهِ، فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سُحْتٌ، وَالْقَضَاءُ فِيهِ أَنْ يُرَدَّ إلَى أَصْحَابِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا رَفَعَهُ السُّلْطَانُ إلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هَدَايَا الْعُمَّالِ مِنْ السُّحْتِ» ، وَقَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ انْتَهَى. [فَصْلٌ فِي الْعَدَالَةِ] ِ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْهَرَبِ مِنْ الْمَنَاصِبِ فَمِنْ آكَدِهَا الْهَرَبُ مِنْ الْعَدَالَةِ، وَتَرْكُ التَّشَوُّفِ إلَيْهَا، إذْ أَنَّ الْخَطَرَ فِيهَا أَعْظَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْقَضَاءِ، إذْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَمْرٌ، وَلَا نَهْيٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِشَهَادَتِهِمْ فَكَأَنَّهُ أَسِيرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ بِحَسْبِ مَا قَالُوهُ حَكَمَ، فَهُمْ الْبَاعِثُونَ لَهُ عَلَى الْحُكْمِ، وَأُمُورُهَا مُتَشَعِّبَةٌ مُشْغِلَةٌ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَغَيْرِهِ فِي الْغَالِبِ، حَتَّى إنَّهُ قَدْ يُضَيِّعُ بَعْضُهُمْ لِأَجْلِهَا، وَفِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ أَشْيَاءُ عَدِيدَةٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يُمْكِنُ تَتَبُّعُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَطُولُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ» انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا كُلُّ

مَنْ طَلَبَ الْعَدَالَةَ فَهُوَ قَدْحٌ فِي عَدَالَتِهِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ خُصُوصًا لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْفَظِيعَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ الْقَبَائِحِ إلَّا مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ خَاصًّا بِهَا، بَلْ هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ رَجَعَتْ إلَى بَذْلِ الْمَالِ وَالِاسْتِعَانَةِ مَعَهُ بِمَنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا قَوِيًّا فِي أَنْ يَأْخُذَ الْمَنَاصِبَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَيُحْرَمَهَا مَنْ يَسْتَحِقُّهَا فِي الْغَالِبِ، فَآلَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إلَى أَشْيَاءَ فَظِيعَةٍ مِنْ إبْطَالِ الْأَنْكِحَةِ، وَالْعُقُودِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، إذْ أَنَّ الرَّبْطَ وَالْحَلَّ إنَّمَا هُوَ بِالْعُدُولِ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُدُولِ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَالُهُمْ مَعْلُومٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْحِهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَثُرَتْ شَهَادَاتُ الزُّورِ إذْ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْعَدَالَةَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ أَهْلُهَا لَقَلَّتْ الْمَفَاسِدُ، بَلْ تُعْدَمُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ ذَكَرْت لِبَعْضِ الْمُبَارَكِينَ شَخْصًا، وَأَثْنَيْت عَلَيْهِ عِنْدَهُ، وَقُلْت لَهُ: إنَّ وَالِدَهُ يَطْلُبُ لَهُ الْعَدَالَةَ فَقَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ هُوَ الْآنَ عَدْلٌ كَيْفَ يُجَرِّحُونَهُ، فَقُلْت لَهُ: الْعَدَالَةُ تَجْرِيحٌ فَقَالَ: نَعَمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ تَرْكُ الْعَدَالَةِ هِيَ الْعَدَالَةُ، وَمَا ذَكَرَهُ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى إلَى حَالِ بَعْضِهِمْ فِي الْمَكْتُوبِ إذَا كَتَبَهُ يَطْلُبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَيَتَشَاحُّ فِي ذَلِكَ، وَلِسَانُ الْعِلْمِ يَمْنَعُهُ إذْ أَنَّ الْجَالِسَ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعِ مَرَاتِبَ أَوَّلُهَا، وَهِيَ أَعْلَاهَا: أَنْ يَجْلِسَ لِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّفْرِيجِ عَنْهُمْ، وَإِرْشَادِهِمْ، وَتَصْحِيحِ عُقُودِهِمْ طَالِبًا بِذَلِكَ الثَّوَابَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، وَلَا لِثَنَاءٍ وَغَيْرِهِ، امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» ، فَإِذَا أَعْطَى شَيْئًا تَبَرَّمَ مِنْهُ، وَأَغْلَظَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَهَذَا عَزِيزُ الْوُجُودِ، فَإِنْ وُجِدَ كَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ صَلَاتِهِ النَّافِلَةَ فِي بَيْتِهِ، وَانْقِطَاعِهِ لِلتَّعَبُّدِ، إذْ أَنَّهُ خَيْرٌ مُتَعَدٍّ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُخْتَلَفُ أَنَّ النَّفْعَ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرِ عَلَى الْمَرْءِ نَفْسِهِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ مِنْ الْآفَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِي ذَلِكَ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْلِسَ لِلشَّهَادَةِ

فَإِذَا جَاءَهُ شُغْلٌ أَخَذَ عَلَيْهِ أُجْرَةَ نَسْخِهِ لِلْوَرَقَةِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا، فَإِنْ زَادَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي عِزَّةِ وُجُودِهِ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَدِينَةِ فَاسَ جَالِسًا فِي الْعُدُولِ، وَجَاءَهُ إنْسَانٌ فَكَتَبَ عِنْدَهُ حُجَّةً، وَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَا نَسْتَحِقُّهُ فَقَالَ لَهُ: مَا عِنْدِي غَيْرُ الدِّرْهَمِ فَقَالَ: لَا آخُذُ مَا لَا أَسْتَحِقُّهُ فَقَالَ لَهُ: فَكَمْ نُعْطِيكَ قَالَ: رُبْعُ دِرْهَمٍ قَالَ: مَا عِنْدِي رُبْعٌ قَالَ: هَاتِ أَرْبَعَةً مِنْ الْبِيضِ، ثُمَّ جَاءَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَنَزَلَ مِنْ دُكَّانِهِ لِأَدَائِهَا فَأَعْطَاهُ شَيْئًا فَانْتَهَرَهُ، وَزَجَرَهُ قَالَ: تُطْعِمُونَ النَّاسَ الْحَرَامَ، وَمَعَ هَذَا الْحَالِ مِنْ التَّحَرُّزِ وَالِاحْتِيَاطِ لِدِينِهِ تَبَرَّمَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ، وَانْعَزَلَ فِي الْبَيْتِ فَعَلَى مِنْوَالِهِ فَانْسِجْ إنْ أَرَدْت الْخَلَاصَ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْلِسَ فَإِذَا جَاءَهُ شُغْلٌ عَمِلَهُ، وَلَا يَطْلُبُ عَلَيْهِ شَيْئًا فَإِنْ أَعْطَاهُ قَلِيلًا رَضِيَ بِهِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ كَثِيرًا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ لَمْ يَرُدَّهُ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَدْنَى مِنْ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ مَعَ كَوْنِهَا جَائِزَةً شَرْعًا، وَقَدْ قَلَّ وُجُودُهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ. الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مَا يَتَعَاطَوْنَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا، وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ الشَّاهِدُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَيَمْنَعَ الْحُجَّةَ لِأَجْلِهِ، حَتَّى يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَدَّى الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَتْرُكَ بَعْضُ النَّاسِ الْإِشْهَادَ عَلَى حُقُوقِهِ لِأَجْلِ الْإِجْحَافِ بِهِ، وَخَوْفًا مِنْ إعَانَتِهِمْ عَلَى أَكْلِ الْحَرَامِ، وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إذَا طُلِبَ مِنْ بَعْضِهِمْ، أَوْ أَكْثَرِهِمْ الْيَوْمَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهَا يَتَنَاسَاهَا، كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا، حَتَّى إذَا أُعْطِيَ شَيْئًا تَذَكَّرَهَا إذْ ذَاكَ مِنْ غَيْرِ ارْتِيَابٍ سِيَّمَا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ فِيهَا فِعْلًا قَبِيحًا، وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ الصَّدَاقَ عِنْدَهُ، فَإِذَا طُلِبَ مِنْهُ يَقُولُ: حَتَّى أُفَتِّشَ فَلَا يَزَالُ يُمَاطِلُ حَتَّى إذَا اُضْطُرَّتْ الْمَرْأَةُ إلَيْهِ بِمَوْتِ زَوْجِهَا، أَوْ طَلَاقِهِ إيَّاهَا، أَوْ بِطَلَبِ حَقِّهَا الْمَذْكُورِ فِي صَدَاقِهَا، فَيَطْلُبُ مِنْهَا إذْ ذَاكَ مَا يَخْتَارُهُ، وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةَ الْحَالِ، وَخَشِيَتْ مِنْهُ أَيْضًا إنْ كَانَ الصَّدَاقُ عِنْدَهَا أَنْ تَقْضِيَ مَا تَزِيدُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ

بِالْمُبَارَأَةِ، وَأَفْعَالُهُمْ مِنْ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ أَقْبَحُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَتُنَزَّهُ الْكُتُبُ عَنْ ذِكْرِهَا، وَالْأَقْلَامُ عَنْ كَتْبِهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الْمَرْءُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فَقَدْ بَاعَ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ يُضْطَرُّ طَالِبُ الْعِلْمِ إلَى الْعَدَالَةِ وَالْجُلُوسِ لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ، وَمَا يَعْتَوِرهُ مِنْ الضَّرُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ مِمَّا يُحْوِجُهُ إلَى ذَلِكَ، فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لَا تُسْتَأْكَلُ بِهِ الدُّنْيَا، فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ، فَلَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ اتِّسَاعٌ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَأُمُورُ الدِّينِ وَالْآخِرَةِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا، فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى التَّسَبُّبِ فِي الْعَدَالَةِ، وَالْجُلُوسِ لِمَا ذُكِرَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَهُ، وَيَجْلِسَ بِقَصْدِ أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، فَلَا بَأْسَ إذَنْ، وَيُرْجَى لَهُ أَنَّهُ فِي طَاعَةٍ لِضَرُورَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَضَرُورَتُهُ شَرْعِيَّةٌ. (تَنْبِيهٌ) ، وَلْيَحْذَرْ إذَا جَلَسَ أَنْ يَفْعَلَ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ، وَهُوَ مَا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ، وَذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ السَّرَفِ، وَعَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَتْبَ الصَّدَاقِ فِي خِرْقَةِ الْحَرِيرِ مِنْ بَابِ السَّرَفِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ يَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ، وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ لَكِنْ فِيمَا يَكُونُ لُبْسًا وَتَحَلِّيًا شَرْعِيًّا، وَأَمَّا الصَّدَاقُ فَمِنْ بَابِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلَاءِ، وَالْمُبَاهَاةِ، وَالْمُخَالَفَةِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا كَتْبُهُمْ لِذَلِكَ فِي النَّصَّافِي، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ، وَهَذَا لَيْسَ بِلُبْسٍ، وَالسَّرَفُ فِيهِ مَوْجُودٌ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَهُمْ فِي الرَّقِّ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُبَاحِ اتِّسَاعٌ، ثُمَّ كَذَلِكَ يُحْذَرُ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ سَطْرًا أَوْ سَطْرَيْنِ ثُمَّ يَتْرُكَ بَيَاضًا خَارِجًا عَنْ الْعَادَةِ، فَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَالسَّرَفِ، وَالْخُيَلَاءِ

وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي رَقٍّ، أَوْ، وَرَقٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا مُخَالَفَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَكَانَ فِعْلُهُمْ لِذَلِكَ قَبِيحًا، فَكَيْفَ بِهِ مَعَ مُصَادَمَةِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ السَّرَفِ. (تَنْبِيهٌ آخَرُ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَحْضُرَ كَتْبَ صَدَاقٍ فِي مَوْضِعٍ مَفْرُوشٍ بِحَرِيرٍ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْغَالِبِ، أَوْ يَجْلِسَ عَلَى حَرِيرٍ، أَوْ يَسْتَنِدَ إلَيْهِ، أَوْ إلَى وِسَادَةٍ مُطَرَّزَةٍ بِحَرِيرٍ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ وُسْعِ الطِّرَازِ بِالْحَرِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَدْرُ الَّذِي يُبَاحُ، وَيُتَسَامَحُ فِي إبَاحَتِهِ مِنْ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ تَحْتَ السَّقْفِ الْمُذَهَّبِ، وَمِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا تَمَاثِيلُ، أَوْ صُوَرٌ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْضُرَ الْكَتْبَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ مُنْكَرٌ بَيِّنٌ، أَوْ مَعَ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ جَهْرًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ شُرْبُ خَمْرٍ، أَوْ مَغَانٍ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ حُضُورِهِنَّ بِآلَاتِ الطَّرَبِ، وَكَشْفِ الْوُجُوهِ، وَالْمَعَاصِمِ، أَوْ يَكُونَ ثَمَّ نِسَاءٌ مُتَبَرِّجَاتٌ سَوَاءٌ اخْتَلَطْنَ بِالرِّجَالِ أَمْ لَا. وَكَذَلِكَ لَا يَحْضُرُ مَوْضِعًا فِيهِ مَغَانِي الرِّجَالِ بِالْآلَاتِ الْمَمْنُوعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا دُونَهَا، وَلَا فِي مَكَان تَحْضُرُهُ الشَّيْخَةُ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْخَيْرِ، وَالصَّلَاحِ، وَالْعِلْمِ، أَوْ أَحَدِهَا أَنْ لَا يُجِيبَ إلَى مَوْضِعٍ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ، وَمَا أَشْبَهَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي خَيْرِهِ، وَصَلَاحِهِ، وَعِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَغْيِيرُ ذَلِكَ، وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِ مِنْ التَّغْيِيرِ أَنْ لَا يُجِيبَ لِمَوْضِعٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُعَرِّفَهُ أَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنْ أَجْلِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَمْنُوعٌ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي حَقِّ النَّاسِ كُلِّهِمْ مَمْنُوعًا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ فِي حَقِّ الْعَدْلِ آكَدُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَضَرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَمَا شَاكَلَهُ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ مَفْسَدَتَانِ عَظِيمَتَانِ: إحْدَاهُمَا: وَهِيَ أَشَدُّهُمَا: سُقُوطُ عَدَالَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ بَطَلَتْ الْعُقُودُ الَّتِي يَشْهَدُ فِيهَا إنْ كَانَ النِّصَابُ لَمْ يَكْمُلْ إلَّا بِهِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قُدْوَةٌ فَيَقَعُ الْعَوَامُّ بِسَبَبِ تَعَاطِيهِ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِ جَوَازِهِ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ

سَبَبًا لِلْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ بِزِيَادَةِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَمِّ الشَّرْعِ حَيْثُ قَالَ: «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» انْتَهَى. وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ تَسَاهَلَ فِيهِ أَكْثَرُهُمْ الْيَوْمَ، وَفِيهِ مِنْ الْخَطَرِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. (تَنْبِيهٌ آخَرُ) ، وَكَذَلِكَ يَحْتَرِزُ الشَّاهِدُ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي إمْضَاءِ الْحُكْمِ قَامَ الشُّهُودُ لَهُ إذْ ذَاكَ، وَانْحَنُوا حَتَّى يَقْرُبَ بَعْضُهُمْ مِنْ الرُّكُوعِ الْمَمْنُوعِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكَلَّمُوا مَعَ ذَلِكَ بِأَلْفَاظٍ مُنَمَّقَةٍ مَمْنُوعَةٍ فِي الشَّرْعِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّزْكِيَةِ، وَالتَّمَلُّقِ بِالْبَاطِلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ قَدْحٌ فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَفِيمَنْ رَضِيَ بِهِ، وَكَذَلِكَ يُحْتَرَزُ مِنْ قِيَامِهِ عِنْدَ عُطَاسٍ لِلْقَاضِي، وَمِنْ تَشْمِيتِهِ بِأَلْفَاظِهِمْ الَّتِي اعْتَادُوهَا الْيَوْمَ، وَلَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ. وَقَدْ وَقَعَ بِهَذَا الَّذِي ذُكِرَ التَّنْبِيهُ بِالْأَقَلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَبِالْأَصْغَرِ عَلَى الْأَكْبَرِ، فَلْيَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ مَنْ يَتَنَبَّهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُنَا، وَإِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ بِمُحَمَّدٍ، وَآلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ -. (تَنْبِيهٌ آخَرُ) ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا جَاءَهُ الْخَصْمَانِ لِيَشْهَدَ عَلَيْهِمَا بِتَقْيِيدِ أَلْفَاظِهِمَا، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَهُمَا حِينَ الْمُشَاجَرَةِ، أَوْ الرَّجُلُ وَزَوْجَتُهُ يُرِيدَانِ الْفِرَاقَ أَنْ يَكْسِرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَهْمَا أَمْكَنَهُ، وَيُشِيرَ عَلَيْهِمَا بِالصُّلْحِ جَهْدَهُ، وَيَذْكُرَ لَهُمَا مَا فِي الصُّلْحِ مِنْ الْخَيْرِ، وَالْبَرَكَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] فَلَا يُعْجِلُ الشَّاهِدَ عَلَيْهِمَا بِالشَّهَادَةِ إلَّا بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْ صُلْحِهِمَا، وَيَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ خَيْرٌ لَهُمَا، وَالشَّهَادَةَ أَوْجَبُ عَلَيْهِمَا لِمَا يَرَاهُ مِنْ حَسْمِ بَابِ النِّزَاعِ بَيْنَهُمَا، وَيُخْبِرُهُمَا بِمَا فِي التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ مِنْ الْآثَامِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ الثَّوَابُ

الْجَزِيلُ لِامْتِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ تَرْكُ الِاسْتِشْرَافِ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنْ الْحُطَامِ، وَبِهِ تَحْصُلُ الْبَرَكَةُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ: «إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ» ، وَقَدْ أَدْرَكْت بَعْضَ الشُّهُودِ بِمَدِينَةِ فَاسَ إذَا جَاءَهُمْ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الْمُتَخَاصِمَيْنِ لَا يُعْجِلُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِشْهَادِ حَتَّى يَيْأَسُوا مِنْ صُلْحِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَبَبٌ غَيْرَ مَا هُمْ فِيهِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ كَانَ حَالُهُمْ أَجْمَلَ حَالٍ فِي الْيَسَارِ وَالسَّعَةِ، فَظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ بَرَكَاتُ الِامْتِثَالِ لِمَا قَالَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ إذْ الْبَرَكَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَإِذَا حَصَلَتْ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الْأَسْبَابِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَلِأَجْلِ تَرْكِ النَّظَرِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثُرَتْ الْيَوْمَ الْأَشْغَالُ وَالشَّهَادَاتُ، وَامْتَحَقَتْ الْبَرَكَاتُ سِيَّمَا إنْ حَصَلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي التَّحْلِيلِ، فَإِنَّهَا كَالتِّرْيَاقِ الْمُجَرَّبِ قَدْ عُلِمَتْ بِالْعَادَةِ الْمَاضِيَةِ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَتَعَانَّاهُ مِنْ الزَّوْجَيْنِ، وَالْوَلِيِّ، وَالشُّهُودِ سُلِّطَ عَلَيْهِ الْفَقْرُ، وَلِأَجْلِ هَذَا تَجِدُ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَحْصُلُ لَهُ فِي الْيَوْمِ جُمْلَةً مِنْ الْفِضَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ حَالُهُ ضَيِّقٌ، وَتَجِدُ عَلَيْهِ الدَّيْنَ، وَيَشْتَكِي بِالْفَقْرِ، وَالْفَاقَةِ الْكَثِيرَةِ، وَهَذَا حَالُ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ الِاسْتِشْرَافُ كَمَا تَقَدَّمَ ذَمُّهُ فِي الْحَدِيثِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الشَّاهِدَ إذَا فَعَلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ يَقِلُّ عَلَيْهِ الشُّغْلُ، وَقَدْ يَنْعَدِمُ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ فَيَضِيعُ حَالُهُ، وَحَالُ عِيَالِهِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الشُّغْلَ الْقَلِيلَ مَعَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ أَبْرَكُ مِنْ الْكَثِيرِ مَعَ مُخَالَفَتِهَا، بَلْ مَا مَعَ الْمُخَالَفَةِ بَرَكَةٌ أَصْلًا، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» انْتَهَى. فَأَرْشَدَ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا فِيهِ صَلَاحُ أُمَّتِهِ دِينًا وَدُنْيَا، فَمَنْ حَاوَلَ الرَّاحَةَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ رَامَ شَطَطًا، وَتَعِبَ، وَأَتْعَبَ فَلْيَحْذَرْ الْعَاقِلُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَإِنَّهُ خَطِيرٌ ثُمَّ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَنْ الْأَشْغَالِ الْكَثِيرَةِ

فصل في آداب العالم والمتعلم في بيته مع أهله

يَحْصُلُ لَهُ الْبَرَكَةُ، وَفَرَاغُ السِّرِّ، وَقَدْ يَجِدُ السَّبِيلَ إلَى الْمُطَالَعَةِ وَالدَّرْسِ، وَهُوَ فِي دُكَّانِهِ بِخِلَافِ حَالِهِ مَعَ كَثْرَةِ الْأَشْغَالِ الْمَكْرُوهَةِ شَرْعًا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَمْتَحِقُ مِنْهَا، وَيَتَعَوَّقُ بِهَا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَأَزْكَاهَا، وَأَبْرَكُهَا فَلْيَشُدَّ عَلَى ذَلِكَ يَدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَبَرْكُ مِمَّا هُوَ فِيهِ أَلَا تَرَى إلَى مَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي خَرَّجَهُ صَاحِبُ الْحِلْيَةِ، وَصَحَّحَهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَضْلِ الْعِلْمِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى حَامِلِهِ، وَبَرَكَتِهِ، وَالتَّنْوِيهِ بِقَدْرِهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ حَسَنَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ» ؛ لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ سَبِيلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالْأُنْسُ فِي الْوَحْشَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ، وَالْمُعِينُ عَلَى الضَّرَّاءِ، وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالزَّيْنُ عِنْدَ الْأَخِلَّاءِ يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً تُقْتَفَى آثَارُهُمْ، وَيُقْتَدَى بِأَفْعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إلَى رَأْيِهِمْ تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ الطَّيْرِ، وَأَنْعَامُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنْ الْجَهْلِ، وَمِصْبَاحُ الْأَبْصَارِ مِنْ الظُّلْمَةِ بِالْعِلْمِ تُبْلَغُ مَنَازِلُ الْأَخْيَارِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامَ، وَمُدَارَسَتُهُ الْقِيَامَ، وَبِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَيُعْرَفُ الْحَلَالُ، وَالْحَرَامُ الْعِلْمُ إمَامٌ، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءُ. [فَصْلٌ فِي آدَابِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ] ِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِي، فَإِذَا فَعَلَتْ زَوْجَةُ أَحَدِهِمَا شَيْئًا نُسِبَ ذَلِكَ لِلشَّرْعِ، وَصَارَ حُجَّةً فِي الدِّينِ غَالِبًا، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى تَصَرُّفِ أَهْلِهِ كَمَا يَتَحَفَّظُ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَنَّهُ قَالَ: «النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» ) يَعْنِي فِي امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي النُّعُوتِ مِنْ الذَّمِّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَمَا فِي قِيَامِ الرِّجَالِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِنْ الذَّمِّ، وَقِيَامُ الْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ أَشْنَعُ إذْ أَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَحَرَكَتُهَا زِيَادَةٌ فِي ظُهُورِ الْعَوْرَةِ؛ لِأَنَّ فِي قِيَامِهَا يُرَى مِنْهَا مَا لَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى رُؤْيَتِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْقِيَامَ فِي حَقِّهَا أَشَدُّ مِنْ قِيَامِ الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا لَهُ إلَّا فِيمَا اُسْتُثْنِيَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُفَاحِشَهَا، وَقَدْ مَنَعَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَالِمِ، وَالْمُتَعَلِّمِ فَكَيْفَ بِهِ فِي حَقِّهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا قُدْوَةٌ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ انْتَهَى. وَلَهُ فِي الِانْبِسَاطِ بِمَا يَجُوزُ شَرْعًا اتِّسَاعٌ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى غَيْرِهِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ تَتَزَيَّنَ زَوْجَتُهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي غَيْرِ مَا أُبِيحَ لَهَا، إذْ أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا أَجَازَ لَهُنَّ لِبَاسَ الْحَرِيرِ، وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ عَلَى أَبْدَانِهِنَّ، إذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا تَتَّخِذُ الْمُكْحُلَةَ، أَوْ الْمِيلَ، أَوْ الْمِرْآةَ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ؛ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزِينَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهَا مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَعِيرَةٌ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَدْخُلُ عَلَى زَوْجِهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا بِثَلَاثِ دِكَكٍ دِكَّةِ فِضَّةٍ، وَدِكَّتَيْ نُحَاسٍ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَعْنِي مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِضَّةً إذْ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي اتِّخَاذِ الْإِنَاءِ الصَّغِيرِ لِلْمَرْأَةِ لَكِنَّهُ قَوْلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ آثِمٌ فِي فِعْلِهِ، وَادِّخَارِهِ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ تَمْضِي عَلَيْهِ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ الْوَلِيِّ أَنْ يَمْنَعَ مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ مِنْ تَزْيِينِهِنَّ لِلْحَوَاجِبِ بِمَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ، سِيَّمَا إنْ كَانَ نَجِسًا إذْ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا النَّقْشُ، وَالتَّكْتِيبُ فَلَا شَكَّ فِي مَنْعِهِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ، وَحَائِلٌ، وَيَزِيدُ عَلَى مَا ذُكِرَ بِكَشْفِ الْعَوْرَةِ لِأَجْلِهِ إذْ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّهَا، وَاخْتُلِفَ فِي حَالِهَا مَعَ النِّسَاءِ مِثْلِهَا مِنْ الْمُسْلِمَاتِ فَقِيلَ:

كَالرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَقِيلَ: كَالرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ، وَفِيهِ مِنْ التَّشْوِيهِ أَعْنِي فِي النَّقْشِ وَالتَّكْتِيبِ، أَنَّهُنَّ يُغَيِّرْنَ بِهِ الْبَدَنَ، وَيُكْسِبُهُ ذَلِكَ خُشُونَةً، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَغِّصُ عَلَى الرَّجُلِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ، وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى وُقُوعِ الْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ غَفَلَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ نَفْسِهَا قَلِيلًا بَقِيَ بَدَنُهَا كَأَنَّهُ ضُرِبَ بِالسِّيَاطِ. وَالْغَالِبُ أَنَّ بَدَنَهَا يُدْمِي فَتَزِيدُ النَّجَاسَةُ، وَيَكْثُرُ ضِدُّ مُرَادِ صَاحِبِ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّبَاعُدِ عَنْهَا، وَأَمَّا هِيَ فَالْغَالِبُ أَنَّهَا تُقَاسِي مِنْ ذَلِكَ شِدَّةً حَتَّى تَبْرَأَ، فَإِذَا بَرِئَتْ بَقِيَ أَثَرُهُ فِي بَدَنِهَا حُفَرًا حُفَرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَوِيًا صَحِيحًا سَالِمًا مِنْ الْعُيُوبِ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُ النِّسَاءِ فِي الْغَالِبِ، وَهِيَ أَنَّهَا إذَا أَرَادَتْ الْخُرُوجَ لَبِسَتْ أَحْسَنَ ثِيَابِهَا، وَتَزَيَّنَتْ، وَتَعَطَّرَتْ، وَلَبِسَتْ مِنْ الْحُلِيِّ مَا قَدَرَتْ عَلَيْهِ مِنْ سِوَارٍ، وَخَلْخَالٍ، وَتُضِيفُ إلَى ذَلِكَ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا، وَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ الْخَلْخَالَ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ لِكَيْ يَظْهَرَ، وَقَدْ تَضْرِبُ بِرِجْلِهَا فِي الْغَالِبِ فَيُسْمَعُ لَهُ حِسٌّ. وَهَذَا خِلَافُ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] ، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلْنَهُ مِنْ لُبْسِ هَذَا الْإِزَارِ الرَّفِيعِ الَّذِي لَوْ عُمِلَ عَلَى عُودٍ لَأَفْتَنَ بَعْضَ الرِّجَالِ فِي الْغَالِبِ لِحُسْنِ مَنْظَرِهِ، وَصِقَالَتِهِ، وَرِقَّةِ قُمَاشِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ إذَا أَرَادَتْ الْخُرُوجَ أَنْ تَلْبَسَ حَشَفَ ثِيَابِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَالسُّنَّةُ فِي حَقِّهَا أَنْ تَجُرَّ مِرْطَهَا خَلْفَهَا نَحْوًا مِنْ شِبْرٍ إلَى ذِرَاعٍ، وَأَنْ تَمْشِيَ مَعَ الْجُدْرَانِ، وَتَتْرُكَ وَسَطَ الطَّرِيقِ، وَهَذَا فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْعَالِمِ، وَالْمُتَعَلِّمِ فَيَجِلُّ حَالُهُمَا أَنْ يَرْضَيَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ فَإِذَا رَأَى أَحَدٌ زَوْجَةَ الْعَالِمِ، أَوْ الْمُتَعَلِّمِ تَعْمَلُ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ يَنْسُبُ ذَلِكَ إلَى الشَّرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، فَكَيْفَ تُنْسَبُ إلَى مَنْ لَهُ عِلْمٌ مَعَاذَ اللَّهِ؟ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا ثَلَاثُ خَرْجَاتٍ فَإِنْ كَانَ، وَلَا بُدَّ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثِ فَلْيَكُنْ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ لِسَانِ الشَّرْعِ

فِي ذَلِكَ. وَيُعَلِّمُهَا السُّنَّةَ فِي الْخُرُوجِ، وَفِي الْإِقَامَةِ فِي بَيْتِهَا إذْ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي بَيْتِهَا فَيُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا تَفْعَلُهُ فِي خُرُوجِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ» ، وَمِنْ حُسْنِ التَّبَعُّلِ التَّزَيُّنُ وَالتَّحَلِّي، وَالتَّعَطُّرُ فِي بَيْتِهَا لِزَوْجِهَا مَعَ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّأَنِّي لَهُ، وَلَهَا فِي ذَلِكَ أُسْوَةٌ بِالسَّلَفِ، وَالْخَلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وَكَذَلِكَ يُحْذَرُ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَنَامُونَ فِي ثِيَابِهِمْ، وَالسُّنَّةُ الْفِرَاشُ، وَالتَّجْرِيدُ مِنْ الثِّيَابِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْأَرْبَعِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْرِيدِ وَالْفِرَاشِ، وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهَا قَامَتْ مِنْ فِرَاشِهَا قَالَتْ: فَجَعَلْت دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْت، وَتَقَنَّعْت إزَارِي إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَانِي حِينَ رَأَيْت فَنَادَانِي فَأَخْفَيْته مِنْك، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْك، وَقَدْ وَضَعْت ثِيَابَك» ، وَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ، وَهِيَ قَبِيحَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الزَّوْجَةَ إذَا جَاءَتْ إلَى الْفِرَاشِ تَأْخُذُ شَيْئًا يُعْطِيهِ لَهَا زَوْجُهَا فِي الْغَالِبِ غَيْرَ نَفَقَتِهَا بِحَسْبِ حَالِهِ، وَحَالِهَا لِحَقِّ الْفِرَاشِ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ، وَهَذَا مُنْكَرٌ بَيِّنٌ، وَقَدْ وَقَعَ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ يُعْطِي فِضَّةً عِنْدَ حَلِّ السَّرَاوِيلِ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءَ فَقَالُوا: هُوَ شَبِيهٌ بِالزِّنَا، وَمَنَعُوهُ، وَهَذَا إنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ فَمَا بَالُك بِهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى بَلْ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ يَغْفُلُ عَنْ زَوْجَتِهِ فِي الْغَالِبِ، وَلَا يَسْأَلُهَا عَنْ صَلَاتِهَا، وَلَا عَمَّا يَلْزَمُهَا فِي الشَّرْعِ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ، فَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ صَلَاتِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ أَهْلِهِ، وَالْغَالِبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ: أَنَّ الرَّجُلَ يُرَاعِي حَقَّ نَفْسِهِ إذَا كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ بِدِينِهِ فَيَطَأُ، وَيَخْرُجُ إلَى الْحَمَّامِ، وَيَتْرُكُ أَهْلَهُ، وَهُنَّ جُنُبٌ، وَلَيْسَ عِنْدَهُنَّ مَوْضِعٌ لِلْغُسْلِ، وَلَا آلَةٌ تُعِينُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَسْتَحِي بَعْضُهُنَّ، وَهُوَ

الْغَالِبُ أَنْ يَخْرُجْنَ إلَى الْحَمَّامِ فِي كُلِّ أَوَانٍ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بَرِيءُ الذِّمَّةِ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهِ فِي تَرْكِهِنَّ الصَّلَاةَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَمَرَهُنَّ بِهَا فَأَمْرٌ مُطْلَقٌ إذْ لَا يُفَكِّرُ لَهُنَّ فِي تَحْصِيلِ الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ تَلْحَقُهُنَّ، وَالْغَالِبُ أَنَّ تَرْكَ صَلَاةِ الزَّوْجَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَتِهَا، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الْغَالِبِ أَعْنِي الْغَفْلَةَ عَنْهَا، وَإِيثَارَهَا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهَا فِي الْبَيْتِ مَا يُمْكِنُهَا الْغُسْلُ فِيهِ لَكِنْ تَسْتَحِي مِنْ الْعَائِلَةِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ أَنْ تَغْتَسِلَ، وَهُمْ يَشْعُرُونَ بِهَا فَتَتْرُكَ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَلَا حَيَاءَ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَوَائِدُ جَرَتْ، وَاسْتَحْكَمَتْ، وَصَارَ يُسْتَحَى فِي الْغَالِبِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَلَا يُسْتَحَى مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. وَالْعَجَبُ مِنْ أَكْثَرِهِمْ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَشْتَرِي الدَّارَ بِالْأَلْفِ، أَوْ يَبْنِيهَا ابْتِدَاءً ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِي طَسْتٍ، وَلَا يَعْمَلُ مَوْضِعًا لِلْوُضُوءِ فَضْلًا عَنْ مَوْضِعِ الْغُسْلِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَجْلِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الْمُسْتَهْجَنَةِ الْقَبِيحَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا فِكْرَةَ لَهُمْ فِي الْغَالِبِ إلَّا فِي صَلَاحِ دُنْيَاهُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَلَا يُفَكِّرُونَ فِيهِ حَتَّى يَفْجَأَهُمْ إنْ كَانُوا مُتَّقِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنْ أَصَابَتْ الْجَنَابَةُ بَعْضَ الْمُتَحَفِّظِينَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ خَرَجَ إلَى الْحَمَّامِ، وَتَرَكَ أَهْلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي الْحَمَّامِ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَشْيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ. وَكَذَلِكَ تَجِدُ بَعْضَهُمْ يُعْطِي فِي صَدَاقِ الْمَرْأَةِ الْمِئِينَ، أَوْ الْآلَافَ، وَلَا يُعِدُّ مَوْضِعًا لِلْغُسْلِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُسَاعِدُهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُمْ اصْطَلَحُوا عَلَى فِعْلِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُتْرَكُ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهَا، وَالصَّلَاةُ لَا تَسْقُطُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا جَرَمَ أَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَهُمَا قَلَّ أَنْ يَقَعَ، وَإِنْ دَامَتْ الْأُلْفَةُ بَيْنَهُمَا فَعَلَى دَخَنٍ، وَإِنْ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا مَوْلُودٌ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ إنْ نَشَأَ الْعُقُوقُ، وَارْتِكَابُ مَا لَا يَنْبَغِي كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَرْكِ مُرَاعَاةِ مَا يَجِبُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمَا مَعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ طَلَبَتْ مِنْ الْقَاضِي

أَنْ يَجْعَلَ لَهَا زَوْجُهَا مَوْضِعًا لِلْغُسْلِ لَحَكَمَ لَهَا بِذَلِكَ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ الْغُسْلِ مِنْ مَاءِ الْحَمَّامِ فَقِيلَ لَهُ: أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك الْغُسْلُ مِنْ مَاءِ الْحَمَّامِ، أَوْ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا دُخُولُ الْحَمَّامِ بِصَوَابٍ، فَكَيْفَ يُغْتَسَلُ مِنْ مَائِهِ فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ غُسْلَهُمْ كَانَ فِي بُيُوتِهِمْ، بَلْ إنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحَمَّامَ أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا: الْحَمَّامَاتُ فَلَا يَدْخُلُهَا الرِّجَالُ إلَّا بِإِزَارٍ، وَامْنَعُوا مِنْهَا النِّسَاءَ إلَّا مَرِيضَةً، أَوْ نُفَسَاءَ» ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ قَالَتْ: ثُمَّ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ أَنْ يَدْخُلُوهُ بِالْمِئْزَرِ» ، وَقَالَ: (دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ نِسْوَةٌ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَتْ: لَعَلَّكُنَّ مِنْ الْكُورَةِ الَّتِي يَدْخُلُ نِسَاؤُهَا الْحَمَّامَاتِ قُلْنَ: نَعَمْ قَالَتْ: أَمَا إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ امْرَأَةٍ تَخْلَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِهَا إلَّا هَتَكَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حِجَابٍ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إزَارٍ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلُ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَثِيرًا مَا يُحَافِظُ عَلَى مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ إذَا عَزَمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَقِدِينَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ سَأَلَهُ هَلْ عِنْدَك حَمَّامٌ فِي بَيْتِك أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ مَضَى إلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: لَا امْتَنَعَ مِنْ الْمُضِيِّ إلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى تَيْسِيرِ الطَّهَارَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ عَرَفَهُ فِي الْغَالِبِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْقُرَشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا يَسَّرَ عَلَيْهِ أَسْبَابَ الطَّهَارَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ

فصل في دخول المرأة الحمام

كَانَ فِي بَيْتِهِ مَوْضِعٌ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فَقَدْ تَيَسَّرَتْ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ التَّيْسِيرِ لَهَا [فَصْلٌ فِي دُخُولِ الْمَرْأَةِ الْحَمَّامَ] َ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْذَنَ لِزَوْجَتِهِ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ؟ أَوْ حُكْمُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، أَوْ حُكْمُ الرَّجُلِ مَعَ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ، وَهُنَّ قَدْ تَرَكْنَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَخَرَقْنَ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ بِدُخُولِهِنَّ الْحَمَّامَاتِ بَادِيَاتِ الْعَوْرَاتِ، وَإِنْ قَدَّرْنَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُنَّ سَتَرَتْ مِنْ سُرَّتِهَا إلَى رُكْبَتِهَا عِبْنَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَأَسْمَعْنَهَا مِنْ الْكَلَامِ مَا لَا يَنْبَغِي حَتَّى تُزِيلَ السُّتْرَةَ عَنْهَا، ثُمَّ يَنْضَافَ إلَى ذَلِكَ مُحَرَّمٌ آخَرُ: هُوَ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ، وَالنَّصْرَانِيَّة لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَرَى بَدَنَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَهُنَّ يَجْتَمِعْنَ فِي الْحَمَّامَاتِ مُسْلِمَاتٍ، وَنَصْرَانِيَّاتٍ، وَيَهُودِيَّاتٍ فَيَكْشِفُ بَعْضُهُنَّ عَلَى عَوْرَاتِ بَعْضٍ، فَكَيْفَ يَأْذَنُ أَحَدٌ أَهْلَهُ فِي دُخُولِهَا، فَإِنْ قَالَ: إنَّهُ يَأْخُذُ لِأَهْلِهِ الْخَلْوَةَ فَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَفَاسِدِ لَا تُذْهِبُهُ الْخَلْوَةُ إذْ أَنَّهُنَّ حِينَ الدُّخُولِ فِيهَا، وَالْخُرُوجِ مِنْهَا، وَالْجُلُوسِ فِي الْمَقْطَعِ يَكْشِفْنَ عَلَى عَوْرَاتِ غَيْرِهِنَّ، وَيُكْشَفُ عَلَيْهِنَّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْخَلْوَةُ خَارِجَةً عَنْ الْحَمَّامِ، فَكَأَنَّهَا حَمَّامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، فَهَذَا جَائِزٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ دَخَلَ يَسْتَتِرُ السُّتْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ. وَلَا يُمَكِّنُ الْبَلَّانَةَ مِنْ الدُّخُولِ عَلَى أَهْلِهِ، وَهِيَ مُنْكَشِفَةٌ حَتَّى تَسْتَتِرَ السُّتْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ، فَهَذَا لِلضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْلَى لِأَهْلِهِ الْحَمَّامَ بِلَيْلٍ، وَاسْتَتَرْنَ، فَلَا بَأْسَ إذَنْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْخَلْوَةِ، لَكِنْ لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا، إذْ أَنَّ الْغُسْلَ فِي الْبَيْتِ فِيهِ سَتْرٌ حَصِينٌ، وَسَدٌّ لَبَاب الذَّرِيعَةِ إلَى الْمَفَاسِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ إذَا أَرَادَتْ الْحَمَّامَ اسْتَصْحَبَتْ مَعَهَا

أَفْخَرَ ثِيَابِهَا، وَأَنْفَسَ حُلِيِّهَا فَتَلْبَسُهُ حِينَ فَرَاغِهَا مِنْ الْغُسْلِ فِي الْحَمَّامِ حَتَّى يَرَاهَا غَيْرُهَا فَتَقَعُ بِذَلِكَ الْمُفَاخَرَةُ، وَالْمُبَاهَاةُ، وَقَلَّ أَنْ تَقْنَعَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَرَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ زَوْجِهَا إلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ، أَوْ مَا يُقَارِبُهُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ لِزَوْجِهَا قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَتَنْشَأُ الْمَفَاسِدُ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفِرَاقِ، أَوْ الْإِقَامَةِ عَلَى شَنَآنٍ بَيْنَهُمَا لِطُولِ الْمُدَّةِ. هَذَا حَالُ غَالِبِهِنَّ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَقْصُودِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي الْأُلْفَةِ، وَالْوُدِّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] ، وَفِي دُخُولِ الْحَمَّامِ مَفَاسِدُ جُمْلَةً، وَفِيمَا ذُكِرَ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ بَاقِيهَا، وَهِيَ بَيِّنَةٌ عِنْدَ الْمُتَأَمِّلِ إنْ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فَيَتَبَيَّنُ لَهُ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ فَإِنْ قَالَ مَثَلًا: الْغُسْلُ فِي الْبَيْتِ يَصْعُبُ عَلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ أَنْفَقَ فِي خَلْوَةٍ يَعْمَلُهَا فِي الْبَيْتِ مِنْ بَعْضِ مَا يُعْطِي مِنْ الصَّدَاقِ أَوْ مِنْ ثَمَنِ الْمِلْكِ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الثُّلْمَةُ، فَلَوْ قَالَ أَيْضًا: إنَّ الْغُسْلَ فِي الْبَيْتِ لَا يَكُونُ كَالْحَمَّامِ سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْبَرْدِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَيَّامَ الْبَرْدِ يُمْكِنُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْتَغْنِيَ فِيهَا عَنْ الْغُسْلِ بِالسِّدْرِ، وَمَا شَاكَلَهُ، إذْ أَنَّ أَيَّامَ الْبَرْدِ لَا يَجْتَمِعُ فِيهَا الْوَسَخُ وَلَا الْغُبَارُ كَثِيرًا، فَإِذَا فَرَغَتْ أَيَّامُ الْبَرْدِ كَانَ الْغُسْلُ فِي الْبَيْتِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُهَيَّأِ لَهُ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَيَكْفِيهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَنَّهَا تَغْتَسِلُ مِنْ الْحَيْضِ كَمَا تَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعَلِّمَ زَوْجَتَهُ سُرْعَةَ الْغُسْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ آمَنُ مِمَّا يُتَوَقَّعُ مِنْ الضَّرَرِ بِهَا، وَذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ أَلَا تَرَى إلَى مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ يَوْمًا فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَهُ، وَخَرَجَ، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ» فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى سُرْعَةِ غُسْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَرْحَمُ الْخَلْقِ بِأُمَّتِهِ، وَأَشْفَقُهُمْ عَلَيْهَا، فَلَوْ كَانَ زَمَانُ الْغُسْلِ فِيهِ طُولٌ لَأَمَرَهُمْ بِالْجُلُوسِ حِينَ ذَكَرَ سِيَّمَا، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ الضَّعِيفُ، وَالشَّيْخُ

الْكَبِيرُ، وَلَنَا فِي فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ. وَكَذَلِكَ يُعَلِّمُهَا إذَا اغْتَسَلَتْ فِي الْبَيْتِ أَنْ تَتْرُكَ رَأْسَهَا مُغَطًّى لَا تَكْشِفُهُ حَتَّى إذَا جَاءَتْ إلَى غَسْلِهِ كَشَفَتْهُ، وَخَلَّلَتْ شَعْرَ رَأْسِهَا، وَأَفَاضَتْ الْمَاءَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَشَّفَتْهُ فِي الْوَقْتِ، وَغَطَّتْهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغْسِلُ سَائِرَ بَدَنِهَا، وَإِنَّمَا يَأْمُرُهَا بِذَلِكَ خِيفَةَ أَنْ يُصِيبَهَا فِي رَأْسِهَا أَلَمٌ إنْ تَرَكَتْهُ مَكْشُوفًا حَتَّى تَفْرُغَ مِنْ غُسْلِ جَمِيعِ بَدَنِهَا، وَلَهَا أَنْ تَتْرُكَ رَأْسَهَا مُغَطًّى حَتَّى تَفْرُغَ مِنْ غَسْلِ جَمِيعِ بَدَنِهَا، ثُمَّ تَغْسِلَ رَأْسَهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا تَرْكُ التَّرْتِيبِ فِيهِ، وَهُوَ فِي الْغُسْلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُغْتَسِلُ بِهِ أَلَمٌ فِي رَأْسِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً فَإِنَّهُ يَغْسِلُ جَمِيعَ بَدَنِهِ، وَيَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، فَلَوْ كَانَ يَضُرُّهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ، أَوْ الْخِمَارِ، وَيُجْزِيهِ ذَلِكَ مَا دَامَ بِهِ الْأَذَى، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَلَمُ فِي غَيْرِ رَأْسِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَيَمُّمٌ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْمَعُ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ، وَلَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ لِمَرَضٍ بِهِ، أَوْ جُرْحٍ، أَوْ لِمَا يَخْشَى أَنْ يَنْزِلَ بِهِ مِنْ مَرَضٍ فَلَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَإِنْ طَالَ بِهِ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرْأَةِ إذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا، وَهِيَ فِي سَفَرٍ مَعَ زَوْجِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِمَا لِغُسْلِهِمَا مِنْ الْجَنَابَةِ بَعْدَ غُسْلِهَا مِنْ حَيْضَتِهَا فَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ الْغُسْلِ مِنْ حَيْضَتِهَا، حَتَّى يَكُونَ مَعَهُمَا مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِمَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَطُولَ السَّفَرُ بِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ فَيَجُوزُ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا، وَيَتَيَمَّمَا مِنْ جَنَابَتِهِمَا، وَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ إنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ قَصِيرَةً لَا يَتَضَرَّرُ بِهَا الزَّوْجُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا؛ لِعَجْزِهَا عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ، وَأَضَرَّ ذَلِكَ بِالزَّوْجِ فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الصَّعِيدُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَهُ فَلْيُمِسَّهُ بَدَنَهُ» ، أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْدَمَ الْمَاءَ، أَوْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاَللَّهُ

فصل في تعليم الزوجة أحكام الغسل

الْمُوَفِّقُ، وَهَذَا كُلُّهُ جَارٍ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا فَلَوْ قَالَ مَثَلًا: الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ عَدَمُ الْجِدَةِ، وَالسُّكْنَى بِالْكِرَاءِ، فَلَا يَتَأَتَّى لِأَكْثَرِهِمْ عَمَلُ مَوْضِعٍ فِي الْبَيْتِ لِلِاغْتِسَالِ فِيهِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْبُيُوتِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا خِزَانَةٌ، أَوْ مَوْضِعُ كَنِيفٍ فَيَتَّخِذُهُ لِلْغُسْلِ فَيَجْعَلُ فِيهِ إنَاءً يَقْعُدُ فِيهِ مِثْلَ الْمَاجُورِ وَغَيْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَانَ هَمُّهُ صَلَاحَ دِينِهِ عَمِلَ الْحِيلَةَ فِي صَلَاحِهِ، وَدَرْءِ الْمَفَاسِدَ عَنْهُ، وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصْلٌ فِي تَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ أَحْكَامَ الْغُسْلِ] ِ وَمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَلِي أَمْرَ الْمَرْأَةِ أَنْ يُعَلِّمَهَا أَحْكَامَ الْغُسْلِ، وَمَا يَجِبُ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالسُّنَنِ، وَالْفَضَائِلِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، لَكِنْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى ذِكْرِهِ هُنَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ، وَسُنَنِهِ، وَفَضَائِلِهِ لِتَتِمَّ الْآدَابُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيُعَلِّمَهَا أَنَّ الْغُسْلَ يَجِبُ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ مِنْ الْإِنْزَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِمَاعٌ، وَمِنْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إنْزَالٌ، وَمِنْ دَمِ الْحَيْضِ، وَمِنْ دَمِ النِّفَاسِ، وَفَرَائِضَهُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا فِي الْمَذْهَبِ، وَهِيَ النِّيَّةُ، وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ، وَتَعْمِيمُ الْجَسَدِ بِالْمَاءِ، وَاخْتُلِفَ فِي ثَمَانٍ الْفَوْرُ، وَالتَّدْلِيكُ، وَالْبَدَنُ الطَّاهِرُ، وَنَقْلُ الْمَاءِ، وَإِمْرَارُ الْيَدِ مَعَ الْمَاءِ، وَدَوَامُ النِّيَّةِ، وَالْخُشُوعُ، وَالتَّخْلِيلُ، وَسُنَنَهُ خَمْسٌ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَالِاسْتِنْثَارُ، وَمَسْحُ الصِّمَاخَيْنِ، وَفَضَائِلُهُ تِسْعٌ التَّسْمِيَةُ، وَالسِّوَاكُ، وَالْمَوْضِعُ الطَّاهِرُ، وَالْبُدَاءَةُ بِغَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَالْبُدَاءَةُ بِالْأَعْلَى فَالْأَعْلَى، وَالْبُدَاءَةُ بِالْأَيْمَنِ فَالْأَيْمَنِ، وَالصَّمْتُ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّشَهُّدُ، وَالدُّعَاءُ بَعْدَ الْغُسْلِ . وَاخْتُلِفَ فِي الْخَاتَمِ فِي الْغُسْلِ، وَالْوُضُوءِ هَلْ يُحَرِّكُهُ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى مَا تَحْتَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ضَيِّقًا فَيُحَرِّكَهُ، أَوْ وَاسِعًا فَيَتْرُكَهُ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَسْتَنْجِيَ

وَهُوَ فِي يَدِهِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ إجَازَةُ ذَلِكَ، لَكِنْ هِيَ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ عَنْ آخِرِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْرَجَ عَلَيْهَا، وَلَا يُلْتَفَتَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ إلَى آحَادِ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّعْظِيمِ لِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَانِبِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ عَنْهُ. فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي السِّمَنِ بِحَيْثُ لَا تَصِلُ يَدُهَا إلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتْرُكَ غَيْرَهَا يَغْسِلُ لَهَا ذَلِكَ مِنْ جَارِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكْشِفَ عَلَيْهَا غَيْرُ زَوْجِهَا فَإِنْ أَمْكَنَ زَوْجَهَا أَنْ يَغْسِلَ لَهَا ذَلِكَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَلَهُ الْأَجْرُ فِي ذَلِكَ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَإِنْ أَبَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَاجِبًا، وَتُصَلِّي هِيَ بِالنَّجَاسَةِ، وَلَا يَكْشِفُ عَلَيْهَا أَحَدٌ؛ لِأَنَّ سُتْرَةَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ، وَكَشْفَهَا مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا، وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ إزَالَتَهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ فَارْتِكَابُهُ أَيْسَرُ مِنْ الَّذِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إلَى ذَلِكَ بِيَدِهِ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إنْ قَدَرَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً تَلِي ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنْ تَطَوَّعَتْ الزَّوْجَةُ بِغُسْلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شِرَاءُ الْجَارِيَةِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْشِفَ عَوْرَتَهُ عَلَى غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصَلَاتُهُ بِالنَّجَاسَةِ أَخَفُّ مِنْ كَشْفِ عَوْرَتِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرْأَةِ الْمُبْدَنَةِ أَوْ الرَّجُلِ يَكُونُ مِثْلَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَصِلَانِ إلَيْهِ بِأَيْدِيهِمَا مِنْ ظُهُورِهِمَا إذَا اغْتَسَلَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَّخِذُ خِرْقَةً أَوْ غَيْرَهَا لِيُعَالِجَ ذَلِكَ بِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَغْمُرُهُ بِالْمَاءِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَالرَّابِعُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ . ثُمَّ يُعَلِّمُهَا الشُّرُوطَ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا عَنْهَا الْوُضُوءُ، وَالْغُسْلُ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا التَّيَمُّمُ، وَهِيَ سِتٌّ. أَنْ تَعْدَمَ الْمَاءَ أَوْ

فصل في دخول الرجل الحمام

تَعْدَمَ بَعْضَهُ، أَوْ يَتَعَذَّرَ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِهِ، وَوُجُودِ الْحَدَثِ، وَوُجُودِ الصَّعِيدِ، وَدُخُولِ الْوَقْتِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالصَّلَاةِ. ثُمَّ يُعَلِّمَهَا فَرَائِضَ التَّيَمُّمِ، وَهِيَ خَمْسٌ. النِّيَّةُ، وَالْفَوْرُ، وَالضَّرْبَةُ الْأُولَى بِالْأَرْضِ، وَمَسْحُ الْوَجْهِ، وَمَسْحُ الْيَدَيْنِ إلَى الْكُوعَيْنِ، وَسُنَنُهُ ثَلَاثٌ. الضَّرْبَةُ الثَّانِيَةُ بِالْأَرْضِ، وَالْمَسْحُ مِنْ الْكُوعَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَالتَّرْتِيبُ، وَفَضَائِلُهُ أَرْبَعَةٌ. التَّسْمِيَةُ، وَالسِّوَاكُ، وَالصَّمْتُ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. ، وَيُعَلِّمَهَا مَوَانِعَ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّعْلِيمِ لِأَهْلِهِ لِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَقْبُحُ بِالْمُتَعَلِّمِ أَوْ الْعَالِمِ أَنْ تَسْأَلَ زَوْجَتُهُ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النِّسَاءُ فِي الدِّينِ، فَلَا يَكُونُ عِنْدَهَا عِلْمٌ بِذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُتَعَيِّنًا عَلَيْهَا، فَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ، وَأَرْذَلِهَا إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ [فَصْلٌ فِي دُخُولِ الرَّجُلِ الْحَمَّامَ] ، فَصْلٌ فِي دُخُولِ الرَّجُلِ الْحَمَّامَ وَلْيَحْذَرْ هُوَ أَيْضًا مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ مَهْمَا اسْتَطَاعَ تَرْكَهُ، كَانَ بِهِ عِلَّةٌ أَوْ لَا، بَلْ أَوْجَبُ إذْ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي حَمَّامِ النِّسَاءِ مَوْجُودَةٌ فِي الْغَالِبِ فِي حَمَّامِ الرِّجَالِ، وَإِنْ كَانُوا فِي السُّتْرَةِ أَوْجَدَ مِنْ النِّسَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ اسْتَتَرَ بِالْفُوطَةِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِيهِ نَزَعَهَا، وَبَقِيَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ إلَى الْمَسْلَخِ أَلْقَى مَا عَلَيْهِ، وَبَقِيَ مَكْشُوفًا حَتَّى يَتَنَشَّفَ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَسْتُورُ الْعَوْرَةِ مَعَ مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ تَحْتَ سَقْفٍ، وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فِي مَعْنَى كَرَاهَةِ مَالِكٍ لِلْغُسْلِ مِنْ مَاءِ الْحَمَّامِ ثَلَاثُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ فَيَرَاهَا غَيْرُهُ أَوْ تَنْكَشِفَ عَوْرَةُ غَيْرِهِ فَيَرَاهَا هُوَ، إذْ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ دَخَلَهُ مَعَ النَّاسِ لِقِلَّةِ تَحَفُّظِهِمْ، وَهَذَا إذَا دَخَلَ مُسْتَتِرًا مَعَ مُسْتَتِرِينَ، وَأَمَّا مَنْ دَخَلَ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ أَوْ مَعَ مَنْ لَا يَسْتَتِرُ فَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ

وَمَنْ فَعَلَهُ فَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ، وَقَدْحٌ فِي شَهَادَتِهِ. الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ غَيْرُ مُصَانٍ عَنْ الْأَيْدِي، وَالْغَالِبُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِيهِ مَنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَاتِ مِثْلَ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ مُضَافًا فَتَسْلُبُهُ الطُّهُورِيَّةُ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ يُوقَدُ عَلَيْهِ بِالنَّجَاسَاتِ، وَالْأَقْذَارِ فَقَدْ يَصِيرُ الْمَاءُ مُضَافًا مِنْ دُخَّانِهَا فَتَسْلُبُهُ الطُّهُورِيَّةُ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا حَالُ أَهْلِ وَقْتِنَا فِي الْغَالِبِ، وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ مَسْتُورُ الْعَوْرَةِ مَعَ مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُ الْحَمَّامِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ هُوَ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ، وَيَصُونَ نَظَرَهُ وَسَمْعَهُ، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِاغْتِسَالُ فِي النَّهْرِ، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ ذَلِكَ فِيهِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسَاجِدَ، وَفِيهَا مَا فِيهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَحْمُولٌ عَلَى زَمَنِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَأَمَّا زَمَانُنَا هَذَا فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُجِيزَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ النِّسَاءَ بَادِيَاتُ الْعَوْرَاتِ كُلَّهُنَّ لَيْسَ فِيهِنَّ مَنْ تَسْتَتِرُ، وَالسُّتْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ عَيْبٌ عِنْدَهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَحَمَّامُ الرِّجَالِ قَرِيبٌ مِنْهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَتْرُكَهُ مَا اسْتَطَاعَ جَهْدُهُ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْغُسْلِ فِي النَّهْرِ، وَالدُّخُولِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَفِيهَا مَا فِيهَا، فَغَيْرُ وَارِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا ابْتِدَاءً إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إلَيْهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّ شَاطِئَ النَّهْرِ فِيهِ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ مَا هُوَ مِثْلُ الْحَمَّامِ أَوْ أَعْظَمُ مِنْهُ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ مِنْ كَشْفِ عَوْرَاتِ النَّوَاتِيَّةِ، وَمَنْ يَفْعَلْ كَفِعْلِهِمْ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الْبَرْدِ فَذَلِكَ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ لِوُرُودِ النَّاسِ لِلْغُسْلِ، وَغَيْرِهِ، وَقَلَّ مَنْ يَسْتَتِرُ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ لِمُشَاهَدَتِهِ عِيَانًا، وَمَا أَتَى عَلَى بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَلْفَاظَ الْعُلَمَاءِ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ كُلُّ زَمَانٍ يَخْتَصُّ بِعُرْفِهِ، وَعَادَتِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَكَذَلِكَ يَجْرِي هَذَا الْمَعْنَى فِي الْفَسَاقِي الَّتِي فِي الْمَدَارِسِ، وَالرِّبَاطَاتِ، إذْ أَنَّهَا مَحَلُّ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَجِدُهُ فِي

الْحَمَّامِ فِي الْغَالِبِ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي عَلَى بَابِهِ، وَاَلَّتِي فِي جُدْرَانِهِ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّغْيِيرِ إزَالَةُ رُءُوسِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إنْكَارُ ذَلِكَ، وَالْأَخْذُ عَلَى يَدِ فَاعِلِهِ فَكَيْفَ يَدْخُلُهُ الْعَالِمُ أَوْ الْمُتَعَلِّمُ، وَيَسْكُتَانِ؟ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ، وَهِيَ بَيِّنَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَجَازَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ دُخُولَ الْحَمَّامِ لَكِنْ بِشُرُوطٍ، وَهِيَ: أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا لِلتَّدَاوِي. الثَّانِي: أَنْ يَتَعَمَّدَ أَوْقَاتَ الْخَلْوَةِ، وَقِلَّةِ النَّاسِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ بِإِزَارٍ صَفِيقٍ. الرَّابِعُ: أَنْ يَطْرَحَ بَصَرَهُ إلَى الْأَرْضِ أَوْ يَسْتَقْبِلَ الْحَائِطَ لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى مَحْظُورٍ. الْخَامِسُ: أَنْ يُغَيِّرَ مَا رَأَى مِنْ مُنْكَرٍ بِرِفْقٍ بِأَنْ يَقُولَ: اسْتَتِرْ سَتَرَك اللَّهُ. السَّادِسُ: إنْ دَلَّكَهُ أَحَدٌ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ عَوْرَتِهِ مِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ إلَّا امْرَأَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ. السَّابِعُ: أَنْ يَدْخُلَهُ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ. الثَّامِنُ: أَنْ يَصُبَّ الْمَاءَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ. التَّاسِعُ: إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دُخُولِهِ وَحْدَهُ اتَّفَقَ مَعَ قَوْمٍ يَحْفَظُونَ دِينَهُمْ عَلَى كَرَاهَةٍ فِي ذَلِكَ لِمَا يُخْشَى. الْعَاشِرُ: أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهِ عَذَابَ جَهَنَّمَ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ مَهْمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ بِالْفِعْلِ كَانَ أَوْلَى؛ إذْ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الثُّبُوتِ فِي نَفْسِ الْمُتَعَلِّمِ، وَقَدْ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْتَسِلُ هُوَ وَزَوْجَتُهُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، حَتَّى إنَّهَا لَتَقُولُ دَعْ لِي دَعْ لِي» فَكُلُّ شَيْءٍ يُمْكِنُ تَعَلُّمُهُ بِالْفِعْلِ لِلْمُتَعَلِّمِ، كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ أَثْبَتُ فِي النُّفُوسِ. ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، إذْ أَنَّ مَا ذُكِرَ إنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى سَائِرِ مَا يَعْتَوِرُهُمْ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ فِي الْغَالِبِ يَتَعَلَّمْنَ مِنْهُنَّ الْأَحْكَامَ فِيمَا يَقَعُ لَهُنَّ، فَإِذَا كُنَّ جَاهِلَاتٍ بِمَا يُسْأَلْنَ عَنْهُ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ كَتْمِ الْعِلْمِ. ثُمَّ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ فَهُوَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْبِلًا عَلَى الْعِلْمِ لَا يَسَعُهُ غَيْرُهُ فَيَا حَبَّذَا فَيَشْتَغِلُ بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَلَا يَعْرُجُ عَلَى غَيْرِهِ. كَمَا حُكِيَ عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمَّا أَنْ دَخَلَ مِصْرَ، وَتَأَهَّلَ بِهَا، وَقَعَدَ مَعَ زَوْجَتِهِ سِنِينَ ثُمَّ مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَرَادَ أَهْلُهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا فَقَالَتْ لَهُمْ: إذَا عَزَمْتُمْ فَزَوِّجُونِي عَلَى أَنِّي بِكْرٌ فَقَالُوا لَهَا: كَيْفَ

آداب النوم

وَقَدْ أَقَمْت سِنِينَ مَعَهُ؟ فَقَالَتْ: أَوَّلُ لَيْلَةٍ دَخَلَ عَلَيَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَجَلَسَ يَنْظُرُ فِي كُتُبِهِ، وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ فَقُمْت يَوْمًا، وَلَبِسْت، وَتَزَيَّنْت، وَلَعِبْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ، وَنَظَرَ إلَيَّ، وَتَبَسَّمَ، وَأَخَذَ الْقَلَمَ الَّذِي بِيَدِهِ فَجَرَّهُ عَلَى وَجْهِي، وَأَفْسَدَ بِهِ زِينَتِي، ثُمَّ أَكَبَّ رَأْسَهُ عَلَى كُتُبِهِ لَمْ يَرْفَعْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، حَتَّى انْتَقَلَ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ سُنِّيَّةٌ فَلْيَنْسِجْ عَلَى مِنْوَالِهِ. وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَحْتَاجُ إلَى سِتَّةِ أَشْيَاءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، فَإِنْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ نَقَصَ مِنْ عِلْمِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَهِيَ هِمَّةٌ بَاعِثَةٌ، وَذِهْنٌ ثَاقِبٌ، وَصَبْرٌ، وَجِدَّةٌ، وَشَيْخٌ فَتَّاحٌ، وَعُمْرٌ طَوِيلٌ. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِيحَ فَكَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْوِيَ بِتِلْكَ الِاسْتِرَاحَةِ امْتِثَالَ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ» ، وَيَنْوِي بِذَلِكَ إدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى أَهْلِهِ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِنَّ، وَالتَّحَدُّثِ مَعَهُنَّ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا مَزِيَّةَ لَهُ عَلَيْهِمْ، أَعْنِي بِذَلِكَ فِي بَسْطِهِ لَهُمْ، وَالتَّوَاضُعِ مَعَهُمْ، وَيَنْوِي بِذَلِكَ كُلِّهِ امْتِثَالَ السُّنَّةِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَا يُعَارِضُهُ مُخَالَفَةُ أَمْرٍ، وَلَا ارْتِكَابُ نَهْيٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْزَحُ، وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْفِرَاشَ وَالتَّعَرِّي مِنْ السُّنَّةِ. [آدَاب النوم] ، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَفَرَغَ مِنْ رُكُوعِهِ فِي بَيْتِهِ جَلَسَ يَتَحَدَّثُ مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ إذَا عَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْفِرَاشِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِلنَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ ثُمَّ يَرْكَعَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنَامُ فِيهِ، وَهَذَا مَا لَمْ يُوتِرْ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْتَرَ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوِتْرِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُومَ مِنْ نَوْمِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ رَجَاءَ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، وَإِنْ كَانَ نَائِمًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ» ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ إرَادَتِهِ النَّوْمَ مُحْدِثًا فَلْيَنْوِ بِوُضُوئِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ لِكَيْ يَسْتَبِيحَ بِهِ الصَّلَاةَ اتِّفَاقًا. وَالْحِكْمَةُ فِي وُضُوئِهِ عِنْدَ إرَادَةِ النَّوْمِ هِيَ أَنَّ النَّوْمَ

تَارَةً يَكُونُ مِنْ بَابِ الِاضْطِرَارِ، وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ بَابِ الِاخْتِيَارِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْهُ مَا هُوَ اضْطِرَارٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ اخْتِيَارٌ، وَرَأْسُ مَالِ الْمُؤْمِنِ إنَّمَا هُوَ عُمُرُهُ، فَإِنْ عَمَّرَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ رَبِحَ عُمُرَهُ، وَزَكَا فَشَرَعَ لَهُ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ الْوُضُوءَ عِنْدَ إرَادَةِ النَّوْمِ، لِكَيْ يَخْتَبِرَ بِهِ النَّوْمَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ هُوَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ ضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَهُوَ لَا يُذْهِبُهُ الْوُضُوءُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الِاخْتِيَارِ وَالرَّاحَةِ فَالْوُضُوءُ يُذْهِبُهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ النَّوْمَ هُوَ الْمَوْتُ الْأَصْغَرُ فَشُرِعَ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الطَّهَارَةِ كَالْمَيِّتِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ فِي ذَلِكَ النَّوْمِ فَتُشْرَعُ لَهُ الطَّهَارَةُ لِكَيْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ، وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ النَّوْمَ إذَا وَقَعَ عَقِبَ طَهَارَةٍ اجْتَزَأَ الْمُكَلَّفُ مِنْهُ بِالْقَلِيلِ لِأَجْلِ بَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ فَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ، وَهُوَ عُمُرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ يَقْرَأُ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي كَفَّيْهِ، وَيَنْفُثُ فِيهِمَا، وَيُمَشِّيهِمَا عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ ثُمَّ يَتَعَرَّى كَمَا سَبَقَ، وَيَدْخُلُ فِي فِرَاشِهِ فَيَضْطَجِعُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ بَعْدَ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْأَيْمَنِ، بَلْ نَفْسُ الدُّخُولِ هُوَ الَّذِي يُطْلَبُ فِيهِ التَّيَمُّنَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْتَقِلُ إلَى مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِهِ ضَعْفٌ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْأَيْمَنِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي الدُّخُولِ عَلَى الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ حِينِهِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَيَدْخُلَ عَلَى الْجَنْبِ الْآخَرِ؛ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اشْتَكَى مَرَّةً بِنَزْلَةٍ نَزَلَتْ لَهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَحَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شِدَّةٌ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ إلَى الْفِرَاشِ لِيَضْطَجِعَ صَعُبَ عَلَيْهِ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى الْأَيْسَرِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، ثُمَّ وَقَعَ لَهُ أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ الْمَشَقَّةَ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ لِتَحْصُلَ لَهُ بَرَكَةُ الِامْتِثَالِ ثُمَّ يَنْقَلِبَ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فِي الْوَقْتِ قَالَ: فَاضْطَجَعْت عَلَى الْأَيْمَنِ بِعَزِيمَةٍ فَوَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ هَلْ الْأَلَمُ ارْتَفَعَ قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِي إلَى الْوِسَادَةِ أَوْ بَعْدَ وُصُولِهِ

وَمَا ذَاكَ إلَّا لِبَرَكَةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ إذْ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي شَيْءٍ إلَّا وَحَلَّتْ الْبَرَكَةُ فِيهِ، ثُمَّ يَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ ثُمَّ يُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُكَبِّرُ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَيَجْعَلُ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْيَمِينِ، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى وِرْكِهِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِك اللَّهُمَّ وَضَعْت جَنْبِي وَبِاسْمِك أَرْفَعُهُ اللَّهُمَّ إنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْت نَفْسِي إلَيْك، وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك، وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك، وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك رَهْبَةً مِنْك، وَرَغْبَةً إلَيْك لَا مَلْجَأَ، وَلَا مَنْجَا مِنْك إلَّا إلَيْك، أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت، وَرَسُولِك الَّذِي أَرْسَلْت فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت، وَمَا أَخَّرْت، وَأَسْرَرْت، وَأَعْلَنْت أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك انْتَهَى. ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ اشْفِنِي بِالْقَلِيلِ مِنْ النَّوْمِ، وَاجْعَلْهُ لِي عَوْنًا عَلَى طَاعَتِك، وَيَنْوِي بِنَوْمِهِ الْعَوْنَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا مِنْ طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهِمَا، إذْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْطِ نَفْسَهُ حَظَّهَا مِنْ النَّوْمِ قَلَّ أَنْ يَتَأَتَّى لَهُ مِنْهَا التَّوْفِيَةُ بِالْمَأْمُورَاتِ عَلَى أَنْوَاعِهَا سِيَّمَا، وَهُوَ مَطْلُوبٌ بِالْحُضُورِ فِي الطَّاعَاتِ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ صَلَاةً إذْ الْحُضُورُ مَعَ النَّوْمِ مُتَعَذِّرٌ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ، وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ، لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ» ثُمَّ يُشْعِرُ نَفْسَهُ حِينَ الدُّخُولِ فِي الْفِرَاشِ بِالدُّخُولِ فِي قَبْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ هُوَ الْمَوْتُ الْأَصْغَرُ فَشُرِعَ لَهُ نَوْعٌ مِنْ حَالَةِ الْمَوْتَى، وَهُوَ التَّجْرِيدُ مِنْ ثِيَابِ الْأَحْيَاءِ، وَالدُّخُولُ فِي ثِيَابٍ تُشْبِهُ ثِيَابَ الْمَوْتَى إذْ أَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالْكَفَنِ. فَإِذَا أَشْعَرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ قَلَّ مِنْهُ الِاسْتِغْرَاقُ فِي النَّوْمِ، وَخَافَ الْفَوَاتَ. إذْ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّهُ يُنَوِّرُ الْقَبْرَ؛ لِأَنَّ وَقْتَ اللَّيْلِ شَبِيهٌ بِظُلْمَةِ الْقَبْرِ فَكَانَ الثَّوَابُ مُنَاسِبًا لِقِيَامِهِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَفِي التَّعَرِّي حِكَمٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ يُرِيحُ الْبَدَنَ مِنْ حَرَارَةِ حَرَكَةِ النَّهَارِ، وَيُسَهِّلُ

عَلَيْهِ التَّقْلِيبَ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَفِيهِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى أَهْلِهِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ التَّمَتُّعِ بِالْأَهْلِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَحَلِّ لَيْسَ إلَّا، إذْ أَنَّ الرَّجُلَ ثِيَابُهُ عَلَيْهِ، وَالْمَرْأَةَ مِثْلُهُ، وَفِيهِ التَّوَاضُعُ، وَفِيهِ امْتِثَالُ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ» ، وَالنَّوْمُ فِي الثَّوْبِ هُوَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الَّذِي عُمُرُهُ سَنَةٌ إذَا نَامَ فِيهِ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ قِلَّةُ الدَّوَابِّ، وَفِيهِ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ السُّنَّةِ، وَهِيَ النَّظَافَةُ إذْ أَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي يُنَامُ فِيهِ يَكْثُرُ فِيهِ هَوَامُّ بَدَنِهِ، وَيَتَقَذَّرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فِي النَّوْمِ وَحَالَتِهِ فِيهِ إذْ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ حَاضِرُ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ مُتَكَلِّمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ آمِرٌ نَاهٍ مُدَبِّرٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ، ثُمَّ تَأْتِي عَلَيْهِ عَاهَةُ النَّوْمِ لَا يَشْعُرُ بِهَا مِنْ أَيْنَ أَتَتْهُ، وَلَا يُكَيِّفُهَا فَيَتْرُكُ الْمَلِكُ مُلْكَهُ، وَتَدْبِيرَهُ، وَسِيَاسَتَهُ فِيهِ، وَالْعَالِمُ عِلْمَهُ، وَالْمُحْتَرِفُ حِرْفَتَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي شَيْءٍ، وَعَزَمَ عَلَى فِعْلِهِ تَرَكَهُ قَهْرًا لِأَجْلِ هَذِهِ الْعَاهَةِ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهِ مُجْبَرًا عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ، وَلَا دَفْعِهِ عَنْهُ فَسُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ عِبَادَهُ بِالْمَوْتِ. وَهَذَا مُتَكَرِّرٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَهُوَ الْمُذَكِّرُ بِالْمَوْتِ، وَالدَّالُّ عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] كُلُّ ذَلِكَ تَذْكِرَةٌ، وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَنْظُرُ وَيَعْتَبِرُ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] بَيْنَمَا هُوَ مُسْتَيْقِظٌ مُدَّعٍ لِلْقُوَّةِ، وَالسَّطْوَةِ إذْ أَتَاهُ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَسِيلُ لُعَابُهُ، وَتَنْحَلُّ أَعْضَاؤُهُ، وَيُحْدِثُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِنَفْسِهِ، وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَبْقَى مُثْلَةً إذْ ذَاكَ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ مِنْ الْأَدَبِ فِي النَّوْمِ أَنْ لَا يَنَامَ بَيْنَ مُسْتَيْقِظِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] قَالَ الْعُلَمَاءُ:

فصل في آداب الجماع

- رَحِمَهُمُ اللَّهُ - سَلَّطَ عَلَيْهِمْ النَّوْمَ وَالنِّسْيَانَ ثُمَّ يَتَذَكَّرُ بِهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ إذْ أَنَّ الْيَقِظَةَ فِيهَا حَرَارَةٌ، فَلَوْ تَمَادَتْ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ لَأَهْلَكَتْهَا، سِيَّمَا وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَهُمْ الرَّغْبَةُ فِيمَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنْ طَلَبِ دُنْيَا، وَالْعَمَلِ فِي أَسْبَابِهَا أَوْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ وَكَّلَ الْأَمْرَ إلَيْهِ فِيهِ لَحَرَمَ نَفْسَهُ النَّوْمَ أَلْبَتَّةَ لِقُوَّةِ الْحِرْصِ عَلَى مَا هُوَ بِسَبِيلِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّوْمَ يَأْتِيهِ قَهْرًا رَحْمَةً بِهِ هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهِ حَرَارَةٌ، وَالنَّوْمَ فِيهِ سُكُونٌ، وَبُرُودَةٌ فَيَعْتَدِلُ مِزَاجُهُ بِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] ، وَهَذِهِ مِنْهُ يَقِظَةٌ وَنَوْمٌ حَرَارَةٌ وَبُرُودَةٌ ذَكَرٌ وَأُنْثَى صَحِيحٌ وَمَرِيضٌ طَائِعٌ وَعَاصٍ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ رَحْمَةً لِلْعَبْدِ بِفَضْلِهِ، وَحَرَسَهُ مَعَ ذَلِكَ فِي نَوْمِهِ كَمَا حَفِظَهُ فِي حَالِ يَقَظَتِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73] فَسُبْحَانَ الْمُنْعِمِ الْمَنَّانِ [فَصْلٌ فِي آدَابِ الْجِمَاعِ] فَصْلٌ فِي آدَابّهِ فِي الِاجْتِمَاعِ بِأَهْلِهِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى أَهْلِهِ فَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَهُ أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ غَيْرَ زَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ، إذْ ذَاكَ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى أَهْلِهِ أَخْرَجَ الرَّضِيعَ مِنْ الْبَيْتِ، وَقَدْ قَالُوا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَهِرٌّ فِي الْبَيْتِ، وَذِكْرُ الْهِرِّ مِنْهُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يَكُونُ سَالِمًا مِنْ عَيْنَيْنِ تَنْظُرَانِ إلَيْهِ؛ إذْ أَنَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ، وَالْعَوْرَةُ يَتَعَيَّنُ سَتْرُهَا، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي فِعْلِ ذَلِكَ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَوْ آخِرَهُ لَكِنَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْغُسْلِ يَبْقَى زَمَنُهُ مُتَّسِعًا بِخِلَافِ آخِرِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ قَدْ يَضِيقُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَئُولُ إلَى تَفْوِيتِ الصُّبْحِ

فِي جَمَاعَةٍ أَوْ إلَى إخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ آخِرَ اللَّيْلِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِيهِ كَانَ عَقِيبَ نَوْمٍ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْفَمِ وَالْأَنْفِ شَيْءٌ مِنْ بُخَارِ الْمَعِدَةِ مِمَّا يُغَيِّرُ رَائِحَةَ الْفَمِ أَوْ الْأَنْفِ، فَإِذَا شَمَّهَا أَحَدُهُمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَرَاهَةِ أَحَدِهِمَا فِي صَاحِبِهِ، وَمُرَادُ الشَّارِعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - دَوَامُ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَذَلِكَ يُنَافِيهَا. أَلَا تَرَى إلَى نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا لَيْلًا لِئَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ قَبْلَ أَنْ يَتَأَهَّبْنَ لِلِقَائِهِ، فَنَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ ذَلِكَ لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَدْهُنَ وَتَتَطَيَّبَ وَتَتَأَهَّبَ، فَيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى بَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَالْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ، أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ، وَذَلِكَ لِفَوَائِدَ. أَحَدُهَا: أَنْ يَبْدَأَ بِزِيَارَةِ بَيْتِ رَبِّهِ، وَبِالْخُضُوعِ لَهُ فِيهِ بِالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَمِنْهَا أَنْ يُفَضِّلَ مَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى رَبِّهِ لِيُنَبِّهَ أُمَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَقْدِيمِ مَا هُوَ لِلَّهِ عَلَى مَا لِأَنْفُسِهِمْ فِيهِ حَظٌّ مَا، وَمِنْهَا أَنَّ أَصْحَابَهُ وَمَعَارِفَهُ يَأْخُذُونَ حَظَّهُمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ حِينَ قُدُومِهِ، فَإِذَا فَرَغُوا، وَدَخَلَ بَيْتَهُ " لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَنْ يُحْوِجُهُ إلَى الْخُرُوجِ فِي الْغَالِبِ، وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ أَهْلَهُ يَأْخُذُونَ الْأُهْبَةَ لِلِقَائِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ لِقَاءَ الْأَحِبَّةِ بَغْتَةً قَدْ يَئُولُ إلَى ذَهَابِ النُّفُوسِ عِنْدَ اللِّقَاءِ لِقُوَّةِ مَا يَتَوَالَى عَلَى النَّفْسِ إذْ ذَاكَ مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ مَاتُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ فَاجَأَهُمْ السُّرُورُ فَمَاتُوا مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، وَقَوْمٌ فَجَأَتْهُمْ الْمَصَائِبُ فَمَاتُوا مِنْ شِدَّةِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّلَطُّفِ بِالِاجْتِمَاعِ بِأَبِيهِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ الْبَشِيرَ أَوَّلًا حَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْأَحْيَاءِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إلَيْهِ ثَانِيًا الْقَمِيصَ لِيَجِدَ رِيحَهُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَزَادَ أُنْسُهُ بِشَمِّ رَائِحَتِهِ وَأَثَرِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ الِاجْتِمَاعُ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا عَزَمَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِأَهْلِهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامّ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ

وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ عَلَى غَفْلَةٍ، بَلْ حَتَّى يُلَاعِبَهَا وَيُمَازِحَهَا بِمَا هُوَ مُبَاحٌ مِثْلَ الْجَسَّةِ، وَالْقُبْلَةِ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، حَتَّى إذَا رَأَى أَنَّهَا قَدْ انْبَعَثَتْ لِمَا هُوَ يُرِيدُ مِنْهَا، وَانْشَرَحَتْ لِذَلِكَ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَأْتِيهَا، وَحِكْمَةُ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ بَيِّنَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُحِبُّ مِنْ الرَّجُلِ مَا يُحِبُّ مِنْهَا، فَإِذَا أَتَاهَا عَلَى غَفْلَةٍ قَدْ يَقْضِي هُوَ حَاجَتَهُ، وَتَبْقَى هِيَ فَقَدْ يُشَوِّشُ عَلَيْهَا ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يَنْصَانُ دِينُهَا، فَإِذَا فَعَلَ مَا ذُكِرَ تَيَسَّرَ عَلَيْهَا الْأَمْرُ، وَانْصَانَ دِينُهَا. ثُمَّ إذَا أَتَاهَا فَيَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إذَا أَتَى إلَى أَهْلِهِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتنَا فَرُزِقَا وَلَدًا، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ، وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ خَرَجَ وَلَدُهُ كَمَا ذُكِرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أَوْلَادِ الْمُبَارَكِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ وَالِدَهُ لَوْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَا حَصَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْقَلِيلُ مِنْ النَّاسِ مِنْ يَثْبُتُ لِامْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِغَلَبَةِ قُوَّةِ بَاعِثِ النَّفْسِ عَلَى تَحْصِيلِ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاعِيَ حَقَّ زَوْجَتِهِ فِي الْجِمَاعِ، وَأَنْ يَأْتِيَهَا لَيَصُونَ دِينَهَا، وَيَكُونَ قَضَاءُ حَاجَتِهِ تَبَعًا لِغَرَضِهَا فَيَحْصُلَ إذْ ذَاكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْرِفُ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ يَأْتِي زَوْجَتَهُ عَلَى غَفْلَةٍ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ مِنْهَا، وَهِيَ لَمْ تَقْضِ مِنْهُ وَطَرًا، كَمَا تَفْعَلُ الْبَهَائِمُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ إمَّا فَسَادُ دِينِهَا وَإِمَّا تَبْقَى مُتَشَوِّشَةً مُتَشَوِّفَةً لِغَيْرِهِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا، وَهُمَا مَكْشُوفَانِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ يَسْتُرُهُمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَعَابَهُ، وَقَالَ فِيهِ: كَمَا يَفْعَلُ الْعِيرَانِ، وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُغَطِّي رَأْسَهُ إذْ ذَاكَ حَيَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ فِي بَرِيَّةٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ فَلَا يُجَامِعُ

مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَلَا مُسْتَدْبِرَهَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ فَيُخْتَلَفُ فِيهِ بِالْجَوَازِ وَالْكَرَاهَةِ، وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا قَضَى وَطَرَهُ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِالْقِيَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُشَوِّشُ عَلَيْهَا بَلْ يَبْقَى هُنَيْهَةً حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ انْقَضَتْ حَاجَتُهَا، وَالْمَقْصُودُ مُرَاعَاةُ أَمْرِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوصِي عَلَيْهِنَّ، وَيَحُضُّ عَلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِنَّ، وَهَذَا مَوْضِعٌ لَا يُمْكِنُ الْإِحْسَانُ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِهِ فَلْيَجْتَهِدْ فِي ذَلِكَ جَهْدَهُ، وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي التَّجَاوُزِ عَمَّا يَعْجِزُ الْمَرْءُ عَنْهُ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ وَعَابَهُ، هُوَ النَّخِيرُ، وَالْكَلَامُ السَّقْطُ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ. ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ قَضَاءِ إرَبِهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَغْتَسِلَ لِيَنَامَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَوَضَّأَ لِيَنَامَ عَلَى إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ، وَاخْتُلِفَ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ أَوْ الْوُضُوءُ هَلْ يَتَيَمَّمُ أَمْ لَا؟ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا يَنَامُ الْجُنُبُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَلْيَتَيَمَّمْ، وَلَا يَنَامُ إلَّا بِوُضُوءٍ أَوْ تَيَمُّمٍ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ الْجِمَاعِ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يَكْثُرُ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَيَكُونُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي لَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَمَا لِي إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ، وَأَطَأهُنَّ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ شَهْوَةٌ قِيلَ لَهُ: وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ ظَهْرِي مَنْ يُكَاثِرُ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا نَوَى مَا تَقَدَّمَ، وَفَعَلَ مَا ذُكِرَ أَنْ يَكِلَ ذَلِكَ إلَى مَشِيئَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ يَفْتَقِرَ إلَيْهِ فِيهِ وَيَتَبَرَّأَ مِنْ مَشِيئَةِ نَفْسِهِ، وَتَدْبِيرِهِ، وَحَوْلِهِ، وَقُوَّتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ إذْ ذَاكَ مُتَوَاضِعًا مُتَذَلِّلًا لَعَلَّ أَنْ تُقْضَى حَاجَتُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ كُلِّهِنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ

جَمِيعًا فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنْ يَتَعَلَّقَ الْمَرْءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكِلَ الْأَمْرَ إلَيْهِ، وَيَتَبَرَّأَ مِنْ مَشِيئَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ إنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَعُودَ إلَى الِاجْتِمَاعِ بِأَهْلِهِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْغُسْلِ أَوْ الْوُضُوءِ فَيَفْعَلُ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَلْيَغْسِلْ ذَكَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ غَسَلَ ذَكَرَهُ ثُمَّ عَادَ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الذَّكَرِ يُقَوِّي الْعُضْوَ وَيُنَشِّطُهُ، وَكَثْرَةُ هَذَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ يَتَمَدَّحُوا بِهِ، وَيَفْتَخِرُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الرَّجُلِ، وَصِحَّةِ بَدَنِهِ، وَمِزَاجِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أُعْطِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاءَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا حَتَّى خَرَجَ عَنْ مَأْلُوفِهِمْ، وَعَادَتِهِمْ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ أَنَّ كَثْرَةَ هَذَا مَمْدُوحٌ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَمَا الْجَوَابُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي كَوْنِهِ أُعْطِيَ مَاءَ مِائَةِ رَجُلٍ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ أُعْطِيَ مَقْصِدَهُ وَمَطْلَبَهُ، فَنَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَلَبَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُلُوكِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَكَثْرَةُ النِّسَاءِ فَأُعْطِيَ مَا يَفُوقُ بِهِ سَائِرَ الْمُلُوكِ؛ لِأَنَّ الْمُلُوكَ وَإِنْ وَجَدُوا الْقُدْرَةَ عَلَى تَحْصِيلِ كَثْرَةِ النِّسَاءِ فَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مَاءِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَضْلًا عَنْ مَاءِ مِائَةِ رَجُلٍ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا فَأُعْطِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَفْضُلُهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُعْطِيَ مَاءَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فَحَالُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لِإِرَبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ؟ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لَا يَأْتِي لِأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ، بَلْ ذَلِكَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

عَلَى طَرِيقِ تَأْنِيسِ الْبَشَرِيَّةِ لِأَجْلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ: إنِّي لَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَمَا لِي إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ الطِّيبُ، وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» فَانْظُرْ إلَى حِكْمَةِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: حُبِّبَ، وَلَمْ يَقُلْ: أَحْبَبْت، وَقَالَ مِنْ دُنْيَاكُمْ فَأَضَافَهَا إلَيْهِمْ دُونَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ حُبُّهُ خَاصًّا بِمَوْلَاهُ عَزَّ وَجَلَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي الْعَلِيَّةِ الشَّرِيفَةِ، فَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَشَرِيَّ الظَّاهِرِ مَلَكِيَّ الْبَاطِنِ، فَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَأْتِي إلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ إلَّا تَأْنِيسًا لِأُمَّتِهِ، وَتَشْرِيعًا لَهَا لَا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِلْجَهْلِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ، وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ قَالَ الْجَاهِلُ الْمِسْكِينُ {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] فَقَالَ: {لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] ، وَلَمْ يَقُلْ إنِّي مَلَكٌ، فَلَمْ يَنْفِ الْمَلَكِيَّةَ عَنْهُ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ أَعْنِي فِي مَعَانِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا فِي ذَاتِهِ الْكَرِيمَةِ، إذْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَلْحَقُ بَشَرِيَّتَهُ مَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ. وَلِهَذَا قَالَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي صِفَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: هُوَ بَشَرٌ لَيْسَ كَالْأَبْشَارِ كَمَا أَنَّ الْيَاقُوتَ حَجَرٌ لَيْسَ كَالْأَحْجَارِ، وَهَذَا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ لِلْأَفْهَامِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ مَلَكِيَّ الْبَاطِنِ، وَمَنْ كَانَ مَلَكِيَّ الْبَاطِنِ مَلَكَ نَفْسَهُ، وَمِنْ هَاهُنَا يُفْهَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا» ؛ لِأَنَّ هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ بَابِ التَّأْنِيسِ لِلْأُمَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «إنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ»

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ: إنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ شِدَّةِ الْآلَامِ، وَالْأَوْجَاعِ لِرِفْعَةِ مَنَازِلِ الْمُرْسَلِينَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ الرَّجُلَانِ مِنْكُمْ» الْحَدِيثَ انْتَهَى. وَهَذَا مِنْ بَابِ تَأْنِيسِ الْبَشَرِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ» إنَّ تِلْكَ السَّكَرَاتِ سَكَرَاتُ الطَّرِبِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَالَ لَهُ أَهْلُهُ، وَهُوَ فِي السِّيَاقِ، وَاكَرْبَاهُ فَفَتَحَ عَيْنَهُ، وَقَالَ: وَاطَرَبَاهُ غَدًا أَلْقَى الْأَحِبَّهْ مُحَمَّدًا، وَحِزْبَهْ انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ هَذَا طَرَبَهُ فِي هَذَا الْحَالِ بِلِقَاءِ مَحْبُوبِهِ، وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِزْبُهُ، فَمَا بَالُك بِلِقَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَوْلَى الْكَرِيمِ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، وَهَذَا مَوْضِعٌ تَقْصُرُ الْعِبَارَةُ عَنْ وَصْفِ بَعْضِهِ، فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ أَحْوَالَ الْبَشَرِيَّةِ، وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْأَعْرَاضِ إنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الظَّاهِرِ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَشْغُولٌ بِرَبِّهِ مُقْبِلٌ عَلَى آخِرَتِهِ ظَاهِرُهُ مَعَ الْخَلْقِ، وَبَاطِنُهُ مَعَ رَبِّ الْخَلْقِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَائِبٌ عَنْ أَلَمِ الظَّاهِرِ. هَذَا تَجِدُهُ مَحْسُوسًا فِي بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ بِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخَرِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَهُوَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَصَابَتْهُ الْأَكَلَةُ فِي رِجْلِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوا الْقَدَمَ الَّتِي خَرَجَتْ فِيهِ لِئَلَّا تَتَعَدَّى لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، فَكَانَ يَأْبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُمْ زَوْجَتُهُ: إنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ حَضَرُوا فَقَطَعُوهَا لَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ رَآهُمْ مُحَدِّقِينَ بِهِ فَقَالَ لَهُمْ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقْطَعُوا لِي غَيْرَ هَذِهِ الْمَرَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالُوا لَهُ: هُوَ ذَا فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا شَعَرْت بِكُمْ، وَكَذَلِكَ مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلِّي، وَانْهَدَمَتْ أُسْطُوَانَةٌ فِيهِ، فَهَرِعَ النَّاسُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ يَنْظُرُونَ الْخَبَرَ لِشِدَّةِ انْزِعَاجِهِمْ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَتَأَثُّرِهِمْ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ

فصل إذا رأى من زوجته أمارات طلب الجماع

لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فِي حَضْرَتِهِ، فَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ تَكَلَّمُوا وَلَغَطُوا، فَسُئِلَ أَهْلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: إنَّهُ إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ، وَظَاهِرُ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مُشْكِلٌ، وَبَيَانُ إشْكَالِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَشْعُرْ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، فَكَيْفَ يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّوْفِيَةُ بِأَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُزِيلُ هَذَا الْإِشْكَالَ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، وَيَقُولُ: إنْ كَانَ فَرْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ إبْقَاءِ بَعْضِ حَالِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَيْهِ لِتَوْفِيَةِ أَرْكَانِ الْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْلِ فَحَقِيقَةُ الْحُضُورِ فِيهِ أَنْ يَفْنَى الذَّاكِرُ فِي الْمَذْكُورِ. [فَصْلٌ إذَا رَأَى مِنْ زَوْجَته أَمَارَاتِ طَلَبِ الْجِمَاع] : (فَصْلٌ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي أَنَّ «الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيَالِهِ» فَإِذَا كَانَ فِي الْأَكْلِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي الْجِمَاعِ، إذْ أَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَلْذُوذَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَيَعْمَلُ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَ لَهَا ذَلِكَ إذَا أَرَادَتْهُ، وَهُوَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى إرَادَتِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَطْلُبُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُكِّبَ فِيهَا مِنْ الشَّهْوَةِ أَضْعَافُ مَا فِي الرَّجُلِ لَكِنْ أَعْطَاهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْحَيَاءِ مَا يَغْمُرُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَإِذَا رَأَى مِنْهَا أَمَارَاتِ الطَّلَبِ لِذَلِكَ فَلْيُرْضِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَعَطَّرَ، وَتَلْبَسَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَكُونُ غَرَضُهُ تَابِعًا لِغَرَضِهَا فَيَتَّصِفُ إذْ ذَاكَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيَالِهِ» ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ ثَمَّ ضَرُورَةٌ أَكِيدَةٌ لِلْجِمَاعِ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ فَيُرِيدُ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ امْرَأَةً تُعْجِبُهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ الَّذِي عِنْدَ هَذِهِ عِنْدَ هَذِهِ» فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا يَنْتَظِرُ أَمَارَاتِ طَلَبِهَا، لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْمُلَاعَبَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ مَعَ الْآدَابِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. وَقَدْ وَرَدَ «عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ، وَرَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَبْدِلْ لِي عِوَضَهَا حُورِيَّةً، فَإِنَّ اللَّهَ

فصل إتيان المرأة في دبرها

تَعَالَى يُبْدِلُ لَهُ عِوَضَهَا حُورِيَّةً» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - [فَصْلٌ إتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْعَلَ مَعَ زَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ هَذَا الْفِعْلَ الْقَبِيحَ الشَّنِيعَ الَّذِي أَحْدَثَهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ، وَهُوَ إتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُعْضِلَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ نَسَبُوا ذَلِكَ إلَى الْجَوَازِ، وَيَقُولُونَ: إنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهِيَ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ عَنْهُ لَا أَصْلَ لَهَا؛ لِأَنَّ مَنْ نَسَبَهَا إلَى مَالِكٍ إنَّمَا نَسَبَهَا لِكِتَابِ السِّرِّ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ مُتَقَوَّلٌ عَلَيْهِ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَكُنْ لَهُ كِتَابُ سِرٍّ، وَفِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مُنْكَرَةٌ يَجِلُّ غَيْرُ مَالِكٍ عَنْ إبَاحَتِهَا فَكَيْفَ بِمَنْصِبِهِ، وَمَا عُرِفَ مَالِكٌ إلَّا بِنَقِيضِ مَا نَقَلُوا عَنْهُ مِنْ أَنْ يَخُصَّ الْخَلِيفَةَ بِرُخَصٍ دُونَ غَيْرِهِ بَلْ كَانَ يُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ، وَيَأْخُذُهُمْ بِالسِّيَاسَةِ حَتَّى يُنْزِلَهُمْ عَنْ دَرَجَاتِهِمْ إلَى دَرَجَاتِ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ مَا جَرَى لَهُ مَعَ الْخَلِيفَةِ فِي إقْرَاءِ الْمُوَطَّأِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ مَرَّةً: يَا مَالِكُ مَا زِلْت تُذِلُّ الْأُمَرَاءَ، فَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ وَالْمَعْهُودُ مِنْ حَالِهِ مَعَهُمْ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ أَيَجُوزُ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا؟ فَقَالَ: أَمَا أَنْتُمْ قَوْمٌ عَرَبٌ؟ أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أَيَكُونُ الزَّرْعُ حَيْثُ لَا نَبَاتَ؟ . وقَوْله تَعَالَى {أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] قِيلَ: مَعْنَاهُ كَيْفَ شِئْتُمْ مُقْبِلَةً أَوْ مُدْبِرَةً أَوْ بَارِكَةً فِي مَوْضِعِ الزَّرْعِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَتَى شِئْتُمْ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ كَيْفَ شِئْتُمْ إنْ شِئْتُمْ فَاعْزِلُوا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَا تَعْزِلُوا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جَوَازِ ذَلِكَ فَقَالَ: أُفٍّ أُفٍّ أَيَفْعَلُ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ؟ أَوْ قَالَ مُسْلِمٌ، وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا» ، وَمِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ

فِي مَحَاشِّهِنَّ، مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى النِّسَاءَ فِي غَيْرِ مَخْرَجِ الْأَوْلَادِ» ، وَقَدْ قِيلَ لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكُتُبِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ أَنْتَ تُبِيحُ ذَلِكَ فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: كَذَبُوا عَلَيَّ، وَقَالَ فِي أُخْرَى: كَذَبُوا عَلَيَّ عَافَاك اللَّهُ أَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] هَلْ يَكُونُ الْحَرْثُ إلَّا فِي مَوْضِعِ الزَّرْعِ، وَلَا يَكُونُ الْوَطْءُ إلَّا فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ، وَمِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ لِابْنِ عَطِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي مُصَنَّفِ النَّسَائِيّ قَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إتْيَانُ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حَرَامٌ» ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُتَّبَعُ، وَلَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَعْرُجَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ عَلَى زَلَّةِ عَالِمٍ لَمْ تَصِحَّ عَنْهُ، وَاَللَّهُ الْمُرْشِدُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَمِنْ التَّفْسِيرِ لِلْقُرْطُبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ تَكْفِيرُ مَنْ فَعَلَهُ. قَالَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارِ بْنِ الْحُبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ: «مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تِلْكَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى أَعْنِي إتْيَانَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا» ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بَدْءُ عَمَلِ قَوْمِ لُوطَ إتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَإِذَا ثَبَتَ الشَّيْءُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُسْتُغْنِيَ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَمِنْ كِتَابِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ ظَفَرٍ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهَا اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ شُرْطِيَّ الْمَدِينَةِ دَخَلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَقَالَ لَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: أَرَى أَنْ تُوجِعَهُ ضَرْبًا، فَإِنْ عَادَ إلَى ذَلِكَ فَفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا مَا حُكِيَ أَنَّ

فصل الرجل إذا رأى امرأة أعجبته وأتى أهله

قَوْمًا مِنْ السَّلَفِ أَجَازُوا ذَلِكَ، فَلَا يَصْلُحُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ إضَافَتِهِ إلَيْهِمْ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى سُوءِ ضَبْطِ النَّقَلَةِ، وَالِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الدُّبُرَ اسْمٌ لِلظَّهْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، وَقَالَ {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] أَيْ ظَهْرَهُ، وَالْمَرْأَةُ تُؤْتَى مِنْ قُبُلٍ، وَمِنْ دُبُرٍ انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهَا تُؤْتَى مِنْ جِهَةِ ظَهْرِهَا فِي قُبُلِهَا، وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا مَا اعْتَادَهُ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَذَّذُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ مُقْبِلَاتٍ، وَمُدْبِرَاتٍ، وَمُسْتَلْقِيَاتٍ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ فَاصْنَعْ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي حَتَّى سَرَى أَمْرُهُمَا فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أَيْ مُقْبِلَاتٍ، وَمُدْبِرَاتٍ، وَمُسْتَلْقِيَاتٍ يَعْنِي بِذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ فِي فَرْجِهَا مِنْ وَرَائِهَا كَانَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] انْتَهَى. مِنْ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا. هَذَا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، وَأَمَّا طَرِيقُ النَّظَرِ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إذَا مُنِعَ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ فِي حَالِ الْحَيْضِ مِنْ أَجْلِ الْأَذَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ، وَهِيَ أَيَّامٌ يَسِيرَةٌ مِنْ الشَّهْرِ غَالِبًا، فَمَا بَالُك بِمَوْضِعٍ لَا تُفَارِقُهُ النَّجَاسَةُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، وَقَدْ قَالُوا أَيْضًا: إنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا مَحَلٌّ لِلِاسْتِمْتَاعِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا، وَفِيمَا تَحْتَ الْإِزَارِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ شَهْوَةَ الرَّجُلِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لِشَهْوَةِ الْمَرْأَةِ، وَوَطْؤُهَا فِي الدُّبُرِ لَا مَنْفَعَةَ لَهَا فِيهِ بَلْ تَتَضَرَّرُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَحْرِيكُ بَاعِثِ شَهْوَتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنَالَ غَرَضَهَا، وَالثَّانِي أَنَّ الْوَطْءَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ يَضُرُّهَا [فَصْلٌ الرَّجُلَ إذَا رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ وَأَتَى أَهْلَهُ] . (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ، وَفِي غَيْرِهِ بِالْقَوْلِ

فصل في المنع من إفشاء سر الاجتماع بزوجته

مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي الْغَالِبِ، وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ، وَأَتَى أَهْلَهُ جَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الَّتِي رَآهَا، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الزِّنَا لِمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ أَخَذَ كُوزًا يَشْرَبُ مِنْهُ الْمَاءَ فَصَوَّرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَنَّهُ خَمْرٌ يَشْرَبُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ يَصِيرُ عَلَيْهِ حَرَامًا، وَهَذَا مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى حَتَّى لَقَدْ قَالَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ: إنَّهُ اسْتَفْتَى فِي ذَلِكَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فَأَفْتَى بِأَنْ قَالَ: إذَا جَعَلَ مَنْ رَآهَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ عِنْدَ جِمَاعِ زَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَّلَهُ بِأَنْ قَالَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَانَ دِينَهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى وُجُودِ الْجَهْلِ وَالْجُهَّلِ بِالْجَهْلِ، وَمَا ذُكِرَ لَا يَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ وَحْدَهُ بَلْ الْمَرْأَةُ دَاخِلَةٌ فِيهِ بَلْ هِيَ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الْخُرُوجُ أَوْ النَّظَرُ مِنْ الطَّاقِ فَإِذَا رَأَتْ مَنْ يُعْجِبُهَا تَعَلَّقَ بِخَاطِرِهَا، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِزَوْجِهَا جَعَلَتْ تِلْكَ الصُّورَةَ الَّتِي رَأَتْهَا بَيْنَ عَيْنَيْهَا، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى الزَّانِي نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى اجْتِنَابِ ذَلِكَ لَيْسَ إلَّا، بَلْ يُنَبِّهُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَغَيْرَهُمْ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ ذَكَرَ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا شَرِبَ الْعَبْدُ الْمَاءَ عَلَى شَبَهِ الْمُسْكِرِ كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ حَرَامًا» [فَصْلٌ فِي الْمَنْع مِنْ إفشاء سُرّ الِاجْتِمَاع بزوجته] . (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ بِأَهْلِهِ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مَا كَانَ فَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فَيَذْكُرُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَغَيْرِهِمْ مَا كَانَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ، وَهَذَا قَبِيحٌ مِنْ الْفِعْلِ كَفَى بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ فِي الْمَصَادِرِ، وَالْمَوَارِدِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا لَا يُحَدِّثُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بِمَا ذُكِرَ فَكَذَلِكَ لَا يُحَدِّثُ أَهْلَهُ بِشَيْءٍ جَرَى بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ كَائِنًا مَا كَانَ، وَهَذَا النَّوْعُ أَيْضًا مِمَّا يَتَسَاهَلُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَهُوَ قَبِيحٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ يُحْدِثُ بَيْنَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ وَالنِّسَاءِ الْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ

فصل في آداب القيام من النوم

فَيَأْتِي الرَّجُلُ إلَى أَهْلِهِ فَيُثْنِي لَهُمْ عَلَى مَنْ يَخْطِرُ بِبَالِهِ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَالسَّلَامُ يُحْدِثُ الْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَيْسَ لِلنِّسَاءِ فِي السَّلَامِ نَصِيبٌ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَلِّغَ الْإِنْسَانُ لَهُنَّ السَّلَامَ فَإِنَّهُ يُحْدِثُ لَهُنَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُلُوبِ، وَدُخُولَ وَسْوَاسِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ وَنَزَغَاتِهِ، فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْعَادَةِ، فَإِنَّهَا شَنِيعَةٌ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ السَّلَامَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عَلَى الْمَرْأَةِ الشَّابَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ بِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحَدِّثَ الْمَرْءُ بِمَا جَرَى لَهُ مَعَ شَيْخِهِ أَوْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ أَوْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُكَلَّفُ فِي دِينِهِ مِنْ الْآدَابِ، فَهَذَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَقَدْ يَجِبُ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى آدَابِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِي بَيْتِهِ لَكِنْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ تَدْخُلُ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ أَوْ الْجَارِيَةُ، فَالتَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى نَاصِيَتِهَا، وَالنَّاصِيَةُ مَقْدَمُ الرَّأْسِ زَوْجَةً كَانَتْ أَوْ جَارِيَةً بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا فَيُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ يَمْضِيَ لِسَبِيلِهِ [فَصْلٌ فِي آدَاب الْقِيَام مِنْ النوم] فَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيُمِرَّ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ يَتَشَهَّدْ ثُمَّ يَرْجِعْ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى، وَيَلْبَسُ ثَوْبَهُ، وَيُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الْكُمِّ قَبْلَ الْيُسْرَى، فَإِذَا لَبِسَ ثَوْبَهُ فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ جَنَابَةٍ قَرَأَ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190] إلَى آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَيَدَاهُ تُعَرِّكُ النَّوْمَ عَنْ عَيْنَيْهِ كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ. ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى وَيَقُومُ مِنْ الْفِرَاشِ فَيَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُك الْحَقُّ، وَوَعْدُك

الْحَقُّ، وَلِقَاؤُك حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت، وَبِك آمَنْت، وَعَلَيْك تَوَكَّلْت، وَإِلَيْك أَنَبْت، وَبِك خَاصَمْت، وَإِلَيْك حَاكَمْت فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت، وَمَا أَخَّرْت، وَمَا أَسْرَرْت، وَمَا أَعْلَنْت، أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك. هَكَذَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.، وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ: نَامَتْ الْعُيُونُ، وَغَارَتْ النُّجُومُ، وَأَنْتَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. فَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَلَا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَفْعَلُ فِي وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ، وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ بِأَيِّ نِيَّةٍ يَلْبَسُ ثَوْبَهُ، وَكَمْ لَهُ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَ الِاسْتِفَاقَةِ مِنْ النَّوْمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ مَكَانَ كُلِّ عُقْدَةٍ عَلَيْك لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ» ، وَكَسَلُ النَّفْسِ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْعُقَدِ الثَّلَاثِ، فَإِنْ هُوَ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَذْهَبُ مِنْ الْكَسَلِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ إنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ الْعُقْدَةُ الثَّانِيَةُ فَيَذْهَبُ مَعَهَا مِنْ الْكَسَلِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ إنْ صَلَّى ذَهَبَ الْكَسَلُ كُلُّهُ، وَبَقِيَ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي كَوْنِهِ شَرَعَ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ الْمَرْءُ مَا ذُكِرَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ يَتَدَرَّجُ إلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، فَشَرَعَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَّلًا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ حَتَّى تَذْهَبَ عُقَدُ الشَّيْطَانِ كُلُّهَا، وَيَذْهَبَ أَثَرُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَيَجِدَ بِسَبَبِ النَّشَاطِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى طُولِ الْقِيَامِ الَّذِي شَرَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي قِيَامِ اللَّيْلِ. وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ

أَنَّهُ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي كُمِّهِ الْيَمِينِ أَوَّلًا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَتَنَعُّلِهِ» فَعَمَّتْ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا بِقَوْلِهَا فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، ثُمَّ فَصَّلَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَخْلُو فِعْلُهُ مِنْ إحْدَى ثَلَاثٍ: إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ، فَذَكَرَتْ الطُّهُورَ لِتُشِيرَ بِهِ إلَى جِنْسِ الْوَاجِبَاتِ، وَالتَّرَجُّلَ لِجِنْسِ الْمَنْدُوبَاتِ، وَالتَّنَعُّلَ لِجِنْسِ الْمُبَاحَاتِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي اللُّبْسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَكْسُهُ فِي النَّزْعِ، فَإِذَا نَزَعَ ثَوْبَهُ فَيَبْدَأُ بِنَزْعِ الْكُمِّ مِنْ الْيَدِ الْيُسْرَى قَبْلَ الْيُمْنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَزْعِ النَّعْلِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ . (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ مَعَ شَيْخِهِ أَعْنِي فِي الِاجْتِمَاعِ بِهِ مُخْتَارًا لِلْأَوْقَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ بِهِ فِيهَا يَخِفُّ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا مِنْ أَنْ يَجِدَ لِلِاجْتِمَاعِ بِهِ كُلْفَةً، فَيُحْرَمَ الْعِلْمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَوْ بَرَكَتَهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّيْخُ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا هُوَ أَهَمُّ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ، وَهَذَا النَّوْعُ كَثِيرًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ تَجِدُهُمْ يَعْتَقِدُونَ الشَّخْصَ، وَيَقُولُونَ بِبَرَكَتِهِ ثُمَّ إنَّهُمْ يَخْتَارُونَ الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ فَيَأْتُونَ فِيهَا إلَى زِيَارَتِهِ فَيُشْغِلُونَهُ عَنْ اغْتِنَامِ بَرَكَةِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، فَيَصِيرُ هُوَ وَهُمْ بِالسَّوَاءِ أَعْنِي فِي بَطَالَةِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الشَّرِيفَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى إلَيْهِمْ ذَلِكَ فَتَجِدُهُمْ مُخَالِفِينَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. أَلَا تَرَى إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إذْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ تَنَاكَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَنَفَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى إذَا فَرَغَ اجْتَمَعُوا، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِخِلَافِ مَا الْحَالُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ شَهْرُ رَمَضَانَ كَثُرَ اجْتِمَاعُهُمْ وَزِيَارَتُهُمْ فِيهِ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ مِنْهُمْ إلَى قَرِيبِهِ أَوْ صَاحِبِهِ أَوْ مُعَلِّمِهِ يَجِدُّونَ عَلَيْهِ، وَيَقَعُ التَّشْوِيشُ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَكْسِ الْأُمُورِ وَارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مَعَ رُؤْيَةِ النَّفْسِ أَنَّهَا عَلَى الْخَيْرِ وَالدِّينِ، فَيَرَوْنَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الشَّرِيفَةِ

فصل في طالب العلم يتحفظ من أمور

قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَيْهِ [فَصْلٌ فِي طَالِب الْعِلْم يتحفظ مِنْ أُمُور] فَصْلٌ فِي نُبَذٍ بَقِيَتْ لَمْ تُذْكَرْ بَعْدُ فَمِنْهَا أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ إذَا كَانَ سَاكِنًا فِي الْمَدْرَسَةِ أَوْ الرِّبَاطِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ أُمُورٍ: مِنْهَا أَنْ لَا يَدَعَ الْوُضُوءَ مِنْ مَاءِ الْفَسْقِيَّةِ أَوْ الْبِئْرِ، وَلَا يَتَوَضَّأَ مِنْ مَاءِ الصِّهْرِيجِ أَوْ الزِّيرِ الْمُعَدَّيْنِ لِلشُّرْبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا عُمِلَ لِلشُّرْبِ لَا لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ فَقَدْ يُقْتَدَى بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَوَضَّأَ عَلَى الْبَلَاطِ الَّذِي عَلَى السُّقُوفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْبَلَاطِ وَالْخَشَبِ، وَهُمَا وَقْفٌ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْتَجْمِرَ بِالْحِجَارَةِ وَيَدَعَهَا فِي الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ الْقَيِّمَ إذَا وَجَدَهَا هُنَاكَ رَمَاهَا فِي السَّرَبِ فَيَمْتَلِئُ بِالْحِجَارَةِ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ بِالْوَقْفِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَجْمِرَ بِحَائِطِ الْوَقْفِ أَوْ بِأُصْبُعِهِ، وَيَمْسَحَ مَا أَصَابَهُ فِي الْحَائِطِ، وَهَذَا النَّوْعُ قَدْ كَثُرَ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِعَاءٌ يَتَوَضَّأُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا احْتَاجَ إلَى الْغُسْلِ يَكُونُ لَهُ وِعَاءٌ يَغْتَسِلُ فِيهِ لِئَلَّا يَضُرَّ بِالسَّقْفِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا صَعِدَ أَوْ نَزَلَ أَنْ يَمْشِيَ بِرِفْقٍ إذْ أَنَّ الْمَشْيَ بِقُوَّةٍ يَضُرُّ بِالْبَلَاطِ وَالسُّقُوفِ، وَهُمَا وَقْفٌ سِيَّمَا إذَا كَانَ بِقَبْقَابٍ فَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ عَلَى آدَابِ الْعَالِمِ، وَالْمُتَعَلِّمِ لِيَتَنَبَّهَ بِمَا ذُكِرَ عَلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ [فَصْلٌ فِي نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَآدَابِهِمَا] ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِمَا مُشْتَرَكٌ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ، فَالْإِمَامُ لَهُ آدَابٌ تَخُصُّهُ فَمِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَنْدُوبٌ، وَمِثْلُهُ الْمُؤَذِّنُ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَمَانِيَةُ أَوْصَافٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا

عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا عَدْلًا مُتَكَلِّمًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ أَوْ لِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقِيهًا بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَالْمُؤَذِّنُ: شَرَطُوا فِيهِ أَيْضًا ثَمَانِيَةَ أَوْصَافٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا عَدْلًا مُتَكَلِّمًا عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ سَالِمًا مِنْ اللَّحْنِ فِي الْأَذَانِ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ، وَهِيَ: كُلُّ صَلَاةٍ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي جَمَاعَةٍ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ فَضِيلَتُهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ، وَالْجَمْعُ لِلْمَطَرِ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَإِذَا كَانَ مَأْمُومًا، وَاسْتُخْلِفَ هَذَا الَّذِي يَجِبُ فِيهِ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ، فَلَا يَجِبُ لَكِنْ إذَا لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ لَا تَحْصُلُ لَهُ فَضِيلَةُ مَنْ نَوَاهَا، وَإِذَا نَوَاهَا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَ ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْعَالِمِ. وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ مَأْمُومٌ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَالْإِمَامَةُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَإِذَا عَزَمَ عَلَيْهَا فَلْيَنْوِ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَقُومُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ حَتَّى يُسْقِطَ ذَلِكَ عَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَسَارَعَ إلَيْهَا، وَلَا يَتْرُكَهَا رَغْبَةً عَنْهَا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ جَمَاعَةً تَرَادُّوا الْإِمَامَةَ بَيْنَهُمْ فَخُسِفَ بِهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَوَرَّعُ عَنْ الْإِمَامَةِ، وَهُوَ خَطَأٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يُبَادِرُ إلَيْهَا، وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا هَذَا أَعْنِي فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَهَا فَيَنْبَغِي لِمَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ أَنْ يُبَادِرَ إلَيْهَا إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ حَالَ الْإِمَامِ، وَأَمَّا مَعَ مَعْرِفَتِهِ فَيَعْمَلُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إذَا أَخَذَك وَقْتُ الصَّلَاةِ بِمَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ، فَإِنْ كُنْت فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ فَصَلِّ حَيْثُ كُنْت، وَلَيْسَ عَلَيْك إعَادَةٌ، وَإِنْ كُنْت فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَيَقَعُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ حَالَ الْإِمَامِ أَمْ لَا فَتَعْمَلَ عَلَى مَا تَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ مَضَتْ صَلَاتُك، وَإِلَّا فَتُعِيدُهَا، وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعَلِّلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ: إنَّ بِلَادَ الْمَغْرِبِ لَا يَتَوَلَّى الْإِمَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ إلَّا مَنْ أَجْمَعَ أَهْلُ تِلْكَ الْبَلَدِ عَلَى فَضِيلَتِهِ

وَتَقْدُمَتِهِ فِي الْعِلْمِ، وَالْخَيْرِ، وَالصَّلَاحِ، وَسَائِرَ الْمَسَاجِدِ لَا يَتَوَلَّى الْإِمَامَةَ فِيهَا إلَّا مَنْ أَجْمَعَ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ عَلَى فَضِيلَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا الدِّيَارُ الْمِصْرِيَّةُ وَمَا أَشْبَهَهَا، فَإِنَّ الْإِمَامَةَ فِيهَا بِالدَّرَاهِمِ غَالِبًا، وَهِيَ إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ لَا يَتَوَلَّاهَا إلَّا صَاحِبُ جَاهٍ أَوْ شَوْكَةٍ، وَمَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ رِقَّةُ الدِّينِ، فَإِذَا صَلَّى خَلْفَهُ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَعَادَ صَلَاتَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَئِمَّتُكُمْ شُفَعَاؤُكُمْ فَانْظُرُوا بِمَنْ تَسْتَشْفِعُونَ» ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا تَوَلَّى الْإِمَامَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ صَادِقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَطْلُبُ بِذَلِكَ عِوَضًا عَنْ ثَنَاءٍ، وَلَا رَاحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَلَا صُورَةٍ مُمَيَّزَةٍ بَيْنَ النَّاسِ، بَلْ يَجْعَلُ ذَلِكَ لِوَجْهِ رَبِّهِ خَالِصًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ مِنْ أَكْبَرِ مُهِمَّاتِ الدِّينِ.، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ شَيْئًا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ، وَعَرْفُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» فَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَغْبِطُهُمْ الْأَوَّلُونَ، وَالْآخِرُونَ عَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ، وَرَجُلٌ يُنَادِي بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كُلَّ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ» فَإِنْ خَافَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ يَكْرَهُ إمَامَتَهُ فَتَرْكُهَا إذْ ذَاكَ أَفْضَلُ لَهُ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ عَلَى مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ حَذَرًا أَنْ يَكْرَهَ أَحَدٌ إمَامَتَهُ لِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ أَوْ نَفْسَانِيٍّ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ الْكَرَاهَةُ شَرْعِيَّةً فَلَا يَتَقَدَّمُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ ثَلَاثًا رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَرَجُلٌ سَمِعَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ لَمْ يُجِبْ» فَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْإِمَامَةِ مَعْلُومٌ، فَلَا يَأْخُذُهُ بِنِيَّةِ الْإِجَارَةِ، بَلْ يَأْخُذُهُ عَلَى نِيَّةِ الْفُتُوحِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ عَلَى فِعْلِ الْإِمَامَةِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَعَلَامَتُهُ أَنْ لَا يَطْلُبَهُ، وَلَا يَجِدَ الْقَلَقَ حِينَ قَطْعِهِ عَنْهُ، وَلَا يَتَضَجَّرَ، وَلَا يَتْرُكَ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ،

فَإِنْ طَلَبَ أَوْ تَضَجَّرَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ إلَى بَابِ الْمَكْرُوهِ أَوْ الْمُحَرَّمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَمْرِ الْعَالِمِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِنِيَّةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَإِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ لِمَصَالِحِ دِينِهِمْ فَذَلِكَ سَائِغٌ مَا لَمْ يَصْحَبْهُ حَظٌّ مَا فَإِنْ صَحِبَهُ فَيُكْرَهُ أَوْ يُمْنَعُ بِحَسَبِ الْحَالِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى الْأَوْقَاتِ أَكْثَرَ مِنْ تَحَفُّظِ الْمُؤَذِّنِ عَلَيْهَا، إذْ أَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ الْمُؤَذِّنُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، وَالْمُؤْمِنُ كَفِيلٌ لِأَخِيهِ فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَتَحَفَّظُ عَلَى الْأَوْقَاتِ فَقَلَّ أَنْ يَتَأَتَّى خَطَؤُهُمَا مَعًا، بَلْ إذَا أَخْطَأَ هَذَا أَصَابَ هَذَا فِي الْغَالِبِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَوْقَاتِ فَرْضٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا بَالُك بِمَنْ لَهُ الْإِمَامَةُ إذْ بِهِ الْحَلُّ وَالرَّبْطُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ مِمَّا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُزْرِي بِصَاحِبِهَا مِنْ الْمِزَاحِ، وَكَثْرَةِ الضَّحِكِ سِيَّمَا مَعَ الْأَجَانِبِ، وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُزْرِي بِصَاحِبِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ فِي شَيْءٍ. وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الطَّرَقَاتِ» كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَعْضُهُمْ يَقْعُدُ عَلَى دُكَّانِ الْبَيَّاعِ لَا لِحَاجَةٍ، وَذَلِكَ جُلُوسٌ عَلَى الطُّرُقَاتِ، وَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ الْجَمَاعَةِ قَلَقًا وَخَوْفًا، وَأَكْثَرَهُمْ عِلْمًا وَخَشْيَةً وَرِقَّةً، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ تُرْفَعُ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ حَتَّى يُحَصِّلَ جَمِيعَ مَنْ خَلْفَهُ فِي صَحِيفَتِهِ، وَفِي خِفَارَتِهِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُمْ فَضْلًا، وَيَرَى الْفَضْلَ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَيَتَخَوَّفُ عَلَى ذِمَّتِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرُ مُهِمَّاتِهِ التَّحَفُّظَ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ، وَالْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ الْمَعْمُولِ بِهَا عِنْدَهُمْ،

فصل في البدع التي أحدثت في المسجد والأمر بتغييرها

حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَحَدٌ الْيَوْمَ لَوَجَدُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: تَرَكَ السُّنَّةَ فَظَهَرَ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ: «كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا: تَرَكَ سُنَّةً» فَيَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِرِ جَهْدَهُ إذْ أَنَّهُ عَلَمٌ لِلْعَامَّةِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الْغَالِبِ [فَصْلٌ فِي الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَالْأَمْرِ بِتَغْيِيرِهَا] فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَالْأَمْرِ بِتَغْيِيرِهَا قَالَ الرَّسُولُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَسْجِدَ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ مِنْ رَعِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّنْ لَهُ التَّصَرُّفُ. أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ وَرُئِيَ مِنْهُ كَرَاهِيَةٌ أَوْ رُئِيَ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ وَشِدَّتُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلَا يَبْزُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَقَالَ أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا» فَنَظَرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِذَلِكَ مِنْ بَعْضِ فَوَائِدَ، إذْ أَنَّ الْمَسْجِدَ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ. وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي مِثْلِ مَسْجِدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الَّذِي هُوَ مَفْرُوشٌ بِالرَّمْلِ، أَمَّا غَيْرُهُ مِمَّا هُوَ مَفْرُوشٌ بِالْحُصُرِ أَوْ بِالرُّخَامِ أَوْ بِالْبَلَاطِ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الثَّالِثُ الَّذِي ذَكَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ: أَنْ يَبْزُقَ فِي طَرَفِ رِدَائِهِ وَيَحُكَّهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَبْصُقُ تَحْتَ طَرَفِ الْحَصِيرِ وَيَرُدُّ الْحَصِيرَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الدَّفْنِ لَهَا كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ كَثْرَةِ تَعْظِيمِهِمْ لِلْمَسَاجِدِ وَاحْتِرَامِهَا، وَأَنَّ مَسَاجِدَهُمْ كَانَتْ يُمْكِنُ الدَّفْنُ فِيهَا غَالِبًا وَقَلَّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ لِشِدَّةِ التَّعْظِيمِ، بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْحَالُ الْيَوْمَ فَتَعَاطِي الْقَلِيلَ

مِنْهُ يُؤَدِّي إلَى الْكَثِيرِ، وَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ اسْتِقْذَارًا لِلْمَسْجِدِ. الثَّانِي: أَنَّ الذُّبَابَ يَجْتَمِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَيُشَوِّشُ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدٌ فَيُمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْخُشَاشَ يَكْثُرُ بِسَبَبِهَا؛ لِأَنَّهُ يَتَغَذَّى بِهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا يُسَمَّى تَغْطِيَةً وَلَا يُسَمَّى دَفْنًا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى. السَّادِسُ: أَنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحَصِيرَ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ تَحْتَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى آلَ إلَى تَقْطِيعِهِ. السَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي الْوَقْفِ فِي غَيْرِ مَا جُعِلَ لَهُ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا. الثَّامِنُ: أَنَّ ذَلِكَ يُكْسِبُ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَطْيِيبِهِ وَهَذَا ضِدُّهُ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ يُخَافُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ الْبُصَاقِ شَيْءٌ مِنْ الدَّمِ وَهُوَ نَجِسٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ مِمَّنْ بِهِ مَرَضٌ. وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالُوهُ فِيمَنْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ مَا أَكَلَ إذْ أَنَّهُ إذَا عَالَجَهُ وَأَزَالَهُ فَلَا يَبْتَلِعُهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مُخَالَطَتُهُ لِشَيْءٍ مِنْ دَمِ اللِّثَاتِ، وَكَذَلِكَ السِّوَاكُ لَا يَسْتَاكُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهُ مِنْ الْمَرَّةِ الْأُولَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا سَلِمَ مِنْ النَّجَاسَةِ فَفِعْلُهُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ يَرُدُّ بُصَاقَهُ إلَى فِيهِ، وَذَلِكَ مُسْتَقْذَرٌ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِالسِّوَاكِ لِأَجْلِ النَّظَافَةِ، وَهَذَا ضِدُّهُ. هَذَا إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ حَصِيرٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ رُخَامٌ أَوْ بَلَاطٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الدَّفْنُ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَيُمْنَعُ الْبُصَاقُ فِيهِ أَيْضًا لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» وَدَفْنُهَا لَا يُمْكِنُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ خَطِيئَةً. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَسْجِدَ مِنْ رَعِيَّةِ الْإِمَامِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَفَقَّدَهُ، فَمَا كَانَ فِيهِ عَلَى مِنْهَاجِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ أَبْقَاهُ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ أَزَالَهُ بِرِفْقٍ وَتَلَطُّفٍ، إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ حَائِلٌ يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ رُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

حِينَ اعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ اتَّخَذَ حُجْرَةً مِنْ حَصِيرٍ، وَالْحَصِيرُ مِمَّا لَا يَتَأَبَّدُ. وَقَدْ نَقَلَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْأَحْكَامِ الصُّغْرَى لَهُ قَالَ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَصِيرٌ وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنْ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ» الْحَدِيثَ. هَذَا وَهُوَ لِضَرُورَةِ الِاعْتِكَافِ فَمَا بَالُكَ بِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ. فَعَلَى هَذَا فَفِعْلُ الْمَقَاصِيرِ وَالدَّرَابْزِينِ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ، وَقَدْ تَرَتَّبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ جُمْلَةُ مَفَاسِدَ. أَوَّلُهَا: أَنَّ الْمَوْضِعَ وُقِفَ لِلصَّلَاةِ وَمَا فُعِلَ فِيهِ لِغَيْرِهَا فَهُوَ غَصْبٌ لِمَوَاضِعِ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ. الثَّانِي: أَنَّ فِيهِ تَقْطِيعَ الصُّفُوفِ وَذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْبَالُ الْخَطِيبِ فِي حَالِ خُطْبَتِهِ وَلَا رُؤْيَتُهُ بِسَبَبِهَا، إذْ أَنَّهَا تَحُولُ بَيْنَ الْمَأْمُومِ وَالْإِمَامِ. وَقَدْ وَرَدَ «إذَا قَامَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبِلُوهُ بِوُجُوهِكُمْ وَارْمُقُوهُ بِأَعْيُنِكُمْ» مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْمَقَاصِيرِ وَالدَّرَابْزِينِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، فَكَانَتْ سَبَبًا لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَى إلَى أَمْرٍ مُسْتَهْجَنٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ يَجِدُ السَّبِيلَ إلَى الْوُصُولِ إلَى أَغْرَاضِهِ الْخَسِيسَةِ بِارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ لِكَوْنِهِ يَتَوَارَى فِيهَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدْ يَنَامُ فِيهَا بَعْضُ الْغُرَبَاءِ لِلضَّرُورَةِ، فَيَجِدُ اللِّصُّ السَّبِيلَ إلَى أَخْذِ مَتَاعِهِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْهِ بِسَبَبِهَا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ كَثِيرًا. السَّادِسُ: أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ بَعْضُ النَّاسِ السَّبِيلَ إلَى أَنْ يَبُولَ فِي الْمَسْجِدِ بِسَبَبِهَا، إذْ أَنَّهُ يَسْتَتِرُ بِهَا فَلَا يُرَدُّ إذْ ذَاكَ سِيَّمَا الصِّبْيَانُ الصِّغَارَ الَّذِينَ لَا يَنْضَبِطُ حَالُهُمْ فِي الْغَالِبِ. السَّابِعُ: مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ. الثَّامِنُ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. التَّاسِعُ: قَدْ يَجِيءُ أَعْمَى لَا يَهْتَدِي بِتِلْكَ الْأَبْوَابِ الضَّيِّقَةِ الَّتِي فِي الدَّرَابْزِينِ فَكَانَتْ سَبَبًا لِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ. وَكَانَ سَبَبُ اتِّخَاذِهَا أَنَّ الْخِلَافَةَ لَمَّا رَجَعَتْ مُلْكًا وَتَخَوَّفَ الْمُلُوكُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْقَتْلِ عَمِلُوا هَذِهِ الْمَقَاصِيرَ لِيَتَحَصَّنُوا بِهَا مِمَّنْ يَثِبُ إلَى

فصل الكرسي الكبير الذي يعملونه في الجامع

قَتْلِهِمْ، فَلَا يَدْخُلُهَا إلَّا خَاصَّةُ الْمَلِكِ وَحُجَّابُهُ عَلَى بَابِهَا. وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ: أَوَّلُ مَنْ جَعَلَ الْمَقْصُورَةَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ حِينَ طَعَنَهُ الْيَمَانِيُّ فَجَعَلَ مَقْصُورَةً مِنْ طِينٍ وَجَعَلَ فِيهَا تَشْبِيكًا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْمَقْصُورَةُ مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا أَحْدَثَهَا الْأُمَرَاءُ لِلْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَاِتِّخَاذُهَا فِي الْجَوَامِعِ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً تُفْتَحُ أَحْيَانَا وَتُمْنَعُ أَحْيَانَا فَالصَّفُّ الْأَوَّلُ هُوَ الْخَارِجُ عَنْهَا اللَّاصِقُ بِهَا. وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً غَيْرَ مَمْنُوعَةٍ فَالصَّفُّ الْأَوَّلُ هُوَ اللَّاصِقُ بِجِدَارِ الْقِبْلَةِ فِي دَاخِلِهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ فِيهَا تَشْبِيكًا يُرِيدُ تَخْرِيمًا يَرَى مِنْهُ النَّاسُ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ. ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ تُعْمَلُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْ زِيِّ الْمَسْجِدِ، وَكَثُرَ هَذَا حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ مَدْرَسَةً وَيَقِفَ لَهَا وَقْفًا يَأْخُذُ مِنْ الْجَامِعِ نَاحِيَةً حَيْثُ يَخْتَارُ فِيهِ فَيُدِيرُهَا بِالدَّرَابْزِينِ وَيَجْعَلُهَا لِأَخْذِ الدَّرْسِ فِيهَا، فَسَرَى الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ الْفُقَهَاءِ يَدْخُلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي تُقْصَدُ لَهَا الْمَسَاجِدُ، فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُطْرَدُ فِي وَقْتِ الدَّرْسِ، وَهَذَا غَصْبٌ وَإِحْدَاثٌ وَتَصَرُّفٌ فِي الْوَقْفِ لَا شَكَّ فِيهِ. (فَصْلٌ) [فَصْلٌ الْكُرْسِيُّ الْكَبِيرُ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ فِي الْجَامِعِ] (فَصْلٌ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْكُرْسِيُّ الْكَبِيرُ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ فِي الْجَامِعِ وَيُؤَبِّدُونَهُ وَعَلَيْهِ الْمُصْحَفُ لِكَيْ يُقْرَأَ عَلَى النَّاسِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُمْسَكُ بِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ مَوْضِعٌ كَبِيرٌ وَهُوَ وَقْفٌ عَلَى الْمُصَلِّينَ لِصَلَاتِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَمِنْهُمْ الْمُصَلِّي وَمِنْهُمْ التَّالِي وَمِنْهُمْ الذَّاكِرُ وَمِنْهُمْ الْمُفَكِّرُ، فَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ إذْ ذَاكَ قَطَعَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ. وَقَدْ نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» وَهُوَ نَصٌّ فِي

عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُونَ أَكْثَرَ مِمَّنْ يَتَشَوَّشُ مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِنْ شَوَّشَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِوُجُودِ الضَّرَرِ. وَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا» رَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ. وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَجَّاجُ أَعْنِي الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ مَنْ مَضَى، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَرْسَلَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَصَاحِفَ إلَى الْأَمْصَارِ تُوضَعُ فِي الْجَوَامِعِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لِتَجْمِيعِ النَّاسِ عَلَى مَا أُثْبِتَ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أُجْمِعَ عَلَيْهِ، خَاصَّةً لِيَذْهَبَ التَّنَازُعُ فِي الْقُرْآنِ وَيُرْجَعَ لِهَذَا الْمُصْحَفِ إذَا اُخْتُلِفَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ، وَيُتْرَكَ مَا عَدَاهُ؛ لِأَنَّهُ إمَامُ الْمَصَاحِفِ وَقَدْ أُمِنَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. فَلَا يُكْتَبُ مُصْحَفٌ وَيُجْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا أَحْدَثُوهُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الصَّنَادِيقِ الْمُؤَبَّدَةِ الَّتِي يَجْعَلُ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ أَقْدَامَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ أَثَاثِهِمْ، وَذَلِكَ غَصْبٌ لِمَوْضِعِ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ: وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّابُوتَ الَّذِي جُعِلَ فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّدَقَاتِ، وَرَآهُ مِنْ حَرْثِ الدُّنْيَا انْتَهَى. وَمِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْوَقْفِ وَالتَّغْيِيرِ لِمَعَالِمِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ حَفْرِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ مَوْضِعًا كَالْخِزَانَةِ الصَّغِيرَةِ يَعْمَلُ فِيهَا مَا يَخْتَارُ مِنْ خَتْمَةٍ أَوْ كِتَابٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَعَلَى مَا ذُكِرَ فَقِسْ كُلَّ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِمَّا أَحْدَثُوهُ فِي الْمَسْجِدِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الدَّكَّةُ الَّتِي يَصْعَدُ عَلَيْهَا الْمُؤَذِّنُونَ لِلْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الْأَذَانِ عَلَيْهَا، بَلْ هِيَ أَشَدُّ مِنْ الصَّنَادِيقِ، إذْ يُمْكِنُ نَقْلُ الصَّنَادِيقِ وَلَا يُمْكِنُ نَقْلُهَا إذْ إنَّ السُّنَّةَ فِي أَذَانِ الْجُمُعَةِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْمَنَارِ، كَذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ،

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَكَانَ الْمُؤَذِّنُونَ ثَلَاثَةً يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ زَادَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَذَانًا آخَرَ بِالزَّوْرَاءِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالسُّوقِ لَمَّا أَنْ كَثُرَ النَّاسُ وَأَبْقَى الْأَذَانَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَنَارِ، وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ إذْ ذَاكَ. ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا أَنْ تَوَلَّى هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذَ الْأَذَانَ الَّذِي فَعَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالزَّوْرَاءِ، وَجَعَلَهُ عَلَى الْمَنَارِ وَكَانَ الْمُؤَذِّنُ وَاحِدًا يُؤَذِّنُ عِنْدَ الزَّوَالِ، ثُمَّ نُقِلَ الْأَذَانُ الَّذِي كَانَ عَلَى الْمَنَارِ حِينَ صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانُوا يُؤَذِّنُونَ ثَلَاثَةً فَجَعَلَهُمْ يُؤَذِّنُونَ جَمَاعَةً وَيَسْتَرِيحُونَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: وَسُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى أَنْ تُتَّبَعَ. فَقَدْ بَانَ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ يَدَيْ الْخَطِيبِ بِدْعَةٌ، وَأَنَّ أَذَانَهُمْ جَمَاعَةً أَيْضًا بِدْعَةٌ أُخْرَى فَتَمَسَّكَ بَعْضُ النَّاسِ بِهَاتَيْنِ الْبِدْعَتَيْنِ، وَهُمَا مِمَّا أَحْدَثَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ تَطَاوَلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صَارَ بَيْنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا، فَزَادُوا عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمُؤَذِّنِينَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثَةٍ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، فَهَذِهِ بِدْعَةٌ ثَالِثَةٌ ثُمَّ أَحْدَثُوا الدَّكَّةِ الَّتِي يَصْعَدُونَ عَلَيْهَا وَيُؤَذِّنُونَ، فَهَذِهِ بِدْعَةٌ رَابِعَةٌ. وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ. هَذَا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ. وَأَمَّا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى؛ فَلِأَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا هُوَ نِدَاءٌ إلَى الصَّلَاةِ وَمَنْ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ لَا مَعْنَى لِنِدَائِهِ، إذْ هُوَ حَاضِرٌ وَمَنْ هُوَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَا يَسْمَعُ النِّدَاءَ إذَا كَانَ النِّدَاءُ فِي الْمَسْجِدِ، هَذَا وَجْهٌ. الثَّانِي: أَنَّ الدَّكَّةَ الَّتِي أَحْدَثُوهَا ضَيِّقَةٌ مِنْ غَيْرِ حَظِيرٍ فَقَدْ تَلْتَوِي رِجْلُ أَحَدِهِمْ أَوْ يَعْثُرُ فَيَقَعُ فَتَنْكَسِرُ، وَقَدْ جَرَى ذَلِكَ فَيَكُونُ مَسْئُولًا عَنْ نَفْسِهِ مَعَ وُجُودِ أَلَمِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهَا إذْ الْمُرَادُ إنَّمَا هُوَ إسْمَاعُ الْحَاضِرِينَ، وَهُمْ لَوْ أَذَّنُوا فِي الْأَرْضِ لَأَسْمَعُوا مَنْ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا هِيَ عَوَائِدُ وَقَعَ الِاسْتِئْنَاسُ بِهَا فَصَارَ الْمُنْكِرُ لَهَا كَأَنَّهُ يَأْتِي بِبِدْعَةٍ عَلَى زَعْمِهِمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ

فصل التبليغ في الصلاة والجماعة

رَاجِعُونَ عَلَى قَلْبِ الْحَقَائِقِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الصَّوَابُ وَالْأَفْضَلُ وَلَوْ فُعِلَ ذَلِكَ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ بِدْعَةٌ لَكَانَ أَخَفَّ أَنْ يُرْجَى لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَتُوبَ. [فَصْلٌ التَّبْلِيغِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجَمَاعَةِ] (فَصْلٌ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ جَرَّتْ إلَى أَمْرٍ مَخُوفٍ، وَهُوَ وُقُوعُ الْخَلَلِ فِي الصَّلَاةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْ فَعَلُوا الْأَذَانَ فِي جَمَاعَةٍ مَضَوْا عَلَى ذَلِكَ التَّبْلِيغِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجَمَاعَةِ إذَا بَلَّغُوا مَشَى بَعْضُهُمْ عَلَى صَوْتِ بَعْضٍ مَعَ رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ بِالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ زَعَقَاتِ الْمُؤَذِّنِينَ، وَذَلِكَ يُذْهِبُ الْحُضُورَ وَالْخُشُوعَ أَوْ بَعْضَهُ وَيُذْهِبُ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ أَيْضًا. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُسْمِعِ الْوَاحِدِ وَالصَّلَاةِ بِهِ وَبُطْلَانِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: تَصِحُّ، لَا تَصِحُّ، الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ الْإِمَامُ فَتَصِحَّ، أَوْ لَا يَأْذَنَ فَلَا تَصِحَّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَوْتُ الْإِمَامِ يَعُمُّهُمْ فَلَا تَصِحُّ أَوْ لَا يَعُمُّهُمْ فَتَصِحُّ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي تَبْلِيغِ الْوَاحِدِ فَمَا بَالُكَ فِي تَبْلِيغِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ كَمَا سَبَقَ؟ فَأَوْلَى بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِمْ وَبُطْلَانِهَا بِتَبْلِيغِهِمْ. وَهَذَا إنَّمَا هُوَ إذَا أَتَوْا كُلُّهُمْ بِالتَّكْبِيرِ كَامِلًا فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ كَبَّرَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْمِعِينَ التَّكْبِيرَ كَامِلًا جَمِيعَ الصَّلَاةِ جَرَى فِي صَلَاتِهِ وَالصَّلَاةِ بِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْمُسْمِعِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. هَذَا مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ، فَإِنْ مَشَى عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ فَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى. وَأَمَّا عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ مِنْ كَوْنِهِمْ يَتَوَاكَلُونَ فِي التَّكْبِيرِ وَيُدِيرُونَهُ بَيْنَهُمْ وَيَقْطَعُونَهُ وَيُوصِلُونَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ فَيَقُولُ: اللَّهُ وَيَمُدُّ صَوْتَهُ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْآخَرُ مِنْ أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ نَفْسِهَا وَاصِلًا صَوْتَهُ بِصَوْتِ صَاحِبِهِ قَبْلَ انْقِطَاعِهِ مُبَالِغًا فِي رَفْعِ صَوْتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ، وَفَاعِلُ هَذَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى وَجْهِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ فِي شُغُلٍ فِي الصَّلَاةِ بِزِيَادَةٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ وَلَا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنْ غَيْرِ جَرَيَانِ الْخِلَافِ السَّابِقِ. وَيَقَعُ أَيْضًا بِذَلِكَ التَّهْوِيشُ

وَالتَّشْوِيشُ وَالتَّخْلِيطُ سِيَّمَا، وَهُمْ لَوْ أَتَوْا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَاكُلٍ أَوْ تَوْصِيلٍ وَتَرْدِيدٍ لَأَبْطَلَ صَلَاتَهُمْ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وَضْعَ التَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُ فَيَزِيدُونَ عَلَى الْهَمْزَةِ مَدَّةً، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُونَ فِي أَكْبَرُ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ بَعْدَ الْبَاءِ مِنْ أَكْبَرُ أَلِفًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ صَنِيعُهُمْ. وَإِنْ أَتَى بَعْضُهُمْ بِالتَّكْبِيرِ كَامِلًا فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ تَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا وَهُوَ الْبُطْلَانُ. وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَيَسْرِي الْخَلَلُ إلَى صَلَاةِ مَنْ صَلَّى بِتَبْلِيغِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ إلَّا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ. أَوَّلُهَا وَهُوَ أَعْلَاهَا: أَنْ يَرَى أَفْعَالَ الْإِمَامِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَسَمَاعُ أَقْوَالِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَرُؤْيَةُ أَفْعَالِ الْمَأْمُومِينَ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَسَمَاعُ أَقْوَالِهِمْ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَلَا إمَامَةَ. وَفِي هَذَا نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّ الْإِمَامَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ كَبَّرُوا خَلْفَهُ إذْ ذَاكَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الصَّلَاةِ لِيُسْمِعُوا النَّاسَ ذَلِكَ فَيُعْلِمُوا بِتَكْبِيرِهِمْ أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ، فَمَنْ أَحْرَمَ مِنْ النَّاسِ حِينَئِذٍ سَرَى الْخَلَلُ إلَى صَلَاتِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، وَهَذَا لَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا. ثُمَّ إنَّ تَبْلِيغَهُمْ فِي الصَّلَاةِ جَمَاعَةً أَدَّى إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ وَفِي حُكْمِهِ؛ وَفِي هَذَا الْفِعْلِ يَصِيرُ الْإِمَامُ فِي حُكْمِ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّ الْمُكَبِّرِينَ يُطَوِّلُونَ فِي التَّكْبِيرِ وَيُمَطِّطُونَهُ، وَالْإِمَامُ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُمْ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ إلَى الرُّكْنِ الَّذِي يَلِيهِ. وَأَفْضَى تَسْمِيعُهُمْ جَمَاعَاتٍ أَيْضًا إلَى مَفْسَدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَيَرْكَعُ فَيُكَبِّرُونَ خَلْفَهُ وَيُطَوِّلُونَ بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ عَلَيْهِ، فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ تَكْبِيرُهُمْ، وَيَأْتِي الْمَسْبُوقُ فَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَيَرْكَعُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ بَعْدُ لِكَوْنِهِ يَسْمَعُ صَوْتَ الْمُكَبِّرِينَ فِي الرُّكُوعِ فَتَفْسُدُ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، إذْ لَوْ عَلِمَ ذَلِكَ

لَتَدَارَكَ مَا وَقَعَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الرَّكْعَةَ لَمْ تَصِحَّ لَهُ. (فَصْلٌ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا الدَّكَّةُ الَّتِي تَحْتَ هَذِهِ الدَّكَّةِ الَّتِي يُؤَذِّنُونَ عَلَيْهَا لِلْجُمُعَةِ، وَالتَّعْلِيلُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَقَاصِيرِ وَالصَّنَادِيقِ. وَكَذَلِكَ الدَّكَّةُ الَّتِي يُسْمِعُونَ عَلَيْهَا فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالتَّعْلِيلُ فِيهَا كَذَلِكَ. ثُمَّ الْعَجَبُ كَيْفَ غَابَ عَنْهُمْ أَصْلُ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ إذْ إنَّ الصَّلَاةَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَإِذَا كَانَتْ صِلَةً فَمِنْ شَأْنِهَا كَثْرَةُ التَّوَاضُعِ وَتَمْرِيغُ الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَالتُّرَابِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ وَأَعْلَى، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ عَلَى الْحَصِيرِ الْغَلِيظِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الثَّوْبِ الْكَتَّانِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مَكْرُوهَةٌ مَعَ وُجُودِ الْحَصِيرِ، وَبِهَذِهِ النِّسْبَةِ تَكُونُ الصَّلَاةُ عَلَى ثَوْبِ الْقُطْنِ مَكْرُوهَةً إذَا وُجِدَ الْكَتَّانُ وَالصَّلَاةُ عَلَى الثَّوْبِ الصُّوفِ مَكْرُوهَةٌ إنْ وُجِدَ الْقُطْنُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بِالسُّجُودِ ثُمَّ يَلِيهَا الْحَصِيرُ الْغَلِيظُ ثُمَّ مَا هُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ ثُمَّ الْكَتَّانُ الْغَلِيظُ كَذَلِكَ، ثُمَّ الْقُطْنُ مِثْلُهُ ثُمَّ الصُّوفُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ تَوَاضُعٍ وَتَصَاغُرٍ وَذِلَّةٍ وَخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ. وَفِعْلُ الدَّكَّةِ يُنَافِي ذَلِكَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ عَلَيْهَا يَرْتَفِعُ بِهَا عَنْ الْأَرْضِ ارْتِفَاعًا كَثِيرًا وَيُصَلِّي عَلَى الْخَشَبِ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا جُعِلَتْ الدَّكَّةُ لِلْأَذَانِ لِلْجُمُعَةِ وَلِلْخَمْسِ لِيَسْمَعَ النَّاسُ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَا يَسْمَعُ تَبْلِيغَهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَمَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَوَاءٌ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى الدَّكَّةِ أَوْ بِالْأَرْضِ هُمْ يَسْمَعُونَهُمْ غَالِبًا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ يَكُونُ الْجَامِعُ كَبِيرًا وَفِيهِ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ وَلَا يُسْمِعُهُمْ الْمُؤَذِّنُ الْوَاحِدُ، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صَوْتِ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، بَلْ صَوْتُ الْوَاحِدِ فِي الْإِسْمَاعِ أَبْلَغُ لِكَوْنِهِ صَوَّتَ أَكْثَرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي جَمَاعَةٍ يُبَلِّغُ مَعَهُمْ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى أَصْوَاتِهِمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى يُسْمِعُ الْمُؤَذِّنُ الْوَاحِدُ فِي الشَّاهِدِ عَلَى بُعْدٍ وَلَا تُسْمِعُ الْجَمَاعَةُ إلَّا فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ. وَفِي جَوَامِعِ الْمَغْرِبِ تَجِدُ فِي الْجَامِعِ الْوَاحِدِ

فصل اتخاذ المنبر العالي

أَرْبَعَةَ مُؤَذِّنِينَ. وَاحِدٌ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَالثَّانِي حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ صَوْتُ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ حَيْثُ يَنْتَهِي صَوْتُ الثَّانِي، ثُمَّ الرَّابِعُ كَذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْمُبَلِّغِ الْوَاحِدِ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ وَصِحَّةُ صَلَاتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ اتِّخَاذُ الْمِنْبَرِ الْعَالِي] (فَصْلٌ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا أَعْنِي فِي إمْسَاكِ مَوَاضِعَ فِي الْمَسْجِدِ وَتَقْطِيعِ الصُّفُوفِ بِهَا اتِّخَاذُ هَذَا الْمِنْبَرِ الْعَالِي، فَإِنَّهُ أَخَذَ مِنْ الْمَسْجِدِ جُزْءًا جَيِّدًا، وَهُوَ وَقْفٌ عَلَى صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ كَفَى بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِنْ فِعْلِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُحْدِثَ فِي الْمَسَاجِدِ وَفِيهِ تَقْطِيعُ الصُّفُوفِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ: كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ تَقَدُّمَ الصُّفُوفِ إلَى فِنَاءِ الْمِنْبَرِ بِدْعَةٌ. وَكَانَ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْخَارِجُ بَيْنَ يَدَيْ الْمِنْبَرِ انْتَهَى. وَأَمَّا بِلَادُ الْمَغْرِبِ فَقَدْ سَلِمُوا مِنْ تَقْطِيعِ الصُّفُوفِ لَكِنْ بَقِيَتْ عِنْدَهُمْ بِدْعَتَانِ: إحْدَاهُمَا: كِبَرُ الْمِنْبَرِ عَلَى مَا هُوَ هُنَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الْمِنْبَرَ فِي بَيْتٍ إذَا فَرَغَ الْخَطِيبُ مِنْ الْخُطْبَةِ، وَهَذِهِ بِدْعَةُ الْحَجَّاجِ. وَمِنْبَرُ السُّنَّةِ غَيْرُ هَذَا كُلِّهِ كَانَ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ لَا غَيْرُ، وَالثَّلَاثُ دَرَجَاتٍ لَا تَشْغَلُ مَوَاضِعَ الْمُصَلِّينَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: بَلْ تَشْغَلُ وَلَوْ مَوْضِعًا وَاحِدًا. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مُسْتَثْنًى بِفِعْلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَكْمَلُ الْحَالَاتِ وَمَا عَدَاهُ فَبِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ كَثُرَ النَّاسُ وَاتَّسَعَ الْجَامِعُ فَإِذَا صَعِدَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ قَلَّ أَنْ يَسْمَعَ الْخُطْبَةَ الْجَمِيعُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ فِي الْغَالِبِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِنْبَرٍ عَالٍ هُوَ الَّذِي لَا يُسْمِعُهُمْ لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنْهُمْ فَكَأَنَّهُ فِي سَطْحٍ وَحْدَهُ، فَلَا يَسْمَعُ مَنْ تَحْتَهُ وَهَذَا مُشَاهَدٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَطِيبَ يَخْطُبُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ الْعَالِي وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَسْمَعُونَهُ، وَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ

فصل البئر التي في المسجد

سَمِعُوا قِرَاءَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِكَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ وَاقِفًا مَعَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَفِي حَالِ الْخُطْبَةِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا عُلُوُّ الْمَنَارِ لِلْأَذَانِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ الْبِئْر الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ] (فَصْلٌ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا الْبِئْرُ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَأَنْ يُجْعَلَ الْمَسْجِدُ طَرِيقًا بِسَبَبِهَا حَتَّى يَدْخُلَ النِّسَاءُ إلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِنَّ الْحُيَّضُ وَالْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً وَالصِّغَارُ وَمَنْ يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْ أَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَتَحَفَّظْ، وَقَدْ امْتَنَعَ بِسَبَبِهَا مَوَاضِعُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمُصَلِّينَ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ، وَلَا ضَرُورَةَ دَعَتْ إلَى الْبِئْرِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُلْوَةٍ فَيُنْتَفَعُ بِالشُّرْبِ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَانْتَفَعَ النَّاسُ بِالشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَّخَذَ الْمَسْجِدُ طَرِيقًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ النَّفْعُ بِهَا إلَّا لِلطَّهَارَةِ وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِالْآبَارِ حَتَّى فِي بَعْضِ الطُّرُقِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ. فَأَمَّا الْآبَارُ الَّتِي فِي الْمَسَاجِدِ فَلَا يُنْقَلُ الْمَاءُ مِنْهَا إلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ طَرِيقًا كَمَا تَقَدَّمَ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْبِئْرُ قَدِيمَةً وَجَاءَ مَنْ بَنَى الْمَسْجِدَ هُنَاكَ وَتَرَكَ الْبِئْرَ فِي وَسَطِهِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالطُّرُقُ إلَى الْبِئْرِ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ وَلَا يَصِحُّ فِيهِ الِاعْتِكَافُ. [فَصْلٌ مَوْضِعُ الْفَسْقِيَّةِ وَالْحَظِيرِ الَّذِي عَلَيْهَا وَمَا عَلَيْهَا] (فَصْلٌ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَوْضِعُ الْفَسْقِيَّةِ وَالْحَظِيرِ الَّذِي عَلَيْهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الطَّبَقَةِ. وَهِيَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَمْ لَا. فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُمْنَعُ الْوُضُوءُ مِنْهَا. وَقَدْ مُنِعَ كَشْفُ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْفَسْقِيَّةِ فِي الْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَكَشْفُ الْعَوْرَةِ هُنَا أَعْظَمُ فِي الْمَنْعِ؛ لِحُرْمَةِ هَذَا الْمَوْضِعِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ سِيَّمَا وَبَعْضُ النَّاسِ يَبُولُ هُنَاكَ وَيَسْتَنْجِي، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُمْنَعُ الْوُضُوءُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ يَتَوَضَّئُونَ هُنَاكَ فَتَمْتَلِئُ أَقْدَامُهُمْ وَيَخْرُجُونَ فَيُلَوِّثُونَ بِهَا الْمَسْجِدَ بِيَقِينٍ وَذَلِكَ يُمْنَعُ. وَأَمَّا الطَّبَقَةُ، فَإِنْ

فصل موضع الديوان من المسجد

لَمْ تَكُنْ مِنْ الْمَسْجِدِ فَالِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ فَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ فِيهَا؛ لِكَوْنِهَا مَحْجُورَةً. وَفِي مَوْضِعِ الْفَسْقِيَّةِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى أَكْثَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَقَاصِيرِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ يَصِلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ إلَى مَا يُرِيدُهُ مِنْ أَغْرَاضِهِ الْخَسِيسَةِ، إذْ أَنَّهَا أَكْثَرُ سِتْرًا مِنْ الْمَقَاصِيرِ؛ لِأَنَّهَا فِي مُؤَخِّرِ الْمَسْجِدِ، وَالْغَالِبُ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ وَمَا قَارَبَهُ فَيَبْقَى مُؤَخِّرُ الْمَسْجِدِ فِي الْغَالِبِ خَالِيًا، سِيَّمَا إنْ كَانَ لَيْلًا، وَهُمْ لَا يَقْعُدُونَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ إلَّا قَلِيلًا. [فَصْلٌ مَوْضِعُ الدِّيوَانِ مِنْ الْمَسْجِدِ] وَأَمَّا مَوْضِعُ الدِّيوَانِ فَلَا يَخْلُو أَيْضًا إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ غَلْقُهُ وَلَا تَحْجِيرُهُ وَلَا جُلُوسُ أَهْلِ الدِّيوَانِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ الِاعْتِكَافُ، إذْ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْمَسْجِدَ كَمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ الزَّخْرَفَةِ فِي الْمِحْرَابِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الزَّخْرَفَةِ فِي الْمِحْرَابِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ وَهُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَمِنْ الطُّرْطُوشِيِّ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَذْكُرُ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ وَمَا عُمِلَ مِنْ التَّزْوِيقِ فِي قِبْلَتِهِ فَقَالَ: كَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ حِينَ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُهُمْ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْمَسَاجِدِ هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ فِي قِبْلَتِهَا بِالصَّبْغِ مِثْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَنَحْوِهَا فَقَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّزْوِيقِ وَقَالَ: إنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ إلْصَاقِ الْعُمُدِ فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ وَفِي الْأَعْمِدَةِ، أَوْ مَا يُلْصِقُونَهُ أَوْ يَكْتُبُونَهُ فِي الْجُدْرَانِ وَالْأَعْمِدَةِ. وَكَذَلِكَ يُغَيِّرُ مَا يُعَلِّقُونَهُ مِنْ خِرَقِ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْمِحْرَابِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى. وَأَمَّا التَّخْلِيقُ بِالزَّعْفَرَانِ فِي الْمَسْجِدِ، فَهُوَ جَائِزٌ إذْ إنَّهُ مِنْ الطِّيبِ لَكِنْ قَدْ قَالَ مَالِكٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الصَّدَقَةَ بِثَمَنِ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَيَجُوزُ تَخْلِيقُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا مَنْ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ

الْمَسْجِدِ حَذَرًا مِنْ أَنْ تَدْخُلَهُ حَائِضٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، أَوْ امْرَأَةٌ طَاهِرَةٌ تُخَالِطُ النَّاسَ فِي مَوْضِعِ مُصَلَّاهُمْ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ ذَلِكَ. (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّأْزِيرِ فِي جُدَرَانِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الزَّخْرَفَةِ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِمَسَامِيرَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ أَوْتَادٍ وَغَيْرِهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِثْلِ أَنْ يَكُونَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ فِيهِ سِبَاخٌ أَوْ شَيْءٌ يُلَوِّثُ ثِيَابَ الْمُصَلِّينَ فَيُغْتَفَرُ ذَلِكَ لِأَجْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ. وَمَنْعُ دَقِّ الْمَسَامِيرِ وَمَا تَقَدَّمَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَحْدَهُ، بَلْ هُوَ حُكْمٌ شَائِعٌ فِي كُلِّ وَقْفٍ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إذَا دَخَلْتَ لِأَحَدِهِمْ بَيْتَهُ فِي الْمَدْرَسَةِ تَجِدُ كُلَّ مَا لَهُ مِنْ كُتُبٍ وَأَثَاثٍ بِالْأَرْضِ خَشْيَةً مِمَّا ذُكِرَ مِنْ تَسْمِيرِ مَسَامِيرَ يَضَعُ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ عِمَامَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ مِمَّا ذُكِرَ مَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي مَوْضِعٍ وُقِفَ بِكِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ فِي ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْبَيْتُ مِلْكًا لِغَيْرِهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ فِيهِ مِنْ الْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَمْ يَجُزْ. (فَصْلٌ) فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّرَ فِي الْمَسْجِدِ الْمَسَامِيرُ الْكِبَارُ وَالْأَوْتَادُ، وَيَقْتَطِعُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَوَاضِعَ يَمْنَعُونَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَيَسْكُنُونَ فِيهَا دَائِمًا، وَيَنَامُونَ فِيهَا وَيَقُومُونَ، وَقَدْ يَجْنُبُ أَحَدُهُمْ لَيْلًا فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَلَا نَكِيرَ فِي ذَلِكَ وَلَا مَنْ يُغَيِّرُ بَعْضَهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَفَاعِلُ مَا ذُكِرَ مُصِرٌّ عَلَى مَعْصِيَةٍ مُقِيمٌ عَلَيْهَا، وَلَوْ تَابَ بِقَلْبِهِ وَلَفْظِهِ حَتَّى يُفَارِقَهَا، فَكَيْفَ يُزَارُ أَوْ يُتَبَرَّكُ بِهِ مَعَ هَذِهِ الْجُرْحَةِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِمَوَاضِعِ الْمُصَلِّينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَقْصُورَةِ أَغْلَقَهَا عَلَى مَتَاعِهِ وَأَخَذَ الْمِفْتَاحَ مَعَهُ حَتَّى كَأَنَّهَا بَيْتُ أَبِيهِ

فصل البناء فوق سطح المسجد

أَوْ جَدِّهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَبِيتِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْغُرَبَاءِ إذَا اُضْطُرُّوا إلَيْهِ فَذَهَبَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِي الْبَادِيَةِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْحَاضِرَةِ، وَأَعْنِي بِالْبَادِيَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ يَأْوِي إلَيْهِ، وَأَمَّا بِلَادُ الرِّيفِ فَإِنَّهُ يُوجَدُ فِيهَا مَوَاضِعُ غَيْرُ الْمَسْجِدِ فَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إلَى الْمَبِيتِ فِي الْمَسْجِدِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَمْتَلِئُ بِالنَّاسِ حَتَّى يَحْتَاجُوا لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَحْدَثُوا فِيهَا مَا أَحْدَثُوا. فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَسَاجِدِ الْمَهْجُورَةِ لَا يَجُوزُ سُكْنَاهَا وَلَا إجَارَتُهَا وَلَا احْتِكَارُهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ الْبِنَاء فَوْق سَطْح الْمَسْجِد] (فَصْلٌ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مِمَّا أَحْدَثُوهُ فِي سُطُوحِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْبُيُوتِ، وَذَلِكَ غَصْبٌ لِمَوَاضِع الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسْجِدِ وَاحْتِكَارٌ لَهَا وَإِحْدَاثٌ فِي الْوَقْفِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِ الْمُقِيمِينَ فِي الْمَسْجِدِ وَغَصْبِهِمْ لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي سَكَنُوهَا، بَلْ هَذَا أَشَدُّ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْبُيُوتَ الَّتِي فِي السُّطُوحِ مُؤَبَّدَةً لِلسُّكْنَى، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَفِيهِ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ يَكُونُ جُنُبًا كَمَا سَبَقَ فِي حَقِّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْقُضَاةِ لَمَّا أَنْ تَوَلَّى وَهُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ جَاءَ إلَى سُطُوحِ الْجَامِعِ بِمِصْرَ فِي جَمَاعَةٍ وَهَدَمَ الْبُيُوتَ الْمُحْدَثَةَ عَنْ آخِرِهَا، وَلَمْ يَسْأَلْ لِمَنْ هَذَا الْبَيْتُ وَلَا لِمَنْ هَذِهِ الثِّيَابُ، بَلْ أَخَذَ مَا وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَغَيَّرَهُ وَرَمَاهُ فِي صَحْنِ الْجَامِعِ، وَمَشَى الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ طَوِيلَةً، ثُمَّ أَحْدَثُوهَا أَيْضًا لَمَّا لَمْ يَجِدُوا مَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلَا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِيهِ. وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ سُطُوحِ الْمَسْجِدِ لَا تَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْجُمُعَةِ الْجَامِعَ الْمَسْقُوفَ، وَمِنْ صِفَةِ الْمَسْجِدِ أَنْ يُدْخَلَ بِغَيْرِ إذْنٍ، وَأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النَّاسِ فِيهِ سَوَاءً، وَسُطُوحُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ

فصل الوضوء في سطح المسجد

فِيمَا هُوَ كَذَلِكَ كَمَا لَا تَصِحُّ فِي بَيْتِ الْقَنَادِيلِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّحْجِيرِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ السُّطُوحَ لَيْسَتْ بِمَحْجُورَةٍ عَلَى أَحَدٍ فَالْحُكْمُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْغَالِبِ، وَالْغَالِبُ أَنَّهَا مَحْجُورَةٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [فَصْلٌ الْوُضُوءَ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ] (فَصْلٌ) وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْوُضُوءَ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَمَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي سُطُوحِهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا يُشَاهَدُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ فِيهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ لَا شَكَّ فِيهِ كَمَا لَا يَتَوَضَّأُ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ سَطْحِهِ كَحُرْمَتِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْخَطِيبِ إذَا أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَتِهِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي صَحْنَهِ وُضُوءَ طَاهِرٍ. وَكَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي طَسْتٍ وَمَنْ يَتَوَضَّأُ فِي السُّطُوحِ أَوْ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي فِيهَا فَإِنَّمَا يَتَوَضَّأُ فِيمَا هُوَ دَاخِلُ الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ. وَقَدْ تَرَتَّبَتْ عَلَى بِنَاءِ الْبُيُوتِ فِي سُطُوحِ الْمَسْجِدِ مَفَاسِدُ جُمْلَةً. فَمِنْهَا: أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِمَّنْ يَعْتَكِفُ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي فَوْقَ سُطُوحِ الْمَسْجِدِ تَجِدُهُمْ أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ آخِرَ شَعْبَانَ يَتَقَدَّمُهُ الْفُرُشُ وَالْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَيْتِهِ مِمَّا يُمْنَعُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَدْ مَنَعَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ بِوِسَادَةٍ فِي الْمَسْجِدِ يَتَّكِئُ عَلَيْهَا أَوْ بِفَرْوَةٍ يَجْلِسُ عَلَيْهَا وَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: تُشَبِّهُ الْمَسَاجِدَ بِالْبُيُوتِ. [فَصْلٌ فِي الْمَرَاوِح وَاِتِّخَاذَهَا فِي الْمَسْجِدِ] (فَصْلٌ) وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْمَرَاوِحَ إذْ إنَّ اتِّخَاذَهَا فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةٌ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ الْيَوْمَ زِيَارَةُ الْمُعْتَكِفِ فِي مُعْتَكَفِهِ وَكَثْرَةُ الْكَلَامِ فِي الْمَسْجِدِ وَاللَّغَطُ فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ ذَلِكَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - إذَا اعْتَكَفُوا لَا يَأْتِيهِمْ أَحَدٌ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ اعْتِكَافِهِمْ إذْ إنَّ حَالَ الْمُعْتَكِفِ يَدُورُ بَيْنَ صَلَاةٍ وَتِلَاوَةٍ

وَفِكْرٍ وَذِكْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهُ كَالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَمُدَارَسَةِ الْعِلْمِ إنْ كَانَ يَمْشِي إلَيْهِ. وَأَمَّا إنْ غَشِيَهُ فِي مَجْلِسِهِ وَهُوَ يَسْمَعُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ. هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَمَّا النَّوْمُ الْخَفِيفُ فَهُوَ مُسْتَثْنًى؛ لِضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مَا أَحْدَثُوهُ فِيمَا يَأْتُونَ بِهِ لِفُطُورِهِمْ، فَتَجِدُ الرَّوَائِحَ الَّتِي لِأَطْعِمَتِهِمْ يَشُمُّهَا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ حِينَ يُؤْتُونَ بِهَا عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَالنَّاسُ إذْ ذَاكَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، فَتَبْقَى نُفُوسُهُمْ إذْ ذَاكَ مُشْتَهِيَةً لِذَلِكَ الطَّعَامِ وَأَعْيُنُهُمْ فِيهِ، سِيَّمَا إذَا دَخَلُوا بِهِ مِنْ بَابِ السُّطُوحِ الَّذِي فِي الْقِبْلَةِ؛ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فِي سُطُوحِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمُحْتَاجِينَ كَثِيرٌ وَيَتَأَذَّوْنَ بِتِلْكَ الرَّوَائِحِ كَثِيرًا وَيُخَافُ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ إمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا، وَالْمُعْتَكِفُ إنَّمَا دَخَلَ لِاعْتِكَافِهِ لِزِيَادَةِ الْفَضْلِ وَهَذَا ضِدُّهُ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ثُمَّ نَرْجِعُ الْآنَ إلَى بَقِيَّةِ مَا أَحْدَثُوهُ فِي بَعْضِ الْجَوَامِعِ، فَمِنْ ذَلِكَ السُّبْحَةُ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَعَمِلُوا لَهَا صُنْدُوقًا تَكُونُ فِيهِ وَجَامِكِيَّةٌ لِقَيِّمِهَا وَحَامِلِهَا وَالذَّاكِرِينَ عَلَيْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حَالِهِمْ فِي الذِّكْرِ كَيْفَ كَانَ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ مَنْ اقْتَدَى بِمِنْ أَحْدَثَهَا زَادَ فِيهَا حَدَثًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ جَعَلَ لَهَا شَيْخًا يُعْرَفُ بِشَيْخِ السُّبْحَةِ وَخَادِمًا يُعْرَفُ بِخَادِمِ السُّبْحَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهِيَ بِدْعَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ فَيَنْبَغِي لِإِمَامِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى إزَالَةِ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ مَعَ أَنَّ هَذَا مُتَعَيِّنٌ عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ آكَدُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ لِقَاصٍّ وَلَا لِسَمَاعِ قِرَاءَةِ الْكُتُبِ الَّتِي تُقْرَأُ وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْخٌ يُبَيِّنُ مَا يُشْكِلُ عَلَى السَّامِعِ مِنْهَا

فصل المصافحة بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بَيَانُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ. وَهَذَا فِي حَقِّ إمَامِ الْمَسْجِدِ آكَدُ إذْ إنَّهُ رَاعٍ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ إلَيْهِ النَّاسُ لِسَمَاعِ الْكُتُبِ فِيهِ ثُمَّ تَأْتِي النِّسَاءُ أَيْضًا لِسَمَاعِهَا فَيَقْعُدُ الرِّجَالُ بِمَكَانٍ وَالنِّسَاءُ بِمُقَابَلَتِهِمْ، سِيَّمَا وَقَدْ حَدَثَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ يَأْخُذُهُنَّ الْحَالُ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ فَتَقُومُ الْمَرْأَةُ وَتَقْعُدُ وَتَصِيحُ بِصَوْتٍ نَدِيٍّ وَتَظْهَرُ مِنْهَا عَوْرَاتٌ، لَوْ كَانَتْ فِي بَيْتِهَا لَمُنِعَتْ، فَكَيْفَ بِهَا فِي الْجَامِعِ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ فَنَشَأَ عَنْ هَذَا مَفَاسِدُ جُمْلَةٌ وَتَشْوِيشَاتٌ لِقُلُوبِ بَعْضِ الْحَاضِرِينَ فَجَاءُوا لِيَرْبَحُوا فَعَادَ عَلَيْهِمْ بِالنَّقْصِ، أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. [فَصْلٌ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَبَعْدَ صَلَاة الْعَصْر] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ فِعْلَ ذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ، وَمَوْضِعُ الْمُصَافَحَةِ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ لَا فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ فَحَيْثُ وَضَعَهَا الشَّرْعُ نَضَعُهَا فَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيُزْجَرُ فَاعِلَهُ لِمَا أَتَى مِنْ خِلَاف السُّنَّةِ [فَصَلِّ كَرَاهَة الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَا يَدْخُلُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ إلَى الْمَسْجِدِ حِينَ إتْيَانِهِمْ بِالْمَيِّتِ إلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ وَالْمُكَبِّرِينَ وَالْمُرِيدِينَ، إذْ إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُشَوِّشُ عَلَى الْمُتَنَفِّلِ وَالتَّالِي وَالذَّاكِرِ الْمُتَفَكِّرِ، وَالْمَسْجِدُ إنَّمَا بُنِيَ لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ اُسْتُفْتِيَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الَّتِي يَقْرَؤُهَا بَعْضُ الْجُهَّالِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِدِمَشْقَ بِالتَّمْطِيطِ الْفَاحِشِ وَالتَّغَنِّي الزَّائِدِ وَإِدْخَالِ حُرُوفٍ زَائِدَةٍ وَكَلِمَاتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْهُمْ، هَلْ هُوَ مَذْمُومٌ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ بِمَا هَذَا لَفْظُهُ: هَذَا مُنْكَرٌ ظَاهِرٌ مَذْمُومٌ فَاحِشٌ، وَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ الْمَاوَرْدِيُّ

وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ زَجْرُهُمْ عَنْهُ وَتَعْزِيرُهُمْ وَاسْتِتَابَتُهُمْ، وَيَجِبُ إنْكَارُهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ تَمَكَّنَ مِنْ إنْكَارِهِ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ مَنْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ تُمْنَعُ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ كَانَتْ سَالِمَةً لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ، وَهَذَا الَّذِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد يُقَوِّيهِ عَمَلُ السَّلَفِ الْمُتَّصِلُ، بَلْ لَوْ انْفَرَدَ الْعَمَلُ لَكَانَ كَافِيًا فِي مَنْعِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ، ثُمَّ إنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ وَدَفْنَهُ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ وَصَلَاتِهِ إنْ كَانَ فِي الْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا فَيَنْتَظِرُونَ بِهِ انْقِضَاءَ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَكُونُ، وَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ أَنَّ «مِنْ إكْرَامِ الْمَيِّتِ تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ» . وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِمَّنْ كَانَ يُحَافِظُ عَلَى السُّنَّةِ إذَا جَاءُوا بِالْمَيِّتِ إلَى الْمَسْجِدِ، صَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَيَأْمُرُ أَهْلَهُ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى دَفْنِهِ وَيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُمْ إنْ لَمْ يُدْرِكُوهَا بَعْدَ دَفْنِهِ فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا عَنْ نَفْسِهِ عَلَى مُحَافَظَتِهِ عَلَى السُّنَّةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْبِدْعَةِ، فَلَوْ كَانَ الْعُلَمَاءُ مَاشِينَ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ هَذَا السَّيِّدُ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا سَكَتَ لَهُ عَلَيْهِ فَتَزَايَدَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ إنَّ مَعَ مَا ذُكِرَ تَرَتَّبَتْ مَفَاسِدُ عَلَى كَوْنِ الْمَيِّتِ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِهِمْ يَأْتُونَ بِالْمَيِّتِ إلَى الْمَسْجِدِ فِي زِحَامٍ مِنْ الْوَقْتِ فَيَجِدُونَ الْمَسْجِدَ قَدْ امْتَلَأَ بِالنَّاسِ، فَيَدْخُلُ الْحَامِلُونَ لَهُ وَهُمْ حُفَاةٌ قَدْ مَشَوْا بِأَقْدَامِهِمْ عَلَى النَّجَاسَاتِ عَلَى مَا يُعْلَمُ فِي الطُّرُقَاتِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْسَحُوا أَقْدَامَهُمْ أَوْ يَحُكُّوهَا بِالْأَرْضِ فَيَتَخَطَّوْنَ رِقَابَ النَّاسِ بِتِلْكَ الْأَقْدَامِ وَيَمْشُونَ بِهَا عَلَى ثِيَابِهِمْ، وَقَدْ يَتَنَجَّسُ بَعْضُ الْمَسْجِدِ وَثِيَابُ مَنْ مَشَوْا عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي فَاعِلِ

ذَلِكَ أَنَّهُ مُؤْذٍ، «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِي تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ» هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَكُونُ قَدَمُهُ فِي حُجْزَتِهِ، فَإِذَا تَحَرَّكَ تَحَرَّكَ الْقَدَمُ بِحَرَكَتِهِ وَيَنْحَكُّ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ الْغَالِبُ وَقَعَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّي النَّاسُ عَلَيْهَا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ بِذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَوْضِعَ سَرِيرِ الْمَيِّتِ يَمْسِكُ مَوَاضِعَ لِلْمُصَلِّينَ ذَلِكَ غَصْبٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَوَاضِعَ وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِ كُلِّيَّةً إلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ سِيَّمَا إذَا كَانَتْ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، فَيَتَأَكَّدُ تَعْيِينُ الْغَصْبِ فِي ذَلِكَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِ الْمَوْتَى أَنْ يَبْقَى فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ، وَالْمَيِّتُ لَا يَمْسِكُ ذَلِكَ وَقَدْ تَخْرُجُ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّجَاسَةُ فِي الْمَسْجِدِ مَمْنُوعَةٌ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: رَفْعُ صَوْتِ الْحَامِلِينَ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْهُمْ عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَبَعْدَهَا حِينَ خُرُوجِهِمْ مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فَيَنْتَهِكُونَ بِذَلِكَ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ لَا تَأْتِي بِخَيْرٍ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الدَّقِيقِ وَالْجَلِيلِ. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْجَنَائِزِ يُؤَذَّنُ بِهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَكَرِهَ أَنْ يُصَاحَ خَلْفَهُ بِاسْتَغْفِرُوا لَهُ يَغْفِرْ اللَّهُ لَكُمْ وَأَفْتَوْا فِي ذَلِكَ بِالْكَرَاهَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ الْجِنَازَةِ يُؤَذَّنُ بِهَا فِي الْمَسْجِد بِصِيَاحٍ قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِ وَكَرِهَهُ وَقَالَ: لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يُدَارَ فِي الْحِلَقِ وَيُؤَذِّنُ النَّاسَ بِهَا وَلَا يَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ: أَمَّا النِّدَاءُ بِالْجَنَائِزِ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ، فَلَا يَنْبَغِي وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ لِكَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ كُرِهَ ذَلِكَ حَتَّى فِي الْعِلْمِ. وَأَمَّا النِّدَاءُ بِهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَرَآهُ مِنْ النَّعْيِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالنَّعْيَ فَإِنَّ النَّعْيَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ» ، وَالنَّعْيُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ أَلَا إنَّ فُلَانًا قَدْ مَاتَ فَاشْهَدُوا جِنَازَتَهُ، وَأَمَّا الْإِيذَانُ بِهَا وَالْإِعْلَامُ

فصل رفع الصوت في المسجد

مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِإِجْمَاعٍ. وَقَدْ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تُوُفِّيَتْ لَيْلًا: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي بِهَا» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تُؤَذِّنُوا بِي أَحَدًا إنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا، وَقَدْ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ» وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ انْتَهَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ سَدِّ مَخَارِجِهِ وَإِرْسَالِ الْقُطْنِ مَعَهُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي فِعْلِ هَذَا مُحَرَّمَاتٍ أُخَرَ مِنْهَا هَتْكُ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُرْسِلُونَ مَعَهُ الْقُطْنَ فِي فَمِهِ وَيُدْخِلُونَهُ إلَى حَلْقِهِ وَيُرْسِلُونَهُ مَعَهُ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يَمْلَئُوا حَلْقَهُ بِالْقُطْنِ وَيَنْزِلَ ذَقَنُهُ إلَى أَسْفَلَ وَيَطْلُعَ أَنْفُهُ إلَى فَوْقَ، وَيَمْلَئُونَ فَمَه وَشَدْقَيْهِ بِالْقُطْنِ فَيَبْقَى مُثْلَةً لِلنَّاظِرِ. وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي أَنْفِهِ فَيُرْسِلُونَ فِيهِ الْقُطْنَ حَتَّى يَتَعَاظَمَ أَنْفُهُ ثُمَّ يَفْعَلُونَ فِعْلًا قَبِيحًا فَيُرْسِلُونَ الْقُطْنَ فِي دُبُرِهِ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا فِعْلٌ قَبِيحٌ شَنِيعٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَمَرَنَا بِغُسْلِ الْمَيِّتِ إكْرَامًا لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْقَبْرِ وَهُمْ يَفْعَلُونَ بِهِ مَا ذُكِرَ، فَإِذَا جَاءُوا بِهِ إلَى الْقَبْرِ أَخْرَجُوا ذَلِكَ مِنْهُ يَخْرُجُ الْقُطْنُ وَهُوَ مُلَوَّثٌ بِالْفَضَلَاتِ فِي الْغَالِبِ وَيَبْقَى الْفَمُ مَفْتُوحًا لَا يُمْكِنُ غَلْقُهُ، ثُمَّ إنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ وَالْمَلَائِكَةُ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ، وَهُمْ يُبْقُونَ ذَلِكَ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ فِي الْغَالِبِ، فَذَهَبَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أَمَرَنَا الشَّارِعُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْإِكْرَامُ بِغُسْلِهِ لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ. ثُمَّ الْعَجَبُ فِي كَوْنِهِمْ يَأْتُونَ بِمَاءِ الْوَرْدِ فَيَسْكُبُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْقَبْرِ، وَهَذِهِ أَيْضًا بِدْعَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الطِّيبَ إنَّمَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا فِي الْقَبْرِ فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ طِيبٌ وَنَجَاسَةٌ. [فَصْلٌ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَغَيْرِهَا فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةٌ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

أَنَّهُ قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ، وَجَمِّرُوهَا أَيَّامَ جُمَعِكُمْ وَاجْعَلُوا مَطَاهِرَكُمْ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ» وَقَدْ كَثُرَ رَفْعُ الْأَصْوَاتِ وَالْخُصُومَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى إنَّ الْخَطِيبَ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ مَا يَقُولُ لِكَثْرَةِ غَوْغَائِهِمْ إذْ ذَاكَ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ عَلَيْهِمْ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّصْفِيقِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ، إذْ إنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ قَبِيحٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» وَهَذَا كُلُّهُ سَبَبُهُ السُّكُوتُ عَمَّا أُحْدِثَ فِي الدِّينِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثُ نَفَرٍ فَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِلَغْوٍ فَذَلِكَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِدُعَاءٍ فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ لَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] » وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ تَفْرِيقِ الرَّبْعَةِ حِينَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْأَذَانِ قَامَ الَّذِي فَرَّقَهَا لِيَجْمَعَ مَا فُرِّقَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ فَيَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ بِسَبَبِ أَخْذِهَا مِنْهُمْ، وَهَذَا فِيهِ مَحْذُورَاتٌ جُمْلَةٌ مِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - إذْ إنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهِ تَخَطِّيَ رِقَابَ النَّاسِ حِينَ ارْتِصَاصِهِمْ لِانْتِظَارِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّ فَاعِلَهُ مُؤْذٍ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ كُلَّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يُعْطِي الْخَتْمَةَ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَقْرَأَ فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ خَجَلٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ أَذِيَّةٌ وَصَلَتْ عَلَى يَدِهِ لِمُسْلِمٍ كَانَ عَنْهَا فِي غِنًى. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ يَنْسَى بَعْضَ الْأَجْزَاءِ فَلَا يَأْخُذُهُ فَيَضِيعُ عَلَى الْوَقْفِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدْ يَأْخُذُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَيَكْتُمُهُ لِتَسَاهُلِهِمْ فِي الْوَقْفِ، فَقَدْ يَخْفَى وَيَخْتَارُ أَنْ يَخْتَصَّ

هُوَ بِمَنْفَعَتِهِ فِي بَيْتِهِ إمَّا لِنَفْسِهِ أَوْ لِوَلَدِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَذْهَبُ عَلَى الْوَقْفِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ قَدْ يَأْتِي عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنَّهُ يَكُونُ مَشْغُولًا فِي جَمْعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَالْخَطِيبُ إذْ ذَاكَ يَخْطُبُ فَيَقَعُ الْكَلَامُ وَالْمُرَاجَعَةُ بِسَبَبِ جَمْعِهَا فِي حَالِ الْخُطْبَةِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ أَنْ يَقِفُوا تَحْتَ اللَّوْحِ الْأَخْضَرِ لِلدُّعَاءِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ إذْ إنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ إرْسَالِ الْبُسُطِ وَالسَّجَّادَاتِ وَغَيْرِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ أَصْحَابُهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْقُبْحِ وَمُخَالَفَةِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَتِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى مَنْ يَقْرَأُ الْأَعْشَارَ وَغَيْرَهَا بِالْجَهْرِ، وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْفَرَائِضِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ النَّهْيِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا إنْكَارٌ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، بَلْ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ وَالتَّالِينَ وَالْمُتَفَكَّرِينَ وَكُلِّ مَنْ كَانَ فِي عِبَادَةٍ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ ذَلِكَ يُمْنَعُ فِي الْمَسْجِدِ الْمَطْرُوقِ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ وَمُعَرَّضٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودِ بِهَا. وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ مَهْجُورٍ وَلَيْسَ فِيهِ غَيْرُ السَّامِعِينَ أَوْ فِي مَدْرَسَةٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ بَيْتٍ، فَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِحَسَبِ الْحَالِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ غَيْرُ السَّامِعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ غَيْرُهُمْ فَيُمْنَعُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْ يَدْرُسُ أَوْ يُطَالِعُ أَوْ يُصَلِّي أَوْ يَأْخُذُ رَاحَةً لِنَفْسِهِ، فَيَقْطَعَ عَلَيْهِ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» انْتَهَى هَذَا إذَا سَلِمَ مِنْ الزِّيَادَةِ أَوْ النُّقْصَانِ مِثْلَ أَنْ يَمُدَّ الْمَقْصُورَ أَوْ يُقْصِرَ الْمَمْدُودَ أَوْ يُشَدِّدَ مَوْضِعَ التَّخْفِيفِ أَوْ عَكْسَهُ أَوْ يُظْهِرَ مَوْضِعَ الْإِدْغَامِ أَوْ عَكْسَهُ أَوْ يُظْهِرَ مَوْضِعَ الْإِخْفَاءِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنْ لَا يَصِلَ بِالْعَشْرِ آيَةً أُخْرَى غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلْقُرْآنِ فِي الظَّاهِرِ عَنْ نَظْمِهِ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ

قِرَاءَةِ الْأَسْبَاعِ سِيَّمَا الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ وَقِرَاءَةِ الْأَسْبَاعِ فِي الْمَسْجِد مِمَّا يُشَوِّشُونَ بِهَا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَأَيُّ شَيْءٍ كَانَ فِيهِ تَشْوِيشٌ مُنِعَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى الْفُقَرَاءَ الذَّاكِرِينَ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهَا أَوْ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَوْقَاتِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَنْعِ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَسْأَلُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَاحْرِمُوهُ» وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إذَا سَأَلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ أَنْ لَا يُعْطَى، وَإِذَا سَأَلَ عَلَى الْقُرْآنِ فَلَا تُعْطُوهُ انْتَهَى. وَالْمَسْجِدُ لَمْ يُبْنَ لِلسُّؤَالِ فِيهِ وَإِنَّمَا بُنِيَ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَالسُّؤَالُ يُشَوِّشُ عَلَى مَنْ يَتَعَبَّدُ فِيهِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْإِعْطَاءِ لِمَنْ يَسْأَلُ فِيهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَاحْرِمُوهُ؛ وَلِأَنَّ إعْطَاءَهُ ذَرِيعَةٌ إلَى سُؤَالِهِ فِي الْمَسْجِدِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ السَّقَّائِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَيُنَادُونَ فِيهِ عَلَى مَنْ يُسَبِّلُ لَهُمْ، فَإِذَا سَبَّلَ لَهُمْ يُنَادُونَ غَفَرَ اللَّهُ لِمَنْ سَبَّلَ وَرَحِمَ مَنْ جَعَلَ الْمَاءَ لِلسَّبِيلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ، وَيَضْرِبُونَ مَعَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فِي أَيْدِيهِمْ لَهُ صَوْتٌ يُشْبِهُ صَوْتَ النَّاقُوسِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ وَمِمَّا يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْ مِثْلِهِ. وَفِي فِعْلِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ مَفَاسِدُ جُمْلَةٌ مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ شَبَهِ النَّاقُوسِ. وَمِنْهَا رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَمِنْهَا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ وَبَعْضَهُمْ يَمْشِي يَخْتَرِقُ الصُّفُوفَ فِي الْمَسْجِدِ، فَمَنْ احْتَاجَ أَنْ يَشْرَبَ نَادَاهُ فَشَرِبَ وَأَعْطَاهُ الْعِوَضَ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا بَيْعٌ بَيِّنٌ لَيْسَ فِيهِ وَاسِطَةُ تَسْبِيلٍ وَلَا غَيْرِهِ سِيَّمَا وَالْمُعَاطَاةُ بَيْعٌ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ تَبِعَهُ. وَمِنْهَا تَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ فِي حَالِ انْتِظَارِهِمْ لِلصَّلَاةِ. وَمِنْهَا تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مِنْ الْمَاءِ شَيْءٌ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا إلَّا أَنَّهُ يُمْنَعُ فِي الْمَسَاجِدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْيُ بَعْضِهِمْ حُفَاةً

وَدُخُولُهُمْ الْمَسْجِدَ بِتِلْكَ الْأَقْدَامِ النَّجِسَةِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَحْذُورِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَوُقُودِ الْقَنَادِيلِ وَغَيْرِهَا وَمَا فِي ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي. وَكَذَلِكَ مَا يُفْعَلُ فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ مَبْسُوطًا فِي مَوَاضِعِهِ فَلْيُلْتَمَسْ هُنَاكَ. وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى لِجَهْلِ الْجَاهِلِ وَسُكُوتِ الْعَالِمِ، حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ إلَى جَهْلِ الْحُكْمِ فِيهِ وَاسْتَحْكَمَتْ الْعَوَائِدُ حَتَّى أَنَّ أُمَّ الْقُرَى مَكَّةَ الَّتِي لَهَا مِنْ الشَّرَفِ مَا لَهَا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي مَسْجِدِهَا، وَالسَّمَاسِرَةُ يُنَادُونَ فِيهِ عَلَى السِّلَعِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَيُسْمَعُ لَهُمْ هُنَاكَ أَصْوَاتٌ عَالِيَةٌ مِنْ كَثْرَةِ اللَّغَطِ، وَلَا يَتْرُكُونَ شَيْئًا إلَّا يَبِيعُونَهُ فِيهِ مِنْ قُمَاشٍ وَعَقِيقٍ وَدَقِيقٍ وَحِنْطَةٍ وَتِينٍ وَلَوْزٍ وَأُكُرٍ وَعُودِ أَرَاكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَسْتَاكُ مَنْ لَهُ وَرَعٌ بِعُودِ الْأَرَاكِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَبِيعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُعْلِمَهُ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَيَسْتَاكَ بِهِ حِينَئِذٍ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ تَعْلِيقِ الْقَنَادِيلِ الْمُذَهَّبَةِ وَوُقُودِهَا وَالتَّزْيِينِ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ السَّرَفُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ إذْ إنَّ الذَّهَبَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي تَحْلِيَةِ النِّسَاءِ وَفِي تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ وَالسَّيْفِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمِنْطَقَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ مَشْيِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَلَهُمْ طَرِيقٌ سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ مِنْهُ، وَاِتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ طَرِيقًا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَهَا هُوَ ذَا قَدْ شَاعَ وَكَثُرَ. وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ جَامِعًا إلَّا وَقَدْ اتَّخَذُوهُ طَرِيقًا وَقَلَّ مَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا نَهَى عَنْهُ لَاسْتَحْمَقُوهُ، وَقَدْ يَتَأَذَّى بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النِّسَاءَ اللَّاتِي يَدْخُلْنَ الْجَامِعَ وَيَجْلِسْنَ فِيهِ لِانْتِظَارِ بَيْعِ غَزْلِهِنَّ، وَيَدْخُلُ الْمُنَادِي إلَيْهِنَّ وَمَعَهُ الْغَزْلُ فَيُكَلِّمُهُنَّ فِي الْجَامِعِ وَيُشَاوِرهُنَّ عَلَى ثَمَنِ ذَلِكَ، فَمَنْ رَضِيَتْ مِنْهُنَّ تَقُولُ: قَدْ

بِعْتُ، وَذَلِكَ بَيْعٌ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمُنَادِيَ صَارَ إذْ ذَاكَ كَالْوَكِيلِ وَيَقَعُ بِذَلِكَ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجْتَمِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَيَجِدُ السَّبِيلَ إلَى مَا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ، وَبَعْضُهُنَّ يَكُونُ مَعَهَا الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ، وَقَدْ يَبُولُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ رُئِيَ ذَلِكَ عِيَانًا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النِّسَاءَ اللَّاتِي يَأْتِينَ لِلْمُحَاكَمَاتِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَدْخُلْنَ إلَيْهِ لِانْتِظَارِ مَا يُرِيدُونَهُ وَيَدْخُلُ إلَيْهِنَّ الْوُكَلَاءُ وَالرِّجَالُ وَالْأَزْوَاجُ وَتَكْثُرُ الْخُصُومَاتُ وَتَرْتَفِعُ الْأَصْوَاتُ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ، وَالْقَاضِي بِمَعْزِلٍ عَنْهُمْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَيَمْنَعُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَفِي الْإِشَارَةِ مَا يُغْنِي عَنْ الْعِبَارَةِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْحِلَقِ وَالْجُلُوسِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ لِلْحَدِيثِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَمَا جَرَى لِفُلَانٍ وَمَا جَرَى عَلَى فُلَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ أَكْلَ النَّارِ الْحَطَبَ فَيَنْهَاهُمْ وَيُفَرِّقُ جَمْعَهُمْ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ الْمَسَاجِدَ يَقْعُدُونَ فِيهَا حِلَقًا حِلَقًا، ذِكْرُهُمْ الدُّنْيَا وَحُبُّهُمْ الدُّنْيَا، لَا تُجَالِسُوهُمْ فَلَيْسَ لِلَّهِ بِهِمْ مِنْ حَاجَةٍ» . وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَتَى الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ فَأَكْثَرَ مِنْ الْكَلَامِ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: اُسْكُتْ يَا وَلِيَّ اللَّهِ، فَإِنْ زَادَ تَقُولُ: اُسْكُتْ يَا بَغِيضَ اللَّهِ، فَإِنْ زَادَ تَقُولُ: اُسْكُتْ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ» وَإِنَّمَا يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّفَكُّرِ أَوْ تَدْرِيسِ الْعِلْمِ بِشَرْطِ عَدَمِ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَعَدَمِ التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ. وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَيُمْنَعُ جَمَاعَةً وَيَجُوزُ جَهْرًا بِشَرْطِ عَدَمِ التَّشْوِيشِ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى حَتَّى فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، فَقَدْ كَثُرَ فِيهَا الْحَدِيثُ وَالْقِيلُ وَالْقَالُ وَرَفْعُ الْأَصْوَاتِ سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَتَجِدُ رَفْعَ الْأَصْوَاتِ عِنْدَ قَبْرِ سَيِّدِنَا

وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَدِيثَ الْكَثِيرَ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى حِينَ أَوْقَاتِ الزِّيَارَةِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَكَذَلِكَ فِي قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ فِي الْحَجِّ تَجِدُ لَهُمْ غَوْغَاءَ حَتَّى كَأَنَّهُمْ قَطُّ مَا هُمْ فِي عِبَادَةٍ. وَكَذَلِكَ تَجِدُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ فِيهِ مِنْ الْوُقُوفِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالنُّفُورِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ لَمْ يَحُجَّ إلَيْهِ أَحَدٌ قَطُّ وَلَا فَرَضَهُ اللَّهُ فِيهِ وَمَا كَانَ الْحَجُّ مِنْ عَهْدِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَّا لِبَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَعَرَفَةَ وَمِنًى وَالْمَنَاسِكِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَّا الصَّلَاةُ إلَى الصَّخْرَةِ، فَهِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَتْ ثُمَّ حُوِّلَتْ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ. فَالْوُقُوفُ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَيْسَ فِيهِ اقْتِدَاءٌ بِالْمَاضِينَ وَلَا بِالْمُتَأَخِّرِينَ لِمَا ذُكِرَ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَجَّ إلَيْهِ قَبْلَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِيهِ الْيَوْمَ، كَمَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَى الصَّخْرَةِ بَعْدَ نَسْخِهَا. وَقَدْ شَذَّ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ بِجَوَازِ الْوُقُوفِ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُثَابٌ لَا أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ الْحَجِّ الْمَشْرُوعِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَافْهَمْهُ. وَمِمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ مَا يَفْعَلُونَهُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَأَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ فَيُسْمَعُ لَهُمْ صِيَاحٌ وَهَرَجٌ وَبِدَعٌ كَثِيرَةٌ حِينَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ، وَأَوَّلُ مَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدَعُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمِنْهُ شَاعَتْ فِي الْأَقَالِيمِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْحَوَادِثِ وَالْبِدَعِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ أَوْ يَتَكَلَّمُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَانْحَسَمَتْ الْمَادَّةُ أَوْ بَعْضُهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَيَنْهَى مَنْ يَقْعُدُ فِي الْمَسْجِدِ لِتَفْلِيَةِ ثِيَابِهِ سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْبَرْدِ يَقْعُدُونَ فِي الشَّمْسِ وَيُفَلُّونَ ثِيَابَهُمْ وَهَذَا لَا يَحِلُّ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ جِلْدَةَ الْبُرْغُوثِ الَّذِي خَالَطَ الْإِنْسَانَ نَجِسَةٌ وَجِلْدَةَ الْقَمْلَةِ نَجِسَةٌ مُطْلَقًا، وَهُمْ يُلْقُونَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ قَتْلِهِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْمَعُهُ وَيُلْقِيهِ خَارِجَ الْمَسْجِد فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ قَتْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ يُمْنَعُ وَإِنْ لَمْ يُلْقِهَا فِيهِ، إذْ أَنَّهُ حَامِلٌ

لِلنَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حِينِ قَتْلِهَا إلَى حِينِ إلْقَائِهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَمِنْ الطُّرْطُوشِيِّ: وَكَرِهَ مَالِكٌ قَتْلَ الْقَمْلَةِ وَرَمْيَهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يَطْرَحُهَا مِنْ ثَوْبِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا يَقْتُلُهَا بَيْنَ النَّعْلَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُصَلِّي إذَا أَخَذَ قَمْلَةً وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلْقِيَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ» وَإِذَا رَمَاهَا فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ بِالْحَيَاةِ فَإِمَّا أَنْ تَمُوتَ جُوعًا أَوْ تَضْعُفَ وَكِلَاهُمَا عَذَابٌ لَهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْقِتْلَةِ. وَشَأْنُ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَنْقُلَهَا لِمَكَانٍ آخَرَ مِنْ بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ يَرْبِطَهَا فِي طَرَفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا الْبُرْغُوثُ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يُلْقِيهِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتُلَهُ؛ لِأَنَّ الْبُرْغُوثَ لَا يَقْعُدُ بِمَكَانٍ وَاحِدٍ بَلْ يَنْتَقِلُ فِي الْغَالِبِ وَرُبَّمَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ التُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ خُلِقَ وَيَعِيشُ فِيهِ بِخِلَافِ الْقَمْلَةِ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ دَمِ الْإِنْسَانِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سَيِّدِي حَسَنٍ الزُّبَيْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا مَعَ أَصْحَابِهِ إلَى بُسْتَانِهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَذْهَبُوا إلَى الْبُسْتَانِ فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ رُجُوعِهِ فَقَالَ: كَانَ عَلَيَّ قَمِيصٌ نَسِيتُهُ فِي الْبَيْتِ وَفِيهِ دَوَابُّ فَخِفْتُ أَنْ يَمُوتُوا جُوعًا فَرَجَعْتُ إمَّا أَنْ أَقْتُلَهُمْ وَإِمَّا أَنْ أَلْبَسَهُ. وَهَذَا الْأَمْرُ قَدْ كَثُرَ وَفَشَا سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَتَرَى الْغُرَبَاءَ يَأْتُونَ إلَيْهِ بِدُلُوقٍ تَغْلِي قَمْلًا فَيُجَرِّدُونَهَا عَنْهُمْ وَيُلْقُونَهَا فِي الْمَسْجِدِ، فَتَحُسُّ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ فَتَخْرُجُ مِنْ الثَّوْبِ وَتَمُوتُ بِحَرِّ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَنْفُضُ أَحَدُهُمْ دَلْقَهُ وَيَلْبَسُهُ وَتَبْقَى الدَّوَابُّ كُلُّهَا مَيِّتَةً فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا كَانَ إمَامُ الْمَسْجِدِ يَنْهَى عَنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ تَنَبَّهَ النَّاسُ إلَيْهِ وَتَرَكُوهُ وَغَيَّرُوهُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ سِيَّمَا إنْ كَانَ مِنْ الْمَطْبُوخِ بِالْبَصَلِ أَوْ الثُّومِ أَوْ الْكُرَّاثِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ نِيئًا فَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَالْأَكْلُ فِي الْمَسْجِدِ فِي

مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُسَامَحُ فِيهِ إلَّا الشَّيْءَ الْخَفِيفَ كَالسَّوِيقِ وَنَحْوِهِ. وَمِنْ الطُّرْطُوشِيِّ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: أَمَّا الشَّيْءُ الْخَفِيفُ مِثْلَ السَّوِيقِ وَيَسِيرِ الطَّعَامِ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا، وَلَوْ خَرَجَ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ كَانَ أَعْجَبَ إلَيَّ وَأَمَّا الْكَثِيرُ فَلَا يُعْجِبُنِي وَلَا فِي رِحَابِهِ. وَقَالَ فِي الَّذِي يَأْكُلُ اللَّحْمَ فِي الْمَسْجِدِ: أَلَيْسَ يَخْرُجُ لِغَسْلِ يَدِهِ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: فَلْيَخْرُجْ لِيَأْكُلْ انْتَهَى، وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا وَهُوَ الْكَلَامُ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: وَأَكْرَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِأَلْسِنَةِ الْعَجَمِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَا قِيلَ فِي أَلْسِنَةِ الْأَعَاجِمِ إنَّهَا خَبٌّ قَالَ: وَلَا يُفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ مِنْ الْخَبِّ قَالَ: وَهُوَ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَشَدُّ انْتَهَى. وَهَذَا الْأَمْرُ الْيَوْمَ قَدْ كَثُرَ وَشَاعَ حَتَّى إنَّ الْقَوَمَةَ لَيُخْرِجُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي كُلِّ يَوْمٍ صِحَافًا كَثِيرَةً وَأَوْرَاقًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ مَا يُؤْكَلُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجْتَمِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذُّبَابُ وَالْخُشَاشُ وَيَكْثُرُ الْقِطَاطُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ إطْعَامَهُمْ الطَّعَامَ مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ فَتَكْثُرُ الْقِطَاطُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا أَكَلَ أَحَدٌ فِي الْمَسْجِدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْقِطَاطُ فِي الْمَسْجِدِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَيَبُلْنَ فِيهِ وَبَوْلُهُنَّ نَجِسٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ عِيَانًا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى صَلَاةِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَبُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ بِذَلِكَ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ هِرٌّ مُؤْذٍ أَرْسَلَهُ إلَى الْجَامِعِ، فَكَانَ النَّاسُ يُوَقِّرُونَ بُيُوتَ رَبِّهِمْ يَحْتَرِمُونَهَا وَيُنَزِّهُونَهَا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهَا، وَكَانَتْ الْمَسَاجِدُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ» ، فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ صَارَ الْمَسْجِدُ مَأْوًى لِلْقِطَاطِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالْأَكْلُ سَبَبُ ذَلِكَ سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ وُرُودُ الْغُرَبَاءِ إلَيْهِ فَتَجِدُهُمْ يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ وَيَرْمُونَ الْعِظَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَأْكُلُونَ الْبِطِّيخَ وَيَرْمُونَ قُشُورَهُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَلَاتِ الْمَأْكُولِ وَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ

يُلْقِي ذَلِكَ فِي خَارِجِ الْمَسْجِد، بَلْ يَدْخُلُونَ فِيهِ بِالْحَمِيرِ بِسَبَبِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْبُنْيَانِ وَالْعِمَارَةِ فَتَبُولُ الْحَمِيرُ فِيهِ وَتَرُوثُ كَأَنَّهُ عِنْدَهُمْ طَرِيقٌ مِنْ الطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِتَنْظِيفِ الطُّرُقِ، فَكَيْفَ الْحَالُ فِي الْمَسَاجِدِ؟ فَكَيْفَ الْحَالُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي فِيهِ مِنْ الْفَضْلِ مَا فِيهِ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَإِذَا كَانَ إمَامُ الْمَسْجِدِ يَنْهَى عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهَا انْحَسَمَتْ الْمَادَّةُ، فَإِنَّ الْخَيْرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يُعْدَمْ مِنْ النَّاسِ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ وَاحِدٌ سَمِعَ آخَرُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سَبَبٌ لِهِدَايَةِ بَعْضِ النَّاسِ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: إنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَعَنْ عَوَائِدِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَجَوَابُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ؛ «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا» إلَخْ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَأْتِي النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَأْتِي النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَالْخَيْرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يُعْدَمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إذْ إنَّ الْخَيْرَ فِيهَا كَامِنٌ فَمَنْ نُبِّهَ مِنْهُمْ تَنَبَّهَ وَرَجَعَ وَانْقَادَ وَاسْتَغْفَرَ، وَكُنْتَ أَنْتَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْجَمِيعِ بِمَنِّهِ. وَيَنْهَى عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ سِيَّمَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ سِيَّمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَتَجِدُ الْمَسْجِدَ قَدْ ارْتَصَّ بِالنَّاسِ فِي الْغَالِبِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» . وَالنَّائِمُ قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ خُرُوجِ الرِّيحِ مِنْهُ فَتَتَأَذَّى الْمَلَائِكَةُ بِهِ. وَقَدْ نُهِينَا عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِرَائِحَةِ الثُّومِ أَوْ الْبَصَلِ؛ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسَاجِدَنَا يُؤْذِينَا بِرِيحِ الثُّومِ» فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الثُّومِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى الرِّيحُ الْخَارِجُ مِنْ الْمَخْرَجِ، وَقَدْ يَحْتَلِمُ النَّائِمُ فَيَبْقَى جُنُبًا

فِي الْمَسْجِدِ. وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ لَأَنْ تُسْرَقَ عِمَامَتُهُ أَوْ رِدَاؤُهُ، وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَشْيَاءُ عَدِيدَةٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا، وَالْحَاصِلُ مِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ تَجِدُ فِيهِ مَخَاوِفَ فَيَتَعَيَّنُ تَرْكُهُ، فَإِذَا عَلِمَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ نَهْيِ الْإِمَامِ ارْتَدَعُوا عَنْهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَيَنْهَى عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ خِيَاطَةِ قُلُوعِ الْمَرَاكِبِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ، فَكَيْفَ بِالصَّنْعَةِ تُعْمَلُ فِيهِ؟ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ نَسْخَ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَنَسْخَ الْقُرْآنِ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّسَبُّبِ فِيهِ، فَمَا بَالُكَ بِغَيْرِهِمَا فَيَمْنَعُ فَاعِلَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَعُودَ إلَى مِثْلِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَيَنْهَى السَّقَّاءَ الَّذِي يَدْخُلُ بِالْجَمَلِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّ بَوْلَهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَجِسٌ وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُلَوِّثُ الْمَسْجِدَ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ فَيُمْنَعُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يُنَزَّهُ عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْ هَذَا وَيَنْهَى عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْمَشْيِ فِي الْمَسْجِدِ بِالْغَنَمِ لِأَنَّهَا قَدْ تَبُولُ فِيهِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ عَلَى دُخُولِ السَّقَّاءِ بِالْجَمَلِ فِي الْمَسْجِدِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْهَى عَنْ دُخُولِ الشَّوَّاءِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَفَاسِدَ. مِنْهَا أَنْ يَجْعَلَ الْمَسْجِدَ طَرِيقًا وَقَدْ قُدِّمَ مَا فِيهِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَدْخُلُ بِالذَّفَرِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ يُنَزَّهُ عَنْ أَقَلَّ مِنْ هَذَا. الثَّالِثَةُ: أَنَّ رَائِحَتَهُ قَوِيَّةٌ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمُتَوَجِّهِينَ مَنْ تَتَشَوَّقُ نَفْسُهُ لِذَلِكَ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ لِيَشْتَرِيَ بِهِ فَيَتَشَوَّشُ فِي عِبَادَتِهِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ حَامِلَهُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعِ الذَّبْحِ وَهُوَ مَحَلُّ النَّجَاسَاتِ وَحَامِلُهَا حَافٍ هُنَاكَ وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ. الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْحَامِلِينَ لَهُ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِكَلَامٍ لَا يَنْبَغِي فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ. السَّادِسَةُ مَا فِيهِ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ وَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنَّ الشِّوَاءَ طَاهِرٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَنَجِّسًا فَلَا يَدْخُلُ بِالنَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ اتِّفَاقًا. وَيَنْهَى عَنْ دُخُولِ الرُّهْبَانِ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ يَفْرِشُونَهُ بِالْحُصُرِ الْمَضْفُورَةِ

الَّتِي يُضَفِّرُونَهَا فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْعُ دُخُولِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى دُخُولِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَى بِالْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ إذْ إنَّ غَيْرَهُمْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ فِي فَرْشِهَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَيَنْهَى النَّاسَ عَنْ إتْيَانِهِمْ إلَى الْمَسْجِدِ بِأَوْلَادِهِمْ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ أَوْ يُنْهَوْنَ عَنْهُ إذْ إنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ حِينَ صَلَاتِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ فِي صَلَاتِهِمْ وَيَبْكِي الصَّبِيُّ فَيُشَوِّشُ عَلَى الْمُصَلِّينَ فَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيَزْجُرُ فَاعِلَهُ. وَهَذَا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَعَ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الرِّجَالِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ مَعَ أُمِّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْغَالِبَ فِي مَوْضِعِ النِّسَاءِ أَنْ يَكُونَ بِالْبُعْدِ بِحَيْثُ لَا يُشَوِّشُ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ. الثَّانِي: أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَوْلَادِ إذَا كَانُوا مَعَ أُمَّهَاتِهِمْ قَلَّ أَنْ يَبْكُوا بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَهَذَا إذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى صَلَاةِ الْمَرْأَةِ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ كَانَ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ إلَى الْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُصَلِّينَ مَعَهُ جَمَاعَةً. وَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُخَفِّفُ صَلَاتَهُ إذَا سَمِعَ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ» . فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «لَوْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَحَدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَهُ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ» الثَّانِي أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُوَازِيهَا شَيْءٌ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ فُقِدَ فَإِذَا لَمْ تَخْرُجْ الْأُمُّ لِلصَّلَاةِ فَالْإِتْيَانُ بِالْأَوْلَادِ لِلْمَسْجِدِ دُونَ أُمَّهَاتِهِمْ يُمْنَعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ جَهْرًا فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ يُشَوِّشُ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ فَهَذَا مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَنْهَى عَنْهُ وَيَزْجُرَ فَاعِلَهُ. وَيَنْهَى النَّاسَ عَنْ كَتْبِهِمْ الْحَفَائِظَ فِي آخِرِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّفْظِ الْأَعْجَمِيِّ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْهُ وَمَا يَدْرِيك لَعَلَّهُ كُفْرٌ. الثَّانِي: أَنَّ فِيهِ اللَّغْوَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ

يَشْتَغِلُ بِالْكُتُبِ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِبِدْعَةٍ وَيَتْرُكُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ الْإِصْغَاءِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. الْخَامِسُ: مَا أَحْدَثُوهُ عَنْ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا فِي الْمَسْجِدِ فَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيَزْجُرُ فَاعِلَهُ. وَبَعْضُ النَّاسِ يَكْتُبُهَا بَعْدَ صَلَاةِ عَصْرِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ أَيْضًا لَكِنَّهَا أَخَفُّ مِنْ الْبِدْعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا إذْ إنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ خُطْبَةٌ يَشْتَغِلُ عَنْهَا وَلَوْ كَتَبَهَا وَأَسْقَطَ مِنْهَا اللَّفْظَ الْأَعْجَمِيَّ وَلَمْ يَتَّخِذْ لِكِتَابَتِهَا وَقْتًا مَعْلُومًا لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَنْهَى النِّسَاءَ عَمَّا أَحْدَثْنَهُ وَسُكِتَ لَهُنَّ عَنْهُ مِنْ دُخُولِهِنَّ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي مُؤَخِّرِ الْجَامِعِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُنَّ مَقْصُورَةٌ مَعْلُومَةٌ لَكِنَّهَا كَالْعَدَمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ إذْ إنَّهَا لَا تَسْتُرهُنَّ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِنَّ خُرُوجُهُنَّ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ التَّحَلِّي وَاللِّبَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَوْضِعَهُنَّ فِي الزِّيَارَةِ قَدْ اسْتَغْنَيْنَ بِهِ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْقُرْبِ مِنْ الرِّجَالِ فَهُوَ أَلْيَقُ بِهِنَّ مَا لَمْ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْخَمِيسِ وَالْجَنَائِزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ الْأَلْيَقُ بِهِنَّ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يَخْرُجْنَ وَلَا يُمَكَّنَّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ قَالُوا إنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا وَحْدَهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ وَصَلَاتَهَا فِي مَخْدَعٍ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا فَكَيْفَمَا زَادَ سَتْرُهَا وَانْحِجَابُهَا كَانَ أَفْضَلَ لِصَلَاتِهَا. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُمْكِنُهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِي بَيْتِهَا مَعَ جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجَاوِرُهَا وَهِيَ لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا فَذَلِكَ أَفْضَلُ لَهَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلِذَلِكَ كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّينَ فِي بُيُوتِهِنَّ بِصَلَاةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَسْجِدِ وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ دُخُولِ بَعْضِهِمْ إلَى الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَهْرًا يَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ حِينَ دُخُولِهِ وَحِينَ خُرُوجِهِ وَيُجِيبُهُ بَعْضُ مَنْ يَسْمَعُ صَوْتَهُ مِمَّنْ فِي الْمَسْجِدِ وَيُسْمَعُ لَهُمْ ضَجِيجٌ قَوِيٌّ يُنَزَّهُ

النهي عن قص الشعر في المسجد

الْمَسْجِدُ عَنْ تِلْكَ الزَّعَقَاتِ فِيهِ وَلَوْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي السُّوقِ أَوْ الطَّرِيقِ لَكَانَ جَائِزًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِحَسَبِ الْحَالِ وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَيُمْنَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [النَّهْي عَنْ قص الشعر فِي الْمَسْجِد] وَيَنْهَى عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ إدْخَالِ الْمِرْآةِ فِي الْمَسْجِدِ لِقَصِّ الشَّارِبِ وَنَتْفِ الشَّيْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ فِعْلِهِمْ وَهَذَا يُمْنَعُ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَاجْعَلُوا مَطَاهِرَكُمْ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ» وَإِذَا كَانَ الطُّهُورُ فِي الْمَسْجِدِ مَمْنُوعًا فَكَيْفَ يُدْخَلُ بِالْفَضَلَاتِ فِي الْمَسْجِدِ وَيُعْمَلُ فِيهِ الصَّنْعَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُ نَسْخِ الْخَتْمَةِ أَوْ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّسَبُّبِ فَكَيْفَ بِهَذِهِ الصَّنْعَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا وَالشَّعْرُ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ عَفَشٌ يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْهُ. هَذَا إذَا كَانَ الشَّعْرُ مَقْصُوصًا. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا يَقُصُّ شَارِبَهُ وَإِنْ أَخَذَهُ فِي ثَوْبِهِ وَأَكْرَهُ أَنْ يَتَسَوَّكَ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ أَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْ السِّوَاكِ يُلْقِيهِ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ وَلْيَخْرُجْ لِفِعْلِ ذَلِكَ ذَكَرَهُ الطُّرْطُوشِيُّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الشَّعْرُ بِأَصْلِهِ مِثْلَ نَتْفِ الشَّيْبِ فَإِنَّ الْحَيَاةَ تَحُلُّ أَصْلَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ الشَّعْرَةِ نَجِسًا وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ وُقُوعِ الْقَمْلِ فِي الْمَسْجِدِ إمَّا حَيًّا وَإِمَّا مَيِّتًا وَكِلَاهُمَا يُمْنَعُ فِيهِ وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي تَرِدُ إلَيْهِ الْخَلْقُ كَثِيرًا. وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ وَالنُّسُكِ وَقَدْ سَبَّلَ نَفْسَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَسَنَةِ عَلَى زَعْمِهِ فَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى بَابِ الْمِيضَأَةِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَيُّ غَرِيبٍ جَاءَ قَصَّ لَهُ أَظَافِرَهُ أَوْ شَارِبَهُ وَأَزَالَ شَعْرَهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ وَيُلْقِي كُلَّ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَقَدْ مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُهُ وَيُخْرِجُهُ مِنْهُ فَكَيْفَ بِإِلْقَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هَذَا الْحَدَثِ زَرَعَ دَالِيَةَ عِنَبٍ فِي الْمَسْجِدِ فَأَطْعَمَتْ وَأَثْمَرَتْ وَبَقِيَ إذَا وَرَدَ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَخَذَ مِنْ عِنَبِهَا أَوْ حِصْرِمِهَا

فصل ينهى الزبالين أن يعملوا في أوقات الصلاة

وَأَهْدَاهُ إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَرَكَةِ وَحَصَّلَ بِهِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا أَحْدَثُوهُ كَثِيرًا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَاِتَّخَذُوا فِيهِ دَوَالِيَ عِنَبٍ وَخَزَائِنَ لِلسُّكْنَى وَهُوَ مَسْجِدٌ وَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ الْمَهْجُورَةَ لَا يَجُوزُ سُكْنَاهَا وَلَا أَنْ يُحْدَثَ فِيهَا حَدَثٌ غَيْرُ مَا بُنِيَتْ لَهُ. وَيَنْهَى الْبَيَّاعِينَ لِلْقُضَامَةِ وَغَيْرِهَا فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ وَعَلَى أَبْوَابِهِ وَفِي الزِّيَادَةِ إذْ إنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُصَلِّيًا يُمْسِكُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعَيْنِ فَيَكُونُ غَاصِبًا لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ حِينَ الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَغَيْرُ الْمُصَلِّي مِنْهُمْ يَتَعَيَّنُ أَدَبُهُ وَزَجْرُهُ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَرِيقَهُمْ وَالثَّانِي أَنَّهُ تَارِكٌ لِلصَّلَاةِ وَتَارِكُ الصَّلَاة قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مُرْتَدٌّ أَوْ مُرْتَكِبٌ كَبِيرَةً سِيَّمَا إنْ كَانَتْ صَلَاةَ جُمُعَةٍ فَذَلِكَ أَعْظَمُ. وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَ مَا ذُكِرَ مِمَّنْ يَبِيعُ الْحَلَاوَةَ أَوْ اللَّحْمَ أَوْ الْمَشْمُومَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُضَيِّقُ بِهِ طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ دُكَّانٍ لَهَا مَسْطَبَةٌ خَارِجَةٌ فِي شَارِعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يُمْنَعَ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَهْدِمَ الْمَسَاطِبَ الْمُلَاصِقَةَ لِجِدَارِ الْمَسَاجِدِ إذْ إنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ لِلْمُصَلِّينَ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. [فَصْلٌ يَنْهَى الزَّبَّالِينَ أَنْ يَعْمَلُوا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) وَيَنْهَى الزَّبَّالِينَ أَنْ يَعْمَلُوا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ سِيَّمَا وَقْتُ إتْيَانِ النَّاسِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ أَمَرَ بِالتَّنْظِيفِ لَهَا بِالْغُسْلِ وَلُبْسِ النَّظِيفِ مِنْ الثِّيَابِ وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا فَعَلَ الْمُكَلَّفُ مَا أَمَرَهُ بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَخَرَجَ لِيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ لَقِيَ الزَّبَّالِينَ فِي طَرِيقِهِ فَيُفْسِدُونَ عَلَيْهِ هَيْئَتَهُ لَهَا وَهَذَا ضَرَرٌ كَثِيرٌ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيَزْجُرُ فَاعِلَهُ لِأَنَّهُ مُؤْذٍ. وَقَدْ وَرَدَ «كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ» [النَّهْي عَنْ وُقُوفِ الدَّوَابِّ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ] وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ وُقُوفِ الدَّوَابِّ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُمْ يُضَيِّقُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَرِيقَهُمْ إلَيْهِ وَيَرُوثُونَ بِهَا وَيَبُولُونَ عَلَى أَبْوَابِهِ

النهي عن الإتيان للجمعة من غير غسل ولا تغيير هيئة

وَيَمْشِي النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ بِأَقْدَامِهِمْ وَيَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ فَيُنَجِّسُونَ بِهَا مَا أَصَابَتْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهَذَا مُحَرَّمٌ وَفِي وُقُوفِهِمْ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ أَذِيَّةٌ كَثِيرَةٌ سِيَّمَا لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْأَعْمَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ هُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْجُمُعَةِ بَلْ رُبَّمَا أُذُوا بِالرَّفْسِ وَالْكَدْمِ الْأَصِحَّاءَ فَكَيْفَ بِمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الضُّعَفَاءِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ لِوُقُوفِ الدَّوَابِّ سِيَّمَا لِأَجْلِ الْغِلْمَان الْمُمْسِكِينَ لِتِلْكَ الدَّوَابِّ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مُعَدَّةٌ لِجَعْلِ الدَّوَابِّ فِيهَا كَالْفَنَادِقِ وَالْإِصْطَبْلَاتِ وَغَيْرِهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَوَاضِعُ لَكَانَ يَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ أَنَّهُ إذَا أَتَى بِهَا إلَى الْمَسْجِدِ يُرْسِلُهَا إلَى مَوْضِعِهَا الَّتِي كَانَتْ فِيهِ وَيُخْبِرُ مَنْ يَأْتِيهِ بِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحْتَاجُهَا فِيهِ فَتَنْحَسِمُ مَادَّةُ الضَّرَرِ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَيَنْهَى الْبَيَّاعِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَيْعِهِمْ وَشِرَائِهِمْ وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي سَمَاعِ الْخَطِيبِ وَهَذَا مُحَرَّمٌ إذْ إنَّهُ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ حُرِّمَ حِينَئِذٍ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ وَبَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَكُونُ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ وَهُمْ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ وَلَا يَسْتَحْيُونَ. وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ صَلَاتِهِمْ الْجُمُعَةَ فِي الدَّكَاكِينِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَصِحُّ عِنْدَهُ فِي مَوْضِعٍ مَحْجُورٍ. وَإِنَّمَا تَصِحُّ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الطُّرُقِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ إنْ تَعَذَّرَ دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَبَعْضُهُمْ يَأْتِي إلَى الْجُمُعَةِ فَيَقْعُدُ فِي الدُّكَّانِ يَنْتَظِرُ إقَامَةَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْمَسْجِدُ بَعْدُ لَمْ يَمْتَلِئْ بِالنَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. [النَّهْي عَنْ الْإِتْيَانِ لِلْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ وَلَا تَغْيِيرِ هَيْئَةٍ] وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْإِتْيَانِ لِلْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ وَلَا تَغْيِيرِ هَيْئَةٍ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. وَقَدْ كَانُوا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُؤَكِّدَ الْأَمْرَ لِصَاحِبِهِ يَقُولُ لَهُ وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتْرُكُ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ. وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ

يَتَسَابُّونَ فَيَقُولُونَ لَأَنْتَ شَرٌّ مِمَّنْ لَا يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ إنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ وُجُوبَ الْفَرَائِضِ أَوْ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ تَرَكَ الْوَتْرَ أَنَّهُ يَفْسُقُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ سُنَّةً وَلِلِاخْتِلَافِ فِيهِ أَيْضًا هَلْ هُوَ وَاجِبٌ وُجُوبَ الْفَرَائِضِ أَوْ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ وَمَا يُوجِبُ فِسْقَ تَارِكِهِ فَجَدِيرٌ أَنْ يُحَافَظَ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُتْرَكُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ أَهْمَلُوا ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ أَعْنِي عِنْدَ أَكْثَرِ الْعَامَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ حِكَايَةٌ تُحْكَى حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْغُسْلِ لَهَا. وَكَذَلِكَ يَنْهَاهُمْ عَمَّا تَرَكُوهُ مِنْ لُبْسِ الْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ لَهَا وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِهَا الْمُؤَكَّدَةِ أَيْضًا. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ وَلْيَتَطَيَّبْ بِأَطْيَبِ طِيبِهِ مِمَّا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ فَذَلِكَ طِيبُ الرِّجَالِ وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا يَظْهَرُ لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيحُهُ انْتَهَى. وَقَدْ تَرَكَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - حَتَّى إنَّكَ لَتَجِدُ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فِي الدَّرْسِ أَوْ فِي دُكَّانِهِ أَوْ حِينَ اجْتِمَاعِهِ بِأَحَدِ الْقُضَاةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ عَلَى هَيْئَةٍ مِنْ ثِيَابٍ وَرَائِحَةِ طِيبٍ وَغَيْرِهِمَا وَتَجِدُهُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ عَلَى هَيْئَةٍ دُونَهَا وَسَبَبُ هَذَا تَعْظِيمُ الدُّنْيَا فِي الْقُلُوبِ وَالتَّهَاوُنُ بِشَعَائِر الدِّينِ وَالْغَفْلَةُ بِسَبَبِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ. وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ لُبْسِ الْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ هُوَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَلْ ذَلِكَ عَلَى مَا دَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَكَانُوا - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ أَثْمَانُ أَثْوَابِهِمْ الْقُمُصُ كَانَتْ مِنْ الْخَمْسَةِ إلَى الْعَشَرَةِ فَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْأَثْمَانِ وَكَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَخِيَارُ التَّابِعِينَ قِيمَةُ ثِيَابِهِمْ مَا بَيْنَ الْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ وَكَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ الثِّيَابِ مَا يُجَاوِزُ قِيمَتُهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إلَى الْمِائَةِ وَيَعُدُّهُ سَرَفًا فِيمَا جَاوَزَهَا انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ بَعْدَهُمْ اللَّهُمَّ إلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ دَفْعِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إلَى بَابِ الْجَائِزِ أَوْ الْمَنْدُوبِ أَوْ الْوَاجِبِ بِحَسَبِ الْحَالِ. فَإِذَا نَبَّهَ الْإِمَامُ عَلَى هَذَا وَحَضَّ عَلَى فِعْلِهِ وَقَبَّحَ تَرْكَهُ تَنَبَّهَ النَّاسُ لِمَا ارْتَكَبُوهُ فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا أَوْ بَعْضُهُمْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الرُّكُوعِ بَعْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ لِلْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى قِسْمَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَرْكَعُ حِينَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَصْعَدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا جَلَسَ عَلَيْهِ قَطَعُوا تَنَفُّلَهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَرْكَعُ وَيَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ وَلَمْ يُحْدِثُوا رُكُوعًا بَعْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ وَلَا غَيْرِهِ فَلَا الْمُتَنَفِّلُ يَعِيبُ عَلَى الْجَالِسِ وَلَا الْجَالِسُ يَعِيبُ عَلَى الْمُتَنَفِّلِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا هُمْ الْيَوْمَ يَفْعَلُونَهُ فَإِنَّهُمْ يَجْلِسُونَ حَتَّى إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَامُوا لِلرُّكُوعِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا وَقْتٌ يَجُوزُ فِيهِ الرُّكُوعُ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ قَالَهَا ثَلَاثًا وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ» . فَالْجَوَابُ أَنَّ السَّلَفَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَفْقَهُ بِالْحَالِ وَأَعْرَفُ بِالْمَقَالِ فَمَا يَسَعُنَا إلَّا اتِّبَاعُهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ وَهَذَا عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ اتِّبَاعَ السَّلَفِ أَوْلَى، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الرُّكُوعُ إنَّمَا هُوَ لِلْجُمُعَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي هَذَا مَا كَانَ السَّلَفُ يَفْعَلُونَهُ مِنْ رُكُوعِهِمْ الْمُتَقَدِّمُ. أَلَا تَرَى أَنَّ وَقْتَ الْجُمُعَةِ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ هَلْ هُوَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَوْ مِنْ الزَّوَالِ فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي جَمَاعَةٍ إلَى أَنَّهُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَإِذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي وَقْتِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا تَأَكَّدَ الِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَعَلَى مَا قَرَّرْتُمُوهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ رَكَعَ وَجَلَسَ يَنْتَظِرُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَرْكَعُ وَهَذَا جَائِزٌ فَكَيْفَ

فضيلة المؤذن

تَمْنَعُونَهُ. فَالْجَوَابُ إنَّا لَا نَمْنَعُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْتٌ يَجُوزُ فِيهِ الرُّكُوعُ لِمَنْ أَرَادَهُ وَإِنَّمَا الْمَنْعُ عَنْ اتِّخَاذِ ذَلِكَ عَادَةً بَعْدَ الْأَذَانِ لَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَذَانَ الْمَفْعُولَ الْيَوْمُ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَإِنَّمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَالْأَذَانُ الَّذِي فُعِلَ فِي السُّوقِ وَالرُّكُوعُ لِلْجُمُعَةِ لَا يَكُونُ فِي السُّوقِ وَمَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَسْمَعُهُ حَتَّى يَرْكَعَ عِنْدَهُ. ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ هِشَامًا لَمَّا أَنْ نَقَلَهُ كَانُوا يَرْكَعُونَ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ فِعْلَ هِشَامٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. فَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ مَثَلًا إنَّ النَّاسَ لَا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ رِجَالٌ يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ حَتَّى تُزَالَ بِهِمْ الْحُرْمَةُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ هُمْ رِجَالُهُ وَجُنْدُهُ وَحِزْبُهُ {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] فَإِنْ قَالَ مَثَلًا إنَّ النَّاسَ لَا يَرْجِعُونَ بِذَلِكَ. فَالْجَوَابُ إنَّهُمْ إنْ لَمْ يَرْجِعُوا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَصِّلَ كُلَّ ذَلِكَ لِلْمُحْتَسِبِ فَيَمْنَعُ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ بِالْيَدِ الْقَوِيَّةِ، فَإِنْ فَعَلَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَذِمَّةُ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْإِمَامِ وَأَمَّا قَبْلَ إيصَالِ ذَلِكَ فَإِنَّ الذِّمَّةَ لَا تَبْرَأُ لِأَجْلِ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسْجِدَ وَمَا حَوْلَهُ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ رَعِيَّةِ الْإِمَامِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَعِيَّتِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا ذُكِرَ كُلِّهِ بِشَرْطٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. [فَضِيلَةِ الْمُؤَذِّنِ] وَكَذَلِكَ يَنْظُرُ فِي أَمْرِ الْمُؤَذِّنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَذَانُ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ» فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى فَضِيلَةِ الْمُؤَذِّنِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمُؤَذِّنُ وَالْإِمَامُ كُلُّ مَا ذُكِرَ فَهُوَ مِنْ رَعِيَّتِهِمَا مَعًا فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ النَّاسِ تَقْوَى وَأَفْضَلَهُمْ وَأَوْرَعَهُمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ إنْ اجْتَمَعَتْ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُهَا فَأَكْثَرُهَا فَيَتَّخِذُ مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ

فصل في موضع الأذان

مُؤَذِّنًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شُرُوطُ الْمُؤَذِّنِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَتِهَا لَكِنْ بَقِيَتْ الْأَوْصَافُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهَا فِيهِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا حَسَنَ الصَّوْتِ وَيُكْرَهُ لَهُ التَّطْرِيبُ فِي الْأَذَانِ وَكَذَلِكَ التَّحْزِينُ وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ إمَالَةُ حُرُوفِهِ وَإِفْرَاطُ الْمَدِّ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ. [فَصْلٌ فِي مَوْضِعِ الْأَذَانِ] ِ وَمِنْ السُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْمَنَارِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى بَابِهِ. وَكَانَ الْمَنَارُ عِنْدَ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بِنَاءً يَبْنُونَهُ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ كَهَيْئَتِهِ الْيَوْمِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَحْدَثُوا فِيهِ أَنَّهُمْ عَمِلُوهُ مُرَبَّعًا عَلَى أَرْكَانٍ أَرْبَعَةٍ وَكَانَ فِي عَهْدِ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مُدَوَّرًا وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ الْبُيُوتِ خِلَافًا لِمَا أَحْدَثُوهُ الْيَوْمَ مِنْ تَعْلِيَةِ الْمَنَارِ. وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مُخَالَفَةُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. الثَّانِي: أَنَّهُ يَكْشِفُ عَلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّ صَوْتَهُ يَبْعُدُ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَنِدَاؤُهُ إنَّمَا هُوَ لَهُمْ وَقَدْ بَنَى بَعْضُ الْمُلُوكِ فِي الْمَغْرِبِ مَنَارًا زَادَ فِي عُلُوِّهِ فَبَقِيَ الْمُؤَذِّنُ إذَا أَذَّنَ لَا يَسْمَعُ أَحَدٌ مِمَّنْ تَحْتَهُ صَوْتَهُ. وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَنَارُ تَقَدَّمَ وُجُودُهُ بِنَاءَ الدَّارِ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الدُّورُ مَبْنِيَّةً ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ النَّاسِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ الْمَنَارَ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَلَيْهِمْ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَنَارِ وَالدُّورِ سِكَكٌ وَبُعْدٌ بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا طَلَعَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْمَنَارِ وَرَأَى النَّاسَ عَلَى أَسْطِحَةِ بُيُوتِهِمْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْهُمْ فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَ الْمَنَارُ أَعْلَى مِنْ الْبُيُوتِ قَلِيلًا أَسْمَعَ النَّاسَ إذْ إنَّهُ يَعُمُّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُرْتَفِعًا كَثِيرًا وَالسُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْأَذَانِ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ جَمَاعَةً فَيُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فِي الصَّلَوَاتِ

فصل في الأذان جماعة

الَّتِي أَوْقَاتُهَا مُمْتَدَّةٌ فَيُؤَذِّنُونَ فِي الظُّهْرِ مِنْ الْعَشَرَةِ إلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَفِي الْعَصْرِ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْخَمْسَةِ وَفِي الْعِشَاءِ كَذَلِكَ وَالصُّبْحِ يُؤَذِّنُونَ لَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ سُدُسِ اللَّيْلِ الْآخِرِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي كُلِّ ذَلِكَ يُؤَذِّنُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَالْمَغْرِبِ لَا يُؤَذِّنُ لَهَا إلَّا وَاحِدٌ لَيْسَ إلَّا. [فَصْلٌ فِي الْأَذَانِ جَمَاعَةً] ً فَإِنْ كَثُرَ الْمُؤَذِّنُونَ فَزَادُوا عَلَى عَدَدِ مَا ذُكِرَ وَكَانُوا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الثَّوَابَ وَخَافُوا أَنْ يَفُوتَهُمْ الْوَقْتُ وَلَمْ يَسَعْهُمْ الْجَمِيعُ إنْ أَذَّنُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَمَنْ سَبَقَ مِنْهُمْ كَانَ أَوْلَى، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِيهِ فَإِنَّهُمْ يُؤَذِّنُونَ الْجَمِيعَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الرَّوْضَةِ لَهُ فِي بَابِ الْأَذَانِ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِذَا تَرَتَّبَ لِلْأَذَانِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَرَاسَلُوا بَلْ إنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ تَرَتَّبُوا فِيهِ، فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي الِابْتِدَاءِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا أَذَّنُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَارِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَقَفُوا مَعًا وَأَذَّنُوا وَهَذَا إنْ لَمْ يُؤَدِّ اخْتِلَافُ الْأَصْوَاتِ إلَى تَشْوِيشٍ، فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِ لَمْ يُؤَذِّنْ إلَّا وَاحِدٌ، فَإِنْ تَنَازَعُوا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ انْتَهَى. وَأَذَانُهُمْ جَمَاعَةً عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ الْمُخَالِفَةِ لِسُنَّةِ الْمَاضِينَ وَالِاتِّبَاعُ فِي الْأَذَانِ وَغَيْرِهِ مُتَعَيِّنٌ وَفِي الْأَذَانِ آكَدُ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ أَعْلَامِ الدِّينِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ قَوْمًا أَمْهَلَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَإِنْ سَمِعَ الْأَذَانَ تَرَكَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ؛ وَلِأَنَّ فِي الْأَذَانِ جَمَاعَةً جُمْلَةُ مَفَاسِدَ. مِنْهَا: مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَيِّتًا حَسَنَ الصَّوْتِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فِي الْأَذَانِ خَفِيَ أَمْرُهُ

فَلَا يُسْمَعُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْجَمَاعَةِ إذَا أَذَّنُوا عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ لَا يَفْهَمُ السَّامِعُ مَا يَقُولُونَ وَالْمُرَادُ بِالْأَذَانِ إنَّمَا هُوَ نِدَاءُ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ فَذَهَبَتْ فَائِدَةُ مَعْنَى قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ. الرَّابِعُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمْشِي عَلَى صَوْتِ بَعْضٍ وَالْمُرَادُ بِالْأَذَانِ أَنْ يَرْفَعَ الْإِنْسَانُ بِهِ صَوْتَهُ مَهْمَا أَمْكَنَهُ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ فِي الْجَمَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالْأَذَانِ كُلِّهِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي أَثْنَائِهِ فَيَجِدُ غَيْرَهُ قَدْ سَبَقَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَيَتْرُكُ مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُوَافِقُهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ قَدْ مَضَتْ عَادَةُ الْمُؤَذِّنِ عَلَى السُّنَّةِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَمِلَ الْحُسْنَ مِنْ تَنَحْنُحٍ أَوْ كَلَامٍ مَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُشْعِرُ بِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُؤَذِّنَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَشْرَعُ فِي الْأَذَانِ هَذَا وَهُوَ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ فَكَيْفَ بِالْجَمَاعَةِ وَمَا ذَاكَ إلَّا خِيفَةَ أَنْ يُؤَذِّنَ وَمَنْ حَوْلَهُ عَلَى غَفْلَةٍ فَقَدْ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ لِبَعْضِهِمْ رَجْفَةٌ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ فَمَا بَالُكَ بِجَمَاعَةٍ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عَلَى بَغْتَةٍ. وَقَدْ تَكُونُ حَامِلٌ فَتَأْخُذُهَا الرَّجْفَةُ بِذَلِكَ فَتُسْقِطَ وَتَرْتَجِفُ بِذَلِكَ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ ثَابِتٌ وَتَشْوِيشُهُمْ كَثِيرٌ قَلَّ أَنْ يَنْحَصِرَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ جَمَاعَةً هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَجَعَلَ الْمُؤَذِّنِينَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ كَانُوا يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ عَلَى الْمَنَارِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَمِيعًا إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَخَذَ الْأَذَانَ الَّذِي زَادَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَنْ كَثُرَ النَّاسُ وَكَانَ ذَلِكَ مُؤَذِّنًا وَاحِدًا فَجَعَلَهُ عَلَى الْمَنَارِ فَهَذَا الَّذِي أَحْدَثَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِيمَنْ قَبْلَهُ يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ شَيْئًا ثُمَّ أَحْدَثُوا فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ جَمْعًا كَثِيرًا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ. وَكَذَلِكَ زَادُوا عَلَى الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ عَلَى الْمَنَارِ فَجَعَلُوهُمْ جَمَاعَةً وَفِعْلُهُمْ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ

فصل في النهي عن الأذان بالألحان

مِنْهُمْ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ فَالثَّوَابُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِاتِّبَاعِ لَا بِالِابْتِدَاعِ وَإِنْ كَانَ لِأَخْذِ الْجَامِكِيَّةِ فَالْجَامِكِيَّةُ لَا تُصْرَفُ فِي بِدْعَةٍ كَمَا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا ابْتِدَاءً وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ فَمَفَاسِدُهُ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْغَالِبِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْأَذَانِ بِالْأَلْحَانِ] ِ وَلْيَحْذَرْ فِي نَفْسِهِ أَنْ يُؤَذِّنَ بِالْأَلْحَانِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ مِمَّا يُشْبِهُ الْغِنَاءَ وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي جَمَاعَةٍ يَطْرَبُونَ تَطْرِيبًا يُشْبِهُ الْغِنَاءَ حَتَّى لَا يُعْلَمُ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ إلَّا أَصْوَاتٌ تَرْتَفِعُ وَتَنْخَفِضُ وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ أَحْدَثَهَا بَعْضُ الْأُمَرَاءِ بِمَدْرَسَةٍ بَنَاهَا ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ مِنْهَا إلَى غَيْرِهَا وَهَذَا الْأَذَانُ هُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ فِي الشَّامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهِيَ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ إذْ إنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ النِّدَاءُ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْهِيمِ أَلْفَاظِهِ لِلسَّامِعِ وَهَذَا الْأَذَانُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ لِمَا دَخَلَ أَلْفَاظَهُ مِنْ شِبْهِ الْهُنُوكِ وَالتَّغَنِّي. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤَذِّنٌ يُطْرِبُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ، فَإِنْ كَانَ أَذَانُكَ سَهْلًا سَمْحًا وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنْ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ التَّلْحِينُ فِي الْأَذَانِ وَهُوَ مِنْ الْبَغْيِ فِيهِ وَالِاعْتِدَاءِ. قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ لِابْنِ عُمَرَ إنِّي لَأُحِبّكَ فِي اللَّهِ فَقَالَ لَهُ لَكِنِّي أَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ فَقَالَ وَلِمَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ لِأَنَّكَ تَبْغِي فِي أَذَانِكَ وَتَأْخُذُ عَلَيْهِ أُجْرَةً. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ خَرَجْتُ مِنْ بَغْدَادَ وَلَمْ يَحْلُ لِي الْمَقَامُ بِهَا قَدْ ابْتَدَعُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَفِي الْأَذَانِ يَعْنِي الْإِجَارَةَ وَالتَّلْحِينَ انْتَهَى. وَالْعَجَبُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ حَيْثُ يَرُدُّونَ عَلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

فصل في النهي عن الأذان في المسجد

فِي كَوْنِهِ يَأْخُذُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالرُّجُوع إلَيْهِمْ ثُمَّ إنَّهُمْ يُسْتَدَلُّونَ عَلَى جَوَاز هَذَا الْأَذَانِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّهُ مِمَّا مَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى أَنَّ الْقَاعِدَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا حَدَثَ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُقْتَدَى بِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» وَأَشَارَ إلَى الْمَشْرِقِ وَمَا حَدَثَ بِالشَّامِ إلَّا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى الْبِدْعَةِ إذَا حَدَثَتْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا بَلْ يَضُمُّ إلَيْهَا بِدَعًا أَوْ مُحَرَّمَاتٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَا أَنْ أَحْدَثُوا هَذَا الْأَذَانَ تَعَدَّتْ بِدْعَتُهُ إلَى مُحَرَّمٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْمَأْمُومِينَ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ بِتِلْكَ الْأَلْحَانِ وَذَلِكَ كَلَامٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ لَا لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ بِذَلِكَ وَإِذَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ سَرَى ذَلِكَ إلَى فَسَادِ مَنْ ائْتَمَّ بِتَسْمِيعِهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِدَاءُ إلَّا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ فَإِنْ عُدِمَتْ فَلَا ائْتِمَامَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَنْ يَرَى أَفْعَالَ الْإِمَامِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَسَمَاعُ أَقْوَالِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَرُؤْيَةُ أَفْعَالِ الْمَأْمُومِينَ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَسَمَاعُ أَقْوَالِهِمْ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا فِي صَلَاةٍ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّسْمِيعِ جَمَاعَةً بِالْأَلْفَاظِ الْمَفْهُومَةِ فَإِنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى بِتَسْمِيعِهِمْ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي صَلَاتِهِمْ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَوْ فَاسِدَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ [فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ] ِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْأَذَانِ ثَلَاثَةَ مَوَاضِعَ الْمَنَارُ وَعَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَعَلَى بَابِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَمْنَعُ مِنْ الْأَذَانِ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي جَوْفِهِ. وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَلَا تَكُونُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا هُوَ نِدَاءٌ لِلنَّاسِ لِيَأْتُوا إلَى الْمَسْجِدِ وَمَنْ كَانَ فِيهِ فَلَا فَائِدَةَ لِنِدَائِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحْصِيلُ

فصل في الطواف بالمؤذن في أركان المسجد إذا مات

حَاصِلٍ وَمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ غَالِبًا. وَإِذَا كَانَ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ وَمَا لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ يُمْنَعُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَذَانَ فِي الْمَسْجِدِ فِيهِ تَشْوِيشٌ عَلَى مَنْ هُوَ فِيهِ يَتَنَفَّلُ أَوْ يَذْكُرُ أَوْ يَفْعَلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي بُنِيَ الْمَسْجِدُ لِأَجْلِهَا وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيُمْنَعُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ جَرَّتْ أَيْضًا إلَى بِدَعٍ أُخُرَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْ أَحْدَثُوا الْأَذَانَ فِي الْمَسْجِدِ اقْتَدَى الْعَوَامُّ بِهِمْ فَصَارَ كُلُّ مَنْ خَطَرَ لَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ قَامَ وَأَذَّنَ فِي مَوْضِعِهِ وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَامّ أَنَّهُمْ لَا يُحْسِنُونَ النُّطْقَ بِأَلْفَاظِ الْأَذَانِ فَيَزِيدُونَ فِيهِ وَيَنْقُصُونَ وَيَكْثُرُ التَّخْلِيطُ حَتَّى إنَّ بَعْضَ الصِّبْيَانِ الصِّغَارِ لَيُؤَذِّنُونَ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ تَغْيِيرِ الْأَذَانِ وَبَيْنَ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَشَيْءٌ يَجْمَعُ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُجَنَّبَ بَيْتُ اللَّهِ مِنْهُ [فَصْلٌ فِي الطَّوَافِ بِالْمُؤَذِّنِ فِي أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ إذَا مَاتَ] . فَصْلٌ فِي الطَّوَافِ بِالْمُؤَذِّنِ فِي أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ إذَا مَاتَ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الطَّوَافِ بِأَحَدِهِمْ فِي أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ إذَا مَاتَ وَكَذَلِكَ يَنْهَاهُمْ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ بِتِلْكَ الْأَصْوَاتِ الْمُزْعِجَةِ حِينَ يَطُوفُونَ بِهِ فِيهِ. وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُدْخَلُ بِالْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَمَا بَالُكَ بِمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا سُنَّةٍ بَلْ لِلْعَبَثِ وَالْبِدْعَةِ وَإِقَامَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَطُوفُونَ بِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أَنْ صُلِّيَ عَلَيْهِ لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى إبْقَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ، الثَّالِثُ: أَنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ دَفْنِهِ وَمِنْ إكْرَامِ الْمَيِّتِ الْإِسْرَاعُ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْمُتَّبِعِينَ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا أَتَوْا بِالْمَيِّتِ إلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالَ لِأَهْلِهِ: اذْهَبُوا إلَى دَفْنِهِ وَلَا جُمُعَةَ عَلَيْكُمْ إنْ لَمْ تُدْرِكُوهَا بَعْدَ

فصل في أذان الشاب على المنار

ذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي يَطُوفُونَ بِهِ فِيهِ فَيَذْهَبُ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمِرْنَا بِغَسْلِهِ. الْخَامِسُ: أَنَّ فِيهِ تَشْوِيشًا عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا نَوْعٌ مِمَّا أَحْدَثَ بَعْضُ الشُّرَفَاءِ فِي الْحِجَازِ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا فَيَدْخُلُونَ بِهِ الْمَسْجِدَ فَيَطُوفُونَ بِهِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ سَبْعًا وَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ وَالْأُمُورِ الْحَادِثَةِ. وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ أَجْلِ الطَّائِفِينَ بِالْبَيْتِ وَحُرْمَةِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ عَلَى غَيْرِهِ وَبُعْدِ الْمَسَافَةِ فِي الدُّخُولِ إلَيْهِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ فِي أَذَانِ الشَّابِّ عَلَى الْمَنَارِ] ِ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ أَذَانِ الشَّابِّ عَلَى الْمَنَارِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوْصَافِ الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَتْقَاهُمْ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الشَّابِّ. وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَذِّنِ الَّذِي يَصْعَدُ عَلَى الْمَنَارِ أَنْ يَكُونَ مُتَزَوِّجًا لِأَنَّهُ أَغَضُّ لِطَرْفِهِ وَالْغَالِبُ فِي الشَّابِّ عَدَمُ ذَلِكَ وَالْمَنَارُ لَا يَصْعَدُهُ إلَّا مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ بِمَدِينَةِ فَاسَ وَكَانَ يَصْحَبُ إمَامَ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ الَّذِي هُنَاكَ وَكَانَ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدٌ حَسَنُ الصَّوْتِ فَطَلَبَ مِنْ الْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِوَلَدِهِ فِي الصُّعُودِ عَلَى الْمَنَارِ لِيُؤَذِّنَّ فِيهِ فَأَبَى عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ وَلِمَ تَمْنَعُهُ قَالَ إنَّ الْمَنَارَ لَا يَصْعَدُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا إلَّا مَنْ شَابَ ذِرَاعَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الطَّعْنِ فِي السِّنِّ فَرَغَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَامْتَنَعَ مِنْهُ، وَقَالَ أَتُرِيدُ أَنْ تُحْدِثَ الْفِتْنَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ تَرَاهُ امْرَأَةٌ فَتَشْغَفُ بِهِ وَكَذَلِكَ هُوَ أَيْضًا قَدْ يَرَى مَا لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهُ فَتَقَعُ الْفِتَنُ أَقَلُّ مَا فِيهِ شَغْلُ الْقُلُوبِ بِشَيْءٍ كَانُوا عَنْهُ فِي غِنًى. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ كَيْفَ كَانَ تَحَرُّزُهُمْ فِي هَذَا الْعَهْدِ الْقَرِيبِ وَكَيْفَ هُوَ الْحَالُ الْيَوْمَ. هَذَا وَهُمْ يُؤَذِّنُونَ الْأَذَانَ الشَّرْعِيَّ مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا تَمْيِيلٍ وَلَا تَصَنُّعٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَحْدَثُوهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ

فصل في النهي عما أحدثه المؤذنون بالليل من غير السنة

جَهْدَهُ إذَا كَانَ عَلَى الْمَنَارِ. وَأَمَّا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ عَلَى سَطْحِهِ إنْ أَمِنَ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى أَحَدٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَمَّا أَحْدَثُهُ الْمُؤَذِّنُونَ بِاللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ السُّنَّةِ] فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَمَّا أَحْدَثُوهُ بِاللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ السُّنَّةِ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّسْبِيحِ بِاللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنًا سِرًّا وَعَلَنًا لَكِنْ لَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَرَكَهَا الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَلَمْ يُعَيِّنْ فِيهَا شَيْئًا مَعْلُومًا. وَقَدْ رَتَّبَ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لِلصُّبْحِ أَذَانًا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَذَانًا عِنْدَ طُلُوعِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُؤَذِّنُونَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَكِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْفَاءِ لِتَرْكِهِمْ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهِ حَتَّى لَا يُسْمَعَ. وَهَذَا ضِدُّ مَا شُرِعَ الْأَذَانُ لَهُ لِأَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا شُرِعَ لِإِعْلَامِ النَّاسِ بِالْوَقْتِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» وَقَدْ وَرَدَ أَذَانُ بِلَالٍ كَانَ يُنَوِّمُ الْيَقْظَانَ وَيُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ أَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ فَإِذَا سَمِعَ أَذَانَ بِلَالٍ نَامَ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ رَاحَةٌ وَنَشَاطٌ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ وَإِنْ كَانَ نَائِمًا فَإِذَا سَمِعَ أَذَانَ بِلَالٍ قَامَ وَتَطَهَّرَ وَأَدْرَكَ وِرْدَهُ مِنْ اللَّيْلِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْأَذَانِ لِلصُّبْحِ مَتَى يَكُونُ فَقِيلَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ وَقِيلَ مِنْ أَوَّلِ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ وَقِيلَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ كُلُّهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مَحَلًّا لِلْأَذَانِ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالُوا إنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يُرَتَّبُونَ فِي أَذَانِهِمْ حَتَّى يَكُونَ النَّاسُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِ الْوَقْتِ الَّذِي هُمْ فِيهِ حَتَّى يَتَهَيَّئُوا لِلْعِبَادَةِ فَيُرَتَّبُ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى حَسَبِ مَا يَسَعُ الْوَقْتُ مِنْ عَدَدِهِمْ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لِكَيْ يَكُونَ وَقْتُ أَذَانِ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَعْلُومًا لَا يَتَقَدَّمُهُ وَلَا يَتَأَخَّرُهُ فَيَكُونُ النَّاسُ يَعْرِفُونَ بِالْعَادَةِ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَهَكَذَا إلَى الْمُؤَذِّنِ الْآخِرِ الَّذِي يُؤَذِّنُ عِنْدَ

طُلُوعِ الْفَجْرِ وَهُوَ الرَّئِيسُ صَاحِبُ الْوَقْتِ فَيَنْضَبِطُ الْوَقْتُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَيَعْرِفُ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ كَمْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِمَّا يَسَعُ الْغُسْلَ أَوْ الْوُضُوءَ أَوْ الْوِرْدَ أَوْ الِاسْتِبْرَاءَ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَيَتِمَّ النِّظَامُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ هُوَ أَضْبَطُ حَالًا وَأَكْثَرُ ثَوَابًا لِأَجْلِ الِاتِّبَاعِ بِخِلَافِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّسْبِيحِ وَمَا يَقُولُونَ فِيهِ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَنْدُبُ الْأَطْلَالَ بِصَوْتٍ فِيهِ تَحْزِينٌ يَقْرُبُ مِنْ النَّوْحِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْيَانِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْرِفُ النَّاسُ فِي الْغَالِبِ أَيَّ وَقْتٍ هُمْ فِيهِ مِنْ اللَّيْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ سِيَّمَا وَهُمْ قَدْ أَحْدَثُوا زِيَادَةً عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ إذَا قَرُبَ طُلُوعُ الْفَجْرِ سَكَتُوا سَكْتَةً طَوِيلَةً ثُمَّ يُؤَذِّنُونَ فَمَنْ أَفَاقَ فِي حَالِ سُكُوتِهِمْ فَقَدْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ بَعْدُ فَيَقَعُ بِذَلِكَ الْغَرَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْأَذَانِ الْأَوَّلِ لِلصُّبْحِ الَّذِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيُخْفُونَ ذَلِكَ فَإِذَا فَرَغُوا مِنْهُ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِمَا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّسْبِيحِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. السُّنَّةُ تَخْفَى وَغَيْرُ مَا شُرِعَ يَظْهَرُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا يُخْفُونَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ لِلصُّبْحِ خِيفَةَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ عَلَيْهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ فَيَكُونُ صَلَاتُهُمْ بَاطِلَةً لِإِيقَاعِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَوْ امْتَثَلُوا السُّنَّةَ فِيمَا تَقَرَّرَ مِنْ تَرْتِيبِ الْمُؤَذِّنِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَأَنَّ الْأَوَّلَ مَعْرُوفٌ وَقْتُهُ وَكَذَلِكَ الثَّانِي إلَى الْمُؤَذِّنِ الَّذِي يُؤَذِّنُ عَلَى الْفَجْرِ كَمَا تَقَدَّمَ لَمَا انْبَهَمَ الْوَقْتُ عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ سَمِعَهُمْ وَكَانُوا مُتَّبِعِينَ لِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْهَاهُمْ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَأَجَلِّهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْلَكَ بِهَا مَسْلَكَهَا فَلَا تُوضَعُ إلَّا فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَقْرَأَهُ فِي الرُّكُوعِ وَلَا فِي السُّجُودِ وَلَا فِي الْجُلُوسِ أَعْنِي الْجُلُوسَ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ

بِمَحَلٍّ لِلتِّلَاوَةِ فَالصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْدَثُوهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ لَمْ تَكُنْ تُفْعَلُ فِيهَا فِي عَهْدِ مَنْ مَضَى وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ أَنَّهَا قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ جِدًّا أَقْرَبَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيمَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ مِنْ التَّغَنِّي بِالْأَذَانِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهِيَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ كُلِّ لَيْلَةٍ وَبَعْدَ أَذَانِ الْعِشَاءِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِيَرْقَى الْمِنْبَرَ وَعِنْدَ صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ يُسَلِّمُونَ عِنْدَ كُلِّ دَرَجَةٍ يَصْعَدُهَا وَالْكُلُّ فِي الْإِحْدَاثِ قَرِيبٌ مِنْ قَرِيبٍ أَعْنِي فِي زَمَانِنَا هَذَا وَأَصْلُ إحْدَاثِهِ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ. وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ «الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَى الْمَشْرِقِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ كَيْفَ كَانَ خَوْفُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ الْحَدَثِ فِي الدِّينِ وَمَا جَرَى لَهُمْ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ وَمَا جَرَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا أَنْ رَأَى الطَّيْرَ الَّذِي هُنَاكَ وَقَعَ عَلَى الْقَذَرِ ثُمَّ ارْتَفَعَ عَنْهُ وَوَقَعَ عَلَى ثَوْبِهِ فَعَلِمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ عَلَى أَنَّهُ إذَا خَرَجَ يَغْسِلُهُ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ إلَى غَسْلِهِ قَالَ، وَاَللَّهِ مَا أَكُونُ بِأَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَ بِدْعَةً فِي الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّهَا مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَأَجَلِّهَا وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَنًا سِرًّا وَعَلَنًا لَكِنْ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَضَعَ الْعِبَادَاتِ إلَّا فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي وَضَعَهَا الشَّارِعُ فِيهَا وَمَضَى عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ إلَيْنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا وَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ. وَمِنْ كِتَابِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ رَزِينٍ قَالَ وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ عَطَسَ رَجُلٌ إلَى جَنْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ الْحَمْدُ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَقُولَ إذَا عَطَسْنَا وَإِنَّمَا

عَلَّمَنَا نَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ انْتَهَى. وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الصَّلَاةَ وَالتَّسْلِيمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَشْرُوعٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ. قَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ مَنْ اتَّصَفَ بِالْإِنْصَافِ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْغَالِبِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَقَلُّ مِنْ الْإِنْصَافِ فَإِذَا كَانَ الْحَالُ فِي زَمَانِ مَالِكٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فَمَا بَالُكَ بِهِ الْيَوْمُ فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَخَتَمَ الْمِائَةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» فَقَالَ هَذَا الْعَالِمُ أَنَا أَعْمَلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِائَةً فَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا فَرَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وَحُشِرَ النَّاسُ إلَى الْمَحْشَرِ وَالنَّاسُ فِي أَمْرٍ مَهُولٍ وَإِذَا بِمُنَادٍ يُنَادِي أَيْنَ الذَّاكِرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ فَقَامَ نَاسٌ مِنْ نَاسٍ قَالَ فَقُمْت مَعَهُمْ فَجِئْنَا إلَى مَوْضِعٍ فِيهِ مَلَائِكَةٌ يُعْطُونَ النَّاسَ ثَوَابَ ذَلِكَ وَكُنْتُ أُزَاحِمُ مَعَهُمْ وَيُعْطُونَهُمْ وَلَا يُعْطُونِي شَيْئًا فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ حَتَّى فَرَغَ الْجَمِيعُ فَجِئْتُ وَطَلَبْتُ مِنْهُمْ الثَّوَابَ فَقَالُوا لِي مَا لَكَ عِنْدَنَا شَيْءٌ فَقُلْتُ لَهُمْ وَلِمَ أَعْطَيْتُمْ أُولَئِكَ فَقَالُوا لِي هَؤُلَاءِ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ فَقُلْتُ لَهُمْ وَمَا كَانُوا يَذْكُرُونَ فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَبِّحُونَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ إلَخْ فَقُلْتُ أَنَا وَاَللَّهِ كُنْتُ أَعْمَلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِائَةً فَقَالُوا مَا هَكَذَا أَمَرَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ أَمَرَ بِثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ مَا لَكَ عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ فَانْتَبَهْتُ مَرْعُوبًا فَتُبْتُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا أَزِيدَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا فَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَأَكِّدَةٌ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ لَكِنَّ اتِّخَاذَهَا عَادَةً مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ عَلَى الْمَنَارِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا

تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوعًا وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَتَحَرَّى ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّعْلِيلِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ. مِنْهَا ارْتِكَابُ نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ «لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» فَإِذَا نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ وَتِلَاوَتُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا يَدْخُلُ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِمَّنْ يَتَعَبَّدُ إذَا جَهَرَ بِهِ فَمَا بَالُكَ بِمَا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا وَمَا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ مِمَّا يُشْبِهُ الْغِنَاءَ فِي وَقْتٍ وَالنَّوْحَ فِي وَقْتٍ وَنَدْبَ الْأَطْلَالِ فِي وَقْتٍ وَيَنْشُدُونَ فِيهِ الْقَصَائِدَ وَفِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْمُتَهَجِّدِينَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا وَقَدْ وَصَلَ لَهُ مِنْ التَّشْوِيشِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ فَيَتَفَرَّقُ أَمْرُهُمْ وَتَتَشَوَّشُ خَوَاطِرُهُمْ. وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَيُمْنَعُ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ إلَيْهِ. فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ إذْ ذَاكَ خَلِيفَةً وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فَلَمَّا أَنْ سَمِعَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لِخَادِمِهِ اذْهَبْ إلَى هَذَا الْمُصَلَّى فَقُلْ لَهُ إمَّا أَنْ تَخْفِضَ صَوْتَكَ وَإِمَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَجَاءَ الْخَادِمُ فَوَجَدَ الْمُصَلِّيَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرَجَعَ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا فَلَمَّا أَنْ سَلَّمَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لِخَادِمِهِ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ تَنْهَى هَذَا الْمُصَلَّى عَمَّا هُوَ يَفْعَلُ فَقَالَ لَهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ اذْهَبْ إلَيْهِ وَقُلْ لَهُ مَا أَخْبَرْتُكَ بِهِ فَذَهَبَ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إنَّ سَعِيدًا يَقُولُ لَكَ إمَّا أَنْ تَخْفِضَ صَوْتَكَ وَإِمَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَخَفَّفَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا أَنْ سَلَّمَ مِنْهَا أَخَذَ نَعْلَيْهِ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا مِنْ تَوَاضُعِهِ فِي خِلَافَتِهِ هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ بَعْضَ الْعَوَامّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ لِأَجْلِ سَمَاعِ التَّسْبِيحِ بِتِلْكَ الْأَلْحَانِ

فصل في التسحير في شهر رمضان

وَالنَّغَمَاتِ فَيَقَعُ مِنْهُمْ أَشْيَاءُ مِنْ الزَّعَقَاتِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِمَّا يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْهَا الثَّالِثُ مَا أَحْدَثُوهُ فِيهِ مِنْ صُعُودِ الشُّبَّانِ إذْ ذَاكَ عَلَى الْمَنَارِ وَلَهُمْ أَصْوَاتٌ حَسَنَةٌ وَنَغَمَاتٌ تُشْبِهُ الْغِنَاءَ فَيَرْفَعُونَ عَقِيرَتَهُمْ بِذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ لَهُ غَرَضٌ خَسِيسٌ يَصْدُرُ مِنْهُ فِي وَقْتِ سَمَاعِهِ مَا لَا يَنْبَغِي كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى تَعَلُّقِ قَلْبِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ بِالشَّابِّ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْفِتَنِ أَشْيَاءُ لَا تَنْحَصِرُ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ الَّذِي يُؤَذِّنُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّرْتِيبِ اجْتَمَعَ الْمُؤَذِّنُونَ بِجَمْعِهِمْ وَنَادَوْا عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ أَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَيُكَرِّرُونَ ذَلِكَ مِرَارًا عَدِيدَةً مَعَ دَوَرَانِهِمْ عَلَى الْمَنَارِ وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ لَا ضَرُورَةَ وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ الَّذِي يُؤَذِّنُ عَلَى الْفَجْرِ يَكُونُ وَقْتُهُ مَعْلُومًا عِنْدَ السَّامِعِينَ فَمَنْ سَمِعَهُ مِنْهُمْ عَلِمَ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ مَا أَحْكَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ فَمَفَاسِدُهُ عَدِيدَةٌ لَا تَنْحَصِرُ [فَصْلٌ فِي التَّسْحِيرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ] َ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ التَّسْحِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَمَرَ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ سِيَّمَا وَهُمْ يَقُومُونَ إلَى التَّسْحِيرِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لِأَنَّ السُّحُورَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْوَى بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى صَوْمِ النَّهَارِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا إذَا فُعِلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِقَلِيلٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ «تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً» فَإِذَا تَسَحَّرَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوعُ إلَّا بَعْدَ الظُّهْرِ، وَإِذَا جَاعَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَمَسَافَةُ الْفِطْرِ قَرِيبَةٌ فَتَسْهُلُ لِذَلِكَ الْعِبَادَةُ

وَلِذَلِكَ سَمَّوْا السَّحُورَ الْغَدَاءَ الْمُبَارَكَ لِأَنَّ وَقْتَ السُّحُورِ قَرِيبٌ مِنْ وَقْتِ الْغَدَاءِ، وَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ أَجْرُ الصِّيَامِ مَعَ نَشَاطِ بَدَنِهِ وَتَوْفِيرِ عُمْرِهِ لِقِيَامِ لَيْلِهِ لِأَنَّهُ إذَا تَسَحَّرَ فِي اللَّيْلِ حَصَلَ لَهُ الْكَسَلُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ بِسَبَبِ الْبُخَارِ الَّذِي يَصْعَدُ إلَى دِمَاغِهِ فَيُدَخِّنُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبُهُ النَّوْمُ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَسَحَّرَ قَرِيبًا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْهُ اشْتَغَلَ بِالطَّهَارَةِ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرْضِ فِي أَوْرَادِهِ وَاشْتَغَلَ بِهَا ثُمَّ تَصَرَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مُهِمَّاتِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ التَّهَجُّدُ فِي لَيْلِهِ وَخِفَّةُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فِي نَهَارِهِ وَيَنْضَبِطُ حَالُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا يَتَسَحَّرُونَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ خِيفَةَ أَنْ يَبْقَى النَّاسُ لَا يَعْرِفُونَ الْوَقْتَ الَّذِي يَجُوزُ لَهُمْ الْأَكْلُ فِيهِ. فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ إذَا كَانُوا عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ عَلِمَ النَّاسُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي أَيِّ جُزْئِهِمْ مِنْ اللَّيْلِ وَهَلْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ أَمْ لَا؟ كَمَا كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِفُونَ جَوَازَ الْأَكْلِ بِأَذَانِ بِلَالٍ وَمَنْعَهُ بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّسْحِيرِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْمُتَهَجِّدِينَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ إنَّمَا يَنْضَبِطُ بِهِ حَالُ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَمَا حَوْلَهُ أَمَّا مَنْ بَعُدَ عَنْهُ فَلَا يَسْمَعُونَ الْمُؤَذِّنِينَ وَلَا يَعْلَمُونَ فِي أَيِّ جُزْئِهِمْ مِنْ اللَّيْلِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَسَاجِدَ قَدْ كَثُرَتْ فَمَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَّا وَبِجَانِبِهِ مَسْجِدٌ أَوْ مَسَاجِدُ فَيُعْمَلُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ أَذَانَانِ بِشَرْطِ الْعِلْمِ بِصَوْتِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَيَكْفِيهِمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ وَالثَّانِي يَدُلَّ عَلَى مَنْعِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا تَابِعِينَ فِي أَذَانِهِمْ لِلْجَامِعِ أَوْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَوْقَاتِ وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مُؤَذِّنُونَ جُمْلَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

فصل في اختلاف العوائد في التسحير

[فَصْلٌ فِي اخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ فِي التَّسْحِيرِ] ِ اعْلَمْ أَنَّ التَّسْحِيرَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عَوَائِدُ أَهْلِ الْأَقَالِيمِ فَلَوْ كَانَ مِنْ الشَّرْعِ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ عَوَائِدُهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ التَّسْحِيرَ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِالْجَامِعِ يَقُولُ الْمُؤَذِّنُونَ تَسَحَّرُوا كُلُوا وَاشْرَبُوا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ؟ وَيَقْرَءُونَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] إلَى آخِرِ الْآيَةِ وَيُكَرِّرُونَ ذَلِكَ مِرَارًا عَدِيدَةً ثُمَّ يَسْقُونَ عَلَى زَعْمِهِمْ وَيَقْرَءُونَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الإنسان: 5] إلَى قَوْلِهِ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلا} [الإنسان: 23] وَالْقُرْآنُ الْعَزِيزُ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ مَوْضِعِ بِدْعَةٍ أَوْ عَلَى مَوْضِعِ بِدْعَةٍ، ثُمَّ يَقُولُونَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ إنْشَادِ الْقَصَائِدِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُسَحِّرُونَ أَيْضًا بِالطَّبْلَةِ يَطُوفُ بِهَا أَصْحَابُ الْأَرْبَاعِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْبُيُوتِ وَيَضْرِبُونَ عَلَيْهَا هَذَا الَّذِي مَضَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَأَهْلُ الْيَمَنِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فَيُسَحِّرُونَ بِدَقِّ الْأَبْوَابِ عَلَى أَصْحَابِ الْبُيُوتِ وَيُنَادُونَ عَلَيْهِمْ قُومُوا كُلُوا، وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ الْبِدَعِ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ فَإِنَّهُمْ يُسَحِّرُونَ بِدَقِّ الطَّارِ وَضَرْبِ الشَّبَّابَةِ وَالْغِنَاءِ وَالْهُنُوكِ وَالرَّقْصِ وَاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَهَذَا شَنِيعٌ جِدًّا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْقِيَامِ قَابَلُوهُ بِضِدِّ الْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَأَمَّا بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ قَرِيبًا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الشَّامِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ وَقْتُ السُّحُورِ عِنْدَهُمْ يَضْرِبُونَ بِالنَّفِيرِ عَلَى الْمَنَارِ وَيُكَرِّرُونَهُ

سَبْعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ بَعْدَهُ يَضْرِبُونَ بِالْأَبْوَاقِ سَبْعًا أَوْ خَمْسًا فَإِذَا قَطَعُوا حُرِّمَ الْأَكْلُ إذْ ذَاكَ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَضْرِبُونَ بِالنَّفِيرِ وَالْأَبْوَاقِ فِي الْأَفْرَاحِ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَهُمْ وَيَمْشُونَ بِذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ فَإِذَا مَرُّوا عَلَى بَابِ مَسْجِدٍ سَكَتُوا وَأَسْكَتُوا وَيُخَاطِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِقَوْلِهِمْ احْتَرِمُوا بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُفُّونَ حَتَّى يُجَاوِزُونَهُ فَيَرْجِعُونَ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي هُوَ شَهْرُ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ يَأْخُذُونَ فِيهِ النَّفِيرَ وَالْأَبْوَاقَ وَيَصْعَدُونَ بِهَا عَلَى الْمَنَارِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَيُقَابِلُونَهُ بِضِدِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ فِعْلَ التَّسْحِيرِ بِدْعَةٌ بِلَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ، إذْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَأْثُورَةً لَكَانَتْ عَلَى شَكْلٍ مَعْلُومٍ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهَا فِي بَلْدَةٍ دُونَ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ قَدَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا التَّغْيِيرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُؤَذِّنِ وَالْإِمَامِ خُصُوصًا كُلٌّ مِنْهُمْ يُغَيِّرُ مَا فِي إقْلِيمِهِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ بِشَرْطِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَفِي بَلَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَفِي مَسْجِدِهِ. {تَنْبِيهٌ} وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَغْتَرَّ أَوْ يَمِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ بِسَبَبِ مَا مَضَتْ لَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ وَتَرَبَّى عَلَيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ سُمٌّ وَقَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْ آفَاتِهَا. وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمَغَارِبَةِ وَكَانَ مِنْ الْبَلَدِ الَّذِي يُسَحِّرُونَ فِيهِ بِالنَّفِيرِ وَالْأَبْوَاقِ لَمَّا أَنْ سَمِعَ الْمُسَحِّرِينَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ يَقُولُونَ تَسَحَّرُوا كُلُوا وَاشْرَبُوا قَالَ مَا هَذِهِ الْبِدْعَةُ وَأَنْكَرَهَا لِاسْتِئْنَاسِهِ بِمَا تَرَبَّى عَلَيْهِ، وَمَا تَرَبَّى عَلَيْهِ هُوَ أَكْثَرُ شَنَاعَةً وَقُبْحًا وَأَقْرَبُ إلَى الْمَنْعِ مِمَّا أَنْكَرَهُ هُنَا، فَالْعَوَائِدُ قَلَّ أَنْ يَظْهَرَ الْحَقُّ مَعَهَا إلَّا بِتَأْبِيدٍ وَتَوْفِيقٍ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَلِأَجَلِ الْعَوَائِدِ وَمَا أَلِفَتْ النُّفُوسُ مِنْهَا أَنْكَرَتْ قُرَيْشٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيَانِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ وَعِنَادِهِمْ بِقَوْلِهِمْ {إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110] {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] {سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24] . {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6] {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] . {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [ص: 7] . {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: 37]

إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا بِسَبَبِ مَا تَرَبَّوْا عَلَيْهِ وَنَشَئُوا فِيهِ. فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ هَذَا السُّمِّ فَإِنَّهُ قَاتِلٌ وَمِلْ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ وَكُنْ مُتَيَقِّظًا لِخَلَاصِ مُهْجَتِكَ بِالِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ وَاقْبَلْ نَصِيحَةَ أَخٍ مُشْفِقٍ، فَإِنَّ الِاتِّبَاعَ أَفْضَلُ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْمَرْءُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاكَ لِمَا يَرْضَاهُ بِمَنِّهِ فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِ. سُؤَالٌ وَارِدٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ التَّسْحِيرَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَحَبَّاتِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْبِدَعَ قَدْ قَسَّمَهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: بِدْعَةٌ وَاجِبَةٌ وَهِيَ مِثْلُ كَتْبِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ فِي صُدُورِهِمْ وَكَشَكْلِ الْمُصْحَفِ وَنَقْطِهِ. الْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ: بِدْعَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ قَالُوا: مِثْلُ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَتَنْظِيفِ الطُّرُقِ لِسُلُوكِهَا وَتَهْيِئِ الْجُسُورِ وَبِنَاءِ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. الْبِدْعَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ الْمُبَاحَةُ كَالْمُنْخُلِ وَالْأُشْنَانِ وَمَا شَاكَلَهُمَا. الْبِدْعَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ الْمَكْرُوهَةُ مِثْلُ الْأَكْلُ عَلَى الْخُوَانِ وَمَا أَشْبَهَ. الْبِدْعَةُ الْخَامِسَةُ: وَهِيَ الْمُحَرَّمَةُ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَنْحَصِرَ. مِنْهَا مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ اللَّاتِي وَصَفَهُنَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ «نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا» وَمِمَّا يَقْرَبُ مِنْهُ اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ طَرِيقًا وَمِنْهَا اتِّخَاذُهَا لِلدُّيُونِ وَكُلّ ذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَسْأَلَةُ التَّسْحِيرِ لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى فِعْلِهَا إذْ إنَّ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ شَرَعَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ لِلصُّبْحِ دَالًّا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالثَّانِي دَالًا عَلَى تَحْرِيمِهِمَا فَلَمْ يَبْقَ أَنْ يَكُونَ مَا يُعْمَلُ زِيَادَةً عَلَيْهِمَا إلَّا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ إذَا أَذَّنُوا مَرَّتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ انْضَبَطَتْ الْأَوْقَاتُ وَعُلِمَتْ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى النَّاسُ عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنْ تَعْلِيقِ الْفَوَانِيسِ الَّتِي جَعَلُوهَا عَلَمًا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مَا دَامَتْ مُعَلَّقَةً مَوْقُودَةً وَعَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلُوهَا، وَذَلِكَ يُمْنَعُ فِعْلُهُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ

فصل نهي المؤذنين عن التذكار يوم الجمعة

الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ ذَكَرُوا أَنْ يُعَلِّمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ فَذَكَرُوا أَنْ يُوقِدُوا نَارًا أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا كَالنَّصَارَى. وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَذَانِ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلُوا وَاحِدًا مِنْهَا إذْ إنَّهَا مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالنَّارُ يَعْبُدُهَا الْمَجُوسُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِي ذَلِكَ تَغْرِيرًا بِالصَّوْمِ إذْ إنَّهُ قَدْ تَنْطِفِي فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَرَاهَا مَوْقُودَةً أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَيَتْرُكُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَغَيْرَهُمَا وَقَدْ يَكُونُ مُضْطَرًّا إلَى ذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ فِي صَوْمِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يَنْسَاهَا مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِهَا مَوْقُودَةً أَوْ يَنَامُ عَنْهَا فَيَظُنُّ مَنْ يَرَاهَا كَذَلِكَ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَيَتَعَاطَى شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيُفْسِدُ بِهِ صَوْمَهُ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ تَشْتَبِكُ وَلَا يَقْدِرُ مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِهَا عَلَى خَلَاصِهَا فَحُكْمُهُ كَالْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى هِيَ أَكْبَرُ مِمَّا قَبْلَهَا وَهِيَ مُخَاطَرَةُ مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِهَا بِنَفْسِهِ إذَا اشْتَبَكَتْ وَكَانَتْ مَوْقُودَةً وَحَاوَلَ خَلَاصَهَا فَإِنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ فَيَمُوتُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ [فَصْلٌ نهي الْمُؤَذِّنِينَ عَنْ التَّذْكَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] فَصْلٌ فِي التَّذْكَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّذْكَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَا أَمَرَ بِهِ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ بَعْدَهُ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ بَلْ هُوَ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ، وَهُوَ الَّذِي أَحْدَثَ التَّغَنِّيَ بِالْأَذَانِ فِي الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بَنَاهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِدْعَةُ هَذَا أَصْلُهَا يَتَعَيَّنُ تَرْكُهَا. سُؤَالٌ وَارِدٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: النَّاسُ مُضْطَرُّونَ إلَى التَّذْكَارِ لِكَيْ يَقُومُوا مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَيَخْرُجُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ فَيَأْتُوا إلَى الْمَسْجِدِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ يَأْتِي إلَى الْجُمُعَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا أَوْ قَرِيبًا فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ فَالْأَذَانُ الْأَوَّلُ الَّذِي فَعَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَكْفِيهِ سَمَاعُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا

فصل ترتيب المؤذنين في آذان الظهر

فَهُوَ لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ الَّذِي لِلتَّذْكَارِ فَيَأْخُذُ لِنَفْسِهِ بِالِاحْتِيَاطِ، أَلَّا تَرَى أَنَّ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ بِحَسَبِ قُرْبِ مَوَاضِعِهِمْ وَبُعْدِهَا، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَى بَعْضِهِمْ الْإِتْيَانُ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ الزَّوَالِ بِحَسَبِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى مَا أَحْدَثُوهُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ الْمَفَاسِدُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا أَعْنِي مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الْجُمُعَةَ، وَهُمْ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ مِنْهُمْ الْمُصَلِّي وَمِنْهُمْ الذَّاكِرُ وَالتَّالِي وَالْمُتَفَكِّرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذِهِ الْبِدْعَةُ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي الْأَقَالِيمِ لَكِنَّ كُلَّ أَهْلِ إقْلِيمٍ قَدْ اخْتَصُّوا بِعَوَائِدَ كَمَا مَضَى ذَلِكَ فِي التَّسْحِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّذْكَارَ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ وَفِي الْمَغْرِبِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَجْتَمِعُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ فَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عَلَى الْمَنَارِ فَيَقُولُونَ الْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ وَيَدُورُونَ عَلَيْهِ مِرَارًا وَهُوَ بِدْعَةٌ أَيْضًا. وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى. الثَّانِي: أَنَّ الْعَامَّةَ تَسْمَعُهُمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَهَا، وَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ الْعُلَمَاءَ فَتَنْدَرِسُ هَذِهِ السُّنَّةُ بَيْنَهُمْ وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُمْ يُنَادُونَ الْغُسْلَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَذَلِكَ يُمْنَعُ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ لِلْجُمُعَةِ وَهُوَ الْغَالِبُ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ لِجَهْلِهِ وَهُوَ لَا يَسْأَلُ وَيَسْمَعُ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيَتْرُكَ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: مَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [فَصْلٌ تَرْتِيب الْمُؤَذِّنِينَ فِي آذان الظُّهْر] {فَصْلٌ} قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ لِلْفَجْرِ يَكُونُونَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَكَذَلِكَ يَكُونُونَ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ فَيُعْلَمُ الْمُؤَذِّنُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَهَكَذَا إلَى الْآخِرِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى آخِرِ أَذَانِهِ حَتَّى يَكُونَ النَّاسُ عَلَى عِلْمٍ مِنْ الْوَقْتِ فَيَتَأَهَّبُونَ لِلصَّلَاةِ بِإِيقَاعِ الطَّهَارَةِ وَالْجُلُوسِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ أَوْ الْجُلُوسِ فِي

فصل في حكمة ترتيب الأذان

دَكَاكِينِهِمْ حَتَّى يَسْمَعُوا الْمُؤَذِّنَ الْآخِرَ فَيَتْرُكُوا إذْ ذَاكَ بَيْعَهُمْ وَشِرَاءَهُمْ وَيَهْرَعُونَ لِصَلَاتِهِمْ حَتَّى يَقْضُوهَا. لَكِنْ زَادَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ هُنَا بِدْعَةً وَهِيَ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ الْآخِرُ الَّذِي يُصَلُّونَ عَلَى آخِرِ أَذَانِهِ يَجْتَمِعُ جَمَاعَةُ الْمُؤَذِّنِينَ فَيُنَادُونَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ رَحِمَكُمْ اللَّهُ وَيَدُورُونَ عَلَى الْمَنَارِ مِرَارًا، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الْعَصْرِ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْفَجْرِ اجْتَمَعُوا بِجَمْعِهِمْ وَنَادَوْا أَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَيَدُورُونَ عَلَى الْمَنَارِ مِرَارًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ وَلَمْ تَدْعُ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ يَتَرَتَّبُونَ جَمَاعَةً فِي الْعَصْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ وَوَقْتُهَا ضَيِّقٌ لَا يَسَعُ الْمُؤَذِّنِينَ جَمَاعَةً وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَيُؤَذِّنُ لَهَا وَاحِدٌ لَيْسَ إلَّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ إذَا تَزَاحَمُوا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمْ الْآخَرَ أَذَّنُوا جَمَاعَةَ كُلٌّ مِنْهُمْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَمْشِي عَلَى صَوْتِ رَفِيقِهِ وَيَتَرَتَّبُ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْعِشَاءِ كَمَا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. [فَصْلٌ فِي حِكْمَةِ تَرْتِيبِ الْأَذَانِ] اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي الْأَذَانِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ كَيْفَ عَمَّتْ مَنْفَعَتُهُ لِلْأُمَّةِ إذْ إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَالَ «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ» وَأَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ مَنْ حَكَاهُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ فَلَوْ كَانَ الْمُؤَذِّنُ وَاحِدًا لَيْسَ إلَّا لَفَاتَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَّةِ إذْ إنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُكَلَّفُ قَاعِدًا لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ أَوْ فِي سُوقِهِ مَشْغُولًا لَا يَسْمَعُهُ أَوْ فِي أَكْلِهِ أَوْ شُرْبِهِ أَوْ نَوْمِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ، فَلَوْ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ جَمَاعَةً يُؤَذِّنُونَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ لَفَاتَتْهُمْ حِكَايَتُهُ، فَإِذَا أَذَّنُوا عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَمَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ حِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ الْأَوَّلِ أَدْرَكَ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ قَدْ

فصل وقوف المؤذنين على أبواب المساجد وقولهم الصلاة

يَتَنَبَّهُ النَّائِمُ مِنْ نَوْمِهِ فَيَحْكِيهِ وَيَعْلَمُ فِي أَيِّ وَقْتٍ هُوَ مِنْ إيقَاعِ الصَّلَاةِ فَتَعُمُّ الْمَنْفَعَةُ لِلْأُمَّةِ. وَقَدْ وَرَدَ «أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ لَا يُرَدُّ فِيهَا الدُّعَاءُ عِنْدَ اصْطِفَافِ النَّاسِ إلَى الْجِهَادِ وَعِنْدَ اصْطِفَافِهِمْ إلَى الصَّلَاةِ وَعِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ» فَإِذَا حَكَى الْمُكَلَّفُ الْمُؤَذِّنَ وَدَعَا بِمَا يَخْتَارُهُ اُسْتُجِيبَ لَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْوَعْدِ الْجَمِيلِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَجِيبَةِ الْمُبَارَكَةِ مَا نُقِلَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَقَالَ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بَلْ قَالَ الْوَاصِفُ لِصَوْمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّهُ «كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ إنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ إنَّهُ لَا يَصُومُ، وَمَا أَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا رَمَضَانَ» . وَذَلِكَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَوْسِعَةٌ عَلَى الْأُمَّةِ وَأَخْذٌ مِنْهُ بِالْأَفْضَلِ وَالْأَعْلَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَامَ يَوْمًا وَأَفْطَرَ يَوْمًا لَفَاتَتْ تِلْكَ الْفَضِيلَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَّةِ مِثْلِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ وَالْحَائِضِ، وَعَلَى مَا فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُدْرِكُ كُلٌّ مِنْهُمْ الْفَضِيلَةَ بِكَمَالِهَا وَذَلِكَ نِصْفُ الدَّهْرِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا أَخْبَرَ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ صَلَاةِ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ بَلْ قَالَ الْوَاصِفُ لِقِيَامِهِ إنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهُ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ قَائِمًا إلَّا رَأَيْتَهُ نَائِمًا وَلَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهُ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ نَائِمًا إلَّا رَأَيْتَهُ قَائِمًا، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِرِفْقِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأُمَّتِهِ حَتَّى لَا تَفُوتُهُمْ فَضِيلَةُ اتِّبَاعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَمَنْ نَامَ مِنْهُمْ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ أَدْرَكَ الْجُزْءَ الْآخَرَ فَسُبْحَانَ مَنْ أَهَّلَهُ لِلرِّفْقِ بِأُمَّتِهِ وَرَفْعِ الْمَشَاقِّ عَنْهُمْ وَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ، كَيْفَ لَا وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَتِهِ مَعَهُمْ: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أُمَّتِهِ بِحُرْمَتِهِ عِنْدَكَ لَا رَبَّ سِوَاكَ. [فَصْلٌ وُقُوف الْمُؤَذِّنِينَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَقَوْلِهِمْ الصَّلَاةَ] {فَصْلٌ}

فصل في النهي عن النداء على الغائب بما لا ينبغي

وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ وُقُوفِهِمْ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَقَوْلِهِمْ الصَّلَاةَ رَحِمكُمْ اللَّهُ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الصَّلَاةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ شَرَعَ لِلْمُكَلَّفِ حُضُورَ الصَّلَاةِ بِسَمَاعِهِ الْأَذَانَ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ. هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَقِيَ الْأَذَانُ الشَّرْعِيُّ كَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَهِدُوا ذَلِكَ يَتَّكِلُونَ عَلَى وُقُوفِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْغَالِبُ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا الْأَذَانَ الشَّرْعِيَّ لَمْ يَهْرَعُوا إلَى الْمَسْجِدِ لِاتِّكَالِهِمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْحَدِيثِ فِي الدِّينِ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَارًّا فِي طَرِيقٍ بِالْبَصْرَةِ فَسَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَدَخَلَ إلَى الْمَسْجِدِ يُصَلِّي فِيهِ الْفَرْضَ فَرَكَعَ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي أَثْنَاءِ الرُّكُوعِ، وَإِذَا بِالْمُؤَذِّنِ قَدْ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ رَحِمَكُمْ اللَّهُ، فَفَرَغَ مِنْ رُكُوعِهِ وَأَخَذَ نَعْلَيْهِ وَخَرَجَ وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ فِيهِ بِدْعَةٌ. {فَصْلٌ} وَكَذَلِكَ يَنْهَاهُمْ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ قِرَاءَةِ {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95] وقَوْله تَعَالَى {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] عِنْدَ إرَادَتِهِمْ الْأَذَانَ لِلْفَجْرِ وَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا بَرَكَةً وَخَيْرًا لَكِنْ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَضَعَ الْعِبَادَاتِ إلَّا حَيْثُ وَضَعَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ النِّدَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِمَا لَا يَنْبَغِي] وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ النِّدَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي فِيهَا التَّزْكِيَةُ وَالتَّعْظِيمُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُزَكُّوا عَلَى اللَّهِ أَحَدًا» وَالْمَيْتُ مُضْطَرٌّ إلَى الدُّعَاءِ وَالتَّزْكِيَةُ ضِدُّ مَا هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ مِنْ الدُّعَاءِ إذْ إنَّهَا قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابِهِ أَوْ تَوْبِيخِهِ فَيُقَالُ لَهُ أَهَكَذَا كُنْت وَقَدْ وَقَعَ هَذَا مِنْهُمْ كَثِيرًا فِي مَنَامَاتٍ رُئِيَتْ لَهُمْ

فصل في النهي عن مشي المؤذنين أمام الجنازة

فِي هَذَا الْمَعْنَى. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ الصَّلَاةُ عَلَى الرَّجُلِ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الصَّالِحِ الْعَابِدِ الْوَرِعِ الزَّاهِدِ النَّاسِكِ الْحَاجِّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الزَّائِرِ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فُلَانِ الدِّينِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ. فَالْجَوَابُ أَنَّنَا لَا نُنْكِرُ مَذْهَبَهُ بَلْ نُنْكِرُ مَا أَنْكَرَهُ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مِنْ التَّزْكِيَةِ الْمَذْكُورَةِ. فَلَوْ قَالَ الْمُؤَذِّنُ مَثَلًا الصَّلَاةَ عَلَى الْعَبْدِ الْفَقِيرِ إلَى اللَّهِ النَّازِلِ بِفِنَائِهِ الْمُضْطَرِّ إلَى رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ فُلَانٍ بِاسْمِهِ الشَّرْعِيِّ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنْكَرُ وَلَا يُكْرَهُ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَائِبِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ يُخَافُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَعْيًا لِقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تُؤَذِّنُوا بِي أَحَدًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا وَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ. [فَصْلٌ فِي النَّهْي عَنْ مَشْيِ الْمُؤَذِّنِينَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ] ِ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ مَشْيِهِمْ أَمَامَ الْجَنَائِزِ وَرَفْعِهِمْ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ فَإِنَّ فِعْلَ ذَلِكَ أَمَامَ الْجَنَائِزِ بِدْعَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهَا وَالٍ مِنْ الْوُلَاةِ قَرِيبُ الْعَهْدِ جِدًّا أَحْدَثَهَا عَلَى جِنَازَةٍ كَانَتْ لَهُ، ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ إلَى أَنْ فَعَلَهُ بَعْضُ مَنْ لَهُ الرِّيَاسَةُ فِي الدَّوْلَةِ ثُمَّ انْتَشَرَ ذَلِكَ وَشَاعَ حَتَّى صَارَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مَا قَامَ بِحَقِّ مَيِّتِهِ، وَيَا لَيْتَهُ لَوْ وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ لَكِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُمْ فِي طَاعَةٍ وَخَيْرٍ وَبَرَكَةٍ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى ضِدِّ مَا يَظُنُّونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِالدِّيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ وَمَنْ اتَّصَفَ بِالْبِدْعَةِ فَقَدْ تَعَذَّرَ وَصْفُهُ بِذَلِكَ.

فصل في عقد النكاح في المسجد

[فَصْلٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ] ِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَوْ الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى نَهْيِ النَّاسِ عَمَّا أَحْدَثُوهُ حِينَ عَقْدِ الْأَنْكِحَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ إتْيَانِهِمْ بِالْمَبَاخِرِ الْمُفَضَّضَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي بَيْتٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْبَخُورِ وَالطِّيبِ مَنْدُوبًا إلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ مَالِكٌ إنَّ الصَّدَقَةَ بِثَمَنِ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ لِأَجْلِ ظَرْفِهِ لِأَنَّهُ مُفَضَّضٌ. وَأَمَّا فَرْشُ الْبُسُطِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَلَوْ كَانَتْ فِي الْبُيُوتِ لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُقْصَدَ بِفَرْشِهَا الْمُبَاهَاةُ وَمَا شَاكَلَهَا وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْجَهَالَةِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لِهَذَا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ يَتَلَبَّسُوا بِالْعِلْمِ وَلَا يَسْأَلُوا عَمَّا وَقَعَ لَهُمْ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْعِلْمَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْغَفْلَةِ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَمَّا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ فِي دِينِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّشَبُّهِ بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالرُّعُونَةِ، ثُمَّ يَنْضَمُّ إلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَسْجِدِ مَا يُنَزَّهْ عَنْهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّزْكِيَةَ وَالتَّعْظِيمَ لَوْ كَانَتْ فِي الشَّخْصِ أَوْ الْكَذِبِ إنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنْ التَّمَلُّقِ وَالْأَيْمَانِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْأَيْمَانَ إذَا كَثُرَتْ فَإِنَّ الْحِنْثَ فِيهَا وَاقِعٌ فَيَحْذَرُ مِنْ أَنْ يُسَامِحَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ فِي تَهَيُّئِ الْإِمَامِ لِلْجُمُعَةِ] ِ وَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ خُصُوصًا الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ نَظِيفًا فِي نَفْسِهِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ فَقَدْ يَرَاهُ أَحَدٌ حِينَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِالْوُضُوءِ وَحْدَهُ أَوْ يَسْمَعُ عَنْهُ ذَلِكَ فَيَقْتَدِي بِهِ فِي تَرْكِ هَذِهِ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِمَامَ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَهُمْ حَالًا

فصل في الأشياء التي ينبغي للإمام أن يتجنبها في نفسه

وَمَنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِغَيْرِ غُسْلٍ فَهُوَ أَنْقُصُ حَالًا مِمَّنْ اغْتَسَلَ. [فَصْلٌ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَجَنَّبَهَا فِي نَفْسِهِ] فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَجَنَّبَهَا فِي نَفْسِهِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ أَحْسَنَ لِبَاسِ النَّاسِ الْبَيَاضُ. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ لِبَاسِكُمْ الْبَيَاضُ» فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُبَادِرَ إلَيْهِ قَبْلَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يُلْبَسُ الْبَيَاضُ، وَلُبْسُ السَّوَادِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ الْفَضَائِلِ أَنْ يُنْظَرَ إلَى لَابِسِهِ انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ جَدِيدًا فَلْيَمْتَثِلْ السُّنَّةَ حِينَ لُبْسِهِ بِأَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ يَقُولُ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ لُبْسِهِ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ هَذَا الثَّوْبِ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ» ثُمَّ يَقُولُ «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لِي عَوْنًا عَلَى طَاعَتِك» وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى الثَّوْبَ الْجَدِيدَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ تُبْلَى وَيُخْلِفُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِيهِ «تُبْلَى وَيُخْلِفُ اللَّهُ» . وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ إمَّا قَمِيصًا أَوْ عِمَامَةً» زَادَ التِّرْمِذِيُّ «أَوْ رِدَاءً ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ أَسْأَلُك خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ» قَالَ أَبُو بَصْرَةَ وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَبِسَ أَحَدُهُمْ ثَوْبًا جَدِيدًا قِيلَ لَهُ تُبْلَى وَيُخْلِفُ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ»

فصل في خروج الإمام على الناس يوم الجمعة

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَدِيدٍ فَالتَّسْمِيَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا عِنْدَ لُبْسِهِ وَعِنْدَ خَلْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَالِبُ لِبَاسِهِ الْبَيَاضَ سِيَّمَا لِلْخُطْبَةِ وَإِنْ كَانَ لُبْسُ السَّوَادِ جَائِزًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَهُ وَخَطَبَ فِيهِ لَكِنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى لُبْسِهِ لِلْإِمَامِ لِلْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهِ بِدْعَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْبِسَ الْبَيَاضَ وَلَوْ كَانَ يَوْمًا مَا حَتَّى يَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ مَا لَمْ يُؤَدِّ لُبْسُ الْبَيَاضِ إلَى تَوَقُّعِ فِتْنَةٍ أَوْ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ. وَكَذَلِكَ الرَّئِيسُ يَتَجَنَّبُ مَا يَتَجَنَّبُهُ الْإِمَامُ. وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ مِنْ غَرْزِ الْإِبَرِ فِيمَا يَتَطَيْلَسُ بِهِ أَوْ يَتَعَمَّمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ. وَكَذَلِكَ لَا يَلْبِسُ الْخُفَّيْنِ وَإِنْ كَانَ لُبْسُهُمَا جَائِزًا سَفَرًا وَحَضَرًا لَكِنَّ لُبْسَهُمَا لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِدْعَةٌ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ يُتَحَفَّظُ مِنْ جَعْلِ الْأَعْلَامِ السُّودِ عَلَى الْمِنْبَرِ حَالَ الْخُطْبَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَوَقَّعَ الْفِتْنَةَ بِزَوَالِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] ِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ الْخُطَبَاءِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَالسَّلَامُ مَشْرُوعٌ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَكَيْفَ يَتْرُكُهَا الْإِمَامُ وَهُوَ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ فَيُخَالِفُ السُّنَّةَ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِ لِبَيْتِ رَبِّهِ وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا بِمَنْصِبِهِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي نَفْسِهِ حِينَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فَيَفْعَلُ الْآدَابَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَوْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مَرَّةً لَاقْتَدَى النَّاسُ بِهِ. [فَصْلٌ صَلَاة الْمُؤَذِّن عَلَى النَّبِيّ عِنْد خُرُوج الْإِمَام] {فَصْلٌ} وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُ الْمُؤَذِّنُونَ إذْ ذَاكَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَرِّرُ مِنْ ذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى يَصِلُ إلَى الْمِنْبَرِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ

فصل في هيئة الإمام على المنبر

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ فِي هيئة الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ] فَصْلٌ فِي صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ أَوْ الْعَصَا أَوْ غَيْرَهُمَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى إذْ إنَّهَا السُّنَّةُ، وَلِأَنَّ تَنَاوُلَ الطَّهَارَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْيَمِينِ وَالْمُسْتَقْذِرَات بِالشِّمَالِ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ قَالَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْيَسَارِ لِكَوْنِهِ أَيْسَرَ عَلَيْهِ فِي مُنَاوَلَتِهِ إذَا أَرَادَ أَحَدٌ اغْتِيَالَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ الْغِيلَةَ وَهَذَا مَأْمُونٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إذْ إنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْإِمَارَةِ فِي الْغَالِبِ حَتَّى يَغْتَالَهُ أَحَدٌ. [فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ صُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ] وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ الْمِنْبَرَ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُقَدِّمَ الْيَمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَحْذَرَ أَنْ يَضْرِبَ بِمَا فِي يَدِهِ عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمِنْبَرَ وَقْفٌ وَالضَّرْبُ عَلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ مِمَّا يَضُرُّ بِهِ وَيَخْلُقُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ بِجَوَازِهِ لَكِنَّهُ مَحْجُوجٌ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الِاتِّبَاعِ. وَكَذَلِكَ يَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَنْ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عِنْدَ كُلِّ ضَرْبَةٍ يَضْرِبُهَا عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا وَلَا يُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ فِي رُقِيِّهِ الْمِنْبَرِ إلَّا لِضَرُورَةِ مِنْ كِبَرِ سِنٍّ أَوْ ضَعْفِ بَدَنٍ، فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْطُبُ عَلَيْهِ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّاسِ وَجَلَسَ مِنْ غَيْرِ سَلَامٍ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ لَكِنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - تَرْكُهُ إذْ ذَاكَ وَبَعْضُهُمْ يُسَلِّمُ وَيَزِيدُ فِيهِ بِدْعَةً وَهُوَ أَنْ يُشِيرَ بِيَدِهِ إلَى النَّاسِ وَلَا يَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ لِيَدْعُوَ إذْ ذَاكَ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ.

فصل في فرش السجادة على المنبر

[فَصْلٌ فِي فَرْشِ السَّجَّادَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ] ِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْرِشَ السَّجَّادَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ إذْ إنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِدْعَةً وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعِ صَلَاةٍ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ مَا يُفْرَشُ عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى فَهُوَ بِدْعَةٌ أَيْضًا. وَيَنْهَى الرَّئِيسَ عَمَّا أَحْدَثَهُ مِنْ نِدَائِهِ عِنْدَ إرَادَةِ الْخَطِيبِ الْخُطْبَةَ بِقَوْلِهِ لِلنَّاسِ أَيُّهَا النَّاسُ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِك وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ» أَنْصِتُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ انْتَهَى. وَالْعَجَبُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخْذَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَسْتَحْسِنُونَ هَذَا الْفِعْلَ وَيَحْتَجُّونَ عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الشَّامِ وَعَادَتِهِمْ الْمُسْتَمِرَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ يَنْهَاهُمْ أَيْضًا عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ صُعُودِ الرَّئِيسِ عَلَى الْمِنْبَرِ مَعَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ يَجْلِسُ دُونَهُ وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّئِيسَ بِهَذَا الْفِعْلِ يُخَالِفُ السُّنَّةَ فِي اسْتِقْبَالِهِ لِلْخَطِيبِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَرَمَقِهِ بِعَيْنَيْهِ لِأَنَّهُ مُسْتَدْبِرٌ لَهُ إذْ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ مَضَى جَلَسَ مَعَ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِنَصِّ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ يَأْمُرُهُمْ بِالْإِنْصَاتِ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ أَنْصِتُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ ثُمَّ يَفْعَلُ ضِدَّ ذَلِكَ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَلَامِ فَيَتَكَلَّمُ وَيَسْتَدْعِي الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ آمِينَ اللَّهُمَّ آمِينَ غَفَرَ اللَّهُ لِمَنْ يَقُولُ آمِينَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْخَطِيبَ إذَا ذَكَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ السَّامِعُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ هُوَ أَنْ يُسْمِعَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ فِي جَهْرِهِمْ فِي مَوَاضِعِ

الْجَهْرِ لَا عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ زَعَقَاتِ الْمُؤَذِّنِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ، وَحَالُ الْخُطْبَةِ حَالُ خُشُوعٍ وَحُضُورٍ إذْ إنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الظُّهْرِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ أَعْنِي الْإِنْصَاتَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْخَطِيبَ إذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ أَوْ النَّارَ أَوْ ذَكَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ السَّامِعَ يَسْأَلُ وَيَسْتَعِيذُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ سَمَاعِهِ لِذَلِكَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ. زَادَ أَشْهَبُ أَنَّ الْإِنْصَاتَ أَفْضَلُ لَهُ فَإِنْ فَعَلَ فَسِرًّا فِي نَفْسِهِ وَلَوْ عَطَسَ فَيَحْمَدُ اللَّهَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ وَمَنْ سَمِعَهُ فَلَا يُشَمِّتْهُ، فَإِنْ جَهِلَ فَشَمَّتَهُ فَلَا يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَالْإِنْصَاتُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاجِبٌ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ عَلَى مَنْ سَمِعَ الْخُطْبَةَ وَعَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا وَعَلَى مَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ خَارِجَهُ مِمَّنْ يَنْتَظِرُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْإِنْصَاتَ يَجِبُ عَلَى أَرْبَعِينَ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَالْإِنْصَاتُ مَنْدُوبٌ فِي حَقِّهِمْ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْفَاضِلِ يَقْبَحُ سِيَّمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخُطْبَةَ بَدَلٌ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الظُّهْرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَفِعْلُ السَّلَفِ أَوْلَى مَا يُبَادَرُ إلَيْهِ كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا وَقَدْ كَانُوا جَمِيعًا مُنْصِتِينَ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى فِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِينَ سَمِعَ رَجُلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ فَحَصَبَهُمَا أَنْ اُصْمُتَا قَالَ لِأَنَّ حَصْبَهُمَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَهُمَا اُسْكُتَا فَإِذَا كَانَ عَمَلُ السَّلَفِ عَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فَالْمُبَادَرَةُ إلَى اتِّبَاعِهِمْ أَفْضَلُ وَأَعْلَى كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُمْ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ التَّقْعِيرَ فِي خُطْبَتِهِ وَالتَّصَنُّعَ فِيهَا. وَكَذَلِكَ يَجْتَنِبُ تَطْوِيلَ الْخُطْبَةِ وَتَقْصِيرَ الصَّلَاةِ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «أَنْتُمْ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُونَ الْخُطْبَةَ يَبْدَءُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ كَثِيرٌ

قُرَّاؤُهُ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ وَيُقَصِّرُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ يَبْدَءُونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ» فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَا وَرَدَ أَنَّ طُولَ الصَّلَاةِ وَقِصَرَ الْخُطْبَةِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ فَلْيُتَحَفَّظْ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ. وَأَمَّا تَرَضِّي الْخَطِيبِ فِي خُطْبَتِهِ عَنْ الْخُلَفَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَبَقِيَّةِ الْعَشَرَةِ وَبَاقِي الصَّحَابَةِ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَعِتْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ لَا مِنْ بَابِ الْبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ وَلَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَكِنْ فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَمْرٍ كَانَ وَقَعَ قَبْلَهُ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا يَسُبُّونَ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - عَلَى الْمَنَابِرِ فِي خُطْبَتِهِمْ، فَلَمَّا أَنْ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَبْدَلَ مَكَانَ ذَلِكَ التَّرَضِّي عَنْهُمْ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَقِّهِ هُوَ إمَامُ هُدًى وَأَنَا أَقْتَدِي بِهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى حَالِ خُشُوعٍ وَتَضَرُّعٍ لِأَنَّهُ يَعِظُ النَّاسَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمَوْعِظَةِ حُصُولُ الْخُشُوعِ وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالْخَوْفِ مِمَّا أَوْعَدَ بِهِ وَقُوَّةِ الرَّجَاءِ فِيمَا وَعَدَ بِهِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِذَا كَانَ الْخَطِيبُ مُسْتَعْمِلًا فِي نَفْسِهِ مَا ذَكَرَ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى قَبُولِ مَا يُلْقِيهِ إلَى السَّامِعِينَ لِاتِّصَافِهِ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْمُؤَذِّنِ إذَا أَذَّنَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ لِيُبَادِرَ لَفِعْلِ مَا نَادَى إلَيْهِ أَوَّلًا فَيَكُونَ أَدْعَى إلَى صَدْعِ الْقُلُوبِ لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا خَرَجَ مِنْ عَامِلٍ تَشَبَّثَ بِالْقُلُوبِ وَإِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِهِ انْسَابَ عَنْ الْقُلُوبِ عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَتَجَنَّبُ فِي خُطْبَتِهِ التَّصَنُّعَ لِأَنَّ التَّصَنُّعَ إذَا وَقَعَ فَهُوَ الدَّاءُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ فِي الْغَالِبِ إذْ إنَّهُ يُشْبِهُ النِّفَاقَ بَلْ هُوَ النِّفَاقُ بِعَيْنِهِ إذْ

فصل في إسلام الكافر في حال الخطبة

إنَّ مَعْنَى النِّفَاقِ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. [فَصْلٌ فِي إسْلَامِ الْكَافِرِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ] ِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ وَهِيَ أَنَّ الْكَافِرَ يَأْتِي إلَى الْخَطِيبِ فَيُسْلِمُ عَلَى يَدَيْهِ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يَعُودُ وَيَأْتِي ثَانِيًا وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ وَيَقْطَعُ الْخَطِيبُ الْخُطْبَةَ بِسَبَبِهِ وَتَقَعُ ضَجَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْهَا وَهُوَ وَقَدْ كَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ تَرْتِيبَ الْخُطْبَةِ لِأَجْلِ هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا قَبْلُ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي أَنَّهُ يُجَدِّدُ الْإِسْلَامَ إذْ ذَاكَ لِيَشْتَهِرَ إسْلَامُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْرِفُوهُ بِذَلِكَ حَتَّى لَا يَعُودَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إسْلَامِهِ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ إسْلَامِهِ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ وَعَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ مِنْهُمْ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ الْآنَ أَسْلَمَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْخَطِيبِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَيَأْمُرَ مَنْ يَخْرُجُ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَغْتَسِلَ إنْ كَانَ جُنُبًا وَلَوْ لَمْ تَتَقَدَّمْ لَهُ جَنَابَةٌ فِي حَالِ كُفْرِهِ فَيَغْتَسِلُ لِلْإِسْلَامِ فَإِنْ تَرَكَ الْغُسْلَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ فَالْوُضُوءُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيُصَلِّيَ بِهِ الْجُمُعَةَ. [فَصْلٌ إذَا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَدَعَا فِيهَا] {فَصْلٌ} فَإِذَا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَدُعَائِهِ فِيهَا فَلْيَخْتِمْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] إلَى آخِرِ الْآيَةِ أَوْ بِقَوْلِهِ {اُذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ} أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ فَلْيُقِمْ الْمُؤَذِّنُ الصَّلَاةَ فَإِذَا دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَا هُنَاكَ مِنْ الْحَصِيرِ وَيَتْرُكَ السَّجَّادَةَ إذْ إنَّ اتِّخَاذَهَا لِلصَّلَاةِ بِدْعَةٌ إلَّا لِضَرُورَةِ التَّحَفُّظِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ إنَّ الْمِحْرَابَ لَهُ هَيْبَةٌ وَلَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ فِي الْغَالِبِ سِيَّمَا الصِّبْيَانُ الصِّغَارُ وَمَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَقْرَبُونَ مَوْضِعَهُ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ الطَّهَارَةِ

وَالْإِمَامُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ الْقَوْمِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَسْجُدَ عَلَى حَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ السُّنَّةُ وَلَمَّا أَدَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْحُصُرِ الْمَفْرُوشَةِ هُنَاكَ فُعِلَتْ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُبَاشِرُ الْأَرْضَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ فِي سُجُودِهِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ حَالُ أَكْثَرِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَدْعُو ضَرُورَةٌ إلَى ذَلِكَ فَأَرْبَابُ الضَّرُورَاتِ لَهُمْ أَحْكَامٌ أُخَرُ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ. فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا فِي الْمِحْرَابِ فَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ الْمَأْمُومِينَ. وَقَدْ كَانَ الْأَمَامُ مِنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَقْرُبُ أَنْ تَمَسَّ ثِيَابُهُ ثِيَابَ الْمَأْمُومِينَ. وَقَدْ قَالُوا إنَّ مِنْ فِقْهِ الْإِمَامِ قُرْبُهُ مِنْ الْمَأْمُومِينَ وَذَلِكَ لِفَوَائِدَ ذَكَرُوهَا. مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ مَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ مِنْهَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى كَلَامٍ وَلَا إلَى كَثِيرِ عَمَلٍ فِي الِاسْتِخْلَافِ بَلْ يَمُدُّ يَدُهُ إلَى مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ فَيُقَدِّمُهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ فَيُسَبِّحُونَ لَهُ فَلَا يَسْمَعُهُمْ فَإِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ فِي الْغَالِبِ وَتَدَارَكُوا مُلَاقَاةَ ذَلِكَ بِمَسِّهِمْ لَهُ وَتَنْبِيهِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ فَيَتَدَارَكُ إصْلَاحَ مَا أَخَلَّ بِهِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا فَإِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُمْ أَدْرَكُوهَا فَنَبَّهُوهُ عَلَيْهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِحْرَابٌ وَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ لَكِنَّهَا بِدْعَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ لَا يَعْرِفُونَ الْقِبْلَةَ إلَّا بِالْمِحْرَابِ فَصَارَتْ مُتَعَيِّنَةً. لَكِنْ يَكُونُ الْمِحْرَابُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَهُمْ قَدْ زَادُوا فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَالْغَالِبُ مِنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ دَاخِلَ الْمِحْرَابِ حَتَّى يَصِيرُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى بُعْدٍ مِنْ الْمَأْمُومِينَ وَذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ. ثُمَّ إنَّهُ يُخْرِجُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ مِنْ الْفَضِيلَةِ الْكَامِلَةِ لِأَنَّ بَاقِيَ الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَالُوا فِيمَنْ اُضْطُرَّ إلَى النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ يَنَامُ فِي مِحْرَابِهِ لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ بَاقِي الْمَسْجِدِ بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ لَمْ يَضِقْ بِالنَّاسِ فَلَا يَدْخُلُ الْإِمَامُ إلَى الْمِحْرَابِ، فَإِنْ

فصل في كيفية دخوله في الصلاة

ضَاقَ بِهِمْ فَلْيَدْخُلْ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ يُمْسِكْ بِوُقُوفِهِ خَارِجًا عَنْهُ مَوْضِعَ صَفٍّ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ قَدْ يَسَعُ خَلْقًا كَثِيرًا. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَنُونَ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ يَلْتَفِتُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَقُولُ اسْتَوُوا يَرْحَمْكُمْ اللَّهُ ثُمَّ يَلْتَفِتُ عَنْ شِمَالِهِ وَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ الرَّئِيسُ أَوْ أَحَدُ الْمَأْمُومِينَ كَبِّرْ رَضِيَ اللَّهُ عَنَّا وَعَنْك هَذَا فِعْلُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّفِّ خَلَلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَوْ كَانَ ثَمَّ خَلَلٌ لَمْ يَسُدَّهُ أَحَدٌ بِقَوْلِهِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. وَقَدْ كَانَ الْأَئِمَّةُ مِنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُوَكِّلُونَ الرِّجَالَ بِتَسْوِيَتِهَا. مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ لَا يُكَبِّرُونَ حَتَّى يَأْتِي مَنْ وَكَّلُوهُمْ بِذَلِكَ فَيُخْبِرُوهُمْ أَنَّهَا قَدْ اسْتَوَتْ فَيُكَبِّرُونَ إذْ ذَاكَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ» وَقَدْ نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّ ثِيَابَهُمْ كَانَتْ تَنْقَطِعُ مِنْ جِهَةِ الْمَنَاكِبِ أَوَّلًا لِشِدَّةِ تَرَاصِّهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ وَهَذِهِ السَّجَّادَاتُ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ضَرُورَةً لِأَنَّهَا تُبْسَطُ عَلَى مَوْضِعٍ فِي الْمَسْجِدِ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ صَاحِبُهَا فِي قِيَامِهِ وَسُجُودِهِ اللَّهُمَّ إلًّا أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ مَنْ بِجَانِبِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ مَعَهُ عَلَيْهَا فَيَخْرُجُ عَنْ بَابِ الْكَرَاهَةِ لَكِنْ يَدْخُلُ عَلَى صَاحِبِهَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَنْ يُصَلِّي إلَى جَانِبِهِ مُتَوَرِّعًا أَوْ فِي كَسْبِ صَاحِبِهَا عِلَّةُ شُبْهَةٍ أَوْ حَرَامٌ، وَقَدْ يَكُونُ كَسْبُهُ حَلَالًا لَكِنْ يَمْتَنِعُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ تَخْرِيجُهُ مِنْ دُخُولِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يُفْعَلُ لِأَنَّهُ يَأْتِي إلَى فِعْلٍ مَنْدُوبٍ وَهُوَ التَّرَاصُّ فِي الصَّفِّ فَيَقَعُ فِي مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ [فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّة دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ] فَصْلٌ فِي دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا اسْتَوَتْ الصُّفُوفُ فَلْيَنْوِ إذْ ذَاكَ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ بِقَلْبِهِ وَلَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ

وَلَا يَجْهَرْ بِالنِّيَّةِ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِهَا مِنْ الْبِدَعِ. وَاخْتُلِفَ فِي النُّطْقِ بِاللِّسَانِ هَلْ هُوَ بِدْعَةٌ أَوْ كَمَالٌ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ كَمَالٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِالنِّيَّةِ فِي مَحَلِّهَا وَهُوَ الْقَلْبُ وَنَطَقَ بِهَا اللِّسَانُ وَذَلِكَ زِيَادَةُ كَمَالٍ هَذَا مَا لَمْ يَجْهَرْ بِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ النُّطْقَ بِاللِّسَانِ مَكْرُوهٌ وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَرَى أَنَّ النُّطْقَ بِهَا بِدْعَةٌ إذْ لَمْ يَأْتِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَا يُخْشَى أَنَّهُ إذَا نَطَقَ بِهَا بِلِسَانِهِ قَدْ يَسْهُو عَنْهَا بِقَلْبِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ أَتَى بِالنِّيَّةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَحَّلَ الْقِرَاءَةِ النُّطْقُ بِاللِّسَانِ، فَلَوْ قَرَأَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهَا لِسَانُهُ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَنْوِهَا بِقَلْبِهِ. وَمِنْ صِفَةِ النِّيَّةِ عَلَى الْكَمَالِ أَنْ يَنْوِيَ بِصَلَاتِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا وَذَلِكَ يَحْتَوِي عَلَى خَمْسِ نِيَّاتٍ وَهِيَ نِيَّةُ الْأَدَاءِ وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنِيَّةُ الْفَرْضِ وَتَعْيِينُ الصَّلَاةِ وَإِحْضَارُ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْأَيَّامِ وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَنْوِيَ الِائْتِمَامَ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ مَأْمُومٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطُلَتْ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ إلَّا فِي كُلِّ صَلَاةٍ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي جَمَاعَةٍ وَهِيَ خَمْسٌ، وَذَلِكَ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالثَّانِيَةُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَالثَّالِثَةُ الْجَمْعُ لَيْلَةَ الْمَطَرِ وَالرَّابِعَةُ صَلَاةُ الْخَوْفِ وَالْخَامِسَةُ الْمَأْمُومُ الْمُسْتَخْلَفُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ لَكِنْ إنْ نَوَاهَا كَانَ أَعْظَمَ أَجْرًا وَأَكْثَرَ ثَوَابًا مِمَّنْ لَمْ يَنْوِهَا. ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ الْقِرَاءَةَ فَيَقْرَأُ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهَا فَقِيلَ إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ. وَقِيلَ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى. وَقِيلَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمَذْهَبُ فِي الْأُولَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِيهَا إلَّا سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّا يَقْرَأُ الْمَسْبُوقُ بِرَكْعَةٍ فِي الْجُمُعَةِ فَقَالَ يَقْرَأُ مِثْلَ

فصل في الجهر بالنية

مَا قَرَأَ إمَامُهُ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ، فَقِيلَ لَهُ أَقِرَاءَةُ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ قَالَ لَا أَدْرِي مَا هِيَ سُنَّةٌ وَلَكِنَّ مَنْ أَدْرَكْنَا كَانَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْجُمُعَةِ انْتَهَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَفِي الثَّانِيَةِ بِ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] لَكِنَّ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى تَرْكِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ، وَبَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَقْرَأُ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِآخِرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] إلَى آخِرِهَا وَفِي الثَّانِيَةِ بِآخِرِ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] إلَى آخِرِهَا. وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَإِطَالَةِ الْخُطْبَةِ وَمَا كَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَقْرَءُونَ إلَّا سُورَةً كَامِلَةً بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ أَجَازَ الِاقْتِصَارَ عَلَى قِرَاءَةِ بَعْضَ السُّورَةِ فَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْجَوَازِ وَالْمَنْدُوبِ، وَالْأَفْضَلُ وَالِاتِّبَاعُ قِرَاءَةُ سُورَةٍ كَامِلَةٍ [فَصْلٌ فِي الْجَهْر بِالنِّيَّةَ] {فَصْلٌ} وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ لَا يُجْهَرُ بِهَا فَهُوَ عَامٌّ فِي الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْفَذِّ فَالْجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ إذْ إنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا الْخُلَفَاءَ وَلَا الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - جَهَرُوا بِهَا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى الْمَأْمُومِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ قِرَاءَتِهِمْ بِالْجَهْرِ بِإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حِينَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ إيَّاهَا فَيُحَذِّرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْجَهْرِ خَلْفَهُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ السِّرِّ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافَ السُّنَّةِ وَفِيهِ التَّشْوِيشُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ يَقْرَبُ مِنْهُ. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ أَقَلَّ مِنْ هَذَا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ»

وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ وَهَذِهِ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ جَهْرِيَّةً وَقَرَأَ الْمَأْمُومُ أُمَّ الْقُرْآنِ خَلْفَهُ فَلَا يَجْهَرْ بِهَا. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِرَاءَةِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِأَنَّ فِي الْجَهْرِ بِهَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَتْرُكُ سُنَّةَ الْإِسْرَارِ فِي الصَّلَاةِ. وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانَا إذْ إنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْإِمَامِ مَعَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِكَيْ يُعْلِمَ النَّاسَ الْحُكْمَ فِي صَلَاةِ السِّرِّ أَنَّهُ يُقْرَأُ فِيهَا بِسُورَةٍ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ حَتَّى لَا يَجِدَ أَحَدٌ السَّبِيلَ إلَى أَنْ يَقُولَ كَانَ يُسَبِّحُ أَوْ يَدْعُو أَوْ يُفَكِّرُ فَكَانَ جَهْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْآيَةِ أَحْيَانَا لِهَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَنْبَغِيَ لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يَجْهَرَ بِالتَّسْبِيحِ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ وَلَا يَجْهَرَ بِالدُّعَاءِ فِي مَوْضِعِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَقِبَهَا وَمَا يَفْعَلُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَحْمِلُ الْمَأْمُومِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ، وَالْجَهْرُ بِذَلِكَ بِدْعَةٌ إذْ إنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً فَسَلَّمَ مِنْهَا وَبَسَطَ يَدَيْهِ وَدَعَا وَأَمَّنَ الْمَأْمُومُونَ عَلَى دُعَائِهِ. وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وَكَذَلِكَ بَاقِي الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وَشَيْءٌ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهِ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ لَا يَمْسَحْ صَدْرَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ وَغَيْرِهَا مِمَّا شُرِعَ فِيهِ الْقُنُوتُ أَوْ الدُّعَاءُ لِمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ إذْ إنَّهُ بِدْعَةٌ. وَكَذَلِكَ يَنْهَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ إذْ إنَّهُ بِدْعَةٌ. وَكَذَلِكَ لَا يَجْهَرْ بِالدُّعَاءِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ السَّلَامِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَنْ فِعْلِهِ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ. وَالْأَصْلُ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ

صَلَاتَهُ وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ الْخُشُوعُ وَالْحُضُورُ فِيهَا فَيُمَثِّلُ نَفْسَهُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ الْمَلِكِ الْجَلِيلِ يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ فَإِنْ كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ فَهُوَ يَسْمَعُ كَلَامَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا مِنْ دُعَاءٍ أَوْ ذِكْرٍ فَهُوَ يُنَاجِي مَوْلَاهُ بِدُعَائِهِ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَوْلَى الْعَلِيمُ يَسْمَعُهُ إذْ إنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أَعْنِي بِالْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ فَتَخْشَعُ جَوَارِحُهُ كُلُّهَا انْقِيَادًا مِنْهَا لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخُشُوعِ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ خُشُوعِ جَوَارِحِهِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الْجَوَارِحِ الْبَاطِنَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْخُطْبَةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ تُرْفَعُ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلُ هُوَ الْإِمَامُ إذْ إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَهُمْ وَبِحُصُولِ هَذِهِ الصِّفَةِ تَزْكُو صَلَاتُهُ وَيَعُودُ مِنْ بَرَكَاتِهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ مَعَهُ فَيَعْمَلُ عَلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَالسُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَنْ يَلِيَ الْإِمَامَ مِنْ النَّاسِ أَفْضَلُهُمْ عِلْمًا وَعَمَلًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى الْإِمَامِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِخْلَافَ لَوَجَدَ مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ بِقُرْبِهِ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ يَتَكَلَّفُهَا وَهَذِهِ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ عَلَى مَا كُنْت أَعْهَدُ أَنَّهُ لَا يَسْتُرُ الْإِمَامَ إلَّا مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ التَّقَدُّمِ لِلْإِمَامَةِ فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ وَهَذِهِ خَصْلَةٌ دَائِرَةٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فِي الْغَالِبِ فَتَجِدُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ يَسْتُرُ الْإِمَامَ وَتَجِدُ أَهْلَ الْفَضْلِ فِي الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» وَلِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَسْبِقُ إلَى الْمَسْجِدِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لِيُحَصِّلَ هَذِهِ السُّنَّةَ وَيَخْمِدَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِهِ. وَمَا زَالَ الْفُضَلَاءُ وَالْأَكَابِرُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْصَارِ هُمْ الَّذِينَ يُبَادِرُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ فِي

أَوَائِلِ الْأَوْقَاتِ أَوْ قَبْلِهَا. حَتَّى إنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَوَجَدَ رَجُلَيْنِ قَدْ سَبَقَاهُ فَجَعَلَ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ أَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ أَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَلَوْ جَاءَ الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْفُضَلَاءِ إلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدُوا غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ فِي مَنْزِلِهِمْ قَدْ سَبَقَهُمْ لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَعْهَدُونَ الصَّلَاةَ فِيهَا أَعْنِي مَنْ كَانَ يَسْتُرُ الْإِمَامَ أَوْ يَقْرَبُ مِنْهُ كَانَ مَنْ سَبَقَ لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ وَأَوْلَى، وَلَا يُقَامُ مِنْهَا اتِّفَاقًا وَإِقَامَتُهُ ظُلْمٌ لَهُ وَبِدْعَةٌ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُؤْثِرَ السَّابِقُ بِهَذِهِ الْقُرْبَةِ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ فَذَلِكَ لَهُ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» وَلِلْعَمَلِ الْمَاضِي الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ. وَالثَّانِي مَنْ صَلَّى خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ، فَإِذَا قَدَّمَهُ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِ السَّلَفِ الَّذِي كَانَ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ أَوَّلَ الْوَقْتِ لَيُدْرِكَ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَإِذَا امْتَلَأَ بِالنَّاسِ تَأَخَّرَ إلَى الثَّانِي وَآثَرَ بِمَكَانِهِ غَيْرَهُ وَهَكَذَا إلَى أَنْ يُصَلِّيَ فِي آخِرِ صَفٍّ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ أُبَكِّرُ لِأَحُوزَ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَتَأَخَّرُ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ قَدْ صَلَّيْت خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ فَيُغْفَرُ لِي، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِيثَارِ بِالْقُرَبِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ تَرَكَ قُرْبَةً لَا بَدَلَ عَنْهَا. أَمَّا مَنْ تَرَكَهَا لِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا وَأَوْلَى فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ قُرْبَةٍ لِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَرْكَ التَّبْكِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ التَّبْكِيرَ مِنْ غَدْوَةِ النَّهَارِ إلَيْهَا أَفْضَلُ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَعْنَاهُ التَّهْجِيرُ وَدَلِيلُهُ عَمَلُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِ مِنْ أَنَّ التَّبْكِيرَ إلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ التَّهْجِيرِ بِأَنْ قَالَ أَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ تَرْكُ التَّبْكِيرِ إلَى الْجُمُعَةِ، وَقَدْ كَانُوا يَأْتُونَهَا بِالْمَشَاعِلِ لَيْلًا، وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ

التنفل في المساجد بتوابع الفرائض

الْجُمُعَةِ لِيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّبْكِيرَ إلَيْهَا وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ قَالَ وَلَمْ يَكُونُوا يُبَكِّرُونَ هَذَا التَّبْكِيرَ وَأَخَافُ عَلَى فَاعِلِهِ أَنْ يَدْخُلَهُ شَيْءٌ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ فِي صِحَّةِ نَقْلِ مَالِكٍ عَنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَرَى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْطُبُ لِلْجُمُعَةِ فَلَوْ كَانَ التَّبْكِيرُ أَفْضَلَ لَمَا تَأَخَّرَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاشْتَغَلَ بِالسُّوقِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي أَتَى فِيهِ إلَى الْجُمُعَةِ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَوْضِعِهِ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُغَيِّرُ هَيْئَتَهُ فِي جُلُوسِهِ فِي الصَّلَاةِ لِيُقْبِلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ لِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ» فَيَحْصُلُ لِفَاعِلِ ذَلِكَ امْتِثَالُ السُّنَّةِ وَاسْتِغْفَارُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَخَرَجَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ اسْتِغْفَارَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ، هَذَا إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي رَحْلِهِ فِي السَّفَرِ فَلَا بَأْسَ بِجُلُوسِهِ فِيهِ، وَتَغْيِيرُهُ الْهَيْئَةَ أَوْلَى كَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبَعْضُ الْأَئِمَّةِ يَقْعُدُ فِي مُصَلَّاهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي صَلَاتِهِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَا مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - لِأَنَّهُ قَدْ يُخْلَطُ عَلَى الدَّاخِلِ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ تَعَالِيلَ أُخَرَ مَوْجُودَةً فِي كُتُبِهِمْ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَأْمُومِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ هَيْئَةَ صَلَاتِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِمَّا شَرَعَ فِيهِ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ عَقِبَ صَلَاتِهِ ثُمَّ يَتَنَفَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَحَبَّ لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَتَنَفَّلَ بَعْدَ الصَّلَاةِ إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مِمَّا يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ بَلْ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَيُصَلِّي فِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا حَرَجَ وَيُصَلِّيهَا فِي مَوْضِعِهِ. [التَّنَفُّلُ فِي الْمَسَاجِدِ بِتَوَابِعِ الْفَرَائِضِ] وَالتَّنَفُّلُ فِي الْمَسَاجِدِ بِتَوَابِعِ الْفَرَائِضِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْبُيُوتِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِتَأَكُّدِهَا فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْفَرَائِضِ

دُونَهَا. وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا عَدَا الرُّكُوعَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَبَعْدَ الْجُمُعَةِ. أَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْكَعُ بَعْدَهَا فِي بَيْتِهِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ الْجَمِيلَةِ فِي رَحْمَتِهِ بِأُمَّتِهِ إذْ إنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَائِمًا وَرَكَعَ عَقِبَ الْمَغْرِبِ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَنْتَظِرُهُ أَكْثَرُهُمْ حَتَّى يَنْصَرِفُوا بِانْصِرَافِهِ فَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ الْأَوْلَادُ وَالْعَائِلَةُ فَيَنْتَظِرُونَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَشَقَّةً فَأَزَالَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْهُمْ بِرُكُوعِهِ فِي بَيْتِهِ انْتَهَى، عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَكَعَ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يُكْرَهْ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ خَشْيَةً مِنْ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَإِذَا أَمِنَ مِنْهَا جَازَ. وَأَمَّا فِي الْجُمُعَةِ فَلَا يَتَنَفَّلْ عَقِبَهَا إمَامٌ وَلَا غَيْرُهُ إلَّا فِي بَيْتِهِ، بِذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ» . وَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلًا قَامَ يَتَنَفَّلُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَجَبَذَهُ وَأَقْعَدَهُ وَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ تُشْبِهُ الْجُمُعَةَ بِمَنْ فَاتَتْهُ رَكْعَتَانِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إلَيْهِ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا» . فَالتَّنَفُّلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةٌ لِمَا ذُكِرَ حَتَّى يَنْصَرِفَ إلَى بَيْتِهِ فَيُصَلِّيَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ غَرِيبًا أَوْ مِمَّنْ لَا بَيْتَ لَهُ أَوْ مِمَّنْ يُرِيدُ انْتِظَارَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَخْرُجُ مِنْ بَابٍ وَيَدْخَلُ مِنْ آخَرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانِهِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إذَا طَالَ مَجْلِسُهُ أَوْ حَدِيثُهُ يَعْنِي مِمَّا يَسُوغُ الْكَلَامُ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ عَقِبَ الصَّلَاةِ. وَمِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ أَوَّلًا وَلِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ إخْوَانِهِ

فصل في الصلاة على الميت في المسجد

الْمُسْلِمِينَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ إذَا كَانَ إمَامًا فِي الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ. هَكَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَلِّينَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إمَامٍ وَمَأْمُومٍ وَلْيَحْذَرُوا جَمِيعًا مِنْ الْجَهْرِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَبَسْطِ الْأَيْدِي عِنْدَهُ أَعْنِي عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ إنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِمَامُ بِذَلِكَ تَعْلِيمَ الْمَأْمُومِينَ بِأَنَّ الدُّعَاءَ مَشْرُوعٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَيَجْهَرُ بِذَلِكَ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، حَتَّى إذَا رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ تَعَلَّمُوا أَمْسَكَ. وَبَعْضُ الْأَئِمَّةِ إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ أَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ يَجْهَرُ بِهِ قَبْلَ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ عَقِبَ الصَّلَاةِ وَيَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ كَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَهُ الْجَهْرُ فِيهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةِ التَّعْلِيمِ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَفْضَلِ الَّذِي هُوَ الذِّكْرُ الْمَأْثُورُ، وَقَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ النَّاسِ بِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الذِّكْرِ الْمَأْثُورِ عَقِبَ الصَّلَاةِ فَلْيُحَذِّرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ الْقِرَاءَةِ جَمَاعَةً وَالذِّكْرِ جَمَاعَةً. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ اسْتِحْبَابُ قِرَاءَتِهَا كَامِلَةً فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خُصُوصًا فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَيَقْرَأُهَا سِرًّا فِي نَفْسِهِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ جَهَرَا فِي غَيْرِهِ أَوْ فِيهِ إنْ كَانَ الْمَسْجِدُ مَهْجُورًا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْ يَتَشَوَّشُ بِقِرَاءَتِهِ وَالسِّرُّ أَفْضَلُ، وَأَمَّا اجْتِمَاعُهُمْ لِذَلِكَ فَبِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ [فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ] ِ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ جَائِزَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ وَلَا عَلَى الْإِمَامِ فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ

فصل في خروج الإمام إلى صلاة العيدين

وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيُكْرَهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلِلْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجِدِ. وَمَا وَرَدَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ» فَلَمْ يَصْحَبْهُ الْعَمَلُ، وَالْعَمَلُ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَقْوَى لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَغَيْرَهُ، وَالْعَمَلُ لَا يَحْتَمِلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ هُوَ عَلَى جَادَّةِ الِاتِّبَاعِ، وَالِاتِّبَاعُ أَوْلَى مَا يُبَادَرُ إلَيْهِ لِعَدَمِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى الْجِنَازَةِ فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمَا فَقَدْ ارْتَكَبَ ثَلَاثَ مَكْرُوهَاتٍ: أَحَدُهَا: الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ. الثَّانِي: التَّقَدُّمُ عَلَى الْإِمَامِ. الثَّالِثَ: التَّقَدُّمُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَلَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَكْرُوهٍ فَكَيْفَ إذَا تَعَدَّدَ. وَحَدُّ الْمَكْرُوهِ مَا تَرْكُهُ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهِ {تَنْبِيهٌ} وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا بُنِيَ أَوْ يُبْنَى إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ مِنْ مِيضَأَةٍ أَوْ سَرَابٍ فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ يَصِلُ مِنْهُ نَدَاوَةٌ إلَى أَرْضِ الْمَسْجِدِ أَوْ جُدْرَانِهِ فَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُبْطِلُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ؛ لِأَنَّ دُخُولَ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ مُحَرَّمٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا حَصِيرٌ لِأَنَّ الْأَرْضِ هِيَ الْمَسْجِدُ لَا الْحَصِيرُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَصِيرَ إذَا بُسِطَ عَلَى تِلْكَ الْأَرْضِ تَنَجَّسَ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْجُدْرَانُ لِأَنَّ الْمُصَلِّينَ يَسْتَنِدُونَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ إلَيْهَا فَتُنَجِّسُ ثِيَابَهُمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لِتَحْصِيلِ الْحَسَنَةِ بِتَيْسِيرِ مَوْضِعِ الطَّهَارَةِ سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ مَنْ بَيْتُهُ بَعِيدٌ مِنْهُ، فَيُقَرِّبُ عَلَى الْجَمِيعِ أَمْرَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ فَيَقَعُ فِي مُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةً لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي تُوَصِّلُ إلَى السَّيِّئَةِ مَا هِيَ بِحَسَنَةٍ بَلْ هِيَ السَّيِّئَةُ نَفْسُهَا، وَالْغَالِبُ عَلَى الشَّيْطَانِ أَنْ يَدُسَّ هَذَا الْمَعْنَى لِبَعْضِ مَنْ فِيهِ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ حَتَّى يُوقِعَهُ فِي السَّيِّئَةِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ فِي حَسَنَةٍ، وَهَذَا مِنْ بَعْضِ مَكَائِدِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ [فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْإِمَامِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَنْ تَكُونَ فِي الْمُصَلَّى لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ الْعَظِيمَةِ خَرَجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمُصَلَّى وَتَرَكَهُ فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى تَأَكُّدِ أَمْرِ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ فَهِيَ السُّنَّةُ وَصَلَاتُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِدْعَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ ثَمَّ ضَرُورَةٌ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ، وَلِأَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ النِّسَاءَ أَنْ يَخْرُجْنَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَأَمَرَ الْحُيَّضَ وَرَبَّاتِ الْخُدُورِ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمَا فَقَالَتْ إحْدَاهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تُعِيرُهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا لِتَشْهَدَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ» ، فَلَمَّا أَنْ شَرَعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُنَّ الْخُرُوجَ شَرَعَ الصَّلَاةَ فِي الْبَرَاحِ لِإِظْهَارِ شَعِيرَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِيَحْصُلَ لَهُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا قَدْ أَمَرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بَاعِدُوا بَيْنَ أَنْفَاسِ النِّسَاءِ وَأَنْفَاسِ الرِّجَالِ» فَلَمَّا أَمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلَهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَكَانَ النِّسَاءُ بَعِيدًا مِنْ الرِّجَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَصَلَاتِهِ جَاءَ إلَى النِّسَاءِ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَلَوْ كُنَّ قَرِيبًا لَسَمِعْنَ الْخُطْبَةَ وَلَمَا احْتَجْنَ إلَى تَذْكِيرِهِ لَهُنَّ بَعْدَ الْخُطْبَةِ هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْجِدَ وَلَوْ كَبُرَ فَهُمْ مَحْصُورُونَ فِي الْخُرُوجِ مِنْ أَبْوَابِهِ الْمَعْلُومَةِ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ عِنْدَ الدُّخُولِ فِيهَا وَالْخُرُوجِ مِنْهَا فَتُتَوَقَّعُ الْفِتَنُ فِي مَوْضِعِ الْعِبَادَاتِ، وَالْبَرَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِاتِّسَاعِ الْبَرِّيَّةِ فَلَا يَصِلُ فِيهَا أَحَدٌ لِأَحَدٍ فِي الْغَالِبِ، وَهَذَا بِعَكْسِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْجِدَ عِنْدَهُمْ كَبِيرٌ وَلَهُ أَبْوَابٌ

فصل في التكبير عند الخروج إلى المصلى

شَتَّى فَيَخْرُجُونَ مِنْهُ إلَى الْبَرَاحِ لِكَوْنِهِ أَوْسَعَ وَهُوَ السُّنَّةُ فَبَنَوْا فِي ذَلِكَ الْبَرَاحِ مَوْضِعًا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ عَلَى قَدْرِ صَحْنِ الْجَامِعِ أَوْ أَصْغَرَ وَجَعَلُوا لَهُ بَابَيْنِ لَيْسَ إلَّا بَابًا لِلْجِهَةِ الْقِبْلِيَّةِ وَالْآخَرَ فِي مُقَابَلَتِهِ فَيَجْتَمِعُ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ فِي أَحَدِ الْبَابَيْنِ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَتَقِفُ الْخَيْلُ وَالدَّوَابُّ عَلَيْهِمَا فَإِذَا انْصَرَفُوا خَرَجُوا مِنْهُمَا كَذَلِكَ مُزْدَحِمِينَ. وَالْغَالِبُ أَنَّ النِّسَاءَ إذَا خَرَجْنَ لِغَيْرِ الْعِيدِ يَلْبَسْنَ الْحَسَنَ مِنْ الثِّيَابِ وَيَسْتَعْمِلْنَ الطِّيبَ وَيَتَحَلَّيْنَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فَكَيْفَ بِهِنَّ فِي الْعِيدَيْنِ، وَالرِّجَالُ أَيْضًا يَتَجَمَّلُونَ بِمَا لَا يَجُوزُ لَهُمْ فَتَقَعُ الْفِتَنُ وَتَتَلَوَّثُ الْقُلُوبُ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا لِقُرْبَةٍ فَآلَ الْأَمْرُ إلَى ضِدِّهَا، وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ أُمُورٌ أُخَرُ مِنْهَا أَنَّ الْبَابَيْنِ الْمَفْتُوحَيْنِ لَا بَابَ عَلَيْهِمَا فَيَبْقَى ذَلِكَ الْمَكَانُ مَأْوًى لِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَاللُّصُوصِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَفْعَلُ الْقَبَائِحَ الْمُتَوَقَّعَةَ فِيهَا. وَقَدْ قِيلَ مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُوقِعُهَا مَعَهُ وَلَا يَجِدُ مَوْضِعًا فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْعِصْمَةِ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَوْضِعَ مُتَيَسِّرًا كَانَ ذَلِكَ تَيْسِيرًا لِلْمَعْصِيَةِ لِمَنْ أَرَادَهَا، وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ عِبَادَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ هَذَا فَيُتْرَكُ مَكْشُوفًا لَا بِنَاءَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَةَ مَا فِيهِ مِنْ الْبُنْيَانِ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيمَا حَوَاهُ الْبُنْيَانُ وَيُصَلِّي خَارِجًا عَنْهُ فِي الْبَرَاحِ فَهُوَ الْأَوْلَى، وَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ بَلْ الْمُتَعَيِّنُ الْيَوْمَ لَكِنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ بَعْدَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِنْصَاتِ لِخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مَكَائِدِ إبْلِيسَ يَأْتِي إلَى مَوَاضِعِ الْقُرَبِ فَيَدُسُّ فِيهَا دَسَائِسَ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ. [فَصْلٌ فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى] وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنْ يُكَبِّرَ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى الْمُصَلَّى إنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ قُرْبَ طُلُوعِهَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَتَى إلَى الْمُصَلَّى لِأَجْلِ بُعْدِ

مَنْزِلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَكْبِيرٌ حَتَّى يَدْخُلَ الْوَقْتُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ يُشْرَعُ لَهُ التَّكْبِيرُ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَبَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إذَا خَرَجَ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ. وَالسُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ فَيُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَعْقِرَ حَلْقَهُ مِنْ الْبِدَعِ إذْ إنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا مَا ذُكِرَ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ أَعْنِي فِي التَّكْبِيرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إمَامًا أَوْ مُؤَذِّنًا أَوْ غَيْرَهُمَا فَإِنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِمْ أَجْمَعِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ إلَّا النِّسَاءَ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُسْمِعُ نَفْسَهَا لَيْسَ إلَّا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ، فَكَأَنَّ التَّكْبِيرَ إنَّمَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ فَتَجِدُ الْمُؤَذِّنِينَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَسْتَمِعُونَ لَهُمْ وَلَا يُكَبِّرُونَ وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ كَأَنَّ التَّكْبِيرَ مَا شُرِعَ إلَّا لَهُمْ، وَهَذِهِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ ثُمَّ إنَّهُمْ يَمْشُونَ عَلَى صَوْتِ وَاحِدٍ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ إنَّمَا هُوَ أَنْ يُكَبِّرَ كُلُّ إنْسَانٍ لِنَفْسِهِ وَلَا يَمْشِي عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ. وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا وَقُودُهُمْ الْقَنَادِيلَ فِي طَرِيقِ الْإِمَامِ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَأْتُونَ إلَى بَابِ دَارِ الْإِمَامِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْعِيدِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ شَرَعُوا فِي التَّكْبِيرِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ الْخَارِجِ عَنْ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فَيَمْشُونَ مَعَهُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَصِلُوا إلَى قُرْبِ الْمِحْرَابِ فَيَتَشَوَّشُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ وَحِينَئِذٍ يَقْطَعُونَ التَّكْبِيرَ وَيَأْخُذُونَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ خَرَجُوا مَعَ إمَامِهِمْ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالنَّاسُ سُكُوتٌ لَا يُكَبِّرُونَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ التَّكْبِيرُ سُنَّةً فَفِعْلُهُمْ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ زَعَقَاتِ الْمُؤَذِّنِينَ مِنْ الْبِدَعِ. وَكَذَلِكَ تَكْبِيرُهُمْ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ سُكُوتُ النَّاسِ لِأَجْلِ اسْتِمَاعِهِمْ وَتَرْكِهِمْ التَّكْبِيرَ لِأَنْفُسِهِمْ فَهَذِهِ ثَلَاثُ بِدَعٍ مُعَارِضَةٌ لِسُنَّةِ التَّكْبِيرِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَنَّهُ يُكَبِّرُ كُلُّ مَنْ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ

الْعِيدِ مِنْ الرِّجَالِ إمَامًا كَانَ أَوْ مُؤَذِّنًا أَوْ غَيْرَهُمَا يُسْمِعُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ وَفَوْقَ ذَلِكَ قَلِيلًا وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى يَعْقِرَ حَلْقَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَحْسَنَ اللِّبَاسِ وَأَفْضَلَهُ الْبَيَاضُ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ الْقَوْمِ حَتَّى فِي مَلْبَسِهِ وَزِيِّهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي اللِّبَاسِ فِي الْجُمُعَةِ بِشَرْطِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْدُمَ الصَّلَاةَ فَيُوقِعُهَا فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ إيقَاعِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَبَعْضُ الْأَئِمَّةِ يَفْعَلُونَ هَذَا وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى تَرْتَفِعَ وَعِنْدَ الْغُرُوبِ حَتَّى تَغِيبَ، فَيُوقِعُ بَعْضُهُمْ الصَّلَاةَ عِنْدَ بُزُوغِ الشَّمْسِ وَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ فَيَخْرُجُ إلَى فِعْلِ بِرٍّ فَيَقَعُ فِي ضِدِّهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُونَ ضِدَّ هَذَا فَيُؤَخِّرُونَ صَلَاةَ الْعِيدِ حَتَّى تَسْخَنُ الشَّمْسُ وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ فِي الْخَارِجِ إلَى الْمُصَلَّى أَنْ يُعَجِّلَ الْأَوْبَةَ إلَى أَهْلِهِ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَيُضَحِّي لَهُمْ إنْ كَانَ مُمْنٍ يُضَحِّي حَتَّى يُفْطِرُوا عَلَى أُضْحِيَّتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي عِيدِ الْفِطْرِ فَيَأْكُلُونَ مَعَهُ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَفْطَرُوا قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى عَلَى تَمَرَاتٍ أَوْ الْمَاءِ كَمَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ، وَالْغَالِبُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الْعِيَالُ وَالْأَوْلَادُ فَيَبْقَوْنَ مُتَشَوِّفِينَ مُنْتَظِرِينَ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْأَفْضَلُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَهُوَ الْوَسَطُ فَالْمُخْتَارُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ ذَلِكَ وَلَا يُؤَخِّرَهَا حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ. فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ إلَى الصَّحْرَاءِ وَخَطَبَ فَلْيَكُنْ بِالْأَرْضِ لَا عَلَى الْمِنْبَرِ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ رَوَيْنَا أَنَّ مَرْوَانَ لَمَّا أَحْدَثَ الْمِنْبَرَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ عِنْدَ الْمُصَلَّى قَامَ إلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ يَا مَرْوَانُ: مَا هَذِهِ الْبِدْعَةُ؟ فَقَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ هِيَ خَيْرٌ مِمَّا تَعْلَمُ إنَّ النَّاسَ قَدْ كَثُرُوا فَأَرَدْتُ أَنْ يَبْلُغَهُمْ الصَّوْتُ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَاَللَّهِ لَا تَأْتُونَ بِخَيْرٍ مِمَّا أَعْلَمُ أَبَدًا وَاَللَّهِ لَا صَلَّيْتُ وَرَاءَكَ الْيَوْمَ فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُصَلِّ مَعَهُ صَلَاةَ الْعِيدِ انْتَهَى. فَإِنْ

فصل في التحفظ من النجاسة في المصلى

فَعَلَ وَخَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَدْ أَحْدَثُوا فِي مِنْبَرِ الْعِيدِ الْيَوْمَ بِدْعَةً أَكْثَرَ مِنْ جُلُوسِ الرَّئِيسِ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ زَادُوا أَنَّ الْخَطِيبَ إذَا خَطَبَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ امْتَلَأَ الْمِنْبَرُ كُلُّهُ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ وَغَيْرِهِمْ يَرْتَصُّونَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِيمَا فَوْقَ الْمِنْبَرِ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَطَبَ أَنْ يُوجِزَ فِي خُطْبَتِهِ وَلَا يُطِيلُهَا فَإِنَّ التَّطْوِيلَ هَاهُنَا أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنْهُ فِي الْجُمُعَةِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ انْتِظَارِ الْأَهْلِ لَهُمْ فِي الْعِيدَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي التَّحَفُّظِ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الْمُصَلَّى] وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُصَلِّي فِي الْمُصَلَّى التَّحَفُّظُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْضِعٍ فِيهِ نَجَاسَةٌ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مِمَّا تَطَؤُهُ الْخَيْلُ وَالدَّوَابُّ فَلَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ سِيَّمَا وَإِيقَاعُ الصَّلَاةِ يَكُونُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الشَّمْسُ عَلَى الْأَرْضِ فَتُنَشِّفَ تِلْكَ الرُّطُوبَةَ، فَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا تَنَجَّسَ مَا أُصِيبَ مِنْ بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ، وَإِنْ فَرَشَ عَلَيْهَا شَيْئًا يُصَلِّي عَلَيْهِ تَنَجَّسَ فَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَغْسِلَهُ. وَقَدْ تَكُونُ الصَّلَاةُ عَلَى مَوْضِعِ قُبُورٍ. وَقَدْ كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةَ عَلَيْهَا دُونَ حَائِلٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَقْبَرَةُ جَدِيدَةً لَمْ تُنْبَشْ بَعْدُ وَقِيلَ هِيَ مَكْرُوهَةٌ مُطْلَقًا فِي الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ إلَّا عَلَى حَائِلٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي سَلَامِ الْعِيدِ] قَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ يَوْمَ الْعِيدِ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ وَغَفَرَ لَنَا وَلَك عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: جَائِزٌ لِأَنَّهُ قَوْلٌ حَسَنٌ. مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ. مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَدُعَاءُ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ مُسْتَحَبٌّ. الرَّابِعُ: لَا يَبْتَدِئُ بِهِ فَإِنْ قَالَ لَهُ أَحَدٌ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ. وَإِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي هَذَا الدُّعَاءِ الْحَسَنِ

فصل في خروج النساء إلى صلاة العيد

مَعَ تَقَدُّمِ حُدُوثِهِ فَمَا بَالُكَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ عِيدٌ مُبَارَكٌ مُجَرَّدًا عَنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَعَ أَنَّهُ مُتَأَخِّرُ الْحُدُوثِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَكْرَهُوهُ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ يَوْمٌ مُبَارَكٌ وَلَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ وَصَبَّحَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَمَسَّاكَ بِالْخَيْرِ. وَقَدْ كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كُلَّ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ. وَأَمَّا الْمُعَانَقَةُ فَقَدْ كَرِهَهَا مَالِكٌ وَأَجَازَهَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَعْنِي عِنْدَ اللِّقَاءِ مِنْ غَيْبَةٍ كَانَتْ. وَأَمَّا فِي الْعِيدِ لِمَنْ هُوَ حَاضِرٌ مَعَكَ فَلَا. وَأَمَّا الْمُصَافَحَةُ فَإِنَّهَا وُضِعَتْ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ. وَأَمَّا فِي الْعِيدَيْنِ عَلَى مَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يَتَصَافَحُونَ فَلَا أَعْرِفُهُ. لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ النُّعْمَانِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ أَدْرَكَ بِمَدِينَةِ فَاسَ وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ بِهَا مُتَوَافِرُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا فَرَغُوا مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ صَافَحَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنْ كَانَ يُسَاعِدُهُ النَّقْلُ عَنْ السَّلَفِ فَيَا حَبَّذَا وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُمْ فَتَرْكُهُ أَوْلَى [فَصْلٌ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ] ِ قَدْ تَقَدَّمَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ النِّسَاءَ بِالْخُرُوجِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى حَتَّى الْحُيَّضَ وَرَبَّاتِ الْخُدُورِ» وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ التَّسَتُّرِ وَتَرْكِ الزِّينَةِ وَالصِّيَانَةِ وَالتَّعَفُّفِ وَأَنَّ مُرُوطَهُنَّ تَنْجَرُّ خَلْفَهُنَّ مِنْ شِبْرٍ إلَى ذِرَاعٍ وَبُعْدِهِنَّ مِنْ الرِّجَالِ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَوْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعْهُنَّ الْمَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَهُ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ مَنْعُهُنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا فِي خُرُوجِهِنَّ مِنْ الْفِتَنِ الَّتِي لَا تَكَادُ تَخْفَى، وَمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ ضِدِّ الْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا. [فَصْلٌ فِي انْصِرَافِ النَّاسِ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ] ِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْخُرُوجِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ سُرْعَةُ الْأَوْبَةِ إلَى الْأَهْلِ فَلَا يَشْتَغِلُ

فصل في صلاة العيد في المسجد

بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَلَهُ أَنْ يَزُورَ إخْوَانَهُ مِنْ الْأَحْيَاءِ لَكِنْ إنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ فَلْيَبْدَأْ بِهِمْ وَيُزِيلُ تَشَوُّفَهُمْ إلَيْهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَمْضِي لِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ زِيَارَةِ مَنْ ذُكِرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ فَلْيَمْضِ إلَى إخْوَانِهِ وَمَعَارِفِهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِرُؤْيَتِهِمْ وَالْتِمَاسِ الدُّعَاءِ مِنْهُمْ لَكِنْ يَتَحَرَّى وَقْتَ زِيَارَتِهِمْ إذْ إنَّ الْغَالِبَ مِنْ إخْوَانِهِ أَنَّهُمْ يُضَحُّونَ، وَالسُّنَّةُ فِيهَا أَنْ يَتَوَلَّى الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ مُعَدٌّ لِلذَّبْحِ غَالِبًا فَلْيَمْشِ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلَهُ أَنْ يَأْتِيَ إلَيْهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ لِعَدَمِ الْمَانِعِ. [فَصْلٌ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ] ِ فَإِنْ صُلِّيَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ ضَرُورَةِ الْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَالسُّنَّةُ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُصَلَّى لَكِنْ فِي الْمَسْجِدِ يَخْفِضُونَ أَصْوَاتَهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْبَرِّيَّةِ تَنْزِيهًا لِلْمَسْجِدِ مِنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ بِمَعْزِلٍ بَعِيدٍ عَنْ الرِّجَالِ بِخِلَافِ مَا هُنَّ الْيَوْمَ يَفْعَلْنَهُ لِأَنَّهُنَّ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ فِي الْغَالِبِ فَتَجِدُ الْمَسْجِدَ غَالِبُهُ مَمْلُوءٌ يَوْمَ الْعِيدِ بِالنِّسَاءِ وَغَالِبُ خُرُوجِهِنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَوْ مُنِعْنَ الْخُرُوجَ لَكَانَ أَحْسَنَ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْوُعَّاظِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الْكَلَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ فَفِي حَقِّ النِّسَاءِ مِنْ بَابِ أَوْلَى إذْ إنَّ مَفَاسِدَهُنَّ تَزِيدُ عَلَى مَفَاسِدِ الرِّجَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُ الْوُعَّاظِ مِنْ الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا [فَصْلٌ فِي التَّكْبِيرِ إثْرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ] ِ وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ أَهْلَ الْآفَاقِ يُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَيَّامِ إقَامَةِ الْحَجِّ بِمِنًى فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كَبَّرَ

فصل في صلاة التراويح في المسجد

تَكْبِيرًا يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ وَكَبَّرَ الْحَاضِرُونَ بِتَكْبِيرِهِ كُلُّ وَاحِدٍ يُكَبِّرُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَمْشِي عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ عَلَى مَا وُصِفَ مِنْ أَنَّهُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه فَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ. وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ كَبَّرَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ زَعَقَاتِهِمْ فِي الْمَآذِنِ وَيُطِيلُونَ فِيهِ وَالنَّاسُ يَسْتَمِعُونَ إلَيْهِمْ وَلَا يُكَبِّرُونَ فِي الْغَالِبِ وَإِنْ كَبَّرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَهُوَ يَمْشِي عَلَى أَصْوَاتِهِمْ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ إذْ إنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ. وَفِيهِ إخْرَاقُ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ فِيهِ وَالتَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ بِهِ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَالتَّالِينَ وَالذَّاكِرِينَ. [فَصْلٌ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ] ِ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمَّا أَنْ اجْتَمَعُوا جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ عَرَفْت الَّذِي رَأَيْت مِنْ صَنِيعِكُمْ وَمَا مَنَعَنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ إلَّا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» فَلَمَّا أَنْ مَضَى لِسَبِيلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمِنَ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ الْفَرْضِ عَلَى الْأُمَّةِ. فَلَمَّا أَنْ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْخِلَافَةَ وَتَفَرَّغَ لِلنَّظَرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَكَانَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَقُومُونَ فِي لَيَالِي رَمَضَانِ أَوْزَاعًا مُتَفَرِّقِينَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ جَمَعْتُهُمْ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَحْسَنَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْلَةً أُخْرَى وَهُمْ يُصَلُّونَ عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فَقَالَ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَصْلِ فِعْلِهَا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ بِدْعَةً. وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَمْعُهُمْ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ قِيَامَهُمْ أَوَّلَ اللَّيْلِ دُونَ آخِرِهِ

وَأَمَّا الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ سُنَّةٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ. وَمَا قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِهِمْ لَا عَلَيْهِمْ إذْ إنَّهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَمَعُوا بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ مِنْ قِيَامِ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا حَكَاهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا انْصَرَفُوا مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ اسْتَعْجَلُوا الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ الْفَجْرِ وَكَانُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فَقَدْ حَازُوا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْفَضِيلَتَيْنِ مَعًا قِيَامَ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت مُتَّبِعًا. إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ وَهُمْ سَادَتُنَا وَقُدْوَتُنَا إلَى رَبِّنَا فَيَنْبَغِي لَنَا الِاتِّبَاعُ لَهُمْ وَالِاقْتِفَاءُ لِآثَارِهِمْ الْمُبَارَكَةِ لَعَلَّ بَرَكَةَ ذَلِكَ تَعُودُ عَلَى الْمُتَّبِعِ لَهُمْ، لَكِنْ هَذَا قَدْ تَعَذَّرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ أَعْنِي قِيَامَ اللَّيْلِ كُلِّهِ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا يَخْتَلِطُ بِهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْيَوْمَ أَنْ لَا يُخْلِيَ نَفْسَهُ مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ أَلْبَتَّةَ بَلْ يَفْعَلُهَا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ النَّاسِ عَلَى مَا هُمْ يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ مِنْ التَّخْفِيفِ فِيهَا فَإِذَا فَرَغُوا وَرَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَنِمَ بَرَكَةَ اتِّبَاعِهِمْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِهِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ فَيُصَلِّي فِي بَيْتِهِ بِمَنْ تَيَسَّرَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ وَحْدَهُ فَتَحْصُلُ الْفَضِيلَةُ الْكَامِلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَكُونُ وَتْرُهُ آخِرَ تَنَفُّلِهِ اقْتِدَاءً بِهِمْ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حِينَ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ الْإِمَامُ مِمَّنْ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِسَلَامٍ، أَمَّا أَنَا فَإِذَا أَوْتَرُوا خَرَجْت وَتَرَكْتُهُمْ فَلِلْإِنْسَانِ بِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أُسْوَةُ فِي تَرْكِ الْوِتْرِ مَعَهُمْ حَتَّى يُوتِرَ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ تَنَفُّلِهِ آخِرَ اللَّيْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى النَّوْمِ إذَا آتَى إلَى بَيْتِهِ، وَيَخَافُ أَنْ يَسْتَغْرِقَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا يُغَرُّ وَيَتْرُكْ الْوِتْرَ بَعْدَ نَوْمِهِ وَلْيُوقِعْهُ قَبْلَهُ، فَإِنْ أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ شَيْئًا قَامَهُ وَلَمْ يُعِدْ وِتْرَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْوِتْرُ فِي وَقْتِهِ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ مَعَ النَّاسِ صَلَاةَ الْقِيَامِ وَيُوتِرُ مَعَهُمْ فَإِذَا رَجَعَ إلَى

فصل في صفة الإمام في قيام رمضان

بَيْتِهِ صَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ، وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ شَيْخَهُ سَيِّدِي الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الزَّيَّاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ يَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ يُعَجِّلُ فِطْرَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي بِحِزْبَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ أَكْثَرَ قَبْلَ الْعِشَاءِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي مَعَ النَّاسِ الْقِيَامَ وَيُوتِرُ مَعَهُمْ ثُمَّ إذَا رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ صَلَّى لِنَفْسِهِ بِحِزْبَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ أَكْثَرَ فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمُنُ الْخَتْمَةِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ ثُمَّ يَنَامُ مَا قُدِّرَ لَهُ ثُمَّ يَقُومُ لِتَهَجُّدِهِ فَيُصَلِّي مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ قَرَّرْتُمْ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ سُنَّةٌ فَمَا وَجْهُ تَرْكِ أَبِي بَكْرٍ لَهَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مُشْتَغِلًا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهَمُّ فِي الدِّينِ وَهُوَ قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَبَعْثُ الْجُيُوشِ إلَى الشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَغَيْرِهِ، وَتَرَاكُمِ الْفِتَنِ عِنْدَ انْتِقَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ شُغْلِهِ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ وَتَدْوِينِهِ مَعَ قِصَرِ مُدَّتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِمَا تَفَرَّغَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَبَانَ مَا ذُكِرَ وَاتَّضَحَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصَلِّ فِي صفة الْإِمَام فِي قِيَام رَمَضَان] َ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَالدِّيَانَةِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ لَا لِحُسْنِ دِينِهِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقَوْمِ يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ لِحُسْنِ صَوْتِهِ إنَّمَا يُقَدِّمُوهُ لِيُغَنِّيَ لَهُمْ وَهَذَا إذَا كَانَ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ التَّطْرِيبِ فِي الْقِرَاءَةِ وَوَضْعِهَا عَلَى الطَّرَائِقِ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا الَّتِي تُشْبِهُ الْهُنُوكَ وَأَمَّا لَوْ قَدَّمُوهُ لِدِينِهِ وَحُسْنِ صَوْتِهِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْمَشْرُوعِ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَدَّمَ لِلْإِمَامَةِ إلَّا مَنْ تَطَوَّعَ بِهَا دُونَ مَنْ يَأْخُذُ عَلَيْهَا عِوَضًا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بِهِ فَقِيلَ تُبَاحُ

فصل في الذكر بعد التسليمتين من صلاة التراويح

وَقِيلَ تُكْرَهُ وَهِيَ فِي الْفَرِيضَةِ أَشَدُّ كَرَاهَةً. وَأَجَازَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيِّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ بَاطِلَةٌ. وَكَرِهَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ الْقَوْمِ وَمِنْ جُمْلَةِ فَضِيلَتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ لَا لِعِوَضٍ يَأْخُذُهُ عَلَى صَلَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ عِوَضٌ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَيْهِ وَأَنْ يُصَلِّيَ هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِغَيْرِهِ وَيَتْرُكَ النَّظَرَ لِلْعِوَضِ، فَإِنْ جَاءَهُ شَيْءٌ وَكَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ قَبِلَهُ لِضَرُورَتِهِ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَأَخَذَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ بِجَامِعِ مِصْرَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِيهِ وَكَانَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ الْمَغَارِبَةِ يَجِيءُ الْمَسْجِدَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاتِهِ فَيُصَلِّي فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ نَاسٌ ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى عَلِمَ بِهِ النَّاسُ فَرَجَعَ أَكْثَرُهُمْ وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ خَلْفَ الْإِمَامِ الْأَصْلِيِّ وَصَلُّوا خَلْفَ هَذَا لِاعْتِقَادِهِمْ فِيهِ فَتَشَوَّشَ الْإِمَامُ مِنْ ذَلِكَ لِقِلَّةِ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ وَكَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ الْآخَرِ فَاجْتَمَعَ بِهِ وَسَأَلَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ عَلَى صَلَاتِهِ أُجْرَةً فَقَالَ لَهُ وَاَللَّهِ مَا أَكَلْت مِنْهَا شَيْئًا قَطُّ وَلَكِنِّي أَتَصَدَّقُ بِهَا فَقَالَ لَهُ الْآنَ أُصَلِّي خَلْفَك فَرَجَعَ فَصَلَّى خَلْفَهُ. فَإِذَا أَخَذَ الْعِوَضَ لَا لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ وَاَلَّذِي يَتَبَيَّنُ بِهِ ذَلِكَ وَيَتَّضِحُ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ عَنْهُ الْعِوَضُ، فَإِنْ تَبَرَّمَ وَتَضَجَّرَ أَوْ تَرَكَ الْإِمَامَةَ فَلَا شَكَّ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُلَازَمَةِ وَالسُّكُوتِ وَالرِّضَا فَلَا يَضُرُّهُ مَا أَخَذَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي حَالِ الْعَالِمِ فِي أَخْذِهِ الْجَامِكِيَّةَ عَلَى التَّدْرِيسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ [فَصْلٌ فِي الذِّكْرِ بَعْدَ التَّسْلِيمَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ] ِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الذِّكْرِ بَعْدَ كُلِّ تَسْلِيمَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ

فصل فيما يفعل في ليلة الختم

وَمِنْ رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ بِذَلِكَ وَالْمَشْيِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ وَكَذَلِكَ يَنْهَى عَنْ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ بَعْدَ ذِكْرِهِمْ بَعْدَ التَّسْلِيمَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ: الصَّلَاةَ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ فَإِنَّهُ مُحْدَثٌ أَيْضًا وَالْحَدَثُ فِي الدِّينِ مَمْنُوعٌ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ثُمَّ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ فِعْلُ ذَلِكَ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ [فَصْلٌ فِيمَا يُفْعَلُ فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ] وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْخَتْمِ مِنْ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ كُلِّهَا فِي الْغَالِبِ بِحِزْبَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْخَتْمِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِيهَا عَلَى الْقِيَامِ الْمَعْهُودِ لِفَضِيلَتِهَا فَيُصَلِّي بَعْضُهُمْ فِيهَا بِنِصْفِ حِزْبٍ لَيْسَ إلَّا وَهُوَ مِنْ سُورَةِ وَالضُّحَى إلَى آخِرِ الْخَتْمَةِ وَكَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَقُومُونَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كُلَّهَا فَجَاءَ هَؤُلَاءِ فَفَعَلُوا الضِّدَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ [فَصْلٌ فِي صِفَةِ قِيَامِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ] َ وَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي قِيَامِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ إذْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ طَوَى فِرَاشَهُ وَشَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَأَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ» . وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ تُرِكَتْ فِي الْغَالِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يَقُومُونَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ تَرَكُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْتِمُونَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ لِلْقِيَامِ بَعْدَ خَتْمِهِمْ. وَهَذِهِ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهَا وَهِيَ مُصَادِمَةٌ لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَإِنْ قَامَ بَعْضُهُمْ فَبِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَحْيَا بَعْضُهُمْ هَذَا الْعَشْرَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَهِيَ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ لَوْ سَلِمَتْ مِمَّا طَرَأَ عَلَيْهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ فَمِنْهَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ يَأْخُذُونَ عَلَيْهَا عِوَضًا مَعْلُومًا الثَّانِي: أَنَّ الْمَسْجِدَ يَبْقَى فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ مَفْتُوحَ الْأَبْوَابِ يَدْخُلُ إلَيْهِ مِنْهَا مَنْ يَقُومُ

فصل في الخطبة عقب الختم

وَمَنْ لَا يَقُومُ وَظَلَامُ اللَّيْلِ يَسْتُرُهُمْ فَلَوْ كَانَ مَنْ وَقَفَ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقَفَ عَلَى زَيْتٍ يَعُمُّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ بِضَوْئِهِ وَعَلَى رِجَالٍ يَطُوفُونَ بِالْمَسْجِدِ طُولَ لَيْلِهِمْ فَمَنْ رَأَوْهُ فِيهِ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ أَخْرَجُوهُ لَكَانَ ذَلِكَ حَسَنًا. وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ هَذَا فَمَفَاسِدُهُ كَثِيرَةٌ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ [فَصْلٌ فِي الْخُطْبَةِ عَقِبَ الْخَتْمِ] ِ وَالْخُطَبُ الشَّرْعِيَّةُ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا خُطْبَةٌ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ وَإِذَا لَمْ تُذْكَرْ فَهِيَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مَعْرُوفًا مَشْهُورًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ أَوْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ مَنْسُوبًا إلَى عَالِمٍ أَوْ مَعْرُوفٍ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ أَوْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى الْمَشْيَخَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَفِعْلُ ذَلِكَ فِيهِ أَشَدُّ كَرَاهَةً لِاقْتِدَاءِ كَثِيرٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا فِي حَقِّ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا لَكِنْ يَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ فِي حَقِّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثُوهُ بَعْدَ الْخَتْمِ مِنْ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَالزَّعَقَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يُعْرِضُونَ عَنْ التَّضَرُّعِ وَالْخُفْيَةِ بِالْعِيَاطِ وَالزَّعَقَاتِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ. وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَنْ الدُّعَاءِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ فَقَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ تِلَاوَتِي إيَّاهُ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَسُئِلَ غَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَمْقُتَنِي عَلَى تِلَاوَتِي وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَمْ مِنْ قَارِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ يَقُولُ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَهُوَ ظَالِمٌ انْتَهَى. وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الظُّلْمَ إنَّمَا هُوَ فِي الدِّمَاءِ أَوْ الْأَعْرَاضِ أَوْ الْأَمْوَالِ بَلْ هُوَ عَامٌّ إذْ قَدْ يَكُونُ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ فَيَدْخُلُ إذْ ذَاكَ تَحْتَ الْوَعِيدِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ خُشُوعٍ وَتَضَرُّعٍ وَابْتِهَالٍ وَرُجُوعٍ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالتَّوْبَةِ مِمَّا قَارَفَهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَالسَّهْوِ وَالْغَفَلَاتِ وَتَقْصِيرِ

حَالِ الْبَشَرِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْذُلَ الْعَبْدُ جَهْدَهُ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَمَرْتَبَتِهِ. وَمِنْ دُعَائِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَوْلُهُ «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك» وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي» وَمِنْ ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ لَهُ قُلْ اللَّهُمَّ تَمِّمْ عَلَيَّ النِّعْمَةَ حَتَّى تُهَنِّئَنِي الْمَعِيشَةُ وَحَسِّنْ لِي الْعَاقِبَةَ حَتَّى لَا تَضُرَّنِي ذُنُوبِي وَخَلِّصْنِي مِنْ شَبَائِكِ الدُّنْيَا وَكُلِّ هَوْلٍ فِي الْقِيَامَةِ حَتَّى تُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُوَطَّئِهِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْت بِالنَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إلَيْك غَيْرَ مَفْتُونٍ» . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ مَرَّ بَعْضُ السَّلَفِ بِقَاصٍّ يَدْعُو بِسَجْعٍ فَقَالَ لَهُ أَعْلَى اللَّهِ تُبَالِغُ أَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْت حَبِيبًا الْعَجَمِيَّ يَدْعُو وَمَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا جَيِّدِينَ اللَّهُمَّ لَا تَفْضَحْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِلْخَيْرِ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَرَاءَهُ وَكَانَ يُعْرَفُ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ اُدْعُ اللَّهَ بِلِسَانِ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ لَا بِلِسَانِ الْفَصَاحَةِ وَالِانْطِلَاقِ. وَقِيلَ إنَّ الْعُلَمَاءَ وَالْأَبْدَالَ لَا يَزِيدُ أَحَدُهُمْ فِي الدُّعَاءِ عَلَى سَبْعِ كَلِمَاتٍ فَمَا دُونَهَا. وَيَشْهَدُ لَهُ آخِرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُخْبِرْ فِي مَوْضِعٍ مِنْ أَدْعِيَةِ عِبَادِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى. هَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ فِي الْجَمَاعَاتِ أَوْ مَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ مَوْضِعِ الْعِبَادَاتِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ يُؤْثِرُونَ تَطْوِيلَ دُعَائِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَيَجُوزُ فِي

الْمَسْجِدِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ الْجَهْرُ وَالتَّطْوِيلُ بِالدُّعَاءِ عَادَةً. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنْ يَمْضِيَ فِيمَا فُتِحَ لَهُ فِيهِ فِي أَيِّ وُجْهَةٍ كَانَتْ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ تَضَرُّعٍ أَوْ ابْتِهَالٍ أَوْ خُشُوعٍ حَتَّى إنَّهُمْ قَدْ قَالُوا لَوْ أَخَذَهُ الْخُشُوعُ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ فَلْيَمْضِ فِي ذَلِكَ وَلَوْ خَتَمَ الْخَتْمَةَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ الْخُشُوعَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ يُكَرِّرُهَا مَا دَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى الصَّبَاحِ وَلَا يَقْطَعُهَا إلَّا لِفَرْضٍ تَعَيَّنَ. وَكَذَلِكَ إذَا فُتِحَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ فَالْمُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَقْطَعَهُ أَيْضًا فَمَنْ لَهُ عَقْلٌ فَلْيَرْجِعْ إلَى عَمَلِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَيَتْرُكْ الْحَدَثَ فِي الدِّينِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ قَالَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْفِهْرِيُّ الْمَشْهُورُ بِالطُّرْطُوشِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَأْثَمُ فَاعِلُ ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ السَّلَامَةِ مِنْ اللَّغَطِ وَلَمْ يَكُنْ إلَّا الرِّجَالُ أَوْ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مُنْفَرِدِينَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ يَسْمَعُونَ الدُّعَاءَ فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الَّتِي كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْرِي فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ اخْتِلَاطِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَمُصَادَمَةِ أَجْسَادِهِمْ وَمُزَاحَمَةِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ مِنْ أَهْلِ الرَّيْبِ وَمُعَانَقَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ كَمَا حُكِيَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ رَجُلًا يَطَأُ امْرَأَةً وَهُمْ وُقُوفٌ فِي زِحَامِ النَّاسِ وَحَكَتْ لَنَا امْرَأَةٌ أَنَّ رَجُلًا وَاقَعَهَا فَمَا حَالَ بَيْنَهُمَا إلَّا الثِّيَابُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْفِسْقِ وَاللَّغَطِ فَهَذَا فُسُوقٌ فَيَفْسُقُ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي اجْتِمَاعِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ جَمَعَ أَهْلَهُ. قُلْنَا فَهَذَا هُوَ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ بِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَيَجْمَعُ أَهْلَهُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَلْفِيقِ الْخَطْبِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَتَخْتَلِطُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْغَوْغَاءُ وَتَكْثُرُ الزَّعَقَاتُ وَالصِّيَاحُ وَيَخْتَلِطُ الْأَمْرُ وَيَذْهَبُ بَهَاءُ الْإِسْلَامِ وَوَقَارُ الْإِيمَانِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ دَعَا وَإِنَّمَا جَمَعَ أَهْلَهُ فَحَسْبُ. وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ يَا حَبَّذَا صُفْرَةُ مَاءِ ذِرَاعَيْهَا لِمَاءٍ كَانَ قَدْ تَوَضَّأَتْ بِهِ امْرَأَةٌ فَبَقِيَ فِيهِ مِنْ أَثَرِ الزَّعْفَرَانِ

فصل في القيام عند الختم بسجدات القرآن

فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي مَجْلِسِ الْمَرْأَةِ عَقِبَ قِيَامِهَا وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِأَصْلِ الذَّرَائِعِ يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِهَذَا الْفَرْعِ وَمَنْ أَبَى أَصْلَ الذَّرَائِعِ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَلْزَمُهُ إنْكَارُهُ لِمَا يَجْرِي فِيهِ مِنْ اخْتِلَاطِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ انْتَهَى [فَصْلٌ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ الْخَتْمِ بِسَجَدَاتِ الْقُرْآنِ] ِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْبِدَعِ عِنْدَ الْخَتْمِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ بِسَجَدَاتِ الْقُرْآنِ كُلِّهَا فَيَسْجُدُونَهَا مُتَوَالِيَةً فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ رَكَعَاتٍ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ غَيْرَهُ إذْ إنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ بَعْدَ السَّلَفِ وَبَعْضُهُمْ يُبَدِّلُ مَكَانَ السَّجَدَاتِ قِرَاءَةَ التَّهْلِيلِ عَلَى التَّوَالِي فَكُلُّ آيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ قَرَأَهَا إلَى آخِرِ الْخَتْمَةِ وَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا [فَصْلٌ فِي قِيَامِ السَّنَةِ كُلِّهَا] قَالَ الْبَاجِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ إنَّ هَذَا الْقِيَامَ الَّذِي يَقُومُ النَّاسُ بِهِ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا يُوقِعُونَهُ فِي بُيُوتِهِمْ وَهُوَ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ الْقَارِئِ وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ فِي رَمَضَانَ لِكَيْ يَحْصُلَ لِعَامَّةِ النَّاسِ فَضِيلَةُ الْقِيَامِ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ وَسَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِمْ فِي أَفْضَلِ الشُّهُورِ انْتَهَى وَلِكَوْنِهِ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَلِكَوْنِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُدَارِسُ الْقُرْآنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ فَلِأَجَلْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَا شَابَهَهَا نَاسَبَ مُحَافَظَةَ جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى قِيَامِهِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا مَشْرُوعًا لِمَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْهُ فَمَنْ حَفِظَهُ قَامَ بِهِ فِي بَيْتِهِ جَهْرًا وَلَا يَقُومُ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ أَعْنِي فِي جَمَاعَةٍ كَمَا فِي رَمَضَانَ وَغَيْرُ الْحَافِظِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا تَيَسَّرَ مَعَهَا مِنْ السُّوَرِ فِي بَيْتِهِ أَيْضًا هَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي الْأُمَّةِ خِلَافًا لِمَا فَعَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ الْقِيَامَ الْمَعْهُودَ فِي

فصل فيما يفعلونه بعد الختم مما لا ينبغي

رَمَضَانَ دَائِمًا فِي زَاوِيَتِهِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ثُمَّ نُقِلَتْ عَنْهُ وَاشْتُهِرَتْ فَصَارَتْ تُعْمَلُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَاعَدُوا عَلَى أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ فِي مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلُوا فَهِيَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهَا وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِيمَا تَقَدَّمَ نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ يَعْنِي فِي جَمْعِهِمْ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي رَمَضَانَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَذِكْرُهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فِي غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ [فَصْلٌ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَ الْخَتْمِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي] قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ الصَّلَاةِ يُسْتَحَبُّ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ وَعِنْدَ الْخَتْمِ مِثْلُهُ. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْأَمْرُ فِي رَمَضَانَ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ بِالْقَصَصِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ نَهَى مَالِكٌ أَنْ يَقُصَّ أَحَدٌ بِالدُّعَاءِ فِي رَمَضَانَ وَحَكَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمَعْمُولَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ الْقِرَاءَةُ مِنْ غَيْرِ قَصَصٍ وَلَا دُعَاءٍ. وَمِنْ الْمُسْتَخْرَجَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَخْتِمُهُ ثُمَّ يَدْعُو قَالَ مَا سَمِعْت أَنَّهُ يَدْعُو عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ. وَمِنْ مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ قَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَجْتَمِعَ الْقَوْمُ فِي الْقِرَاءَةِ عِنْدَ مَنْ يُقْرِئُهُمْ أَوْ يَفْتَحُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَقْرَأُ قَالَ وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا يَدْعُو رَافِعًا يَدَيْهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ لَا تُقَلِّصُوا تَقْلِيصَ الْيَهُودِ قَالَ مَالِكٌ التَّقْلِيصُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا قَالَ سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّا يَعْمَلُ النَّاسُ بِهِ مِنْ الدُّعَاءِ حِينَ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَحِينَ يَخْرُجُونَ وَوُقُوفِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّمَا

عَنَى بِهَذَا الْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ فَأَمَّا الدُّعَاءُ عِنْدَ دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ مَاشِيًا فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ آثَارٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَدْعُو خَلْفَ الصَّلَاةِ قَائِمًا قَالَ لَيْسَ بِصَوَابٍ وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَذَكَرَ ابْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِهِ عَقِبَ ذِكْرِهِ جُمَلًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ قَالَ إنَّمَا كَرِهَهُ مَالِكٌ خِيفَةَ أَنْ يُلْحَقَ بِمَا يَجِبُ فِعْلُهُ حَتَّى يُتَّخَذَ أَمْرًا مَاضِيًا وَمَا لَنَا نُقَدِّرُ ذَلِكَ بَلْ قَدْ وَجَدْنَا مَا كُنَّا نَحْذَرُ فَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا شَرَعَ قِيَامَ رَمَضَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْمَعْ فِي رَمَضَانَ إلَّا لَيْلَتَيْنِ انْتَهَى. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَاعْلَمْ أَنَّ الْكَرَاهَةَ الْمَذْكُورَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْجَهْرِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِي جَمَاعَةٍ وَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي السِّرِّ فَهُوَ جَائِزٌ أَوْ مَنْدُوبٌ بِحَسْبِ الْحَالِ وَعَلَى هَذَا دَرَجَ السَّلَفِ وَالْخَلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا خُتِمَ عِنْدَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْهُ خَلْفَ الْمَكْتُوبَةِ شَيْئًا وَكُنَّا لَا نَعْرِفُ دُعَاءَهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَّا حِينَ يَرْمُقُ السَّمَاءَ بِعَيْنَيْهِ وَهَذَا ضِدُّ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَقِبَ الْخَتْمِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقَصَائِدِ وَالْكَلَامِ الْمُسَجَّعِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُشْبِهُ الْغِنَاءَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّطْرِيبِ وَالْهُنُوكِ وَخُلُوِّهِ مِنْ الْخُشُوعِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ لِلْمَوْلَى الْكَرِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] وَلَمْ يَقُلْ أَمَّنْ يُجِيبُ الْقَوَّالَ. وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ أَشْيَاءَ جُمْلَةً يَعْرِفُهَا مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى فِعْلِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ فَإِنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ الْمَاضُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ بَعْدَ الْخَتْمِ وَمَا انْضَافَ إلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي. فَمِنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ الْمُؤَذِّنِينَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْخَتْمِ فَيُكَبِّرُونَ جَمَاعَةً فِي حَالِ كَوْنِهِمْ فِي الصَّلَاةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى الْمُسْمِعِ الْوَاحِدِ فَضْلًا

عَنْ جَمَاعَةٍ بَلْ بَعْضُهُمْ يُسْمِعُونَ وَلَيْسُوا فِي صَلَاةٍ وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَالْمُخَالَفَةِ لِسُنَّةِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ وَيُؤَذِّنُونَ أَيْضًا كَذَلِكَ. ثُمَّ إنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ إذَا خَرَجَ الْقَارِئُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ أَتَوْهُ بِبَغْلَةٍ أَوْ فَرَسٍ لِيَرْكَبَهَا ثُمَّ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِي صِفَةِ ذَهَابِهِ إلَى بَيْتِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا هُمْ يَفْعَلُونَهُ أَمَامَ جَنَائِزِهِمْ وَأَمَامَهُمْ الْمُدِيرُ عَلَى عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ وَالْمُؤَذِّنُونَ يُكَبِّرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَرِهَ مَالِكٌ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ وَتَعْظِيمُهُ مِنْ أَنْ يَقْرَأَهُ وَهُوَ مَاشٍ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ لِمَا قَدْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْأَقْذَارِ وَالنَّجَاسَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ حَقَّ التَّدَبُّرِ. وَالثَّالِثُ لِمَا يُخْشَى أَنْ يَدْخُلَهُ ذَلِكَ فِيمَا يُفْسِدُ نِيَّتَهُ انْتَهَى. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ بِالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَغَانِي وَهُوَ أَشَدُّهَا وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مَمْنُوعَةً. وَبَعْضُهُمْ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ ضَرْبَ الطَّبْلِ وَالْأَبْوَاقِ وَالدُّفِّ وَبَعْضُهُمْ الطَّارُّ وَالشَّبَّابَةُ فِي بَيْتِهِ. وَبَعْضُهُمْ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ وَيَحْضُرُ إذْ ذَاكَ مِنْ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَا هُوَ ضِدُّ الْمَطْلُوبِ فِيهَا مِنْ الِاعْتِكَافِ عَلَى الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ وَتَرْكِ الْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَاكَلَهُ. ثُمَّ إنَّهُمْ يَعْمَلُونَ أَنْوَاعًا مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْحَلَاوَاتِ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَضَرَّ الْبِدَعَ وَمَا أَكْثَرَ شُؤْمَهَا. حَتَّى لَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمَشَايِخِ عَمِلَ لِوَلَدِهِ خَتْمًا بِبَعْضِ مَا ذُكِرَ فَلَمَّا جَاءَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ سَأَلْته عَنْ وَلَدِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ صَلَّى الْقِيَامَ فَقَالَ لِي أَنَا مَنَعْته مِنْ الْقِيَامِ فَقُلْت لَهُ وَلِمَ قَالَ؛ لِأَنَّ الْأَصْحَابَ وَالْإِخْوَانَ وَالْمَعَارِفَ يُطَالِبُونَنِي بِالْخَتْمِ فَأَحْتَاجُ إلَى كُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ. فَانْظُرْ إلَى شُؤْمِ الْبِدَعِ كَيْفَ جَرَّتْ إلَى تَرْكِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى حِفْظِ الْخَتْمَةِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ يُصَلِّي بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ سَنَةٍ بَقِيَتْ الْخَتْمَةُ مَحْفُوظَةً عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْسَهَا فِي الْغَالِبِ. أَلَا تَرَى إلَى

فصل في وقود القناديل ليلة الختم

قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ» وَالْغَالِبُ فِي الصِّبْيَانِ أَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ فِي اللَّيْلِ فَإِذَا لَمْ يُصَلُّوا بِهِ فِي اللَّيْلِ وَلَمْ يَقُومُوا بِهِ فِي رَمَضَانَ وَالْغَالِبُ مِنْ حَالِهِمْ الِاشْتِغَالُ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالْأَسْبَابِ الَّتِي تُعَوِّقُهُمْ عَنْ مُعَاهَدَةِ الْخَتْمَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنِسْيَانِهَا لِأَكْثَرِهِمْ [فَصْلٌ فِي وُقُودِ الْقَنَادِيلِ لَيْلَةَ الْخَتْمِ] ِ وَيَنْبَغِي فِي لَيَالِي رَمَضَانَ كُلِّهَا أَنْ يُزَادَ فِيهَا الْوُقُودُ قَلِيلًا زَائِدًا عَلَى الْعَادَةِ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَكَثْرَتِهِمْ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيَرَوْنَ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَقْصِدُونَهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ يَسَعُهُمْ أَمْ لَا وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي يَضَعُونَ فِيهَا أَقْدَامَهُمْ وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي يَمْشُونَ فِيهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهِمْ. وَلَا يُزَادُ فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فُعِلَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى بِخِلَافِ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ زِيَادَةِ وُقُودِ الْقَنَادِيلِ الْكَثِيرَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ لِمَا فِيهَا مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَالسَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ وُقُودِ الشَّمْعِ وَمَا يُرْكَزُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ فَاسْتِعْمَالُهُ مُحَرَّمٌ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِمَا فَهُوَ إضَاعَةُ مَالٍ وَسَرَفٌ وَخُيَلَاءُ. وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُونَ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَهُوَ أَنَّهُمْ يُعَلِّقُونَ خَتْمَةً عِنْدَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْتِمُونَ فِيهِ وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِيهَا فَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُهَا مِنْ الشُّقَقِ الْحَرِيرِ الْمُلَوَّنَةِ. وَبَعْضُهُمْ مِنْ غَيْرِهَا لَكِنَّهَا تَكُونُ مُلَوَّنَةً أَيْضًا وَيُعَلِّقُونَ فِيهَا الْقَنَادِيلَ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَسَرَفٌ وَخُيَلَاءُ وَإِضَاعَةُ مَالٍ وَاسْتِعْمَالٌ لِمَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْقَنَادِيلِ مُلَوَّنًا. وَبَعْضُهُمْ يَضُمُّ إلَى ذَلِكَ الْقَنَادِيلَ الْمُذَهَّبَةَ أَوْ الْمُلَوَّنَةَ أَوْ هُمَا مَعًا وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ

وَالْبِدْعَةِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَمَحَبَّةِ الظُّهُورِ وَالْقِيلِ وَالْقَالِ. فَكَيْفَمَا زَادَتْ فَضِيلَةُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ قَابَلُوهَا بِضِدِّهَا. أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ. وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُونَ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَهُوَ أَنَّهُمْ يَسْتَعِيرُونَ الْقَنَادِيلَ مِنْ مَسْجِدٍ آخَرَ وَهُوَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ قَنَادِيلَ هَذَا الْمَسْجِدِ وَقْفٌ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا مِنْهُ وَلَا اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَحٌ فِي طُولِ السَّنَةِ اسْتَعَارَ الْقَنَادِيلَ مِنْ مَسْجِدٍ وَاسْتَعْمَلَهَا فِي بَيْتِهِ لِلسَّمَاعِ وَالرَّقْصِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَفْضَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْوُقُودِ إلَى اجْتِمَاعِ أَهْلِ الرِّيَبِ وَالشَّكِّ وَالْفُسُوقِ وَمَنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ حَتَّى جَرَّ ذَلِكَ إلَى اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مَعَ اخْتِلَاطِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَانْضَافَ إلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْوُقُودِ اجْتِمَاعُ اللُّصُوصِ وَتَشْوِيشُهُمْ عَلَى بَعْضِ الْحَاضِرِينَ وَانْضَافَ إلَيْهِ أَيْضًا كَثْرَةُ اللَّغَطِ فِي الْمَسْجِدِ وَرَفْعُ الْأَصْوَاتِ فِيهِ وَالْقِيلُ وَالْقَالُ إذْ إنَّهُ يَكُونُ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَحَدَّثُونَ وَيَخُوضُونَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْ بَعْضِهَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَكَيْفَ بِهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْعَظِيمِ فَكَيْفَ بِهَا فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ مِنْهُ فَلْيُتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَمَا شَاكَلَهُ جَهْدَهُ. وَهَذَا إذَا كَانَ الزَّيْتُ مِنْ مَالِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ فِي مَنْعِهِ. وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْطُهُ. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ» وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَهَذِهِ عَادَةٌ قَدْ اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْفِ سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ سِيَّمَا فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِيهِ أَفْعَالًا لَا تَلِيقُ بِسَبَبِ سُكُوتِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى انْقِلَابِ الْحَقَائِقِ. إذْ إنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ سَرَفٌ وَبِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ لَرُجِيَتْ لَهُمْ التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ وَلَكِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَإِذَا

تَقَرَّرَ هَذَا عِنْدَهُمْ فَلَا يَتُوبُ أَحَدٌ مِنْ إظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَفِعْلِهَا فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْمَخُوفِ فَلْيُغَيِّرْ ذَلِكَ مَهْمَا اسْتَطَاعَ جَهْدَهُ، فَإِنْ عَدِمَ الِاسْتِطَاعَةَ فَلَا يُصَلِّي فِيهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ؛ لِأَنَّ بِصَلَاتِهِ فِيهِ يَكْثُرُ سَوَادُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَيَكُونُ حُجَّةً إنْ كَانَ قُدْوَةً لِلْقَوْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ قَدْ كَانَ سَيِّدِي فُلَانٌ يَحْضُرُهُ وَلَا يُغَيِّرُهُ فَلَوْ كَانَ بِدْعَةً لَمَا حَضَرَهُ وَلَا رَضِيَ بِهِ. وَهَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُعْضِلَةٌ إذْ إنَّ إثْمَ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ أَوْ اسْتَحْسَنَهُ أَوْ رَضِيَ بِهِ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مَا أَوْ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِهِ بِشُرُوطِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ أُحْدِثَ فِي الدِّينِ فَلْيَجْتَنِبْ هَذَا جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ إنَّهُ مُضْطَرٌّ لِلصَّلَاةِ فِيهِ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ إذْ إنَّ الْفَضِيلَةَ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ إنْ كَانَ سَالِمًا مِمَّا ذُكِرَ وَيَتَأَكَّدُ التَّرْكُ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ قُدْوَةٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا حَضَرْت أَمْرًا لَيْسَ بِطَاعَةٍ لِلَّهِ وَلَا تَقْدِرُ أَنْ تَنْهَى عَنْهُ فَتَنَحَّ عَنْهُمْ وَاتْرُكْهُمْ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مَخَافَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ إذَا شَهِدَهُ أَوْ عَلِمَهُ» نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي كِتَابِهِ. فَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَسْجِدًا سَالِمًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلْيُصَلِّ فِي بَيْتِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ وَأَقْرَبُ إلَى رِضَاءِ رَبِّهِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ إذْ إنَّ أَقْرَبَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْيَوْمَ بُغْضُ الْبِدَعِ وَمَحَبَّةُ السُّنَنِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا وَمَحَبَّةُ أَهْلِهَا وَمُوَالَاتُهَا إذْ إنَّ الْفَنَّ قَدْ انْدَرَسَ إلَّا عِنْدَ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ إحْضَارِهِمْ الْكِيزَانَ وَغَيْرَهَا مِنْ أَوَانِي الْمَاءِ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ الْخَتْمِ فَإِذَا خَتَمَ الْقَارِئُ شَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ وَيَرْجِعُونَ بِهِ إلَى بُيُوتِهِمْ فَيُسْقُونَهُ لِأَهْلَيْهِمْ وَمَنْ شَاءُوا عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَهَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ لَا يَخْتَصُّ بِلَيْلَةِ الْخَتْمِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَعَلُوا ذَلِكَ فِيهَا

فصل في ذكر آداب المؤدب

مِثْلُ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي لَيَالِي الْأَعْيَادِ وَالتَّهَالِيلِ وَالْمَآتِمِ وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَأَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَآخِرِ أَرْبِعَاءَ مِنْ السَّنَةِ الَّتِي اتَّخَذُوهَا لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ فَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ فَاتَتْهُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْهُمْ مِنْ صِفَةِ خُرُوجِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ تَوَقَّعَ شَيْئًا مِمَّا يُخَالِفُ السُّنَّةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَصَلَاتُهُ فَذًّا فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ إذْ ذَاكَ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَغْيِيرِ مَا هُنَالِكَ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ فِي تَوَاعُدِهِمْ لِلْخَتْمِ فَيَقُولُونَ فُلَانٌ يَخْتِمُ فِي لَيْلَةِ كَذَا وَفُلَانٌ يَخْتِمُ فِي لَيْلَةِ كَذَا وَيَعْرِضُ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِالنَّوْبَةِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ وَلَائِمُ تُعْمَلُ وَشَعَائِرُ تُظْهَرُ فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ غَالِبًا مِنْ انْتِصَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهُ إذْ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى أَعْنِي فِي مُوَاعَدَتِهِمْ فِي الْخَتْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَأَمَّا إنْ كَانَ إنْسَانٌ يُرِيدُ أَنْ يَخْتِمَ لِنَفْسِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ السَّنَةِ فَيَجْمَعُ أَهْلَهُ لِتَعُمَّهُمْ الرَّحْمَةُ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِفِعْلِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى. وَالثَّانِي: خِيفَةً مِمَّا قَدْ وَقَعَ وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِمْ فِي طُولِ السَّنَةِ لَكَانَ ذَلِكَ بِدْعَةً أَيْضًا إذْ إنَّ السُّنَّةَ الْمَاضِيَةَ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ إخْفَاؤُهُ مَهْمَا أَمْكَنَ فَهَذَا ذِكْرُ بَعْضِ مَا أَحْدَثُوهُ فَقِسْ عَلَيْهِ كُلَّ مَا رَابَك مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ تُصِبْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُؤَدِّبِ] اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْآدَابِ فِي حَقِّ مَنْ تَقَدَّمَ

إنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ فَرْعٌ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إذْ إنَّ أَصْلَ كُلِّ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ إنَّمَا هُوَ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إذْ هُوَ مَعْدِنُ الْجَمِيعِ وَهُوَ يَنْبُوعُ كُلِّ عِلْمٍ نَافِعٍ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَامِلُهُ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي التَّعْظِيمِ لِشَعَائِرِهِ وَالْمَشْيِ عَلَى سُنَنِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فِي تَعْظِيمِهِ ذَلِكَ وَإِكْرَامِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُضْطَرٌّ مُحْتَاجٌ إلَى تَحْسِينِ النِّيَّةِ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ شَيْئًا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ» انْتَهَى وَمَعْلُومٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ أَصْلَ الْخَيْرِ إنَّمَا هُوَ الْقُرْآنُ فَهُوَ أَعْلَى أَعْمَالِ الْآخِرَةِ فَيَحْفَظُ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ لِسَبَبِ الِاسْتِجْلَابِ لِلرِّزْقِ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا فَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ إذْ إنَّ اسْتِجْلَابَ الرِّزْقِ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنْ هُوَ جَلَسَ لَهُ فَهُوَ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ إذْ إنَّ الرِّزْقَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ بِذَلِكَ وَقَدْ حَرَمَ نَفْسَهُ خَيْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا جَزِيلًا. وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ التَّرْكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالِانْتِقَالِ عَمَّا هُوَ فِيهِ بَلْ يَسْتَصْحِبُ الْحَالَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَكِنْ بِبَذْلِ النِّيَّةِ يَسْتَقِيمُ الْحَالُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَنْوِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ الِامْتِثَالَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرْشَادَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ هُنَا خَيْرُ الْآخِرَةِ أَيْ أَنَّ عُمَّالَ الْآخِرَةِ كُلَّهُمْ هَذَا هُوَ مَقْدِمُهُمْ إذْ إنَّ مِنْهُ انْفَتَحَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الطَّرِيقُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْخَطِّ وَالِاسْتِخْرَاجِ وَالْحِفْظِ وَالضَّبْطِ وَالْفَهْمِ لِلْمَسَائِلِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِفْتَاحُهُ الْمُؤَدِّبُ فَهُوَ أَوَّلُ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ التَّوْفِيقِ دَخَلَهُ الْمُكَلَّفُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَتْ مَزِيَّتُهُ وَكَيْفَ لَا وَهُوَ حَامِلٌ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ شِئْت أَنْ أُوَقِّرَ سَبْعِينَ بَعِيرًا مِنْ تَفْسِيرِ أُمِّ الْقُرْآنِ لَفَعَلْت

وَهَذَا مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَلَفُّظُهُ بِالسَّبْعِينَ كِنَايَةً مِنْهُ عَمَّا لَا نِهَايَةَ لَهُ إذْ إنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُطْلِقُ السَّبْعِينَ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاَللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ مَا لَمْ أُنْهَ، فَنَزَلَتْ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6] . وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ يَجِلُّ عَنْ أَنْ يَأْخُذَهُ حَصْرٌ أَوْ حَدٌّ. وَانْظُرْ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] فَإِنَّك إذَا نَظَرْت إلَى هَذَا وَجَدْته مُشَاهَدًا مَرْئِيًّا بِالْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ إذْ إنَّ الْبِحَارَ كُلَّهَا عَلَى عِظَمِهَا وَكَثْرَتِهَا وَمَدَدِهَا الدَّائِمِ مُفْتَقِرَةٌ إلَى مَنْ يَمُدُّهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ نُقْطَةٍ مِنْهَا مُحْتَاجَةٌ لِكَتْبِ مَا يَجْرِي عَلَيْهَا مِنْ الْأَحْكَامِ مِنْ حِينِ بُرُوزِهَا مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ وَمِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ بَرَزَتْ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَصْلُهَا وَعَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ تُسْلَكُ وَمَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَعْرَاضِ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَسْتَقِرُّ فَهِيَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا لِمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فَبَقِيَتْ الْعَوَالِمُ كُلُّهَا دُونَ شَيْءٍ تَكْتُبُ بِهِ وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهَذَا تَنْبِيهٌ لِمَنْ لَهُ يَقَظَةٌ فَيَنْظُرُ وَيَعْتَبِرُ. وَقَدْ يَجْتَمِعُ لِلْمُؤَدِّبِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْغَالِبُ لِمَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ إخْبَارًا عَنْ «رَبِّ الْعِزَّةِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ يَا دُنْيَا اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك» فَإِذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ بِجُلُوسِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لَأَنْ يُعَلِّمَ آيَةً لِجَاهِلٍ بِهَا وَلِكَيْ يَصِحَّ صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ بِتَعْلِيمِهِ أُمَّ الْقُرْآنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَفْعِهِ الْعَامِّ لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَهُوَ قَدْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ آخِرَتِهِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ دُنْيَاهُ فَإِنَّهُ حَظُّهُ مِنْ آخِرَتِهِ وَلَمْ يَنَلْ مِنْ دُنْيَاهُ إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ آخِرَتِهِ نَالَ حَظَّهُ مِنْ آخِرَتِهِ وَلَمْ يَفُتْهُ مِنْ دُنْيَاهُ مَا قُسِمَ لَهُ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.

وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الدُّنْيَا تَجِيءُ رَاغِمَةً لِطُلَّابِ الْآخِرَةِ فَكَمْ مِنْ زَاهِدٍ فِيهَا وَمُتَوَرِّعٍ وَفَقِيرٍ وَمُتَوَجِّهٍ صَادِقٍ فِي تَنَزُّهِهِ وَتَوَجُّهِهِ وَعَالِمٍ صَادِقٍ فِي عِلْمِهِ وَطَالِبِ عِلْمٍ صَادِقٍ فِي تَعَلُّمِهِ وَعَارِفٍ وَمُبْتَدٍ وَمُنْتَهٍ أَتَتْهُمْ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ مَعَ فَرَاغِهِمْ لِمَا هُمْ بِصَدَدِهِ كُلُّ ذَلِكَ أَصْلُهُ مَا جَلَسَ هَذَا إلَيْهِ فَالْكُلُّ فَرْعٌ عَنْهُ وَرَاجِعٌ إلَيْهِ. فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَظِّمَ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ هَذَا الْمَجْلِسِ الشَّرِيفِ وَأَنْ لَا يَشِينَهُ بِشَيْنِ الْمُخَالَفَةِ وَالِاعْتِقَادِ الرَّدِيءِ وَالدَّسَائِسِ وَالنَّزَغَاتِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ. وَدَوَاءُ ذَلِكَ إنْ وَقَعَ صِدْقُ الِافْتِقَارِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّةُ الثِّقَةِ بِمَضْمُونِهِ وَالنُّزُولُ بِسَاحَتِهِ وَالِاتِّصَافُ بِصِفَاتِ الْمُحْتَاجِينَ الْمُضْطَرِّينَ الَّذِينَ لَا أَرَبَ لَهُمْ وَلَا اخْتِيَارَ إلَّا مَوْلَاهُمْ فَهُوَ مَقْصُودُهُمْ وَمَطْلُوبُهُمْ الَّذِي عَلَيْهِ يُعَوِّلُونَ وَإِلَيْهِ يَلْجَئُونَ وَعَلَيْهِ يَتَوَكَّلُونَ إذْ إنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَرُدُّ قَاصِدَهُ وَلَا يُخَيِّبُ مَنْ سَأَلَهُ وَهُوَ أَكْرَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ لَا يُعْطِيَ حَتَّى يُسْأَلَ فَكَيْفَ بِمَنْ نَزَلَ بِسَاحَتِهِ وَتَضَرَّعَ إلَيْهِ وَأَلْقَى كَتِفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِذَا فَعَلَ مَا ذُكِرَ عَادَتْ بَرَكَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ سِرًّا وَعَلَنًا إمَّا حِسًّا وَإِمَّا مَعْنًى أَوْ كِلَاهُمَا. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ حَدِيثًا قَالَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «خَيْرُ النَّاسِ وَخَيْرُ مَنْ يَمْشِي عَلَى جَدِيدِ الْأَرْضِ الْمُعَلِّمُونَ كُلَّمَا خَلِقَ الدِّينُ جَدَّدُوهُ أَعْطُوهُمْ وَلَا تَسْتَأْجِرُوهُمْ فَتُحْرِجُوهُمْ فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا قَالَ لِلصَّبِيِّ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ الصَّبِيُّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى بَرَاءَةً لِلْمُعَلِّمِ وَبَرَاءَةً لِلصَّبِيِّ وَبَرَاءَةً لِأَبَوَيْهِ مِنْ النَّارِ» انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْوِي فِي جُلُوسِهِ لِلتَّعْلِيمِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَقِّ الْعَالِمِ وَآدَابِهِ وَهَدْيِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ كَمَا تَقَدَّمَ وَغَيْرُهُ فَرْعٌ عَنْهُ. وَإِنَّمَا وَقَعَ تَأْخِيرُ ذِكْرِهِ إلَى هُنَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ كَمَا تَقَدَّمَ لِمَا مَضَى أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّ الْعَالِمَ نَفْعُهُ عَامٌّ لِأَجْلِ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ مَنَارِ الْإِسْلَامِ وَفَتَاوِيه الَّتِي يُعْبَدُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَلَا يُعْصَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي

الْعَالِمِ أَنَّ نِيَّتَهُ تَكُونُ لِإِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَلَا يَنْظُرُ إلَى الْمَعْلُومِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ، فَإِنْ جَاءَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ فُتُوحٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ وَكَذَلِكَ مَا هُنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ. فَيَرْكَبُ الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً وَيَكُونُ الصِّبْيَانُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُشَرِّفُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَابْنُ الْفَقِيرِ وَابْنُ صَاحِبِ الدُّنْيَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْطَاهُ وَمَنْ مَنَعَهُ إذْ بِهَذَا يَتَبَيَّنُ صِدْقُ حَالِهِ فِيمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَنْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِمَّنْ لَمْ يُعْطِهِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِهِ فِي نِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمَعْلُومُ فَتَسَخَّطَ وَتَضَجَّرَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ نِيَّتِهِ فَكَذَلِكَ مَا هُنَا بَلْ يَكُونُ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ أَرْجَى عِنْدَهُ مِمَّنْ يُعْطِيه؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ تَمَحَّصَ تَعْلِيمُهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ مَنْ أَعْطَاهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَشُوبًا بِدَسِيسَةٍ لَا تُعْلَمُ السَّلَامَةُ فِيهِ مَعَهَا وَالسَّلَامَةُ أَوْلَى مَا يَغْتَنِمُ الْمَرْءُ فَيَغْتَنِمُهَا الْعَاقِلُ. فَإِذَا جَلَسَ لِمَا ذُكِرَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبُوحَ بِنِيَّتِهِ لِأَحَدٍ وَلَا يَذْكُرُهَا لَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُطْلِعُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا يُجْهَرُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ جُهِرَ بِهَا فَقَوْلَانِ هَلْ تُكْرَهُ أَمْ لَا وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - مَعَ كَثْرَةِ مَعْرِفَتِهِمْ لَا يُبَالُونَ أَيْنَ يَضَعُونَهُ فَكَيْفَ بِقَارِئِ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ بِمَنْ انْقَطَعَ لِتَعْلِيمِهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ عَلَى عَكْسِ حَالِ مَنْ تَقَدَّمَ. فَإِذَا تَقَرَّرَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي الْغَالِبِ أَنَّ الْمُعَلِّمَ يُعَلِّمُ كِتَابَ اللَّهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَلَّ مَنْ يُعْطِيه شَيْئًا فَيَجِيءُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُهُ إذَا وَجَدَ الْفَقِيرُ فِي هَذَا الزَّمَانِ قُوتَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَاجُ لِأَحَدٍ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَرَامَاتِ وَكَانَ يُعَلِّلُ ذَلِكَ وَيَقُولُ إنَّ النَّاسَ قَدْ انْقَسَمُوا فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ فِي الْغَالِبِ فَمِنْهُمْ مُعْتَقِدٌ وَمِنْهُمْ مُسِيءُ الظَّنِّ فَالْمُسِيءُ الظَّنِّ إنْ لَمْ يَضُرَّك لَا يَنْفَعُك وَالْمُحْسِنُ الظَّنِّ قَدْ

فصل في ذكر أسباب أولياء الصبيان

خَرَجَ بِحُسْنِ ظَنِّهِ عَنْ الْحَدِّ فَيُعَدُّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ فَمَا يَصِلُك مِنْهُ نَفْعٌ أَصْلًا فَإِذَا وَجَدَ الْفَقِيرُ الْقُوتَ فِي زَمَانِ مَنْ هَذَا حَالُهُمْ كَانَ ذَلِكَ كَرَامَةً فِي حَقِّهِ إذْ إنَّ الْكَرَامَةَ إنَّمَا هِيَ خَرْقُ الْعَادَةِ وَمَا جَرَى لِهَذَا فَهُوَ خَرْقُ عَادَةٍ وَالْمُؤَدِّبُ مِثْلُهُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَإِذَا شَعَرُوا مِنْهُ أَنَّهُ يُعَلِّمُ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا لِعَدَمِ مُطَالَبَتِهِ إيَّاهُمْ هَذَا حَالُهُمْ فِي أُمُورِ آخِرَتِهِمْ بِخِلَافِ أَسْبَابِ دُنْيَاهُمْ عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَمَّا أَنْ دَخَلَ وَلَدُهُ الْمَكْتَبَ وَقَرَأَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ جَاءَ إلَى وَالِدِهِ بِلَوْحِ الْإِصْرَافَةِ فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِينَارٍ يُعْطِيهَا لِلْفَقِيهِ فَلَمَّا أَنْ حَصَلَتْ عِنْدَ الْفَقِيهِ اجْتَمَعَ بِالشَّيْخِ وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدِي وَأَيُّ شَيْءٍ عَمِلْته حَتَّى تُقَابِلَنِي بِهَذَا الْعَطَاءِ فَقَالَ لَهُ وَاَللَّهِ لَا قَرَأَ عَلَيْك ابْنِي شَيْئًا بَعْدَ الْيَوْمِ فَقَالَ لَهُ وَلِمَ ذَلِكَ فَقَالَ؛ لِأَنَّك اسْتَعْظَمْت مَا حَقَّرَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الدُّنْيَا وَاسْتَصْغَرْت مَا عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ الْيَوْمَ هَذَا الْحَالُ وَهُوَ اسْتِعْظَامُ الدُّنْيَا فِي قُلُوبِهِمْ وَاسْتِصْغَارُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَلَا يُظْهِرُ الْمُؤَدِّبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُ جَلَسَ يُقْرِئُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ يُظْهِرُ أَنَّهُ جَلَسَ لِلْمَعْلُومِ وَنِيَّتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَسْبَابِ أَوْلِيَاءِ الصِّبْيَانِ] ِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِ مَنْ يَتَسَبَّبُ بِسَبَبٍ حَرَامٍ عَلَى أَنْوَاعِهِ مِنْ مَكْسٍ أَوْ ظُلْمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلَا يَأْخُذُ مِمَّا أَتَى بِهِ الصَّبِيُّ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ شَيْئًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَأْتِيه مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَاتِ الْمُحَذَّرِ مِنْهَا مِنْ جَانِبِ الشَّرْعِ فَلَا بَأْسَ بِهِ مِثْلُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِشَيْءٍ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ وَجْهٍ مَسْتُورٍ بِالْعِلْمِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي إقْرَائِهِ لِلْوَلَدِ الَّذِي يَكُونُ مُتَّصِفًا وَلِيُّهُ بِمَا ذُكِرَ أَنْ لَا يُوَالِيَ

فصل في صفة توفيته بما نواه

وَالِدَ الصَّبِيِّ بِإِقْبَالٍ عَلَيْهِ وَلَا بِسَلَامٍ وَلَا بِكَلَامٍ وَلَا جَوَابٍ إذْ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ بِشُرُوطِهِ فَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَرْجِعْ لَمْ يَبْقَ فِي حَقِّهِ مِنْ التَّغْيِيرِ إلَّا الْهِجْرَانُ لَهُ وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ هِجْرَانِهِ وَذَلِكَ حَرَامٌ. وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ مَنْ لَهُ تَحَرُّزٌ عِنْدَهُ وَلَدٌ لَهُ وَالِدٌ وَكِيلٌ عَلَى بَعْضِ الْجِهَاتِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا إذَا جَاءَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ سَلَامًا وَإِذَا كَلَّمَهُ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ جَوَابًا وَكَانَ لَا يَأْخُذُ مِنْ الصَّبِيِّ شَيْئًا إلَّا مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ هُوَ سَالِمٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ جِهَةُ الْحَلَالِ فَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا وَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ إذْ إنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ مِنْ أَرْبَابِهِ بِالظُّلْمِ وَالْمُصَادَرَةِ وَالْقَهْرِ وَهُوَ يَأْخُذُهُ عَلَى ظَاهِرِ أَنَّهُ حَلَالٌ فِي زَعْمِهِ وَهَذَا أَعْظَمُ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ حَرَامًا وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي نِيَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْأَوْلَى وَالْأَرْجَحِ. وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْرِئَ النَّاسَ الْقُرْآنَ بِعِوَضٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّهُ أَحَلُّ شَيْءٍ يَكُونُ. وَمِنْ كِتَابِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ إجَارَةِ الْمُعَلِّمِينَ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ فَيُعْطَى قِيلَ لَهُ إنَّهُ يُعَلِّمُ مُشَاهَرَةً وَيَطْلُبُ ذَلِكَ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ مَا زَالَ الْمُعَلِّمُونَ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ انْتَهَى. لَكِنْ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوْلَى لِمَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَمِنْ أَكْبَرِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا خُلُوُّ الْقَلْبِ عَنْهَا وَتَرْكُ النَّظَرِ إلَيْهَا وَتَرْكُ السَّبَبِ» هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَالُ حَامِلِ الْقُرْآنِ إذْ إنَّهُ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُهُ أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ كَانَتْ نَفْسُهُ تَتَشَوَّفُ إلَى الْمَعْلُومِ فَالِاقْتِدَاءُ بِالْكِرَامِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ نِعْمَةٌ شَامِلَةٌ وَالْمَرْجُوُّ مِنْ الَّذِي أُنْعِمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَنْ يُتَمِّمَ نِعْمَتَهُ بِالِاتِّبَاعِ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ نَزَلَ سَاحَةَ الْكِرَامِ فَهُوَ مَحْمُولٌ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْكَرِيمَ أَنْ يَحْمِلَنَا بِفَضْلِهِ وَيَحْمِلَ عَنَّا بِمَنِّهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ [فَصْلٌ فِي صِفَةِ تَوْفِيَتِهِ بِمَا نَوَاهُ]

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا نَوَى مَا ذُكِرَ فَلْيَجْتَهِدْ فِي التَّعْلِيمِ أَكْثَرَ مِنْ تَعْلِيمِ مَنْ يَأْخُذُ الْعِوَضَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُقْرِئُ بِغَيْرِ عِوَضٍ تَمَحَّصَ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَرْجَى فِي صِحَّةِ إخْلَاصِهِ وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُ ضِدَّ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِأَخْذِ عِوَضٍ بِفِعْلِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِرَاحَةِ وَالْتَوَانِي إنْ تَفَرَّغَ لِذَلِكَ فَعَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ مُحْتَجًّا بِأَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِئَتْ لِعَدَمِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ وَمَا يَشْعُرُ أَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي أَمْرٍ خَطِرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ حِرْصُهُ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي نَوَاهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُوفِيَ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ الْعِوَضَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَآخَرَ يُصَلِّي بِعِوَضٍ فَيَكُونُ الَّذِي يُصَلِّي بِلَا عِوَضٍ أَحْرَصَ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ وَالْمُبَادَرَةِ مِنْ الَّذِي يُصَلِّي بِالْعِوَضِ بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى حِرْصًا مِنْهُ عَلَى التَّوْفِيَةِ بِمَا الْتَزَمَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَوْ قَالَ نَوَيْت بِتَعْلِيمِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إنْ قَدَرْت عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَهُ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُسْلِمُ فَلْيُحَافِظْ عَلَى ذَلِكَ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي التَّجَاوُزِ عَنْ التَّقْصِيرِ بِمَنِّهِ وَقَدْ يُضْطَرُّ بَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ إلَى أَخْذِ الْعِوَضِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَهُوَ أَحَلُّ مَا يَأْكُلُهُ الْمَرْءُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَإِذَا أَخَذَ الْعِوَضَ فَلْيَحْتَرِزْ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ جِهَةِ الصَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ

فصل فيما يأمر به المؤدب الصبي من الآداب

يَأْذَنَ وَلِيُّهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَأَكْلُهُ لِذَلِكَ سُحْتٌ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ [فَصْلٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ الْمُؤَدِّبُ الصَّبِيَّ مِنْ الْآدَابِ] ِ وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدًا مِنْ الصِّبْيَانِ يَأْتِي إلَى الْكُتَّابِ بِغِذَائِهِ وَلَا بِفِضَّةٍ مَعَهُ وَلَا فُلُوسٍ لِيَشْتَرِيَ شَيْئًا فِي الْمَكْتَبِ؛ لِأَنَّ مِنْ هَذَا الْبَابِ تَتْلَفُ أَحْوَالُهُمْ وَيَنْكَسِرُ خَاطِرُ الصَّغِيرِ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ وَالضَّعِيفِ لِمَا يَرَى مِنْ جِدَةِ غَيْرِهِ فَيَدْخُلُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ ضَارَّ بِمُسْلِمٍ أَضَرَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» انْتَهَى؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْفَقِيرِ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ مُنْكَسِرًا خَاطِرُهُ مُتَشَوِّشًا فِي نَفْسِهِ غَيْرَ رَاضٍ بِنَفَقَةِ وَالِدَيْهِ عَلَيْهِ لِمَا يَرَى مِنْ نَفَقَةِ مَنْ لَهُ اتِّسَاعٌ فِي الدُّنْيَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ جُمْلَةٌ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ وَفِيمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ كِفَايَةٌ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدَعَ أَحَدًا مِنْ الْبَيَّاعِينَ يَقِفُ عَلَى الْمَكْتَبِ لِيَبِيعَ لِلصِّبْيَانِ إذْ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ إنْ اُشْتُرِيَ مِنْهُ. وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ لَا يُكْثِرَ الْكَلَامَ مَعَ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ إخْوَانِهِ إذْ مَا هُوَ فِيهِ آكِدٌ عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِيثِ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِأَكْبَرِ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضٌ أَوْ أَمْرٌ هُوَ أَهَمُّ فِي الْوَقْتِ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَنَعَمْ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ تَجِدُهُمْ بِضِدِّ هَذَا الْحَالِ يَتَحَدَّثُونَ كَثِيرًا مَعَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَالصِّبْيَانُ يُبْطِلُونَ مَا هُمْ فِيهِ وَيَلْهُونَ عَنْهُ وَيَلْعَبُونَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا أَنْ يَقَعَ مِنْهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْكُتَّابِ بِالسُّوقِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى شَوَارِعِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي الدَّكَاكِينِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ بِمَسْلُوكٍ لِلنَّاسِ فَإِنَّ الصِّبْيَانَ يُسْرِعُ إلَيْهِمْ الْقِيلُ وَالْقَالُ فَإِذَا كَانَ بِالسُّوقِ أَوْ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ فِي الدَّكَاكِينِ ذَهَبَ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ وَهِيَ إظْهَارُ الشَّعَائِرِ؛ لِأَنَّهُ أَجَلُّهَا كَذَلِكَ يَحْذَرُ أَنْ يَتَّخِذَ الْكُتَّابَ فِي الْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «جَنِّبُوا

مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ» انْتَهَى. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَكْتَبُ فِي مَوْضِعٍ يَخْفَى عَنْ أَعْيُنِ الْمَارِّينَ فِي الطَّرِيقِ إذْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصِّبْيَانَ يَكُونُونَ عِنْدَهُ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فَابْنُ الْفَقِيرِ وَابْنُ الْغَنِيِّ سَوَاءٌ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَتْرُكُ دَكَّةً تَدْخُلُ لَهُ الْكُتَّابَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْفِيعًا لِابْنِ الْغَنِيِّ عَلَى غَيْرِهِ وَانْكِسَارًا لِخَاطِرِ الْفَقِيرِ وَالْيَتِيمِ وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ جَبْرٍ لَا مَوْضِعُ كَسْرٍ إذْ اللَّائِقُ بِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ مِنْ الْعَدْلِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْخَيْرِ فَتَكُونُ بِدَايَةُ أَمْرِ الصِّبْيَانِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْأَقْوَمِ وَالطَّرِيقِ الْأَرْشَدِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ الصِّبْيَانُ فِيهِ لِضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ مَعْلُومًا إمَّا أَنْ يَكُونَ وَقْفًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا أَبَاحَهُ صَاحِبُهُ وَيُؤْمَنُ عَلَى الصِّبْيَانِ فِيهِ، فَإِنْ عُدِمَا مَعًا أَوْ عُدِمَ الْأَمْنُ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَمْضِي إلَى بَيْتِهِ لِيُزِيلَ ضَرُورَتَهُ ثُمَّ يَعُودَ وَإِذَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ الصِّبْيَانِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ فَلَا يَتْرُكُ غَيْرَهُ يَخْرُجُ حَتَّى يَأْتِيَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا خَرَجُوا جَمِيعًا يُخْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ اللَّعِبِ بِسَبَبِ الِاجْتِمَاعِ وَقَدْ يُبْطِئُونَ فِي الرُّجُوعِ إلَى الْمَكْتَبِ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى حَالِهِمْ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا احْتَاجَ الصَّبِيُّ إلَى غِذَائِهِ أَنْ يَتْرُكَهُ يَمْضِي إلَى بَيْتِهِ لِغِذَائِهِ ثُمَّ يَعُودُ؛ لِأَنَّهُ سِتْرٌ عَلَى الْفَقِيرِ وَفِيهِ أَيْضًا تَعْلِيمُ الْأَدَبِ لِلصِّبْيَانِ فِي حَالِ صِغَرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا بَيْنَ الْإِخْوَانِ وَالْمَعَارِفِ دُونَ الْأَجَانِبِ فَإِذَا نَشَأَ الصَّبِيُّ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُتَأَدِّبًا بِآدَابِ الشَّرِيعَةِ فَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ عَامَّةِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ وَفِي الْأَسْوَاقِ وَبِحَضْرَةِ مَنْ يَعْرِفُهُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ وَقَدْ قِيلَ لَا يَأْكُلُ عَلَى الطَّرِيقِ إلَّا كَرِيمٌ أَوْ لَئِيمٌ. وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ الْأَكْلِ وَالْعَيْنَانِ تَنْظُرَانِ. فَإِذَا مَضَوْا إلَى ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ السَّطْوَةَ عَلَيْهِمْ إذَا غَابُوا أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى اجْتِمَاعِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَوُقُوعِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْهُمْ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى تَعْلِيمَ

الْجَمِيعِ بِنَفْسِهِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَلْيَأْمُرْ بَعْضَهُمْ أَنْ يُقْرِئَ بَعْضًا وَذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يُخَلِّي نَظَرَهُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَفَلَ قَدْ تَقَعُ مِنْهُمْ مَفَاسِدُ جُمْلَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِي بَالٍ؛ لِأَنَّ عُقُولَهُمْ لَمْ تَتِمَّ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ إذَا غَفَلْت عَنْهُ وَقْتًا مَا فَسَدَ أَمْرُهُ وَتَلِفَ حَالُهُ فِي الْغَالِبِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا وَكَّلَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أَنْ لَا يَجْعَلَ صِبْيَانًا مَعْلُومِينَ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَلْ يُبَدِّلُ الصِّبْيَانَ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى الْعُرَفَاءِ مَرَّةً يُعْطِي صِبْيَانَ هَذَا لِهَذَا وَصِبْيَانَ هَذَا لِهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِوَاحِدٍ صِبْيَانٌ مَعْلُومُونَ فَقَدْ تَنْشَأُ بَيْنَهُمْ مَفَاسِدُ بِسَبَبِ الْوُدِّ لَا يَشْعُرُ بِهَا فَإِذَا فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سَلِمَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَيَفْعَلُ هُوَ فِي نَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ صِبْيَانَهُمْ تَارَةً وَيَدْفَعُ لَهُمْ آخَرِينَ، فَإِنْ كَانَ الصِّبْيَانُ كُلُّهُمْ صِغَارًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَلْيَأْخُذْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ الْمَأْمُونِينَ شَرْعًا بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي الْإِقْرَاءِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ السَّلَفَ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ إنَّمَا كَانُوا يُقْرِئُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي سَبْعِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ زَمَنٌ يُؤْمَرُ الْوَلِيُّ أَنْ يُكَلِّفَ الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ فِيهِ فَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي ذَلِكَ السِّنِّ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى مَنْ يَأْتِي بِهِ إلَى الْمَكْتَبِ إنْ أَمِنَ عَلَيْهِ غَالِبًا، فَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهِ فَلْيُرْسِلْ مَعَهُ وَلِيُّهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي ذَهَابِهِ إلَى بَيْتِهِ لِضَرُورَتِهِ وَغِذَائِهِ وَمَنْ يَأْتِي بِهِ إلَى الْمَكْتَبِ فَهُوَ أَسْلَمُ عَاقِبَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ مِنْ الْمَكْتَبِ وَالْغَالِبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ أَوْلَادَهُمْ الْمَكْتَبَ فِي حَالِ الصِّغَرِ بِحَيْثُ إنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى مَنْ يُرَبِّيهِمْ وَيَسُوقُهُمْ إلَى الْمَكْتَبِ وَيَرُدُّهُمْ إلَى بُيُوتِهِمْ بَلْ بَعْضُهُمْ يَكُونُ سِنُّهُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْسِكَ ضَرُورَةَ نَفْسِهِ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمَكْتَبِ وَيُلَوِّثُ بِهِ ثِيَابَهُ وَمَكَانَهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يُقْرِئَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي إقْرَائِهِ لَهُمْ إلَّا وُجُودُ التَّعَبِ غَالِبًا وَتَلْوِيثُ مَوْضِعِ الْقُرْآنِ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ أَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى عَدَمِ انْتِفَاعِ الصِّبْيَانِ بِالْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ السِّنِّ غَالِبًا

أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُرْسِلُونَ أَوْلَادَهُمْ إلَى الْمَكْتَبِ فِي حَالِ صِغَرِهِمْ لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ تَعَبِهِمْ لَا لِأَجْلِ الْقِرَاءَةِ وَحَامِلُ الْقُرْآنِ يَجِلُّ مَنْصِبُهُ الرَّفِيعُ عَنْ تَرْبِيَةِ مَنْ هَذَا حَالُهُمْ وَفِي إقْرَائِهِ لِغَيْرِهِمْ سَعَةٌ وَفَائِدَةٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَهُمْ آدَابَ الدِّينِ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ الْقُرْآنَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا كُلَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ قِرَاءَةٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِهِمَا إذْ ذَاكَ فَيُعَلِّمُهُمْ السُّنَّةَ فِي حِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ وَالدُّعَاءِ بَعْدَ الْأَذَانِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ دُعَاءَهُمْ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ سِيَّمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ الشَّرِيفِ ثُمَّ يُعَلِّمُهُمْ حُكْمَ الِاسْتِبْرَاءِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ وَالرُّكُوعُ بَعْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَتَوَابِعُهَا وَيَأْخُذُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَلِيلًا قَلِيلًا وَلَوْ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَشْتَغِلُونَ بَعْدَ الْأَذَانِ بِغَيْرِ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ بَلْ يَتْرُكُونَ كُلَّ مَا هُمْ فِيهِ وَيَشْتَغِلُونَ بِذَلِكَ حَتَّى يُصَلُّوا فِي جَمَاعَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِمْ يَمْضُونَ إلَى مَوْضِعِ وَقْفٍ أَوْ مَوْضِعِ مِلْكٍ أُبِيحَ لَهُمْ أَوْ إلَى بُيُوتِهِمْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَيُصَلُّونَ جَمِيعًا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ مُؤَدِّبُهُمْ، فَإِنْ خَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ اللَّعِبِ أَوْ الْعَبَثِ فَيُصَلُّونَ فِي الْمَكْتَبِ جَمِيعًا وَيُقَدِّمُونَ أَكْبَرَهُمْ فِيهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ جَمَاعَةً. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَوِّدَهُمْ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُسَامِحُهُمْ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَلَا يُعَوِّدَهُمْ الصَّلَاةَ أَفْذَاذًا؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا أَعْنِي شُهُودَ الْجَمَاعَةِ هَلْ هِيَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي جَمَاعَةٍ. فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ وَتَوَابِعِهَا رَجَعُوا لِمَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْوَظَائِفِ فِي الْمَكْتَبِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَقْتُ كَتْبِهِمْ الْأَلْوَاحَ مَعْلُومًا وَوَقْتُ تَصْوِيبِهَا مَعْلُومًا وَوَقْتُ عَرْضِهَا مَعْلُومًا وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْأَحْزَابِ حَتَّى يَنْضَبِطَ الْحَالُ وَلَا يَخْتَلَّ النِّظَامُ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْهُمْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ قَابَلَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ فَرُبَّ صَبِيٍّ يَكْفِيه عُبُوسَةُ وَجْهِهِ عَلَيْهِ وَآخَرَ لَا يَرْتَدِعُ إلَّا بِالْكَلَامِ الْغَلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ وَآخَرَ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِالضَّرْبِ وَالْإِهَانَةِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ. وَقَدْ جَاءَ أَنَّ الصَّلَاةَ

لَا يُضْرَبُ عَلَيْهَا إلَّا لِعَشْرٍ فَمَا سِوَاهَا أَحْرَى فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُمْ بِالرِّفْقِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ إذْ إنَّهُ لَا يَجِبُ ضَرْبُهُمْ فِي هَذَا السِّنِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي سِنِّ مَنْ يُضْرَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَاضْطُرَّ إلَى ضَرْبِهِ ضَرَبَهُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ شَيْئًا بِذَلِكَ مَضَتْ عَادَةُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ سَعَةٌ. لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْآلَةُ الَّتِي يَضْرِبُ بِهَا دُونَ الْآلَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تُقَامُ بِهَا الْحُدُودُ وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ «رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَالَ فَوْقَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ فَقَالَ دُونَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلَانَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجُلِدَ» . وَلَا يَكُونُ الْأَدَبُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْعَشَرَةِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَطْرَأُ عَلَى الصَّبِيِّ إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَلْيَحْذَرْ الْحَذَرَ الْكُلِّيَّ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ الْمُؤَدِّبِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَتَعَاطَوْنَ آلَةً اتَّخَذُوهَا لِضَرْبِ الصِّبْيَانِ مِثْلَ عَصَا اللَّوْزِ الْيَابِسِ وَالْجَرِيدِ الْمُشَرَّحِ وَالْأَسْوَاطِ النُّوبِيَّةِ وَالْفَلَقَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا أَحْدَثُوهُ وَهُوَ كَثِيرٌ وَلَا يَلِيقُ هَذَا بِمَنْ يُنْسَبُ إلَى حَمْلِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ إذْ إنَّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّمَا أُدْرِجَتْ النُّبُوَّةُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إلَيْهِ» وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ الْخَطَّ وَالِاسْتِخْرَاجَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ حِفْظَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَى الْحِفْظِ وَالْفَهْمِ فَهُوَ أَكْبَرُ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ وَفَهْمِ مَسَائِلِهَا. وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ لِمَسْحِ الْأَلْوَاحِ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ مُصَانٌ نَظِيفٌ لَا يُمْشَى فِيهِ بِالْأَقْدَامِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَأْخُذُ الْمَاءَ الَّذِي يَجْتَمِعُ مِنْ الْمَسْحِ فَيَحْفِرُ لَهُ فِي مَكَان طَاهِرٍ مُصَانٍ عَنْ أَنْ يَطَأَهُ قَدَمٌ وَيُجْعَلُ فِيهِ أَوْ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ أَوْ الْبِئْرِ أَوْ يُجْعَلُ فِي إنَاءٍ طَاهِرٍ لِكَيْ

يَسْتَشْفِيَ بِهِ مَنْ يَخْتَارُ ذَلِكَ الْمَاءَ وَكَذَلِكَ الَّذِي يَغْسِلُ بِهِ الْخِرَقَ بَعْدَ الْمَسْحِ يُجْعَلُ فِي مَوْضِعٍ بِحَيْثُ لَا يُمْتَهَنُ وَيُشْتَرَطُ فِي الْخِرَقِ الَّتِي يُمْسَحُ بِهَا الْأَلْوَاحُ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً وَأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي تُبَلُّ مِنْهُ حِينَ يُمْسَحُ بِهِ طَاهِرًا وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكُونَ حُلْوًا فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرَبُهُ لِلِاسْتِشْفَاءِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ أُجَاجًا امْتَنَعَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ تَنَغَّصَ بِشُرْبِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْآنِيَةِ إذَا غُسِلَتْ فِيهَا الْأَيْدِي بَعْدَ الْأَكْلِ أَنَّهُ لَا يُبْصَقُ فِيهَا وَلَا يُغْسَلُ فِيهَا بِأُشْنَانٍ وَلَا غَيْرِهِ خِيفَةَ أَنْ يَشْرَبَهُ مَنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَفِي الْمَاءِ الَّذِي تُمْسَحُ بِهِ الْأَلْوَاحُ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ الصِّبْيَانَ مِمَّا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَمْسَحُونَ الْأَلْوَاحَ أَوْ بَعْضَهَا بِبُصَاقِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبُصَاقَ مُسْتَقْذَرٌ وَفِيهِ امْتِهَانٌ وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ تَرْفِيعٍ وَتَعْظِيمٍ وَتَبْجِيلٍ فَيُجَلُّ عَنْ ذَلِكَ وَيُنَزَّهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُسَامِحَ الصِّبْيَانَ فِي دَقِّ الْمَسَامِيرِ فِي الْمَكْتَبِ إنْ كَانَ وَقْفًا، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ إذْ إنَّهُمْ مَأْمُورُونَ أَنْ يَأْكُلُوا فِي بُيُوتِهِمْ لَا فِي الْمَكْتَبِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ بَيْتُهُ بَعِيدًا بِحَيْثُ يَشُقُّ عَلَيْهِ الذَّهَابُ وَالرُّجُوعُ فَيُكَلِّفُهُ الْمُؤَدِّبُ أَنْ يَمْضِيَ إلَى بَيْتِ أَحَدِ أَقَارِبِهِ مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَعَارِفِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَلْيَجْعَلْ وَقْتَ غِذَائِهِ حِينَ يَنْصَرِفُ الصِّبْيَانُ إلَى غِذَائِهِمْ وَقَبْلَ أَنْ يَرْجِعُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤَدِّبَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَيُعَلِّمُهُمْ أَحْكَامَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ الْقُرْآنَ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُعَوِّدَهُمْ الْقِرَاءَةَ فِي جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا تَعَوَّدُوا ذَلِكَ فِي صِغَرِهِمْ يُخَافُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ فِي كِبَرِهِمْ وَأَيْضًا فَإِنَّ حِفْظَهُمْ لَا يَتَأَتَّى بِذَلِكَ إذْ إنَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ مِنْهُمْ لَا يَعْلَمُ إذَا كَانُوا عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ فِي الْغَالِبِ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَوْلَى بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ تَرْكُهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْتَقْضِيَ أَحَدًا مِنْ الصِّبْيَانِ

فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَبَاهُ فِي ذَلِكَ وَيَأْذَنَ لَهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَلَا يَسْتَقْضِي الْيَتِيمَ مِنْهُمْ فِي حَاجَةٍ بِكُلِّ حَالٍ. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُرْسِلَ إلَى بَيْتِهِ أَحَدًا مِنْ الصِّبْيَانِ الْبَالِغِينَ أَوْ الْمُرَاهِقِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ مَا لَا يَنْبَغِي أَوْ إلَى سُوءِ الظَّنِّ بِأَهْلِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَلْوَةَ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ، فَإِنْ سَلِمُوا مِنْهُ فَلَا يَخْلُو مِنْ الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَالِبًا وَمَا ذُكِرَ مِنْ اسْتِقْضَاءِ حَوَائِجِهِ لِبَعْضِ الصِّبْيَانِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْجَوَازِ وَإِلَّا فَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَقْضِيَ أَحَدًا مِنْهُمْ فِي حَاجَةٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَلَى تَعْلِيمِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ. لَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَجَاءَهُ شَيْءٌ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الْفُتُوحِ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ غَيْرَ مُتَشَوِّفَةٍ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ» وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَكَانِ الَّذِي يَقْضِي الصِّبْيَانُ فِيهِ ضَرُورَةَ الْبَشَرِيَّةِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا مِثْلُ مَا يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّهُمْ يَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ فِي جُدْرَانِ بُيُوتِ النَّاسِ وَطُرُقَاتِهِمْ فَيُنَجِّسُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَمَنْ جَلَسَ إلَى تِلْكَ الْجُدْرَانِ تَلَوَّثَ ثَوْبُهُ بِالنَّجَاسَةِ وَكَذَلِكَ الْمَاشِي قَدْ يُصِيبُهُ مِنْهَا أَذًى. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ» فَهَذَا مِنْ آكِدِهَا فَتَلْحَقُ الصِّبْيَانَ اللَّعْنَةُ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي ذِمَّةِ مَنْ سَكَتَ لَهُمْ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فَيَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَزَوِّجًا؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ صَالِحًا فِي نَفْسِهِ فَالْغَالِبُ إسْرَاعُ سُوءِ الظَّنِّ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِمَنْ كَانَ غَيْرَ مُتَأَهِّلٍ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ وَالْبَنَاتِ فِي الظَّاهِرِ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ تَعَالَى فَيَسَرِي إلَيْهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ فَإِذَا كَانَ مُتَأَهِّلًا انْسَدَّ بَابُ الْكَلَامِ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَضْحَكَ

مَعَ الصِّبْيَانِ وَلَا يُبَاسِطُهُمْ لِئَلَّا يُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى الْوُقُوعِ فِي عِرْضِهِ وَعِرْضِهِمْ وَإِلَى زَوَالِ حُرْمَتِهِ عِنْدَهُمْ إذْ إنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤَدِّبِ أَنْ تَكُونَ حُرْمَتُهُ قَائِمَةً عَلَى الصِّبْيَانِ بِذَلِكَ مَضَتْ عَادَةُ النَّاسِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فَلْيَهْتَدِ بِهَدْيِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصِّبْيَانَ يَمْضُونَ إلَى بُيُوتِهِمْ لِقَضَاءِ ضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَلِغِذَائِهِمْ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ عَوَامِّ الْمُؤَدِّبِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّ الصِّبْيَانَ الَّذِينَ عِنْدَهُ إذَا أَتَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغِذَائِهِ أَوْ بَعْضُهُمْ فَيَتَسَلَّمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَخْلِطُ جَمِيعَ ذَلِكَ ثُمَّ يُعْطِي مِنْهُ مَنْ يَخْطُرُ لَهُ فَتَجِدُ بَعْضَ الصِّبْيَانِ يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ غِذَائِهِ فَيَحْرِمُهُ وَيُوَفِّرُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ يَخْتَارُ وَهَذَا حَرَامٌ سُحْتٌ وَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ وَيَتَعَيَّنُ إقَامَتُهُ مِنْ الْمَكْتَبِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ بِشَرْطِ أَنْ تُعْلَمَ حَقِيقَةُ أَمْرِهِ فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ عِدَّةٌ. مِنْهَا أَنَّهُ يَأْخُذُ غِذَاءَ هَذَا فَيُعْطِيه لِغَيْرِهِ فَيُدْخِلُ الْخَلَلَ فِي غِذَاءِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَالِدُ بَعْضِهِمْ صَالِحًا مُتَوَرِّعًا فِي كَسْبِهِ وَآخَرُ مَكَّاسًا ظَالِمًا وَقَدْ يَكُونُ غِذَاءُ بَعْضِهِمْ أَحْسَنَ مِنْ غِذَاءِ الْآخَرِ فِي الْمَطْعَمِ وَالصَّبِيُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَوَلِيُّهُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ سِيَّمَا إنْ كَانَ لِيَتِيمٍ فَلَا يَجُوزُ إبْدَالُهُ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْذَنَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَبَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا مُحَرَّمًا وَهُوَ أَنَّهُ يَأْكُلُ مَعَ الصِّبْيَانِ مِنْ أَغْذِيَتِهِمْ وَيُطْعِمُ مَنْ يَخْتَارُهُ وَمَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ وَيُرْسِلُ مِنْهَا إلَى بَيْتِهِ مَا يَخْتَارُ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْخُلْسَةِ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الصِّبْيَانَ بَقِيَ لَهُمْ غِذَاؤُهُمْ وَلَمْ يَمَسَّهُ غَيْرُهُمْ فَأَكَلُوا مِنْهُ مَا شَاءُوا وَبَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ وَتَرَكُوهَا فِي الْمَكْتَبِ رَغْبَةً عَنْهَا لَجَازَ لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيَنْتَفِعَ بِهَا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْلِمَ أَوْلِيَاءَ الصِّبْيَانِ بِذَلِكَ إنْ كَانُوا جَمَاعَةً أَوْ وَاحِدًا إنْ انْفَرَدَ هَذَا مَا لَمْ يَكُنْ لِيَتِيمٍ كَمَا تَقَدَّمَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا مِنْ غِذَائِهِ وَتَرَكَهُ كُلَّهُ فِي الْمَكْتَبِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى أَخْذِهِ إلَّا بِإِعْلَامِ وَالِدِ الصَّبِيِّ وَإِلَّا فَلَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهَا فَضَلَاتٌ عَنْ شِبَعِهِمْ. وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُهُ الصِّبْيَانُ مِنْ الْمَاءِ

فصل في انصراف الصبيان من المكتب

لِلشُّرْبِ فَجَائِزٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ فَيَشْتَرِي بِهِ مَاعُونَ الْمَاءِ وَالْمَاءَ وَلَا يُمَكِّنُ الصِّبْيَانَ مِنْ الذَّهَابِ إلَى بُيُوتِهِمْ لِلشُّرْبِ وَإِنْ كَانَ بَيْتُ بَعْضِهِمْ قَرِيبًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ فِي الْغَالِبِ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يَشْرَبَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فِي ذَلِكَ آبَاؤُهُمْ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ يَتِيمٌ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا لِثَمَنِ الْمَاءِ وَلَا غَيْرِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَيَصِيرُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي الشُّرْبِ وَيَسْتَحِقُّ ذَلِكَ فِي حَقِّ مُؤَدِّبِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سُكْنَى دُورِ الْقَرَافَةِ تُمْنَعُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَتَّخِذُ فِيهَا مَكْتَبًا لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى تَفْصِيلِهِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ مَعْلُومٌ لِمَنْ وُفِّقَ لَهُ [فَصْلٌ فِي انْصِرَافِ الصِّبْيَانِ مِنْ الْمَكْتَبِ] ِ وَانْصِرَافُ الصِّبْيَانِ وَاسْتِرَاحَتُهُمْ يَوْمَيْنِ فِي الْجُمُعَةِ لَا بَأْسَ بِهِ وَكَذَلِكَ انْصِرَافُهُمْ قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ بَلْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ» فَإِذَا اسْتَرَاحُوا يَوْمَيْنِ فِي الْجُمُعَةِ نَشَطُوا لِبَاقِيهَا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدَعَ أَحَدًا عِنْدَهُ مِنْ الصِّبْيَانِ مِمَّنْ فِيهِ رَائِحَةٌ مَا مِنْ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ إذْ إنَّ ذَلِكَ سَبِيلٌ لِلْوَقِيعَةِ فِي حَقِّ بَعْضِ مَنْ فِي الْمَكْتَبِ عِنْدَهُ وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى أَنْ يَشْتَهِرَ مَكْتَبُهُ بِمَا لَا يَنْبَغِي فَقَدْ يُنْسَبُ إلَى الْمُؤَدِّبِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ. وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا إلَى عَدَمِ مَجِيءِ الصِّبْيَانِ إلَيْهِ أَوْ قِلَّتِهِمْ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ تَمْزِيقُ الْعِرْضِ وَقِلَّةُ الرِّزْقِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ عَوَامِّ الْمُؤَدِّبِينَ مِنْ أَنَّهُ إذَا قَلَّ عِنْدَهُ الصِّبْيَانُ أَوْ فَتَحَ مَكْتَبًا وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَإِنَّهُ يَكْتُبُ أَوْرَاقًا وَيُعَلِّقُهَا عَلَى بَابِ الْمَكْتَبِ لِيَكْثُرَ مَجِيءُ الصِّبْيَانِ إلَيْهِ وَهَذَا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا سُفَهَاءُ النَّاسِ وَفِيهِ اسْتِشْرَافُ

النَّفْسِ لِتَحْصِيلِ الدُّنْيَا وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمَنْصِبُ الْمُؤَدِّبِ يَجِلُّ عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصِّبْيَانِ شَيْئًا مِمَّنْ يَأْتِي بِهِ إلَيْهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي يَعْمَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّ قَبُولَهُ لِذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ لِمَوَاسِمِهِمْ وَفِي التَّعْظِيمِ لِمَوَاسِمِهِمْ تَعْظِيمٌ لَهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ فِيهِ مَا فِيهِ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ دِينَهُمْ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ غَيْرَهُ هُوَ الْبَاطِلُ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ تَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِيهِ عَدَمُ الْإِنْكَارِ وَالتَّغْيِيرِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَتَاهُ بِهِ بَلْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ وَيَزْجُرُ فَاعِلَهُ وَيُبَيِّنُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ وَبَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَشْنَعُ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ يَطْلُبُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. وَبَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ يَطْلُبُ مِنْ بَعْضِ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ عِنْدَهُ فُلُوسًا يَأْتُونَ بِهَا إلَيْهِ حَتَّى يَصْرِفَهُمْ فِي مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا أَشْنَعُ مِمَّا قَبْلَهُ وَبَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَطْلُبُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا فِي أَعْيَادِهِمْ وَمَوَاسِمِهِمْ وَهَذَا أَقْبَحُ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ الْمُؤَدِّبِينَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الصِّبْيَانَ لِغِذَائِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَيَتْرُكَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ وَقْتًا يَسْتَرِيحُونَ فِيهِ فِي بُيُوتِهِمْ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُبِيحَ لَهُمْ فِعْلَ ذَلِكَ فِي الْمَكْتَبِ؛ لِأَنَّ الصِّبْيَانَ إذَا خَرَجُوا عَمَّا بُنِيَ الْمَكْتَبُ لَهُ عَادَ ذَلِكَ بِالضَّرَرِ غَالِبًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ وَمَا بُنِيَ الْمَكْتَبُ إلَّا لِأَجْلِ الدَّرْسِ وَالْحِفْظِ وَالْعَرْضِ وَالْكِتَابَةِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ فِي بُيُوتِهِمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ يَنَامُونَ فِيهِ وَقْتًا مَا فِي الْحَرِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَنْعُ مِمَّا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُمْ يَمْضُونَ إلَى بُيُوتِهِمْ وَيَأْكُلُونَ فِيهَا وَلَا يَأْكُلُونَ فِي الْمَكْتَبِ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا اشْتَكَى أَحَدٌ مِنْ الصِّبْيَانِ وَهُوَ فِي الْمَكْتَبِ بِوَجَعِ عَيْنَيْهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ وَعَلِمَ صِدْقَهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى بَيْتِهِ وَلَا يَتْرُكُهُ يَقْعُدُ فِي الْمَكْتَبِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِبَطَالَةِ غَيْرِهِ فِي الْغَالِبِ. وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدًا مِنْ صِبْيَانِ مَكْتَبِهِ يَحْمِلُهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَالْمَنْعُ فِي الْأُنْثَى أَشَدُّ وَلَا يَسْتَأْذِنُ فِي مِثْلِ هَذَا الْآبَاءَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي اسْتِقْضَائِهِمْ حَوَائِجَهُ

فَإِنَّهُ يَسْتَأْذِنُ الْآبَاءَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَغِيبَ عَنْ الْمَكْتَبِ أَصْلًا مَا دَامَ الصِّبْيَانُ فِيهِ إذْ إنَّهُمْ لَا عَقْلَ لَهُمْ يَمْنَعُهُمْ عَمَّا يَخْطُرُ لَهُمْ فِعْلُهُ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ رَاعٍ يَرْعَاهُمْ بِنَظَرِهِ وَيَسُوسُهُمْ بِعَقْلِهِ وَيُؤَدِّبُهُمْ بِكَلَامِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاعِيَ إذَا غَفَلَ عَنْ الْمَاشِيَةِ قَلِيلًا اخْتَلَّ نِظَامُهَا وَتَغَيَّرَ حَالُهَا فِي الْغَالِبِ وَرُبَّمَا تَلِفَ بَعْضُهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا لِعَدَمِ الْعَقْلِ عِنْدَهَا. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصِّبْيَانَ مَعَ الْمَجَانِينِ حَيْثُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ» الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَغِيبَ الْغَيْبَةَ الْيَسِيرَةَ لِضَرُورَتِهِ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِهَا عَنْهُ مِثْلُ خُبْزِهِ إذَا اخْتَمَرَ لَكِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَلَيْهِمْ أَكْبَرَهُمْ سِنًّا وَأَعْقَلَهُمْ بِشَرْطِ أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ لَا يَضْرِبَ أَحَدًا مِنْهُمْ فِي غَيْبَتِهِ وَلَا يَنْهَرَهُ إلَّا أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَتَبَ اسْمَهُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُؤَدِّبُ فَيُعْلِمَهُ بِهِ فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ مِنْ كَتْبِهِمْ أَوْرَاقَ الْمُسْتَأْذِنَاتِ لِلْأَفْرَاحِ فَيَكْتُبُ فِيهَا بِنَحْوِ قَوْلِهِ إلَى الْحِجَابِ الْمَنِيعِ وَالسِّتْرِ الرَّفِيعِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّزْكِيَةِ وَمَا شَاكَلَهَا وَالشِّعْرِ الَّذِي يُنَزَّهُ غَيْرُ الْمُؤَدِّبِ عَنْ الْكَلَامِ بِهِ فَكَيْفَ بِالْمُؤَدِّبِ. وَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ الْحُرُوزَ لِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلِكِبَارِهِمْ. وَكَذَلِكَ الصَّحِيفَةُ فِيهَا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالرَّقْيُ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَوْ قِيلَ إنَّ فِيهِ مِنْ الْمَنَافِعِ مَا لَا يُحْصَى فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْهُ فَقَالَ وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ كُفْرٌ. وَيَنْبَغِي لِآبَاءِ الصِّبْيَانِ أَنْ يَتَخَيَّرُوا لِأَوْلَادِهِمْ أَفْضَلَ مَا يُمْكِنُهُمْ فِي وَقْتِهِمْ ذَلِكَ مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعًا بَعِيدًا فَيَخْتَارُونَ لَهُمْ أَوَّلًا أَهْلَ الدِّينِ وَالتَّقْوَى، فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ أَحْسَنُ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِالْفِقْهِ فَهُوَ أَوْلَى، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ بِكِبَرِ السِّنِّ فَهُوَ أَجَلُّ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ بِوَرَعٍ وَزُهْدٍ فَهُوَ أَوْجَبُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ إذْ إنَّهُ كَيْفَمَا زَادَتْ الْخِصَالُ الْمَحْمُودَةُ فِي الْمُؤَدِّبِ زَادَ الصَّبِيُّ بِهِ تَجَمُّلًا وَرِفْعَةً وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ

فَيَتَعَيَّنُ النَّظَرُ فِيمَا ذُكِرَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ وَبَعْضُ مَشَايِخِ الْقُرْآنِ مِنْ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى. وَفِيهِ مَفَاسِدُ جُمْلَةٌ. مِنْهَا وَطْءُ الْأَعْقَابِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى ذَلِكَ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ فِيهِ ذِلَّةٌ لِلتَّابِعِ وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ انْتَهَى. وَمِنْهَا أَنَّ السُّوقَ مَوْضِعُ اللَّغَطِ وَالْكَلَامِ وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يُقْرَأَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقُرْآنَ إذَا تُلِيَ تَعَيَّنَ الْإِنْصَاتُ أَوْ يُنْدَبُ إلَيْهِ فَيَقَعُ مَنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ الطُّرُقِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي وَالْمُسْلِمُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يَسْلَمُ الْقَارِئُ غَالِبًا مِنْ أَنْ يَقْرَأَ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُنَزَّهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْهَا. وَمِنْهَا إذَا قَرَأَ الْقَارِئُ يَنْبَغِي لِقَارِئِهِ وَلِسَامِعِهِ أَنْ يَتَدَبَّرَهُ وَيَتَفَكَّرَ فِيهِ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ غَالِبًا وَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ خَارِجَ الْبَلَدِ إذَا لَمْ تُعَايَنْ النَّجَاسَةُ وَفِي الِانْتِقَالِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ مَعَ عَدَمِ مُعَايَنَةِ النَّجَاسَةِ أَيْضًا وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذُكِرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا إذْ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْعَوَامّ مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ يُؤَذِّنُونَ عَلَى بَابِ الْمَكْتَبِ أَوْ فَوْقَ سَطْحِهِ أَوْ فِيهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمَمْنُوعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا شُرِعَ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَهْرَعُ النَّاسُ إلَيْهَا لِأَدَاءِ فَرْضِهِمْ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ وَالْمَكْتَبُ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ حَتَّى يَأْتِيَ النَّاسُ إلَيْهِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَمِثْلُهُ مَنْ يُؤَذِّنُ فِي بَيْتِهِ أَوْ بُسْتَانِهِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] ؛ لِأَنَّهُ يُنَادِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ وَمَعْنَى ذَلِكَ هَلُمُّوا إلَى الصَّلَاةِ هَلُمُّوا إلَى الْفَلَاحِ ثُمَّ مَعَ هَذَا النِّدَاءِ يَغْلِقُ الْبَابَ دُونَهُمْ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ مَفَاسِدَ. مِنْهَا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْمَعُهُ مَنْ يَسْمَعُهُ فَيَأْتِي إلَى مَوْضِعِ الْأَذَانِ فَلَا يَجِدُ السَّبِيلَ إلَى دُخُولِ

الْمَكَانِ الَّذِي سَمِعَ فِيهِ الْأَذَانَ. وَمِنْهَا أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ الْمَشْيَ بِإِذْنِهِ إلَى أَنْ أَتَوْا سِيَّمَا الْغَرِيبُ الَّذِي هُوَ عَابِرُ سَبِيلٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ لَوْ أُذِّنَ خَارِجَ الْبَلَدِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ فِي بَرِّيَّةٍ فَمَنْ أَتَى إلَيْهِ صَلَّى مَعَهُ. وَهَذَا الْقِسْمُ الْأَخِيرُ مِنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ مَنْ اعْتَنَى بِهِ «يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْت فِي غَنَمِك أَوْ بَادِيَتِك فَأَذَّنْت بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَك بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» انْتَهَى. وَالْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الْبِدْعَةِ وَالْوُقُوعِ فِي النَّهْيِ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَشْتِمَ مَنْ اسْتَحَقَّ الْأَدَبَ مِنْ الصِّبْيَانِ وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ هَذَا وَهُوَ حَرَامٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لِلْمُؤَدِّبِ غَيْظٌ مَا عَلَى الصَّبِيِّ شَتَمَهُ وَتَعَدَّى بِذَلِكَ إلَى وَالِدَيْهِ وَرُبَّمَا حَصَلَ لِبَعْضِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَذْفٌ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْحَدُّ سِيَّمَا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي خُلُقِهِ حِدَّةٌ أَوْ فِيهِ غِلْظَةٌ وَفَظَاظَةٌ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا أَدْرَكَهُ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ لَا يُؤَدِّبَ الصَّبِيَّ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ بَلْ يَتْرُكَهُ حَتَّى يَسْكُنَ غَيْظُهُ وَيَذْهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُهُ مِنْ الْحَنَقِ عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يُؤَدِّبُهُ الْأَدَبَ الشَّرْعِيَّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَدَّبَهُ فِي حَالِ غَيْظِهِ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَدَّى الْأَدَبَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» وَعَدَاهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إلَى كُلِّ مَا يُشَوِّشُ عَلَيْهِ كَحَقْنَةٍ بِبَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَاضِي وَالْمُؤَدِّبِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بَيْنَ الْكِبَارِ وَهَذَا يَحْكُمُ بَيْنَ الصِّغَارِ وَحَامِلُ الْقُرْآنِ يُنَزَّهُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ فَيُقِيمُ الْأَدَبَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَنَاوَلَ عِرْضَهُ وَلَا شَتَمَ أَبَوَيْهِ بَلْ يُؤَدِّبُهُ كَمَا يُؤَدِّبُهُ وَالِدَاهُ وَهُمَا يَرْحَمَانِهِ وَيُشْفِقَانِ عَلَيْهِ وَيَذُبَّانِ عَنْهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْآبَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا لِأَوْلَادِهِمْ مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ مَنْ هُوَ أَوْرَعُ وَأَزْهَدُ وَأَتْقَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ رَضَاعٌ ثَانٍ لِلصَّبِيِّ بَعْدَ رَضَاعِ الْأُمِّ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْعَلَ

مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ بِأَوْلَادِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ الْمَكْتَبِ الَّذِي يَقْرَءُونَ فِيهِ كِتَابَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وَيَتَعَلَّمُونَ فِيهِ شَرِيعَةَ نَبِيِّهِمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَذْهَبُونَ بِهِمْ إلَى كُتَّابِ النَّصَارَى لِتَعْلِيمِ الْحِسَابِ وَهَذَا رَضَاعٌ ثَالِثٌ بَعْدَ رَضَاعِ الْمُؤَدِّبِ. وَقَدْ قِيلَ الرَّضَاعُ يُغَيِّرُ الطِّبَاعَ فَهَذَا أَمْرٌ شَنِيعٌ قَبِيحٌ مِنْ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بَعْدُ وَلَمْ يَقْرَأْ الْعِلْمَ وَلَمْ يَعْرِفْ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ تَسْبِقُ إلَيْهِ الدَّسَائِسُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ الَّذِي يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْحِسَابَ أَوْ مِنْ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ عِنْدَهُ صِغَارًا كَانُوا أَوْ كِبَارًا ثُمَّ إنَّ النَّصْرَانِيَّ مَعَ ذَلِكَ يُؤَدِّبُهُ عَلَى مَا يَخْطُرُ لَهُ وَيَمُرُّ بِبَالِهِ مِنْ كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ تَعْلِيمِهِ الْحِسَابَ وَهَذَا لَا يَرْضَى بِهِ عَاقِلٌ وَلَا مَنْ فِيهِ مُرُوءَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّبِيُّ فِي هَذَا السِّنِّ قَابِلٌ لِكُلِّ مَا يُلْقَى إلَيْهِ مِثْلُ الشَّمْعِ أَيَّ شَيْءٍ عَمِلْت عَلَيْهِ طُبِعَ فِيهِ فَيُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ وَهُوَ الْغَالِبُ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ فَيَرْجِعُ مَكَانُ الصِّدْقِ كَذِبًا وَبُهْتَانًا وَمَوْضِعُ النَّصِيحَةِ غِشًّا وَخَدِيعَةً وَمَوْضِعُ الْأُلْفَةِ بِالْمُسْلِمِينَ انْقِطَاعًا وَوَحْشَةً وَمَكَانُ الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ خُبْثًا وَمُدَاهَنَةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَكْرِهِمْ وَخِصَالِهِمْ الرَّدِيئَةِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَرْكَنَ إلَى قَوْلِ النَّصْرَانِيِّ أَوْ إلَى شَيْءٍ مَا مِنْ اعْتِقَادِهِ أَوْ اسْتِحْسَانِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُمَكِّنْ زَائِغَ الْقَلْبِ مِنْ أُذُنَيْك لَا تَدْرِي مَا يَعْلَقُكَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَقَدْ سَمِعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ شَيْئًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْقَدَرِ فَعَلِقَ قَلْبُهُ بِهِ فَكَانَ يَأْتِي إخْوَانَهُ الَّذِينَ اسْتَصْحَبَهُمْ فَإِذَا نَهَوْهُ قَالَ كَيْفَ بِمَا عَلِقَ قَلْبِي لَوْ عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ رَاضٍ أَنْ أُلْقِيَ نَفْسِي مِنْ فَوْقِ هَذِهِ الْمَنَارَةِ لَفَعَلْت. وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَا يُعْذَرُ مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى بِدْعَةٍ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ اجْتَهَدُوا فِي التَّأْوِيلِ فَلَمْ يُعْذَرُوا إذْ خَرَجُوا بِتَأْوِيلِهِمْ عَنْ الصَّحَابَةِ فَسَمَّاهُمْ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَارِقِينَ مِنْ الدِّينِ نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ. وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

قَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (يَا مُوسَى لَا تُخَاصِمْ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ فَيُلْقُوا فِي قَلْبِك شَيْئًا فَيُرْدِيَك فَيَسْخَطَ اللَّهُ عَلَيْك) وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ فَقَدْ أَكْثَرَ الشُّغْلَ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إيَّاكُمْ وَالْخُصُومَاتِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهَا تُشْغِلُ الْقَلْبَ وَتُورِثُ النِّفَاقَ انْتَهَى. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَتَحَفَّظُونَ عَلَى الرَّضَاعِ الثَّالِثِ أَكْثَرَ مِنْ الرَّضَّاعَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَهُمَا رَضَاعُ الْأُمِّ وَرَضَاعُ الْمُؤَدِّبِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ رَجَعَ لَهُ عَقْلٌ وَمَعْرِفَةٌ بِالْأُمُورِ وَقَابِلِيَّةٌ لِقَبُولِ مَا سَمِعَهُ أَوْ رَآهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ رَضَاعِ الْمُؤَدِّبِ رَضَاعُ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ الْمُتَّبِعِينَ لِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُبَيِّنِينَ لَهَا الْكَاشِفِينَ عَنْ غَامِضِهَا وَالْمُخْرِجِينَ لِخَبَايَاهَا فَإِذَا ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ هَذَا الرَّضَاعَ الثَّالِثَ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ إنْ وَقَعَ لَهُ غَيْرُ مَا سَبَقَ إلَيْهِ سَارَعَ بِسَبَبِ عِلْمِهِ وَمَا انْطَبَعَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا تَحَصَّلَ عَنْهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَحَبَّتِهِمَا وَإِيثَارِهِمَا إلَى إنْكَارِهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ لِذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ بَعْضُ النَّاسِ بِوَلَدِهِ إلَى بَعْضِ السَّلَفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرِيدُ أَنْ يُقْرِئَهُ فَقَالَ لَهُ أَقَرَأَ قَبْلَ هَذَا عِلْمًا غَيْرَ مَا نَحْنُ فِيهِ يَعْنِي مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ الْعَرَبِيَّةُ قَالَ لَهُ اذْهَبْ بِوَلَدِك فَإِنَّهُ لَا يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ وَلِمَ قَالَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ تَغَزُّلَاتُ الْعَرَبِ وَأَشْعَارُهَا وَجُبِلَ عَلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ صَلَاحُهُ فَلَمْ يُقْرِئْهُ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ مَطْلُوبَةٌ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ فَهْمِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَفَهْمِ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ مَا وَقَعَ لَوْمُ هَذَا السَّيِّدِ لَهُ إلَّا لِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ تَغَزُّلَاتِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا فَلَوْ سَبَقَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ بَعْضِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا يُسَنُّ وَمَا يُنْدَبُ إلَيْهِ لَمَا عَذَلَهُ فَإِذَا كَانَ هَذَا تَحَفُّظَهُمْ عَلَى سَبْقِ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ وُجُودِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا فِي الشَّرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهَا. وَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي حَقِّ الْمُؤَدِّبِ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ أَحْسَنُ أَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ

عَالِمًا بِالْعَوَامِلِ وَهُوَ لِمَ رُفِعَ هَذَا وَنُصِبَ هَذَا وَخُفِضَ هَذَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عُلُومَ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا عِلْمُ الْعَوَامِلِ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالثَّانِي عِلْمُ اللُّغَةِ وَالثَّالِثُ عِلْمُ الْأَدَبِ وَالرَّابِعُ عِلْمُ الْبَدِيعِ فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُؤَدِّبُ وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ أَمْرٍ فِي الْغَالِبِ. ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى تَمَامِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِي دُخُولِ الصَّبِيِّ لِكِتَابِ النَّصَارَى. فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي ظَاهِرِهِ مِنْ الذِّلَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ مَا فَعَلَ هَذَا بِوَلَدِهِ وَفِيهِ تَعْظِيمُ النَّصَارَى. فَإِنَّهُمْ إذَا رَأَوْا أَوْلَادَ الْمُسْلِمِينَ يَأْتُونَ إلَيْهِمْ لِيَتَعَلَّمُوا هَذِهِ الْفَضِيلَةَ مِنْهُمْ رَأَوْا أَنَّ لَهُمْ رِفْعَةً وَسُوْدُدًا وَفَضِيلَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا كُلُّهُ مَمْنُوعٌ شَرْعًا وَعَقْلًا فَيَا لَلَّهُ وَيَا لَلْعَجَبُ كَيْفَ يُتْرَكُ التَّعْلِيمُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُؤْتَى إلَى نَصْرَانِيٍّ عَدُوٍّ لِلدِّينِ وَعَدُوٍّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مُظْهِرٍ لِذَلِكَ مُعَانِدٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَهَذَا مِنْ الْخَسْفِ الْبَاطِنِيِّ الَّذِي لَا يُرْتَابُ فِيهِ وَلَا يُشَكُّ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ النَّصَارَى فِي عِلْمِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ أَحْذَقُ وَأَعْرَفُ بِالتَّعْلِيمِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّبِيُّ عَلِمَ كُلَّ مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ حَتَّى فَاقَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ إلَى النَّصْرَانِيِّ لِزِيَادَةٍ عِنْدَهُ فِيهِ لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِيهِ شَيْءٌ مَا مِنْ الْمَيْلِ إلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ وَالصَّبِيُّ بَعْدُ لَمْ يَلُمَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْحِسَابِ وَلَا غَيْرِهِ وَلَوْ عَرَفَهُ لَكَانَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْرِفُ أَكْثَرَ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَأَمْثَالِهِ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى التَّعْلِيمِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ. وَقَدْ أَقَامَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ قَدْ أَغْنَى اللَّهُ عَنْكُمْ بِالْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ نَهَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَتَّخِذَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَاتِبًا. وَقَالَ جَوَابًا لِمَنْ أَثْنَى عَلَى نَصْرَانِيٍّ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْحِذْقِ فِي الْحِسَابِ مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ أَيْضًا لَا تُكْرِمُوهُمْ وَقَدْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَأْمَنُوهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَسْتَعْمِلُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ إلَّا الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ كَمَا قَالَ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى اشْتِرَاطِ أَمِيرِ

الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْخَشْيَةَ فِيمَنْ تَوَلَّى مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَمَا بَالُك فِي حَقِّ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَإِنَّمَا هِيَ حُجَجٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَنَفْسَانِيَّةٌ وَرُكُوبٌ لِلْهَوَى وَرُكُونٌ لِلْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَتَرْكٌ لِلنَّظَرِ إلَى أَمْرِ الشَّرِيعَةِ وَمَا يُنْدَبُ إلَيْهِ مِنْ الْفَوَائِدِ الْجَمَّةِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي يَأْبَاهَا الْإِسْلَامُ وَمَنْ فِيهِ عُذُوبَةُ طَبْعٍ وَانْقِيَادٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ. وَهِيَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ النَّصْرَانِيَّ يَجْلِسُ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ وَأَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُ وَيُقَبِّلُونَ يَدَهُ أَوْ رُكْبَتَهُ حِينَ إتْيَانِهِمْ إلَيْهِ وَانْصِرَافِهِمْ وَيُقِيمُ السَّطْوَةَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْوَلَدَ يَتَرَبَّى عَلَى تَرْكِ التَّحَفُّظِ مِنْ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ نَجَاسَةٌ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ إلَّا دَمُ الْحَيْضِ لَيْسَ إلَّا وَأَبْوَالُهُمْ وَفَضَلَاتُهُمْ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ عِنْدَهُمْ وَقَدْ يُسْقَوْنَ الْأَدْوِيَةَ بِالنَّجَاسَاتِ وَيَكْتُبُونَ مِنْهَا فَتُنَجَّسُ أَجْسَادُهُمْ وَأَثْوَابُهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُعَلِّمَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ بِحَضْرَتِهِمْ وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَامِلَهَا وَحَاضِرَهَا فِي جُمْلَةِ مَنْ لَعَنَ بِسَبَبِهَا وَالْوَلَدُ الْمُسْلِمُ هُوَ حَاضِرُهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَيَكُونُ حَامِلَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ بَالِغًا أَوْ مُرَاهِقًا فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ اللَّعْنَةِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا صَغِيرًا فَاللَّعْنَةُ عَائِدَةٌ عَلَى وَالِدَيْهِ أَوْ وَلِيِّهِ أَوْ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ الْوَلَدُ مِنْ شُؤْمِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا غَيْرَ مُكَلَّفٍ وَرُبَّمَا أَمَرَهُمْ الْمُعَلِّمُ بِحَمْلِ الْخَمْرِ إلَيْهِ أَوْ إلَى بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَسْتَقْضِيَهُمْ فِي حَوَائِجِهِ وَضَرُورَاتِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ بِحَضْرَتِهِ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الِانْصِرَافِ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ أَوْ هُمَا مَعًا وَقَدْ يُمَوِّهُ عَلَيْهِمْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا أَوْ يَفُوتَهُ بَعْضُهَا. وَمِنْهَا أَنَّ الْوَلَدَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ يَعِيبُونَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ. وَمِنْهَا أَنَّهُمْ إذَا كَانَ صَوْمُهُمْ يَمْنَعُونَ الْمَاءَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَبْقَى أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ بِالْعَطَشِ غَالِبًا. وَمِنْهَا أَنَّهُ يُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ وَهُوَ الْغَالِبُ أَنْ يَقَعَ فِي اعْتِقَادِهِمْ الْبَاطِلِ أَوْ فِي بَحْثِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِي أَلْوَاحِهِمْ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا

مَكْتُوبٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ بِحَضْرَتِهِ فَقَدْ يَسْبِقُ إلَى الْوَلَدِ وَيَتَعَلَّقُ بِذِهْنِهِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يَتَأَتَّى خَلَاصُهُ مِنْهُ غَالِبًا. وَسَبَبُ وُقُوعِ هَذِهِ النَّازِلَةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمَخُوفِ وَهُوَ أَنَّهُ مَا كَانَ سَبَبُ إتْيَانِ الْوَلَدِ إلَى النَّصْرَانِيِّ لِتَعْلِيمِ الْحِسَابِ إلَّا حُبُّ الدُّنْيَا غَالِبًا لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ عُوقِبُوا عَلَى ذَلِكَ بِنَقِيضِهِ فَوَقَعُوا فِي الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ الظَّلَمَةِ مِنْ الْكَتَبَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَإِذَا تَرَبَّى الْوَلَدُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَالِ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُمَا وَهُوَ أَشَدُّهُمَا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي اعْتِقَادِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقِلَّ اهْتِبَالُهُ بِأَمْرِ دِينِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ فَأَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ مِنْهُ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يَكْتَرِثُ بِهِ وَلَا يَنْدَمُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَغِيرُ عَلَى غَيْرِهِ وَهَذِهِ خَصْلَةٌ تُنَافِي أَخْلَاقَ الْمُسْلِمِينَ وَهَدْيَهُمْ وَآدَابَهُمْ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ لَهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ الْقُلُوبِ أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ وَأَرْجَى الْقُلُوبِ لِلْخَيْرِ مَا لَمْ يَسْبِقْ الشَّرُّ إلَيْهِ وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ وَرَغَّبَ فِي أَجْرِهِ الرَّاغِبُونَ إيصَالُ الْخَيْرِ إلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَرْسُخَ فِيهَا وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ لِيُرَاضُوا عَلَيْهَا وَمَا عَلَيْهِمْ أَنْ تَعْتَقِدَهُ مِنْ الدِّينِ قُلُوبُهُمْ وَتَعْمَلَ بِهِ جَوَارِحُهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ لِكِتَابِ اللَّهِ يُطْفِئُ غَضَبَ اللَّهِ وَأَنَّ تَعْلِيمَ الشَّيْءِ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي يَدْخُلُ كُتَّابَ النَّصَارَى أَنْ يَنْتَقِشَ فِي قَلْبِهِ مَا هُمْ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضُهُ وَلَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَمِنْ أَقْبَحِ مَا فِيهِ وَأَهْجَنِهِ وَأَوْحَشِهِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتَرَبَّى عَلَى تَعْظِيمِ النَّصَارَى وَالْقِيَامِ لَهُمْ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُهُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَدَمِ الِاسْتِيحَاشِ مِنْ عَوَائِدِهِمْ وَسَمَاعِ

فصل في تزويق الألواح

اعْتِقَادِ أَدْيَانِهِمْ الْبَاطِلَةِ حَتَّى لَوْ خَرَجَ الصَّبِيُّ مِنْ مَكْتَبِهِمْ لَبَقِيَ عَلَى عَادَتِهِمْ. فِي التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَعَدَمِ الِاسْتِيحَاشِ مِنْهُمْ وَمِنْ أَدْيَانِهِمْ الْبَاطِلَةِ وَأَنَّهُ إذَا رَأَى مُعَلِّمَهُ الَّذِي عَلَّمَهُ الْحِسَابَ أَوْ الطِّبَّ قَامَ إلَيْهِ وَعَظَّمَهُ كَتَعْظِيمِ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ بَعْضٍ أَوْ أَكْثَرَ غَالِبًا وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ مَعَ كُلِّ مَنْ صَحِبَهُ فِي مَكْتَبِ مُعَلِّمِهِ النَّصْرَانِيِّ مِنْ جَمَاعَةِ أَهْلِ دِينِهِ فَيَأْلَفُ هَذِهِ الْعَادَةَ الذَّمِيمَةَ الْمَسْخُوطَةَ شَرْعًا وَلَا يَرْضَى بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ غَيْرَةٌ إسْلَامِيَّةٌ أَوْ الْتِفَاتٌ إلَى الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] وقَوْله تَعَالَى {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] . وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَفِيمَا ذُكِرَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا عَدَاهُ [فَصْلٌ فِي تَزْوِيقِ الْأَلْوَاحِ] ِ وَأَمَّا تَزْوِيقُ الْأَلْوَاحِ فِي الْإِصْرَافَاتِ وَالْأَعْيَادِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ الْجَائِزِ وَفِيهِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ فِيهِ مِنْ الْأَجْرِ مَا قَدْ عُلِمَ وَفِيهِ التَّنْشِيطُ لِلصِّبْيَانِ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ. لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ فِي الْإِصْرَافَاتِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَمِنْهَا تَزْيِينُ الْمَكْتَبِ فِي الْأَعْيَادِ وَالْإِصْرَافَاتِ بِالْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ أَرْضًا وَحِيطَانًا وَسُقُفًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شَنَاعَةُ ذَلِكَ وَقُبْحُهُ فِي زِينَةِ الْأَسْوَاقِ لِلْمَحْمَلِ أَوْ غَيْرِهِ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ

أَنْ يَكُونَ فِيهِ صُوَرٌ مِمَّا لَهَا رُوحٌ فَيَكُونُ فِي ارْتِكَابِ ذَلِكَ نَقِيضُ مَا جَلَسَ الْمُؤَدِّبُ إلَيْهِ فَإِذَا كَانَ السُّوقُ يُمْنَعُ فِيهِ ذَلِكَ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى مَوْضِعٌ يُتْلَى فِيهِ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَنْعُهُ فِيهِ أَوْجَبُ. ثُمَّ بَقِيَتْ أَفْعَالٌ يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ فِي الْإِصْرَافَاتِ وَهِيَ قَبِيحَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ. فَمِنْهَا أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَوْحَ الْإِصَْرافَةِ مُكَفَّتًا بِالْفِضَّةِ فِي خِرْقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَاسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِلنِّسَاءِ حَيْثُ أُجِيزَ لَهُنَّ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَكْفِيتُ اللَّوْحِ بِالْفِضَّةِ فَلَا يَجُوزُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ. وَالثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُيَلَاءِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ» وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يَأْخُذُونَ الصَّبِيَّ الَّذِي لَهُ الْإِصْرَافَةُ فَيُزَيِّنُونَهُ كَمَا يُزَيِّنُونَ النِّسَاءَ فَيُحَفِّفُونَهُ وَيُخَطِّطُونَهُ وَيُلْبِسُونَهُ الْحَرِيرَ وَيُحَلُّونَهُ بِالْقَلَائِدِ مِنْ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مَعَ قَلَائِدِ الْعَنْبَرِ كَأَنَّهُ عَرُوسٌ تُجْلَى وَيُرْكِبُونَهُ عَلَى فَرَسٍ أَوْ بَغْلَةٍ مُزَيَّنَةٍ بِاللِّبَاسِ مِنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَغَيْرِهِمَا فَيَجْعَلُونَ عَلَيْهَا كُنْبُوشًا مِنْ الْحَرِيرِ الْمُزَرْكَشِ بِالذَّهَبِ وَيُلْبِسُونَ وَجْهَهَا وَجْهًا مِنْ ذَهَبٍ. ثُمَّ يُضِيفُونَ إلَى ذَلِكَ أَشْيَاءَ رَذِيلَةً مِنْهَا أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَمَامَهُ أَطْبَاقًا فِيهَا ثِيَابٌ مِنْ حَرِيرٍ وَعَمَائِمَ مُعَمَّمَةٍ عَلَى صِفَةٍ ثُمَّ هُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَفْعَلُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ صِبْيَانُ الْمَكْتَبِ وَيُنْشِدُونَ فِي طَرِيقِهِ إلَى أَنْ يُوصِلُوهُ إلَى بَيْتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ الْقُرَّاءَ يَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَزِيدُونَ فِيهِ وَيُنْقِصُونَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ ثُمَّ يُضِيفُونَ إلَيْهِ الْمُكَبِّرِينَ وَالْمُؤَذِّنِينَ عَلَى عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ فِي جَنَائِزِهِمْ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَلْقَاهُمْ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَوْ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ أَوْ الْمَجْمُوعِ وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مَنْ يُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ عَمَّا ذُكِرَ بِمَا هُوَ أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ وَهُوَ أَنْ يُضْرَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالطَّبْلِ وَالْبُوقِ. وَبَعْضُهُمْ يُمْشُونَ الْفِيلَ وَالزَّرَافَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ رَمْيِ النُّقَطِ، وَبَعْضُهُمْ يُمَشِّي بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُغَنِّيَةَ وَطَائِفَتَهَا مَكْشُوفَةً عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ حَالِهَا مَعَ

ضَرْبِ الطَّارِّ وَالشَّبَّابَةِ وَالْغِنَاءِ، وَتَرْفَعُ عَقِيرَتَهَا عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ فِتْنَتِهَا فَكَانَ الْأَمْرُ أَوَّلًا لِلْفَرَحِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانُوا فِي قُرْبَةٍ فَعَكَسُوهُ بِمَا هُوَ ضِدُّهُ، أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَلَوْ كُلِّفَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِبَعْضِ مَا صَرَفَهُ فِيمَا لَا يَجُوزُ مِمَّا صَنَعَهُ فِي الْإِصْرَافَةِ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ طَاعَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى سِرًّا لَيْسَ فِيهِ لَهْوٌ وَلَا لَعِبٌ وَلَا رِيَاءٌ وَلَا سُمْعَةٌ، وَذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك ثُمَّ يُضِيفُونَ إلَى ذَلِكَ فِعْلًا قَبِيحًا وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤَدِّبِينَ يَدْخُلُونَ مَعَ صَاحِبِ الْإِصْرَافَةِ الْبَيْتَ وَيَجْلِسُونَ مَعَ النِّسَاءِ وَهُنَّ مُتَبَرِّجَاتٌ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ وَيُعْطِي اللَّوْحَ لِأُمِّ صَاحِبِ الْإِصْرَافَةِ أَوْ لِأُخْتِهِ أَوْ لِخَالَتِهِ أَوْ لِعَمَّتِهِ أَوْ لِجَارَتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقَارِبِ الْوَلَدِ وَمَعَارِفِهِ حَتَّى تُنَقِّطَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ الْفِضَّةِ بِمَا أَمْكَنَهَا وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُنَّ فَلَا يَجُوزُ لَهُنَّ أَنْ يَظْهَرْنَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُنَّ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَالضَّرُورَةُ هُنَا مَعْدُومَةٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. وَيَنْبَغِي لِوَالِدِ الصَّبِيِّ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ التَّعَبِ بِهِ وَقَرُبَ مِنْ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ نَقَلَهُ وَالِدُهُ إلَى كُتَّابٍ آخَرَ حَتَّى يُفَوِّتَ الْأَوَّلَ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ الْإِصْرَافَةِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الصَّبِيِّ إذَا دَخَلَ سُورَةَ الْأَعْرَافِ عِنْدَ مُؤَدِّبٍ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ فَإِصْرَافَةُ الْبَقَرَةِ قَدْ اسْتَحَقَّهَا الْمُؤَدِّبُ الْأَوَّلُ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا إذَا دَخَلَ سُورَةَ يُونُسَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَلْ يَسْتَحِقُّهَا الْأَوَّلُ أَوْ الثَّانِي؟ قَوْلَانِ، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِإِصْرَافَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَيْسَ إلَّا، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ إصْرَافَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ قَرُبَ إلَيْهَا الصَّبِيُّ، فَإِنَّ الْمُؤَدِّبَ الْأَوَّلَ يَسْتَحِقُّهَا. وَمِنْ كِتَابِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ تَعْلِيمِ أَوْلَادِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْكِتَابَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةِ قُرْآنٍ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ مَا أُحِبُّ ذَلِكَ يَصِيرُونَ إلَى أَنْ يَقْرَءُوا الْقُرْآنَ. قَالَ: وَسَأَلْته عَنْ تَعْلِيمِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ النَّصْرَانِيِّ كِتَابَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كِتَابَ الْأَعْجَمِيَّةِ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ

لَا أُحِبُّ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ. قَالَ: وَلَا يَتَعَلَّمُ الْمُسْلِمُ عِنْدَ النَّصْرَانِيِّ وَلَا النَّصْرَانِيُّ عِنْدَ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَمَّا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِ أَبْنَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ تَعْلِيمُهُمْ عِنْدَهُمْ فَالْكَرَاهَةُ فِي ذَلِكَ بَيِّنَةٌ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ حَبِيبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ ذَلِكَ سَخْطَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ مُسْقِطَةٌ لِإِمَامَتِهِ وَشَهَادَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْحَذَاقَةِ يَعْنِي الْإِصْرَافَةَ أَنَّهُ يُقْضَى بِهَا وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِحْضَارِ فَقَالَ: إنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْإِحْضَارِ فِي الْأَعْيَادِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا فِعْلُهُ فِي أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ وَمَكْرُوهًا فِي أَعْيَادِ النَّصَارَى مِثْلِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ فَعَلَهُ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ قَبِلَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَعْظِيمِ الشِّرْكِ.

فصل في ذكر آداب المجاهد وكيفية نيته وهديه

[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُجَاهِدِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ وَهَدْيِهِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُجَاهِدِ، وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ، وَهَدْيِهِ قَدْ تَقَدَّمَ - رَحِمَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ - آدَابُ الْعَالِمِ، وَهَدْيُهُ، وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ فَالْمُجَاهِدُ، وَغَيْرُهُ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا شَيْئًا قَلِيلًا اخْتَصَّ بِهِ الْعَالِمُ، وَشَيْئًا قَلِيلًا اخْتَصَّ بِهِ الْمُجَاهِدُ يَقَعُ ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.، وَلْتَعْلَمْ أَنَّ الْجِهَادَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: جِهَادٌ أَصْغَرُ، وَجِهَادٌ أَكْبَرُ، فَالْجِهَادُ الْأَكْبَرُ هُوَ جِهَادُ النُّفُوسِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «هَبَطْتُمْ مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذِكْرِ آدَابِ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ، وَالْكَلَامُ هُنَا إنَّمَا هُوَ عَلَى الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ، وَهُوَ: جِهَادُ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَالْعِنَادِ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَأَعْظَمِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ طَلَبُ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَعْرِفُ الْمُجَاهِدُ فَضِيلَةَ الْجِهَادِ، وَكَيْفَ يُجَاهِدُ، وَبِمَاذَا يَصِحُّ لَهُ الْجِهَادُ، وَبِمَاذَا يَفْسُدُ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَكَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ؛ لِمَا جَاءَ فِي تَفْضِيلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَالْحَدِيثُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فَرُبَّ شَخْصٍ لَيْسَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْجِهَادِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الْقُوَّةِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَالْإِقْدَامِ فَالْجِهَادُ فِي حَقِّ هَذَا يَتَأَكَّدُ أَمْرُهُ، وَآخَرُ يَكُونُ فِيهِ ذَكَاءٌ، وَفَهْمٌ، وَحِفْظٌ، وَتَحْصِيلٌ لِلْمَسَائِلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الضَّرْبِ، وَالطَّعْنِ فَطَلَبُ الْعِلْمِ لِمِثْلِ هَذَا يَتَعَيَّنُ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِحَسَبِ حَالِ الْوَقْتِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْجِهَادُ فِيهِ فَضْلٌ كَبِيرٌ جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمُجَاهِدِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الْجِهَادِ حَتَّى يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ عَمَّا يَلْزَمُهُ فِي جِهَادِهِ إنْ لَمْ يَعْلَمْهُ. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

فصل في الغنيمة

«طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ فِي مَعْنَاهُ: مَا وَجَبَ عَلَيْك عَمَلُهُ، وَجَبَ عَلَيْك الْعِلْمُ بِهِ انْتَهَى. فَيَعْرِفُ أَوَّلًا الْأَحْكَامَ اللَّازِمَةَ لَهُ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِيهِ فَيَبْدَأُ بِمَا ذَكَرَهُ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِنْ الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: شَرْطُ وُجُوبِ الْجِهَادِ سَبْعَةٌ، وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ: مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا حُرًّا مُسْتَطِيعًا بِصِحَّةِ الْبَدَنِ، وَالْمَالِ، وَفَرَائِضُهُ سِتَّةٌ: النِّيَّةُ، وَطَاعَةُ الْإِمَامِ، وَتَرْكُ الْغُلُولِ، وَالْوَفَاءُ بِالْأَمَانِ، وَالثَّبَاتُ عِنْدَ الزَّحْفِ، وَأَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ [فَصْلٌ فِي الْغَنِيمَةِ] ِ، وَالْغَنِيمَةُ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ اتَّصَفَ بِعَشَرَةِ شُرُوطٍ السَّبْعَةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا، وَأَنْ يَكُونَ خَرَجَ لِلْجِهَادِ لَا لِلتِّجَارَةِ، وَلَا لِلْإِجَارَةِ، وَأَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ حَصَلَتْ بِالْقِتَالِ أَوْ مَا أُوجِفَ عَلَيْهِ بِالْخَيْلِ، وَالرِّكَابِ [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْأَسَارَى] وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَسَارَى بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الْقَتْلُ، وَالِاسْتِرْقَاقُ، وَالْمَنُّ، وَالْفِدَاءُ، وَالْجِزْيَةُ [فَصْلٌ فِي الْأَوْصَافِ الْمُوجِبَةِ لِلْجِزْيَةِ] ِ الْجِزْيَةُ وَاجِبَةٌ بِعَشَرَةِ أَوْصَافٍ: الْكُفْرُ، وَالْإِقَامَةُ عَلَيْهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا حُرًّا غَيْرَ مُعْتَقٍ لِمُسْلِمٍ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهَا، وَلَا يَكُونَ قُرَشِيًّا، وَلَا مُرْتَدًّا [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّينَ] َ دَارُ الْمُرْتَدِّينَ تُفَارِقُ دَارَ الْحَرْبِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَا يُهَادَنُونَ عَلَى الْإِقَامَةِ بِبَلَدِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُصَالَحُونَ عَلَى مَالٍ يُقَرُّونَ بِهِ عَلَى رِدَّتِهِمْ. الثَّالِثُ: لَا تُسْتَرَقُّ رِجَالُهُمْ، وَلَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ. الرَّابِعُ: لَا يَمْلِكُ الْغَانِمُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَهِيَ أَيْضًا تُفَارِقُ دَارَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ مُقْبِلِينَ، وَمُدْبِرِينَ

فصل في قتال الفئة الباغية

كَالْمُشْرِكِينَ. الثَّانِي: إبَاحَةُ دِمَائِهِمْ أَسْرَى، وَمُمْتَنِعِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَمْوَالَهُمْ تَصِيرُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ. الرَّابِعُ: بُطْلَانُ مُنَاكَحَتِهِمْ [فَصْلٌ فِي قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ] ِ، وَهِيَ الَّتِي تُفَارِقُ الْإِمَامَ، وَرَأْيَ الْجَمَاعَةِ، وَتَنْفَرِدُ بِمَذْهَبٍ مُبْتَدَعٍ، وَتَنْعَزِلُ بِدَارٍ، وَيُفَارِقُ قِتَالُهُمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَجْهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ بِنِيَّةِ رَدْعِهِمْ، وَلَا يُتَعَمَّدُ بِهِ قَتْلُهُمْ. الثَّانِي: يُقَاتَلُونَ مُقْبِلِينَ، وَيُكَفُّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ. الثَّالِثُ: لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ. الرَّابِعُ: لَا تُقْتَلُ أَسْرَاهُمْ. الْخَامِسُ: لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ. السَّادِسُ: لَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ. السَّابِعُ: لَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ. الثَّامِنُ: لَا يُهَادَنُونَ عَلَى الْإِقَامَةِ بِبَلَدِهِمْ. التَّاسِعُ: لَا يُصَالَحُونَ عَلَى مَالٍ يُقَرُّونَ بِهِ عَلَى بِدْعَتِهِمْ. الْعَاشِرُ: لَا يُسْتَعَانُ عَلَى قِتَالِهِمْ بِمُشْرِكٍ. الْحَادِيَ عَشَرَ: لَا يُنْصَبُ عَلَيْهِمْ الرَّعَّادَاتُ. الثَّانِي عَشَرَ: لَا تُحَرَّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتُهُمْ. الثَّالِثَ عَشَرَ: لَا تُقْطَعُ أَشْجَارُهُمْ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمُحَارِبِينَ] َ قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ كَقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ إلَّا فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ يُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُتَعَمَّدَ فِي الْحَرْبِ قَتْلُهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ حَبْسُ أَسْرَاهُمْ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِمْ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ ضَامِنُونَ لِمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ فِي الْحَرْبِ، وَغَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ بَعْدَ انْجِلَاءِ الْحَرْبِ. الْخَامِسُ: أَنَّ مَا أَخَذُوهُ مِنْ خَرَاجٍ، وَصَدَقَاتٍ فَهُوَ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا فَعَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ غُرْمُهُ فَإِذَا تَحَصَّلَ عِنْدَهُ مَعْرِفَةُ مَا ذُكِرَ فَلْيَكُنْ عَالِمًا بِأَحْكَامِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْحَالَتَيْنِ مِنْ قِتَالٍ، وَغَيْرِهِ، وَكَيْفِيَّةِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَلْزَمُهُ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَمَسَائِلُهُ. ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ ذِكْرِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا، وَذَلِكَ

يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ أَحْكَامَ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، وَفِي أَيِّ وَقْت يَقْصُرُ، وَفِي أَيِّ وَقْت يُتِمُّ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مُتَيَسَّرٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ لِمَنْ جَاءَ إلَيْهِمْ مُسْتَفْتِيًا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ عِمَادُ الدِّينِ، وَبِهَا قِوَامُهُ فَإِذَا كَانَ الْمُجَاهِدُ يُخِلُّ بِهَا أَوْ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا كَانَ تَرْكُهُ لِلْجِهَادِ أَوْلَى بِهِ بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ. فَإِذَا تَعَيَّنَ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَانَ عَاصِيًا، وَإِنْ كَانَ مُجَاهِدًا. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى؛ لِأَنَّا نَرَى، وَنُبَاشِرُ مَنْ يَخْرُجُ إلَى الْجِهَادِ، وَغَالِبُ أَحْوَالِهِمْ عَدَمُ الْفِقْهِ، وَعَدَمُ الْمَعْرِفَةِ بِكُلِّ مَا ذُكِرَ أَوْ بِأَكْثَرِهِ، وَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ مِنْهُمْ يَجْتَمِعُ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيَسْأَلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فِيمَا ذُكِرَ سِيَّمَا صَلَاةُ الْخَوْفِ الَّتِي مَا بَقِيَتْ تُعْرَفُ عَنْهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَلَا تُذْكَرُ إلَّا فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ كَأَنَّهَا حِكَايَةٌ تُحْكَى سِيَّمَا صَلَاةُ الْمُسَايَفَةِ فَإِنَّهَا كَادَتْ لَا تُعْرَفُ أَيْضًا لِعَدَمِ فَاعِلِهَا، وَقِلَّةِ السُّؤَالِ عَنْهَا فَيَخْرُجُ الْمُجَاهِدُ، وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ فِي طَاعَةٍ، وَهُوَ يَقَعُ فِي مُخَالَفَاتٍ جُمْلَةً لِعَدَمِ التَّلَبُّسِ بِمَعْرِفَةِ مَا ذُكِرَ، وَقَدْ يَكُونُ سَبَبًا إلَى وُقُوعِ الرُّعْبِ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْعَدُوِّ، وَانْهِزَامِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فَإِنَّ الْعَدُوَّ إنَّمَا يُسْتَعَدُّ لَهُ بِإِقَامَةِ هَذَا الدِّينِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - نَصْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ هُوَ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ سَبَبًا لِنُصْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَأَمْنِهِ مِمَّا يَخَافُ سِيَّمَا، وَالْمُجَاهِدُ إنَّمَا يُجَاهِدُ لِأَجْلِ الدِّينِ، وَالصَّلَاةُ هِيَ عِمَادُهُ، وَبِهَا قِوَامُهُ، وَقَدْ، وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَاءَهُ كِتَابٌ مِنْ بَعْضِ جُيُوشِهِ بِالشَّامِ، وَهُمْ يُخْبِرُونَهُ فِيهِ بِأَنَّهُمْ قَدْ افْتَتَحُوا الْبَلْدَةَ الَّتِي نَزَلُوا بِهَا، وَكَانَ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ أَهْلِهَا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الزَّوَالِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَبْكِي، وَالنَّصْرُ لَنَا، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا الْكُفْرُ يَقِفُ أَمَامَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَدْوَةٍ إلَى الزَّوَالِ إلَّا مِنْ أَمْرٍ أَحْدَثْتُمُوهُ أَنْتُمْ أَوْ أَنَا فَانْظُرْ إلَى مَا قَرَّرَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا نَظَرَ فِي النَّصْرِ، وَعَدَمِهِ إلَّا بِصَلَاحِ الْحَالِ، وَفَسَادِهِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ

وَرَبِّهِ فَأَيْنَ هَذَا الْحَالُ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ حَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَفِي كَوْنِهِمْ يُخْرِجُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَيَقْضُونَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَعْنِي جَوَازَ إخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَالْعُذْرُ الشَّرْعِيُّ إنَّمَا هُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ أَوْ اسْتِتَارُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَايِفَ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُضَارِبُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ، وَهُوَ يُصَلِّي، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِأَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ، وَيُكَبِّرُ، وَيَقْرَأُ، وَكَذَلِكَ الْغَرِيقُ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي حَالِ غَرَقِهِ، وَالْمَصْلُوبُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ صَلَاتُهُمْ إنَّمَا هِيَ بِالْإِيمَاءِ، وَاللِّسَانِ، وَاغْتُفِرَ فِي حَقِّهِمْ، وَمَنْ شَابَهَهُمْ تَرْكُ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ جُمْلَةً فِي حَالِ صَلَاتِهِمْ إذْ ذَاكَ خِيفَةً عَلَى الْوَقْتِ أَنْ يَخْرُجَ فَلَوْ تَرَكَ أَحَدُهُمْ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ عَاصِيًا، وَإِنْ قَضَاهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا. ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا مُتَعَمِّدًا هَلْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ أَمْ لَا؟ فَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ آثِمٌ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ التَّأْخِيرِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ مُرْتَدٌّ، وَحُكْمُهُ مَعْرُوفٌ. وَمَا ذُكِرَ فِي حَقِّ الْمُجَاهِدِ مِنْ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا هُوَ مَوْجُودٌ بِعَيْنِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحُجَّاجِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُحَصِّلُونَ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهِمْ بِخِلَافِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ فَقَلَّ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ مَسَائِلِ التَّيَمُّمِ، وَقَصْرِ الصَّلَاةِ، وَإِتْمَامِهَا، وَأَحْكَامِ الْحَجِّ، وَمَنَاسِكِهِ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ فَالْغَالِبُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَعْتَنُونَ فِي الْمَنَاسِكِ بِأَدْعِيَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى قَانُونٍ مَعْرُوفٍ فَيُعَوِّلُونَ عَلَيْهَا، وَيَتْرُكُونَ ذِكْرَ الْأَحْكَامِ فِي الْغَالِبِ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعْيِينَ الدُّعَاءِ لِبَعْضِ الْأَرْكَانِ، وَقَالَ هَذِهِ بِدْعَةٌ إنَّمَا يَذْكُرُ اللَّهَ، وَيَدْعُو بِمَا يَمُرُّ بِبَالِهِ أَوْ كَمَا قَالَ. ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ أَمْرِ الْجِهَادِ فَمِنْ أَهَمِّ مَا يُقَدَّمُ فِيهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَيْهِ، وَعِنْدَهُ حُسْنُ النِّيَّةِ، وَاهْتِمَامُهُ بِهَا، وَالتَّعْوِيلُ عَلَيْهَا. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانُهَا أَتَمَّ بَيَانٍ

حِينَ جَاءَهُ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ، وَمَا رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فَقَدْ اتَّضَحَ، وَبَانَ مَا يَنْوِي الْمُجَاهِدُ حِينَ خُرُوجِهِ، وَتَلَبُّسِهِ بِالْقِتَالِ. وَأَمَّا مَا يَقَعُ لَهُ بَعْدَ تَصْحِيحِ نِيَّتِهِ فَغَيْرُ مَا نَوَاهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ قَالَ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَأَجَابَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ يُقَاتِلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا لَا يَضُرُّهُ مَا اعْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِ غَضَبًا أَوْ حَمِيَّةً أَوْ مَا أَشْبَهَهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَنَزَغَاتِهِ، وَهَوَاجِسِ النُّفُوسِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ رَفَعَ ذَلِكَ عَنَّا، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِتَرْكِ الْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهِ بِبَرَكَةِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] الْآيَةَ ضَجَّ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَأَتَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا الصَّلَاةَ، وَالصَّوْمَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ فَقَبِلْنَاهُ، وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي نُفُوسِنَا فَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ أَوْ كَمَا قَالُوا فَعَلَّمَهُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأَدَبَ مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ قَالَ: أَتَقُولُونَ مِثْلَ مَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ سَمِعْنَا، وَعَصَيْنَا،، وَلَكِنْ قُولُوا: سَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا فَقَالُوا: سَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَرَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِصْرَ عَنْهُمْ، وَعَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْوَسَاوِسِ، وَالْهَوَاجِس. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي نَحْنُ بِسَبِيلِهِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَنْ «جَاءَهُ أَصْحَابُهُ يَشْكُونَ لَهُ مِمَّا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالُوا: إنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ لِهَذَا» فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ يَعْنِي فِي دَفْعِهِ، وَتَعَاظُمُ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ لَا فِي نَفْسِ وُقُوعِهِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي

رَدَّ كَيْدَهُ لِهَذَا، وَذَلِكَ أَنَّ إبْلِيسَ اللَّعِينَ لَمْ يَقْنَعْ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى جَعَلَهُمْ يَنْشُرُونَ خَشَبًا، وَيَنْحِتُونَ حِجَارَةً، وَيَجْعَلُونَهَا صُوَرًا يَسْجُدُونَ لَهَا، وَيَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمْ قَدْ صَنَعُوهَا بِأَيْدِيهِمْ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ، وَانْتَشَرَ أَيِسَ إبْلِيسُ اللَّعِينُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَلَمْ تَبْقَ لَهُ حِيلَةٌ إلَّا الْوَسْوَاسُ، وَالْهَوَاجِسُ الْمُشَوِّشَةُ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ لِهَذَا. فَحَمِدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ عَلَى كَوْنِ اللَّعِينِ عَجَزَتْ قُدْرَتُهُ عَنْ جَمِيعِ الْحِيَلِ إذْ أَنَّ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الْحِيَلِ إلَّا الْوَسْوَاسُ، وَالْهَوَاجِسُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ مَنْ وَقَعَ لَهُ، وَلَوْ وَقَفَ الْمُكَلَّفُ مَعَ مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الْهَوَاجِسِ قَلَّ أَنْ يَتَأَتَّى لَهُ أَدَاءُ عِبَادَةٍ بِسَبَبِ تَسْلِيطِهِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُقَاتِلُ أَوَّلًا بِنِيَّةِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنْ يَحْتَسِبَ نَفْسَهُ، وَمَالَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] إلَى آخِرِ الْآيَةِ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّدَفِيُّ الْمَشْهُورُ بِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «عَبَّانَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَدْرٍ لَيْلًا» ، وَالتَّعْبِيَةُ هِيَ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ، وَتَقْدِمَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بَيْنَ يَدَيْ الْقِتَالِ مِنْ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لِيُرْجَى بِهِ الظَّفَرُ، وَالنَّصْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] ثُمَّ الْإِدَارَةُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَالْخَدِيعَةُ لَهُ مِنْ أَسْبَابِ الظَّفَرِ. أَخْرَجَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» ، وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوًا وَرَّى عَنْهُ بِغَيْرِهِ» . وَمِنْ الْخُدَعِ فِي الْحَرْبِ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْأَحْزَابِ. رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ، وَكَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَامَ الْأَحْزَابِ، وَكَانَ يَأْتِي

النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَوْمًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ مَالُوا عَلَيْك فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ فَأَتَى الرَّجُلُ أَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ هَلْ عَلِمْت مُحَمَّدًا يَقُولُ مَا لَيْسَ هُوَ، قَالَ: لَا، قَالَ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ قَالَ سَنَنْظُرُ فَأَرْسَلَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ نُحِبُّ أَنْ تُعْطُونَا رَهَائِنَ، وَوَافَقَ ذَلِكَ أَنْ كَانَ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِلْقَدَرِ الْمَقْدُورِ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي السَّبْتِ فَإِنْ انْقَضَى فَعَلْنَا فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ نَحْنُ فِي مَكْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا، وَجُنُودًا لَمْ يَرَوْهَا {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] . وَكَانَتْ هَذِهِ مِنْ الْخُدَعِ الَّتِي خَدَعَهُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْهُ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ سَمِعْته يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو عَلَى الْأَحْزَابِ «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ، وَزَلْزِلْهُمْ» فَهَذَا الدُّعَاءُ يَنْبَغِي أَنْ يُدْعَى بِهِ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهُ عَنْ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنْ يَأْتِكُمْ الْعَدُوُّ فَقُولُوا حم لَا يُنْصَرُونَ» ، وَمِنْهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَخَلَ مَكَّةَ، وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ» . وَمِنْهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ، وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ» ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ أَيْ اُطْلُبُونِي أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُمْ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «أَنَا مَعَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي» فَإِذَا كَانَ اللَّهُ مَعَهُمْ فَهُمْ مَنْصُورُونَ، وَيُرِيدُ بِالضُّعَفَاءِ، - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ظُهُورٌ فِي الدُّنْيَا، وَهُمْ طَالِبُونَ لَهَا، وَهُمْ زَاهِدُونَ فِي دُنْيَاهُمْ رَاغِبُونَ فِي آخِرَتِهِمْ طَائِعُونَ لِلَّهِ تَعَالَى نَاصِرُونَ لِدِينِهِ فَهُمْ مَنْصُورُونَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] ، وَقَالَ {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] أَيْ بِالنَّصْرِ، وَالْمَعُونَةِ أَيْ

مَعَ الصَّابِرِينَ عَنْ الْمُشْتَهَيَاتِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالصَّابِرِينَ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَجِهَادِ الْكُفَّارِ فَاَللَّهُ نَاصِرُهُمْ، وَمُعِينُهُمْ. رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حِينَ بَعَثَهُ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ: احْرِصْ عَلَى الْمَوْتِ تُوهَبْ لَك الْحَيَاةُ. وَوَجَّهَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْمًا إلَى الْغَزْوِ فَقَالَ: أَلْزِمُوا قُلُوبَكُمْ الصَّبْرَ فَإِنَّهُ سَيْفُ الظَّفَرِ، وَاذْكُرُوا كَثْرَةَ الضَّغَائِنِ فَإِنَّهُمَا تَحُضُّ عَلَى الْإِقْدَامِ، وَالْزَمُوا الطَّاعَةَ فَإِنَّهَا حِصْنُ الْمُحَارِبِ. وَمِنْ الْحِكْمَةِ: قُوَّةُ النَّفْسِ فِي الْحَرْبِ عَلَامَةُ الظَّفَرِ. وَمِنْهَا: تَقَحُّمُ الْحَرْبِ يُنْجِحُ الْقَلْبَ، وَمِنْهَا: الْهَزِيمَةُ تَحِلُّ الْعَزِيمَةَ. وَمِنْهَا: الْحِيَلُ أَبْلَغُ مِنْ الْعَمَلِ، وَمِنْهَا: الرَّأْيُ السَّدِيدُ أَجْدَى مِنْ الْأَيْدِ الشَّدِيدِ. وَمِنْهَا: شِدَّةُ الصَّبْرِ فَاتِحَةُ النَّصْرِ ، وَيَنْبَغِي الْمَشُورَةُ فِي الْقِتَالِ، وَفِي كُلِّ أَمْرٍ يَعْرِضُ. ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «مَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي مَشُورَةُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ، وَدِينٌ، وَتَجَارِبُ. مِنْ كَلَامِ الْحِكْمَةِ تَوَقَّ مَشُورَةَ الْجَاهِلِ. وَمِنْهَا: لَا تُشَاوِرُ مَنْ تَمِيلُ بِهِ رَغْبَتُهُ أَوْ رَهْبَتُهُ. أَخْرَجَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ بِالْإِسْنَادِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» ، وَمِنْهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا تُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» ، وَمِنْهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، - وَرَحِمَهُ - هَذِهِ الطَّائِفَةُ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ. ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى ذِكْرِ بَعْضِ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ الصَّفْقَتَيْنِ جَمِيعًا. بَيَانُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنْفُسًا هُوَ خَلَقَهَا، وَأَمْوَالًا هُوَ رَزَقَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ أَقُولُ أَيْضًا هُوَ خَالِقُ فِعْلِ الْمُجَاهِدِ فِي قُدْرَتِهِ، وَعَزْمِهِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَرَغْبَتِهِ فَكُلُّ ذَلِكَ فَضْلُهُ، وَنِعْمَتُهُ، وَمِنَّتُهُ قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى يُسْدِي عَلَى أَيْدِينَا الْخَيْرَ، وَيَمْنَحُ عَنْ أَيَادِيهِ الْجَزَاءَ، وَرُوِيَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ «الْأَنْصَارَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرِطْ لِرَبِّك، وَلِنَفْسِك مَا شِئْت قَالَ: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟ قَالَ: لَكُمْ الْجَنَّةُ قَالُوا: رَبِحَ الْبَيْعُ قَالُوا لَا نَقِيلُ، وَلَا نَسْتَقِيلُ» . وَمَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَابِيٌّ، وَهُوَ يَقْرَأُ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الْآيَةَ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ كَلَامُ مَنْ؟ قَالَ: كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: بَيْعٌ، وَاَللَّهِ صَرِيحٌ لَا نَقِيلُهُ، وَلَا نَسْتَقِيلُهُ فَخَرَجَ إلَى الْغَزْوِ فَاسْتُشْهِدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [التوبة: 111] قَالَ هَذَا وَعْدٌ مُؤَكَّدٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، وَعْدٌ ثَابِتٌ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْقُرْآنِ. وَعَنْ الْجَوْهَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَاهِيك مِنْ صَفْقَةٍ الْبَائِعُ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالثَّمَنُ جَنَّةُ الْمَأْوَى، وَالْوَاسِطَةُ مُحَمَّدٌ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي ذَلِكَ قِيلَ أَكْرِمْ بِهَا صَفْقَةً فَالرَّبُّ عَاقِدُهَا ... عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مُضَرِ أَثْمَانُهَا جَنَّةٌ نَاهِيك مِنْ نُزُلٍ ... دَارٌ بِهَا نِعَمٌ تَخْفَى عَنْ الْبَشَرِ أَنْوَاعُ مَطْعَمِهَا مِنْ كُلِّ شَهْوَتِنَا ... شَرَابُهَا عَسَلٌ صَافٍ مِنْ الْكَدَرِ مِنْ كُلِّ مَا لَذَّةٍ طَابَتْ مَوَارِدُهَا ... وَحُورُهَا دُرَرٌ تَزْهُو عَلَى الْقَمَرِ

أَنَّى لَهَا ثَمَنٌ دُنْيَا بِهَا مِحَنٌ ... لَمْ يَصْفُ مَشْرَبُهَا يَوْمًا لِمُعْتَبِرِ ثُمَّ قَالَ {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111] ؛ لِأَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ إنَّمَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ لِأَحَدِ أُمُورٍ أَوْ مَجْمُوعِهَا، وَذَلِكَ: لِبُخْلٍ أَوْ شُحٍّ خَوْفَ الْفَقْرِ أَوْ مَحَبَّةَ الِازْدِيَادِ مِنْ الشَّهَوَاتِ أَوْ لِعَجْزٍ أَوْ لِنِسْيَانٍ، وَذُهُولٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآفَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ إذَا فُهِمَتْ مَعَانِيهَا، وَحَضَرْتَ بِخُلُوِّ الْقَلْبِ، وَشُرُوطِ الِاسْتِمَاعِ لَتَالِيهَا لَا تَطْلَبُ فِي التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ زِيَادَةً عَلَيْهَا، وَلَا انْضِمَامَ شَيْءٍ مِنْ الْمُؤَكَّدَاتِ إلَيْهَا، وَذَكَرَ بِسَنَدِهِ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ عَنْ صَلَاةٍ، وَلَا صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِعَ» ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157] فَهَذَا وَعْدٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ إذْ أَنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ أَوْ الْمَوْتَ مُقْتَرِنٌ بِهِمَا الْمَغْفِرَةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَخَبَرُهُ تَعَالَى، وَوَعْدُهُ حَقٌّ، وَتَأْكِيدُهُ بِالْقَسَمِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ، وَتَحْقِيقٌ لِفَضْلِهِ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ. أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يَخْرُجُ إلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانًا بِي، وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ إنْ مَاتَ أَوْ أَرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْت خَلْفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلُهُمْ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً فَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ» قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادًا فِي

سَبِيلِي، وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي فِي هَذَا حَضٌّ عَلَى النِّيَّةِ، وَتَخْلِيصِهَا مِنْ الشَّوَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَهِيَ الشَّهَادَتَانِ، وَعُلُوُّ الْمُسْتَمْسِكِ بِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ إذَا عَلَا بِالضَّرُورَةِ تَكُونُ الشَّهَادَتَانِ، وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ السُّفْلَى فَيَقْصِدُ بِالْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ هَذَا مُخْلِصًا، وَيَبِيعُ نَفْسَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجَنَّةِ الَّتِي وَعَدَهَا فِي الْقُرْآنِ أَوْ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ ابْتِغَاءَ الْجَنَّةِ، وَعُلُوَّ الْكَلِمَتَيْنِ فَإِذَا صَحَّ قَصْدُهُ نَالَ مِنْ اللَّهِ مَا وَعَدَهُ. وَقَوْلُهُ فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ قِيلَ مَعْنَاهُ مَضْمُونٌ. وَقَوْلُهُ أَوْ أَرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ أَجْرٍ، وَغَنِيمَةٍ. ، وَالْكَلْمُ الْجُرْحُ، وَبِإِسْنَادِهِ إلَى مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» فِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى النِّيَّةِ. وَمِنْهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا» ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ «خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ.» الْغَدْوَةُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ السَّيْرُ إلَى الزَّوَالِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالرَّوْحَةُ السَّيْرُ مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ مَرَّةً وَاحِدَةً. فَالْمَعْنَى أَنَّ ثَوَابَ هَذِهِ الْغَدْوَةِ، وَالرَّوْحَةِ الْوَاحِدَةِ، وَفَضْلَهَا، وَنَعِيمَهَا عَلَى قِلَّتِهَا، وَيَسَارَتِهَا، وَخِفَّتِهَا خَيْرٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا كُلِّهَا عَلَى كَثْرَتِهَا فَإِنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ، وَنِعَمَ الْآخِرَةِ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ أَوْ الْمَعْنَى أَنَّ الدُّنْيَا لَوْ نَالَهَا مَلِكٌ بِأَسْرِهَا، وَأَنْفَقَهَا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَأَجْرِهَا لَكَانَ جَزَاءُ هَذِهِ الْغَدْوَةِ، وَالرَّوْحَةِ أَكْثَرَ، وَفَضْلُهَا أَعْظَمَ، وَأَكْبَرَ. وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِم مُتَّصِلًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ (يَا أَبَا سَعِيدٍ «مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفَعَلَ

ثُمَّ قَالَ، وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ قَالَ، وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» الدَّرَجَاتُ: الْمَنَازِلُ فِي الْجَنَّةِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ قَالَ تَعَالَى {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20] ، وَمِنْهُ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ كُنْت عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنْ إذَا صَلَّيْت الْجُمُعَةَ دَخَلْت لِأَسْتَفْتِيَهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ، وَجَلَّ {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19] الْآيَةَ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ، وَنَفْسِهِ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ، وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِي غَنِيمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إلَّا فِي خَيْرٍ» ) فَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْجِهَادِ، وَشَرَفُهُ، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الِاكْتِسَابَ مِنْهُ خَيْرُ كَسْبٍ إذَا خُمِّسَ الْمَغْنَمُ، وَلَمْ يَسْتَأْثِرْ عَلَى الْغَازِينَ بِشَيْءٍ إلَّا مَا الضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ مِثْلُ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، وَشِبْهِهِمَا مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي السُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْكِتَابِ الْعَزِيزِ. ، وَالْهَيْعَةُ

الصَّوْتُ الْمُفْزِعُ. وَالطَّيَرَانُ هُوَ إغَاثَةُ الْمُسْتَغِيثِ بِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ فِي الْفِعْلِ الْمُسْرِعِ، وَالشَّعَفُ رُءُوسُ الْجِبَالِ. وَفِيهِ حَضٌّ عَلَى الِانْزِوَاءِ عَنْ النَّاسِ، وَالِاعْتِزَالِ؛ لِمَا فِي الْمُخَالَطَةِ مِنْ آفَاتِ الْقِيلِ، وَالْقَالِ، وَهَذَا الِانْزِوَاءُ، وَالِاعْتِزَالُ إنَّمَا يُحْمَدُ إذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ فَرْضُ الْجِهَادِ، وَالْقِتَالِ أَوْ فَرْضٌ مِنْ الْفُرُوضِ عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ. مِنْهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْت أَبِي، وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ يَا أَبَا مُوسَى أَأَنْت سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ هَذَا قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَرَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ السَّلَامَ ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، وَأَلْقَاهُ ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْنِي أَنَّ الْجِهَادَ، وَحُضُورَ الْمَعَارِكِ سَبَبٌ لِدُخُولِهَا، وَمُقَرِّبٌ إلَيْهَا، وَيَظْهَرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مَكَانَ الْمَعْرَكَةِ، وَجِلَادَ الْكُفَّارِ مِنْهُ تُنْقَلُ رُوحُ الشَّهِيدِ حِينَ الشَّهَادَةِ، وَتُدْخَلُ الْجَنَّةَ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَصَحِيحِ الْأَخْبَارِ. وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ عَمِّي الَّذِي سُمِّيتُ بِهِ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدْرًا قَالَ فَشَقَّ عَلَيْهِ قَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُيِّبْت عَنْهُ، وَلَئِنْ أَشْهَدَنِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ قَالَ فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا قَالَ فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُحُدًا قَالَ، وَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ؟ قَالَ، وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ قَالَ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ قَالَ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ، وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ، وَطَعْنَةٍ، وَرَمْيَةٍ قَالَ: وَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ فَمَا عَرَفْت أَخِي إلَّا بِبَنَانِهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} [الأحزاب: 23] قَالَ فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، وَفِي أَصْحَابِهِ. قَوْلُهُ، وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ كَلِمَةُ تَلَهُّفٍ، وَحُنَيْنٍ، وَشَوْقٍ إلَى الْجَنَّةِ، وَتَمَنٍّ لَا جَرَمَ لَمَّا صَدَقَ أُعْطِيَ

فصل في الرمي وفضيلته

سُؤْلَهُ، وَبَلَغَ مِمَّا تَمَنَّى مَأْمُولَهُ، وَأَوْجَدَهُ اللَّهُ رِيحَ الْجَنَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ السَّعَادَةِ، وَتَكْرِمَةٌ لِمَنْ كُتِبَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ. وَمِنْ مُسْنَدِ النَّسَائِيّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «أَنَا زَعِيمٌ، وَالزَّعِيمُ الْحَمِيلُ لِمَنْ آمَنَ، وَأَسْلَمَ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ، وَبِبَيْتٍ فِي، وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ لَهُ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا، وَلَا مِنْ الشَّرِّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ يَمُوتُ» . وَمِنْ مُسْنَدِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ قَالَ: إنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . ، وَمِنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ» ، وَمِنْهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ فَقَدْ غَزَا» ، وَمِنْهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: لَحِقَنِي عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، وَأَنَا مَاشٍ إلَى الْجُمُعَةِ فَقَالَ أَبْشِرْ فَإِنَّ خُطَاك هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَمِعْت أَبَا عَبْسٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمَا حَرَامٌ عَلَى النَّارِ» انْتَهَى كَلَامُ الصَّدَفِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَبُو عَبْسٍ هَذَا اسْمُهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ هُوَ رَجُلٌ شَامِيٌّ رَوَى عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَيَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ غَيْرَ وَاحِدٍ. ثُمَّ قَالَ الصَّدَفِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدُخَانُ جَهَنَّمَ» [فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ وَفَضِيلَتِهِ] ِ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنْبِلَهُ» ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ «كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ» ، وَمِنْ مُسْنَدِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ لَهُ عَدْلُ مُحَرَّرٍ» . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَفَرٍ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي، وَأَنْتَ مَعَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْمُوا، وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ» . وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُونَ، وَيَكْفِيكُمْ اللَّهُ فَلَا يَعْجِزُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ» ، وَمِنْهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ أَنَّ نُعَيْمًا اللَّخْمِيَّ قَالَ لَهُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ تَخْتَلِفُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ، وَأَنْتَ كَبِيرٌ يَشُقُّ عَلَيْك فَقَالَ: عُقْبَةُ لَوْلَا كَلَامٌ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ أُعَانِهِ فَقِيلَ لِابْنِ شِمَاسَةَ، وَمَا ذَاكَ قَالَ: إنَّهُ قَالَ: «مَنْ عُلِّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى» ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ لَيْسَ مُتَّبِعًا لَنَا، وَلَا مُهْتَدِيًا بِهَدْيِنَا تَارِكُ الرَّمْيِ. ، وَكَتَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَهْلِ حِمْصَ عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمْ السِّبَاحَةَ، وَالرِّمَايَةَ، وَالْفُرُوسِيَّةَ، وَالِاحْتِفَاءَ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ، وَقَالَ: احْتَفُوا، وَتَجَرَّدُوا، وَاخْشَوْشِنُوا، وَتَمَعْدَدُوا، وَاقْطَعُوا الرَّكْبَ، وَانْزُوَا عَلَى الْخَيْلِ نَزْوًا، وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ إيَّاكُمْ وَلِبَاسَ الْعَجَمِ الْبَسُوا الْأُزُرَ

فصل في الرباط وفضله

وَالْأَرْدِيَةَ، وَأَلْقُوا السَّرَاوِيلَاتِ، وَاسْتَقْبِلُوا حَرَّ الشَّمْسِ بِوُجُوهِكُمْ فَإِنَّهَا شَامَاتُ الْعَرَبِ، وَاطْرَحُوا الْخِفَافَ، وَالْبَسُوا النِّعَالَ [فَصْلٌ فِي الرِّبَاطِ وَفَضْلِهِ] ِ، وَذِكْرِ الْخَيْلِ، وَفَضْلِهَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلَّا الَّذِي يَمُوتُ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ» . أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ: فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيلَهَا ذَلِكَ فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا، وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا، وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا، وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا، وَرِيَاءً، وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ» ، وَمِنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، وَمِنْهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُئِيَ يَمْسَحُ، وَجْهَ فَرَسِهِ بِرِدَائِهِ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنِّي عُوتِبْت اللَّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ» ، وَرَوَى الْعُتْبِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة هَلْ الرُّجُوعُ لِثَغْرِهِمْ، وَالْكَوْنُ فِيهِ لِلْحَرَسِ، وَسَدُّهُ أَفْضَلُ

أَمْ الْمَقَامُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، وَأَزْكَى التَّحِيَّاتِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ أَفْضَلُ؟ فَرَجَّحَ لَهُمْ الرُّجُوعَ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة، وَالْكَوْنَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْحَرْسُ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ؛ لِأَنَّ الْحَرْسَ فِيهِ حِفْظُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْغَزْوُ فِيهِ إرَاقَةُ دِمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَحِفْظُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى. أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «عَيْنَانِ لَا تَمَسَّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَمِنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ لَقِيَ اللَّهَ، وَفِيهِ ثُلْمَةٌ» ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت عُثْمَانَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: إنِّي كَتَمْتُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرَاهِيَةَ نُفُورِكُمْ عَنِّي ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ لِيَخْتَارَ امْرُؤٌ لِنَفْسِهِ مَا بَدَا لَهُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ» قَالَ: أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَمِنْهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ عَزَّ، وَجَلَّ مِنْ قَطْرَتَيْنِ، وَأَثَرَيْنِ قَطْرَةُ دُمُوعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى» قَالَ: ابْنُ حَبِيبٍ الرِّبَاطُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْجِهَادِ. وَقِيلَ مَنْ رَابَطَ فَوَاقَ نَاقَةٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فَوَاقَ نَاقَةٍ قَدْرُ مَا تُحْلَبُ، وَقَالَ غَيْرُهُ قَدْرُ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَحَرْسُ لَيْلَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ صِيَامِ أَلْفِ يَوْمٍ أَصُومُهَا، وَأَقُومُ لَيْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَغِي لِكُلِّ قَوْمٍ أَنْ يُرَابِطُوا فِي نَاحِيَتِهِمْ، وَأَنْ يُمْسِكُوا سَوَاحِلَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَكَانًا مَخُوفًا يُخَافُ فِيهِ عَلَى الْعَامَّةِ يُرِيدُ فَلْيَذْهَبْ إلَيْهِ. وَمِنْ الْحَرْسِ

فصل في فضل الشهادة

فِي الثُّغُورِ حَفْرُ الْخَنَادِقِ، وَالِاحْتِسَابُ فِي حَفْرِهَا مُسْتَنِّينَ فِي ذَلِكَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَطْعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْحَجَرِ الَّذِي أَعْيَتْ الصَّحَابَةَ الْحِيلَةُ فِي كَسْرِهِ. أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «لَمَّا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ عَرَضَ لَنَا حَجَرٌ لَا يَأْخُذُهُ الْمِعْوَلُ فَاشْتَكَيْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَلْقَى ثَوْبَهُ، وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَتْ ثُلُثَ الصَّخْرَةِ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأُبْصِرُ إلَى قَصْرِهَا الْأَحْمَرِ الْآنَ مِنْ مَكَانِي هَذَا قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ فَقَطَعَ ثُلُثًا آخَرَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ فَارِسٍ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأُبْصِرُ خَضْرَاءَ الْمَدَائِنِ، وَإِلَى الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأُبْصِرُ بَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي السَّاعَةَ» [فَصْلٌ فِي فَضْلِ الشَّهَادَةِ] ِ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] قَالَ: أَمَّا إنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ» ، وَمِنْهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: (مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ لَهُ بِهَا مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ غَيْرَ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ) ، وَفِي رِوَايَةٍ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ. وَمِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ، وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا» . وَمِنْ الْمُوَطَّأِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْغَزْوُ غَزْوَانِ: فَغَزْوٌ تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ، وَيُيَاسَرُ

فِيهِ الشَّرِيكُ، وَيُطَاعُ فِيهِ ذُو الْأَمْرِ، وَيُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ فَذَلِكَ الْغَزْوُ خَيْرٌ كُلُّهُ، وَغَزْوٌ لَا تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ، وَلَا يُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ، وَلَا يُطَاعُ فِيهِ ذُو الْأَمْرِ، وَلَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ فَذَلِكَ الْغَزْوُ يَرْجِعُ صَاحِبُهُ كَفَافًا. وَمِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ، وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ قَالَ: إنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ تَعَالَى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ، وَسَطُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» . وَمِنْ صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ فِي أَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهِ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ، وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ» قَالَ: أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشِعْبٍ فِيهِ عَيْنٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا فَقَالَ: لَوْ اعْتَزَلْت عَنْ النَّاسِ فَأَقَمْت فِي هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ اُغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ شَهِيدٌ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ، وَعَبْدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ» ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ

فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ أَعْيُنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا، وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى وَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ قَالَ: فَمَا أَدْرِي أَقَلَنْسُوَةُ عُمَرَ أَرَادَ أَمْ قَلَنْسُوَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَكَأَنَّمَا ضُرِبَ جِلْدُهُ بِشَوْكِ طَلْحٍ مِنْ الْجُبْنِ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا، وَآخَرَ سَيِّئًا لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ لَقِيَ الْعَدُوَّ صَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ» ، وَفَضِيلَةُ الْجِهَادِ قَدْ جَاءَ فِيهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ عَلَى الْمَرْءِ وَحْدَهُ إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ جَمَاعَةٍ، وَإِمَامٍ تَنْعَقِدُ كَلِمَتُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا يُخَالِفُونَهُ. ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - ذَلِكَ، وَشَرَطُوا لَهُ شُرُوطًا، وَبَيَّنُوا حَالَ الْإِمَامِ، وَحَالَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي تَكُونُ مَعَهُ، وَصِفَةَ هَدْيِهِمْ، وَطَرِيقَتَهُمْ، وَآدَابَهُمْ، وَمَا يَتَجَنَّبُونَ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ، وَهَذَا النَّوْعُ كَثِيرٌ قَلَّ أَنْ يُحْصَرَ أَعْنِي مَا أُحْدِثَ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ شَرْقًا، وَغَرْبًا فَمَنْ أَرَادَ الْجِهَادَ فَلْيَتَوَقَّفْ حَتَّى يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَالنُّهَى عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمَا يُنْدَبُ لَهُ، وَمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ أَوْ يُكْرَهُ، وَمَا يَتَجَنَّبُ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَقَالِيمِ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَالْعَصْرِ فَلَا يُمْكِنُ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنًى مِنْ مَعَانِيهَا لِكَثْرَتِهَا، وَاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَزْمَانِ فَبِالسُّؤَالِ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَا يَصْلُحُ بِهِ فَإِنْ رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ خَلَلٍ يَرْتَكِبُهُ بِسَبَبِ جِهَادِهِ فَالتَّرْكُ لَهُ أَوْلَى اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ الْجِهَادُ فَلَا سُؤَالَ إذْ ذَاكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِرُ فِيهِ إذْنَ الْإِمَامِ، وَلَا حُضُورَ الْجَمَاعَةِ، وَلَا إذْنَ الْوَالِدِ، وَلَا إذْنَ الْوَالِدَةِ، وَلَا إذْنَ السَّيِّدِ إذْ أَنَّ النَّفِيرَ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ بِوَجْهٍ مَا ثُمَّ الْأَصْلُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي جِهَادِهِ، وَيَعْتَقِدُ النَّصْرَ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ التَّعَلُّقُ بِجَنَابِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالرُّجُوعُ إلَيْهِمْ، وَالصُّدُورُ عَنْ رَأْيِهِمْ. أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ

عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَمَّا أَنْ خَرَجَ لِبَعْضِ غَزَوَاتِهِ قَالَ: اُنْظُرُوا إلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَذَهَبُوا إلَيْهِ ثُمَّ رَجَعُوا فَقَالُوا، وَجَدْنَاهُ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلِّي فَقَالَ: اذْهَبُوا فَقَدْ نَصَرَنَا: سَبَّابَتُهُ فِي الْقِبْلَةِ عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ كَذَا وَكَذَا أَلْفِ فَارِسٍ فَمَضَوْا؛ لِمَا كَانُوا بِسَبِيلِهِ فَنُصِرُوا، وَغَنِمُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ» ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَنَّى الْمَرْءُ لِقَاءَ الْعَدُوِّ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ فَشَأْنُ الْمُكَلَّفِ امْتِثَالُ الْأَدَبِ بِتَرْكِ الدَّعَاوَى، وَغَيْرِهَا حَتَّى إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ اسْتَعَانَ بِرَبِّهِ تَعَالَى، وَامْتَثَلَ أَمْرَهُ مُبْتَغِيًا بِذَلِكَ مَرْضَاتَهُ، وَمَا وَعَدَ عَلَيْهِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ لِفَاعِلِهِ. وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ دَقِيقُهَا، وَجَلِيلُهَا فَلْيَكُنْ الْمَرْءُ مُتَيَقِّظًا لَهَا فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَالْجِهَادُ مَظِنَّةُ الْمَوْتِ غَالِبًا. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» . قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَعْنَاهُ أَنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تُنْقَلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى الْجَنَّةِ، وَالتَّعَلُّقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْأَصْلُ لِهَذَا الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَإِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ، وَبَقِيَ الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا شَاءَ فَعَلَ فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ الْقَادِرُ عَلَى النَّصْرِ بِسَبَبٍ، وَبِغَيْرِ سَبَبٍ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] فَنَفَى الرَّمْيَ عَنْ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَّلًا بِقَوْلِهِ، وَمَا رَمَيْت ثُمَّ أَثْبَتَهُ لَهُ بِقَوْلِهِ إذْ رَمَيْت فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَمَعَ لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالشَّرِيعَةِ. أَمَّا الشَّرِيعَةُ فَلِكَوْنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، وَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَقَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ. وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِوُصُولِ ذَلِكَ التُّرَابِ لِعَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَدُوِّ حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَهُ لِمِلْئِهَا بِالتُّرَابِ، وَهَذَا شَيْءٌ يَعْجَزُ الْبَشَرُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ أَفْعَالُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ امْتِثَالِ الْحِكْمَةِ ثُمَّ يُظْهِرُ

اللَّهُ سُبْحَانَهُ قُدْرَتَهُ عِيَانًا لِلْخَلْقِ عَلَى يَدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ الْكَرِيمَةِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَفْعَلْ، وَلَمْ يَمُدَّ يَدَهُ دُونَ مَاءٍ بَلْ امْتَثَلَ الْحِكْمَةَ بِوَضْعِ يَدِهِ الْكَرِيمَةِ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْقُوا، وَيَشْرَبُوا، وَيَمْلَئُوا، وَالْمَاءُ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِجَمْعِ مَا بَقِيَ مَعَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْأَزْوَادِ حِينَ فَنِيَتْ فَجُمِعَتْ، وَبَارَكَ فِيهَا فَأَكَلَ الْجَمِيعُ مِنْهَا حَتَّى شَبِعُوا، وَمِنْ ذَلِكَ فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي قِصَّةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الدَّاجِنِ الَّذِي ذَبَحَهُ، وَالْعَجِينِ الَّذِي خَبَزَهُ، وَكَوْنُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَصَقَ فِيهِمَا، وَبَارَكَ ثُمَّ أَذِنَ لِعَشَرَةٍ فِي الْأَكْلِ ثُمَّ عَشَرَةٍ مِنْ بَعْدِهِمْ مِمَّنْ كَانَ يَعْمَلُ فِي الْخَنْدَقِ حَتَّى أَكَلَ الْجَمِيعُ، وَشَبِعُوا، وَكَانُوا أَلْفًا، وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ كَمَا هِيَ، وَالْعَجِينُ يُخْبَزُ كَمَا هُوَ. وَمِنْ ذَلِكَ خُرُوجُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْجِهَادِ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَدُّ لِذَلِكَ بِجَمْعِ أَصْحَابِهِ، وَبِاِتِّخَاذِ الْخَيْلِ، وَالسِّلَاحِ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْجِهَادِ، وَالسَّفَرِ ثُمَّ إذَا رَجَعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَخَلَّى مِنْ ذَلِكَ، وَرَدَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِمَوْلَاهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ، وَحْدَهُ» فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ، وَحْدَهُ» فَنَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ، وَفِعْلَهُ خَلْقٌ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى الَّذِي خَلَقَ، وَدَبَّرَ، وَأَعَانَ، وَأَجْرَى الْأُمُورَ عَلَى يَدِ مَنْ شَاءَ، وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ فَكُلٌّ مِنْهُ، وَكُلٌّ إلَيْهِ رَاجِعٌ. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ، وَجَلَّ أَنْ يُبِيدَ أَهْلَ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ لَفَعَلَ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ قَالَ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] فَيُثِيبُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى الصَّابِرِينَ، وَيُجْزِلُ الثَّوَابَ لِلشَّاكِرِينَ، وَقَالَ تَعَالَى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] فَعَلَى

فصل القتال بنية الجهاد في سبيل الله

الْمُكَلَّفِ الِامْتِثَالُ فِي الْحَالَيْنِ أَعْنِي فِي امْتِثَالِ الْحِكْمَةِ، وَالرُّجُوعِ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى، وَالسُّكُونِ إلَيْهِ، وَالنُّزُولِ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل: 62] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَثِيرٌ فَتَجِدُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي كُلِّ ذَلِكَ يَمْتَثِلُ الْحِكْمَةَ أَوَّلًا تَأَدُّبًا مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَشْرِيعًا لِأُمَّتِهِ ثُمَّ يُظْهِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ قُدْرَتَهُ الْغَامِضَةَ الْمُخَبَّأَةَ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَمَا جَرَى لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ جَارٍ لِأُمَّتِهِ بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَثِيرًا مَا قَدْ، وَقَعَ مِثْلُ هَذَا كَتَكْثِيرِ الْقَلِيلِ، وَقَلْبِ الْأَعْيَانِ، وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ، وَمَا أَشْبَهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَيُوجِبُ الْقَطْعَ بِوُجُودِهِ. قَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كُلُّ كَرَامَةٍ ظَهَرَتْ لِوَلِيٍّ فَهِيَ مُعْجِزَةٌ لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذْ أَنَّهُ مَا حَصَلَتْ لَهُ تِلْكَ الْكَرَامَةُ إلَّا بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَقِيَتْ هَذِهِ الْبَرَكَاتُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا تَنْقَطِعُ، وَكَيْفَ لَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» ، وَهَذَا عَامٌّ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، وَفِي غَيْرِهِ [فَصْلٌ الْقِتَالَ بِنِيَّةِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ، وَيَنْبَغِي لِلْمُجَاهِدِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ بِنِيَّةِ إرَاقَةِ دِمَاءِ الْكُفَّارِ لَيْسَ إلَّا بَلْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ نِيَّةِ إعْلَاءِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِظْهَارِهَا، وَإِخْمَادِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَإِبْطَالِهَا. وَيَنْبَغِي لِلْمُجَاهِدِينَ إذَا كَانُوا مَعَ الْإِمَامِ أَوْ فِي سَرِيَّةٍ، وَأَدْرَبُوا بِلَادَ الْعَدُوِّ أَنَّهُمْ إذَا صَلُّوا الْخَمْسَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ لِيُرْهِبُوا الْعَدُوَّ بِذَلِكَ، وَلِيَقْتَدُوا فِيهِ بِالسَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، وَفِعْلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ بِدْعَةٌ. ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ، وَالنَّاصِرُ، وَالْهَادِي لَا رَبَّ سِوَاهُ، وَلَا مَرْجُوًّا إلَّا إيَّاهُ.

فصل في آداب الفقير المنقطع التارك للأسباب وكيفية نيته وهديه

[فَصْلٌ فِي آدَابِ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ التَّارِكِ لِلْأَسْبَابِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ وَهَدْيِهِ] ِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجِهَادَ يَنْقَسِمُ عَلَى قِسْمَيْنِ جِهَادٌ أَصْغَرُ، وَجِهَادٌ أَكْبَرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ النَّاسِ إلَّا أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْوَجُ النَّاسِ إلَيْهِ إذْ أَنَّهُ خَلَّفَ الدُّنْيَا، وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى آخِرَتِهِ لِشُغْلِهِ بِرَبِّهِ، وَإِقْبَالِهِ عَلَى إصْلَاحِ نَفْسِهِ وَتَنْظِيفِهَا مِنْ الْغَيْرِ فَكُلُّ قَلْبٍ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ فِي حَيِّزِ الْمَتْرُوكِ الْمَطْرُوحِ، وَكُلُّ قَلْبٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى وَقَعَ لَهُ الْفَتْحُ، وَالتَّجَلِّي، وَالْمُخَاطَبَةُ فِي سِرِّهِ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ. وَهَذَا مَقَامٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَهْلُهُ الْمُخْتَصُّونَ بِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ الْمُرِيدُ إلَى مُجَاهَدَةٍ عَظِيمَةٍ لِكَيْ يَصْفُوَ قَلْبُهُ، وَيَتَجَهَّزَ لِتَحْصِيلِ الْفَوَائِدِ الرَّبَّانِيَّةِ لَعَلَّهُ أَنْ يَظْفَرَ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فِي جُمْلَةِ السَّابِقِينَ، وَقَاعِدَةُ الْفَقِيرِ أَبَدًا لَا يَزَالُ فِي جِهَادٍ. فَأَوَّلُ جِهَادِهِ جِهَادُ الشَّيْطَانِ ثُمَّ جِهَادُ نَفْسِهِ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -: إنَّ الْجِهَادَ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ جِهَادٌ بِالْقَلْبِ، وَجِهَادٌ بِاللِّسَانِ. وَجِهَادٌ بِالْيَدِ، وَجِهَادٌ بِالسَّيْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ هُنَا عَلَى بَاقِي أَقْسَامِ الْجِهَادِ. فَالْجِهَادُ بِالْقَلْبِ جِهَادُ الشَّيْطَانِ، وَجِهَادُ النَّفْسِ عَنْ الشَّهَوَاتِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] ، وَجِهَادُ اللِّسَانِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِهِ مِنْ جِهَادِ الْمُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73] فَجَاهَدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ، وَجَاهَدَ

الْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَهَاهُ أَنْ يَعْمَلَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ فَيُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ جِهَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِهِمْ بِالْقَوْلِ خَاصَّةً، وَجِهَادُ الْيَدِ زَجْرُ ذَوِي الْأَمْرِ أَهْلَ الْمَنَاكِرِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْبَاطِلِ، وَالْمَعَاصِي، وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَعَنْ تَعْطِيلِ الْفَرَائِضِ الْوَاجِبَاتِ بِالْأَدَبِ، وَالضَّرْبُ عَلَى مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ إقَامَتُهُمْ الْحُدُودَ عَلَى الْقَذَفَةِ الزُّنَاةِ، وَشَرَبَةِ الْخَمْرِ ثُمَّ أَوَّلُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي مُجَاهَدَتِهِ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ مَحَبَّتَهَا، وَالْعَمَلَ عَلَى تَحْصِيلِهَا مَعَ وُجُودِ شَغَفِ الْقَلْبِ بِهَا يُعْمِي عَنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَيَطْمِسُ الْقَلْبَ، وَيُكْثِرُ فِيهِ الْوَسَاوِسَ، وَالنَّزَغَاتِ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ، وَجَدَ السَّبِيلَ إلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا شَغَفَ قَلْبُهُ بِمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ. وَقَدْ مَرَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِرَجُلٍ نَائِمٍ فِي السَّحَرِ فَوَكَزَهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ قُمْ فَقَدْ سَبَقَكَ الْعَابِدُونَ فَقَالَ: يَا رُوحَ اللَّهِ دَعْنِي فَقَدْ عَبَدْتُهُ بِأَحَبِّ الْعِبَادَاتِ إلَيْهِ قَالَ لَهُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمَا ذَاكَ قَالَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا قَالَ لَهُ عِيسَى نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ فِي خِدْرِهَا انْتَهَى ثُمَّ إنَّ الزُّهْدَ لَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ إلَّا بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ الْحَرَكَاتِ، وَالسَّكَنَاتِ، وَضَابِطُهُ: أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، وَنَفَسٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَنْظُرُ فِيهِ فَمَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلْيُمْضِهِ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِهِ فَلْيَدَعْهُ. وَقَدْ قَالُوا: الزُّهْدُ فِي فُضُولِ الْكَلَامِ أَفْضَلُ مِنْ الزُّهْدِ فِي غَيْرِهِ يَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَوَابًا لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمَّا أَثْنَوْا عَلَى رَجُلٍ قَدْ مَاتَ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ كَمَا قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَقَلُّ فَائِدَةٍ فِي السُّكُوتِ تَسْبِيحُ الْأَعْضَاءِ انْتَهَى. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ أَقَلُّ فَوَائِدِهِ فَمَا بَالُك بِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا السَّلَامَةُ مِنْ عَثَرَاتِ اللِّسَانِ لَكَانَ غَنِيمَةً عَظِيمَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ الْأَعْضَاءَ تُصْبِحُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تُنَاشِدُ اللِّسَانَ أَنْ يُسْلِمَهَا مِنْ آفَاتِهِ

لِأَنَّهُ إذَا عَطِبَ لَمْ يَعْطَبْ، وَحْدَهُ بَلْ يَعْطَبُ كُلُّ الْأَعْضَاءِ بِسَبَبِهِ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَوَجَدَهُ مُمْسِكًا لِسَانَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا هَذَا قَالَ: هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ فَإِذَا كَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيُشَمِّرْ الْفَقِيرُ إلَى سُلُوكِ هَذِهِ الْمَفَازَةِ لِيَقْطَعَهَا فَإِنَّهَا عَقَبَةٌ كَئُودٌ لَا يُجَاوِزُهَا إلَّا الْمُشَمِّرُونَ - أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مَنْ بَرَكَاتِهِمْ -. ثُمَّ إنَّ الزُّهْدَ فِي الرِّيَاسَةِ أَعْظَمُ مِنْ الزُّهْدِ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ، وَالْمَالَ يُنْفَقَانِ فِي الرِّيَاسَةِ، وَالرِّيَاسَةُ لَا تُنْفَقُ فِيهِمَا فَالزُّهْدُ فِيهَا مُتَعَيَّنٌ. ثُمَّ لَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الرِّيَاسَةَ إنَّمَا هِيَ فِي رُتَبِ الدُّنْيَا لَيْسَ إلَّا بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي رُتَبِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ شَيْءٌ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ لَا شَيْءَ، وَمِنْ كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ لَا شَيْءَ فَهُوَ عِنْدَ رَبِّهِ شَيْءٌ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ - نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ -: مَنْ رَأَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَمَا قَالَهُ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلْبَ مَقْطُوعٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُقْطَعْ لَهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِإِحْدَى الدَّارَيْنِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْآدَمِيُّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، - وَأَعَادَ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ - أَنَّهُ كَانَ جَائِعًا، وَوَجَدَ فَضْلَةَ طَعَامٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَإِذَا بِكَلْبٍ قَدْ جَاءَ فَأَكَلَ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى ثُمَّ نَبَحَ الْكَلْبُ عَلَى إبْرَاهِيمَ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لَا تَنْبَحْ عَلَيَّ، وَلَا أَنْبَحُ عَلَيْك كُلْ مِنْ جِهَتِك، وَأَنَا آكُلُ مِنْ جِهَتِي إنْ دَخَلْت أَنَا الْجَنَّةَ فَأَنَا خَيْرٌ مِنْك، وَإِنْ دَخَلْت النَّارَ فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي تَصْرِيحًا مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ كَانَتْ نَفْسُكَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ فَسِرُّك فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ الثَّانِيَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ الثَّالِثَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَإِنْ

نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ الرَّابِعَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ الْخَامِسَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ السَّادِسَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ عَنْ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ إلَى ظَهْرِ الثَّوْرِ الَّذِي عَلَيْهِ قَرَارُ الْأَرْضِينَ فَسِرُّك نَاظِرٌ إلَى الْعَرْشِ انْتَهَى فَقَرَّرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ بِسَبَبِ التَّوَاضُعِ، وَعَلَى قَدْرِ نُزُولِ النَّفْسِ يَسْمُو أَمْرُهُ، وَيَعْلُو قَدْرُهُ فَمَنْ أَرَادَ الْفَوْزَ فَلْيَعْمَلْ عَلَى إشَارَتِهِ يَحْظَ بِالسَّلَامَةِ. وَأَعْنِي بِالزُّهْدِ فِي مَرَاتِبِ الْآخِرَةِ أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ لَا لِعِوَضٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] ، وَصَاحِبُ هَذَا الْحَالِ يَرَى نَفْسَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَهْلًا لِشَيْءٍ لِاسْتِحْقَارِهِ نَفْسَهُ، وَتَرْكِ النَّظَرِ إلَيْهَا، وَصَغَارَتِهَا عِنْدَهُ لِعَظِيمِ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ. قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَابِدٌ مُجْتَهِدٌ، وَكَانُوا يُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَعْنِي مَنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ مِنْ الْعُبَّادِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ قُلْ لِفُلَانٍ يَعْبُدُنِي مَا شَاءَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَصْبَحَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَخْبَرَ بَنِي إسْرَائِيلَ بِذَلِكَ فَتَعَجَّبُوا، وَقَالُوا لَيْسَ فِينَا أَحَدٌ مِثْلَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْخَيْرِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، وَإِذَا بِالرَّجُلِ قَدْ أَتَى فَسَلَّمَ، وَجَلَسَ فَأَخْبَرَهُ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَا قَدْ وَقَعَ فَقَالَ: أَهْلًا بِقَضَاءِ رَبِّي، وَمَضَى لِسَبِيلِهِ فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ تَطَهَّرَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي كُنْت أَعْبُدُك، وَلَسْت عِنْدَ نَفْسِي أَهْلًا لِشَيْءٍ، وَالْآنَ قَدْ مَنَنْت عَلَيَّ، وَجَعَلْتنِي أَهْلًا لِنَارِك فَوَعِزَّتِك لَا زَالَ هَذَا مَقَامِي بَيْنَ يَدَيْك شُكْرًا لَك عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ حَتَّى أَلْقَاك فَلَمَّا أَصْبَحَ مِنْ الْغَدِ جَاءَ إلَى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ لَهُ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْحَى إلَيَّ أَنْ قُلْ لِفُلَانٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِازْدِرَائِهِ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، - وَنَفَعَ بِهِ - عَذَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَجْلِسْ إلَيْهِمْ، وَيُحَدِّثْهُمْ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْهُ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُحَدِّثِينَ فَقَالَ: شَغَلَنِي أَرْبَعٌ لَوْ فَرَغْتُ مِنْهَا لَجَلَسْتُ إلَيْكُمْ

وَحَدَّثْتُكُمْ فَقَالُوا لَهُ، وَمَا هِيَ فَقَالَ: افْتَكَرْت فِي نُزُولِ الْمَلَكِ لِتَصْوِيرِي فِي الرَّحِمِ، وَنِدَائِهِ يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا أَعْرِفُ كَيْف خَرَجَ جَوَابِي. الثَّانِيَةُ أَنِّي افْتَكَرْت فِي نُزُولِ مَلَكِ الْمَوْتِ لِقَبْضِ رُوحِي، وَنِدَائِهِ يَا رَبِّ أَقْبِضُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَمْ عَلَى الْكُفْرِ فَمَا أَعْرِفُ كَيْف خَرَجَ جَوَابِي. الثَّالِثَةُ أَنِّي افْتَكَرْت فِي قَوْله تَعَالَى {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] فَمَا أَعْرِفُ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَمْتَازُ. الرَّابِعَةُ أَنِّي افْتَكَرْت فِي الْمُنَادِي الَّذِي يُنَادِي حِينَ حُصُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ فِيهَا، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ فِيهَا فَمَا أَعْرِفُ فِي أَيِّ الدَّارَيْنِ أَكُونُ انْتَهَى. فَمَنْ كَانَ يَتَقَلَّبُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَيْفَ يَقَرُّ لَهُ قَرَارٌ أَوْ يَأْوِي إلَى عِمْرَان، وَإِنَّمَا هِيَ غَفَلَاتٌ، وَالْمُرِيدُ مُبَرَّأٌ مِنْ الْغَفَلَاتِ مُتَيَقِّظٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْقَاطِعَاتِ نَاظِرٌ لِلنَّاسِ نَظَرَ عُمُومٍ يَرَاهُمْ هَلْكَى فَيَرْحَمُهُمْ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ قَدْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدِهِ خَوْفًا مِنْهُ أَنْ يَلْحَقَهُ مَا لَحِقَهُمْ إذْ أَنَّ الدُّنْيَا لَوْلَا الْحَمْقَى مَا عَمَرَتْ، وَطُولُ الْأَمَلِ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ أَكْبَرِ الْحُمْقِ، وَالْمُرِيدُ نَاظِرٌ إلَى زَمَانِهِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَاضٍ، وَمُسْتَقْبَلٍ، وَحَالٍّ، فَإِنْ نَظَرَ إلَى الْمَاضِي فَهُوَ كَنَدْبِ الْأَطْلَالِ، بِطَالَةٌ لَا تُغْنِي، وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَإِنْ نَظَرَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَالْقَدَرُ لَيْسَ بِيَدِهِ، وَالْحَيَاةُ لَيْسَتْ بِحُكْمِهِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا النَّظَرُ فِي الْحَالِّ، وَالنَّظَرُ فِي الْحَالِّ هُوَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْفَقِيرُ ابْنُ وَقْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُتَوَقَّعٌ مَعَ الْحَرَكَاتِ، وَالسَّكَنَاتِ، وَالْأَنْفَاسِ فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ نَفَسٌ فَقَدْ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ، وَإِذَا رَجَعَ إلَيْهِ فَقَدْ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْكُلَفُ، وَالنَّظَرُ فِي الْمَلْبَسِ، وَالْقُوتِ، وَالْمَسْكَنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ إذْ أَنَّ نَفَسًا، وَاحِدًا لَا ثَمَنَ لَهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِي الْإِقَامَةِ فِي الدُّنْيَا إذْ أَنَّ مَنْ صَارَ حَالُهُ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْتَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ فَقَدْ انْقَطَعَتْ فِكْرَتُهُ، وَهُمُومُهُ، وَحَسَرَاتُهُ فِي كَيْفِيَّةِ مَوْتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَفِي قَبْرِهِ، وَوَحْشَتِهِ، وَجَوَابِهِ حِينَ السُّؤَالِ فِيهِ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَهْوَالِ الْعِظَامِ فَأَيُّ رَاحَةٍ

تَبْقَى لِمَنْ هَذَا حَالُهُ، وَفِكْرَتُهُ. حُكِيَ أَنَّ إنْسَانًا جَاءَ لِبَعْضِ إخْوَانِهِ يَزُورُهُ فَوَجَدَهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا، وَشِمَالًا، وَخَلْفًا، وَأَمَامًا قَالَ لَهُ الزَّائِرُ: لِمَنْ تَلْتَفِتُ فَقَالَ: أَنْظُرْ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ يَأْتِينِي. وَقَدْ جَاءَ بَعْضُهُمْ إلَى شَيْخٍ لَهُ لِيَزُورَهُ، وَكَانَ قَدْ لَقِيَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَعَزَمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ فَأَعْطَاهُ سَبْعَ تَمَرَاتٍ أَوْ لَوْزَاتٍ عَلَى أَنْ يُفْطِرَ عَلَيْهَا فَرَبَطَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ كِسَائِهِ فَلَمَّا دَقَّ الْبَابَ خَرَجَ لَهُ شَيْخُهُ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الشَّيْخُ: مَا هَذَا الَّذِي فِي طَرَفِ كِسَائِك فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ، وَأَنْتَ تَظُنُّ أَنَّك تَعِيشُ إلَى الْغُرُوبِ، وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُك بَعْدَهَا أَبَدًا، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَنَفَعَ بِهِ -: عُمْرُك نَفَسٌ وَاحِدٌ فَاحْرِصْ أَنْ يَكُونَ لَك لَا عَلَيْك انْتَهَى. وَهَا هُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ فَمَنْ كَانَ حَالُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ فَلَا رَاحَةَ لَهُ دُونَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَى مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ حَيْثُ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ دُونَ لِقَاءِ رَبِّهِ» ، وَمَعْنَى ذَلِكَ، - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُؤْمِنَ طَالَمَا هُوَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ لَا يَزَالُ فِي مُكَابَدَاتٍ، وَأَهْوَالٍ، وَأَخْطَارٍ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا فَيَلْقَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَرَى مَالَهُ عِنْدَهُ مِنْ الْكَرَامَاتِ فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ لَهُ الرَّاحَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الدَّائِمَةُ الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا. ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْقُدْوَةُ الْمُحَقِّقُ يُمْنُ بْنُ مَرْزُوقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَنَفَعَ بِهِ - فِي حَالِ الْفَقِيرِ، وَزُهْدِهِ مَا هَذَا لَفْظُهُ: اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ فِي الزُّهْدِ عَلَى طَبَقَاتٍ فَمِنْهُمْ آخِذٌ، وَهُوَ تَارِكٌ، وَمِنْهُمْ تَارِكٌ، وَهُوَ آخِذٌ، وَإِنَّمَا يَحْمَدُ، وَيَصِحُّ هَذَا الْأَمْرُ لِمَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا، وَزَهِدَ فِيهَا بَعْدَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ مُصَلِّيًا نَائِمًا، وَآخَرُ نَائِمًا مُصَلِّيًا، وَمُفْطِرًا صَائِمًا، وَصَائِمًا مُفْطِرًا، وَكَاسِيًا عَارِيًّا، وَعَارِيًّا كَاسِيًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى تَصَرُّفِ إرَادَةِ الْقَلْبِ، وَتَصْحِيحِ النِّيَّةِ، وَفَسَادِ إرَادَةِ الْقَلْبِ، وَفَسَادِ النِّيَّةِ، وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْكَسْبِ الْخَبِيثِ، وَالْقَوْلِ الْخَبِيثِ، وَفِي هَذَا كَلَامٌ كَثِيرٌ إلَّا أَنَّ

فصل ينظر العبد إلى الله تعالى في كل أمره

مَنْ صَدَقَ أَبْصَرَ، وَتَحَقَّقَ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ بِاَللَّهِ وَبِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَنَهَاهُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَأَتْ قَلْبَهُ عَظَمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَاشْتَغَلَ بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ فُضُولِ الدُّنْيَا مِنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَاللِّبَاسِ، وَالْبُنْيَانِ، وَالْمَرْكَبِ، وَالْأَزْوَاجِ، وَالْأَوْلَادِ، وَالْخَدَمِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ الزَّوْجَةُ، وَالْوَلَدُ، وَأَشْيَاءُ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ عَلَى الرَّغْبَةِ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ عَنْ فَهْمِ وَعْدِ الْقُرْآنِ، وَوَعِيدِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا وَصَلُوا إلَى مَا وَصَلُوا إلَيْهِ لَمْ يَغْتَرُّوا بِدَارِ الْغُرُورِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ رَغْبَةٌ إلَّا خَوْفَ فَوَاتِ مَا شَوَّقَ إلَيْهِ وَعْدُ الْقُرْآنِ وَوَعِيدُهُ مِنْ الْخُلُودِ فِي دَارِ النَّعِيمِ أَوْ دَارِ الْهَوَانِ {إنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} إنَّمَا دَعَا إلَى دَارِ السَّلَامِ - مَنْ خَلَقَهَا، وَزَيَّنَهَا، وَجَلَّاهَا: فَخُضْ أَيُّهَا الْمُرِيدُ الْغَمَرَاتِ شَوْقًا إلَى نَعِيمِهَا، وَأَجِبْ الدَّاعِيَ الصَّادِقَ الْوَفِيَّ إلَى مَا وَعَدَ، وَدَعَاك إلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ حَذَّرَك نَفْسَك، وَهَوَاك، وَأَنْذَرَك حُلُولَ دَارِ سَخَطِهِ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْوُصُولُ إلَى نَعِيمِ دَارِ الْخُلُودِ رَفْضُ الْمَحْبُوبِ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى فَارْفُضْهُ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ ضَجِيعَك، وَالزُّهْدَ قَرِينَك، وَالْجِدَّ سِلَاحَك، وَالصِّدْقَ مَرْكَبَك، وَالْإِخْلَاصَ زَادَك، وَالْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ عَلَى مُقَدِّمَتِكَ، وَالشَّوْقَ إلَى الْجَنَّةِ صَاحِبَ لِوَائِك، وَالْمَعْرِفَةَ عَلَى مَيْمَنَتِك، وَالْيَقِينَ عَلَى مَيْسَرَتِك، وَالثِّقَةَ عَلَى سَاقَتِك، وَالصَّبْرَ أَمِيرَ جُنْدِكَ، وَالرِّضَا، وَزِيرَك، وَالْعِلْمَ مُشِيرَك، وَالتَّوَكُّلَ دِرْعَك، وَالشُّكْرَ خَلِيلَك ثُمَّ انْفِرْ إلَى عَدُوِّك، وَصَافِقْهُ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْت لَك، وَطِبْ نَفْسًا عَنْ دَارِ الْهُمُومِ، وَالْأَحْزَانِ إلَى دَارِ الْبَقَاءِ، وَالسُّرُورِ مَعَ الْخَيِّرَاتِ الْحِسَانِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [فَصْلٌ يَنْظُرْ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أَمْرِهِ] ثُمَّ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلْيَنْظُرْ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ مَنْ نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ بِأَمَلٍ رَجَاءَ مَنْفَعَتِهِ كَانَ عُزُوبًا لِقَلْبِهِ عَنْ اللَّهِ، وَكَانَ مَنْقُوصًا عَنْ مَنْزِلَةِ الْوَاثِقِينَ الْمُؤَيَّدِينَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ، وَجَلَّ لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {: يَا دَاوُد إنِّي قَدْ آلَيْتَ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُثِيبَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي إلَّا

عَبْدًا قَدْ عَلِمْت مِنْ طَلْبَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَإِلْقَاءِ كَنَفِهِ بَيْنَ يَدَيَّ أَنَّهُ لَا غِنَى لَهُ عَنِّي، وَأَنَّهُ لَا يَطْمَئِنُّ إلَى نَفْسِهِ بِنَظَرِهَا، وَفِعَالِهَا إلَّا، وَكَّلْته إلَيْهَا أَضِفْ الْأَشْيَاءَ إلَيَّ فَإِنِّي أَنَا مَنَنْت بِهَا عَلَيْك} . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَ إنَّمَا تَفَاوَتُوا، وَتَبَايَنُوا فَبِاخْتِيَارِهِمْ نَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى اخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ زَادَهُمْ ذَلِكَ سُرْعَةً، وَقُرْبًا مِنْ مَعُونَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَصُنْعِهِ، وَتَسْهِيلِهِ عَلَيْهِمْ، وَبِالسَّهْوِ عَنْهُ، وَاخْتِيَارِهِمْ أَنْفُسَهُمْ عَلَى نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى زَادَهُمْ ذَلِكَ بُطْئًا، وَبُعْدًا مِنْ مَعُونَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَصُنْعِهِ، وَتَسْهِيلِهِ عَلَيْهِمْ فَكُنْ فِي نَظَرِك إلَى رَبِّك نَاظِرًا بِأَنْ لَا تُؤَمِّلْ غَيْرَ صُنْعِهِ، وَلَا تَرْجُو غَيْرَ مَعُونَتِهِ، وَاثِقًا بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ، وَأَسْرَعُ فِي مَعُونَتِهِ لَك فَإِنَّ الَّذِينَ قَلَّدُوا أُمُورَهُمْ رَبَّهُمْ، وَوَثِقُوا بِهِ، وَلَجَأُوا إلَيْهِ قَدْ أَمَاتُوا مِنْ قُلُوبِهِمْ تَدْبِيرَ أَنْفُسِهِمْ، وَجَعَلُوا الْأُمُورَ عِنْدَهُمْ أَسْبَابًا مَعَ قِيَامِهِمْ بِهَا، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَأُولَئِكَ ذَهَبُوا بِصَفْوِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ لِسُكُونِ قُلُوبِهِمْ إلَيْهِ فَوَجَدُوا بِذَلِكَ الرَّوْحَ، وَالرَّاحَةَ فَهُمْ حُمَاةُ الدِّينِ، وَالْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ قَدْ فَاقُوا عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ بِاطْمِئْنَانِهِمْ بِهِ، وَسُكُونِهِمْ إلَيْهِ فَأَوْجَبَ لَهُمْ صُنْعَهُ، وَأَقَامَ قُلُوبَهُمْ عَلَى مِنْهَاجِهِ فَمَا تَقَلَّبُوا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ فَعَلَى الرِّضَا، وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْخَلْقِ فِي مُؤْنَةٍ، وَتَعَبٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اخْتَارُوهَا، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهَا فَأَوْرَثَتْهُمْ الْهَمَّ، وَالْغُمُومَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَلَّدُوهُ أُمُورَهُمْ، وَخَرَجُوا عَنْ طِبَاعِ الْعِبَادِ؛ لِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ خَطَأِ مَنْ اخْتَارَ نَفْسَهُ فَجَعَلُوا اخْتِيَارَهُمْ الرِّضَا بِمَا صَيَّرَهُمْ إلَيْهِ مَوْلَاهُمْ مِنْ أُمُورِهِمْ فَزَالَتْ الْغُمُومُ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَأَوْجَبَ لَهُمْ الصُّنْعَ، وَالتَّوْفِيقَ فِي أَحْوَالِهِمْ، وَأَوْرَثَهُمْ الْغِنَى، وَالْعِزَّ فِي قُلُوبِهِمْ، وَسَدَّ عَنْهُمْ أَبْوَابَ الْحَاجَاتِ إلَى الْمَخْلُوقِينَ، وَأَتَتْهُمْ لَطَائِفُ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، وَقَامَ لَهُمْ بِمَا يَكْتَفُونَ بِهِ، وَنَزَّهَ أَنْفُسَهُمْ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ إكْرَامًا لَهُمْ عَنْ فُضُولِ الدُّنْيَا، وَطَهَارَةً لِقُلُوبِهِمْ عَنْ التَّشَاغُلِ بِمَا أَغْنَاهُمْ عَنْهُ فَحَصَّنَهُمْ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَأَمْشَاهُمْ فِي طُرُقَاتِ الدُّنْيَا طَيِّبِينَ مُوَالِينَ لَهُ فَهُمْ فِي السَّمَوَاتِ أَشْهَرُ مِنْهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلِأَصْوَاتِهِمْ هُنَاكَ دَوِيٌّ، وَنُورٌ يُعْرَفُونَ بِهِ، وَيَحْيَوْنَ عَلَيْهِ قَدْ رَفَعَ أَبْصَارَ قُلُوبِهِمْ

إلَيْهِ فَهِيَ نَاظِرَةٌ إلَيْهِ بِتِلْكَ الْقُلُوبِ غَيْرُ مَحْجُوبَةٍ عَنْهُ بِلَا إدْرَاكٍ مِنْهُمْ لِصِفَةٍ، وَلَا صُورَةٍ، وَلَا حَدٍّ، وَلَا إحَاطَةٍ مِنْهُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنْ كَيْفَ شَاءَ لَهُمْ ذَلِكَ فَأَحَبَّهُمْ، وَحَبَّبَهُمْ إلَى مَلَائِكَتِهِ، وَسَائِرِ خَلْقِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى {يَا دَاوُد تَفَضَّلْ عَلَى عِبَادِي أَكْتُبْك مِنْ أَوْلِيَائِي، وَأَحِبَّائِي، وَأُبَاهِي بِك حَمَلَةَ عَرْشِي، وَأَرْفَعُ الْحُجُبَ بَيْنِي، وَبَيْنَك فَتَنْظُرُ إلَيَّ بِبَصَرِ قَلْبِك لَا أَحْجُبُك عَنْ ذَلِكَ مَا كُنْت مُسْتَمْسِكًا بِطَاعَتِي} ، وَذُكِرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: «قُلْ لِأَهْلِ مَحَبَّتِي يَشْتَغِلُوا بِي فَإِذَا عَلِمْت أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ الِاشْتِغَالُ بِي، وَالِانْقِطَاعُ إلَيَّ كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَ الْحُجُبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيَّ بِأَبْصَارِ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ يَتَنَعَّمُونَ بِذِكْرِي قَدْ أَغْنَاهُمْ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ نَعِيمٍ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ» فَهَؤُلَاءِ قَدْ مَلَأَ اللَّهُ أَسْمَاعَهُمْ، وَأَبْصَارَهُمْ، وَجَوَارِحَهُمْ مِنْ حُبِّهِ فَأَدَّبُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ، وَالدُّخُولِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَأْدِيبَ الرَّجُلِ نَفْسَهُ فِي مَطْعَمِهِ، وَمَشْرَبِهِ، وَمَلْبَسِهِ يَزِيدُ فِي صَلَاحِ قَلْبِهِ، وَتَنْقَادُ جَوَارِحُهُ لِقَلْبِهِ، وَيَقْوَى عَزْمُهُ، وَيَقْهَرُ هَوَاهُ فَيَقُومُ عِنْدَ ذَلِكَ مَقَامَ أَهْلِ الْقُوَّةِ إلَى أَنْ يَرْفَعَهُ اللَّهُ إلَى مَنْزِلَةٍ فَوْقَهَا حَتَّى يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ الْأَخْذُ، وَالتَّرْكُ فَلَا يَأْسَفُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ، وَلَا يَفْرَحُوا بِمَا آتَاهُمْ لِلْغِنَى الَّذِي وَقَرَ فِي قُلُوبِهِمْ يَزْدَادُونَ لَهُ مَحَبَّةً، وَمَوَدَّةً، وَشُكْرًا لَهُ فِي الْعِلْمِ بِهِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ رَقَّتْ قُلُوبُهُمْ، وَانْقَادَتْ أَهْوَاؤُهُمْ إلَى مَا قَلَّ مِنْ الدُّنْيَا، وَكَفَى فَهِيَ لَا تَطَّلِعُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ نَاظِرِينَ إلَى رَبِّهِمْ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا لَا إلَى الْأَسْبَابِ نَظَرُهُمْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فِي إقَامَةِ الْأَسْبَابِ الْخَالِصَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَإِنْ لَبِسُوا خَشِنًا أَوْ لَيِّنًا أَوْ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا أَوْ أَكَلُوا طَيِّبًا أَوْ كَرِيهًا أَوْ حُلْوًا أَوْ مُرًّا أَوْ حَامِضًا أَوْ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لَمْ يُغَيِّرْ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ عَنْ الْحَالِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ، وَتَعْظِيمِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ عَامِرَةٌ مِنْ ذِكْرِ الْخَالِقِ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ سِوَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ ثُبُوتٌ إلَّا بِالْخَاطِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْسَخَ أَوْ يَثْبُتَ فَلَمْ يَقُمْ النَّاسُ مَقَامًا أَشْرَفَ مِنْ أَنْ يُعَلِّقُوا

قُلُوبَهُمْ بِرَبِّهِمْ، وَلَا أَوْلَى بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ مُحَافَظَةً عَلَى جَمْعِ هُمُومِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ، وَجَمْعِ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ إنْ قَامُوا عُرِفُوا بَيْنَ يَدَيْ مَنْ هُمْ قِيَامٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعُوا أَوْ سَجَدُوا أَوْ تَلُوا الْقُرْآنَ أَوْ دَعَوْا رَبَّهُمْ لَا تَعْزُبُ قُلُوبُهُمْ عَنْ ذَلِكَ. فِيهِ زَكَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَصُوِّبَتْ عُقُولُهُمْ فَهُوَ يَتَعَاهَدُهُمْ بِلُطْفِهِ، وَيَسُوسُهُمْ بِتَوْفِيقِهِ فَقَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ خَطَؤُهُمْ، وَكَثُرَ صَوَابُهُمْ فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي مَحَبَّةِ طَاعَةِ اللَّهِ فَلَا يَكُنْ لَهُ ثِقَةٌ إلَّا اللَّهَ، وَلَا غِنًى إلَّا بِهِ، وَلَا أَمَلٌ غَيْرَهُ يَرْجُوهُ، وَيَتَّخِذُهُ، وَكِيلًا فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا رَاضِيًا بِقَضَائِهِ فِيمَا نَقَلَهُ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِ رَاضِيًا بِاخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ مُتَّهِمًا رَأْيَهُ، وَلِمَا تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ مُسَلِّمًا رَاضِيًا عَنْ اللَّهِ غَيْرَ مُتَجَبِّرٍ، وَلَا مُتَمَلِّكٍ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ صِحَّةٍ أَوْ رَخَاءٍ أَوْ شِدَّةٍ مِمَّا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ، وَلْيَكُنْ قَلْبُهُ بِذَلِكَ رَاضِيًا لِمَوْضِعِ الثِّقَةِ بِرَبِّهِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ. فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ وَرِثَ قَلْبُهُ الْمَحَبَّةَ لَهُ، وَالشَّوْقَ إلَيْهِ، وَصَارَ إلَى مَنْزِلَةِ الرِّضَا بِمَا كَفَاهُ، وَحَمَاهُ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِنْ قَلَّ، وَأَخْرَجَ مِنْ قَلْبِهِ مَطَامِعَ الْمَخْلُوقِينَ فَاسْتَغْنَى بِاَللَّهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ ثُمَّ أَلْهَمَهُ مَوْلَاهُ عِلْمًا مِنْ عِلْمِهِ فَعَرَّفَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفْهُ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْ فَعَنْ اللَّهِ أَخَذَ عِلْمَهُ، وَبِأَمْرِ اللَّهِ - جَلَّ ذِكْرُهُ - تَأَدَّبَ فَطَهُرَتْ أَخْلَاقُهُ لَمَّا آثَرَ أَمْرَ اللَّهِ، وَلَجَأَ إلَيْهِ فَتَمَّتْ عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ الْمَحْبُوبُونَ فِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ الْمَعْرُوفُونَ فِيهَا خَفِيٌّ أَمْرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَظَهَرَ أَمْرُهُمْ لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ لِكَلَامِهِمْ هُنَاكَ دَوِيٌّ، وَلِبُكَائِهِمْ حُنَيْنٌ تَقَعْقَعُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ مِنْ سُرْعَةِ فَتْحِهَا إجَابَةً لِدُعَائِهِمْ فَأَعْظِمْ بِهِمْ مَا عِنْدَ اللَّهِ جَاهًا، وَمَنْزِلَةً، وَأَعْظِمْ بِهِمْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ، وَحُسْنَ ظَنٍّ بِهِ فَهُمْ مَسْرُورُونَ بِرَبِّهِمْ قَرِيرَةٌ أَعْيُنُهُمْ طَرِبَةٌ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِهِ مُشْتَاقَةٌ سَاكِنَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ إلَيْهِ تَقَدَّمُوا النَّاسَ، وَانْقَطَعَ النَّاسُ عَنْهُمْ، وَأَشْرَفُوا عَلَى النَّاسِ، وَاشْتَغَلَ النَّاسُ عَنْهُمْ فَعَجِبُوا مِنْ النَّاسِ، وَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهُمْ انْقَطَعُوا إلَى اللَّهِ بِهُمُومِهِمْ، وَأَهْوَائِهِمْ، وَعَلِقُوا بِهِ، وَلَجَئُوا إلَى اللَّهِ لَجْأَ الْمُسْتَغِيثِينَ بِهِ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ قَدْ تَخَلَّصَتْ إلَيْهِ عُقُولُهُمْ بِالْمَوَدَّةِ فَأَنْزَلُوا نِسْيَانَهُ

مَعْصِيَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ فَقَبِلَهُمْ، وَاجْتَبَاهُمْ، وَنَعَّمَهُمْ، وَخَصَّهُمْ، وَكَفَاهُمْ، وَآوَاهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ، وَأَسْمَعَهُمْ، وَبَصَّرَهُمْ، وَحَجَبَهُمْ عَنْ الْآفَاتِ، وَحَجَبَ الْآفَاتِ عَنْهُمْ، وَأَقَامَهُمْ مَقَامَ الطَّهَارَةِ، وَأَنْزَلَهُمْ مَنَازِلَ السَّلَامَةِ، وَأَقَامَ قُلُوبَهُمْ بِذِكْرِهِ فَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ بَدَلًا، وَلَا عَنْهُ حِوَلًا صِيَانَةً لَدَيْهِ، وَطَرَبًا، وَاشْتِيَاقًا إلَيْهِ قَدْ أَذَاقَهُمْ مِنْ حَلَاوَةِ ذِكْرِهِ، وَأَلْعَقَهُمْ مِنْ لَذَاذَةِ مُنَاجَاتِهِ، وَسَقَاهُمْ بِكَأْسِهِ فَهُمْ وَالِهُونَ بِهِ لَيْسَ لَهُمْ مَسْكَنٌ غَيْرَهُ تَضْطَرِبُ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ فَقْدِهِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى مَوْضِعِ حَنِينِهَا يَحْتَمِلُونَ الْأَشْيَاءَ لَهُ، وَلَا يَحْتَمِلُونَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، وَلَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْهُ هَدَايَا مُجَدَّدَةٌ فَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمُ رَبِّهِمْ، وَجَلَالُهُ، وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ قُدْرَتُهُ، وَسُلْطَانُهُ، وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ آلَاؤُهُ، وَنَعْمَاؤُهُ، وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ تَقْصِيرُهُمْ عَنْ وَاجِبِ حَقِّهِ، وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ رَأْفَتُهُ، وَرَحْمَتُهُ، وَتَارَةً يَصِيرُونَ إلَى حَنِينِهِ، وَلَهُمْ فِي كُلِّ تَارَةٍ دَمْعَةٌ، وَلَذَّةٌ، وَفِي كُلِّ دَمْعَةٍ وَلَذَّةٍ فِكْرَةٌ، وَعِبْرَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ فِي فِكْرَةٍ، وَعِبْرَةٍ مُهْتَاجَةٌ طَرِبَةٌ هَائِمَةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ مُسْتَقِلَّةٌ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ فَهُمْ يُسْقَوْنَ مِنْ كُلِّ تَارَةٍ مَشْرَبًا سَائِغًا يُذِيقُهُمْ لَذَّتَهُ، وَلَهُمْ فِي كُلِّ مَقَامٍ عِلْمُ زِيَادَةٍ يُعَرِّفُهُمْ مَا يَحْدُثُ لَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الزِّيَادَةِ فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ آمَالُ الْخَلْقِ عَنْهُمْ، وَأَفْضَوْا إلَى اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِجَمِيعِ رَغَبَاتِهِمْ، وَانْزَاحَتْ الْأَشْيَاءُ الشَّاغِلَةُ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَصُمَّتْ عَنْهَا أَسْمَاعُهُمْ، وَانْصَرَفَتْ أَبْصَارُ قُلُوبِهِمْ إلَيْهِ فَلَهَتْ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ حَتَّى إذَا جَنَّهُمْ اللَّيْلُ، وَزَجَرَهُمْ الْقُرْآنُ بِعَجَائِبِهِ مِنْ وَعْدِهِ، وَوَعِيدِهِ، وَأَخْبَارِهِ، وَأَمْثَالِهِ شَرِبُوا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ كَأْسًا مِنْ الزَّجْرِ، وَالتَّحْذِيرِ، وَالْأَخْبَارِ، وَالْأَمْثَالِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ، وَوَجَدُوا حَلَاوَةَ مَا شَرِبُوا حَتَّى إذَا صَفَا يَقِينُهُمْ ارْتَفَعُوا إلَى عَظَمَةِ سَيِّدِهِمْ، وَجَلَالِ مَوْلَاهُمْ خَضَعَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُمْ لِلَّهِ، وَخَشَعَتْ كُلُّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ لِسُكُونِهَا إلَيْهِ غَيْرَ مُنْتَشِرَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُومُهُمْ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ لَذَاذَةٌ لِاسْتِمَاعِهِ فَقَدْ كَشَفَ لَهُمْ الْقُرْآنُ عَنْ أُمُورِهِ، وَكَشَفَ لَهُمْ عَنْ عَجَائِبِهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَى بَاطِنِ عِلْمِهِ فَيَفْهَمُونَهُ فَيَسْمُونَ بِهِ إلَى جَلَالِ سَيِّدِهِمْ

وَوَقَارِهِ حَتَّى إذَا اتَّقَدَتْ الْأَنْوَارُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَمَكَّنَ الْيَقِينُ مِنْ أَجْوَافِهِمْ، وَحَنَّتْ الْقُلُوبُ لِحَنِينِهَا، وَضَاقَتْ عَنْ احْتِمَالِ مَا هَجَمَ عَلَيْهَا هَاجَ مِنْهُمْ مَا لَا يَمْلِكُونَ إمْسَاكَهُ فَلَمَّا بَلَغَ الْأَمْرُ مِنْهُمْ مَدَاهُ، وَانْتَهَى كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُمْ مُنْتَهَاهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ جَلَّ جَلَالُهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ، وَالسُّكُونِ فَلَوْلَا حُسْنُ سِيَاسَتِهِ لَهُمْ، وَنَظَرُهُ، وَلُطْفُهُ بِهِمْ مَا رَجَعَتْ إلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ، وَلَا أَثْبَتُوا مَعَارِفَهُمْ، وَلَا سَكَنُوا مَنَازِلَهُمْ لِلَّذِي هَجَمَ عَلَى أَبْصَارِ قُلُوبِهِمْ مِنْ عَظَمَةِ سَيِّدِهِمْ فَهُمْ يَزْدَادُونَ لَهُ ذِكْرًا، وَمَوَدَّةً، وَمَحَبَّةً فِي كُلِّ مَا امْتَحَنَهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ فَقَدْ أَعْرَضُوا عَنْ كُلِّ نَعِيمٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، وَاشْتَغَلُوا عَنْ النَّعِيمِ بِذِكْرِ مَوْلَاهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَّةٌ مِنْهُ، وَتَفَضُّلٌ عَلَيْهِمْ فَهُمْ أَدِلَّاءٌ لِعِبَادِهِ، وَأَعْلَامٌ فِي بِلَادِهِ، وَحُجَّةٌ لَهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَخَلَفُ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَدَائِعُ عِلْمِهِ فَبِهِمْ يَنْزِلُ الْغَيْثُ، وَبِهِمْ يُصْرَفُ الْعَذَابُ، وَبِهِمْ يُنْصَرُ عَلَى الْعَدُوِّ فَهُمْ بَرَكَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا يُحِبُّونَ اللَّهَ، وَيُحِبُّونَ ذِكْرَهُ أَقَامُوا مَشِيئَتَهُمْ فِيمَا وَافَقَ مَحَبَّةَ رَبِّهِمْ يَغْضَبُونَ لِغَضَبِهِ، وَيُحِبُّونَ لِمَحَبَّتِهِ فَهُوَ يَسُوسُهُمْ بِسِيَاسَتِهِ، وَيُوَفِّقُهُمْ بِتَوْفِيقِهِ يَأْتِيهِمْ الْعَوْنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالٍ يَرْحَمُونَ الْخَلْقَ بِرَحْمَةِ رَبِّهِمْ، وَيُؤَمِّلُونَ فَضْلَهُ قَدْ أَزَالَ عَنْ قُلُوبِهِمْ الْمَطَامِعَ، وَأَسْكَنَهَا الْغِنَى فَاكْتَفَوْا بِمَا جَزَاهُمْ، وَبَلَغُوا بِمَا بَلَّغَهُمْ فَهُمْ الْقَانِتُونَ الرَّاهِبُونَ السَّائِحُونَ الرَّاغِبُونَ الْمُحِبُّونَ لِلَّهِ الَّذِينَ فَكَّرُوا فِي قُدْرَتِهِ، وَعَمِلُوا فِي مَحَبَّتِهِ حَتَّى وَرِثُوا الرَّهْبَةَ ثُمَّ وَرِثُوا الرَّغْبَةَ ثُمَّ وَرِثُوا الشَّوْقَ ثُمَّ رَفَعَهُمْ إلَى مَنْزِلَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا رَغْبَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُ رَبِّهِمْ هِمَّةٌ غَلَبَتْ الْمَحَبَّةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَى عُقُولِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ فَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَعْمَالَهُمْ، وَصَيَّرُوا فِيهِ جَمِيعَ رَغَبَاتِهِمْ ثُمَّ رَفَعَهُمْ إلَى مَزِيدِ فَوَائِدِهِ فَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ حَقًّا مِنْهُمْ الْمُرْسَلُونَ، وَالنَّبِيُّونَ، وَالصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ، وَالصَّالِحُونَ فَاقُوا أَهْلَ السَّمَاءِ، وَأَهْلَ الْأَرْضِ لِشِدَّةِ حُبِّهِمْ لِرَبِّهِمْ فَمَا أَصَابُوا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يُصِيبُوهُ عَلَى جِهَةِ مَا يُصِيبُهُ أَهْلُ الدُّنْيَا مِنْ التَّلَذُّذِ، وَالطَّرَبِ إلَيْهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِهِ، وَالتَّفَكُّهِ إنَّمَا يُصِيبُونَهُ عَلَى مَوْضِعِ التَّقْوِيَةِ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ أَكَلُوا مِنْ الدُّنْيَا أَكْلَةً وَاحِدَةً

تَكُونُ آخِرَ زَادِهِمْ مِنْهَا لَاكْتَفَوْا بِمَا قَلَّ فَلَمَّا أَعْطَوْا اللَّهَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ ضَيَّقَ أَمْعَاءَهُمْ، وَأَسْقَطَ عَنْهُمْ شَهَوَاتِهِمْ، وَاكْتَفَوْا بِالْيَسِيرِ مِنْ الْمَطْعَمِ فَعِنْدَ ذَلِكَ خَفَّتْ عَلَيْهِمْ مُؤْنَةُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُنَافِسُوا فِيهَا أَحَدًا فَتِلْكَ حَالَاتُهُمْ فِي الْمَطْعَمِ، وَالْمَلْبَسِ مَا تَهَيَّأَ أَكَلُوهُ، وَلَبِسُوهُ لَيْسَ لَهُمْ تَخْيِيرٌ، وَلَا تَلَذُّذٌ فِي أَخْذٍ، وَلَا تَرْكٍ خَوْفَ الشَّهَوَاتِ، وَالِاشْتِغَالُ عَمَّا هُمْ فِيهِ فَأَسْكَنَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَحُبِّهِ مَا أَذَابَ كُلَّ مَوَدَّةٍ لِأَهْلٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ مَالٍ فَإِنْ عَرَضَ مِنْ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ عَارِضٌ فَخَاطِرٌ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتٍ فِيهَا وَرِثُوا نُورَ الْهُدَى فَأَبْصَرُوا مَوَاضِعَ حِيَلِ إبْلِيسَ، وَمَكْرِهِ فَكَسَرُوا عَلَيْهِ كَيْدَهُ، وَلَبَّسُوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَدَلُّوا النَّاسَ عَلَى مَوَاضِعِ مَكْرِهِ فَهُمْ نُصَحَاءُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ، وَأُمَنَاؤُهُ فِي بِلَادِهِ ثُمَّ أَسْكَنَ مَحَبَّتَهُمْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ فِي عِلِّيِّينَ فَأَحَبَّهُمْ، وَحَبَّبَهُمْ إلَى مَلَائِكَتِهِ. فَأَحْيُوا قُلُوبَكُمْ أَيُّهَا الْمُرِيدُونَ بِالذِّكْرِ، وَأَمِيتُوهَا بِالْخَشْيَةِ، وَنَوِّرُوهَا بِحُبِّ لِقَاءِ اللَّهِ، وَفَرِّحُوهَا بِالشَّوْقِ إلَيْهِ، وَاقْمَعُوهَا بِالْمُنَاصَحَةِ. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِالْمَحَبَّةِ تَرْتَفِعُونَ، وَبِالْمَعْرِفَةِ تَرْهَبُونَ، وَبِالشَّوْقِ تَرْغَبُونَ، وَبِحُسْنِ النِّيَّةِ تَقْهَرُونَ الْهَوَى، وَبِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ تَصْفُو لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، وَتُؤْثِرُونَ رَبَّكُمْ وَحْدَهُ حَتَّى يُؤْثِرَكُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاءِ فِي عِلِّيِّينَ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُرِيدًا لِلرَّاحَةِ فَلْيَعْمَلْ فِي مَنَازِلِ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِعَزْمٍ، وَإِرَادَةِ قُوَّةٍ وَهِيَ الدَّرَجَاتُ السَّبْعُ الَّتِي تَتَنَقَّلَ فِيهَا بَنُو آدَمَ حَتَّى يَصِيرُوا إلَى الْمَعْرِفَةِ، وَالْعِلْمِ، وَهِيَ الدَّرَجَاتُ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَيْهَا الرُّسُلَ ثُمَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ الْوَحْيُ مَعَ جِبْرِيلَ، وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْعَوَائِدِ، وَإِنَّمَا وَرِثَ ذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ خَصَّهُمْ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ ثُمَّ وَرِثَ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ الصِّدِّيقُونَ فَاقْتَدُوا بِهِمْ وَجِدُّوا فِي آثَارِهِمْ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْكِمْ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ السَّبْعِ إلَّا رَسُولٌ أَوْ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْ الْأَبْدَالِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَوْتَادَ الْأَرْضِ فَسَقَى بِهِمْ الْغَيْثَ، وَأَنْزَلَ عَلَى الْعِبَادِ بِدُعَائِهِمْ الرَّحْمَةَ، وَصَرَفَ عَنْهُمْ بِهِمْ السُّوءَ فَمَنْ كَانَ مُرِيدًا لِلْعَمَلِ

فصل الأعمال الصالحة على قدر المعرفة

فِي هَذِهِ الدَّرَجَاتِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِالْمُرْسَلِينَ، وَالنَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ فِي سَيْرِهِمْ فَلْيَرْفُضْ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ مِنْهَا عَلَاقَةٌ تَشْغَلُهُ عَنْ رَبِّهِ فَإِنَّهُ مَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا شَغَلَهُ حَتَّى تَغْلِبَ عَلَيْهِ فَلْيَبْدَأْ بِرَفْضِ الدُّنْيَا، وَطَرْحِهَا مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى لَا تَعْدِلَ عِنْدَهُ قَدْرَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ فَإِنَّهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَأَصْغَرَ [فَصْلٌ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ] قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ، وَيَتَنَاوَلُ مِنْ الدَّرَجَاتِ السَّبْعِ دَرَجَةَ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ رَبَّهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ حَيْثُ تَعَرَّفَ إلَيْهِ رَبُّهُ فَقَدْ تَعَرَّفَ إلَى خَلْقِهِ بِخَلْقِهِ إيَّاهُمْ، وَتَدْبِيرِهِ فِيهِمْ، وَبِصِفَتِهِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ أَنَابَ إلَيْهِ، وَطَلَبَ رِضَاهُ، وَأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ كَذَّبَ بِهِ، وَكَذَبَ عَلَيْهِ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ، وَعَصَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحْكِمْ أَمْرَ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يُدْرِكْ مَا سِوَاهَا مِنْ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ، وَلَا مِنْ الدَّرَجَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَلَا تَكُنْ الْمَعْرِفَةُ حَتَّى تَثْبُتَ فِي الْقَلْبِ بِالْيَقِينِ الرَّاسِخِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَتْ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ فَإِنْ قَصَّرَ فِي الْمَعْرِفَةِ كَانَ فِي الْعَمَلِ أَشَدَّ تَقْصِيرًا، وَضَعْفًا لِنِيَّتِهِ، وَلَمْ يَجِدْ السَّبِيلَ إلَى بُلُوغِ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ. ، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى قَلْبِهِ بِمَا كَسَبَ، وَأَنَّهُ مَعَهُ يَرَاهُ، وَيَنْظُرُهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ رِضَاهُ، وَلِقَائِهِ، وَلَا أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَبَقَائِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يُحِبَّهُ إلَّا لِلْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَلْيَنْظُرْ الْمُرِيدُ لِلْمَعْرِفَةِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَيَتَدَبَّرْهَا حَتَّى يَعْرِفَهُ بِهَا، وَيَدْخُلَ ذَلِكَ قَلْبَهُ فَإِنَّهُ يُوَرِّثُ قَلْبَهُ بِذَلِكَ الْعِلْمَ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ. فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ إلَّا مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَنَهَاهُ عَنْهُ، وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ يُنَشِّطُهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ. ثُمَّ يُوَرِّثُ قَلْبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَشْيَةَ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ دَرَجَةُ التَّقْوَى لِلَّهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ، وَجَلَّ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، وَهِيَ مُرَاقَبَتُهُ فِي السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ فَإِذَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ اسْتَقَلَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ لِلَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَأْلُو جَهْدًا، وَلَا اجْتِهَادًا، وَلَا يَمَلُّ فَإِذَا وَصَلَ الْعَبْدُ

إلَى ذَلِكَ، وَدَأَبَ عَلَى عَمَلِهِ فِيمَا يُرْضِي رَبَّهُ نَظَرَ اللَّهُ إلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُوَرِّثُ قَلْبَهُ الْحُبَّ لَهُ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ فَإِذَا صَارَ إلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ آثَرَ حُبَّ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ حُبِّ خَلْقِهِ، وَأَحَبَّ اللَّهَ، وَحَبَّبَهُ إلَى مَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ حَوْلَ عَرْشِهِ، وَإِلَى مَلَائِكَةِ السَّمَوَاتِ كُلِّهَا، وَأَهْلِ الْأَرْضِ، وَمَنْ فِيهَا، وَبَسَطَ حُبَّهُ عَلَى الْمَاءِ فَلَا يَشْرَبْهُ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ إلَّا أَحَبَّهُ، وَلَا يَزْدَادُ فِي عَمَلِهِ إلَّا جِدًّا، وَاجْتِهَادًا فَوُرِّثَ قَلْبُهُ بَعْدَ هَذَا الشَّوْقَ إلَيْهِ، وَالْحُبَّ لِلِقَائِهِ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الْخَامِسَةُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَاشِقِ قَدْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ الذِّكْرُ لِلَّهِ، وَشُغِلَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ مَا خَلَا الْفَرَائِضَ، وَاجْتِنَابَ الْمَحَارِمِ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْحَالِ أَقْوَى مِنْ كُلِّ عَامِلٍ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْفَعَ مَنْزِلَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَفَرَّغْ قَلْبُهُ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَا نَائِمًا، وَلَا قَائِمًا، وَلَا آكِلًا، وَلَا شَارِبًا، وَاَللَّهُ لَا يَنْسَى مَنْ ذَكَرَهُ فَلَوْ تَرَكَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، وَلَمَا انْتَفَعَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُوتَ تَشَوُّقًا إلَى اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا رَآهُ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مَنَّ عَلَيْهِ بِالطُّمَأْنِينَةِ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ السَّادِسَةُ فَيَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ حَتَّى يَكُونَ كَأَنَّهُ مُعَايِنٌ لَهُ، وَكَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَوْدِعُهُ، وَأَنِيسُهُ، وَسَائِسُهُ، وَدَلِيلُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُوَرَّثُ قَلْبُهُ الْغِنَى، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ مُعْظَمُ دُعَائِهِ لِلْخَلْقِ بِالصَّلَاحِ، وَصَرْفِ السُّوءِ عَنْهُمْ حَتَّى يَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَسْقُطُ لَهُ دَعْوَةٌ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ السَّابِعَةُ. فَإِذَا صَارَ إلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَتَفَوَّهْ بِشَيْءٍ مِنْ حَوَائِجِهِ إذَا خَطَرَتْ بِبَالِهِ تَصِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا أَرَادَ مِنْهَا يَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَ بِشَيْءٍ خَطَرَ عَلَى بَالِهِ لُطْفًا مِنْ اللَّهِ، وَتَعَاهُدًا مِنْهُ حَتَّى يَعْجَبَ مِنْ لُطْفِهِ، وَنَظَرِهِ، وَصُنْعِهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ عَدْلًا، وَفِعْلُهُ رِضًا فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنْ وَالَاهُ نِعَمَهُ، وَأَغْنَاهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

فصل ويتقي الرياء والكبر والعجب

[فَصْلٌ ويتقي الرِّيَاء والكبر والعجب] فَصْلٌ فِي الرِّيَاءِ وَاعْلَمْ - وَفَّقَنَا اللَّهُ -، وَإِيَّاكَ أَنَّ آكَدَ مَا عَلَى الْمُرِيدِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ التَّحَفُّظُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالتَّحَرُّزُ مِنْ الْآفَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِيمَا هُوَ بِصَدَدِهِ إذْ أَنَّ الْعَوَائِقَ كَثِيرَةٌ ظَاهِرًا، وَبَاطِنًا فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَنْعِ الْوُصُولِ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَأْخُذُ نَفْسَهُ أَوَّلًا بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي التَّحَرُّزِ مِمَّا ذُكِرَ لِيَسْلَمَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ: فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَتَّقِيَ الرِّيَاءَ، وَالْعُجْبَ، وَالشُّهْرَةَ، وَالْكِبْرَ؛ لِأَنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ أَدْنَى الْأَشْيَاءِ مِنْهُ يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا، وَقَدْ يَخْفَى فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ كَمَا وَرَدَ لَكِنْ يَتَبَيَّنُ أَمْرُهُ. وَتَظْهَرُ آفَاتُهُ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ يُمْنُ بْنُ رِزْقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ أَنْ قَالَ: أَصْلُ الْعَبْدِ لَمْ يَزَلْ مُذْ نَشَأَ مُرَائِيًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَذَلِكَ لِمَيْلِهِ إلَى الدُّنْيَا، وَإِيثَارِهِ لَهَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَإِهْمَالِهِ نَفْسَهُ، وَإِرْسَالِهِ نِيَّتَهُ فَلَمَّا أَهْمَلَ نَفْسَهُ، وَقَلَّتْ مُحَاسَبَتَهُ لَهَا لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ الرِّيَاءِ فَعَمِلَ لِلدُّنْيَا عَلَى غَيْرِ أَصْلِ نِيَّةٍ ثَابِتَةٍ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ إهْمَالِ النَّفْسِ، وَتَضْيِيعِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فَنَهَاهُمْ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ إضَاعَةِ الْأَعْمَالِ فَلَا يَكُونُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا عَنْ إرَادَةٍ، وَلَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إلَّا عَنْ نِيَّةٍ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ إضَاعَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَيُّ عَمَلٍ أَكْبَرُ مِنْ الْإِرَادَةِ، وَالنِّيَّةِ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ، وَالْحَرَكَةُ، وَالسُّكُونُ جَمِيعُهَا عَمَلٌ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ تَضْيِيعِ الْعَمَلِ فَلَمَّا تَرَكَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ إخْلَاصِ الْعَمَلِ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الرِّيَاءِ، وَغَيْرِهِ، وَأَمْرَجَ نَفْسَهُ فَعَمِلَ عَلَى مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، وَجَمِيعُ مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ رِيَاءٌ مَحْضٌ ظَاهِرٌ لَا يَعْرِفُهُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَعْرِفُهُ مِنْهُ مَنْ نَوَّرَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ فَهُمْ يَرَوْنَ فِعْلَهُمْ فِعْلَ أَهْلِ الرِّيَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكُ عَنْ صَاحِبِهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَلَوْ أَنَّهُ

أَبْدَى إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ عُيُوبِهِ لَنَفَرَ مِنْهُ، وَذَبَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَبْطَلَ مَا نَسَبَهُ إلَيْهِ فَصَارَ عَدُوًّا مُشَاحِنًا، وَأَقَلُّ مَا يَقُولُ لِلْعَارِفِ بِعُيُوبِهِ: حَسَدْتنِي فَلَمَّا عَلِمَ الْحَكِيمُ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَأَنَّ زَمَانَهُ زَمَانُ غَلَبَةِ الْهَوَى، وَإِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ اعْتَزَلَ بِنَفْسِهِ، وَنَفَرَ عَنْ الْعَامَّةِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ زَمَانٌ قَدْ صَارَ الْمَعْرُوفُ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِهِ مُنْكَرًا، وَأَنَّ الشَّرَّ قَدْ أَحَاطَ بِالْخَيْرِ، وَاعْتَزَلَ أَهْلَ زَمَانِهِ بِصِدْقِ الْإِرَادَةِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الصِّدْقُ، وَمَا فِيهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصْفُو إلَّا بِالصِّدْقِ اتَّقِي الْكَذِبَ، وَفُنُونَهُ كُلَّهَا، وَتَشَوَّقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ نَفْسُهُ إلَى الْكَذِبِ، وَالرِّيَاءِ لِحَلَاوَةِ فُنُونِهِ عِنْدَهَا فَأَخَذَهَا بِالْجِدِّ، وَالِاجْتِهَادِ فِي تَرْكِ ذَلِكَ فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ مِنْهُ رَجَعَتْ مُنْقَادَةً فَلَمَّا صَارَتْ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَرَأَى الْعَبْدُ ذَلِكَ مِنْهَا ازْدَادَ إلَى الصِّدْقِ تَشَوُّقًا، وَازْدَادَ لِلْكَذِبِ مَقْتًا. وَإِنَّمَا كَانَ يَنْفِرُ الصِّدْقُ، وَفُنُونُهُ مِنْ قَلْبِهِ لِغَلَبَةِ الْكَذِبِ، وَفُنُونِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الرِّيَاءُ، وَالْعُجْبُ، وَحُبُّ الرِّيَاسَةِ، وَاِتِّخَاذُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ، وَالْمَحْمَدَةُ، وَالْعِزَّةُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَالتَّخْيِيرُ فِي الْأَعْمَالِ الْكَاذِبَةِ فَمَنْ عَمِلَ بِالصِّدْقِ، وَاتَّقَى الْكَذِبَ بَرِئَ مِنْ الرِّيَاءِ، وَالْعُجْبِ، وَدَوَاعِي الشَّرِّ كُلِّهِ فَإِذَا خَلَا مِنْ ذَلِكَ ثَبَتَ الصِّدْقُ، وَفُنُونُهُ فِي قَلْبِهِ. قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي ابْنَ آدَمَ مِنْ قِبَلِ الْمَعَاصِي فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ أَتَاهُ مِنْ وَجْهِ النَّصِيحَةِ لِيَسْتَدْرِجَهُ فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي بِدْعَةٍ فَإِنْ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَتَاهُ مِنْ جِهَةِ الْحَرَجِ، وَالشِّدَّةِ لِيُحَرِّمَ حَلَالًا أَوْ يُحِلَّ حَرَامًا فَإِنْ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الْوُضُوءِ فَيُشَكِّكُهُ فِي وُضُوئِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَصِيَامِهِ حَتَّى يَعْتَقِدَ بِهَوَاهُ أَمْرًا يَضِلُّ بِهِ عَنْ السَّبِيلِ، وَيَدْعُ الْعِلْمَ فَإِذَا قَدَرَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ خَلَّى بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْعِبَادَةِ، وَالزُّهْدِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالصَّدَقَةِ، وَكُلِّ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَيُخَفِّفُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَايَدَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَرَدَةِ فَيَقُولُ لَهُ إبْلِيسُ: دَعْهُ لَا تَصُدَّهُ عَمَّا يُرِيدُ فَإِنَّمَا بِأَمْرِي يَعْمَلُ فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ النَّاسُ فِي عِبَادَتِهِ، وَزُهْدِهِ، وَصَبْرِهِ، وَرِضَاهُ بِالذُّلِّ قَالَتْ الْعَامَّةُ، وَمَنْ لَا عِلْمَ لَهُ: هَذَا عَالِمٌ مُصِيبٌ صَابِرٌ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى ضَلَالَتِهِ، وَيَمُدُّ لَهُ إبْلِيسُ الصَّوْتَ فَيُعْجَبُ بِعَمَلِهِ فَيَكُونُ فِتْنَةً لِكُلِّ مَفْتُونٍ. وَعَلَامَتُهُ

الْإِعْجَابُ بِرَأْيِهِ، وَالْإِزْرَاءُ عَلَى مَنْ لَا يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِ، وَيَكُونُ نَظَرُهُ لِلنَّاسِ بِالِاحْتِقَارِ لَهُمْ، وَيَتَغَضَّبُ عَلَيْهِمْ فِي التَّقْصِيرِ بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْعِلْمِ: احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَابِدِ الْجَاهِلِ، وَالْعَالِمِ الْفَاسِقِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ. وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ بِالرِّفْقِ قَالَ لَهُ الْعَدُوُّ: إنَّ الْعَمَلَ بِالْخَيْرِ لَا يَنْفَعُك حَتَّى تَدَعَ الشَّرَّ كُلَّهُ، وَتَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَتَعْتَزِلَ عَنْ النَّاسِ فَاعْرِفْ نَفْسَك، وَأَصْلِحْ عُيُوبَك، وَاَلَّذِي عِنْدَك أَكْثَرُ، وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُصْلَحَ هَكَذَا سَرِيعًا، وَيُعَظِّمُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ حَتَّى يَكَادَ يَقْنَطُ، وَيَنْقَطِعُ عَنْ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدَيْهِ دُنْيَا عَرَضَ لَهُ بِحُسْنِ الظَّنِّ، وَالرَّجَاءِ، وَالتَّسْوِيفِ، وَطُولِ الْأَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ إلَى هَذَا الْبَابِ قَطَعَهُ عَنْ الْبِرِّ، وَشَغَلَهُ بِالدُّنْيَا، وَشَهَوَاتِهَا، وَإِنْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: التَّوْبَةُ، قَالَ: صَدَقْت لَعَمْرِي لَقَدْ فَرَّطْت، وَأَخَاف أَنْ يُدْرِكَك الْمَوْتُ فَعَلَيْك بِالْجِدِّ، وَالِاجْتِهَادِ، وَلَا تُرِيدُ أَنْ تُقَصِّرَ فَيُلْزِمُهُ أَشَدَّ الْعِبَادَةِ فَيَثْبُتُ أَوْ يَنْقَطِعُ أَوْ يَذْهَبُ عَقْلُهُ فَإِنْ اشْتَهَرَ بِذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ أَلْقَى إلَيْهِ طُولَ الْأَمَلِ، وَخَوَّفَهُ قِلَّةَ الصَّبْرِ، وَيَقُولُ لَهُ: لَك بِالنَّاسِ أُسْوَةٌ فَيُبَغِّضُ إلَيْهِ الْعِبَادَةَ، وَيُثَقِّلُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ عَرَفُوك بِالْعَمَلِ فَلَا تُبْدِ لَهُمْ التَّقْصِيرَ، وَدَعْ نَفْسَك فِي السِّرِّ، وَيَعْرِضُ لَهُ بِغِذَائِهِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّهَوَاتِ الَّتِي كَانَ يُصِيبُهَا فَيَمِيلُ إلَيْهَا، وَيَرْجِعُ إلَى حَالَتِهِ الْأُولَى، وَصَارَ عَمَلُهُ عَلَانِيَةً رِيَاءً لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَحْلِيَ الْكَلَامَ فِي الزُّهْدِ، وَمَا يُزَيِّنُهُ عِنْدَ النَّاسِ، وَيُحَبِّبَ إلَيْهِ مُجَالَسَةَ النَّاسِ فَتَصِيرُ عِبَادَتُهُ، وَزُهْدُهُ كُلُّهُ بِالْكَلَامِ. فَالْعَالِمُ عَرَفَ ضَعْفَ نَفْسِهِ، وَعَرَفَ زَمَانَهُ، وَقِلَّةَ الْأَعْوَانِ فِيهِ عَلَى الْخَيْرِ، وَكَثْرَةَ الْأَعْدَاءِ فَأَخَذَ الْأَمْرَ بِالرِّفْقِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ، وَطَلَبَ صَفَاءَ الْأَعْمَالِ، وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا، وَإِنْ قَلَّتْ الْأَعْمَالُ، وَطَلَبَ مُخَالَفَةَ الْهَوَى، وَنَقَلَ الطِّبَاعَ بِالرِّفْقِ، وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ، وَأَخْرَجَ النَّاسَ مِنْ قَلْبِهِ، وَقَصَدَ جِهَادَ نَفْسِهِ، وَمُحَارَبَةَ الشَّيْطَانِ، وَالْمُعَانَدَةَ لِلْهَوَى بِالْخِلَافِ؛ لِمَا يُلْقُونَ إلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ مَكِيدَةٍ مِنْ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ سِلَاحًا يَدْفَعُ بِهِ تِلْكَ الْمَكِيدَاتِ

وَيَنْبَغِي لِلْعَابِدِ أَنْ يَعْرِفَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ مِنْ أَيْنَ تَأْتِيهِ، وَمَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَصِلُ إلَى الْعَبْدِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ قِبَلِ مُوَافَقَةِ الْهَوَى فَإِذَا بَدَأَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ، وَمُحَارَبَتِهَا، وَبِهَوَاهُ فَأَمَاتَهُ هَانَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ. وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَإِنْ أَنْتَ وَغِلْت فِيهِ بِالرِّفْقِ أَمْكَنَك، وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ، وَقَلِيلٌ تَدُومُ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ يَقْطَعُك فَإِنَّك لَمْ تَرَ شَيْئًا أَشَدَّ تَوَلِّيًا مِنْ الْقَارِئِ إذَا تَوَلَّى، وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ» ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ الزِّيَادَةَ، وَيَكْرَهُونَ النُّقْصَانَ. وَيَنْبَغِي لِلْعَابِدِ أَنْ يَكُونَ حَذِرًا مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَإِنَّ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ خَالَفَ الْحَقَّ، وَمَنْ خَالَفَ الْحَقَّ هَلَكَ. فَائْتِ الْعُلَمَاءَ، وَالْزَمْ أَدَبَهُمْ فَإِنْ رَأَيْتهمْ يُقَصِّرُونَ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُونَ فَلَا تَزْهَدْ فِيهِمْ، وَاقْتَدِ بِذِي الْبَصِيرَةِ مِنْهُمْ، وَالْبَصَرِ، وَمَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ أَنَّهُ قَالَ: عُقُولُ الرِّجَالِ عَلَى قَدْرِ أَزْمِنَتِهِمْ فَإِذَا نَقَصَ الْعَقْلُ نَقَصَ الْبِرُّ كُلُّهُ فَاعْرِفْ نَفْسَك فِي زَمَانِك وَاعْلَمْ أَنَّ الزُّهْدَ، وَالْعِبَادَةَ، وَالْعِلْمَ الْمَعْمُولَ بِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَلِيلٌ، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْعُلَمَاءِ لَا يَصْبِرُ عَلَى نُزُولِ الْمِحَنِ فَكَيْفَ يَصْبِرُ الْجَاهِلُ عَلَى نُزُولِهَا، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالزُّهَّادِ لَا يَصْبِرُ فَكَيْفَ يَصْبِرُ الرَّاغِبُ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَالِمُ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ شِدَّةِ الصَّبْرِ خَرَجَ، وَالْجَاهِلُ مِنْ شِدَّةِ الصَّبْرِ حَرَجَ، وَأَمَّا الْعَالِمُ الصَّادِقُ الَّذِي اسْتَوْجَبَ اسْمَ الْعِلْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ مِنْ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ بِجَوَارِحِهِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ فَيَمْقُتُهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَرَهُ اللَّهُ يُؤْثِرُ دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ فَصَبَرَ عَلَى الدُّنْيَا، وَصَبَرَ عَلَى الذَّمِّ، وَالتَّقْصِيرِ، وَالتَّقَلُّلِ، وَكَرِهَ الْمَدْحَ، وَالتَّوَسُّعَ مِنْ الدُّنْيَا، وَالْجَاهِلُ الَّذِي يَعْمَلُ بِجَهْلٍ جَزَعَ مِنْ الذَّمِّ، وَفَرِحَ بِالْمَدْحِ، وَالتَّوَسُّعِ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى صَبَرَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ الْجَزَعِ فَاحْذَرْ

أَنْ تَصْبِرَ صَبْرَ الْجَاهِلِ، وَلِذَلِكَ ثَقُلَ الْعَمَلُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ، وَخَفَّ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ، وَنَوْمُ الْعَالِمِ أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ الْجَاهِلِ، وَضَحِكُ الْعَالِمِ بِاَللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ بُكَاءِ الْجَاهِلِ فَاحْذَرْ إبْلِيسَ عَلَى أَفْعَالِك، وَاحْذَرْ نَفْسَك، وَهَوَاك، وَاحْذَرْ أَهْلَ زَمَانِك، وَلَا تَأْمَنْ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى دِينِك. وَاعْلَمْ أَنَّ إبْلِيسَ قَدْ نَصَبَ لَك حَبَائِلَهُ، وَأَقْعَدَ لَك الرَّصَدَةَ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ، وَقَدْ سُلِّطَ أَنْ يَجْرِيَ مِنْك مَجْرَى الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، وَيَرَاك هُوَ، وَأَعْوَانُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَاهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَأْتِيك مِنْ قِبَلِ الرِّيَاءِ، وَالْعُجْبِ، وَالْكِبْرِ، وَالشَّكِّ، وَالْإِيَاسِ، وَالْأَمْنِ مِنْ الْمَكْرِ، وَالِاسْتِدْرَاجِ، وَتَرْكِ الْإِشْفَاقِ فَإِنْ تَابَعْته فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْتَ عَلَى سَبِيلِ هَلَكَةٍ فَحِينَئِذٍ يُخَلِّي بَيْنَك، وَبَيْنَ مَا شِئْت مِنْ الْعَمَلِ فَإِنْ خَالَفْته أَتَاك مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا لِيَسْتَوْلِيَ الْهَوَى عَلَى قَلْبِك فَيَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ الَّذِي يُرِيدُ مِنْك فَإِنْ خَالَفْته أَتَاك مِنْ قِبَلِ الْمَعَاصِي فَإِنْ خَالَفْته أَتَاك مِنْ قِبَلِ النَّصِيحَةِ. وَهَذِهِ الْخِصَالُ الَّتِي، وَصَفْت لَك كُلُّهَا أَشَدُّ مِنْ الْمَعَاصِي، وَصَاحِبُهَا لَا يَكَادُ يَثُوبُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا، وَرُبَّمَا انْتَبَهَ الْعَبْدُ فَتَابَ مِنْهَا فَإِنْ ظَفَرَ مِنْ الْعَبْدِ بِالْعُجْبِ قَالَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِك فَاعْمَلْ، وَأَعْلِنْ عَمَلَك فَيَتَأَسَّى النَّاسُ بِك، وَيَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِك، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِك؛ لِأَنَّهُ مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ فَإِذَا ظَهَرَ عَمَلُهُ فَرِحَ بِهِ فَصَارَ مُعْجَبًا، وَحَمِدَ نَفْسَهُ فَنَسِيَ النِّعْمَةَ عَلَيْهِ فَإِذَا نَظَرَ إلَى عَمَلِهِ حَبَّبَ إلَيْهِ حَمْدَهُمْ، وَاِتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَارَ مُرَائِيًا مُفَاخِرًا، فَاتَّهِمْ فَرَحَ الْقَلْبِ بِالْعَمَلِ فَإِنَّ الْفَرَحَ إلَى الْقَلْبِ الْفَرِحِ أَقْرَبُ، وَأَسْرَعُ مِنْهُ إلَى الْقَلْبِ الْحَزِينِ، وَأَقْلِلْ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَأْتِيك مَا تَكْرَهُ إلَّا مِمَّنْ تَعْرِفُ فَإِنْ كَانَ لَا يَأْتِيك مَا تَكْرَهُ إلَّا مِنْ قِبَلِهِمْ فَكُلَّمَا قَلُّوا كَانَ خَيْرًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فِي السِّرِّ فَلَا يَزَالُ بِهِ إبْلِيسُ يَقُولُ أَظْهِرْهُ لِيَقْتَدِيَ بِك النَّاسُ فِيهِ، وَتُنَشِّطَهُمْ عَلَى طَاعَةِ رَبِّك فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يُظْهِرَ فَإِذَا أَظْهَرَهُ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْعَلَانِيَةِ فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يَفْتَخِرَ بِهِ فَإِذَا افْتَخَرَ بِهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الرِّيَاءِ فَعَلَيْك بِعَمَلِ السِّرِّ، وَكِتْمَانِهِ، وَخُمُولِ النَّفْسِ

وَإِسْقَاطِ الْمَنْزِلَةِ، وَاكْتُمْ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَكْتُمُ السَّيِّئَاتِ، وَخَفْ مِنْ فَضِيحَةِ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَخَافُ مِنْ فَضِيحَةِ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّ الْمُفْتَضِحَ بِالسَّيِّئَاتِ لَيْسَ يَفْتَضِحُ عِنْدَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إنَّمَا يَفْتَضِحُ عِنْدَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَالْمُفْتَضِحُ بِالْحَسَنَاتِ إذَا دَخَلَهَا الرِّيَاءُ افْتَضَحَ عِنْدَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فَاحْذَرْ، وَاسْتَحِ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَرَاك تَعْمَلُ لِغَيْرِهِ، وَتَطْلُبُ الثَّوَابَ مِنْهُ، وَأَخْلِصْ الْعَمَلَ لِلَّهِ، وَاصْدُقْ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَخْلِيصَ الْعَمَلِ فِي الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَلِ حَتَّى يَتَخَلَّصَ، وَالِاتِّقَاءُ مِنْ الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْعَمَلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا مِنْ مُرَاءٍ، وَلَا مِنْ مُسْمِعٍ، وَلَا مِنْ دَاعٍ إلَّا بِثُبُوتٍ مِنْ قَلْبِهِ، وَاحْذَرْ الرِّيَاءَ كُلَّهُ فَإِنَّ أَوَّلَهُ، وَآخِرَهُ بَاطِلٌ، وَكُنْ فِي الْعَمَلِ مُتَأَنِّيًا، وَقَّافًا فَإِذَا هَمَمْت بِعَمَلٍ فَقِفْ عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ خَالِصًا فَاحْمَدْ اللَّهَ، وَامْضِ فِيهِ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَى إخْلَاصِهِ، وَأَكْلِفْ مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُ، وَتُحِبُّ أَنْ تَزْدَادَ مِنْهُ، وَدُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ فَاعْمَلْ بِمَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّهُ حَقٌّ وَاضِحٌ فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْك فَقِفْ، وَلَا تَقْتَحِمْ، وَنَاظِرِ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِعِلْمِهِمْ فَهُمْ الَّذِينَ قَصَدُوا إلَى اللَّهِ، وَهُمْ الدُّعَاةُ إلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ الْأَدِلَّاءُ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ، وَقَّافٌ عِنْدَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَحَاطِبِ اللَّيْلِ فَنَاظِرِ الْعُلَمَاءَ فِيمَا الْتَبَسَ عَلَيْك فَمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَخُذْ بِهِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَخُذْ أَنْتَ فِيهِ بِالثِّقَةِ، وَالِاحْتِيَاطِ فَإِنَّ الْإِثْمَ حَوَّازُ الْقُلُوبِ. ، وَاعْلَمْ أَنَّ إبْلِيسَ رُبَّمَا قَالَ لِلْعَبْدِ: قَدْ سَبَقَك النَّاسُ إلَى اللَّهِ مَتَى تَلْحَقُ بِهِمْ؟ فَلْيَقُلْ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: قَدْ عَرَفْتُك أَنَا فِي الطَّلَبِ إنْ رَفَقْت لَحِقْت، وَإِنْ لَمْ أُرْفِقْ لَمْ أَلْحَقْ إنْ صَبَرْت عَلَى الْقَلِيلِ نِلْت الْكَثِيرَ، وَإِنْ عَجَزْت عَنْ الْقَلِيلِ فَأَنَا عَنْ الْكَثِيرِ أَعْجَزُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ، وَجَلَّ {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] فَالزِّينَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَالنُّورُ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ عَمَلًا فَرَأَى الشَّيْطَانُ مَعَهُ نُورًا كَانَتْ هِمَّةُ الْخَبِيثِ أَنْ يُطْفِئَ ذَلِكَ النُّورَ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْعَبْدِ عَمَلَ السِّرِّ أَخْرَجَهُ إلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ بِحِيلَتِهِ، وَمَكِيدَتِهِ فَإِنْ عَمِلَ فِي الْعَلَانِيَةِ بِصِدْقٍ، وَإِخْلَاصٍ فَرَأَى

فِي عَمَلِهِ الْعَلَانِيَةِ نُورًا، وَصَبْرًا أَمَرَهُ بِمُخَالَفَةِ النَّاسِ لِيُؤْذَى فَلَا يَحْتَمِلُ فَإِنْ خَالَطَهُمْ فَأُوذِيَ، وَاحْتَمَلَ الْأَذَى أَمَرَهُ بِالْعُزْلَةِ، وَالرَّاحَةِ مِنْ النَّاسِ لِيُعْجَبَ بِمَا يَعْمَلُ، وَيَضْجَرَ مِنْ الْعَمَلِ فَإِنْ اعْتَزَلَ، وَصَبَرَ، وَأَخْلَصَ قَالَ لَهُ: الرِّفْقُ خَيْرٌ لَك فَيَصُدُّهُ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا يَلْتَمِسُ مِنْ الْأَشْيَاءِ غَفْلَتَهُ فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْهُ، وَلْيَسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْإِخْلَاصِ خَائِفٌ، وَجِلٌ حَزِينٌ مُتَوَاضِعٌ مُنْتَظِرٌ لِلْفَرَجِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَوَدُّ أَنَّهُ نَجَا كَفَافًا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، وَالْجَاهِلُ فَرِحٌ فَخُورٌ مُتَكَبِّرٌ مُدْلٍ بِعَمَلِهِ، وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَعْرِفُ مِائَةَ بَابٍ مِنْ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنْهَا شَيْءٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ الصَّادِقَ الْمُخْلِصَ الْعَارِفَ الْخَائِفَ الْمُشْتَاقَ الرَّاضِيَ الْمُسَلِّمَ الْمُوَفَّقَ الْوَاثِقَ الْمُتَوَكِّلَ الْمُحِبَّ لِرَبِّهِ يُحِبُّ أَنْ لَا يُرَى شَخْصُهُ، وَلَا يُحْكَى قَوْلُهُ، وَيَوَدُّ أَنَّهُ أَفْلَتَ كَفَافًا فَمَعْرِفَتُهُ بِنَفْسِهِ بَلَغَتْ بِهِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ، وَتَمَسُّكُهُ بِهَذِهِ الْعَزَائِمِ أَوْصَلَهُ إلَى مَحْضِ الْإِيمَانِ. وَالْجَاهِلُ الْمِسْكِينُ يُحِبُّ أَنْ يُعْرَفَ بِالْخَيْرِ، وَيَنْتَشِرَ عَنْهُ، وَيُنْشَرَ ذِكْرُهُ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُزْرَى عَلَيْهِ فِي قَوْلٍ، وَلَا فِعْلٍ بَلْ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيُوَطَّأُ عَقِبُهُ، وَإِنْ لَمْ يُزْرِ لَهُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا شِدَّةُ حُبِّهِ لِذَلِكَ لِحَلَاوَةِ الثَّنَاءِ، وَالْحُبِّ لِإِقَامَةِ الْمَنْزِلَةِ، وَالْفِتْنَةُ فِي هَذَا عَظِيمَةٌ، وَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ شَدِيدَةٌ، وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ الْهَوَى يَتَلَاعَبُ بِهِ الشَّيْطَانُ كُلَّ التَّلَاعُبِ تَنْقَضِي أَيَّامُهُ، وَيَفْنَى عُمْرُهُ عَلَى هَذَا الْحَالِ أَسِيرًا لِلشَّيْطَانِ، وَعَبْدًا لِلْهَوَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ إذَا نَظَرَ إلَى الْعَبْدِ مُرِيدًا صَادِقًا مُخْلِصًا مُدَاوِمًا عَارِفًا بِنَفْسِهِ عَارِفًا بِهَوَاهُ مُعَانِدًا لَهُمَا حَذِرًا مُسْتَعِدًّا عَارِفًا بِفَقْرِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ لَهُ: إنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إلَّا بِالْأَعْوَانِ عَلَيْهِ، وَالشَّيْطَانُ عَلَى الْوَاحِدِ أَقْوَى، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ فَجَالِسْ إخْوَانَكَ، وَذَاكِرْهُمْ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَنُوبُك فِي عَمَلِك مِنْ نَفْسِكَ، وَهَوَاكَ، وَمِنْ عَدُوِّكَ فَإِنَّهُمْ يَدُلُّونَكَ، وَيُعِينُونَك يُرِيدُ بِذَلِكَ ذَهَابَ حُزْنِ الْخَلَوَاتِ، وَإِطْفَاءَ نُورِ الْعُزْلَةِ، وَقَطْعَ سَبِيلِ النَّجَاةِ، وَفَتْحَ طَرِيقِ الْفُضُولِ، وَالشُّغْلِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِخْرَاجَهُ

مِنْ عَمَلِ السِّرِّ إلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ إطْفَاءَ مَا قَدْ أَحْدَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ نُورِ فِكْرِ الْخَلَوَاتِ فَإِنْ قُلْتَ هَذَا إنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك: أَجَلْ إنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ تَعْلِيمُك النَّاسِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِك فَلَوْ أَخْبَرْت النَّاسَ بِذَلِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَك لِيَعْلَمُوا مِنْ آفَاتِ الْأَعْمَالِ مَا تَعْلَمُ فَتُؤْجَرُ فِيهِمْ فَإِنْ قُلْت أَيْضًا هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك: لَوْلَا عِلْمُك لَمْ تَعْلَمْ بِهَذِهِ الْآفَاتِ لِتُعْجَبَ بِنَفْسِك، وَتَنْسَى النِّعْمَةَ عَلَيْك فِي الْعَمَلِ فَتُخْمِدَ النَّفْسَ فَلَا يُجَاوِزُ عَمَلُك رَأْسَك فَاحْذَرْ هَذَا الْبَابَ فَإِنَّ فِيهِ شَهَوَاتٍ خَفِيَّةً، وَمِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ أَنْ يُخْفِي الْعَبْدُ عَمَلَهُ، وَيُحِبَّ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ بِهِ، وَيُحِبَّ أَنْ يُرَى أَثَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَالْعَمَلُ خَفِيَ فِي السِّرِّ إلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُرَى أَثَرُ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَلَيْهِ إمَّا مِنْ عَلَامَةِ عَطَشٍ إنْ كَانَ صَائِمًا أَوْ عَلَامَةِ سَهَرٍ فِي الْوَجْهِ إنْ كَانَ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ إنْ قَالَ أَنَا أَعْمَلُ لِلَّهِ لَا لِلنَّاسِ قَالَ لَهُ: صَدَقْتَ أَخْلِصْ عَمَلَك لِلَّهِ فَإِنَّ الْمُخْلِصَ يُحَبِّبُهُ اللَّهُ إلَى النَّاسِ، وَيُعَرِّفُهُمْ فَضْلَهُ فَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ: وَمَا حَاجَتِي إلَى النَّاسِ قَالَ: فَأَنْتَ الْآنَ الْمُخْلِصُ الَّذِي قَدْ أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنْ قَلْبِك، وَعَرَفْت مَكِيدَةَ إبْلِيسَ، وَقَدْ نَجَوْت، وَأَنْتَ مَعْصُومٌ فَإِنْ عَقَلَ الْعَبْدُ، وَقَالَ لَهُ: وَمَنْ أَنَا، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ مَنٌّ مِنْ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَلَهَا شُكْرٌ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْجَزَاءِ لِمَنْ أَخْلَصَ، وَلَمْ يُعْجَبْ بِعَمَلِهِ، وَلَمْ يَنْسِبْ إلَى نَفْسِهِ نِعْمَةً هِيَ مِنْ اللَّهِ قَدْ وَجَبَ لَهُ بِهَا عَلَيْهِ الشُّكْرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لِلْعَبْدِ عِنْدَ ذَلِكَ: الْآنَ نَجَوْت حِينَ اعْتَرَفْت لِلَّهِ بِذَلِكَ، وَقُمْت بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، وَتَوَاضَعْت لِرَبِّك، وَبَرَّأْت نَفْسَك مِنْ الْعَمَلِ، وَنَسَبْته إلَى الَّذِي هُوَ مِنْهُ فَإِنْ قَبِلْت ذَلِكَ مِنْهُ هَلَكْت، وَلَكِنْ قُلْ أَنَا أَرْجُو، وَأَخَافُ، وَلَيْسَ إلَيَّ مِنْ النَّجَاةِ شَيْءٌ، وَلَسْت أَدْرِي بِمَا يُخْتَمُ لِي عَمَلِي. وَإِيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ، وَالتَّزَيُّنَ بِتَرْكِ التَّزَيُّنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا تَزَيَّنَ الرَّجُلُ بِالرِّقَاعِ، وَالْخِرَقِ، وَالشُّعْثِ، وَتَرَكَ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ التَّزَيُّنَ فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ نَزَلْت بِمَحَلَّةِ خُشُوعِ النِّفَاقِ، وَإِنْ عَرَفْت نَفْسَك

بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ تُسَارِعْ إلَى التَّحَوُّلِ عَنْهُ خِفْت أَنْ يَلْحَقَك الْخِذْلَانُ، وَالْمَقْتُ فَاتَّقِ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِك، وَاعْمَلْ لَهُ كَأَنَّك تَرَاهُ. فَإِنْ قَالَ لَك الْخَبِيثُ: الْآنَ نَجَوْت حِينَ عَرَفْت نَفْسَك، وَأَنْزَلْتهَا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَحَذِرْت هَوَاك، وَعَدُوَّك فَقُلْ: الْآنَ هَلَكْتُ حِينَ أَمِنْت الْعِقَابَ فَإِنْ قَالَ لَك: الْآنَ نَجَوْت حِينَ خِفْت أَنْ تَكُونَ قَدْ أَمِنْت الْعِقَابَ فَقُلْ: الْآنَ هَلَكْت لَوْ كُنْت صَادِقًا لَصَدَّقَ قَوْلِي فِعْلِي، وَلَزِدْتُ خَوْفًا، وَحَيَاءً مِنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، وَلَوْ كُنْت كَذَلِكَ الْحَالُ بَيْنِي، وَبَيْنَك، وَجَعَلَنِي فِي حِرْزِهِ، وَحِصْنِهِ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ قَالَ: فِيهِمْ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] ، وَلَمْ تَكُنْ أَنْتَ تَدْخُلُ عَلَيَّ فِي عَمَلِي فَإِنْ قَالَ لَك: جَاهِدْ نَفْسَك فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْعَمَلِ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ شَغَلَهُمْ أَمْرُ غَيْرِهِمْ، وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَأَنْتَ بَيْنَهُمْ غَرِيبٌ، وَأَنْتَ كَالشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ بَيْنَ الشَّجَرِ الْيَابِسِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» ، وَأَنْتَ الْمَعْرُوفُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، وَالْمَجْهُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ فَإِنْ قَبِلْتَ ذَلِكَ هَلَكْتَ، وَإِنْ قُلْتَ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك: صَدَقْت هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ كَثُرَتْ عَلَيْك مَكَائِدُهُ، وَمُجَاهَدَةُ نَفْسِك، وَهَوَاك فَكَمْ تُعَذِّبُ نَفْسَك إنْ كُنْت شَقِيًّا لَمْ تَسْعَدْ أَبَدًا، وَإِنْ كُنْت سَعِيدًا لَمْ تَشْقَ أَبَدًا، وَلَا يَضُرُّك تَرْكُ الْعَمَلِ إنْ كُنْت سَعِيدًا، وَلَا يَنْفَعُك الْعَمَلُ الْكَثِيرُ إنْ كُنْت شَقِيًّا فَإِنْ قَبِلْت الْقُنُوطَ الَّذِي أَلْقَاهُ إلَيْك هَلَكْت، وَإِنْ تَرَكْت الْعَمَلَ، وَنِلْت مِنْ الشَّهَوَاتِ عَلَى الْغُرُورِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِزَعْمِك، وَالِاتِّكَالِ عَلَى الرَّجَاءِ الْكَاذِبِ، وَالطَّمَعِ الْكَاذِبِ، وَالْأَمَانِيِّ الْكَاذِبَةِ، وَرَجَوْت الْجَنَّةَ بِالْغُرُورِ، وَطَلَبْتهَا طَلَبَ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالرَّاحَةِ عَطِبْتَ، وَإِنْ امْتَنَعْت قَالَ لَك: أَحْسِنْ ظَنَّك بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْيُسْرَ، وَالدِّينُ وَاسِعٌ، وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَاعْرِفْ نَفْسَك عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْتَصِمْ بِاَللَّهِ {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] ، وَاعْلَمْ أَنَّك كُنْت فِي بَلَدٍ، وَأَنْتَ فِيهِ سَالِمٌ، وَأَمْرُك فِيهِ مُسْتَقِيمٌ، وَالنُّورُ مَعَك فِي فِعْلِك، وَقَوْلِك قَالَ لَك: عَلَيْك بِالثُّغُورِ، وَعَلَيْك

بِمَكَّةَ، وَعَلَيْك بِكَذَا فَإِنْ قَبِلْت ذَلِكَ رَأَيْت فَتْرَةً فِي عَاجِلِ عَمَلِك، وَقَسَاوَةً فِي قَلْبِك، وَوَقَعْت فِي الْمَشُورَةِ يُرِيدُ بِذَلِكَ النُّقْصَانَ بِسَبَبِ السَّفَرِ، وَالشُّغْلَ بِهِ عَنْ الدَّأَبِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالنَّشَاطِ الَّذِي كَانَ مَعَك فَإِنْ صِرْتَ إلَى بَلَدٍ أَنْتَ فِيهِ مَسْرُورٌ، وَقَلْبُك رَيِّحٌ قَالَ لَك: مَوْضِعُك كَانَ أَصْلَحَ لِقَلْبِك، وَأَجْمَعَ لِهِمَّتِك فَارْجِعْ إلَى مَوْضِعِك فَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا مَعَ مَعْرِفَةِ النَّفْسِ، وَالْفَقْرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ لِلدَّأَبِ ثَوَابًا، وَلِلصَّبْرِ ثَوَابًا {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَنْجُو بِالْأَعْمَالِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَهْلِكُ بِهَا، وَكُلُّ عَبْدٍ مُيَسَّرٌ؛ لِمَا خُلِقَ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَهْلِكُ بِالتَّفْرِيطِ، وَالتَّضْيِيعِ أَكْثَرُ، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا رَاهِبًا لَا يَأْمَنُ، وَلَا يَيْأَسُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَأْتِيك مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لَا يَغْفُلُ، وَلَا يَأْلُوك خَبَالًا إنْ كُنْت مُقِلًّا، عِنْدَك مِنْ الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسِيرٌ تُرِيدُ أَنْ تَقُوتَهُ نَفْسَك، أَمَرَك بِالصَّدَقَةِ، وَرَغَّبَك فِيهَا لِتُخْرِجَ مَا فِي يَدَيْك، وَتَحْتَاجَ رَجَاءَ أَنْ يَظْفَرَ بِك فِي حَالِ الْغَفْلَةِ، وَإِنْ كُنْت غَنِيًّا أَمَرَك بِالْإِمْسَاكِ، وَرَغَّبَك فِيهِ، وَخَوَّفَك الْفَقْرَ، وَالْحَاجَةَ، وَقَالَ لَك: ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَلَعَلَّك تَكْبَرُ، وَتَضْعُفُ، وَيَطُولُ عُمْرُك يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ تَصِيرَ إلَى حَالِ الْبُخْلِ فَيَظْفَرَ بِك، وَإِنْ كُنْت تَصُومُ، وَقَدْ عُرِفْت بِالصَّوْمِ، وَأَحْبَبْت أَنْ تُرِيحَ نَفْسَك قَالَ لَك: قَدْ عُرِفْت بِالصَّوْمِ لَا تُفْطِرْ فَيَضَعُ النَّاسُ أَمْرَك عَلَى أَنَّك قَدْ كَبِرْتَ، وَتَغَيَّرْتَ، وَفَتَرْتَ، وَعَجَزْتَ فَإِنْ قُلْتَ مَالِي، وَلِلنَّاسِ قَالَ لَك: صَدَقْت أَفْطِرْ فَإِنَّ الْمُحْسِنَ مُعَانٌ سَيَضَعُونَ أَمْرَك عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فَإِنْ قَبِلْتَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَفْطَرْتَ عَلَى أَنَّ النَّاسَ سَيَضَعُونَ أَمْرَك عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَالْمَنْزِلَةُ لَا تَسْقُطُ عِنْدَهُمْ بِإِفْطَارِك فَقَدْ عَطِبْتَ، وَإِنْ أَنْتَ نَفَيْت ذَلِكَ، نَصَبَ لَك بَابًا آخَرَ فَقَالَ لَك: عَلَيْك بِالتَّوَاضُعِ لِيُشْهِرَك عِنْدَ النَّاسِ، وَكُلَّمَا ازْدَدْت تَوَاضُعًا عَلَى قَبُولِهِ مِنْهُ لِلشَّهْوَةِ، وَالشُّهْرَةِ ازْدَادَ كَلَبًا عَلَيْك فَاتَّقِ مَا وَصَفْتَ لَك، وَالْجَأْ إلَى اللَّهِ فِي أُمُورِك كُلِّهَا، وَاتْرُكْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا لِعَمَلِ الْآخِرَةِ رَغْبَةً مِنْك فِي الْآخِرَةِ، وَحُبًّا لَهَا، وَإِيثَارًا لَهَا عَلَى الدُّنْيَا فَبِحُبِّك إيَّاهَا

تَصِلُ إلَيْهَا، وَبِقَدْرِ حُبِّك لَهَا تَعْمَلُ لَهَا، وَأَقِلَّ الدُّنْيَا، وَأَبْغِضْهَا فَبِقَدْرِ بُغْضِك لَهَا تَزْهَدُ فِيهَا، وَانْظُرْ إنْ كُنْتَ ذَا عِلْمٍ فَخِفْ أَنْ تُوقَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَك: بُعْدًا، وَسُحْقًا بَعْدَ الْعِلْمِ، وَالتَّبَصُّرِ مِلْتَ إلَى الدُّنْيَا، وَتَرَكْتَ الْعِلْمَ، وَالْعَمَلَ، وَاخْتَرْتَ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيمِ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فَلْيَعْبُدْ اللَّهَ الْعَالِمُ بِطَاعَةِ الْعِلْمِ، وَلْيَتْرُكْ طَاعَةَ الْجَهْلِ، وَلْيَتْرُكْ الِاغْتِرَارَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَبَرَّأُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ أَطَاعَهُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ يَقُولُ فِي الدُّنْيَا مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْجُو مِنِّي بِحِيلَةٍ فَفِي حِبَالِي وَقَعَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160] ، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] فَافْهَمْ، وَاحْذَرْ، وَافْطَنْ، وَانْظُرْ، وَحَارِبْ، وَاسْتَعِدَّ، وَكَابِدْ، وَجَاهِدْ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُرِيدُ بِهَا ثَوَابَ اللَّهِ، وَحْدَهُ فَ {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80] ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا ثَوَابَ اللَّهِ، وَحَمْدَ غَيْرِهِ هَلَكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْعَبْدِ أَنْ يُخْلِصَ عَمَلَهُ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَثِيرٌ غَيْرَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي إخْلَاصِ الْعَمَلِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ الْعَمَلَ كُلَّهُ يُرِيدُ بِهِ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَإِنْ اطَّلَعَ أَحَدٌ عَلَى عَمَلِهِ كَرِهَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يُسَرَّ بِذَلِكَ فَلَمْ يُحِبَّ أَنْ يَحْمَدَهُ أَحَدٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ، وَلَمْ يَتَّخِذْ بِهِ مَنْزِلَةً عِنْدَهُمْ فَهَذَا أَصْلُ إخْلَاصِ الْعَمَلِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَأَمَّا الرِّيَاءُ فَهُوَ أَنْ تُحِبَّ أَنْ يَحْمَدَك النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عَمَلِك أَوْ تَقُومَ لَك بِهِ مَنْزِلَةٌ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ أَرَادَ الْعَمَلَ اقْتَصَرَ عَلَى الْقَلِيلِ، وَمَنْ لَمْ يُرِدْ الْعَمَلَ لَمْ يَكْتَفِ بِالْكَثِيرِ. ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ فِي الْعَمَلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ أَهْمَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْعَمَلِ مِنْ الْبِرِّ فَعَمِلُوا لِيُعْرَفُوا بِالْخَيْرِ فَهُمْ الْهَالِكُونَ، وَصِنْفٌ أَهْلُ رَهْبَةٍ مِنْ اللَّهِ، وَرَغْبَةٍ فِيمَا عِنْدَهُ يُكَابِدُونَ الْأَعْمَالَ بِالصِّدْقِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَيَتَّقُونَ فَسَادَ الْأَعْمَالِ، وَلَا يُحِبُّونَ الْمَحْمَدَةَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا الْمَنْزِلَةَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مِنْ الْعَمَلِ لِلنَّاسِ، وَلَا يَتْرُكُونَ

مِنْ أَجْلِهِمْ شَيْئًا، وَأَحْيَانَا تَعْرِضُ لَهُمْ الْعَوَارِضُ، وَأَحْيَانَا يَسْلَمُونَ مِنْهَا، وَصِنْفٌ قَوِيَ إخْلَاصُهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ سَرِيرَتُهُمْ، وَعَلَانِيَتُهُمْ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ، وَتَرَكُوا الدُّنْيَا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهَا، وَنَظَرُوا إلَيْهَا بِالْعَيْنِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ بِهَا إلَيْهَا فَرَأَوْا عُيُوبَهَا فَمَقَتُوهَا، وَصَدَقُوا اللَّهَ فِي مَقْتِهِمْ لَهَا، وَتَرَكُوهَا زُهْدًا فِيهَا، وَصَدَقُوا اللَّهَ فِي ذَلِكَ فَمَاتَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَذَابَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ قَرَارٌ لِقُوَّةِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَمَّا اسْتَوْلَتْ الْعَظَمَةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِدُنْيَا، وَلَا لِأَهْلِهَا فِي قُلُوبِهِمْ مُسْتَقَرٌّ، وَلَا قَرَارٌ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْمَنِّ، وَالْفَضْلِ الْعَظِيمِ. ، وَمِنْ الرِّيَاءِ أَنَّ الْعَبْدَ يُرَائِي أَهْلَ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا فِي لِبَاسِهِ، وَمَرْكُوبِهِ، وَمَسْكَنِهِ، وَفُرُشِهِ، وَطَعَامِهِ، وَشَرَابِهِ، وَخَدَمِهِ حَتَّى الدُّهْنَ، وَالْكُحْلَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُرِيدُ بِهَا صِيَانَةَ نَفْسِهِ، وَهُوَ رِيَاءٌ، وَلَيْسَ كَالرِّيَاءِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَائِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يُخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّارِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «، وَلَكِنَّك فَعَلْت لِيُقَالَ: فُلَانٌ كَذَا كَذَا فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ» . وَهَذَا الَّذِي رَاءَى بِالتَّكَاثُرِ، وَالتَّفَاخُرِ، وَطَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا مُكَاثِرًا مُفَاخِرًا مُرَائِيًا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ أَهْوَنُ مِنْ الْبَابِ الْآخَرِ، وَكِلَاهُمَا شَدِيدٌ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفَاخِرَ إنَّمَا يُرِيدُ إقَامَةَ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ فَلَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَاحْتَاجَ إلَيْهَا؛ لِمَا مَعَهُ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا خَائِفٌ وَجِلٌ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ نَازِلَةٌ تُغَيِّرُ فَيَتَغَيَّرُ مَنْ كَانَ لَهُ مُطِيعًا فَمَا أَشَدَّ مَضَرَّةَ هَذَا الْبَابِ. ، وَعَلَامَةُ الْمُرِيدِ النَّظَرُ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الرِّزْقِ، وَإِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، وَيَتَوَاضَعُ، وَلَا يُنَافِسُ أَهْلَ الْكِبْرِ، وَالْفَخْرِ، وَالرِّيَاءِ، وَالتَّكَاثُرِ، وَلَا يَأْخُذُ مَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَتْرُكُ مَا تَرَكَ لِنَفْسِهِ، وَمَا أَخَذَهُ فَإِنَّمَا نِيَّتُهُ فِيهِ الْقُوَّةُ عَلَى دِينِهِ، وَإِقَامَةُ فَرَائِضِهِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ غَيْرِهِ، وَيَدَعُ جَمِيعَ مَا كَانَ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْعُجْبُ فَأَصْلُهُ حَمْدُ النَّفْسِ، وَنِسْيَانُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ نَظَرُ الْعَبْدِ إلَى نَفْسِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَيَنْسَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ

تَعَالَى عَلَيْهِ فَيُحْسِنُ حَالَ نَفْسِهِ عِنْدَهُ، وَيَقِلُّ شُكْرَهُ، وَيَنْسِبُ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا هُوَ مِنْ غَيْرِهَا، وَهِيَ مَطْبُوعَةٌ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنْ غَفَلَ هَلَكَ، وَاسْتُدْرِجَ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِعِبَادَتِهِ مُزْرِيًا عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُ قَدْ عَمِيَ عَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُسْتَكْثِرًا لِعَمَلِهِ مَسْرُورًا بِهِ رَاضِيًا عَنْ نَفْسِهِ فَرِحًا بِهَا يَسْعَى فِي هَوَاهَا غَضَبُهُ لَهَا، وَرِضَاهُ لَهَا، وَلَا يَخْلُو الْمُعْجَبُ بِعَمَلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا؛ لِأَنَّهُمَا قَرِينَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ، وَلَا يَكُونُ الْمُعْجَبُ مَحْزُونًا، وَلَا خَائِفًا أَبَدًا؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ يَنْفِي الْخَوْفَ. وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ النَّاظِرَ إلَى اللَّهِ فِيمَا يَعْمَلُ قَدْ نَفَى الْعُجْبَ عَنْهُ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْعَمَلَ إنَّمَا هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَائِمٌ بِالشُّكْرِ لَهُ مُسْتَعِينٌ بِاَللَّهِ عَزَّ، وَجَلَّ عَلَى حَالٍ مُتَّهِمٌ لِنَفْسِهِ قَدْ نَفَى الْأَعْمَالَ كُلَّهَا عَنْهَا فَلَيْسَ لَهَا عِنْدَهُ فِيهَا حَظٌّ، وَلَا نَصِيبٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ عُلَمَاءُ أَقْوِيَاءُ فَهُمْ الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَعْمَلُونَ فَحَمِدُوا اللَّهَ عَلَى مَا وَهَبَ لَهُمْ مِنْ قَلِيلِهِ، وَكَثِيرِهِ، وَصِنْفٌ نَظَرُوا إلَى السَّبَبِ الَّذِي أَعْطَاهُمْ اللَّهُ فَاشْتَغَلُوا بِشُكْرِ السَّبَبِ، وَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ أَقْوَى مِنْ هَؤُلَاءِ أُولَئِكَ لَا يَعْرِضُ لَهُمْ الْعُجْبُ لِعِلْمِهِمْ بِهِ، وَهَؤُلَاءِ رُبَّمَا أُعْجِبُوا بِالسَّبَبِ، وَرُبَّمَا انْتَفَى عَنْهُمْ فَهُمْ مُكَابِدُونَ لَهُ فَإِنْ قَامُوا بِشُكْرِ ذَلِكَ فَحَالَتُهُمْ حَسَنَةٌ، وَهُمْ دُونَ أُولَئِكَ، وَإِنْ رَكَنُوا إلَى مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعُجْبِ فَقَدْ هَلَكُوا إلَّا أَنْ يُنَبِّهَ اللَّهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ فَيَتُوبَ عَلَيْهِ، وَالْعُجْبُ كَثِيرٌ، وَهُوَ آفَةُ الْمُتَعَبِّدِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ، وَهُوَ مِنْ الْكِبْرِ، وَالْكِبْرُ آفَةُ إبْلِيسَ الَّتِي أَهْلَكَهُ اللَّهُ بِهَا. ، وَأَمَّا الشُّهْرَةُ، وَإِشَارَةُ النَّاسِ إلَى الْعَبْدِ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّ إلَّا مَنْ أَرَادَهَا، وَالْمَرْءُ مُلَبَّسٌ زِيَّ عَمَلِهِ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. فَكَمْ مِنْ مُسْتَتِرٍ بِعَمَلِهِ قَدْ شَهَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَكَمْ مِنْ مُتَزَيِّنٍ بِعَمَلِهِ يُرِيدُ بِهِ الِاسْمَ، وَاِتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ النَّاسِ قَدْ شَانَهُ اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُصْلِحُ ذَلِكَ، وَيُفْسِدُهُ الضَّمِيرُ فَإِنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ جَمَعَ الشُّهْرَةَ، وَالرِّيَاءَ، وَالْعُجْبَ جَمِيعًا، وَإِنْ أَرَادَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَكَانَ مُخْلِصًا لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ عُرِفَ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ، وَرُبَّمَا لَحِقَهُ حُبُّ مَعْرِفَتِهِمْ إيَّاهُ بِالْعَمَلِ فَيَخْرُجُ بِهِ إلَى الْبَابِ الَّذِي يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ. وَمِنْ ذَلِكَ حُبُّ

مَعْرِفَتِهِمْ إيَّاهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْغَضَبِ لِلَّهِ، وَفِي اللَّهِ فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ، وَنَفَى مَا يُحِبُّهُ، وَكَانَتْ نَصِيحَتُهُ لِلَّهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَنَجَاةِ نَفْسِهِ نَجَا، وَإِنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا مِنْ اتِّخَاذِ الْمَنْزِلَةِ أَوْ حُبِّ الثَّنَاءِ أَوْ طَلَبِ رِيَاسَةٍ أَوْ لِيُقْبَلَ قَوْلُهُ فَقَدْ شَرِبَ السُّمَّ الَّذِي لَا يُبْقِي، وَلَا يَذَرُ، وَلَا عَاصِمَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ. وَالرِّيَاءُ، وَالْعُجْبُ، وَالْكِبْرُ، وَالشُّهْرَةُ إنَّمَا هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَتَوَسَّلْ يَا أَخِي إلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ قَلْبِك فَإِنْ سَلِمَ قَلْبُك، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْ إرَادَتِك أَنَّهَا لَهُ خَالِصَةٌ خَلَّصَك اللَّهُ مِنْ كُلِّ آفَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْك، وَاَللَّهُ يُقَسِّمُ الثَّنَاءَ كَمَا يُقَسِّمُ الرِّزْقَ، وَمَنْ خَافَ اللَّهَ خَوَّفَ اللَّهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَنْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ أَخَافَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَاَللَّهُ مُسَبِّبُ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا تَصْحِيحُ الْعَمَلِ بِالْحَوَادِثِ عَلَى قَدْرِ صِحَّةِ الْقَلْبِ، وَمَعَ صِحَّةِ الْقَلْبِ دَلَالَةُ الْعَقْلِ، وَسِيَاسَةُ الْعِلْمِ، وَسَابِقَةُ الْخَوْفِ فَإِذَا أَرَدْت عَمَلًا فَابْتَغِ بِذَلِكَ ثَوَابَ اللَّهِ، وَأَكْثِرْ مَا تُؤَمِّلْ مِنْ اللَّهِ النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ، وَالْوُصُولَ إلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ يُهَوِّنْ عَلَيْك الْعَمَلَ، وَيُخَلِّصْهُ اللَّهُ مِنْ الْآفَاتِ، وَيُقَوِّيك عَلَيْهِ فَإِذَا عَمِلْت فَاشْكُرْ، وَانْظُرْ هَلْ يَنْقُصُ مِنْ بَدَنِك شَيْءٌ فِي لَيْلِك، وَنَهَارِك لِتَعْقِدَ النِّيَّةَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَانْظُرْ إذَا أَصْبَحْتَ كَيْفَ مَضَتْ عَلَيْك لَيْلَتُك بِتَعَبِهَا، وَنَصَبِهَا، وَبَقِيَ لَك ثَوَابُهَا، وَسُرُورُهَا يَكُنْ ذَلِكَ قُوَّةً لَك عَلَى مَا تَسْتَقْبِلُ فَالْحَسَنَةُ لَهَا نُورٌ فِي الْقَلْبِ، وَسُرُورٌ يَجِدُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ ذَلِكَ السُّرُورِ، وَضِيَاءَ ذَلِكَ النُّورِ، وَلَمْ يَدَعْ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ الْمُطِيعِينَ حَتَّى جَعَلَ لَهُمْ بِالطَّاعَةِ اللَّذَّةَ، وَالنَّشَاطَ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ، وَحَلَاوَةَ الْقُرْبِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَدَعْهُمْ حَتَّى حَبَّبَهُمْ إلَى النَّاسِ، وَحَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِمْ بِالْهَيْبَةِ لَهُمْ، وَالْإِجْلَالِ مَعَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ التَّوَاضُعِ، وَالْخَوْفِ لِلَّهِ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ النَّاسُ، وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ بِهِمْ كَانُوا أَرْفَعَ خَلْقِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَ بِالطَّاعَةِ عَامِلًا كَانَ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ عِنْدَ النَّاسِ، وَأَغْنَاهُمْ بِاَللَّهِ، وَمَنْ هَابَ اللَّهَ فِي السَّرِيرَةِ هَابَهُ النَّاسُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَبِقَدْرِ مَا يَسْتَحْيِ الْعَبْدُ مِنْ اللَّهِ فِي الْخَلْوَةِ يَسْتَحِي النَّاسُ مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ

أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهُ فِي الْعَمَلِ بِالْحَسَنَاتِ سَتْرُهَا، وَنِسْيَانُهَا فَإِنَّهُ سَيَحْفَظُهَا لَهُ مَنْ لَا يَنْسَاهَا وَيُحْصِي لَهُ مَثَاقِيلَ الذَّرِّ مِنْ عَمَلِهِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ الْحَسَنَاتُ فَلْيَعْرِفْ نَفْسَهُ، وَلَا يَغُرَّنَّهُ ثَنَاءُ مَنْ جَهِلَهُ فَفَكِّرْ أَيُّهَا الْعَامِلُ فِي الْعَوَاقِبِ فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ يُحِبَّك النَّاسُ أَوْ يَفْطِنُوا بِحَسَنَاتِك إذَا عَمِلْتهَا لِيُكْرِمُوك، وَيُجِلُّوك فَقَدْ تَعَرَّضْت لِمَقْتِ اللَّهِ عَزَّ، وَجَلَّ لَك. وَيْحَك إنَّك إنْ أَسْقَطَكَ اللَّهُ سَقَطْت فَلَا تَغْتَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ سَلِمَتْ لَك آخِرَتُك سَلِمَتْ لَك دُنْيَاك، وَإِنَّ خُسْرَانَ الْآخِرَةِ خُسْرَانُ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا، وَمَنْ رَبِحَ الْآخِرَةَ رَبِحَهُمَا جَمِيعًا. وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ غَضِبْت عَلَى النَّاسِ فِي شَيْءٍ هُوَ لِنَفْسِك فَأَبْدَيْته لَهُمْ أَوْ لَمْ تُبْدِهِ لَهُمْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِك فَقَدْ تَعَرَّضْت لِغَضَبِهِ إذَا أَظْهَرْت أَنَّك إنَّمَا غَضِبْت لِنَفْسِك. ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِك خَافِيَةٌ، وَلَيْسَ الْفَرْقُ بَيْنَ غَضَبِك عَلَيْهِمْ، وَبَيْنَ سُرُورِكَ بِهِمْ، وَفَرَحِكَ بِثَنَائِهِمْ عَلَيْك بِحَسَنَاتِك، وَأَنْتَ تُرِيدُ ثَوَابَهَا مِنْ رَبِّك لَقَدْ اُبْتُلِيَتْ أَيُّهَا الْعَبْدُ بِحَسَنَاتِك، وَعَظُمَ فِيهَا بَلَاؤُك، وَلَعَلَّهَا أَضَرُّ عَلَيْك مِنْ بَعْضِ سَيِّئَاتِك فَإِنْ بَلَغَ بِك الْبَلَاءُ أَنْ تَفْرَحَ إذَا مَدَحُوكَ بِغَيْرِ عَمَلِك أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِك فَقَبِلَهُ قَلْبُك أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَك ثُمَّ تَصِيرُ إلَى حَالِ حُبِّ مَجِيءِ الْإِخْوَانِ إلَيْك فِي أَوْقَاتِ الْأَعْمَالِ فَتَفْرَحُ، وَإِنْ أَتَوْك فِي وَقْتِ فَرَاغِك غَمَّك ذَلِكَ، وَاَللَّهُ سَائِلُك عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَتُظْهِرُ مِنْك الْحُزْنَ، وَتُوهِمُ النَّاسَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْك تَصَنُّعٌ تُحِبُّ أَنْ يَحْمَدُوك عَلَى ذَلِكَ فَأَنْتَ إذَنْ قَدْ هَلَكْت مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَخَفْ اللَّهَ فِي سَرَّاءِ نَفْسِك، وَعَلَانِيَتِهَا، وَاحْتَقِرْ حَسَنَاتِك جَهْدَك، وَاسْتَكْثِرْ مِنْهَا مَا اسْتَطَعْت حَتَّى يَعْظُمَ قَدْرُكَ عِنْدَ اللَّهِ، وَتَعْظُمَ حَسَنَاتُك، وَاسْتَكْبِرْ صَغِيرَ ذَنْبِك حَتَّى يَصْغُرَ عِنْدَ اللَّهِ، وَخَفْ مِنْ صَغِيرِ ذُنُوبِك أَنْ يُحْبِطَ اللَّهُ بِهِ عَمَلَك كُلَّهُ، وَارْجُ بِحَسَنَاتِك أَنْ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا عَنْك كُلَّ سَيِّئَةٍ عَمِلْتهَا فَارْجُ حَسَنَاتِك، وَخَفْ سَيِّئَاتِك {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] ، وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ

أَنْ يَعْرِفَ عَجْزَهُ، وَضَعْفَهُ فَيَقْطَعُ سَبَبَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَرْجِعُ إلَى الْعِزِّ، وَالْمَنْعَةِ، وَيَتَوَجَّهُ إلَى الْمَلِكِ الْقَادِرِ عَلَى مَا يُرِيدُ بِالِاعْتِصَامِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالِاسْتِصْغَارِ، وَالِانْتِصَارِ بِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ فَيَجِدُ عِنْدَ ذَلِكَ الْعِزَّ، وَالرَّوْحَ، وَالْفَرَجَ وَالْمَنْعَةَ، وَيُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلَى الْمَلِكِ الْجَبَّارِ فَمَا اخْتَارَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ رَضِيَ بِهِ، وَسَلَّمَ فَإِنْ عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ غَمٌّ أَوْ رَوْعٌ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بَلْوَى مِنْ اللَّهِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ بِالِانْكِسَارِ، وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ؛ لِمَا فَرَّطَ مِنْهُ، وَيَطْلُبُ الرَّوْحَ، وَالْفَرَجَ بِالتَّقْوَى، وَهُوَ اسْتِمَاعُ الْعَبْدِ إلَى قَوْلِ رَبِّهِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَعَلَهُ، وَمَا نَهَاهُ عَنْهُ تَرَكَهُ حَتَّى تَكُونَ كُلُّهَا مَجْمُوعَةً لَهُ فِي رَوْضَةٍ وَاحِدَةٍ. فَانْظُرْ يَا أَخِي، وَلَا تَدَعْ مَا فِيهِ الْمَخْرَجُ إلَّا خَرَجْت مِنْهُ، وَمَا كَانَ مِمَّا فَرَطَ مِنْك مِمَّا لَا حِيلَةَ فِيهِ إلَّا النَّدَمُ، وَالِاسْتِغْفَارُ فَانْدَمْ عَلَيْهِ نَدَمًا صَحِيحًا بِالْقَلَقِ مِنْك، وَالِاضْطِرَابِ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ، وَالِاجْتِهَادِ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَيَّامِ، وَهُجُومِ الْمَوْتِ عَلَيْك، وَأَكْثِرْ مَعَ النَّدَمِ الصَّحِيحِ ذِكْرَ مَا نَدِمْتَ عَلَيْهِ، وَلَا تَفْتُرْ عَمَّا أَمْكَنَك مِنْ الِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ عَلَيْك بَعْدُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْ الْعَائِقِ الَّذِي يَشْتَغِلُ عَنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ حَتَّى تَكُونَ مُؤْثِرًا لِلَّهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ إلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ دَلَالَاتِ الْعُقُولِ، وَالْعُلُومِ تَأْسِيسَ التَّقْوَى فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ صَارَ الْعَبْدُ حَيَّ الْقَلْبِ قَابِلًا لِلْمَوْعِظَةِ مُعَظِّمًا؛ لِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مُصَغِّرًا؛ لِمَا صَغَّرَ اللَّهُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَحْيَا قَلْبَهُ بِالْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَحْيَا قَلْبَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَيَكُونُ بَيْنَ الْحَيَاةِ، وَالْحَيَاةِ مَوْتَةٌ لَخِفْتُ عَلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ حَيَاتُهُ دَائِمَةً تَمُوتُ بِهِ خَوَاطِرُ نَفْسٍ لَيْسَ لَهَا قَرَارٌ، وَالْخَاطِرُ إذَا صُرِمَ أَصْلُهُ، وَقُطِعَ دَخَلَ عَلَيْهِ الْحُزْنُ، وَالْبُكَاءُ فَلَا يَكُونُ مَسْرُورًا بِالْعَارِضِ، وَلَا مَشْغُولًا بِالنِّعْمَةِ عَنْ الْمُنْعِمِ فَهَذَا سَبِيلُ النَّجَاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْعَبْدِ رَوْعٌ، وَغَمٌّ عِنْدَ الْخَاطِرِ فَهُوَ مَيِّتٌ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إلَى التَّقْوَى، وَالْإِخْلَاصِ، وَالصِّدْقِ، وَالتَّخَلُّصِ مِمَّا يَكْرَهُ الرَّبُّ، وَالْحَيَاءُ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْعِلْمِ الْمَفْهُومِ فَإِذَا عَلِمَ، وَفَهِمَ

الْعِلْمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ قَبِلَ الْمَوْعِظَةَ لِنُصْحِهِ بِتَعْظِيمِهِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ، الْقَلْبُ الْحَيُّ تَكْفِيهِ غَمْزَةٌ فَيَنْتَبِهُ، وَالْقَلْبُ الْمَيِّتُ لَوْ قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ لَمْ يَنْتَبِهْ، وَلَمْ يَحْيَى، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ، وَجَلَّ يَقُولُ {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] ، وَذَلِكَ لِمَنْ قَبِلَ، وَأَجَابَ الدَّاعِيَ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْمَوْعِظَةَ، وَلَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ عَزَّ، وَجَلَّ {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 21] ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَيِّتٌ فَقَدْ حَيِيَ بِعِلْمِهِ أَنَّهُ مَيِّتٌ، وَلَا يَنْفَعُهُ الْعِلْمُ إلَّا بِالْقَبُولِ، وَإِيثَارِ الرَّبِّ عَلَى هَوَاهُ فَمَنْ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّهُ عَاصٍ، وَلَيْسَ يَتَحَوَّلُ، وَلَيْسَ مَعَهُ الرَّوْعُ، وَالْغَمُّ الشَّدِيدُ، وَهُوَ عَلَى حَالَتِهِ الَّتِي لَيْسَ يَرْضَاهَا، وَلَا يُبَادِرُ بِالتَّوْبَةِ، وَالتَّطْهِيرِ فَهُوَ مَيِّتٌ، وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَيَحْيَا بِالتَّوْبَةِ، وَيَرْجِعُ إلَى الرَّغْبَةِ، وَالرَّهْبَةِ، وَالطَّاعَةِ. وَمَنْ أَرَادَهُ اللَّهُ وَفَّقَهُ، وَنَبَّهَهُ مِنْ الزَّلَّةِ، وَأَيْقَظَهُ مِنْ الْغَفْلَةِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ كُلُّهَا مَوَارِيثُ حُبِّ الدُّنْيَا، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الْأَمَلِ. وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ يَبْتَغِي لِنَفْسِهِ طَاعَةَ رَبِّهِ أَنْ يَرْجُوَ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِ مِنْ الْبِرِّ، وَيَتَّهِمَ مَا خَفَّ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ الصِّدْقِ يُثْقِلُ خَفِيفَ الْعَمَلِ، وَالْكَذِبُ مِنْ النِّيَّةِ فِي الْعَمَلِ يُخَفِّفُ ثَقِيلَ الْعَمَلِ، وَقَلِيلُ الصِّدْقِ أَوْزَنُ، وَأَرْجَحُ مِنْ كَثِيرِ الْكَذِبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إرَادَتَك الْعَمَلَ عَمَلٌ فَانْظُرْ فِي إرَادَتِك حَتَّى يَصِحَّ لَك عَمَلُك، وَيَرَاك اللَّهُ لِنِيَّتِك طَالِبًا، وَلَهَا مُصَحِّحًا كَمَا يَرَاك فِي عَمَلِك مُخْلِصًا فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ ظَفِرْت بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ مَعَ قَلِيلِ الْعَمَلِ رَبِحْت عَمَلَك، وَظَفِرْت بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِك، وَاعْلَمْ أَنَّ عَدُوَّك يَنْظُرُ إلَى ابْتِدَاءِ نِيَّتِك، وَابْتِدَاءِ عَمَلِك، وَقَدْ يَخْفَى عَلَيْك سَقَمُ نِيَّتِك كَمَا يَخْفَى عَلَيْك سَقَمُ غَيْرِك فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُك سَقِيمَةً فَقُمْ عَلَى تَصْحِيحِهَا فَإِنَّ الْعَمَلَ تَابِعٌ لِلنِّيَّةِ إنْ صَحَّتْ صَحَّ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدُوَّ إذَا رَأَى فِي نِيَّتِك سَقَمًا رَغَّبَك فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَلَمْ يُثْقِلْهُ عَلَيْك بَلْ يُخَفِّفْهُ عَلَيْك مَخَافَةَ أَنْ يُقْنِطَك بِالسَّقَمِ، وَوَدَّ حِينَئِذٍ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَحَبُّوك فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَمَدَحُوك إذَا ظَفِرَ مِنْك بِسَقَمِ النِّيَّةِ، وَيَزِيدُك قُوَّةً، وَنَشَاطًا فِي عَمَلِك، وَيُحَسِّنُهُ عِنْدَك، وَفِي

أَعْيُنِ النَّاسِ، وَيُحَبِّبُهُمْ إلَيْك فَكُلَّمَا أَثْنَوْا عَلَيْك اسْتَحْلَيْت عَمَلَك، وَخَفَّ عَلَيْك، وَقَدْ سَتَرَ عَنْك دَاءَ الْحَسَنَاتِ، وَدَاءَ السَّيِّئَاتِ، وَمِنْ دَاءِ الْحَسَنَاتِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُك مِنْ تَرْكِهَا إلَّا مَخَافَةَ أَنْ تَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ رِبْحَهُ مِنْك إذَا سَقِمَتْ نِيَّتُك أَكْثَرُ مِنْ رِبْحِهِ مِنْك إذَا أَحْبَبْت الدُّنْيَا، وَاتَّسَعْتَ مِنْهَا، وَمِنْ دَاءِ السَّيِّئَاتِ سَقَمُ نِيَّتِك، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا أَفْسَدَ الْحَسَنَاتِ أَوَّلًا بِسَقَمِ النِّيَّةِ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَهَا آخِرًا بِتَعْظِيمِ النَّاسِ لَك فَإِذَا عَلِمَ أَنَّك لَا تُحِبُّ ذَلِكَ، وَلَمْ تُجِبْهُ إلَى مَعْصِيَةٍ خَلَّاك، وَذَاكَ فَاحْذَرْ عَلَى عَمَلِك كُلِّهِ مِنْ حِيلَةِ الْخَبِيثِ، وَإِذَا رَأَيْت الْعَمَلَ قَدْ خَفَّ فَكُنْ أَشَدَّ مَا تَكُونُ لَهُ حَذَرًا إذَا خَفَّ عَلَى نَفْسِك الْعَمَلُ فَهُوَ أَفْسَدُ مَا يَكُونُ إذَا صَحَّ عِنْدَك. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَعْرَفُ بِك، وَبِمَا تَهْوَاهُ نَفْسُك مِنْك، وَلَا تَدَعْ الْعَمَلَ مِنْ أَجْلِ آفَتِهِ، وَلَكِنْ اعْمَلْ بِنِيَّةٍ، وَصِحَّةٍ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ، وَكُنْ حَذِرًا طَالِبًا لِلْخَلَاصِ كَارِهًا مُعَانِدًا لِفَسَادِ الْعَمَلِ لَا تُرِيدُ الثَّوَابَ إلَّا مِنْ اللَّهِ، وَحْدَهُ، وَطَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَعْمَلْ لِيُعْطِيَك فِي الدُّنْيَا ثَوَابًا فَإِنَّ الَّذِي قَدَّرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصِلَ إلَيْك مِنْ رِزْقٍ أَوْ أَجْرٍ أَوْ ثَنَاءٍ فَإِنَّهُ صَائِرٌ إلَيْك فَعَلَيْك بِالصِّدْقِ، وَاِتَّخِذْهُ ذُخْرًا لِيَوْمٍ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. وَانْظُرْ إذَا صَحَّ عَمَلُك عِنْدَك فَكُنْ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ مِنْ فَسَادِهِ، وَلَا تَأْمَنْ عَلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ فَتُفْسِدُهُ فَإِنَّ آفَةَ الْعَمَلِ الْأَمْنُ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْنَ عَلَى الْحَسَنَاتِ أَضَرُّ عَلَيْهَا مِنْ السَّيِّئَاتِ، وَالْأَمْنَ عَلَى السَّيِّئَاتِ أَضَرُّ عَلَيْك مِنْ السَّيِّئَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْنَك عَلَى الْحَسَنَةِ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ السَّيِّئَةِ، وَقُنُوطَك بَعْدَ السَّيِّئَةِ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ السَّيِّئَةِ، وَاسْتِصْغَارَك لِسَيِّئَةٍ كَبِيرَةٍ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ سَيِّئَةٍ بَعْدَ سَيِّئَةٍ، وَاسْتِصْغَارَك لِسَيِّئَةٍ أَرَدْتَهَا ثُمَّ تَرَكْتهَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ كَبِيرَةٍ عَمِلْتهَا ثُمَّ اسْتَغْفَرْت مِنْهَا لِعِظَمِهَا عِنْدَك فَافْهَمْ مَا أُلْقِيَ إلَيْك مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاحْذَرْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ إبْلِيسَ الْخَبِيثَ يُجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ مَدْحَ الصَّادِقِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ صِدْقَهُ، وَيَزِيدُ الْكَاذِبَ فِي عَمَلِهِ قُوَّةً حَتَّى يُسَوِّي بَيْنَ

الصَّادِقِ، وَالْكَاذِبِ فَاحْذَرْ تَجْدِيدَ الْقُوَّةِ فِي الْعَمَلِ عِنْدَ تَجْدِيدِ الْمَدْحِ فَإِنَّ لَهُ سَطْوَةً، وَسُلْطَانًا يَزِيدُ الْكَاذِبَ كَذِبًا، وَيُفْسِدُ عَلَى الصَّادِقِ صِدْقُهُ فَلَا تُظْهِرْ الْخَوْفَ مِنْ قَلْبِك، وَلَا تُظْهِرْ قِلَّةَ الْخَوْفِ فَإِنَّ إظْهَارَ قِلَّةِ الْخَوْفِ هُوَ مِنْ قِلَّةِ الْخَوْفِ، وَهَذَا بَابٌ فِيهِ فَسَادُ الْعَمَلِ كَبِيرٌ، وَهُوَ رِيَاءٌ فِيهِ لُطْفٌ، وَلَهُ حَلَاوَةٌ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ، وَاحُزْنَاه عَلَى الْحُزْنِ، وَأَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ أَخَافُ، وَاحُزْنَاه عَلَى الْأَحْزَانِ فَإِنَّ هَذِهِ أَشْيَاءُ مِنْ دَقَائِقِ مَدَاخِلِ إبْلِيسَ، وَاَللَّهُ سَائِلُكَ عَنْ بُكَائِكَ، وَإِظْهَارِكَ الْخَوْفَ، وَالْحُزْنَ، وَإِظْهَارِكَ أَنَّك لَسْت بِحَزِينٍ، وَإِظْهَارِك أَنَّك لَا تَخَافُ، وَمَا تُظْهِرُ مِنْ الِانْكِسَارِ، وَالتَّوَاضُعِ، وَإِظْهَارِك الْهَمَّ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَذَمِّك نَفْسَك، وَمَاذَا أَرَدْت بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِإِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ مَذَاهِبُ تَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرِ مِنْ النَّاسِ، وَهِيَ تُنْسَبُ إلَى خُشُوعِ النِّفَاقِ فَإِنْ كُنْت صَادِقًا فِيهَا فَاحْذَرْ إبْلِيسَ عِنْدَهَا، وَفِي وَقْتِهَا حَذَرًا شَدِيدًا، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَانْظُرْ كَيْفَ يَكُونُ احْتِمَالُك إذَا قَالَ لَك غَيْرُك: مَا تَقُولُهُ أَنْتَ لِنَفْسِك مِنْ الذَّمِّ، وَالْوَقِيعَةِ فِيهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَك عِنْدَ ذَلِكَ أَصَادِقٌ أَنْتَ فِي فِعْلِك أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِذَا كَانَ بَاطِنُك كَظَاهِرِك لَمْ تُبَالِ كَيْفَ كَانَ أَمْرُك، وَقُمْ عَلَى بَاطِنِك أَشَدَّ مِنْ قِيَامِك عَلَى ظَاهِرِك فَإِنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ اللَّهُ مُطَّلِعٌ فَنَظِّفْهُ، وَزَيِّنْهُ لِيَنْظُرَ اللَّهُ إلَيْهِ أَشَدَّ مَا تُزَيِّنُ ظَاهِرَك لِنَظَرِ غَيْرِهِ فَافْهَمْ مَا أَقُولُ لَك بِعِنَايَةٍ مِنْك، وَقَبُولٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ فَرَائِضَ جَوَارِحِك إنَّمَا تَقُومُ بِفَرَائِض قَلْبِك، وَاعْلَمْ أَنَّ النِّيَّةَ، وَالصِّدْقَ، وَالْإِخْلَاصَ فَرِيضَةٌ تُقَامُ بِهَا الْفَرَائِضُ، وَتَنْبَنِي عَلَيْهَا الْأَعْمَالُ، وَتَرْكُ الذُّنُوبِ فَرِيضَةٌ فَكُلُّ أَمْرٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَمُحَالٌ أَنْ يُتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِمَعَاصِيهِ {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْإِرَادَةَ لَهُ بِالْإِيمَانِ، وَالْأَعْمَالُ يُرَادُ بِهِمَا وَجْهُهُ فَأَصَابَ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ بِنِيَّتِهِ الْفَرِيضَتَيْنِ جَمِيعًا الظَّاهِرَةَ، وَالْبَاطِنَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ عَمِلْت بِمَا، وَصَفْتُ لَك ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيْك الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا عَلَى أَنْ

فصل في الصدق والعقل

تُظْهِرَ حَسَنَاتِك أَوْ تُرَائِيَ بِهَا مَا فَعَلْت. ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرِيدَ فِي تَرْكِ الْمَيْتَةِ يَخَافُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَشْبَعَ مِنْهَا، وَيَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَنَالَ مِنْهَا، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا، وَيَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَدَّخِرَ مِنْهَا، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَهُوَ يَخَافُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَعْصِيَهُ فِيمَا أَحَلَّهُ لَهُ، وَيَخَافُ أَنْ يَشْبَعَ مِمَّا أَبَاحَهُ لَهُ. فَمَنْ قَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ مِنْ الزُّهْدِ فِيهَا، وَأَقَامَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا الَّتِي فِي الدُّنْيَا مَقَامَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّمَا يَنَالُ مِنْهَا الْبُلْغَةَ عِنْدَمَا اُضْطُرَّ إلَيْهَا، وَيَخَافُ مِنْ اللَّهِ إنْ تَرَكَ أَخْذَ تِلْكَ الْبُلْغَةِ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ أَنْ يُعَذَّبَ عَلَى تَرْكِهَا كَمَا يَخَافُ أَنْ يُعَذَّبَ عَلَى أَخْذِ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَامِ بِمَا أَمَرَك اللَّهُ بِهِ، وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَاك اللَّهُ عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَقْلِك أَنْ تَأْخُذَ مَيْتَةً فَتُخَزِّنَهَا، وَلَا إنْ فَاتَتْ حَزِنْت عَلَيْهَا، وَلَا إنْ وَجَدْتهَا فَرِحْتَ بِهَا؛ لِأَنَّك مِنْهَا عَلَى مَقْتٍ لَهَا بِمَا تَقَذَّرَ مِنْك لَهَا فَإِذَا خِفْتَ مِنْهَا أَنْ تَنَالَهَا نَفَيْتَ الْمَخَافَةَ الَّتِي حَلَّتْ بِقَلْبِك حَلَاوَتُهَا، وَهِيَ الدُّنْيَا فَتَجْتَزِئُ مِنْهَا بِمَا أَقَامَ صُلْبَكَ، وَأَدَّيْت بِهِ فَرْضَك، وَدَعْ مَا سِوَى ذَلِكَ يُكَابِدُهُ غَيْرُك، وَاَلَّذِي تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا يَسِيرُهَا، وَهُوَ مَا تَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَك، وَتُقِيمُ بِهِ صُلْبَك لِأَدَاءِ فَرَائِضِك، وَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الدُّنْيَا، وَمُنْتَهَى طَلَبِ الْآخِرَةِ تَرْكُ الدُّنْيَا، وَمُنْتَهَى طَلَبِ الدُّنْيَا جَمْعُ مَا أَحْبَبْت مِنْ الدُّنْيَا فَإِذَا رَأَيْت نَفْسَك تَأْنَسُ بِقُرْبِ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَتَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِمَا فَاعْلَمْ أَنَّك مُحِبٌّ لِلدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَ مُحِبًّا لِلدُّنْيَا فَهُوَ قَالٍ لِلْآخِرَةِ. انْتَهَى [فَصْلٌ فِي الصِّدْقِ وَالْعَقْلِ] ِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يُحْتَرَزُ بِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إنَّمَا هُوَ الصِّدْقُ، وَالْعَقْلُ، وَالصِّدْقُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِشَأْنِهِمَا، وَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ يُمْنُ بْنُ رِزْقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ فِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَبَيَانٌ تَامٌّ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -

وَاعْلَمْ يَا أَخِي عِلْمًا يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الصَّادِقَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَلَا يَأْلُوهُمْ نُصْحًا فِي ارْتِيَادِهِ لَهُمْ فَإِنَّ أَخَاك مَنْ صَدَقَكَ، وَنَصَحَك، وَإِنْ خَالَفَ صِدْقُهُ، وَنُصْحُهُ هَوَاك، وَإِنَّ عَدُوَّك مَنْ كَذَبَك، وَغَشَّك، وَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ هَوَاكَ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنِّي لَمَّا أَطَلْتُ الْفِكْرَةَ، وَصَحَّحْتُ فِي ذَلِكَ النَّظَرَ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - بَارِئُ النَّسَمِ، وَوَلِيُّ النِّعَمِ، وَمَالِكُ الْأُمَمِ لَمْ يَخْلُقْنِي، وَإِيَّاكَ عَبَثًا، وَلَا هُوَ تَارِكِي، وَإِيَّاكَ سُدًى، وَأَنَّ لِي، وَلَك مَعَادًا نَقِفُ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ لِلْحُكْمِ بَيْنَنَا، وَلِلْفَصْلِ فِينَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْنِي وَإِيَّاكَ حِينَ خَلَقَنَا لِهَزْلٍ، وَلَا لِلَعِبٍ، وَلَا لِفَنَاءٍ دَائِمٍ، وَإِنَّمَا خَلَقَنَا لِبَقَاءِ الْأَبَدِ، وَدَوَامِ النِّعَمِ فِي جِوَارِهِ، وَجِوَارِ مَلَائِكَتِهِ، وَأَنْبِيَائِهِ، أَوْ فِي الشَّقَاءِ الدَّائِمِ لِلْأَبَدِ فَالْعَاقِلُ مُتَيَقِّظٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ مُسْتَعِدٌّ لِمَا هُوَ صَائِرٌ إلَيْهِ فَانْتَبَهَ مِنْ رَقْدَتِهِ، وَأَفَاقَ مِنْ سَكْرَتِهِ فَعَمِلَ، وَجَدَّ، وَأَبْصَرَ فَزَجَرَ النَّفْسَ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ الْخَاذِلَةِ الْخَادِعَةِ الزَّائِلَةِ الَّتِي قَدْ، وَلَّتْ بِخُدْعَتِهَا، وَفَتَنَتْ بِغُرُورِهَا، وَشَوَّقَتْ بِحُطَامِهَا فَلَمَّا عَرَفَهَا الْعَاقِلُ الْكَيِّسُ حَقَّ مَعْرِفَتِهَا زَهِدَ فِيهَا، وَرَغِبَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ، وَالسُّرُورِ، وَتَقَرَّبَ إلَى مَالِكِ الدَّارِ بِجَمِيعِ مَا يُحِبُّ مِمَّا يُطِيقُ التَّقَرُّبَ بِهِ إلَيْهِ، وَرَتَّبَ بِبَابِهِ، وَأَمَّا الْمُغْتَرُّ بِالدُّنْيَا الْمُؤْثِرُ لِهَوَاهُ فِيهَا فَهُوَ مُعْتَنِقُهَا. أَيُّهَا الْمَيِّتُ عَنْ قَرِيبٍ، وَالْمَبْعُوثُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى دَارِ الْمُقَامَةِ الْمَسْئُولُ عَنْ إقْبَالِهِ، وَإِدْبَارِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا الْمَوْقُوفُ عَنْ قَلِيلٍ بَيْنَ يَدَيْ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ الَّذِي لَا يَجُورُ هَلْ أَعْدَدْتَ لِذَلِكَ الْمَوْقِفِ حُجَّةً تُدَافِعُ عَنْك أَوْ أَعْدَدْتَ لِلسُّؤَالِ جَوَابًا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر: 4] {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5] فَإِيَّاكَ يَا أَخِي، وَالنُّزُولَ بِمَحَلَّةِ الْمَخْدُوعِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ السَّيِّدَ الْكَرِيمَ نِعَمُهُ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى، وَأَنَّ عَطَايَاهُ كَثِيرَةٌ لَا تُجَازَى، وَأَنَّ مَوَاهِبَهُ كَثِيرَةٌ لَا تُكَافَأُ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنِّي لَمْ أَرَ نِعْمَةً مُتَقَدِّمَةً مِنْ اللَّهِ عَزَّ، وَجَلَّ لِخَلْقِهِ أَفْضَلَ مِنْ نِعْمَةِ الْعَقْلِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ دَلَالَةً لِخَلْقِهِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَالْوُصُولَ بِهَا إلَى مَحْضِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَاَلَّذِي أَطْلَعَهُمْ اللَّهُ بِهِ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمِهِ حَتَّى

وَرِثُوا الْبَصَائِرَ، وَنَفَوْا بِهِ خَاطَرَ الشَّكِّ، وَكَابَدُوا، وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ، وَمَعَارِيضَ فِتْنَتِهِ، وَاسْتَضَاءُوا بِنُورِ الْعُقُولِ فِي طَرِيقِ حَيْرَتِهِمْ فَتَجَنَّبُوهَا، وَخَرَجُوا مِنْ ظُلْمِ الشَّكِّ، وَاعْتَقَدُوا بِهَا مَعْرِفَةَ اللَّهِ، وَالْإِيمَانَ بِهِ، وَالْإِخْلَاصَ، وَالتَّوْحِيدَ، وَأَفْرَدُوا اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالْعَظَمَةِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ اللُّبِّ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى خَلْقِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ مَوْسُومُونَ بِسِمَةِ الْفِطْرَةِ، وَآثَارِ الصَّنْعَةِ، وَالنَّقْصِ، وَالزِّيَادَةِ مَعَ تَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ فَأَوَّلُ ابْتِدَاءِ اللَّهِ لَهُمْ أَنْ وَهَبَ لَهُمْ الْعُقُولَ الَّتِي بِهَا وَصَلُوا إلَى الْإِيمَانِ، وَبِالْإِيمَانِ وَصَلُوا إلَى نُورِ الْيَقِينِ، وَبِنُورِ الْيَقِينِ وَصَلُوا إلَى خَالِصِ التَّفَكُّرِ، وَبِخَالِصِ التَّفَكُّرِ وَصَلُوا إلَى اسْتِقَامَةِ الْقُلُوبِ، وَبِاسْتِقَامَةِ الْقُلُوبِ وَصَلُوا إلَى الصِّدْقِ فِي الْأَعْمَالِ، وَإِخْلَاصِهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَوَرَّثَهُمْ ذَلِكَ الْبَصَائِرَ فِي قُلُوبِهِمْ فَوَضَحَتْ الْحِكْمَةُ فِي صُدُورِهِمْ، وَجَرَتْ يَنَابِيعُهَا عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فَهَجَمُوا بِفَطِنِ قُلُوبِهِمْ عَلَى غَوَامِضِ الْغُيُوبِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي رُكِّبَ فِيهِمْ، وَأَدْرَكُوا بِصَفَاءِ يَقِينِهِمْ غَائِصَ الْفَهْمِ، وَأَدْرَكُوا بِغَائِصِ فَهْمِهِمْ الْعِلْمَ الْمَحْجُوبَ فَعَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، وَسَلَّمُوا إلَيْهِ الْخَلْقَ، وَالْأَمْرَ فَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ مَعَادِنَ لِصَفَاءِ الْيَقِينِ، وَبُيُوتًا لِلْحِكْمَةِ، وَتَوَابِيتَ لِلْعَظَمَةِ، وَخَزَائِنَ لِلْقُدْرَةِ، وَيَنَابِيعَ لِلْحِكْمَةِ فَهُمْ بَيْنَ الْخَلَائِقِ مُقْبِلُونَ، وَمُدْبِرُونَ، وَقُلُوبُهُمْ تَجُولُ فِي الْمَلَكُوتِ، وَتَتَلَذَّذُ فِي حُجُبِ الْغُيُوبِ، وَتَخْطُرُ فِي طُرُقَاتِ الْجَنَّاتِ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَظِيمُ الَّذِي مَنْ وَالَاهُ نِعَمَهُ أَغْنَاهُ. وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ مَنْ صَدَقَ اللَّهَ أَوْصَلَهُ إلَى الْجَوَلَانِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهِ بِطَرَفِ مَا قَدْ أَفَادَهُ السَّيِّدُ الْكَرِيمُ فَصَارَ قَلْبُهُ وِعَاءً لِخَيْرٍ لَا يَنْفَدُ، وَعَجَائِبَ فِكْرٍ لَا تَنْقَضِي، وَمَعَادِنَ جَوَاهِرَ لَا تَفْنَى، وَبُحُورِ حِكْمَةٍ لَا تُنْزَحُ أَبَدًا، وَمَعَ ذَلِكَ مَلَكُوا الْجَوَارِحَ، وَالْأَبْدَانَ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ فِي ابْنِ آدَمَ مُضْغَةً إنْ صَلُحَتْ صَلُحَ سَائِرُ جَسَدِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ

جَسَدِهِ، وَهِيَ الْقَلْبُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلِسَانُهُ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ مِلْكَيَّ الْبَدَنِ، وَالْجَوَارِحِ، وَالْقَلْبُ هُوَ الْمُسَلَّطُ عَلَى اسْتِخْدَامِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَعْدِنُ الْعَقْلِ، وَالْعِلْمِ، وَالْعِنَايَةِ فَجَمِيعُ الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ مُسْتَوْدَعُ الْقَلْبِ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنِّي، وَجَدْتُ اللِّسَانَ مُتَرْجِمًا عَنْ الْقَلْبِ إرَادَتَهُ، وَذَخَائِرَ بَصَائِرِهِ، وَوَجَدْتُ الذِّكْرَ جَلَاءً لِصَدَأِ الْقُلُوبِ، وَتَيَقُّظًا مِنْ وَسَنِ الْأَفْئِدَةِ، وَاعْلَمْ أَنِّي، وَجَدْتُ الشُّكْرَ عَلَى مَنْ اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِنُورِ الْعَقْلِ أَكْثَرَ، وَالْحُجَّةَ عَلَيْهِ آكَدَ فَمِنْ هَاهُنَا أُلْزِمَ الْحُجَّةَ، وَانْقَطَعَتْ الْمَعَاذِيرُ مَعَ الْأَعْذَارِ، وَالْإِنْذَارِ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَهْل الْعُقُولِ مِنْ خَلْقِهِ، وَمَا أَعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا أُتِيَ إلَّا مِنْ قِبَلِ تَضْيِيعِ الشُّكْرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَحَدٌ إلَّا، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ إلَّا قَلِيلٌ. فَمِنْهُمْ مِنْ حَثَى لَهُ مِنْ الشُّكْرِ، وَحَثَى عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ مِنْ الْعَقْلِ دُونَ ذَلِكَ فَشَكَرَ اللَّهَ عَلَى قَلِيلِ مَا أُعْطِيَ فَزَادَهُ اللَّهُ حَتَّى عَلَا فِي دَرَجَةِ الْعَقْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ النِّعْمَةَ فَلَمْ يَأْخُذْهَا بِشُكْرٍ فَنَقَصَ عَنْ دَرَجَةِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ أَعْظَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ فِي الْعَقْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شُكْرُهُ عَلَى قَدْرِ عَظِيمِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ، وَالْهَوَى ضِدَّانِ مُرَكَّبَانِ فِي الْعَبْدِ كَتَرْكِيبِ الْجَوَارِحِ، وَهُمَا يَعْتَرِكَانِ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ اسْتَعْلَى عَلَى صَاحِبِهِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فَكَانَتْ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا بِالْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ تَبَعًا فَشَكَرَ الْعَبْدُ إذَا كَانَ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ عَقْلِهِ أَنْ يَتْبَعَ دَلَالَةَ عَمَلِهِ، وَعَقْلِهِ فَيُؤْثِرُ دَلَالَتَهُمَا، وَمَا يَدْعُوَانِ إلَيْهِ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ عَظِيمٌ عَلَى قَدْرِ مَا نَرَى مِنْ غَلَبَةِ الْهَوَى عَلَيْنَا، وَاسْتِمْكَانِ الدُّنْيَا مِنْ قُلُوبِ عُلَمَائِنَا، وَجُهَّالنَا فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنَّا كَذَلِكَ عَزَّ وُجُودُ الصِّدْقِ عَلَى كَثْرَةِ وُجُودِ مَعْرِفَتِهِ، وَوَصْفِهِ، وَقَلَّ الْعَمَلُ بِهِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَقَدْ فَشَا الْكَذِبُ، وَكَثُرَ الرِّيَاءُ، وَالتَّزَيُّنُ لِلدُّنْيَا، وَسُلُوكُ أَوْدِيَةِ الْهَوَى، وَنُزُولُ أَوْدِيَةِ الْغَفْلَةِ. وَلَا يُؤْمَنُ السَّبِيلُ أَنْ يَرْكَبَ عَلَى تِلْكَ الْغَفْلَةِ فَتَتْلَفُ النَّفْسُ، وَأَنَّ الْهَوَى قَدْ قَامَ مَقَامَ الْحَقِّ يُعْمَلُ بِهِ، وَيُقْضَى بِقَضَائِهِ، وَيُحْكَمْ بِحُكْمِهِ

فصل في ذكر الطمع وقبحه

وَقَامَ سُوءُ الْأَدَبِ، وَالْمَكْرُ، وَالْخَدِيعَةُ مَقَامَ الْعُقُولِ، وَقَامَتْ الْمُدَاهَنَةُ مَقَامَ الْمُدَارَاةِ، وَقَامَ الْغِشُّ مَقَامَ النُّصْحِ، وَقَامَ الْكَذِبُ مَقَامَ الصِّدْقِ، وَقَامَ الرِّيَاءُ مَقَامَ الْإِخْلَاصِ، وَقَامَ الشَّكُّ مَقَامَ الْيَقِينِ، وَقَامَتْ التُّهْمَةُ مَقَامَ الثِّقَةِ، وَقَامَ الْأَمْنُ مَقَامَ الْخَوْفِ، وَقَامَ الْجَزَعُ مَقَامَ الصَّبْرِ، وَقَامَ السُّخْطُ مَقَامَ الرِّضَا، وَقَامَ الْجَهْلُ مَقَامَ الْعِلْمِ، وَقَامَتْ الْخِيَانَةُ مَقَامَ الْأَمَانَةِ فَصَارَ مِنْ قِلَّةِ الْأَكْيَاسِ لَا تُعْرَفُ الْحَمْقَى، وَمِنْ قِلَّةِ أَهْلِ الصِّدْقِ لَا يُعْرَفُ أَهْلُ الْكَذِبِ إلَّا عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ، وَالْعَقْلِ، وَالْبَصِيرَةِ فَاعْتَدَلَ النَّاسُ فِي قُبْحِ السَّرِيرَةِ، وَقِلَّةِ الِاسْتِقَامَةِ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَأَصْبَحْنَا وَقَدْ حِيلَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَ النَّقْصِ الَّذِي نَكْرَهُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَحِيلَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَ أَنْ نَدْخُلَ فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي نُحِبُّهَا لِأَنْفُسِنَا عُقُوبَةً لِقُبْحِ أَسْرَارِنَا فَجَرَيْنَا فِي مَيْدَانِ الْجَهْلِ، وَغَلَبَ عَلَيْنَا سُكْرُ حُبِّ الدُّنْيَا فَنَحْنُ نَسْتَبِقُ فِي هَذَيْنِ السَّبِيلَيْنِ، وَنَتَنَافَسُ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُمَا فَصَحَّ عِنْدِي أَنَّ مِنْ الْجَهْلِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِاغْتِرَارِ بِهِ الْقِيَامَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالسَّلَامَةُ مِنْهَا أَيْسَرُ، وَأَقْرَبُ رُشْدًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فِيهِ مَعَ التَّخَلُّصِ إلَى خُمُولِ الذِّكْرِ أَيْنَمَا كَانَ، وَطُولِ الصَّمْتِ، وَقِلَّةِ الْمُخَالَطَةِ لِلنَّاسِ، وَالِاعْتِصَامِ بِاَللَّهِ، وَالْعَضِّ عَلَى الْكِسَرِ الْيَابِسَةِ، وَمَا دَنُؤَ مِنْ اللِّبَاسِ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا، وَالتَّمَسُّكِ بِالْقُرْآنِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَانْتِظَارِ الْفَرْجِ، وَاعْلَمْ أَنِّي قَدْ نَظَرْتُ بِبَحْثِ النَّفْسِ، وَالْعِنَايَةِ بِهَا فَوَجَدْتُ غَفْلَتَنَا عَظِيمَةً، وَخَطَرَنَا عَظِيمًا، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الْخَطَرِ أَعْظَمُ مِنْ الْخَطَرِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْظُمُ الْخَطَرُ عِنْدَ أُولِي الْعُقُولِ فَكُلَّمَا عَظُمَ الْخَطَرُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ عَظِيمٌ، وَكُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ حَرَّكَك عَظِيمُ الْخَطَرِ فَانْتَقَلْتَ مِنْ عَظِيمِ الْغَفْلَةِ إلَى حَالِ التَّيَقُّظِ، وَلَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الطَّمَعِ وَقُبْحِهِ] وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَغِي لَك يَا أَخِي أَنْ لَا تَأْذَنَ لِقَلْبِك فِي اسْتِصْحَابِ مَا يَعْسُرُ عَلَيْك

طَلَبُهُ، وَتَخَافَ إطْفَاءَ نُورِ الْقَلْبِ مِنْ أَجْلِهِ، وَكُنْ فِي تَأْلِيفِ مَا بَيْنَك، وَبَيْنَ اللَّهِ مَحْمُودَ الْعَاقِبَةِ، وَاقْطَعْ أَسْبَابَ الطَّمَعِ فَيَسْتَرِيحَ قَلْبُكَ، وَيَصِيرَ إلَى عِزِّ الْإِيَاسِ، وَإِمَاتَةِ الطَّمَعِ فَيُسَدُّ عَلَيْك سَبِيلَ الْفَقْرِ، وَيَسْكُنُ قَلْبُكَ عَنْ الْعَنَاءِ، وَيَسْقُطُ عَنْك بِذَلِكَ الشُّغْلُ بِالْمَخْلُوقِينَ، وَاسْتَجْلِبْ حَلَاوَةَ الزَّهَادَةِ بِقَصْرِ الْأَمَلِ، وَقَطْعِهِ، وَاطْلُبْ رَاحَةَ الْبَدَنِ بِإِجْمَاعِ الْقَلْبِ عَلَى عَدَمِ الشُّغْلِ بِرُؤْيَةِ الْمَخْلُوقِينَ وَتَعَرَّضْ لِرِقَّةِ الْقَلْبِ بِدَوَامِ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الذِّكْرِ مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ، وَالْمَعْرِفَةِ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ التَّارِكِينَ لِفُضُولِ الْكَلَامِ فَإِنَّ بِمُجَالَسَةِ هَؤُلَاءِ يَصْفُو الْقَلْبُ، وَيَرِقُّ، وَيَقْدَحُ فِيهِ النُّورُ، وَتَجْرِي فِيهِ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ، وَافْتَحْ بَابَ دَوَاعِي الْحُزْنِ إلَى قَلْبِكَ، وَاسْتَفْتِحْ بَابَهُ بِطُولِ الْفِكْرِ، وَاسْتَجْلِبْ الْفِكْرَ بِالتَّوَحُّشِ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّ أَبْوَابَهَا فِي مَوَاطِنِ الْخَلَوَاتِ، وَتَحَرَّزْ مِنْ إبْلِيسَ بِالْخَوْفِ الصَّادِقِ، وَاسْتَعِنْ عَلَى ذَلِكَ بِمُخَالَفَةِ هَوَاك، وَإِيَّاكَ، وَالرَّجَاءَ الْكَاذِبَ فَإِنَّ التَّوَسُّعَ فِيهِ يُنْزِلُك بِمَحَلَّةِ الْمُصِرِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمَكْرِ، وَالِاسْتِدْرَاجِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلرَّجَاءِ طُرُقًا تُؤَدِّي إلَى الْأَمْنِ، وَالْغَفْلَةِ فَإِيَّاكَ أَنْ تَتَّخِذَهُ مَطِيَّةً لِسَفَرِك، وَتَخَلَّصْ يَا أَخِي إلَى عَظِيمِ الشُّكْرِ بِاسْتِكْثَارِ قَلِيلِ الرِّزْقِ مَعَ كَثِيرِ الرِّضَا بِذَلِكَ، وَاسْتَقْلِلْ كَثِيرَ الطَّاعَةِ، وَاسْتَجْلِبْ النِّعَمَ بِعَظِيمِ الشُّكْرِ، وَاسْتَدْمِ عَظِيمَ الشُّكْرِ بِخَوْفِ زَوَالِ النِّعَمِ، وَاطْلُبْ لِنَفْسِك الْعِزَّ بِإِمَاتَةِ الطَّمَعِ، وَادْفَعْ ذُلَّ الطَّمَعِ بِعِزِّ الْإِيَاسِ، وَاسْتَجْلِبْ عِزَّ الْإِيَاسِ بِبُعْدِ الْهِمَّةِ، وَاسْتَعِنْ عَلَى بُعْدِ الْهِمَّةِ بِقَصْرِ الْأَمَلِ، وَبَادِرْهُ بِانْتِهَازِ النِّعْمَةِ عِنْدَ إمْكَانِ الْفُرْصَةِ خَوْفَ فَوَاتِ الْإِمْكَانِ، وَلَا إمْكَانَ كَالْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ مَعَ صِحَّةِ الْأَبْدَانِ، وَاحْذَرْ التَّسْوِيفَ فَإِنَّ دُونَهُ مَا يَقْطَعُ بِك عَنْ بُغْيَتِك، وَإِيَّاكَ يَا أَخِي، وَالتَّفْرِيطَ عِنْدَ إمْكَانِ الْفُرْصَةِ فَإِنَّهُ مَيْدَانٌ يَجْرِي بِأَهْلِهِ بِالْخُسْرَانِ، وَإِيَّاكَ، وَالثِّقَةَ بِغَيْرِ الْمَأْمُونِ فَإِنَّ لِلشَّرِّ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الذِّئَابِ، وَلَا سَلَامَةَ كَسَلَامَةِ الْقَلْبِ، وَلَا عَمَلَ كَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَلَا مُصِيبَةَ كَمُصِيبَةِ الْعَقْلِ، وَلَا عَدَمَ كَقِلَّةِ الْيَقِينِ، وَلَا جِهَادَ كَجِهَادِ النَّفْسِ، وَلَا غَلَبَةَ كَغَلَبَةِ الْهَوَى، وَلَا قُوَّةَ كَرَدِّك الْغَضَبَ، وَلَا مَعْصِيَةَ كَحُبِّ النِّفَاقِ وَإِنَّ حُبَّ الدُّنْيَا مِنْ حُبِّ

فصل في التزين

النِّفَاقِ، وَلَا طَاعَةَ كَقِصَرِ الْأَمَلِ، وَلَا ذُلَّ كَالطَّمَعِ - وَفَّقْنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ لِمَا إلَيْهِ دَعَانَا، وَأَعَانَنَا، وَإِيَّاكَ عَلَى اجْتِنَابِ مَا عَنْهُ نَهَانَا، وَلَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ - [فَصْلٌ فِي التَّزَيُّنِ] وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْعُقُولُ مَعَادِنُ الدِّينِ، وَالْعِلْمُ دَلَالَةٌ عَلَى أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ، وَالْمَعْرِفَةُ دَلَالَةٌ عَلَى آفَاتِ الْأَعْمَالِ، وَالْبَصَائِرُ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِبَارِ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ أَوْ اخْتِيَارِ مَوَارِدِهَا، وَتَصْرِيفِ مَصَادِرِهَا، وَالتَّزَيُّنُ اسْمٌ لِثَلَاثِ مَعَانٍ فَمُتَزَيِّنٌ بِعِلْمٍ، وَمُتَزَيِّنٌ بِجَهْلٍ، وَمُتَزَيِّنٌ بِتَرْكِ التَّزَيُّنِ، وَهُوَ أَعْظَمُهَا فِتْنَةً، وَأَحَبُّهَا إلَى إبْلِيسَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسَاسَ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ دِينَهُ مَعْرِفَتُهُ نَفْسَهُ، وَزَمَانَهُ، وَأَهْلَ زَمَانِهِ فَإِذَا عَرَفَ عُيُوبَ نَفْسِهِ، وَأَرَادَ مَأْخَذًا لِيَسْلَمَ بِهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَلْيَبْدَأْ بِالْخَلْوَةِ، وَخُمُولِ نَفْسِهِ فَلَعَلَّهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُدْرِكَ بِذَلِكَ الْحُزْنَ فِي الْقَلْبِ، وَالْخَوْفَ الَّذِي يُحْتَجَزُ بِهِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالشَّوْقَ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ أَمَلَهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَإِلَّا لَمْ يَزَلْ مُتَحَيِّرًا مُتَلَذِّذًا مُتَزَيِّنًا بِالْكَلَامِ يَأْنَسُ بِمَجَالِسِ الْوَحْشَةِ، وَيَثِقُ بِغَيْرِ الْمَأْمُونِ، وَيَطْمَئِنُّ لِأَهْلِ الرَّيْبِ، وَيَحْتَمِلُ أَهْلَ الْمَيْلِ إلَى الدُّنْيَا، وَيَغْتَرُّ بِأَهْلِ الْحِرْصِ، وَالرَّغْبَةِ، وَيَتَأَسَّى بِأَهْلِ الضَّعْفِ، وَيَسْتَرِيحُ إلَى أَهْلِ الْجَهْلِ مَيْلًا مِنْهُ إلَى هَوَاهُ إلَى أَنْ يَفْجَأَهُ الْمَوْتُ، وَحُلُولُ النَّدَمِ. وَإِذَا وَجَدْتَ الْمُرِيدَ الْمُدَّعِيَ لِلْعَمَلِ، وَالْمَعْرِفَةِ يَأْنِسُ بِمَنْ يَعْرِفُ، وَلَا يَهْرُبُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ، وَيَنْبَسِطُ، وَيُمَكِّنُ نَفْسَهُ مِنْ الْكَلَامِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مَنْ يَعْرِفُ فَاتَّهِمْ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ صَادِقًا فِي إرَادَتِهِ أَوْ يَكُونَ جَاهِلًا بِطَرِيقِ سَلَامَتِهِ أَوْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، وَعِلْمِهِ مُسْتَحْوِذًا عَلَيْهِ هَوَاهُ، - وَمَا التَّوْفِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ - وَاعْلَمْ يَا أَخِي عِلْمًا يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّا لَمْ نَبْنِ أَسَاسَ الدِّينِ عَلَى طَلَبِ السَّلَامَةِ فِيهِ مِنْ الْخَطَأِ، وَلَا عَلَى حُسْنِ السِّيرَةِ مُنَافِي لِلْأَخْلَاقِ، وَالْآدَابِ، وَلَكِنَّا ابْتَنَيْنَاهُ عَلَى أَسَاسِ الْهَوَى، وَعَلَى

مَا خَفَّ مَحْمَلُهُ عَلَى قُلُوبِنَا، وَاسْتَخَفَّتْهُ أَنْفُسُنَا، وَاسْتَحْلَتْهُ أَلْسِنَتُنَا فَأَمْضَيْنَا فِيهِ أَعْمَالَنَا طَمَعًا فِي الزِّيَادَةِ مِنْ التَّقْوَى بِزَعْمِنَا، وَدَرْكِنَا حُسْنَ السِّيرَةِ مِنَّا فِي الْأَخْلَاقِ، وَالْآدَابِ فَنَظَرْنَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدْ رَجَعَتْ عَلَيْنَا أَعْمَالُ إيثَارِ الْهَوَى بِالنَّقْصِ مِنْ الزِّيَادَة فِي الدِّينِ، وَبِقُبْحِ السِّيرَةِ مِنَّا فِي الْأَخْلَاقِ، وَالْآدَابِ بِنَظَرِنَا لِأُمُورِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ فَوَرَّثَنَا ذَلِكَ الْخَبَّ، وَالْغِشَّ، وَالْمُدَاهَنَةَ فَصَيَّرْنَا الْغِشَّ، وَالْمُدَاهَنَةَ مُدَارَاةً، وَصَيَّرْنَا الْخَبَّ عُقُولًا، وَآدَابًا، وَمُرُوآتٍ يَحْتَمِلُ بَعْضُنَا بَعْضَنَا عَلَى ذَلِكَ فَأَعْقَبَنَا ذَلِكَ تَبَاغُضًا فِي الْقُلُوبِ، وَتَحَاسُدًا، وَتَقَاطُعًا، وَتَدَابُرًا فَتَحَابَبْنَا بِالْأَلْسُنِ مَعَ الرُّؤْيَةِ، وَتَبَاغَضْنَا بِالْقُلُوبِ مَعَ فَقْدِ الرُّؤْيَةِ نَذُمُّ الدُّنْيَا بِالْأَلْسُنِ، وَنَمِيلُ إلَيْهَا بِالْقُلُوبِ، وَنُدَافِعُهَا عَنَّا فِي الظَّاهِرِ بِالْقَوْلِ، وَنَجُرُّهَا بِالْأَيْدِي، وَالْأَرْجُلِ فِي الْبَاطِنِ فَأَصْبَحْنَا مَعَ قُبْحِ هَذَا الْوَصْفِ، وَسَمَاجَتِهِ لَا نَسْتَأْهِلُ بِهِ خُرُوجًا عَنْ النَّقْصِ، وَلَا دُخُولًا فِي الزِّيَادَةِ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَأَصْحَابُنَا لَا نَجِدُ رَجُلًا صَادِقًا فَنَتَأَسَّى بِهِ، وَلَا خَائِفًا فَنَلْزَمُهُ لِلُزُومِهِ لَهُ، وَلَا مَحْزُونًا يَعْقِلُ الْحُزْنَ فَنُبَاكِيهِ فَقَدْ صِرْنَا نَتَلَاهَى بِفُضُولِ الْكَلَامِ، وَنَأْنَسُ بِمَجَالِسِ الْوَحْشَةِ، وَنَقْتَدِي بِغَيْرِ الْقُدْوَةِ مُصِرِّينَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ مُقْلِعِينَ، وَلَا تَائِبِينَ مِنْهُ، وَلَا هَارِبِينَ مِنْ مَكْرِ الِاسْتِدْرَاجِ - فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ التَّوَلِّي عَنْ اللَّهِ، وَالسُّقُوطِ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ، وَالشُّغْلِ بِغَيْرِ اللَّهِ - إنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ لِلطَّاعَةِ ثَوَابًا أَيْ مَا وَعَدَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ التَّفَضُّلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ عِقَابًا فَالثَّوَابُ لَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ إلَّا مِنْ بَعْدِ تَصْحِيحِ الْعَمَلِ، وَتَخْلِيصِهِ مِنْ الْآفَاتِ، وَتَصْحِيحُ ذَلِكَ، وَتَخْلِيصُهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، وَالِاعْتِزَامِ، وَاحْتِمَالِ مُؤْنَتِهِ، وَتَصْحِيحُ الْعَمَلِ، وَالِاعْتِزَامُ، وَالِاحْتِمَالُ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ بَعْدِ ثَبَاتِ الْخَوْفِ فِي الْقَلْبِ، وَالْخَوْفُ لَا يُوجَدُ إلَّا مِنْ بَعْدِ ثَبَاتِ الْيَقِينِ فِي الْقَلْبِ، وَثَبَاتُ الْيَقِينِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ بَعْدِ صِحَّةِ تَرْكِيبِ الْعَقْلِ فِي الْعَبْدِ فَإِذَا صَحَّ تَرْكِيبُ الْعَقْلِ فِي الْعَبْدِ، وَثَبَتَ وَقَعَ الْخَوْفُ مِمَّا قَدْ أَيْقَنَ بِهِ فَجَاءَتْ عَزِيمَةُ الصَّبْرِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَاحْتَمَلَتْ النَّفْسُ حِينَئِذٍ مُؤْنَةَ الْعَمَلِ طَمَعًا فِي ثَوَابِ مَا قَدْ

أَيْقَنَتْ بِهِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، وَرَهْبَةِ عِقَابِ مَا قَدْ أَيْقَنَتْ بِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فَتَرَكَتْ الْمَعْصِيَةَ، وَالشَّهْوَةَ هَرَبًا مِنْ عُقُوبَتِهِمَا، وَاحْتَمَلَتْ الطَّاعَةَ بِالْإِخْلَاصِ رَجَاءَ ثَوَابِهَا فَكُلِّفَ الْأَحْمَقُ الْكَيْسَ، وَلَمْ يُعْذَرْ عَلَى لُزُومِ الْحُمْقِ، وَكُلِّفَ الْجَاهِلُ التَّعْلِيمَ، وَلَمْ يُعْذَرْ عَلَى غَلَبَةِ الْهَوَى، وَكُلِّفَ الْعَامِلُ الصِّدْقَ، وَالْإِخْلَاصَ، وَالتَّيَقُّظَ فِي عَمَلِهِ، وَلَمْ يُعْذَرْ عَلَى الشَّهَوَاتِ، وَالْغَفْلَةِ، وَتَرْكِ الْإِخْلَاصِ فِيهِ. وَكُلِّفَ الْعَاقِلُ الصِّدْقَ فِي قَوْلِهِ، وَلَمْ يُعْذَرْ بِالْمَيْلِ إلَى الْكَذِبِ، وَكُلِّفَ الصَّادِقُ الْمُخْلِصُ الصَّبْرَ عَنْ ابْتِغَاءِ تَعْجِيلِ ثَوَابِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَالتَّكْرِمَةِ، وَالتَّعْظِيمِ، وَعِنْدَهَا انْقَطَعَ الْعُمَّالُ خَاصَّةً، وَحَلَّ بِهِمْ الْجَزَعُ، وَتَرَكُوا عَزِيمَةَ الصَّبْرِ فِي طَلَبِهِمْ تَعْجِيلَ ثَوَابِ عَمَلِهِمْ، وَلَمْ يُؤَخِّرُوا ثَوَابَ الْأَعْمَالِ لِيَوْمٍ يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَخَدَعَتْهُمْ الْأَنْفُسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ عِنْدَ سَتْرِ سَرَائِرِ أَعْمَالِهِمْ حَتَّى أَبْدَوْهَا لِلْمَخْلُوقِينَ بِالْمَعَانِي، وَالْمَعَارِيضِ، وَأَظْهَرُوا الْأَعْمَالَ لِيُعْرَفُوا بِفَضِيلَةِ الْعَمَلِ لِيَزْدَادُوا عِنْدَ النَّاسِ فَضِيلَةً، وَرِفْعَةً فَتَعَجَّلَتْ أَنْفُسُهُمْ ذَخَائِرَ أَعْمَالِهِمْ، وَحَلَاوَةَ سَرَائِرِهِمْ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ، وَالتَّكْرِمَةِ، وَالتَّعْظِيمِ، وَوَطْءِ الْأَعْقَابِ، وَالرِّيَاسَةِ، وَالتَّوْسِعَةِ لَهُمْ فِي الْمَجَالِسِ، وَأَغْفَلُوا سُؤَالَ اللَّه لَهُمْ فِي عَقَدِهِمْ لِمَنْ عَمِلُوا، وَمَاذَا طَلَبُوا فَخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَعْمَالَهُمْ، وَخَسَارَةُ مَا هُنَالِكَ بَاقِيَةٌ، وَنَدَامَةُ مَا هُنَالِكَ طَوِيلَةٌ لَمَّا وَرَدُوا عَلَى اللَّهِ فَوَجَدُوا عَظِيمَ مَا كَانُوا يُؤَمِّلُونَ مِنْ ثَوَابِ سَرَائِرِ أَعْمَالِهِمْ الَّتِي عَاجَلُوا فِيهَا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَمُنِعُوهَا هُنَالِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا تَعَجَّلُوا ثَوَابَهَا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ، وَخَرَجُوا مِنْ خَيْرِ أَعْمَالِهِمْ صِفْرَ الْيَدَيْنِ - فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ -. مَا أَقْبَحَ الْفَضِيحَةَ بِالْعَالِمِ الْعَامِلِ الْبَصِيرِ النَّاقِدِ الْعَارِفِ غِبَّ قِلَّةِ الصَّبْرِ، وَابْتِغَاءَ تَعْجِيلِ الثَّوَابِ، وَالْمَيْلِ إلَى الدُّنْيَا، وَإِيثَارِ شَهَوَاتِهَا، وَلَذَّاتِهَا فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ الْحَازِمِ اللَّبِيبِ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الْعَارِفِ الْبَصِيرِ النَّاقِدِ أَنْ يَحْذَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيَتَّخِذَ الصَّبْرَ مَطِيَّةً، وَلَا يَبْغِيَ تَعْجِيلَ الثَّوَابِ هَاهُنَا، - وَمَا التَّوْفِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ -

فصل في الغيبة والنميمة

[فَصْلٌ فِي الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ] ِ وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ أَنَّ مَخْرَجَ الْغِيبَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَالرِّضَى عَنْهَا؛ لِأَنَّك إنَّمَا تَنَقَّصْتَ غَيْرَك بِفَضِيلَةٍ، وَجَدْتهَا عِنْدَك، وَإِنَّمَا اغْتَبْته بِمَا تَرَى أَنَّك مِنْهُ بَرِيءٌ، وَلَمْ تَغْتَبْهُ بِشَيْءٍ إلَّا احْتَمَلْتَ فِي نَفْسِك مِنْ الْعَيْبِ أَكْثَرَ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ مِنْك مِثْلُك فَلَوْ عَقَلْتَ أَنَّ فِيك مِنْ النَّقْصِ أَكْثَرَ لَحَجَزَك ذَلِكَ عَنْ غِيبَتِهِ، وَلَاسْتَحْيَيْتَ أَنْ تَغْتَابَهُ بِمَا فِيك أَكْثَرُ مِنْهُ، وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّ جُرْمَك عَظِيمٌ بِغِيبَتِك غَيْرَك، وَظَنُّكَ أَنَّك مُبَرَّأٌ مِنْ الْعُيُوبِ لَحَجَزَكَ ذَلِكَ، وَلَشَغَلَك عَنْ ذَلِكَ، وَكَيْفَ، وَإِنَّمَا يَلْقَى الْأَمْوَاتُ الْأَمْوَاتَ، وَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءَ إذًا مَا احْتَمَلُوا ذَلِكَ مِنْك، وَلَتَنَاهَوْا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَيِّتَ الْأَمْوَاتِ أَحْمَدُ فِي الْعَاقِبَةِ مِنْ مَيِّتِ الْأَحْيَاءِ، وَتَفْسِيرُ مَيِّتِ الْأَحْيَاءِ، أَمْوَاتُ الْقُلُوبِ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الدُّنْيَا فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ كَثُرَتْ أَوْزَارُهُ، وَعَظُمَتْ بَلِيَّتُهُ فَاحْذَرْ يَا أَخِي الْغِيبَةَ كَحَذَرِك عَظِيمَ الْبَلَاءِ أَنْ يَنْزِلَ بِك فَإِنَّ الْغِيبَةَ إذَا نَزَلَتْ، وَثَبَتَتْ فِي الْقَلْبِ، وَأَذِنَ صَاحِبُهَا لِنَفْسِهِ فِي احْتِمَالِهَا لَمْ تَرْضَ بِسُكْنَاهَا حَتَّى تُوَسِّعَ لِأَخَوَاتِهَا، وَهِيَ النَّمِيمَةُ، وَالْبَغْيُ، وَسُوءُ الظَّنِّ، وَالْبُهْتَانُ، وَالْكِبْرُ، وَمَا احْتَمَلَهَا لَبِيبٌ، وَلَا رَضِيَ بِهَا حَكِيمٌ، وَلَا اسْتَصْحَبَهَا وَلِيُّ اللَّهِ قَطُّ - فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ - [فَصْلٌ فِي الِاسْتِدْرَاجِ] ِ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِدْرَاجُ اسْمٌ لِمَعْنَيَيْنِ فَأَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ: اسْتِدْرَاجُ عُقُوبَةٍ لِلسَّيِّئَةِ تَنْبِيهًا عَلَى الْإِنَابَةِ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي اسْتِدْرَاجٌ لَا إنَابَةَ فِيهِ، وَلَا رُجُوعَ - فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الِاسْتِدْرَاجِ -، وَإِنَّمَا يَسْتَدْرِجُ الْعَبْدُ عَلَى قَدْرِ بُغْيَتِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدْرِجُ بِالْمُلْكِ، وَالسُّلْطَانِ، وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَسْتَدْرِجُ بِالدُّنُوِّ مِنْ الْمُلُوكِ، وَالسَّلَاطِينِ، وَالْحُظْوَةِ عِنْدَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدْرِجُ بِالتَّوْسِعَةِ فِي تِجَارَتِهِ وَبِالتَّوْسِعَةِ فِي الْمَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدْرِجُ بِالْأَهْلِ

فصل في اليقين

وَالْوَلَدِ، وَالْحَاشِيَةِ، وَالتَّبَعِ، وَوَطْءِ الْأَعْقَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدْرِجُ بِعِلْمِهِ بِأَنْ يُكْرَمَ بِسَبَبِهِ، وَيُحْمَدَ، وَيُعَظَّمَ، وَيُسْمَعَ قَوْلُهُ فَهُوَ مُسْتَدْرِجٌ بِنَيْلِ حَظِّهِ مِنْ عِلْمِهِ، وَمِنْهُمْ الْعَابِدُ يَسْتَدْرِجُ مِنْ طَرِيقِ الْعُجْبِ فِي عَمَلِهِ، وَالْقُوَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي بَدَنِهِ، وَمِنْهُمْ ذُو الْبَصِيرَةِ يَسْتَدْرِجُ بِالزِّيَادَةِ فِي بَصِيرَتِهِ فَجَمِيعُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْمُسْتَدْرِجِينَ كُلِّهِمْ لَا يَخْلُو مِنْ الرِّيَاءِ، وَالْعُجْبِ، وَكُلُّ مُزَيَّنٍ لَهُ مَا هُوَ فِيهِ لَا يَرَى إلَّا أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ مَقْبُولٌ مِنْهُ إحْسَانُهُ، وَقَدْ عَمِيَ عَنْ فِتْنَةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الِاسْتِدْرَاجِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَبَّهُ فَيَنْتَبِهُ فَيَرْجِعُ إلَى الْإِنَابَةِ، وَيَفْزَعُ إلَى الِاسْتِكَانَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُهْمَلُ فَيُهْمِلُ نَفْسَهُ إلَى حُضُورِ أَجَلِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ، وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] فَهَذِهِ فِتْنَةُ الِاسْتِدْرَاجِ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُسْتَدْرِجُ مَفْتُونٌ فَلَا يَعْلَمُ بِفِتْنَتِهِ مُزَيَّنٌ لَهُ عَمَلُهُ مُسْتَحْسِنٌ مَا هُوَ فِيهِ طَالِبٌ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مُقِيمٌ فَاحْذَرْ فِتْنَةَ الِاسْتِدْرَاجِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْرَاجَ عُقُوبَةٌ لِلْمُضَيِّعِينَ شُكْرَ النِّعَمِ [فَصْلٌ فِي الْيَقِينِ] ، فَصْلٌ فِي الْيَقِينِ وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُوقِنِ عَلَامَةً وَاضِحَةً تَعْرِفُهَا مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ غَيْرِكَ، وَهِيَ: أَنَّ الْمُوقِنَ يَعْظُمُ عِنْدَهُ الْخَطَأُ وَالزَّلَلُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤَاخَذٍ بِهِ لِغَفْلَتِهِ عَنْهَا، وَرُكُونِهِ إلَيْهَا بِالشَّهَوَاتِ، وَهُجُومِ إبْلِيسَ عَلَى قَلْبِهِ، وَطَمَعِ نَفْسِهِ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا إذَا عَمِلَ مِنْهَا شَيْئًا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ النَّارَ، وَأَنَّهُ مَسْلُوبٌ بِهَا مَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ بِهِ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ كَانَ مُوقِنًا، وَهُوَ يَعْلَمُ إنْ قُلْت: مَا بَالُ أَقْوَامٍ عَارِفِينَ يُذْنِبُونَ قُلْت: لِيُعَرِّفَهُمْ اللَّهُ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانَهُ إلَيْهِمْ عِنْدَ إسَاءَتِهِمْ إلَى أَنْفُسِهِمْ فَتُجَدَّدُ عِنْدَهُمْ النِّعَمُ، وَيَسْتَقْبِلُونَ الشُّكْرَ فَيَصِيرُونَ بِذَلِكَ إلَى أَعْلَى دَرَجَاتِهِمْ انْتَهَى.

فصل في العجب

[فَصْلٌ فِي الْعُجْبِ] ِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاسْتِدْرَاجِ أَعْنِي اسْتِدْرَاجَ الْمُلُوكِ، وَغَيْرِهِمْ لَكِنْ بَقِيَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةٌ يُحْتَاجُ إلَى ذَكَرِهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْعَامَّةُ مُعْجَبُونَ بِمَا أُوتُوا مِنْ الْأَهْلِ، وَالْوَلَدِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَرْبَاحِ، وَالْمَسَاكِنِ، وَالْعُلَمَاءُ مُعْجَبُونَ بِعِلْمِهِمْ، وَمَا بُسِطَ لَهُمْ فِيهِ مِنْ الذِّكْرِ، وَالْقُرَّاءُ مُعْجَبُونَ بِمَا نَالُوا مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّزَمُّتِ بِقِرَاءَتِهِمْ، وَالْعُبَّادُ مُعْجَبُونَ بِمَا نَالُوا مِنْ الْقُوَّةِ عَلَى إظْهَارِ الزُّهْدِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، فَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ صِنْفٌ إلَّا، وَهُوَ يُحِبُّ التَّعْظِيمَ، وَالْمَحْمَدَةَ عِنْدَ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَعِنْدَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ التَّجَبُّرِ، وَهَذِهِ فُنُونُهُ فَإِذَا ثَبَتَ التَّجَبُّرُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ ثَبَتَتْ فُنُونُهُ جَمِيعًا، وَالتَّجَبُّرُ أَصْلٌ مِنْهُ يَتَفَرَّعُ جَمِيعُ الشَّرِّ مِنْ الْغَضَبِ، وَالطَّمَعِ، وَالرِّيَاءِ، وَحُبِّ التَّعْظِيمِ، وَالرِّيَاسَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ، وَالسُّمْعَةِ، وَالتَّزَيُّنِ، وَالطَّيْشِ، وَالْعَجَلَةِ، وَسُوءِ الْخُلُقِ، وَالْحِرْصِ، وَالشَّرِّ، وَالْمَكْرِ، وَالْخَدِيعَةِ، وَالْجَرِيرَةِ، وَالْغِشِّ، وَالْخِلَابَةِ، وَالْكَذِبِ، وَالْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالْحَسَدِ، وَالْقَسَاوَةِ، وَالْجَفَاءِ، وَالشُّحِّ، وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ مَعَ فُنُونِ جَمِيعِ الشَّرِّ - فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ - [فَصْلٌ فِي التَّوَاضُعِ] ِ وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا ثَبَتَ التَّوَاضُعُ فِي الْقَلْبِ ثَبَتَ فِيهِ جَمِيعُ الْخَيْرِ مِنْ الرَّأْفَةِ، وَالرِّقَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالِاسْتِكَانَةِ، وَالْقَنُوعِ، وَالرِّضَى، وَالتَّوَكُّلِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ، وَشِدَّةِ الْحَيَاءِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَنَفْيِ الطَّمَعِ، وَجِهَادِ النَّفْسِ، وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ، وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَالتَّشَاغُلِ عَنْ النَّفْسِ، وَالْمُبَادَرَةِ فِي الْعَمَلِ بِالْخَيْرِ، وَالْبِطَاءِ عَنْ الشَّرِّ. كُلُّ امْرِئٍ عَلَى قَدْرِ

مَا فِيهِ مِنْ الْبِرِّ يَكُونُ فِعْلُهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَيَكُونُ حَذَرُهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ فَإِنْ كُنْت تَسْأَلُ عَنْ الْعُجْبِ الَّذِي دَخَلَ أَصْحَابَ الْأَعْمَالِ مِنْ الْعُبَّادِ فَسَأُخْبِرُك بِفِتْنَتِهِمْ، وَشِدَّةِ بَلِيَّتِهِمْ فَتَوَقَّهَا، وَاحْذَرْهَا، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَبَ إلَى إبْلِيسَ الْخَبِيثِ مِنْ فِتْنَةِ الْعَابِدِ؛ لِأَنَّ فِتْنَةَ أَهْلِ الدُّنْيَا مَكْشُوفَةٌ بِطَلَبِهِمْ الدُّنْيَا، وَالنَّاسُ قَدْ عَرَفُوهُمْ بِطَلَبِهَا، وَفِتْنَتِهَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَمِلُهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَفْتُونٌ فِيهَا، وَأَمَّا فِتْنَةُ الْعَابِدِ فَهِيَ أَعْظَمُهَا فِتْنَةً، وَأَعْظَمُهَا بَلِيَّةً، وَأَعْظَمُهَا صَرْعًا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ تَرَكُوا عِبَادَةَ الدُّنْيَا، وَجَدُّوا فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَكَابَدُوا الْمَفَاوِزَ، وَالْقِفَارَ، وَجَاهَدُوا صُعُودَ الْعِقَابِ، وَجَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالنَّفْسِ، وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ، وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِالدُّنْيَا، وَمَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَإِيثَارِهَا بِالصِّدْقِ مِنْهُمْ، وَحُسْنِ الْإِرَادَةِ. غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ امْتَحَنَ هَذَا الْخَلْقَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِالدُّنْيَا، وَفِي تَرْكِهِمْ لَهَا، وَفِي طَلَبِهِمْ الْآخِرَةَ، وَإِيثَارِهِمْ لَهَا بِالْجِدِّ، وَالِاجْتِهَادِ، وَجَعَلَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ مُؤْنَةً لَا تُدْفَعُ إلَّا بِالصَّبْرِ، وَوَعَدَ إبْلِيسَ وَعْدًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِأَنْ أَسْكَنَهُ هُوَ، وَذُرِّيَّتَهُ صُدُورَ بَنِي آدَمَ يَجْرِي مِنْهُمْ مَجْرَى الدَّمِ، وَذَلِكَ لِمَنْ أَطَاعَ مِنْهُمْ، وَلِمَنْ عَصَى، وَلِأَوْلِيَائِهِ، وَأَعْدَائِهِ فَلَيْسَ لِلْعَابِدِ فِي عِبَادَتِهِ أَنْ يَنْفِيَ الشَّيْطَانَ عَنْ قَرَارِهِ أَوْ يُزْعِجَهُ عَنْ الْمَسْكَنِ الَّذِي أَسْكَنَهُ اللَّهُ فِيهِ، وَمَكَّنَهُ مِنْهُ، وَهَذِهِ مِنْ الْمِحَنِ الَّتِي امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا خَلْقَهُ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ غَيْرَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَيَقَّظَ بِقَلْبِهِ خَنَسَ الْخَبِيثَ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ إلَّا مَعَ غَفْلَتِهِ، وَطَبَعَ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَلَى الْغَفْلَةِ، وَالتَّيَقُّظِ، وَأَيَّدَ اللَّهُ الْعَابِدَ بِمُكَايَدَتِهِ إبْلِيسَ فَلَيْسَ أَحَدٌ أَحْوَجُ إلَى صِحَّةِ تَرْكِيبِ الْعَقْلِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَابِدِ الَّذِي قَدْ قَصَدَ خِلَافَهُ، وَقَوِيَ عَلَى احْتِمَالِ تَرْكِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَصِلُ بِهَا إبْلِيسُ إلَى ابْنِ آدَمَ مِنْ فُنُونِ الشَّهَوَاتِ فَحَذَفَ ذَلِكَ أَجْمَعَ، وَخَلَّفَهُ خَلْفَهُ، ثُمَّ قَرُبَ مِنْ الْعَقَبَةِ الَّتِي إنْ جَاوَزَهَا كَانَ مُنْحَدِرًا إلَى الْجَنَّةِ بِإِذْنِ اللَّه فَتَجَرَّدَ لَهُ إبْلِيسُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إلَّا هَذِهِ الدَّرَجَةُ الَّتِي إنْ سَلِمَ مِنْهَا نَجَا فَلَا يَسْلَمُ فِي مِثْلِ زَمَانِك

فصل في النية والعبادة

مَعَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ إلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا وَصَفْت لَك [فَصْلٌ فِي النِّيَّةِ وَالْعِبَادَةِ] وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُصَحِّحَ نِيَّتَهُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ عَمَلِهِ، وَيَجْمَعَ لِذَلِكَ قَلْبَهُ، وَذِهْنَهُ، وَعِنَايَتَهُ، وَيُقَرِّرَ عَمَلَهُ فِيمَا يَأْتِي، وَيَتَبَصَّرَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَيَقْصِدَ مَعْرِفَةَ رَبِّهِ، وَمُكَايَدَةَ عَدُوِّهِ، وَمُجَاهَدَةَ نَفْسِهِ، وَإِيَاسَهُ إيَّاهَا مِنْ عَمَلِهَا لِطَلَبِ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّهَا إنْ انْقَطَعَتْ عَنْ عِبَادَتِهَا لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الْعَفْوِ لِعَظِيمِ مَا جَنَتْ مِنْ الْإِسَاءَةِ. وَلَوْ أَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ، وَالْإِحْسَانَ بِإِزَاءِ ذَنْبٍ مِنْ ذُنُوبِهَا لَاسْتَأْهَلَتْ بِذَلِكَ الذَّنْبِ الْعِقَابَ إلَّا أَنْ يُغْفَرَ فَكَيْفَ بِجَمِيعِ إسَاءَتِهَا مَعَ قِلَّةِ مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ صِمَادِ التَّوْبَةِ، وَالْمُرَاجَعَةِ؟ ، ثُمَّ يَحْمِلُهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مَا اسْتَطَاعَتْ فَإِنْ عَارَضَهُ إبْلِيسُ بِشَيْءٍ أَوْ رَفَعَتْ نَفْسُهُ رَأْسَهَا لِتُذَكِّرَهُ شَيْئًا مِنْ إحْسَانِهَا مَنَعَهَا بِمَا قَدْ عَرَّفَهُ اللَّهُ مِنْ قَدِيمِ إسَاءَتِهَا، وَيُذَكِّرُهَا عُيُوبَهَا فَتَنْقَمِعُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ زَاجِرًا لِعَدُوِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَمَا يُرِيدُ مِنْ خَدِيعَتِهِ لِيُوقِعَهُ فِي الْعُجْبِ بِالْبَاطِلِ فَلَوْ كَانَ عُجْبُهُ عُجْبَ حَقِيقَةٍ مِنْ احْتِمَالِ نَفْسِهِ طَاعَةَ رَبِّهَا بِهَشَاشَةٍ مِنْهَا وَسُرُورٍ، وَزُهْدٍ فِيمَا يَكْرَهُ اللَّهُ لَكَانَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْيَقِينِ مَعَ صِدْقِهَا فِي الطَّاعَاتِ الرُّجُوعَ إلَى الشُّكْرِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا يَسَّرَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْ الشُّكْرِ فِي الْعَمَلِ كَانَ جَاهِلًا بِرَبِّهِ جَاهِلًا بِالْعَمَلِ جَاهِلًا بِالنِّعَمِ، وَمَنْ عَقَلَ الشُّكْرَ، وَذَكَّرَ نَفْسَهُ إحْسَانَ اللَّهِ رَجَعَ الشَّيْطَانُ - بِعَوْنِ اللَّهِ - صَاغِرًا نَاكِصًا عَلَى عَقِبِهِ فَأَلْزِمْ نَفْسَك النَّدَمَ، وَارْجِعْ إلَى مَا عَرَّفَك رَبُّك مِنْ مَعْرِفَةِ نَفْسِك، وَعَدُوِّك، وَارْغَبْ إلَى اللَّهِ فِي الْعِصْمَةِ مِنْ شَرِّ نَفْسِك، وَشَرِّ عَدُوِّك، وَأَسْأَلْهُ الْكِفَايَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَلْجَأْ إلَيْهِ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا، وَجَدَهُ قَرِيبًا مُجِيبًا فَإِذَا صَارَ الْعَبْدُ إلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ أُعْطِيَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ فَلَا يَكُونُ لَهُ هِمَّةٌ، وَلَا بُغْيَةٌ، وَلَا مَسْأَلَةٌ

فصل في العلم

إلَّا النَّقْلَةُ مِنْ ضَيِّقِ الدُّنْيَا، وَغَمِّهَا مَخَافَةَ أَنْ تُعَارِضَهُ فِتْنَةٌ مِنْ فِتَنِهَا تَحُولُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، وَيَرْتَجِي أَنْ يَصِيرَ إلَى الْآخِرَةِ، وَرَوَحِهَا لِيَأْمَنَ فِيهَا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ رَوْعَاتِ إبْلِيسَ، وَجُنُودِهِ، وَأَنَا أُوصِيك أَنْ تُطِيلَ النَّظَرَ فِي مِرْآةِ الْفِكْرَةِ مَعَ كَثْرَةِ الْخَلَوَاتِ حَتَّى يُرِيَك شَيْنَ الْمَعْصِيَةِ، وَقُبْحَهَا فَيَدْعُوك ذَلِكَ النَّظَرُ إلَى تَرْكِهَا. [فَصْلٌ فِي الْعِلْمِ] وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ أَنَّ لِدَوَاعِي الْخَيْرِ عَلَامَاتٍ يُسْتَجْلَبُ بِهَا دَوَاعِي الْحُزْنِ، وَالتَّفَكُّرِ فَهُوَ بَيْنَ ذَلِكَ مَسْرُورٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بُغْيَتَهُ وَأَمَلَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ أَمَلَهُ، وَوَجَدَ بُغْيَتَهُ طَابَ عَيْشُهُ كَمَا أَنَّ طَالِبِي الدُّنْيَا إذَا أَدْرَكُوا آمَالَهُمْ مِنْ نَعِيمِهَا، وَزَهْرَتِهَا أَحَاطَ بِهِمْ السُّرُورُ فَكَذَلِكَ طَالِبُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ بَعْد ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَعَدُوِّهِ، وَزَوْجَتِهِ، وَوَلَدِهِ، وَأَهْلِ زَمَانِهِ خَائِفٌ وَجِلٌ لَا يَأْمَنُ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا مَعَ اسْتِذْكَارِهِ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] . فَحِينَئِذٍ يَقْوَى قَلْبُهُ، وَيَسْتَصْغِرُ كَيْدَ مَنْ كَايَدَهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُعْتَصِمٌ بِرَبِّهِ، وَاثِقٌ بِهِ فَمَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ فَلَا يَغْفُلْ، وَلْيَبْنِ أَمْرَهُ عَلَى طَلَبِ السَّلَامَةِ مِنْ الْخَطَأِ، وَعَلَى أَسَاسِ الصِّدْقِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَلَا يَخَافُ عَلَى قَلِيلِ عَمَلِهِ إذَا خَلَّصَهُ لِلَّهِ مِنْ الْآفَاتِ كُلِّهَا أَنْ لَا يُنَمِّيَهُ اللَّهُ لَهُ، وَيُكَثِّرَهُ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كُنْت فِي زَمَانٍ قَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الشُّبْهَةُ، وَالِاخْتِلَافُ فَإِنَّ تَخْلِيصَك قَلِيلُ عَمَلِك مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الشُّبْهَةِ، وَالِاخْتِلَافِ حَتَّى تَكُونَ عَامِلًا عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - عِنْدَ اللَّهِ - كَثِيرٌ فَكُنْ فِي زَمَانِك أَشَدَّ تَيَقُّظًا لِلتَّخَلُّصِ إلَى مَعْرِفَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الْمَاضُونَ مِنْ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا اسْتَحْكَمَتْ فِيكَ لَمْ تَدَعْكَ مَعَ التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ بَلْ تَنْقُلُك مِنْ دَرَجَةٍ إلَى دَرَجَةٍ حَتَّى تُبَلِّغَك غَايَاتِ مَا عَمِلْت مِنْ الْخَيْرِ أَوْ يَأْتِيَك الْمَوْتُ، وَأَنْتَ طَالِبٌ لِغَايَاتِهَا، وَكَمَا أَنَّ الْأَرْضَ لَا تُنْبِتُ بِغَيْرِ مَاءٍ فَكَذَلِكَ الْعَمَلُ لَا يَصْلُحُ بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ فَكُلَّمَا

ازْدَادَ الْعَبْدُ بِاَللَّهِ مَعْرِفَةً ازْدَادَ يَقِينًا، وَكُلَّمَا ازْدَادَ يَقِينًا ازْدَادَ لِلَّهِ خَوْفًا، وَكُلَّمَا ازْدَادَ لِلَّهِ خَوْفًا ازْدَادَ لِرَبِّهِ طَاعَةً، وَكُلَّمَا ازْدَادَ لِرَبِّهِ طَاعَةً ازْدَادَ لَهُ حُبًّا، وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ حُبًّا ازْدَادَ إلَيْهِ شَوْقًا، وَكُلَّمَا ازْدَادَ إلَيْهِ شَوْقًا ازْدَادَ لِلْمَوْتِ حُبًّا فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَغْمُومًا فِي حَالَةِ مَسْرُورٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَغْمُومَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يَتَأَسَّى بِأَهْلِ السُّرُورِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَجْرِي مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَغْمُومَ جَمَعَ هُمُومَهُ كُلَّهَا فَنَصَبَهَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَهَا هَمًّا وَاحِدًا فَقَصُرَ بِهِ أَجَلُهُ، وَهَجَمَ بِهِ عَلَى مُعَايَنَةِ أَحْوَالِ آخِرَتِهِ، وَأَهْوَالِهَا، وَالْمَغْمُومُ بِالْحَقِيقَةِ نَبَّهَهُ الْغَمُّ عَلَى التَّسْوِيفِ فَعَمِلَ لِلنَّقْلَةِ مِنْ دَارِ الْغُمُومِ إلَى دَارِ السُّرُورِ، وَسَأَصِفُ لَك حَالَ الْمَغْمُومِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: اعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا تَدَبَّرُوا فَعَرَفُوا، فَلَمَّا عَرَفُوا أَيْقَنُوا، فَلَمَّا أَيْقَنُوا خَافُوا، فَلَمَّا خَافُوا عَلِمُوا، فَلَمَّا عَلِمُوا صَمَتُوا، فَلَمَّا صَمَتُوا عَمِلُوا، فَلَمَّا عَمِلُوا أَشْفَقُوا، فَلَمَّا أَشْفَقُوا جَاهَدُوا، فَلَمَّا جَاهَدُوا رَغِبُوا، فَلَمَّا رَغِبُوا صَبَرُوا، فَلَمَّا صَبَرُوا أَبْصَرُوا مَسَاوِئَ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمَّا أَبْصَرُوا مَسَاوِئَ أَنْفُسِهِمْ قَصَدُوا مُجَاهَدَتَهَا بِالْقُلُوبِ فَارْتَفَعُوا عَنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ إلَى تَصْحِيحِ الْقُلُوبِ فَنَقَلُوا طِبَاعَهُمْ عَنْ الرَّيْبِ، وَالدَّنَاءَةِ، وَجَانَبُوا فِي أَحْوَالِهِمْ كُلِّهَا، وَمُعَامَلَاتِهِمْ أَحْوَالَ أَهْلِ الْمَكْرِ، وَالْخَدِيعَةِ، وَالْخِبِّ، وَأَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ مَحَجَّةَ الطَّرِيقِ فِي أَفْعَالِهِمْ كُلِّهَا، وَمَنْطِقِهِمْ كُلِّهِ فَاسْتَخْلَصُوا بَاطِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَظْهَرُ لِلْمَخْلُوقِينَ، وَأَرَاحُوا أَبْدَانَهُمْ مِنْ ظَاهِرِ الْأَعْمَالِ إلَّا مَا لَزِمَهُمْ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْمَحْتُومَةِ فَصَارَتْ أَعْمَالُهُمْ سِرًّا بَيْنَ قُلُوبِهِمْ الَّتِي هِيَ أَرْجَحُ وَزْنًا، وَأَحْمَدُ ذِكْرًا عِنْدَ اللَّهِ، وَعَلَّقُوا قُلُوبَهُمْ بِحُبِّ لِقَاءِ اللَّهِ فَصَغُرَتْ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ فَإِذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ خَافُوا، وَحَزِنُوا خَوْفًا مِنْ الِاسْتِدْرَاجِ، وَالْمَكْرِ، وَإِنْ أَدْبَرَتْ عَنْهُمْ سُرُّوا، وَفَرِحُوا، وَدَافَعُوا الْأَيَّامَ مُدَافَعَةً جَمِيلَةً مُسْتَتِرِينَ عَنْ الْأَهْلِ، وَالْوَلَدِ، وَالْإِخْوَانِ، وَالْجِيرَانِ فَهِمَّتُهُمْ فِي بَاطِنِ أُمُورِهِمْ كَالدِّيبَاجِ حُسْنًا، وَفِي الظَّاهِرِ مَنَادِيلُ مَبْذُولُونَ لِمَنْ أَرَادَهُمْ مَغْمُومُونَ يُكَاشِرُونَ النَّاسَ بِوُجُوهِهِمْ، وَقُلُوبُهُمْ بَاكِيَةٌ، وَصِفَاتُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ الْوَاصِفُ

فصل في عيوب النفس

بِهَا فِي الْكُتُبِ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ يَكْثُرُ فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمَغْمُومِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَسْرُورِينَ بِاَللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ الْفَرِحِينَ بِهِ الْمُنْقَطِعِينَ إلَيْهِ، - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - [فَصْلٌ فِي عُيُوبِ النَّفْسِ] وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إخْوَانِي: إنَّهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ، وَعُيُوبَهَا فَهُوَ مِنْ اسْتِقَامَةِ دِينِهِ عَلَى اعْوِجَاجٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ حُسْنِ سِيرَةِ الْعَارِفِ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ أَنْ لَا يَبْنِيَ دِينَهُ عَلَى قُبْحٍ، وَلَا فَسَادٍ، وَأَصْلُ الْعِلْمِ الْغَرِيبِ يُدْرَكُ بِفِطَنِ الْعُقُولِ الْمَرْضِيَّةِ، وَبِنُورِ الْحِكْمَةِ الثَّاقِبَةِ، وَبِمُخَالَفَةِ الْأَهْوَاءِ، وَبِفَوَائِدِ الْمَعْرِفَةِ الشَّافِيَةِ، وَبِإِصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْقَوْلِ، وَالْعَمَلِ بِالْبَصِيرَةِ، وَلَا يَبْلُغُ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ إلَّا مَنْ تَقَلَّدَ حُبَّ الْآخِرَةِ مُوقِنًا بِهَا، وَرَاغِبًا فِيهَا، وَمُؤْثِرًا لَهَا عَلَى مَا سِوَاهَا، وَخَلَعَ عَنْ قَلْبِهِ حُبَّ الدُّنْيَا، وَزَهِدَ فِيهَا بِالْحَقِيقَةِ، وَاسْتَشْعَرَ التَّوَاضُعَ، وَهَجَرَ الْهَوَى فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ الْحَازِمِ اللَّبِيبِ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الْعَارِفِ الْبَصِيرِ أَنْ يَحْذَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيَتَّخِذَ الصَّبْرَ مَطِيَّةً، وَلَا يَبْتَغِيَ تَعْجِيلَ الثَّوَابِ، وَيَتَحَرَّكَ لِعَزِيمَةِ الصَّبْرِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ [فَصْلٌ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ عُيُوبِ النَّفْسِ] ِ وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ أَنِّي وَجَدْتُ الَّذِي يُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ عُيُوبِ النَّفْسِ، وَالْعَمَلِ فِي مُجَاهَدَتِهَا مُخَالَفَةَ الْهَوَى - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ - يَا أَخِي إنَّهُ لَنْ يُعْدِمَكَ مِنْ عَدُوِّك خَاطِرُ الشَّرِّ فِي الْقَلْبِ لِلْمَعْصِيَةِ فَادْفَعْهُ عَنْك بِحَاكِمِ الْعِلْمِ مِنْ الْقَلْبِ لِلطَّاعَةِ، وَإِنَّهُ لَنْ يُعْدِمَكَ مِنْ نَفْسِك سُرْعَةُ الْقَبُولِ لِمُوَافَقَةِ الْهَوَى فَادْرَأْهُ عَنْك بِقِلَّةِ الْمُسَاعَدَةِ لِخِلَافِ الْهَوَى، وَأَنَّهُ لَنْ يُعْدِمَكَ مِنْ عَدُوِّك التَّثَبُّطُ

فصل في الحزن والخوف

عَنْ الْعَمَلِ فَادْفَعْهُ عَنْك بِتَعْجِيلِ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْعَمَلِ، وَإِنَّهُ لَنْ يُعْدِمَكَ مِنْ نَفْسِك التَّشَبُّثُ بِالْكَسَلِ فَادْفَعْهُ عَنْك بِاغْتِنَامِ الصِّحَّةِ، وَأَعْلَمْ يَا أَخِي: أَنَّ الْقَلْبَ إذَا تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ أَقْذَارُ الذُّنُوبِ، وَأَطْفَاسُ الشَّهَوَاتِ عَمِيَ وَاسْوَدَّ، وَنَكَسَ، وَطُفِئَ نُورُهُ فَلَمْ يُبْصِرْ عُيُوبَ نَفْسِهِ، وَأَبْصَرَ بِعَيْنِهِ عُيُوبَ غَيْرِهِ فَشُغِلَ بِهِ عَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَوْلَى بِالْمُدَّعِينَ لِلْإِرَادَةِ مِنْ أَنْ يَتَوَسَّلُوا إلَى اللَّهِ عَزَّ، وَجَلَّ بِطَلَبِهِمْ مِنْهُ صَلَاحَ قُلُوبِهِمْ لِيَسْلَمُوا مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِهِمْ، وَغَلَبَةِ أَهْوَائِهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الْحُزْنُ خَرِبَ كَمَا أَنَّ الْبَيْتَ إذَا لَمْ يُسْكَنْ خَرِبَ [فَصْلٌ فِي الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ] ِ وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ، وَالْعَمَلَ بِالْعِلْمِ لَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ إلَّا بِاسْتِقَامَةِ قَلْبِهِ، وَإِلَّا عَادَ الْعِلْمُ عَلَيْهِ فَصَارَ جَهْلًا، وَعَادَ الْعَمَلُ فَصَارَ ضَرَرًا مَعَ أَنَّ فَسَادَ قُلُوبِنَا هُوَ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَ سُلُوكِ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ، وَالِاتِّبَاعِ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ، وَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَتْرُكُوا مِنْ الْفَرَائِضِ شَيْئًا إلَّا أَدَّوْهُ لَمْ يَتْرُكُوا الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَالْجِهَادَ، وَالصِّيَامَ، وَالْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَالطَّهُورَ لِلصَّلَاةِ كُلُّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ لَمْ يُزَدْ فِيهِ، وَلَمْ يُنْقَصْ مِنْهُ فَمَا بَالُ الْفَسَادِ وَاقِعٌ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ لَمْ نُنْكِرْ هَذِهِ الْفَرَائِضَ كَمَا لَمْ يُنْكِرُوهَا، وَإِنَّا لَنَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ بِأَكْثَرِهَا غَيْرَ أَنَّ الْقُلُوبَ مِنَّا مَائِلَةٌ إلَى حُبِّ مَا زَهِدَ الْقَوْمُ فِيهِ، وَالْأَنْفُسَ مِنَّا قَابِلَةٌ لِحُبِّ هَوَاهَا مُسْتَثْقِلَةٌ لِمَا فِي الْحَقِّ مِنْ الصَّبْرِ وَالْمَكْرُوهِ، وَسَأُعْطِيك دَوَاءً لِفَسَادِ قَلْبِك يَنْفَعُك اللَّهُ بِهِ إذَا كَانَتْ لَك حَيَاةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: اعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْقَوْمَ صَبَرُوا عَلَى مَكْرُوهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فَصَبَرُوا فِي الْغَضَبِ، وَالرِّضَا، وَالشِّدَّةِ، وَالرَّخَاءِ، وَالْعُسْرِ، وَالْيُسْرِ، وَالْعَافِيَةِ، وَالْبَلَاءِ فَكَانَتْ أَهْوَاؤُهُمْ تَابِعَةً لِلْحَقِّ عَلَى مَا أَحَبَّتْ الْأَنْفُسُ، وَكَرِهَتْ فَكَانَ الْحَقُّ لَهُمْ قَائِدًا، وَالْهَوَى لِعُقُولِهِمْ

فصل في الزهد والخلوة

تَابِعًا فَاسْتَقَامَتْ مِنْهُمْ السِّيرَةُ بِلُزُومِهِمْ مَحَجَّةَ الْحَقِّ فِي مَوَاطِنِ غَضَبِهِمْ وَرِضَاهُمْ وَطَمَعِهِمْ، وَتَقْوَاهُمْ، وَكَانُوا إذَا اُمْتُحِنُوا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ ظَهَرَ مِنْهُمْ قَوْلُ الْحَقِّ فِي مَوَاطِنِ غَضَبِهِمْ، وَهُمْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَلْزَمُ، وَأَشَدُّ تَمَسُّكًا مِنْهُمْ فِي مَوَاطِنِ الرِّضَا فَإِنْ عَارَضَهُمْ طَمَعُ دُنْيَا ظَهَرَ مِنْهُمْ التَّنَزُّهُ، وَالْوَرَعُ، وَالتَّقْوَى، وَالتَّأَنِّي، وَفُقِدَ مِنْهُمْ الْحِرْصُ، وَالرَّغْبَةُ خَوْفًا مِنْهُمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ كَالطِّبَاعِ لَمْ يَتَصَنَّعُوا فِيهِ، وَطِبَاعُنَا الْيَوْمَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَكَانُوا أَخْوَفَ لِلَّهِ، وَلَهُ أَحْذَرَ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ عَمَلًا فَلَا تَفْرَحَنَّ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ مَعَ قِلَّةِ الْخَوْفِ، وَاغْتَنِمْ قَلِيلَ الْعَمَلِ مَعَ الْخَوْفِ فَإِنَّ قَلِيلَ حُزْنِ الْآخِرَةِ الدَّائِمِ فِي الْقَلْبِ يَنْفِي كُلَّ سُرُورٍ سُرِرْت بِهِ، وَأَلِفْتَهُ مِنْ سُرُورِ الدُّنْيَا، وَقَلِيلُ سُرُورِ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ يَنْفِي عَنْك جَمِيعَ حُزْنِ الْآخِرَةِ، وَالْحُزْنُ لَا يَصِلُ إلَى الْقَلْبِ إلَّا مَعَ تَيَقُّظِهِ، وَتَيَقُّظُهُ حَيَاتُهُ، وَسُرُورُ الدُّنْيَا لِغَيْرِ الْآخِرَةِ لَا يَصِلُ إلَى الْقَلْبِ إلَّا مَعَ غَفْلَتِهِ، وَغَفْلَةُ الْقَلْبِ مَوْتُهُ، وَالْحُزْنُ يُوقِظُهُ، وَيَسْتَنْبِطُ لَهُ الْيَقَظَةَ مِنْ خَالِصِ عَيْنِ الْيَقِينِ، وَبِخَطِرَاتِ غَامِضِ الْفَهْمِ تَكُونُ خَطَرَاتُ الْيَقِينِ، وَعَلَامَةُ ثَبَاتِ الْيَقِينِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ اسْتِدَامَةُ الْحُزْنِ فِيهِ [فَصْلٌ فِي الزُّهْدِ وَالْخَلْوَةِ] ِ وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْلَمْ أَنِّي لَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَبْلَغَ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا مِنْ ثَبَاتِ حُزْنِ الْآخِرَةِ فِي الْقَلْبِ، وَعَلَامَةُ ثَبَاتِ حُزْنِ الْآخِرَةِ فِي الْقَلْبِ أُنْسُ الْعَبْدِ بِالْوِحْدَةِ، وَمَوْضِعُ هِيَاجِ الْحُزْنِ السُّرُورُ، وَمَعْدِنُهُ، وَمِفْتَاحُهُ الْعَقْلُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَحْزُونًا مَسْرُورًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَمِيعُ الطَّاعَاتِ تُوجَدُ بِالتَّكَلُّفِ، وَالْحُزْنُ لَا يُوجَدُ بِالتَّكَلُّفِ إلَّا أَنْ يَصِلَ إلَى الْقَلْبِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْحُزْنُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الطَّاعَةِ قَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ الْأَعْمَالِ لَطِيفَ مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَسْتَدِيمُونَ صَالِحَ الْأَعْمَالِ، وَيَسْهُلُ عَلَيْهِمْ مَأْخَذُهَا تَوْطِينًا مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَاسْتِصْحَابَ نِيَّتِهِمْ

إلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ فَصَيَّرُوا أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا، وَلَيْلَةً وَاحِدَةً، وَكُلَّمَا مَضَتْ لَيْلَةٌ اسْتَأْنَفُوا الثَّانِيَةَ، وَطَلَبُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ حُسْنَ الصُّحْبَةِ لِيَوْمِهِمْ، وَلَيْلَتِهِمْ، وَكُلَّمَا مَضَى عَنْهُمْ يَوْمٌ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ مِنْهُمْ أَوْ لَيْلَةٌ رَاقَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ غَنِيمَةً، وَذَكَرُوا الْيَوْمَ الْمَاضِي فَسُرُّوا بِهِ فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْيَوْمِ الْمُسْتَقْبَلِ لِخَوْفِ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ فِيهِ أَوْ فِي لَيْلَتِهِ، وَطَرَحُوا شُغْلَ الْقَلْبِ بِذِكْرِ غَدٍ، وَاسْتَعْمَلُوا أَبْدَانَهُمْ، وَجَوَارِحَهُمْ فِيهِ، وَتَفَرَّغُوا لَهُ فَقَصُرَتْ عَنْهُمْ الْآمَالُ، وَقَرُبَتْ عِنْدَهُمْ الْآجَالُ، وَتَبَاعَدَتْ عَنْهُمْ أَسْبَابُ وَسَاوِسِ الدُّنْيَا، وَعَظُمَ شُغْلُ الْآخِرَةِ فِي قُلُوبِهِمْ فَنَظَرُوا إلَيْهَا بِعَيْنٍ صَحِيحَةِ النَّظَرِ نَافِذَةِ الْبَصَرِ، وَتَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ فَاسْتَقَامَتْ لَهُمْ السِّيرَةُ حِينَ وَجَدُوا حَلَاوَةَ الطَّاعَةِ وَطَاوَعَتْهُمْ الزِّيَادَةُ فِي التَّقْوَى فَقَرَّتْ بِالْخَوْفِ أَعْيُنُهُمْ، وَتَنَعَّمُوا بِالْحُزْنِ فِي عِبَادَتِهِمْ حَتَّى نَحَلَتْ أَجْسَامُهُمْ، وَبَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ، وَقَلَّ مَعَ الْمَخْلُوقِينَ كَلَامُهُمْ، وَتَلَذَّذُوا بِمُنَاجَاةِ خَالِقِهِمْ فَقُلُوبُهُمْ بِمَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ مُتَعَلِّقَةٌ، وَفِكْرُهُمْ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ مُقْبِلَةٌ مُدْبِرَةٌ، وَأَبْدَانُهُمْ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ عَارِيَّةٌ فَعَمُوا عَنْ الدُّنْيَا، وَصَمُّوا عَنْهَا، وَعَمَّا فِيهَا، وَوَضُحَ لَهُمْ أَمْرُ الْآخِرَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ إلَيْهَا يَنْظُرُونَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - ثُمَّ نَظَرْت فِي ذَلِكَ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا أَقْرَبَ وَلَا أَجْمَعَ لِذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ حَمِيَّةِ الْأَنْفُسِ عَنْ إلْفِهَا، وَقَطْعِ مُجَاوَرَةِ الْمَخْلُوقِينَ بِمَنْعِ الْقُلُوبِ عَنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي بِهَا تَهِيجُ الْقُلُوبُ مِنْ الْأَشْغَالِ الْقَوَاطِعِ عَنْ التَّفَرُّغِ لِلْحُزْنِ أَوْ الْبَحْثِ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالتَّرْكِ لِلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَوَرَّثَهُ ذَلِكَ حُبَّ الْخَلَوَاتِ فَأَحَبَّهَا، وَلَزِمَهَا، وَأَنِسَ بِهَا، وَاسْتَوْحَشَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ، وَذَلِكَ حِينَ جَرَتْ عُذُوبَةُ الْخَلْوَةِ فِي أَعْضَائِهِ كَمَا يَجْرِي الْمَاءُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ فَأَوْرَقَتْ أَغْصَانُهَا، وَأَثْمَرَتْ عِيدَانُهَا، وَلَزِمَ خَوْفُ مَا يَجِيءُ بِهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ سُوَيْدَاءَ قَلْبِهِ فَهَاجَ لَهُ مِنْ الْخَلْوَةِ فُنُونٌ مِنْ أُصُولِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ اجْتَهَدَ فِي فَنٍّ مِنْهَا عَلَى أَنْ يَسْتَحْكِمَ لَهُ لَعَظُمَتْ عَلَيْهِ الْمُؤْنَةُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فِيهِ

الصَّلَاحُ فَإِذَا بَلَّغَ اللَّهُ الْعَبْدَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ حُبِّبَتْ إلَيْهِ الْخَلْوَةُ فَأَوَّلُ مَا يَسْتَفِيدُ مِنْ حُبِّ الْخَلْوَةِ الْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ، وَالصِّدْقُ فِي الْقَوْلِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي حُبِّ الْخَلْوَةِ رَاحَةٌ لِلْقَلْبِ مِنْ غُمُومِ الدُّنْيَا، وَتَرْكُ مُعَامَلَةِ الْمَخْلُوقِينَ فِي الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَمَخْرَجُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْلِ فَأَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْخَلْوَةِ وُجُوبَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَمُدَاهَنَةِ الْمَخْلُوقِينَ، وَيُحَبَّبُ إلَيْهِ بِالْخَلْوَةِ خُمُولُ النَّفْسِ، وَإِخْمَادُ الذِّكْرِ فِي النَّاسِ، وَهُوَ طَرِيقُ الصِّدْقِ، وَمِنْهُ يَكُونُ الْإِخْلَاصُ، وَيُحَبَّبُ إلَيْهِ بِالْخَلْوَةِ الزُّهْدُ فِي مَعْرِفَةِ النَّاسِ، وَالْأُنْسُ بِاَللَّهِ، وَيُوهَبُ لَهُ اسْتِثْقَالُ الْمَخْلُوقِينَ حَتَّى يَفِرَّ مِنْهُمْ فِرَارَهُ مِنْ الْأَسَدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُفَارِقٍ لِجَمَاعَتِهِمْ، وَيُعْطَى مِنْ حُبِّ الْخَلْوَةِ طُولَ الصَّمْتِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ، وَغَلَبَةَ الْهَوَى بِالصَّبْرِ، وَمِنْ الصَّمْتِ وَالصَّبْرِ غَلَبَةَ الْهَوَى، وَيُعْطَى مِنْ حُبِّ الْخَلْوَةِ الِاشْتِغَالَ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، وَقِلَّةَ اشْتِغَالِهِ بِذِكْرِ غَيْرِهِ، وَطَلَبَ السَّلَامَةِ مِمَّا فِيهِ النَّاسُ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ كَثْرَةَ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْفِكْرِ، وَهَذِهِ الْخِصَالُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ، وَمَخْرَجُهَا مِنْ خَالِصِ الذِّكْرِ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ الْأَعْمَالَ الَّتِي تَغِيبُ عَنْ أَعْيُنِ الْعِبَادِ، وَتَظْهَرُ لِرَبِّ الْعِبَادِ، وَالْبِلَادِ، وَقَلِيلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَمَخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ الصِّدْقِ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ التَّيَقُّظَ مِنْ غَفْلَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَمَا يَذْكُرُهُ مِنْهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ تَرْكَ الرِّيَاءِ، وَالتَّزَيُّنَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ دَوَاعِي الْإِخْلَاصِ، وَهُوَ مَحْضُ الصِّدْقِ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ تَرْكَ الْمِرَاءِ، وَتَرْكَ الْخُصُومَاتِ، وَالْجِدَالِ، وَذَلِكَ يَنْفِي الرِّيَاسَةَ مِنْ الْقَلْبِ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ قِلَّةَ الْخُلْفِ فِي الْوَعْدِ، وَالتَّوَقِّي مِنْ الْكَذِبِ، وَالْأَيْمَانِ، وَالْحِنْثِ فِيهَا، وَمَخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ الصِّدْقِ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ قِلَّةَ الْغَضَبِ، وَالْقُوَّةَ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ، وَتَرْكَ الْحِقْدِ وَالشَّحْنَاءِ، وَمُعَامَلَةَ الْخَلْقِ بِسَلَامَةِ الصُّدُورِ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ رِقَّةَ الْقَلْبِ، وَالرَّحْمَةَ، وَهُمَا يَنْفِيَانِ الْغِلْظَةَ، وَالْقَسَاوَةَ، وَهُمَا مِنْ دَوَاعِي الْخَوْفِ، وَبِالْخَوْفِ الثَّابِتِ فِي الْقَلْبِ يَخْشَعُ الْعَبْدُ، وَيَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَهِيَ مِنْ غَايَاتِ

الْعِبَادَةِ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ تَذَكُّرَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ، وَطَلَبَ الشُّكْرِ، وَالزِّيَادَةِ مِنْ الطَّاعَةِ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ وُجُودَ حَلَاوَةِ الْعَمَلِ، وَالنَّشَاطَ فِي الدُّعَاءِ، وَيَجْرِي ذَلِكَ مِنْ الْقَلْبِ مَعَ تَضَرُّعٍ، وَاسْتِكَانَةٍ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ الْقَنَاعَةَ، وَالتَّوَكُّلَ، وَالرِّضَا بِالْكَفَافِ لِلْعَفَافِ، وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الْمَخْلُوقِينَ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ عُزُوبَ النَّفْسِ عَنْ الدُّنْيَا، وَشَهَوَاتِهَا، وَفِتْنَتِهَا، وَالشَّوْقَ إلَى لِقَاءِ اللَّهِ، وَمَخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ، وَخَوْفِ التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ حَيَاةَ الْقَلْبِ، وَضِيَاءَ نُورِهِ، وَنَفَاذَ بَصَرِهِ فِي عُيُوبِ الدُّنْيَا، وَمَعْرِفَتِهِ بِالنَّقْصِ، وَالزِّيَادَةِ فِي دِينِهِ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ الْإِنْصَافَ لِلنَّاسِ مِنْ نَفْسِهِ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ خَوْفَ وُرُودِ الْفِتَنِ الَّتِي فِيهَا ذَهَابُ الدِّينِ، وَالِاشْتِيَاقَ إلَى الْمَوْتِ، وَالْأُنْسَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ لِمَا قَدْ وَجَدَ مِنْ حَلَاوَةِ الْمُنَاجَاةِ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ نُورًا، وَشِفَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا الْتَبَسَ عَلَيْك هَذَا الطَّرِيقُ، وَاشْتَبَهَتْ عَلَيْك الْأُمُورُ فَقِفْ نَفْسَك عَلَى الْإِرَادَةِ مِنْ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالتَّشْوِيقِ إلَى مَا نَدَبَ اللَّهُ إلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّك تَرْجِعُ بَصِيرًا مِنْ حِيرَتِك، وَعَالِمًا مِنْ جَهَالَتِك - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ - وَانْظُرْ إلَى كُلِّ مَوْطِنٍ يَضْطَرُّك إلَى الصَّبْرِ فَاهْرَبْ مِنْهُ فَإِنَّك تَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَك قَدَمٌ عَلَى مَحَجَّةِ دِينِ اللَّهِ، وَفِيك خَوْفَانِ: خَوْفُ الْفَقْرِ، وَخَوْفُ الْغِنَى، وَالثَّرْوَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِفْتَاحُ فَقْرِ الْأَبَدِ، وَخَوْفُك مِنْ السُّقُوطِ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يُسْقِطُك مِنْ عَيْنِ اللَّهِ، وَيُنْسِيك حَظَّك مِنْهَا فَادْرَأْ ذَلِكَ عَنْك، وَاطْلُبْ التَّخَلُّصَ، وَهَيِّئْ لِذَلِكَ خَوْفَيْنِ: خَوْفَ أَنَّ مِثْلَك لَا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَبْلُغَ مَا يُؤَمِّلُ مِنْ الْآخِرَةِ فَإِنْ تَفَضَّلَ عَلَيْك رَبُّك بِبُلُوغِ أَمَلِك فَأَتْبِعْهُ الشُّكْرَ، وَلْتُحْضِرْهُ خَوْفًا شَدِيدًا؛ لِأَنَّك لَا تَقُومُ بِالشُّكْرِ لِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْك كَمَا يَنْبَغِي فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ خِفْت عَلَيْك أَنَّ تُسْلَبَ النِّعْمَةَ فَتَرْجِعَ إلَى أَسْوَأِ حَالِكَ فَإِذَا أَلْزَمَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ هَذَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَتَمَسَّك بِهِمَا رَجَوْت أَنْ يُؤَمِّنَهُ اللَّهُ - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ -. وَقَدْ رُوِيَ

عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: لَسْت آمَنُ عَلَى نَفْسِي الْفِتْنَةَ، وَأَنْ يُحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ فَهَؤُلَاءِ يَخَافُونَ هَذَا، وَهُمْ الصَّفْوَةُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَافُوا مَعَ سَابِقَتِهِمْ، وَطَاعَتِهِمْ، وَجِهَادِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ أَقَلُّ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ فَيَحُولُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ بِك يَا مِسْكِينُ، وَلَا سَابِقَةَ لَك إلَّا فِي الشَّرِّ، وَلَا حَلَاوَةَ عَرَفْتهَا قَدِيمًا مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا حَلَاوَةَ الْمَعَاصِي؟ وَأَنْتَ بَارِكٌ فِي دَوْلَةِ الْفِتْنَةِ، وَزَمَانِ الشَّرِّ تُحِبُّ الْبَقَاءَ طَمَعًا فِي الزِّيَادَةِ، وَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ لَا تَنْقِمُ عَلَيْهَا حُبَّهَا فَخَدَعَتْك، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ أَنَّك مَخْدُوعٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُطِيعَ إذَا كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الطَّاعَةِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَلَا عَارِفٍ بِمُكَايَدَةِ عَدُوِّهِ هَانَتْ عَلَى إبْلِيسَ صَرْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ نَوْعٌ مِنْ الْعِبَادَةِ إلَّا وَلَهَا ضِدٌّ مِنْ الْفِتْنَةِ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخَيْرَ، وَضِدَّهُ مِنْ الشَّرِّ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْعِبَادَةِ خَاصَّةً، ثُمَّ اجْتَهَدَ خَلَّاهُ إبْلِيسُ وَإِيَّاهَا؛ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِعِبَادَتِهِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي نَفْسِ عِبَادَتِهِ بِشَيْءٍ، وَيَقْصِدُ لَهُ جِهَةَ آفَاتِهَا الَّتِي تُبْطِلُ عِبَادَتَهُ مِنْ شَهْوَةِ النُّفُوسِ الَّتِي تُسَارِعُ فِي قَبُولِ ذَلِكَ فَيَتَزَيَّنُ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ عِنْدِهَا، وَأَنَّهُ سَيُجْزَى، وَيُثَابُ فَيُصَدِّقُهَا بِمَا تُلْقِي إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَتَزْهُو النَّفْسُ لِرِضَى صَاحِبِهَا عَنْهَا، وَيُحَقِّقُ إبْلِيسُ ظَنَّهُ بِهِ، وَبِالْخُدَعِ لَهُ فَإِذَنْ قَدْ صُرِعَ وَخُذِلَ، وَلَجَأَ إلَى نَفْسِهِ بِمَيْلِهِ عَنْ طَرِيقِ الشُّكْرِ، وَيَظْهَرُ لَهُ مِنْ فِتْنَةِ عَدُوِّهِ مَا يَسْتَصْغِرُ بِهِ الْمَخْلُوقِينَ، وَتَكُونُ نَفْسُهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا عَدْلَ لَهَا زَكَاءً وَطِيبًا، وَهِيَ أَخْبَثُ الْأَنْفُسِ وَأَنْتَنُهَا وَأَسْقَطُهَا مِنْ عَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكُلَّمَا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ عَمَلٍ احْتَمَلَ فِيهِ الْأَذَى مَعَ مُسَاعَدَتِهِ إيَّاهَا، وَشِدَّةِ رِضَاهُ عَنْهَا مِنْ تَحَمُّلِ لُبْسِ الْخَشِنِ، وَأَكْلِ الطَّعَامِ الْجَشِيمِ، وَطُولِ السَّهَرِ، وَالصَّبْرِ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَادَةِ بِمَا يُفْتَتَنُ بِهِ، وَيَسْتَمِيلُ بِهِ إبْلِيسُ قُلُوبَ الْجُهَّالِ، وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إنِّي لَأَعُدُّ كَلَامِي فِيمَا لَا بُدَّ لِي مِنْهُ مُصِيبَةً وَاقِعَةً أَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَى السَّلَامَةِ مِنْهَا، وَإِنِّي لَأُعِدُّ صَمْتِي عَمَّا لَا يَعْنِينِي

فصل في معرفة أصل الأشياء التي تتفرع منها فنون الخير

غَنِيمَةً وَإِحْدَاثَ نِعْمَةٍ أَلْتَمِسُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا إذْ عَلِمْت أَنَّ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ كَلِمَةٍ رَقِيبًا عَتِيدًا، وَأُنْزِلُ مَا اُضْطُرِرْت إلَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ مُصِيبَةً نَازِلَةً، وَمَا كُفِيتُ مِنْ الْكَلَامِ غَنِيمَةً بَارِدَةً. وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ مِنْ شَرِّ كَسْبِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا تَنْقِيصُ الْعَبْدِ غَيْرَهُ، وَالْوَقِيعَةَ فِيهِ، وَهِيَ الْغِيبَةُ، وَيُقَالُ: إنَّهَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ، وَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَتُحْبِطُ الْأَعْمَالَ، وَيَسْتَوْجِبُ بِهَا صَاحِبُهَا الْمَقْتَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ مَخْرَجُهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْبَغْيِ، وَالنَّمَّامُ قَاتِلٌ، وَالْمُغْتَابُ آكِلُ مَيْتَةٍ، وَالْمُبَاهِي مُتَكَبِّرٌ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ بَعْضُهَا مِفْتَاحٌ لِبَعْضٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُجَانِبٌ لِأَحْوَالِ الْمُتَّقِينَ. [فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ أَصْلِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَفَرَّعُ مِنْهَا فُنُونُ الْخَيْرِ] وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَأَلَ سَائِلٌ حَكِيمًا فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِأَصْلِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْهَا تَتَفَرَّعُ فُنُونُ الْخَيْرِ، وَتَجْرِي بِهَا الْمَنَافِعُ، وَتَصِحُّ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَقَالَ لَهُ الْحَكِيمُ: اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَفَرَّعُ مِنْهَا فُنُونُ الْخَيْرِ، وَتَجْرِي بِهَا الْمَنَافِعُ، وَتَصِحُّ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ بَعْدَ الْيَقِينِ بِمَعْرِفَةِ النِّعَمِ، وَالْقِيَامِ بِأَدَاءِ الشُّكْرِ، وَالْعَمَلِ بِهِ، وَأَنْ يَصِحَّ عِنْدَك أَنَّ جَمِيعَ الْخَيْرِ مَوَاهِبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا عُقُوبَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِنْ طَرِيقِ الْخِذْلَانِ، وَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ السُّخْطِ فَإِذَا اعْتَرَفْت بِذَلِكَ كَثُرَتْ حَسَنَاتُك، وَقَلَّتْ سَيِّئَاتُك؛ لِأَنَّك إذَا عَلِمْت أَنَّ الْإِحْسَانَ نِعَمٌ وَمَوَاهِبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ازْدَدْت فِي الشُّكْرِ، وَاسْتَقْلَلْت كَثِيرَ شُكْرِك عِنْدَ صَغِيرِ نِعْمَةٍ عَلَيْك؛ لِأَنَّ الْجَبَّارَ الْعَظِيمَ مَنَّ بِهَا عَلَيْك، وَسَاقَهَا إلَيْك فَقَلَّ عِنْدَك كَثِيرُ الشُّكْرِ، وَكَبُرَ عِنْدَك صَغِيرُ النِّعَمِ فَجَرَيْت حِينَئِذٍ فِي مَيْدَانِ الزِّيَادَةِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ، وَعَلِمْت مَعْرِفَةَ الرِّضَا، وَطَمِعْت فِي الْعَفْوِ، وَإِذَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسَاءَةَ الَّتِي اكْتَسَبْتهَا إنَّمَا هِيَ خِذْلَانٌ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّهَا مِنْ طَرِيقِ السُّخْطِ فَزِعْت إلَى التَّضَرُّعِ فَنَزَلْتَ بِسَاحَتِهِ، وَإِلَى الِاسْتِكَانَةِ

فصل في كيفية تهوين سلوك الطريق والوصول إليه

فَصَحِبْتهَا، وَإِلَى التَّوَاضُعِ فَاِتَّخَذْته خِدْنًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَجَأْت إلَى التَّوْبَةِ فَاسْتَجَرْت بِهَا، وَلَبِسْت جِلْبَابَ الْحَيَاءِ مِمَّا سَلَفَ مِنْك، وَشَهِدَ اللَّهُ عَلَيْك بِهِ، وَشَاهَدَهُ مِنْك مِنْ الْإِسَاءَةِ مَعَ مَا تَعْرِفُ مِنْ كَثْرَةِ إحْسَانِهِ فَلَمْ تَتَعَرَّضْ بَعْدَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ مِمَّا يَكْرَهُ، وَعَمَدْت إلَى الْمَعَاصِي فَعَادَيْتهَا مِنْك، وَمِنْ غَيْرِك فَتَكْرَهُ أَنْ يَعْصِيَهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ بِصَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ فَرَاجَعْت الْإِحْسَانَ مُجْتَهِدًا، وَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ عَارِفٌ بِالنِّعْمَةِ عَلَيْك فِي التَّنْبِيهِ وَالرُّجُوعِ، وَإِنَّ ذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ عَلَيْك فَالْتَمَسْت لَطِيفَ الشُّكْرِ بَعْدَ إقْلَاعِك عَنْ الْإِسَاءَةِ بِشِدَّةِ الْمُضَادَّةِ لَهَا فَعَظُمَ شُكْرُك عِنْدَ التَّحْوِيلِ إلَى الْإِحْسَانِ بَعْدَ الْإِسَاءَةِ فَإِذْ ذَاكَ قَدْ صِرْت فِي جَمِيعِ أَحْوَالِك شَاكِرًا ذَاكِرًا، وَلَمْ يُعْجِزْك مَعْرِفَةُ الْإِحْسَانِ فَشَكَرْت حِينَئِذٍ الشَّاكِرَ الْمَشْكُورَ الَّذِي وَعَدَ عَلَى الشُّكْرِ الزِّيَادَةَ، وَوَعْدُهُ لَا خُلْفَ فِيهِ، وَعَرَفْت الْإِسَاءَةَ مِنْ أَيْنَ كَانَ مَخْرَجُهَا فَرَاجَعْت الْإِحْسَانَ بِالْعِتَابِ مِنْك لِنَفْسِك، وَلِمَنْ زَيَّنَ الْإِسَاءَةَ لَك، وَدَعَاك إلَيْهَا فَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي تَتَفَرَّعُ مِنْهُ فُنُونُ الْخَيْرِ، وَبِهِ تُغْلَقُ أَبْوَابُ الشَّرِّ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. [فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ تَهْوِينِ سُلُوكِ الطَّرِيقِ وَالْوُصُولِ إلَيْهِ] ِ - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى - وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - سُئِلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُ: أَوْضِحْ لَنَا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي يَنَالُ الْعِبَادُ بِهَا الْقُرْبَ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيَقْوُونَ بِهَا عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَيَبْلُغُونَ بِهَا رِضْوَانَهُ، وَالْأَمْرَ الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ إلَيْهِ، وَيُقَصِّرُ بِهِمْ عَنْهُ إيضَاحًا شَافِيًا حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بَيِّنًا. فَقَالَ: سَأُوضِحُ لَك ذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَافْهَمْ قَوْلِي بِفَهْمٍ لَا يُخَالِطُهُ سَهْوٌ، وَتَذَكَّرْ فِيهِ بِتَذَكُّرٍ لَا يُخَالِطُهُ غَفْلَةٌ، وَاصْبِرْ عَلَيْهِ صَبْرًا لَا يُخَالِطُهُ جَزَعٌ فَإِنَّك إنْ تَفْعَلْ ذَلِكَ يُنْهَج لَك مِنْهَاجُ الطَّرِيقِ، وَتَسْلَمْ مِنْ تَقْصِيرِ طَرِيقِ الْهَلَكَةِ، وَالتَّوْفِيقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى.

اعْلَمْ أَنَّ مُبْتَدَأَ الْأُمُورِ، وَاَلَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ إلَّا بِهِ: الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ زِينَةً لِخَلْقِهِ، وَنُورًا لَهُمْ فَبِالْعَقْلِ يَعْرِفُ الْعِبَادُ خَالِقَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ، وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ، وَهُمْ الْمُدَبَّرُونَ، وَهُوَ الْبَاقِي، وَهُمْ الْفَانُونَ فَاسْتَدَلُّوا بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا رَأَوْا مِنْ خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَسَمَائِهِ، وَشَمْسِهِ، وَقَمَرِهِ، وَلَيْلِهِ، وَنَهَارِهِ، وَعَلِمُوا أَنَّ لَهُمْ وَلِهَذَا الْخَلْقِ خَالِقًا، وَأَنَّ لِذَلِكَ كُلِّهِ مُدَبِّرًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ، وَلَا يَزَالُ، وَعَرَفُوا بِهِ الْحَسَنَ مِنْ الْقَبِيحِ، وَعَلِمُوا أَنَّ الظُّلْمَةَ فِي الْجَهْلِ، وَالنُّورَ فِي الْعِلْمِ هَذَا مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْعَقْلُ. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَكْتَفِي الْعِبَادُ بِالْعَقْلِ دُونَ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: إنَّ الْعَاقِلَ دَلَّهُ عَقْلُهُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ قِوَامَهُ، وَزِينَتَهُ عَلَى أَنَّ لَهُ رَبًّا، وَعَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ عَبَثًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ لَعِبًا، وَعَلِمَ أَنَّ لِخَالِقِهِ مَحَبَّةً، وَكَرَاهِيَةً، وَأَنَّ لَهُ طَاعَةً، وَمَعْصِيَةً فَلَمْ يَجِدْ عَقْلَهُ يَدُلُّهُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْعِلْمِ وَطَلَبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ إنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ، وَيَعْلَمْهُ فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَهُوَ الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِهِ، فَقِيلَ لَهُ: صِفْ لَنَا مَا هَذَا الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ إلَّا طَلَبُهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْصِيرُ بِنَفْسِهِ عَنْهُ؟ فَقَالَ: طَلَبُ الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، وَأَنْبِيَاؤُهُ عَنْهُ: مِنْ أَمْرِهِ، وَنَهْيِهِ، وَوَعْدِهِ، وَوَعِيدِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَجَنَّتِهِ، وَنَارِهِ، وَبَعْثِهِ، وَحِسَابِهِ، وَحَلَالِهِ، وَحَرَامِهِ، وَطَاعَتِهِ، وَمَعْصِيَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَكَرَاهَتِهِ. فَقِيلَ لَهُ: هَلْ يَكْتَفِي الْعَالِمُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا يَنْتَفِعُ الْعَالِمُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَأَنْ يُقِرَّ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ لَهُ نَفْعًا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ لَهُ، وَلَا ضُرًّا لَمْ يَكْتُبْهُ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ غَيْرُ ذَلِكَ أَوْ يُكْتَفَى بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَرُكُوبِهَا، فَمَنْ آمَنَ، وَلَمْ يَعْمَلْ كَانَ مُتَهَاوِنًا، وَتَصْدِيقُ الْإِيمَانِ الْعَمَلُ بِهِ. فَقِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ الْعِلْمُ، وَكَيْفَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْمَلَ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ خَالَفَ هَوَاك، وَأَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَإِنْ أَسْخَطَك، وَأَنْ تَجْتَنِبَ

سَخَطَ اللَّهِ، وَإِنْ سَرَّك، وَأَنْ تَدَعَ كَرَاهِيَتَهُ، وَإِنْ أَعْجَبَتْك، وَأَنْ تُؤْثِرَ مَا هُوَ لَهُ، وَإِنْ سَاءَك، وَأَنْ تَرْغَبَ فِيمَا رَغَّبَك، وَتَزْهَدَ فِيمَا زَهَّدَك، وَأَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ إمَامَك وَدَلِيلَك. فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: قَدْ دَلَلْتنِي عَلَى الْعَمَلِ فَعَرَفْت، وَعَرَفْت فَآمَنْت فَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ مُؤْنَةٍ، وَلَا عَظِيمُ مَشَقَّةٍ بَلْ خِفَّةٌ، وَرَاحَةٌ مَعَ مَا اسْتَزَدْت بِهِ هِدَايَةً، وَبَصِيرَةً، وَمَعْرِفَةً، فَلَمَّا صِرْت إلَى الْعَمَلِ بِهِ لِزَمَنِي فِي ذَلِكَ مُؤْنَةٌ شَدِيدَةٌ، وَثُقْلٌ كَبِيرٌ حَتَّى حَالَ بَيْنِي، وَبَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ لَذِيذِ عِيشَتِي، وَنَعِيمِ دُنْيَايَ، وَحَمَلَنِي عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَصَرَفَنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السُّرُورِ فَصِفْ لِي أَمْرًا أَقْوَى بِهِ عَلَى الْعَمَلِ فِيمَا آمَنْت بِهِ فَقَدْ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ مُؤْنَتُهُ، وَثَقُلَ عَلَيَّ احْتِمَالُهُ. فَقَالَ: الْأُمُورُ الَّتِي تَقْوَى بِهَا عَلَى الْعَمَلِ وَالْأَدَبِ: الصَّبْرُ الَّذِي هُوَ تَمَامُهُ وَقِوَامُهُ فَإِنَّك إنْ صَبَرْت انْتَفَعْت بِعِلْمِك، وَبَلَغْت مِنْهُ رِضْوَانَ اللَّهِ، وَقَوِيت فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَيْسَ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ الْخَيْرِ إلَّا، وَلِلصَّبْرِ فِيهِ عَمَلٌ، وَبِهِ تَمَامُهُ فَبِالصَّبْرِ قَوِيَ الْعِبَادُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَبِالصَّبْرِ قَوُوا عَلَى اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، وَبِالصَّبْرِ بَلَغُوا الْغَايَةَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابِهِ، فَإِذَا صَبَرْت عَلَى الْعَمَلِ انْتَفَعْت بِالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَإِنَّك إنْ لَمْ تَصْبِرْ لَمْ تَعْمَلْ، وَإِنْ لَمْ تَعْمَلْ لَمْ تَنْتَفِعْ بِالْإِيمَانِ بِمَا عَلِمْت، وَمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْعَمَلُ، وَمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْعَمَلِ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ الْعَقْلُ فَرَأْسُ أَمْرِ الْعِبَادِ الْعَقْلُ، وَدَلِيلُهُمْ الْعِلْمُ، وَنُورُهُمْ الْإِيمَانُ، وَسَائِقُهُمْ الْعَمَلُ، وَمُقَرِّبُهُمْ الصَّبْرُ فَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الصَّبْرِ ضَعُفَ، وَمَنْ ضَعُفَ لَمْ يَعْمَلْ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ لَمْ يَتِمَّ لَهُ أَمْرُهُ وَنُورُهُ، وَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ، وَمَنْ ذَهَبَ عَنْهُ النُّورُ عَمِيَ، وَحَادَ عَنْ الطَّرِيقِ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ فَلْيَتَّبِعْ الدَّلِيلَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَمَنْ اتَّبَعَ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ النَّجَاةُ مِنْ الْهَوْلِ الْعَظِيمِ، وَعَمِلَ لَهُ، وَصَبَرَ عَلَيْهِ صَارَ إلَى غَايَةِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ بَصَّرْتَنِي مِنْ فَضْلِ الصَّبْرِ قُوَّتَهُ، وَعَلَّمْتَنِي مَا رَغَّبَنِي فِيهِ، وَقَوَّانِي عَلَى الْعَمَلِ بِهِ مَعَ ثِقَلِهِ عَلَيَّ فَصِفْ لِي أَمْرًا أَزْدَادُ بِالصَّبْرِ تَبَصُّرًا، وَفِيهِ رَغْبَةً، وَعَلَيْهِ حِرْصًا فَقَالَ: صَبْرُك عَلَى الطَّاعَةِ، وَطَلَبُك لَهَا، وَهَرَبُك مِنْ الْمَعْصِيَةِ، وَبَلِيَّتِهَا هُوَ الَّذِي يُرَغِّبُك فِي الطَّاعَةِ

وَيُبَيِّنُ لَك فَضْلَهَا قَالَ: قَدْ شَرَحْت لِي أَمْرَ الصَّبْرِ، وَفَضْلَهُ فَزِدْنِي بِهِ تَبَصُّرًا فَقَالَ لَهُ: هَذَا الدَّلِيلُ، وَالْإِمَامُ كِتَابُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ لَك فَضْلَ الصَّبْرِ، وَيُرَغِّبُك فِي لُزُومِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى وَصَفَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَذَكَرَ ثَوَابَهُمْ فَلَمْ يَذْكُرْ ثَوَابًا يَعْدِلُ ثَوَابَ الصَّبْرِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُوَفَّوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابِ فَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى فَضْلِ الصَّبْرِ مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ ثَوَابِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ لَهُ: صَاحِبُهُ قَدْ دَلَّنِي الْعِلْمُ وَكِتَابُ رَبِّي عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ فَضْلِ الصَّبْرِ وَثَوَابِهِ؛ فَزَادَنِي بِفَضْلِهِ تَبَصُّرًا، وَازْدَدْت عَلَيْهِ حِرْصًا، وَفِيهِ رَغْبَةً، وَبِهِ تَمَسُّكًا، وَعَلَيْهِ اعْتِمَادًا مَعَ شِدَّةٍ مِنْهُ عَلَيَّ، وَثِقَلٍ، وَصَبْرٍ عَلَى خِلَافِ مَا أَشْتَهِي، وَحَمْلِ نَفْسِي عَلَى مَا أَكْرَهُ لِطَلَبِي فِيهِ الْأَجْرَ، وَالْفَضْلَ، وَابْتِغَاءَ الْعَمَلِ وَالْأَدَبِ. فَصِفْ لِي أَمْرًا يَخِفُّ بِهِ عَلَيَّ مُؤْنَةُ الصَّبْرِ، وَيَسْهُلُ عَلَيَّ لُزُومُهُ، وَيَخِفُّ عَلَيَّ احْتِمَالُهُ، وَتَذِلُّ صُعُوبَتُهُ فَقَالَ لَهُ: أَرَاك لِلْخَيْرِ مُرِيدًا، وَلِلْفَضْلِ طَالِبًا، وَعَلَيْهِ حَرِيصًا، وَتُحِبُّ أَنْ تَكُونَ قَدْ قَوِيت عَلَى مَا دَلَّكَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِنَفَاذٍ مِنْ الصَّبْرِ، وَقُوَّةٍ مِنْ الْعَمَلِ، وَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ السَّعَادَةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمًا، وَفِيهِ تَفَهُّمًا ازْدَادَ لِلْخَيْرِ طَلَبًا، وَعَلَيْهِ حِرْصًا فَخَفَّ عَلَيْهِ الثَّقِيلُ، وَقَرُبَ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ، وَلَهَا فِي الدُّنْيَا عَمَّا يُرِيدُ. وَإِنَّمَا الثِّقَلُ وَالْعُسْرُ تِمْثَالُ الدُّنْيَا فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَهِيَ مَرْصَدُ إبْلِيسَ، وَسِلَاحُهُ فَإِذَا قَطَعَ عَنْهُ ذَلِكَ اسْتَنَارَ الْقَلْبُ، وَخَرَجَتْ الظُّلْمَةُ مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ بِهِ احْتِمَالُ قُوَّةٍ، وَلَا لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ، وَوَصَلَ مِنْ الْأَمْرِ إلَى مَا يُرِيدُ فَقَالَ لَهُ: زِدْنِي مَا يُسَهِّلُ بِهِ عَلَيَّ ثِقَلَ احْتِمَالِ الصَّبْرِ، وَيُخَفِّفُهُ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ: الْأَمْرُ الَّذِي يُسَهِّلُ عَلَيْك ثِقَلَ احْتِمَالِ الصَّبْرِ، وَيُخَفِّفُهُ عَلَيْك الرِّضَا عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى بِكُلِّ مَا صَنَعَ بِك، وَاخْتَارَهُ لَك، وَسَاقَهُ إلَيْك فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: فَأَوْضِحْ لِي كَيْفَ يَهُونُ عَلَيَّ مُؤْنَةُ الصَّبْرِ بِرِضَائِي عَنْ اللَّهِ، وَيُخَفَّفُ عَلَيَّ احْتِمَالُهُ؟ فَقَالَ: أَلَسْت تَعْلَمُ أَنَّك إنَّمَا انْتَسَبْت إلَى الرِّضَا، وَسَمَّيْته صَبْرًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي نَزَلَ بِك مَكْرُوهٌ عَلَيْك وَإِنَّ هَوَاك، وَنَفْسَك يُنَازِعَانِك إلَى غَيْرِهِ فَاحْتَجْتَ إلَى الصَّبْرِ فَتَدَبَّرْت، وَاعْتَبَرْتَ فَصِرْت مِنْ

ذَلِكَ إلَى مَوْضِعِ رِضَاهُ. ثُمَّ يَتَجَاوَزُ بِك الْأَمْرُ حَتَّى تَصِيرَ إلَى مَوْضِعِ السُّرُورِ حَتَّى تَرَى لَوْ صُرِفَ ذَلِكَ الْأَمْرُ عَنْك لَصِرْت مِنْهُ إلَى تَقْوِيَةِ نَفْسِك، وَعَلِمْت أَنَّ مَا صُرِفَ عَنْك عُقُوبَةٌ لِبَعْضِ مَا أَحْدَثْت مِنْ ذُنُوبِك أَوْ قَصَّرْت فِيهِ عَنْ شُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْك فَصِرْت مِنْهُ إلَى الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَمَنَازِلِ أَهْلِ الرِّضَا، وَإِنَّمَا يُوصَلُ إلَى ذَلِكَ بِالْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ، وَبِمَعْرِفَتِهِ يَنْظُرُ إلَيْك فَتَعْلَمُ أَنَّك لَا نَظَرَ لَك مِنْ نَفْسِك فَتَرْضَى بِمَا رَضِيَ بِهِ، وَتَرْغَبُ فِيمَا رَغِبَهُ، وَتَزْهَدُ فِيمَا زَهِدَهُ، وَالزُّهْدُ مِنْ الرِّضَا قَالَ: قَدْ عَلِمْت فَضْلَ الرِّضَا، وَوَضَحَ لِي أَمْرُهُ، فَصِفْ لِي كَيْفَ يُهَوَّنُ عَلَيَّ أَمْرَ الصَّبْرِ فِي الزُّهْدِ؟ وَكَيْفَ مَأْخَذُهُ فَقَدْ أَرَانِي مَعَ مَا أَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ الزُّهْدِ مُقِيمًا عَلَى الصَّبْرِ، وَأَزْدَادُ أَيْضًا مَعَ زُهْدِي فِي الدُّنْيَا أُمُورًا أَحْتَاجُ فِيهَا إلَى الصَّبْرِ مُخَالَفَةً لِهَوَائِي، وَرَفْضًا لِشَهَوَاتِي، وَمَا تُنَازِعنِي نَفْسِي مِنْ لَذَّاتِي فَقَدْ أَرَانِي ازْدَدْت ثِقَلًا، وَضَجَرًا قَالَ: أَرَاك لَا تَقْبَلُ مِنْ الْأُمُورِ إلَّا أَصْلَحَهَا، وَلَا تَرْضَى لِنَفْسِك إلَّا بِوَاضِحِهَا، وَلَا تَخْتَارُ مِنْهَا إلَّا أَرْشَدَهَا، وَذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي أَرْجُو لَك بِهَا الْقُوَّةَ، وَالنَّجَاحَ لِحَاجَتِك، وَالظَّفَرَ بِطَلَبَتِك، وَبُلُوغِك أَقْصَى الْغَايَةِ مِنْ إرَادَتِك فَافْهَمْ قَوْلِي، وَتَدَبَّرْ نُصْحِي فَإِنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ وَاضِحَةٌ، وَالْأَمْرَ فِيهِ بَيِّنٌ أَلَسْت تَعْلَمُ أَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ بَاقِيَةً فِي قَلْبِك، وَأَنَّ حُبَّهَا غَالِبٌ عَلَيْك، وَأَنَّ سُرُورَهَا فَرَحٌ لَك وَأَنَّ مَكْرُوهَهَا شَدِيدٌ عَلَيْك فَحَمَلْت نَفْسَك عَلَى قَطْعِ ذَلِكَ مَعَ حُبِّك لَهَا، وَإِيثَارِكَ لَهَا، وَنُزُلِهَا مِنْك مَعَ طَلَبِك الْفَضْلَ مِنْ احْتِمَالِ الصَّبْرِ، وَحَمَلْت نَفْسَك عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك، وَصَبَرْت عَلَيْهَا لِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَيْك؛ لِأَنَّ مَكْرُوهَهَا عِنْدَك مَكْرُوهٌ، وَلِأَنَّ سُرُورَهَا عِنْدَك سُرُورٌ فَثَقُلَ عَلَيْك الصَّوْمُ لِقَطْعِك الشَّهْوَةَ عَنْ نَفْسِك مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَثَقُلَتْ عَلَيْك الصَّلَاةُ. وَالِاشْتِغَالُ بِهَا لِمَا تُسِرُّهُ إلَيْك نَفْسُك مِنْ اللَّهْوِ، وَالْحَدِيثِ فِي الْبَاطِلِ، وَثَقُلَتْ عَلَيْك الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ لِمَا تُحِبُّ أَنْ تَصْرِفَهُ فِيهِ مِنْ لَذَّاتِك، وَثَقُلَ عَلَيْك التَّوَاضُعُ لِمَا تَرَى مِنْ تَصْغِيرِ شَأْنِك، وَدَنَاءَةِ مَنْزِلَتِك عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَثَقُلَ عَلَيْك

الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ لِئَلَّا يُعَادِيَك النَّاسُ أَوْ يَنْقَطِعَ رَجَاؤُك مِنْهُمْ أَوْ يُسْمِعُونَك مَا تَكْرَهُ فَيَدْخُلُ عَلَيْك التَّنْغِيصُ فِي سُرُورِك، وَثَقُلَ عَلَيْك الْقُنُوعُ وَالرِّضَا لِعَظِيمِ مَوْقِعِ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِك، وَحُبِّك الْإِكْثَارَ مِنْهَا، وَحِرْصُك عَلَيْهَا، وَكَرَاهِيَتُك لِلْمَوْتِ وَنَعِيمِ مَا بَعْدَهُ مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ يَطُولُ وَصْفُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا صَارَ شِدَّتُهُ عَلَيْك لِحُبِّ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا ثَقُلَ عَلَيْك الصَّبْرُ وَمَلِلْته، وَضَيَّقَ الشَّيْطَانُ عَلَيْك الْمَذَاهِبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لِأَنَّ سِلَاحَهُ الَّذِي بِهِ يَقْوَى، وَكَيْدَهُ الَّذِي يَصِلُ بِهِ إلَى أَهْلِ الدُّنْيَا الرَّغْبَةُ فِيهَا وَطَلَبُهَا، فَإِذَا أَنْتَ زَهِدْت فِي الدُّنْيَا، وَرَفَضْتهَا، وَرَغِبْت فِي الْآخِرَةِ، وَطَلَبْتهَا سَهُلَ عَلَيْك الْأَمْرُ فَآثَرْت الْآخِرَةَ، وَطَلَبْتهَا، وَرَغِبْت فِيهَا، وَأَدْبَرَتْ عَنْك الدُّنْيَا وَثِقَلُهَا، وَتَوَلَّتْ عَنْك هَارِبَةً بِبَلَائِهَا، وَأَتَتْك بِمَنَافِعِهَا، وَصَرَفَتْ عَنْك شُرُورَهَا بِرَغْمٍ مِنْهَا، وَانْقَطَعَ رَجَاءُ الشَّيْطَانِ، وَصَغُرَ كَيْدُهُ وَوَلَّى، وَقَلَّ سِلَاحُهُ فَلَا قُوَّةَ لَهُ بِك، وَنَجَوْت بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَتَوْفِيقِهِ مِنْ الضِّيقِ، وَالتَّعْسِيرِ، وَالْهَلَكَةِ، وَصِرْت إلَى النِّعْمَةِ، وَالسُّرُورِ، وَالرَّاحَةِ، وَخَرَجَ حُبُّ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِك فَلَزِمْت الصِّيَامَ، وَخَفَّ عَلَيْك؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ نَفْسُك تَنْشَرِحُ إلَى الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الشَّهَوَاتِ، وَلَزِمْت الصَّلَاةَ، وَاشْتَغَلْت بِهَا؛ لِأَنَّ نَفْسَك لَمْ تَكُنْ تُنَازِعُك إلَى اللَّهْوِ أَوْ الْخَلْوَةِ إلَى حَدِيثٍ فِي بَاطِلٍ، وَخَفَّتْ عَلَيْك الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّك أَعْدَدْت مَا قَدَّمْته أَمَامَك، وَلَا تُرِيدُ مِنْهُ شَيْئًا يَبْقَى خَلْفَك. وَخَفَّ عَلَيْك التَّوَاضُعُ لِأَنَّ الْإِيَاسَ قَدْ خَرَجَ مِنْ قَلْبِك، وَهَانَ عَلَيْك الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَوَوْا عِنْدَك فَلَمْ تَرْجُ أَحَدًا غَيْرَ رَبِّك، وَلَمْ تَخَفْ شَيْئًا غَيْرَهُ، وَخَفَّ عَلَيْك الْقُنُوعُ؛ لِأَنَّك رَضِيت مِنْ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَلَمْ تُنَازِعْك نَفْسُكَ إلَى غَيْرِ الْبَلَاغِ وَالْكِفَايَةِ، وَخَفَّ عَلَيْك الْجِهَادُ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَخْرَجْتهَا مِنْ قَلْبِك، وَكَرِهْت الْبَقَاءَ فِيهَا، وَأَحْبَبْت الْمَوْتَ لِمَا تَرْجُو مِنْ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ وَالْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ الَّتِي أَمَامَك، فَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا رَاحَةٌ لِلْقَلْبِ، وَالْبَدَنِ، وَهُوَ جِمَاعُ الْخَيْرِ، وَتَمَامُهُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ إلَّا وَلَهُ ضِدٌّ مِنْ

غَيْرِهِ فَمَا قَصُرَ بِك عَنْهُ فَارْفُضْهُ، وَازْهَدْ فِيهِ يَسْلَمُ لَك عَمَلُك، وَيَخِفُّ عَلَيْك. ثِقَلُهُ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: أَوْضَحْت فَبَيَّنْت، وَأَرْشَدْت فَهَدَيْت، وَكَشَفْت فَأَرَيْت. فَصِفْ لِي كَيْفَ الزُّهْدُ؟ وَمَا حَدُّهُ؟ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِي الْعَمَلُ بِهِ؟ فَقَدْ اسْتَبَانَ لِي فَضْلُهُ، وَوَضَحَ لِي رُشْدُهُ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إنَّ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَاجِبٌ عَلَيْك، وَهُوَ الْوَرَعُ لَا يَجُوزُ لَك التَّقْصِيرُ فِيهِ، وَلَا الرَّغْبَةُ عَنْهُ، وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك، وَنَهَاك عَنْهُ فَهَذَا الْأَمْرُ لَازِمٌ لَك لَا عُذْرَ لَك فِي التَّقْصِيرِ عَنْ الزُّهْدِ، وَالْقُرْبِ إلَى رَبِّك طَلَبًا لِلْفَضْلِ، وَنَفْيًا لِكُلِّ أَمْرٍ قَصُرَ بِك عَنْهُ مِنْ الْمُسَارَعَةِ فِي طَاعَتِهِ، وَالْمُسَابِقَةِ إلَى رِضْوَانِهِ، فَهَذَا مَا يَنْبَغِي لَك الْعَمَلُ بِهِ، وَإِدَارَةُ صَلَاحِ نَفْسِك عَلَيْهِ فَقَالَ: أَمَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيَّ، وَنَهَانِي عَنْهُ فَقَدْ دَلَّنِي عَلَيْهِ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ لَا يَنْبَغِي لِي الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَلَا الْعَمَلُ بِهِ فَزَهِدْت فِيهِ، وَرَفَضْته فَصِفْ لِي الزُّهْدَ الَّذِي أَرْجُو أَنْ أَنَالَ بِهِ كَرَامَةَ سَيِّدِي، وَأَنْ أَبْلُغَ مِنْ ذَلِكَ مَحَبَّتَهُ، وَأَنْ أَدْفَعَ بِهِ عَنِّي كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَمَكْرَهُ. فَقَالَ لَهُ: ذَلِكَ الزُّهْدُ فِي فُضُولِ الدُّنْيَا، وَالرِّضَا مِنْهَا بِيَسِيرِهَا، وَالْأَخْذُ مِنْهَا بِقَدْرِ الْبَلَاغِ إلَى غَيْرِهَا، وَرَفْضُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ فُضُولِهَا وَأُمُورِهَا، بِإِخْرَاجِ النَّاسِ مِنْ قَلْبِك فَلَا تَخَفْ أَحَدًا فِي اللَّهِ، وَلَا تَرُدَّ حَمْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَيَسْتَوِي النَّاسُ عِنْدَك فَلَا تَرْجُ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ، وَلَا تَطْلُبْ إلَّا فَضْلَهُ، وَتَنْصَحُ فِي اللَّهِ فِي السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ، وَلَا تَخَفْ لَوْمَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَلَا عَذْلَهُ، وَتُحِبُّ فِي اللَّهِ، وَتَبْغُضُ فِي اللَّهِ، وَلَا تُشْغِلُ قَلْبَك بِشَيْءٍ غَيْرَهُ، وَتَلْزَمُ التَّوَاضُعَ، وَالتَّذَلُّلَ لِرَبِّك، وَتُخْمِلُ ذِكْرَكَ، وَتُغَيِّبُ اسْمَكَ، وَلَا تُرِدْ بِذَلِكَ تَعْظِيمَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ غَيْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتُحِبُّ الْمَوْتَ، وَتَكُونُ مُمْتَثِلًا لَهُ بَيْنَ عَيْنَيْك لِرَجَاءِ مَا بَعْدَهُ. وَتَزْهَدُ فِي الْحَيَاةِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، وَالْبَلِيَّةِ فَهَذَا أَصْلُ الزُّهْدِ فَإِذَا أَنْتَ وَصَلْت إلَى ذَلِكَ نِلْت شَرَفَ الْآخِرَةِ، وَنَجَوْت بِعَوْنِ اللَّهِ مِنْ بَلِيَّةِ عَاجِلَتِك فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: لَقَدْ ذَكَرْت لِي مِنْ أَمْرِ الزُّهْدِ شَيْئًا ضَاقَ بِهِ ذَرْعِي، وَاشْتَدَّ لَهُ غَمِّي، وَاعْتَصَرَ لَهُ قَلْبِي، وَاسْتَصْعَبَ بِهِ عَلَيَّ أَمْرِي، وَتَفَرَّقَ لَهُ رَأْيِي، وَاشْتَدَّتْ عَلَيَّ

الْمُؤْنَةُ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِمَالُ لَهُ أَيْسَرَ عَلَيَّ مُؤْنَةً مِنْهُ، وَأَخَفَّ عَلَيَّ حِمْلًا مِنْ الزُّهْدِ، وَخَشِيت أَنْ لَا أَقْوَى عَلَى احْتِمَالِهِ، وَلَا تُطِيقُ نَفْسِي الْعَمَلَ بِكَمَالِهِ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِتَمَامِهِ، وَأَنْ تَمَلَّهُ نَفْسِي وَتَرْفُضَهُ، وَتَرْجِعَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ هَلَاكُهَا، وَعَطَبُهَا، وَقَدْ عَرَفْت فَضْلَ الزُّهْدِ، وَعَظِيمَ قَدْرِهِ، فَصِفْ إلَيَّ أَمْرًا أَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الزُّهْدِ، وَيُخَفِّفُهُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قَدْ فَهِمْت قَوْلَك، وَلَقَدْ صَعُبَ عَلَيْك الذَّلُولُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْك الْيَسِيرُ، وَثَقُلَ عَلَيْك الْخَفِيفُ، وَعُمِّيَتْ عَلَيْك الْمَدَاخِلُ، وَمَا أَلُومُك حَيْثُ اشْتَدَّ عَلَيْك مِنْ أَمْرِك مَا ذَكَرْت حِينَ لَمْ تَعْلَمْ الْأَمْرَ الَّذِي لَهُ فِي الدُّنْيَا زَهِدْت، وَاَلَّذِي بِهِ عَلَيْهِ قَوِيت. وَلَوْ عَلِمْته لَهَانَ عَلَيْك مِنْ أَمْرِك الشَّدِيدُ، وَخَفَّ عَلَيْك الثَّقِيلُ، وَسَهُلَتْ عَلَيْك مَوَارِدُهُ، وَسَهُلَتْ عَلَيْك فِيهِ الْمَذَاهِبُ، وَخَفَّتْ عَلَيْك فِيهِ الْمُؤْنَةُ فَافْهَمْ قَوْلِي بِعَقْلٍ، وَتَدَبَّرْهُ بِحِكَمٍ، وَخُذْ فِيهِ بِقُوَّةٍ وَجِدٍّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا، وَدَعَاهُمْ إلَى الزُّهْدِ فِيهَا وَرَفْضِهَا خِصَالٌ شَتَّى بَعْضُهَا أَرْفَعُ وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنْ بَعْضٍ، وَكُلُّهَا دَاعِيَةٌ إلَى الزُّهْدِ فِيهَا، فَأَوَّلُ دَرَجَاتِ الزُّهْدِ: أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ الْعِبَادَ فِي الدُّنْيَا، وَجَعَلَ مَا فِيهَا زِينَةً لَهَا، وَزَهَّدَهُمْ فِيهَا، وَخَلَقَ الْآخِرَةَ، وَنَعِيمَهَا، وَنَدَبَهُمْ إلَيْهَا، وَرَغَّبَهُمْ فِيهَا، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ عَنْ الدُّنْيَا مُرْتَحِلُونَ، وَأَنَّهُمْ إلَى الْآخِرَةِ صَائِرُونَ فَرَغَّبَ الْعِبَادَ فِي الْبَاقِي، وَزَهَّدَهُمْ فِي الْفَانِي فَآثِرْ الْآخِرَةَ، وَاطْلُبْهَا، وَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا، وَارْفُضْهَا لِكَيْ لَا يُنْتَقَصَ مِنْ حَظِّك فِي الْآخِرَةِ بِمَا نِلْت مِنْ نَعِيمِ دُنْيَاك: وَأَمَّا الْمَنْزِلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْعِبَادَ فِي الدُّنْيَا فَأَوْجَبَ الْمَوْتَ عَلَيْهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ مَيِّتُونَ، وَضَرَبَ لَهُمْ فِيهَا أَجَلًا فَلَمْ يَعْلَمُوا فِي أَيِّ الْأَوْقَاتِ، وَالسَّاعَاتِ تَأْتِيهِمْ مَنِيَّتُهُمْ فَتَحُولُ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ دُنْيَاهُمْ، وَنَعِيمِ عَيْشِهِمْ، وَمُفَارَقَةِ أَحْبَابِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمَوْتُ فِي قُلُوبِهِمْ أَسْهَرُوا فِي اللَّيْلِ أَعْيُنَهُمْ، وَاشْتَغَلُوا بِهُمُومِهِمْ عَنْ أَهْلِيهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ، وَدَامَ حُزْنُهُمْ، وَبُكَاؤُهُمْ، وَزَهِدُوا فِي الدُّنْيَا، وَأَهْلِهَا وَنَعِيمِهَا، فَصَارَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الضِّيفَانِ، وَكَانَ الْمُقَوِّي لَهُمْ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ذِكْرُ الْمَوْتِ

وَقَصْرُ الْأَمَلِ فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ شَرِيفَةٌ مِنْ خِصَالِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الزُّهْدِ: فَتَصْدِيقُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِ النَّارِ وَعَذَابِهَا، وَمَا حَذَّرَهُ مِنْهُ مِنْ الدُّنْيَا، وَالِاغْتِرَارِ بِهَا فَزَهِدَ فِيهَا، وَأَحَبَّ بِالْمَوْتِ مُفَارَقَتَهَا، وَالتَّبَاعُدَ عَنْهَا، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا إلَى دَارِهِ وَقَرَارِهِ تَبَصُّرًا مِنْهُ بِالدُّنْيَا، وَحَالِهَا فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ مِنْ خِصَالِ الزُّهْدِ أَشْرَفُ مِمَّا قَبْلَهَا، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا تَرَكْت لِي إلَى الدُّنْيَا، وَالرُّكُونِ إلَيْهَا سَبِيلًا، وَلَقَدْ اسْتَبَانَ لِي مِنْ قَوْلِك الْبِرُّ وَالْحَقُّ، وَوَضَحَ لِي مِنْ وَصْفِك الصِّدْقُ، وَقَوِيت - بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ - عَلَى الزُّهْدِ فِيهَا، وَرَفْضِهَا؛ فَصِفْ لِي بِصِفَتِك الشَّافِيَةِ، وَنَعْتِك النَّافِعِ دَوَاءً لِدَاءِ قَلْبِي تُخْبِرنِي فِيهِ عَنْ الْأَمْرِ الَّذِي يَدُلُّنِي عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ، وَيُقَوِّينِي عَلَيْهَا. فَقَالَ: الْأَمْرُ الَّذِي يَدُلُّك عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ، وَيُقَوِّيك عَلَيْهَا، وَيُنَوِّرُهَا فِي قَلْبِك هُوَ الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَكٌّ، وَالتَّصْدِيقُ بِرَبِّك الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ لَبْسٌ فَإِنَّهُ مَنْ صَدَقَ رَبَّهُ أَيْقَنَ، وَمَنْ أَيْقَنَ أَبْصَرَ، وَمَنْ أَبْصَرَ زَهِدَ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْيَقِينِ، وَأَفْضَلُ الْيَقِينِ التَّوَكُّلُ، قَالَ: فَصِفْ لِي الْيَقِينَ لِأَعْرِفَهُ. فَقَالَ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيك لَهُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَأَنَّهُ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي قُدْرَتِهِ، وَسُلْطَانِهِ، وَخَلْقِهِ، وَأَنَّ وَعَدَهُ حَقٌّ، وَقَوْلَهُ صِدْقٌ، وَكَذَا وَعِيدَهُ، وَكُتُبَهُ، وَرَسُولَهُ حَتَّى تُقِرَّ بِذَلِكَ فِي قَلْبِك، وَتَتَّبِعَ كِتَابَ رَبِّك فَهَذَا الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ، قَالَ: صِفْ لِي التَّوَكُّلَ لِأَعْرِفَهُ، فَقَالَ: التَّوَكُّلُ هُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ، وَتَصْدِيقُ الْيَقِينِ دَلَالَتَهُ، فَمَنْ أَيْقَنَ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ، وَالْمُقْتَدِرُ عَلَيْهَا، وَالْمَالِكُ لَهَا، وَالْمُنْفَرِدُ بِهَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَقَطَعَ رَجَاءَهُ عَمَّنْ سِوَاهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يَثِقْ بِأَحَدٍ، وَلَمْ يَأْنَسْ إلَّا بِهِ فَانْقَطِعْ إلَى اللَّهِ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ حَالَاتك فَهَذِهِ صِفَةُ الْعَمَلِ وَالتَّوَكُّلِ وَمَأْخَذِهِ، قَالَ: مَا الَّذِي يَدُلُّنِي عَلَى الْفِكْرَةِ، وَيُقَوِّينِي عَلَيْهَا فَإِنِّي كُلَّمَا أَرَدْت الْفِكْرَةَ لَمْ أَصِلْ إلَيْهَا، وَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا فَقَالَ: أَجَلْ لَا تَصِلُ إلَى مَا تُرِيدُ مِنْ الْفِكْرَةِ مَعَ الِاشْتِغَالِ

فصل في السماع وكيفيته

بِغَيْرِهَا فَسَبِيلُ الْوُصُولِ إلَى الْفِكْرَةِ: الصِّيَامُ، وَتَرْكُ الْإِكْثَارِ مِنْ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، وَاعْتِزَالُ الشَّهَوَاتِ، وَلُزُومُ الصَّمْتِ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْخَيْرُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالِاعْتِزَالُ، وَرَفْضُ الِاشْتِغَالِ بِالْفُضُولِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَلَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ [فَصْلٌ فِي السَّمَاعِ وَكَيْفِيَّتِهِ] ِ، وَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَمَا يَجُوزُ فَانْظُرْ - رَحِمنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ - إلَى مَا قَرَّرَ هَذَا السَّيِّدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كَيْفِيَّةِ السُّلُوكِ، وَالْأَخْذِ أَوَّلًا بِالصِّيَامِ، وَتَرْكِ الْإِكْثَارِ مِنْ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، وَاعْتِزَالِ الشَّهَوَاتِ، وَلُزُومِ الصَّمْتِ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْخَيْرِ فِي الْخَلْوَةِ، وَالِاعْتِزَالِ، وَرَفْضِ الِاشْتِغَالِ بِالْفُضُولِ فَلَمْ يَكْتَفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْخَلْوَةِ لَيْسَ إلَّا حَتَّى ذَكَرَ الِاعْتِزَالَ مَعَ الْخَلْوَةِ فَلَوْ كَانَتْ خَلْوَةً دُونَ اعْتِزَالٍ لَقَلَّ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ الِاعْتِزَالَ، فَأَيْنَ هَذَا الْحَالُ مِنْ حَالِنَا الْيَوْمَ؟ إذْ إنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْخِرْقَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إنَّمَا شَأْنُهُ كَثْرَةُ الِاجْتِمَاعِ، وَحُضُورُ السَّمَاعِ، وَالرَّقْصِ فِيهِ حَتَّى كَأَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ فِي السُّلُوكِ - نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ - فَمَنْ أَرَادَ الْخَيْرَ فَلْيَعْتَزِلْ عَمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَإِلَّا فَالْفَتْحُ عَلَيْهِ بَعِيدٌ أَعْنِي الْفَتْحَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي يَقْرُبُ بِهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ، وَجَلَّ دُونَ ادِّعَاءٍ، وَإِلَّا فَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ الْأَحْوَالَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ رَقْصِهِمْ، وَتَأْخُذُهُمْ الْأَحْوَالُ إذْ ذَاكَ، وَيُخْبِرُونَ بِأَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ. وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لَكَانَ مُصَادَفَةً، ثُمَّ إنَّهُمْ يُوَلُّونَ، وَيَعْزِلُونَ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ، وَيُخْبِرُونَ بِمَنَازِلِ أَصْحَابِهِمْ فَيَقُولُونَ مَثَلًا: فُلَانٌ أَحَدُ السَّبْعَةِ، وَفُلَانٌ أَحَدُ الْعَشَرَةِ، وَفُلَانٌ أَحَدُ السَّبْعِينَ، وَفُلَانٌ أَحَدُ الثَّلَاثمِائَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَحْوَالٌ نَفْسَانِيَّةٌ أَوْ شَيْطَانِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْفَتْحَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ مَعَ ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَذَا السَّمَاعُ عَلَى مَا يَعْلَمُونَهُ مُحَرَّمٌ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْله تَعَالَى

{إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف: 14] . هَؤُلَاءِ قَامُوا فَذَكَرُوا اللَّهَ عَلَى هِدَايَتِهِ شُكْرًا لِمَا أَوْلَاهُمْ مِنْ نِعْمَتِهِ ثُمَّ هَامُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ مُنْقَطِعِينَ إلَى رَبِّهِمْ، وَخَائِفِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الرُّسُلِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْفُضَلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ أَيْنَ هَذَا مِنْ ضَرْبِ الْأَرْضِ بِالْأَقْدَامِ،؟ وَالرَّقْصِ بِالْأَكْمَامِ خُصُوصًا فِي هَذَا الزَّمَانِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَصْوَاتِ الْحِسَانِ مِنْ الْمُرْدِ وَالنِّسْوَانِ، هَيْهَاتَ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهِ مِثْلُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ إنَّ هَذَا حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ انْتَهَى، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّ الْفَقِيرَ الْمُنْقَطِعَ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا فِي وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ، وَأَنَّ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ كَالْمُحَرَّمِ لَا سَبِيلَ إلَى ذِكْرِهِ فَضْلًا عَنْ فِعْلِهِ. ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي ضَرْبِ الطَّارِ عَلَى حِدَتِهِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الشَّبَّابَةِ عَلَى حِدَتِهَا، وَقَاعِدَةُ أَهْلِ الطَّرِيقِ الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ فَكَيْفَ يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ قَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى مَنْعِهِ؟ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِمْ، ثُمَّ مَعَ ارْتِكَابِ بَعْضِهِمْ مَا ذُكِرَ يَدَّعُونَ الْأَحْوَالَ الرَّفِيعَةَ، وَيُشِيرُونَ إلَى مَقَامَاتٍ، وَمُنَازَلَاتٍ تُسْتَعْظَمُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالِاقْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّخْلِيطِ، وَارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي؟ ذَلِكَ مُحَالٌ،، وَمِنْ أَشَدِّ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا أَحْدَثُوهُ فِي السُّجُودِ لِلشَّيْخِ حِينَ قِيَامِ الْفَقِيرِ لِلرَّقْصِ، وَبَعْدَهُ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ مَا هَذَا لَفْظُهُ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِمْتُ الشَّامَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ وَأَسَاقِفَتِهِمْ، فَرَأَيْت أَنَّكَ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي لَوْ أَمَرْت أَحَدًا يَسْجُدُ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا حَتَّى لَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا، وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ» هَذَا لَفْظُ النَّسَائِيّ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ مُعَاذٍ «وَنَهَى

عَنْ السُّجُودِ لِلْبَشَرِ، وَأَمَرَنَا بِالْمُصَافَحَةِ» قُلْت: وَهَذَا السُّجُودُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَدْ اتَّخَذَهُ جُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَةِ عَادَةً فِي سَمَاعِهِمْ، وَعِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَى مَشَايِخِهِمْ، وَاسْتِغْفَارِهِمْ فَتَرَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إذَا أَخَذَهُ الْحَالُ بِزَعْمِهِ يَسْجُدُ لِلْأَقْدَامِ سَوَاءً كَانَ لِلْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرِهَا جَهَالَةً مِنْهُ ضَلَّ سَعْيُهُمْ، وَخَابَ عَمَلُهُمْ (فَصْلٌ) فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ - وَإِيَّاكَ إلَى قِصَّةِ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَوْلِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّك أَوْلَى بِذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهَا مِنْ الْفَوَائِدِ النَّفِيسَةِ: التَّحَرُّزُ عَنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْبُعْدُ مِنْهُمْ إذْ أَنَّ النُّفُوسَ تَمِيلُ غَالِبًا إلَى مَا يَكْثُرُ تَرْدَادُهُ عَلَيْهَا، وَمِنْ هَاهُنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - كَثُرَ التَّخْلِيطُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِمُجَاوَرَتِهِمْ، وَمُخَالَطَتِهِمْ لِقِبْطِ النَّصَارَى مَعَ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ فِي الْغَالِبِ فَأَنِسَتْ نُفُوسُهُمْ بِعَوَائِدِ مَنْ خَالَطُوهُ فَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الْفَسَادُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ، وَضَعُوا تِلْكَ الْعَوَائِدَ الَّتِي أَنِسَتْ بِهَا نُفُوسُهُمْ مَوْضِعَ السُّنَنِ حَتَّى أَنَّك إذَا قُلْت لِبَعْضِهِمْ: الْيَوْمَ السُّنَّةُ كَذَا يَكُونُ جَوَابُهُ لَك عَلَى الْفَوْرِ عَادَةُ النَّاسِ كَذَا، وَطَرِيقَةُ الْمَشَايِخِ كَذَا، فَإِنْ طَالَبْتَهُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: نَشَأْت عَلَى هَذَا، وَكَانَ وَالِدِي، وَجَدِّي، وَشَيْخِي، وَكُلُّ مَنْ أَعْرِفَهُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ، وَلَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِمْ أَنْ يَرْتَكِبُوا الْبَاطِلَ أَوْ يُخَالِفُوا السُّنَّةَ فَيُشَنِّعُ عَلَى مَنْ يَأْمُرُهُ بِالسُّنَّةِ، وَيَقُولُ لَهُ: مَا أَنْتَ أَعْرَفُ بِالسُّنَّةِ مِمَّنْ أَدْرَكْتُهُمْ مِنْ هَذَا الْجَمِّ الْغَفِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إنْكَارُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَخْذِهِ بِعَمَلِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فَكَيْفَ يَحْتَجُّ هَذَا الْمِسْكِينُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ مَعَ مُخَالَطَتِهِمْ لِغَيْرِ جِنْسِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْقِبْطِ، وَالْأَعَاجِمِ، وَغَيْرِهِمَا؟ ، - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالِ - مَعَ أَنَّ السَّمَاعَ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالشِّعْرِ لَيْسَ إلَّا، فَإِذَا فَعَلَ أَحَدٌ ذَلِكَ قَالُوا أَهْمَلَ السَّمَاعَ، وَهُوَ الْيَوْمَ عَلَى مَا يُعْهَدُ، وَيُعْلَمُ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْإِمَامُ الشَّيْخُ رَزِينٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا أُتِيَ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا لِوَضْعِهِمْ الْأَسْمَاءَ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّيَاتٍ

وَهَا هُوَ ذَا بَيِّنٌ. أَلَا تَرَى السَّمَاعَ كَانَ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ الْيَوْمَ عَلَى مَا نُعَايِنُهُ، وَهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِمَا ارْتَكَبُوهُ حَتَّى وَقَعُوا فِي حَقِّ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَنَسَبُوا إلَيْهِمْ اللَّعِبَ، وَاللَّهْوَ فِي كَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ السَّمَاعَ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ هُوَ الَّذِي كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَفْعَلُونَهُ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ هَذَا، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ، وَيَرْجِعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا فَهُوَ هَالِكٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ السُّهْرَوَرْدِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى السَّمَاعِ قَالَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ: وَلَا شَكَّ أَنَّك إذَا خَيَّلْت بَيْنَ عَيْنَيْك جُلُوسَ هَؤُلَاءِ لِلسَّمَاعِ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ فَإِنَّ نَفْسَك تُنَزِّهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَنْ تَبِعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَعَنْ حُضُورِهِ انْتَهَى. وَلَقَدْ أَنْصَفَ فِيمَا وَصَفَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فِي حَقِّ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، وَقَدْ قِيلَ عَنْ الْجُنَيْدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّهُ قَالَ: إنَّ السَّمَاعَ لَا يَرْجِعُ مُبَاحًا إلَّا بِعَشَرَةِ شُرُوطٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَان لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ إلَّا ذُو مَحْرَمٍ أَعْنِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَإِمْكَانٍ، وَإِخْوَانٍ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَنْ يَكُونَ الْقَوَّالُ هُوَ الَّذِي يَمُدُّهُمْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِمَّنْ يَحْضُرُهُ شَنَآنُ، وَأَنْ لَا يَحْضُرَهُ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَأَنْ لَا يَحْضُرَهُ شَابٌّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ. وَحَيْثُ كَانَ مُبَاحًا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فَإِنْ اتَّفَقَ اجْتِمَاعُهَا كَانَ السَّمَاعُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَهُوَ إنْشَادُ الشِّعْرِ بِرَفْعِ الصَّوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ إلَى خَلَوَاتِهِمْ فَمَنْ عَجَزَ مِنْهُمْ عَنْ تَمَامِ الْمُدَّةِ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهَا خَرَجَ فَحَضَرَ السَّمَاعَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى خَلْوَتِهِ نَشِطًا؛ لِأَنَّ الْقَوَّالَ كَانَ يَمُدُّهُمْ فِي بَوَاطِنِهِمْ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُنْشِدُ لَهُمْ مِنْ دُرَرِ الشِّعْرِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ

وَتَقْوَى بِهِ قُلُوبُهُمْ عَلَى السَّيْرِ إلَى الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ، وَالنُّهُوضِ إلَيْهَا، وَتَرْكِ التَّرَاخِي، وَالتَّسْوِيفِ الشَّاغِلِ عَنْهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ إذَا عَجَزَ أَحَدُهُمْ عَنْ تَمَامِ الْمُدَّةِ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهَا إلَى الْخَلْوَةِ خَرَجَ إلَى مَجْلِسِ عَالِمٍ فَحَضَرَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَلْوَتِهِ قَوِيًّا؛ لِأَنَّ حُضُورَ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ يُحْيِي الْقُلُوبَ الْمَيِّتَةَ كَمَا يُحْيِي الْمَطَرُ الْوَابِلُ النَّبَاتَ بَلْ النَّظَرُ إلَيْهِمْ تَقْتَاتُ بِهِ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ، وَيَنْشَرِحُ صَدْرُهَا، وَيَحْدُثُ لَهَا عِنْدَ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ انْزِعَاجٌ، وَقُوَّةٌ بَاعِثَةٌ عَلَى مَا تُؤَمِّلُهُ مِنْ الْخَيْرِ كَيْفَ لَا، وَهُمْ أُمَنَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَخُلَفَاؤُهُ فِي خَلْقِهِ. وَقَدْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَحْمَةً، وَكَهْفًا لِمَنْ يَأْوِي إلَيْهِمْ، وَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهِمْ، نَصَبَهُمْ هُدَاةً لِلْمُتَحَيِّرِينَ، وَنُورًا لِلسَّالِكِينَ - اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمَنَا بَرَكَتَهُمْ، وَلَا تُخَالِفْ بِنَا عَنْ سُنَّتِهِمْ فَأَنْتَ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ - فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا مِنْ حَالِهِمْ، وَعُلِمَ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُفْعَلُ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا السَّمَاعِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ النَّاسِ مُخَالِفٌ لِجَمَاعَتِهِمْ إذْ إنَّهُ احْتَوَى عَلَى أَشْيَاءَ مُحَرَّمَاتٍ أَوْ مَكْرُوهَاتٍ أَوْ هُمَا مَعًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْحِكَايَةُ عَنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ إذْ إنَّهُمْ جَمَعُوا فِيهِ بَيْنَ الدُّفِّ، وَالشَّبَّابَةِ، وَالتَّصْفِيقِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ التَّصْفِيقَ إنَّمَا هُوَ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ كَمَا مُنِعَتْ الْآلَاتُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا، وَبَعْضُهُمْ يَنْسِبُ جَوَازَ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو إبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي الرَّقْصِ عَلَى الطَّارِ وَالشَّبَّابَةِ؟ فَقَالَ: هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ. فَقَالُوا: أَمَا جَوَّزَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأَنْشَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

توقير السلف للمساجد

حَاشَا الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ النَّبِيهْ ... أَنْ يَرْتَقِي غَيْرَ مَعَانِي نَبِيهْ أَوْ يَتْرُكَ السُّنَّةَ فِي نُسْكِهِ ... أَوْ يَبْتَدِعَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَوْ يَبْتَدِعَ طَارًا وَشَبَّابَةً ... لِنَاسِكٍ فِي دِينِهِ يَقْتَدِيهْ الضَّرْبُ بِالطَّارَاتِ فِي لَيْلَةٍ ... وَالرَّقْصُ وَالتَّصْفِيقُ فِعْلُ السَّفِيهْ هَذَا ابْتِدَاعٌ وَضَلَالٌ فِي الْوَرَى ... وَلَيْسَ فِي التَّنْزِيلِ مَا يَقْتَضِيهْ وَلَا حَدِيثٍ عَنْ نَبِيِّ الْهُدَى ... وَلَا صَحَابِيٍّ وَلَا تَابِعِيهْ بَلْ جَاهِلٌ يَلْعَبُ فِي دِينِهِ ... قَدْ ضَيَّعَ الْعُمْرَ بِلَهْوٍ وَتِيهْ وَرَاحَ فِي اللَّهْوِ عَلَى رِسْلِهِ ... وَلَيْسَ يَخْشَى الْمَوْتَ إذْ يَعْتَرِيهْ إنَّ وَلِيَّ اللَّهِ لَا يَرْتَضِي ... إلَّا بِمَا اللَّهُ لَهُ يَرْتَضِيهْ وَلَيْسَ يَرْضَى اللَّهُ لَهْوَ الْوَرَى ... بَلْ يَمْقُتُ اللَّهُ بِهِ فَاعِلِيهْ بَلْ بِصِيَامٍ وَقِيَامٍ فِي الدُّجَى ... وَآخِرِ اللَّيْلِ لِمُسْتَغْفِرِيهِ إيَّاكَ تَغْتَرُّ بِأَفْعَالِ مَنْ ... لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ وَلَا يَبْتَغِيهْ قَدْ أَكَلُوا الدُّنْيَا بِدِينٍ لَهُمْ ... وَلَبَّسُوا الْأَمْرَ عَلَى جَاهِلِيهْ جَهْلٌ وَطَيْشٌ فِعْلُهُمْ كُلُّهُ ... وَكُلُّ مَنْ دَانَ بِهِ تَزْدَرِيهْ شِبْهُ نِسَاءٍ جَمَعُوا مَأْتَمًا ... فَقُمْنَ فِي النَّدْبِ عَلَى مَيِّتِيهْ وَالضَّرْبُ فِي الصَّدْرِ كَمَا قَدْ تَرَى ... لَيْسَ لَهُمْ غَيْرُ النَّسَا مِنْ شَبِيهْ أَنْكِرْ عَلَيْهِمْ إنْ تَكُنْ قَادِرًا ... فَهُمْ رِجَالُ إبْلِيسَ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا تَخَفْ فِي اللَّهِ مِنْ لَائِمٍ ... وَفَّقَك اللَّهُ لِمَا يَرْتَضِيهْ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ إلَّا مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَبِطَرِيقَتِهِ، مِنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ فَمَنْ ذَكَرَ عَنْهُ غَيْرَ مَا يُنَاسِبُهُ كُذِّبَ فِيمَا ادَّعَاهُ، وَأُنْكِرَ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُزَنِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أَنْ بَاشَرَ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْكَرَ عَلَى مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ جَوَازَ السَّمَاعِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ [تَوْقِيرُ السَّلَفِ لِلْمَسَاجِدِ] (فَصْلٌ) : وَأَشَدُّ مِنْ فِعْلِهِمْ السَّمَاعَ كَوْنُ بَعْضِهِمْ يَتَعَاطَوْنَهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْقِيرُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِلْمَسَاجِدِ كَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ فِيهِ ذِكْرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ إنْشَادِ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ

لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ نَشَدَ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَهُ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك» ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ «مَنْ سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَاحْرِمُوهُ» ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ، وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ، وَنَهَى عَنْ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» ، وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يَفْعَلُونَ السَّمَاعَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَيَرْقُصُونَ فِيهَا، وَعَلَى حُصُرِ الْوَقْفِ الَّتِي فِيهَا، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الرُّبُطِ، وَالْمَدَارِسِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ عَمِلَ فَتْوَى، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ إحْدَى وَسِتِّينَ، وَسِتِّمِائَةٍ، وَمَشَى بِهَا عَلَى الْأَرْبَعِ مَذَاهِبَ، وَلَفْظُهَا: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ - وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى مَرْضَاتِهِ - فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَرَدُوا إلَى بَلَدٍ فَقَصَدُوا إلَى الْمَسْجِدِ، وَشَرَعُوا يُصَفِّقُونَ، وَيُغَنُّونَ، وَيَرْقُصُونَ تَارَةً بِالْكَفِّ، وَتَارَةً بِالدُّفُوفِ، وَالشَّبَّابَةِ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ شَرْعًا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ: السَّمَاعُ لَهْوٌ مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ الْبَاطِلَ مَنْ قَالَ بِهِ: تُرَدُّ شَهَادَتُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ زَجْرُهُمْ وَرَدْعُهُمْ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ الْمَسَاجِدِ حَتَّى يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ: فَاعِلُ ذَلِكَ لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَا يُقْبَلُ حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا، وَإِنْ عُقِدَ النِّكَاحُ عَلَى يَدِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: الْحُصُرُ الَّتِي يُرْقَصُ عَلَيْهَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى تُغْسَلَ، وَالْأَرْضُ الَّتِي يُرْقَصُ عَلَيْهَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى يُحْفَرَ تُرَابُهَا وَيُرْمَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى قِصَّةِ السَّامِرِيِّ فِي سُورَةِ طَهَ سُئِلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا الْفَقِيهُ فِي مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ حَرَسَ اللَّهُ مُدَّتَهُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ يُكْثِرُونَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَذِكْرِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ إنَّهُمْ يُوقِعُونَ أَشْعَارًا مَعَ الطَّقْطَقَةِ بِالْقَضِيبِ

عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَدِيمِ، وَيَقُومُ بَعْضُهُمْ يَرْقُصُ، وَيَتَوَاجَدُ حَتَّى يَخِرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَيُحْضِرُونَ شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ هَلْ الْحُضُورُ مَعَهُمْ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ يَا شَيْخُ كُفَّ عَنْ الذُّنُوبِ ... قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَالزَّلَلْ وَاعْمَلْ لِنَفْسِك صَالِحًا ... مَا دَامَ يَنْفَعُكَ الْعَمَلْ أَمَّا الشَّبَابُ فَقَدْ مَضَى ... وَمَشِيبُ رَأْسِك قَدْ نَزَلْ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ مَذْهَبُ هَؤُلَاءِ بَطَالَةٌ، وَجَهَالَةٌ، وَضَلَالَةٌ، وَمَا الْإِسْلَامُ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا الرَّقْصُ، وَالتَّوَاجُدُ فَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ أَصْحَابُ السَّامِرِيِّ لَمَّا اتَّخَذَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ قَامُوا يَرْقُصُونَ حَوَالَيْهِ، وَيَتَوَاجَدُونَ فَهُوَ دِينُ الْكُفَّارِ، وَعُبَّادِ الْعِجْلِ، وَأَمَّا الْقَضِيبُ فَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ لِيُشْغِلُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ يَجْلِسُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَصْحَابِهِ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ مِنْ الْوَقَارِ فَيَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ الْحُضُورِ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُمْ، وَلَا يُعِينَهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِكِتَابِ النَّهْيِ عَنْ الْأَغَانِي: وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِيمَا مَضَى يَسْتَتِرُ أَحَدُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ إذَا وَاقَعَهَا، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَيَتُوبُ إلَيْهِ مِنْهَا، ثُمَّ كَثُرَ الْجَهْلُ، وَقَلَّ الْعِلْمُ، وَتَنَاقَصَ الْأَمْرُ حَتَّى صَارَ أَحَدُهُمْ يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ جِهَارًا ثُمَّ ازْدَادَ الْأَمْرُ إدْبَارًا حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ، وَفَّقَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاهُمْ اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ، وَاسْتَهْوَى عُقُولَهُمْ فِي حُبِّ الْأَغَانِي، وَاللَّهْوِ، وَسَمَاعِ الطَّقْطَقَةِ، وَاعْتَقَدَتْهُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَاهَرَتْ بِهِ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَشَاقَّتْ بِهِ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَالَفَتْ الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَهَاءَ

وَحَمَلَةَ الدِّينِ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّا رَخَّصَ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ الْغِنَاءِ فَقَالَ: إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ، وَنَهَى عَنْ الْغِنَاءِ، وَاسْتِمَاعِهِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَكْرَهُ الْغِنَاءَ، وَيَجْعَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ سُفْيَانَ وَحَمَّادٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا نَعْلَمُ أَيْضًا بَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ خِلَافًا فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ، وَالْمَنْعِ مِنْهُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ: إنَّ الْغِنَاءَ لَهُمْ مَكْرُوهٌ، وَيُشْبِهُ الْبَاطِلَ، وَالْمُحَالَ، أَمَّا سَمَاعُهُ مِنْ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ لَهُ فَإِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مَكْشُوفَةً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَةً قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَصَاحِبُ الْجَارِيَةِ إذَا جَمَعَ النَّاسَ لِسَمَاعِهَا فَهُوَ سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَغَلَّظَ الْقَوْلَ فِيهِ قَالَ: هُوَ دِيَاثَةٌ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ دَيُّوثًا، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَكْرَهُ الطَّقْطَقَةَ بِالْقَضِيبِ، وَيَقُولُ وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ لِيُشْغِلُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْعُودُ، وَالطُّنْبُورُ، وَسَائِرُ الْمَلَاهِي فَحَرَامٌ، وَمُسْتَمِعُهُ فَاسِقٌ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ مَاتَ مِيتَةَ الْجَاهِلِيَّةِ» ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مُخَالِفَةٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْغِنَاءَ دِينًا، وَطَاعَةً، وَرَأَتْ إعْلَانَهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَالْجَوَامِعِ، وَقَدْ كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالِاحْتِيَاطِ لِدِينِهِمْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ فَإِنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالدِّينِ، وَمُدَّعُونَ الْوَرَعَ وَالزُّهْدَ حَتَّى تُوَافِقَ بَوَاطِنُهُمْ ظَوَاهِرَهُمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] الْآيَةَ قَالَ: الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ: هُوَ الْغِنَاءُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَهْوُ الْحَدِيثِ الْغِنَاءُ، وَالِاسْتِمَاعُ إلَيْهِ، وقَوْله تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] قَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْغِنَاءِ، وَالْمَزَامِيرِ {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كُلُّ رَاكِبٍ وَمَاشٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ خَيْلِ إبْلِيسَ وَرَجْلِهِ

{وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: 64] قَالَ قَوْمٌ: كُلُّ مَالٍ أُصِيبَ مِنْ حَرَامٍ، وَأُنْفِقَ فِي حَرَامٍ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مُشَارَكَتُهُ لَنَا فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ مَا يُزَيِّنُهُ لَنَا مِنْ الْأَيْمَانِ، ثُمَّ يُزَيِّنُ لَنَا الْحِنْثَ فِيهَا فَنَطَأُ الْفُرُوجَ بَعْدَ الْحِنْثِ، وَنَكْتَسِبُ الْأَمْوَالَ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ، وَقَالَ تَعَالَى {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} [النجم: 59] {وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} [النجم: 60] {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 61] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: سَامِدُونَ هُوَ الْغِنَاءُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْغِنَاءُ لِقَوْلِ أَهْلِ الْيَمَنِ سَمَدَ فُلَانٌ إذَا غَنَّى، وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِهِ الزَّاهِي بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ وَلَا شِرَاؤُهُنَّ، وَلَا التِّجَارَةُ فِيهِنَّ» زَادَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ، وَأَكْلُ أَثْمَانِهِنَّ حَرَامٌ، وَفِيهِنَّ نَزَلَتْ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] زَادَ غَيْرُهُ «وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا رَفَعَ رَجُلٌ عَقِيرَتَهُ أَيْ صَوْتَهُ بِالْغِنَاءِ إلَّا بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ شَيْطَانَيْنِ يَرْتَدِفَانِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ لَا يَزَالَانِ يَضْرِبَانِ بِأَرْجُلِهِمَا عَلَى صَدْرِهِ، وَأَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى صَدْرِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْكُتُ» ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ إبْلِيسُ أَوَّلَ مَنْ نَاحَ، وَأَوَّلَ مَنْ غَنَّى» ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يُمْسَخُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي آخِرَ الزَّمَانِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مُسْلِمُونَ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَيُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَمَا بَالُهُمْ؟ قَالَ اتَّخَذُوا الْمَعَازِفَ، وَالْقَيْنَاتِ، وَالدُّفُوفَ، وَشَرِبُوا هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ فَبَاتُوا عَلَى شَرَابِهِمْ فَأَصْبَحُوا، وَقَدْ مُسِخُوا» ، وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ: إذَا كَانَ الْمَغْنَمُ دُوَلًا، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وَجَفَا أَبَاهُ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ، وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ

شَرِّهِ، وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ، وَلُبِسَ الْحَرِيرُ، وَاُتُّخِذَتْ الْقَيْنَاتُ، وَالْمَعَازِفُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ أَوْ خَسْفًا أَوْ مَسْخًا» ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَوْ الْقِيَامَةِ إضَاعَةُ الصَّلَوَاتِ، وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ، وَتَكُونُ أُمَرَاءُ خَوَنَةٌ، وَوُزَرَاءُ فَسَقَةٌ فَقَالَ سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَبِي، وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا كَائِنٌ قَالَ: نَعَمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَهَا يُكَذَّبُ الصَّادِقُ، وَيُصَدَّقُ الْكَاذِبُ، وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ الْمُؤْتَمَنُ يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْكَذِبُ ظَرْفًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، إنَّ أَذَلَّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ الْمُؤْتَمَنُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِالْمَخَافَةِ يَذُوبُ قَلْبُهُ فِي جَوْفِهِ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ هَمًّا، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَ، عِنْدَهَا يَا سَلْمَانُ يَكُونُ الْمَطَرُ قَيْظًا، وَالْوَلَدُ غَيْظًا، وَالْفَيْءُ مَغْرَمًا، وَالْمَالُ دُوَلًا، يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ يَكْتَفِي الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ، وَتَرْكَبُ ذَوَاتُ الْفُرُوجِ السُّرُوجَ فَعَلَيْهِمْ مِنْ أُمَّتِي لَعْنَةُ اللَّهِ، يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ يَجْفُو الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، وَيَبَرُّ صَدِيقَهُ، وَيَحْتَقِرُ السَّيِّئَةَ قَالَ: أَوَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ تُزَخْرَفُ الْمَسَاجِدُ كَمَا تُزَخْرَفُ الْكَنَائِسُ، وَالْبِيَعُ، وَتُطَوَّلُ الْمَنَابِرُ، وَتَكْثُرُ الصُّفُوفُ، وَالْقُلُوبُ مُتَبَاغِضَةٌ، وَالْأَلْسُنُ مُخْتَلِفَةٌ دِينُ أَحَدِهِمْ لَعْقَةٌ عَلَى لِسَانِهِ إنْ أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِنْ مُنِعَ كَفَرَ قَالَ: أَوَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَهَا يُغَارُ عَلَى الْغُلَامِ كَمَا يُغَارُ عَلَى الْجَارِيَةِ الْبِكْرِ، وَيُخْطَبُ كَمَا تُخْطَبُ النِّسَاءُ قَالَ: أَوَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ تَحَلَّى ذُكُورُ أُمَّتِي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، عِنْدَ ذَلِكَ يَأْتِي مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَوْمٌ يَلُونَ أُمَّتِي، فَوَيْلٌ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ قَوِيِّهِمْ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ تُحَلَّى الْمَصَاحِفُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَيَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ بِأَصْوَاتِهِمْ، وَيُنْبَذُ كِتَابُ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ يَكْثُرُ الرِّبَا، وَيَظْهَرُ الزِّنَا، وَيَتَهَاوَنُ النَّاسُ بِالدِّمَاءِ، وَلَا يُقَامُ يَوْمَئِذٍ بِنَصْرِ اللَّهِ يَا سَلْمَانُ تَكْثُرُ الْقَيْنَاتُ، وَتُشَارِكُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي

التِّجَارَةِ، عِنْدَ ذَلِكَ يُرْفَعُ الْحَجُّ فَلَا حَجَّ، تَحُجُّ أُمَرَاءُ النَّاسِ تَنَزُّهًا وَلَهْوًا، وَأَوَاسِطُهُمْ لِلتِّجَارَةِ، وَقُرَّاؤُهُمْ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَفُقَرَاؤُهُمْ لِلْمَسْأَلَةِ» ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَسْبُ الْمُغَنِّي، وَالْمُغَنِّيَةِ حَرَامٌ، وَكَسْبُ الزَّانِيَةِ سُحْتٌ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُدْخِلَ الْجَنَّةَ لَحْمًا نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ» قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَأَيْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَجَابِرَ بْنَ عُمَيْرٍ يَرْتَمِيَانِ، فَمَلَّ أَحَدُهُمَا فَجَلَسَ فَقَالَ الْآخَرُ أَجْلَسْت سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ لَهْوٌ، وَسَهْوٌ إلَّا أَرْبَعُ خِصَالٍ: مَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ، وَتَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ زَوْجَتَهُ، وَتَعْلِيمُهُ السِّبَاحَةَ» قَالَ قَتَادَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أُهْبِطَ إبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ قَالَ يَا رَبِّ: لَعَنَتْنِي فَمَا عِلْمِي؟ قَالَ: السِّحْرُ قَالَ: فَمَا قِرَاءَتِي؟ قَالَ: الشِّعْرُ قَالَ: فَمَا كِتَابَتِي؟ قَالَ: الْوَشْمُ قَالَ: فَمَا طَعَامِي قَالَ: كُلُّ مَيْتَةٍ، وَمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَمَا شَرَابِي؟ قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ قَالَ: فَأَيْنَ مَسْكَنِي؟ قَالَ الْأَسْوَاقُ قَالَ: فَمَا صَوْتِي؟ قَالَ الْمَزَامِيرُ قَالَ: فَمَا مَصَائِدِي؟ قَالَ: النِّسَاءُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ ضَرْبِ الدُّفِّ، وَلَعِبِ الطَّبْلِ، وَصَوْتِ الْمِزْمَارِ» ، وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِ جُوعٍ، وَالنَّوْمُ مِنْ غَيْرِ سَهَرٍ، وَالضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ، وَالرَّنَّةُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَالْمِزْمَارُ.» . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا شَرِبَ الْعَبْدُ الْمَاءَ عَلَى شِبْهِ الْمُسْكِرِ كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ حَرَامًا، وَلَعَنَ اللَّهُ بَيْتًا فِيهِ دُفٌّ أَوْ طُنْبُورٌ أَوْ عُودٌ، وَأَخْشَى عَلَيْهِمْ الْعُقُوبَةَ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ» ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَسْتُ مِنْ دَدٍ، وَلَا دَدٌ مِنِّي» قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الدَّدُ اللَّعِبُ

وَاللَّهْوُ، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ الدَّدُ النَّقْرُ بِالْأَنَامِلِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَرَّأَ مِمَّا يُنْقَرُ فِي الْأَرْضِ بِالْأَنَامِلِ فَمَا بَالُك بِطَقْطَقَةِ الْقَضِيبِ قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ الدُّفُّ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ سَأَلَ إنْسَانٌ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْغِنَاءِ قَالَ أَنْهَاك عَنْهُ، وَأَكْرَهُهُ لَك قَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ اُنْظُرْ يَا ابْنَ أَخِي إذَا مَيَّزَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، مِنْ أَيِّهِمَا يَحْصُلُ الْغِنَاءُ؟ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَعَنَ اللَّهُ الْمُغَنِّيَ، وَالْمُغَنَّى لَهُ، وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حُبُّ السَّمَاعِ يُورِثُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ، وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْغِنَاءُ مَفْسَدَةٌ لِلْقَلْبِ مَسْخَطَةٌ لِلرَّبِّ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى مُؤَدِّبِ وَلَدِهِ: لِيَكُنْ أَوَّلُ مَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَدَبِك بُغْضَ الْمَلَاهِي الَّتِي بَدْؤُهَا مِنْ الشَّيْطَانِ، وَعَاقِبَتُهَا سُخْطُ الرَّحْمَنِ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْ الثِّقَاتِ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ أَنَّ صَوْتَ الْمَعَازِفِ، وَاسْتِمَاعَ الْأَغَانِي وَاللَّهْوَ بِهَا، يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يَنْبُتُ الْعُشْبُ عَلَى الْمَاءِ، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا بَنِي أُمَيَّةَ إيَّاكُمْ وَالْغِنَاءَ فَإِنَّهُ يَزِيدُ الشَّهْوَةَ، وَيَهْدِمُ الْمُرُوءَةَ، وَإِنَّهُ لَيَنُوبُ عَنْ الْخَمْرِ، وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ الْمُسْكِرُ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَجَنِّبُوهُ النِّسَاءَ فَإِنَّ الْغِنَاءَ دَاعِيَةُ الزِّنَا، وَقَالَ ابْنُ الْكَاتِبِ: إيَّاكَ وَالْغِنَاءَ، وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ فِي رِسَالَةِ الْإِرْشَادِ الْغِنَاءُ حَرَامٌ كَالْمَيْتَةِ، وَقَالَ أَبُو حُصَيْنٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اُخْتُصِمَ إلَى شُرَيْحٍ فِي رَجُلٍ كَسَرَ طُنْبُورًا فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ (فَصْلٌ) وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ فَهُوَ جَاسُوسُ الْقَلْبِ، وَسَارِقُ الْمُرُوءَةِ وَالْعُقُولِ، يَتَغَلْغَلُ فِي مَكَامِنِ الْقُلُوبِ، وَيَطَّلِعُ عَلَى سَرَائِرِ الْأَفْئِدَةِ، وَيَدِبُّ إلَى بَيْتِ التَّخْيِيلِ فَيُثِيرُ كُلَّ مَا غُرِسَ فِيهَا مِنْ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَالسَّخَاطَةِ وَالرُّعُونَةِ، بَيْنَمَا تَرَى الرَّجُلَ وَعَلَيْهِ سَمْتُ الْوَقَارِ، وَبَهَاءُ الْعَقْلِ، وَبَهْجَةُ الْإِيمَانِ، وَوَقَارُ الْعِلْمِ كَلَامُهُ حِكْمَةٌ، وَسُكُوتُهُ عِبْرَةٌ فَإِذَا سَمِعَ اللَّهْوَ نَقَصَ عَقْلُهُ، وَحَيَاؤُهُ، وَذَهَبَتْ مُرُوءَتُهُ

وَبَهَاؤُهُ فَيَسْتَحْسِنُ مَا كَانَ قَبْلَ السَّمَاعِ يَسْتَقْبِحُهُ، وَيُبْدِي مِنْ أَسْرَارِهِ مَا كَانَ يَكْتُمُهُ، وَيَنْتَقِلُ مِنْ بِهَاءِ السُّكُوتِ إلَى كَثْرَةِ الْكَلَامِ، وَالْكَذِبِ، وَالِازْدِهَاءِ، وَالْفَرْقَعَةِ بِالْأَصَابِعِ، وَيُمِيلُ رَأْسَهُ، وَيَهُزُّ مَنْكِبَيْهِ، وَيَدُقُّ الْأَرْضَ بِرِجْلَيْهِ، وَهَكَذَا تَفْعَلُ الْخَمْرَةُ إذَا مَالَتْ بِشَارِبِهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَخَلَتْ الْحَاضِرَةَ فَسُقِيَتْ نَبِيذًا، فَلَمَّا خَامَرَهَا، وَصَحَّتْ قَالَتْ: أَوَ يَشْرَبُ هَذَا نِسَاؤُكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَتْ: لَئِنْ صَدَقْتُمْ فَمَا يَعْرِفُ أَحَدُكُمْ مَنْ أَبُوهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ اللَّهْوِ، وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ أَسْكِنُوهُمْ رِيَاضَ الْمِسْكِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَسْمِعُوهُمْ حَمْدِي، وَثَنَائِي، وَأَعْلِمُوهُمْ أَنْ لَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَقَالَ بَعْضُ الزُّهَّادِ: الْغِنَاءُ يُورِثُ الْعِنَادَ فِي قَوْمٍ، وَيُورِثُ التَّكْذِيبَ فِي قَوْمٍ، وَيُورِثُ الْفَسَادَ فِي قَوْمٍ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى إبَاحَةِ الْغِنَاءِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جِوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَفَاءَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنْ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا» ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ تَعْرِفَ أَوَّلًا: حَقِيقَةَ الْغِنَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ لِلَفْظِ الْغِنَاءِ مَعْنَيَيْنِ: لُغَوِيٌّ، وَعُرْفِيٌّ فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى اللُّغَوِيِّ فَقَوْلُهَا تُغَنِّيَانِ أَيْ تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَهُمَا بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ، وَنَحْنُ لَا نَذُمُّ إنْشَادَ الشِّعْرِ، وَلَا نُحَرِّمُهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الشِّعْرُ غِنَاءً مَذْمُومًا إذَا لُحِّنَ، وَصُنِعَ صَنْعَةً تُورِثُ الطَّرَبَ، وَتُزْعِجُ الْقَلْبَ، وَهِيَ الشَّهْوَةُ الطَّبِيعِيَّةُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْغِنَاءِ لَحَّنَ، وَأَلَذَّ، وَأَطْرَبَ، فَالْمَمْنُوعُ، وَالْمَكْرُوهُ إنَّمَا هُوَ اللَّذِيذُ الْمُطْرِبُ، وَلَمْ يُعْقَلْ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ صَوْتَهُمَا كَانَ لَذِيذًا مُطْرِبًا، وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْمَسْأَلَةِ فَافْهَمْهُ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ فِي آخِرِهِ، وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ فَنَفَتْ الْغِنَاءَ عَنْهُمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا

سماع الغناء الذي يشترك فيه الخاص والعام

أَنَّهُ مَا نُقِلَ عَنْهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا إلَّا ذَمُّ الْغِنَاءِ وَالْمَعَازِفِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَخِيهَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ يَذُمُّ الْغِنَاءَ، وَقَدْ أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْهَا، وَتَأَدَّبَ بِهَا فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ أُنْشِدَ الشِّعْرُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ؟ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُنْكِرُ إنْشَادَ الشِّعْرِ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ إذَا لُحِّنَ، وَصُنِعَ صَنْعَةً تُورِثُ الطَّرَبَ، وَتُزْعِجُ الْقَلْبَ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا، وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا، وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا، وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا» فَالْجَوَابُ أَنَّ صَعْصَعَةَ بْنَ صُوحَانَ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: قَوْلُهُ إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَذَهَبَ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ، وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا فَهِيَ هَذِهِ الْمَوَاعِظُ، وَالْأَمْثَالُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ، وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا فَيَتَكَلَّفُ الْعَالِمُ عِلْمَ مَا لَا يَعْلَمُ فَيَجْهَلُ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا فَعَرْضُك حَدِيثَك عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ، وَلَا يُرِيدُهُ. [سَمَاع الغناء الَّذِي يشترك فِيهِ الْخَاصّ والعام] (فَصْلٌ) وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْنُ لَا نَسْمَعُ الْغِنَاءَ بِالطَّبْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَإِنَّمَا نَسْمَعُ بِحَقٍّ فَنَسْمَعُ بِاَللَّهِ، وَفِي اللَّهِ، وَلَا نَتَّصِفُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مَمْزُوجَةٌ بِحُظُوظِ الْبَشَرِيَّةِ قُلْنَا: إنْ زَعَمْتَ أَنَّك فَارَقْتَ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ، وَصِرْت مَطْبُوعًا عَلَى الْعَقْلِ وَالْبَصِيرَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ فَقَدْ كَذَبْت عَلَى طَبْعِك، وَكَذَبْت عَلَى اللَّهِ فِي تَرْكِيبِك وَمَا وَصَفَك بِهِ مِنْ حُبِّ الشَّهَوَاتِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ فَارَقَ إلْفَهُ وَادَّعَى الْعِصْمَةَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٌ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ مُجَاهِدًا لِنَفْسِك، وَلَا مُخَالِفًا لِهَوَاك، وَلَا يَكُونَ لَك ثَوَابٌ عَلَى تَرْكِ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ وَأَصْحَابُك تُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ، وَالنَّهَارَ لَا تَفْتُرُونَ، وَتَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تُبِيحَ سَمَاعَ الْعُودِ

وَالطُّنْبُورِ وَسَائِرِ الْمَلَاهِي بِهَذَا الطَّبْعِ الَّذِي لَا يُشَارِكُك فِيهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ (فَصْلٌ) فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّالِحِينَ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ قُلْنَا؟ مَا بَلَغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ سَمِعَهُ، وَلَا فَعَلَهُ، وَهَذِهِ مُصَنَّفَاتُ أَئِمَّةِ الدِّينِ، وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ مُصَنَّفِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَكِتَابِ النَّسَائِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى غَيْرِهَا خَالِيَةً مِنْ دَعْوَاكُمْ، وَهَذِهِ تَصَانِيفُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَدُورُ عَلَيْهِمْ الْفَتْوَى قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي شَرْقِ الْبِلَادِ وَغَرْبِهَا فَقَدْ صَنَّفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ تَصَانِيفَ لَا تُحْصَى، وَكَذَلِكَ مُصَنَّفَاتُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّهَا مَشْحُونَةٌ بِالذَّبِّ عَنْ الْغِنَاءِ، وَتَفْسِيقِ أَهْلِهِ فَإِنْ كَانَ فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَلَا يَلْزَمُنَا الِاقْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ، وَنَتْرُكُ الِاقْتِدَاءَ بِالْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ، وَمِنْ هَاهُنَا زَلَّ مَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ. نَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِالْمُتَأَخِّرِينَ سِيَّمَا وَكُلُّ مَنْ يَرَى هَذَا الرَّأْيَ الْفَاسِدَ عَارٍ مِنْ الْفِقْهِ عَاطِلٌ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَعْرِفُ مَأْخَذَ الْأَحْكَامِ، وَلَا يَفْصِلُ الْحَلَالَ مِنْ الْحَرَامِ، وَلَا يَدْرُسُ الْعِلْمَ، وَلَا يَصْحَبُ أَهْلَهُ، وَلَا يَقْرَأُ مُصَنَّفَاتِهِ، وَدَوَاوِينَهُ، وَقَدْ قَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا اسْتَرْذَلَ اللَّهُ عَبْدًا إلَّا حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ» فَمَنْ هَجَرَ أَهْلَ الْفِقْهِ، وَالْحِكْمَةِ، وَانْقَضَى عُمْرُهُ فِي مُخَالَطَةِ أَهْلِ اللَّهْوِ وَالْبَطَالَةِ كَيْفَ يُؤْمَنُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا؟ ، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] فَيَا مَنْ رَضِيَ لِدِينِهِ، وَدُنْيَاهُ، وَتَوَثَّقَ لِآخِرَتِهِ وَمَثْوَاهُ بِاخْتِيَارِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَفَتْوَاهُ إنْ كُنْت عَلَى مَذْهَبِهِ، وَبِاخْتِيَارِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إنْ كُنْت تَرَى رَأْيَهُمْ كَيْفَ هَجَرْت اخْتِيَارَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَجَعَلْت إمَامَك فِيهَا شَهَوَاتِك وَبُلُوغَ أَوْطَارِك وَلَذَّاتِك {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]

(فَصْلٌ) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ قَالَ: رَأَيْت فِي الْمَنَامِ أَنَّ الْحَقَّ أَوْقَفَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: يَا أَحْمَدُ حَمَلْتَ وَصْفِي عَلَى لَيْلَى وَسُعْدَى لَوْلَا أَنِّي نَظَرْتُ إلَيْك فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ أَرَدْتنِي خَالِصًا لَعَذَّبْتُك قَالَ فَأَقَامَنِي مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ الْخَوْفِ فَأَرْعَدْت، وَفَزِعْت مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَقَامَنِي مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ الرِّضَا فَقُلْت يَا سَيِّدِي لَمْ أَجِدْ مَنْ يَحْمِلُنِي غَيْرَك فَطَرَحْت نَفْسِي عَلَيْك فَقَالَ: صَدَقْت مِنْ أَيْنَ تَجِدُ مَنْ يَحْمِلُك غَيْرِي؟ وَأَمَرَ بِي إلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَأَيْت إبْلِيسَ فِي النَّوْمِ فَقُلْت لَهُ: هَلْ تَظْفَرُ مِنْ أَصْحَابِنَا بِشَيْءٍ أَوْ تَنَالُ مِنْهُمْ نَصِيبًا؟ فَقَالَ إنَّهُ لَيَعْسُرُ عَلَيَّ شَأْنُهُمْ، وَيَعْظُمُ عَلَيَّ أَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ شَيْئًا إلَّا فِي وَقْتَيْنِ وَقْتِ السَّمَاعِ، وَعِنْدَ النَّظَرِ فَإِنِّي أَنَالُ مِنْهُمْ فِتْنَةً، وَأَدْخُلُ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَسُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذَبَارِيُّ عَنْ السَّمَاعِ، وَكَانَ مِنْ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ فَقَالَ: لَيْتَنَا تَخَلَّصْنَا مِنْهُ رَأْسًا بِرَأْسٍ، وَقَالَ الْجُنَيْدُ: إذَا رَأَيْتَ الْمُرِيدَ يُحِبُّ السَّمَاعَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِيهِ بَقِيَّةً مِنْ الْبِطَالَةِ، وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ الْأَوْلَاسِيُّ، وَكَانَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ: رَأَيْت إبْلِيسَ فِي الْمَنَامِ، وَكَانَ عَلَى بَعْضِ سُطُوحِ أُولَاسَ، وَعَنْ يَمِينه جَمَاعَةٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ جَمَاعَةٌ، وَعَلَيْهِمْ ثِيَابٌ نَظِيفَةٌ فَقَالَ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ: قُومُوا، وَغَنُّوا فَقَامُوا، وَغَنَّوْا فَاسْتَفْزَعَنِي طِيبُهُ حَتَّى هَمَمْت أَنْ أَطْرَحَ نَفْسِي مِنْ السَّطْحِ، ثُمَّ قَالَ: اُرْقُصُوا فَرَقَصُوا بِأَطْيَبِ مَا يَكُونُ ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا الْحَارِثِ مَا أُصِيبُ شَيْئًا أَدْخُلُ بِهِ عَلَيْكُمْ إلَّا هَذَا، وَقَالَ الْجَرِيرِيُّ رَأَيْت الْجُنَيْدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النَّوْمِ فَقُلْت كَيْفَ حَالُك يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ: طَاحَتْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ، وَبَادَتْ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ، وَمَا نَفَعَنَا إلَّا تَسْبِيحَاتٌ كُنَّا نَقُولُهَا بِالْغَدَوَاتِ، فَأَيْنَ هَذَا يَرْحَمُك اللَّهِ مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْعُلَمَاءَ فَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} [الإسراء: 108] {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] . (فَصْلٌ) وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَظِيمٌ مِنْ شُيُوخهمْ عَلَى إبَاحَةِ الْغِنَاءِ فَقَالَ: إنَّ

فصل قراءة القرآن بالألحان

الطِّفْلَ يَسْكُنُ إلَى الصَّوْتِ الطَّيِّبِ، وَالْجَمَلَ يُقَاسِي تَعَبَ السَّيْرِ، وَمَشَقَّةَ الْحُمُولِ إذَا سَمِعَ الْحِدَاءَ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْعَجَمِ مَاتَ، وَخَلَفَ ابْنًا صَغِيرًا فَأَرَادُوا أَنْ يُبَايِعُوهُ فَقَالُوا: كَيْفَ نَصِلُ إلَى عَقْلِهِ، وَذَكَائِهِ؟ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِقَوَّالٍ فَإِنْ أَحْسَنَ الْإِصْغَاءَ عَلِمُوا كِيَاسَتَهُ، فَلَمَّا أَسْمَعُوهُ الْقَوَّالَ ضَحِكَ الرَّضِيعُ فَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَايَعُوهُ، فَالْجَوَابُ اُنْظُرُوا يَا ذَوِي الْأَلْبَابِ كَيْفَ قَادَهُمْ رُكُوبُ الْهَوَى، وَعِشْقُ الْبَاطِلِ، وَقِلَّةُ الْحِيلَةِ إلَى هَذِهِ السَّخَافَةِ وَحَسْبُك مِنْ مَذْهَبٍ إمَامُهُمْ فِيهِ - الْأَنْعَامُ، وَالصِّبْيَانُ فِي الْمَهْدِ، وَهَكَذَا يَفْضَحُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ اتَّبَعَ الْبَاطِلَ، وَحَسْبُك مِنْ عُقُولٍ لَا تَقْتَدِي بِأَحْبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ، وَتَقْتَدِي بِالْإِبِلِ فَلَئِنْ كَانَ كُلُّ مَا طَرِبَتْ بِهِ الْبَهَائِمُ مَنْدُوبًا أَوْ مُبَاحًا فَإِنَّا نَرَى الْبَهِيمَةَ تَدُورُ عَلَى أَمِّهَا، وَأُخْتِهَا، وَتَرْكَبُ بِنْتَهَا فَيَلْزَمُ الِاقْتِدَاءُ بِالْبَهِيمَةِ فِي مِثْلِ هَذَا [فَصْلٌ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ] (فَصْلٌ) فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ: فَالْجَوَابُ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: وَلَا تُعْجِبُنِي الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ، وَلَا أُحِبُّهُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْغِنَاءَ، وَيُضْحَكُ بِالْقُرْآنِ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ أَقْرَأُ مِنْ فُلَانٍ قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ الْجَوَارِيَ يُعَلَّمْنَ ذَلِكَ كَمَا يُعَلَّمْنَ الْغِنَاءَ أَيْنَ هَذَا مِنْ الْقِرَاءَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ بِهَا؟ ، قَالَ: وَلَا يُعْجِبُنِي النَّبْرُ، وَالْهَمْزُ يَقُولُ لَا يُرَجَّعُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا يُقْطَعُ بِالْأَلْحَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِزِيَادَةِ هَمَزَاتٍ فِي الْقُرْآنِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْقُرْآنِ لَا تَجُوزُ، وَقِيلَ لِمَالِكٍ: هَلْ يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِي الطُّرُقَاتِ؟ قَالَ: لَا إلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ، وَأَمَّا الَّذِي يُدِيمُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ قِيلَ لَهُ فَالرَّجُلُ يَخْرُجُ إلَى السُّوقِ أَيَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ مَاشِيًا؟ فَقَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي السُّوقِ، وَسُئِلَ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ قَالَ: لَيْسَ مَوْضِعَ قِرَاءَةٍ، وَإِنْ قَرَأَ الْإِنْسَانُ الْآيَةَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ قِيلَ لَهُ فَالرَّجُلُ يَخْرُجُ إلَى قَرْيَتِهِ فَيَقْرَأُ مَاشِيًا قَالَ: نَعَمْ قَالَ: سَحْنُونَ لَا بَأْسَ أَنْ يَقْرَأَ الرَّاكِبُ، وَالْمُضْطَجِعُ، وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ قَالَ: مَا أَجْوَدُ ذَلِكَ لِمَنْ أَطَاقَهُ قَالَ مَالِكٌ

وَلَمْ تَكُنْ الْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ قَالَ: وَأَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْمُصْحَفِ فِي الْمَسْجِدِ. فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» فَالْمَعْنَى مَا اسْتَمَعَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَاسْتِمَاعِهِ لِنَبِيِّ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْغِنَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ فِي آخِرِ الْخَبَرِ فَقَالَ: يُجْهَرُ بِهِ قَالَ: مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2] أَيْ سَمِعَتْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ تَلْحِينُ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ التَّحْبِيرُ وَالتَّحْزِينُ. قَالَ: عِيسَى الْغِفَارِيُّ: «ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْرَاطَ السَّاعَةِ فَقَالَ: بَيْعُ الْحُكْمِ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالذِّمَمِ، وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ، وَأَنْ يُتَّخَذَ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لَيْسَ بِأَقْرَئِهِمْ، وَلَا بِأَفْضَلِهِمْ إلَّا لِيُغَنِّيَهُمْ غِنَاءً» فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّحْزِينُ قَالَ شُعْبَةُ: نَهَانِي أَيُّوبُ أَنْ أَتَحَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَخَافَةَ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ عَمَّا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْنَا لَحَكَيْتُ تِلْكَ الْقِرَاءَةِ» ، وَقَدْ رَجَعَ، وَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» قَالَ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مَعْنَاهُ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ يَعْنِي بِالْقُرْآنِ. وَهَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فَقَالَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَرَى أَحَدًا (مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَغْنَى مِنْهُ، وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا كُلَّهَا، وَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَدًا أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ فَقَدْ عَظَّمَ صَغِيرًا أَوْ صَغَّرَ عَظِيمًا» ، وَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ: نِعْمَ كَنْزُ الصُّعْلُوكِ آلُ عِمْرَانَ يَقُومُ بِهَا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّغَنِّيَ بِمَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ دُونَ الصَّوْتِ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَكُنْت امْرَأً زَمِنًا بِالْعِرَاقِ ... عَفِيفَ الْمَنَامِ طَوِيلَ التَّغَنِّي

فصل اتباع الشهوات والتنافس في ألوان الأطعمة

قَالَ: أَبُو عُبَيْدٍ يُرِيدُ الِاسْتِغْنَاءَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: تَغَنَّيْت تَغَنِّيًا، وَتَغَانَيْت تَغَانِيًا بِمَعْنَى اسْتَغْنَيْت قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ يُعَاتِبُ أَخَاهُ: كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ ... وَنَحْنُ إذَا مِتْنَا أَشَدُّ تَغَانِيًا ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَرَرْت عَلَى عَجُوزٍ مِنْ الْعَرَبِ قَدْ اعْتَقَلَتْ شَاةً فِي بَيْتِهَا فَقُلْت لَهَا: مَا تُرِيدِينَ بِهَذِهِ الشَّاةِ قَالَتْ: نَتَغَنَّى بِهَا يَا هَذَا، تُرِيدُ نَسْتَغْنِي، وَقَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: مَنْ تَلَذَّذَ بِأَلْحَانِ الْقُرْآنِ حُرِمَ فَهْمَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَنْتُمْ أَقْرَأُ أَلْسِنَةً، وَنَحْنُ أَقْرَأُ قُلُوبًا، وَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ نَحْنُ قَوْمٌ ثَقُلَتْ عَلَيْنَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَخَفَّ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهِ، وَسَيَجِيءُ قَوْمٌ يَخِفُّ عَلَيْهِمْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِهِ، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَيَقْرَأَنَّ رِجَالٌ الْقُرْآنَ هُمْ أَحْسَنُ أَصْوَاتًا مِنْ الْمَعَازِفِ، وَمِنْ حُدَاةِ الْإِبِلِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَمْعَنَ، وَأَجَادَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْجَلِيلُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ، وَأَحْسَنَهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ هُنَاكَ إذْ إنَّ هَذَا الْكِتَابِ يَضِيقُ عَمَّا أَتَى بِهِ، وَمَا ذَكَرَ إنَّمَا هُوَ إشَارَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّق لِلصَّوَابِ [فَصْلٌ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالتَّنَافُسُ فِي أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ] (فَصْلٌ) ، ثُمَّ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمِمَّا اُشْتُهِرَتْ بِهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ، وَالتَّنَافُسُ فِي أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ: فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» قَالَ: أَبُو جُحَيْفَةَ أَكَلْت ثَرِيدًا بِلَحْمٍ سَمِينٍ فَتَجَشَّيْت عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «اُكْفُفْ عَنَّا جُشَاءَك فَإِنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا» ، وَرُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «جَاءَتْ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ؟ قَالَتْ: قُرْصٌ خَبَزْتُهُ، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُك بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ فَقَالَ: أَمَا إنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيك مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» ، وَقَالَ: يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ لَوْ أَنَّ الْجُوعَ

يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ لَمَا كَانَ يَنْبَغِي لِطُلَّابِ الْآخِرَةِ أَنْ يَشْتَرُوا غَيْرَهُ. وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا شَبِعْت مُنْذُ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا إلَّا شُبْعَةً فَطَرَحْتهَا؛ لِأَنَّ الشِّبَعَ يُثْقِلُ الْبَدَنَ، وَيُقْسِي الْقَلْبَ، وَيُزِيلُ الْفَطِنَةَ، وَيَجْلِبُ النَّوْمَ، وَيُضْعِفُ صَاحِبَهُ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَقَالَ: سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا خَلْقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدُّنْيَا جَعَلَ فِي الشِّبَعِ الْقَسْوَةَ وَالْجَهْلَ، وَجَعَلَ فِي الْجُوعِ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ، وَقَالَ: بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْجُوعُ يُصَفِّي الْفُؤَادَ، وَيُمِيتُ الْهَوَى، وَيُوَرِّثُ الْعِلْمَ الدَّقِيقَ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجُوعُ لِلْمُرِيدِينَ رِيَاضَةٌ، وَلِلتَّائِبِينَ تَجْرِبَةٌ، وَلِلزُّهَّادِ سِيَاسَةٌ، وَلِلْعَارِفِينَ مَكْرُمَةٌ، وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ صِفَةِ الصُّوفِيَّةِ فَقَالَ: طَعَامُهُمْ طَعَامُ الْمَرْضَى، وَنَوْمُهُمْ نَوْمُ الْغَرْقَى، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ زَاهِدٍ قَدْ أَفْسَدَتْ مَعِدَتَهُ أَلْوَانُ الْأَغْنِيَاءِ، وَقَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنِّي جَائِعٌ فَقَالَ: كَذَبْت قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْت؟ قَالَ: لِأَنَّ الْجُوعَ فِي خَزَائِنِهِ الْوَثِيقَةِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا مَنْ يُفْشِي سِرَّهُ، وَلَا يُعْطَاهُ مَنْ لَا يَشْكُرُهُ، وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ اشْتَكَى إلَى شَيْخِهِ الْجُوعَ، ثُمَّ ذَهَبَ فَرَأَى دِرْهَمًا مَطْرُوحًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ أَمَا كَانَ اللَّهُ عَالِمًا بِجُوعِك حَتَّى قُلْت إنِّي جَائِعٌ، وَقَالَ: فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوْصَانِي ثَلَاثُونَ شَيْخًا عِنْدَ فِرَاقِي لَهُمْ بِتَرْكِ عِشْرَةِ الْأَحْدَاثِ، وَقِلَّةِ الْأَكْلِ، وَيُرْوَى عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ابْنِ عَوْنٍ فِي الْحَبْسِ، وَإِذَا عُمَّالُ بَنِي أُمَيَّةَ مُقَيَّدُونَ فِي الْحَدِيدِ فَحَضَرَ غَدَاؤُهُمْ فَجَعَلَ الْخَدَمُ يَنْقُلُونَ الْأَلْوَانَ فَقَالُوا هَلُمَّ يَا أَبَا يَحْيَى فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ آكُلَ مِثْلَ هَذَا الطَّعَامِ، وَأَنْ يُوضَعَ فِي رِجْلِي مِثْلُ هَذَا الْحَدِيدِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا؟ فَقَالَا: الْجُوعُ، فَقَالَ: وَأَنَا، وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجَنِي إلَّا الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا فَأَتَوْا بَيْتًا مِنْ الْأَنْصَارِ، وَإِذَا الرَّجُلُ غَائِبٌ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: مَرْحَبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالَتْ خَرَجَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ، وَإِذَا بِالرَّجُلِ، وَعَلَيْهِ

فصل استحضار المرد في مجالسهم والنظر في وجوههم

قِرْبَةُ مَاءٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا أَجِدُ مِنْ النَّاسِ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي فَأَتَاهُمْ بِعِذْقٍ مِنْ رُطَبٍ، وَبُسْرٍ وَتَمْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا اجْتَنَيْته فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَخَيَّرُوا عَلَى أَعْيُنِكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاكَ وَالْحَلُوبَ فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً فَأَكَلُوا، وَشَرِبُوا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ نَعِيمِ هَذَا الْيَوْمِ، وَفِي لَفْظٍ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ.» [فَصْلٌ اسْتِحْضَارُ الْمُرْدِ فِي مَجَالِسِهِمْ وَالنَّظَرُ فِي وُجُوهِهِمْ] (فَصْلٌ) وَيُقَالُ: إنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ تُضِيفُ إلَى مَا هِيَ فِيهِ مِنْ الْبَاطِلِ اسْتِحْضَارَ الْمُرْدِ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَرُبَّمَا زَيَّنُوهُمْ بِالْحُلِيِّ، وَالْمُصَبَّغَاتِ مِنْ الثِّيَابِ، وَتَزْعُمَ أَنَّهَا تَقْصِدُ بِذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ بِالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْقُشَيْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهُوَ مِنْ رُؤَسَاءِ وَطَائِفَتِهِمْ قَوْلًا عَظِيمًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَكَشْفِ فَضَائِحِهِمْ: مَنْ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ عَبْدٌ أَهَانَهُ اللَّهِ، وَخَذَلَهُ، وَكَشَفَ عَوْرَتَهُ، وَأَبْدَى سَوْأَتَهُ فِي الْعَاجِلِ، وَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ سُوءُ الْمُنْقَلَبِ فِي الْآجِلِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَوْ مَمْلُوكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا» خَبَّبَ أَيْ أَفْسَدَ، وَخَدَعَ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْخِبِّ، وَهُوَ الْخُدْعُ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ خِبٌّ هَبٌّ إذَا كَانَ فَاسِدًا مُفْسِدًا قَالَ الْوَاسِطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ: إذَا أَرَادَ اللَّهُ هَوَانَ عَبْدٍ أَلْقَاهُ إلَى هَؤُلَاءِ الْأَنْتَانِ الْجِيَفِ أَوَ لَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] ؟ . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى، وَلَيْسَتْ لَك الْآخِرَةُ» ، وَقَالَ: بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: بَعْضُ التَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُحَدِّقَ الرَّجُلُ النَّظَرَ إلَى الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ الْجَمِيلِ الْوَجْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لِلشَّيْطَانِ مِنْ الرَّجُلِ ثَلَاثَةُ مَنَازِلَ فِي نَظَرِهِ وَقَلْبِهِ وَذَكَرِهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كُلُّ نَظْرَةٍ يَهْوَاهَا الْقَلْبُ لَا خَيْرَ فِيهَا، وَقَالَ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَبَثَ بِغُلَامٍ بَيْنَ أَصَابِعِ

رِجْلَيْهِ يُرِيدُ الشَّهْوَةَ لَكَانَ لِوَاطًا، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تُجَالِسُوا أَبْنَاءَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا كَصُوَرِ النِّسَاءِ، وَهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنْ الْعَذَارَى، وَقَالَ: بَعْضُ التَّابِعِينَ مَا أَخَافُ عَلَى الشَّابِّ النَّاسِكِ فِي عِبَادَتِهِ مِنْ سَبُعٍ ضَارٍ كَخَوْفِي عَلَيْهِ مِنْ الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ يَقْعُدُ إلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: اللُّوطِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَصْنَافٍ: صِنْفٍ يَنْظُرُونَ، وَصِنْفٍ يُصَافِحُونَ، وَصِنْفٍ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْعَمَلَ، وَرُوِيَ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ، وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ: لَا تَجِئْنِي بِهِ مَرَّةً أُخْرَى فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ ابْنُهُ، وَهُمَا مَسْتُورَانِ فَقَالَ: عَلِمْت، وَلَكِنْ عَلَى رَأْيِ أَشْيَاخِنَا، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبُ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَجَاءَهُ غُلَامٌ حَدَثٌ لِيَجْلِسَ إلَيْهِ فَأَجْلَسَهُ مِنْ خَلْفِهِ فَأَمَّا إتْيَانُ الذُّكُورِ فَهِيَ الْفَاحِشَةُ الْعُظْمَى، وَهُوَ مُحَرَّمٌ مُغَلَّظُ التَّحْرِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 166] قَالَ مَالِكٌ: وَيُرْجَمُ الْفَاعِلُ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ أُحْصِنَا أَوْ لَمْ يُحْصَنَا، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ كَالزِّنَا إنْ كَانَ بِكْرًا يُحَدُّ، وَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا يُرْجَمُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ غُلَامٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ، وَالْمَفْعُولَ بِهِ» ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَجَمَهُمْ بِالْحِجَارَةِ قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82] الْآيَةَ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي رَجُلٍ كَانَ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ فَقَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَى أَنْ يُحَرَّقَ فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: يُرْجَمُ اللُّوطِيُّ، وَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يُرْمَى مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ أَعْلَى مَا فِي الْبَلَدِ مُنَكَّسًا، ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

أَنَّهُ قَالَ: يُهْدَمُ عَلَيْهِ الْبَيْتُ، وَقَالَ: عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُقْتَلُ. وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَ لُوطٍ كَانَتْ فِيهِمْ عَشْرُ خِصَالٍ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا: كَانُوا يَتَغَوَّطُونَ فِي الطُّرُقَاتِ، وَتَحْتَ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَفِي الْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ، وَفِي شُطُوطِ الْأَنْهَارِ، وَكَانُوا يَحْذِفُونَ النَّاسَ بِالْحَصْبَاءِ فَيُعْوِرُونَهُمْ، وَإِذَا اجْتَمَعُوا فِي الْمَجَالِسِ أَظْهَرُوا الْمُنْكَرَ، وَإِخْرَاجُ الرِّيحِ مِنْهُمْ، وَاللَّطْمُ عَلَى رِقَابِهِمْ، وَكَانُوا يَرْفَعُونَ ثِيَابَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَغَوَّطُوا، وَيَأْتُونَ بِالطَّامَّةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ اللِّوَاطُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] ، وَالنَّادِي الْمَجَالِسُ وَالْمَحَافِلُ، وَمَنْ ارْتَقَى فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ حَالَةِ الْفُسُوقِ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ بَلَاءِ الزَّوَاجِ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ فَهَذِهِ وَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ، وَادِّعَاءُ الْعِصْمَةِ، وَهُوَ الْكُفْرُ، وَنَظِيرُ الشِّرْكِ فَاحْذَرْ مُجَالَسَتَهُمْ فَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ فَتْحُ بَابِ الْخِذْلَانِ، وَإِدْخَالُ الْهِجْرَانِ بَيْنَك وَبَيْنَ الْحَقِّ، ثُمَّ يُقَالُ: وَهَبْكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ قَدْ بَلَغْت رُتْبَةَ الشُّهَدَاءِ أَلَيْسَ قَدْ شَغَلْت ذَلِكَ الْقَلْبَ بِمَخْلُوقٍ، وَفِي الْحَدِيثِ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: حَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ سَكَنَهُ حُبُّ غَيْرِي أَنْ أُسْكِنَهُ حُبِّي» ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ فَنِهَايَةٌ فِي سِعَايَةِ الْهَوَى، وَمُخَادَعَةِ الْعَقْلِ، وَمُخَالَفَةِ الْعِلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الْهَوَى شَرُّ إلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الِاعْتِبَارِ {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 18] {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية: 19] {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 20] ، وَقَالَ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ} [الملك: 19] ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] فَعَدَلُوا عَمَّا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ إلَى مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ

فصل في الدف والرقص بالرجل وكشف الرأس وتخريق الثياب

بِقَوْلِهِ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] الْآيَةَ [فَصْلٌ فِي الدُّفُّ وَالرَّقْصُ بِالرِّجْلِ وَكَشْفُ الرَّأْسِ وَتَخْرِيقُ الثِّيَابِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الدُّفُّ، وَالرَّقْصُ بِالرِّجْلِ، وَكَشْفُ الرَّأْسِ، وَتَخْرِيقُ الثِّيَابِ فَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ أَنَّهُ لَعِبٌ، وَسُخْفٌ، وَنَبْذٌ لِلْمُرُوءَةِ، وَالْوَقَارِ، وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَالصَّالِحُونَ رَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ مَجْلِسُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجْلِسَ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ، وَصَبْرٍ، وَأَمَانَةٍ لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ، وَلَا تُؤَبَّنُ فِيهِ الْحُرُمُ، يَتَوَاصَوْنَ فِيهِ بِالتَّقْوَى مُتَوَاضِعِينَ يُوَقِّرُونَ فِيهِ الْكَبِيرَ، وَيَرْحَمُونَ فِيهِ الصَّغِيرَ، وَيُؤْثِرُونَ ذَا الْحَاجَةِ، وَيَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيِّنَ الْجَانِبِ سَهْلَ الْخُلُقِ دَائِمَ الْبِشْرِ لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا فَحَّاشٍ، وَلَا عَيَّابٍ، وَلَا مَزَّاحٍ يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا يَشْتَهِي قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ: الْمِرَاءِ، وَالْإِكْثَارِ، وَمَا لَا يَعْنِيهِ، وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثَلَاثٍ: كَانَ لَا يَذُمُّ أَحَدًا، وَلَا يُعَيِّرُهُ، وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ، وَإِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ فَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا لَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ، وَمَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ يَعْنِي يَسْكُتُونَ، وَيَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ، وَالطَّيْرُ لَا يَسْقُطُ إلَّا عَلَى سَاكِنٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي السَّمَاعِ وَالرَّقْصِ شَيْءٌ يُذَمُّ إلَّا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ بَنُو إسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى فَجَعَلُوا يُغَنُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُصَفِّقُونَ، وَيَرْقُصُونَ فَبَقِيَ حَالُهُمْ كَذَلِكَ إلَى أَنْ جَاءَهُمْ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَوَقَعَ مِنْ قِصَّتِهِمْ مَا قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَهُمْ أَصْلٌ لِمَا ذُكِرَ، وَمَا كَانَ هَذَا أَصْلُهُ فَيَنْبَغِي بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَهْرُبَ مِنْهُ، وَيُوَلِّي الظَّهْرَ عَنْهُ إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ تَغْيِيرِهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ، وَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» قَالَ: الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

فصل في تفسير ومن الناس من يشتري لهو الحديث

هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ قُرَّةَ أَعْيُنِهِمْ فِي الْغِنَاءِ، وَاللَّهْوِ، وَالنَّظَرِ فِي وُجُوهِ الْمُرْدِ. (فَصْلٌ) وَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَمَّا تَمْزِيقُ الثِّيَابِ فَهُوَ يَجْمَعُ إلَى مَا فِيهِ مِنْ السَّخَافَةِ - إفْسَادَ الْمَالِ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ» ، وَقَالَ: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا فَقَالُوا: إنَّهَا مَيِّتَةٌ قَالَ: إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيُحْجَرُ عَلَى السُّفَهَاءِ، وَهُمْ الْمُبَذِّرُونَ لِأَمْوَالِهِمْ، وَمَا فِي السَّفَهِ أَعْظَمُ مِنْ تَمْزِيقِ الثِّيَابِ، وَقَالَ: أَنَسٌ رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رُقْعَةً، وَاحِدَةٌ مِنْهَا مِنْ أَدِيمٍ أَحْمَرَ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ فَقَالَ: إنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ مَنْ أَصْلَحَ مَالَهُ فَقَدْ صَانَ الْأَكْرَمَيْنِ دِينَهُ، وَعِرْضَهُ، وَتَمْزِيقُ الثِّيَابِ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى لَإِبْلِيسَ {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الإسراء: 64] ، وَإِذَا كَانَ الْكَسْبُ خَبِيثًا كَانَ مَآلُهُ إلَى مِثْلِهِ انْتَهَى كَلَامُ الطُّرْطُوشِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - [فَصْلٌ فِي تَفْسِيرِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ] (فَصْلٌ) وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] فَقَالَ: الْغِنَاءُ، وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ هُوَ الْغِنَاءُ، وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَمَكْحُولٌ، وَرَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ عَنْ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: وَالْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَزَادَ أَنَّ لَهْوَ الْحَدِيثِ الْمَعَازِفُ وَالْغِنَاءُ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغِنَاءُ بَاطِلٌ، وَالْبَاطِلُ فِي النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَأَلْت عَنْهُ مَالِكًا فَقَالَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] أَفَحَقٌّ هُوَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَنَّهُ قَالَ: «صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ فَاجِرَانِ أَنْهَى عَنْهُمَا: صَوْتُ مِزْمَارٍ، وَرَنَّةُ شَيْطَانٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ وَفَرَحٍ، وَرَنَّةٌ عِنْدَ مُصِيبَةٍ لَطْمُ خُدُودٍ، وَشَقُّ جُيُوبٍ» . وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْت بِكَسْرِ الْمَزَامِيرِ» خَرَّجَهُ أَبُو طَالِبٍ الْغَيْلَانِيُّ. وَخَرَّجَ ابْنُ بَشْرَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بُعِثْت بِهَدْمِ الْمَزَامِيرِ وَالطَّبْلِ» ، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ جَلَسَ إلَى قَيْنَةٍ يَسْمَعُ مِنْهَا صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اسْتَمَعَ إلَى صَوْتِ غِنَاءٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ الرُّوحَانِيِّينَ فَقِيلَ: وَمَا الرُّوحَانِيُّونَ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: قُرَّاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ. ، وَمِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِ» ؛ وَلِهَذِهِ الْآثَارِ وَغَيْرِهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ بِتَحْرِيمِ الْغِنَاءِ، وَهُوَ الْغِنَاءُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ الْمُشْتَهِرِينَ بِهِ الَّذِي يُحَرِّكُ النُّفُوسَ، وَيَبْعَثُهَا عَلَى الْهَوَى وَالْغَزَلِ وَالْمُجُونِ الَّذِي يُحَرِّكُ السَّاكِنَ، وَيَبْعَثُ الْكَامِنَ، فَهَذَا النَّوْعُ إذَا كَانَ فِي شِعْرٍ يُشَبَّبُ فِيهِ بِذِكْرِ النِّسَاءِ، وَوَصْفِ مَحَاسِنِهِنَّ، وَذِكْرِ الْخُمُورِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ اللَّهْوُ، وَالْغِنَاءُ الْمَذْمُومُ بِاتِّفَاقٍ فَأَمَّا مَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْفَرَحِ كَالْعُرْسِ وَالْعِيدِ، وَعِنْدَ النَّشَاطِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ كَمَا كَانَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ. فَأَمَّا مَا ابْتَدَعَهُ الصُّوفِيَّةُ الْيَوْمَ مِنْ الْإِدْمَانِ عَلَى سَمَاعِ الْأَغَانِي بِالْآلَاتِ الْمُطْرِبَةِ مِنْ الشَّبَّابَةِ وَالطَّارِ وَالْمَعَازِفِ وَالْأَوْتَارِ فَحَرَامٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَأَمَّا طَبْلُ الْحَرْبِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ النُّفُوسَ، وَيُرْهِبُ الْعَدُوَّ. ، وَذَكَرَ

أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ قَالَ: أَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الْغِنَاءِ وَعَنْ اسْتِمَاعِهِ، وَقَالَ: إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً وَوَجَدَهَا مُغَنِّيَةً كَانَ لَهُ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَائِرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى كَرَاهَةِ الْغِنَاءِ، وَالْمَنْعِ مِنْهُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقَدْ قَالَ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُغَنِّي وَالرَّقَّاصِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَجُوزُ فَأَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ ادَّعَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا فِي سُورَةِ سُبْحَانَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37] قَالَ: اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَمِّ الرَّقْصِ وَتَعَاطِيهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ: قَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الرَّقْصِ فَقَالَ {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37] ، وَذَمُّ الْمُخْتَالِ وَالرَّاقِصِ أَشَدُّ، وَالْمَرَحُ الْفَرَحُ أَوَلَسْنَا قِسْنَا النَّبِيذَ عَلَى الْخَمْرِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الطَّرَبِ وَالسُّكْرِ فَمَا بَالُنَا لَا نَقِيسُ الْقَضِيبَ وَتَلْحِينَ الشِّعْرِ مَعَهُ عَلَى الطُّنْبُورِ وَالطَّبْلِ لِاجْتِمَاعِهِمَا؟ ، فَمَا أَقْبَحُ ذَا لِحْيَةٍ سِيَّمَا إذَا كَانَ ذَا شَيْبَةٍ يَرْقُصُ وَيُصَفِّقُ عَلَى تَوْقِيعِ الْأَلْحَانِ وَالْقُضْبَانِ خُصُوصًا إذَا كَانَتْ أَصْوَاتَ نِسْوَانٍ وَوِلْدَانٍ، وَهَلْ يَحْسُنُ لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَوْتُ وَالسُّؤَالُ وَالْحَشْرُ وَالصِّرَاطُ، ثُمَّ مَآلُهُ إلَى إحْدَى الدَّارَيْنِ يَشْمُسُ بِالرَّقْصِ شُمُوسَ الْبَهَائِمِ، وَيُصَفِّقُ تَصْفِيقَ النِّسْوَةِ؟ وَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْت مَشَايِخَ فِي عُمْرِي مَا بَانَ لَهُمْ سِنٌّ مِنْ التَّبَسُّمِ فَضْلًا عَنْ الضِّحْكِ مَعَ إدْمَانِ مُخَالَطَتِي لَهُمْ. ، وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَمَاقَةً لَا تَزُولُ إلَّا بِاللَّعِبِ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] قَالَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَزَامِيرِ، وَالْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ، وَمَا كَانَ مِنْ صَوْتِ الشَّيْطَانِ أَوْ فِعْلِهِ، وَمَا يَسْتَحْسِنُهُ فَوَاجِبٌ التَّنَزُّهُ عَنْهُ. (فَصْلٌ) وَقَدْ حُكِيَ عَنْ إمَامِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

أَنَّهُ سُئِلَ لِحُضُورِ السَّمَاعِ فَأَبَى، ثُمَّ سُئِلَ فَأَبَى فَقِيلَ: لَهُ أَلَسْت كُنْت تَحْضُرُهُ قَالَ: مَعَ مَنْ، وَمِمَّنْ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَكَابِرِ أَنَّهُ سُئِلَ لِحُضُورِ السَّمَاعِ فَأَبَى فَقِيلَ: لَهُ أَتُنْكِرُ السَّمَاعَ قَالَ: وَمِثْلِي يُنْكِرُهُ، وَقَدْ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، وَمِنْكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الطَّيَّارُ، وَإِنَّمَا أُنْكِرُ مَا أُحْدِثَ فِيهِ. وَهَذَا كَمَا قَدْ سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْغِنَاءَ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالشِّعْرِ فَحَضَرَهُ هَذَا السَّيِّدُ لَمَّا أَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ حَدَثَ فِيهِ مَا حَدَثَ تَرَكَهُ، وَهَذَا أَيْضًا مُوَافِقٌ لِكَلَامِ الْجُنَيْدِ فِي قَوْلِهِ مَعَ مَنْ، وَمِمَّنْ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقَوَّالَ هُوَ شَيْخُ الْجَمَاعَةِ الَّذِي مِنْهُ يَسْتَمِدُّونَ، وَبِهِ يَقْتَدُونَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ بَعِيدَةٌ مِنْ سَمَاعِ هَذَا الزَّمَانِ لِمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ، وَقَدْ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ لِبَعْضِهِ، وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ حُضُورِ النِّسَاءِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُشْرِفَةِ عَلَيْهِ مِنْ سَطْحٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَسَمَاعِهِنَّ الْأَشْعَارَ الْمُهَيِّجَةَ لِلْفِتْنَةِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْمَلْذُوذَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحَرِّكُ عَلَيْهِنَّ سَاكِنًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْغِنَاءَ رُقْيَةُ الزِّنَا، وَهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ، سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهُنَّ طَرِيقٌ إلَى التَّوَصُّلِ إلَى الرِّجَالِ أَوْ الرِّجَالِ إلَيْهِنَّ فَأَعْظَمُ فِتْنَةً وَبَلِيَّةً سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُغَنِّي شَابًّا حَسَنَ الصُّورَةِ وَالصَّوْتِ، وَيَسْلُكُ مَسْلَكَ الْمُغَنِّيَاتِ فِي تَكْسِيرِهِمْ، وَسُوءِ تَقَلُّبَاتِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَرَكَاتِ الْمَذْمُومَةِ مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الزِّينَةِ بِلِبَاسِ الْحَرِيرِ وَالرَّفِيعِ مِنْ غَيْرِهِ، وَبَعْضُهُمْ يُبَالِغُ فِي أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ فَيَتَقَلَّدُ بِالْعَنْبَرِ بَيْنَ ثِيَابِهِ لِتُشَمَّ رَائِحَتُهُ مِنْهُ، وَيَجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فُوطَةً مِنْ حَرِيرٍ لَهَا حَوَاشٍ عَرِيضَةٌ مُلَوَّنَةٌ يُصَفِّفُهَا عَلَى جَبْهَتِهِ، وَلَهُمْ فِي اسْتِجْلَابِ الْفِتَنِ بِمِثْلِ هَذَا أُمُورٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ هَذَا الْمِسْكِينِ الَّذِي عَمِلَ السَّمَاعَ لَهُمْ، وَجَمَعَهُمْ لَهُ كَيْفَ يَطِيبُ خَاطِرُهُ أَوْ يَسْكُنُ بَاطِنُهُ بِرُؤْيَةِ أَهْلِهِ لِمَا ذُكِرَ إذْ إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ قَلَّ مَنْ يَسْلَمُ عِنْدَ سَمَاعِهَا أَوْ رُؤْيَتِهَا فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَيْنَ غِيرَةُ الْإِسْلَامِ أَيْنَ نَجْدَةُ الرِّجَالِ السَّادَةِ الْكِرَامِ؟ أَيْنَ الْهِمَمُ الْعَالِيَةُ الْعَفِيفَةُ عَنْ الْحَرَامِ؟ أَيْنَ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الْأَعْلَامِ؟

فَتَحَصَّلَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَضَرَ السَّمَاعَ مِنْ الرِّجَالِ، وَالشُّبَّانِ، وَمَنْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ سَمِعَهُمْ اُفْتُتِنَ، وَقَلَّ أَنْ يَرْضَى بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْحَلَالِ غَالِبًا فَتَتَشَوَّفُ نُفُوسُهُمْ إلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَصِلُ إلَى غَرَضِهِ الْخَسِيسِ، وَهِيَ الْبَلِيَّةُ الْعُظْمَى، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعَوَائِقِ الْمَانِعَةِ لَهُ فَيَكُونُ آثِمًا فِي قَصْدِهِ. وَلَوْ وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ لَرُجِيَتْ لَهُمْ التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ وَالْإِقَالَةُ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ، لَكِنَّ الْبَلِيَّةَ الْعُظْمَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِذَلِكَ، وَيَعْتَقِدُونَ بِهِ الْقُرْبَةَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سِيَّمَا إنْ عَمِلُوهُ بِسَبَبِ الْمَوْلِدِ فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فِي أَكْبَرِ الطَّاعَاتِ، وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَتُعْطِي هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الَّتِي انْتَحَلُوهَا أَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِالشَّعَائِرِ مِنْ سَلَفِهِمْ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْمِحَنِ، وَالْفِتَنِ، وَمِنْ الِابْتِدَاعِ، وَتَرْكِ الِاتِّبَاعِ -، وَبِالْجُمْلَةِ فَفِتْنَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَالرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ لَوْ قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: تَصَدَّقْ بِبَعْضِ مَا تُنْفِقُهُ فِيهِ عَلَى الْمُضْطَرِّينَ الْمُحْتَاجِينَ سَرَى الشُّحُّ بِذَلِكَ وَبَخِلَ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِوُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: خُبْثُ الْكَسْبِ غَالِبًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ وَجْهٍ خَبِيثٍ لَا يَخْرُجُ إلَّا فِي وَجْهٍ خَبِيثٍ مِثْلِهِ بِذَلِكَ جَرَتْ الْحِكْمَةُ. الثَّانِي: إيثَارُ الشَّهَوَاتِ، وَالْمَلَذَّاتِ. الثَّالِثُ: الرِّيَاءُ، وَالسُّمْعَةُ. الرَّابِعُ: مَحَبَّةُ الثَّنَاءِ، وَالْمَحْمَدَةِ، وَالْقِيلِ وَالْقَالِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْخَامِسُ: مَحَبَّةُ النُّفُوسِ فِي الظُّهُورِ عَلَى الْأَقْرَانِ. السَّادِسَةُ: أَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ خَالِصَةٌ لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا ذُو حَزْمٍ، وَمُرُوءَةٍ، وَإِخْلَاصٍ، فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ تَمَسَّكَ بِنُورِ الشَّرِيعَةِ، وَسَلَكَ مِنْهَاجَهَا، وَشَدَّ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَتَرَكَ كُلَّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ، وَعَمِلَ عَلَى خَلَاصِ مُهْجَتِهِ، وَأَهْلِهِ، وَوَلَدِهِ، وَلَا خَلَاصَ إلَّا بِالِاتِّبَاعِ، وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ - سَلَكَ اللَّهُ بِنَا الطَّرِيقَ الْأَرْشَدَ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ - بِمُحَمَّدٍ، وَآلِهِ (فَصْلٌ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُكَلَّفِ لَمْ يَبْقَ إلَّا فِي قِسْمَيْنِ: وَهُمَا الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ فَمَا

فصل في ترك الوقوف على أبواب أبناء الدنيا ومخالطتهم والتعرف بهم

بَالُك بِالْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ الْمُتَوَجِّه إلَى رَبِّهِ الَّذِي تَرَكَ الدُّنْيَا، وَشَهَوَاتِهَا، وَمَلْذُوذَاتِهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ فَهُوَ أَوْلَى وَأَوْجَبُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالسَّمَاعُ إذَا سَلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي بَابِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْجُنَيْدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: لَا يَصِيرُ السَّمَاعُ مُبَاحًا إلَّا بِعَشْرَةِ شُرُوطٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا، وَالْفَقِيرُ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ أَنْ يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ، وَيَتَّقِيَ مَوَاضِعَ الرَّيْبِ، وَيَسُدَّ عَنْ نَفْسِهِ أَبْوَابَ الْمَفَاسِدِ كُلَّهَا فَإِنَّهُ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَصَلَاحُهُ يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ، وَفَسَادُهُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ مُهْجَتَهُ، وَمُهْجَةَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالنُّهُوضِ إلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُنْدَبُ إلَيْهِ، وَيَتْرُكُ مَا عَدَا ذَلِكَ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ [فَصْلٌ فِي تَرْكُ الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَمُخَالَطَتِهِمْ وَالتَّعَرُّفِ بِهِمْ] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصُونَ حُرْمَةَ الْخِرْقَةِ الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا بِتَرْكِ الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَالتَّعَرُّفِ بِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قُبْحُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَالِمِ فَفِي حَقِّ الْفَقِيرِ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ إذْ إنَّهُ أَقْبَلَ عَلَى طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَتَرَكَ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا، فَوُقُوفُهُ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ نَقِيضُ طَرِيقِهِ وَمَقْصِدِهِ، بَلْ يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ فِي خَلْوَتِهِ، وَقَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ فَإِنْ تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُكْثِرْهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا: إذَا رَأَيْت الْأَمِيرَ عَلَى بَابِ الْفَقِيرِ فَاتَّهِمْ الْفَقِيرَ؛ لِأَنَّهُ مَا جَاءَ إلَّا لِنِسْبَةٍ حَصَلَتْ فِي الْفَقِيرِ مِنْ أَجْلِ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ الْأَمِيرُ لِحُصُولِ الْجِنْسِيَّةِ أَوْ كَمَا قَالُوا، وَقَدْ يَكُونُ الْفَقِيرُ لَا يَشْعُرُ بِمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ. حَتَّى لَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَمُرُّ لَهُ خَاطِرٌ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ الْتِفَاتٌ إلَيْهَا، وَإِذَا بِجُنْدِيٍّ يَدُقُّ الْبَابَ فَدَخَلَ إلَيْهِ، وَجَلَسَ يَتَحَدَّثُ مَعَهُ فِي الدُّنْيَا فَرَجَعَ الشَّيْخُ إلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ هَذِهِ عُقُوبَةٌ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ أَتَيْت، وَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْخَاطِرَ الَّذِي مَرَّ بِهِ فَتَابَ

إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَقْلَعَ عَنْهُ، وَإِذَا بِالْجُنْدِيِّ قَدْ قَامَ وَخَرَجَ مِنْ حِينِهِ. فَهَذِهِ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ وَسِيرَتُهُمْ الْحَسَنَةُ، وَهُمْ قُدْوَةٌ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ يَتَمَسَّكُ بِطَرِيقِهِمْ - أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يُخَالِفَ بِنَا عَنْ حَالِهِمْ - وَمَعَ هَذَا فَلَا نُنْكِرُ الِاجْتِمَاعَ بِهِمْ أَعْنِي إذَا جَاءُوا إلَى الْفَقِيرِ رَاغِبِينَ فَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِحُسْنِ الْبَشَاشَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَالْأَخْذِ مَعَ الْمُضْطَرِّينَ، وَالْمَسَاكِينِ فِيمَا نَزَلَ بِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ احْتِيَاجَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لِلْمُرِيدِ، وَخَطَرَهُ أَعْظَمُ مِنْ احْتِيَاجِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ إلَى الْمُرِيدِ الْمُنْقَطِعِ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ الْمِسْكِينَ أَقْرَبُ إلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ إذْ هُوَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ، وَالْمَسْكَنَةُ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ بِخِلَافِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ الشُّرُودُ عَنْ بَابِ رَبِّهِمْ لِأَجْلِ تَعَلُّقِهِمْ بِمَنْ هُوَ فَوْقَهُمْ أَوْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَيَحْتَاجُ الْمُرِيدَ إذَا أَتَوْا إلَيْهِ أَنْ يُبَاسِطَهُمْ لِكَيْ يَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى مَوْعِظَتِهِمْ وَسِيَاسَةِ أَخْلَاقِهِمْ لِيَسْرِقَ طِبَاعَهُمْ بِالرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ قَاصِدًا بِذَلِكَ وُقُوفَهُمْ بِبَابِ رَبِّهِمْ، وَإِرْشَادَهُمْ إلَيْهِ لَا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ؛ لِأَنَّ نَجَاةَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، فَإِذَا خَلَّصَ وَاحِدًا مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الْجِهَادِ، وَفِي الْجِهَادِ مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا فِيهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَغْتَنِمَ مَا سِيقَ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، وَيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى مَقَامِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ تَدْنِيسِهِ بِالتَّشَوُّفِ إلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ التَّعَزُّزِ بِعِزِّهِمْ الْفَانِي أَوْ الرُّكُونِ إلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الزَّائِلَةِ فَإِذَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُنَافِي قَضَاءَ حَوَائِجِ الْمُضْطَرِّينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّ لَهُ بِذَلِكَ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ سَاقَ إلَيْهِمْ خَيْرًا عَظِيمًا، وَمَعْرُوفًا جَسِيمًا لَكِنْ بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يُرِيهِمْ أَنَّ الْحَظَّ وَالْمَنْفَعَةَ وَالْحَاجَةَ الْكُبْرَى لَهُمْ فِي اسْتِقْضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يُحَقِّقَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَاجَاتِ إلَيْهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ فَكَيْفَ مَعَ اطِّلَاعِهِ وَاطِّلَاعِهِمْ، وَهَذَا بَابٌ كَبِيرٌ مُتَّسِعٌ فَيَكْفِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفُقَرَاءُ السَّالِكُونَ مِمَّنْ مَضَى

مِنْهُمْ - نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ - قَدْ انْقَسَمُوا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَإِنْ وَقَعَ لِأَحَدِهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اسْتَعْمَلَ التَّحَيُّلَ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهُ. كَمَا حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ تَوَلَّى الْخِلَافَةَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ، وَيَرْجِعُ إلَيْهِ هَرَبَ مِنْهُ إلَى الْبِلَادِ، وَسَافَرَ إلَى مَوَاضِعَ لَا يُعْرَفُ فِيهَا فَبَقِيَ الْخَلِيفَةُ يَسْأَلُ عَنْهُ، وَيَبْحَثُ عَنْ أَمْرِهِ إلَى أَنْ اجْتَمَعَ بِهِ بَعْضُ مَنْ يَعْرِفُهُ فَتَكَلَّمَ مَعَهُ فِي أَنَّ اجْتِمَاعَهُ بِالْخَلِيفَةِ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ جَوَابُهُ أَنْ قَالَ: يُصْلِحُ مَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَتَيْته، وَجَلَسْت مَعَهُ، وَعَلَّمْته مَا لَمْ يَعْلَمْهُ أَوْ كَمَا قَالَ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَظْهَرَ التَّوَلُّهَ حِينَ إتْيَانِ السُّلْطَانِ إلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَ عَلَى بَابِهِ أَحْمَالًا مِنْ الْخُبْزِ فَوَضَعَهَا، وَجَلَسَ هُنَاكَ فَلَمَّا أَنْ رَأَى السُّلْطَانَ مُقْبِلًا أَخَذَ رَغِيفًا، وَجَعَلَ يَعَضُّ فِيهِ، وَيَأْكُلُ بِنَهِمَةٍ فَجَاءَ السُّلْطَانُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: هُوَ ذَا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ فَكَلَّمَهُ فَأَبَى عَنْ جَوَابِهِ فَسَأَلَهُ لِمَ لَا تَرُدُّ عَلَيَّ الْجَوَابَ فَقَالَ أَخَافُ أَنْ تَشْغَلَنِي عَنْ أَكْلِي أَوْ أَنْ تَأْكُلَ مَعِي فَيَذْهَبَ هَذَا الْخُبْزُ، وَأَنَا لَا أَشْبَعُ أَوْ كَمَا قَالَ فَرَجَعَ السُّلْطَانُ عَنْهُ، وَهَذَا بَابُ السَّلَامَةِ، وَلَا يُعْدَلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْءٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ بِهِمْ إذَا أَتَوْا إلَيْهِمْ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْإِتْيَانُ إلَيْهِمْ، وَفِيهِ خَطَرٌ مِنْ أَجْلِ مُخَالَطَتِهِمْ وَالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِهِمْ لِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ إذْ أَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ أَحَدُهُمَا حَسَنٌ، وَهُوَ قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّفْرِيجُ عَنْهُمْ وَالثَّانِي ضِدُّهُ، وَهُوَ إهَانَةُ خِرْقَةِ الْفَقِيرِ بِالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ لَا يَنْبَغِي، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا أَقْبَحَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الْعَالِمِ فَيُقَالُ: هُوَ بِبَابِ الْأَمِيرِ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْقُبْحُ فِي حَقِّ الْعَالِمِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي الْمُرِيدِ الَّذِي خَلَّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ يَطْلُبُهَا، وَتَوَجَّهَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالِانْقِطَاعِ إلَيْهِ؟ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ إلَّا أَنَّا مَأْمُورُونَ بِالتَّغْيِيرِ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ، وَالْوُقُوفُ بِبَابِهِمْ يُنَافِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَخْتَارُ الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ لَا يَقِفُ

بِبَابِهِمْ، وَلَا يَنْفِرُ مِنْهُمْ، بَلْ يَسْتَقْضِي حَوَائِجَ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْهُمْ إذَا أَتَوْا إلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَأْتِ مِنْهُمْ إلَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُرْسِلُ إلَيْهِ أَصْلًا، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ ضَرُورَةٌ، وَأَتَى إلَيْهِ يُحِيلُهُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالتَّوْبَةِ مِمَّا جَنَى، وَأَمَّا الْإِرْسَالُ إلَيْهِمْ فَكَانَ لَا يُرْسِلُ لِمَنْ يَعْرِفُ، وَلَا لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فَمَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ مِنْهُمْ إذَا جَاءَ ذِكْرٌ لَهُ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَأَزَالَهَا، وَهَذَا الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ هُوَ حَالُ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَعْنِي الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ هَذَا حَالُهُ مَعَ زِيَارَةِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الدُّنْيَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ يَأْتِي إلَى زِيَارَةِ الْمُرِيدِ يَنْقَسِمُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ - إتْيَانُ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لَهُ. وَالثَّانِي - زِيَارَةُ الْمُرِيدِينَ وَالصُّلَحَاءِ. وَالثَّالِثُ - زِيَارَةُ مَنْ شَارَكَهُ فِي الْخِرْقَةِ مِنْ جِهَةِ شَيْخِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعَالِمِ الَّذِي اهْتَدَى بِهَدْيِهِ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْقَى مَنْ أَتَاهُ بِرَحَبٍ، وَسَعَةِ صَدْرٍ، وَأَنْ يُكْثِرَ التَّوَاضُعَ لَهُمْ، وَيَرَى الْفَضْلَ لَهُمْ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلُوهُ، وَيَرَى نَفْسَهُ أَنَّهَا مُقَصِّرَةٌ فِي حَقِّهِمْ إذْ إنَّهُ قَعَدَ عَنْ زِيَارَتِهِمْ حَتَّى احْتَاجُوا إلَى زِيَارَتِهِ فَيُعَوِّضُ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَثْرَةَ الْأُنْسِ، وَإِظْهَارَ الْوُدِّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ بَاطِنًا كَمَا فَعَلَهُ ظَاهِرًا، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْأَدَبِ مَعَهُمْ بِتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ، وَاحْتِرَامِهِ، وَاللُّطْفِ بِصَغِيرِهِمْ فِي إرْشَادِهِ، وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِ وَتَهْيِئِ أَمْرِهِ لِلسُّلُوكِ وَالتَّرَقِّي، وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُخْرِجَ عَنْهُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إلَّا عَنْ أَكْلٍ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ عَنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَنْصَرِفُونَ إلَّا عَنْ ذَوَاقٍ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ إلَّا بِتَكَلُّفٍ مِثْلِ أَخْذِ دَيْنٍ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ فَالتَّرْكُ أَوْلَى بِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَهُ أَضْيَافٌ فَقَدَّمَ لَهُمْ خُبْزًا وَمِلْحًا، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّا نُهِينَا عَنْ التَّكَلُّفِ لَتَكَلَّفْت لَكُمْ لَكِنْ يُعَوِّضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إمْدَادُهُمْ فِي بَوَاطِنِهِمْ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِمْدَادِ فَيَدْعُو لَهُمْ بِظَاهِرِ الْغَيْبِ، وَلَعَلَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ - وَهُوَ الْغَالِبُ - مَنْ هُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ قَدْرًا، وَأَعْظَمُ شَأْنًا فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ إذْ ذَاكَ يَعُودُ عَلَيْهِ بَرَكَتُهُ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ «الْمَرْءَ إذَا دَعَا لِأَخِيهِ

فِي ظَاهِرِ الْغَيْبِ فَإِنَّ الْمَلَكَ يَقُولُ لَهُ: وَلَك مِثْلُ ذَلِكَ» أَوْ كَمَا وَرَدَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ حَاجَةٍ أَحْتَاجُهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ بِهَا لِنَفْسِي أَدْعُو بِهَا لِأَخِي فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ لِأَنِّي إذَا دَعَوْت لِنَفْسِي كَانَ الْأَمْرُ مُحْتَمَلًا لِلْقَبُولِ أَوْ ضِدِّهِ، وَإِذَا دَعَوْت لِأَخِي فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ فَالْمَلَكُ يَقُولُ: وَلَك مِثْلُ ذَلِكَ، وَدُعَاءُ الْمَلَكِ مُسْتَجَابٌ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَى زِيَارَةِ أَخِيهِ فَقَالَ لَهُ الْمَزُورُ: يَا أَخِي أَمَا كَانَ لَك شُغْلٌ بِاَللَّهِ عَنْ زِيَارَتِي فَقَالَ لَهُ الزَّائِرُ شُغْلِي بِاَللَّهِ أَخْرَجَنِي إلَى زِيَارَتِك. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ إذَا سَأَلَهُ أَحَدٌ مِنْ إخْوَانِهِ فِي حَاجَةٍ يَبْكِي، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ بُكَائِهِ فَقَالَ: أَبْكِي لِغَفْلَتِي عَنْ حَاجَةِ أَخِي حَتَّى احْتَاجَ أَنْ يُبْدِيَهَا لِي، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ هُوَ جَارٍ عَلَى جَادَّةِ غَالِبِ حَالِ النَّاسِ، وَبَعْضُ الْأَكَابِرِ يُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ مَا هُوَ فِي الْإِيثَارِ أَكْثَرُ وَأَعَمُّ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ اقْتِدَاءٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. كَمَا حَكَى لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ الْفَقِيهَ الْإِمَامَ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ جَاءَ إلَى زِيَارَةِ الْفَقِيهِ الْإِمَامِ الْمُحَدِّثِ الْمَعْرُوفِ بِالظَّهِيرِ التَّزْمَنْتِيِّ، وَكَانَ إذْ ذَاكَ مُنْبَسِطًا مَعَ مَنْ حَضَرَهُ فَلَمَّا أُخْبِرَ بِمَجِيءِ الْفَقِيهِ ابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ إلَى زِيَارَتِهِ انْقَبَضَ عَنْ ذَلِكَ، وَزَالَ بَسْطُهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُنْقَبِضٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ لَهُ إلَّا جَوَابًا فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ رَجَعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَسْطِ مَعَ مَنْ حَضَرَهُ فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ: اسْتَصْغَرْت نَفْسِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا السَّيِّدِ يَزُورُ مِثْلِي فَأَرَدْت أَنْ أُكَافِئَهُ بِبَعْضِ مَا يَسْتَحِقُّهُ فَوَجَدْتُ نَفْسِي عَاجِزَةً عَنْ مُكَافَأَتِهِ فَآثَرْته بِالْأَجْرِ كُلِّهِ حَتَّى يَكُونَ فِي صَحِيفَتِهِ دُونِي لِمَا وَرَدَ «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَأَكْثَرُهُمَا ثَوَابًا أَبَشُّهُمَا لِصَاحِبِهِ» فَآثَرْته بِذَلِكَ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، وَهَذَا لَهُ أَصْلٌ فِي الِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْت إذَا لَقِيتُ عَلِيًّا ابْتَدَأَنِي بِالسَّلَامِ فَلَقِيتُهُ الْيَوْمَ فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيَّ حَتَّى ابْتَدَأْته بِالسَّلَامِ

فصل في مواضع قبول الدعاء

فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ فَجَلَسَ، وَإِذَا بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَدْ جَاءَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِمَ لَمْ تَبْتَدِئْ أَبَا بَكْرٍ الْيَوْمَ بِالسَّلَامِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِمُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ فَقُلْت لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ فَقِيلَ: لِمَنْ يَبْتَدِئُ أَخَاهُ بِالسَّلَامِ فَأَرَدْت أَنْ أُوثِرَ الْيَوْمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى نَفْسِي» أَوْ كَمَا قَالَ. ، وَهَذَا أَعْظَمُ فِي الْإِكْرَامِ، وَأَبَرُّ فِي الِاحْتِرَامِ فَمَنْ كَانَتْ لَهُ اسْتِطَاعَةٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِيثَارِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لَكِنْ يُخَافُ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُنَفِّرَ النَّاسَ غَالِبًا عَنْ بَابِ رَبِّهِمْ، وَيُوقِعَهُمْ فِيمَا لَا يَنْبَغِي فَارْتِكَابُ الطَّرِيقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مَعَ مَنْ لَهُ رُسُوخٌ فِي السُّلُوكِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصْفُ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي مَوَاضِعُ قَبُولِ الدُّعَاءِ] (فَصْلٌ) اعْلَمْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ لِقَبُولِ الدُّعَاءِ مَوَاضِعَ عَدِيدَةً يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهَا لِيَعْرِفَ الْمُكَلَّفُ أَمَاكِنَهَا فَيَتَعَرَّضَ لَهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ اللَّهِ» فَمِنْ جُمْلَةِ النَّفَحَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ. وَالثَّانِي الْمُضْطَرُّ، وَهُوَ الْأَصْلُ لِعُمُومِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] ، وَهَذَا لَفْظٌ عَامٌّ دُونَ الِاتِّصَافِ بِصِفَةٍ دُونَ أُخْرَى، وَكَثِيرٌ مَنْ يَقَعُ لَهُ الْغَلَطُ وَالْوَهْمُ فِي هَذَا الْقِسْمِ فَيَرَى أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فَيَدْعُو فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُ فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيَقَعُ لَهُ الْجَوَابُ بِلِسَانِ الْحَالِ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] إذْ إنَّهُ لَوْ حَصَلَتْ لَهُ حَالَةُ الِاضْطِرَارِ مَا رُدَّ، وَمَا خُيِّبَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي الْحُسْنِ مَا كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مِثْلُهُ مِثْلُ مَنْ رَكِبَ فِي السَّفِينَةِ فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى رِيحٍ يَمْشِي بِهَا، وَإِلَى بَحْرٍ هَادٍ قَلِيلِ الْآفَاتِ لَكِنَّهُمْ مُطْمَئِنُّونَ بِسَفِينَتِهِمْ رَاكِنُونَ إلَيْهَا، وَفِي هَذَا السُّكُونِ مِنْ عَدَمِ الِاضْطِرَارِ مَا فِيهِ فَلَوْ جَاءَ الرِّيحُ الْعَاصِفُ، وَتَحَرَّكَ عَلَيْهِمْ هَوْلُ الْبَحْرِ لَكَانَ اضْطِرَارُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُمْ عِنْدَهُمْ قُوَّةٌ فِي أَنْفُسِهِمْ بِالسَّفِينَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ السَّلَامَةِ غَالِبًا فَلَوْ انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ مَثَلًا، وَبَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ جَمَاعَةٍ عَلَى لَوْحٍ

لَاشْتَدَّ اضْطِرَارُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ الثَّانِي - لَكِنَّهُمْ يَرْجُونَ السَّلَامَةَ لِمَا تَحْتَهُمْ مِنْ الْأَلْوَاحِ، وَذَلِكَ قَدْحٌ فِي حَقِيقَةِ اضْطِرَارِهِمْ فَلَوْ ذَهَبَتْ الْأَلْوَاحُ، وَبَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ لَا بَرٌّ يُرَى، وَلَا جِهَةٌ تُقْصَدُ، وَلَا لَوْحٌ يُرَامُ أَنْ يُصْعَدَ عَلَيْهِ فَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الِاضْطِرَارِ أَوْ كَمَا قَالَ. فَمَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهُوَ فِي حَالَةِ الِاتِّسَاعِ مِنْ أَمْرِهِ كَانَ مُضْطَرًّا حَقِيقَةً فَلَا يَشُكُّ، وَلَا يَرْتَابُ فِي إجَابَتِهِ، وَمَا وَقَعَ الْغَلَطُ إلَّا فِي صِفَةِ التَّحْصِيلِ لِهَذِهِ الصِّفَةِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الثَّالِثُ - مِنْ مَوَاطِنِ الْإِجَابَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ. الرَّابِعُ - عِنْدَ الْآذَانِ. الْخَامِسُ: عِنْدَ اصْطِفَافِ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ. السَّادِسَةُ - عِنْدَ اصْطِفَافِهِمْ لِلْجِهَادِ. السَّابِعُ - الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. الثَّامِنُ - الدُّعَاءُ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ حُضُورٌ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ الدَّاعِي. التَّاسِعُ - الدُّعَاءُ مِنْ الصَّائِمِ عِنْدَ إفْطَارِهِ. الْعَاشِرُ - الدُّعَاءُ مِنْ الْمُسَافِرِ عِنْدَ سَفَرِهِ. الْحَادِيَ عَشَرَ - وَهُوَ آكَدُهَا السَّاعَةُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا. الثَّانِيَ عَشَرَ - يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَلَيْلَتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ الثَّالِثَ عَشَرَ - لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهِيَ أُمُّ الْبَابِ، وَخِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ الرَّابِعَ عَشَرَ - الدُّعَاءُ مِنْ الْوَالِدَيْنِ لِوَلَدِهِمَا. الْخَامِسَ عَشَرَ - الدُّعَاءُ عِنْدَ حُدُوثِ الْخُشُوعِ، وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ، وَالْخَوْفِ، وَالْقَلِقِ، وَغَلَبَةِ الرَّجَاءِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا مَحَلٌّ لِلْإِجَابَةِ. السَّادِسَ عَشَرَ - وَهُوَ أَعْظَمُهَا، وَأَوْلَاهَا الدُّعَاءُ بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الِاتِّصَافِ بِحَالَةِ الِاضْطِرَارِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ قَوْله تَعَالَى {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وَ {الم} [آل عمران: 1] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111] ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: آخِرَ سُورَةِ الْحَشْرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ كَثِيرٌ. السَّابِعَ عَشَرَ - يَوْمُ عَرَفَةَ. الثَّامِنَ عَشَرَ - شَهْرُ رَمَضَانَ. التَّاسِعَ عَشَرَ -

فِي السُّجُودِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالدُّعَاءُ لَهُ أَرْكَانٌ، وَأَجْنِحَةٌ، وَأَسْبَابٌ، وَأَوْقَاتٌ فَإِنْ صَادَفَ أَرْكَانَهُ قَوِيَ، وَإِنْ صَادَفَ أَجْنِحَتَهُ طَارَ فِي السَّمَاءِ، وَإِنْ صَادَفَ أَسْبَابَهُ نَجَحَ، وَإِنْ صَادَفَ أَوْقَاتَهُ فَازَ فَمِنْ أَرْكَانِهِ الِاضْطِرَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَأَجْنِحَتُهُ قُوَّةُ الصِّدْقِ مَعَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا يَرْجُوهُ، وَيُؤَمِّلُهُ مِنْهُ وَيَخَافُهُ، وَأَسْبَابُهُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَوْقَاتُهُ الْأَسْحَارُ. وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ هُوَ عَلَى جَادَّةِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ فِي مَقَامِ الرِّضَى أَوْ مَا يُقَارِبُهُ فَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ فِي حَقِّهِ ذَنْبًا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ، وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ. كَمَا قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ تَجَاسَرْت الْبَارِحَةَ، وَسَأَلْت رَبِّي الْمُعَافَاةَ مِنْ النَّارِ، وَكَمَا حَكَى الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ الْمَقَامَاتِ نِلْت مِنْهَا شَيْئًا إلَّا هَذَا الرِّضَا فَإِنِّي مَا نِلْت مِنْهُ إلَّا مِقْدَارَ سَمِّ الْخِيَاطِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ أَخْرَجَ أَهْلَ جَهَنَّمَ أَجْمَعِينَ، وَأَدْخَلَهُ جَهَنَّمَ، وَمَلَأَهَا بِجَسَدِهِ، وَعَذَّبَهُ بِعَذَابِهِمْ أَجْمَعِينَ لَكَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا جَرَى لِلْكَلِيمِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ الْعَابِد، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَمْرُ رَاجِعٌ إلَى حَالِ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ الرِّضَا فِي حَقِّهِ أَوْلَى، وَأَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِهِ، وَمَا اخْتَصَّ بِهِ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ فِي وَقْتٍ آخَرَ الدُّعَاءُ، وَالتَّمَلُّقُ، وَإِظْهَارُ الْفَاقَةِ، وَالِاضْطِرَارُ، وَالْحَاجَةُ أَوْلَى، وَأَفْضَلَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَعَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ، ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ أَقْسَامِ الزَّائِرِ وَالْمَزُورِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ - الِاشْتِرَاكُ فِي الرَّضَاعَةِ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ، وَمَجَالِسِ الشُّيُوخِ فَمَنْ جَاءَهُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَهُوَ مِنْ الْخَاصَّةِ بِهِ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَرْضًا فَلْيَفْعَلْ إذْ إنَّ احْتِرَامَهُمْ احْتِرَامٌ لِشَيْخِهِ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ. وَآدَابُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ لَا تَنْحَصِرُ، وَلَا تَرْجِعُ إلَى قَانُونٍ، وَلَا يَقْدِرُ الْمُرِيدُ أَنْ يَقُومَ بِحَقِّهِ فِي الْغَالِبِ إذْ إنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِ الشَّيْخِ أَنَّهُ وَجَدَهُ فِي بِحَارِ الذُّنُوبِ، وَالْغَفَلَاتِ فَأَخْرَجَهُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَهُوَ أَمْرٌ

فصل في الخلوة عن الناس والانفراد بنفسه

لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُجَازِي عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى [فَصْلٌ فِي الْخَلْوَةُ عَنْ النَّاسِ وَالِانْفِرَادَ بِنَفْسِهِ] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَهَمُّ الْأُمُورِ عِنْدَهُ وَآكَدُهَا الْخَلْوَةَ عَنْ النَّاسِ، وَالِانْفِرَادَ بِنَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ سَبَبٌ لِلْفَتْحِ غَالِبًا، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَقْبَلَ مَا تُلْقِيهِ إلَيْهِ نَفْسُهُ أَوْ الشَّيْطَانُ مِنْ مَحَبَّةِ الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ أَوْ الْمَيْلِ إلَيْهِمْ أَوْ الْمَيْلِ إلَى رُؤْيَتِهِمْ فَإِنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ غَالِبًا عَلَى حُبِّ الرَّاحَةِ، وَالْبَطَالَةِ، وَهِيَ لَا تَجِدُ لِذَلِكَ سَبِيلًا مَعَ دَءُوبِ الْخَلْوَةِ، وَلَا تَجِدُ السَّبِيلَ إلَى أَنْ تَسْرِقَهُ أَوْ تَمِيلَ بِهِ عَمَّا هُوَ بِسَبِيلِهِ إلَّا بِسَبَبِ الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ غَالِبًا إذْ بِالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ تَجِدُ السَّبِيلَ إلَى الزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ فِيمَا يُرِيدُهُ، وَيَخْتَارُهُ، وَفِيهِ مِنْ الْخَطَرِ مَا فِيهِ أَوْ عَكْسُهُ، وَهُوَ الدَّاءُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ وَالتَّحَلُّلُ، وَكَانَ فِي غُنْيَةٍ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهَذِهِ دَسِيسَةٌ قَلَّ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا إلَّا مِنْ نَوَّرَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَالَاتِ لَهُ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أَخْلُو لِأَسْلَمَ مِنْ ضَرَرِي لِلنَّاسِ فَصِرْت أَخْلُو لِأَغْنَمَ فَصِرْت أَخْلُو لِأَفْهَمَ فَصِرْت أَخْلُو لِأَعْلَمَ فَصِرْت أَخْلُو لِأَتَنَعَّمَ. فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى هَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي انْتَقَلَ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ. فَأَوَّلُهَا: طَلَبُ سَلَامَةِ النَّاسِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ إذْ إنَّ طَلَبَ السَّلَامَةِ مِنْ النَّاسِ فِيهِ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ، وَوُقُوعٌ فِي حَقِّ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا خَلَا بِنَفْسِهِ لِكَيْ يَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ، وَبَصَرِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَطْشِهِ، وَسَعْيِهِ، وَحَسَدِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَوِرُهُ فِي خُلْطَتِهِ لَهُمْ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَسَلَامُهُ بِالْإِسْلَامِ حَيْثُ يَقُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَمَّا أَنْ حَصَلَ هَذَا الْمَقَامُ السَّنِيُّ تَرَقَّى بَعْدَهُ إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهُ، وَهُوَ حُصُولُ الْغَنِيمَةِ فَهُوَ فِي أَعْمَالِ الْآخِرَةِ يَنْتَهِبُهَا إذْ إنَّ الْخَلْوَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا أَعَانَتْهُ عَلَى افْتِرَاسِ ذَلِكَ، وَالنُّهُوضِ إلَيْهِ لِعَدَمِ الْعَائِقِ، ثُمَّ بَعْدَ حُصُولِ

هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ تَرَقَّى إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهُ، وَهُوَ الْفَهْمُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَاتِهِ، وَفِي أَحْكَامِهِ، وَفِي تَدْبِيرِهِ فِي خَلْقِهِ، وَإِحْسَانِهِ إلَى أَوْلِيَائِهِ، وَقُرْبِهِ مِنْهُمْ، وَعِلْمِهِ بِحَالِهِمْ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكَرِيمُ الَّذِي مَنَّ بِذَلِكَ، وَسَهَّلَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَالْفَهْمُ عَنْ اللَّهِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إشَارَةٌ مَا لِمَا عَدَا مَا ذُكِرَ، ثُمَّ انْتَقَلَ بَعْدَ هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهُ، وَهُوَ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ الْفَهْمِ إذْ إنَّهُ إذَا فَهِمَ عَلِمَ، وَهَذَا الْعِلْمُ عَامٌّ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْعِلْمِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ إذْ إنَّهُ لَا يُوجَدُ جَاهِلٌ بِأَحْكَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ عَالِمًا بِاَللَّهِ، وَالْعِلْمُ بِاَللَّهِ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إلَيْهِ بِخِلَافِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ لَهَا نِهَايَةً عَلَى مَا قَدْ عَلِمَ فَلَمَّا أَنْ حَصَّلَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ السَّنِيَّةَ انْتَقَلَ مِنْهَا إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهَا، وَهُوَ التَّنَعُّمُ فِي خَلْوَته، وَالتَّلَذُّذُ بِالطَّاعَاتِ الَّتِي يُحَاوِلُهَا إذْ إنَّهُ عَبْدٌ قَدْ خُلِعَتْ عَلَيْهِ خُلَعُ الْقُرْبِ فَاتَّصَفَ بِالْمَقَامَاتِ السَّنِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَلَا بَعْضَهَا إلَّا بِفَضْلِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَرَمِهِ وَامْتِنَانِهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَكَوْنُهُ خَلَعَ عَلَيْهِ دُونَهُمْ هَذَا فَضْلٌ عَمِيمٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ بِشُكْرِ بَعْضِهِ - اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ فَإِنَّك وَلِيُّهُ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ - بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَصَلَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ انْتَفَعَ بِنَفْسِهِ، وَانْتَفَعَ بِهِ مَنْ عَرَفَهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ. فَإِذَا حَصَلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ جَاءَتْهُ الْأَلْطَافُ تَتْرَى إذْ إنَّهُ تَشَبَّهَ فِيهِ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الَّذِينَ لَا يَأْكُلُونَ، وَلَا يَشْرَبُونَ، وَبِذِكْرِ رَبِّهِمْ يَتَنَعَّمُونَ إذْ إنَّ الذِّكْرَ لَهُمْ كَالنَّفَسِ لَنَا، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ تَكُونُ الْعِبَادَةُ لَهُ كَالْغِذَاءِ؛ لِأَنَّ الْغِذَاءَ جَمْعُ أَشْيَاءَ مِنْهَا شَهْوَةُ النَّفْسِ لِلْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَقَوَامِ الْبَدَنِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَمَنْ حَصَلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَقَدْ تَمَّ لَهُ النَّعِيمُ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَأْكُلُ أَكْلَةً فِي الشَّهْرِ، وَبَعْضَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَبَعْضَهُمْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَبَعْضَهُمْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَالِ التَّنَعُّمِ فِي الْخَلْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ انْقَطَعَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُرِيدِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوا الْآدَابَ فِي الْوُصُولِ إلَى هَذَا الْمَقَامِ فَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِمَنْ هُوَ فِيهِ

فَيَنْقَطِعُونَ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ هَذَا غِذَاؤُهُ بِالتَّنَعُّمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَقَدْ مَضَتْ حِكْمَةُ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ هَذَا الْبَدَنَ لَا قَوَامَ لَهُ إلَّا بِقُوتٍ، فَالْقُوتُ الْمَعْنَوِيُّ الَّذِي حَصَّلَهُ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَغْنَاهُ عَنْ الْقُوتِ الْحِسِّيِّ، وَهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوهُ، وَتَرَكُوا الْقُوتَ الْحِسِّيَّ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَكَفَّلَ لِهَذَا الْهَيْكَلِ بِرِزْقٍ لَا قَوَامَ لَهُ إلَّا بِهِ قَالَ: وَهَذَا الرِّزْقُ الَّذِي تَكَفَّلَ بِهِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَحْسُوسًا فَتَارَةً يَكُونُ مَحْسُوسًا وَتَارَةً يَكُونُ مَعْنَوِيًّا أَوْ كَمَا قَالَ، وَلِأَجْلِ الْجَهْلِ بِتَحْصِيلِ هَذَا الْقُوتِ الْمَعْنَوِيِّ حَصَلَ لِبَعْضِ مَنْ يَتَعَانَى كَثْرَةَ الْمُجَاهَدَةِ أَشْيَاءُ رَدِيئَةٌ مِثْلُ الْعَرْبَدَةِ أَوْ الْجُنُونِ أَوْ النَّشَّافِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ تَأَدَّبَ بِهَذِهِ الْآدَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَلْوَةِ يَغْلِبُ الرَّجَاءُ أَنَّهُ مِنْ النَّاجِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّهُ قَدْ كَانَ دَخَلَ فِي مُجَاهَدَةٍ بِنِيَّةِ أَمَدٍ مَعْلُومٍ فَلَمْ تَقْدِرْ نَفْسُهُ عَلَى إتْمَامِ الْمُدَّةِ، وَضَاقَ ذَرْعُهُ بِذَلِكَ قَالَ: فَأَرَدْت أَنْ أُفْطِرَ ثُمَّ حَصَلَتْ لِي عَزِيمَةٌ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ شَعَرَتْ نَفْسِي بِهَذِهِ الْعَزِيمَةِ غُشِيَ عَلَيْهَا فَرَأَيْت فِي تِلْكَ الْغَشْوَةِ كَأَنَّ إنْسَانًا يُطْعِمُنِي فَأَكَلْت حَتَّى شَبِعْت، ثُمَّ سَقَانِي فَشَرِبْت حَتَّى رُوِيت، ثُمَّ اسْتَفَقْت، وَأَنَا شَبْعَانُ رَيَّانُ فَقُمْت أَغْتَنِمُ الطَّاعَةَ مُبْتَدِرًا بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ فَفَرَغَتْ الْمُدَّةُ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ، ثُمَّ بَقِيت بَعْدُ مُدَّةً أُخْرَى كَذَلِكَ، وَلَوْ بَقِيت عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةَ الْعُمْرِ لَرَأَيْت أَنِّي لَا أَحْتَاجُ إلَى غِذَاءٍ بَعْدَهَا لَكِنْ رَجَعْت إلَى الْغِذَاءِ خَوْفًا مِنِّي عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ إذْ إنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِالْغِذَاءِ. هَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ لَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ، وَعَرَفَهُ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَبَرَكَةُ الْخَلْوَةِ لَا تَنْحَصِرُ، وَلَا تَقِفُ عَلَى حَدٍّ يُنْتَهَى إلَيْهِ كُلٌّ

فصل آكد ما عليه في خلوته النظر في الجهة التي يقتات منها

عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَمَرْتَبَتِهِ، وَأَقَلُّ فَوَائِدِهَا، بَلْ أَعْظَمُهَا وَزُبْدَتُهَا مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ الْخُشُوعِ وَتَصَاغُرِ النَّفْسِ وَالِاحْتِقَارِ بِهَا وَذَاتِهَا، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَسْكَنَتِهَا، وَقِلَّةِ حِيلَتِهَا، وَفَقْرِهَا، وَاضْطِرَارِهَا إلَى سَيِّدِهَا، وَمُدَبِّرِهَا، وَقَدْ سَأَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْأَعْمَشَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الْخُشُوعِ فَقَالَ: يَا ثَوْرِيُّ أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ إمَامًا لِلنَّاسِ، وَلَا تَعْرِفُ الْخُشُوعَ سَأَلْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ عَنْ الْخُشُوعِ فَقَالَ: يَا أُعَيْمِشٌ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ إمَامًا لِلنَّاسِ، وَلَا تَعْرِفُ الْخُشُوعَ لَيْسَ الْخُشُوعُ بِأَكْلِ الْجَشِيمِ، وَلَا بِلُبْسِ الْخَشِنِ، وَتَطَأْطُؤِ الرَّأْسِ لَكِنَّ الْخُشُوعَ أَنْ تَرَى الشَّرِيفَ وَالدَّنِيءَ سَوَاءً، وَأَنْ تَخْشَعَ لِلَّهِ فِي كُلِّ فَرْضٍ اُفْتُرِضَ عَلَيْك. وَالْغَالِبُ أَنَّ هَذَا قَلَّ أَنْ يَحْصُلَ إلَّا مَعَ كَثْرَةِ الْخَلْوَاتِ فَالْخَلْوَةُ نُورُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَبَهَاؤُهُ، وَعَلَيْهَا تُقَرَّرُ الْأَحْوَالُ السَّنِيَّةُ، وَالْمَرَاتِبُ الْعَلِيَّةُ فَلْيَشُدَّ الْمُرِيدُ يَدَهُ لِيَحْصُلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْبَرَكَاتِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ [فَصْلٌ آكَدُ مَا عَلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ النَّظَرُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يَقْتَاتُ مِنْهَا] (فَصْلٌ) : وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ النَّظَرُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يَقْتَاتُ مِنْهَا فَلْيَحْتَفِظْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا إذْ إنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ وُجُوهٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ يَعْرِفُ أَصْلَهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ أَوْ مِيرَاثًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ وُجُوهِ الْحِلِّ، فَهَذَا قَدْ لَطَفَ اللَّهُ بِهِ إذْ يَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ، وَانْقَطَعَ بِسَبَبِهِ إلَى الْخَلَوَاتِ وَبَرَكَاتِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْغَيْبِ فَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْآخَرُ بِوَاسِطَةٍ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ مِثْلُ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ مَلْطُوفٌ بِهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَخْشَى عَلَى بَعْضِ مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الدَّسَائِسِ الْوَارِدَةِ عَلَى النُّفُوسِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ لَا تَنْحَصِرُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَيْسِيرُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ مَخْلُوقٍ فَهَاهُنَا يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ. سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ - يَسُرُّ وَيَضُرُّ. الْقِسْمُ الثَّانِي - عَكْسُهُ لَا يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ - يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ - عَكْسُهُ يَضُرُّ وَلَا يَسُرُّ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي يَسُرُّ وَيَضُرُّ هُوَ الْفُتُوحُ الَّذِي يَأْتِي مِنْ جِهَةِ فَقِيرٍ مُحْتَاجٍ مُعْتَقِدٍ فَإِنْ أَنْتَ قَبِلْته مِنْهُ سُرَّ بِذَلِكَ، وَيَتَضَرَّرُ فِي نَفْسِهِ لِأَجْلِ فَقْرِهِ فَهَذَا يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ لَا يَرْزَأَهُ فِي شَيْءٍ، وَيَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِسِيَاسَةٍ حَتَّى لَا يَنْكَسِرَ خَاطِرُهُ أَوْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، وَيُكَافِئَهُ عَلَيْهِ بِمَا تَيَسَّرَ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُشَوِّشَ عَلَيْهِ بِدَفْعِ الْعِوَضِ لَهُ، بَلْ يُعَوِّضُهُ دُونَ إشْعَارٍ لَهُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي - وَهُوَ عَكْسُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ فَهُوَ الْفُتُوحُ الَّذِي يَأْتِي مِنْ عِنْدِ مَنْ لَهُ جِدَةٌ وَاتِّسَاعٌ، وَهُوَ مَسْتُورٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ، وَصَاحِبُهُ لَيْسَ بِمُعْتَقِدٍ فَإِنْ هُوَ أَخَذَهُ مِنْهُ لَمْ يُسَرَّ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَضُرَّهُ أَخْذُهُ مِنْهُ فَالْمُرِيدُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي الْوَقْتِ. وَلَوْ قَدَرَ عَلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا لَكَانَ أَوْلَى بِهِ، وَأَرْفَعَ لِمَقَامِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ يَدُهُمْ هِيَ الْعُلْيَا. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ: الْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْعُلْيَا وَالسُّفْلَى: السَّائِلَةُ وَالْمَسْئُولَةُ. فَإِنْ كُنْت سَائِلًا فِي قَبُولِ مَعْرُوفِك فَيَدُك سُفْلَى، وَإِنْ كُنْت مَسْئُولًا فَيَدُك هِيَ الْعُلْيَا. وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يُخْرِجُ صَدَقَةً حَتَّى يَفُكَّ فِيهَا لَحْيَيْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا فَإِذَا هَمَّ الْمُكَلَّفُ بِإِعْطَاءِ صَدَقَةٍ، وَاعْتَوَرَتْهُ هَذِهِ الشَّيَاطِينُ وَغَلَبَهُمْ، وَأَتَاكَ بِمَعْرُوفِهِ فَإِنْ أَنْتَ رَدَدْته عَلَيْهِ فَقَدْ أَعَنْت الشَّيَاطِينَ عَلَيْهِ، وَقَدْ لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَهَا لِغَيْرِك فَيُحْرَمُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، وَتَجِدُ الشَّيَاطِينُ السَّبِيلَ إلَى تَقْصِيرِ يَدِهِ عَنْ الصَّدَقَةِ، وَإِنْ أَنْتَ قَبِلْتَ مِنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ أَعَنْتَهُ عَلَيْهِمْ، وَيَئِسُوا مِنْهُ فَقَدْ حَصَلَ لَك بِذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَدُ الْآخِذِ هِيَ الْعُلْيَا، وَالْحَالَةُ هَذِهِ. ثُمَّ مَعَ مَا تَقَدَّمَ يَحْصُلُ لِأَخِيك الْمُؤْمِنِ مِنْ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ

مَا يَعْجِزُ عَنْ وَصْفِهِ. يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا حُكِيَ أَنَّ شَابًّا جَاءَ إلَى شَيْخِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَإِمَامِهَا الْجُنَيْدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: لَهُ أَنَا جَائِعٌ فَهَلْ مَنْ يُطْعِمُنِي؟ فَقَامَ إنْسَانٌ مِمَّنْ لَهُ اتِّسَاعٌ فَقَالَ: عِنْدِي فَأَخَذَ الشَّابَّ، وَمَضَى مَعَهُ إلَى بَيْتِهِ، وَقَدَّمَ لَهُ طَعَامًا كَانَ الشَّابُّ يَشْتَهِيهِ فَمَدَّ يَدَهُ فَرَفَعَ لُقْمَةً، وَبَقِيَ بِهَا فِي يَدِهِ لَحْظَةً فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ كُلْ فَاللُّقْمَةُ إذَا أَكَلْتهَا عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا فَوَضَعَ الْفَقِيرُ اللُّقْمَةَ مِنْ يَدِهِ، وَخَرَجَ وَلَمْ يَأْكُلْ عِنْدَهُ شَيْئًا، وَأَتَى إلَى الْجُنَيْدِ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى فَقَامَ فَقِيرٌ فَقَالَ عِنْدِي فَذَهَبَ مَعَهُ فَقَدَّمَ لَهُ خُبْزًا وَبَصَلًا فَأَكَلَ حَتَّى شَبِعَ، ثُمَّ رَجَعَ فَجَاءَ الْأَوَّلُ إلَى الْجُنَيْدِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الشَّابُّ سَأَلَهُ الْجُنَيْدُ هَلْ أَكَلْت؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ لَهُ: وَمَا أَكَلْت؟ قَالَ: خُبْزًا وَبَصَلًا فَقَالَ لَهُ، وَمَا قَدَّمَ لَك هَذَا قَالَ لَهُ: قَدَّمَ لِي طَعَامًا مُفْتَخَرًا فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَك مِنْ أَكْلِهِ؟ فَقَالَ لَهُ كُنْت جَائِعًا فَرَفَعْت اللُّقْمَةَ، وَأَنَا أَتَخَيَّرُ أَيَّ قَصْرٍ آخُذُهُ فِي الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ، وَإِذَا هُوَ قَدْ قَالَ: اللُّقْمَةُ إذَا أَكَلْتهَا عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا فَاسْتَحْيَيْت مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ آكُلَ طَعَامَ رَجُلٍ خَسِيسِ الْهِمَّةِ لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إلَّا فِي الدُّنْيَا فَتَرَكْتُهُ وَمَضَيْت، وَأَمَّا هَذَا فَنِيَّتُهُ أَنْ لَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا فَهُوَ يَسْتَقِلُّهَا تَقْدِيمًا أَوْ كَمَا قَالَ. فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تُشْعِرُك بِأَنَّ الْآخِذَ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ يَدُهُ هِيَ الْعُلْيَا إذْ إنَّهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ يُعْطِي مَا يَبْقَى، وَيَأْخُذُ مَا يَفْنَى فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ تَجِدْهُ صَوَابًا، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَسْتُورٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا لِسَانُ الْوَرَعِ فَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ مُتَعَذَّرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَالِبًا فَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنَّهُ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيُقِيمُ فِي الْبَرَارِي، وَالْقِفَارِ أَوْ يَكُونُ خَرَقَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْعَادَةَ فَلَا يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ - وَهُوَ الَّذِي يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ فَهُوَ الْفُتُوحُ الَّذِي يَأْتِي عَلَى يَدِ بَعْضِ الْإِخْوَانِ الْمُعْتَقِدِينَ الَّذِي يَعْرِفُ سَبَبَهُمْ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَسَارِ فَإِنْ أُخِذَتْ مِنْهُمْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ السُّرُورُ بِذَلِكَ، وَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِهِ. فَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْسَامِ كُلِّهَا وَأَسْلَمُهَا مِنْ الْآفَاتِ الْمُتَوَقَّعَةِ

وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ - وَهُوَ الَّذِي يَضُرُّ وَلَا يَسُرُّ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِوَصْفَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا لِمَا يُعْطِيهِ. وَالثَّانِي - عَدَمُ اعْتِقَادِ الدَّافِعِ لِلْمَدْفُوعِ لَهُ فَإِنْ أَنْتَ قَبِلْت مِنْهُ مَا أَتَاك بِهِ تَضَرَّرَ بِذَلِكَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَلَا تُدْخِلُ عَلَيْهِ سُرُورًا لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِ لَك، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْتَزَمَ فِي نَفْسِهِ طَرِيقَةً غَرِيبَةً قَلَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْبَلُ صَدَقَةً وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا، وَلَا يَقْبَلُ شَيْئًا مِنْ أَرْبَابِ الْخَدَمِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا، وَإِنْ قَلَّتْ خِدْمَتُهُ، وَإِنْ تَحَرَّزَ مَا أَمْكَنَهُ، وَمَنْ أَهْدَى لَهُ مِنْ الْإِخْوَانِ الْمُعْتَقِدِينَ فَيَخْتَلِفُ حَالُهُ فِي ذَلِكَ فَبَعْضُهُمْ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَتَى بِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَقْبَلُ مِنْهُ، ثُمَّ يُعَوِّضُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ بِلُطْفٍ وَسِيَاسَةٍ، وَمَا أَتَاهُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْوَانِ الْمُتَسَبِّبِينَ الْمُعْتَقِدِينَ نَظَرَ إلَى اكْتِسَابِهِمْ. فَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا بِلِسَانِ الْعِلْمِ نَظَرَ فِي حَالِ صَاحِبِهِ هَلْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ سُرُورٌ بِالْأَخْذِ مِنْهُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ سَوَاءٌ عِنْدَهُ أَخَذَ مِنْهُ أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ يَنْكَسِرُ خَاطِرُهُ عِنْدَ الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَيَنْجَبِرُ خَاطِرُهُ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ السُّرُورُ حِينَ الْأَخْذِ مِنْهُ أَخَذَهُ مِنْهُ فَمَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ الَّذِي يُقْبَلُ مِنْهُ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ غَرِيبَةٌ عَزِيزَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا مَنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ يُقَارِبُهُ لَا جَرَمَ أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَهْلُهُ، وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى فَلَقَدْ كَانَ يَأْخُذُ بِفَلْسٍ لَيْمُونًا فَيَأْتَدِمُ بِهِ غَدْوَةً، وَعَشِيَّةً هُوَ وَأَهْلُهُ. وَقَدْ بَقِيَ أَهْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ يَتَقَوَّتُونَ بِهِ فَأَخَذَ ثَوْبًا، وَدَخَلَ بِهِ إلَى الْبَلَدِ لِيَبِيعَهُ فَلَمْ يَدْفَعْ أَحَدٌ فِيهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ زِيِّ الْمَغَارِبَةِ فَرَدَّهُ، وَجَاءَ إلَى الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَدْخُلْ الْبَيْتَ خَشْيَةً مِنْ الْأَوْلَادِ أَنْ يَنْقَطِعَ رَجَاؤُهُمْ مِنْ الْقُوتِ إذْ ذَاكَ فَيَزِيدَ قَلَقُهُمْ فَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَادُ قَدْ نَامُوا فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ، وَجَدَهُمْ مَسْرُورِينَ يُكْثِرُونَ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا أَكَلَ خَرُوفًا، وَهُمْ فِي الشِّبَعِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُونَ

فصل في ذكر ما ابتلي به بعض من ينسب إلى طريق القوم

إلَى زِيَادَةٍ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ. وَبَقِيَ أَمْرُهُمْ كَذَلِكَ مُدَّةً حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَنْوَاعُ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَهُوَ بَابٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا الْأَفْرَادُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ صَبَرَ فِي نَفْسِهِ فَالْأَهْلُ وَالْأَوْلَادُ لَا يَصْبِرُونَ فِي الْغَالِبِ فَإِنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْعَارِفُ مَنْ أَخَذَ نَفْسَهُ بِالْوَرَعِ، وَأَطْلَقَ غَيْرَهُ فِي مَيْدَانِ الْعِلْمِ، وَمَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ - نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ، وَرَزَقَنَا التَّصْدِيقَ بِأَحْوَالِهِمْ - إذْ لَمْ نَكُنْ أَهْلًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّك بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى طَرِيقِ الْقَوْم] . (فَصْلٌ) : فِي ذِكْرِ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى طَرِيقِ الْقَوْمِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَعَلَّقَتْ خَوَاطِرُهُمْ بِفِعْلِ الْكِيمْيَاءِ، وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَدْفُونَةِ فِيهَا، وَهِيَ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَى تَسْمِيَتِهَا بِالْمَطَالِبِ، وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْض النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ تَعَانِيهِمْ اسْتِخْرَاجَ مَا فِي الْأَرْضِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا قَبِيحٌ لَوْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْعَوَامّ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمُرِيدِ أَقْبَحُ وَأَشْنَعُ إذْ إنَّهُ خَلَّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ بِكُلِّيَّتِهِ لَا مَطْلَبَ لَهُ سِوَاهَا، وَتَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَشْهَدُ بِكَذِبِهِ فِي طَرِيقِهِ مِنْ دَعْوَاهُ الِانْقِطَاعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ مَعَ أَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِهَذَا فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ فِيمَا يَظْهَرُ الْفَقْرُ الْمُدْقِعُ، وَالدُّيُونُ الْكَثِيرَةُ، وَمُخَالَطَةُ مَنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ فِي دِينِهِ، وَدُنْيَاهُ، وَذَلِكَ سَبَبٌ كَبِيرٌ إلَى وُقُوعِ النَّاسِ فِي عِرْضِ مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ بِسَبَبِ تَعَاطِيه مَا يُوقِعُ النَّاسَ فِيهِ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي إثْمِ وَقِيعَتِهِمْ فِيهِ، وَقَدْ يَئُولُ أَمْرُ فَاعِلِ ذَلِكَ إلَى الْحَبْسِ وَالْإِهَانَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الذَّمِّ إلَّا أَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِحُبِّ الدُّنْيَا، وَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا فَهُوَ قَالٍ لِلْآخِرَةِ إذْ إنَّهُمَا ضَرَّتَانِ مُتَنَافِرَتَانِ فَمَهْمَا أَقْبَلَ الْإِنْسَانُ عَلَى إحْدَاهُمَا أَضَرَّ بِالْأُخْرَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الذَّمِّ إلَّا مَا وَرَدَ «مَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا يُنَادَى عَلَيْهِ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا أَحَبَّ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِعْلُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي هَرَبِهِمْ مِنْ الدُّنْيَا خِيفَةً مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا، وَمَنْ طَلَبَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ مُسْتَشْرِفٌ لِطَلَبِهَا، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ يَذْهَبُ بِجَمِيعِ خَاطِرِهِ، وَاشْتِغَالِهِ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ، وَدُنْيَاهُ بَلْ كَانُوا يَعُدُّونَ الدُّنْيَا إذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً نَزَلَتْ بِهِمْ. وَقَدْ مَضَتْ حِكَايَةُ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا جَرَى لَهُ فِي الْعَطَاءِ الَّذِي أَتَاهُ، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَدْ حُكِيَ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَرَّ فِي سِيَاحَتِهِ وَمَعَهُ الْحَوَارِيُّونَ بِمَوْضِعٍ فِيهِ ذَهَبٌ كَثِيرٌ فَنَظَرَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَيْهِ، وَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ: اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْقَاتُولِ، وَمَرَّ فِي سِيَاحَتِهِ فَتَخَلَّفَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ، وَقَالُوا: إلَى أَيْنَ هَذَا الْمَقْصُودُ؟ أَوْ كَمَا قَالُوا. فَقَسَمُوا ذَلِكَ أَثْلَاثًا فَجَلَسَ اثْنَانِ يَحْرُسَانِ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَا ثَالِثَهُمَا إلَى الْبَلَدِ لِيَأْتِيَ بِالدَّوَابِّ وَالْأَعْدَالِ وَمَا يَأْكُلُونَهُ فَلَمَّا أَنْ مَضَى لِذَلِكَ تَحَدَّثَ الِاثْنَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَقَالَا: لَوْ كَانَ هَذَا الْمَالُ بَيْنَنَا لَكَانَ أَوْلَى، ثُمَّ قَالَا: وَكَيْفَ الْحِيلَةُ؟ فَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَ يَقُومَانِ إلَيْهِ، وَيَقْتُلَانِهِ، وَيَبْقَى الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَالَ الثَّالِثُ الَّذِي ذَهَبَ إلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ: مِثْلَ قَوْلِهِمَا فَقَالَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ كُلُّهُ لِي لَكَانَ أَوْلَى، ثُمَّ قَالَ: وَكَيْفَ الْحِيلَةُ؟ فَخَطَرَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ سُمًّا فِي الْغِذَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ فَيَأْكُلَانِهِ فَيَمُوتَا فَيَأْخُذُ الْمَالَ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ فَفَعَلَ فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلَ عَلَى صَاحِبَيْهِ، وَثَبَا إلَيْهِ فَقَتَلَاهُ، ثُمَّ أَكَلَا مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْغِذَاءِ فَمَاتَا فَبَقِيَ الثَّلَاثَةُ هُنَاكَ مَطْرُوحِينَ فَلَمَّا أَنْ رَجَعَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ سِيَاحَتِهِ، وَمَرَّ بِهِمْ فَوَجَدَهُمْ هُنَاكَ طَرْحَى فَقَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ هَذَا الْقَاتُولُ،. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اتَّصَفَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَرْبُو عَلَى الْمُسْتَشْرِفِ فَتَرْتَفِعُ الْبَرَكَةُ

مِنْهُ فَطَلَبُ الْمُرِيدِ وَغَيْرِهِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهَا يُذْهِبُ الْبَرَكَةَ مِنْهَا، وَالْمَقْصُودُ حُصُولُ الْبَرَكَةِ، وَأَنَّهَا إذَا عُدِمَتْ مِنْ الشَّيْءِ لَوْ كَانَ مِلْءَ الْأَرْضِ مَا أَغْنَى صَاحِبَهُ لِعَدَمِهَا مِنْهُ، وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ الْجَلِيلُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْحِلْيَةِ لَهُ فِي تَرْجَمَةِ طَاوُسِ بْنِ كَيْسَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعُ بَنِينَ فَمَرِضَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: إمَّا أَنْ تُمَرِّضُوهُ، وَلَيْسَ لَكُمْ فِي مِيرَاثِهِ شَيْءٌ: وَإِمَّا أَنْ أُمَرِّضَهُ، وَلَيْسَ لِي فِي مِيرَاثِهِ شَيْءٌ قَالُوا: مَرِّضْهُ، وَلَيْسَ لَك فِي مِيرَاثِهِ شَيْءٌ قَالَ: فَمَرَّضَهُ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْئًا قَالَ فَأُتِيَ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ: لَهُ ائْتِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهُ مِائَةَ دِينَارٍ فَقَالَ فِي نَوْمِهِ أَفِيهَا بَرَكَةٌ؟ قَالُوا: لَا فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ، فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: خُذْهَا فَإِنَّ مِنْ بَرَكَتِهَا أَنْ نَكْتَسِي بِهَا وَنَعِيشَ مِنْهَا فَأَبَى فَلَمَّا أَمْسَى أُتِيَ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ: لَهُ ائْتِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهُ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ فَقَالَ: أَفِيهَا بَرَكَةٌ؟ قَالُوا: لَا فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ فَقَالَتْ لَهُ: مِثْلَ مَقَالَتِهَا الْأُولَى فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا فَأُتِيَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَقِيلَ: لَهُ ائْتِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهُ دِينَارًا قَالَ أَفِيهِ بَرَكَةٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ فَذَهَبَ فَأَخَذَ الدِّينَارَ ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إلَى السُّوقِ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ يَحْمِلُ حُوتَيْنِ فَقَالَ: بِكَمْ هُمَا؟ قَالَ: بِدِينَارٍ قَالَ: فَأَخَذَهُمَا مِنْهُ بِدِينَارٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمَا إلَى بَيْتِهِ فَلَمَّا دَخَلَ بَيْتَهُ شَقَّ بَطْنَهُمَا فَوَجَدَ فِي بَطْنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دُرَّةً لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا قَالَ فَبَعَثَ الْمَلِكُ يَطْلُبُ دُرَّةً لِيَشْتَرِيَهَا فَلَمْ تُوجَدْ إلَّا عِنْدَهُ فَبَاعَهَا بِوَقْرِ ثَلَاثِينَ بَغْلًا ذَهَبًا فَلَمَّا رَآهَا الْمَلِكُ قَالَ مَا تَصْلُحُ هَذِهِ إلَّا بِأُخْتِهَا فَاطْلُبُوا أُخْتَهَا، وَإِنْ أَضْعَفْتُمْ قَالَ فَجَاءُوهُ فَقَالُوا: أَعِنْدَك أُخْتُهَا، وَنُعْطِيك ضِعْفَ مَا أَعْطَيْنَاك قَالَ: وَتَفْعَلُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ فَأَعْطَاهُمْ إيَّاهَا بِضِعْفِ مَا أَخَذُوا بِهِ الْأُولَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى هَذِهِ الْبَرَكَةِ مَا أَعْظَمُهَا أَيْنَ هَذَا مِنْ الْمِائَةِ دِينَارٍ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِ أَوَّلًا. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْبَرَكَةَ كَامِنَةٌ فِي امْتِثَالِ السُّنَّةِ حَيْثُ كَانَتْ؛ لِأَنَّ

مَنْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا فَالِاسْتِشْرَافُ مِنْهُ بَعِيدٌ، وَإِذَا عُدِمَ الِاسْتِشْرَافُ حَلَّتْ الْبَرَكَةُ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ الْغَالِبِ عَلَيْهِمْ شَظَفُ الْعَيْشِ، وَقِلَّةُ ذَاتِ الْيَدِ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْبِقُهُمْ غَيْرُهُمْ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِوُجُودِ الْبَرَكَةِ الْحَاصِلَةِ مَعَهُمْ فِيمَا يَتَنَاوَلُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لِعَدَمِ اسْتِشْرَافِهِمْ لِدُنْيَاهُمْ، وَاهْتِمَامِهِمْ بِأَمْرِ دِينِهِمْ، وَالْوُقُوفِ بِبَابِ رَبِّهِمْ، وَالتَّضَرُّعِ إلَيْهِ، وَلُزُومِ الِامْتِثَالِ لِأَوَامِرِهِ، وَالِاجْتِنَابِ لِنَوَاهِيهِ، وَالنُّزُولِ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ. وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّهُ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ، وَكَانَ يَصْحَبُ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ فَرَآهُ مَرَّةً وَهُوَ يَبْكِي وَيَتَضَرَّعُ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ مَا نَزَلَ بِهِ فَسَأَلْته عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَأَبَى عَنْ إجَابَتِهِ فَبَقِيَ كَذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ سَرَى عَنْهُ فَرَجَعَ إلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ قَالَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ مُوجِبِ بُكَائِهِ، وَسُرُورِهِ فَقَالَ: إنِّي كُنْت أَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاءِ، وَالْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَابْتُلِيت بِأَنِّي إذَا أَخَذْت حَجَرًا أَسْتَجْمِرُ بِهِ أَجِدُهُ ذَهَبًا فَأَرْمِيهِ، وَآخُذُ غَيْرَهُ فَأَجِدُهُ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ فَضَاقَ ذَرْعِي مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا نَزَلَ بِي فَبَقِيت أَتَضَرَّعُ اللَّهَ تَعَالَى فِي دَفْعِهِ حَتَّى أَزَالَهُ عَنِّي فَصِرْت آخُذُ الْحَجَرَ فَأَجِدُهُ حَجَرًا كَمَا هُوَ. وَقَدْ حَكَى لِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ قَالَ: فَكُنْت أَخْرُجُ مِنْ الْبَلَدِ فَأَرَى عِنْدَ السُّورِ صُنْدُوقًا مَفْتُوحًا مَمْلُوءًا ذَهَبًا قَالَ: فَكُنْت أُوَلِّي وَجْهِي عَنْهُ فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ الْتَفَتُّ إلَيْهِ، وَإِذَا بِيَدٍ مِنْ الْهَوَاءِ لَطَمَتْ وَجْهِي فَرَدَّتْهُ إلَى النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فَتُبْتُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا أَلْتَفِتَ إلَيْهِ بَعْدُ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَبِيتُ عَلَى مَعْلُومٍ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرَى فِي الْمَنَامِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: إنَّك لَبَخِيلٌ، وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِرَارًا فَلَمَّا أَنْ كَانَ لَيْلَةً، وَقِيلَ لَهُ: مَا قِيلَ آلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا فُتِحَ لَهُ مِنْ الْغَدِ بِشَيْءٍ يُعْطِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَلْقَاهُ كَائِنًا مَا كَانَ فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْغَدِ فُتِحَ لَهُ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ فَأَوَّلُ مَنْ لَقِيَهُ مِنْ الْغَدِ شَابٌّ، وَهُوَ عِنْدَ مُزَيِّنٍ يَحْلِقُ لَهُ رَأْسَهُ فَأَعْطَاهُ الصُّرَّةَ فَقَالَ لَهُ الشَّابُّ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَا عِنْدِي قُوتُ يَوْمِي فَقَالَ لَهُ

أَعْطِهَا فِي أُجْرَةِ الْمُزَيِّنِ فَقَالَ لَهُ الْمُزَيِّنُ قَدْ دَخَلْت عَلَى هَذَا الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا آخُذُ عَنْهُ عِوَضًا فَقَالَ لَهُ: خُذْهَا لَك دُونَ أُجْرَةٍ فَقَالَ لَهُ لَا حَاجَةَ لِي بِهَا فَقَالَ لَهُ هِيَ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ فَقَالَ لَهُ الْمُزَيِّنُ، أَمَا قَدْ قِيلَ لَك: إنَّك لَبَخِيلٌ فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ وَجْدًا شَدِيدًا، وَأَخَذَ الصُّرَّةَ فَرَمَى بِهَا فِي الْفُرَاتِ. فَإِذَا قِيلَ لِمِثْلِ هَذَا: بَخِيلٌ فَمَا بَالُك بِمَنْ يُنْسَبُ إلَى الطَّرِيقِ، وَيَطْلُبُ الْمَطَالِبَ، ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَ الْأَمْرُ لِآرَائِنَا، وَلَا لِمَا اصْطَلَحْنَا عَلَيْهِ مِنْ عَوَائِدِنَا، وَلَا لِمَا يَخْطِرُ مِنْ الْهَوَاجِسِ فِي أَنْفُسِنَا، بَلْ الْمَشْيُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي وَقَعَ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الزَّمَانِ لِغَلَبَةِ الْبُخْلِ فِيهِ، وَقِلَّةِ الْبَرَكَاتِ بِخِلَافِ زَمَانِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ إذْ أَنَّ الزَّمَانَيْنِ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالنُّزُولِ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ مَعَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيِّ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَقَعَ مِثْلُهُ كَثِيرًا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ الْمُسْتَشْرِفِ فَتَرْتَفِعُ الْبَرَكَةُ عَنْهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى. ثُمَّ اُنْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَكْثَرَ قُبْحَهَا، وَبَشَاعَتَهَا. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَقَعَ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَقَدْ جَرَّ ذَلِكَ إلَى تَسْلِيطِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى هَدْمِ كَثِيرٍ مِنْ بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاجِدِهِمْ بِسَبَبِ حَفْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ كَانَتْ لَهُ شَوْكَةٌ فَعَلَهُ جِهَارًا سَوَاءٌ كَانَتْ مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَمْلَاك الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شَوْكَةٌ عَمِلَ الْحِيَلَ الْكَثِيرَةَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَخْرَبَ، وَتُهْدَمَ، وَهَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ حَتَّى صَارَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُخَرِّبَ مَسْجِدًا أَوْ دَارَ مُسْلِمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَتَبَ فِي وَرَقَةٍ أَنَّ مَوْضِعَ كَذَا فِيهِ كَذَا وَكَذَا، وَيَكْتُبُ تَارِيخَهَا قَدِيمًا، وَيُبَخِّرُهَا حَتَّى تَبْقَى كَأَنَّهَا وَرَقَةٌ

عَتِيقَةٌ، ثُمَّ يُعَلِّقُهَا فِي مَوْضِعِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِسَبَبِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ إمَّا بِيَدِهِ الْبَاطِشَةِ أَوْ كَثْرَةِ التَّحَيُّلِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَخْرِيبِ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَدُورِهِمْ يَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى قَلَّ أَنْ تُحْفَرَ لَهُمْ دَارٌ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بِيعَةٌ، وَالْكُلُّ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَمَوْضِعٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ إذَا عَجَزُوا عَنْ تَخْرِيبِ الْمَسَاجِدِ وَالدُّورِ تَسَلَّطُوا عَلَى تَعَبِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَبْدَانِهِمْ وَخَسَارَتِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فَيَكْتُبُونَ أَوْرَاقًا فِي ذُرْوَةِ الْجَبَلِ الْفُلَانِيِّ مِنْ النَّاحِيَةِ الْفُلَانِيَّةِ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا إذَا حَفَرْت فِيهِ كَذَا وَكَذَا، وَقِسْت كَذَا وَكَذَا تَجِدُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا، وَفِي وَرَقَةٍ أُخْرَى الْغَارُ الْفُلَانِيُّ فِي جِهَةِ كَذَا، وَكَذَا مِنْهُ تَحْفِرُ قَدْرَ كَذَا وَكَذَا فَتَجِدُ كَذَا وَكَذَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ صَحِيحًا فَعَلَيْهِ الْمَهَالِكُ الْكَثِيرَةُ؛ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَلَمْ يَضَعُوا شَيْئًا إلَّا، وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ مَهَالِكَ عَظِيمَةً فَقَلَّ أَنْ يَصِلَ أَحَدٌ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِعَطَبِهِ، وَعَطَبِ غَيْرِهِ، ثُمَّ إنَّ مَا يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي فَيَافِي الْأَرْضِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ فَذَلِكَ فِيهِ الْخُمُسُ يُصْرَفُ فِي وُجُوهِهِ، وَبَاقِيهِ لِوَاجِدِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ لُؤْلُؤًا أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَدِيدًا أَوْ رَصَاصًا كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِيهِ الْخُمُسُ، وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمُسُ ثَلَاثَةٌ هَذَا وَاحِدٌ مِنْهَا. وَالثَّانِي - النُّدْرَةُ تُوجَدُ فِي الْمَعْدِنِ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ أَوْ بِمُؤْنَةٍ يَسِيرَةٍ. وَالثَّالِثُ - الْغَنِيمَةُ. وَأَمَّا مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ أَرْضِ الْعَرَبِ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أُخِذَ عَنْوَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أُخِذَ صُلْحًا فَإِنْ كَانَ عَنْوَةً فَهُوَ لِتِلْكَ الْجُيُوشِ الَّذِينَ فَتَحُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ثُمَّ لِأَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْغَالِبِ إذْ إنَّ أَوْلَادَ الصَّحَابَةِ مَوْجُودُونَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ صُلْحًا فَمَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهُوَ لِأَهْلِ الصُّلْحِ فَإِنْ عُدِمُوا فَلِأَوْلَادِهِمْ ثُمَّ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ، وَهُمْ أَيْضًا مَوْجُودُونَ، وَهَلُمَّ جَرًّا، وَلِلْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِ

فصل في الاشتغال بتحصيل علم الكيمياء

الْفُقَهَاءِ. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا: أَنَّ وَاجِدَهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ إلَّا التَّعَبَ وَإِشْغَالَ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ كَانَتْ عَنْهُ فِي غِنًى وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ هَلَاكِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْفِرَارُ مِنْ هَذَا، وَمَا شَاكَلَهُ إذْ إنَّ غَنِيمَةَ الْمُسْلِمِ إنَّمَا هِيَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وَمَنْ اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ قَلَّ أَنْ يَتَخَلَّصَ فَالسَّعِيدُ مَنْ لَجَأَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ اللَّطِيفُ الرَّحْمَنُ [فَصْلٌ فِي الِاشْتِغَالُ بِتَحْصِيلِ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِتَحْصِيلِ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ فَهُوَ مِنْ الْبَاطِلِ الْبَيِّنِ، وَالْغِشِّ الْمُتَعَدِّي ضَرَرُهُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا فَقَدْ خَلَطَ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ، وَبَخَسَهَا عَلَيْهِمْ إذْ إنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي فِعْلِهَا. فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهَا، وَلَا عِلْمَ عِنْدَهُ أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ بَعْدَ زَمَانٍ، وَذَلِكَ الزَّمَانُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ، وَيَغِشُّ النَّاسَ بِهَا فَيُشْغِلُونِ ذِمَّتَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ سُحْتٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَلَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ تَغْيِيرِهَا فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الذَّهَبَ الْمَعْدِنِيَّ، وَالْفِضَّةَ الْمَعْدِنِيَّةَ يَنْفَعَانِ لِأَمْرَاضٍ، وَلَهُمَا خَاصِّيَّةٌ فِي الْأَدْوِيَةِ، وَغَيْرُهُمَا يَعُودُ بِالضَّرَرِ عَلَى الْمَرِيضِ فَيَزِيدُهُ مَرَضًا أَوْ يَمُوتُ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْمَعْدِنِيِّ عَقَاقِيرُ قَدْ يُسْقِمُ بَعْضُهَا، وَقَدْ يَقْتُلُ بَعْضُهَا فَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ تَعَاطَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ شَغَلَ ذِمَّتَهُ بِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَدِمَائِهِمْ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ صَرْفَهَا لَا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَلَيْسَتْ بِمَعْدِنِيَّةٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ إجَازَةِ ذَلِكَ بَعْدَ الْبَيَانِ لَا يَسُوغُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ هُوَ فَمَنْ صَارَتْ إلَيْهِ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُبَيِّنُ، وَالِاحْتِرَازُ مِنْ هَذَا مُتَعَذِّرٌ. هَذَا وَجْهٌ وَوَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ صَنْعَةِ يَدِهِ تَمَزَّقَ عِرْضُهُ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَئُولُ إلَى سَفْكِ دَمِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُعْدَلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْءٌ. فَإِذَا سَلِمَ مِنْ الِاتِّصَافِ بِطَلَبِ الْمَطَالِبِ، وَالْكِيمْيَاءِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ خَلْطَةِ مَنْ يَتَعَانَى ذَلِكَ أَوْ يُشَارُ إلَيْهِ

بِشَيْءٍ مَا فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِاسْتِشْرَافِ نَفْسِهِ بِسَبَبِ سَمَاعِهِ مِنْهُمْ مَا يَخُوضُونَ فِيهِ، وَذَلِكَ يَذْهَبُ بِبَهَاءِ عِزَّةِ الْفَقْرِ، وَعِزَّةِ الْإِيَاسِ إذْ لَا بُدَّ لِمَنْ خَالَطَهُمْ أَنْ يَشْغَفَ بِشَيْءٍ مَا مِنْ حَالِهِمْ، وَلَوْ قَلَّ، وَذَلِكَ شُغْلٌ لِلْقَلْبِ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ التَّوَجُّهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْمَوْلَى الْكَرِيمِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ بِالْإِرَادَةِ الْهَرَبُ الْكُلِّيُّ مِمَّنْ يُشَارُ إلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُرِيدِ نَظِيفٌ جِدًّا، وَالتَّنْظِيفَ أَقَلُّ شَيْءٍ يُقَابِلُهُ مِنْ الْوَسَخِ يُؤَثِّرُ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ فِي الْغَالِبِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا وَقَعَ فِيهِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ الرَّفِيعِ الْأَبْيَضِ النَّظِيفِ فَإِنَّ أَقَلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يُدَنِّسُهُ.، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ فِي صِفَتِهِمْ: قَلَّتْ ذُنُوبُهُمْ لِمَعْرِفَتِهِمْ مِنْ أَيْنَ أُصِيبُوا، وَكَثُرَتْ ذُنُوبُ غَيْرِهِمْ فَلَمْ يَعْرِفُوا مِنْ أَيْنَ أُصِيبُوا، وَالْكِيمْيَاءُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ الرُّجُوعُ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالنُّزُولُ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ، وَطَلَبُ الْعَبْدِ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ، وَجَلَّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ يَسْتَحْيِ أَنْ يَرُدَّ يَدَيْ سَائِلِهِ صِفْرًا، وَقَدْ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي لَأَدْعُو اللَّهَ فِي صَلَاتِي لِحَوَائِجِي كُلِّهَا حَتَّى الْمِلْحَ لِعَجِينِي، وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَا مُوسَى سَلْنِي حَتَّى الْمِلْحَ لِعَجِينِك فَوَعِزَّتِي، وَجَلَالِي لَئِنْ مَنَعْتُك فَلَا أَحَدَ يُعْطِيك إيَّاهُ أَوْ كَمَا قَالَ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ، وَحَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَهُ إذَا انْقَطَعَ» . فَسَبِيلُ الْعَبْدِ طَلَبُ حَوَائِجِهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ جَاعَ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَا جَائِعٌ، وَكَذَلِكَ إنْ عَطِشَ أَوْ تَعَرَّى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِ كُلِّهَا فِي جَلْبِ النَّفْعِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل: 62] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] ، وَقَالَ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} [النساء: 122] . فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدَيْهِ، وَتَوَكَّلَ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى رَبِّهِ، وَأَنَابَ إلَيْهِ. فَإِذَا حَصَلَ لِلْمُرِيدِ هَذَا الْحَالُ فَلَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا

مَا قَبِلَهَا، وَلَا أَقْبَلَ عَلَيْهَا؛ لِمَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحُسْنِ نَظَرِهِ لَهُ إذْ إنَّ مَفَاتِيحَ هَدَايَاهُ لَا تَنْحَصِرُ، وَلَا تَرْجِعُ إلَى قَانُونٍ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ، وَلَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ أَيْنَ، وَلَا كَيْفَ فَكَذَلِكَ مَا سَتَرَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ مِنْ عَطَايَاهُ الْجَمَّةِ، وَهَدَايَاهُ الَّتِي لَا حَصْرَ لَهَا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ ضَرُورَةٌ، وَجُوعٌ شَدِيدٌ فَتَضَرَّعَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي خَلْوَتِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْعَطَاءَ فَسَمِعَ هَاتِفًا، وَهُوَ يَقُولُ: أَتُرِيدُ طَعَامًا أَوْ فِضَّةً فَقَالَ، بَلْ فِضَّةً، وَإِذَا بِصُرَّةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فِيهَا أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ، وَأَخْرَجَ مَا طُلِبَ مِنْهُ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَنْظُرُونَ إلَى جَيْبِهِ، وَيَقْطَعُونَ بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ إذَا طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْحَالِ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا طُلِبَ مِنْهُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْخَضِرَ يَأْتِيهِ بِكُلِّ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي أَنَّهُ كَانَ يَصْحَبُهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ يُعْرَفُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَكَانَ صَاحِبَ عَائِلَةٍ، وَفَقْرٍ، وَكَانَ النَّاسُ فِي سَنَةٍ شَدِيدَةٍ، وَغَلَاءٍ فَجَاءَ لَيْلَةً بَعْدَ أَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فِي جَمَاعَةٍ إلَى بَيْتِهِ فَوَجَدَ أَوْلَادَهُ يَبْكُونَ، فَقَالَ لِأُمِّهِمْ: مِمَّ يَبْكُونَ؟ فَقَالَتْ: مِنْ الْجُوعِ قَالَ فَتَرَكْتهمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَطَلَعْت عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ، وَمَرَّغْت خَدِّي عَلَى الْأَرْضِ، وَقُلْت: يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ يَبْكُونَ إلَيَّ، وَأَنَا أَبْكِي إلَيْك أَعْطِنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ قَالَ فَإِذَا سَحَابَةٌ قَدْ طَلَعَتْ فَجَاءَتْ فَعَمَّتْ الدَّارَ فَأَمْطَرَتْ فُولًا عَلَى الدَّارِ، وَحْدَهَا قَالَ فَنَزَلْت إلَى الْأَوْلَادِ، وَأَخْبَرْتُهُمْ فَطَلَعُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ بَقِيَ عِنْدَهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْهُ إلَى أَنْ دَخَلَ الْقَمْحُ الْجَدِيدُ. ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ سَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّهُ بَقِيَ فِي وَقْتٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَكْلٍ، وَلَا شُرْبٍ قَالَ. وَلَوْ بَقِيت كَذَلِكَ لَمْ أَحْتَجْ إلَى شَيْءٍ طُولَ حَيَاتِي لَكِنْ رَجَعْت إلَى الْأَكْلِ مِنْ طَرِيقِ الِامْتِثَالِ لِسُنَّةٍ لَا غَيْرٍ. فَمَنْ رَجَعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَطُرُقُ الْفَتْحِ لَهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَأَوَانٍ

فصل في دخول المريد الخلوة

وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا زَمَانٌ، وَذَاكَ زَمَانٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِي فِيهِمَا وَاحِدٌ لَا يَتَغَيَّرُ، وَلَا يَزُولُ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي نَجَاتِهِ مِنْ النَّارِ، وَجَوَازِهِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَشُرْبِهِ مِنْ الْحَوْضِ، وَدُخُولِهِ الْجَنَّةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي كُسَيْرَاتٍ يُقِيمُ بِهَا صُلْبَهُ، وَفِي ثَوْبٍ يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِسُوقٍ يُبَاعُ فِيهِ لَمَا سَاوَى إيمَانُ أَحَدِكُمْ كُسَيْرَةً فَيَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ جَمِيعِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ إيمَانِهِ، وَيَقُولُ: فَضْلُ اللَّهِ أَعْظَمُ، وَرَحْمَتُهُ أَوْسَعُ، ثُمَّ إنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي أَعَدَّهُ لِنَجَاتِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَالِ مَا خَلَّصَهُ لِلتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُسَيْرَاتٍ يُقِيمُ بِهَا صُلْبَهُ، وَيَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ السَّبَبِ فَلَوْ انْقَطَعَ عَنْهُ السَّبَبُ أَيِسَ، وَضَجِرَ، وَشَكَا، وَبَكَى. فَإِذَا لَمْ يَخْلُصْ إيمَانُهُ فِي هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ فَكَيْفَ يُخْلِصُهُ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْأَهْوَالِ فَفَضْلُ اللَّهِ أَعْظَمُ، وَرَحْمَتُهُ أَوْسَعُ فِي هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَأَوْجَبُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» لَكِنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَبْتَلِي خَلْقَهُ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ لِيَقَعَ الْجَزَاءُ وِفَاقًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَالسَّعِيدُ مَنْ كَانَ فَرِحًا مَسْرُورًا بِرَبِّهِ، وَبِحُكْمِهِ، وَبِإِرَادَتِهِ مَاقِتًا لِأَحْوَالِ نَفْسِهِ، وَرَأْيِهِ، وَتَدْبِيرِهِ - اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ بِمَنِّك إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَآلِهِ، وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ - [فَصْلٌ فِي دُخُولِ الْمُرِيدِ الْخَلْوَةَ] َ، وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْخَلْوَةَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْخَطَرَ فِي ذَلِكَ عَظِيمٌ لِمَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْقَوَاطِعِ الرَّدِيئَةِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ حُصُولِ عَرْبَدَةٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ فِعْلِ نَشَّافٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَهَالِكِ؛ لِأَنَّ الْخَطَرَ فِيهَا كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ.، وَقَدْ قَالَ لُقْمَانُ

فصل في التعلق بربه والسكون إليه وانقطاع رجائه ممن هو مخلوق مثله

- عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي وَصِيَّتِهِ لِوَلَدِهِ يَا بُنَيَّ عَلَيْك بِذَوِي التَّجَارِبِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَرَّبَ قَدْ دَخَلَ فِي الْمَخَاضَةِ، وَعَرَفَهَا، وَعَرَفَ مَوْضِعَ السَّلَامَةِ فِيهَا، وَمَوْضِعَ الْعَطَبِ فَعَلِمَ مَا يَتَجَنَّبُ مِنْهَا، وَمَا يَحْذَرُ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ، وَمَا يُسْتَعَانُ بِهِ [فَصْلٌ فِي التَّعَلُّقُ بِرَبِّهِ وَالسُّكُونُ إلَيْهِ وَانْقِطَاعُ رَجَائِهِ مِمَّنْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِثْلُهُ] (فَصْلٌ) : وَآكُد مَا عَلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ التَّعَلُّقُ بِرَبِّهِ، وَالسُّكُونُ إلَيْهِ، وَانْقِطَاعُ رَجَائِهِ مِمَّنْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِثْلُهُ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَقَدْ قَالَ شَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ مَعْرِفَتَهُ بِاَللَّهِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَا وَعَدَهُ اللَّهُ، وَوَعَدَهُ النَّاسُ بِأَيِّهِمَا قَلْبُهُ أَوْثَقُ، وَقَالَ: اتَّقِ الْأَغْنِيَاءَ فَإِنَّك مَتَى عَقَدْت قَلْبَك مَعَهُمْ، وَطَمِعْت فِيهِمْ فَقَدْ اتَّخَذْتهمْ رَبًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَالَ: إذَا أَرَدْت أَنْ تَكُونَ فِي رَاحَةٍ فَكُلْ مَا أَصَبْت، وَالْبَسْ مَا وَجَدْت، وَارْضَ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْك، وَقَالَ: مَنْ دَارَ حَوْلَ الشَّهَوَاتِ فَإِنَّهُ يَدُورُ بِدَرَجَاتِهِ فِي الْجَنَّةِ لِيَأْكُلَهَا فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ: الْعِبَادَةُ حِرْفَةٌ، وَحَوَانِيتُهَا الْخَلْوَةُ، وَرَأْسُ مَالِهَا الِاجْتِهَادُ بِالسُّنَّةِ، وَرِبْحُهَا الْجَنَّةُ، وَقَالَ: الصَّبْرُ عَلَى الْخَلْوَةِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِخْلَاصِ، وَقَالَ: اجْتَنِبْ صُحْبَةَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنْ النَّاسِ: الْعُلَمَاءِ الْغَافِلِينَ، وَالْقُرَّاءِ الْمُدَاهِنِينَ، وَالْمُتَصَوِّفَةِ الْجَاهِلِينَ، وَقَالَ: الزُّهْدُ ثَلَاثُهُ أَشْيَاءَ: الْقِلَّةُ، وَالْخَلْوَةُ، وَالْجُوعُ، وَقَالَ: عَلَى قَدْرِ حُبِّك لِلَّهِ يُحِبُّك الْخَلْقُ، وَعَلَى قَدْرِ خَوْفِك مِنْ اللَّهِ يَخَافُك الْخَلْقُ، وَعَلَى قَدْرِ شُغْلِك بِاَللَّهِ يَشْتَغِلُ فِي أَمْرِك الْخَلْقُ، وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ النَّيْسَابُورِيُّ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا ارْتَكَبَ كُلَّ خَطِيئَةٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاَللَّهِ، وَخَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا سَلِيمَ الْقَلْبِ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُفِرَ لَهُ قِيلَ: يَا أَبَا حَفْصٍ هَلْ لِهَذَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَلِيلٍ قَالَ: بَلَى قَوْله تَعَالَى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَاتِّبَاعُهُ مَحَبَّةُ أَصْحَابِهِ لِأَجْلِهِ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَكِيمُ السَّمَرْقَنْدِيُّ: كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ مُغْتَرٍّ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْفَقِيرُ قُوَّتُهُ

مَا وَجَدَ، وَلِبَاسُهُ مَا سَتَرَ، وَمَسْكَنُهُ حَيْثُ نَزَلَ، وَقَالَ: حَقِيقَةُ الْغِنَى أَنْ تَسْتَغْنِيَ عَمَّنْ هُوَ مِثْلُك، وَقَالَ: الَّذِي مَنَعَ الصَّادِقِينَ الشَّكْوَى إلَى غَيْرِ اللَّهِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ، وَكَتَبَ أَبُو الْأَبْيَضِ كِتَابًا إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ: سَلَامٌ عَلَيْك، وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَبَرَكَاتُهُ، وَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك لَمْ تُكَلَّفْ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا نَفْسًا وَاحِدَةً فَإِنْ أَنْتَ أَصْلَحْتهَا لَمْ يَضُرَّك فَسَادُ غَيْرِهَا، وَإِنْ أَنْتَ أَفْسَدْتهَا لَمْ يَنْفَعْك صَلَاحُ غَيْرِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّك لَنْ تَسْلَمْ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى لَا تُبَالِي مِنْ أَكْلِهَا مِنْ أَحْمَرَ، وَأَسْوَدَ. قَالَ شَقِيقُ بْنُ أَدْهَمَ الْبَلْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تُعْرَفُ تَقْوَى الرَّجُلِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: فِي أَخْذِهِ، وَمَنْعِهِ، وَكَلَامِهِ، وَقَالَ: دَخَلَ الْفَسَادُ فِي الْخَلْقِ مِنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلِهَا: ضَعْفُ النِّيَّةِ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ. وَالثَّانِي - صَارَتْ أَبْدَانُهُمْ رَهِينَةً بِشَهَوَاتِهِمْ. وَالثَّالِثِ - غَلَبَةُ طُولِ الْأَمَلِ عَلَى قُرْبِ أَجَلِهِمْ. وَالرَّابِعِ - اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَنَبَذُوا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ. وَالْخَامِسِ - آثَرُوا رِضَى الْمَخْلُوقِينَ فِيمَا يَشْتَهُونَ عَلَى رِضَى خَالِقِهِمْ فِيمَا يَكْرَهُونَ. وَالسَّادِسِ - جَعَلُوا أَدِلَّاتِ السَّلَفِ دِينًا، وَمَنَاقِبَ لِأَنْفُسِهِمْ. ، وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: الْزَمْ خِدْمَةَ مَوْلَاك تَأْتِيك الدُّنْيَا رَاغِمَةً، وَالْجَنَّةُ رَاغِبَةً، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْمُرِيدِ الْخَلْوَةَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ مُتَمَكِّنٍ فِي الْعِلْمَيْنِ عِلْمِ الْحَالِ، وَعِلْمِ السُّنَّةِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَدْخُلُ بِنَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالشَّيْخُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ، وَخَرْقِ الْعَادَاتِ مَا يَمُدُّ بِهِ الْمُرِيدَ فِي خَلْوَتِهِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ الَّذِي لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ، وَالسَّلَامَةُ، بَلْ الْغَنِيمَةُ مَوْجُودَةٌ عَلَى يَدِهِ مُتَيَسِّرَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ مِزَاجَ الْمُرِيدِ، وَقَدْرَ مَا يَحْمِلُ مِنْ الْمُجَاهَدَاتِ، وَقَدْرَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَقَدْرَ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ، وَمِنْ سَعَادَةِ الْمُرِيدِ إنْ وَجَدَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ، وَلَا ظُهُورِ خَرْقِ الْعَادَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِالتَّجْرِبَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَّبَ ذَلِكَ، وَاطَّلَعَ عَلَى الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ، وَمَا يَلِيقُ بِالْمُرِيدِ فِي خَلْوَتِهِ، وَمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ جِهَةِ

الْعَادَاتِ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَنْ يَدْخُلَ بِنَفْسِهِ خِيفَةً مِنْ مَوَاضِعِ الْعَطَبِ، وَأَعْنِي بِدُخُولِ الْخَلْوَةِ هُنَا مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْمُرِيدُ مِنْ الْمُجَاهَدَاتِ، وَأَمَّا لَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ دُونَ مُجَاهَدَةٍ فَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إلَى شَيْخٍ يُسْلِكُهُ، بَلْ لِسَانُ الْعِلْمِ قَائِمٌ عَلَيْهِ مَطْلُوبٌ بِهِ فِي الْخَلَاءِ، وَالْمَلَأِ لَا فَرْقَ إذْ ذَاكَ فِي حَقِّهِ مَعَ أَنَّهُ إذَا اتَّبَعَ لِسَانَ الْعِلْمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي خَلْوَتِهِ وَجَلْوَتِهِ فَهُوَ وَلِيُّ وَقْتِهِ لِأَجْلِ حَالِ الزَّمَانِ فَمَا أَسْعَدَهُ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ أَعْنِي تَرْكَ دُخُولِ الْخَلْوَةِ عَلَى نِظَامٍ مَعْلُومٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، وَفِي الْأَسْوَاقِ يَحْتَرِفُونَ، وَفِي الْحَوَائِطِ يَعْمَلُونَ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْخَلَوَاتُ عَلَى يَدِ الْمُرَبِّينَ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ، وَسَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ: إنَّمَا جُعِلَتْ الْخَلْوَةُ لِلْبَنَاتِ الْأَبْكَارِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ لِلْمُرِيدِينَ لَمَّا أَنْ كَثُرَتْ الْفِتَنُ وَالْمُخَالَفَاتُ فَاحْتَاجَ الْمُرِيدُونَ إذْ ذَاكَ إلَى الْفِرَارِ لِأَجْلِ صَلَاحِ دِينِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، وَخَوَاطِرِهِمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ السَّبِيلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِدُخُولِ الْخَلَوَاتِ وَالْفَلَوَاتِ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْخَلْوَةَ الْمَعْهُودَةَ عِنْدَ السَّالِكِينَ إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِمَصَالِحِهَا وَمَفَاسِدِهَا، وَالدَّسَائِسِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ فَيُشْتَرَطُ فِي الشَّيْخِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِحَالِ الْمُرِيدِ، وَمَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ مِنْ الْأَطْوَارِ، وَمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ لَهُ مَرَاتِبُ عَدِيدَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ مِثْلُهُ، وَأَلْخَصُ مِنْ ذَلِكَ مَا سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُهُ: نَظَرُ الْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْهَلَاكَ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْحِيرَةَ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى هُوَ السُّمُوُّ وَالرِّفْعَةُ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى يُوجِبُ التَّعَبَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ يُوجِبُ الرَّاحَةَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ نَظَرُ الْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْهَلَاكَ. فَمِثَالُهُ النَّظَرُ إلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا بِعَيْنِ التَّمَنِّي وَالِاشْتِهَاءِ، فَذَلِكَ يُوجِبُ الْحِرْصَ وَالْحَسَدَ وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّدَابُرَ، وَهُوَ عَيْنُ

الْهَلَاكِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131] ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا النَّظَرُ إلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّك إذَا نَظَرْت إلَيْهِمْ فَإِنْ كُنْت عَلَى مَعْصِيَةٍ فَبِالنَّظَرِ لِمَنْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا يَهُونُ عَلَيْك مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ، وَيَصْغُرُ فِي عَيْنِك ذَنْبُك فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْهَلَاكِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْحِيرَةَ. فَمِثَالُهُ الْمُبْتَدِي يَنْظُرُ إلَى أَهْلِ النِّهَايَاتِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي تَعَبُّدِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَمَنْ تَنَاهَى فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ لِذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا هُمْ يَأْخُذُونَ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالتَّعَبُّدِ أَوْفَرُ نَصِيبٍ، وَتُسْتَغْرَقُ أَوْقَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ، وَلَمْ يَتْعَبُوا فِيهِ لِرِفْقِهِمْ، وَسِيَاسَتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ، وَمَا كَانَ الْخَرْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ» ، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلِّمُوا، وَارْفُقُوا» اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ نَدَرَ مِنْ الْفُضَلَاءِ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَذَلِكَ مَحْمُودٌ، وَمَا نَدَرَ لَا يُحْكَمُ بِهِ. نَعَمْ إذَا وَقَعَ لِلْمَرْءِ هَذَا الْحَالُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ التَّشَبُّثُ بِمَا قَدْ ذُكِرَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ بَقِيَ مَعَ نَفْسِهِ فَشَأْنُهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ كَيْفَ كَانَ كَسْبُهُمْ، وَلِمَ اكْتَسَبُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ تَحَيَّرَ فِي طَرِيقِهِ، وَحَيَّرَ مَنْ لَاذَ بِهِ. هَذَا هُوَ عَيْنُ الْحِيرَةِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ -، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى هُوَ السُّمُوُّ وَالرِّفْعَةُ. فَمِثَالُهُ الرَّجُلُ الْعَالِمُ يَنْظُرُ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَيَعْمَلُ عَلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مَا وَصَلَ إلَيْهِ فَيَجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ يَنْظُرُ لِمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ فَيَجْتَهِدُ فِي التَّعَبُّدِ، وَيَزِيدُ فِي عَمَلِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بِالرِّفْقِ، وَالسِّيَاسَةِ حَتَّى يَلْحَقَ بِمَنْ نَظَرَ إلَيْهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ شَاكِرًا صَابِرًا أَنْ يَنْظُرَ فِي الدِّينِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فَيَقْتَدِيَ بِهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ

فَيَحْمَدَ اللَّهَ الَّذِي فَضَّلَهُ عَلَيْهِ» هَذَا هُوَ السُّمُوُّ، وَالرِّفْعَةُ - اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ، وَلَا تَجْعَلْ حَظَّنَا مِنْهُ الْكَلَامَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى يُوجِبُ التَّعَبَ لَهُ، وَلِأَتْبَاعِهِ. فَمِثَالُهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ، وَأَقَامَهُ اللَّهُ فِي مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ النِّهَايَاتِ إذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى اللَّهِ، وَيَتُوبَ يُرِيدُ مِنْ حِينِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ سِيَاسَةٍ تَقَعُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا تَدْرِيجٍ هَذَا هُوَ التَّعَبُ مَعَ نَفْسِهِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى طَرِيقِهِ، وَهُمْ لَا يُسَاعِدُونَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ تَبِعَهُ فِي التَّعَبِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إلَى مَقَامٍ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السَّبْقِ، وَالْخَيْرِ اقْتَصَرَ خَيْرُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِمْ مَنْ لَاذَ بِهِمْ، وَبِخِدْمَتِهِمْ أَعْنِي فِي الِاقْتِدَاءِ. وَأَمَّا الْبَرَكَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهَا غَالِبًا لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ «هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» - نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ يُوجِبُ الرَّاحَةَ لَهُ، وَلِأَتْبَاعِهِ. فَمِثَالُهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ الْمُتَمَكِّنُ فِي طَرِيقِهِ إذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرِيدُ التَّوْبَةَ، وَالرُّجُوعَ أَخَذَهُ بِاللُّطْفِ، وَالرَّحْمَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَسَاسَ بِرَأْيِهِ السَّدِيدِ، وَتَدْبِيرِهِ الرَّشِيدِ فَيَنْظُرُ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ مَا يُصْلِحُهُ، وَمَا هُوَ الْعَوْنُ لَهُ عَلَى مَا أَرَادَ، ثُمَّ يُرَقِّيهِ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى قَدْ يَبْلُغَ فِي أَقَلِّ زَمَانٍ إلَى الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا بِحُسْنِ تَدْبِيرِ هَذَا السَّيِّدِ وَسِيَاسَتِهِ إيَّاهُ. وَصَاحِبُ هَذَا الْحَالِ هُوَ أَعْظَمُ مَنْ تَقَدَّمَ وَأَفْضَلُهُمْ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ، وَجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ الْفُرُوضَ أَوَّلًا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا أَمَرَ بِالْقِتَالِ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ أَوَّلًا بِالتَّوْحِيدِ لَا غَيْرٍ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِسِيَاسَةِ النَّاسِ، وَاللُّطْفِ بِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] ، ثُمَّ لَمَّا أَنْ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقِتَالِ ثُمَّ لَمَّا أَنْ كَثُرَ الْمُؤْمِنُونَ، وَظَهَرَتْ الْكَلِمَةُ نَزَلَتْ الْفُرُوضُ شَيْئًا

فَشَيْئًا فَلَمَّا أَنْ تَقَرَّرَ لَهُمْ الدِّينُ، وَتَقَوَّى أَهْلُ الْإِسْلَامِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْجِهَادِ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] . فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّى الْأَمْرُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِقِتَالِ الْأَقْرَبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّى الْأَمْرُ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقِتَالِ مُطْلَقًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] ، ثُمَّ إنَّ الْفُرُوضَ لَمْ تَتِمَّ إلَّا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ تَعَالَى فِيهَا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَالِمُ بِعِبَادِهِ، وَبِمَا يُصْلِحُهُمْ فَلَوْ كَانَ أَمْرُهُمْ، وَمُخَاطَبَتُهُمْ أَوَّلًا بِالْقِتَالِ، وَبِجُمْلَةِ الْفُرُوضِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ لَأَمَرَ بِذَلِكَ أَوَّلًا {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، وَصَاحِبُ الْحَالِ الَّذِي أَشَارَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَيْهِ أَخِيرًا مَضَى عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَانْتَفَعَ بِنَفْسِهِ، وَاسْتَرَاحَ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، وَوَجَدُوا الرَّاحَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَاطِبُوا النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ» فَلَيْسَ مَنْ دَخَلَ فِي التَّعَبُّدِ، وَتَمَرَّنَ فِيهِ، وَكَثُرَتْ الْمُجَاهَدَةُ لَدَيْهِ كَمَنْ ابْتَدَأَ الدُّخُولَ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي السَّوْدَاءِ حِينَ سَأَلَهَا: أَيْنَ اللَّهُ؟ فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَقَالَ لِصَاحِبِهَا: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ فَقَنَعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْهَا بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ مَوْجُودٌ، وَذَلِكَ يَنْفِي مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَنَّ الْأَصْنَامَ هِيَ الْآلِهَةُ فِي الْأَرْضِ فَإِلَهُ السَّمَاءِ، وَإِلَهُ الْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْمَوْجُودُ لَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَلَّ فِي السَّمَاءِ تَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا إذْ إنَّ السَّمَاءَ مَخْلُوقَةٌ لَهُ، وَلَا يَحِلُّ الصَّانِعُ فِي صَنْعَتِهِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي كَانَتْ هِجْرَتُهُ قَدِيمَةً، وَتَمَكَّنَ مِنْ الْعِلْمِ، وَمِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ حِينَ سَأَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَيْفَ أَصْبَحْت؟ فَقَالَ مُعَاذٌ: أَصْبَحْت مُؤْمِنًا حَقًّا فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِك؟ فَلَمْ يَكْتَفِ

فصل للمريد إذا اجتمع له في زمانه أو بلده مشايخ

مِنْ مُعَاذٍ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ حَقِيقَةِ إيمَانِهِ، وَقَنَعَ مِنْ السَّوْدَاءِ بِمَا قَدْ ذَكَرَتْ لِأَجْلِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعِلْمِ، وَأَنْوَاعِ التَّعَبُّدِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ [فَصْلٌ لِلْمُرِيدِ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ فِي زَمَانِهِ أَوْ بَلَدِهِ مَشَايِخُ] : (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ فِي زَمَانِهِ أَوْ بَلَدِهِ مَشَايِخُ يَرْجُو بَرَكَتَهُمْ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَسْكُنْ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى حَالِهِ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَنْ حَصَلَ لَهُ بِالِاجْتِمَاعِ بِهِ مِنْهُمْ عِلْمٌ أَوْ إنَابَةٌ أَوْ رُجُوعٌ فَلْيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْعَوْدَةِ إذْ إنَّ خُطَاهُ تَبْقَى لِغَيْرِ فَائِدَةٍ. سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ يَعِيبُ هَذَا، وَيَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَتَرَدَّدَ إلَّا لِمَوْضِعٍ تَحْصُلُ لَهُ فِيهِ فَائِدَةٌ أَوْ فَوَائِدُ، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ بَهِيمَةِ السَّانِيَةِ لَا تَزَالُ تَمْشِي طُولَ يَوْمِهَا، وَهِيَ لَمْ تَبْرَحْ مِنْ مَوْضِعِهَا ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسِيءَ الظَّنَّ بِمَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ إذْ إنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلِ - أَنْ يَكُونَ الْمَزُورُ مِنْ الْأَكَابِرِ، وَالْفُضَلَاءِ لَكِنَّ أَصْحَابَهُ مَعْلُومُونَ مَعْرُوفُونَ فَخَيْرُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَدَّاهُمْ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُرِيدُ زِيَادَةً عِنْدَ زِيَارَتِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ نَصِيبٌ فَتَرْكُ ذَلِكَ بِهِ أَوْلَى، وَقَدْ يَكُونُ آخِرُ خَيْرِهِ مَقْصُورًا عَلَى نَفْسِهِ لَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ يَفْصِلُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرِيدُ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ فَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى رُؤْيَتِهِمْ وَاغْتِنَامُ بَرَكَتِهِمْ بِهِ أَوْلَى مَا لَمْ يُعَارِضْهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ مِنْ ارْتِكَابِ بِدْعَةٍ أَوْ رُؤْيَتِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بِطَالَةُ أَوْقَاتِهِ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَيَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ زِيَارَتُهُمْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي زِيَارَةِ طَالِبِ الْعِلْمِ لَهُمْ، وَبِالْجُمْلَةِ فَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تَنْضَبِطُ، وَالْقَلِيلُ النَّادِرُ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ خَيْرُهُ عَامًّا لِسَائِرِ النَّاسِ. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرِيدَ لَهُ اتِّسَاعٌ فِي حُسْنِ الظَّنِّ بِهِمْ، وَفِي ارْتِبَاطِهِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ يُعَوِّلُ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِ، وَيَحْذَرُ

فصل للمريد أن يكون أشد الناس نظرا إلى نعم الله

مِنْ تَقَضِّي أَوْقَاتِهِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ. قَالَ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عُمْرُك نَفَسٌ وَاحِدٌ فَاحْرِصْ أَنْ يَكُونَ لَك لَا عَلَيْك؛ لِأَنَّ الْفِكْرَ فِيمَا مَضَى هُوَ بَابُ نَدْبِ الْأَطْلَالِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْفِكْرُ فِيمَا يَأْتِي ادِّعَاءُ النُّفُوسِ تَحْصِيلَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَا يَبْرُزُ مِنْ الْعِلْمِ الْمَكْنُونِ، وَالتَّقْدِيرَاتِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنَّا، وَهِيَ كَثِيرَةٌ [فَصْلٌ للمريد أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ نَظَرًا إلَى نِعَمِ اللَّهِ] .: (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ نَظَرًا إلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَإِلَى لُطْفِهِ بِهِ، وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرِيدَ يُصْبِحُ عَلَيْهِ الصَّبَاحُ فَيَنْهَضُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي وَقْتِهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَيَذْكُرُ مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ يَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ عِلْمٍ فَيَفْهَمُ بَعْضَهُ أَوْ كُلَّهُ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى مَنْ يَعْتَقِدُهُ فَيَتَكَلَّمُ مَعَهُ فِي مَسَائِلَ مِنْ الْخَيْرِ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي جَمَاعَةٍ، وَإِنْ فُتِحَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَوْرَادِ اللَّيْلِ أَوْ أَوْرَادِ الصَّوْمِ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ فَإِنْ قَيَّدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِالشُّكْرِ زَادَتْ أَوْ تَمَادَتْ، وَإِنْ رَأَى، وَهُوَ الْغَالِبُ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا شَيْءَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَهَذَا يُخَافُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] ، وَالْكُفْرُ عَامٌّ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَمْرِ النِّسَاءِ: «إنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ قِيلَ: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاَللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ» ، وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِهَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: بَابُ كُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْفُلُ عَنْ هَذِهِ النِّعَمِ فَلَا يُقَيِّدُهَا بِالشُّكْرِ كَمَا تَقَدَّمَ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّهَا فَتَذْهَبُ عَنْهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ جَهْدَهُ، وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ الصِّدِّيقِينَ لَا يَكُونُونَ فِي يَوْمِهِمْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ بِالْأَمْسِ، بَلْ يَزْدَادُونَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي - تَرَقِّيًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كُلُّ يَوْمٍ لَا أَتَّخِذُ فِيهِ بِرًّا أَوْ قَالَتْ: لَا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا لَا بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا جَاءَهُ الْيَوْمُ الثَّانِي فَلَا بُدَّ لَهُ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَتَوَابِعِهَا، وَمَا يَتَلَقَّاهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالتَّرْغِيبِ

فصل ينبغي للمريد أن يكون عارفا بالخواطر حسنها وسيئها

وَالتَّرْهِيبِ، وَالتَّحْذِيرِ فَيَتَّبِعُ ذَلِكَ، وَيَعْمَلُ عَلَى خَلَاصِ مُهْجَتِهِ فِي يَوْمِهِ، وَذَلِكَ تَرَقٍّ لَا شَكَّ فِيهِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُوَطَّئِهِ: «إنَّ أَخَوَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا فَأَثْنَى الصَّحَابَةُ عَلَى الْأَوَّلِ فَسَأَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الثَّانِي - فَقَالُوا: لَا بَأْسَ بِهِ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ إنَّمَا مَثَلُ الصَّلَاةِ كَمَثَلِ نَهْرٍ غَمْرٍ عَذْبٍ بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَقْتَحِمُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَهَلْ تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا قَالُوا: لَا، فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ» ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ إنَّ الدَّوَامَ عَلَى الْحَالِ زِيَادَةٌ فِيهِ فَإِذَا أَصْبَحَ الْمُرِيدُ، وَامْتَثَلَ مَا كَلَّفَهُ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي حَقِّهِ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى حِينِ أَجَلِهِ فَحِينَئِذٍ تُطْوَى صَحِيفَةُ عَمَلِهِ فَلَا زِيَادَةَ بَعْدَهَا فَإِنْ حَصَلَ لِلْمُرِيدِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ، وَإِلَّا فَالطَّرِيقُ حَاصِلٌ لَهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكْفُرَ هَذِهِ النِّعَمَ بِتَرْكِ النَّظَرِ إلَى مَنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِهَا، وَأَحْسَنَ إلَيْهِ فِيهَا [فَصْلٌ يَنْبَغِي للمريد أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْخَوَاطِرِ حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا] : (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْخَوَاطِرِ حَسَنِهَا، وَسَيِّئِهَا فَإِمَّا أَنْ يُمَيِّزَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ يَكُونَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ عَارِفٍ بِهَا إذْ إنَّ الْخَوَاطِرَ، وَالْهَوَاجِسَ، وَالْهَوَاتِفَ لَا تَنْحَصِرُ أَعْدَادُهَا، وَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا لِكَثْرَتِهَا، وَتَشَعُّبِهَا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَا يَقَعُ مِنْهَا، وَتَلَبَّسَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَإِنْ وَقَفَ مَعَ مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يَتَخَلَّصَ وَيَذْهَبَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ زَمَانِهِ بِغَيْرِ عَمَلٍ؛ لِأَنَّ اللَّعِينَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُرِيدِ مِنْ جِهَةِ التَّرْكِ أَتَاهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ لَا تَنْحَصِرُ فَإِذَا كَانَ مُمَيِّزًا لِلْخَوَاطِرِ، وَغَيْرِهَا انْسَدَّتْ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الْكُبْرَى. وَالْخَوَاطِرُ أَرْبَعَةٌ: رَبَّانِيٌّ، وَمَلَكِيٌّ، وَنَفْسَانِيٌّ، وَشَيْطَانِيٌّ. سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الرَّبَّانِيُّ أَوَّلُهَا، وَهُوَ مِثْلُ لَمْحَةِ الْبَرْقِ لَا يَثْبُتُ، وَالنَّفْسَانِيُّ يَعْقُبُهُ مِثْلُ الْمُصَلِّي مَعَ السَّابِقِ فَمَا يَمُرُّ ذَاكَ إلَّا وَقَدْ اسْتَقَرَّ هَذَا فِي مَحَلِّهِ وَحَدَّثَ وَسَوَّلَ وَشَهَّى، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْخُلْفُ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى شَيْءٍ

مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِسُرْعَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيُخْبِرُونَ بِأَشْيَاءَ قَلَّ أَنْ تَقَعَ فِي الْغَالِبِ، وَإِنْ وَقَعَتْ فَبِالْمُصَادَفَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِهِمْ، وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ الْمُمَيِّزُونَ لِلْخَاطِرِ الْأَوَّلِ فَقَلَّ أَنْ يُخْبِرُوا بِشَيْءٍ إلَّا وَيَقَعُ كَمَا أَخْبَرُوا بِهِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، وَهَذِهِ الْخَوَاطِرُ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِالشُّيُوخِ وَالْمُرِيدِينَ، بَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ لَكِنَّ التَّمْيِيزَ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ يَخْتَصُّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذِهِ الْخَوَاطِرِ فَلَا بُدَّ لَهَا أَنْ يَزِنَهَا عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فَمَا وَافَقَ أَمْضَاهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَا يَقَعُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ الْمَنْقُولِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ وَالتَّأْنِيسِ، وَأَمَّا الْخَاطِرُ الْمَلَكِيُّ فَهُوَ كُلُّ خَاطِرٍ يَأْمُرُ بِطَاعَةٍ أَوْ خَيْرٍ مَا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَا لَا يَنْبَغِي أَوْ يُتَوَقَّعُ مَعَهُ تَرْكٌ أَوْ بِطَالَةُ وَقْتٍ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ الْمَلَكِيِّ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا الْخَاطِرُ الرَّابِعُ - وَهُوَ أَرْذَلُهَا، وَهُوَ الْخَاطِرُ الشَّيْطَانِيُّ فَهُوَ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ أَصْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيْرُ يُؤَدِّي إلَى الشَّرِّ، وَيَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَاطِرِ النَّفْسَانِيِّ وَالشَّيْطَانِيِّ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُرِيدُ إلَّا الْوُقُوعَ فِي الْمُخَالَفَةِ كَيْفَ كَانَتْ، وَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ تَرَكَهَا، وَأَتَى إلَى مَعْصِيَةٍ أُخْرَى فَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ إذْ مَقْصُودُهُ إنَّمَا هُوَ الْمُخَالَفَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَائِنَةً مَا كَانَتْ، وَالْخَاطِرُ النَّفْسَانِيُّ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ أَمْرًا وَاحِدًا لَا يُفَارِقُهُ فَإِنْ أَنْتَ رَدَدْتَهُ عَلَيْهِ أَلَحَّ بِهِ عَلَيْك، وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، وَيُمَنِّيك بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَهُ، وَيَعِدُك بِالْغُرُورِ، وَأَنَّك إذَا نِلْت مَا أَلْقَتْهُ إلَيْك تَفْعَلُ أَنْتَ مَا تُحِبُّ أَنْ تُوقِعَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ فَيَحْتَاجُ الْمُرِيدُ إلَى التَّشْمِيرِ إلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ حِينَ نُزُولِهَا بِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ تَحْتَ نَظَرِ شَيْخٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ فَيَأْخُذُ مَعَهُ فِيهَا، وَإِلَّا فَلِسَانُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ قَائِمٌ، وَهُوَ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ طَرِيقُ

فصل جامع لبعض آداب السلوك ولبعض الآثار عن السلف الماضين أجمعين

السَّلَامَةِ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا، وَالْعَطَبُ فِي غَيْرِهَا مَوْجُودٌ غَالِبًا إلَّا لِمَنْ عَرَفَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ [فَصْلٌ جَامِعٌ لِبَعْضِ آدَابِ السُّلُوكِ وَلِبَعْضِ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ أَجْمَعِينَ] فَصْلٌ: جَامِعٌ لِبَعْضِ آدَابِ السُّلُوكِ، وَلِبَعْضِ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ. وَمَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْخَلَوَاتِ إذْ إنَّهُ بِسَبَبِهَا يُدْرِكُ الْمُكَلَّفُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ، وَمِنْ النِّعَمِ، وَمِنْ تُحَفِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَتَبَيَّنُ لَهُ بِهَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِمَّا مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُهُ. أَلَا تَرَى إلَى بَرَكَةِ هَذِهِ الْحِكَمِ الَّتِي يُنْطِقُهُمْ اللَّهُ بِهَا؟ إذْ إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي قُوَّتِهِمْ، وَلَا مِنْ قُدْرَتِهِمْ إلَّا بِبَرَكَةِ تَوَجُّهِهِمْ، وَإِقْبَالِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَعْظَمُ مَا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى الْتِزَامُ الْخَلَوَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَام الْحَافِظُ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْفَهَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لَهُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَنَفَعَ بِهِ، وَأَعَادَ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ رَضِيت مِنْ أَحَدِكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ عَلَى دِينِهِ كَمَا يَتَّقِي عَلَى دُنْيَاهُ، وَقَالَ: شَيْئَانِ هُمَا خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إذَا عَمِلْت بِهِمَا أَتَكَفَّلُ لَك بِالْجَنَّةِ، وَلَا أُطَوِّلُ عَلَيْك قِيلَ: وَمَا هُمَا؟ قَالَ: تَحْمِلُ مَا تَكْرَهُ إذَا أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَتَتْرُكُ مَا تُحِبُّ إذَا كَرِهَهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَيْضًا: قَاتِلْ هَوَاك أَشَدَّ مَا تُقَاتِلُ عَدُوَّك، وَقَالَ رَجُلٌ لَهُ: إنَّك مُشَدِّدٌ فَقَالَ: مَا لِي لَا أُشَدِّدُ، وَقَدْ صَدَّنِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ عَدُوًّا أَمَّا أَرْبَعَةٌ فَشَيْطَانٌ يَفْتِنُنِي، وَمُؤْمِنٌ يَحْسُدُنِي، وَكَافِرٌ يُقَاتِلُنِي، وَمُنَافِقٌ يَبْغُضُنِي، وَأَمَّا الْعَشَرَةُ فَالْجُوعُ، وَالْعَطَشُ، وَالْعُرْيُ، وَالْحَرُّ، وَالْبَرْدُ، وَالْهَرَمُ، وَالْمَرَضُ، وَالْفَقْرُ، وَالْمَوْتُ، وَالنَّارُ، وَلَا أُطِيقُهُنَّ إلَّا بِسِلَاحٍ، وَلَا أَجِدُ لَهُنَّ سِلَاحًا أَقْوَى مِنْ التَّقْوَى، وَقِيلَ لَهُ: مَا مَالُكَ؟ فَقَالَ: ثِقَتِي بِاَللَّهِ، وَإِيَاسِي مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَقَالَ: مَا رَأَيْت يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَشْبَهَ بِشَكٍّ لَا يَقِينَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ تَحْنُ عَلَيْهِ. وَقَالَ: يَنْبَغِي

لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ حِفْظًا لِلِسَانِهِ مِنْهُ لِمَوْضِعِ قَدَمَيْهِ، وَقَالَ: أَفْضَلُ خَصْلَةٍ تُرْجَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَأَرْجَاهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُبْتَدِي خَمْسُ خِصَالٍ، وَإِلَّا فَلَا تَرْجُهُ: عَقْلٌ حَسَنٌ، وَاتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ، وَصُحْبَةُ الْأَكَابِرِ، وَمِنْ أَيْنَ يَأْكُلُ، وَحِفْظُ لِسَانِهِ، وَصِيَانَتُهُ أَوْ كَمَا قَالَ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ أَيْضًا، وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إذَا رَأَيْت الْعَالِمَ لَا يَتَوَرَّعُ فِي عِلْمِهِ فَلَيْسَ لَك أَنْ تَأْخُذَ عَنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ يَقُولُ: وَضَعُوا مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا عَلَى الدُّنْيَا فَلَمْ تَنْفَتِحْ، وَوَضَعُوا عَلَيْهَا مَفَاتِيحَ الْآخِرَةِ فَانْفَتَحَتْ. وَقَالَ رَجُلٌ لِلْجُنَيْدِ: مَنْ أَصْحَبُ؟ قَالَ: مَنْ تَقْدِرُ أَنْ تُطْلِعَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْك، وَسُئِلَ مَرَّةً أُخْرَى مَنْ أَصْحَبُ؟ قَالَ: مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَنْسَى مَا لَهُ، وَيَقْضِي مَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: قَدْ مَشَى رِجَالٌ بِالْيَقِينِ عَلَى الْمَاءِ، وَمَاتَ عَلَى الْعَطَشِ أَفْضَلُ مِنْهُمْ يَقِينًا، وَقَالَ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ لَا يُسَرُّ إلَّا بِهِ، وَقَالَ: لَوْ أَقْبَلَ صَادِقٌ عَلَى اللَّهِ أَلْفَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ لَحْظَةً كَانَ مَا فَاتَهُ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَهُ، وَقَالَ: مَنْ نَظَرَ إلَى وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بِقَلْبِهِ، وَأَكْرَمَهُ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ عَلَامَاتِ الْمُحِبِّ لِلَّهِ مُتَابَعَتُهُ حَبِيبَ اللَّهِ فِي أَخْلَاقِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَوَامِرِهِ، وَسُنَّتِهِ، وَقَالَ: مَنْ نَظَرَ إلَى سُلْطَانِ اللَّهِ ذَهَبَ سُلْطَانُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ كُلَّهَا فَقِيرَةٌ عِنْدَ هَيْبَتِهِ، وَقَالَ رُوَيْمٌ: لَا تَزَالُ الصُّوفِيَّةُ بِخَيْرٍ مَا تَنَافَرُوا فَإِذَا اصْطَلَحُوا هَلَكُوا، وَقَالَ ابْنُ حُنَيْفٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قُلْت لِرُوَيْمٍ: أَوْصِنِي فَقَالَ: أَقَلُّ مَا فِي هَذَا الْأَمْرِ بَذْلُ الرُّوحِ فَإِنْ أَمْكَنَك الدُّخُولُ فِيهِ مَعَ هَذَا، وَإِلَّا فَلَا تَشْتَغِلْ بِتُرَّهَاتِ الصُّوفِيَّةِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ لُقْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ نَوْبِيًّا، وَكَانَ لِبَنِي فُلَانٍ فَقِيلَ لَهُ: مَا بَلَغَ بِك مَا نَرَى فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ، وَطُولُ الصَّمْتِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي. وَمِنْ كِتَابِ سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ لِلْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا ثَلَاثٌ مَا أَحْبَبْت أَنْ أَعِيشَ يَوْمًا: الظَّمَأُ لِلَّهِ بِالْهَوَاجِرِ، وَالسُّجُودُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُونَ

خِيَارَ الْكَلَامِ كَمَا تُنْتَقَى أَطَايِبُ الثَّمَرِ. وَرُوِيَ عَنْ بِلَالِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: زَاهِدُكُمْ رَاغِبٌ، وَمُجْتَهِدُكُمْ مُقَصِّرٌ، وَعَالِمُكُمْ جَاهِلٌ، وَجَاهِلُكُمْ مُغْتَرٌّ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: جَاهِدْ نَفْسَك بِأَصْنَافِ الرِّيَاضَةِ، وَالرِّيَاضَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْقُوتِ مِنْ الطَّعَامِ، وَالْغَمْضِ مِنْ الْمَنَامِ، وَالْحَاجَةِ مِنْ الْكَلَامِ، وَحَمْلِ الْأَذَى مِنْ جَمِيعِ الْأَنَامِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ مَوْتُ الشَّهَوَاتِ، وَمِنْ قِلَّةِ الْمَنَامِ صَفْوُ الْإِرَادَاتِ، وَمِنْ قِلَّةِ الْكَلَامِ السَّلَامَةُ مِنْ الْآفَاتِ، وَمِنْ احْتِمَالِ الْأَذَى الْبُلُوغُ إلَى الْغَايَاتِ فَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ أَشَدَّ مِنْ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَفَاءِ، وَالصَّبْرِ عِنْدَ الْأَذَى. ، وَقَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: طُوبَى لِمَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ، وَقَالَ الْفَرَبْرِيُّ اجْتَمَعَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ عَلَى بَابِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُوَّةٍ، وَهُوَ يَبْكِي، وَلِحْيَتُهُ تَرْجُفُ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَيْحَكُمْ لَيْسَ هَذَا زَمَانَ حَدِيثٍ إنَّمَا هُوَ زَمَانُ بُكَاءٍ وَتَضَرُّعٍ وَاسْتِكَانَةٍ وَدُعَاءٍ كَدُعَاءِ الْغَرِيقِ إنَّمَا هَذَا زَمَانٌ احْفَظْ فِيهِ لِسَانَك، وَاخْفِ مَكَانَك، وَعَالِجْ قَلْبَك، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ أَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَسِيلَ دُمُوعِي عَلَى خَدِّي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فَقَدَ زَكَرِيَّا ابْنَهُ يَحْيَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَوَجَدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ مُضْطَجِعًا عَلَى قَبْرٍ، وَهُوَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا يَا بُنَيَّ؟ فَقَالَ: أَخْبَرْتنِي أَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَك أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَفَازَةً لَا يُطْفِئُ حَرَّهَا إلَّا الدُّمُوعُ فَقَالَ: ابْكِ يَا بُنَيَّ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَأَنْ أَدْمَعَ دَمْعَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: إنَّ لِلذُّنُوبِ ضَعْفًا فِي الْقُوَّةِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَإِنَّ لِلْحَسَنَاتِ قُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ. وَقِيلَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ دَعَوْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: تَرْكُ الذُّنُوبِ هُوَ الدُّعَاءُ، وَأَنْشَدُوا خُلِقْت مِنْ التُّرَابِ فَصِرْت حَيًّا ... وَعُلِّمْت الْفَصِيحَ مِنْ الْخِطَابِ

وَعُدْت إلَى التُّرَابِ فَظَلْت فِيهِ ... كَأَنِّي مَا بَرِحْت مِنْ التُّرَابِ خُلِقْت مِنْ التُّرَابِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ... وَأَرْجِعُ بِالذُّنُوبِ إلَى التُّرَابِ ، وَلَقِيَ حَكِيمٌ حَكِيمًا فَقَالَ لَهُ: إنِّي لَأُحِبُّك فِي اللَّهِ فَقَالَ: لَوْ عَلِمْت مِنِّي مَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي لَأَبْغَضْتنِي فِي اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ الْأَوَّلُ - لَوْ أَعْلَمُ مِنْك مَا تَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِك لَكَانَ لِي فِيمَا أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي شُغْلٌ عَنْ بُغْضِك، وَكَانَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمَ إذَا قِيلَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْت؟ قَالَ: أَصْبَحْنَا ضَعْفَى مُذْنِبِينَ نَأْكُلُ أَرْزَاقَنَا، وَنَنْتَظِرُ آجَالَنَا، وَقِيلَ: لِلْمُغِيرَةِ كَيْفَ أَصْبَحْت يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: أَصْبَحْنَا مُعْتَرِفِينَ بِالنِّعَمِ مُقِرِّينَ بِالذُّنُوبِ يَتَحَبَّبُ إلَيْنَا رَبُّنَا، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنَّا، وَنَتَبَاغَضُ إلَيْهِ، وَنَحْنُ إلَيْهِ فُقَرَاءُ، وَقَدْ قِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مِنْ أَيْنَ عَيْشُك فَقَالَ: نُرَقِّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيقِ دِينِنَا ... فَلَا دِينُنَا يَبْقَى وَلَا مَا نُرَقِّعُ وَقِيلَ: لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَيْفَ أَصْبَحْت؟ فَقَالَ: أَصْبَحْت طَوِيلًا أَمَلِي قَصِيرًا أَجَلِي سَيِّئًا عَمَلِي. كَلَامُ الْبَاجِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ أَيْضًا، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَمِعْت مَنْصُورًا يَقُولُ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قَالَ: إنِّي جَاعِلٌ لِبَصَرِك طَبَقًا فَإِذَا عَرَضَ لَك أَمْرٌ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ فَأَطْبِقْهُ، وَإِنِّي جَاعِلٌ لِفِيك طَبَقًا فَإِذَا عَرَضَ لَك أَمْرٌ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْطِقَ بِهِ فَأَطْبِقْهُ، وَإِنِّي جَاعِلٌ لِفَرْجِك سِتْرًا فَلَا تَكْشِفْهُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَك، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَصْحَابُ ثَلَاثَةٌ صَاحِبُك، وَصَاحِبُ صَاحِبِك، وَعَدُوُّ عَدُوِّك، وَالْأَعْدَاءُ ثَلَاثَةٌ، عَدُوُّك، وَعَدُوُّ صَاحِبِك، وَصَاحِبُ عَدُوِّك. وَمِنْ كِتَابِ الْبَاجِيِّ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا يُدْخِلُ اللَّهُ الْجَنَّةَ مَنْ يَرْجُوهَا، وَإِنَّمَا يُجَنِّبُ اللَّهُ النَّارَ مَنْ يَخْشَاهَا، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ يَرْحَمُ، وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ خَفْ اللَّهَ خَوْفًا لَا تَيْأَسْ فِيهِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَارْجُهُ رَجَاءً لَا تَأْمَنْ فِيهِ مِنْ عِقَابِهِ فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ، وَكَيْفَ، وَإِنَّمَا لِي قَلْبٌ وَاحِدٌ فَقَالَ يَا بُنَيَّ: إنَّ الْمُؤْمِنَ لَوْ شُقَّ قَلْبُهُ لَوُجِدَ فِيهِ نُورُ رَجَاءٍ، وَنُورُ خَوْفٍ لَوْ وُزِنَا لَمْ يَمِلْ

أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ كَيْفَ يَأْمَنُ النَّارَ مَنْ هُوَ وَارِدُهَا، وَكَيْفَ يَطْمَئِنُّ إلَى الدُّنْيَا مَنْ هُوَ مُفَارِقُهَا، وَكَيْفَ يَغْفُلُ مَنْ لَا يُغْفَلُ عَنْهُ؟ يَا بُنَيَّ لَا شَكَّ فِي الْمَوْتِ فَإِنَّك كَمَا تَنَامُ كَذَلِكَ تَمُوتُ، وَلَا شَكَّ فِي الْبَعْثِ فَإِنَّك كَمَا تَسْتَيْقِظُ كَذَلِكَ تُبْعَثُ يَا بُنَيَّ إنَّ الْإِنْسَانَ لَثَلَاثَةٌ، فَمِنْهُ لِلَّهِ، وَمِنْهُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ لِلدُّودِ وَالتُّرَابِ، فَأَمَّا مَا كَانَ لِلَّهِ فَرُوحُهُ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِنَفْسِهِ فَعَمَلُهُ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، وَأَمَّا مَا كَانَ لِلدُّودِ وَالتُّرَابِ فَجَسَدُهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ مَا أَمِنَ أَحَدٌ عَلَى دِينِهِ إلَّا سُلِبَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُ مَا يُسْلَبُ النَّاسُ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ إبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ: إذَا ظَفِرْت مِنْ ابْنِ آدَمَ بِثَلَاثٍ لَمْ أَطْلُبْهُ بِغَيْرِهَا إذَا أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ، وَاسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ، وَنَسِيَ ذُنُوبَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: إنَّك تَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ لَهُ عِيسَى، وَأَنْتَ إنْ كُنْت لَمْ تُخْطِئْ خَطِيئَةً مَشَيْت عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَا أَخْطَأْت خَطِيئَةً قَطُّ فَقَالَ لَهُ عِيسَى: فَامْشِ عَلَى الْمَاءِ فَمَشَى ذَاهِبًا، وَرَاجِعًا حَتَّى إذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْبَحْرِ، وَإِذَا هُوَ قَدْ غَرِقَ فَدَعَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَبَّهُ فَأَخْرَجَ الرَّجُلَ فَقَالَ لَهُ: مَالَك ذَهَبْت وَرَجَعْت ثُمَّ غَرِقْت أَلَيْسَ زَعَمْت أَنَّك لَمْ تُخْطِئْ خَطِيئَةً قَطُّ؟ قَالَ: مَا أَخْطَأْت خَطِيئَةً قَطُّ إلَّا أَنِّي وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنِّي مِثْلُك، وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: أَمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ قَوْمًا مَرَّةً فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَا زَالَ بِي الشَّيْطَانُ آنِفًا حَتَّى رَأَيْت أَنَّ لِي فَضْلًا عَلَى مَنْ خَلْفِي لَا أَؤُمُّ أَبَدًا؟ . وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّ رَجُلٍ قَطُّ إلَّا لَزِمَ قَلْبَهُ أَرْبَعُ خِصَالٍ: فَقْرٌ لَا يُدْرِكُ عَنَاهُ، وَهَمٌّ لَا يَنْقَضِي مَدَاهُ، وَشُغْلٌ لَا يَنْفَدُ لَأْوَاهُ، وَأَمَلٌ لَا يَنْقَطِعُ مُنْتَهَاهُ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ قِيلَ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ: كَيْفَ حَالُك؟ قَالَ: حَالُ مَنْ يَفْنَى بِبَقَائِهِ، وَيَسْقَمُ بِسَلَامَتِهِ، وَيُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إنْ كَانَ شَيْءٌ فَوْقَ الْحَيَاةِ فَالصِّحَّةُ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ فَوْقَ الْمَوْتِ فَالْمَرَضُ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ يَعْدِلُ الْحَيَاةَ فَالْغِنَى، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ يَعْدِلُ الْمَوْتَ فَالْفَقْرُ

فصل ينبغي للمريد أن يتفقد في الاجتماع بإخوانه

انْتَهَى كَلَامُ الْبَاجِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ سَجْدَةٍ، وَكَانَ يُسَمَّى السَّجَّادَ.، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى ... طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ عَلِيلٌ وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ تَدْعُوَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ، وَيُحْشَرَ فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّينَ، وَيَعْظُمَ قَدْرُهُ عِنْدَ الْأَوْلِيَاءِ فَلْيُطِعْ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَنَهَاهُ عَنْهُ، وَلْيَلْزَمْ الْمِنْهَاجَ الْأَوَّلَ، وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: هَبْ لِي مِنْ قَلْبِك الْخُشُوعَ، وَمِنْ عَيْنَيْك الدُّمُوعَ، ثُمَّ اُدْعُنِي أَسْتَجِبْ لَك فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِّ إذَا دَعَانِ. وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ أَيْضًا: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ لِخَادِمِهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ مَعِي فِي قَمِيصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ فَكَيْفَ أَكْتَسِبُ الذُّنُوبَ إنَّمَا يَعْمَلُ الذُّنُوبَ جَاهِلٌ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى أَحَدًا فَيَقُولُ: لَيْسَ يَرَانِي أَحَدٌ أَذْهَبُ لِأُذْنِبَ أَمَّا أَنَا فَكَيْفَ يُمْكِنُنِي ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ دَاخِلَ قَمِيصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَالِي وَلِهَذَا الْخَلْقِ كُنْت فِي صُلْبِ أَبِي وَحْدِي ثُمَّ صِرْت فِي بَطْنِ أُمِّي وَحْدِي، ثُمَّ دَخَلْتُ الدُّنْيَا وَحْدِي، ثُمَّ تُقْبَضُ رُوحِي وَحْدِي، وَأَدْخُلُ قَبْرِي وَحْدِي، وَيَأْتِينِي مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ فَيَسْأَلَانِي وَحْدِي، فَإِنْ صِرْت إلَى خَيْرٍ كُنْت وَحْدِي، وَإِنْ صِرْت إلَى شَرٍّ كُنْت وَحْدِي، ثُمَّ أَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدِي فَإِنْ بُعِثْت إلَى الْجَنَّةِ بُعِثْت وَحْدِي، وَإِنْ بُعِثْت إلَى النَّارِ بُعِثْت وَحْدِي فَمَالِي وَلِلنَّاسِ، ثُمَّ فَكَّرَ سَاعَةً، وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ الرَّعْدَةُ حَتَّى خَشَى أَنْ يَسْقُطَ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: أَصْلُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْفَرَائِضِ، وَهَذِهِ الْفَرَائِضُ فِي حَرْفَيْنِ مَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ افْعَلْ فَفِعْلُهُ فَرِيضَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ، وَمَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا تَفْعَلْ فَتَرْكُهُ فَرِيضَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَهَى عَنْهُ. [فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَتَفَقَّدَ فِي الِاجْتِمَاعِ بِإِخْوَانِهِ] وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَتَفَقَّدَ فِي الِاجْتِمَاعِ بِإِخْوَانِهِ، وَلَا يُوَاظِبَ عَلَى الْخَلْوَةِ، وَيَتْرُكَ التَّبَرُّكَ بِهِمْ، وَبِسَمَاعِ فَوَائِدِهِمْ مَعَ التَّحَفُّظِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى نَفْسِهِ جَهْدَهُ

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ آدَابِ الصُّحْبَةِ: لَهُ الصُّحْبَةُ عَلَى وُجُوهٍ لِكُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا آدَابٌ، وَلَوَازِمُ. فَالصُّحْبَةُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَدَوَامِ ذِكْرِهِ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ، وَمُرَاقَبَةِ الْأَسْرَارِ أَنْ يَخْتَلِجَ فِيهَا مَا لَا يَرْضَاهُ، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى بَلَائِهِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِهِ، وَمَا يَنْحُو نَحْوَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَاجْتِنَابِ الْبِدَعِ، وَتَعْظِيمِ أَصْحَابِهِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَزْوَاجِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ، وَمُجَانَبَةِ مُخَالَفَتِهِ فِيمَا دَقَّ وَجَلَّ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ بِالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ، وَتَقْدِيمِ مَنْ قَدَّمُوهُ، وَحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِمْ، وَقَبُولِ قَوْلِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ، وَالسُّنَنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي» ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخِدْمَةِ وَالِاحْتِرَامِ لَهُمْ، وَتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَعَنْ مَشَايِخِهِمْ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ السُّلْطَانِ بِالطَّاعَةِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ بِمُخَالَفَةِ سُنَّةٍ فَإِذَا أَمَرَ بِمِثْلِ هَذَا فَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا طَاعَةَ، وَالدُّعَاءُ لَهُ بِظَاهِرِ الْغَيْبِ لِيُصْلِحَهُ اللَّهُ وَيُصْلِحَ عَنْ يَدَيْهِ، وَالنَّصِيحَةُ لَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَالصَّلَاةُ، وَالْجِهَادُ مَعَهُ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الْوَالِدَيْنِ بِبِرِّهِمَا بِالنَّفْسِ، وَالْمَالِ، وَخِدْمَتِهِمَا فِي حَيَاتِهِمَا، وَإِنْجَازِ وَعْدِهِمَا، وَالدُّعَاءِ لَهُمَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ مَا دَامَا فِي الْحَيَاةِ، وَحِفْظِ عَهْدِهِمَا بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَإِنْجَازِ عَادَاتِهِمَا، وَإِكْرَامِ أَصْدِقَائِهِمَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ» ، وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: «بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ جَاءَهُ

فصل في آداب صحبة الأعضاء

رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبِرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِثْبَاتُ عَهْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إلَّا بِهِمَا» ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ بِالْمُدَارَاةِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَسَعَةِ الصَّدْرِ، وَتَمَامِ الشَّفَقَةِ، وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْأَدَبِ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى الطَّاعَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] الْآيَةَ، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رَحِمَ اللَّهُ وَالِدًا أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ بِالْإِفْضَالِ عَلَيْهِ» ، وَالصَّفْحِ عَنْ عَثَرَاتِهِمْ، وَالْغَضِّ عَنْ مَسَاوِيهِمْ مَا لَمْ تَكُنْ إثْمًا أَوْ مَعْصِيَةً، وَالصُّحْبَةِ مَعَ الْإِخْوَانِ بِدَوَامِ الْبِشْرِ، وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ، وَنَشْرِ الْمَحَاسِنِ، وَسَتْرِ الْقَبَائِحِ، وَاسْتِكْثَارِ قَلِيلِ بِرِّهِمْ إلَيْك، وَاسْتِصْغَارِ مَا مِنْك إلَيْهِمْ، وَتَعَهُّدِهِمْ بِالنَّفْسِ، وَالْمَالِ، وَمُجَانَبَةِ الْحِقْدِ، وَالْحَسَدِ، وَالْبَغْيِ، وَالْأَذَى، وَمَا يَكْرَهُونَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَتَرْكِ مَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ. ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الْعُلَمَاءِ بِمُلَازَمَةِ إكْرَامِهِمْ، وَقَبُولِ قَوْلِهِمْ، وَالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ فِي الْمُهِمَّاتِ، وَالنَّوَازِلِ، وَتَعْظِيمِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ مَحَلِّهِمْ حَيْثُ جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَوَارِثِيهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الضَّيْفِ بِحُسْنِ الْبِشْرِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، وَطِيبِ الْحَدِيثِ، وَإِظْهَارِ السُّرُورِ، وَالْكَوْنِ عِنْدَ أَمْرِهِ، وَنَهْيِهِ، وَرُؤْيَةِ فَضْلِهِ، وَاعْتِقَادِ الْمِنَّةِ لَهُ حَيْثُ أَكْرَمَهُ بِدُخُولِ مَنْزِلِهِ، وَتَنَاوُلِ طَعَامِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ دَعَانَا فَأَبَيْنَا ... فَلَهُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا فَإِذَا نَحْنُ أَتَيْنَا ... رَجَعَ الْفَضْلُ إلَيْنَا [فَصْلٌ فِي آدَابِ صُحْبَةِ الْأَعْضَاءِ] ِ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ جَارِحَةٍ مِنْ الْجَوَارِحِ آدَابًا تَخْتَصُّ بِهَا. فَآدَابُ الْبَصَرِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى أَخِيهِ نَظَرَ مَوَدَّةٍ وَمَحَبَّةٍ يَعْرِفُهَا هُوَ مِنْك، وَمَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ، وَيَكُونُ نَظَرُهُ إلَى

مَحَاسِنِهِ، وَإِلَى أَحْسَن شَيْءٍ يَبْدُو مِنْهُ، وَأَنْ لَا يَصْرِفَ عَنْهُ بَصَرَهُ فِي وَقْتِ إقْبَالِهِ عَلَيْهِ، وَكَلَامِهِ مَعَهُ، وَآدَابُ السَّمْعِ أَنْ يَسْتَمِعَ إلَى حَدِيثِهِ سَمَاعَ مُشْتَهٍ لِمَا يَسْمَعُهُ مُتَلَذِّذٍ بِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَلَّمَك لَا تَصْرِفْ بَصَرَك عَنْهُ، وَلَا تَقْطَعْ حَدِيثَهُ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَإِنْ اضْطَرَّك الْوَقْتُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اسْتَعْذَرْتَهُ فِيهِ، وَأَظْهَرْت لَهُ عُذْرَك، وَآدَابُ اللِّسَانِ أَنْ تُكُلِّمَ إخْوَانَك بِمَا يُحِبُّونَ فَتَخْتَارَ وَقْتَ نَشَاطِهِمْ لِسَمَاعِ مَا تُكَلِّمُهُمْ بِهِ، وَتَبْذُلَ لَهُمْ نَصِيحَتَك، وَتَدُلَّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَتُسْقِطَ مِنْ كَلَامِك مَا تَعْلَمُ أَنَّ أَخَاك يَكْرَهُهُ مِنْ حَدِيثٍ أَوْ لَفْظٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَا تَرْفَعْ عَلَيْهِ صَوْتَك، وَلَا تُخَاطِبْهُ بِمَا لَا يَفْهَمُ عَنْك، وَتُكَلِّمُهُ بِمِقْدَارِ فَهْمِهِ، وَآدَابُ الْيَدَيْنِ أَنْ يَكُونَا مَبْسُوطَتَيْنِ لِإِخْوَانِهِ بِالْبِرِّ وَالْمَعُونَةِ لَا يَقْبِضُهُمَا عَنْهُمْ، وَعَنْ الْإِفْضَالِ عَلَيْهِمْ، وَآدَابُ الرِّجْلَيْنِ أَنْ يُمَاشِي إخْوَانَهُ فَلَا يَتَقَدَّمُهُمْ، بَلْ يَكُونُ تَبَعًا لَهُمْ فَإِنْ قَرَّبُوهُ تَقَرَّبَ إلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ مِنْ رَغَبَاتِهِمْ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَوْضِعِهِ، وَلَا يَقْعُدُ عَنْ حُقُوقِ إخْوَانِهِ مُعَوِّلًا عَلَى الثِّقَةِ بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ قَالَ: تَرْكُ حُقُوقِ الْإِخْوَانِ مَذَلَّةٌ. (فَصْلٌ) اعْلَمْ - وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ هَذِهِ الْآدَابَ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا هِيَ آدَابُ الظَّوَاهِرِ، وَهِيَ عُنْوَانٌ عَلَى آدَابِ السَّرَائِرِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ فِي الْأَثَرِ «عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمُرَاعَاةُ الْبَاطِنِ أَوْجَبُ مِنْ مُرَاعَاةِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لِلْخَلْقِ، وَالْبَاطِنَ لِلْخَالِقِ، وَمَا كَانَ لِلْخَالِقِ فَهُوَ أَوْجَبُ فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ الْكَمَالُ، وَالسَّعَادَةُ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهِمَا، وَصِفَةُ إخْلَاصِ الْبَاطِنِ التَّحَقُّقُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْخَوْفُ مِنْهُ، وَالرَّجَاءُ فِيهِ، وَالِاتِّصَافُ بِالصَّبْرِ، وَسَلَامَةُ الصَّدْرِ، وَحُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ، وَحُسْنُ ظَنِّهِ بِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالِاهْتِمَامُ بِأُمُورِهِمْ فَإِذَا فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَوِيَ الرَّجَاءُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ

فصل مراتب الإخوان

[فَصْلٌ مَرَاتِبُ الْإِخْوَانِ] فَصْلٌ) : قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْإِخْوَانُ أَرْبَعَةٌ: أَخٌ كَالدَّوَاءِ، وَأَخٌ كَالْغِذَاءِ، وَأَخٌ كَالدَّاءِ، وَأَخٌ كَالدِّفْلَى. فَالْأَوَّلُ مَعْدُومٌ، وَالثَّانِي مَفْقُودٌ، وَالثَّالِثُ مَوْجُودٌ، وَالرَّابِعُ مَشْهُودٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ كَالدَّوَاءِ فَهُوَ مِثْلُ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ أَهَّلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِتَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ، وَكَالصُّلَحَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ فَهُمْ قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ، وَمُجَالَسَتُهُمْ تَشْفِي الْأَسْقَامَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَدْ كَانَ الْمُرِيدُونَ قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِ يَدْخُلُونَ إلَى خَلَوَاتِهِمْ فَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ عَجْزٌ أَوْ كَسَلٌ خَرَجُوا إلَى مَجْلِسِ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ فَتَنْتَعِشُ قُوَاهُمْ بِسَمَاعِ كَلَامِهِ وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُ، وَيَمُدُّهُمْ بِهِمَّتِهِ فَيَتَغَذَّوْنَ بِذَلِكَ، وَيَرْجِعُونَ إلَى خَلَوَاتِهِمْ أَنْشَطَ مَا كَانُوا أَوَّلًا فَهُمْ دَوَاءٌ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَأَنْتَ تَرَى تَعَذُّرَ هَذَا الزَّمَانِ غَالِبًا مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ كَالْغِذَاءِ فَهُوَ مِثْلُ الْأَخِ فِي اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْفِقِ الْوَدُودِ الْحَنُونِ الَّذِي يُؤْلِمُهُ مَا يُؤْلِمُك، وَيَسُرُّهُ مَا يَسُرُّك، وَيُجَوِّعُ نَفْسَهُ لِجُوعِك، وَيَتَعَرَّى لِعُرْيِك، وَيُكَابِدُ مَا نَزَلَ بِك أَكْثَرَ مِنْ مُكَابَدَةِ مَا نَزَلَ بِهِ، وَأَنْتَ تَرَى فَقْدَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَكِنَّ بَيْنَ الْفَقْدِ وَالْعَدَمِ فَرْقٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُوجَدُ أَلْبَتَّةَ، وَالْمَفْقُودَ قَدْ يُوجَدُ فِي مَوْضِعٍ مَا. سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مَرَاتِبُ الْإِخْوَانِ ثَلَاثَةٌ لَا رَابِعَ لَهَا: فَالْأَوَّلُ - أَنْ يَكُونَ أَخُوك عِنْدَك مِثْلَ أَبِيك، وَهُوَ أَعْلَاهُمْ. وَالثَّانِي - أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَخِيك الشَّقِيقِ، وَهُوَ أَوْسَطُهُمْ. وَالثَّالِثُ - أَنْ يَكُونَ عِنْدَك مِثْلَ عَبْدِك، وَهُوَ أَقَلُّ الْإِخْوَانِ مَرْتَبَةً فَإِنْ عَجَزْت عَنْ ذَلِكَ فَلَا أُخُوَّةَ إذْ ذَاكَ أَعْنِي الْأُخُوَّةَ الْخَاصَّةَ بِالْفُقَرَاءِ، وَأَمَّا أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ فَهِيَ حَاصِلَةٌ. فَأَمَّا الْأَخُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَك مِثْلَ أَبِيك فَهُوَ حَالُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ إذْ إنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ مَعَ أَبِيهِ حَدِيثٌ فِي شَيْءٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» فَحَالُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى إذْ إنَّ الْمُرِيدَ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ، وَلَا اخْتِيَارٌ فِي كُلِّ مَا يُحَاوِلُهُ إلَّا بِرِضَا شَيْخِهِ وَإِذْنِهِ، وَأَمَّا الَّذِي عِنْدَك كَأَخِيك الشَّقِيقِ فَهُوَ حَالُ الْمُرِيدِ مَعَ إخْوَانِهِ، وَهُوَ أَقَلُّ رُتْبَةً مِنْ الْأَوَّلِ

لِأَنَّ الْأَخَ الشَّقِيقَ يُقَاسِمُ أَخَاهُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَإِنْ أَخَذَ الْأَخُ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ أَخَذَ الْأَخُ مِثْلَهُ فَكَذَلِكَ حَالُ الْمُرِيدِ مَعَ إخْوَانِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إنْ لَبِسَ ثَوْبًا كَسَا أَخَاهُ مِثْلَهُ، وَإِنْ أَكَلَ طَعَامًا أَطْعَمَ أَخَاهُ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ أَقَلُّ الدَّرَجَاتِ فِي الْأُخُوَّةِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَك مِثْلَ عَبْدِك أَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تَقُومَ بِضَرُورَتِهِ مِنْ غِذَائِهِ، وَكِسْوَتِهِ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ فِي صَلَاحِ دِينِهِ، وَدُنْيَاهُ، وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ مَعَ أَخِيهِ إذْ إنَّهُ لَا يَشْبَعُ الْمُكَلَّفُ، وَعَبْدُهُ جَائِعٌ، وَلَا يَلْبَسُ، وَعَبْدُهُ عُرْيَانٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: «رَأَيْت أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنِّي سَابَبْت رَجُلًا فَشَكَانِي إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعَيَّرْته بِأُمِّهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ إخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» فَإِنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ فَيَنْبَغِي أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ الْأُخُوَّةَ لِعَجْزِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا إذْ إنَّهُ قَدْ يَشْبَعُ، وَأَخُوهُ جَائِعٌ، وَقَدْ يَلْبَسُ، وَأَخُوهُ عُرْيَانٌ فَيُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا لَهُ لِمَنْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَتَتَعَمَّرُ الذِّمَّةُ بِالْحُقُوقِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ كَثُرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِذَا أَحْسَنُوا الظَّنَّ بِأَحَدٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ طَلَبُوا مِنْهُ الْأُخُوَّةَ فَإِنْ أَجَابَهُمْ لِمَا طَلَبُوهُ، وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ بَعْدَ الْأُخُوَّةِ مَعَهُ، وَلَا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ غَالِبًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفَ حَالُهُ أَبَاتَ جَائِعًا أَمْ لَا أَوْ هُوَ عُرْيَانٌ أَمْ لَا، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ مَنْ يَتَفَقَّدُهُ لَكِنْ بِالرُّؤْيَةِ وَالسُّؤَالِ لَيْسَ إلَّا دُونَ إعَانَةٍ وَمُشَارَكَةٍ فَشَغَلُوا ذِمَّتَهُمْ بِشَيْءٍ كَانُوا فِي غِنًى عَنْ تَرَتُّبِهِ فِيهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ السَّيِّدُ عَلَى نَفَقَتِهِ، وَكِسْوَتِهِ أَمَرَهُ الشَّرْعُ بِبَيْعِهِ فَالْبَيْعُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ مُقَابِلُهُ فِي حَقِّ الْأَخِ فَإِنَّك إذَا عَجَزْت عَنْ الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ نَزَّلْت

أَخَاك مَنْزِلَةَ بَيْعِ الْعَبْدِ عِنْدَ الْعَجْزِ كَمَا تَقَدَّمَ. يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَنْ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانَ الْأَنْصَارِيُّ يَقُولُ لِأَخِيهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ: عِنْدِي مِنْ الْمَالِ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ نِصْفُهُ وَلِي نِصْفُهُ، وَلِي مِنْ الزَّوْجَاتِ كَذَا وَكَذَا فَاخْتَرْ مِنْهُنَّ مَا تُرِيدُ أَنْزِلْ لَك عَنْهُ، وَكَانَ الْمُهَاجِرِيُّ يَسْأَلُ عَنْ السُّوقِ، وَعَنْ الْحِيطَانِ يَعْمَلُ فِيهَا فَهَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَاءَ لِزِيَارَةِ أَخِيهِ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إلَّا لِلْمُخَالَفَةِ فَتَأَوَّهَ، وَقَالَ: أَخِي يَقَعُ، وَأَنَا بِالْحَيَاةِ فَرَجَعَ إلَى بَيْتِهِ، وَدَخَلَ خَلْوَتَهُ، وَعَزَمَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا إلَّا بِأَخِيهِ فَجَاءَ أَخُوهُ إلَى بَيْتِهِ فَأُخْبِرَ بِمَجِيئِهِ إلَيْهِ، وَسُؤَالِهِ عَنْ حَالِهِ فَجَاءَ مُسْتَغْفِرًا تَائِبًا إلَى بَيْتِهِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ دَخَلَ الْخَلْوَةَ فَقَالَ: أَخْبِرُوهُ بِأَنِّي قَدْ تُبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَرَجَعْت إلَيْهِ فَمَا خَرَجَ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَ قَضَاءُ حَاجَتِهِ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُؤَاخَاةُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَإِنْ رَأَيْت أَخَاك قَدْ غَرِقَ فَتَأْخُذُ بِيَدِهِ، وَتُنْجِيهِ مِنْ الْمَهَالِكِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَك قُدْرَةٌ فَلَا تَدَّعِيهَا إذْ إنَّ مَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ فِيهِ فَضَحَتْهُ شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ - مِنْ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ لِلْإِمَامِ الشَّيْخِ الصَّقَلِّيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ قَوْلُهُ، وَالثَّالِثُ - مَوْجُودٌ فَلَا شَكَّ أَنَّك إذَا خَالَطْت كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْ عَاشَرْتهمْ بِمُلَابَسَةِ مَا تَجِدُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ الْأَذِيَّةَ الْبَالِغَةَ إمَّا فِي دِينِك أَوْ دُنْيَاك أَوْ عِرْضِك، وَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فَإِنْ أَنْتَ خَالَطْته، وَجَدْت مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ - الَّذِي قَالَ: عَنْهُ إنَّهُ مَشْهُودٌ فَلَا شَكَّ فِي مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا تَكَلَّمْت مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي صَلَاحِ دِينِهِ فِي شَيْءٍ مَا قَابَلَك بِانْزِعَاجٍ، وَخُلُقٍ سَيِّئٍ، وَأَقَلُّ جَوَابِهِ أَنْ يَقُولَ لَك: مَا حَقَّرْت فِي النَّاسِ إلَّا أَنَا حَتَّى تَأْمُرَنِي، وَتَنْهَانِي أَوْ يَتَسَلَّطُ عَلَيْك بِبَذَاءَةِ لِسَانِهِ، وَيَنْظُرُ لَك عَوْرَاتٍ يُظْهِرُهَا أَوْ حَسَنَاتٍ يُخْفِيهَا أَوْ يَرُدُّهَا سَيِّئَاتٍ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمَرَارَةِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى كَمَا هِيَ الدِّفْلَى إذَا تَنَاوَلْت مِنْهَا شَيْئًا، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ

فصل ينبغي للمريد أن يكون نظره للخلق بعين الرحمة والشفقة والتودد

إلَى الْعَدَمِ إذْ قِيلَ: إنَّهَا سُمٌّ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْك أَنْ تَفِرَّ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدَيْهِ، وَبَالَغَ فِي الْفَحْصِ عَنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَيَا سَعَادَتُهُ إنْ ظَفِرَ بِأَحَدِهِمَا كَمَا قِيلَ: وَإِذَا صَفَا لَك مِنْ زَمَانِك وَاحِدٌ ... فَهُوَ الْمُرَادُ وَأَيْنَ ذَاكَ الْوَاحِدُ فَإِنْ عَدِمَهُمَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخَلْوَةُ وَالِاعْتِزَالُ إنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ إذْ إنَّ الِاجْتِمَاعَ بِالنَّاسِ إنَّمَا يَحْتَاجُهُ الْمُرِيدُ لِلزِّيَادَةِ لَا لِلنَّقْصِ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِيهِ إلَّا النَّقْصُ فَلْيَحْذَرْ مِنْهُ جَهْدَهُ، وَيَسْتَعِينُ بِرَبِّهِ مَعَ سَلَامَةِ صَدْرِهِ لَهُمْ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِمْ عُمُومًا، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ [فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لِلْخَلْقِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالتَّوَدُّدِ] (فَصْلٌ) : مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ بَعْضُهُ بِاللَّفْظِ، وَبَعْضُهُ بِالْمَعْنَى. وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لِلْخَلْقِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، وَالتَّوَدُّدِ، وَذَلِكَ يَقَعُ مِنْهُ عَلَى وُجُوهٍ: فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ فَسَبِيلُ الْعِلْمِ بِفَقْرِهِمْ، وَإِذَا أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهِمْ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ السَّلَامَةِ لَهُمْ بِالْمَيْلِ إلَى حِزْبِ الْفَائِزِينَ، وَإِذَا احْتَمَلَ الْأَذَى مِنْهُمْ فَسَبِيلُهُ الرَّحْمَةُ لَهُمْ، وَإِذَا جَازَى عَلَى السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ فَسَبِيلُهُ التَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ، وَإِذَا رَاعَى حَقَّ كُلِّ ذِي حَقٍّ، وَإِنْ صَغُرَ فَسَبِيلُهُ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الشَّاكِرِينَ، وَإِذَا تَنَاسَى الشَّرَّ جُمْلَةً فَسَبِيلُهُ تَطْهِيرُ الْقَلْبِ مِنْ دَنَسِ هَوَاجِسِ النُّفُوسِ فِي حَقِّ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا عَامَلَهُمْ بِالسَّخَاءِ فَسَبِيلُهُ الْبُعْدُ مِنْ صِفَةِ الْبُخْلِ، وَالتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْفَضْلِ، وَالْيَقِينِ بِالْخَلَفِ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَطْلُبَ الْخَلَفَ الْفَانِي إذْ إنَّ كُلَّ مَا جَاءَهُ مِنْ الدُّنْيَا فَهُوَ ذَاهِبٌ فَانٍ، وَإِذَا عَامَلَهُمْ بِرَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ جُمْلَةً فَسَبِيلُهُ عَدَمُ الْفَرَاغِ وَالِاشْتِغَالُ بِوَظَائِفِ التَّكْلِيفِ، وَإِذَا عَامَلَهُمْ بِرُؤْيَةِ الْحُسْنِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالتَّعَامِي عَنْ الْقَبِيحِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَسَبِيلُهُ الْغَيْرَةُ فِي مُشَاهَدَةِ الْمَحَاسِنِ، وَالِاشْتِغَالُ عَنْ الْقَبَائِحِ بِعُيُوبِ النَّفْسِ مَعَ حُسْنِ الظَّنِّ بِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ، وَإِذَا تَوَاضَعَ لِلَّهِ فَسَبِيلُهُ إجْلَالُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ. وَإِذَا تَوَاضَعَ لِلْخَلْقِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دُونَ

تَمَاوُتٍ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لِاعْتِقَادِ الْأَثَرَةِ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَظْهَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَسَبِيلُهُ احْتِقَارُ النَّفْسِ، وَرُؤْيَةُ عُيُوبِهَا، وَحُسْنُ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا تَرَكَ الْعُجْبَ، وَهُوَ أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ شَيْئًا حَسَنًا فَسَبِيلُهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا فَاعِلَ لِلْأَشْيَاءِ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيُلْزِمُ نَفْسَهُ الِافْتِقَارَ إلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا، وَإِذَا أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ بِأَنْ لَا يُرِيدَ بِصَالِحِ عَمَلِهِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَسَبِيلُهُ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ مِنْ حَبْطِ الْأَعْمَالِ مَخَافَةَ تَوَقُّعِ الرِّيَاءِ فَيُقَدِّرُ الْخَلْقَ فِي حِزْبِ الْعَدَمِ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لَهُ شَيْئًا. وَإِذَا اسْتَشْعَرَ اطِّلَاعَ الْحَقِّ عَلَيْهِ فَسَبِيلُهُ تَرْكُ الْفَرَاغِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمُرُّ عَلَيْهِ وَقْتٌ إلَّا وَهُوَ مَشْغُولٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الرِّبْحُ أَوْ جَبْرُ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِذَا تَرَكَ الْمُبَاحَ فَسَبِيلُهُ عِمَارَةُ الْوَقْتِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، وَإِذَا أَحَبَّ الْمَسَاكِينَ، وَخَدَمَهُمْ، وَأَمَاطَ الْأَذَى عَنْهُمْ، وَأَدْخَلَ السُّرُورَ عَلَيْهِمْ بِإِرْفَادِهِمْ، وَالْعَوْنِ لَهُمْ، وَإِظْهَارِ الْبِشْرِ، وَاحْتِمَالِ الْجَفَاءِ، وَالِاخْتِلَاطِ بِهِمْ، وَالتَّلَطُّفِ فِي نُصْحِ مَنْ زَلَّ مِنْهُمْ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ حَطِّ الْأَوْزَارِ، وَالظَّفَرُ بِمَحَبَّةِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ، وَإِذَا تَرَكَ الْمِزَاحَ جُمْلَةً فَسَبِيلُهُ الِاهْتِمَامُ بِسَالِفِ الذُّنُوبِ، وَإِذَا رَاعَى الْفَرْضَ بِطَلَبِ أَدَائِهِ كَمَا وَجَبَ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِذَا أَحْسَنَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ يَجُوزُ الْإِحْسَانُ إلَيْهِ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ الْإِنْصَافِ بِالْمَحَامِدِ، وَإِذَا تَرَكَ الشَّهَوَاتِ فَسَبِيلُهُ الْعِلْمُ بِعَاقِبَتِهَا وَمَآلِهَا، وَطَلَبُ الرُّقِيِّ عَنْ الْأَرْضِيَّاتِ، وَإِذَا قَلَّلَ الطَّعَامَ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِهِ ضَرَرٌ فَسَبِيلُهُ التَّحَقُّقُ لِلْعِبَادَةِ، وَالتَّهَيُّؤُ لِلْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِذَا لَبِسَ الدُّونَ مِنْ الثِّيَابِ مَعَ مُجَانَبَةِ الشُّهْرَةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الضَّرُورَةِ فَسَبِيلُهُ خَوْفُ الْحِسَابِ، وَإِذَا تَرَكَ التَّنَعُّمَ بِمَلَاذِ الطَّيِّبَاتِ، فَسَبِيلُهُ التَّشَبُّهُ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَإِذَا تَرَكَ الْهَمْزَ وَالِاحْتِقَارَ بِالْخَلْقِ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ التَّبَرِّي مِنْ صِفَةِ الْجَاهِلِينَ، وَإِذَا تَرَكَ الْفَرَحَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبِيلُهُ الْجَهْلُ بِالْعَاقِبَةِ، وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِالدُّنْيَا، وَإِذَا

تَرَكَ الْحُزْنَ عَلَى مَا فَاتَ فَسَبِيلُهُ شَغْلُ الْوَقْتِ بِالْخِدْمَةِ، وَالْإِيمَان بِالْقَدَرِ. وَإِذَا وَاصَلَ الْأَحْزَانَ خَوْفًا مِنْ السَّابِقَةِ، وَالْخَاتِمَةِ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ التَّقَرُّبِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِانْكِسَارِ الْقَلْبِ، وَجَمْعِ الْهَمِّ، وَإِذَا جَمَعَ هُمُومَهُ عَلَيْهِ فَسَبِيلُهُ الْفِرَارُ مِنْ تَفْرِقَةِ الْقَلْبِ فِي شِعَابِ الْغَفْلَةِ، وَإِذَا فَوَّضَ أُمُورَهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِطَرْحِ نَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ دُونَ اقْتِرَاحٍ عَلَيْهِ فَسَبِيلُهُ اسْتِعْمَالُ الْأَدَبِ مَعَ جَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِذَا تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لِثِقَتِهِ بِالْمَضْمُونِ فَسَبِيلُهُ شُغْلُ الْوَقْتِ بِالتَّكْلِيفِ، وَإِذَا تَرَكَ رُؤْيَةَ الْأَسْبَابِ حَتَّى اسْتَوَى عِنْدَهُ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا فَسَبِيلُهُ إفْرَادُ الْحَقِّ بِالْخَلْقِ، وَالتَّبَرِّي مِنْ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَالْجَلِيِّ كَالْخُبْزِ لَا يُشْبِعُ، وَالْمَاءِ لَا يَرْوِي، وَالثَّوْبِ لَا يُدْفِئُ، وَكَذَلِكَ الْأُمُورُ الْعَادِيَّةُ كُلُّهَا، وَإِذَا تَرَكَ التَّمَلُّقَ لِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ فَسَبِيلُهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ بِخِلَافِ التَّمَلُّقِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُوَ التَّوَاضُعُ، وَالتَّذَلُّلُ لَهُمْ، وَإِذَا افْتَقَرَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ فَسَبِيلُهُ إظْهَارُ صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِذَا غَابَ عَنْ الْخَلْقِ بِبَاطِنِهِ، وَلَمْ يَسْعَ إلَيْهِمْ بِظَاهِرِهِ فَسَبِيلُهُ سَدُّ بَابِ الْأُنْسِ بِالْمَخْلُوقِ، وَإِذَا تَرَكَ الْإِقْبَالَ عَلَى أَحَادِيثِ الْعَامَّةِ، وَتَرَكَ التَّشَوُّفَ لَهَا بِصَوْنِ قَلْبِهِ عَنْهَا، وَعِمَارَتِهِ بِذِكْرِ الْحَقِّ فَسَبِيلُهُ سَدُّ بَابِ الْمِحْنَةِ، وَإِطْفَاءُ نَارِ الْفِتْنَةِ، وَخَوْفُ خُسْرَانِ الْآخِرَةِ. وَإِذَا كَانَتْ نَفْسُ الْمُرِيدِ مُتَطَلِّعَةً لِأَحَادِيثِ النَّاسِ لَمْ يُفْلِحْ أَبَدًا، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ اسْتِفْتَاحَ بَابِ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَسَدَّ بَابِ الشَّرِّ كُلِّهِ فِي نَفْسِ أَدَاءِ الْمَفْرُوضَاتِ إذْ هِيَ مِعْيَارُ الْقَلْبِ، وَبِهَا تَتَبَيَّنُ الزِّيَادَةُ، وَالنَّقْصُ، وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَذْلِ الْجَهْدِ، وَجَمْعِ النَّفْسِ، وَمَحْضِ الصِّدْقِ، وَشِدَّةِ الْخَوْفِ، وَمُوَاصَلَةِ الْحُزْنِ حَتَّى إذَا اسْتَطَعْت أَنْ تَمُوتَ حِينَ تَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ فَمُتْ فَسَبِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ قُرْبُك مِنْ اللَّهِ، وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ مَنْزِلَةَ قُرْبِك عِنْدَهُ فَمُلَازَمَةُ الْجَدِّ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْحَقِّ فِيك مَوْضِعٌ، وَسَبِيلُهُ مُرَاقَبَةُ الْحَقِّ، وَإِجْلَالُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِذَا أَرَدْت عِزَّةَ النَّفْسِ، وَصِيَانَتَهَا عَنْ سُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ دَقَّتْ الْحَاجَةُ أَوْ جَلَّتْ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ كُلِّ حَاجَةٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَدَبًا مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ وَمِنْ

فصل إن كان المريد له تعلق بالأولاد

آكَدِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُرِيدُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُنْزِلَ نَفْسَهُ فِي صُورَةِ مُرْشِدٍ وَلَا مُوصٍ، وَلَا مُتَكَلِّمٍ بِالْحِكْمَةِ، وَلَا بِالْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، وَلَكِنْ لِيُشْغِلَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَاغِلٌ بِسَبَبِ طَلَبِهِ الْعِلْمَ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ قَالَ إبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ: دَوَاءُ الْقُلُوبِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ، وَخَلَاءُ الْبَاطِنِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ، وَالتَّضَرُّعُ عِنْدَ السَّحَرِ، وَمُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ. وَقَالَ: أَيْضًا التَّاجِرُ بِرَأْسِ مَالِ غَيْرِهِ مُفْلِسٌ، وَمِنْ كَلَامِ يُمْنِ بْنِ رِزْقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَا هَذَا هَلَّا حَجَرَك عَقْلُك عَنْ أَنْ تَبُوحَ بِسِرِّك إلَى أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ أَوْ أَنْ تَشْكُوَ حَالَك فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا إلَيْهِمْ أَوْ تَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِيك أَوْ تُجِيبَ إلَى أَمْرٍ لَا تَتَحَقَّقُ رُشْدَهُ، وَلَا تَأْمَنُ ضَرَرَهُ يَا هَذَا اجْعَلْ رَبَّك مَوْضِعَ شَكْوَاكَ، وَقَلْبَك خِزَانَةَ سِرِّك، وَالْزَمْ مُرَاقَبَةَ مَوْلَاك فِي كُلِّ حَالٍ يَرِدُ عَلَيْك فَإِنْ رَأَيْت خَيْرًا فَاحْمَدْ اللَّهَ، وَإِنْ رَأَيْت شَرًّا فَافْتَقِرْ فِيهِ إلَيْهِ، وَانْظُرْ إلَى الْخَلْقِ هَيَاكِلَ مُصَرَّفَةً، وَأَسْبَابًا مُسَخَّرَةً، وَلَا تَشْكُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ إلَّا عَلَى قَدْرِ مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ، وَحَسْبُك مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا، وَتَرَى الْفَضْلَ كُلَّهُ مِنْ مَوْلَاك فَاشْكُرْهُ بِكُلِّيَّتِك فَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ حَقِيقَةً، وَشُكْرُ سِوَاهُ مَجَازٌ كَمَا أَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ [فَصْلٌ إنْ كَانَ الْمُرِيدُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْأَوْلَادِ] (فَصْلٌ) : فَإِنْ كَانَ الْمُرِيدُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْأَوْلَادِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُهِمَّهُ شَأْنُهُمْ، وَلْيَنْظُرْ إلَى مَا سَبَقَ فِيهِمْ مِنْ الْقَدَرِ، وَيَعْلَمْ أَنَّ الْمَلِكَ لَا يَضِيقُ عَنْ رِزْقِهِمْ، وَأَنَّ مَا كُتِبَ لَهُمْ لَنْ يَفُوتَهُمْ، وَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ لَنْ يَفُوتُوهُ، وَأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ فِي حَقِّهِمْ سِيَّانِ إذْ إنَّهُ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ إنَّهُمْ إنْ كَانُوا لِلَّهِ أَوْلِيَاءَ فَلَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ مَعَهُمْ إلَّا خَيْرًا، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، وَلْيَقُلْ: قَدْ اسْتَوْدَعْتُهُمْ لِمَنْ لَا تَخِيبُ لَدَيْهِ الْوَدَائِعُ فَلْيَطْرَحْ الْهَمَّ فِيهِمْ جُمْلَةً وَاحِدَةً إنْ عَقَلَ وَلْيَظُنَّ بِمَوْلَاهُ خَيْرًا وَالسَّلَامُ. [فَصْلٌ اُبْتُلِيَ الْمُرِيدُ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ وَخِلْطَتِهِمْ بِالْأَذِيَّةِ وَالْجَفَاءِ مِنْهُمْ] (فَصْلٌ) : فَإِنْ اُبْتُلِيَ الْمُرِيدُ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ وَخِلْطَتِهِمْ بِالْأَذِيَّةِ وَالْجَفَاءِ مِنْهُمْ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِمْ، وَيَرْجِعَ إلَى حَالِهِ وَيُفَتِّشَ خَبَايَا نَفْسِهِ

فِي الَّذِي قِيلَ فِيهِ فَقَدْ يَكُونُ حَقًّا، فَإِنْ وَجَدَهُ فِي نَفْسِهِ عَلِمَ إذْ ذَاكَ أَنَّ مَنْ قَالَ فِيهِ مَا قَالَ إنَّمَا هُوَ نَذِيرٌ جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ لِيَتُوبَ، أَوْ يُوقِعَ بِهِ النَّكَالَ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ، وَيَرَى الْإِحْسَانَ وَالْفَضْلَ لِمَنْ قَالَ فِيهِ مَا قَالَ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا قِيلَ عَنْهُ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدِهَا: أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ بِالدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُبْتَلًى فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا» وَلَا شَكَّ أَنَّ الِابْتِلَاءَ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ الِابْتِلَاءِ فِي الْبَدَنِ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الِابْتِلَاءِ. هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ - تَعَالَى - عَلَى سَلَامَتِهِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ. الثَّانِي: وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ فِي أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَلَّمَهُ مِمَّا وَقَعَ أَخُوهُ فِيهِ، إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لَكَانَ بَلَاءً بَيِّنًا إذْ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُ السَّلَامَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَمِنْ كِتَابِ يُمْنِ بْنِ رِزْقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْ سَاءَهُ الذَّمُّ وَأَعْجَبَهُ الْمَدْحُ فَذَلِكَ ذَكَرُ الصُّورَةِ خُنْثَى الْعَزِيمَةِ. وَقَالَ لَوْ قَالَ لِي قَائِلٌ: إنَّ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِحَظِّهِ مِنْ الْفَقْرِ لَمْ يَجِدْ طَعْمَ الْإِيمَانِ لَمَا خَالَفْتُهُ، وَلَوْ أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ أَنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْعَافِيَةِ فِي الْخُمُولِ، وَالْغِنَى عَنْ النَّاسِ لَصَدَّقْتُهُ. وَقَالَ: حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الصَّبْرِ فِي مَوَاطِنِ الِامْتِحَانِ حِيلَةٌ حَسَنَةٌ فِي التَّخَلُّصِ، وَإِنْ أَبْطَأَ. وَقَالَ: مَنْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ نَصَبٍ وَتَعَبٍ لَمْ يُنْكِرْ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْهَا مَا دَامَ فِيهَا، وَأَخَذَ مِنْ الرَّاحَةِ بِحَظِّهِ، وَمَنْ تَوَهَّمَهَا مَنْزِلَ رَاحَةٍ لَمْ يُقَدِّرْ الرَّاحَةَ قَدْرَهَا إذْ أَتَتْهُ، وَكَانَ تَعَبُهُ فِيهَا مُضَاعَفًا. وَقَالَ: تَقْدِيمُ صِدْقِ اللُّجْأِ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي مَبَادِئِ الْحَاجَاتِ عُنْوَانٌ عَلَى نَجَاحِ غَايَاتِهَا، وَقَالَ: افْتَكِرْ فِي الْمَوْتِ تَهُنْ عَلَيْكَ الْمَصَائِبُ. وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْ النَّفْسِ يَعْنِي فِي شَهَوَاتِهَا وَمَلْذُوذَاتِهَا، وَلَا أَجْرَأَ مِنْ اللِّسَانِ، وَلَا أَشَدَّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقَلْبِ، وَلَا أَعْدَمَ مِنْ الْإِخْوَانِ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ الْإِخْلَاصِ وَلَا أَكْثَرَ مِنْ الْأَمَلِ

الصمت وغض البصر مفتاحان لأبواب القلوب

[الصَّمْتُ وَغَضُّ الْبَصَرِ مِفْتَاحَانِ لِأَبْوَابِ الْقُلُوبِ] قَالَ: الصَّمْتُ وَغَضُّ الْبَصَرِ مِفْتَاحَانِ لِأَبْوَابِ الْقُلُوبِ، وَقَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ النَّاسِ تَرَبَّعَ فِي بُحْبُوحَةِ الْعَافِيَةِ. وَقَالَ: لَيْسَ إلَّا دُنْيَا وَآخِرَةٌ فَإِنْ أَرَدْتَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا رُمْتَ مُحَالًا وَذَهَبَتَا عَنْكَ مَعًا فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ. وَقَالَ: الضَّرُورَاتُ تَدْعُو إلَى شَرٍّ كَثِيرٍ، وَفِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ. وَقَالَ يَحْسُنُ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ مُرَقَّعًا وَنَعْلُهُ بَالِيًا وَمَسْكَنُهُ خَلَقًا فَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ تَذْكِرَةٍ، وَأَكْبَرُ شَاهِدٍ عَلَى الْغِنَى، وَأَحَثُّ بَاعِثٍ عَلَى تَرْكِ الطُّمَأْنِينَةِ إلَى الدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجَدِيدَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَلَّتْ عِبْرَتُهُ، وَكَانَ حُبُّ الْعَاجِلَةِ أَغْلَبَ عَلَى عَقْلِهِ. وَقَالَ: اطْمَعْ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى أَيِّ حَالٍ كُنْتَ مِنْ التَّفْرِيطِ وَلَا تَأْمَنْ مَكْرَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كُنْتَ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَإِيَّاكَ وَالْيَأْسَ مِنْ مَوْلَاكَ فَإِنَّهُ قَطْعٌ لِلسَّبَبِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَاحْذَرْ الْأَمَانِيَّ فَإِنَّهَا اغْتِرَارٌ بِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ عَلِمَ سَعَةَ رَحْمَةِ اللَّهِ مَا يَئِسَ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَوْ عَلِمَ كُنْهَ عِقَابِ اللَّهِ لَمَاتَ خَوْفًا وَالسَّلَامُ. وَقَالَ إذَا كَانَ الْمَاضِي لَا يَرْجِعُ، وَالْمُقَدَّرُ لَا يَتَبَدَّلُ، فَاطِّرَاحُ الْهَمِّ سَعَادَةٌ مُعَجَّلَةٌ. وَقَالَ خَمْسٌ يُؤْلِمُكَ غَمُّهَا فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ إيلَامًا إلَّا أَنْ يَنَالَكَ عَفْوُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَقْلِلْ مِنْهَا، أَوْ اسْتَكْثِرْ: الْمِزَاحُ وَكَثْرَةُ الْكَلَامِ، وَالتَّعَرُّفُ بِالنَّاسِ، وَإِفْشَاءُ سِرِّكَ إلَيْهِمْ وَالشَّكْوَى بِحَالِكَ إلَى الْخَلْقِ. وَقَالَ: لَقَدْ رَابَنِي مَا أَرَاهُ مِنْ كَدِّ الْخَلْقِ لِلدُّنْيَا وَقِصَرِ هِمَّتِهِمْ عَلَيْهَا فِي إيمَانِهِمْ، وَلَقَدْ رَابَنِي مَا أَرَاهُ مِنْ مُكَالَبَتِهِمْ عَلَيْهَا وَفَرْطِ جُنُوحِهِمْ إلَيْهَا فِي عُقُولِهِمْ، وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ وَهُمْ عَلَى هَذَا الْحَالِ إنَّكَ إنْ نَطَقْتَ لَهُمْ بِالْحَقِيقَةِ سَخِرُوا مِنْكَ، وَإِنْ سَكَتَّ عَنْهُمْ اتَّهَمُوكَ، وَإِنْ مَازَحْتَهُمْ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا أَهْلَكُوكَ، وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ لَمْ يَتْرُكُوكَ فَلَا رَاحَةَ مَعَهُمْ وَلَا سَلَامَةَ دُونَهُمْ حَسْبِي اللَّهُ، ثُمَّ حَسْبِي اللَّهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ: رَجُلَانِ أَكْرَهُ رُؤْيَتَهُمَا، وَأُحِبُّ الْفِرَارَ مِنْهُمَا لِيَأْسِي مِنْ فَلَاحِهِمَا غَالِبًا: طَالِبُ كِيمْيَاءَ، وَطَالِبُ مُلْكٍ. وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْ تَسَامَى إلَى رُتَبٍ لَا يَقْتَضِيهَا حَالُهُ وَلَا حِلْيَتُهُ، وَآثَرَ هَوَاهُ وَأُمْنِيَتَهُ عَاشَ

الالتفات إلى الناس تعب في العاجل وندامة في الآجل

دَهْرَهُ فِي تَعَبٍ وَنَصَبٍ وَلَمْ يَبْلُغْ الْغَايَةَ الَّتِي يَسْعَى إلَيْهَا، وَمَنْ تَقَاعَدَ عَنْ الرُّتَبِ الَّتِي يُمْكِنُهُ بُلُوغُهَا عَاشَ مَهِينًا مَلُومًا، وَمَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ فَتَنَاوَلَ مِنْهَا مَا كَانَ لَهُ صَالِحًا اسْتَحَقَّ اسْمَ النُّبْلِ وَكَانَ عَيْشُهُ هَنِيئًا وَقَلْبُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - خَاشِعًا. وَقَالَ: أَنَا لَا أُصَدِّقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: مُكَالَمَةُ الْجَاهِلِ سَجْنٌ لِلْعَقْلِ. وَقَالَ الرَّاحَةُ فِي الدُّنْيَا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: فَقِيرٍ صَالِحٍ، أَوْ غَنِيٍّ عَاقِلٍ، أَوْ أَحْمَق مَبْخُوتٍ. وَقَالَ: يَا هَذَا إنْ كَانَ الْعَجَبُ مِنْ النَّاسِ مَرَّةً فَالْعَجَبُ مِنْكَ أَلْفَ مَرَّةٍ فَقَدْ بَانَ لَكَ بِالتَّجْرِبَةِ الْمُسْتَبِينَةِ وَالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ مُكَالَمَةَ النَّاسِ غُنْمُهَا نَدَامَةٌ وَالصَّمْتَ عَنْهُمْ سَلَامَةٌ، ثُمَّ لَا يَصْرِفُكَ ذَلِكَ عَنْ الْهَذَرِ مَعَهُمْ، وَالْخَوْضِ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَكُلُّهُمْ مَقْهُورُونَ لِطِبَاعِ أَنْفُسِهِمْ سَامِعُونَ مِنْ حَالِهِمْ مُبْصِرُونَ بِعُيُونِ رُءُوسِهِمْ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ فَمَا يُصْغِي إلَيْكَ مِنْهُمْ غَالِبًا إلَّا مُتَّهَمٌ، أَوْ مُكَذِّبٌ، أَوْ غَيْرُ مُحَصِّلٍ فَاصْحَبْهُمْ بِصَمْتٍ وَلَا يَكُونُ كَلَامُكَ لَهُمْ إلَّا جَوَابًا بِمَا لَا دَرَكَ فِيهِ عَلَيْكَ فِي دِينٍ، أَوْ دُنْيَا فَإِنْ أَنْتَ صَبَرْتَ عَلَى أَذَاهُمْ كُفِيتَهُمْ وَإِيَّاكَ أَنْ تَنْتَصِرَ لِنَفْسِكَ فَتُوكَلَ إلَيْهَا، وَسَلِّمْ الْأَمْرَ إلَى مَوْلَاكَ وَافْتَقِرْ إلَيْهِ تَجِدْهُ وَالسَّلَامُ. [الِالْتِفَاتُ إلَى النَّاسِ تَعَبٌ فِي الْعَاجِلِ وَنَدَامَةٌ فِي الْآجِلِ] وَقَالَ: الِالْتِفَاتُ إلَى النَّاسِ تَعَبٌ فِي الْعَاجِلِ وَنَدَامَةٌ فِي الْآجِلِ؛ لِأَنَّ عَامَّتَهُمْ مَا بَيْنَ جَافٍ مُتَعَسِّفٍ، أَوْ بَطِرٍ مُتَكَلِّفٍ فَلَيْسَ التَّأْثِيرُ بِالْأَوَّلِ بِأَسْوَأِ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِالثَّانِي فَالرَّأْيُ أَنْ يُعَدَّا جَمِيعًا فِي حِزْبِ الْعَدَمِ حَتَّى لَا تَأْثِيرَ لِلِاضْطِرَارِ إلَيْهِمْ وَلَا لِلْجَفَاءِ مَعَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيهِمْ، وَاعْتِقَادِ الرَّحْمَةِ وَالصِّلَةِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَاَلَّذِي يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْإِقْبَالُ عَلَى مَا يَعْنِيكَ، وَالصَّبْرُ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَإِنَّكَ إذَا وَافَقْتَ الشَّرِيعَةَ وَلَاحَظْتَ الْحَقِيقَةَ لَمْ تُبَالِ بِمَنْ خَالَفَ رَأْيَكَ مِنْ الْخَلِيقَةِ. وَقَالَ مَنْ تَفَكَّرَ فِيمَنْ سَلَفَ وَنَظَرَ فِي الْمَعَادِ هَانَ عَلَيْهِ جَفَاءُ الْخَلْقِ وَلَمْ يَغْتَرَّ بِلُطْفِهِمْ. وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْزَمْ الصَّمْتَ عِنْدَ مُحَاضَرَةِ مَنْ تَكْرَهُهُ وَتَكَلَّمْ مَعَ مَنْ لَكَ فِي كَلَامِهِ فَائِدَةٌ. وَقَالَ مَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا

يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ خَافَ وَحَزِنَ وَلَمْ يَفْتُرْ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا ضَمِنَ لِعِبَادِهِ أَرْزَاقَهُمْ لَمْ يَشْغَلْهُ طَلَبُ الْمَضْمُونِ عَمَّا كُلِّفَ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا مَنْ انْقَطَعَ إلَيْهِ كَفَاهُ تَوَكَّلَ بِالْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا لَا فَاعِلَ لِلْمَوْجُودَاتِ إلَّا هُوَ اقْتَصَرَ فِي كُلِّ مُرَامٍ إلَيْهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا رَقِيبًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ اسْتَحَى مِنْهُ حَقَّ الْحَيَاءِ. وَقَالَ: مَنْ نَظَرَ إلَى الدُّنْيَا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ فَرَأَى تَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا وَانْزِعَاجِهِمْ عَنْهَا لَمْ يَطْمَئِنَّ إلَيْهَا، وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْآخِرَةِ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ فَتَخَيَّلَ نَعِيمَهَا وَعَذَابَهَا وَأَيْقَنَ أَنَّهُ وَفَدَ عَلَيْهَا عَمِلَ لَهَا. وَقَالَ الْزَمْ الْفَضْلَ وَاتْرُكْ الْفُضُولَ وَاغْتَنِمْ وَقْتَكَ تَفُزْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَبِمُلَازَمَةِ الْفَضْلِ تَنَالُ الشَّرَفَ وَبِتَرْكِ الْفُضُولِ تَنَالُ السَّلَامَةَ وَبِاغْتِنَامِ الْوَقْتِ تَنَالُ الرِّبْحَ وَفِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَجْمُوعُ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ: لَيْسَ إلَّا عَيْشُ الدُّنْيَا، أَوْ عَيْشُ الْآخِرَةِ وَلَنْ يَجْتَمِعَا. فَالْأَوَّلُ مَادَّتُهُ الْأَرْضِيَّاتُ، وَهُوَ عَيْشُ النَّفْسِ. وَالثَّانِي مَادَّتُهُ الْعُلْوِيَّاتُ، وَهُوَ عَيْشُ الرُّوحِ، وَقَدْ عَلِمْتَ الْمَبْدَأَ، وَالْغَايَةَ فَاخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ: يَا هَذَا الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ نَجَاةٌ وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ: مَا أَحَقَّكَ بِالنُّوحِ عَلَى نَفْسِكَ. مَا أَوْلَاكَ بِإِلْقَاءِ التُّرَابِ عَلَى رَأْسِكَ. مَا أَغْفَلَكَ عَمَّا حَلَّ بِكَ. أَنَسِيتَ عَظَائِمَكَ. أَمْ أَمِنْتَ عِقَابَ رَبِّكَ بَادِرْ يَا مِسْكِينُ وَاحْذَرْ سَدَّ الْبَابِ وَقَطْعَ الْأَسْبَابِ. وَاسْتَنْزِلْ بِكَفِّ الضَّرَاعَةِ رَحْمَةَ مَوْلَاكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ. وَقَالَ: إذَا سَافَرْت فَالْتَزِمْ فِي الطَّرِيقِ مَعَ أَهْلِ الرُّفْقَةِ الصَّمْتَ وَلَا تَتَكَلَّمْ مَعَهُمْ إلَّا جَوَابًا يَسِيرًا مِنْ الْقَوْلِ لَفْظَةً أَوْ نَحْوَهَا. فَإِنْ سُئِلْتَ مِنْ أَيْنَ؟ فَقُلْ مِنْ أَرْضِ اللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ لَكَ مَا شُغْلَكَ؟ فَقُلْ أَبْتَغِي فَضْلَ اللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ لَكَ مَا اسْمُكَ؟ فَقُلْ عَبْدُ اللَّهِ. فَإِنْ تَصَامَمْتَ لَهُمْ فَحَسَنٌ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَلَدًا فَلَا تَصْحَبُهُ فِيهِ أَحَدًا صُحْبَةً تُوجِبُ عَلَيْكَ حَقًّا. وَاحْسِمْ التَّعَارُفَ أَلْبَتَّةَ. وَافْتَقِرْ إلَى اللَّهِ فِي حَوَائِجِكَ فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعُكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ زَمَانَ صُحْبَةٍ وَلَا مُصَادَقَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ زَمَانُ الْوَحْشَةِ وَالْغُرْبَةِ وَالْفِرَارِ مِنْ النَّاسِ مَبْلَغَ الْوُسْعِ. وَقَالَ: خُلُقَانِ لَا أَرْضَاهُمَا لِلْفَتَى: بَطَرُ الْغَنِيِّ

وَمَذَلَّةُ الْفَقِيرُ. فَإِذَا غُنِيتَ فَلَا تَكُنْ بَطِرًا. وَإِذَا افْتَقَرْتَ فَتِهْ عَلَى الدَّهْرِ. وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ، وَالْبَلَاءُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ التَّعَبِ، وَالْمَشَقَّاتِ كَفُرْقَةِ الْأَحْبَابِ وَذَهَابِ الْمَالِ وَأَذَى النَّاسِ، وَالْأَسْقَامِ، وَالْجُوعِ، وَالْعَطَشِ، وَالْقُمَّلِ وَالذُّبَابِ، وَالْعَقَارِبِ، وَالْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعِ وَفَقْدِ الْوَطَنِ، وَالْبَرْدِ، وَالْحَرِّ، وَالْعُرْيِ وَالشَّهَوَاتِ: كَشَهْوَةِ الْبَطْنِ، وَالْفَرْجِ إلَى غَيْرِ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ فَمَا وَقَعَ مِنْهُ فَلَا تُنْكِرْ وُقُوعَهُ فِي مَحِلِّهِ وَلَا تَسْتَغْرِبْهُ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَغْرَبُ فِيهَا الْمَسَرَّاتُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارٍ لَهَا وَلَا تُقَابِلْ شَيْئًا مِنْ الْبَلَاءِ إلَّا بِالصَّبْرِ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَيْهَا مَتَى وَقَعَ مِنْهَا شَيْءٌ وَالِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فِي زِيَادَةِ الْبَصِيرَةِ، وَالْإِمْدَادِ بِالْمَعْرِفَةِ. وَقَالَ: مَنْ تَفَكَّرَ فِي أَمْسِهِ وَغَدِهِ غَنِمَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ يَوْمِهِ. وَقَالَ بِاَللَّهِ الْمُسْتَعَانُ وَاللُّجُوءُ إلَيْهِ عُنْوَانُ النَّجَاحِ. وَالْقُرْآنُ حَبْلُ الْعِصْمَةِ. وَالسُّنَّةُ طَرِيقُ السَّلَامَةِ. وَالْفِكْرَةُ مِفْتَاحُ الرُّشْدِ. وَالْهِمَمُ مُثِيرَاتُ الْعَزْمِ وَالتَّبَصُّرُ ثَمَرَةُ الصِّدْقِ وَالظَّفَرُ نَتِيجَةُ الصَّبْرِ. وَالِاسْتِغَاثَةُ دَرَجُ الْوُصُولِ. وَالتَّضَرُّعُ أَمَارَةُ التَّخَلُّصِ. وَالسَّحَرُ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ. وَالْإِلْحَاحُ مُقَدِّمَةُ الْمَحَبَّةِ. وَالتَّوَاضُعُ سُلَّمُ الشَّرَفِ. وَالسَّخَاءُ خُلُقُ الْإِيمَانِ. وَالزُّهْدُ شِعَارُ التَّقْوَى. وَالتَّوَكُّلُ حِرْفَةُ الْمَعْرِفَةِ. وَالتَّفْوِيضُ عَلَمُ السَّعَادَةِ. وَالْخَوْفُ أَثَرُ الْجَدِّ. وَالرَّجَاءُ إفَادَةُ الْجُهْدِ، وَرَحْمَةُ الْخُلُقِ دَلِيلُ الطَّهَارَةِ. وَاحْتِمَالُ الْأَذَى عَيْنُ الْفُتُوَّةِ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ خُلُقُ النُّبُوَّةِ. وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ بِالْحُضُورِ عَيْشُ الرُّوحِ وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى قَتْلُ النَّفْسِ. وَذِكْرُ اللَّهِ رَأْسُ مَالِ الْعَابِدِينَ. مَنْ تَرَكَ الشَّهَوَاتِ قَرَعَ الْبَابَ، وَمَنْ تَرَكَ الْحُظُوظَ رَفَعَ الْحِجَابَ. قِيَامُ اللَّيْلِ بُسْتَانُ الْعَارِفِينَ. الْأَحْوَالُ مَبْلَغُ الْقَوْمِ. مَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - حَتَّى الْكِلَابِ فَهُوَ أَحَدُ الْفَرَاعِنَةِ السَّلْوُ عَنْ الْمَتْرُوكِ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ بِالْمَطْلُوبِ. مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَهِيَ عَلَى غَيْرِهِ أَهْوَنُ، وَمَنْ صَحِبَ التَّسْوِيفَ أَدَّاهُ إلَى الْفَوْتِ. وَمَنْ فَاتَهُ مَوْلَاهُ غَرِقَ فِي بَحْرِ الْيَأْسِ، الدُّنْيَا سَلَامَتُهَا غَرَرٌ. وَلَذَّاتُهَا قَذَرٌ. قَالَ الشَّاعِرُ

فصل ينبغي للمريد أن تكون أوقاته مضبوطة

فَخَيْرُ لِبَاسِهَا نَفَثَاتُ دُودٍ ... وَخَيْرُ شَرَابِهَا قَيْءُ الذُّبَابِ وَأَشْهَى مَا يَنَالُ الْمَرْءُ فِيهَا ... مُبَالٍ فِي مُبَالٍ مُسْتَطَابِ وَعَنْ قُرْبٍ يَعُودُ الْكُلُّ تُرْبًا ... بِلَا شَكٍّ يَكُونُ وَلَا ارْتِيَابِ وَقَالَ: كُنْتُ قَدْ رَأَيْتُ فِي كُتُبِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ أَرْبَعَةً لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْمَنَهَا فَطَلَبْتُهَا فِي حِفْظِي فَلَمْ أَجِدْ مِنْهَا سِوَى وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ، وَإِنْ أَبْدَتْ الْوُدَّ وَأَظْهَرَتْ النُّصْحَ. وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الثَّانِي السُّلْطَانُ وَإِنْ أَبْدَى التَّقْرِيبَ وَالْمُصَافَاةَ. وَأَنْ يَكُونَ الثَّالِثُ الْمَالَ وَإِنْ كَانَ جَمًّا وَافِرًا. وَأَنْ يَكُونَ الرَّابِعُ الزَّمَانَ وَإِنْ كَانَ مُطَاوِعًا مُسَالِمًا. فَرُبَّ مَخْدُوعٍ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَخَانَتْهُ، أَوْثَقُ مَا كَانَ بِهَا وَأَسْلَمَتْهُ أَمْيَلُ مَا كَانَ إلَيْهَا. وَقَالَ: الرَّاحَةُ كُلُّهَا فِي الرِّضَا بِاخْتِيَارِ الْحَقِّ لَكَ وَالتَّعَبُ كُلُّهُ فِي اخْتِيَارِكَ لِنَفْسِكَ. وَمُدَافَعَةُ الْأَيَّامِ شِيمَةُ الْكِرَامِ. وَاغْتِنَامُ الْوَقْتِ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى الْعَمَلِ وَاطِّرَاحِ الْأَمَلِ سَعَادَةٌ. وَانْتِظَارُ الْفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ. وَقَالَ: يَا هَذَا إذَا رَأَيْتَ إنْسَانًا لَمْ تُلْزِمْكَ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ فَفِرَّ مِنْهُ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ، أَوْ أَشَدَّ، وَإِنْ قُدِّرَ اجْتِمَاعُكَ مَعَهُ مُفَاجَأَةً فَاقْتَصِرْ فِي الْكَلَامِ مَعَهُ وَاعْتَذِرْ لَهُ بِشُغْلٍ وَاتْرُكْهُ بِسَلَامٍ أَمَا تَذْكُرُ أَنَّ تَعَبَكَ فِي الدُّنْيَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا إنَّمَا جَاءَكَ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ. [فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ مَضْبُوطَةً] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ مَضْبُوطَةً لِكُلِّ وَقْتٍ مِنْهَا عَمَلٌ يَخُصُّهُ مِنْ الْأَوْرَادِ فَلَا يَقْتَصِرُ فِي الْوَرْدِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، بَلْ كُلُّ أَفْعَالِ الْمُرِيدِ وِرْدٌ. قَدْ كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَقُولُونَ جَوَابًا لِمَنْ طَلَبَ الِاجْتِمَاعَ بِأَحَدٍ مِنْ إخْوَانِهِ وَيَكُونُ نَائِمًا هُوَ فِي وِرْدِ النَّوْمِ. فَالنَّوْمُ وَمَا شَاكَلَهُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَوْرَادِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ وَقْتُ النَّوْمِ مَعْلُومًا كَمَا أَنَّ وَقْتَ وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ يَكُونُ مَعْلُومًا وَكَذَلِكَ اجْتِمَاعُهُ بِإِخْوَانِهِ يَكُونُ مَعْلُومًا. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ مَعَ أَهْلِهِ وَخَاصَّتِهِ يَكُونُ مَعْلُومًا كُلُّ ذَلِكَ وِرْدٌ مِنْ الْأَوْرَادِ إذْ إنَّ أَوْقَاتَهُ مُسْتَغْرَقَةٌ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَأْتِي إلَى

شَيْءٍ مِمَّا أُبِيحَ لَهُ فِعْلُهُ، أَوْ نُدِبَ إلَيْهِ إلَّا بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْوَرْدِ أَعْنِي التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَذَا عَلَى جَادَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَالْفَرَاغِ مِنْ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَوَائِقِ، وَالْعَوَارِضِ، أَوْ مِنْ حَالٍ يَرِدُ يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ فِي حَقِّ الْمُرِيدِ، بَلْ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُ بُكَاءٌ أَوْ تَضَرُّعٌ أَوْ خَشْيَةٌ يَسْتَمِرُّ فِي ذَلِكَ وَلَا يَقْطَعُهُ؛ إذْ إنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ حُصُولُ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِذَا حَصَلَتْ لِلْمُرِيدِ فَقَدْ حَصَلَ عَلَى فَرِيسَتِهِ فَلْيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهَا وَيَغْتَنِمْهَا لِئَلَّا تَنْفَلِتَ مِنْهُ فَقَلَّ أَنْ يَجِدَهَا وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا لَذَّتْ لَكَ الْقِرَاءَةُ فَلَا تَرْكَعْ وَلَا تَسْجُدْ، وَإِذَا لَذَّ لَكَ الرُّكُوعُ فَلَا تَقْرَأْ وَلَا تَسْجُدْ، وَإِذَا لَذَّ لَكَ السُّجُودُ فَلَا تَقْرَأْ وَلَا تَرْكَعْ، الْأَمْرُ الَّذِي يُفْتَحُ عَلَيْكَ فِيهِ فَالْزَمْهُ. أَرَأَيْتَ إنْسَانًا يَطْلُبُ شَيْئًا فَإِذَا وَجَدَهُ تَرَكَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى قَبْلُ وَلَا يُقْتَصَرُ فِي هَذَا عَلَى الصَّلَاةِ لَيْسَ إلَّا، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ أَرَادَهُ فَلَوْ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْهُ أَيْضًا، بَلْ هَذَا آكَدُ لِاجْتِمَاعِ بَرَكَةِ الْإِخْوَانِ، وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَلْوَةُ فِيهَا الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ فِي الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ الْخَيْرُ الْمُتَعَدِّي حِسًّا لِاسْتِمْدَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ وَحَرَكَاتُهُ وَسَكَنَاتُهُ وَأَنْفَاسُهُ فِي الْخَلَاءِ وَالْمَلَأِ مَضْبُوطَةً بِالِاتِّبَاعِ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ فِي أَوْرَادِهِ عَلَى الْقَلِيلِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوْرَادِ الْمُتَعَلِّمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَإِنْ حَصَلَ لَهُ شُغْلٌ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَائِقِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَتِهَا لِيَسَارَتِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمُتَعَلِّمِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى عَمَلِ السِّرِّ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عَمَلَ السِّرِّ يَفْضُلُ الْجَهْرَ بِسَبْعِينَ دَرَجَةٍ وَمَا هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَتَأَكَّدُ تَحْصِيلُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ، أَوْ مَعَ غَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ

عَمَلُ السِّرِّ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ أَعْنِي مِنْ الْأَهْلِ وَمَا شَابَهَهُمْ. فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يَرْجُو أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِظْهَارُهُ أَوْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ مَعَهُمْ، ثُمَّ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ الْوَقْتِ إذْ إنَّ مِنْ الْأَهْلِ، أَوْ الْإِخْوَانِ مَنْ إذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا مَنْ يَعْتَقِدُهُ بَادَرَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ. وَهَذَا فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرُ لِمَا وَرَدَ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ فَالسِّرُّ أَوْلَى بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُتَعَلِّمِ أَنَّهُ إنْ وَجَدَ الْخَلْوَةَ عَنْ أَهْلِهِ كَانَ بِهِ أَوْلَى. فَالْمُرِيدُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى، بَلْ أَوْجَبُ؛ لِأَنَّ الْمُرِيدَ لَا يَزَالُ فِي عَمَلِ السِّرِّ فِي غَالِبِ أَوْقَاتِهِ فَيَعُودُ عَلَيْهِ آثَارُ ذَلِكَ وَبَرَكَتُهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى عَمَلِ سِرٍّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْحَفَظَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ظَهَرَتْ لَهُ الْحَفَظَةُ وَنَاشَدُوهُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِمْ سُرُورًا بِحَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِهِ يُظْهِرُهَا لَهُمْ لِيُسَرُّوا بِهَا؛ لِأَنَّ الْحَفَظَةَ يَفْرَحُونَ بِحَسَنَةِ الْعَبْدِ حِينَ يَعْمَلُهَا أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِ الْعَبْدِ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَى ثَوَابَهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ رُسُلَ الْمَلِكَ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ إلَّا بِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَإِنَّهُمْ يَكْرَهُونَهُ لِكَرَاهِيَةِ الْمَلِكَ لَهُ. وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرُهُ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِهَا، وَهِيَ أَكْبَرُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا. لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ رَبِّهِ: «لَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيَّ الْمُقَرَّبُونَ بِأَحَبَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ» الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ. وَالْحَفَظَةُ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ وَيَكْتُبُونَهُ. فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى الْأَوْرَادِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَهِيَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ إذْ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَلَّى لِخَلْقِهِ وَظَهَرَ بِآيَاتِهِ وَبَطَنَ بِذَاتِهِ فَهُوَ الظَّاهِرُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ الْبَاطِنُ بِذَاتِهِ فَلَا يُقَالُ أَيْنَ وَلَا كَيْفَ وَلَا مَتَى؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ فِي حَالِ التَّجَلِّي فَهُوَ مُسْتَغْرِقُ الْأَوْقَاتِ حَتَّى لَا يَرَى غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ لِكَثْرَةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ النَّعِيمِ إذْ التَّجَلِّي لَيْسَ شَيْئًا مِنْ النِّعَمِ أَعْلَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلَا يُعَكَّرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَفَظَةِ مَا وَرَدَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا نَوَى الْحَسَنَةَ خَرَجَتْ عَلَى فَمِهِ رَائِحَةٌ عَطِرَةٌ، وَإِذَا نَوَى السَّيِّئَةَ خَرَجَتْ عَلَى فَمِهِ رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ نَوَى بِقَلْبِهِ مَا نَوَاهُ فَهُوَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ دَلَّتْ عَلَيْهِ الرَّائِحَةُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ إذْ التَّجَلِّي لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْعَبْدِ وَلَا مِنْ حِيلَتِهِ، بَلْ هُوَ فَيْضٌ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَفَضُّلٌ مِنْهُ وَامْتِنَانٌ عَلَى مَنْ خَصَّهُ وَاخْتَارَهُ مِنْ خَلْقِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ فَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ إنْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ سَنِيَّةٌ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَرِيمٌ مَنَّانٌ وَهَذِهِ الْأُمَّةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فِيهَا الْبَرَكَةُ الشَّامِلَةُ فَخَيْرُهُمْ وَمَقَامُهُمْ الْخَاصُّ بِهِمْ لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَقْطَعُ الْمُرِيدُ إيَاسَهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى حَالِهِمْ السَّنِيِّ وَلَا يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِحِيلَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَاجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّهُ مَهْمَا نَظَرَ إلَى ذَلِكَ قَطَعَ بِهِ، بَلْ يَنْظُرُ إلَى فَضْلِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَنِعَمِهِ الْمُتَرَادِفَةِ عَلَيْهِ. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ بَهِيمِيَّ الطَّبْعِ لَا يَرَى النِّعَمَ إلَّا فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ حَالِ الْمُرِيدِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ حَالِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ يُعْطِي لِكُلِّ قَاصِدٍ مَا قَصَدَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرِيدَ غَنِيمَتُهُ مَا فَاتَهُ مِنْ الدُّنْيَا، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْمُرِيدُ لَا يَحْتَاجُ لِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَقُلْتُ لَهُ أَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ فَقَالَ نَعَمْ لَكِنَّ طَعَامَ الْمُرِيدِ الْجُوعُ وَكِسْوَتَهُ الْعُرْيُ فَهُوَ يَجِدُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَحِلُّ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ. وَالْمَقْصُودُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ قَدْ طَرَحُوا أُمُورَ الدُّنْيَا خَلْفَ ظُهُورِهِمْ وَأَقْبَلُوا بِكُلِّيَّتِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَأَسْنَدُوا أُمُورَهُمْ إلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا بِالْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ

فَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَقَرَّبَهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ وَحَمَاهُمْ وَتَجَلَّى لَهُمْ بِصِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ الْجَمِيلَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ. وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ الْمُرِيدَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا إنَّمَا ذَلِكَ فِي حَالِ بِدَايَتِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّرَقِّي فِي الزِّيَادَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَسْتَغْرِقَ، أَوْقَاتَهُ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَهُوَ لَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مَشَقَّةً وَلَا تَعَبًا فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ لَكِنَّ الْمُرِيدَ فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ يَمْشِي عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَوْرَادِ الْمُتَعَلِّمِ وَأَمَّا نِهَايَتُهُ فَلَا حَدَّ لَهَا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَكْلُهُمْ أَكْلُ الْمَرْضَى وَنَوْمُهُمْ نَوْمُ الْغَرْقَى وَكَلَامُهُمْ ضَرُورَةٌ فَلَا يَنَامُ الْمُرِيدُ إلَّا غَلَبَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِهِمْ فِي السَّنَةِ الَّتِي أَخَذَتْهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْإِشْرَاقِ فَعَرَكَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَيْنٍ لَا تَشْبَعُ مِنْ النَّوْمِ. وَمِنْ كَانَ نَوْمُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَهَيَّأَ لِحَالَةِ النَّوْمِ وَلَا لِلْأَذْكَارِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُ إذْ حَالُ الْمُرِيدِ لَا يَنْضَبِطُ بِقَانُونٍ مَعْلُومٍ لِكَثْرَةِ اجْتِهَادِهِ وَتَحْصِيلِهِ وَأَحْوَالُهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ. لَكِنْ يُحَافَظُ عَلَى السُّنَّةِ وَيَشُدُّ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْجِبُهُ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَ إلَى فِرَاشِهِ دَخَلَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ خَوْفَ نَارِكَ مَنَعَنِي الْكَرَى فَيَقُومُ حَتَّى يُصْبِحَ فَكَانَ يُعْجِبُهُ مِنْهُ مُحَافَظَتُهُ عَلَى السُّنَّةِ حَتَّى فِي الْفِرَاشِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ النَّوْمُ فَإِذَا كَانَ الْمُرِيدُ عَلَى هَذَا الْحَالِ أَعْنِي مُحَافَظَتَهُ عَلَى السُّنَّةِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ نَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ إنَّهُ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

فصل في قدوم المريد من السفر ودخوله الرباط

[فَصْلٌ فِي قُدُومِ الْمُرِيدِ مِنْ السَّفَرِ وَدُخُولِهِ الرِّبَاطَ] َ اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ آكَدَ مَا عَلَى الْمُرِيدِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ فَيَشُدُّ عَلَى ذَلِكَ يَدَهُ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ، أَوْ يَغْتَرَّ بِمَا قَدْ أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَفْعَالٍ لَمْ تَكُنْ لِمَنْ مَضَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ وَعَكْسَهُ فِي الِابْتِدَاعِ، وَأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ أَكْثَرُ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَمَا فَاقُوا عَلَى غَيْرِهِمْ إلَّا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ اُخْتُصُّوا بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ فُقَرَاءَ وَمُرِيدِينَ وَصُوفِيَّةٍ فَالْفَقِيرُ مَنْ افْتَقَرَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَكَنَ بِقَلْبِهِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَوَاطِرُ تَلْدَغُهُ فَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا وَيَفْتَقِرُ إلَى رَبِّهِ وَيُعَوِّلُ عَلَيْهِ، وَالْمُرِيدُ مَنْ أَرَادَ رَبَّهُ دُونَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ وَكَانَ غَايَةَ طَلَبِهِ وَمُنَاهُ وَسَلِمَ مِنْ لَدَغَاتِ الْخَوَاطِرِ وَمُجَاهَدَتِهَا لِإِرَادَتِهِ لِرَبِّهِ وَإِيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ. وَالصُّوفِيُّ مِنْ صَفَا بَاطِنُهُ وَجَمَعَ سِرَّهُ عَلَى رَبِّهِ وَشَاهَدَ عَيَانًا جَمِيلَ صُنْعِهِ فَأَسْنَدَ الْأُمُورَ كُلَّهَا إلَيْهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَرَّبَهُمْ اللَّهُ وَاجْتَبَاهُمْ وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ خِلَعَ إحْسَانِهِ وَلِحَضْرَتِهِ السَّنِيَّةِ ارْتَضَاهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهَذَا مَقَامٌ خَاصٌّ بِهِمْ وَالثَّوْبُ النَّظِيفُ أَقَلُّ شَيْءٍ يُدَنِّسُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ سَيِّدِي الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّمَّاطِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ حِينَ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَغُشِيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ شِعَارُهَا الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعِ فَإِنْ وَقَعَ لَهُمْ شَيْءٌ مَا مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ رَأَوْهُ أَمْرًا عَظِيمًا فَأَقْلَعُوا عَنْهُ فِي وَقْتِهِمْ وَجَدَّدُوا التَّوْبَةَ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذَنْبٍ تَقَدَّمَ فَعُجِّلَتْ لَهُمْ عُقُوبَتُهُ فَتَضَرَّعُوا إلَى اللَّهِ وَابْتَهَلُوا إلَيْهِ مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنْهُمْ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُرِيدِ أَنْ لَا يُسَامِحَ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُخَالِفُ الِاتِّبَاعَ، وَلَوْ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ. فَلْيَحْذَرْ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي قَرَّرَهَا بَعْضُ النَّاسِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: فَمِنْهُمْ

مَنْ اسْتَحَبَّهَا وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَكْثَرِ أَهْلِ الشَّرْقِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا سِيَّانِ لَا عَتْبَ عَلَى تَارِكِهَا وَلَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهَا. وَذَهَبَتْ الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ، وَهُمْ الْمُحَقِّقُونَ الْمُتَّبِعُونَ لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ الْأُمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - إلَى التَّصْرِيحِ بِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ، أَوْ اسْتَحْسَنَهُ، وَقَالَ لَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو الْحَسَنِ الزَّيَّاتُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ صُوفِيٌّ سُنِّيٌّ يَعْنِي بِذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ تَرْجِعُ إلَيْهِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُرِيدَ إذَا وَرَدَ الْبَلَدَ وَقَصَدَ دُخُولَ الرِّبَاطِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِ الْعَجَمِ الْخَانْقَاهْ فَالرِّبَاطُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّبْطِ؛ لِأَنَّ سَاكِنَهُ مُرَابِطٌ فِيهِ وَهَذَا الِاسْمُ أَوْلَى بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ رُؤْيَةَ الْقَيْدِ فِي النَّوْمِ وَيَكْرَهُونَ الْغِلَّ فَهَذَا مِنْهُ. وَلَهُمْ فِيمَا أَحْدَثُوهُ اصْطِلَاحٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّجَ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَثُرَ وُقُوعُهُ وَالْقَوْلُ بِهِ وَالْإِنْكَارُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهُ وَاتَّبَعَ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ تَعَيَّنَ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ دُخُولَ الرِّبَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ يُشَمِّرُ كُمَّيْهِ وَيَبْتَدِئُ فِي ذَلِكَ بِالْيَمِينِ وَهَذَا إذَا أَرَادَ دُخُولَ الرِّبَاطِ، أَوْ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا طَاهِرًا وَأَمَّا إنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئ بِتَشْمِيرِ كُمِّهِ الْأَيْسَرِ وَيُبَالِغُونَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيُسَمُّونَهَا آدَابًا. حَتَّى أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَوَغَّلَ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَنَّهُ خَدَمَ شَيْخَهُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ فَشَمَّرَ كُمَّهُ الْأَيْمَنَ قَبْلَ الْأَيْسَرِ فَقَالَ لَهُ شَيْخُهُ أَيْنَ تُرِيدُ فَاسْتَفَاقَ لِخَطَئِهِ عَلَى زَعْمِهِمْ، فَقَالَ يَا سَيِّدِي إلَى بَغْدَادَ فَسَافَرَ إلَيْهَا. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى تَبْدِيلِ الْخَاطِرِ الْمُعَجَّلِ بِمُخَالَفَةِ سُنَّةٍ وَاحِدَةٍ كَيْفَ وَقَعَ بِهَا هَذَا فِي أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَعَبُ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَتَرْكُ جَمْعِ الْخَاطِرِ فِي الْحَضَرِ وَبَرَكَتِهِ. وَالثَّانِي: إخْبَارُ شَيْخِهِ بِمَا لَيْسَ فِي بَاطِنِهِ، وَطَائِفَةُ الصُّوفِيَّةِ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ

كُلِّهِ. ثُمَّ إذَا شَمَّرَ أَكْمَامَهُ يَشُدُّ وَسَطَهُ بِشَيْءٍ وَيَأْخُذُ الْعُكَّازَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَالْإِبْرِيقَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيَجْعَلُ السَّجَّادَةَ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ مَطْوِيَّةً وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ السَّجَّادَةِ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فَكَيْفَ يَتَّخِذُهَا الْفَقِيرُ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَا يَحُولُ بَيْنَ وُجُوهِهِمْ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَائِلٌ لَا حَصِيرٌ وَلَا غَيْرُهُ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِاتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا شَكَوْا إلَيْهِ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ أَلَمِ السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُشْكِهِمْ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُزِلْ شَكْوَاهُمْ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ: «مَسْحُ الْحَصْبَاءِ مَسْحَةً وَاحِدَةً وَتَرْكُهَا خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» وَلَا يَرِدْ عَلَى هَذَا حَدِيثُ الْخُمْرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى شِدَّةِ الْأَلَمِ الَّذِي يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْأَلَمِ الَّذِي تَحْمِلُهُ الْبَشَرَةُ فَلَا يُرَخَّصُ فِيهِ. وَالْخُمْرَةُ هِيَ شَيْءٌ مَضْفُورٌ مِنْ الْخُوصِ قَدْرُ مَا يَضَعُ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ إذَا سَجَدَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْجُدُ وَلَا يَحُولُ بَيْنَ وَجْهِهِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْءٌ لِاتِّبَاعِهِ السُّنَّةَ وَتَوَاضُعِهِ. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ أَوْلَى النَّاسِ بِالِاتِّبَاعِ وَالتَّوَاضُعِ، وَهُوَ الْآنَ دَاخِلٌ إلَى الرِّبَاطِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ لَا يَدْخُلُهُ فِي الْغَالِبِ إلَّا مَنْ هُوَ مُتَحَفِّظٌ عَلَى دِينِهِ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى السَّجَّادَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَوَائِدُ اُنْتُحِلَتْ وَوَقَعَ الِاسْتِئْنَاسُ بِهَا، وَالْعَوَائِدُ كُلُّهَا مَطْرُوحَةٌ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فَضْلًا عَنْ الْمُرِيدِ. ثُمَّ يَأْمُرُونَهُ إذَا دَخَلَ الرِّبَاطَ أَنْ لَا يُسَلِّمَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَاعْتَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرِيدَ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ - تَعَالَى - إلَّا وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ وَالسَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِذَا سَلَّمَ عَلَى أَحَدٍ، أَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَيَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، أَوْ يَتْرُكُ رَدَّ السَّلَامِ، وَهُوَ وَاجِبٌ فَأَمَرُوهُ بِتَرْكِ السَّلَامِ لِأَجْلِ هَذَا وَهَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ إذْ إنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ عَرَفَ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فَكَيْفَ بِإِخْوَانِهِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ تَعْلِيلِهِمْ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِالْبَيِّنِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ

صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالِ مَوْضِعِ الْخَلَاءِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - هُنَاكَ عِنْدَ الِارْتِيَاعِ وَمَا يُشْبِهُهُ وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَالسُّنَّةُ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ السَّلَامُ لَا بَعْدَ جُلُوسِهِ وَاسْتِئْنَاسِهِ. ثُمَّ يَأْمُرُونَهُ عِنْدَ إرَادَةِ دُخُولِهِ الرِّبَاطَ أَنْ يَقْعُدَ عِنْدَ الْبَابِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهِ مَنْ فِي الرِّبَاطِ مِنْ الشُّبَّانِ أَوْ بَعْضُهُمْ فَيُؤْذُونَهُ بِالشَّتْمِ وَيُقِلُّونَ الْأَدَبَ عَلَيْهِ وَيَخْرِقُونَ حُرْمَتَهُ وَيَكْسِرُونَ الْإِبْرِيقَ الَّذِي مَعَهُ وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَيْأَسُوا مِنْ غَضَبِهِ وَيُعَلِّلُونَ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقِفُوا عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ وَحَمْلِهِ لِلْأَذَى إذْ إنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ لَا تَنْتَصِرُ لِنَفْسِهَا وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ كَظْمًا لِلْغَيْظِ وَعَفْوًا عَنْ النَّاسِ وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ؛ لِأَنَّ الْوَارِدَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا انْزَعَجَ لِذَلِكَ وَغَضِبَ لَا يُدْخِلُونَهُ الرِّبَاطَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إذْ ذَاكَ عَلَى أَذِيَّتِهِمْ لِأَجْلِ مَا يَرْجُو مِنْ حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ ضِدَّهُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ، وَالْحَالَةِ هَذِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهِ الْخَادِمُ فَيَأْخُذُ السَّجَّادَةَ عَنْ كَتِفِهِ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخِرِ وَيَدْخُل الْخَادِمُ وَالْوَارِدُ يَتْبَعُهُ حَتَّى إذَا حَصَلَ فِي وَسَطِ الرِّبَاطِ وَقَفَ الْوَارِدُ يَنْظُرُ أَيْنَ يَفْرِشُ الْخَادِمُ السَّجَّادَةَ فَيَعْرِفُ مَوْضِعَهَا وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي السَّلَامِ عِنْدَ اللِّقَاءِ إنَّمَا هُوَ التَّأْنِيسُ بِالْبَشَاشَةِ وَمَا شَابَهَهَا مِنْ الْإِكْرَامِ لِلضَّيْفِ وَالتَّوَدُّدِ نَقِيضُ مَا عَامَلُوهُ بِهِ وَأَمَّا كَسْرُ الْإِبْرِيقِ فَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ وَكَذَلِكَ شَتْمُهُ فَوَضَعُوا الشَّتْمَ وَخَرْقَ الْحُرْمَةِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ مَوْضِعَ الْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ وَالضِّيَافَةِ، ثُمَّ سَرَى هَذَا الْأَمْرُ إلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ إذْ إنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ قُلُوبُ النَّاسِ بِهِمْ مُتَعَلِّقَةٌ لِحُسْنِ ظَنِّهِمْ بِهِمْ وَلِكَوْنِهِمْ مَنْسُوبِينَ إلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكِهَا، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ مَحْفُوظُونَ لَا يُخَالِفُونَ وَلَا يَبْتَدِعُونَ فَإِذَا صَدْرَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا اقْتَدَى بِهِمْ غَيْرُهُمْ فِي فِعْلِهِ فَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَقْعُدُ الرَّجُلُ

وَأَوْلَادُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَشْتُمُ صَاحِبَهُ وَيَشْتُمُونَ الْآبَاءَ وَالْأَجْدَادَ وَيَلْعَنُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَالْوَالِدَانِ يَنْظُرَانِ إلَيْهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَكُونُ لَعَّانًا» وَمِنْ كِتَابِ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ» . وَمِنْهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْعَبْدَ إذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتْ اللَّعْنَةُ إلَى السَّمَاءِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذْ لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إلَى الَّذِي لَعَنَ إنْ كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَإِلَّا رَجَعَتْ إلَى قَائِلِهَا» وَمِنْهُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَلَاعَنُوا بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا بِغَضَبِ اللَّهِ وَلَا بِالنَّارِ» . وَمِنْهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ» وَمِنْ الْبُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ» وَهُمْ الْيَوْم قَدْ جَاوَزُوا الْحَدَّ فِي ذَلِكَ يَشْتُمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا دُون أَجْنَبِيٍّ بَيْنَهُمْ يَكْفِهِمْ قَدْ كَفَوْا الْأَجْنَبِيَّ أَمْرَهُمْ وَلَا يَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ. وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْقُبْحِ الْمُجْمَعِ عَلَى مَنْعِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْخَرُ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا بَسْطٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ السَّرَيَانُ مِنْ الْخَاصَّةِ إلَى الْعَامَّةِ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَنِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ إكْرَامُ الضَّيْفِ بِتَيْسِيرِ مَا حَضَرَ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ عَكْسُ هَذَا الْأَمْرِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ. ثُمَّ إنَّ الْخَادِمَ إذَا فَرَشَ السَّجَّادَةَ يَجْعَلُ فَتْحَهَا إلَى

الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إذَا جَاءَ أَحَدٌ يُرِيدُ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ فَيُجْلِسُهُ لِنَاحِيَةِ الْيَمِينِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْهَلَ عَلَيْهِ فِي فَرْشِهَا لَهُ إذْ ذَاكَ وَيُعَلِّلُونَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي جِهَةِ الْيَسَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَتْحُهَا لِتِلْكَ الْجِهَةِ تَفَاؤُلًا بِالْفَتْحِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ التَّفَاؤُلِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ التَّفَاؤُلَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا هُوَ مَا كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَمَا ذَكَرُوهُ كُلَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّجَّادَةُ مَكْرُوهَةٌ فِي الشَّرْعِ ابْتِدَاءً إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ تَفَاصِيلُهَا فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَطْوِي طَرْفَهَا مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ فَإِذَا عَلِمَ الْوَارِدُ مَوْضِعَ السَّجَّادَةِ ذَهَبَ إلَى مَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ، أَوْ لَمْ تَكُنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَيَأْخُذُ الْإِبْرِيقَ فَيَدْخُلُ بِهِ إلَى الْخَلَاءِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى مَوْضِعِ الْوُضُوءِ، وَالْإِبْرِيقُ بِيَدِهِ فَيَضَعُهُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ وَيَجْعَلُ بُزْبُوزَهُ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَيَمْلَؤُهُ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَضَعُونَ الْإِبْرِيقَ فِيهِ إنَّمَا يَكُونُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَهَذَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذِهِ الْآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ مِثْلُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا الْمُخَاطَبُ بِهَا الْمُكَلَّفُونَ، وَالْإِبْرِيقُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ خِطَابٌ وَلَا أَمَرَ الشَّرْعُ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَالْتِزَامُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهِ ضِيقٌ وَحَرَجٌ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا تَرَكْتُهُ لَكُمْ فَهُوَ عَفْوٌ» ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا حَرَجَ فِي وَضْعِ الْإِبْرِيقِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ وَكَذَلِكَ فِي بَسْطِ السَّجَّادَةِ وَغَيْرِهَا فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ امْتَثَلْنَاهُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَمَا لَمْ يَرِدُ فِيهِ شَيْءٌ فَقَدْ وَسَّعَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَا نُضَيِّقُ عَلَى أَنْفُسِنَا بِاصْطِلَاحِ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ مَشَى بِتُؤَدَةٍ إلَى مَوْضِعِ السَّجَّادَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا وَلَا يُكَلِّمُهُ أَحَدٌ لَا بِسَلَامٍ وَلَا غَيْرِهِ فَإِذَا جَاءَ إلَى السَّجَّادَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا عَلَى طَيَّةِ السَّجَّادَةِ، ثُمَّ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَوَضَعَهَا إلَى جَانِبِهَا عَلَى الطَّرَفِ الْمَطْوِيِّ كَمَا هُوَ، ثُمَّ يُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي وَسَطِ السَّجَّادَةِ، ثُمَّ الرِّجْلَ الْيُسْرَى، ثُمَّ يُزِيلُ تِلْكَ الطَّيَّةَ بِيَدِهِ

أَوْ بِقَدَمِهِ وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الطَّيَّةَ قُفْلَ السَّجَّادَةِ حَتَّى لَا يَفْتَحَ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مُحْدِثَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَتَعَيَّنَ إطْرَاحُهَا وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِهَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَالصَّلَاةُ بِهَذَا الْوُضُوءِ فِيهَا مَا فِيهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْوُضُوءَ إنْ كَانَ لِأَجْلِ دُخُولِ الرِّبَاطِ لَيْسَ إلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ تَوَضَّأَ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، أَوْ دُخُولِ السُّوقِ فَلَا يُؤَدِّي بِهِ عِبَادَةً يُشْتَرَطُ الْوُضُوءُ فِيهَا، وَإِنْ تَوَضَّأَ لِدُخُولِ الرِّبَاطِ وَلِلْحَدَثِ فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إذَا أَشْرَكَ فِي النِّيَّةِ هَلْ يَجْزِيهِ أَمْ لَا؟ وَأَقَلُّ مَا فِيهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ هَذَا الْفِعْلَ كُلَّهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهُ، وَأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُ يَدْخُلُ الرِّبَاطَ إلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ خَرَجَ الْوُضُوءُ بِهَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَحْدَهُ بَلْ الشَّائِبَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ، وَالْمُرِيدُ لَا يُسَامِحُ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بَعْدَ ذَلِكَ لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَيَتُوبَ مِنْ عَمَلٍ عَمِلَهُ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ، ثُمَّ إنَّهُ إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْ الذِّكْرِ أَتَى إلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الرِّبَاطِ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَبَسَطُوا لَهُ الْأُنْسَ وَيَقُومُ هُوَ إلَيْهِمْ وَيُعَانِقُهُمْ وَهَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ مِنْ سَلَامِهِمْ عَلَيْهِ وَبَسْطِهِمْ لَهُ هُوَ السُّنَّةُ عِنْد اللِّقَاءِ فَأَخْرَجُوهُ عَنْ مَوْضِعِهِ الْمَشْرُوعِ إلَى مَوْضِعٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فِيهِ. وَأَمَّا قِيَامُهُ لَهُمْ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ الْمَشْرُوعَ إنَّمَا هُوَ قِيَامُ الْحَاضِرِ لِلْغَائِبِ حِينَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمُعَانَقَةُ فَفِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرَاهَتُهَا، ثُمَّ إنَّهُمْ يُكَلِّمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ الْمُعْتَادِ بَيْنَهُمْ الَّذِي لَا يَخْلُو فِي الْغَالِبِ مِنْ التَّنْمِيقِ وَالتَّزْكِيَةِ وَتَرْفِيعِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِأَشْيَاءَ الْغَالِبُ عَدَمُ بَعْضِهَا إلَّا مَنْ وَفَّقَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وَاحْتَجُّوا عَلَى اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ وَاسْتِحْسَانِهَا وَأَمْرِ الْفُقَرَاءِ بِهَا بِأَنَّ مَشَايِخَهُمْ قَدْ قَرَّرُوا لَهُمْ ذَلِكَ لِيَكُونَ تَحَفُّظُهُمْ عَلَيْهَا عَلَامَةً وَدَلَالَةً عَلَى تَحَفُّظِهِمْ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ مِمَّا يَقَعُ فِيهَا فَتَكُونُ آدَابُ الظَّاهِرِ دَلَالَةً عَلَى حُصُولِ آدَابِ الْبَاطِنِ وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ يُحْسِنُونَ الظَّنَّ

بِمَشَايِخِهِمْ، وَقَدْ أَمَرُوهُمْ بِذَلِكَ فَلَا عَتْبَ عَلَيْهِمْ فِي فِعْلِهِ، بَلْ هُمْ فِي عَبَاءَةٍ وَخَيْرٍ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ مِثْلَ هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ ذَرِيعَةً إلَى نَسْخِ الشَّرِيعَةِ بِالْآرَاءِ وَغَيْرِهَا فَكُلُّ مَنْ ظَهَرَ لَهُ شَيْءٌ، أَوْ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا جَعَلَهُ أَصْلًا مَعْمُولًا بِهِ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ وَلَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الدِّينُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ حَفِظَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ. وَلَا حَاجَةَ فِي كَوْنِ الْفُقَرَاءِ يُحْسِنُونَ ظَنَّهُمْ بِمَشَايِخِهِمْ؛ لِأَنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِهِمْ لَهُ مَجَالٌ مُتَّسِعٌ مَا دَامُوا عَلَى الِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فَحِينَئِذٍ يُرْجَعُ إلَيْهِمْ وَيُسْكَنُ إلَى قَوْلِهِمْ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى وَأَرْجَى وَأَنْجَحُ بَلْ أَوْجَبُ مَعَ سَلَامَةِ الصَّدْرِ لِمَنْ قَالَ مَا قَالَ إذْ إنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إلَّا خَيْرًا، وَلَكِنَّ الْمُرِيدَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِيزَانُ الشَّرْعِ فِي يَدِهِ فَإِنَّ مَنْ وَفَّى وَاعْتَدَلَ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، وَمَنْ نَقَصَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ السُّنَّةَ؛ إذْ إنَّهُ لَا يَتْبَعُ أَحَدًا فِي الْغَلَطِ. وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ الْوُرُودِ عَلَى الْحَوْضِ: «فَيُقَالُ إنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ: فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا» أَيْ فَبُعْدًا فَبُعْدًا فَبُعْدًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ الْعَبَدُ بِسَبَبِ التَّبْدِيلِ، وَلَفْظُ التَّبْدِيلِ يَقَع عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هُمَا الْأَصْلُ عِنْدَهُ فَلَا يُعَرَّجُ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَلَوْ قَالَ مَنْ قَالَ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْمُرِيدَ يُعْرَفُ حِينَ دُخُولِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْمُرِيدَ مُحَافِظٌ عَلَى السُّنَّةِ إذَا اسْتَأْذَنَ وَوَقَفَ بِالْبَابِ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ وَقَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَأَخَّرَ الْيُسْرَى، ثُمَّ سَلَّمَ السَّلَامَ الشَّرْعِيَّ عُلِمَ أَنَّهُ مُرِيدٌ لِامْتِثَالِهِ هَذِهِ السُّنَنِ الثَّلَاثِ أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَهُ مُرِيدٌ لِزِيَارَتِهِ فَقَدَّمَ إلَيْهِ شَيْئًا لِلْأَكْلِ فَتَنَاوَلَ الْمُرِيدُ لُقْمَةً بِالْيَسَارِ فَقَالَ لَهُ الْمَزُورُ مَنْ شَيْخُكَ يَا بُنَيَّ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي النَّاحِيَةُ الْيُمْنَى تُوجِعُنِي، فَقَالَ لَهُ: كُلْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَعَمَّنْ رَبَّاكَ، وَقَدْ

فصل الطريقة الصوفية نظيفة

تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ أَنْ يَكُونَ بِنَاحِيَةِ الْيَمِينِ فَلَمَّا أَنْ رَآهُ خَالَفَ هَذِهِ السُّنَّةَ عَرَضَ لَهُ بِقَوْلِهِ مَنْ شَيْخُكَ لِيُنَبِّهَهُ بِذَلِكَ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةٍ لِلسُّنَّةِ فَكَانَ فِي الْمُرِيدِ مِنْ الْيَقِظَةِ وَالْحُضُورِ مَا فَهِمَ بِهِ مُرَادَهُ فَأَجَابَهُ فَهَكَذَا تَكُونُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ وَفَّقَنَا اللَّهُ لِذَلِكَ بِمَنِّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي لِبَاسِ الْعَالِمِ وَتَصَرُّفِهِ مَا فِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ إعَادَتِهِ لَكِنَّ الْمُرِيدَ يَكُونُ أَشَدَّ حِرْصًا عَلَى الِاتِّبَاعِ لِانْقِطَاعِهِ إلَى اللَّهِ وَتَبَتُّلِهِ إلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي تِلْكَ الثِّيَابِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ السَّرَفِ فَكَذَلِكَ مَا يُشْبِهُهَا أَعْنِي مِنْ الْوُسْعِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبُ الْمُرِيدِ قَصِيرًا فِي الْغَالِبِ لَكِنَّهُ احْتَوَى عَلَى شَيْئَيْنِ قَبِيحَيْنِ: مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، وَوُجُودِ السَّرَفِ فِيهِ أَعْنِي فِي الْوُسْعِ الْخَارِقِ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ [فَصْلٌ الطَّرِيقَةُ الصُّوفِيَّةُ نَظِيفَةٌ] (فَصْلٌ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الصُّوفِيَّةَ نَظِيفَةٌ وَأَقَلُّ شَيْءٍ يُدَنِّسُ النَّظِيفَ لَا جَرَمَ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ التَّدْلِيسُ وَالتَّخْلِيطُ وَظَهَرَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ طَرِيقَةٍ ادَّعَاهَا الْإِنْسَانُ فَضَحَتْهُ فِيهَا شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ إلَّا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَإِنَّهُ لَا يُفْتَضَحُ فِيهَا غَالِبًا، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: وَأَحَدُهُمَا: أَنَّ طَرِيقَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُوَّةِ وَالسَّتْرِ وَالْعَفْوِ وَالتَّصَفُّحِ وَالتَّجَاوُزِ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ الْعُيُونِ، وَكُلُّ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا يُخَالِفُ طَرِيقَهُمْ سَتَرُوا عَلَيْهِ وَجَرُّوا عَلَيْهِ أَذْيَالَ الْفُتُوَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَغَيَّرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَقَلُّ مَا يَقَعُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لَكَ: حَسَدْتَنِي وَيَقُومُ فِي حَمِيَّتِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَتَتَدَاعَى الْفِتَنُ وَتَكْثُرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُظُوظِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُمْ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَكَتَ مَنْ سَكَتَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالِاتِّبَاعِ فَظَنَّ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِحَالِهِمْ السَّيِّئِ أَنَّ سُكُوتَهُمْ رِضَاءٌ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا رَأَوْهُ، أَوْ سَمِعُوهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ إذَا وَجَدُوا مَنْ يُقْبَلُ الْحَقُّ مِنْهُمْ أَلْقَوْا إلَيْهِ مَا يُخْلِصُونَ بِهِ مُهْجَتَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَمَرَاتِ وَسَارُوا بِهِ وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ لَا لِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ، بَلْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَرَحًا مِنْهُمْ بِهِدَايَةِ شَارِدٍ عَنْ بَابِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُضْطَرٌّ إلَى مَنْ يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ

فصل في ذكر بعض المتشبهين بالمشايخ وأهل الإرادة

«النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ» فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمْ السَّبِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا بَادَرَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ضِدَّهُ تَغَافَلَ وَتَنَاسَى لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّعِينَ بِمَكِيدَتِهِ وَشَيْطَنَتِهِ يَتْبَعُ السُّنَنَ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُبَدِّلَ مَكَانَ كُلِّ سُنَّةٍ ضِدَّهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْ وَجَدَ الْمُرِيدَ أَكْثَرَ لِبَاسِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ الْقِصَرِ وَغَيْرِهِ أَدْخَلَ عَلَيْهِ دَسِيسَةً قَلَّ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا، وَهِيَ وُسْعِ الثَّوْبِ الْخَارِجِ عَنْ الْعَادَةِ وَفِيهِ شَيْئَانِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي وَهُمَا إضَاعَةُ الْمَالِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَكَفَى بِهِمَا وَقَنَعَ بِذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ وَدَسَّ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ وَبَدَّلَ مَا هُوَ أَكْبَرَ مِنْ هَذَا وَأَكْثَرَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْعَرَبِ فِي طُولِ ثِيَابِهِمْ حَتَّى صَارَتْ إذَا مَشَوْا تَنْجَرُّ عَلَى الْأَرْضِ وَهَذَا مُحَرَّمٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ مُتَأَكِّدٌ فِعْلُهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَبَدَّلَ لِلنِّسَاءِ ضِدَّ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَزَادَ فِي ثِيَابِ بَعْضِ مَنْ نُسِبَ إلَى الْعِلْمِ قَرِيبًا مِمَّا سَبَقَ فِي ثِيَابِ الْعَرَبِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَتْبَاعِ وَأَوْقَعَهُمْ فِي ضِدِّهِ وَمَعَ ذَلِكَ قَلَّ مَنْ يَسْتَيْقِظُ لِمَا أَلْقَاهُ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الدَّسَائِسِ، بَلْ تَلَقَّوْهَا بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا لِمَا أَلْقَى إلَيْهِمْ مِنْ التَّعْلِيلِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ تَعْلِيلَ مَا يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ وَتَحْسِينَهُ لَهُمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى الْقَبُولِ مِنْهُ، وَالْحِرْصِ عَلَى فِعْلِهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَا حَصَلَ مِنْ الْغَفَلَاتِ عَمَّنْ لَا يَغْفُلُ عَنَّا وَلَا يَنْسَانَا وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمَشَايِخِ وَأَهْلِ الْإِرَادَةِ] ِ وَهَذَا بَابٌ مُتَّسِعٌ مُتَشَعِّبٌ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ مَفَاسِدُهُ، أَوْ يَتَعَيَّنَ مَا يَقَعُ مِنْهُ لِكَثْرَتِهِ لَكِنْ نُشِيرُ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَدَّعِي الدِّينَ وَالصَّلَاحَ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوُصُولِ وَيَأْتِي بِحِكَايَاتِ

مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَكَابِرِ وَيُطَرِّزُ بِهَا كَلَامَهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُشِيرُ إلَى نَفْسِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ، وَأَنَّ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا. وَبَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ حَاصِلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَصْنِيفِ الْحِكَايَاتِ وَالْمَرَائِي الَّتِي يَخْتَلِقُهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ سِيَّمَا، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ تَجَرُّئِهِ وَدَعْوَاهُ رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ، وَأَنَّهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَخَاطَبَهُ وَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، بَلْ بَعْضُهُمْ يَدَّعِي رُؤْيَتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُوَ فِي الْيَقَظَةِ وَهَذَا بَابٌ ضَيِّقٌ وَقَلَّ مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ الْأَمْرُ إلَّا مَنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ عَزِيزٍ وُجُودُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ، بَلْ عَدِمَتْ غَالِبًا مَعَ أَنَّا لَا نُنْكِرُ مَنْ يَقَعُ لَهُ هَذَا مِنْ الْأَكَابِرِ الَّذِينَ حَفِظَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَقَظَةِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ الْعَيْنُ الْفَانِيَةُ لَا تَرَى الْعَيْنَ الْبَاقِيَةَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَارِ الْبَقَاءِ وَالرَّائِي فِي دَارِ الْفَنَاءِ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحِلُّ هَذَا الْإِشْكَالَ، وَيَقُولُ مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ صَحِيحٌ وَلَكِنْ يَرُدُّهُ مَا وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُوقِفُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: «أَوْلِيَائِي لَمْ أَزْوِ عَنْكُمْ الدُّنْيَا لِهَوَانِكُمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ زَوَيْتُهَا عَنْكُمْ لِتَسْتَوْفُوا الْيَوْمَ نَصِيبَكُمْ عِنْدِي اذْهَبُوا فَاخْتَرِقُوا الصُّفُوفَ فَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكُمْ مِنْ أَجْلِي، أَوْ زَارَكُمْ مِنْ أَجْلِي، أَوْ أَطْعَمَكُمْ لُقْمَةً مِنْ أَجْلِي فَخُذُوا بِيَدِهِ وَأَدْخِلُوهُ الْجَنَّةَ فَيَأْتُونَ إلَى الْمَحْشَرِ وَهُمْ يَجُرُّونَ أَذْيَالَ الْفَخْرِ فَيَقُولُ أَهْلُ الْمَحْشَرِ: يَا رَبَّنَا مَا بَالُ هَؤُلَاءِ دُونَنَا؟ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنْتُمْ مُتُّمْ فِي الدُّنْيَا مَرَّةً وَاحِدَةً وَهَؤُلَاءِ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَمُوتُ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» أَوْ كَمَا قَالَ، وَقَالَ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ: مَنْ مَاتَ رَأَى الْحَقَّ وَمَنْ لَمْ يَمُتْ لَمْ يَرَ الْحَقَّ فَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ إذَا مَاتَ مَوْتَةً وَاحِدَةً رَأَى الْحَقَّ فَمَا بَالُكَ بِسَبْعِينَ مَرَّةً فِي كُلِّ يَوْمٍ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] فَذَهَبَ الْإِشْكَالُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَظَهَرَ الصَّوَابُ وَاَللَّهُ الْمُؤَمَّلُ فِي الثَّوَابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُشِيرُ إلَى نَفْسِهِ بِالْكَرَامَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ، وَهُوَ عَرِيٌّ عَنْهَا بِالِاتِّصَافِ بِضِدِّهَا

وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَةَ الْمَشَايِخِ وَلَقْيَهُمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ وَلَا رَآهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي صُحْبَةَ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِمْ، وَهُوَ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ وَلَا هُوَ عَلَى طَرِيقِهِمْ، بَلْ رَأَى بَعْضَ مَنْ صَحِبَ الشُّيُوخَ وَحَكَى عَنْهُمْ فَحَكَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَةَ الْخَضِرِ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ بِالْيَمِينِ لِيَكُونَ أَدْعَى لِلْقَبُولِ مِنْهُ حَتَّى لَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا: إنَّ الْخَضِرَ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَيَقِفُ عَلَى بَابِهِ أَوْ دُكَّانِهِ وَيَتَحَدَّثُ مَعَهُ، وَهُوَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي، وَذَلِكَ كُلُّهُ تَقَوُّلٌ وَافْتِعَالٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَرْعَ مَعَ أَنَّ هَذَا لَا يُنْكَرُ إذَا وَقَعَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا أَرَادَ أَنْ يُلْقِي شَيْئًا مِمَّا يَخْطِرُ لَهُ قَدَّمَ قَبْلَهُ الِاسْتِشْهَادَ بِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَيَقُولُ: قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] ، ثُمَّ يَحْلِفُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى وَرَأَى، وَأَنَّهُ خُوطِبَ فِي سِرِّهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْعَوَامّ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ بِأَهْلِ الْحَقِّ، وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَالِاتِّبَاعِ إذَا مَوَّهَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّمْوِيهِ انْقَادُوا لَهُ وَقَالُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ وَنَزَّلُوهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَأَحْوَالُهُمْ الرَّدِيئَةُ لَا تَنْحَصِرُ، وَفِيمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ بِهِ كِفَايَةٌ وَمُقْنَعٌ. هَذَا حَالُ الْمُسْتَتِرِينَ مِنْهُمْ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ خَرَقُوا السِّيَاجَ وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْهُمْ، بَلْ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُهُمْ، أَوْ يَمِيلُ إلَيْهِمْ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِثْلُ مَا يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكَ الْمُبَالَاةِ بِهَا حَتَّى إنَّهُ لَيَجْلِسَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ عَلَى زَعْمِهِ وَلَا يَحْتَرِقُ بِمَرْأًى مِنْ النَّاسِ، وَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ بِدْعَةً وَمُنْكَرًا إذْ إنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُعْجِزَةِ إظْهَارُهَا وَالتَّحَدِّي بِهَا وَمِنْ شَرْطِ الْكَرَامَةِ عَكْسُ ذَلِكَ فَإِذَا أَظْهَرَهَا لِلنَّاسِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ بَابِ الْكَرَامَةِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَقَعَ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ دَاعِيَةٌ إلَى إظْهَارِهَا. مِثْلُ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ فِي مَرْكَبٍ مَوْسُوقَةٍ

قَمْحًا فَهَاجَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْقَمْحُ لِبَعْضِ الظَّلَمَةِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَى الْخَلْقِ فِي وَقْتِهِ فَسَمِعَ النَّوَاتِيَّةَ وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ هَذَا الْقَمْحَ مَكِيلٌ عَلَيْنَا فَإِنْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ أَخَذَنَا الظَّالِمُ بِهِ فَالرَّأْيُ أَنْ نَرْمِيَ الرُّكَّابَ فِي الْبَحْرِ وَيَبْقَى الْقَمْحُ فَلَمَّا أَنْ سَمِعَهُمْ قَالَ لَهُمْ ارْمُوا الْقَمْحَ فِي الْبَحْرِ وَأَنَّا الضَّامِنُ لَهُ فَأَشْهَدُوا عَلَيْهِ وَرَمَوْا الْقَمْحَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَلِيلُ فَسَكَنَ الْبَحْرُ فَلَمَّا أَنْ وَصَلُوا إلَى الْبَلَدِ طَالَبُوهُ بِمَا الْتَزَمَهُ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْكَيَّالِينَ فَجَاءُوا بِهِمْ فَقَالَ: اكْتَالُوا مَا بَقِيَ مِنْ الْقَمْحِ فَاكْتَالُوهُ فَوَفَّى مَا عَلَيْهِمْ أَعْنِي مَا كَانَ عَلَى النَّوَاتِيَّةِ مَسْطُورًا، ثُمَّ رَدَّ رَأْسَهُ إلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ لَهُمْ: وَاَللَّهِ مَا عَمِلْتُهَا إلَّا حَقْنًا لِدِمَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ. فَمَا كَانَ مِثْلُ هَذَا فَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُونَهُ لِلضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ أَنَّ لِدُخُولِ النَّارِ أَدْوِيَةً تُسْتَعْمَلُ حَتَّى لَا تَعْدُوَ عَلَى مَنْ دَخَلَهَا مِمَّنْ اسْتَعْمَلَ تِلْكَ الْأَدْوِيَةَ لَكِنْ لَوْ حَضَرَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَدَخَلَا مَعًا لَاحْتَرَقَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ وَالزَّعْبَلَةِ وَخَرَجَ الْمُحِقُّ سَالِمًا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حِكَايَاتٍ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا. مِنْهَا الْحِكَايَةُ الْمُسْنَدَةُ فِي مِصْبَاحِ الظَّلَامِ لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النُّعْمَانِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَا جَرَى لِلسُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ فِي دُخُولِهِمَا النَّارَ فَخَرَجَ السُّنِّيُّ وَلَمْ يَحْتَرِقْ وَبَقِيَ الْبِدْعِيُّ حُمَمَةً، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ يُدْخِلُ أَصْحَابَهُ النَّارَ وَلَا يَحْتَرِقُونَ فَقَالَ لِي سَيِّدِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاَللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ مِنْ سَيِّدِي الشَّيْخِ أَنْ يَطْرُدَنِي لَأَخَذْتُ الشَّيْخَ نَفْسَهُ وَدَخَلْتُ وَأَنَا وَإِيَّاهُ النَّارَ حَتَّى نَنْظُرَ مَنْ يَحْتَرِقُ فِينَا. وَقَدْ كَانَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ زَمَنٍ قَرِيبٍ رَجُلٌ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ وَخَرْقَ الْعَادَةِ وَكَانَ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْفُقَرَاءُ وَالْأَضْيَافُ يَعْمَلُ لَهُمْ فَطِيرًا وَيَفِتُّهُ فِي قَصْعَةٍ وَيُؤْتَى بِهَا إلَيْهِ فَيَنْصِبُ يَدَهُ عَلَيْهَا فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ عَسَلُ نَحْلٍ فَيَلِتُّ بِهِ وَيُطْعِمُهُ مَنْ هُنَاكَ حَتَّى يَكْفِيَهُمْ، ثُمَّ يُرْسِلُ يَدَهُ فَيَنْقَطِعُ فَسَمِعَ بِهِ بَعْضُ الْأَكَابِرِ فِي وَقْتِهِ فَجَاءَ إلَيْهِ فَلَمَّا أَنْ جَلَسَ عِنْدَهُ قَالَ لَهُ: نُرِيدُ أَنْ تُطْعِمَنَا مِنْ الْبَسِيسَةِ الَّتِي تُطْعِمُ النَّاسَ مِنْهَا فَقَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ بِالْفَطِيرِ عَلَى

الْعَادَةِ فَأُحْضِرَ فَمَدَّ يَدَهُ لِيَسِيلَ الْعَسَلُ عَلَى الْعَادَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ فَقَالَ لَهُ: وَأَيْنَ مَا تَدَّعِيهِ؟ فَقَالَ: انْقَطَعَ الْآنَ فَقَالَ لَوْ كَانَ حَقًّا مَا انْقَطَعَ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ إذَا حَضَرَهُ الْحَقُّ زَهَقَ، ثُمَّ عَزَّرَهُ وَوَبَّخَهُ بِالْكَلَامِ وَقَالَ لَهُ: كُنْتَ تُطْعِمُ الْمُسْلِمِينَ أَبْوَالَ الشَّيَاطِينِ وَأَخْرَجَهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَالِ وَتَوَّبَهُ عَنْهُ. وَمِنْهُمْ مِنْ يُظْهِرُ الْكَرَامَةَ بِإِمْسَاكِ الثَّعَابِينِ وَالْأُنْسِ بِهَا وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَالتَّمْوِيهِ عَلَى الْأُمَّةِ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ إذْ إنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لِمَعِيشَتِهِمْ فَكَيْفَ يُعَدُّ كَرَامَةً؟ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ أَكْلِهِمْ الثَّعَابِينَ بِالْحَيَاةِ بِمَرْأًى مِنْ النَّاسِ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَيْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ أَكْلَهَا لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدِ تَذْكِيَتِهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَكْلَهَا وَهُمْ يَأْكُلُونَهَا مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ بَلْ يُؤَدَّبُونَ كُلَّ أَكْلَةٍ مِنْ أَكَلَاتِهِمْ تَأْدِيبًا بَلِيغًا رَادِعًا، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ فَهُوَ مِنْ صَنْعَةِ النَّارِ نَجِيَّاتِ وَالسِّيمِيَاءِ وَمَا شَاكَلَهَا وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ فِي شَيْءٍ. وَكُنْتُ أَعْهَدُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ تُفْعَلُ عَلَى أَبْوَابِهَا وَيَتَضَاحَكُ النَّاسُ عَلَيْهَا فِي لَهْوِهِمْ وَلَعِبِهِمْ وَيَسْتَغْنُونَ بِسَبَبِهَا وَهُمْ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ يَعُدُّونَهَا مِنْ الْكَرَامَاتِ ويَعْتَقِدُونَهُمْ بِسَبَبِهَا وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ اسْتَنَّتْ سَنَةً سَيِّئَةً وَهُمْ الَّذِينَ يَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ، وَذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَارْتِكَابٌ لِلْبِدْعَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لِلضَّرُورَةِ مِثْلُ التَّدَاوِي وَغَيْرِهِ فَجَائِزٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ عَكْسَ ذَلِكَ فَلَا يَأْخُذُونَ شَيْئًا مِنْ شُعُورِ أَبْدَانِهِمْ وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مِنْ حُسْنِ الصُّحْبَةِ، وَذَلِكَ قَبِيحٌ شَنِيعٌ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الرُّهْبَانِ وَفِيهِ الْمُثْلَةُ وَالِاسْتِقْذَارُ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَمِنْهُمْ مِنْ يَلْبَسُ اللِّيفَ، وَالْأَشْيَاءَ الَّتِي لَا تَسْتُرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِثْلَ الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْمُثْلَةِ وَالشُّهْرَةِ، وَالْبِدْعَةِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ إذْ إنَّهُ لَا يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَأَشْنَعُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَأَقْبَحُ مَا اتَّخَذَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ لُبْسِ الْحَدِيدِ فَيَتَّخِذُ سِوَارَيْنِ فِي يَدَيْهِ كَمَا تَتَّخِذُهُمَا الْمَرْأَةُ مِنْ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ. وَبَعْضُهُمْ يَحْمِلُ فِي عُنُقِهِ طَوْقًا

مِنْ حَدِيدٍ كَالْغُلِّ، بَلْ هُوَ نَفْسُهُ وَيُعَلِّقُونَ فِي آذَانِهِمْ حِلَقًا مِنْ حَدِيدٍ. وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ عَلَى ذَكَرِهِ طَوْقًا مِنْ حَدِيدِ الْقُفْلِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ شُيُوخَهُمْ حِينَ يَأْخُذُونَ عَلَيْهِمْ الْعَهْدَ يَفْعَلُونَهُ بِهِمْ وَيَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يُلْبِسُوهُ لِمَنْ اقْتَدَى بِهِمْ وَيَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ قُفْلٌ عَلَى مَحِلِّ الْمَعَاصِي حَتَّى لَا تُرْتَكَبَ وَلَا خَفَاءَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا وَشَنَاعَتِهِ وَقُبْحِهِ، وَأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. ثُمَّ مَعَ ادِّعَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ قُفْلٌ عَلَى مَحِلِّ الْمَعَاصِي يَأْتُونَ بِنَقِيضِ مَا زَعَمُوا، وَهُوَ أَنَّ فِيهِمْ شُبَّانًا لَهُمْ صُوَرٌ حِسَانٌ وَهُمْ مُقِيمُونَ مَعَهُمْ مَسَاءً وَصَبَاحًا وَيَخْلُو بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ دُونَ نَكِيرٍ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: لَأَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى سَبْعِينَ عَذْرَاءَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى شَابٍّ. وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُ حَدِيدًا كَالْعَمُودِ يَمْشِي بِهِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْحَدِيدَ حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ وَرَدَ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» فَيَقَعُونَ فِي هَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ الْجَهْلِ، وَالْجَهْلُ بِالْجَهْلِ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ. وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَأَنَّ طَرِيقَتَهُ هِيَ الْمُثْلَى وَمِنْهُمْ قَوْمٌ تَنَزَّهُوا عَنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَعَابُوا عَلَى فَاعِلِهَا، ثُمَّ إنَّهُمْ يَقَعُونَ فِي أَشْيَاءَ رَذِلَةٍ نَهَى صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَنْهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمْ كَأَنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْوِلَايَةِ. فَمِنْ ذَلِكَ اتِّخَاذُ بَعْضِهِمْ الْأَعْلَامَ عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى مَا يَزْعُمُ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا فَالْوَلِيُّ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَوْ قَدَرَ أَنْ يَدْفِنَ نَفْسَهُ، أَوْ يَكُونَ أَرْضًا يُمْشَى عَلَيْهِ لَفَعَلَ حَتَّى لَا يَكُونَ مَعَ النَّاسِ بِالسَّوَاءِ فَكَيْفَ يَنْشُرُ الْأَعْلَامَ عَلَى رَأْسِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الشُّهْرَةِ وَالدَّعْوَى وَأَهْلُ الْإِيمَانِ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَنْ سَأَلَهُ أَنْ يَعِظَ النَّاسَ وَيُذَكِّرَهُمْ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ أَنَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَاعْرِفُونِي فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ الظُّهُورَ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ عَكْسُ حَالِهِمْ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ فَكَيْفَ

بِانْجِرَارِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي وَقَعَتْ بِسَبَبِ الْإِعْلَامِ إذْ إنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ رِجَالًا وَشُبَّانًا فَإِذَا أَشْرَفُوا عَلَى بَلَدٍ ذَكَرُوا اللَّهَ - تَعَالَى - جَهْرًا يَرْفَعُونَ بِذَلِكَ أَصْوَاتَهُمْ وَلَا يَقْصِدُونَ بِهِ الذِّكْرَ لَيْسَ إلَّا، بَلْ الْإِعْلَامَ لِأَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ، وَمَنْ قَارَبَهَا بِوُرُودِ الشَّيْخِ وَالْفُقَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ حَتَّى يَخْرُجُوا إلَى تَلَقِّيهِمْ فَإِذَا سَمِعُوا ذِكْرَهُمْ خَرَجُوا إلَيْهِمْ رِجَالًا وَنِسَاءً وَاخْتَلَطُوا بِهِمْ فَصَارُوا مُجْتَمِعِينَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَتَكُونُ إذَا خَرَجَتْ خَرَجَتْ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا مِنْ السِّتْرِ، وَالْمَشْيِ مَعَ الْجُدْرَانِ لَا تَتَكَلَّمُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهُنَّ إذَا خَرَجْنَ لِلِقَائِهِمْ خَرَجْنَ مُنْكَشِفَاتٍ فِي الْغَالِبِ، وَإِنْ تَسَتَّرَ بَعْضُهُنَّ فَبَعْضُ تَسَتُّرٍ يَرْفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِالزَّغَالِيطِ وَيُسْمَعُ لَهُنَّ إذْ ذَاكَ ضَجِيجٌ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَرْأًى مِنْ الشَّيْخِ وَعِلْمِهِ بِهِمْ فَمَا أَقْبَحَ هَذَا وَأَبْعَدَهُ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى طَرِيقِ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى -؟ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى انْعِكَاسِ الْأُمُورِ. وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِعْلًا قَبِيحًا فِيهِ إضَاعَةُ الْمَالِ، وَهُوَ وَقُودُ الشَّمْعِ نَهَارًا حِين يَلْتَقُونَهُ وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الْقُرْبَةَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يَكُونُ إلَّا بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ لَا بِالْوُقُوعِ فِي نَوَاهِيهِ، بَلْ هُوَ نَفْسُ الْبُعْدِ وَالْقِلَا، أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَنِّهِ. ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَنْزِلُ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِالْجَمْعِ الَّذِي مَعَهُ وَمَفَاسِدِهِ قَلَّ أَنْ

تَنْحَصِرَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَضُرُّ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَكَلُّفِهِ لَهُمْ أَشْيَاءَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ تَلِيقُ بِهِمْ وَيَتَفَاخَرُونَ بِذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يَعِيبُ عَلَى مَنْ أَتَى بِطَعَامٍ لَا يَخْتَارُونَهُ وَلَيْتَ هَذِهِ الضِّيَافَةَ لَوْ كَانَتْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لَكِنَّهُمْ يُقَسِّطُونَ مَا يُنْفِقُونَهُ فِي تِلْكَ الضِّيَافَةِ عَلَى الرُّءُوسِ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ وَمُضْطَرٍّ وَمُحْتَاجٍ، وَأَكْثَرُهُمْ يَتَدَايَنُونَ بِسَبَبِهَا وَبَعْضُهُمْ يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ يُعْطِيهِ وَعَمَّنْ يُدَايِنُهُ فَيَهْرُبُ قَبْلَ وُصُولِ الشَّيْخِ إلَى الْبَلَدِ فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى بَيْتِهِ، وَهُوَ غَائِبٌ فَيَأْخُذُونَ مَا وَجَدُوا مِنْ دَجَاجٍ أَوْ دَاجِنٍ، وَبَعْضُ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْهُرُوبِ يُمْتَحَن مَعَ كُبَرَاءِ أَهْلِ الْبَلَدِ بِمَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا قُدْرَةَ لَهُ بِهِ وَتَفَاصِيلُ أَحْوَالِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَطُولُ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَا وَأُمَّتِي بُرَآءُ مِنْ التَّكَلُّفِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ التَّكَلُّفِ لَهُمْ إلَّا عَلَفُ دَوَابِّهِمْ لَكَانَ فِيهِ مِنْ الْمُحَرَّمِ مَا فِيهِ» . ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذَا التَّكَلُّفِ الْعَظِيمِ حَتَّى أَضَافُوا إلَيْهِ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْهَدَايَا وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِالْفُتُوحِ لِلشَّيْخِ وَلِأَصْحَابِهِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ سِيَّمَا صَاحِبُ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلُوا عِنْدَهُ فَهَذِهِ الْوَظَائِفُ أَعْنِي الضِّيَافَةَ، وَالْعَلَفَ، وَالْفُتُوحَ لِلشَّيْخِ وَجَمَاعَتِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا حَتْمًا، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ الْأَخْذِ لِلشَّيْخِ وَحْدَهُ حَتَّى يَأْخُذُوا لِخَادِمِ السَّجَّادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّجَّادَةَ فِي نَفْسِهَا بِدْعَةٌ فَكَيْفَ يُتَّخَذُ لَهَا خَادِمٌ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ لِخَادِمِ الْإِبْرِيقِ، ثُمَّ لِخَادِمِ السِّمَاطِ، ثُمَّ لِخَادِمِ الْعُكَّازِ، ثُمَّ لِخَادِمِ الدَّابَّةِ أَوْ الْفَرَسِ ثُمَّ الْمُزَمِّرُونَ الَّذِينَ مَعَهُ. ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ يَرْقُصُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ نِسَاءً وَرِجَالًا وَشُبَّانًا. ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ حَتَّى آخَى بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا اسْتِخْفَاءٍ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ حَتَّى يَقْعُدَ بَعْضُ النِّسَاءِ يُلْبِسْنَ بَعْضَ الرِّجَالِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الشَّيْخِ، وَقَدْ آخَتْهُ فَلَا تُحْتَجَبُ عَنْهُ؛ إذْ إنَّهَا صَارَتْ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَكُتُبُ الْعُلَمَاءِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوهُ، بَلْ افْتِعَالٌ مِنْهُمْ وَتَقَوُّلٌ بَاطِلٌ فَمَنْ اسْتَحَلَّهُ مِنْهُمْ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الدِّينِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّهُ مِنْهُمْ فَقَدْ ارْتَكَبَ أَمْرًا

عَظِيمًا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ وَيُقْلِعَ عَمَّا هُوَ بِسَبِيلِهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ وَالضَّلَالِ. فَإِذَا عُلِمَ هَذَا مِنْ أَحْوَالِ بَعْضِهِمْ فَأَيُّ فَرْقٍ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الظَّلَمَةِ الْمُتَسَلِّطِينَ عَلَى الْخَلْقِ بِأَخْذِ الْمَالِ وَالْأَذِيَّةِ، بَلْ قَدْ يُوجَدُ بَعْضُ الْوُلَاةِ يَتَحَاشَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَيُنَزِّهُ مَنْصِبَهُ عَنْهَا فَلَا يَأْكُلُ إلَّا مِنْ إقْطَاعِهِ مَعَ أَنَّ الْوَالِيَ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْفُقَرَاءِ الْمُتَّبِعِينَ فَصَارَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إذْ إنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَمْرِ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الْفُقَرَاءِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْوَالِي فِي هَذَا الْفِعْلِ الْحَسَنِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا شَيْئًا قَبِيحًا، وَهُوَ اسْتِهْتَارٌ فِي الدِّينِ وَزَنْدَقَةٌ فَيَقُولُونَ: الْمَالُ مَالُ اللَّهِ وَنَحْنُ عَبِيدُ اللَّهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ لِأَنَّا شُرَكَاؤُهُ فِيهِ وَهَذَا مِنْهُمْ حِلٌّ وَنَقْضٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَقَدْ أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] فَالشَّرِيعَةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَصُونَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ فِيهَا وَالنَّقْصِ مِنْهَا فَلَا تَزَالُ عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ. ثُمَّ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَشْيَخَةَ مِنْهُمْ، وَالْهِدَايَةَ لِطَرِيقِ الْقَوْمِ كَيْفَ يُعْطِي الْإِجَازَاتِ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ بِالْمَشْيَخَةِ؟ وَلَوْ سَأَلْتَهُ عَنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ، أَوْ سُنَنِهِ، أَوْ فَضَائِلِهِ وَكَذَلِكَ فِي الْغُسْلِ، أَوْ فِي التَّيَمُّمِ، أَوْ فِي الصَّلَاةِ لَجَهِلَ ذَلِكَ غَالِبًا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إذَا صَلَّى الْمُكَلَّفُ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ الْمَفْرُوضَ مِنْ الْمَسْنُونِ فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلْتَهُ عَنْ مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ لَمَا عَلِمَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلْتَهُ عَنْ حُكْمِ السَّهْوِ إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ لَمَا عَلِمَهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُ فِي أَمْرِ وُضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا قِوَامُ دِينِهِ وَصَلَاحِهِ فَمَا بَالُكَ بِهِ فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتَمِنْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ فَبَعِيدٌ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الشَّيْخِ فِي جَهْلِهِ بِمَبَادِئ أَمْرِ دِينِهِ فَكَيْف بِمَنْ يَصْحَبُهُ أَمْ كَيْفَ بِمَنْ يُجِيزُهُ؟ إذْ الْغَالِبُ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ الْعُلَمَاءَ إذْ لَوْ بَاشَرَهُمْ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ فَكَيْفَ يَصْحَبُهُمْ

فصل العجب من ادعائهم المشيخة وهم لا يعرفون مبادئ أمر دينهم

أَوْ يَتْبَعُهُمْ؟ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْإِجَازَةَ، وَالْحَالَةَ هَذِهِ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الدِّينِ وَمَعَ كَوْنِهَا لَا أَصْلَ لَهَا فَالْإِجَازَةُ الَّتِي يُعْطُونَهَا شَبِيهَةٌ بِالظُّلْمِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهَا فِي الْغَالِبِ لِمَنْ سَأَلَهَا حَتَّى يُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ عَطَاءً جَزِيلًا بِحَسَبِ حَالِهِمَا وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِشُكْرَانِ الدُّخُولِ فِي طَرِيقِ الْقَوْمِ فَيُعْطِي الشَّيْخُ مَا يَلِيقُ بِهِ وَلِخُدَّامِ الشَّيْخِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ مَا يَلِيقُ بِدَرَجَاتِهِمْ وَكَذَلِكَ الْأَكَابِرُ أَصْحَابُ الشَّيْخِ الْمَذْكُورِ وَلَا بُدَّ مِنْ لَيْلَةٍ يَطْلُبُونَهَا مِنْهُ لِلسَّمَاعِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَيَخْتَلِطُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ مَعَ هَذَا الْحَالِ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى كَتْبِ الْإِجَازَاتِ لِمَنْ طَعَنَ فِي السِّنِّ وَلِمَنْ لَهُ ثُبُوتٌ فِي الْعَقْلِ مِنْ الْكُهُولِ، بَلْ يُعْطُونَهَا لِلشُّبَّانِ الْمُرْدَانِ وَلَهُمْ صُوَرٌ حِسَانٌ فَيَتَسَلَّطُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى الْكَشْفِ عَلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَالْأَمَاكِنِ بِسَبَبِ الِاخْتِلَاطِ بِهِمْ مِنْ أَجْلِ الْإِجَازَاتِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ. هَذَا حَالُهُمْ مَعَ مَنْ سَأَلَ الْإِجَازَةَ مِنْهُمْ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَسْأَلْهَا فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجَاهَةٌ، أَوْ جِدَةٌ، أَوْ أَحَدُهُمَا وَيَعْلَمُونَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَمِيلُ إلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَارِيًّا عَنْ الْوَجَاهَةِ وَالْجِدَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُتَشَوِّفٌ لِلْإِجَازَةِ كَالْأَوَّلِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ الْحِيَلَ فِي رَبْطِهِ عَلَيْهِمْ وَسُكُونِهِ إلَى قَوْلِهِمْ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ فَإِذَا ظَفَرُوا مِنْهُ بِذَلِكَ كَلَّفُوهُ التَّكَالِيفَ الَّتِي تَضُرُّ بِحَالِهِ وَحَالِ عِيَالِهِ غَالِبًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَبَيْنَ الظَّلَمَةِ إلَّا أَنَّ الظَّلَمَةُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالْعُنْفِ وَالْقَهْرِ وَهَؤُلَاءِ يَفْعَلُونَ مِثْلَهُ بِالْحِيَلِ، وَالْخَدِيعَةِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَجَاهَةَ فَإِنَّهُمْ يَسْتَخْدِمُونَهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ لِيَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ تَكَلُّفِ النَّاسِ وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِمْ بِالْمَسْأَلَةِ عَلَى الْغَنِيِّ مِنْهُمْ وَالْفَقِيرِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ مَا يُرْضِيهِمْ كَالْأَوَّلِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَمَسُّ أَخْلَاقَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ؛ إذْ إنَّ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ الْمُنَاصَحَةَ بَيْنَهُمْ وَالشُّفْعَةَ وَرَحْمَةَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. [فَصْلٌ الْعَجَبُ مِنْ ادِّعَائِهِمْ الْمَشْيَخَةَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَبَادِئَ أَمْرِ دِينِهِمْ] (فَصْلٌ) : ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ ادِّعَائِهِمْ الْمَشْيَخَةَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَبَادِئَ أَمْرِ

دِينِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ بِالِانْتِمَاءِ إلَى الْمَشْيَخَةِ. وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ: إنَّ الْفَقِيرَ لَا يَكُونُ فَقِيرًا يَكُونُ قَلْبُهُ كَأَنَّهُ فِي كَفِّهِ يَعْنِي مِنْ قُوَّةِ مُعَايَنَتِهِ لَهُ، وَنَظَرُهُ لَا يَكُونُ فَيَعْرِفُ الزِّيَادَةَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ بَدِيهَةً. هَذَا حَالُ الْفَقِيرِ الْمُنْفَرِدِ بِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَصِلَ إلَى اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ بِهِ. وَأَمَّا الشَّيْخُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ قُلُوبُ أَصْحَابِهِ كَأَنَّهَا فِي كَفِّهِ وَكَذَلِكَ أَحْوَالُهُمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ فَيَعْلَمُ مَا يَزِيدُ فِيهَا وَمَا يَنْقُصُ مِنْهَا فَيُرَبِّيهِمْ عَلَى مَا يَتَحَقَّقُ مِنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ وَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ أَحَدٌ مِنْ جُلَسَائِهِ، بَلْ الشَّخْصُ نَفْسُهُ قَدْ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَلَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا أُمُورٌ وَتَصَرُّفٌ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ عَاجِزًا عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا زَادَ فِي حَالِ أَصْحَابِهِ وَمَا نَقَصَ فِي غَيْبَتِهِ فَلَا يَدَّعِي الْمَشْيَخَةَ وَلَا الْهِدَايَةَ، بَلْ إخْوَانٌ مُجْتَمِعُونَ يَتَذَاكَرُونَ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ وَمَنَاقِبِ أَهْلِ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ فَلَعَلَّ بَرَكَةَ ذَلِكَ وَبَرَكَةَ اجْتِمَاعِهِمْ تَعُودُ عَلَيْهِمْ دُون أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَالًا، أَوْ مَقَالًا هَذَا حَالُ الْقَوْمِ مَعَ وُجُودِ الْإِخْلَاصِ مِنْهُمْ وَالصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ وَالرُّكُونِ إلَى مَوْلَاهُمْ فِي دَقِيقِ الْأُمُورِ وَجَلِيلِهَا وَالْتِزَامِ الْوُقُوفِ بِبَابِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَعَ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ حَالًا وَلَا مَقَالًا، بَلْ يَقُولُ أَكْثَرُهُمْ إلَى الْآنَ مَا أَحْسَنَ أَنْ أَتُوبَ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ يَظُنُّونَ بِي خَيْرًا وَمَا بِي مِنْ خَيْرٍ ... وَلَكِنَّنِي عَمْدٌ ظَلُومٌ كَمَا تَدْرِي سَتَرْتَ عُيُوبِي كُلَّهَا عَنْ عُيُونِهِمْ ... وَأَلْبَسْتَنِي ثَوْبًا جَمِيلًا مِنْ السَّتْرِ فَصَارُوا يُحِبُّونِي وَلَسْتُ أَنَا الَّذِي ... أَحَبُّوا وَلَكِنْ شَبَّهُونِي بِالْغَيْرِ فَلَا تَفْضَحْنِي فِي الْقِيَامَةِ بَيْنَهُمْ ... وَلَا تُخْزِنِي يَا رَبِّ فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّالِحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِوَلَدِهِ لَمَّا أَنْ رَأَى مِنْهُ شَيْئًا لَا يُعْجِبُهُ يَا بُنَيَّ أَمَا تَعْرِفُ قَدْرَكَ فَقَالَ: وَمَا قَدْرِي فَقَالَ لَهُ: أُمُّكَ اشْتَرَيْتُهَا بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ

فصل أخذ بعضهم العهد على من يريد الدخول في الطريق

وَأَبُوكَ لَا أَكْثَرَ اللَّهُ مِثْلَهُ فِي الْإِسْلَامِ. هَذَا مَقَالُهُمْ مَعَ وُجُودِ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ مِنْهُمْ فَمَا بَالُكَ بِمَنْ هُوَ عَلَى الْعَكْسِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُعْطِي الْإِجَازَاتِ وَتُنْصَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَعْلَامُ وَالرَّايَاتُ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَبَعْضُهُمْ يَدَّعِي الْوَلَهُ وَيَرْتَكِبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُحَرَّمَاتٍ فَيَرْكَبُ عَلَى جَرِيدَةٍ قَدْ صَوَّرَ لَهَا وَجْهًا وَعَيْنَيْنِ وَأَنْفًا وَفَمًا وَيَأْخُذُ بِيَدِهِ شَيْئًا كَأَنَّهُ سَوْطٌ وَيَرْكَبُ تِلْكَ الْجَرِيدَةِ وَيُمْسِكُهَا بِسَيْرٍ أَوْ خَيْطٍ كَأَنَّهُ لِجَامٌ لَهَا وَيَضْرِبُهَا وَيَجْرِي. وَبَعْضُهُمْ يُعَلِّقُ فِيهَا جَرَسًا فَإِذَا مَشَى يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ قَوِيٌّ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ وَالشُّبَّانُ غَالِبًا، وَقَدْ يُدْخِلُونَهُ بُيُوتَهُمْ وَلَا يَخْتَفِي مِنْهُ أَحَدٌ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ مِنْ جُمْلَةِ نِسَائِهِمْ وَيَعِيبُونَ عَلَى مَنْ اسْتَتَرَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ هَذَا مُولَهٌ. وَهَذَا أَشَدُّ قُبْحًا مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَرِدُ وَحْدَهُ فَيَجِدُ السَّبِيلَ إلَى مَا تُسَوِّلُهُ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ الرَّذَائِلِ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. فَكَيْفَ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ مَعَ ارْتِكَابِ نَهْيِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حَيْثُ يَقُولُ: (مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا) وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ صَوَّرَهَا، أَوْ اسْتَعْمَلَهَا، أَوْ رَضِيَ بِهَا. وَمَا الْعَجَبُ مِنْ هَذَا، بَلْ الْعَجَبُ مِمَّنْ تَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَيُصَوِّبُ فِعْلَهُ بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا وَلِيٌّ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ يُخَرِّبُ عَلَى نَفْسِهِ وَتَخْرِيبُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا لَمْ يُعَارِضْهُمْ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَهَذَا قَدْ عَارَضَهُ النَّهْيُ الصَّرِيحُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْجَرِيدَةِ صُورَةٌ لَاحْتَمَلَ التَّخْرِيبَ وَغَيْرَهُ. هَذَا إنْ كَانَتْ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ عَلَيْهِ مَحْفُوظَةً وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ يُظْهِرُ الْوَلَهَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ دَعَتْ إلَى الدُّخُولِ فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ إذْ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمُكَلَّفِ إذْ الْعُلَمَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ مَحْفُوظُونَ فِي ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ مَوْجُودُونَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَا تَخْلُو مِنْهُمْ الْأَرْضُ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ بِإِخْبَارِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. [فَصْلٌ أَخْذُ بَعْضِهِمْ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الطَّرِيقِ] (فَصْلٌ) : ثُمَّ إنَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَكْتَفُوا بِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ حَتَّى ضَمُّوا إلَيْهَا

فصل تعليق السبحة في عنقه

مَفْسَدَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَخْذُ بَعْضِهِمْ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الطَّرِيقِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ شَابٍّ لِيَكُونُوا مِنْ خَوَاصِّهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَحْلِقُونَ شَعْرَ رَأْسِ مَنْ يَتُوبُ عَلَى أَيْدِيهِمْ حِينَ يَأْخُذُونَ عَلَيْهِمْ الْعَهْدَ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِالْعَهْدِ وَمَاهِيَّتِه وَكَيْفِيَّتِهِ وَحَلْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ الْبِدَعِ، وَقَدْ كَانَ فِي عَهْدِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَعَلَامَةً عَلَيْهِمْ. هَذَا إذَا كَانَ الْحَلْقُ لِأَجْلِ الدُّخُولِ فِي الطَّرِيقِ وَأَمَّا حَلْقُهُ لِكَثْرَةِ الدَّوَابِّ أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ جَائِزٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ. [فَصْلٌ تَعْلِيقُ السُّبْحَةِ فِي عُنُقِهِ] {فَصْلٌ} وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَعْلِيقِ السُّبْحَةِ فِي عُنُقِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ: أَنَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَاعْرِفُونِي، وَمَا كَانَ مُرَادُهُ إلَّا أَنْ يُذَكِّرَ النَّاسَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَأْمُورِ بِإِظْهَارِهَا وَإِشَاعَتِهَا، وَإِظْهَارُ السُّبْحَةِ وَالتَّزَيُّنُ بِهَا لَا مَدْخَلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، بَلْ لِلشُّهْرَةِ وَالْبِدْعَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فَيَتَّخِذَ السُّبْحَةَ فِي يَدِهِ كَاِتِّخَاذِ الْمَرْأَةِ السِّوَارَ فِي يَدِهَا وَيُلَازِمُهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَحَدَّثُ مَعَ النَّاسِ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا وَيَرْفَعُ يَدَهُ وَيُحَرِّكُهَا فِي ذِرَاعِهِ، وَبَعْضُهُمْ يُمْسِكُهَا فِي يَدِهِ ظَاهِرَةً لِلنَّاسِ يَنْقُلُهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً كَأَنَّهُ يَعُدُّ مَا يَذْكُرُ عَلَيْهَا، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّاسِ فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ وَمَا جَرَى لِفُلَانٍ وَمَا جَرَى عَلَى فُلَانٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا لِسَانٌ وَاحِدٌ فَعَدُّهُ عَلَى السُّبْحَةِ عَلَى هَذَا بَاطِلٌ إذْ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ لِسَانٌ آخَرُ حَتَّى يَكُونَ بِهَذَا اللِّسَانِ يَذْكُرُ وَاللِّسَانُ الْآخَرُ يَتَكَلَّمُ بِهِ فِيمَا يَخْتَارُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ الشُّهْرَةِ وَالرِّيَاءِ وَالْبِدْعَةِ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَعُدُّ عَلَى السُّبْحَةِ حَقِيقَةً وَيَحْصُرُ مَا يُحَصِّلُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا يَعُدُّ مَا اجْتَرَحَهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا» فَأَرْشَدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى مُحَاسَبَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِاعْتِقَادِهِ

وَجَوَارِحِهِ وَيَعْرِضُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فَمَا وَافَقَ مِنْ ذَلِكَ حَمَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَبَقِيَ خَائِفًا وَجِلًا خَشْيَةً مِنْ دَسَائِسَ وَقَعَتْ لَهُ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا وَمَا لَمْ يُوَافِقْ احْتَسَبَ الْمُصِيبَةَ فِي ذَلِكَ وَرَجَعَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِالتَّوْبَةِ، وَالْإِقْلَاعِ فَلَعَلَّ بَرَكَةَ التَّوْبَةِ تَمْحُو الْحَوْبَةَ وَيَنْجَبِرُ بِذَلِكَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ الْخَلَلِ. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ أَصْلُ عَمَلِهَا لِلتَّحَفُّظِ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالْهَوَاجِسِ وَالْخَوَاطِرِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِي كَسْبِ الْحَسَنَاتِ. وَقَدْ قَالُوا: إنَّ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ أَوْجَبُ مِنْ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ» . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ بَكَى أَرْبَعِينَ سَنَةً فَسُئِلَ عَنْ سَبَبِ بُكَائِهِ فَقَالَ: اسْتَضَافَنِي أَخٌ لِي فَقَدَّمْتُ لَهُ سَمَكًا فَأَكَلَ، ثُمَّ أَخَذْتُ تُرَابًا مِنْ حَائِطِ جَارٍ لِي فَغَسَلَ بِهِ يَدَيْهِ فَأَنَا أَبْكِي عَلَى ذَلِكَ التُّرَابِ الَّذِي أَخَذْتُهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَحُكِيَ عَنْ آخَرَ مِثْلُهُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: طَلَعَ لِي طُلُوعٌ فَرَقَيْتُهُ فَاسْتَرَحْتُ مِنْهُ فَأَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ لِعَدَمِ رِضَائِي بِمَا فَعَلَهُ اللَّهُ بِي، أَوْ كَمَا قَالَ وَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُمْ فِي مِثْلِ مَا وَصَفْنَاهُ عَنْهُمْ فَمَا بَالُكَ بِمَنْ يَحْمِلُ الْأَثْقَالَ وَأَيُّ أَثْقَالٍ، ثُمَّ يَحْصُرُ الْحَسَنَاتِ وَلَا يُفَكِّرُ فِي ضِدِّهَا؟ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَحْتَجُّ بِأَنَّهَا مُحَرِّكَةٌ وَمُذَكِّرَةٌ فَوَا سَوْأَتَاهُ إنْ لَمْ يَكُنْ التَّحْرِيكُ وَالتَّذْكِيرُ مِنْ الْقَلْبِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ عَمَلَ السِّرِّ يَفْضُلُ عَمَلَ الْجَهْرِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا» هَذَا، وَهُوَ عَمَلٌ فَمَا بَالُكَ بِإِظْهَارِ شَيْءٍ لَيْسَ بِعَمَلٍ، وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ عَمَلٍ وَمَا زَالَ النَّاسُ يُخْفُونَ أَعْمَالَهُمْ مَعَ وُجُودِ الْإِخْلَاصِ الْعَظِيمِ مِنْهُمْ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ دُخُولِهِ الدَّسَائِسَ عَلَيْهِمْ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَفِعْلُ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الشُّهْرَةِ مَا فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّاجِرَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمُحَاوَلَةِ مَا يَتَّجِرُ فِيهِ فَلَا يَتْرُكُ مَا لَهُ فِيهِ سَبْعُونَ ضِعْفًا وَيَأْخُذُ مَالَهُ فِيهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هَذَا مَعَ السَّلَامَةِ

فصل من بالغ في أخذ العهد إلى حد لا شك في تحريمه وإبطاله

مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فَكَيْفَ بِهِ مَعَ وُجُودِهَا، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَحْرِمُ نَفْسَهُ فَضْلَ الذِّكْرِ وَعَوْدَ بَرَكَتِهِ عَلَى أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ فَلَوْ كَانَ يُسَبِّحُ وَيَعُدُّ عَلَى أَنَامِلِهِ لَكَانَ نُورُ ذَلِكَ الذِّكْرِ وَبَرَكَتُهُ فِي أَنَامِلِهِ. وَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَرَأَى نُورًا فِي طَاقٍ فَقَالَ مَا هَذَا النُّورُ الَّذِي فِي الطَّاقِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سُبْحَتِي الَّتِي كُنْتُ أُسَبِّحُ عَلَيْهَا جَعَلْتُهَا هُنَاكَ، أَوْ كَمَا قَالَتْ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَلَّا كَانَ ذَلِكَ النُّورُ فِي أَنَامِلِكِ» فَهَذَا إرْشَادٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى وَالْأَرْجَحِ، وَقَاعِدَةُ الْمُرِيدِ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى عَمَلٍ مَفْضُولٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا قَرَأَ فِي الْخِتْمَةِ يَجْعَلُهَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعًا وَيُمْسِكُهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَجَمِيعُ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى تَمُرُّ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي يَتْلُوهَا وَيَتَعَمَّدُ ذَلِكَ وَيُعَلِّلُهُ بِأَنْ يَقُولَ حَتَّى يَحْصُلَ لِكُلِّ عُضْوٍ حَظُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ لِكَيْ يَكْثُرَ الثَّوَابُ بِذَلِكَ. فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ وَأَنَا إلَيْهِ رَاجِعُونِ. [فَصْلٌ مَنْ بَالَغَ فِي أَخْذِ الْعَهْدِ إلَى حَدٍّ لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ] {فَصْلٌ} وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فِي أَخْذِ الْعَهْدِ إلَى حَدٍّ لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ فَيَقُولُ: إنَّهُ إذَا أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ إنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ وَلَا زَوْجَتِهِ وَلَا نَفْسِهِ، بَلْ التَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِلشَّيْخِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ، وَإِنْ أَخَذَ مَالَهُ لَزِمَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ هَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي يَشْتَرِطُونَهَا لَوْ تَصَرَّفَ الشَّيْخُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ سَبَبًا لِلْقَطِيعَةِ وَالتَّرْكِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَة الْقَوْمِ وَلَا بِمَأْثُورٍ عَنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى أَنْ يَنْتَمِي لِفُلَانٍ مِنْ الْمَشَايِخِ دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى كَأَنَّ الطَّرِيقَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى عَدَدِ الْمَشَايِخِ فَيَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ كَمَا يَنْتَسِبُ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ إلَى مَذَاهِبِهِمْ فَإِذَا انْتَسَبُوا إلَى ذَلِكَ فَالطَّرِيقُ الْمُحَمَّدِيُّ أَيْنَ هُوَ وَحَصَلَ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَهُمْ تَعَصُّبَاتٌ وَشَنَآنٌ كَثِيرٌ حَتَّى صَارُوا أَحْزَابًا وَوَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي حَقِّ غَيْرِ شَيْخِهِ الَّذِي يَنْتَمِي إلَيْهِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ. وَالطَّرِيقُ الْمُحَمَّدِيُّ غَيْرُ هَذَا كُلِّهِ. وَلِذَلِكَ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ

طَرِيقُ الْقَوْمِ وَاحِدَةٌ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ سُنَّةُ الْأَحْبَابِ وَاحِدَةٌ يَعْنِي أَنَّ مُشْرَبَهُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعِ وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيهِ إنْكَارٌ لِأَخْذِ الْعَهْدِ مِنْ أَهْلِهِ لِأَهْلِهِ بِشَرْطِهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُمْ إذْ إنَّهُ عَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَفُ الصَّالِحُ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ وَلَا نُنْكِر أَيْضًا الِانْتِمَاءَ إلَى الْمَشَايِخِ بِشَرْطِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمُرِيدِ شَيْخُهُ، وَغَيْرُ شَيْخِهِ بِالسَّوَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ وَيَكُونُ إيثَارَهُ لِشَيْخِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ وُصُولُهُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى يَدَيْهِ فَيَرَى لَهُ ذَلِكَ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَقَعُ التَّفَضُّلُ لِشَيْخِهِ وَالِاخْتِصَاصُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْبَى أَنْ يَأْخُذَ الْعَهْدَ عَلَى أَحَدٍ فَسَأَلْتُهُ مَا الْمُوجِبُ لِذَلِكَ؟ أَهُوَ بِدْعَةٌ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ يَعْنِي نَفْسَهُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ فَأَخَافُ إنْ أَخَذْتُ الْعَهْدَ عَلَى أَحَدٍ فَقَدْ لَا يُوفِي بِمَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَهْدِ فَيَقَعُ لَهُ التَّشْوِيشُ وَأَكُونُ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ فَأَتْرُكُهُمْ رَحْمَةً بِهِمْ وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ وَأُعَوِّضُ عَنْهُ الدُّعَاءَ لَهُمْ بِظَاهِرِ الْغَيْبِ بِالِاسْتِقَامَةِ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَالْحَاصِلُ مِنْ أَخْذِ الْعَهْدِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّيْخُ الْعَهْدَ عَلَى الْمُرِيدِ بِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ اللَّهُ حَيْثُ نَهَاهُ وَلَا يَفْقِدُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ وَهَذَا هُوَ زُبْدَتُهُ وَأَصْلُهُ وَبَقِيَتْ تَفَارِيعُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَلَّ أَنْ تَتَنَاهَى، وَهِيَ الْأَمَانَةُ الَّتِي عَرَضَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: ظَلُومًا لِنَفْسِهِ جَهُولًا بِأَمْرِ رَبِّهِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْغَالِبِ مِنْهُمْ وَإِلَّا فَكَثِيرُ مَنْ وَفَّى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَثِيرٌ مَنْ دَخَلَ فِي جَاهِ مَنْ وَفَّى وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى بَقِيَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ يَنْتَمُونَ إلَى الْمَشَايِخِ لِيَكُونُوا فِي حُرْمَتِهِمْ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ إخْبَارًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ: «هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» فَكَمَا لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ كَذَلِكَ لَا يَشْقَى بِهِمْ مُعْتَقِدُهُمْ وَلَا مُحِبُّهُمْ. وَقَدْ خَرَّجَ

التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ؟ قَالَ: فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ إلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» فَمَا رَأَيْتُ فَرَحَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَفَرَحِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلسَّائِلِ حِينَ سَأَلَهُ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَالَ هُوَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ هَذَا طَلَبَ مَنْصِبًا عَظِيمًا فَأَرْشَدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ فِي الصَّلَاةِ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ إذَا كَانَ سَاجِدًا» فَأَرْشَدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِذَلِكَ، وَطَالِبُ الْمَعِيَّةِ تَشْمَلُهُ الدَّارُ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَنَازِلُ تَتَفَاوَتُ فِيهَا وَلَكِنْ قَدْ جُعِلَتْ السَّعَادَةُ لِمَنْ نَالَهَا. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ سَلِمَ مِنْ أَهْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْعَنَاءِ وَالتَّنْغِيصِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا حِينَ يَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ فِي طَرِيقِهِ فَيُكَلِّفُهُ أَنْ يَعْتَرِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِكُلِّ مَا فَعَلَهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَفِي هَذَا مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ مَا فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِبَعْضِ مَنْ فَعَلَ الذُّنُوبَ: «أَنَا سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ» ، وَقَدْ وَرَدَ: «كُلُّ النَّاسِ مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرُونَ» فَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِيَتُوبَ عَلَى يَدَيْهِ، أَوْقَعَهُ الشَّيْخُ بِاعْتِرَافِهِ فِي هَذِهِ الْمَهَالِكِ فَكَانَ عَدَمُ التَّوْبَةِ بِهِ أَوْلَى، وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَفِي هَذَا تَشَبُّهٌ بِالْقِسِّيسِينَ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ إذَا جَاءَهُمْ أَحَدٌ لِيَتُوبَ عَلَى أَيْدِيهِمْ يُطَالِبُونَهُ بِأَنْ يُسَمِّيَ لَهُمْ

ذُنُوبَهُ ذَنْبًا ذَنْبًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُقْبِلُونَ عَلَيْهِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ وَعَكْسُهُ عَكْسُهُ. فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى تَخْلِيطِ أُمُورِ الدِّينِ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ ارْتَكَبَ بِدْعَةً شَنِيعَةً آلَتْ إلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَتَرْكُهَا فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ هَلْ هُوَ ارْتِدَادٌ، أَوْ ارْتِكَابُ كَبِيرَةٍ مِمَّنْ فَعَلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُلَبِّدُونَ شُعُورَ رُءُوسِهِمْ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْجَنَابَةَ تُصِيبهُمْ فَإِذَا اغْتَسَلُوا لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُوصِلُوا الْمَاءَ إلَى الْبَشَرَةِ وَلَيْسَ ثَمَّ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ يُجِيزُ الْمَسْحَ عَلَى حَائِلٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ فَصَلَاتُهُمْ عَلَى هَذَا بَاطِلَةٌ، ثُمَّ ضَمُّوا إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَة مَفْسَدَةً أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْهَا، وَهُوَ أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالصَّوَابِ وَعَلَى طَرِيقِ السُّلُوكِ وَالْهِدَايَةِ. نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ مِنْ بَلَائِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَانَى اتِّخَاذَ الْحُرُوزِ الْكَثِيرَةِ وَيَجْعَلُهَا فِي عُنُقِهِ كَالْقِلَادَةِ لِلْمَرْأَةِ. وَمِنْهُمْ مِنْ يَجْعَلُهَا عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى يَتَوَشَّحُ بِهَا وَهَذَا شُهْرَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ وَشَوْهٌ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِلتَّبَرُّكِ وَالتَّحَفُّظِ مِنْ الْعَيْنِ وَمِنْ مَرَدَةِ الْجِنِّ فَلَهُ طَرِيقٌ غَيْرُ هَذَا بِأَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ ثَوْبِهِ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَلَا يَظْهَرُ وَأَمَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيُمْنَعُ لِمُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ سُبْحَةً كَبِيرَةً وَيُعَلِّقُهَا فِي عُنُقِهِ، أَوْ يَتَوَشَّحُ بِهَا وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ وَالتَّحَدُّثِ فِي أُمُورِ الْغَيْبِ إظْهَارًا مِنْهُ أَنَّهُ يُكَاشِفُهَا وَيُخْبِرُ بِوُقُوعِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ عَنْهَا خَيْطًا مِنْ صُوفٍ عَلَى صِفَاتٍ وَصِبْغٍ فَيَتَقَلَّدُونَ بِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الشُّهْرَةِ، أَوْ الشَّهْوَةِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالْخُرُوجِ عَنْ الِاتِّبَاعِ لِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَجْمَعِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا رَذِلًا يَأْبَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ النَّاسِ فِي الْجَامِعِ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فَإِذَا قَامَتْ الصَّلَاةُ وَقَامَ النَّاسُ إلَيْهَا قَامَ هُوَ فِي جُمْلَتِهِمْ فَإِذَا رَكَعُوا وَسَجَدُوا بَقِيَ وَاقِفًا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ لَا يُحْرِمُ وَلَا يَرْكَعُ وَلَا يَسْجُدُ، ثُمَّ يَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ مِنْ صَلَاتِهِمْ

وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَأَرْذَلُ مَنْ يَعْتَقِدُ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَيَرَى أَنَّهُ مِمَّنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ الْوَاصِلِينَ وَيَتَأَوَّلُ بِأَنَّهُ يُصَلِّي فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْهُ تَخْرِيبٌ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَا يُشْهَرَ وَلَا يُعْتَقَدَ، وَتَأْوِيلُهُمْ هَذَا مِنْ السَّخَافَةِ وَالْحُمْقِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَعَدَمِ الْغَيْرَةِ فِي الدِّينِ وَاصْطِلَاحُهُمْ عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَرَأْسُهُ وَأَوَّلُ أَرْكَانِهِ بَعْد كَلِمَتَيْ التَّوْحِيدِ؛ إذْ إنَّ مَنْ رَأَى وَلَمْ يُنْكِرْ كَمَنْ فَعَلَ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى التَّخْرِيبِ؛ لِأَنَّ مَنْ مَشَى عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ وَاتَّبَعَ الْحَقَّ وَالسُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَاقْتَفَى آثَارَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - سِيَّمَا إنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الذَّمِيمَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ فَالْغَالِبُ مِنْ حَالِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ النُّفُورُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَدْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ إنَّمَا تَرَكَ الْعَوَائِدَ وَالِابْتِدَاعَ وَاتَّبَعَ السُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَتَمَسَّكَ بِهَا، وَعَادَةُ النُّفُوسِ فِي الْغَالِبِ النُّفُورُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهَا. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا حَقُّ مَا أَبْقَيْتَ لِي حَبِيبًا. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى عَكْسِ هَذَا الْحَالِ مَنْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ أَحَبُّوهُ وَاعْتَقَدُوهُ وَعَظَّمُوهُ وَوَقَّرُوهُ وَاحْتَرَمُوهُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ تَرَكُوهُ وَأَهْمَلُوهُ وَمَقَتُوهُ وَأَبْغَضُوهُ حَتَّى كَانَ مَنْ يُرِيدُ الرِّفْعَةَ عِنْدَهُمْ وَالتَّعْظِيمَ مِمَّنْ لَا خَيْرَ فِيهِ يُظْهِرُ الِاتِّبَاعَ حَتَّى يَعْتَقِدُوهُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا الْيَوْمَ فَيَعْتَقِدُونَ وَيَحْتَرِمُونَ مَنْ يَفْعَلُ الْعَوَائِدَ الْمُحْدَثَةَ وَيَمْشِي عَلَيْهَا وَلَا يُنْكِرُ عَلَى أَحَدٍ مَا هُوَ فِيهِ فَمَنْ أَرَادَ التَّخْرِيبَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلْيَتْبَعْ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ فَإِنَّهُمْ يَنْفِرُونَ عَنْهُ وَلَا يَعْتَقِدُونَهُ غَالِبًا لِإِنْكَارِهِ مَا هُمْ فِيهِ حَتَّى قَدْ يَنْفُرَ عَنْهُ أَبَوَاهُ وَأَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ لِمُخَالَفَتِهِ مَا هُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ إنَّ الْمُخَرِّبَ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ حِلَّ ذَلِكَ أَمْ لَا فَإِنْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَأَمَّا إنْ فَعَلَهُ مَعَ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ. وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْمَكْرُوهُ يَفْسُقُ فَاعِلُهُ. ثُمَّ إنَّهُمْ يَتَغَالَوْنَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَيَقُولُونَ: هَذَا بَدَلُ هَذَا قُطْبٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَحْسُنُ أَنْ

يُطْلَقَ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ وَبَذَلَ جَهْدَهُ فِي الِاتِّبَاعِ فَكَيْفَ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ الْمَكْرُوهَاتِ، أَوْ هُمَا مَعًا؟ ثُمَّ إنَّ الْمُتَّبِعَ مِنْ النَّاسِ فِي اعْتِقَادِهِ عَلَى قِسْمَيْنِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ كُلِّهَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ فَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ أَوْ قَالَهُ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مَوْضِعٌ لَا أَدْخُلُهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ أَوْ اسْتَعْمَلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ الْغَصْبَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: هَذَا مِنْ بَابِ الْوَرَعِ هَذَا لَيْسَ بِمُتَّبَعٍ، وَقَدْ دَخَلَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَيَحْتَجُّونَ بِمَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهِمْ أَهْلِيَّةٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ فَقَدْ تَكُونُ لَهُ أَعْذَارٌ فِي ارْتِكَابِ ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُبَيِّنَ عُذْرَهُ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا كُلُّ الْأَعْذَارِ تُبْدَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ؛ إذْ إنَّ اتِّبَاعَ لِسَانِ الْعِلْمِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ عَلَى النَّاسِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنِّي لَا أَتَكَلَّمُ بِالْوَرَعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَالنَّاسُ يَحْمِلُونَ مَا أَتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَصَارَ لِسَانُ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ وَرَعًا وَتَرَتَّبَتْ عَلَى هَذَا مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَنْسِبُونَ كَثِيرًا مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَى الْوَرَعِ فَيَتْرُكُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاتِّبَاعَ، وَبَابُ الْوَرَعِ ضَيِّقٌ لَا يَدْخُلُهُ إلَّا الْأَفْذَاذُ إذْ لَيْسَ هَذَا زَمَانُ الْوَرَعِ غَالِبًا وَمَا يَتَعَلَّلُونَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْوَرَعِ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَسْوِيلِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ لِيُثَبِّطَ عَنْ بَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ غَيْرُ الْمُعْتَقِدِ يَقُولُ: هَذَا يَابِسٌ مُشَدَّدٌ مَرْبُوطٌ يُشِيرُ بِكَلَامِهِ وَحَالِهِ إلَى أَنَّ غَيْرَهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِّ وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ. وَكَلَامُهُمْ هَذَا يَرُدُّهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إذَا فَسَدَ النَّاسُ» وَفِي رِوَايَةٍ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي، وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ

فصل اعتقاد المشتبهين بالمشايخ وأهل الإرادة يدور بين أمرين

كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَيْفَ بِكُمْ إذَا فَسَقَ فِتْيَانُكُمْ وَطَغَى نِسَاؤُكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ قَالَ: نَعَمْ وَأَشَدُّ كَيْفَ بِكُمْ إذَا لَمْ تَأْمُرُوا بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ قَالَ: نَعَمْ وَأَشَدُّ، كَيْفَ بِكُمْ إذَا رَأَيْتُمْ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا؟» . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصَلِّ اعتقاد المشتبهين بالمشايخ وَأَهْل الإرادة يدور بَيْن أمرين] (فَصْلٌ) : ثُمَّ إنَّ غَالِبَ حَالِهِمْ أَنَّ اعْتِقَادَهُمْ يَدُورُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ اعْتِقَادُهُ شَهْوَةً فَيَعْقِدُهُ مُدَّةً، ثُمَّ يَنْحَلُّ عَنْ اعْتِقَادِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَدُومُ اعْتِقَادُهُ لَكِنْ يَزِيدُ فِي اعْتِقَادِهِ وَيَتَغَالَى فِيهِ فَيَقُولُ هَذَا بَدَلٌ هَذَا قُطْبٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَيَتَنَاقَضُ قَوْلُهُمْ إذْ إنَّ الْقُطْبَ إنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَعَزُّ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ إلَّا الْوَاحِدُ مِنْ الْأَفْذَاذِ وَمَعَ ذَلِكَ قَلَّ مَنْ يَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّ صِفَتَهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ فِي كِتَابِ الْأَنْوَارِ لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُدِيرُ الْقُطْبَ فِي الْآفَاقِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْكَانِ الدُّنْيَا كَدَوَرَانِ الْفُلْكِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَقَدْ سُتِرَتْ أَحْوَالُ الْغَوْثِ، وَهُوَ الْقُطْبُ عَنْ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ غَيْرَة مِنْ الْحَقِّ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَرَى عَالِمًا جَاهِلًا أَبْلَهَ فَطِنًا تَارِكًا آخِذًا قَرِيبًا بَعِيدًا سَهْلًا عَسِرًا آمِنًا حَذِرًا. وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا حَصَلَ لَهُ اعْتِقَادٌ فِي شَيْخٍ بِعَيْنِهِ نَقَّصَ غَيْرَهُ، أَوْ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَنَآنٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِمْ وَمَنْ يَنْتَمُونَ إلَيْهِمْ حَتَّى أَنَّهُمْ لَيَرْجِعُونَ أَحْزَابًا وَيَهْجُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِعَدَمِ تَسْلِيمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الْفُقَرَاءِ مِمَّنْ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُهُ، وَهُوَ يُعَظِّمَ سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ أَبِي جَمْرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَانَ هَذَا الْفَقِيرُ يَقُولَ فِي نَفْسِهِ مَا هَذَا إلَّا رَجُلٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ مِثْلُ هَذَا السَّيِّدِ يُعَظِّمُهُ قَالَ: فَمَضَيْتُ يَوْمًا إلَيْهِ حَتَّى أَرَاهُ فَدَخَلْتُ إلَى الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي الدَّرْسِ، وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُ عِبَارَتَهُ دُونَ عِبَارَةِ سَيِّدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

فَتَعَجَّبْتُ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي أَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ فَاسْتَبْعَدْتُ ذَلِكَ فَرَدَّ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَأْسَهُ إلَيَّ وَنَظَرَ لِي، ثُمَّ رَجَعَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا كَانَ بِسَبِيلِهِ فَقَالَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ يَنْبَغِي لِلْفَقِيرِ إذَا دَخَلَ عَلَى الشُّيُوخِ أَنْ لَا يُفَضِّلَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ شَيْخًا عَلَى غَيْرِهِ يَا مِسْكِينُ هَذَا الَّذِي تُفَضِّلُهُ لَوْ سَأَلْتَهُ عَمَّنْ فَضَّلْتَهُ عَلَيْهِ كَانَ جَوَابُهُ أَنْ يَقُولَ: هُوَ بَرَكَتِي، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا أَرْجُو مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَرُبَّ سَاكِتٍ أَفْضَلُ مِنْ نَاطِقٍ فَيَجِيءُ أَحَدُكُمْ يُفَضِّلُ مَنْ يَخْطِرُ لَهُ بِمَا يَخْطِرُ لَهُ أَجَاءَ لَكَ أَحَدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَخْبَرَكَ أَنَّ فُلَانًا عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ فَهَذَا مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ وَالِاحْتِرَامِ فَتُبْ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَارْجِعْ إلَيْهِ مَا كَفَى أَنَّ أَحَدَكُمْ يُحْرَمُ الْعَمَلُ حَتَّى يُحْرَمَ الِاعْتِقَادُ مَا هَذَا الْحَالُ. قَالَ فَبَقِيتُ أَتُوبُ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَعَلَّهُ يَسْكُتُ فَمَا سَكَتَ إلَّا بَعْدَ حِينٍ، أَوْ كَمَا قَالَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَضِّلَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ إلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ. بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مِنْ الْآخِرِ. أَوْ يَكُونَ الَّذِي يُفَضِّلُ أَعْلَى مَقَامًا مِنْهُمَا فَيَكْشِفُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ فِي مَقَامٍ يَكْشِفُ عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ وَلَا يَكْشِفُ عَلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَشَفَ عَلَى مَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَمْ يَكْشِفْ عَلَى مَقَامِهِ الْخَاصِّ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْمُرِيدِ يُعَظِّمُ شَيْخَهُ وَيُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي وَقْتِهِ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهُ لَهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ قَسَمَ لَهُ عَلَى يَدَيْهِ رِزْقًا حَسَنًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ رُزِقَ فِي شَيْءٍ فَلْيَلْزَمْهُ» وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «جُبِلَتْ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا» وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْسَانَ بِمَا يَبْقَى هُوَ أَفْضَلُ وَأَعْلَى مِنْ الْإِحْسَانِ بِمَا يَفْنَى وَحَقِيقَةُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ أَنَّ الشَّيْخَ وَجَدَهُ غَرِيقًا فِي بَحْرِ التَّلَفِ فَأَنْقَذَهُ وَخَلَّصَهُ مِنْهُ وَأَوْقَفَهُ بِبَابِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا إحْسَانَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْإِحْسَانِ. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ مَحَبَّةُ الْمُرِيدِ لِطَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمَّا

أَنْ رَأَى عِنْدَ شَيْخِهِ مَا يُحِبُّهُ الْتَزَمَهُ لِمَحْبُوبِهِ الَّذِي وَجَدَهُ عِنْدَهُ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَخْدُمُ بَعْضَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَيُحِبُّهُ يُؤْثِرُ بِالْخِدْمَةِ لَهُ فَعَذَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْتِزَامِ خِدْمَتِهِ لَهُ، وَهُوَ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا فَكَانَ جَوَابُهُ أَنْ قَالَ: مَحْبُوبِي عِنْدَهُ. وَقِيلَ لِآخَرَ أَيْضًا وَقَدْ رَأَوْهُ وَاقِفًا بِبَابِ عَدُوِّهِ فَعَذَلُوهُ فِي ذَلِكَ فَأَخْبَرَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ مَحْبُوبَهُ عِنْدَهُ، وَالْمُرِيدُ بِنِيَّتِهِ وَخَاطِرِهِ وَكُلِّيَّتِهِ رَاغِبٌ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مُتَسَبِّبٌ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ فَإِذَا رَأَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ أَرْفَعُ مِنْهُ قَدْ أَحْكَمَ الطَّرِيقَ وَعَرَفَهَا أَحَبَّهُ، وَالْتَزَمَهُ وَأَنِسَ بِهِ لِمَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ الْمَحَاسِنِ الْجَمِيلَةِ. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يُعَظِّمُهُ لِمَا خَلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْخِلَعِ السَّنِيَّةِ الشَّاهِدَةِ لَهُ بِالْقُرْبِ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَمِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْكَرَامَاتِ فَيَغْتَرُّ بِهَا فَيَتْلَفُ حَالُهُ بِسَبَبِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَلِّمُ بِوَاسِطَةِ أَحَدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا جَرَى لِبَعْضِ الْمُرِيدِينَ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً فِي زَاوِيَةٍ خَارِجَ الْبَلَدِ فَطَلَعَ عَلَى سَطْحِ الزَّاوِيَةِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فَأَعْجَبَهُ ضَوْءُ الْقَمَرِ فَخَطَرَ لَهُ أَنْ يُجَرِّبَ نَفْسَهُ فِي الطَّيَرَانِ هَلْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا فَجَرَّبَ نَفْسَهُ فَطَارَ فِي الْهَوَاءِ فَدَخَلَ الْبَلَدَ مِنْ أَعْلَى سُورِهَا، وَهُوَ طَائِرٌ فَقَالَ: أَيُّ مَوْضِعٍ أَقْصِدُهُ فَوَقَعَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ إلَى زِيَارَةِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ الْمَشَايِخِ فِي وَقْتِهِ فَأَتَى إلَى بَابِ دَارِهِ وَنَزَلَ وَدَقَّ الْبَابَ فَخَرَجَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: فُلَانٌ. فَقَالَ لَهُ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا تَأْتِينِي بِهِ إلَّا بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ؟ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُكَ بَعْدَهَا أَبَدًا فَأَدَّبَهُ بِذَلِكَ وَكَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِهِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَلَامَتِهِ، أَوْ كَمَا جَرَى. وَمِثْلُ هَذَا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُرِيدِينَ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ شَيْخِهِ، ثُمَّ انْقَطَعَ فَسَأَلَ الشَّيْخُ عَنْهُ فَقَالُوا لَهُ: هُوَ فِي عَافِيَةٍ فَأَرْسَلَ خَلْفَهُ فَحَضَرَ فَسَأَلَهُ مَا الْمُوجِبُ لِانْقِطَاعِكَ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي كُنْتُ أَجِيءُ لِكَيْ أَصِلَ، وَالْآنَ قَدْ وَصَلْتُ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْحُضُورِ فَسَأَلَهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ وُصُولِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ يُصَلِّي وِرْدَهُ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: يَا بُنَيَّ وَاَللَّهِ مَا دَخَلْتُهَا أَبَدًا فَلَعَلَّكَ أَنْ تَتَفَضَّلَ عَلَيَّ فَتَأْخُذَنِي مَعَكَ لِعَلِّي أَنْ أَدْخُلَهَا كَمَا

دَخَلْتَهَا أَنْتَ قَالَ: نَعَمْ فَبَاتَ الشَّيْخُ عِنْدَ الْمُرِيدِ فَلَمَّا أَنْ كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ جَاءَ طَائِرٌ فَنَزَلَ عِنْدَ الْبَابِ فَقَالَ الْمُرِيدُ لِلشَّيْخِ هَذَا الطَّائِرُ الَّذِي يَحْمِلُنِي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ عَلَى ظَهْرِهِ إلَى الْجَنَّةِ فَرَكِبَ الشَّيْخُ وَالْمُرِيدُ عَلَى ظَهْرِ الطَّائِرِ فَطَارَ بِهِمَا سَاعَةً، ثُمَّ نَزَلَ بِهِمَا فِي مَوْضِعٍ كَثِيرِ الشَّجَرِ فَقَامَ الْمُرِيدُ لِيُصَلِّيَ وَقَعَدَ الشَّيْخُ فَقَالَ لَهُ الْمُرِيدُ: يَا سَيِّدِي أَمَا تَقُومُ اللَّيْلَةَ فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا بُنَيَّ الْجَنَّةُ هَذِهِ وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ صَلَاةٌ فَبَقِيَ الْمُرِيدُ يُصَلِّي وَالشَّيْخُ قَاعِدٌ فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ جَاءَ الطَّائِرُ وَنَزَلَ فَقَالَ الْمُرِيدُ لِلشَّيْخِ قُمْ بِنَا نَرْجِعُ إلَى مَوْضِعِنَا فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ اجْلِسْ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَخْرُجُ مِنْهَا فَجَعَلَ الطَّائِرُ يَضْرِبُ بِأَجْنِحَتِهِ وَيَصِيحُ حَتَّى أَرَاهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ تَتَحَرَّكُ بِهِمْ فَبَقِيَ الْمُرِيدُ يَقُولُ لِلشَّيْخِ: قُمْ بِنَا لِئَلَّا يَجْرِيَ عَلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٍ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ هَذَا يَضْحَكُ عَلَيْكَ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ الْجَنَّةِ فَاسْتَفْتَحَ الشَّيْخُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَذَهَبَ الطَّائِرُ وَبَقِيَا كَذَلِكَ إلَى أَنْ تَبَيَّنَ الضَّوْءُ، وَإِذَا هُمَا عَلَى مَزْبَلَةٍ، وَالْعُذْرَةُ وَالنَّجَاسَاتُ حَوْلَهُمَا فَصَفَعَ الشَّيْخُ الْمُرِيدَ وَقَالَ لَهُ هَذِهِ هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي أَوْصَلَكَ الشَّيْطَانُ إلَيْهَا قُمْ فَاحْضُرْ مَعَ إخْوَانِكَ، أَوْ كَمَا جَرَى. وَحِكَايَاتُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ، وَالْحَاصِلُ مِنْهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتْرُكُ أَحَدًا وَلَا يَيْأَسُ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَيَضْرِبُ عَلَيْهِ بِخَيْلِهِ وَرَجْلِهِ وَيَسْتَعْمِلُ حِيَلَهُ كُلَّهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُرِيدِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ حَالًا وَلَا مَقَامًا خِيفَةَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مُنَّ بِهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ حَقِيقَةً، أَوْ يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ ابْتِدَاءً وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ رُسُوخٌ فِي الطَّرِيقِ، بَلْ بَعْضُهُمْ مَغْمُوسٌ فِي الْجَهْلِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ الشُّيُوخِ الْمُوصِلِينَ إلَى اللَّهِ وَلَيْسَ لَهُ ذَوْقٌ فِي طَرِيقِ الْقَوْمِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ عَكْسُهُ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا فِي مُطَالَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَقِيَامِ الْمُسْتَغْفِرِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ زَمَنًا طَوِيلًا وَرُبَّمَا كَانَ مُعْتَلَّ الدِّمَاغِ فَتَأْخُذُهُ نَزْلَةٌ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْبَرْدِ، وَقَدْ

يَئُولُ الْأَمْرُ مِنْ ذَلِكَ إلَى الْمَوْتِ، أَوْ إلَى أَمْرَاضٍ خَطِرَةٍ قَدْ تَطُولُ عَلَيْهِ الْمُدَّةُ بِالْعِلَلِ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمَشْهَدٍ مِنْ النَّاسِ عَامَّةً، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِطَرِيقِ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانَتْ مُطَالَبَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُسْتَتِرِينَ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَا قِيلَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ إلَّا ذُو مَحْرَمٍ وَمَحْرَمُهُمْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَعْنِي مِنْ أَصْحَابِ الْخِرْقَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَيَزِيدُ بَعْضُهُمْ حَمْلَ الْأَقْدَامِ وَيَقِفُ طَوِيلًا بِهَا يَنْتَظِرُ إقْبَالَهُمْ عَلَيْهِ. وَبَعْضُهُمْ يُبَالِغُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَيَأْمُرُ بِكَشْفِ رَأْسِ الْجَانِي عَلَى زَعْمِهِ وَضَرْبِهِ بِالْجَمَاجِمِ، وَالْجَرِيدِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا قُبْحٌ وَشَنَاعَةٌ أَنْ يُنْسَبَ هَذَا لِمَنْ يَدَّعِي الطَّرِيقَ، وَطَرِيقُ الْقَوْمِ غَيْرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إذْ إنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الصَّفْحِ وَالتَّجَاوُزِ وَالْإِغْضَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَمْرِ الدِّينِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَمْرِ الدِّينِ فَيَكْفِي فِيهِ الْهِجْرَانُ لَا غَيْرُ وَفِيهِ مُقْنَعٌ لِلْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَغَيْرُ هَذَا لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي شَيْءٍ. وَطَرِيقُهُمْ أَنَّهُمْ إذَا وَقَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مُخَالَفَةٍ يُطَالِبُونَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَمَّا وَقَعَ فِيهِ. ثُمَّ زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ الصَّادِقِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَا يَفْعَلُهُ لِلصَّادِقِ مِنْهُمْ مَعَ إخْوَانِهِ إذَا اطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَكْرُوهِ الَّذِي وَقَعُوا فِيهِ، وَأَنَّهُ يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فِي إنْقَاذِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ لِلشَّيْخِ آكَدُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُرِيدِ؛ لِأَنَّ بِغَفْلَةِ الشَّيْخِ عَنْهُ جَرَى عَلَيْهِ مَا جَرَى فَلَوْ كَانَ الشَّيْخُ يَلْحَظُهُ لَمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِسَيِّدِي أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّمَّاطِ شَيْخِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ جَاءَ إلَيْهِ وَطَلَبَ مِنْهُ إذْنًا أَنْ يَتَزَوَّجَ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَهُ ثَانِيًا فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ثَالِثًا كَذَلِكَ فَقَالَ: أَزْنِي؟ قَالَ: اذْهَبْ. فَذَهَبَ الْمُرِيدُ فَأَخَذَ امْرَأَةً وَجَاءَ بِهَا إلَى بَيْتِهِ وَأَغْلَقَ الْبَابَ، وَإِذَا بِالْحَائِطِ قَدْ انْشَقَّ وَدَخَلَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ فَخَرَجَ هَارِبًا يَسِيحُ فِي الْبَرِّيَّةِ بِحَالٍ أَخَذَهُ لَا يَعْرِفُ أَيْنَ يَذْهَبُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ عَقْلُهُ بَعْد ذَلِكَ

فصل في مكاتبة الفقير لأخيه

فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنِي الْمَرَضُ؟ مِنْ هُنَاكَ أَتَدَاوَى فَرَجَعَ إلَى مَوْضِعِ الشَّيْخِ فَدَخَلَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَقَدَرْتَ عَلَى شَيْءٍ تَفْعَلُهُ؟ أَتَظُنُّ أَنَّكَ لِنَفْسِكَ؟ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَتَحَمَّلُونَ أَنْ يَرَوْا مَنْ يَنْتَمِي إلَيْهِمْ فِي ذَرَّةٍ مِمَّا لَا يَنْبَغِي. أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ: مَا لِي أَرَاك هَاهُنَا فَقَالَ لَهُ لِأَجْلِ فَضِيلَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَلِلْقُرْبِ مِنْ الْخَطِيبِ فَقَالَ لَهُ: أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ الْبُعْدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ الْقُرْبِ مِنْهُمْ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمُشَاهَدَةِ مَا الشَّرْعُ يَأْمُرُ بِتَغْيِيرِهِ عَلَيْهِ. أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي التَّغْيِيرِ أَنْ لَا يَرَى شَيْئًا يُخَالِفُ السُّنَّةَ حَتَّى يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ إذْ إنَّ أَصْعَبَ مَا فِي التَّغْيِيرِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْقَلْبِ تَدْنِيسُهُ بِمَا يُشَاهِدُ وَيَرَى وَيَسْمَعُ فَقَلَّ أَنْ يَتَأَثَّرَ مَعَ مُدَاوَمَةِ هَذَا الْحَالِ عَلَيْهِ فَالتَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْمَرْتَبَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ فَهُوَ أَصْعَبُ مِنْهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَتَأَمَّلْهُ. وَمَا ذَاكَ إلَّا لِتَأْنِيسِ الْقُلُوبِ غَالِبًا بِالْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ بِدْعَةٍ رَأَيْتُ بُلْتُ الدَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ: «وَلُّوا الْبِدَعَ ظُهُورَكُمْ» وَكَذَلِكَ وَرَدَ: «مَنْ لَمْ يُزِلْ الْمُنْكَرَ فَلْيَزُلْ عَنْهُ» فَكَيْفَ يُقْبِلُ الْمُكَلَّفُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يُصْغِي إلَيْهِ وَأَمَّا إنْ فَاجَأَهُ ذَلِكَ وَعَجَزَ عَنْ التَّغْيِيرِ فَالتَّخَلُّصُ مِنْهُ أَقْرَبُ وَأَيْسَرُ. لِمَا وَرَدَ فِيمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّغْيِيرِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا مُنْكَرٌ ثَلَاثًا. ثُمَّ لِيَمْضِ لِسَبِيلِهِ وَيُعْرِضُ عَنْهُ. [فَصْلٌ فِي مُكَاتَبَةِ الْفَقِيرِ لِأَخِيهِ] ِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي مُكَاتَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَى التَّزْكِيَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالْكَذِبِ وَالتَّنْمِيقِ، وَالْقَوَافِي وَالسَّجْعِ، وَالْعِبَارَاتِ الْقَلِقَةِ وَالتَّكَلُّفِ إذْ إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. أَلَا تَرَى أَنَّ كُتُبَ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ عَلَى مِنْهَاجٍ غَيْرِ هَذَا. فَمِنْ ذَلِكَ كَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -

فصل في صرف همم المريد كلها إلى الآخرة وأمورها

إلَى مَنْ يُكَاتِبُهُ مِنْ وُلَاتِهِ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَكُتُبُهُمْ لَهُ. مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ إلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَصَفُوهُ بِالصِّفَةِ الْمُلَازِمَةِ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى هِرَقْلَ: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ لَهُ أَنَّ مَعْنَى. كَتْبَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ أَيْ الَّذِي يُعَظِّمُهُ الرُّومُ وَتَعْظِيمُ الرُّومِ لَهُ بَاطِلٌ وَلَكِنَّهُ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ وَعَلَى هَذَا دَرَجَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَتَعْظِيمُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إنَّمَا هُوَ بِالْقُلُوبِ لَا بِاللَّقْلَقَةِ مِنْ الْأَلْسُنِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَهَذِهِ بَعْضُ نُبَذٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا. وَأَمَّا طَرِيقُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمُسَافِرِينَ أَعْنِي غَيْرَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ فَلَهُمْ اصْطِلَاحَاتٌ وَعَوَائِدُ قَلَّ أَنْ تَجِدَ لِلِاتِّبَاعِ فِيهَا سَبِيلًا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا كَانُوا يُوجِبُونَهُ عَلَى مَنْ يُرِيدُونَ أَخْذَ ثِيَابِهِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُتَطَلَّبَاتٍ كَثِيرَةٍ يُسَمُّونَهَا شُغْلَ الْفُقَرَاءِ وَلَيْسَ هَذَا الْحَالُ خَاصًّا بِهِمْ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» وَهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَيُكَلِّفُونَ مَنْ كَانَ فَقِيرًا إلَى الْمَسْأَلَةِ بِالْإِلْحَاحِ وَتَكْلِيفِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ فِي الضِّيَافَاتِ وَالْإِجَازَاتِ، وَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ، وَفِيمَا ذُكِرَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا عَدَاهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي صَرْفِ هِمَمِ الْمُرِيدِ كُلِّهَا إلَى الْآخِرَةِ وَأُمُورِهَا] وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَهَمُّ الْأُمُورِ عَلَيْهِ وَآكَدُهَا عِنْدَهُ أُمُورَ الْآخِرَةِ إذْ إنَّهُ مَصِيرُهُ إلَيْهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إيثَارُهَا وَلَا يَعْبَأُ بِغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِامْتِثَالِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ أَمْرِ الْآخِرَةِ مُنْقَطِعٌ زَائِلٌ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَأَمْرُهُ أَقْرَبُ وَأَيْسَرُ مِنْ الدَّائِمِ الَّذِي

فصل ينبغي أن يكون للمريد سلم في اتباع شيء من أحوال النبي

لَا يَنْقَطِعُ. أَلَا تَرَى إلَى حَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَيْفَ كَانَ عَلَى مَا وَصَفَ الْوَاصِفُ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ؟ وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى كَأَنَّهُ يُقَدَّمُ لِلْقَتْلِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ. وَكَانَ يَقُولُ: أَعْجَبُ مِمَّنْ يَمْلَأُ فَاهُ بِالضَّحِكِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فِي أَيِّ دِيوَانٍ اسْمُهُ هَلْ فِي الْجَنَّةِ، أَوْ فِي النَّارِ. وَقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَعِظَهُ فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِالرِّزْقِ فَاهْتِمَامُك بِالرِّزْقِ لِمَاذَا، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مَقْسُومًا فَالْحِرْصُ لِمَاذَا، وَإِنْ كَانَ الْخَلَفُ عَلَى اللَّهِ حَقًّا فَالْبُخْلُ لِمَاذَا، وَإِنْ كَانَتْ الْجَنَّةُ حَقًّا فَالرَّاحَةُ لِمَاذَا، وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ حَقًّا فَالْمَعْصِيَةُ لِمَاذَا، وَإِنْ كَانَ سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ حَقًّا فَالْأُنْسُ لِمَاذَا، وَإِنْ كَانَتْ الدُّنْيَا فَانِيَةً فَالطُّمَأْنِينَةُ لِمَاذَا، وَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ حَقًّا فَالْجَمْعُ لِمَاذَا، وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَالْحُزْنُ لِمَاذَا؟ . وَقَدْ قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ لِرَجُلٍ رَأَتْهُ مَهْمُومًا: إنْ كَانَ هَمُّكَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَزَادَكَ اللَّهُ هَمًّا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَفَرَّجَ اللَّهُ هَمَّكَ، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: لَا تَجْزَعَنَّ إذَا مَا الْأَمْرُ ضِقْتَ بِهِ ... ذَرْعًا وَنَمْ وَتَوَسَّدْ خَالِيَ الْبَالِ مَا بَيْنَ غَمْضَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا ... يُغَيِّرُ اللَّهُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالِ. [فَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُرِيدِ سُلَّمٌ فِي اتِّبَاعِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ] (فَصْلٌ) : هَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَدَبِ الْمُرِيدِ وَيَنْبَغِي أَنْ نَخْتِمَهُ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَرُّكًا بِذِكْرِ آثَارِهِ وَأَحْوَالِهِ وَلِكَيْ يَكُونَ سُلَّمًا لِلْمُرِيدِ فِي اتِّبَاعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَإِشَارَاتِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْبَاجِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِسُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا جَالِسَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ قَرِيبٌ مِنْهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ النَّاسَ جُمِعُوا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيِّينَ لَهُمْ نُورَانِ نُورَانِ، وَلِأَتْبَاعِهِمْ نُورٌ نُورٌ، قَالَ: وَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مِنْ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِهِ وَلَا رَأْسِهِ إلَّا وَفِيهَا

نُورَانِ، وَرَأَيْتُ أَتْبَاعَهُ لَهُمْ نُورَانِ نُورَانِ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: اتَّقِ اللَّهَ وَانْظُرْ مَاذَا تُحَدِّثُ بِهِ فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ رُؤْيَا رَأَيْتُهَا فَقَالَ كَعْبٌ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ لَكَمَا ذَكَرْتَ. وَمِنْهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُمِعَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ، وَهُوَ يَبْكِي: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ كَانَ لَكَ جِذْعٌ تَخْطُبُ النَّاسَ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَثُرُوا اتَّخَذْت مِنْبَرًا لِتُسْمِعَهُمْ فَحَنَّ الْجِذْعُ لِفِرَاقِكَ حَتَّى جَعَلْتَ يَدَكَ عَلَيْهِ فَسَكَنَ فَأُمَّتُكَ أَوْلَى بِالْحَنِينِ عَلَيْكَ حِينَ فَارَقْتَهُمْ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ رَبِّكَ أَنْ جَعَلَ طَاعَتَكَ طَاعَتَهُ فَقَالَ - تَعَالَى - {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ أَنْ بَعَثَكَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَذَكَرَكَ فِي أَوَّلِهِمْ فَقَالَ - تَعَالَى - {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا أَطَاعُوكَ وَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِهَا يُعَذَّبُونَ {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب: 66] ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ كَانَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ أَعْطَاهُ اللَّهُ حَجَرًا تَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ فَمَا ذَاكَ بِأَعْجَبَ مِنْ أَصَابِعِكَ حِينَ نَبَعَ مِنْهَا الْمَاءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد أَعْطَاهُ اللَّهُ رِيحًا غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ فَمَا ذَاكَ بِأَعْجَبَ مِنْ الْبُرَاقِ حِينَ سَرَيْتَ عَلَيْهِ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، ثُمَّ صَلَّيْتَ الصُّبْحَ مِنْ لَيْلَتِكَ بِالْأَبْطَحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ. بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أَعْطَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - إحْيَاءَ الْمَوْتَى فَمَا ذَاكَ بِأَعْجَبَ مِنْ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ حِينَ كَلَّمَتْكَ، وَهِيَ مَسْمُومَةٌ فَقَالَتْ: لَا تَأْكُلْنِي فَإِنِّي مَسْمُومَةٌ. بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] . وَلَوْ دَعَوْتَ مِثْلَهَا عَلَيْنَا لَهَلَكْنَا عَنْ آخِرِنَا فَلَقَدْ وُطِئَ ظَهْرُكَ وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُكَ فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إلَّا خَيْرًا فَقُلْتَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ

لَا يَعْلَمُونَ» ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ اتَّبَعَكَ فِي إحْدَاثِ سِنِّكَ وَقِصَرِ عُمُرِكَ مَا لَمْ يَتْبَعْ نُوحًا فِي كِبَرِ سِنِّهِ وَطُولِ عُمْرِهِ فَلَقَدْ آمَنَ بِكَ الْكَثِيرُ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ. بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ لَمْ تُجَالِسْ إلَّا كُفُؤًا لَكَ مَا جَالَسْتَنَا. وَلَوْ لَمْ تَنْكِحْ إلَّا كُفْئًا لَكَ مَا نَكَحَتْ إلَيْنَا، وَلَوْ لَمْ تُؤَاكِلْ إلَّا كُفْئًا لَكَ مَا آكَلْتنَا. وَلَبِسَتْ الصُّوفَ وَرَكِبَتْ الْحِمَارَ وَوَضَعْتَ طَعَامَكَ بِالْأَرْضِ وَلَعَقْتَ أَصَابِعَكَ تَوَاضُعًا مِنْكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ. وَمِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ لِلطَّبَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ الصُّوفَ وَيَنْتَعِلُ الْمَخْصُوفَ وَلَا يَتَأَنَّفُ مِنْ مَلْبَسٍ يَلْبَسُ مَا وَجَدَهُ مَرَّةً شَمْلَةً وَمَرَّةً بُرْدَةً حَبِرَةً وَمَرَّةً جُبَّةَ صُوفٍ. وَكَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةِ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا وَكَانَ لِنَعْلَيْهِ قِبَالَانِ وَأَوَّلُ مَنْ عَقَدَ عَقْدًا وَاحِدًا عُثْمَانُ وَكَانَ أَحَبُّ اللِّبَاسِ إلَيْهِ الْحَبِرَةَ، وَهِيَ بُرُودُ الْيَمَنِ فِيهَا حُمْرَةٌ وَبَيَاضٌ. وَكَانَ أَحَبُّ اللِّبَاسِ إلَيْهِ الْقَمِيصُ وَكَانَ إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ عِمَامَةً كَانَ، أَوْ قَمِيصًا وَرِدَاءً وَيَقُولُ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا أَلْبَسْتَنِيهِ أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ. وَكَانَ يُعْجِبُهُ الثِّيَابُ الْخُضْرُ. وَكَانَ يَلْبَسُ الْكِسَاءَ الصُّوفَ وَحْدَهُ فَيُصَلِّي فِيهِ وَرُبَّمَا لَبِسَ الْإِزَارَ الْوَاحِدَ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَيَعْقِدُ طَرَفَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَيُصَلِّي فِيهِ. وَكَانَ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ تَحْتَ الْعَمَائِمِ وَيَلْبَسُهَا دُونَ الْعَمَائِمِ وَيَلْبَسُ الْعَمَائِمَ دُونَهَا وَيَلْبَسُ الْقَلَانِسَ ذَاتَ الْآذَانِ فِي الْحَرْبِ وَرُبَّمَا نَزَعَ قَلَنْسُوَتَهُ وَجَعَلَهَا سُتْرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَصَلَّى إلَيْهَا، وَرُبَّمَا مَشَى بِلَا قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا رِدَاءٍ رَاجِلًا يَعُودُ الْمَرْضَى كَذَلِكَ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ يَعْتَمُّ وَيُسْدِلُ طَرَفَ عِمَامَتِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ عَمَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِمَامَةٍ وَسَدَلَ طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيَّ، وَقَالَ: «إنَّ الْعِمَامَةَ حَاجِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ» وَكَانَ يَلْبَسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ وَيَعْتَمُّ. وَكَانَ يَلْبَسُ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فَصُّهُ مِنْهُ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي خِنْصَرِهِ الْأَيْمَنِ وَرُبَّمَا لَبِسَهُ فِي الْأَيْسَرِ وَيَجْعَلُ فَصَّهُ

مِمَّا يَلِي بَطْنَ كَفِّهِ. وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الطِّيبَ وَيَكْرَهُ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ وَكَانَ يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَعَلَ لَذَّتِي فِي الدُّنْيَا لِلنِّسَاءِ وَالطِّيبِ، وَقُرَّةَ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» وَكَانَ يَتَطَيَّبُ بِالْغَالِيَةِ وَبِالْمِسْكِ حَتَّى يُرَى وَبِيصَهُ فِي مَفَارِقِهِ وَيَتَبَخَّرُ بِالْعُودِ وَيَطْرَحُ فِيهِ الْكَافُورَ. وَكَانَ يُعْرَفُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ بِطِيبِ رِيحِهِ. وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ وَرُبَّمَا اكْتَحَلَ ثَلَاثًا فِي الْيُمْنَى وَاثْنَتَيْنِ فِي الْيُسْرَى وَرُبَّمَا اكْتَحَلَ، وَهُوَ صَائِمٌ. وَكَانَ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ. وَكَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. وَكَانَ يَتَرَجَّلُ غِبًّا. وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَرُبَّمَا نَظَرَ فِي الْمَاءِ فِي رَكْوَةٍ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَسَوَّى جُمَّتَهُ. وَكَانَ لَا تُفَارِقُهُ قَارُورَةُ الدُّهْنِ فِي سَفَرِهِ، وَالْمُكْحُلَةُ وَالْمِرْآةُ وَالْمُشْطُ، وَالْمِقْرَاضُ وَالسِّوَاكُ، وَالْخُيُوطُ، وَالْإِبْرَةُ فَيَخِيطُ ثِيَابَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ. وَكَانَ يَسْتَاكُ بِالْأَرَاكِ وَكَانَ إذَا قَامَ مِنْ النَّوْمِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ وَيَسْتَاكُ فِي اللَّيْلَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَبْلَ النَّوْمِ وَبَعْدَهُ عِنْدَ الْقِيَامِ، وَلِوِرْدِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَبَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِمَكَّةَ عَلَى ظَاهِرِ الْقَدَمِ. وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشَرَةَ وَتِسْعَ عَشَرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا. دَخَلَ يَوْمًا عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، وَقَدْ مَاتَ نَغْرُ ابْنِهَا مِنْ بَنِي أَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ، وَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي عَلَى جَمَلٍ فَقَالَ: أَحْمِلُكِ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ وَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي مَرِيضٌ فَقَالَ لَعَلَّ زَوْجَكِ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ فَرَجَعَتْ الْمَرْأَةُ وَفَتَحَتْ عَيْنَيْ زَوْجِهَا لِتَنْظُرَ إلَيْهِمَا فَقَالَ مَا لَكِ؟ فَقَالَتْ: أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ فِي عَيْنَيْكَ بَيَاضًا فَقَالَ وَيْحَكِ وَهَلْ أَحَدٌ إلَّا وَفِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ. «وَجَاءَتْ أُخْرَى فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلَانٍ

إنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَجُوزٌ فَوَلَّتْ الْمَرْأَةُ، وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا، وَهِيَ عَجُوزٌ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة: 35] {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 36] {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 37] » . وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سَابَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَبَقْتُهُ فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمِي سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، ثُمَّ ضَرَبَ كَتِفِي وَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ. «وَجَاءَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى السُّوقِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِ رَجُلٍ اسْمُهُ زَاهِرٌ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّهُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَمَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ فَجَعَلَ يَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُ إذَنْ وَاَللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّكَ عِنْدَ رَبِّكَ لَسْتَ كَاسِدًا» . «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُسَيْنًا مَعَ صِبْيَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَامَ الْقَوْمِ وَطَفِقَ الْحُسَيْنُ يَفِرُّ هَارِبًا هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ فَجَعَلَ إحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقَنِهِ، وَالْأُخْرَى فَوْقَ رَأْسِهِ» . وَكَانَ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ، وَالْجَوَارِي يَلْعَبْنَ عِنْدَهَا فَإِذَا رَأَيْنَهُ تَفَرَّقْنَ فَيُسِيرَهُنَّ إلَيْهَا. وَقَالَ لَهَا يَوْمًا، وَهِيَ تَلْعَبُ بِلُعْبَتِهَا مَا هَذِهِ يَا عَائِشَةُ؟ فَقَالَتْ: خَيْلُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد فَضَحِكَ وَطَلَبَ الْبَابَ فَابْتَدَرَتْهُ وَاعْتَنَقَتْهُ فَقَالَ: مَا لَكِ يَا حُمَيْرَاءُ فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ مَغْفِرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً لَا تُغَادِرُ ذَنْبًا وَلَا تَكْسِبُ بَعْدَهَا خَطِيئَةً وَلَا إثْمًا. ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفَرِحْتِ يَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ: إي وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَقَالَ: أَمَّا وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا خَصَصْتُكِ بِهَا مِنْ بَيْنِ أُمَّتِي، وَإِنَّهَا لَصَلَاتِي لِأُمَّتِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِيمَنْ مَضَى مِنْهُمْ، وَمَنْ بَقِيَ، وَمَنْ هُوَ آتٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَا أَدْعُو لَهُمْ، وَالْمَلَائِكَةُ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِي» . وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُكْرِمُ ضَيْفَهُ وَيَبْسُطُ رِدَاءَهُ لَهُ كَرَامَةً. «وَجَاءَتْهُ ظِئْرُهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ يَوْمًا فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ وَقَالَ

مَرْحَبًا بِأُمِّي وَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ» . وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَسُّمًا وَأَحْسَنَهُمْ بِشْرًا مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ دَائِمَ الْفِكْرَةِ لَا يَمْضِي لَهُ وَقْتٌ فِي غَيْرِ عَمَلِ اللَّهِ، أَوْ فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ، أَوْ لِأَهْلِهِ، أَوْ لِأُمَّتِهِ مِنْهُ وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَطِيعَةُ رَحِمٍ فَيَكُونَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ. وَكَانَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ وَيَخْدُمُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ وَيَقْطَعُ اللَّحْمَ مَعَهُنَّ وَيَرْكَبُ الْفَرَسَ وَالْبَغْلَ وَالْحِمَارَ وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ عَبْدَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَيَمْسَحُ وَجْهَ فَرَسِهِ بِطَرَفِ كُمِّهِ، أَوْ بِطَرَفِ رِدَائِهِ. وَكَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْعَصَا، وَقَالَ: «التَّوَكُّؤُ عَلَى الْعَصَا مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ» . وَرَعَى الْغَنَمَ وَقَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا، وَقَدْ رَعَاهَا وَعَقَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ» . وَكَانَ لَا يَدَعُ الْعَقِيقَةَ عَنْ الْمَوْلُودِ مِنْ أَهْلِهِ وَيَأْمُرُ بِحَلْقِ رَأْسِهِ يَوْمَ السَّابِعِ وَأَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً وَكَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ وَيَقُولُ: مَا مِنَّا إلَّا مَنْ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ. «وَكَانَ إذَا جَاءَهُ مَا يُحِبُّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِذَا جَاءَهُ مَا يَكْرَهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» «، وَإِذَا رُفِعَ الطَّعَامُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَآوَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» وَرُوِيَ فِيهِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرُ مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا» «، وَإِذَا عَطَسَ خَفَضَ صَوْتَهُ وَاسْتَتَرَ بِيَدِهِ، أَوْ بِثَوْبِهِ وَحَمِدَ اللَّهَ» . وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ جُلُوسِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ. وَإِذَا جَلَسَ فِي الْمَجْلِسِ احْتَبَى بِيَدَيْهِ. وَكَانَ يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ وَيَسْتَغْفِرُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ وَكَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ السَّحَرِ، ثُمَّ يُوتِرُ ثُمَّ يَأْتِي فِرَاشَهُ فَإِذَا سَمِعَ الْآذَانَ وَثَبَ قَائِمًا فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ. وَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَائِمًا وَرُبَّمَا صَلَّى قَاعِدًا. قَالَتْ عَائِشَةُ لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ أَكْثَرَ صَلَاتِهِ جَالِسًا. وَكَانَ يُسْمَعُ لِجَوْفِهِ أَزِيزًا كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ. وَكَانَ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ

وَالْخَمِيسَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَعَاشُورَاءَ وَقَلَّمَا يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَكْثَرُ صِيَامِهِ فِي شَعْبَانَ. وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ انْتِظَارًا لِلْوَحْيِ، وَإِذَا نَامَ نَفَخَ وَلَا يَغُطُّ غَطِيطًا. «وَكَانَ إذَا رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَرُوعُهُ قَالَ: هُوَ اللَّهُ رَبِّي لَا شَرِيكَ لَهُ» ، وَإِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَقَالَ: «رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ» . وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا» ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَكَلَّمَ يُبَيِّنُ كَلَامَهُ حَتَّى يَحْفَظَهُ مَنْ جَلَسَ إلَيْهِ وَيُعِيدُ الْكَلِمَةَ ثَلَاثًا لِتَعْقِلَ عَنْهُ. وَيَخْزُنُ لِسَانَهُ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَصْلًا لَا فُضُولًا وَلَا تَقْصِيرًا وَكَانَ يَتَمَثَّلُ بِشَيْءٍ مِنْ الشَّعْرِ وَكَانَ يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: وَيَأْتِيَكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمَ وَرُبَّمَا ضَحِكَ مِنْ شَيْءٍ مُعْجِبٍ حَتَّى تَبْدُوَ نَوَاجِذُهُ مِنْ غَيْرِ قَهْقَهَةٍ. «وَمَا عَابَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِيهِ تَرَكَهُ» وَكَانَ لَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا وَلَا عَلَى خُوَانٍ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَيُكَافِئُ عَلَيْهَا وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَلَا يَأْنَفُ فِي مَأْكَلٍ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ إنْ وَجَدَ تَمْرًا أَكَلَهُ، وَإِنْ وَجَدَ خُبْزًا أَكَلَهُ، وَإِنْ وَجَدَ لَبَنًا اكْتَفَى بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الدُّنْيَا وَلَا يَشْبَعُ بِخُبْزِ الشَّعِيرِ وَكَانَ يَأْتِي عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ لَا تُوقَدُ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِ نَارٌ، وَكَانَ قُوتُهُمْ التَّمْرَ وَالْمَاءَ وَكَانَ يَعْصِبُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ» . هَذَا وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَاخْتَارَ الْآخِرَةَ وَأَكَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُبْزَ بِالْخَلِّ، وَقَالَ: «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» وَأَكَلَ لَحْمَ الدَّجَاجِ وَكَانَ يُحِبُّ الدُّبَّاءَ وَيَأْكُلُهُ وَيُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ مِنْ الشَّاةِ وَقَالَ: إنَّ أَطْيَبَ اللَّحْمِ لَحْمُ الظَّهْرِ وَقَالَ: «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» وَكَانَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ يَعْنِي مَا بَقِيَ مِنْ الطَّعَامِ وَكَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَيَلْعَقُهُنَّ

وَأَكَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُبْزَ الشَّعِيرِ بِالتَّمْرِ وَقَالَ هَذَا أَدَمُ هَذَا وَأَكَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ، وَالْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ وَالتَّمْرَ بِالزُّبْدِ وَكَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ قَاعِدًا وَرُبَّمَا شَرِبَ قَائِمًا وَيَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا، وَإِذَا فَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ وَأَرَادَ أَنْ يَسْقِيَهَا بَدَأَ بِمَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشَرِبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبَنًا، وَقَالَ: «مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِي مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ» زَادَ الْبَاجِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَكَانَ أَحَلَمَ النَّاسِ وَأَعْدَلَ وَأَعَفَّ النَّاسِ لَمْ تَمَسَّ يَدُهُ قَطُّ امْرَأَةً إلَّا بِمِلْكِ رَقَبَتِهَا أَوْ عِصْمَةِ نِكَاحِهَا، أَوْ تَكُونُ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ. أَسْخَى النَّاسِ لَا يَبِيتُ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ فَإِنْ فَضَلَ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُعْطِيهِ وَفَاجَأَهُ اللَّيْلُ لَمْ يَأْوِ إلَى مَنْزِلِهِ حَتَّى يُعْطِيَهُ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ. لَا يَأْخُذُ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ إلَّا قُوتَ عَامِهِ فَقَطْ مِنْ أَيْسَرِ مَا يَجِدُ مِنْ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَيَضَعُ سَائِرَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَى قُوتِ عَامِهِ فَيُؤْثِرُ مِنْهُ حَتَّى يَحْتَاجَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعَامِ. أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً لَا يُثَبِّتُ بَصَرَهُ فِي وَجْهِ أَحَدٍ. يُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَوْ أَنَّهَا جَرْعَةُ لَبَنٍ. وَتَسْتَتْبِعُهُ الْأَمَةُ وَالْمِسْكِينُ فَيَتْبَعُهُمَا حَيْثُ دَعْوَاهُ. لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَيَغْضَبُ لِرَبِّهِ. مِنْدِيلُهُ بَاطِنُ قَدَمِهِ. يَشْهَدُ الْجَنَائِزَ. أَشَدُّ النَّاسِ تَوَاضُعًا وَأَسْكَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ كِبْرٍ وَأَبْلَغُهُمْ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ. لَا يَهُولُهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. يُجَالِسُ الْفُقَرَاءَ وَيُؤَاكِلُ الْمَسَاكِينَ وَيُكْرِمُ أَهْلَ الْفَضْلِ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَيَتَأَلَّفُ أَهْلَ الشَّرَفِ بِالْبِرِّ لَهُمْ. يَصِلُ ذَوِي رَحِمِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْثِرَهُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ لَا يَجْفُو عَلَى أَحَدٍ. يَقْبَلُ مَعْذِرَةَ الْمُعْتَذِرِ. يَخْرُجُ إلَى بَسَاتِينِ أَصْحَابِهِ لَا يُحَقِّرُ مِسْكِينًا لِفَقْرِهِ وَزَمَانَتِهِ. وَلَا يَهَابُ مَلِكًا لِمُلْكِهِ. يَدْعُو هَذَا وَهَذَا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - دُعَاءً مُسْتَوِيًا. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ السِّيرَةَ الْفَاضِلَةَ وَالسِّيَاسَةَ التَّامَّةَ، وَهُوَ

فصل تصرف الناس في أسبابهم وصنائعهم ومعايشهم

أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ نَشَأَ فِي بِلَادِ الْجَهْلِ وَالصَّحَارَى فَعَلَّمَهُ اللَّهُ جَمِيعَ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَالطُّرُقِ الْحَمِيدَةِ وَأَخْبَارَ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخَرِينَ وَمَا فِيهِ النَّجَاةُ وَالْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ، وَالْغِبْطَةُ وَالْخَلَاصُ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْبَاجِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَذَكَرَ الْعُتْبِىُّ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ حُجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] . وَقَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَجِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إلَى رَبِّي، ثُمَّ أَنْشَأَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ فِي الْأَرْضِ أَعْظُمُهُ ... فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ ... فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ ثُمَّ انْصَرَفَ. قَالَ الْعُتْبِيُّ: فَغَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ فَقَالَ لِي: يَا عُتْبِيُّ الْحَقْ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ» . وَمِنْ كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ يَأْخُذْ عَنِّي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ وَيُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا فَقَالَ: اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ وَأَحْسِنْ إلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» . وَمِنْهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» وَمِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي» [فَصْلٌ تَصَرُّفُ النَّاسِ فِي أَسْبَابِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ] [حَال الْمُحْتَضَر وَمَا يَحْتَاج إلَيْهِ] (فَصْلٌ) : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السَّبْعَةِ الَّذِينَ يَدُورُ عَلَيْهِمْ أَمْرُ الدِّينِ، وَنَرْجِعُ الْآنَ إلَى الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ تَصَرُّفُ النَّاسِ فِي أَسْبَابِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ

وَمَعَايِشِهِمْ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ النِّيَّةِ فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ، وَمَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ، وَهَذَا النَّوْعُ كَثِيرٌ. فَنَبْدَأُ أَوَّلًا بِمَا هُوَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى، وَالْآكَدُ فَالْآكَدُ. فَأَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ: غُسْلُ الْمَيِّتِ وَحَفْرُ الْقَبْرِ وَغَيْرُهُمَا وَمَا يُفْعَلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مَا أَحْدَثُوهُ فِيهِ إذْ إنَّهُ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ وَآكَدِهَا. لَكِنْ نُقَدِّمُ أَوَّلًا ذِكْرَ حَالِ الْمُحْتَضَرِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْآدَابِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَوَرَدَ أَيْضًا: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرَبَهُ حَائِضٌ وَلَا جُنُبٌ وَلَا صَغِيرٌ يَعْبَثُ لَا يَرْجِعُ لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ أَوْ يُنْهَى عَنْهُ. وَيَنْبَغِي أَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ثَوْبُهُ طَاهِرًا وَبَدَنُهُ طَاهِرًا، وَكَذَلِكَ مَنْ حَضَرَهُ يَكُونُ كَذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُحْتَضَرِ إذْ ذَاكَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الطِّيبِ إكْرَامًا لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَهُ إذْ ذَاكَ أَحْسَنُ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ هَدْيًا وَخُلُقًا وَدِينًا وَسَمْتًا وَوَقَارًا فَيُلَقِّنُهُ كَلِمَتَيْ التَّوْحِيدِ بِرِفْقٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَهْرًا، ثُمَّ يَسْكُتُ سَاعَةً، ثُمَّ يُعِيدُهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ يُقْضَى. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ: قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَوْ يُلِحَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ: قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ الْمُحْتَضَرُ إذْ ذَاكَ، وَقَدْ يَكُونُ أَخَذَتْهُ غَشْيَةٌ فَيَتَوَهَّمُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِمَوْتِهِ، وَإِذَا أَكْثَرَ عَلَيْهِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا وُصِفَ قَبْلُ سَلِمَ مِنْ هَذَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ وَلِلْحَاضِرِينَ لَكِنْ بِخَفْضِ صَوْتٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ وَوَقَارٍ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَحْضُرُونَ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ الدَّاعِي. وَهَذَا الْمَوْطِنُ مِنْ الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُرْجَى فِيهَا قَبُولُ الدُّعَاءِ، وَقَدْ أَنْكَرَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقِرَاءَةَ عِنْدَهُ بِسُورَةِ يس وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ، وَأَجَازَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ مِنْ الْوَقَارِ وَالتُّؤَدَةِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَا فِي تَوْجِيهِهِ إلَى الْقِبْلَةِ فَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ، وَكَرِهَ أَنْ يُعْمَلَ ذَلِكَ اسْتِنَانًا. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا الْجِهَةُ الَّتِي كَانَ يُعَظِّمُهَا فِي حَيَاتِهِ، فَإِذَا فَعَلَ الْمُكَلَّفُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ حَتَّى يُعَايِنَ، وَهُوَ أَنْ يَشْخَصَ بِبَصَرِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ قَدْ يُوهِمُهُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِمَوْتِهِ أَوْ لِلْغَشَيَانِ عَلَيْهِ. وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُلَقِّنُهُ أَنْ لَا يَضْجَرَ وَلَا يَقْلَقَ إنْ طَالَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَوَجَدَ مَنْ يَقُومُ عَنْهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَأْخُذَ رَاحَةً لِنَفْسِهِ فَعَلَ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَلَا يُلَقِّنُونَهُ بِجَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْرِجُهُ وَيُقْلِقُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْجَرَ أَيْضًا مِنْ عَدَمِ قَبُولِ الْمُحْتَضَرِ لِمَا يُلْقِيهِ إلَيْهِ، وَقَدْ يُرَى مِنْ بَعْضِهِمْ عَدَمُ الْقَبُولِ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ فِتْنَةٍ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ أَنَّ الْمُحْتَضَرَ إذَا اُحْتُضِرَ يَأْتِيهِ شَيْطَانَانِ: أَحَدُهُمَا عَلَى صِفَةِ أَبِيهِ، وَالْآخَرُ عَلَى صِفَةِ أُمِّهِ، فَيَقُولُ لَهُ الَّذِي هُوَ عَنْ يَمِينِهِ عَلَى صِفَةِ أَبِيهِ: يَا بُنَيَّ أَنَا قَدْ سَبَقْتُك إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ عَرَفْتُ الْحَقَّ فِيهِ وَالدِّينَ الْأَقْوَمَ الَّذِي بِهِ النَّجَاةُ، وَهُوَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ فَمُتْ عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ، وَيَقُولُ الَّذِي عَلَى صِفَةِ أُمِّهِ: يَا بُنَيَّ قَدْ كَانَ بَطْنِي لَك وِعَاءً وَثَدْيِي لَك سِقَاءً وَحِجْرِي لَك وِطَاءً، وَأَنَا أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، وَقَدْ سَبَقْتُك إلَى هَذَا الْمَوْطِنِ وَعَرَفْتُ الْحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ فَمُتْ عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ كَمَا قَالَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْأَدْيَانَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ، وَالْأَمْرُ أَمْرٌ خَطِرٌ عَظِيمٌ فِي الْخَطَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرُوا لَهُ مِنْ الدُّعَاءِ وَأَنْ يَجْتَنِبُوا اللَّغَطَ وَالْقِيلَ وَالْقَالَ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي أَنَّ بَعْضَ الْمَغَارِبَةِ جَاءُوا إلَى الْبِلَادِ بِنِيَّةِ الْحِجَازِ فَمَرِضَ بَعْضُهُمْ وَاحْتُضِرَ فَجَلَسَ إلَيْهِ رُفَقَاؤُهُ يُلَقِّنُونَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ فَكَانَ إذَا قَالَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مَعَّرَ وَجْهَهُ وَرَدَّهُ إلَى نَاحِيَةِ الْيَسَارِ، وَإِذَا قَالَ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ ذَلِكَ مَعَّرَ وَجْهَهُ وَرَدَّهُ إلَى النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ كَذَلِكَ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ النَّوْمُ فَنَامُوا، وَبَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يُلَقِّنُهُ، فَإِذَا حَوَّلَ وَجْهَهُ إلَى نَاحِيَةِ الْيَمِينِ دَار إلَيْهِ، وَإِذَا

حَوَّلَهُ إلَى جِهَةِ الْيَسَارِ دَارَ إلَيْهِ، ثُمَّ كَذَلِكَ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ أَيْضًا كَأَصْحَابِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي النَّوْمِ إذْ رَأَى النَّاسَ يَتَجَارَوْنَ قَالَ: فَقُلْت: فَمَا بَالُ النَّاسِ؟ فَقَالُوا: هُمْ مَاشُونَ إلَى فُلَانٍ " اسْمِ الْمُحْتَضَرِ " يُهَنِّؤُنَهُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقُلْت: هَذَا صَاحِبِي فَأَسْرَعْت مَعَهُمْ لِأُهَنِّيَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُهَنِّيهِ فَجِئْنَا إلَى بَابٍ كَبِيرٍ فَدَخَلَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، فَدَخَلْت مَعَهُمْ، فَإِذَا بِصَاحِبِي وَاقِفٌ، وَالنَّاسُ يُهَنُّونَهُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَزَاحَمْت مَعَهُمْ حَتَّى اجْتَمَعْت بِهِ فَهَنَّيْتُهُ كَمَا فَعَلَ غَيْرِي، فَأَمْسَكَ بِيَدِي وَقَالَ: آهٍ يَا فُلَانُ مَا هَذَا الْحَالُ الَّذِي فَعَلْتُمْ مَعِي تَرَكْتُمُونِي وَحِيدًا لِلشَّيَاطِينِ يَتَسَلَّمُونِي، فَقُلْت لَهُ: كُنَّا نُلَقِّنُك وَأَنْتَ تُمَعِّرُ وَجْهَك وَتُعْرِضُ عَنَّا يَمِينًا وَيَسَارًا فَقَالَ لِي: مَا عَنْكُمْ كُنْت أُعْرِضُ، وَإِنَّمَا كُنْت أُعْرِضُ عَنْ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمَا أَتَيَانِي عَلَى صِفَةِ أَبِي مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ وَعَلَى صِفَةِ أُمِّي مِنْ جِهَةِ الْيَسَارِ؛ فَهَذَا يَدْعُونِي إلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَهَذِهِ تَدْعُونِي إلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ، وَكَانَ كَلَامُكُمْ يُؤْنِسُنِي وَأَسْتَوْثِقُ بِهِ، فَلَمَّا نِمْتُمْ تَسَلَّمَانِي لَكِنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَانَنِي، فَإِنَّنِي لَمَّا أَنْ بَقِيت وَحِيدًا نَزَلَ مَلَكٌ مِنْ السَّمَاءِ وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ فَهَزَّهَا عَلَيْهِمَا، وَقَالَ لَهُمَا: إلَيْكُمَا عَنْ وَلِيِّ اللَّهِ فَوَلَّيَا هَارِبَيْنِ، ثُمَّ لَقَّنَنِي الشَّهَادَةَ فَقُلْتهَا فَمُتُّ عِنْدَ ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ يُهَنُّونَنِي بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَاسْتَفَاقَ مِنْ نَوْمِهِ فَقَامَ إلَى صَاحِبِهِ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ الْمَوْتُ وَلُقِّنَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ: لَا. فَرُئِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: كُنَّا نَقُولُ لَك: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنْتَ تَقُولُ: لَا، فَقَالَ: كَانَ إبْلِيسُ تَعَرَّضَ لِي وَقَالَ لِي: سَلِمْت مِنِّي يَا أَحْمَدُ فَقُلْت لَهُ: مَا دَامَتْ الرُّوحُ فِي الْحُلْقُومِ لَا أَسْلَمُ مِنْك، وَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا لَهُ لَا لَكُمْ أَوْ كَمَا قَالَ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكَيْنِ فَقَالَ: اُنْظُرْ مَاذَا يَقُولُ لِعُوَّادِهِ، فَإِنْ هُوَ إذَا جَاءُوهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ رَفَعَا ذَلِكَ إلَى اللَّهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ لِعَبْدِي عَلَيَّ إنْ تَوَفَّيْته أُدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ أَنَا شَفَيْته أَنْ أُبْدِلَهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ

وَأَنْ أُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُصِيبُ الْعَبْدَ نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ قَالَ وَقَرَأَ» {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] الْآيَةَ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتْرَكَ أَحَدًا يَبْكِي حَوْلَهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ، وَمَنْ كَانَ بَاكِيًا مِنْ جَمَاعَتِهِ فَلْيَعْتَزِلْ عَنْهُ بِمَوْضِعٍ لَا يَسْمَعُهُ الْمُحْتَضَرُ وَلَا بَأْسَ بِالْبُكَاءِ بِالدُّمُوعِ حِينَئِذٍ، وَحُسْنُ التَّعَزِّي وَالتَّصَبُّرِ أَوْلَى وَأَجْمَلُ لِمَنْ اسْتَطَاعَ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ السَّخَطِ وَالضَّجَرِ وَلْيَكُنْ مُوقِنًا بِالْعِوَضِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذْ إنَّ مَنْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ حَلٌّ وَلَا رَبْطٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا إرَادَةٌ إلَّا بِأَمْرٍ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَاَلَّذِي أَقَامَهُ فِي ذَلِكَ يُقِيمُهُ فِي غَيْرِهِ أَوْ لَا يُحْوِجُهُ إلَيْهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ، وَيَتَعَلَّقَ بِهَا حِينَ وُقُوعِ الْأَمْرِ بِهِ، فَيَقُولُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - حَيْثُ يَقُولُ: «مَا مِنْ امْرِئٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاعْقُبْنِي خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَبْدَلَهُ خَيْرًا مِنْهَا» قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَلَمَّا أَنْ مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ جَعَلْت أَقُولُهَا وَقُلْت: وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، ثُمَّ قُلْت: أَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فَأَقُولُهَا فَقُلْتهَا؛ فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ كَمَا قَالَتْ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النِّسَاءُ بِمَعْزِلٍ عَنْهُ إذْ ذَاكَ؛ لِأَنَّ فِيهِنَّ مِنْ الرِّقَّةِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ أَوْ قِلَّتِهِمَا وَنُقْصَانِ الْعَقْلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى وُقُوعِ مَا لَا يَنْبَغِي بِحَضْرَةِ الْمُحْتَضَرِ فَيُتَحَفَّظُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي النَّهْيِ الصَّرِيحِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ وَخَرَقَ وَدَلَقَ وَسَلَقَ» ، وَمَعْنَى حَلَقَ: حَلَقَ الشُّعُورَ وَخَرَقَ: خَرَقَ الْبَابَ وَدَلَقَ هُوَ تَخْمِيشُ الْوُجُوهِ وَالضَّرْبُ عَلَى الْخُدُودِ، وَسَلَقَ هُوَ الْكَلَامُ الرَّدِيءُ الْقَبِيحُ وَمِنْهُ {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» ، وَرَوَى

التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ: وَاجَبَلَاهُ وَاسَنَدَاهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَنْتَهِرَانِهِ وَيَقُولَانِ لَهُ: أَهَكَذَا كُنْت» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي، وَتَقُولُ: وَاجَبَلَاه وَاكَذَا وَاكَذَا تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إلَّا قِيلَ: لِي أَنْتَ كَذَا، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ. وَيَنْبَغِي لِمَنْ حَضَرَ مِنْ الرِّجَالِ أَنْ لَا يُظْهِرَ الْجَزَعَ إذْ ذَاكَ، فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ لِلنِّسَاءِ كَانَ سَبَبًا لِوُقُوعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْهُنَّ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جُهْدَهُ مَعَ وُجُودِ الرِّفْقِ وَالشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالسِّيَاسَةِ مَعَ أَهْلِ الْمَيِّتِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَقَامَ سَطْوَةَ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَتْرُكُهَا لِأَجْلِ مَا نَزَلَ بِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَّرَ مَا فِيهِ مَا قَرَّرَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِذَا وَجَبَتْ أَيْ مَاتَ فَلَا تَبْكِي بَاكِيَةٌ» فَلَا يَتَعَدَّى مَا حَدَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ فَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْضُرَ مَا دَامَ ذَلِكَ مَوْجُودًا؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ بَيِّنٌ وَتَغْيِيرُهُ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ، فَإِذَا لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ عَدَمُ حُضُورِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ لَمْ يُزِلْ الْمُنْكَرَ فَلْيَزُلْ عَنْهُ» ، لَكِنَّهُ إنْ كَانَ قُدْوَةً فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ حُضُورِهِ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَقَعَ بِحَضْرَتِهِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ اخْتِلَاطِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَكَشْفِ وُجُوهِهِنَّ وَتَسْوِيدِهَا وَتَسْوِيدِ بَعْضِ أَجْسَادِهِنَّ وَنَشْرِ الشُّعُورِ، وَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَهُوَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَلِبَاسِ الْأَزْرَقِ وَالسَّوَادِ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ خَرْقِ قُعُورِ الْقُدُورِ السُّودِ وَجَعْلِهَا فِي حُلُوقِهِمْ وَسَكْبِ التُّرَابِ عَلَى الرُّءُوسِ وَتَلْطِيخِ الْبُيُوتِ بِالسَّوَادِ، وَمَا يَجْعَلُونَهُ فِي الْأَعْنَاقِ مِنْ السَّلَاسِلِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ إلَّا التَّفَاؤُلُ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي تَوَعَّدَ بِهَا أَهْلَ النَّارِ. أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ. وَتَحْفِيَتِهِمْ

لِلْأَقْدَامِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَبَعْضُهُمْ يَتْرُكُ لُبْسَ السَّوَادِ وَيُعَوِّضُ عَنْهُ الْبَيَاضَ، وَإِنْ كَانَ لُبْسُ الْبَيَاضِ مُبَاحًا أَوْ مَأْمُورًا بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ لَكِنَّ اتِّخَاذَهُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِنَانِ بِهِ بِدْعَةٌ. وَبَعْضُهُمْ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَ مَوْتِ مَيِّتِهِمْ وَلَا يَرْجِعُونَ لَهَا إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِيهَا: فَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهَا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهَا الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، فَيَحْرِمُهُمْ اللَّعِينُ ثَوَابَ مُصَابِهِمْ وَثَوَابَ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُهُمْ فِي الْإِثْمِ فِي تَرْكِهَا بِعَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَالْإِحْدَادُ عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ الِامْتِنَاعَ مِنْ خَمْسٍ: لِبَاسِ الْمُصَبَّغَاتِ كُلِّهَا إلَّا السَّوَادَ، وَالْحُلِيِّ، وَالْكُحْلِ، وَالطِّيبِ، وَإِلْقَاءِ التَّفَثِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ؟ وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ أَيْضًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ حُضُورُ الطَّارَاتِ وَالضَّرْبُ بِهَا سِيَّمَا مَعَ النَّائِحَةِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ نَائِحَةٍ فِي النَّارِ إلَّا نَائِحَةَ حَمْزَةَ» وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَسِيد بْنِ أَبِي أَسِيدٍ عَنْ «امْرَأَةٍ مِنْ الْمُبَايِعَاتِ قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَعْرُوفِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَعْصِيَهُ فِيهِ أَنْ لَا نَخْمُشَ وَجْهًا وَلَا نَدْعُوَ وَيْلًا وَلَا نَشُقَّ جَيْبًا وَلَا نَنْشُرَ شَعْرًا» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: «أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ عَلَى مَيِّتٍ» . وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ حِينَ بَايَعَهُنَّ أَنْ لَا يَنُحْنَ فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ إنَّ نِسَاءً سَاعَدْنَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَفَنُسَاعِدُهُنَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا إسْعَادَ فِي الْإِسْلَامِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ فَقَالَ: إيَّاكُمْ

حرمة الميت كحرمة الحي

وَالنَّعْيَ فَإِنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ النَّعْيِ الْأَذَانُ عَلَى الْمَيِّتِ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا. وَلَوْ أَخَذْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ رَاحَةً وَخَفَضْنَ مِنْ أَصْوَاتِهِنَّ حِينَ نَعْيِهِنَّ، ثُمَّ اعْتَدْنَ مَعَ ذَلِكَ عَادَةً جَاهِلِيَّةً، وَهِيَ أَنَّ مَنْ جَاءَتْ لِتُعَزِّيَ تَدْخُلُ، وَهِيَ تَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَاللَّطْمِ عَلَى الْخُدُودِ وَتَخْمِيشِ الْوُجُوهِ، وَتَتَلَقَّاهَا النَّوَائِحُ عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ فِعْلِهِنَّ الذَّمِيمِ وَيَتَكَلَّفْنَ إذْ ذَاكَ رَفْعَ أَصْوَاتِهِنَّ، فَإِذَا وَصَلْنَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ قُمْنَ إلَى لِقَائِهِنَّ، وَفَعَلْنَ مَعَهُنَّ كَفِعْلِهِنَّ وَيَعْمَلْنَ كَذَلِكَ سَاعَةً، ثُمَّ كَذَلِكَ، ثُمَّ كَذَلِكَ مَعَ كُلِّ مَنْ أَتَى إلَيْهِنَّ مِنْ النِّسَاءِ لِلتَّعْزِيَةِ، وَيَبْقَيْنَ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً عَلَى قَدْرِ مَا يَنْقَطِعُ مَعَارِفُهُنَّ، وَيَفْعَلْنَ مَعَ ذَلِكَ أَفْعَالًا قَبِيحَةً شَنِيعَةً تُنَزَّهُ الْأَقْلَامُ عَنْ كَتْبِهَا، وَالْأَلْسُنُ عَنْ النُّطْقِ بِهَا فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذِكْرِهَا، وَكُلُّهَا مُصَادِمَةٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَهِيَ وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَنْحَصِرَ أَوْ تَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَوَائِدِ الْبِلَادِ، وَالْأَقَالِيمِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جُهْدَهُ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْهُ فَلَا يَحْضُرُ مَوْضِعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ حَضَرَ لَكَانَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَعْنِي فِي حُصُولِ الْإِثْمِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ لَيْسَ كَاعْتِقَادِهِمْ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَ بِمَنِّهِ. [حُرْمَةُ الْمَيِّتِ كَحُرْمَةِ الْحَيِّ] فَإِذَا قَضَى الْمَيِّتُ فَلْيَشْتَغِلْ مَنْ حَضَرَهُ بِحَقِّهِ وَيَأْخُذْ فِي إصْلَاحِ شَأْنِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُغْمِضَ عَيْنَيْهِ لِئَلَّا تَبْقَى مَفْتُوحَتَيْنِ، وَذَلِكَ شَوَهٌ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِصَابَةً أَوْ طَرَفَ عِمَامَةٍ أَوْ غَيْرَهُمَا وَيَجْعَلَهَا تَحْتَ ذَقَنِهِ وَيَشُدَّهَا عَلَى رَأْسِهِ لِئَلَّا تَسْتَرْخِيَ ذَقَنُهُ فَيَبْقَى فَاهُ مَفْتُوحًا، وَذَلِكَ شَوَهٌ، وَقَدْ يَنْزِلُ الْمَاءُ فِي جَوْفِهِ حِينَ غُسْلِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ تَكْفِينِهِ فَيُلَوِّثُهُ، وَقَدْ تَدْخُلُ الْهَوَامُّ مِنْهُ لِجَوْفِهِ إذَا كَانَ مَفْتُوحًا، ثُمَّ يُلِينُ مَفَاصِلَهُ وَيَمُدُّ يَدَيْهِ مَدًّا، وَكَذَلِكَ رُكْبَتَيْهِ حِينَ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهُ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَعَذَّرَ مَدُّهَا. ثُمَّ يَجْعَلُ عَلَى بَطْنِهِ حَدِيدَةً أَوْ سِكِّينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَطِينًا مَبْلُولًا طَاهِرًا؛ لِئَلَّا يَعْلُوَ فُؤَادُهُ فَيُخْشَى أَنْ يَتَفَجَّرَ قَبْلَ حُلُولِهِ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ يُزِيلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ مَا عَدَا الْقَمِيصَ، ثُمَّ يُجْعَلَ عَلَى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ كَدَكَّةٍ وَنَحْوِهَا

لِئَلَّا يَتَسَارَعَ إلَيْهِ الْهَوَامُّ وَالتَّغْيِيرُ وَيُسَجَّى بِثَوْبٍ. ثُمَّ يَأْخُذُ فِي تَجْهِيزِهِ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّ مِنْ إكْرَامِ الْمَيِّتِ الِاسْتِعْجَالَ بِدَفْنِهِ وَمُوَارَاتِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ فَجْأَةً، أَوْ بِصَعْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ سَبْتَةً أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا يُسْتَعْجَلْ عَلَيْهِ وَيُمْهَلْ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ، وَلَوْ أَتَى عَلَيْهِ الْيَوْمَانِ وَالثَّلَاثَةُ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَغْيِيرُهُ فَيَحْصُلُ التَّيَقُّنُ بِمَوْتِهِ؛ لِئَلَّا يُدْفَنَ حَيًّا فَيُحْتَاطَ لَهُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِكَثِيرٍ فَيُتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا. وَإِذَا فَعَلَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تَلْيِينِ مَفَاصِلِهِ وَغَيْرِهَا فَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِتُؤَدَةٍ وَوَقَارٍ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيِّتِ كَحُرْمَةِ الْحَيِّ. وَيُسَمِّي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ الْأَخْذِ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا بَعْضُهُمْ، وَهِيَ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ أَوْقَدُوا عِنْدَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ شَمْعَةً حَتَّى يُصْبِحَ، وَذَلِكَ بِدْعَةٌ وَسَرَفٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الشَّمْعِ أَوْقَدُوا سِرَاجًا عَلَيْهِ حَتَّى يُصْبِحَ وَيُيَسِّرُ قَبْلَ غُسْلِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْكَفَنِ، وَالْحُنُوطِ وَيُبَخِّرُ الْكَفَنَ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِي غُسْلِهِ فَيَشُدُّ عَلَى وَسَطِ الْمَيِّتِ مِئْزَرًا غَلِيظًا، ثُمَّ يُعَرِّيهِ مِنْ الْقَمِيصِ وَبَعْدَ ذَلِكَ يُغَسِّلُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنْ يُغْسَلَ فِي قَمِيصٍ وَلَا يُعَرَّى وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَرَادُوا أَنْ يُعَرُّوهُ كَمَا يَفْعَلُونَ بِمَوْتَاهُمْ فَسَمِعُوا الْهَاتِفَ يَقُولُ: غَسِّلُوهُ فِي الْقَمِيصِ» وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى تَعْرِيَةِ الْمَيِّتِ مِنْ الْقَمِيصِ؛ لِأَنَّهُمْ «أَرَادُوا أَنْ يُغَسِّلُوهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُتَجَرِّدًا مِنْ الْقَمِيصِ كَمَا يَفْعَلُونَ بِمَوْتَاهُمْ حَتَّى سَمِعُوا الْهَاتِفَ فَتَرَكُوهُ» ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دُونَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ تَعْرِيَةَ الْمَيِّتِ أَبْلَغُ فِي تَنْظِيفِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةً غَلِيظَةً فَوْقَ الْمِئْزَرِ حَتَّى لَا تُوصَفَ الْعَوْرَةُ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْضُرَهُ أَحَدٌ إذْ ذَاكَ إلَّا الْغَاسِلُ وَحْدَهُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْغَاسِلُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُعِينُهُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ

غسل الميت

وَالضَّرُورَةُ لَهَا أَحْكَامٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغَاسِلُ وَمَنْ يُعِينُهُ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ، وَالْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُضْطَرٌّ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَإِذَا رَآهُ أَحَدٌ فَقَدْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَقَاوَتِهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إنْ رَأَى خَيْرًا فَإِنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَإِنْ رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ سَكَتَ عَنْهُ وَلَا يَبُوحُ بِهِ لِأَحَدٍ. [غُسْلُ الْمَيِّتِ] وَغُسْلُ الْمَيِّتِ مِنْ أَحَدِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْحَيِّ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَرْبَعًا: غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ، وَالْغُسْلُ أَوَّلُهَا، وَكَيْفِيَّتُهُ كَكَيْفِيَّةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ إلَّا أَنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ يَتَوَلَّاهُ الْحَيُّ بِنَفْسِهِ غَالِبًا وَهَذَا يُغَسِّلُهُ غَيْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ فَرَائِضُهَا وَسُنَنُهَا وَفَضَائِلُهَا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ. فَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِغُسْلِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ فَيُبَاشِرُ مَحَلَّ النَّجْوِ بِخِرْقَةٍ غَلِيظَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الصُّوفِ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ فَيَعْرُكُ بِهَا الْمَوْضِعَ، وَمَنْ يُعِينُهُ يَسْكُبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ يَغْسِلُ الْخِرْقَةَ غَسْلًا جَيِّدًا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ يُعِيدُ غَسْلَ الْمَحَلِّ، وَهُوَ يَعْرُكُ بِهَا حَتَّى يَرَى أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ وَتَنَظَّفَ فَحِينَئِذٍ يُفِيضُ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْقَرَاحَ مِنْ فَرْقِهِ إلَى قَدَمِهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي بَدَنِهِ فَمَهْمَا شَعَرَ بِنَجَاسَةٍ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ مِنْهُ غَسَلَهَا عَنْهُ، وَالْبَخُورُ إذْ ذَاكَ حَاضِرٌ يُبَخَّرُ بِهِ لِئَلَّا تُشَمَّ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَالْمَيِّتُ يَكْرَهُ أَنْ يُشَمَّ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ الْحَيِّ، ثُمَّ يُقْعِدُهُ وَيَعْصِرُ بَطْنَهُ عَصْرًا رَفِيقًا، وَمَنْ يُعِينُهُ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ حِينَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ وَيُزَادُ فِي الْبَخُورِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَكْثَرَ مِمَّا قَبْلَهُ حَتَّى إذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ أَنْقَى جَسَدَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَأَعَادَ غَسْلَ الْمَحَلِّ مِنْ النَّجَاسَةِ بِخِرْقَةٍ أُخْرَى أَوْ بِهَا بَعْدَ غَسْلِهَا وَتَطْهِيرِهَا وَتَنْظِيفِهَا، وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَى الْمَحَلِّ نَجَاسَةٌ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا إلَّا بِمُبَاشَرَتِهَا بِالْيَدِ هَلْ يُبَاشِرُهَا بِيَدِهِ لِلضَّرُورَةِ أَوْ يَتْرُكُهَا كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُزِيلَهَا بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهَا فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَيِّتِ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِنْ

حَلْقِ عَانَةٍ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُمْ يَكْشِفُونَ الْعَوْرَةَ لِحَلْقِهَا فَيُشَاهِدُهَا مَنْ يُزِيلُهَا، وَمَنْ يُعِينُهُ فِي غُسْلِهِ وَبَعْضُ الْحَاضِرِينَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا غُسِّلَ يَحْضُرُ غُسْلَهُ أَقَارِبُهُ وَأَصْحَابُهُ، وَذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ لَوْ سَلِمَ مِنْ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى عَوْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَلْقَ عَانَتِهِ لَكِنَّ ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَطَّلِعَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ، وَاطِّلَاعُ غَيْرِهِ مُحَرَّمٌ.، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي النَّجَاسَةِ إذَا كَانَتْ عَلَى الْمَحَلِّ وَلَمْ يُمْكِنْ إزَالَتُهَا إلَّا بِالْيَدِ فَمَا بَالُك بِإِزَالَةِ شَيْءٍ مُسْتَغْنًى عَنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إزَالَتُهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ كَشْفُ عَوْرَتِهِ لِمَنْ يُزِيلُ ذَلِكَ عَنْهُ فَبَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «افْعَلُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَفْعَلُوا بِعَرُوسِكُمْ» ، أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ إنَّمَا يَتَوَلَّاهُ الْعَرُوسُ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِ. وَهَذَا النَّوْعُ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْأَحْيَاءِ فَضْلًا عَنْ الْمَوْتَى فَتَجِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَدْخُلُونَ إلَى الْحَمَّامِ فَيَأْمُرُونَ الْبَلَّانَ أَنْ يَحْلِقَ لَهُمْ عَانَتَهُمْ فَيَكْشِفُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْتَهُ لَوْ كَانَ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لَكِنْ يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ فِي الْحَمَّامِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ مِنْ النَّجَاسَةِ فَلْيَأْخُذْ رَأْسَ الْمَيِّتِ فَيُحَوِّلُهُ إلَى نَاحِيَةِ الْيَمِينِ وَيُخْرِجُهُ عَنْ الدَّكَّةِ قَلِيلًا وَيَجْعَلُ فَمَه وَأَنْفَهُ إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَيَعْصِرُ أَنْفَهُ بِرِفْقٍ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ فَضْلَةٌ خَرَجَتْ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ رَدَّ رَأْسَهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَعَلَى الدَّكَّةِ حَتَّى يَرَى أَنَّهُ قَدْ تَنَظَّفَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَطَهُرَ، ثُمَّ يُزِيلُ مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ الْمِئْزَرِ، ثُمَّ يَسْتُرُهُ بِغَيْرِهِ أَوْ بِهِ بَعْدَ غَسْلِهِ، وَيَتَحَفَّظُ عَلَى عَوْرَتِهِ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ عِنْدَ مُحَاوَلَةِ ذَلِكَ. فَإِذَا فَرَغَ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِي الْغَسْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ الْوَاجِبَةُ فَيَبْدَأُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَيَغْسِلُهَا وَيُمَضْمِضُ فَمَه بِرِفْقٍ بَعْدَ أَنْ يُحَوِّلَ رَأْسَهُ

كَمَا تَقَدَّمَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ مَضْمَضَتِهِ وَاسْتِنْشَاقِهِ لِئَلَّا يَنْزِلَ الْمَاءُ جَوْفَهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ غُسْلِهِ وَيُسَوِّكُهُ بِخِرْقَةٍ مِنْ صُوفٍ أَوْ مَا يُقَارِبُهَا. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ رَدَّهُ إلَى الدَّكَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غَسْلِ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ بَعْدَ تَخْلِيلِ شَعْرِهِ فَيَغْسِلُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ، وَالْأَعْلَى فَالْأَعْلَى مِنْ جَسَدِهِ، وَيُقَلِّبُهُ فِي أَثْنَاءِ الْغُسْلِ يَمِينًا وَيَسَارًا وَظَهْرًا وَبَطْنًا حَتَّى يَرَى أَنَّهُ قَدْ عَمَّهُ بِالْغُسْلِ، فَهَذِهِ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْفَرْضُ الَّذِي لَا يَجُوزُ دَفْنُ الْمَيِّتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا إلَّا بِهَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِي تَنْظِيفِهِ مِنْ الْأَوْسَاخِ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ كَمَا يُنَظَّفُ الْحَيُّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْكَافُورِ فَجَعَلَهُ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَيُذِيبُهُ فِيهِ، ثُمَّ يَغْسِلُ الْمَيِّتَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ بَعْدَ تَنْظِيفِ الْمَيِّتِ، وَالْمِئْزَرِ وَالدَّكَّةِ مِنْ أَثَرِ السِّدْرِ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا جَاءَ إلَى غَسْلِهِ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ أَزَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ السُّتْرَةِ الْكَثِيفَةِ وَأَلْقَى عَلَيْهِ خِرْقَةً لَطِيفَةً مِنْ شَمَخْتَانِيَّةٍ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ فَتَبْقَى الْعَوْرَةُ كَأَنَّهَا مَكْشُوفَةٌ إذَا ابْتَلَّتْ الْخِرْقَةُ بِالْمَاءِ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ بَلْ يَسْتُرُهُ بِمِثْلِ الْخِرْقَةِ الْكَثِيفَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ أَوْ بِهَا بَعْدَ تَنْظِيفِهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَحَفَّظُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْمُحَاوَلَةِ وَيَغُضُّ طَرْفَهُ مَهْمَا اسْتَطَاعَ جُهْدَهُ مَعَ التَّوْفِيَةِ بِغُسْلِهِ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا غَسَلَ الْمَيِّتَ يَجْعَلُهُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّكَّةِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، بَلْ يَكُونُ الْغَاسِلُ وَاقِفًا بِالْأَرْضِ وَيُقَلِّبُهُ عِنْدَ غَسْلِهِ لَهُ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْغَاسِلَ إذَا بَدَأَ فِي غُسْلِهِ أَخَذَ يَذْكُرُ لِكُلِّ عُضْوٍ يَغْسِلُهُ ذِكْرًا مِنْ الْأَذْكَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ سِرًّا وَعَلَنًا لَكِنْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهَا، وَهَذَا الْمَحَلُّ مَحَلُّ تَفَكُّرٍ وَاعْتِبَارٍ وَخَشْيَةٍ فَيَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ ذِكْرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَهُوَ عَمَلُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ وَغَيْرُهُ بِدْعَةٌ. فَإِذَا

تكفين الميت

فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الْغَسْلَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ تَمَّ غَسْلُهُ عَلَى الْكَمَالِ، ثُمَّ يَتَفَقَّدُ فَمَه وَأَنْفَهُ مِنْ الْمَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْهُ: فَيُمِيلُ رَأْسَهُ خَارِجًا عَنْ الدَّكَّةِ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ فِيهِمَا شَيْءٌ خَرَجَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَى الدَّكَّةِ، ثُمَّ يُنَظِّفُ مَا تَحْتَ أَظْفَارِهِ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا يُقَلِّمُهَا، وَتَقْلِيمُهَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ إذْ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ، ثُمَّ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ بِمُشْطٍ وَاسِعِ الْأَسْنَانِ. وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِرَأْسِهِ وَيَتَرَفَّقُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ خَرَجَ فِي الْمُشْطِ شَعْرٌ جَمَعَهُ وَأَلْقَاهُ فِي الْكَفَنِ يُدْفَنُ مَعَهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ فُوطَةً أَوْ غَيْرَهَا فَيُنَشِّفُ بِهَا جَمِيعَ بَدَنِ الْمَيِّتِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ نَشَّفَ بِهَا الدَّكَّةَ حَتَّى لَا يَبْتَلَّ بِهَا مَا يَجْعَلُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ قَمِيصٍ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ يَأْخُذُ فِي تَجْهِيزِهِ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ: أَنْ يَأْخُذَ قُطْنَةً وَيَجْعَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الْكَافُورِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الطِّيبِ، وَالْكَافُورُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ يُرْدِعُ الْمَوَادَّ فَيَجْعَلُهَا عَلَى فَمِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ قُطْنَةً أُخْرَى فَيَفْعَلُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ وَيَسُدُّ بِهَا أَنْفَهُ، ثُمَّ أُخْرَى مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى وَيُرْسِلُهَا فِي أَنْفِهِ قَلِيلًا، ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً فَيَشُدُّهَا عَلَى الْفَمِ، وَالْأَنْفِ، ثُمَّ يَعْقِدُهَا مِنْ خَلْفِ عُنُقِهِ عَقْدًا وَثِيقًا فَتَبْقَى كَأَنَّهَا اللِّثَامُ، ثُمَّ يَجْعَلُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ خِرْقَةً ثَانِيَةً بَعْدَ وَضْعِ الْقُطْنِ مَعَ الْكَافُورِ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَيَعْقِدُهَا عَقْدًا جَيِّدًا فَتَصِيرُ كَالْعِصَابَةِ. ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً ثَالِثَةً فَيَشُدُّ بِهَا وَسَطَهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً رَابِعَةً فَيَعْقِدُهَا عَلَى هَذِهِ الْخِرْقَةِ الْمَشْدُودِ بِهَا وَسَطُهُ أَوْ يَخِيطُهَا فِيهَا، ثُمَّ يَلْحُمُهَا بِهَا بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ قُطْنَةً وَيَجْعَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الطِّيبِ وَالْكَافُورِ، وَهُوَ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ يَشُدُّ الْعُضْوَ وَيَسُدُّهُ، وَيَجْعَلَهَا عَلَى بَابِ الدُّبُرِ وَيُرْسِلَ ذَلِكَ قَلِيلًا بِرِفْقٍ، وَيَزِيدُ لِلْمَرْأَةِ فِي الْقُبُلِ قُطْنَةً أُخْرَى وَيَفْعَلُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الدُّبْرِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، ثُمَّ يَلْحُمُهُ عَلَيْهِ بِالْخِرْقَةِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ يَرْبِطُهَا رَبْطًا وَثِيقًا. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، بَلْ الْمُحَرَّمُ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَخْرِقُونَ حُرْمَةَ الْمَيِّتِ وَيُرْسِلُونَ فِي دُبُرِهِ قُطْنًا وَكَذَلِكَ فِي حَلْقِهِ وَأَنْفِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَإِخْرَاقِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ. [تَكْفِينُ الْمَيِّتِ] ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي تَكْفِينِهِ فَيَشُدُّ عَلَى وَسَطِهِ مِئْزَرًا

أَوْ يُلْبِسُهُ سَرَاوِيلَ وَهُوَ أَسْتَرُ لَهُ. ثُمَّ يُلْبِسُهُ الْقَمِيصَ. قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّ الْمَيِّتَ يُقَمَّصُ وَيُعَمَّمُ. ثُمَّ يُعَمِّمُهُ وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ الْعِمَامَةِ ذُؤَابَةً وَتَحْنِيكًا كَمَا هِيَ الْعِمَامَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي حَقِّ الْحَيِّ لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَيَّ يُرْخِي التَّحْنِيكَ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يَشُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْثِقُ فِي عَقْدِهِ لِئَلَّا يَسْتَرْخِيَ ذَقَنُهُ وَيَنْفَتِحَ فَمُهُ وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ يُلَوِّثُ الْكَفَنَ ثُمَّ يُعَمِّمُهُ بِبَاقِي الْعِمَامَةِ وَيَشُدُّهَا شَدًّا وَثِيقًا بِخِلَافِ عِمَامَةِ الْحَيِّ ثُمَّ يَبْسُطُ الذُّؤَابَةَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَسْتُرُ وَجْهَهُ بِهَا، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِمَا يَفْضُلُ مِنْ الْمَنَعَةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ يَسْتُرُ بِهَا وَجْهَهَا. ثُمَّ يَنْقُلُهُ إلَى مَوْضِعِ الْكَفَنِ فَيَجْعَلُهُ عَلَيْهِ وَيُحَنِّطُهُ. وَمَوَاضِعُ الْحُنُوطِ خَمْسٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُجْعَلَ عَلَى ظَاهِرِ جَسَدِ الْمَيِّتِ. الثَّانِي: يُجْعَلُ فِيمَا بَيْنَ أَكْفَانِهِ وَلَا يُجْعَلُ عَلَى ظَاهِرِ الْكَفَنِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْمَسَاجِدِ السَّبْعَةِ وَهِيَ الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ وَالْكَفَّانِ مَعَ الْأَصَابِعِ وَالرُّكْبَتَانِ وَأَطْرَافِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ. الرَّابِعُ: أَنْ يُجْعَلَ عَلَى مَنَافِذِ الْوَجْهِ السَّبْعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. الْخَامِسُ: أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْأَرْفَاغِ وَهِيَ مَغَابِنُ الْجَسَدِ خَلْفَ أُذُنَيْهِ وَتَحْتَ حَلْقِهِ وَتَحْتَ إبْطَيْهِ وَفِي سُرَّتِهِ وَمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ وَأَسَافِلِ رُكْبَتَيْهِ وَقَعْرِ قَدَمَيْهِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَكُونُ مَعَهُ مِنْ الطِّيبِ، فَإِنْ قَلَّ عَنْ اسْتِيعَابِ ذَلِكَ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى الْأَرْفَاغِ وَالْمَسَاجِدِ السَّبْعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ فِي وِتْرٍ. ثُمَّ يَأْخُذُ طَرَفَ أَحَدِ كُمَّيْهِ فَيَرْبِطُهُ بِطَرَفِ الْكُمِّ الْآخَرِ رَبْطًا وَثِيقًا. ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً طَوِيلَةً فَيَرْبِطُهَا مَوْضِعَ رَبْطِ الْكُمَّيْنِ ثُمَّ يَمُدُّهَا إلَى إبْهَامَيْ رِجْلَيْهِ فَيَرْبِطُهَا فِيهِمَا رَبْطًا جَيِّدًا وَثِيقًا لِئَلَّا تَتَحَرَّكَ أَطْرَافُهُ وَتَتَفَرَّقَ. فَإِذَا فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ أَمِنَ مِنْ حَرَكَتِهَا. وَهَذِهِ الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ إنَّمَا هِيَ إذَا أَلْبَسَ الْمَيِّتَ الْقَمِيصَ. وَأَمَّا إذَا أَدْرَجَ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى فِعْلِ ذَلِكَ لِعَدَمِ حَرَكَةِ أَطْرَافِهِ. فَإِذَا جَاءَ إلَى لَحْدِهِ أَزَالَ الرِّبَاطَ عَنْهُ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْقُطْنَ الْكَثِيرَ فَيَجْعَلُونَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَيِّتِ حَتَّى يَعْلُوَ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْقُطْنَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَتَحْتَ حَنَكِهِ

وَتَحْتَ رَقَبَتِهِ حَتَّى تَصِيرَ رَأْسُهُ وَكَتِفَاهُ بِالسَّوَاءِ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْقُطْنَ كَذَلِكَ عِنْدَ سَاقَيْهِ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا حَتَّى يَصِيرَ بَطْنُهُ وَرَأْسُهُ وَرِجْلَاهُ بِالسَّوَاءِ. وَهَذَا الْفِعْلُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ مُحَرَّمَيْنِ وَبِدْعَةٍ: فَالْمُحَرَّمُ الْأَوَّلُ إضَاعَةُ الْمَالِ فِي كَثْرَةِ الْقُطْنِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَالْمُحَرَّمُ الثَّانِي أَخْذُ ثَمَنِ الْقُطْنِ مِنْ مَالِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ لَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ إلَّا قَدْرُ ضَرُورَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ غَصْبٌ لِحَقِّ الْوَارِثِ سِيَّمَا إذَا كَانَ صَغِيرًا، وَلَوْ فَرَضَ وَرَضِيَ الْوَرَثَةُ لَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْبِدْعَةِ. وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فَكَوْنُهُمْ اعْتَادُوا أَنْ يُخْرِجُوهُ فِي كَفَنِهِ بِالسَّوَاءِ عِنْدَ النَّاظِرِ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، وَالْمَيِّتُ يَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْحَيُّ فَلَوْ جُعِلَ شَيْءٌ مِنْ الْقُطْنِ عَلَى وَجْهِ الْحَيِّ لَكَانَ فِيهِ شَوْهٌ وَخَرْقٌ لِحُرْمَتِهِ وَلَا يَرْضَى بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَيٌّ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الْعَظْمِ وَغَيْرِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَكُلُّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَا يُفْعَلُ بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ إلَّا مَا أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَأْذَنْ الشَّرْعُ فِيهِ فَيُمْنَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَالسُّنَّةُ فِي إدْرَاجِ الْمَيِّتِ فِي كَفَنِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بِحَيْثُ يُعْرَفُ رَأْسُهُ وَكَتِفَاهُ وَرِجْلَاهُ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَهُوَ فِي ثِيَابِهِ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَيْبٌ عَظِيمٌ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ: إنَّ مَنْ غَسَلَ الْمَيِّتَ وَكَفَّنَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا أَنِسَ بِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُغَسِّلُ الْمَوْتَى مِنْ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْبِدَعِ وَغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَقِلَّةِ الْعِلْمِ، وَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ. وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ:: «كَيْفَ بِكَ يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً» وَهَا هُوَ ذَا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَإِذَا كَانَ

ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ الْمَرْءُ مَنْ اتَّصَفَ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ، وَلَمْ يَزَلْ السَّلَفُ الصَّالِحُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُوصُونَ بِمَنْ يَحْضُرُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَمَنْ يُغَسِّلُهُمْ وَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَمَنْ يَلْحَدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ هَذَا وَهُمْ كَمَا قِيلَ عُيُونٌ فِي الْعُيُونِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُمْ فِي زَمَانِهِمْ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَمَا بَالُك بِهَذَا الزَّمَانِ؟ فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ لَعَلَّ أَنْ يَقَعَ لَهُ الْخَلَاصُ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ. ثُمَّ إنَّ الْمُخَالَفَةَ هَاهُنَا صَعْبَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْغَاسِلَ تَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَعَ عَنْ عَوَائِدِهِ الرَّدِيئَةِ لَتَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا لِعَدَمِ مَنْ يَتَحَلَّلُ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَنْظُرُ لَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ آكَدِ وَصِيَّتِهِ أَنْ يُوصِيَ بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ يَحْضُرُ مَوْتَهُ أَوْ مَنْ يُغَسِّلُهُ وَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ وَمَنْ يَلْحَدُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَالِبًا، إذْ إنَّ الْغَالِبَ مِنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ، وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ الْمُبَاشَرَةِ لِذَلِكَ، وَبَعْضُهُمْ يَهَابُ الْمَيِّتَ فَلَا يَتَوَلَّى غُسْلَهُ وَلَا تَجْهِيزَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الصَّلَاحِ غَالِبًا قَلَّ أَنْ يَعْرِفَ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَزِيزًا لِقِلَّةِ وُجُودِ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ فِقْهًا وَعَمَلًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَخْتَارُهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَيُلْقِيَ إلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَيُوصِي بِهِ إلَى شَخْصٍ يَقُومُ بِذَلِكَ عَارِفٍ بِالْأَحْكَامِ يَحْضُرُ حِينَ غُسْلِهِ، وَيَأْمُرُ بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ، وَيَنْهَى عَنْ ضِدِّهَا مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَيَمْشِي عَلَى الْأُسْلُوبِ الْمَوْصُوفِ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَسِّلَهُ وَلَا يُكَفِّنَهُ إلَّا مَنْ يُرْجَى بَرَكَتُهُ وَخَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ آخِرُ عَهْدِهِ مِنْ الدُّنْيَا هَذَا الْمَوْطِنُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخْتَمَ بِالْوَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ بِسَبَبِهَا

النَّفْعُ حَالًا وَمَآلًا. وَمَا زَالَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُوصُونَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِاعْتِنَائِهِمْ بِهِ. وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ غُفِرَ لَهُ بِبَرَكَةِ مَنْ تَوَلَّى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَى الشَّيْخُ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْعَوَارِفِ لَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِمَّنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ مَاتَ فَسُئِلَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ " سَمَّاهُ " أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَرُئِيَ الْمَيِّتُ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك قَالَ: غَفَرَ لِي قِيلَ لَهُ: بِمَاذَا؟ قَالَ: بِإِعْرَاضِ فُلَانٍ عَنِّي حَيْثُ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ قَالَ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَهَؤُلَاءِ إقْبَالُهُمْ رَحْمَةٌ وَإِعْرَاضُهُمْ رَحْمَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ رُحِمَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَيِّتٌ وَامْتُثِلَتْ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ فَرُحِمَ لِامْتِثَالِ السُّنَّةِ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ التَّحَفُّظُ عَلَى امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُعْرِضًا فِي طُولِ عُمْرِهِ؛ لِأَنَّ الْخِتَامَ إذَا كَانَ حَسَنًا لَعَلَّهُ يُحْسِنُ الْجَمِيعَ. نَسْأَلُ اللَّهَ الْمَوْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ امْرَأَةٌ مُسْرِفَةٌ عَلَى نَفْسِهَا فَمَاتَتْ عَلَى شَرِّ حَالٍ فَرَآهَا بَعْضُ الصَّالِحِينَ فِي النَّوْمِ وَهِيَ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ فُلَانَةُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَقَالَ: كَيْفَ حَالُك؟ فَقَالَتْ: غُفِرَ لِي فَقَالَ لَهَا: بِمَاذَا؟ وَقَدْ كُنْت وَكُنْت فَقَالَتْ: لَمَّا أَنْ أُخْرِجَ بِجِنَازَتِي مُرَّ بِهَا عَلَى رَجُلٍ خَيَّاطٍ، وَفِي كُمِّهِ ثَوْبٌ لِسَيِّدِي فُلَانٍ فَصَلَّى عَلَيَّ فَغُفِرَ لِي كَرَامَةً لِذَلِكَ الثَّوْبِ. وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَوْلَادِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ وَالِدَتَهُ أَتَتْ إلَى أَبِيهِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّهَا قَدْ تُوُفِّيَتْ وَطَلَبَتْ مِنْهُ قَمِيصًا تُكَفِّنُهَا فِيهِ فَأَعْطَاهَا فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْغَدِ أَخْبَرَهَا بِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - جَاءَاهَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: اذْهَبْ بِنَا فَإِنَّ ثَوْبَ الْمَرْجَانِيِّ عَلَيْهَا فَلَمْ يَتَعَرَّضَا لَهَا. وَكُنْت أَعْهَدُ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ الْغَسَّالِينَ لِلْمَوْتَى عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرْتَضَى دِينُهُ غَسَلَهُ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ وَلَا عِوَضٍ، بَلْ لِابْتِغَاءِ الثَّوَابِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي يُغَسِّلُونَ

آداب المغسل

بِالْأُجْرَةِ وَهُمْ عَامَّةُ النَّاسِ. [آدَاب المغسل] وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُغَسِّلُ الْمَيِّتَ أَنْ يَغْتَسِلَ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ غُسْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى الْغُسْلِ بَالَغَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَنْظِيفِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يَغْتَسِلُونَ فَيَدَعُونَ ذَلِكَ تَحَفُّظًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا تَحَفَّظُوا فَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنْ تَنْظِيفِ الْمَيِّتِ أَوْ تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ مَا اعْتَادَهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ يَأْخُذُهُ الْغَاسِلُ الَّذِي يُغَسِّلُهُ فَهَذِهِ بِدْعَةٌ جَرَّتْ إلَى الْمُحَرَّمِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَيِّتِ إذَا عَلِمُوا بِأَنَّ الْغَاسِلَ يَأْخُذُ مَا عَلَى مَيِّتِهِمْ لَمْ يَتْرُكُوا عَلَيْهِ شَيْئًا إلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَقَدْ يُتْرَكُ بَعْضُهُمْ مَوْصُوفَ الْعَوْرَةِ. وَقَدْ مَاتَ بَعْضُ الْمُبَارَكِينَ مِنْ الْمَعَارِفِ فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ يُغْسَلُ وَعَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ مِنْ عِمَامَةٍ شَمَخْتَانِيَّةٍ مَلْبُوسَةٍ وَقَدْ ابْتَلَّتْ بِالْمَاءِ فَبَقِيَتْ الْعَوْرَةُ مَوْصُوفَةً فَأَنْكَرْت عَلَيْهِمْ وَأَمَرْتُهُمْ بِسَتْرِهِ فَقَالَ الْغَاسِلُ: هَذَا الَّذِي وَجَدْنَاهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ فَأَخَذْت فُوطَةً جَدِيدَةً كَانَتْ عَلَيَّ إذْ ذَاكَ وَدَفَعْتهَا لَهُمْ لِيَسْتُرُوهُ بِهَا فَلَمَّا رَأَى أَخُو الْمَيِّتِ ذَلِكَ أَسْرَعَ فَجَاءَ بِفُوطَتَيْنِ غَلِيظَتَيْنِ جِيَادٍ فَسَتَرُوهُ بِإِحْدَاهُمَا وَعَمِلُوا الْأُخْرَى مِنْ فَوْقِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلُ، فَانْظُرْ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي، بَلْ يَتَعَيَّنُ تَعْيِينُ أُجْرَةِ الْغَاسِلِ وَأَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا يَجِدُهُ عَلَى الْمَيِّتِ كَائِنًا مَا كَانَ فَتَنْسَدُّ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَ بِسَبَبِهَا كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَنْعُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ لِحَلْقِ الْعَانَةِ، وَالنَّجَاسَةُ إذَا كَانَتْ عَلَى الْمَحَلِّ وَلَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا إلَّا بِمُبَاشَرَتِهَا بِالْيَدِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يُمْنَعَ هَذَا. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا أَكْثَرُهُمْ وَهِيَ أَنَّهُمْ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ نَادَوْا عَلَيْهِ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ «عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَمَّا اُحْتُضِرَ: إذْ أَنَا مِتُّ فَلَا تُؤْذِنُوا بِي أَحَدًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ، فَإِذَا مِتُّ فَصَلُّوا عَلَيَّ وَسُلُّونِي إلَى رَبِّي سَلًّا» . لَكِنْ قَدْ تَسَامَحَ

عُلَمَاؤُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْإِعْلَامِ بِذَلِكَ بِأَنْ يَقِفَ الرَّجُلُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَقُولَ: أَخُوكُمْ فُلَانٌ قَدْ مَاتَ بِصَوْتٍ يَجْهَرُ بِهِ عَلَى سُنَّةِ الْجَهْرِ لَا عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ زَعَقَاتِ الْمُؤَذِّنِينَ وَعَوَائِدِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ النَّعْيِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّدَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذُكِرَ هُنَا مِنْ أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَيَجْهَرُ بِصَوْتِهِ كَمَا ذُكِرَ. وَأَمَّا عَلَى مَا اعْتَادَهُ الْمُؤَذِّنُونَ مِنْ زَعَقَاتِهِمْ فَيُمْنَعُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ثُمَّ يَرْبِطُ الْكَفَنَ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ وَمِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ رَبْطًا وَثِيقًا. ثُمَّ يَأْخُذُ فِي نَقْلِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ الْبَيْتِ إلَى النَّعْشِ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِرِفْقٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ وَوَقَارٍ. وَلْيَحْذَرْ عِنْدَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَهُوَ أَنَّهُمْ عِنْدَ إخْرَاجِ الْمَيِّتِ يُقِيمُونَ الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ نِسَاءً وَرِجَالًا، وَقَدْ يَخْتَلِطُونَ وَهُوَ الْغَالِبُ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ وَدَاعًا لِلْمَيِّتِ وَقِيَامًا بِحَقِّهِ، وَذَلِكَ كَذِبٌ مِنْهُمْ وَافْتِرَاءٌ لِمُخَالَفَتِهِمْ فِي ذَلِكَ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ، وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ لَطْمُ الْخُدُودِ وَمَا شَاكَلَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ مَنْعُهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ، وَلَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ الْبُكَاءِ الْجَائِزِ فِي الشَّرْعِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَفْعُ صَوْتٍ، أَوْ لَطْمٌ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا. وَالتَّصَبُّرُ عَنْ الْبُكَاءِ أَجْمَلُ لِمَنْ اسْتَطَاعَ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْغَاسِلَ إذَا دَخَلَ لِيُغَسِّلَ الْمَيِّتَ يُقِيمُونَ إذْ ذَاكَ الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ وَيَفْعَلُونَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ، بَلْ يَزِيدُ النِّسَاءُ عَلَى ذَلِكَ فِعْلًا قَبِيحًا، وَهُوَ أَنَّ الْغَاسِلَةَ إذَا دَخَلَتْ لِتُغَسِّلَ الْمَيِّتَةَ قَامَ النِّسَاءُ إلَيْهَا بِالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَهِيَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ فَتَأْخُذُ حِذْرَهَا وَتَتَخَبَّأُ مِنْهُنَّ وَيَقُلْنَ لَهَا: يَا وَجْهَ الشُّؤْمِ فَتَقُولُ هِيَ لَهُنَّ جَوَابًا: إنَّمَا رَأَيْت الشُّؤْمَ عِنْدَكُنَّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الرَّدِيئَةِ ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ يُمَكِّنَّهَا مِنْ تَغْسِيلِ الْمَيِّتَةِ بَعْدَ أَنْ تَعِظَهُنَّ وَتُذَكِّرَهُنَّ بِأَنَّ هَذَا قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفًا لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ فَلْيُحْذَرْ مِنْهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَكَذَلِكَ يُحْذَرُ مِمَّا

يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذْ أَخَذُوا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اعْتِبَارٍ وَرُجُوعٍ وَسُكُونٍ يَفْعَلُونَ إذْ ذَاكَ ضِدَّ الْمُرَادِ وَيُكْثِرُونَ اللَّغَطَ مَعَ الْغَاسِلِ وَالْحَمَّالِينَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَى أُجْرَةِ الْغُسْلِ وَالْمُشَاحَّةِ فِيهَا، وَتَقَعُ ضَجَّةٌ عَظِيمَةٌ إذْ ذَاكَ وَهُوَ ضِدُّ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَحْتَاجُ وَكِيلُ الْمَيِّتِ أَنْ يَحْتَاطَ لَهُ بِمَا يَقْطَعُ مَادَّةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَمْنُوعَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ بِأَنْ يَتَّفِقَ مَعَ الْغَاسِلِ وَالْحَمَّالِينَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِهِمْ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ الْوُقُوعِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لَيْسَ لَهُمْ غَاسِلٌ وَلَا حَمَّالٌ بِأُجْرَةٍ، بَلْ كَانُوا يُغَسِّلُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَيَحْمِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَزَاحَمُونَ عَلَى النَّعْشِ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ فَيَحْمِلُونَهُ بِالنَّوْبَةِ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ إلَى الْيَوْمِ بِبِلَادِ الْحِجَازِ غَالِبًا، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ عَجَزَ عَنْهُ فَيُزِيلُ مَا يَتَوَقَّعُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّ الْغَاسِلَ أَوْ الْغَاسِلَةَ إذَا فَرَغَا مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ يَأْتُونَ بِهِ إلَى حَضْرَةِ الرِّجَالِ إنْ كَانَ رَجُلًا أَوْ إلَى النِّسَاءِ إنْ كَانَتْ امْرَأَةً حَتَّى يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا مِنْ الْحَاضِرِينَ، وَذَلِكَ بِدْعَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إكْرَامُ الْمَيِّتِ بِتَعْجِيلِ دَفْنِهِ. وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَسْرِعُوا بِجَنَائِزِكُمْ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» وَهَؤُلَاءِ يَتْرُكُونَهُ بَعْدَ تَجْهِيزِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ، بَلْ لِلْبِدْعَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي حُطَامِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ مِنْهُمْ فِعْلٌ قَبِيحٌ شَنِيعٌ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ لِيَرُدَّ بِهِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدْعَةِ وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي الصَّفْحِ وَالتَّجَاوُزِ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ الْمَيِّتُ يَجْتَمِعُ تَحْتَ دَكَّةِ الْغُسْلِ فَيَعْمَلُونَ تُرَابًا حَوْلَهَا

لِيَرُدَّ الْمَاءَ أَنْ يَسِيلَ مِنْ نَوَاحِيهَا الْأَرْبَعِ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الْغُسْلِ رَفَعُوا الدَّكَّةَ وَنَزَحُوا مِنْ الْمَاءِ مَا أَمْكَنَهُمْ، ثُمَّ يَخْلِطُونَ مَا بَقِيَ مِنْهُ بِذَلِكَ التُّرَابِ، ثُمَّ يَحْمِلُونَهُ وَيَرْمُونَهُ خَارِجَ الْبَيْتِ فَتَتَنَجَّسُ أَيْدِيهِمْ وَأَجْسَادُهُمْ وَثِيَابُهُمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُونَ الْمَيِّتَ وَيَحْمِلُونَهُ حَتَّى يُخْرِجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ وَيَضَعُونَهُ عَلَى النَّعْشِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْسِلُوا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْمَاءِ النَّجَسِ فَيُنَجِّسُونَ الْكَفَنَ، وَنَحْنُ قَدْ أُمِرْنَا بِطَهَارَتِهِ، وَهَذَا عَكْسُ الْحَالِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ. فَإِذَا أَخَذُوا فِي إخْرَاجِهِ إلَى النَّعْشِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ، وَهِيَ حُضُورُ شَخْصٍ يُسَمُّونَهُ بِالْمُدِيرِ فَيُزَكِّي الْمَيِّتَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ قَوْلِهِ: السَّعِيدُ الشَّهِيدُ الْقَاضِي الصَّدْرُ الرَّئِيسُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ الْخَاشِعُ الْوَرِعُ كَهْفُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَلِلْمَرْأَةِ: السَّعِيدَةُ الشَّهِيدَةُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ الَّتِي جَمَعَتْ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ وَالْكَذِبِ الصُّرَاحِ، وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ وَرُجُوعٍ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَابَلُوهُ بِضِدِّ الْمُرَادِ مِنْهُمْ، وَالْمَيِّتُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُضْطَرٌّ إلَى الدُّعَاءِ لَهُ وَإِظْهَارِ فَقْرِهِ وَمَسْكَنَتِهِ وَاضْطِرَارِهِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُمْ يَأْخُذُونَ فِي نَقِيضِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ إنَّ الْمُدِيرَ لَمْ يَكْتَفِ بِالتَّزْكِيَةِ لِلْمَيِّتِ وَالْكَذِبِ فِي حَقِّهِ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْيَاءِ بِنَحْوِ قَوْلِهِ: لِيَتَقَدَّمَ سَيِّدُنَا الْقَاضِي الصَّدْرُ الرَّئِيسُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ التَّزْكِيَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: فُلَانُ الدِّينِ يَنْعَتُهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي النُّعُوتِ مِنْ الْمَنْعِ وَتَعْظِيمِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَرْجُوهُ مِنْهُ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ تَوَاضُعٍ وَرُجُوعٍ وَتَوْبَةٍ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ حُضُورِ الْمُدِيرِ، وَمَا يَرْضَوْنَ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، كُلُّ ذَلِكَ نَقِيضُ وَعَكْسُ حَالِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي هَذَا الْمَحَلِّ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَاتَ لَهُ مَيِّتٌ بِمَوْضِعٍ، وَكَانَ بِقُرْبِهِ مَسْجِدٌ، فَإِذَا أَتَى النَّاسُ جَلَسُوا

فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ الْجِنَازَةِ، وَالْمَسْجِدُ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَمَا أَشْبَهَهَا لَا لِلْجُلُوسِ فِيهِ لِانْتِظَارِ الْمَوْتَى فَيُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْ الْجُلُوسِ فِيهِ لِغَيْرِ مَا بُنِيَ لَهُ، وَبَعْضُهُمْ يَدْخُلُ وَلَا يُصَلِّي التَّحِيَّةَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي مَعْنَاهُ: إنَّهَا تُغْلَقُ وَلَا تُفْتَحُ إلَّا أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ فِيهِ أَوْ انْتِظَارَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ مِنْ حُضُورِ الْقُرَّاءِ إذْ ذَاكَ وَيُبْسَطُ لَهُمْ حَصِيرٌ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ بِسَاطٌ أَوْ هُمَا مَعًا فَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا وَيَقْرَؤُنَّ الْقُرْآنَ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَشْيَاءُ. فَمِنْهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ يُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يُقْرَأَ فِي الطُّرُقِ وَفِي الْأَسْوَاقِ فِي مَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ إذْ الْغَالِبُ عَلَى الطُّرُقِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ كَثْرَةِ بَوْلِ الدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا وَمِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّ الطَّرَقَاتِ مَحَلٌّ لِلْمُرُورِ فِيهَا لَا لِلْجُلُوسِ. وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الطُّرُقَاتِ» فَمَنْ جَلَسَ فِيهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَهُوَ غَاصِبٌ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ، وَمَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ، وَهُمْ غَاصِبُونَ لِلْمَوَاضِعِ الَّتِي جَلَسُوا فِيهَا لِلْقِرَاءَةِ فِي وَقْتِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى يَنْصَرِفُوا. وَمِنْهَا مَا يَفْعَلُهُ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِمْ مِنْ شِبْهِ الْهُنُوكِ وَالتَّرْجِيعَاتِ كَتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ حَتَّى إنَّك إذَا لَمْ تَكُنْ حَاضِرًا مَعَهُمْ فِي مَوْضِعٍ وَتَسْمَعُهُمْ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغَانِي غَالِبًا، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مِنْهُمْ مَرْئِيٌّ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْقَبَائِحِ لَوْ سَلِمَ مِنْ الْمُحَرَّمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ عَمْدًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْقُرَّاءِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُمْ بِحَضْرَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إذَا قُرِئَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ لَعَلَّ أَنْ تَعُمَّ الْمَيِّتَ وَتَعُمَّهُمْ لَكِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ضِدَّ ذَلِكَ فَيَتْرُكُونَهُمْ يَقْرَءُونَ فِي الطُّرُقِ فَيَا لِلَّهِ وَيَا لَلْعَجَبِ أَيْنَ

تكبير المؤذنين مع الجنازة

ذَهَبَتْ الْعُقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ لَكَانَ فِعْلُهُ قَبِيحًا شَنِيعًا فَكَيْفَ وَالشَّرْعُ يَنْهَى عَنْهُ؟ وَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَمْرَ الشَّرْعِ وَدَلَالَةَ الْعَقْلِ، وَفَعَلُوا مَا زَيَّنَ لَهُمْ اللَّعِينُ. وَقَدْ نَقَلَ الْبَاجِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ: أَنَّ إبْلِيسَ اللَّعِينَ يَقُولُ: الْعَجَبُ لِبَنِي آدَمَ يُحِبُّونَ اللَّهَ وَيَعْصُونَهُ وَيُبْغِضُونِي وَيُطِيعُونَنِي. وَلْيَحْذَرْ مِنْ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ النَّاسِ يُسَمُّونَهُمْ بِالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ يَذْكُرُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ جَمَاعَةً عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَيَتَصَنَّعُونَ فِي ذِكْرِهِمْ وَيَتَكَلَّفُونَ بِهِ عَلَى طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ لَهَا طَرِيقٌ فِي الذِّكْرِ وَعَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا، فَيَقُولُونَ: هَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُسَلَّمِيَّةِ مَثَلًا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَذَا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَذَا كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَحْزَابِ الَّتِي يَقْرَءُونَهَا فَيَقُولُونَ: هَذَا حِزْبُ الزَّاوِيَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَهَذَا حِزْبُ الزَّاوِيَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَهَذَا حِزْبُ الرِّبَاطِ الْفُلَانِيِّ، وَهَذَا حِزْبُ الرِّبَاطِ الْفُلَانِيِّ، كُلُّ وَاحِدٍ لَا يُشْبِهُ الْآخَرَ غَالِبًا. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَأْتُونَ بِالْفُقَرَاءِ لِلذِّكْرِ عَلَى الْجِنَازَةِ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ وَهُمْ عَنْهُ بِمَعْزِلٍ؛ لِأَنَّهُمْ يُبَدِّلُونَ لَفْظَ الذِّكْرِ بِكَوْنِهِمْ يَجْعَلُونَ مَوْضِعَ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَبَعْضُهُمْ يَنْقَطِعُ نَفَسُهُ عِنْدَ آخِرِ قَوْلِهِ: لَا إلَهَ، ثُمَّ يَجِدُ أَصْحَابَهُ قَدْ سَبَقُوهُ بِالْإِيجَابِ فَيُعِيدُ النَّفْيَ مَعَهُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِذِكْرٍ وَيُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ وَيُزْجَرُ لِقُبْحِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ التَّغْيِيرِ لِلذِّكْرِ الشَّرْعِيِّ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَأَيْنَ الْبَرَكَةُ الَّتِي حَصَلَتْ بِحُضُورِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ أَتَوْا بِالذِّكْرِ عَلَى وَجْهِهِ لَمُنِعَ فِعْلُهُ لِلْحَدَثِ فِي الدِّينِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. [تَكْبِيرُ الْمُؤَذِّنِينَ مَعَ الْجِنَازَةِ] وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ، وَهِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ وَالْحُدُوثِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهَا وَالٍ كَانَ بِمِصْرَ وَهِيَ تَكْبِيرُ الْمُؤَذِّنِينَ مَعَ الْجِنَازَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَيَجْتَمِعُ بِسَبَبِهِمْ مَعَ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ وَالْمُرِيدِينَ وَمَنْ يُتَابِعُهُمْ فِي فِعْلِهِمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ فَيَبْقَى فِي الْجِنَازَةِ غَوْغَاءُ وَتَخْلِيطٌ وَتَخْبِيطٌ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ امْتِثَالِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] ،

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي زَعَقَاتِ الْجَمِيعِ بِمَا لَا يَنْبَغِي. وَيَزِيدُ بَعْضُهُمْ زَعَقَاتِ النِّسَاءِ مِنْ خَلْفِهِمْ وَكَشْفِ الْوُجُوهِ وَاللَّطْمِ عَلَى الْخُدُودِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ مِنْهُمْ. وَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ ضِدُّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ جَنَائِزُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ؛ لِأَنَّ جَنَائِزَهُمْ كَانَتْ عَلَى الْتِزَامِ الْأَدَبِ وَالسُّكُونِ وَالْخُشُوعِ وَالتَّضَرُّعِ حَتَّى إنَّ صَاحِبَ الْمُصِيبَةِ كَانَ لَا يُعْرَفُ مِنْ بَيْنِهِمْ لِكَثْرَةِ حُزْنِ الْجَمِيعِ وَمَا أَخَذَهُمْ مِنْ الْقَلِقِ وَالِانْزِعَاجِ بِسَبَبِ الْفِكْرَةِ فِيمَا هُمْ إلَيْهِ صَائِرُونَ وَعَلَيْهِ قَادِمُونَ حَتَّى لَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَلْقَى صَاحِبَهُ لِضَرُورَاتٍ تَقَعُ لَهُ عِنْدَهُ فَيَلْقَاهُ فِي الْجِنَازَةِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى السَّلَامِ الشَّرْعِيِّ شَيْئًا لِشُغْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَأْخُذَ الْغِذَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لِشِدَّةِ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْجَزَعِ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَيِّتُ غَدٍّ يُشَيِّعُ مَيِّتَ الْيَوْمِ. وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَنْ قَالَ فِي الْجِنَازَةِ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ فَقَالَ لَهُ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَك. فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُمْ فِي تَحَفُّظِهِمْ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ، فَمَا بَالُك بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى أَفْعَالِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْوَقْتِ، وَلَا لِعَوَائِدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِ السَّلَفِ وَأَحْوَالِهِمْ، فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ شَدَّ يَدَهُ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ، فَهُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ مَنْ جَالَسَهُمْ وَلَا مَنْ أَحَبَّهُمْ ، إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الدُّخُولِ بِالْمَيِّتِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَعْتَنُونَ بِهِ مِنْ الْمَوْتَى يَتْرُكُونَهُ بَعْدَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَقِفُونَ عِنْدَهُ يَدْعُونَ وَيُطَوِّلُونَ الدُّعَاءَ، وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ تَكْبِيرُ الْمُؤَذِّنِينَ إذْ ذَاكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ زَعَقَاتِهِمْ، وَيُطَوِّلُونَ فِي ذَلِكَ، وَالسُّنَّةُ التَّعْجِيلُ بِالْمَيِّتِ إلَى دَفْنِهِ وَمُوَارَاتِهِ، وَفِعْلُهُمْ بِضِدٍّ فَلْيُحْذَرْ مِنْ

شروط الصلاة على الجنازة وأركانها وسننها

هَذَا وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [شُرُوطُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَأَرْكَانُهَا وَسُنَنُهَا] وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهَةٌ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، جَائِزَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ الْبِدْعَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شُرُوطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَفَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَفَضَائِلِهَا، لَكِنْ بَقِيَتْ شُرُوطُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَأَرْكَانُهَا وَسُنَنُهَا. فَشُرُوطُهَا سَبْعَةٌ وَهِيَ: طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَطَهَارَةُ الْخَبَثِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَتَرْكُ الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ وَالنِّيَّةُ. وَأَرْكَانُهَا أَرْبَعَةٌ: أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ وَالدُّعَاءُ وَالتَّسْلِيمُ وَالْقِيَامُ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَسُنَنُهَا سِتَّةٌ: الْأُولَى: رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالثَّالِثَةُ: الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالرَّابِعَةُ: التَّيَامُنُ بِالسَّلَامِ وَإِخْفَاؤُهُ وَالْخَامِسَةُ: أَنْ تَكُونَ فِي جَمَاعَةٍ، وَالسَّادِسَةُ: أَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي، وَرَأْسُهُ إلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ، وَمَوْضِعُ قِيَامِ الْمُصَلِّي فِي وَسَطِ الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ مَنْكِبَيْهَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِ إنْ قَامَ فِي وَسَطِهَا أَنْ يَتَذَكَّرَ بِذَلِكَ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، أَوْ مَا تُنَزَّهُ الصَّلَاةُ عَنْهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ يُغْسَلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْمَوْتَى لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ: أَوَّلُهُمْ: الشَّهِيدُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي نُصْرَةِ التَّوْحِيدِ. وَالثَّانِي: السِّقْطُ إذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا، وَلَا حُكْمَ لِحَرَكَتِهِ. وَالثَّالِثُ: الْكَافِرُ إذَا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ جُمْلَةً، وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَالِبَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي رِسَالَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ وَأَحْيَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ وَالْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ وَالثَّنَاءُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت وَرَحِمْت وَبَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك أَنْتَ خَلَقْته وَأَنْتَ رَزَقْته وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيهِ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ جِئْنَاك شُفَعَاءَ لَهُ فَشَفِّعْنَا فِيهِ. اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَجِيرُ بِحَبْلِ جِوَارِك لَهُ إنَّك ذُو وَفَاءٍ وَذِمَّةٍ

اللَّهُمَّ قِه مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ وَنَقِّهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إحْسَانِهِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ فَقِيرًا إلَى رَحْمَتِك وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ) . تَقُولُ هَذَا بِإِثْرِ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، وَتَقُولُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَحَاضِرِنَا وَغَائِبِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا إنَّك تَعْلَمُ مُتَقَلَّبَنَا وَمَثْوَانَا وَلِوَالِدِينَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ مَغْفِرَةً عَزْمًا وَلِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَسْعِدْنَا بِلِقَائِك وَطَيِّبْنَا لِلْمَوْتِ وَطَيِّبْهُ لَنَا وَاجْعَلْ فِيهِ رَاحَتَنَا وَمَسَرَّتَنَا) ثُمَّ تُسَلِّمُ، فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً قُلْت: (اللَّهُمَّ إنَّهَا أَمَتُك) ثُمَّ تَتَمَادَى بِذِكْرِهَا عَلَى التَّأْنِيثِ غَيْرَ أَنَّك لَا تَقُولُ: وَأَبْدِلْهَا زَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ زَوْجًا فِي الْجَنَّةِ لِزَوْجِهَا فِي الدُّنْيَا، وَنِسَاءُ الْجَنَّةِ مَقْصُورَاتٌ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَبْغِينَ بِهِمْ بَدَلًا، وَالرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ زَوْجَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ أَزْوَاجٌ، فَإِنْ كَانَ طِفْلًا فَتُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ ثُمَّ تَقُولُ: (اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك أَنْتَ خَلَقْته وَأَنْتَ رَزَقْته وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لِوَالِدَيْهِ سَلَفًا وَذُخْرًا وَفَرَطًا وَأَجْرًا وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَإِيَّاهُمَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا وَإِيَّاهُمَا بَعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كَفَالَةِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَعَافِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ) تَقُولُ ذَلِكَ بِإِثْرِ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَتَقُولُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَسْلَافِنَا وَأَفْرَاطِنَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْته

التعزية جائزة قبل الدفن

مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ) ثُمَّ تُسَلِّمُ وَلَا بَأْسَ أَنْ تُجْمَعَ الْجَنَائِزُ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَلِيَ الْإِمَامَ الرِّجَالُ إنْ كَانَ فِيهِمْ نِسَاءٌ، وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا جُعِلَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَجُعِلَ مِنْ دُونِهِ الصِّبْيَانُ، وَالنِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إلَى الْقِبْلَةِ. فَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا وَلَا يَعْرِفُ مَا هُوَ الْمَيِّتُ أَوَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، أَوْ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، فَإِنَّهُ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ إمَامُهُ، ثُمَّ يَدْعُوَ بِالدُّعَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا أُخْرِجَ الْمَيِّتُ مِنْ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ كَيْفِيَّةُ خُرُوجِهِ عَلَى السُّنَّةِ، وَمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُمْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَصِلُوا بِهَا إلَى مَوْضِعٍ خَارِجٍ عَنْ الْأَسْوَاقِ يُسَمُّونَهُ بِدَرْبِ الْوَدَاعِ، فَإِذَا وَصَلُوا إلَيْهِ قَطَعُوا كُلَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ وَالْمُؤَذِّنِينَ، ثُمَّ يَفْعَلُونَ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا أَفْعَالًا مُخَالِفَةً لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ. فَمِنْهَا: أَنَّهُمْ يَضَعُونَ النَّعْشَ هُنَاكَ، وَيَقِفُ وَلِيُّ الْمَيِّتِ بِمَوْضِعٍ، وَالْمُدِيرُ يُنَادِي أَمَامَهُ فِي النَّاسِ أَنْ يَأْتُوا إلَى التَّعْزِيَةِ وَيَتَكَلَّمُ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مُحْتَوِيَةٍ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّزْكِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَأْتُونَهُ لِلتَّعْزِيَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَالْمُدِيرُ يُزَكِّي وَيُثْنِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. [التَّعْزِيَةُ جَائِزَةٌ قَبْلَ الدَّفْنِ] وَالتَّعْزِيَةُ جَائِزَةٌ قَبْلَ الدَّفْنِ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَيِّتِ بِسَبَبِهَا تَأْخِيرٌ عَنْ مُوَارَاتِهِ، فَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ فَتُمْنَعُ،. وَالْأَدَبُ فِي التَّعْزِيَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ؛ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ رُجُوعِ أَهْلِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الدَّفْنِ إلَى بَيْتِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ صِفَتِهَا فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ إنَّ مَنْ عَزَّى مِنْهُمْ أَكْثَرُهُمْ يَرْجِعُونَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالْمُشَيِّعُونَ لِلْجِنَازَةِ إنَّمَا يُشَيِّعُهَا مَنْ يُشَيِّعُهَا مِنْهُمْ لِأَمْرَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا، وَهُمَا الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَدَفْنُهَا، أَوْ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا لَيْسَ إلَّا. فَمَنْ خَرَجَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَانْصِرَافُهُ مِنْ حَيْثُ صَلَّى عَلَيْهَا، وَمَنْ خَرَجَ لَهُمَا مَعًا فَانْصِرَافُهُ بَعْدَ مُوَارَاتِهَا. وَكَذَلِكَ مَنْ يَخْرُجُ لِلدَّفْنِ فَقَطْ لِعُذْرٍ يَمْنَعُهُ عَنْ الصَّلَاةِ وَهُمْ يَرْجِعُونَ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِدَرْبِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ لَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْ

السنة في تشييع الجنازة

الذِّكْرِ وَيَرْتَكِبُونَ فِيهِ مَحْذُورًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ: أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي عَمَلِ قُرْبَةٍ يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُ، وَهُمْ قَدْ شَرَعُوا فِي التَّشْيِيعِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِّيَ فِيهِ عَلَى الْجِنَازَةِ إلَى الْمَوْضِعِ الْمُسَمَّى بِدَرْبِ الْوَدَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا عَمَلُ قُرْبَةٍ قَدْ شَرَعُوا فِيهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ إتْمَامُهُ، وَهُوَ أَنْ يَتْبَعُوهُ إلَى أَنْ يُوَارَى بِالتُّرَابِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ النِّسَاءِ يُصَلِّينَ صَلَاةَ الْعِيدِ قِيلَ لَهُ: أَيَنْصَرِفْنَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ؟ فَقَالَ: لَا مَنْ دَخَلَ فِي عَمَلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إتْمَامُهُ فَلَا يَنْصَرِفْنَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ، وَإِنْ كُنَّ لَا يَسْمَعْنَهَا، أَوْ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا أَنْ شَرَعْنَ فِيهَا لَزِمَهُنَّ إتْمَامُهَا عَلَى سُنَّتِهَا، وَذَلِكَ بِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ إذْ إنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَمَنْ تَبِعَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا، فَقَدْ شَرَعَ فِي قُرْبَةٍ فَيَلْزَمُهُ إتْمَامُهَا، وَالْإِتْمَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُوَارَاتِهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَبَعْضُهُمْ إذَا كَانَ لَهُمْ مَيِّتٌ يَعْتَنُونَ بِهِ يَتْرُكُونَهُ عِنْدَ دَرْبِ الْوَدَاعِ سَاعَةً يَقْرَءُونَ وَيَذْكُرُونَ وَيُكَبِّرُونَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى بَعْضِ الْمَوْتَى، وَيُسَمُّونَهُ وَدَاعًا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إكْرَامُ الْمَيِّتِ بِالتَّعْجِيلِ بِدَفْنِهِ، ثُمَّ إنَّ الْقُرَّاءَ وَالذَّاكِرِينَ وَالْمُكَبِّرِينَ فِي الْغَالِبِ يَرْجِعُونَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ لِلتَّبَرُّكِ، فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى مَا زَعَمُوا أَنْ يَصْحَبُوا الْمَيِّتَ بِذَلِكَ كُلِّهِ إلَى أَنْ يُوَارَى فِي قَبْرِهِ، فَلَمَّا أَنْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا فَعَلُوا فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ دُونَ غَيْرِهَا، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا فَعَلُوهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ النَّاسِ. [السُّنَّةُ فِي تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ] ثُمَّ إنَّ السُّنَّةَ فِي تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ أَنَّ مَنْ يُشَيِّعُهَا يَمْشِي مَعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ، وَهُمْ يَفْعَلُونَ غَيْرَ هَذَا؛ لِأَنَّهُمْ يَتْبَعُونَهَا حَتَّى يُصَلُّوا عَلَيْهَا وَيَمْشُوا مَعَهَا إلَى دَرْبِ الْوَدَاعِ، فَإِذَا أَتَوْا إلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَبُ، وَكُلٌّ يَسْلُكُ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ الطُّرُقِ فَيَسْبِقُونَ الْجِنَازَةَ إلَى الْقَبْرِ، وَتَبْقَى الْجِنَازَةُ تَجْرِي بِهَا الْحَمَّالُونَ وَلَا يُشَيِّعُهَا إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ النَّاسِ وَمِنْ شِدَّةِ جَرْيِ الْحَمَّالِينَ بِهَا تَرَى الْمَيِّتَ يَهْتَزُّ

عَلَى النَّعْشِ، وَرَأْسُهُ يَخْفِقُ، وَبَدَنُهُ يَضْطَرِبُ، وَيَتَمَخَّضُ فُؤَادُهُ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ الْفَضَلَاتِ مِنْ جَوْفِهِ إلَى فَمِهِ أَوْ دُبُرِهِ فَيَذْهَبُ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمِرْنَا بِتَغْسِيلِ الْمَيِّتِ وَهُوَ الْإِكْرَامُ لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ شَنِيعٌ مِنْ الْفِعْلِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالنَّظَرِ إلَيْهَا وَالتَّبَرُّكِ بِمَرَاسِمِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْعَلُ فِي شَيْءٍ إلَّا حَلَّتْ الْبَرَكَةُ فِيهِ، وَذَهَبَ كُلُّ مَا يُتَخَوَّفُ مِنْهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَشْيِ مَعَهَا لِاسْتِعْجَالِ الْحَمَّالِينَ بِهَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِعْجَالَ هُنَا مَكْرُوهٌ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَلِمَا يُخْشَى أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ مِنْ الْمَيِّتِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيُمْنَعُونَ مِنْ الْعَجَلَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِالْمَيِّتِ وَبِمَنْ يَمْشِي مَعَهُ. وَهَذَا عَكْسُ مَا يَمْشُونَ بِهِ حِينَ الْخُرُوجِ بِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَمِنْهُ إلَى دَرْبِ الْوَدَاعِ، فَإِنَّهُمْ يَمْشُونَ بِهِ الْهُوَيْنَا. وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ بِمَا وَرَدَ: «وَلَا تَدِبُّوا بِهَا كَدَبِيبِ الْيَهُودِ» ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ السُّنَّةَ فِي الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ أَنْ يَكُونَ كَالشَّابِّ الْمُسْرِعِ فِي حَاجَتِهِ، وَهَذَا الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ وَسَطٌ بَيْن مَا يَفْعَلُونَهُ: أَوَّلًا مِنْ الدَّبِيبِ بِهَا، وَآخِرًا مِنْ الِاسْتِعْجَالِ الَّذِي يَضُرُّ بِهَا {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، فَكَانَتْ السُّنَّةُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ لَا يَعْرِفُونَهَا إذْ إنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوهَا مَا تَرَكُوهَا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا يَتْرُكُهَا أَحَدٌ مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا ضَرُورَةٌ دَاعِيَةٌ إلَى تَرْكِهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَيَكُونُ الْمَاشُونَ أَمَامَهَا وَالرُّكْبَانُ خَلْفَهَا إلَى قَبْرِهَا؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَ أَفْضَلُ مِنْ الرَّاكِبِ فَيُقَدَّمُ رَجَاءَ قَبُولِ شَفَاعَتِهِ؛ لِأَنَّ حَالُ تَوَاضُعٍ وَافْتِقَارٍ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِذَلِكَ. ثُمَّ إذَا مَشَى الْمُشَاةُ أَمَامَهَا وَالرُّكْبَانُ خَلْفَهَا، فَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ مَعَ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِدْعَةٌ إذْ إنَّهُمْ ذَاهِبُونَ لِلشَّفَاعَةِ يَرْجُونَ قَبُولَهَا، فَيَشْتَغِلُونَ بِمَا هُمْ إلَيْهِ صَائِرُونَ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُشْتَغِلًا فِي نَفْسِهِ بِالِاعْتِبَارِ وَبِالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ أَوْ لِنَفْسِهِ

ينبغي أن يشرع أولا في حفر القبر قبل الأخذ في غسله

وَلِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِجَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي حُضُورِ جَنَائِزِهِمْ يَتَنَاكَرُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ شَهْرُ رَمَضَانَ حَتَّى إذَا رَجَعُوا لِلْبَلَدِ تَعَارَفُوا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي وُدِّهِمْ الشَّرْعِيِّ. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ بَعْضِهِمْ فِي كَوْنِهِمْ يَسْبِقُونَ الْجِنَازَةَ وَيَجْلِسُونَ يَنْتَظِرُونَهَا وَيَتَحَدَّثُونَ إذْ ذَاكَ فِي التِّجَارَاتِ وَالصَّنَائِعِ وَفِي مُحَاوَلَةِ أُمُورِ الدُّنْيَا. وَمَنْ كَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كَيْفَ يُرْجَى قَبُولُ شَفَاعَتِهِ؟ بَلْ بَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْمَيِّتُ يُقْبَرُ فِي الْغَالِبِ، بَلْ بَعْضُهُمْ يَتَضَاحَكُونَ حِينَ يَتَكَلَّمُونَ وَآخَرُونَ يَتَبَسَّمُونَ وَآخَرُونَ يَسْتَمِعُونَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. [يَنْبَغِي أَنْ يَشْرَعَ أَوَّلًا فِي حَفْرِ الْقَبْرِ قَبْلَ الْأَخْذِ فِي غُسْلِهِ] وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْرَعَ أَوَّلًا فِي حَفْرِ الْقَبْرِ قَبْلَ الْأَخْذِ فِي غُسْلِهِ. وَقَدْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى حَالِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنْ يَحْفِرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْغُسْلِ، وَعَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحِجَازِ إلَى الْيَوْمِ، وَلَا بَأْسَ بِإِجَارَةِ مَنْ يَحْفِرُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَفْرُ فِي الْمَقْبَرَةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ فِيهَا بِخِلَافِ أَنْ لَوْ دُفِنَ فِي غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ النَّبْشِ عَلَيْهِ أَوْ وُصُولِ النَّجَاسَاتِ إلَيْهِ، أَوْ يُدْفَنُ فِي أَرْضٍ مُسْتَعَارَةٍ أَعْنِي لَا أَصْلَ لَهَا كَالْكِيمَانِ وَمَا شَابَهَهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُنْبَشُ وَيُبْنَى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا حِرْزُهُ مَقْبَرَةُ الْمُسْلِمِينَ. وَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَيِّتِ أَنْ يَخْتَارَ لَهُ الدَّفْنَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ لِمَا وَرَدَ «هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» وَلِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» فَلَعَلَّ بَرَكَةَ الْجِوَارِ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَنْ تَعُودَ عَلَى مَنْ جَاوَرَهُمْ وَنَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ، وَقَدْ مَضَتْ عَادَةُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنْ يَخْتَارُوا الدَّفْنَ عِنْدَ قُبُورِ الْآبَاءِ وَالْأَقَارِبِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْنِ عِنْدَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، فَإِنْ اجْتَمَعَا فَيَا حَبَّذَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَحْفِرُ الْقَبْرَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْخَيْرِ وَالْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ يَجِدُ فِي الْمَوْضِعِ أَثَرَ مَيِّتٍ فَيُزِيلُهُ أَوْ يَكْسِرُهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ

لِأَنَّ الْمَوْضِعَ حُبِسَ عَلَى مَنْ دُفِنَ فِيهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَاصِبٌ لِمَوْضِعِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ، وَالتَّحَلُّلُ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ، وَبَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَحْفِرُونَ وَيَرْمُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى بَعْدَ تَكْسِيرِهَا بِمَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا يَحْفِرُ فِيهِ بِسَبَبِ آثَارِ الْمَوْتَى الَّتِي هُنَاكَ فَلْيَخْرُجْ عَنْ الْمَقْبَرَةِ إلَى الْبَرِّيَّةِ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِهَا فَهُوَ أَبْرَأُ لِلذِّمَّةِ، وَيُرَاعَى مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ الطَّرِيقِ دُونَ شَيْءٍ يَسْتُرُهُ عَنْ الْمَارِّينَ مِثْلَ جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَعَلَّ أَنْ يَنَالَهُ بَرَكَةُ مَنْ يَمُرُّ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّ مَنْ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مُضْطَرٌّ إلَى ذَلِكَ كَائِنًا مَا كَانَ. وَحِكْمَةُ دَفْنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّحْرَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ رِيَاسَةٌ وَمَالٌ عُمِلَ لَهُ تُرْبَةٌ فِي الْبَلَدِ وَدُفِنَ فِيهَا فَتُصِيبُهُ النَّجَاسَاتُ وَتَمُرُّ عَلَيْهِ السَّرَابَاتُ فَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الْمَقْبَرَةِ يَبْنُونَ فِيهَا الْبُيُوتَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا السَّرَابَاتِ، وَبَعْضُهُمْ يَبْنُونَ الْآبَارَ وَالْحَمَّامَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قُبْحُ ذَلِكَ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَبْعُدَ بِالْحَفْرِ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى لَا يَصِلَ إلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَالرُّطُوبَاتِ، وَإِذَا حُفِرَ الْقَبْرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْ يَحْفِرُهُ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْقِبْلَةَ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً، وَلَا يَعْمَلُ عَلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ الْمَحَارِيبِ فِي الْقُبُورِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الِانْحِرَافُ عَنْ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَضَعُهَا لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ فَيَقَعُ بِسَبَبِهِ الْخَطَأُ وَالْخَلَلُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَعْرِفُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الْقَبْرُ إلَى الْقِبْلَةِ بِالسَّوَاءِ. وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفِرَ لِلْمَيِّتِ عَلَى طُولِهِ أَوْ أَزْيَدَ قَلِيلًا حَتَّى إذَا دَخَلَ فِي قَبْرِهِ يَكُونُ دُخُولُهُ فِيهِ بِالسَّوَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى السَّلَفُ وَالْخَلْفُ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِنْ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ السُّنَّةَ فِي صِفَةِ حَفْرِ الْقَبْرِ فَيَحْفِرُونَهُ مِنْ

أَعْلَاهُ ضَيِّقًا وَمِنْ أَسْفَلِهِ بِطُولِ الْمَيِّتِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَوْتَى أَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ أَعْنِي مَعَ التَّحَفُّظِ عَلَى دُخُولِ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ عَلَى السُّنَّةِ بِاحْتِرَامِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مِنْ شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ، وَلَكِنْ قَدْرُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ وَيَقُومُ بِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ حَتَّى كَأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَتَحَرَّكُ لِوُجُودِ التَّلَطُّفِ بِهِ فِي إدْخَالِهِ فِي قَبْرِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ وَلِيُّ الْمَيِّتِ أَنْ يَأْخُذَ قِيَاسَهُ وَيَحْفِرَ لَهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ أَوْ أَزْيَدَ قَلِيلًا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالسَّوَاءِ مِنْ أَعْلَى الْقَبْرِ إلَى اللَّحْدِ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ بِالسَّوَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ مَنْ يُدْخِلُهُ فِي قَبْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا وَأَوَّلُ مَنْزِلٍ يَحِلُّ فِيهِ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِمَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكِّنَ الْحَفَّارِينَ بِالْأُجْرَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُدْخِلُوهُ فِي قَبْرِهِ لِعَدَمِ اتِّصَافِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ غَالِبًا، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يُدْخِلُوهُ فِي قَبْرِهِ فَيَكُونُ الْمُتَنَاوِلُونَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَسُلُّونَ الْمَيِّتَ مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ، وَيَتَنَاوَلُونَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا بِرِفْقٍ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَفْعَلُونَ ضِدَّ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْحَفَّارَ يَتَنَاوَلُهُ حَتَّى إذَا نَزَلَ أَكْثَرُهُ جَعَلَهُ الْحَفَّارُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَرْمِيهِ بِشِدَّةٍ فَيَقَعُ فِي الْقَبْرِ وَهُوَ يَضْطَرِبُ وَفِي ذَلِكَ إخْرَاقٌ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِ الْفَضَلَاتِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ. ثُمَّ إنَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ الْقَبْرَ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ، ذَلِكَ يُمْنَعُ لِثَلَاثِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ مَضَتْ أَنْ يُدْخَلَ فِي قَبْرِهِ بِالسَّوَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا أُدْخِلَ عَلَى رَأْسِهِ فَقَدْ تَنْزِلُ الْمَوَادُّ إلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ فَتَخْرُجُ كَمَا تَقَدَّمَ. الْمَعْنَى الثَّالِثُ: مَا فِيهِ مِنْ التَّفَاؤُلِ فِي أَوَّلِ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ يُدْخِلُونَهُ فِيهِ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّحْدُ ضَيِّقًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الْمَيِّتَ الْقَبْرَ فَلَا يَسَعُهُ

فَيَحْتَاجُونَ إلَى مُعَالَجَةِ ذَلِكَ، وَلَا تَقَعُ الْمُعَالَجَةُ بَعْدَ إدْخَالِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ إلَّا بِإِخْرَاقِ حُرْمَتِهِ. فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ اللَّحْدُ أَطْوَلَ مِنْ الْمَيِّتِ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ دُونَ مُعَالَجَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ يَأْخُذُ فِي لَحْدِهِ فَيُزِيلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّبَاطِ مِنْ نَاحِيَةِ رَأْسِهِ وَمِنْ نَاحِيَةِ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يُزِيلُ الرِّبَاطَ الَّذِي كَانَ قَدْ جَعَلَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَعَلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ، وَلَا يُزِيلُ شَيْئًا مِنْ الْقُطْنِ لِئَلَّا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرٌ. وَكَذَلِكَ الْخِرَقُ الَّتِي حَلَّهَا قَبْلُ لِئَلَّا يُرَى عَلَيْهَا ذَلِكَ. ثُمَّ يَحِلُّ الرِّبَاطَ الَّذِي فِي إبْهَامَيْ رِجْلَيْهِ. وَكَذَلِكَ يَحِلُّ الرِّبَاطَ الَّذِي فِي كُمَّيْهِ وَيُسَرِّحُ يَدَيْهِ. ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، وَيَكُونُ فِي الْكَفَنِ كَأَنَّهُ فِي فِرَاشِهِ بَعْضُهُ تَحْتَهُ وَبَاقِيهِ مُغَطًّى بِهِ. ثُمَّ يُلْصِقُهُ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَجْعَلْ تَحْتَ رَأْسِهِ شَيْئًا، وَيَكُونُ بِالسَّوَاءِ عَلَى الْأَرْضِ بِجَسَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ ذُلٍّ وَافْتِقَارٍ، وَلَيْسَ بِمَوْضِعِ رَفْعِ رَأْسٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا أَنْ غُشِيَ عَلَيْهِ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ رَأْسَهُ فَرَفَعَهَا عَلَى فَخِذِهِ فَلَمَّا أَنْ اسْتَفَاقَ مِنْ غَشْيَتِهِ قَالَ: ضَعْ رَأْسِي عَلَى الْأَرْضِ لَا أُمَّ لَك، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: أَفْضُوا بِلِحْيَتِي إلَى الْأَرْضِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْمَآثِرِ الْعَظِيمَةِ مَعَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَجْدَرُ بِمُبَاشَرَةِ الْأَرْضِ دُونَ حَائِلٍ وَارْتِفَاعٍ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مَا، وَهَذَا بِعَكْسِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ تَحْتَ الْمَيِّتِ شَيْئًا يَقِيهِ مِنْ التُّرَابِ، بَلْ بَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ تَحْتَهُ طَرَّاحَةً وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةً. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا إلَى لَحْدِهِ أَزَالُوا تِلْكَ الْخِرَقَ الْمَذْكُورَةَ وَأَخْرَجُوا الْقُطْنَ الَّذِي أَرْسَلُوهُ مَعَهُ فِي فَمِهِ وَأَنْفِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ عَنْهُمْ فَيُخْرِجُونَهُ مِنْ حَلْقِهِ وَتَخْرُجُ الْمَوَادُّ مَعَ ذَلِكَ وَيَبْقَى فَمُهُ مَفْتُوحًا، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الشَّوْهِ مَا فِيهِ مَعَ إخْرَاقِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ وَوُجُودِ النَّجَاسَةِ فِي الْقَبْرِ وَذَهَابِ الْمَعْنَى الَّذِي أُمِرْنَا بِغُسْلِهِ لَهُ. وَكَذَلِكَ يُحْتَرَزُ مِمَّا يَفْعَلُهُ

بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ التُّرَابَ فِي عَيْنَيْهِ وَيَقُولُونَ عِنْدَ ذَلِكَ: لَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ، وَلَا فَرْقَ فِي الشَّرْعِ فِي إثْمِ فَاعِلِ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا بَلْ هَذَا أَشَدُّ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ التَّحَلُّلُ مِنْ الْمَيِّتِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. بَلْ يَحِلُّ الرِّبَاطَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ لَيْسَ إلَّا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ مَهْمَا قَدَرَ. فَإِذَا أَضْجَعَهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ فَلْتَكُنْ الْيَدُ الْيُمْنَى مِنْ الْمَيِّتِ أَمَامَهُ وَالْيُسْرَى عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَأْخُذُ حَجَرًا كَبِيرًا فَيُرَكِّزُهُ فِي الْأَرْضِ وَيُسْنِدُ الْمَيِّتَ بِهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى إسْنَادِ الْمَيِّتِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ بِالتُّرَابِ وَحْدَهُ دُونَ هَذَا الْحَجَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْنَدَهُ بِالتُّرَابِ لَيْسَ إلَّا خَرَجَتْ الْفَضَلَاتُ فَيَتَحَلَّلُ التُّرَابُ بِنَدَاوَتِهَا فَيُسْتَلْقَى الْمَيِّتُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَمِيلُ وَجْهُهُ عَنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْمَقْصُودُ دَوَامُهُ مُسْتَقْبِلَهَا حَتَّى يَفْنَى أَوْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ. ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ إسْنَادِهِ بِالْحَجَرِ جَعَلَ خَلْفَ الْحَجَرِ تُرَابًا يُسْنِدُهُ بِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَيِّتِ إلَى قَدَمِهِ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ خَاشِعًا مُتَذَلِّلًا. فَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ حَجَرًا صُلْبًا لَيْسَ فِيهِ تُرَابٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤْتَى بِالرَّمَلِ فَيَفْرِشَ تَحْتَ الْمَيِّتِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَقِيَ دُونَهُ انْمَاعَ فِي قَبْرِهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّمْلِ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا. وَهَذَا بِخِلَافِ أَنْ لَوْ كَانَ الْقَبْرُ سَبِخًا أَوْ تُرَابًا، فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِالرَّمْلِ بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِخِلَافِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِهِ فَيَفْرِشُوهُ تَحْتَهُ لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي لَحْدِ الْمَيِّتِ فَلْيَتَرَبَّصْ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي سَدِّ اللَّحْدِ عَلَى الْمَيِّتِ لِيَتَذَكَّرَ حِينَئِذٍ هَلْ نَسِيَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى، فَمَنْ نَسِيَ مِنْهُمَا لَعَلَّ الْآخَرَ يَذْكُرُهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي سَدِّ اللَّحْدِ، وَيَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَاسْتَحَبَّ

ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ يَقُولُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ (اللَّهُمَّ أَسْلَمَهُ إلَيْك الْأَشِحَّاءُ مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ إلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ وَنَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ إنْ عَاقَبْته فَبِذَنْبِهِ وَإِنْ عَفَوْت عَنْهُ فَأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ أَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ إلَى رَحْمَتِك اللَّهُمَّ اُشْكُرْ حَسَنَاتِهِ وَاغْفِرْ سَيِّئَاتِهِ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِك الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِك وَاكْفِهِ كُلَّ هَوْلٍ دُونَ الْجَنَّةِ اللَّهُمَّ فَاخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ وَجُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ) وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَقُولُ إذَا سَوَّى عَلَيْهِ اللَّبِنَ (اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِك وَخَلَّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَافْتَقَرَ إلَى مَا عِنْدَك وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ) ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِمَاءِ الْوَرْدِ فَيَجْعَلُونَهُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ، وَذَلِكَ لَمْ يَرِدْ عَنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَإِذَا لَمْ يَرِدْ فَهُوَ بِدْعَةٌ. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَأْتُونَ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَيُخْرِجُونَ الْقُطْنَ مِنْ فَمِهِ وَأَنْفِهِ وَتَخْرُجُ الْمَوَادُّ إذْ ذَاكَ وَتُشَمُّ مِنْهُ الرَّوَائِحُ الْكَرِيهَةُ، وَيَتَنَجَّسُ الْمَحَلُّ بِإِحْدَاثِهِمْ النَّجَاسَةَ فِي الْقَبْرِ بِرَشِّهِمْ مَاءَ الْوَرْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا، وَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُبَخَّرَ الْقَبْرُ وَلَا أَنْ يُفْرَشَ فِيهِ رَيْحَانٌ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ فِعْلِ السَّلَفِ وَيَكْفِيهِ مِنْ الطِّيبِ مَا قَدْ عُمِلَ لَهُ وَهُوَ فِي الْبَيْتِ فَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُبْتَدِعُونَ فَحَيْثُ وَقَفَ سَلَفُنَا وَقَفْنَا. ثُمَّ يَسُدُّ عَلَيْهِ اللَّحْدَ، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسُدَّ بِالْأَلْوَاحِ وَلَهُمْ فِي اللَّبِنِ اتِّسَاعٌ إنْ كَانَ طَاهِرًا، وَطَهَارَتُهُ الْيَوْمَ مَعْدُومَةٌ فِي الْغَالِبِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْحَجَرُ يَقُومُ مَقَامَهُ. ثُمَّ يليس مَا بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ بِالتُّرَابِ الطَّاهِرِ الْمَعْجُونِ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُغْنِي عَنْ الْمَيِّتِ شَيْئًا لَكِنْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِهِ فَتُتَّبَعُ وَيُسَدُّ الْخَلَلُ حَيْثُ كَانَ. إذَا فَرَغَ مِنْهُ فَقَدْ تَمَّ لَحْدُهُ فَيَصْعَدُ إذْ ذَاكَ وَيُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ أَنْ يَحْثُوَ فِيهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ

إذا فرغوا من إهالة التراب عليه فليرفعوا القبر قليلا عن الأرض

مِنْ تُرَابٍ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا سَمِعْت مِنْ أَمْرٍ بِهِ وَلَا أَعْرِفُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرَأَ أَحَدٌ إذْ ذَاكَ الْقُرْآنَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ فِكْرَةٍ وَاعْتِبَارٍ وَنَظَرٍ فِي الْمَآلِ، وَذَلِكَ يُشْغِلُ عَنْ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ، وَالْإِنْصَاتُ مُتَعَذَّرٌ لِشُغْلِ الْقَلْبِ بِالْفِكْرِ فِيمَا هُوَ إلَيْهِ صَائِرٌ وَعَلَيْهِ قَادِمٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى وَهُمْ السَّابِقُونَ وَالْقُدْوَةُ الْمُتَّبَعُونَ، وَنَحْنُ التَّابِعُونَ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ، فَالْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ وَالرَّحْمَةُ فِي اتِّبَاعِهِمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ كَذَلِكَ بِمَنِّهِ. [إذَا فَرَغُوا مِنْ إهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ فَلْيَرْفَعُوا الْقَبْرَ قَلِيلًا عَنْ الْأَرْضِ] فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ إهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ فَلْيَرْفَعُوا الْقَبْرَ قَلِيلًا عَنْ الْأَرْضِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤْتَى بِتُرَابٍ آخَرَ حَتَّى يَكْثُرَ وَيَرْتَفِعَ الْقَبْرُ بِهِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ لَاطِئًا مَعَ الْأَرْضِ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَرْتَفِعَ عَنْ الْأَرْضِ قَلِيلًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُسَطَّحُ الْقَبْرُ أَوْ يُسَنَّمُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَأَيُّمَا فَعَلَ مِنْهُمَا كَانَ حَسَنًا. وَلَا يُجَصَّصُ الْقَبْرُ وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُرَصَّ عَلَى الْقَبْرِ بِالْحَجَرِ وَالطِّينِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ بِطُوبٍ أَوْ حِجَارَةٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا وَأَنْ تُوطَأَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ، وَهُوَ تَفْصِيصُهَا» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا. وَمِنْ الْقُرْطُبِيِّ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: «قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا أَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته.» وَفِي

موضع التعزية على تمام الأدب إذا رجع ولي الميت إلى بيته

رِوَايَةٍ «وَلَا صُورَةً إلَّا طَمَسْتهَا» وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: ظَاهِرُهُ مَنْعُ تَسْنِيمِ الْقُبُورِ وَرَفْعِهَا وَأَنْ تَكُونَ لَاطِئَةً. وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ هَذَا الِارْتِفَاعَ الْمَأْمُورَ بِإِزَالَتِهِ هُوَ مَا زَادَ عَلَى التَّسْنِيمِ وَيَبْقَى لِلْقَبْرِ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَيُحْتَرَمُ وَذَلِكَ صِفَةُ قَبْرِ نَبِيِّنَا سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا تَعْلِيَةُ الْبِنَاءِ الْكَثِيرِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ تَفْخِيمًا وَتَعْظِيمًا، فَذَلِكَ يُهْدَمُ وَيُزَالُ، فَإِنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَ زِينَةِ الدُّنْيَا فِي أَوَّلِ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ وَتَشْبِيهًا بِمَنْ كَانَ يُعَظِّمُ الْقُبُورَ وَيَعْبُدُهَا، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَظَاهِرِ النَّهْيِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: هُوَ حَرَامٌ وَالتَّسْنِيمُ فِي الْقَبْرِ ارْتِفَاعُهُ قَدْرَ شِبْرٍ مَأْخُوذٌ مِنْ سَنَامِ الْبَعِيرِ وَيَرُشُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ لِئَلَّا يَنْتَثِرَ بِالرِّيحِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُطَيَّنَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُجَصَّصُ الْقَبْرُ وَلَا يُطَيَّنُ وَلَا يُرْفَعُ عَلَيْهِ بِنَاءٌ، وَالدَّفْنُ فِي التَّابُوتِ جَائِزٌ لَا سِيَّمَا فِي الْأَرْضِ الرَّخْوَةِ. وَلَا يُجْعَلُ الْقَبْرُ مُرَبَّعًا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَلَّمَ عِنْدَ رَأْسِهِ بِحَجَرٍ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَنْ دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ فَقَامَ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ ثُمَّ حَمَلَهُ فَوَضَعَهُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَقَالَ أُعَلِّمُ بِهِ قَبْرَ أَخِي وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» . [مَوْضِعُ التَّعْزِيَةِ عَلَى تَمَامِ الْأَدَبِ إذَا رَجَعَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ إلَى بَيْتِهِ] فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ فَلْيَنْصَرِفُوا عَنْهُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْرَأَ شَيْءٌ مِنْ الْقَصَائِدِ وَلَا مَا شَابَهَهَا لِلْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْ الذِّكْرِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إذْ ذَاكَ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ فِي الِانْصِرَافِ وَمَوْضِعُ التَّعْزِيَةِ عَلَى تَمَامِ الْأَدَبِ إذَا رَجَعَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ إلَى بَيْتِهِ، وَيَجُوزُ قَبْلَهُ أَعْنِي قَبْلَ الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَقَّدَهُ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَيَقِفَ عِنْدَ قَبْرِهِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَيُلَقِّنَهُ؛ لِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - إذْ ذَاكَ يَسْأَلَانِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الْمُنْصَرِفِينَ عَنْهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ

عَلَيْهِ وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» ، وَرَوَى رَزِينٌ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ مَا يَفْرُغُ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ: (اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُك نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ فَاغْفِرْ لَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ) ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو حَامِدِ بْنُ الْبَقَّالِ وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ إذَا حَضَرَ جِنَازَةً عَزَّى وَلِيَّهَا بَعْدَ الدَّفْنِ وَانْصَرَفَ مَعَ مَنْ يَنْصَرِفُ فَتَوَارَى هُنَيْهَةً حَتَّى يَنْصَرِفَ النَّاسُ ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْقَبْرِ فَيُذَكِّرُ الْمَيِّتَ بِمَا يُجَاوِبُ بِهِ الْمَلَكَيْنِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -. وَيَكُونُ التَّلْقِينُ بِصَوْتٍ فَوْقَ السِّرِّ وَدُونَ الْجَهْرِ فَيَقُولُ: (يَا فُلَانُ لَا تَنْسَ مَا كُنْت عَلَيْهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا جَاءَك الْمَلَكَانِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَسَأَلَاك فَقُلْ لَهُمَا: اللَّهُ رَبِّي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّ، وَالْقُرْآنُ إمَامِي، وَالْكَعْبَةُ قِبْلَتِي) ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ فَخَفِيفٌ، وَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ التَّلْقِينِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَالزَّعَقَاتِ لِحُضُورِ النَّاسِ قَبْلَ انْصِرَافِهِمْ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ. وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُوهُ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ بِدْعَةٌ أَيْضًا. وَقَدْ سَأَلْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقُلْت لَهُ: أَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْفَظَ هَذَا التَّلْقِينَ فِي حَيَاتِهِ حَتَّى يَكُونَ مُتَيَسِّرًا عَلَى لِسَانِهِ إذْ ذَاكَ فَانْزَعَجَ وَقَالَ: أَنْتَ تُجَاوِبُ إنَّمَا يُجَاوِبُ عَمَلُك إنْ كَانَ صَالِحًا فَصَالِحًا، وَإِنْ كَانَ سَيِّئًا فَسَيِّئًا فَحَصِّلْ الْعَمَلَ فَهُوَ يَكْفِيك، فَإِنَّهُ الْعِدَّةُ الَّتِي تَنْجُو بِهَا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا اللَّقْلَقَةُ بِاللِّسَانِ أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَدْ أَمَرَ الشَّرْعُ بِالتَّعْزِيَةِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ» ، وَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأُمَّتِهِ وَتَسْلِيَةٌ لَهُمْ، أَمَّا الْأَمْرُ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي، وَأَمَّا التَّسْلِيَةُ فَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ، فَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ مَا أُصِيبَ بِهِ مِنْ فَقْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَانَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَصَائِبِ وَاضْمَحَلَّتْ، وَلَمْ

الذبح عند القبر

يَبْقَ لَهَا خَطَرٌ وَلَا بَالٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّعْزِيَةِ أَلْفَاظٌ مُتَعَدِّدَةٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَحْسَنُ التَّعْزِيَةِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «آجَرَكُمْ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِكُمْ وَأَعْقَبَكُمْ خَيْرًا مِنْهَا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ» وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَزَّى الرَّجُلُ فِي صَدِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَصَائِبِ، وَكَذَلِكَ يُعَزَّى الرَّجُلُ فِي زَوْجَتِهِ الصَّالِحَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَصَائِبِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ أَلْفَاظَ التَّعْزِيَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَمَنْ يُعَزِّي، وَمَنْ يُعَزَّى فِيهِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ تَبْكِي عَلَى صَبِيٍّ لَهَا فَقَالَ لَهَا: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي فَقَالَتْ: وَمَا تُبَالِي بِمُصِيبَتِي فَلَمَّا ذَهَبَ قِيلَ لَهَا: إنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ فَأَتَتْ بَابَهُ فَلَمْ تَجِدْ عَلَى بَابِهِ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَعْرِفْك فَقَالَ: «إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ: دَفَنْت ابْنِي سِنَانًا، وَأَبُو طَلْحَةَ الْخَوْلَانِيُّ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَلَمَّا فَرَغْت قَالَ: أَلَا أُبَشِّرُك قُلْت: بَلَى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ: أَقَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيَقُولُ: أَقَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ: حَمِدَك وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ» ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إذَا قَبَضْت صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلَّا الْجَنَّةُ» وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ أَنْ يُرَاعُوا التَّعْزِيَةَ فِي الدِّينِ أَكْثَرَ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: فَاتَتْنِي الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ فَعَزَّانِي فِيهَا فُلَانٌ وَلَمْ يُعَزِّنِي غَيْرُهُ وَلَوْ مَاتَ لِي وَلَدٌ لَعَزَّانِي فِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ كَمَا قَالَ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ مُصِيبَةَ الدِّينِ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ مُصِيبَةِ الدُّنْيَا عَكْسُ مَا الْحَالُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ. [الذَّبْحُ عِنْدَ الْقَبْرِ] وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ مَعَ الْحَامِلِينَ فِي الْأَقْفَاصِ الْخِرْفَانَ وَالْخُبْزَ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ

بِعَشَاءِ الْقَبْرِ، فَإِذَا أَتَوْا إلَى الْقَبْرِ ذَبَحُوا مَا أَتَوْا بِهِ بَعْدَ الدَّفْنِ وَفَرَّقُوهُ مَعَ الْخُبْزِ، وَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُزَاحَمَةٌ وَضَرْبٌ وَيَأْخُذُ ذَلِكَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَيُحْرَمُهُ الْمُسْتَحِقُّ فِي الْغَالِبِ. وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: (لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ) ، وَالْعَقْرُ هُوَ الذَّبْحُ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: مَا فِيهِ مِنْ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي أَفْعَالِ الْقُرْبِ الْإِسْرَارُ بِهَا دُونَ الْجَهْرِ، فَهُوَ أَسْلَمُ، وَالْمَشْيُ بِذَلِكَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ جَمْعٌ بَيْنَ إظْهَارِ الصَّدَقَةِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِذَلِكَ فِي الْبَيْتِ سِرًّا لَكَانَ عَمَلًا صَالِحًا لَوْ سَلِمَ مِنْ الْبِدْعَةِ أَعْنِي أَنْ يُتَّخَذَ ذَلِكَ سُنَّةً أَوْ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا بَعْضُ مَنْ لَا يَعْتَنِي بِحِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَإِشَارَاتِهِ، وَهِيَ إدْخَالُ الْمَيِّتِ فِي الْفَسْقِيَّةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَهِيَ بِدْعَةٌ فِي نَفْسِهَا فَكَيْفَ بِمَا يُفْعَلُ فِيهَا. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَفْرِشُونَ فِيهَا تَحْتَ الْمَيِّتِ طَرَّاحَةً أَوْ قَطِيفَةً أَوْ غَيْرَهُمَا، وَيَضَعُونَ تَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةً وَيُغَطُّونَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُضْطَجِعٌ فِي بَيْتِهِ وَيَجْعَلُونَ عِنْدَهُ مِنْ الْمَشْمُومِ مَا أَمْكَنَهُمْ مِنْ الْيَاسَمِينِ وَالرَّيْحَانِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُبَيِّتُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِيهَا وَمَوْضِعُ الْفَسْقِيَّةِ فِيهِ ظُلْمَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ يَدْخُلُ مِنْهُ الضَّوْءُ إلَّا مِنْ مَوْضِعِ بَابِهَا، وَهُوَ ضَيِّقٌ، فَيَحْتَاجُونَ فِي غَالِبٍ إلَى دُخُولِ الضَّوْءِ مَعَهُمْ. وَذَلِكَ فِيهِ تَفَاؤُلٌ بِدُخُولِ النَّارِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ يُوقِدُ الشَّمْعَ وَيَتْرُكُهُ مَوْقُودًا عِنْدَهُ؛ لِئَلَّا يَبْقَى فِي الظَّلَامِ، وَيَسُدُّ عَلَيْهِ بَابَ الْفَسْقِيَّةِ، فَهَذَا فِيهِ إضَاعَةُ الْمَالِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّفَاؤُلِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، وَقَدْ يَقَعُ ذَلِكَ عَلَى الْمَيِّتِ قَبْلَ أَنْ يُطْفَأَ فَيَحْرِقُهُ، أَوْ يَحْرِقَ مَا عَلَيْهِ أَوْ يَحْرِقَ غَيْرَهُ إنْ كَانَ مَعَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْوَقُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُومُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ؛ لِأَنَّ الْفَسْقِيَّةَ إذَا سُدَّ بَابُهَا امْتَنَعَ دُخُولُ الْهَوَاءِ إلَيْهَا، وَالنَّارُ لَا تَتَّقِدُ إلَّا

مَعَ وُجُودِ الْهَوَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَمَدَتْ فِي الْغَالِبِ لَكِنْ قَدْ لَا تَخْمَدُ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ الْمَوْتَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَرِيقِ، وَلِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ خَشَاشٍ وَهَوَامَّ. وَقَدْ «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُكَلَّفَ أَنْ يُطْفِئَ الْمِصْبَاحَ قَبْلَ نَوْمِهِ» ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ نَارًا وَالنَّوْمُ هُوَ الْوَفَاةُ الصُّغْرَى، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مَعَهُ فَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْكُبْرَى مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَجَعْلُ الْمَيِّتِ فِي الْفَسْقِيَّةِ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فِي تَرْكِ الدَّفْنِ وَكَفَى بِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ فِي الْفَسْقِيَّةِ غَيْرُ مَدْفُونٍ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ جَعْلِهِ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَوْ فِي بَيْتٍ وَيُغْلَقُ عَلَيْهِ، فَهَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَدْفُونٌ فَقَدْ تَرَكُوا الدَّفْنَ وَهُوَ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ امْتَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ عَلَيْنَا بِالدَّفْنِ فَقَالَ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] فَالسَّتْرُ فِي الْحَيَاةِ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ فِي خَلْوَتِهِ مِمَّا يَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ بِهِ وَالسَّتْرُ فِي الْمَمَاتِ سَتْرُ جِيَفِ الْأَبَدَانِ، وَلَوْلَا نِعْمَةُ الْقُبُورِ لَكَانَ شَنَاعَةً بَيْنَ الْأَشْكَالِ، وَيُقَالُ مَا فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنْ رَائِحَةِ جِيفَةِ الْآدَمِيِّ فَسَتَرَهُ اللَّهُ بِالدَّفْنِ إكْرَامًا لَهُ وَتَعْظِيمًا. وَمَنْ وَضَعَ فِي الْفَسْقِيَّةِ فَقَدْ تَرَكَ مَا امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةِ الدَّفْنِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ يَعُودُهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنِّي لَأَرَى أَبَا طَلْحَةَ حَدَثَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ فَإِذَا تُوُفِّيَ عَجِّلُوا بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ» ، وَمَنْ جُعِلَ فِي الْفَسْقِيَّةِ، فَأَهْلُهُ يَكْشِفُونَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ، فَقَدْ يَعْرِفُونَ مَا تَغَيَّرَ مِنْ حَالِ مَنْ كَشَفُوا عَلَيْهِ مِنْ مَوْتَاهُمْ وَيَشُمُّونَ الرَّوَائِحَ الْكَرِيهَةَ مِنْهُ، وَهُوَ يَكْرَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَنْ يُشَمَّ مِنْهُ بَعْضُ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَوْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ فَيُمْنَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ خَرْقِ حُرْمَتِهِ؛ لِأَنَّ هُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ بِمَيِّتٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ مِمَّنْ قَبْلَهُ

كَشَفُوا وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ النَّتْنِ وَالدُّودِ وَغَيْرِهِمَا، حَتَّى لَقَدْ حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً نَزَلَتْ فَسْقِيَّةً لِوَضْعِ مَيِّتٍ لَهَا فِيهَا فَوَجَدَتْ ابْنَةً لَهَا كَانَتْ قَدْ دُفِنَتْ مِنْ مُدَّةٍ فَرَأَتْ رَأْسَهَا وَوَجْهَهَا يَغْلِيَانِ دُودًا فَذَهَبَ عَقْلُهَا، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ بَابَ الْفَسْقِيَّةِ ضَيِّقٌ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ وَتُحْبَسُ فِيهِ الرَّوَائِحُ الْكَرِيهَةُ، فَإِذَا فُتِحَ لِجَعْلِ مَيِّتٍ آخَرَ، وَكَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ مِمَّنْ قَبْلَهُ خَرَجَتْ تِلْكَ الرَّوَائِحُ الْكَرِيهَةُ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ طَرِيًّا فَآذَتْ كُلَّ مَنْ حَضَرَ الْجِنَازَةَ. وَأَمَّا مَنْ يَنْزِلُ إلَيْهَا فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ النِّهَايَةَ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَرَضِهِ أَوْ مَوْتِهِ أَوْ هُمَا مَعًا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْقُبْحِ حِينَ إدْخَالِ الْمَيِّتِ الْقَبْرَ، فَهُوَ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَجْدَرُ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ بَابَهَا أَضْيَقُ مِنْ الشِّقِّ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ فِي الْقَبْرِ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ أَلْحَدَ مَيِّتًا وَسَقَطَتْ مِنْهُ فِي الْقَبْرِ نَفَقَةٌ أَوْ لُؤْلُؤَةٌ أَوْ شَيْءٌ لَهُ قِيمَةٌ كَبِيرَةٌ فَلَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ أُهِيلَ عَلَيْهِ التُّرَابُ أَوْ بَعْضُهُ هَلْ يَكْشِفُ مَا أُهِيلُ عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ وَيَأْخُذُ مَا سَقَطَ مِنْهُ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ» ، وَتَرْكُهُ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ أَوْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَشْفًا عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مُوَارَاتِهِ بِالتُّرَابِ، وَذَلِكَ خَرْقٌ لِحُرْمَتِهِ وَلِمَا يُخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ حَالُهُ إلَى أَمْرٍ مُغَيَّبٍ عَنَّا فَيَكْشِفُ عَلَيْهِ وَيَنْتَهِكُ سِتْرَهُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ لَهُ قِيمَةٌ كَبِيرَةٌ فَمَا بَالُك بِمَنْ يُكْشَفُ عَنْهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَهَذَا أَجْدَرُ بِالْمَنْعِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ بِهَتْكِ السِّتْرِ عَمَّنْ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْفَسْقِيَّةِ قَدْ يَتَغَيَّرُونَ عَنْ آخِرِهِمْ، وَهُوَ الْغَالِبُ، وَيَنْكَشِفُونَ فَيَبْقَوْنَ عُرَاةً بِمَرْأًى مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّاسِ، وَذَلِكَ كَشْفَةٌ لَهُمْ وَهَتْكٌ لِحُرْمَتِهِمْ، وَهَذَا مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ. حَتَّى لَقَدْ رُئِيَ بَعْضُ أَهْلِ الْفَسَاقِيِ، وَحِمَارٌ مَيِّتٌ قَدْ طُرِحَ عَلَيْهِمْ. فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ مَا أَشْنَعَ هَذَا وَأَقْبَحَهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعَقْلِ، فَكَيْفَ وَالشَّرِيعَةُ قَدْ نَهَتْ

عَنْهُ وَذَمَّتْهُ، فَلَا هُمْ مُمْتَثِلُونَ لِأَمْرِ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ، وَلَا هُمْ يَرْجِعُونَ لِمُقْتَضَى الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَأْبَى ذَلِكَ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: مَا حَرَمَهُمْ الشَّيْطَانُ مِنْ بَرَكَةِ الدَّفْنِ وَمَا فِيهِ مِنْ السَّتْرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْفُونَ إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ الْفَضَلَاتُ شَرِبَتْهَا الْأَرْضُ فَيَبْقَى نَظِيفًا فِي قَبْرِهِ، وَمَنْ وُضِعَ فِي الْفَسْقِيَّةِ يَنْمَاعُ فِي النَّجَاسَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَتَحَلَّلُ مِنْ جَسَدِهِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ إدْخَالَهُ فِي الْفَسْقِيَّةِ فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الْفَخْرِ وَالْكِبْرِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ مَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْمُتَكَبِّرُونَ، وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ ذُلٍّ وَافْتِقَارٍ وَاضْطِرَارٍ وَإِظْهَارِ مَسْكَنَةٍ وَاحْتِيَاجٍ لَا إظْهَارِ الْعِزِّ وَالْكِبْرِ. الْوَجْهُ التَّاسِعُ: مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَبْلِيطِ الْفَسْقِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يَنْبَغِي فَمَا بَالُك بِهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ إذْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يَبْنِ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ» ، فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَمْتَثِلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: مَا زَادَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَبْيِيضِ دَاخِلِ الْفَسْقِيَّةِ حَتَّى تَبْقَى كَالْبُيُوتِ الَّتِي يَتَفَاخَرُ بِهَا أَبْنَاءُ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي حَالِ الْحَيَاةِ. وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّبْلِيطِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ بَلْ هَذَا أَشَدُّ. الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ سَبَبٌ لِانْبِعَاثِ الْحَشَرَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْمَاعُ فِي قَبْرِهِ فَتَكْثُرُ الرَّوَائِحُ لِعَدَمِ التُّرَابِ، وَالْحَشَرَاتُ تَتْبَعُ الرَّوَائِحَ حَيْثُ كَانَتْ، وَكَذَلِكَ الْكِلَابُ وَالسِّبَاعُ وَالذِّئَابُ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْقَبْرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْفَضَلَاتِ مِنْ الْمَيِّتِ. الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَيْسِيرِ السَّرِقَةِ عَلَى مَنْ أَرَادَهَا، وَالسَّرِقَةُ مَعْصِيَةٌ كُبْرَى إذَا كَانَتْ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ فَمَا بَالُك بِهَا فِي حَقِّ الْمَوْتَى، فَوَضْعُ الْمَيِّتِ فِي الْفَسْقِيَّةِ فِيهِ تَيْسِيرٌ عَلَى مَنْ اُبْتُلِيَ بِنَبْشِ الْقُبُورِ إذْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى كَبِيرِ كُلْفَةٍ فِي الدُّخُولِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَفْتَحُ الْبَابَ لَيْسَ إلَّا وَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مَا يُرِيدُهُ، وَفَاعِلُ الْمَعْصِيَةِ وَمَنْ يُيَسِّرُهَا عَلَيْهِ شَرِيكَانِ فِي الْإِثْمِ. الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشْرَ: أَنَّ مَنْ يَتَحَفَّظُ مِنْهُمْ مِنْ التَّيْسِيرِ عَلَى النَّبَّاشِ يَحْتَاجُونَ إلَى الْبِنَاءِ الْحَصِينِ وَالْأَبْوَابِ الْمَانِعَةِ وَالْحُرَّاسِ وَمَنْ يَسْكُنُ فِيهَا أَوْ إلَى جَانِبِهَا وَيَبُولُ وَيَتَغَوَّطُ، وَالسَّرَابُ سَرِيعٌ سَرَيَانُهُ

تَحْتَ الْأَرْضِ فَيَئُولُ ذَلِكَ إلَى تَنْجِيسِ مَنْ هُنَاكَ مِنْ الْمَوْتَى بِنَجَاسَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ يَحْتَاجُ إلَى كُلْفَةٍ مِنْ تَحْصِيلِ دُنْيَا لِأَجْلِ الْبَوَّابِ وَالْقَيِّمِ وَالْخَادِمِ وَمَنْ يَحْرُسُ وَجَعْلِ صِهْرِيجٍ لَهُمْ فَتَزِيدُ النَّدَاوَةُ بِذَلِكَ فَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ، وَقَدْ حَكَمَتْ السُّنَّةُ بِالدَّفْنِ فِي الصَّحْرَاءِ لِلسَّلَامَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ. الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: مَا فِي فِعْلِهَا مِنْ ارْتِكَابِ النَّهْيِ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَانَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ» وَمَا كَانَ ابْتِدَاءُ فِعْلِهَا إلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ فَسَرَى ذَلِكَ إلَى بَعْضِ النَّاسِ مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ بِارْتِكَابِ هَذَا النَّهْيِ الصَّرِيحِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ مَنْ دُفِنَ فِي الْقُبُورِ عَلَى مَا أَحْكَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ لَهُ حُرْمَةٌ لِكَوْنِ قَبْرِهِ ظَاهِرًا فَلَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ حَفْرُهُ وَلَا أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ سَرَابًا بِخِلَافِ الْفَسْقِيَّةِ، فَإِنَّهَا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ غَيْرَ مُرْتَفِعَةٍ كَالْقَبْرِ فِي الْغَالِبِ، وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ أَثَرٌ يُعْرَفُ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى الْبِنَاءِ عَلَيْهَا حَيْثُ دَثَرُوهَا أَوْ غَيْرُهُ مِنْ إرْسَالِ سَرَابٍ أَوْ جَعْلِ مِرْحَاضٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّهَا قَدْ تَنْخَسِفُ وَهُوَ الْغَالِبُ فَيَتَضَرَّرُ بِهَا مَنْ تَنْخَسِفُ بِهِ، وَقَدْ يَهْلَكُ ثُمَّ تَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مَعْبَرَةً لِمَنْ يَمُرُّ بِهَا وَشُنْعَةً عَلَى مَنْ فِيهَا حَتَّى إنَّ بَعْضَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرْعَ لَيُطِيلُ النَّظَرَ فِيهَا حَتَّى يَعْرِفَ الذَّكَرَ مِنْ الْأُنْثَى، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ سِيَّمَا إنْ وَقَعَ السَّيْلُ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِي الْكَشَفَةِ وَهَتْكِ السِّتْرِ وَذَهَابِ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ. الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: مَنْ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِي فَسْقِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِيمَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَوْصَى أَنْ يُبْنَى عَلَى قَبْرِهِ بَيْتٌ فَقَالَ: لَا وَلَا كَرَامَةَ. فَالْمَنْعُ هُنَا مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى. الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّهَا تَبْقَى مَأْوَى اللُّصُوصِ وَمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ فَيَخْتَبِئُونَ فِيهَا وَيَجْعَلُونَ فِيهَا مَا يَخْتَارُونَ مِنْ السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يَتَصَرَّفُوا فِي ذَلِكَ وَكَانَتْ سَبَبًا لِلسَّتْرِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ. الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْفَسْقِيَّةَ تُمْسِكُ مَوَاضِعَ

نقش اسم الميت وتاريخ موته على القبر

جَمَاعَةٍ مِنْ الْمَوْتَى، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ وَقْفًا فَيَكُونُ غَاصِبًا لِمَا عَدَا مَوْضِعَ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِلْغَيْرِ مِمَّنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِيهَا إلَّا قَدْرَ ضَرُورَتِهِ، وَهُوَ مَا يُوَارِيهِ مِنْهَا إذَا مَاتَ. وَأَشَدُّ مَنْعًا مِنْ الْفَسْقِيَّةِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى كُلْفَةِ النَّفَقَةِ فِي الْفَسْقِيَّةِ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ أَنْزَلُوهُ عَلَى الْمَيِّتِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُمْ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيُوصِي بِذَلِكَ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْكَشْفَ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مُوَارَاتِهِ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ حُبِسَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَهُ فِيهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ فِيهِ مِنْ الْحَرَارَةِ أَوْ السَّبْخَةِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَيِّتَ الْأَوَّلَ قَدْ فَنِيَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَنْ مِثْلَ الْمُعَلَّا بِمَكَّةَ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ وَالْبَقِيعِ بِالْمَدِينَةِ لِشِدَّةِ سَبْخَتِهِ فَيَبْلَى الْمَيِّتُ فِيهِمَا سَرِيعًا حَتَّى إنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَّا التُّرَابُ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَحْرُثُ الْبَقِيعَ بَعْدَ سِنِينَ وَيَدْفِنُ فِيهِ أَعْنِي قُبُورَ مَنْ تَحَقَّقَ خُلُوُّ الْقَبْرِ مِنْهُمْ؛ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّعْلِيلِ وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا بَعْضُهُمْ، وَهِيَ جَعْلُ الرُّخَامِ عَلَى الْقُبُورِ، وَهِيَ بِدْعَةٌ وَسَرَفٌ وَإِضَاعَةُ مَالٍ وَفَخْرٌ وَخُيَلَاءُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا حَوَالَيْهِ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ أَلْوَاحًا مِنْ خَشَبٍ عِوَضًا عَنْ الرُّخَامِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ دَرَابْزِينَ إذْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ صِفَةُ الْقَبْرِ عَلَى السُّنَّةِ، فَكُلُّ مَا خَالَفَهَا فَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَإِضَاعَةُ مَالٍ وَفَخْرٌ وَخُيَلَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ. [نَقْشِ اسْمِ الْمَيِّتِ وَتَارِيخِ مَوْتِهِ عَلَى الْقَبْرِ] وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ نَقْشِ اسْمِ الْمَيِّتِ وَتَارِيخِ مَوْتِهِ عَلَى الْقَبْرِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ فِي الْحَجَرِ الْمُعَلَّمِ بِهِ قَبْرُهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَجَرُ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ كَانَ النَّقْشُ عَلَى الْبِنَاءِ الَّذِي اعْتَادُوهُ عَلَى الْقَبْرِ مَعَ كَوْنِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ مَمْنُوعًا كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ كَانَ فِي بَلَاطَةٍ مَنْقُوشَةٍ أَوْ فِي لَوْحٍ مِنْ خَشَبٍ. وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَى عَمُودٍ كَانَ رُخَامًا أَوْ غَيْرَهُ، وَالرُّخَامُ أَشَدُّ كَرَاهَةً. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَمُودُ مِنْ خَشَبٍ فَيُمْنَعُ أَيْضًا. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى الْبِدْعَةِ كَيْفَ تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمِ

أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمَّا أَنْ ارْتَكَبَ بِدْعَةَ النَّقْشِ، وَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَاحْتَوَتْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى اسْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ثُمَّ تَنْدَثِرُ تِلْكَ التُّرْبَةُ وَيَنْدَثِرُ أَهْلُهَا وَمَعَارِفُهَا فَيَقَعُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ إنْ سَلِمَ مِنْ السَّرِقَةِ، وَقَدْ يَبِيعُهُ السَّارِقُ لِمَنْ يَجْعَلُهُ فِي مَوَاضِعَ لَا تَلِيقُ بِهِ مِثْلُ عَتَبَةِ بَابٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ مِرْحَاضٍ وَيَجْعَلُ نَاحِيَةَ الْكِتَابَةِ إلَى الْأَرْضِ إنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَلَا يَشْعُرُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ فِيهِ، وَأَمَّا إنْ بَاعَهُ لِنَصْرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ فَذَلِكَ أَعْظَمُ؛ لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ امْتِهَانَ مَا تُعَظِّمُهُ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، وَإِنْ سَلِمَ مِنْ السَّرِقَةِ فَيَبْقَى مَوْطُوءًا بِالْأَقْدَامِ مُمْتَهَنًا حَتَّى كَأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ. وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يُوقَفَ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ عَمُودٌ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَشْ عَلَيْهِ شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رُخَامٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخُيَلَاءِ وَالسَّرَفِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَمَا بَالُك بِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ. وَفِيهِ مِنْ الْقُبْحِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُرِيدُ الظُّهُورَ وَبَقَاءَ اسْمِهِ وَأَثَرِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ إنْ كَانَ وَصَّى بِذَلِكَ، أَوْ كَانَ يُحِبُّهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَفَعَلَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَبِدْعَةُ ذَلِكَ مُخْتَصَّةٌ بِفَاعِلِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ. وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ مَآثِرِ الصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ مَنْقُوشًا عَلَى الْقَبْرِ أَوْ عَلَى جِدَارٍ أَوْ فِي وَرَقَةٍ مَلْصُوقَةٍ هُنَاكَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَمْنُوعًا فَمَا بَالُك بِالشَّمَعِ الْغَلِيظِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَيْسَتْ بِهِ حَاجَةٌ لِلْوَقُودِ لَوْ كَانَ سَائِغًا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إضَاعَةَ مَالٍ. وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَعْلِيقِ قِنْدِيلٍ عَلَى قَبْرِ مَنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْخَيْرِ، وَالنَّاسُ يَعْتَقِدُونَهُ لِيَأْتِيَ النَّاسُ إلَى مَكَانِ الضَّوْءِ فَيَزُورُونَهُ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْوَاجِبَ مِثْلُ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ إذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَّا أَنْ يَرْتَكِبَ مُحَرَّمًا كَإِخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا وَمَا يُشْبِهُهُ، فَإِنَّ الْفَرْضَ سَاقِطٌ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْفَرْضِ فَمَا بَالُك بِهِ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَزِيَارَةُ

الْقُبُورِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فَكَيْفَ تُفْعَلُ مَعَ وُجُودِ مَفَاسِدَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا يَقَعُ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ بِاللَّيْلِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفَرَّقُوا فِي الْأَقَالِيمِ وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِيهَا فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ نُقِشَ عَلَى قَبْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا عُلِّقَ عَلَيْهِ قِنْدِيلٌ وَلَا عُمِلَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَيَدُلُّك عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَّا الْفَذُّ النَّادِرُ، وَهُمْ الْقُدْوَةُ وَنَحْنُ الْأَتْبَاعُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ لَبَادَرَتْ الْأُمَّةُ إلَى فِعْلِهِ وَلَاشْتُهِرَ الْحُكْمُ فِيهِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَخِّرِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَيْضًا فَفِي النَّقْشِ عَلَى الْقَبْرِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُرِيدُونَ الشُّهْرَةَ لِقُبُورِ أَوْلِيَائِهِمْ فَيَنْقُشُونَ عَلَيْهَا اسْمَ مَنْ مَضَى مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِكَيْ يَهْرَعَ النَّاسُ إلَى زِيَارَتِهِمْ، وَهَذَا النَّوْعُ كَثِيرًا مَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ بِدِينِهِمْ وَالْفَسَقَةِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى الْقَبْرِ سَقْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَيَجْعَلُونَ هُنَاكَ تَصَاوِيرَ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِظْلَالِ بِالسَّقْفِ الَّذِي فِيهِ الذَّهَبُ هَلْ يَجُوزُ لِلْأَحْيَاءِ أَنْ يَدْخُلُوا تَحْتَهُ أَمْ لَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَمْنُوعًا فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ الْمَوْتَى إذْ إنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى إظْهَارِ الْفَقْرِ وَالِاحْتِيَاجِ وَالِاضْطِرَارِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَحْيَاءِ، وَفِي فِعْلِ السَّقْفِ الْمُذْهَبِ مِنْ ظُهُورِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ الْمَوْتَى لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَأَمَّا الصُّوَرُ فَهِيَ نَقِيضُ الْمُرَادِ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَحْضُرُ مَوْضِعًا فِيهِ صُورَةٌ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَطْلُبُونَ حُضُورَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ مَيِّتِهِمْ رَجَاءَ بَرَكَتِهِمْ لِيُغْفَرَ لَهُ، فَإِذَا امْتَنَعَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ الْحُضُورِ حَصَلَ ضِدُّ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبِدْعَةُ إذَا عُمِلَتْ فِي شَيْءٍ كَثُرَتْ الْمَفَاسِدُ فِيهِ وَقَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ بِضِدِّ مَا هِيَ السُّنَّةُ، فَإِنَّهَا إذَا اُمْتُثِلَتْ

فصل استحباب تهيئة طعام لأهل الميت

فِي شَيْءٍ أَنَارَ وَاسْتَنَارَ وَتَجَمَّلَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ [فَصْلٌ اسْتِحْبَابُ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ] (فَصْلٌ) وَيُسْتَحَبُّ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ مَا لَمْ يَكُنْ الِاجْتِمَاعُ لِلنِّيَاحَةِ وَشِبْهِهَا لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّقَرُّبِ إلَى الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَالْبِرِّ لَهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا. وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِمْ: يَنْبَغِي لِقَرَابَةِ الْمَيِّتِ أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ طَعَامًا يُشْبِعُهُمْ قَالُوا: وَأَمَّا إصْلَاحُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا وَجَمْعُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ التَّلْبِينَةُ مِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّهَا تُذْهِبُ الْحُزْنَ. وَصِفَتُهَا أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةً كَأَنَّهَا الْمَاءُ إلَّا أَنَّهَا بَيْضَاءُ لِأَجْلِ الدَّقِيقِ الَّذِي يُعْمَلُ فِيهَا، وَيُجْعَلُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمِلْحِ قَدْرَ قِوَامِهَا. وَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْ الزَّيْتِ أَوْ الشَّيْرَجِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَدْهَانِ، ثُمَّ يُوقَدُ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْضَجَ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْخَنَ مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ الْحَرِيرَةُ لَا التَّلْبِينَةُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمُوا شُرْبَهَا عَلَى الطَّعَامِ لِمَا تَقَدَّمَ. فَلَوْ جَاءَهُمْ الطَّعَامُ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِمَا فَضَلَ عَنْهُمْ أَوْ يُهْدُوهُ لِمَنْ يَخْتَارُونَ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ جَمْعِ النَّاسِ عَلَى الْعَقِيقَةِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: تُشْبِهُ الْوَلَائِمَ وَلَكِنْ يَأْكُلُونَ مِنْهَا وَيُطْعِمُونَ وَيُهْدُونَ إلَى الْجِيرَانِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُ فِي الْعَقِيقَةِ، فَمَا بَالُك بِهِ فِي الطَّعَامِ الَّذِي اعْتَادَ بَعْضُهُمْ عَمَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَيِّتِ وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ لَهُ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ إذَا دُعِيَ إلَى الْعُرْسِ أَجَابَ وَإِذَا دُعِيَ إلَى الْخِتَانِ انْتَهَرَ الَّذِي دَعَاهُ أَوْ رَمَاهُ بِالْحَصَى، وَقَالَ: لَا يُجِيبُكُمْ إلَّا أَهْلُ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: الْوَلِيمَةُ أَوَّلُ يَوْمٍ حَقٌّ وَالثَّانِي مَعْرُوفٌ وَالثَّالِثُ سُمْعَةٌ وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ. وَقَالَ أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَنْ

صَنَعَ طَعَامًا لِرِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ لَمْ يَسْتَجِبْ اللَّهُ لِمَنْ دَعَا لَهُ، وَلَمْ يُخْلِفْ اللَّهُ عَلَيْهِ نَفَقَةَ مَا أَنْفَقَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، فَمَا بَالُك بِمَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْمَيِّتِ يَعْمَلُونَ الطَّعَامَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَيَجْمَعُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ عَكْسَ مَا حُكِيَ عَنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلْيَحْذَرْ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَلَا بَأْسَ بِفِعْلِهِ لِلصَّدَقَةِ عَنْ الْمَيِّتِ لِلْمُحْتَاجِينَ وَالْمُضْطَرِّينَ لَا لِلْجَمْعِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُتَّخَذْ ذَلِكَ شِعَارًا يُسْتَنُّ بِهِ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْقُرْبِ أَفْضَلُهَا مَا كَانَ سِرًّا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يُوقِدُونَ السِّرَاجَ أَوْ الْقِنْدِيلَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمَيِّتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِهَا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مِثْلَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ الْمَيِّتُ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَضَعُونَ حَجَرًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمَيِّتُ، وَيَجْعَلُونَ عَلَيْهِ سِرَاجًا يُوقَدُ إلَى الصُّبْحِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ ثِيَابَ الْمَيِّتِ لَا تُغْسَلُ إلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ عَنْهُ عَذَابَ الْقَبْرِ، وَذَلِكَ تَحَكُّمٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ وَلِيَّ الْمَيِّتِ يَعْمَلُ الْعِشَاءَ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ مَائِدَةَ الطَّعَامِ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ إلَّا الَّذِي وَضَعَهَا. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ الْمَيِّتُ يُوضَعُ فِيهِ رَغِيفٌ وَكُوزُ مَاءٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ لَا يَأْكُلُ أَهْلُهُ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ دَفْنِهِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى الْبَيْتِ مِنْ الدَّفْنِ لَا يَدْخُلُونَ الْبَيْتَ حَتَّى يَغْسِلُوا أَطْرَافَهُمْ مِنْ أَثَرِ الْمَيِّتِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْتِزَامِ الْبُكَاءِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً حِينَ الْغَدَاةِ وَالْعِشَاءِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْمَيِّتَ عِنْدَ خُرُوجِ

رُوحِهِ لَا يَعْمَلُ شُغْلًا حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا عَطَسَ عَلَى الطَّعَامِ يَقُولُونَ لَهُ: كَلِّمْ فُلَانًا أَوْ فُلَانَةَ مِمَّنْ يُحِبُّ مِنْ الْأَحْيَاءِ بِاسْمِهِ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْحَقَ بِالْمَيِّتِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْمَاءِ فِي الْبَيْتِ فِي زِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَيَطْرَحُونَهُ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ نَجَسٌ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ رُوحَ الْمَيِّتِ إذَا طَلَعَتْ غَطَسَتْ فِيهِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ وَلِيَّ الْمَيِّتِ مَا دَامَ حَزِينًا عَلَى مَيِّتِهِ لَا يَأْكُلُ مَعَ جَمَاعَتِهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ حُزْنُهُ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ حَزِنُوا عَلَيْهِ سَنَةً كَامِلَةً، لَا يَخْتَضِبُ النِّسَاءُ فِيهَا بِالْحِنَّاءِ وَلَا يَلْبَسْنَ الثِّيَابَ الْحِسَانَ، وَلَا يَتَحَلَّيْنَ، وَلَا يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَ، وَإِنْ حَصَلَ الِاضْطِرَارُ إلَى دُخُولِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ فَيُمْنَعْنَ مِنْ ذَلِكَ هُنَّ وَمَعَارِفُهُنَّ، فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ عَمِلْنَ مَا يُعْهَدُ مِنْهُنَّ مِنْ النَّقْشِ وَالْكِتَابَةِ وَالْغِشِّ الْمَمْنُوعِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيُبَادِرْنَ إلَى فِعْلِ ذَلِكَ هُنَّ وَمَنْ الْتَزَمَ الْحُزْنَ مَعَهُنَّ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِفَكِّ الْحُزْنِ، وَيَقَعُ لَهُنَّ اجْتِمَاعٌ حَتَّى كَأَنَّهُ فَرَحٌ مُتَجَدِّدٌ عِنْدَ جَمِيعِهِنَّ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَيِّتَ إذَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى زِيَارَتِهِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بَقِيَ خَاطِرُهُ مَكْسُورًا بَيْنَ الْمَوْتَى، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَرَاهُمْ إذَا خَرَجُوا مِنْ سُورِ الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْمَوْتَى يَتَفَاخَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ بِالْأَكْفَانِ وَحُسْنِهَا، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ الْمَوْتَى فِي كَفَنِهِ دَنَاءَةٌ يُعَايِرُونَهُ بِذَلِكَ، وَيَحْكُونَ عَلَى ذَلِكَ مَنَامَاتٍ كَثِيرَةً يَطُولُ تَتَبُّعُهَا مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهِ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مِنْهُنَّ يَعِزُّ عَلَيْهَا الْمَيِّتُ تَخْرُجُ فِي جِنَازَتِهِ مَكْشُوفَةً بِغَيْرِ رِدَاءٍ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْتِزَامِ صُبْحَةِ الْقَبْرِ، وَهُوَ تَبْكِيرُهُمْ إلَى قَبْرِ مَيِّتِهِمْ الَّذِي دَفَنُوهُ بِالْأَمْسِ هُمْ وَأَقَارِبُهُمْ وَمَعَارِفُهُمْ وَأَيُّ مَنْ غَابَ مِنْهُمْ عَنْهَا وَجَدُّوا عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ تَرَكَ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا

وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ جَعْلِ بَعْضِهِمْ ثَوْبًا مَنْشُورًا عَلَى الْقَبْرِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ فَرْشِ الْبُسُطِ وَغَيْرِهَا فِي التُّرْبَةِ لِمَنْ يَأْتِي إلَى الصُّبْحَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَمَنْعِهِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ نَصْبِ الْخَيْمَةِ عَلَى الْقَبْرِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ وُقُودِ الشَّمَعِ وَغَيْرِهِ فِي اللَّيْلِ عَلَى الْقَبْرِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرُبَ الْمَيِّتَ بِشَيْءٍ مِنْ أَثَرِ النَّارِ أَصْلًا؛ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ إتْبَاعِ الْمَيِّتِ بِالنَّارِ فَمَا بَالُك بِهَا تُوقَدُ عِنْدَ الْقَبْرِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ إذَا دَفَنُوا الْمَيِّتَ سَكَنُوا عِنْدَهُ مُدَّةً فِي بَيْتٍ فِي التُّرْبَةِ أَوْ قُرْبِهَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُوقِدُونَ الْأَحْطَابَ الْكَثِيرَةَ لِضَرُورَاتِهِمْ فَيَتَفَاءَلُونَ عَلَيْهِ بِوُقُودِهَا عِنْدَهُ وَيَبُولُونَ وَيَتَغَوَّطُونَ هُنَاكَ، وَبَعْضُهُمْ يَقْعُدُ لِتَمَامِ الشَّهْرِ وَيَتَعَاهَدُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَفْعَلُونَ عِنْدَهُ الْأَشْيَاءَ الْمَعْهُودَةَ مِنْهُمْ فَتَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَيْهِ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا مَوْضِعُ النَّهْيِ؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَقَابِرِ. وَقَدْ حَمَلَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ النَّهْيَ عَلَى جُلُوسِ الْإِنْسَانِ لِحَاجَتِهِ عَلَى الْقَبْرِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَهُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ وَتُنَشِّفُهُ الشَّمْسُ وَتُنَشِّفُهُ الرِّيَاحُ وَيَشْرَبُهُ التُّرَابُ وَيُزِيلُهُ مَنْ رَآهُ غَالِبًا فَمَا بَالُك بِمَا يَفْعَلُونَهُ حِينَ إقَامَتِهِمْ عِنْدَهُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ الْكَثِيرِ فِي الْكَنِيفِ الَّذِي هُنَاكَ فَتَسْرِي الرُّطُوبَةُ النَّجِسَةُ إلَى الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْأَرْضِ فَتُسْرِعُ النَّجَاسَةُ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ فِعْلِ الثَّالِثِ لِلْمَيِّتِ وَعَمَلِهِمْ الْأَطْعِمَةَ فِيهِ حَتَّى صَارَ عِنْدَهُمْ كَأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ وَيُشِيعُونَهُ كَأَنَّهُ وَلِيمَةُ عُرْسٍ وَيَجْمَعُونَ لِأَجْلِهِ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ مِنْ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَالْمَعَارِفِ، فَإِنْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يَأْتِ وَجَدُوا عَلَيْهِ الْوَجْدَ الْعَظِيمَ. ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَقْرَءُوا هُنَاكَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَلَى عَوَائِدِهِمْ الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّطْرِيبِ الْخَارِجِ عَنْ حَدِّ الْقِرَاءَةِ

الْمَشْرُوعَةِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا، وَيَأْتُونَ مَعَ ذَلِكَ بِالْفُقَرَاءِ يَذْكُرُونَ وَيُحَرِّفُونَ الذِّكْرَ عَنْ مَوَاضِعِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْتِي بِالْمُؤَذِّنِينَ يُكَبِّرُونَ كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عَادَتِهِمْ. وَقَدْ صَارَ هَذَا الْحَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَكَثُرَ فِيهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ، فَكَيْفَ لَوْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. ثُمَّ انْضَمَّ إلَيْهِ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ فِيهِ التَّكْلِيفَ الْكَثِيرَ لِأَجْلِ مَا يَحْتَاجُونَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالْوَاعِظِ إلَى الرِّجَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالْوَاعِظَةِ إلَى النِّسَاءِ وَيَزِيدُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَيَنْقُصُونَ وَيُحَرِّفُونَ بَعْضَ ذَلِكَ وَيَفْهَمُونَ غَيْرَ الْمُرَادِ وَيَتَفَوَّهُونَ بِإِطْلَاقِ أَشْيَاءَ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الذَّمِّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الِاجْتِمَاعِ لِلسَّمَاعِ وَمَا فِي السَّمَاعِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَتِلْكَ الْقَبَائِحُ وَالْمَفَاسِدُ مَوْجُودَةٌ فِي الِاجْتِمَاعِ الثَّالِثِ وَالسَّابِعِ وَتَمَامِ الشَّهْرِ وَتَمَامِ السَّنَةِ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ فُعِلَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ بَيْتٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ يُمْنَعُ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ فِعْلِ التَّهْلِيلَاتِ لِمَوْتَاهُمْ وَجَمْعِهِمْ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الذِّكْرُ جَهْرًا وَجَمَاعَةً وَمَا فِيهِ. وَيَحْتَجُّونَ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ بِمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ بَعْضَ الْمَوْتَى فِي عَذَابٍ فَذَكَرَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ ثُمَّ أَهْدَاهَا لَهُ، فَرَآهُ فِي مَنَامِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ غُفِرَ لَهُ بِإِهْدَائِهِ لَهُ ثَوَابَ السَّبْعِينَ أَلْفًا. وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنَامٌ، وَالْمَنَامُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهَا وَحْدَهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَأَهْدَى لَهُ ثَوَابَهَا وَلَمْ يَجْمَعْ لِذَلِكَ النَّاسَ كَمَا يَفْعَلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الشُّهْرَةِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ، أَمَّا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَأَهْدَى ثَوَابَهُ لِمَنْ شَاءَ فَلَا يُمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ خَيْرًا وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَرْكِ الْفُرُشِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَيِّتِ

لِجُلُوسِ مَنْ يَأْتِي إلَى التَّعْزِيَةِ فَيَتْرُكُونَهَا كَذَلِكَ حَتَّى تَمْضِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُزِيلُونَهَا. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ زَرْعِ شَجَرَةٍ أَوْ صَبَّارَةٍ أَوْ رَيْحَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَيُعَلِّلُونَهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُ مَوْضِعَ الْخُضْرَةِ تَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى. وَالثَّانِي: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَنْ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ، وَهُمَا يُعَذَّبَانِ فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ فَجَعَلَ نِصْفَهَا عَلَى أَحَدِ الْقَبْرَيْنِ وَالنِّصْفَ الثَّانِيَ عَلَى الْآخَرِ، وَقَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» . وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَيَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَ الدَّفْنُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَبْقَى الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ نَظِيفًا لِعَطَشِ الْأَرْضِ الَّتِي يُدْفَنُ فِيهَا الْمَيِّتُ، فَأَيُّ فَضْلَةٍ خَرَجَتْ شَرِبَهَا التُّرَابُ، وَالْغَرْسُ عِنْدَ الْقَبْرِ يَسْتَدْعِي ضِدَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى السَّقْيِ بِالْمَاءِ، وَذَلِكَ يُزِيلُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ لِأَجْلِ أَنَّ الْقَبْرَ يَبْقَى مَبْلُولًا مِنْ دَاخِلِهِ فَلَا يَشْرَبُ الْفَضَلَاتِ فَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَيَصِيرُ إذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ دَفْنِهِ فِي الْأَرْضِ التُّرْبَةِ أَوْ يُنْقَرُ لَهُ فِي الْحَجَرِ الصُّلْبِ وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» رَاجِعٌ إلَى بَرَكَةِ مَا وَقَعَ مِنْ لَمْسِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِتِلْكَ الْجَرِيدَةِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُلُوكِ لَهُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ عَقِبَهُ: وَذَلِكَ لِبَرَكَةِ يَدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَمَا نُقِلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَمْ يَصْحَبْهُ عَمَلُ بَاقِيهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - إذْ لَوْ فَهِمُوا ذَلِكَ لَبَادَرُوا بِأَجْمَعِهِمْ إلَيْهِ، وَلَكَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الدَّفْنُ فِي الْبَسَاتِينِ مُسْتَحَبًّا. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ شَرْحِ مَعَالِمِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَمَّا «غَرْسُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِقَّ الْعَسِيبِ عَلَى الْقَبْرِ» ، وَقَوْلُهُ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» ، فَإِنَّهُ مِنْ نَاحِيَةِ التَّبَرُّكِ بِأَثَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدُعَائِهِ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ

فصل في أحكام الولادة

مُدَّةَ بَقَاءِ النَّدَارَةِ فِيهِمَا حَدًّا لِمَا وَقَعَتْ بِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ فِي الْجَرِيدِ الرَّطْبِ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْيَابِسِ، وَالْعَامَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْبُلْدَانِ تَغْرِسُ الْخُوصَ فِي قُبُورِ مَوْتَاهُمْ وَأَرَاهُمْ ذَهَبُوا إلَى هَذَا، وَلَيْسَ لِمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ ذَلِكَ وَجْهٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ "، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْمُلُوخِيَّةَ مَا دَامُوا فِي الْحُزْنِ عَلَى مَيِّتِهِمْ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِمَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهَا مُجَمِّعَةُ الْأَحْبَابِ، فَإِذَا أَكَلُوهَا تَذَّكَّرُوا بِهَا مَيِّتَهُمْ فَيَتَجَدَّدُ عَلَيْهِمْ الْحُزْنُ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ السَّمَكَ مُدَّةَ حُزْنِهِمْ عَلَى مَيِّتِهِمْ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْأَحْدَاثِ وَالْبِدَعِ فِي الدِّينِ وَتَرْكِ الْوُقُوفِ مَعَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُذْكَرَ هَذَا وَلَا يُعَرَّجَ عَلَيْهِ لِظُهُورِ بَاطِلِهِ وَسَمَاجَتِهِ وَقُبْحِهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الشَّرْطُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَائِدِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِهَا لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لَا رَبَّ سِوَاهُ وَلَا مَرْجُوَّ إلَّا إيَّاهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. [فَصْلٌ فِي أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ] فَصْلٌ فِي ذِكْرِ النِّفَاسِ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَصْلُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ غُسْلُ الْمَيِّتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِمَّا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ أَوَّلًا ثُمَّ الْمَوْتَ بَعْدَهُ. لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَانَتْ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ تَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ تَأَخَّرَ ذِكْرُهَا. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَخِّرُوهُنَّ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» ، فَظُهُورُ الْوَلَدِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ هُوَ أَوَّلُ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ. فَيَنْبَغِي بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى وَلِيِّ الْمَوْلُودِ أَنْ يَكُونَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، وَيَتَّبِعَ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ فِي حَقِّهِ لِتَعُودَ بَرَكَتُهَا عَلَى الْمَوْلُودِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَبَعْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُحْتَضَرَ عِنْدَ مَوْتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحْسَنِ حَالَاتِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ الْخِتَامُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ مِثْلَهُ حِينَ بُرُوزِهِ

إلَى الدُّنْيَا. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَنَّ الْحَفَظَةَ إذَا صَعِدُوا بِعَمَلِ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَتْ الصَّحِيفَةُ أَوَّلُهَا مُبَيَّضًا وَآخِرُهَا مُبَيَّضًا بِالْحَسَنَاتِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْت لَهُ مَا بَيْنَهُمَا أَوْ كَمَا وَرَدَ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَفِيهِ: «كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِ الْمَوْلُودِ حِينَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ بِأَنْ تُمْتَثَلَ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ، وَالْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ وَلِيُّهُ فَلَعَلَّ أَنْ تَحْصُلَ لَهُ بَرَكَةُ الِامْتِثَالِ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِ إلَى الدُّنْيَا وَفِي خُرُوجِهِ مِنْهَا فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ قُوَّةُ الرَّجَاءِ فِي الْعَفْوِ عَمَّا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مَاشِيًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ الْمَوْلُودِ عَلَى طَرِيقِ السُّنَّةِ وَالْمَنْهَجِ الْأَقْوَمِ وَلَا يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى عَوَائِدِ أَكْثَرِ أَهْلِ وَقْتِهِ قَوِيَ الرَّجَاءُ فِي التَّخَلُّصِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَيْفِيَّةِ مَوْتِ الْمُحْتَضَرِ وَفِي دَفْنِهِ مَا أَحْدَثُوا فِيهِ مِنْ الْبِدَعِ، هَذَا وَالْمُبَاشِرُ لِذَلِكَ الرِّجَالُ غَالِبًا، وَمُبَاشَرَةُ الرِّجَالِ لِلْعُلَمَاءِ أَكْثَرُ مِنْ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ مُحْتَجِبَاتٌ وَتَرَبَّيْنَ فِي الْجَهْلِ غَالِبًا بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلِأَجْلِ بُعْدِهِنَّ عَنْ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ غَالِبًا اتَّخَذْنَ عَوَائِدَ رَدِيئَةً مُتَعَدِّدَةً قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ خَالَفْنَ فِيهَا الشَّرِيعَةَ الْمُطَهَّرَةَ. فَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَوْلُودِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَيْهِنَّ وَلَا إلَى رَأْيِهِنَّ وَلَا إلَى عَوَائِدِهِنَّ، وَإِنْ غَضِبْنَ أَوْ تَشَوَّشْنَ أَوْ آلَ أَمْرُهُ مَعَهُنَّ إلَى هَجْرِهِنَّ أَوْ فِرَاقِهِنَّ؛ لِأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ إنَّمَا هِيَ مَطْلُوبَةٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ بِالِاتِّبَاعِ وَالِامْتِثَالِ لَا بِالِابْتِدَاعِ، بَلْ الِابْتِدَاعُ إذَا فُعِلَ كَانَ قَطْعًا لِلرَّحِمِ، وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ بِهِ السُّرُورُ فِي الْوَقْتِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قَطْعٌ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى وَلِيِّ الْمَوْلُودِ أَنْ يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمَوْلُودِ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُ وَعَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَوْلُودِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَلْيَسْأَلْ عَنْ ذَلِكَ أَهْلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَبِالسُّؤَالِ تَتَبَيَّنُ لَهُ السُّنَّةُ فَيَتَّبِعُهَا وَتَظْهَرُ لَهُ الْبِدْعَةُ فَيَتَجَنَّبُهَا فَيَدْخُلُ بِذَلِكَ فِي عُمُومِ

قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] فَتَحْصُلُ لَهُ الْمَعِيَّةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَكْبَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذَا كَانَ مَعَهُ فَقَدْ أَمِنَ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ وَسَلِمَ دِينًا وَدُنْيَا. فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لِصِلَةِ رَحِمِهِ فِي حَقِّ الْمَوْلُودِ أَوَّلًا حِينَ خِطْبَةِ أُمِّهِ إنْ كَانَ وَالِدًا؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اخْتَارُوا لِنُطَفِكُمْ كَمَا تَخْتَارُونَ لِصَدَقَاتِكُمْ» هَذَا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي كَيْفِيَّةِ صِلَةِ رَحِمِهِ لِوَلَدِهِ. الْمَقَامُ الثَّانِي حِينَ الْوَطْءِ أَعْنِي فِي التَّسْمِيَةِ وَالْإِتْيَانِ بِالْآدَابِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. الْمَقَامُ الثَّالِثُ حِينَ الْوِلَادَةِ، وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمُبَارَكِينَ وَلَهُ وَلَدٌ فِيهِ بَعْضُ أَعْرَاضٍ فَكَلَّمْت وَالِدَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أُبَالِي بِهِ فَإِنِّي امْتَثَلْت السُّنَّةَ حِينَ قَرُبْت أُمَّهُ فَلَا يَكُونُ مِنْهُ إلَّا خَيْرٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ لَمَّا أَنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَكَانَتْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ بِنْتُ عَمِّهِ فَجَاءَ إلَى الْبَيْتِ فَطَلَبَ قُوتَهُ مِنْ خَارِجِ الْبَابِ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَدْخُلُ فَأَبَى فَسَأَلَهُ وَالِدُهُ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ: إنِّي قَدْ احْتَلَمْت الْبَارِحَةَ فَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَدْخُلَ وَبِنْتُ عَمِّي فِي الْبَيْتِ، فَهَذِهِ ثَمَرَةُ الِامْتِثَالِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ سَالِمَةً مِنْ الْغَرَرِ وَالْغِشِّ فَهَاهُنَا أَوْجَبُ لِيَقَعَ الِامْتِثَالُ فِي حَقِّ الْمَوْلُودِ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِ لِتَحْصُلَ لَهُ الْبَرَكَةُ وَالتَّفَاؤُلُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْقَابِلَةُ أُجْرَتُهَا مَعْلُومَةٌ يَتَّفِقُ مَعَهَا عَلَيْهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ زَادَهَا شَيْئًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْهِبَةِ لَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَحَبَّ أَنْ يُوَفِّيَهَا ذَاكَ وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَكَذَلِكَ هِيَ إنْ رَأَتْ قَبُولَهُ مِنْهُ وَإِلَّا تَرَكَتْهُ. هَذَا إنْ كَانَ وَالِدًا. وَأَمَّا إنْ كَانَ غَيْرَ وَالِدٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ إلَّا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْوَالِدُ إنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ مِنْ أَنَّ الْقَابِلَةَ تَأْتِي عَلَى غَيْرِ مَعْلُومٍ غَالِبًا فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ وَالْمُغَابَنَةِ وَالْمُنَازَعَةِ وَالْكَلَامِ الْكَثِيرِ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فِي تَرْكِ الْأُجْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ بَعْضُهُنَّ يَرَيْنَ

أَنَّ تَعْيِينَ الْأُجْرَةِ عَيْبٌ وَقِلَّةُ حِشْمَةٍ وَتَرْكُ رِيَاسَةٍ، وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ بِضِدِّ مَا قَالُوهُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ إذَا تُرِكَتْ لَا يَخْلُفُهَا إلَّا ضِدُّهَا، فَالرِّيَاسَةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فَيَتَحَرَّزُ عَنْ ضِدِّهَا جَهْدَهُ لِتَعُودَ بَرَكَةُ اتِّبَاعِهَا عَلَى الْجَمِيعِ مِنْ الْمَوْلُودِ وَالْوَلِيِّ وَالْقَابِلَةِ وَمَنْ أَعَانَ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَيَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ بَلْ يَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَسْأَلَ الْقَابِلَةَ عَنْ كَيْفِيَّةِ مُبَاشَرَتِهَا لِلْمَوْلُودِ؛ لِأَنَّ الْقَوَابِلَ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَلَّ أَنْ يَتَحَفَّظْنَ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَتُبَاشِرُ الْقَابِلَةُ دَمَ النِّفَاسِ وَغَيْرَهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَتَلْمِسُ الْمَوْلُودَ وَمَا يُجْعَلُ عَلَيْهِ مِنْ اللِّبَاسِ بِذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلِ النَّجَاسَاتِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَلْ بَعْضُ الْقَوَابِلِ يَلْعَقْنَ الْمَوْلُودَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَصَابِعِهِنَّ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَيُعَلِّلْنَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ لِكَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ «أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَأُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ بَعْدَ أَنْ لَاكَهَا فِي فَمِهِ الْكَرِيمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ثُمَّ مَضَتْ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا وُلِدَ لَهُمْ مَوْلُودٌ أَتَوْا بِهِ إلَى مَنْ يَعْتَقِدُونَ بَرَكَتَهُ وَخَيْرَهُ فَيُحَنِّكُهُ لَهُمْ رَجَاءَ بَرَكَتِهِ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ فِعْلِ الْقَابِلَةِ ضِدُّ هَذَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَمِنْهُنَّ مَنْ إذَا تَعَسَّرَتْ الْوِلَادَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَخَذْنَ لُبَابَ الْخُبْزِ وَيَجْعَلْنَ فِي قَلْبِهِ زِبْلَ الْفَأْرَةِ وَيُطْعِمْنَهَا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُ بِهِ وَيُعَلِّلْنَ ذَلِكَ بِزَعْمِهِنَّ أَنَّهُ يُهَوِّنُ عَلَيْهَا الْوِلَادَةَ، وَهَذَا بَاطِلٌ لَا شَكَّ فِيهِ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا» ، فَإِذَا كَانَ فَطَرَ الصَّبِيَّ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ عَلَى الْحَرَامِ فَقَدْ يُخَافُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْقَلْبِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ لَمْ يَقْصِدْهُ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ تَفَاؤُلٌ رَدِيءٌ فِي كَوْنِهِ أَفْطَرَ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ يَسْأَلُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ انْحَسَمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ الْفَاسِدَةُ. ثُمَّ يُعَلِّمُهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ الِاحْتِرَازِ مِنْ النَّجَاسَاتِ فِي حَقِّهَا

وَحَقِّ الْمَوْلُودِ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهَا عِلْمٌ بِذَلِكَ فَيَا حَبَّذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا عِلْمٌ مِنْهُ فَتَتَعَلَّمُ الْحُكْمَ فِيهِ بِسَبَبِ سُؤَالِهِ لَهَا عَنْهُ سِيَّمَا وَقَدْ نَشَأَ أَكْثَرُهُنَّ عَلَى عَوَائِدَ رَدِيئَةٍ اتَّخَذْنَهَا، وَقَدْ جَرَّتْ إلَى مُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةً كَمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِمَّا اتَّخَذُوهُ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ، وَهِيَ أَنَّ غَاسِلَ الْمَيِّتِ يَأْخُذُ مَا يَجِدُ عَلَيْهِ فَجَرَّ ذَلِكَ إلَى مُحَرَّمٍ وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَيِّتِ يَتْرُكُونَ مَيِّتَهُمْ مَكْشُوفًا بِلَا سُتْرَةٍ أَوْ بِشَيْءٍ يَصِفُ الْعَوْرَةَ أَوْ يَحْكِيهَا، وَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَهُوَ أَنَّهُنَّ قَدْ جَرَتْ عَوَائِدُهُنَّ أَنَّ الْقَابِلَةَ تَأْخُذُ مَا نَزَلَ فِيهِ الْمَوْلُودُ، وَذَلِكَ يَجُرُّ إلَى الضَّرَرِ بِالْمَوْلُودِ إنْ كَانَ أَهْلُهُ فُقَرَاءَ؛ لِأَنَّ أَهْلَهُ إذَا عَلِمُوا أَنَّ الْقَابِلَةَ تَأْخُذُ ذَلِكَ لَا يَعْتَنُونَ بِهِ، وَقَدْ مَضَتْ عَادَةُ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَتَبَرَّكُونَ بِأَثَرِ الْأَكَابِرِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ أَوْ هُمَا مَعًا، فَإِذَا نَزَلَ الْمَوْلُودُ فِي ثَوْبِ أَحَدِهِمْ أَوْ فِي خِرْقَةٍ مِنْ أَثَرِهِمْ، فَذَلِكَ عِنْدَهُمْ غُنْمٌ وَبَرَكَةٌ، فَإِذَا عَلِمَ أَهْلُ الْمَوْلُودِ أَنَّ الْقَابِلَةَ تَأْخُذُ ذَلِكَ أَمْسَكُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ لِلتَّبَرُّكِ فَحُرِمَ الْمَوْلُودُ بَرَكَةَ مُبَاشَرَةِ تِلْكَ الْخِرْقَةِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ إلَى الدُّنْيَا بِسَبَبِ الْبِدْعَةِ كَمَا حُرِمَ الْمَيِّتُ السُّتْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ بِسَبَبِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِي أَنَّ الْغَاسِلَ يَأْخُذُ مَا وَجَدَ عَلَى الْمَيِّتِ كَمَا سَبَقَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَفَاخَرُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ الْمَوْلُودُ حَتَّى إنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي ذَلِكَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي؛ لِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَهُ مِنْ خِرْقَةِ حَرِيرٍ غَالِبًا. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، وَقَالَ: هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا» فَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى رِجَالِ أُمَّتِي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لُبْسَهُ حَرَامٌ عَلَى الذَّكَرِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَالْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ وَلِيُّ الْمَوْلُودِ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ الْخِرْقَةَ وَلَا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ الْمَوْلُودُ أَذَكَرًا أَمْ أُنْثَى. وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ: قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ لِلذَّكَرِ الصَّغِيرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْمَنْعِ، وَأَيْضًا لَوْ قُلْنَا بِحِلِّهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي حَقِّهِ فَيُجَنِّبُهُ الْمَوْلُودَ لِتَحْصُلَ لَهُ الْبَرَكَةُ وَالتَّفَاؤُلُ الْحَسَنُ بِسَبَبِ خُرُوجِهِ مِنْ الْخِلَافِ، وَفِي

ذَلِكَ عَظِيمُ الثَّوَابِ لِوَلِيِّهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْقَوَابِلِ إذَا اسْتَحْسَنَ الْخِرْقَةَ الَّتِي أُعِدَّتْ لَأَنْ يَنْزِلَ فِيهَا الْمَوْلُودُ أَخَذْنَهَا لِأَنْفُسِهِنَّ، وَلَمْ يُبَاشِرْنَ الْمَوْلُودَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَغَيَّرَ حُسْنُهَا أَوْ يَنْقُصَ ثَمَنُهَا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَدُخُولُ الْقَابِلَةِ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مَا اعْتَادَتْهُ مِمَّا هُوَ مَجْهُولٌ يُمْنَعُ، وَإِذَا كَانَ مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تَحْصُرُهُ فَذَلِكَ سَائِغٌ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا نَقْدًا كَانَ أَوْ عَرَضًا. فَوَقَعَ بِسَبَبِ مَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ الْبِدْعَةِ أَنَّ الْفُقَرَاءَ حُرِمُوا بَرَكَةَ أَثَرِ الْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَغْنِيَاءُ وَقَعُوا فِي الْمُفَاخَرَةِ بِحُطَامِ الدُّنْيَا لِأَجْلِ مَا تَذْكُرُهُ الْقَابِلَةُ لِلنَّاسِ مِنْ الْخِرْقَةِ الْحَرِيرِ وَصِفَتِهَا الَّتِي اعْتَادُوهَا لِنُزُولِ الْمَوْلُودِ فِيهَا فَحَصَلَ الضَّرَرُ لِلْفَرِيقَيْنِ. فَإِذَا كَانَتْ الْقَابِلَةُ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ انْزَاحَ هَذَا وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ. وَيَنْبَغِي أَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ الْمَوْلُودَ يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَاتِ كَالْقَابِلَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي كُلِّ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي لَهُ قَدْرُ وَبَالٍ. فَإِذَا خَرَجَ الْمَوْلُودُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ إلَى ضَوْءِ الدُّنْيَا وَجَبَ الشُّكْرُ لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ فِي خَطَرٍ عَظِيمٍ حَتَّى إنَّهُ لَيْسَ لَهَا مِنْ مَالِهَا إلَّا الثُّلُثُ لِمَا كَانَتْ فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ، وَسَلَامَتُهَا نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ شَامِلَةٌ يَجِبُ عَلَيْهَا الشُّكْرُ، وَشُكْرُهَا امْتِثَالُ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاجْتِنَابُ نِعَمِهِ وَاتِّبَاعُ سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ كَأَنَّهَا وُهِبَتْ عُمْرًا جَدِيدًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْلُودَ إذَا خَرَجَ صَحِيحًا سَوِيًّا غَيْرَ نَاقِصٍ فَهَذِهِ نِعْمَةٌ ثَانِيَةٌ يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَبِ وَأَقَارِبِهِ وَمِنْ الْأُمِّ وَأَقَارِبِهَا عَلَى سَلَامَتِهِمْ مِنْ النَّقْصِ فِي وَلَدِهِمْ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الشُّكْرُ عَلَى تَكْثِيرِ عَدَدِهِمْ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: النِّكَاحُ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ يَغُضُّ الطَّرْفَ. وَالثَّانِي: يُحْصِنُ الْفَرْجَ. وَالثَّالِثُ: يُكْثِرُ النَّسْلَ. وَالرَّابِعُ: يُبْقِي الذِّكْرَ. وَالْخَامِسُ: يُبْقِي الْأَثَرَ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمَوْلُودُ فَقَدْ كَثُرَ بِهِ الْعَدَدُ وَرُفِعَ بِهِ الذِّكْرُ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَالْأَثَرُ إنْ كَانَتْ أُنْثَى فَيَتَعَيَّنُ الشُّكْرُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ: «أَكْثِرُوا مِنْ الْعَائِلَةِ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ بِأَيِّهِمْ

تُرْزَقُونَ» فَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْوَلَدُ لِلْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الرِّزْقِ وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنْ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ حِسًّا؛ لِأَنَّا نُشَاهِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَكُونُ فَقِيرًا ضَعِيفًا تَعِبًا مِنْ التَّكَسُّبِ بَعِيدًا مِنْ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ النَّاقِصَةِ، فَإِذَا حَدَثَ لَهُ مَوْلُودٌ ظَهَرَ أَمْرُهُ وَكَثُرَ خَيْرُهُ وَبَاشَرَ الْعُلَمَاءَ وَسَمِعَ فَوَائِدَهُمْ بِوَاسِطَةِ وَلَدِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النِّعَمِ الْمُتَرَادِفَةِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ حَبِيبًا النَّجَّارَ رُئِيَ وَهُوَ يَمْشِي فِي رِكَابِ وَلَدِهِ فَعَذَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَا عُرِفَ حَبِيبٌ إلَّا بِوَلَدِهِ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. فَقَابَلُوا هَذِهِ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ بِضِدِّهَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ بِسَبَبِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الْمُحْدَثَةِ إذْ أَنَّهُمْ إذَا ظَهَرَتْ عِنْدَهُمْ هَذِهِ النِّعَمُ أَقْبَلَ النِّسَاءُ عَلَى الزَّغْرَدَةِ وَيَرْفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الدُّفِّ وَالرَّقْصِ وَاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالِاسْتِهْتَارِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ مَعَ التَّفَاخُرِ بِمَا يَصْنَعْنَهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ الْكَثِيرَةِ وَاجْتِمَاعِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَحِرْمَانِ الْفُقَرَاءِ الْمُضْطَرِّينَ وَالْمُحْتَاجِينَ مَعَ تَشَوُّفِهِمْ وَطَلَبِهِمْ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ، وَأَكْثَرُهُنَّ يَقُمْنَ عَلَى هَذَا الْحَالِ مُدَّةَ السَّبْعَةِ أَيَّامٍ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَكُلُّ مَنْ جَاءَتْ تُهَنِّئُ جَدَدْنَ لَهَا اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ وَالرَّقْصَ وَالِاسْتِهْتَارَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ الرَّدِيئَةِ. ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْقَبَائِحِ الشَّنِيعَةِ الْمَزَامِيرُ وَالْأَبْوَاقُ عَلَى الْبَابِ تُعْمَلُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْهَرْجِ وَالشُّهْرَةِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ كَأَنَّهُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ تُتَّبَعُ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ فِعْلِهِمْ فَكَأَنَّهُ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فِي الدِّينِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا اُضْطُرَّتْ إلَى التَّصْفِيقِ فِي صَلَاتِهَا صَفَّقَتْ بِأُصْبُعَيْنِ مِنْ يَدِهَا عَلَى ظَهْرِ يَدِهَا الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ صَوْتَهَا عَوْرَةٌ فَمُنِعَتْ مِنْ الْكَلَامِ وَعُوِّضَتْ عَنْهُ التَّصْفِيقَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَمَا بَالُك بِمَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْفَظِيعَةِ سِيَّمَا عِنْدَ إحْدَاثِ هَذِهِ النِّعَمِ الْمُتَجَدِّدَةِ. وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا وَأَقْبَحُ مِنْهُ أَنَّ الْغَالِبَ مِمَّنْ يَرَاهُمْ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ يَعْلَمُ حَالَهُمْ لَا يُغَيِّرُهُ وَلَا يَسْتَقْبِحُهُ وَلَا تَشْمَئِزُّ نَفْسُهُ، بَلْ يُسَرُّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ. وَأَشَدُّ مِنْ

ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَعْظَمُهُ قُبْحًا وَشَنَاعَةً أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَوْ إلَى الْخِرْقَةِ أَوْ إلَى الْمَشْيَخَةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِمْ وَيَسْتَحْسِنُونَهُ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ بَلْ يَجْمَعُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَهُمْ إلَيْهِ وَيَذُمُّونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا يَدْعُوهُمْ إلَيْهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى الْجَهْلِ وَالْجَهْلِ بِالْجَهْلِ. وَلَيْسَ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ خَاصًّا بِأَمْرِ النِّفَاسِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ عَامٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ حَدَثَ بِهِ سُرُورٌ حَتَّى فِي الْحَاجِّ إذَا قَدِمَ فَعَلُوا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَأَمَّا فِي أَمْرِ النِّكَاحِ فَلَا تَسْأَلْ عَمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ، بَلْ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي النِّفَاسِ نُقْطَةً مِنْ بَحْرِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي النِّكَاحِ، وَهُوَ كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ قَلَّ أَنْ يَنْحَصِرَ أَوْ يَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ مَعْلُومٍ لِاخْتِلَافِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَقَالِيمِ وَالْبِلَادِ وَالْعَوَائِدِ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِ النِّفَاسِ فِيهِ غَنِيَّةٌ عَنْ الْكَلَامِ عَلَى تَفْصِيلِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي النِّكَاحِ. وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا إنْكَارٌ لِوَلِيمَةِ النِّكَاحِ بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ فِي الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ بِالدُّفِّ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنْ الصَّرَاصِرِ وَالسِّلْسِلَةِ الْحَدِيدِ اللَّتَيْنِ أُحْدِثَتَا فِيهِ، وَيَكُونُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ أَحَدَ شَخْصَيْنِ إمَّا جَارِيَةٌ مِنْ الْوَخْشِ مِمَّنْ لَا يُلْتَفَتُ إلَى صُورَتِهَا وَلَا إلَى سَمَاعِ صَوْتِهَا غَالِبًا، أَوْ حُرَّةٌ مُتَجَالَّةٌ لَا تُشْتَهَى وَلَا يُلْتَذُّ بِكَلَامِهَا بِخِلَافِ مَنْ تُشْتَهَى وَيُلْتَذُّ بِكَلَامِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ. فَهَذَا هُوَ إعْلَانُ النِّكَاحِ وَإِفْشَاؤُهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِخِلَافِ مَا تُسَوِّلُهُ الْأَنْفُسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ مِنْ الِالْتِفَاتِ إلَى الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَخَلَ إلَى بَلَدٍ فَوَجَدَ فِيهَا بَعْضَ النَّاسِ قَدْ أَصَابَهُمْ حُزْنٌ فَضَجُّوا وَأَظْهَرُوا الْمُخَالَفَةَ لِمَا أَصَابَهُمْ، وَوَجَدَ آخَرِينَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فَفَرِحُوا وَسُرُّوا وَخَرَجُوا بِذَلِكَ إلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ فَقَالَ: اُبْتُلِيَ هَؤُلَاءِ فَمَا صَبَرُوا، وَأُنْعِمَ عَلَى هَؤُلَاءِ فَمَا شَكَرُوا، فَلَا يُمَكِّنُنِي الْمُقَامُ مَعَ قَوْمٍ هَذَا حَالُهُمْ، أَوْ كَمَا قَالَ وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ. وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ إلَّا أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ

بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ إلَّا وَيَجِدُ فِيهِ مَا هُوَ مِثْلُ مَا خَرَجَ عَنْهُ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، فَلَا فَائِدَةَ إذَنْ فِي خُرُوجِهِ إلَّا حُصُولُ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ وَالِاسْتِشَارَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُبَدِّدُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ جَمْعِ خَاطِرِهِ وَالدَّأْبِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّظَرِ فِي خَلَاصِ مُهْجَتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْعَزْمُ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى آخَرَ يُوجِبُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَغَيْرُهُ. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَازِمَ عَلَى الِانْتِقَالِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُعَوَّضُ عَنْ ذَلِكَ رُسُومُ بَيْتِهِ وَتَرْكُ الْخَوْضِ فِيمَا هُمْ بِصَدَدِهِ غَيْرَ مُفَارِقٍ لِجَمَاعَتِهِمْ فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ بَرَكَةُ امْتِثَالِ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نِعْمَ الصَّوَامِعُ بُيُوتُ أُمَّتِي» ، فَإِذَا امْتَثَلَ مَا أَمَرَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ كُلِّهَا وَكَأَنَّهُ غَائِبٌ عَنْهُمْ فَلَمْ يَضُرَّهُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَكَةِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَيْءٌ مِمَّا هُمْ فِيهِ، بَلْ يَكْثُرُ أَجْرُهُ وَيَعْلُو أَمْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ بِحَسَبِ مَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْقَلِقِ وَالِانْزِعَاجِ عِنْدَ رُؤْيَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ سَمَاعِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُلَازِمٌ لِطَاعَةِ رَبِّهِ مُمْتَثِلٌ سُنَّةَ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُزَعْزِعْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، بَلْ يَرَى ذَلِكَ غَنِيمَةً بَارِدَةً سِيقَتْ لَهُ فَيَغْتَنِمُهَا وَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى مَا حَبَاهُ مِنْهَا. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَمَلُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ مَعِي» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الشُّكْرُ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْبِشَارَةِ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْوَالِدَيْنِ يَكُونُ أَنَّ عَمَلَهُمَا لَا يَنْقَطِعُ وَإِنْ مَاتَا؛ لِأَنَّ وَلَدَهُمَا مِنْ سَعْيِهِمَا وَآثَارِهِمَا، فَإِنْ كَانَ صَالِحًا فَبَخٍ عَلَى بَخٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَمَا فَعَلَ مِنْ خَيْرٍ حَصَلَ الثَّوَابُ لِوَالِدَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ، وَمَا فَعَلَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَصِلُ إلَيْهِمَا مِنْهُ شَيْءٌ ثُمَّ كَذَلِكَ فِي وَلَدِ الْوَلَدِ إلَى مُنْتَهَى انْقِرَاضِهِمْ. وَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ وَنِعْمَةٌ شَامِلَةٌ يَتَعَيَّنُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ» ، فَانْظُرْ إلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ مَا أَكْمَلَهَا وَأَعْظَمَهَا إلَى ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا فَقَابَلُوهَا بِضِدِّهَا كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى وَلِيِّ الْمَوْلُودِ

أَنْ يَحْتَرِزَ مِمَّا أَحْدَثْنَهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْمَوْلُودَ إذَا جَاءُوا إلَى قَطْعِ سُرَّتِهِ جَمَعُوا عِنْدَهُ كُلَّ مَوْلُودٍ يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ ذَلِكَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ سُرَّةُ الْمَوْلُودِ، فَحِينَئِذٍ تَقْطَعُ الْقَابِلَةُ سُرَّةَ الْمَوْلُودِ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ مِنْ الصِّغَارِ عِنْدَ قَطْعِهَا وَدَخَلَ بَعْدَهُ تَحْوَلُّ عَيْنَاهُ أَوْ يَبْقَى يَبْكِي كَثِيرًا، وَذَلِكَ مِنْهُنَّ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ يَتَعَيَّنُ طَرْحُهُ وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْقَوَابِلِ وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ إذَا دَخَلَتْ إلَى بَيْتٍ وَقَبِلَتْ فِيهِ لَا يُمْكِنُ غَيْرُهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهَا فِيهِ، وَيُعَلِّلْنَ ذَلِكَ بِزَعْمِهِنَّ أَنَّ دَمَ الْمَوْلُودِ وَدَمَ أُمِّهِ قَدْ وَقَعَ عَلَى يَدِ الْقَابِلَةِ الْأُولَى فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهَا عَلَيْهَا فِيهِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَقَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَابِلَةِ الْأُولَى وَأَهْلِ الْبَيْتِ شَنَآنٌ وَخِصَامٌ كَثِيرٌ، وَيَعْتَقِدْنَ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ حَرَامٌ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ مِنْهُنَّ فِي الشَّرْعِ وَافْتِرَاءٌ بَيِّنٌ. فَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَوْلُودِ أَنْ لَا يَقْرُبَ مَنْ هَذَا حَالُهَا حَتَّى يُبَيِّنَ لَهَا حُكْمَ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي ذَلِكَ قَبْلَ إتْيَانِهَا، فَإِنْ رَضِيَتْ وَإِلَّا تَرَكَهَا وَأَخَذَ سِوَاهَا عَلَى الْمَنْهَجِ الْأَقْوَمِ وَالطَّرِيقِ الْأَسْلَمِ. فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالتَّأَلُّفِ وَتَرْكِ التَّشْوِيشِ لَكَانَ ذَلِكَ حَسَنًا. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَزَ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ فِي لَيْلَةِ السَّابِعِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ رَأْسِ الْمَوْلُودِ الْخِتْمَةُ وَاللَّوْحُ وَالدَّوَاةُ وَالْقَلَمُ وَرَغِيفٌ مِنْ الْخُبْزِ وَقِطْعَةٌ مِنْ السُّكَّرِ إنْ كَانَ مُقِلًّا، وَمَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ عَمِلَ رَغِيفًا كَبِيرًا مِنْ الْكَمَاجِ وَأُبْلُوجَةً مِنْ السُّكَّرِ وَطَبَقًا مِنْ الْفَاكِهَةِ وَقُفَّةً مِنْ النَّقْلِ وَشَمَعًا، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَا، فَإِذَا كَانَتْ صَبِيحَةُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَرَّقْنَ كُلَّ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَ رَأْسِهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُ بَرَكَةٌ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَأَنَّهُ يَنْفَعُهُ مِنْ الصُّدَاعِ، وَيُعَلِّلْنَ ذَلِكَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ بِالدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ مَا يَجْرِي عَلَى الْمَوْلُودِ فِي عُمْرِهِ إلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ وَافْتِرَاءٌ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِنَّ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ كَتْبِ عِصَابَةِ الْمَوْلُودِ بِالزَّعْفَرَانِ يَكْتُبُونَ

أحكام العقيقة

فِيهَا سُورَةَ يس أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَيَعْصِبْنَهُ بِهَا فِي يَوْمِ سَابِعِهِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ جَعْلِ السِّكِّينِ الَّتِي قُطِعَتْ بِهَا سُرَّةُ الْمَوْلُودِ عِنْدَ رَأْسِهِ مَا دَامَتْ أُمُّهُ جَالِسَةً عِنْدَهُ، فَإِذَا قَامَتْ حَمَلَتْهَا مَعَهَا تَفْعَلُ هَذَا مُدَّةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيُعَلِّلْنَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُصِيبَهَا شَيْءٌ مِنْ الْجَانِّ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّ الْمَوْلُودَ إذَا غَابَتْ عَنْهُ أُمُّهُ لِضَرُورَةٍ فِي الْبَيْتِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَنْ يَقْعُدُ عِنْدَ الْمَوْلُودِ تَجْعَلُ عِنْدَهُ كُوزًا مَمْلُوءًا مَاءً وَشَيْئًا مِنْ الْحَدِيدِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَخْذِهِنَّ شَيْئًا مِنْ الْمِلْحِ، وَيَصْبُغْنَ بَعْضَهُ بِالزَّعْفَرَانِ، وَبَعْضَهُ بِالزِّنْجَارِ غَالِبًا، وَيَخْلُطْنَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْكَمُّونِ الْأَسْوَدِ وَيُوقِدُونَ الشَّمَعَ الَّذِي كَانَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَتَلْبَسُ أُمُّ الْمَوْلُودِ ثِيَابًا حِسَانًا، وَيَدُرْنَ بِهَا بِوَلَدِهَا الْبَيْتَ كُلَّهُ، وَالْقَابِلَةُ أَمَامَهَا حَامِلَةً لِلْمَوْلُودِ، وَامْرَأَةٌ أُخْرَى أَمَامَ الْقَابِلَةِ مَعَهَا طَبَقٌ فِيهِ الْمِلْحُ الْمَذْكُورُ وَيَنْثُرْنَهُ فِي الْبَيْتِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَفِي الطَّبَقِ شَيْءٌ مِنْ الْبَخُورِ بَخُورٌ مَخْصُوصٌ بِالْوِلَادَةِ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُ يَنْفَعُ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْكَسَلِ وَالْعَيْنِ وَالْجَانِّ وَالشَّرِّ كُلِّهِ، وَهَذَا مِنْهُنَّ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ وَبِدَعٌ لَيْسَتْ مِنْ الشَّرْعِ الْمُطَهَّرِ فِي شَيْءٍ. فَاللَّبِيبُ مَنْ سَلَّمَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ إلَى الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَتَرَكَ كُلَّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا فَالْغَالِبُ أَنَّهُ يُعَلِّلُهُ بِتَعَالِيلَ لَا يَقُومُ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى سَاقٍ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ بَاطِلُهَا إلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ وَالتَّمْيِيزِ غَالِبًا، فَلْيَحْذَرْ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ، وَحَيْثُ كَانَتْ فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي الِابْتِدَاعِ. أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [أَحْكَام الْعَقِيقَة] وَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَوْلُودِ إنْ كَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ أَنْ يَعُقَّ عَنْهُ فِي سَابِعِهِ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْأُضْحِيَّةِ فِي السِّنِّ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ. وَقَدْ سُئِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَمَّا يُتَّقَى فِي الضَّحَايَا فَأَشَارَ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، وَقَالَ: أَرْبَعٌ: الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ

عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقَى وَوَقْتُهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ السَّابِعِ، فَإِنْ وُلِدَ الْمَوْلُودُ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ، طُرِحَ ذَلِكَ، وَلَا يُحْسَبُ، وَيَتَحَفَّظُ فِيهَا كَمَا يَتَحَفَّظُ فِي الْأُضْحِيَّةِ، فَلَا يُعْطِي الْجَزَّارَ أُجْرَتَهُ مِنْ لَحْمِهَا وَلَا جِلْدِهَا، وَكَذَلِكَ الْقَابِلَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِوَضٌ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْبِيَاعَاتِ، وَلَحْمُ الْأُضْحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَذْبَحُهُ فِي الْعَقِيقَةِ إلَى الْمَسْمَطِ، فَيُعْطِي جِلْدَهَا وَرَأْسَهَا وَأَطْرَافَهَا لِلصَّانِعِ الَّذِي يَعْمَلُهَا، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ. هَذَا إنْ عَمِلَهَا سَلِيخًا، وَأَمَّا إنْ عَمِلَهَا سَمِيطًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْمَلَ بِهَا وَلِيمَةً وَيَدْعُوَ النَّاسَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيُصْنَعُ مِنْهَا طَعَامٌ وَيُجْمَعُ عَلَيْهِ الْإِخْوَانُ؟ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: تَشَبُّهٌ بِالْوَلَائِمِ، وَقَالَ إنَّمَا تُطْبَخُ وَتُؤْكَلُ وَيُطْعَمُ الْجِيرَانُ. وَيَنْبَغِي إنْ كَانَ الْمَوْلُودُ مِمَّنْ يَعُقُّ عَنْهُ أَنْ لَا يُوقِعَ عَلَيْهِ الِاسْمَ إلَّا حِينَ يَذْبَحُ الْعَقِيقَةَ، وَيَتَخَيَّرُ لَهُ فِي الِاسْمِ مُدَّةَ السَّابِعِ، فَإِذَا ذَبَحَ الْعَقِيقَةَ أَوْقَع عَلَيْهِ الِاسْمَ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلُودُ مِمَّنْ لَا يَعُقُّ عَنْهُ لِفَقْرِ وَلِيِّهِ، فَيُسَمُّونَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءُوا. ثُمَّ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي الْفَقْرَ مِنْهُمْ، وَيَعْتَلُّ بِهِ عَلَى تَرْكِ سُنَّةِ الْعَقِيقَةِ، وَيَتَكَلَّفُ لِبَعْضِ الْعَوَائِدِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا مَا يَزِيدُ عَلَى ثَمَنِ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ عَمَلِ الزَّلَابِيَةِ، أَوْ شِرَائِهَا وَشِرَاءِ مَا تُؤْكَلُ بِهِ مَا ثَمَنُهُ أَضْعَافُ مَا يَفْعَلُ بِهِ الْعَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ. هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مَعَ وُجُودِ النَّفَقَةِ الْكَثِيرَةِ فِيهِ لِغَيْرِ مَعْنًى شَرْعِيٍّ، بَلْ لِلْبِدْعَةِ وَالظُّهُورِ وَالْقِيلِ وَالْقَالِ. وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ الْوِلَادَةِ. وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ الْوِلَادَةِ. وَبَعْضُهُمْ يَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَيَعْتَلُّونَ فِي ذَلِكَ بِكَوْنِهِمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَقِيقَةِ، وَالْعَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ ثَمَنُهَا أَيْسَرُ وَأَخَفُّ مِنْ ذَلِكَ بَلْ لَوْ

اقْتَصَرَ عَلَى تَرْكِ مَا أَحْدَثُوهُ فِي الْعَصِيدَةِ مِنْ الْبِدْعَةِ لَكَانَ فِيهِ ثَمَنُ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَزِيَادَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَصِيدَةَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا إلَّا النُّفَسَاءُ وَحْدَهَا، فَزُبْدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ دُونَهَا تَكْفِيهَا، وَهُمْ يَعْمَلُونَ الْعَصِيدَةَ، وَيَشْتَرُونَ مَا تُؤْكَلُ بِهِ وَيُفَرِّقُونَ ذَلِكَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَالْمَعَارِفِ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَنْدُبْهُمْ الشَّرْعُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ إطْعَامُ الطَّعَامِ مَنْدُوبًا إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ لَكِنْ مَا لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ تَرْكُ سُنَّةٍ، وَهُمْ لَوْ اشْتَرَوْا بِثَمَنِ الْعَصِيدَةِ وَمَا تُؤْكَلُ بِهِ مَا يَعُقُّ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لَكَانَ فِيهِ الْكِفَايَةُ وَزِيَادَةٌ. ثُمَّ يَزِيدُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا يَتَّخِذُونَهُ مِنْ النَّقْلِ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَيُفَرِّقُونَهُ فِي يَوْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَهَذَا فِي حَقِّ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ عَنْ النَّقْلِ الْمَذْكُورِ حَلَاوَةً عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ تُشْبِهُ النَّقْلَ يُسَمُّونَهَا بِالْمُغَزْدِرَاتِ وَبَعْضُهُمْ يُسَمُّونَهَا بِالنَّثُورِ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ السَّرَفِ وَالْبِدْعَةِ وَمَحَبَّةِ الظُّهُورِ وَالْخُيَلَاءِ وَتَرْكِ السُّنَنِ وَالِاهْتِبَالِ بِأَمْرِهَا وَاغْتِنَامِ بَرَكَتِهَا. ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ زَادُوا عَادَةً ذَمِيمَةً، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُجَدِّدُوا كِسْوَةً لِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَيْتُ حَتَّى الْحَصِيرُ لَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اعْتَادُوهُ، فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ - إلَى صَرْفِ هَذِهِ النَّفَقَاتِ وَكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَلُّونَ لِتَرْكِ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا. وَبَعْضُهُمْ يَتَدَايَنُ لِتِلْكَ الْعَوَائِدِ وَلِبَعْضِهَا، وَيَعْتَلُّونَ بِأَنَّ الْعَقِيقَةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ فَلَا يَشْغَلُونَ ذِمَّتَهُمْ بِالدَّيْنِ لِأَجْلِهَا وَيَشْغَلُونَ ذِمَّتَهُمْ بِالدَّيْنِ لِأَجْلِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ عَكْسُ مَا يُنْدَبُونَ إلَيْهِ، وَيُطْلَبُ مِنْهُمْ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. ثُمَّ إنَّ التَّدَايُنَ لِأَجْلِ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ يَخْلُفُ عَلَى الْمُنْفِقِ عَلَيْهَا وَيُيَسِّرُ عَلَيْهِ وَفَاءَ دَيْنِهَا كَالْأُضْحِيَّةِ لِبَرَكَةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فَبِهَا، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الْأَمْثَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ اللَّعِينَ أَلْقَى إلَيْهِمْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْرِمَهُمْ بَرَكَةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ لِأَجْلِ أَنَّ فِعْلَهَا بَرَكَةٌ وَخَيْرٌ وَغَنِيمَةٌ، وَهِيَ

بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يُكَلِّفُهُمْ مِنْ الْعَوَائِدِ يَسِيرَةُ النَّفَقَةِ، وَفِيهَا الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَفِي الْعَوَائِدِ ضِدُّ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ مِنْ الذَّمِّ إلَّا أَنَّ النَّفَقَةَ فِيهَا لَا تَخْلُفُ وَلَا يُثَابُ عَلَيْهَا مَعَ تَعَبِهِ لِأَجْلِهَا، فَفِيهَا التَّعَبُ دُنْيَا وَأُخْرَى. وَفِي فِعْلِ الْعَقِيقَةِ مِنْ الْفَوَائِدِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا: امْتِثَالُ السُّنَّةِ، وَإِخْمَادُ الْبِدْعَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ الْبَرَكَةِ إلَّا أَنَّهَا حِرْزٌ لِلْمَوْلُودِ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ كَمَا وَرَدَ، فَالسُّنَّةُ مَهْمَا فُعِلَتْ كَانَتْ سَبَبًا لِكُلِّ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ، وَالْبِدْعَةُ بِضِدِّ ذَلِكَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَوَجَدُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مَنْثُورَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَأَوْلَادُهُ ذَاهِبُونَ وَرَاجِعُونَ عَلَيْهَا، فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدَنَا، أَمَا هَذَا إضَاعَةُ مَالٍ، قَالَ: بَلْ هِيَ فِي حِرْزٍ قَالُوا لَهُ: وَأَيْنَ الْحِرْزُ، قَالَ لَهُمْ: هِيَ مُزَكَّاةٌ، وَذَلِكَ حِرْزُهَا، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مَنْ عُقَّ عَنْهُ، فَهُوَ فِي حِرْزٍ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ، وَأَقَلُّ آفَةٍ تَقَعُ بِالْمَوْلُودِ يَحْتَاجُ وَلِيُّهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ قَدْرَ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَمَنْ كَانَ لَهُ لُبٌّ فَلْيَبْذُلْ جَهْدَهُ عَلَى فِعْلِهَا؛ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ حِرْزِ الْمَالِ وَالْبَدَنِ، أَمَّا الْبَدَنُ فَسَلَامَةُ الْمَوْلُودِ سِيَّمَا مِنْ الْآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا كَوْنُهَا حِرْزًا لِلْمَالِ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ فِي الْعَقِيقَةِ نَزْرٌ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَتَكَلَّفُونَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَغَيْرُهَا مِنْ النَّفَقَاتِ فِيمَا يَتَوَقَّعُ عَلَى الْمَوْلُودِ مِنْ تَوَقُّعِ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ، وَفِيهَا كَثْرَةُ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ لِأَجْلِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي فِعْلِهَا وَتَفْرِيقِهَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنَّ فِيهَا الْأَجْرَ الْكَثِيرَ لِقِلَّةِ فَاعِلِهَا. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَنِي قَدْ أُمِيتَتْ فَكَأَنَّمَا أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» ، فَقَدْ شَهِدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ السُّنَنِ إذَا أُمِيتَتْ بِالْمَعِيَّةِ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْجَنَّةِ. وَالْعَقِيقَةُ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَلَّ أَنْ تُعْرَفَ، وَإِنْ عُرِفَتْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَبِالِاسْمِ لَيْسَ إلَّا فِي الْغَالِبِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِيهَا أَفْعَالًا تُخْرِجُهَا عَنْ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا. فَمِنْهَا مُخَالَفَةُ وَقْتِهَا الشَّرْعِيِّ الَّذِي تُذْبَحُ فِيهِ

لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤَخِّرُهَا عَنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ تُجْزِي عِنْدَ بَعْضِهِمْ لَكِنْ فَوَّتَ نَفْسَهُ فَضِيلَةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي الْوَقْتِ الْمَوْضُوعِ لَهَا، مِنْهَا عَدَمُ التَّوْفِيَةِ بِشُرُوطِهَا إذْ أَنَّهُمْ يُعْطُونَ مِنْ لَحْمِهَا وَجِلْدِهَا لِلصَّانِعِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: فِيمَنْ كَانَ لَهُ ثَوْبٌ لِلْجُمُعَةِ وَلَا فَضْلَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ حَتَّى يُضَحِّيَ، فَكَذَلِكَ يَبِيعُهُ حَتَّى يَعُقَّ عَنْ وَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا: إنَّهُ يَتَدَايَنُ لِلْأُضْحِيَّةِ، فَكَذَلِكَ يَتَدَايَنُ لِلْعَقِيقَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَإِذَا اخْتَارُوا لَهُ الِاسْمَ مِنْ حِينِ وِلَادَتِهِ إلَى سَابِعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارُوا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا كَانَ سَالِمًا مِنْ التَّزْكِيَةِ وَالْكُنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلَهُ فِي التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَقْنَعٌ وَبَرَكَةٌ وَخَيْرٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَدْ وَقَعَ لِسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ بِمَدِينَةِ تُونُسَ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ ازْدَادَ لَهُ مَوْلُودٌ طَالَبُوهُ بِبَعْضِ عَوَائِدِهِمْ الْجَارِيَةِ فَأَبِي عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: السُّنَّةُ أَوْلَى قَالَ: وَكُنْت مَرِيضًا لَا أَقْدِرُ عَلَى الْحَرَكَةِ، فَلَمَّا أَنْ عَزَمْت عَلَى الْعَقِيقَةِ وَجَزَمْت بِهَا رَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنِّي مَاشٍ عَلَى طَرِيقٍ وَمَعِي شَخْصٌ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَمْشِي فِي الطَّرِيقِ وَإِذَا بِجِيفَةٍ قَدْ عَرَضَتْ لَنَا فِي وَسَطِهَا، فَقَالَ لِي ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي كَانَ مَعِي: عَسَى أَنَّك تُعِينُنِي عَلَى زَوَالِ هَذِهِ الْجِيفَةِ عَنْ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْبُرُ مِنْ هَاهُنَا السَّاعَةَ قَالَ: فَقُلْت لَهُ: نَعَمْ فَأَزَلْنَا الْجِيفَةَ عَنْ الطَّرِيقِ وَنَظَّفْنَاهُ، وَإِذَا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَقْبَلَ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَقَالَ لِي: وَعَلَيْك السَّلَامُ يَا فَقِيهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَانْتَبَهْت مِنْ نَوْمِي، فَوَجَدْت الْعَافِيَةَ فِي الْوَقْتِ، فَأَصْبَحْت وَخَرَجْت وَاشْتَرَيْت الذَّبِيحَةَ لِلْعَقِيقَةِ بِنَفْسِي، فَلَمَّا أَنْ عَمِلْتهَا جَمَعْت بَعْضَ الْإِخْوَانِ وَحَدَّثْتهمْ بِمَا جَرَى فَاشْتُهِرَ الْأَمْرُ، وَكَانَتْ الْعَقِيقَةُ إذْ ذَاكَ قَدْ دُثِرَتْ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ فَاشْتُهِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبَلَدِ. وَهَذَا هُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ

فصل الختان

الْوَارِدِ عَنْهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ حَيْثُ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَنِي» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَأَوَّلْتُ الْجِيفَةَ عَلَى الْعَوَائِدِ وَأُوِّلَتْ إزَالَتُهَا وَتَنْظِيفُ الطَّرِيقِ عَلَى امْتِثَالِ السُّنَّةِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ [فَصْلٌ الْخِتَانُ] الْخِتَانُ (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْخِتَانُ فَقَدْ مَضَتْ عَادَةُ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتِنُونَ أَوْلَادَهُمْ حِينَ يُرَاهِقُونَ الْبُلُوغَ، لَكِنْ قَدْ وَرَدَ؛ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَتَنَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ يَوْمَ السَّابِعِ أَوْ نَحْوَهُ» ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ، فَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْمُكَلَّفُ كَانَ مُمْتَثِلًا، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ، وَالْقَطْعُ مِنْهُ قَبْلَ تَكْلِيفِهِ فِيهِ إيلَامٌ لَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ فِي الْوَقْتِ، وَأَمَّا خِتَانُهُ حِينَ الْمُرَاهَقَةِ، فَهُوَ مُتَعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ كَشْفَ عَوْرَتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُحَرَّمٌ، لَكِنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْأَلَمُ الشَّدِيدُ وَالْبُطْءُ فِي الْبُرْءِ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّ أَلَمَهُ خَفِيفٌ وَبُرْأَهُ قَرِيبٌ. وَاخْتُلِفَ إنْ وُلِدَ مَخْتُونًا هَلْ يُخْتَنُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذِهِ مُؤْنَةٌ كَفَانَا اللَّهُ إيَّاهَا فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى فِعْلِهَا وَلِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ لَا يُبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَالضَّرُورَةُ مَعْدُومَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بُدَّ مِنْ إجْرَاءِ الْمُوسَى عَلَيْهِ لِيَقَعَ الِامْتِثَالُ. وَالسُّنَّةُ فِي خِتَانِ الذَّكَرِ إظْهَارُهُ، وَفِي خِتَانِ النِّسَاءِ إخْفَاؤُهُ. وَاخْتُلِفَ فِي حَقِّهِنَّ هَلْ يَخْفِضْنَ مُطْلَقًا أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَهْلِ الْمَغْرِبِ، فَأَهْلُ الْمَشْرِقِ يُؤْمَرُونَ بِهِ لِوُجُودِ الْفَضْلَةِ عِنْدَهُنَّ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ لَا يُؤْمَرُونَ بِهِ لِعَدَمِهَا عِنْدَهُنَّ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ فِيمَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا فَكَذَلِكَ هُنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ.

فصل في صفة الفلاحة

[فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْفِلَاحَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْفِلَاحَةِ اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّنَائِعِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فِي الْغَالِبِ لَكِنَّ بَعْضَهُمَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَوَقَعَتْ الْبُدَاءَةَ بِمَا الْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّعَبُّدُ وَهُوَ غُسْلُ الْمَيِّتِ وَالْحَفْرُ لَهُ وَدَفْنُهُ وَالنُّفَسَاءُ وَمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مُبَاشَرَةٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ الْمُكَلَّفُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِيهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِنِيَّةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ؛ لِيَسْقُطَ عَنْهُمْ فَيَدْخُلَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» ثُمَّ يَضُمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ النِّيَّاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي خُرُوجِ الْعَالِمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهَا فِي كُلِّ فِعْلٍ يَقَعُ لَهُ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى الْأُجْرَةِ عَلَى مَا هُوَ يَفْعَلُهُ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ. وَالرِّزْقُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ جِهَةٍ مَعْلُومَةٍ فَإِنْ قُسِمَ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْرَافٍ فَيَذْهَبُ عَنْهُ الِاسْتِشْرَافُ وَتَقَعُ لَهُ الْبَرَكَةُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ تَمَحَّضَ الْفِعْلُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَبْقَى لَهُ ذَخِيرَةً يَجِدُهُ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إلَيْهِ وَالرِّزْقُ الْمَقْسُومُ فِي الْأَزَلِ لَا يَفُوتُهُ، إذْ إنَّ الرِّزْقَ يَطْلُبُك أَكْثَرَ مَا تَطْلُبُهُ أَنْتَ وَبَقِيَ التَّصَبُّرُ وَالتَّجَمُّلُ وَالْحِرْصُ وَالتَّعَبُ بَيْنَ النَّاسِ فَمَنْ أُرِيدُ بِهِ السَّعَادَةَ أُقِيمَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّصَبُّرُ وَالتَّجَمُّلُ وَمَنْ أُرِيدَ بِهِ ضِدَّ ذَلِكَ أُقِيمَ فِي الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ الْحِرْصُ وَالتَّعَبُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْعَالِمِ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ حِينَ أَخَذَهُ الْجَامِكِيَّة أَوْ تَعَذَّرَهَا فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَيَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْصُلُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ

صَلَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي كُلِّ مَا هُوَ فِيهِ إذْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ قَدْ رَجَعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَبَقِيَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مُتَقَلِّبًا فِي الْعِبَادَاتِ وَهَذَا أَفْضَلُهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَأَدَاءِ الْمَفْرُوضَاتِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَفْعُ مُتَعَدٍّ وَذَلِكَ أَرْجَحُ فِي الْوَزْنِ وَأَعْظَمُ عِنْدَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ فَآكَدُ مَا عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ الزِّرَاعَةُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْحَيَاةِ وَقُوتُ النُّفُوسِ فَلِذَلِكَ بُدِئَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَيَعْقُبُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامُ عَلَى مَا يَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى صَنْعَةِ الْحِيَاكَةِ وَهِيَ الْقَزَازَةُ، ثُمَّ الْآكَدُ فَالْآكَدُ وَالْأَوْلَى فَالْأَوْلَى بِحَسَبِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالزِّرَاعَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ وَأَكْثَرِهَا أَجْرًا إذْ إنَّ خَيْرَهَا مُتَعَدٍّ لِلزَّارِعِ وَلِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَالطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ كُلُّ ذَلِكَ يَنْتَفِعُ بِزِرَاعَتِهِ حَتَّى إنَّهُ لَيُقَالُ: إنَّهُ الزَّارِعُ لَوْ سَمِعَ مَنْ يَقُولُ نَأْكُلُ مِنْهُ حِينَ زِرَاعَتِهِ لَمْ يَزْرَعْ شَيْئًا لِكَثْرَةِ مَنْ يَقُولُ: نَأْكُلُ مِنْهُ فَمَا فِي الصَّنَائِعِ كُلِّهَا أَبْرَكُ مِنْهَا وَلَا أَنْجَحُ إذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِهَا الشَّرْعِيِّ وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْكُنُوزِ الْمُخَبَّأَةِ فِي الْأَرْضِ. لَكِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ بِالْفِقْهِ وَحُسْنِ مُحَاوِلَةٍ فِي الصِّنَاعَةِ مَعَ النُّصْحِ التَّامِّ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا؛ فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ الْبَرَكَاتُ وَتَأْتِي الْخَيْرَاتُ. قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إلَّا كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَيْضًا «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْتَغْفِرُ لِلزَّارِعِ أَوْ لِلْغَارِسِ مَا دَامَ زَرْعُهُ أَخْضَرَ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فِي حِرْفَتِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّعَلُّمُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ فَلْيَسْأَلْ الْعُلَمَاءَ عَنْ فِقْهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي زِرَاعَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْحِرَفِ إذْ إنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى فِقْهٍ كَثِيرٍ. وَاَلَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْأَمْرُ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا حَصَلَ لَا يُقْدِمُ الْمَرْءُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُحَاوِلُهُ حَتَّى يَعْرِفَ لِسَانَ الْعِلْمِ فِيهِ وَبِالسُّؤَالِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ. وَقَدْ جَرَى بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ بَعْضَ الشُّبَّانِ أَصَابَهُ جُذَامٌ وَكَانَ مِمَّنْ يَسْكُنُ

خَارِجَهَا فَجَاءَ بِهِ أَهْلُهُ إلَى طَبِيبٍ بِهَا وَكَانَ عَارِفًا حَاذِقًا مَشْهُورًا بِذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ رَآهُ قَالَ لَهُمْ مَا يَطْلُبُ هَذَا إلَّا حَوَارِيٌّ مِنْ حَوَارِيِّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَيْأَسَهُمْ مِنْ بُرْئِهِ فَرَجَعُوا فَبَيْنَمَا هُمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إذْ مَرُّوا بِرَجُلٍ مِنْ مَعَارِفِهِمْ وَهُوَ يَزْرَعُ فِي أَرْضٍ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ السَّلَامَ وَقَالَ لَهُمْ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتُمْ؟ قَالُوا: مِنْ مَدِينَةِ فَاسَ، قَالَ: وَمَا فَعَلْتُمْ فِيهَا؟ قَالُوا: ذَهَبْنَا إلَيْهَا بِسَبَبِ وَلَدِ فُلَانٍ وَأَخْبَرُوهُ بِالْخَبَرِ فَقَالَ لَهُمْ: وَمَا قَالَ لَكُمْ الطَّبِيبُ؟ قَالُوا لَهُ: قَالَ: لَا يُبْرِئُ هَذَا إلَّا حَوَارِيٌّ مِنْ حَوَارِيِّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَأَيْنَ حَوَارِيُّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ الشَّابِّ أَيْنَ هُوَ؟ فَقَالُوا لَهُ: هَا هُوَ ذَا حَاضِرٌ فَأَمَرَ بِهِ فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَشَّى يَدَهُ عَلَيْهِ وَنَفَثَ وَإِذَا بِالشَّابِّ قَدْ ذَهَبَ عَنْهُ جَمِيعُ مَا كَانَ بِهِ وَقَامَ صَحِيحًا سَوِيًّا، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: ارْجِعُوا بِهِ إلَى الطَّبِيبِ، وَقُولُوا لَهُ: هَذَا فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْ حَوَارِيِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ الزَّارِعُ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ بِصَلَاحٍ مَسْتُورَ الْحَالِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْكِسْرَةَ إنْ كَانَتْ طَيِّبَةً جَرَى هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْكَرَامَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ بِبَرَكَتِهَا. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: اعْلَمُوا أَنَّ الْهِمَمَ قَدْ تَقَاصَرَتْ عَنْ الْعِبَادَاتِ وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْكُمْ بِالزِّرَاعَةِ فَإِنَّهَا تُحَصِّلُ الْأُجُورَ الْكَثِيرَةَ أَرَادَهَا الْمُكَلَّفُ أَوْ لَمْ يُرِدْهَا. وَمَا قَالَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ بَيِّنٌ، حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُرَاعِي هَذِهِ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ تَقَعُ لَهُ الْبَرَكَاتُ حَتَّى يُقَالَ عَنْهُ: إنَّهُ وَجَدَ كَنْزًا وَلَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ إلَّا أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَا أَرَادَهُ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْكَنْزِ وَمَنْفَعَتَهُ إنَّمَا هِيَ وُجُودُ الْيُسْرِ وَالِاسْتِغْنَاءِ وَهُوَ وَاقِعٌ لِمَنْ حَاوَلَ الزِّرَاعَةَ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ مُحَاوَلَتِهَا شَرْعًا. وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ انْقَسَمُوا فِي تَسَبُّبِهِمْ عَلَى قِسْمَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ فِي الْحَوَائِطِ وَهِيَ الْبَسَاتِينُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَتَسَبَّبُ فِي الْأَسْوَاقِ وَكِلَاهُمَا حَسَنٌ وَلَكِنَّ الزِّرَاعَةَ لِمَنْ يُحْسِنُهَا أَوْلَى وَأَفْضَلُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ وَالنَّفْعَ

طلب الحلال فريضة بعد فريضة الإيمان والصلاة

الْكَثِيرَ الْمُتَعَدِّيَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِ الشُّيُوخِ الَّذِي كَانَ يَزْرَعُ فِي أَرْضِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَمَا جَرَى لَهُ مِنْ كَوْنِهِ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لِأَجْلِ زِرَاعَةِ أَرْضِهِ إذْ ذَاكَ لِأَجْلِ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ فِي زِرَاعَتِهَا. وَإِذَا كَانَتْ الزِّرَاعَةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَنْبَغِي بَلْ تَتَعَيَّنُ الْمَعْرِفَةُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي مُحَاوَلَتِهَا لِتَأَكُّدِهَا سِيَّمَا الْقُوتَ الَّذِي هُوَ صَلَاحُ الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ وَبِهِ يَصْفُو الْبَاطِنُ وَيَكْثُرُ الْخُشُوعُ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» وَلَمْ يَزَلْ السَّلَفُ الْمَاضُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَتَحَفَّظُونَ عَلَى الْقُوتِ الَّذِي يَدْخُلُ أَجْوَافَهُمْ التَّحَفُّظَ الْكُلِّيَّ وَفِيهِ كَانَ تَوَرُّعُهُمْ وَالْوَسَاوِسُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهِ يَدْفَعُونَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِتَرْكِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهَا قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ الْمُؤْمِنُ الَّذِي إذَا أَصْبَحَ سَأَلَ مِنْ أَيْنَ قُرْصُهُ وَإِذَا أَمْسَى سَأَلَ مِنْ أَيْنَ قُرْصُهُ؟ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلِّفُوا عِلْمَ ذَلِكَ لَتَكَلَّفُوهُ قَالَ: عَلِمُوا ذَلِكَ وَلَكِنْ غَشَمُوا الْمَعِيشَةَ غَشْمًا» . [طَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ فَرِيضَةِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «طَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ» أَيْ بَعْدَ فَرِيضَةِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نَوَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَأَجْرَى يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ» وَفِي الصَّحِيحِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَحَلُّ مَا أَكَلَ الرِّجَالُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ» وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْ أَحَدًا شَيْئًا»

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ بَاتَ كَالًّا مِنْ طَلَبِ الْحَلَالِ بَاتَ مَغْفُورًا لَهُ وَأَصْبَحَ وَاَللَّهُ رَاضٍ عَنْهُ» ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مَا جَرَى مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي شَرْبَةِ اللَّبَنِ الَّتِي شَرِبَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ جِهَتِهَا فَذُكِّرَ بِذَلِكَ فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِشَيْءٍ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِجِهَتِهِ فَتَقَايَأَهَا وَقَاسَى مِنْ ذَلِكَ مُعَالَجَةً شَدِيدَةً فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ لَمْ تَخْرُجْ إلَّا بِرُوحِي لَأَخْرَجْتهَا؛ لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَهُ جِرَابٌ فِيهِ قُوتُهُ وَعَلَيْهِ قُفْلٌ مِنْ حَدِيدٍ وَالْمِفْتَاحُ عِنْدَهُ لَا يُمَكِّنُ مِنْهُ غَيْرَهُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بِذَلِكَ مَا يَدْخُلُ فِي جَوْفِهِ فَهَذَا كَانَ حَالَهُمْ فِي تَحَفُّظِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَمْرِ الْمَطْعُومِ. وَأَمَّا الطَّهَارَةُ فَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَنْ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ هَلْ تَرِدُ حَوْضَك السِّبَاعُ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَجِدُهُ يَتَحَدَّرُ مِنِّي مِثْلَ الْخُرَيْزَةِ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَلَا أَقْطَعُ صَلَاتِي " يَعْنِي الْمَذْيَ ". هَذَا وَقَدْ كَانَ إمَامًا يَقْتَدِي النَّاسُ بِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَمَا بَالُك بِغَيْرِ هَذَا الْإِمَامِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشُونَ حُفَاةً ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَغْسِلُونَ أَقْدَامَهُمْ إلَّا إذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ رَطْبَةٌ. وَكَانَتْ الْكِلَابُ تَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَتَخْرُجُ مِنْ الْآخَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ السَّنِيَّةِ الَّتِي لَا يَأْخُذُهَا حَصْرٌ عَكْسَ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْوَقْتِ إذْ إنَّهُمْ يَتَوَرَّعُونَ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَيُضَيِّعُونَ كَثِيرًا مِنْ أَوْقَاتِهِمْ بِسَبَبِهَا، وَيَتَسَاهَلُونَ فِي أَمْرِ الْقُوتِ وَيَرْكَنُونَ فِيهِ إلَى قَوْلِ قَائِلٍ أَوْ زَلَّةِ عَالِمٍ قَالَ بِالْحِلِّ أَوْ الْكَرَاهَةِ وَيَجْعَلُونَهُ حُجَّةً

إجارة الأرض

فِي أَخْذِ الْحُطَامِ عُكِسَ الْحَالُ؛ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَوْ دَخَلَهُمْ الْوِسْوَاسُ فِي أَمْرِ الْقُوتِ دُونَ الطَّهَارَةِ لَكَانَ أَنْجَحَ وَأَوْلَى بَلْ أَوْجَبَ؛ لِأَنَّهُ مَاشٍ عَلَى قَانُونِ الِاتِّبَاعِ أَوْ كَمَا كَانَ يَقُولُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لِلزَّارِعِ أَنْ يَتْرُكَ حَقَّ الْفُقَرَاءِ مِنْ الزَّكَاةِ لِقَوْلِ أَحَدٍ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ امْتَحَقَتْ الْبَرَكَاتُ وَذَهَبَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِبَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الْخَرَاجَ وَيُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْهُ وَعَمَّا فَضَلَ فَبِذَلِكَ تَكْثُرُ الْبَرَكَةُ وَيَقَعُ الْخُلْفُ وَتَحْصُلُ الْإِعَانَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى السُّنَّةِ. [إجَارَةِ الْأَرْضِ] وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ. الْقَوْلُ الْأَوَّلُ - أَنَّهُ تَجُوزُ إجَارَتُهَا بِكُلِّ شَيْءٍ يَجُوزُ مِلْكُهُ وَبَيْعُهُ كَانَ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ أَوْ مِمَّا لَا تُنْبِتُهُ. الْقَوْلُ الثَّانِي - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كِرَاؤُهَا بِشَيْءٍ مِمَّا تُنْبِتُهُ كَانَ طَعَامًا أَوْ غَيْرَهُ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ - أَنَّهُ يَجُوزُ كِرَاؤُهَا بِمَا تُنْبِتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامًا مِثْلَ الْخَشَبِ وَالصَّنْدَلِ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ - أَنَّهُ إنْ زَرَعَ فِيهَا الْحِنْطَةَ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ فِي إجَارَتِهَا الْعَدَسَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْقَطَّانِيِّ. وَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ جُهْدَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْبَرَكَةِ وَنَجَاحِ السَّعْيِ سِيَّمَا فِي الْقُوتِ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ يُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُكَسِّلُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَكَفَى بِهَا مِنَّةٌ وَيَسْقُطُ كِرَاءُ الْأَرْضِ عَنْهُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا - عَدَمُ رَيِّهَا. وَالثَّانِي - اسْتِئْجَارُهَا حِينَ يَفْرُغُ أَوَانُ الزِّرَاعَةِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ وَأَعَمِّهَا نَفْعًا فَيَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إلَيْهَا قَبْلَ غَيْرِهَا لِيَحُوزَ الْمَرْءُ فَضِيلَتَهَا وَيَغْتَنِمَ بَرَكَتَهَا؛ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالِامْتِثَالِ وَالِامْتِثَالُ إنَّمَا يَقَعُ بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ كُلُّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ مَعَ وُجُودِ السَّلَامَةِ فِي الدِّينِ وَالْعِرْضِ وَالْمَالِ. وَأَمَّا مَعَ تَوَقُّعِ ضِدِّ ذَلِكَ فَتَرْكُهُ إذَنْ مُتَعَيَّنٌ وَلَهُ فِي غَيْرِ الزِّرَاعَةِ مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ سَعَةٌ؛ لِأَنَّ

آفَةَ الزِّرَاعَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَدْ عَظُمَتْ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ، حَتَّى إنَّ الزَّرَّاع كَأَنَّهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَسِيرٌ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ وَكَأَنَّهُ لَا بَالَ لَهُ عِنْدَهُمْ وَلَا رُوحَ، وَهَذَا التَّنْبِيهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الذُّلِّ كَافٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِيَتَنَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الْخَطَرِ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُتَسَبِّبًا بِصِنَاعَةِ الْفِلَاحَةِ وَالْغِرَاسَةِ فِي بِلَادِهِ، فَلَمَّا أَنْ وَرَدَ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَرَادَ أَنْ يَتَسَبَّبَ بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ فَلَمَّا أَنْ رَأَى أَكْثَرَ حَالِ الْمُزَارِعِينَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ الشَّظَفِ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ هَاهُنَا ثُمَّ وَقَعَ لَهُ أَنَّ التَّسَبُّبَ فِي حَقِّهِ مُتَأَكَّدٌ لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَسَبَّبَ بِغَيْرِ الْفِلَاحَةِ ثُمَّ قَالَ: إذَا اضْطَرَرْت إلَى التَّسَبُّبِ تَسَبَّبْت لَهُمْ فِي غَيْرِهَا فَانْقَطَعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَرَكَ الْأَسْبَابَ وَاشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ وَإِلْقَاءِ الْعِلْمِ فَفَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَهُ مَا هُوَ أَهْلُهُ فَأَغْنَاهُ الْغِنَى الْكُلِّيَّ عَنْ النَّاسِ وَعَنْ الْأَسْبَابِ بِسَبَبِ عِزِّ الطَّاعَةِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْخُذُ صَدَقَةً وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ حَالِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَرْكُ الصِّنَاعَةِ إذَا كَانَتْ تَئُولُ إلَى بَعْضِ مَا يَجْرِي عَلَى الْفَلَّاحِ وَغَيْرِهِ يَتَعَيَّنُ تَرْكُهَا فَكَيْفَ بِالْفَلَّاحِ الْمِسْكِينَةِ نَفْسُهُ؟ ، وَتَحْصِيلُ الْفَضَائِلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي الْفِلَاحَةِ إنَّمَا هِيَ مَعَ وُجُودِ السَّلَامَةِ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَّاحِينَ. وَقَدْ جَاءَ بَعْضُ النَّاسِ لِسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَفْتِيه فِي التَّسَبُّبِ مَعَ شَخْصٍ لَا يُرْضَى حَالُهُ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: لِي بَنَاتٌ وَعَائِلَةٌ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ يَقْتَاتُونَ بِهِ؛ فَقَالَ لَهُ: لَا يَلْزَمُك أَنْ تَتَسَبَّبَ لَهُمْ إلَّا فِي الشَّيْءِ الْحَلَالِ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُك فِيهِمْ شَيْءٌ هُمْ عَائِلَةُ اللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَهُمْ أَطْعَمَهُمْ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مَنَعَهُمْ وَلَا عُذْرَ لَك فِي الدُّخُولِ فِي الْحَرَامِ بِسَبَبِهِمْ أَوْ كَمَا قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَفَعَنَا بِهِ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الطِّينَ لِجُنْدِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ وَزَرَعَهُ لِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَّاحِينَ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ ذَلِكَ إذْ إنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ إذَا عَلِمُوا مِنْهُ عَدَمَ الْجُرْأَةِ وَالظُّلْمَ نَهَبُوهُ نَهْبًا حَتَّى إنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ لَهُ

فصل في الغراسة

مِمَّا زَرَعَهُ إلَّا بَعْضُ خَرَاجِ الْأَرْضِ فَأَلْجَأَهُ ذَلِكَ إلَى عَدَمِ الزَّرْعِ بِسَبَبِ سُوءِ تَصَرُّفِهِمْ. حَتَّى كَأَنَّ مَالَهُ عِنْدَهُمْ حَلَالٌ يَصْرِفُونَ فِيهِ، وَبَعْضُهُمْ يُبَالِغُ فِي الْأَذِيَّةِ حَتَّى إنَّهُمْ لَيَقْتُلُونَ الْبَهَائِمَ الَّتِي لَهُ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ لِأَخْذِهِمْ مَا أَرُصِدَ لَهَا مِنْ الْعَلَفِ فَوَقَعَ الْفَسَادُ. مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. [فَصْلٌ فِي الْغِرَاسَةِ] (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْغِرَاسَةُ فَهِيَ أَخَفُّ مِنْ الْفِلَاحَةِ غَالِبًا أَعْنِي فِي سَلَامَةِ مَنْ يَتَعَاطَاهَا مِنْ الذُّلِّ وَالْإِهَانَةِ مِمَّا يَجْرِي عَلَى الْفَلَّاحِينَ وَهِيَ أَنْجَحُ فِي حَقِّ مَنْ يُحْسِنُهَا. لَكِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى عِلْمٍ بِهَا وَعِلْمٍ فِيهَا. فَأَمَّا الْعِلْمُ بِهَا فَهُوَ الْعِلْمُ بِصِنَاعَةِ الْغِرَاسَةِ وَمَا يُصْلِحُهَا وَمَا يُفْسِدُهَا. وَأَمَّا الْعِلْمُ فِيهَا فَهُوَ تَعَلُّمُ لِسَانِ الْعِلْمِ وَمَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ وَمَا يُكْرَهُ وَمَا يُبَاحُ سِيَّمَا فِي الْمُسَاقَاةِ إذْ إنَّ لَهَا أَرْكَانًا وَشُرُوطًا لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا وَقَدْ كَثُرَتْ الْمُفَاسَدَةُ فِيهَا لِأَجْلِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا. وَيَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِنْيَاتِ الطَّرِيقِ بَلْ يَمْشِي عَلَى جَادَّةِ الْأَمْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَيَتْرُكُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الرُّكُونِ إلَى الْخِلَافِ الضَّعِيفِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْقَنَاطِرِ الَّتِي اصْطَلَحَ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ حَتَّى آلَ أَمْرُهُمْ فِيهَا إلَى أَنْ يَبِيعُوا الثَّمَرَةَ إلَى سِنِينَ وَيَعْتَلُّونَ بِأَنَّهَا مُسَاقَاةٌ، وَالْمُسَاقَاةُ فِي الشَّرْعِ لَهَا شُرُوطٌ وَأَرْكَانٌ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا مَوْجُودٌ إلَّا بِاللَّفْظِ الظَّاهِرِ لَيْسَ إلَّا، وَلَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ إذْ إنَّهُمْ إنَّمَا دَخَلُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَاقِي الثَّمَرَةَ كُلَّهَا فِي تِلْكَ السِّنِينَ. وَصِفَةُ مَا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُسَاقَاةٌ جَائِزَةٌ أَنْ يُسَاقِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى مِائَةِ جُزْءٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مِنْهَا لِلْمُسَاقِي وَجُزْءٌ وَاحِدٌ لِلْمُسَاقَاةِ ثُمَّ يَهَبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ جُزْءًا. فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى أَنَّ الْكُلَّ لِلْمُسَاقِي وَهَذَا بَيْعٌ لِلثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لَكِنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ أَشَدُّ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي يَهَبُهُ لِلْمُسَاقِي عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ لَا يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ وَهَذِهِ الْقَنَاطِرُ وَمَا أَشْبَهَهَا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ تَبِعَهُ لَا عِبْرَةَ

فصل في صناعة القزازة

بِهَا إذْ إنَّ قَاعِدَةَ مَذْهَبِهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى بَاطِنِ الْأَمْرِ وَمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ لَا إلَى اللَّفْظِ الظَّاهِرِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ تَرْكُ الِاحْتِرَافِ بِهَا كَمَا تَعَيَّنَ تَرْكُ الزَّارِعَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى سَبَبٍ آخَرَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَهَكَذَا كُلَّمَا وَجَدَ عِلَّةً فِي سَبَبِ تَرْكِهِ وَعَدَلَ إلَى غَيْرِهِ إلَى أَنْ يَجِدَ سَبَبًا عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ فَيَحْتَرِفُ بِهِ فَتَقَعُ لَهُ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ بِخِلَافِ مَنْ تَسَبَّبَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُخَالِفُ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تُمْحَقُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مَعَ الْإِثْمِ الْحَاصِلِ لَهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. [فَصْلٌ فِي صِنَاعَةِ الْقَزَازَةِ] ِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا كَالْكَلَامِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالْغِرَاسَةِ أَعْنِي فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَالْفَرْضُ أَعْلَى فِي الْفَضْلِ مِنْ السُّنَنِ فَيُنْظَرُ أَوَّلًا فِي النِّيَّاتِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْعَالِمُ إلَى الْمَسْجِدِ وَإِلَى إلْقَاءِ الدُّرُوسِ وَإِلَى السُّوقِ فَيَنْوِي مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْهَا فِيمَا يُحَاوِلُهُ مِنْ أَمْرِ صِنَاعَةِ الْقَزَازَةِ وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ فِي أَمْرِ صِنَاعَتِهَا عَلَى نِيَّةِ إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْهُ وَعَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِرَفْعِ الْكُلْفَةِ عَنْهُمْ فِي تَحْصِيلِ مَا يُحَاوِلُهُ وَتَيْسِيرِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَالنُّصْحِ لَهُمْ فِيهِ وَأَمْرُ الرِّزْقِ تَابِعٌ لِذَلِكَ لَا مَتْبُوعٌ إذْ إنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ فَلَيْسَ لِلْمَرْءِ قُدْرَةٌ عَلَى أَنْ يَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا بِصِنَاعَتِهِ وَلَا بِحِيلَتِهِ وَلَا عَلَى أَنْ يُنْقِصَ مِنْهُ شَيْئًا بِكَسَلِهِ وَتَرْكِهِ لِمُعَانَاتِهِ بَلْ يَكُونُ عَمَلُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلًا وَلَا عِوَضًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النَّصِيحَةُ فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ مِنْ صِنَاعَتِهِ فَيَنْصَحُ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَنْصَحُ لِنَفْسِهِ أَوْ أَكْثَرُ وَقَدْ قِيلَ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، فَإِذَا كَانَ الْغَزْلُ فِيهِ عَفَنٌ أَوْ أَصَابَتْهُ مِنْ قِلَّةِ التَّبْيِيضِ عِلَّةٌ تُضْعِفُ شَيْئًا مِنْ قُوَّتِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَيْعِ الْبَيَانَ الشَّرْعِيَّ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ

بَعْضُ مَنْ لَا يَسْأَلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ فِي صَنْعَتِهِ مِنْ النَّصِيحَةِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْبَيَانِ لَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَأْخُذُ غَزْلَ الْحَرِيرِ فَيَغْلِيه نِصْفَ غَلْيٍ ثُمَّ يُخْرِجُهُ وَهُوَ بَعْدُ عَلَى حَالِهِ مِنْ عَدَمِ كَمَالِ التَّبْيِيضِ ثُمَّ يَصْبُغُهُ ثُمَّ يَفْتَرِقُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْسَامٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهُ غَزْلًا لِمَنْ يُطَرِّزُ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسِجُهُ وَيَبِيعُهُ خِرْقَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ مِنْهُ حَاشِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْزِجُهُ مَعَ الْغَزْلِ كَثَوْبِ الطُّرَحِ، كُلُّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. أَمَّا تَرْكُهُمْ كَمَالَ بَيَاضِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُ لَا يَقْوَى لِلِاسْتِعْمَالِ بِخِلَافِ الَّذِي يُكَمِّلُ بَيَاضَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَقْوَى. وَأَمَّا بَيْعُهُ غَزْلًا فَهُوَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ أَيْضًا وَالْخَدِيعَةِ إذْ إنَّهُ لَا يَمْكُثُ إلَّا قَلِيلًا وَيَتَغَيَّرُ إنْ لَمْ يُغْسَلْ فَإِذَا غُسِلَ ذَهَبَ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْغَسْلِ يَتَصَوَّفُ وَيَرْجِعُ إلَى أَصْلِهِ شَعْرًا. وَأَمَّا نَسْجُهُ خِرْقَةً وَبَيْعُهَا فَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْغِشِّ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَأْخُذُهَا إنَّمَا يَأْخُذُهَا عَلَى سَبِيلِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ بَيَّنَ لَهُ الْبَائِعُ مَا يَتَأَتَّى فِي الْخِرْقَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ بِسَبَبِ مَا جَرَى فِي غَزْلِهَا لَامْتَنَعَ مِنْ شِرَائِهَا. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْبَائِعَ بَيَّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي وَرَضِيَ بِهِ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَقَدْ نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ وَمَنْ ارْتَكَبَ مَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ آثِمٌ. وَالثَّانِي - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَشْتَرِي الْخِرْقَةَ؛ لَأَنْ يَبِيعَهَا فَتَتَعَدَّى الْمَفْسَدَةُ إلَى غَيْرِهِ وَغَيْرِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ هَذَا لَا يُبَيِّنُ الْآخَرَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ إضَاعَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا وَهَذَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْكِيمْيَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ بَيَّنَ فَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ لَا يُبَيِّنُ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي التَّحْرِيمِ. وَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَرْجِعُ مِلْكًا إلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَصْلًا مِثْلُ الصَّبِيِّ فِي الْمَهْدِ يَرِثُ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَمُرُّ بِبَالِهِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ كَالْأَخْرَسِ الَّذِي لَا يَحْسِمُ الْكِتَابَةَ وَلَا تُفْهَمُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ فَيَحْصُلُ الضَّرَرُ لِمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ فَيَجِبُ قَطْعُ هَذِهِ

الْمَفْسَدَةِ حَتَّى يَسْلَمَ الْمَرْءُ مِنْ آفَتِهَا. وَمَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَتَمْتَحِقُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَمِنْ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ صُنْعِ الْغَزْلِ بِالْحُرْبُثِ وَهُوَ يُحْرِقُ الْغَزْلَ وَيُذْهِبُ بِقُوَّتِهِ وَيَتْرُكُ الصُّنْعَ بِالنِّيلَةِ وَهِيَ نَافِعَةٌ لِلْغَزْلِ غَيْرُ مُضِرَّةٍ لَهُ، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْفَسَادُ بِتَرْكِ مُلَاحَظَةِ اجْتِنَابِ مَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» وَلَا شَكَّ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ لَوْلَا مَحَبَّتُهُ لِلدُّنْيَا مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ الْعَظِيمَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحُرْبُثَ عِنْدَهُمْ أَرْخَصُ مِنْ النِّيلَةِ فَيَسْتَعْمِلُونَهُ لَعَلَّ أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ ثَمَنِ الصِّبْغَيْنِ وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ بِعَكْسٍ، فَلَوْ اسْتَعْمَلُوا النِّيلَةَ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لَكَانَ أَبَرْكَ وَأَنْجَحَ وَمَعَ ذَلِكَ يَسْلَمُونَ مِنْ غِشِّ النَّاسِ وَعَدَمِ نُصْحِهِمْ وَعَدَمِ الْإِثْمِ فِي الْمُخَالَفَةِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ شَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُنْقِصُ قُوَّةَ الْغَزْلِ أَوْ فِيهِ تَدْلِيسٌ مَا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. وَكَذَلِكَ لَا يَعْمَلُ عَلَى الْخِرْقَةِ شَمْعًا وَلَا يُدَلِّكُهَا بِشَيْءٍ حَتَّى تَحْسُنَ وَتَبْرُقَ أَوْ يَظْهَرَ أَنَّهَا صَفِيقَةٌ وَهِيَ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» فَلْيُعْمِلْ جَهْدَهُ عَلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَيُعَوِّضْ عَنْهُ النَّصِيحَةَ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْخِرْقَةِ أَرْشٌ أَوْ خَلَلٌ مَا فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْخِرْقَةِ حَتَّى يَظْهَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُشْتَرِي أَوَّلًا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُبَيِّنُ لَهُ الْبَيَانَ التَّامَّ، إذْ إنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ وَعُمْدَتَهَا إنَّمَا هُوَ بِأَكْلِ الْحَلَالِ وَالْحَلَالُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ النَّصِيحَةِ لِنَفْسِهِ وَلِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ أَوْ أَبَى، وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ أَوْ أَبَى. ، وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ عَمَلِهِ لِلصِّنَاعَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِتَحْصُلَ الْبَرَكَةُ لَهُ وَلِمَنْ يَسْتَعْمِلُ

تِلْكَ الْخِرْقَةَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِشُغْلِ بَالِهِ بِتَدْبِيرِ صَنْعَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ الذِّكْرِ بِقَلْبِهِ وَهَكَذَا يَفْعَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُحَاوِلُهُ مِنْ شُغْلِهِ بِأَمْرِ الصِّنَاعَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ فَفَاعِلُهَا يَتَصَرَّفُ فِي فَرْضٍ وَاجِبٍ وَفِعْلُهُ فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ، فَكَيْفَ بِهِ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ حُسْنُ النِّيَّةِ وَتَعَدُّدُهَا وَاحْتِسَابُهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ لَا يَحْصُرُهُ إلَّا مَنْ مُنَّ بِهِ فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ شُغْلِهِ فِي الصِّنَاعَةِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَرْءِ الْمُتَعَدِّيَةِ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي مِنْ الْخَيْرِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُبَالِي صَاحِبُ هَذَا الْحَالِ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَفْجَؤُهُ الْمَوْتُ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَهُ إنَّمَا يَجِدُهُ فِي الطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ الْمُتَعَدِّي إذْ إنَّ أَحْوَالَهُ كُلَّهَا قَدْ صَارَتْ جَمِيعُهَا عِبَادَةً يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ فِي صِنَاعَتِهِ كُلَّ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُفْسِدٌ لِنِيَّتِهِ أَوْ مُنْقِصٌ لَهَا وَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مُقْتَضَى عِلْمِ الصَّنْعَةِ، فَكُلُّ شَيْءٍ يَرَى أَهْلُ الصَّنْعَةِ أَنَّهُ غِشٌّ أَوْ مَكْرُوهٌ فِيهَا فَيَجْتَنِبُهُ وَلَا يَقْرَبُهُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ عَلَى يَدِهِ نَجَاسَةٌ أَنْ يَمَسَّ الْخِرْقَةَ أَوْ الْغَزْلَ إذْ ذَاكَ حَتَّى يَغْسِلَ النَّجَاسَةَ. وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَيْهَا بِقَدَمِهِ وَفِيهَا النَّجَاسَةُ. وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ أَوْ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ أَوْ يَنْشُرَ الْغَزْلَ عَلَى حَائِطٍ أَوْ جَرِيدٍ أَوْ حَبْلٍ نَجِسٍ. وَكَمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ مَنْ عِنْدَهُ مِمَّنْ يُحَاوِلُ ذَلِكَ مَعَهُ مِنْ الصَّانِعِ وَالصَّبِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهَذِهِ الصَّنْعَةُ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّنَائِعِ وَأَعْظَمِهَا؛ لِأَنَّ بِهَا تَقَعُ السُّتْرَةُ غَالِبًا وَالسُّتْرَةُ وَاجِبَةٌ فِي الشَّرْعِ سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ. وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُرَاعِي حَقَّ أَهْلِهَا وَمَا زَالَ الْفُضَلَاءُ وَأَهْلُ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ يَحْتَرِفُونَ بِهَا. وَهَذَا بِضِدِّ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ وَيُجَاسِرُ بِالنُّطْقِ بِضِدِّ مَا يُخَالِفُهُ نَصُّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى فِي كِتَابِهِ عَنْ كُفَّارِ قَوْمِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] قَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ الْقَزَّازُونَ فَهُمْ الْأَرْذَلُونَ عِنْدَ الْكُفَّارِ وَهُمْ الْخَوَاصُّ عِنْدَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مَدْحٌ لَهُمْ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ خَصَّهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ أَصْحَابِهِ «لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» يَعْنِي أَنَّ مَنْ سَبَقَ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ فَازَ بِالسَّبْقِ فَلَا يَقْدِرُ مَنْ بَعْدَهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ أَنْ يَصِلَ إلَى فَضِيلَتِهِ، وَلَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] وَانْظُرْ إلَى قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] وَقَوْله تَعَالَى {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119] {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} [الشعراء: 120] فَلَا يَخْطِرُ بِقَلْبِ مُسْلِمٍ أَنَّ مَنْ نَجَا مَعَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُمْ هُمْ الْأَرْذَلُونَ، وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ السُّفَهَاءِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّنْعَةِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي زَمَانِ الْحَرِّ تَعَرَّوْا مِنْ السُّتْرَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَتَبْقَى عَوْرَاتُهُمْ بَادِيَةً وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُمْ. وَقَدْ سَلِمَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ مِنْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ لَكِنْ قَدْ بَقِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَلْبَسُونَ سَرَاوِيلَ بِحَيْثُ إنَّهُ يَكُونُ فِي الصِّغَرِ يَصِفُ الْعَوْرَةَ وَيَبْقَى بَعْضُ الْفَخِذِ مَكْشُوفًا وَلَيْسَ الثَّوْبُ الَّذِي يَصِفُ الْعَوْرَةَ مَمْنُوعًا وَإِظْهَارُ بَعْضِ الْفَخِذِ مَكْرُوهٌ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ: حَرَامٌ، وَمَنْ تَعَرَّى مِنْ السُّتْرَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْبَهَائِمِ إذْ إنَّ وَجْهَ الْبَهِيمَةِ وَفَرْجَهَا مَكْشُوفَانِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ الْبَهِيمَةِ إذْ إنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ وَهَذَا الْمِسْكِينُ مُخَاطَبٌ فَهُوَ عَاصٍ فِي فِعْلِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ وَصِيَانَةُ أَصْحَابِهِ وَمَعَارِفِهِ مِنْ هَذِهِ النَّازِلَةِ فَإِنَّهَا شَنِيعَةٌ قَبِيحَةٌ. وَقَدْ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ بَعْضُ الْمُبَارَكِينَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ يَعْمَلُ عَلَى نَوْلِهِ حَصِيرًا يَسْتُرُهُ مِنْ رُؤْيَةِ النَّاسِ حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ رُؤْيَةِ مَا يَكْرَهُ أَوْ يُمْنَعُ. وَهَذَا هُوَ لِلَّذِي يَتَعَيَّنُ

فِي هَذَا الزَّمَانِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مِنْ قَوْمٍ رَاجِعِينَ إلَيْهِ مُمْتَثِلِينَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْهُمْ. وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْغَزْلَ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَيَخْلِطُونَ الْجَمِيعَ سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مِثْلَ الْآخَرِ أَوْ أَرْفَعَ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ فَيَنْسِجُونَ الْجَمِيعَ وَيُعْطُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ غَزْلِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْغَزْلَيْنِ مِثْلَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الصِّنَاعَةِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ. وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ لَا يَلْبَسُ إلَّا الْحَلَالَ الْبَيِّنَ. وَقَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ بِالْعَكْسِ وَمَا بَيْنُهُمَا. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْغَزْلَ الرَّفِيعَ لِنَفْسِهِ وَيُبَدِّلُهُ بِأَغْلَظَ مِنْهُ، أَوْ بِغَزْلٍ عَفِنٍ ضَعِيفِ الْقُوَّةِ مِثْلِهِ فِي الرُّفْعِ وَذَلِكَ حَرَامٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا لَا يَأْخُذُهَا حَصْرٌ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ الْبَيِّنِ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الصِّنَاعَةِ فِي شَيْءٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ قِسْمَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ صَانِعًا يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ. وَهُوَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ بِالْغَزْلِ يَنْسِجُهُ لَهُمْ وَهَذَا يُسَمُّونَهُ بِالْقِبَالَةِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَشْتَرِيَ الْغَزْلَ وَيَنْسِجَهُ لِنَفْسِهِ وَيَبِيعَهُ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ - يَحْتَاجُ الصَّانِعُ فِيهِ إلَى النُّصْحِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ لِمُعَلِّمِهِ وَيَتَّبِعُ غَرَضَهُ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَقْتَضِي التَّدْلِيسَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فَلَا يَرْجِعُ لِمُعَلِّمِهِ فِيهِ فَإِنْ أَبَى الْمُعَلِّمُ؛ تَرَكَهُ وَمَرَّ إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يُخْلِصُ ذِمَّتَهُ عِنْدَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي - أَنْ يَعْمَلَ لِلنَّاسِ لِلْقِبَالَةِ فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى النُّصْحِ أَيْضًا فِي عَمَلِهِ وَيَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَرِزَ عَلَى الْخُيُوطِ الَّتِي تَفْضُلُ فَلَا يَرْمِي مِنْهَا شَيْئًا، وَإِنْ قَلَّ. وَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْ الصِّبْيَانِ الصِّغَارِ الَّذِينَ يَخَافُ مِنْهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا شَيْئًا مِنْ الْغَزْلِ أَوْ يَرْمُوهُ أَنْ يُبَاشِرُوا غَزْلَ النَّاسِ فَيَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ فَإِنْ فَضَلَ. بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْخُيُوطِ جَمَعَهُ وَأَلْقَاهُ فِي بَاطِنِ الْخِرْقَةِ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ، وَأَمَّا

فصل في القصارة

إذَا كَانَ يَشْتَرِي الْغَزْلَ وَيَعْمَلُهُ لِنَفْسِهِ وَيَبِيعُهُ فِي السُّوقِ فَهُوَ أَسْلَمُ فِي الْغَالِبِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَنْصَحَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُدَلِّسَ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الشَّمَعِ أَوْ الدَّلْكِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَيَحْتَرِزُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْغَزْلِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي الْبَيَاضِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُضْعِفُهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَامِحُ نَفْسَهُ إذَا كَانَ يَبِيعُ فِي السُّوقِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عَجَزَتْ الْخِرْقَةُ الَّتِي يَعْمَلُهَا لِلْقِبَالَةِ يُكْمِلُهَا بِغَزْلٍ سُوقِيٍّ مِنْ عِنْدِهِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا وَيَأْخُذُ بَعْدَ ذَلِكَ عِوَضَهُ أَوْ يُكَمِّلُهَا بِغَزْلٍ آخَرَ لِغَيْرِ صَاحِبِهَا ثُمَّ يَأْخُذُ عِوَضَهُ وَيُعْطِيه لِلْأَوَّلِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَمَا شَابَهَهَا وَمَنْ يُبَاشِرُ الْأَمْرَ بِنَفْسِهِ هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فَتَلْزَمُهُ الْمَصَالِحُ وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمَفَاسِدُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي الْقِصَارَةِ] قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَمْرِ الْقَزَازَةِ مَا يَنْوِيه فِيهَا مِنْ النِّيَّاتِ وَمَا يَجْتَنِبُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِصَارَةِ. فَمِمَّا يُجْتَنَبُ فِيهَا أَنْ لَا يُقَصِّرَ بِمَاءٍ نَجِسٍ وَلَا يَبْسُطَ الْقُمَاشَ عَلَى شَيْءٍ نَجِسٍ وَلَا يَمْشِي عَلَيْهِ بِأَقْدَامِهِ وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَشْيُ لَا يَصِلُ إلَى رَشِّ الْقُمَاشِ كُلِّهِ إلَّا بِهِ فَيَجُوزُ. وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَرْوَاثَ الْبَقَرِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْقَصَّارِينَ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْخِرْقَةَ سَرِيعًا بِسَبَبِ شِدَّةِ حَرَارَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُشْبِهُهُ. وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْجِيرِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُهُمَا عَاجِلًا. وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْصِرَهَا عَصْرًا شَدِيدًا خَارِجًا عَنْ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهَا. وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ مِنْ ضَرْبِ الْخِرَقِ عَلَى الْحِجَارَةِ حِينَ الْقَصَارَةِ وَذَلِكَ يَذْهَبُ بِقُوَّةِ الْخِرْقَةِ وَيُضْعِفُهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى الصَّانِعِ وَعَلَى صَاحِبِ الْخِرْقَةِ، وَإِنْ رَضِيَا بِذَلِكَ. وَالْقِصَارَةُ الْمُبَاحَةُ إنَّمَا هِيَ بَلُّ

الْقُمَاشِ وَنَشْرُهُ فَإِذَا نَشَفَ أَعَادَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْيَضَّ وَإِنَّمَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِصَارَةِ الْمُبَاحَةِ وَبَيْنَ مَا يَفْعَلُونَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِطُولِ الْمُدَّةِ وَقِصَرِهَا فَيَسْتَعْجِلُونَ فِي قَصْرِ الزَّمَانِ الَّذِي يُقَصَّرُ فِيهِ حَتَّى يَبْيَضَّ فِيهِ سَرِيعًا وَذَلِكَ سَبَبٌ فِي قِصَرِ عُمْرِ الثَّوْبِ حِينَ اسْتِعْمَالِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فَلْيَصْبِرْ مُدَّةً تَبْيَضُّ فِيهَا الْخِرْقَةُ دُونَ مُعَالَجَةٍ لَهَا بِمَا يَضُرُّ بِهَا. ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ زَادَ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْخِرْقَةَ فِي بَيْتِهِ وَيَتَّخِذَهَا سُفْرَةً أَوْ سِمَاطًا. وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيرَهَا لِغَيْرِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا مُدَّةً وَيَتَعَلَّلُ لِصَاحِبِهَا كُلَّمَا طَالَبَهُ بِهَا بِأَنَّهَا لَمْ تَفْرُغْ قِصَارَتُهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ يَسْتَعْمِلُهَا وَيَتَمَنْدَلُ بِهَا حَتَّى إذَا أَعْيَا صَاحِبُهَا حِينَئِذٍ يَخْرُجُ بِهَا لَيُقَصِّرَهَا وَيَفْعَلُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَتَبْيَضُّ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ وَلِذَلِكَ يَكُونُ تَقْطِيعُهَا فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ بَعْدَ لُبْسِهَا لِمَا صَنَعَ فِيهَا مِنْ الْجِيرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الصَّنْعَةَ تَقْتَضِي أَنْ يُحَاوِلَهَا بِالْجِيرِ وَالرَّوْثِ وَمَا يُشْبِهُهُ؛ لِأَنَّ الْخِرْقَةَ لَا تَبْيَضُّ إلَّا بِهَا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِصَارَةَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا هِيَ بِالْمَاءِ وَالشَّمْسِ لَا بِغَيْرِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا مُشَاهَدَةٌ مَرْئِيَّةٌ مِنْهُمْ فَتَجِدُ فِي الْخِرْقَةِ بِسَبَبِ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أُرُوشًا كَثِيرَةً وَبَعْضُهُمْ يُرْفِيهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا وَيَسْتُرُ ذَلِكَ بِالصَّقْلِ مَعَ الصَّابُونِ وَيُدَلِّسُ بِذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهَا. وَبَعْضُهُمْ لَا يَنْصَحُ فِي قِصَارَتِهَا بَلْ يُحَسِّنُهَا بِأَشْيَاءَ فَإِذَا لُبِسَتْ ثُمَّ غُسِلَتْ ظَهَرَتْ سُمْرَتُهَا وَقَدْ سَرَى غِشُّهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَشْتَرِي الْخِرْقَةَ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي الذَّارِعَ مَثَلًا أَوْ أَكْثَرَ بِدِرْهَمَيْنِ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ وَغُسِلَتْ تَخْرُجُ فِي أَوَّلِ غَسْلِهِ وَلَا خَفَاءَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ. وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا أَنَّ بَعْضَ الْقَصَّارِينَ يَسْتَحِلُّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَيَتَعَلَّلُ بِأَنَّ الْقُمَاشَ إنْ لَمْ يُلْبَسْ لَمْ تَحْسُنْ قِصَارَتُهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبه. وَبَعْضُ النَّاسِ يَسْتَعْمِلُ الْخِرْقَةَ حَتَّى إذَا تَدَنَّسَتْ دَفَعَهَا إلَى الْقَصَّارِ

فصل في صناعة الخياطة

فَتَارَةً يُسْرِعُ الْقَصَّارُ فِي قِصَارَتِهَا وَتَارَةً يَسْتَعْمِلُهَا الْآخَرُ ثُمَّ يُقَصِّرُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَا فَرَغَتْ قِصَارَتُهَا خَرَجَتْ كَأَنَّهَا جَدِيدَةٌ لِمَا يَفْعَلُ فِيهَا مِمَّا يُحَسِّنُهَا ظَاهِرًا فَإِذَا أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي وَلَبِسَهَا تَقَطَّعَتْ سَرِيعًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَسَبَبُ هَذَا الْغِشِّ عَدَمُ الْبَيَانِ الْمُعْتَبَرِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَقَدْ وَرَدَ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فَلْيَتْرُكْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. شَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا وَاحِدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ وَنِيَّتِهِ وَآخَرُ يَدْخُلُ النَّارَ بِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ سُوَيْدَاءُ الْقُلُوبِ مِنْ النِّيَّاتِ الْحَسَنَةِ وَضِدِّهَا وَمِنْ حُسْنِ التَّصَرُّفِ أَوْ ضِدِّهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ فِي عِلِّيِّينَ يَرْجِعُ إلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ بِسَبَبِ عَمَلِهِ وَنِيَّتِهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْغِشِّ مِنْ الْمَهَالِكِ إلَّا أَنَّ الْبَرَكَةَ تُنْزَعُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ ضَرَرِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَسُوءِ تَصَرُّفِهِ فِي حَقِّهِمْ وَعَدَمِ نُصْحِهِ لَهُمْ، وَمَنْ نَصَحَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ فَقَدْ فَازَ بِالرَّاحَةِ وَالْعَافِيَةِ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا، أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِكَرَمِهِ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ. [فَصْلٌ فِي صِنَاعَةِ الْخِيَاطَةِ] ِ وَهَذِهِ الصَّنْعَةُ أَيْضًا مِنْ آكَدِ الصَّنَائِعِ وَهِيَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِسِتْرِ الْعَوْرَةِ غَالِبًا وَذَلِكَ فَرْضٌ سِيَّمَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا كُلَّهَا عَوْرَةٌ. وَأَمَّا الرَّجُلُ فَمِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ وَسَتْرُ بَاقِي بَدَنِهِ سُنَّةٌ وَكَمَالٌ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ التَّجَمُّلُ الْمَطْلُوبُ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، ثُمَّ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ عَلَى عِبَادِهِ {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذِكْرِ الْحَرِّ عَلَى الْبَرْدِ إذْ أَنَّ مَا يَقِي الْحَرَّ يَقِي الْبَرْدَ

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْخِيَاطَةُ خَيْرُهَا مُتَعَدٍّ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَيْرَ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرِ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَحْدَهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يُدَنِّسَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَشِينُهَا أَوْ يَذْهَبُ بِثَوَابِهَا أَوْ يُنْقِصُهَا وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِالتَّعْلِيمِ أَوْ بِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ. فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النُّصْحُ فِي صَنْعَتِهِ جَهْدَهُ لِتَحْصِيلِ هَذَا الثَّوَابِ، وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْمَفَاسِدَ فِي صَنْعَتِهِ فَإِنَّ ضَرَرَهَا مُتَعَدٍّ كَمَا أَنَّ خَيْرَهَا مُتَعَدٍّ إذْ إنَّهُ إذَا لَمْ يَنْصَحْ فِيهَا كَانَ فِي ذَلِكَ ضَيَاعٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ. وَمَفَاسِدُهَا عَدِيدَةٌ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ أَوْ تَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ لِكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا لَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهَا لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا كَلَّفَ الصَّانِعَ الَّذِي عِنْدَهُ أَنْ يَخِيطَ بِالْخَيْطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْتِلَهُ فَلَا يَفْعَلُ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَيْطَ إذَا لَمْ يُفْتَلْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ تُقِيمُ الْخِيَاطَةَ مَعَهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُلَّ وَيُوَسِّعَ بَيْنَ الْغُرْزَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ أَوْ يُكْرَهُ فَيَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يَخِيطُهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا لِأُجْرَتِهِ مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبَ حَرِيرٍ لِلرِّجَالِ أَوْ ثَوْبًا مِنْ غَيْرِ الْحَرِيرِ سَابِلًا لِأَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ أَوْ يَكُونَ فِي الثَّوْبِ لِلرِّجَالِ وُسْعٌ خَارِقٌ يَصِلُ إلَى حَدِّ السَّرَفِ فَهَذَا مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ. وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالثَّوْبُ الْوَاسِعُ وَالسَّابِلُ فِي حَقِّهِنَّ سُنَّةٌ وَكَمَالٌ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي تَفْصِيلِهِ ثِيَابَ النِّسَاءِ عَلَى مَا اصْطَلَحْنَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِنْ لُبْسِ الضَّيِّقِ وَالْقَصِيرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَائِدِهِنَّ الذَّمِيمَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ فِي ثِيَابِ الرِّجَالِ أَنْ تَكُونَ قَصِيرَةً دُونَ وُسْعٍ خَارِقٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُلُوكِ لَهُ وَلَمَّا دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ سَيِّدُ الْعِبَادِ فِي زَمَانِهِ عَلَى بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ وَكَانَ ثَوْبُهُ إلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، قَالَ لَهُ بِلَالٌ: مَا هَذِهِ الشُّهْرَةُ يَا ابْنَ وَاسِعٍ؟

فَقَالَ لَهُ ابْنُ وَاسِعٍ: أَنْتُمْ شَهَرْتُمُونَا هَكَذَا كَانَ لِبَاسُ مَنْ مَضَى وَإِنَّمَا أَنْتُمْ طَوَّلْتُمْ ذُيُولَكُمْ فَصَارَتْ السُّنَّةُ بَيْنَكُمْ بِدْعَةً وَشُهْرَةً وَالْوَاسِعُ الطَّوِيلُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ هُوَ السُّنَّةُ فَعَكَسُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفَصِّلَ ثَوْبًا لِجِنْدَارٍ أَوْ ظَالِمٍ وَمَا أَشْبَهَهَا وَلَا يَخِيطُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَهُمْ عَلَى مَا يَتَعَاطَوْنَهُ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الْإِثْمِ بِسَبَبِ الْإِعَانَةِ لَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَبِهِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ أَقَلَّ مَرَاتِبَ الْإِنْكَارِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ فَإِنَّهُ إذَا بَاشَرَهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَكَلَامِهِمْ وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ الْهِجْرَانِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا سُحْتٌ وَهُوَ يَتْعَبُ فِي صَنْعَتِهِ لِيَأْكُلَ الْحَلَالَ فَكَيْفَ يَأْخُذُ الْحَرَامَ الْبَيِّنَ فِي أُجْرَتِهِ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ التَّعَبُ وَأَكْلُ الْحَرَامِ. وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقَعُ لِبَعْضِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَلَالَ بِسَبَبِ صَنْعَتِهِ وَهُوَ يَعْمَلُهَا لِمَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنْ اضْطَرَّ إلَى الْخِيَاطَةِ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ غُصِبَ عَلَيْهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَسِّعَ الْحِيلَةَ فِي أَخْذِ أُجْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْبِهِمْ مِثْلَ أَنْ يَتَدَايَنُوا وَيَدْفَعُوا لَهُ أُجْرَتَهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يُحِيلُوهُ بِهَا عَلَى مَنْ هُوَ مُسْتَتِرٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِيمَا بِيَدِهِ. وَهَذَا إذَا كَانَ مَالُ الظَّالِمِ كُلُّهُ حَرَامًا فَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَيَّلَ فِي أَخْذِ أُجْرَتِهِ مِنْ الْجِهَةِ الْمَسْتُورَةِ بِالْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ أَبْرَكُ وَأَنْجَحُ لِعَمَلِهِ وَسَعْيِهِ وَمِنْ آكَدِ مَا يَجْتَنِبُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَخِيطَ لِمُقَدِّمٍ وَمَنْ فَوْقَهُ وَمَنْ دُونَهُ مِمَّنْ يُشْبِهُهُمْ فِي كَثْرَةِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَمِنْ آكَدِهَا أَيْضًا أَنْ لَا يُفَصِّلَ وَلَا يَخِيطَ ثَوْبًا لِامْرَأَةٍ يَتَّهِمُهَا بِالْبِغَاءِ أَوْ مَنْ هِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهِ فَإِنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهَا عَلَى الزِّنَا لِكَوْنِهَا تَتَجَمَّلُ بِلُبْسِ ذَلِكَ لِغَيْرِ زَوْجِهَا. أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ لِنُطْفَةٍ وَقَعَتْ فِي حَرَامٍ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَخِيطُ لِمَنْ كَانَتْ مُتَبَرِّجَةً مِنْ النِّسَاءِ مُظْهِرَةً لِلزِّينَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَفُ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهَا عَلَى الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّجَ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ وَيَجُرُّ

ذَلِكَ إلَى إدْخَالِ التَّشْوِيشِ وَالْفَسَادِ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] وَمَنْ أَعَانَ عَلَى الْفِتْنَةِ فَهُوَ كَفَاعِلِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ فِتْنَةَ شَارِبِ الْخَمْرِ قَدْ تَعَدَّتْ إلَى لَعْنِ نَحْوِ الْعَشَرَةِ وَهُمْ عَاصِرُهَا وَشَارِبُهَا وَبَائِعُهَا وَمُشْتَرِيهَا وَالْمَحْمُولَةُ لَهُ وَمُقْتَنِيهَا وَحَاضِرُهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ كُلُّ مُخَالَفَةٍ فِي الْغَالِبِ تَجِدُ فِتْنَتَهَا مُتَعَدِّيَةً فَيَقَعُ الْإِثْمُ عَلَى فَاعِلِهَا وَعَلَى كُلِّ مَنْ أَعَانَهُ بِشَيْءٍ مَا بِحَسَبِ حَالِهِ فَلْيَحْذَرْ مَنْ يَحْذَرُ وَمَا التَّوْفِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ. وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفَصِّلَ وَلَا يَخِيطَ ثَوْبًا لِمَكَّاسٍ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّنْ شَابَهَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ وَتَرْكُ التَّغْيِيرِ عَلَيْهِ أَيْضًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ الْوَاسِعِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُتَلَبِّسًا بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِ مَا يَأْمُرُ الْعِلْمُ بِهِ وَالْعِلْمُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي ثَوْبِهِ مِنْ السِّجَافِ الْوَاسِعِ فِي ذَيْلِهِ وَأَكْمَامِهِ وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْهُ جَهْدَهُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ قُصَاصَةَ كُلِّ مَا خَيَّطَهُ وَمَا فَضَلَ فَيَحْفَظُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُلْقِيه فِي الثَّوْبِ حِينَ طَيِّهِ وَلَا يَغْفُلُ عَنْ ذَلِكَ فَتَعْمُرُ بِهِ ذِمَّتُهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ وَيَشْغَلَ بِحِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ وَالشُّرُوعِ فِي أَسْبَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالْمُضِيِّ إلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ وَلَا يَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ فَضِيلَةِ ذَلِكَ بِسَبَبِ صَنْعَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ خُسْرَانٌ بَيِّنٌ وَحِرْمَانٌ ظَاهِرٌ وَمُذْهِبٌ لِلْبَرَكَاتِ وَسَائِقٌ إلَى الْمُخَالَفَاتِ؛ لِأَنَّ السَّيِّئَةَ لَهَا أُخَيَّاتٌ كَمَا أَنَّ الْحَسَنَةَ لَهَا أُخَيَّاتٌ فَيَخَافُ عَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَئُولَ أَمْرُهُ إلَى تَرْكِ الصَّلَوَاتِ أَوْ وُقُوعِ الْخَلَلِ فِيهَا وَشُغْلُهُ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ وَالْأَخْذُ فِي شَأْنِهَا يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ وَيُذْهِبُ بِالتَّعَبِ وَتَقَعُ بِهِ الْبَرَكَةُ. وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]

الْآيَةَ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالُوا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْأَسْوَاقِ الَّذِينَ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ تَرَكُوا كُلَّ شُغْلٍ وَبَادَرُوا إلَيْهَا وَرَأَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَهْلَ السُّوقِ وَهُمْ مُقْبِلُونَ إلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَادَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] وَمَا يَفْعَلُهُ هُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يَأْمُرُ بِهِ مَنْ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ الصُّنَّاعِ فَإِنَّهُمْ مِنْ رَعِيَّتِهِ «وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِالْخَيَّاطِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ مِنْ الْخَيَّاطِينَ وَغَيْرِهِمْ فَحَقٌّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَادِرُوا إلَى مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُدِبُوا إلَيْهِ لِتَحْصُلَ لَهُمْ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ لِامْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ مِنْ الْغِيبَةِ وَالْمُزَاحِ بِالْكَذِبِ وَأَخْبَارِ النَّاسِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ مَا هُوَ حَرَامٌ وَمِنْهُ مَا يَجُرُّ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ الْبَيِّنِ سِيَّمَا إنْ كَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ الشُّبَّانِ فَتَكْثُرُ الْمَفَاسِدُ وَقَدْ يَئُولُ إلَى ارْتِكَابِ أُمُورٍ كَانُوا عَنْهَا فِي غِنًى. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ: يَفْرُغُ ثَوْبُك بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ لَا يَفِي لَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «وَيْلٌ لِلصَّانِعِ مِنْ غَدٍ وَبَعْدَ غَدٍ وَوَيْلٌ لِلتَّاجِرِ مِنْ تَاللَّهِ وَبِاَللَّهِ» ثُمَّ لِيَحْذَرْ أَيْضًا مِنْ الْأَيْمَانِ فَإِنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَادِقَةً فَلَيْسَتْ مِنْ شِيَمِ النَّاسِ وَلَا مِنْ عَادَتِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَحْتَرِمُونَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَذْكُرُوهُ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اتِّخَاذَ السَّجَّادَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِدْعَةٌ فَإِنْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهَا بِسَبَبِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ تَوَقِّي نَجَاسَةٍ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ مِنْ حَصِيرٍ أَوْ مِنْ الْقُمَاشِ الْغَلِيظِ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى مَا لَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مَكْرُوهَةٌ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا

بَالُك بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّجَّادَاتِ الَّتِي تُعْمَلُ مِنْ النَّصَافِي وَشَبَهِهَا وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا وَالْإِعَانَةُ عَلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ يَكُونُ مَكْرُوهًا فَلَا يُعِينُ بِخِيَاطَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ مَخِيطَةً عَلَى تَرْتِيبِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ جَعْلِ الْقِبْلَةِ وَتَضْرِيبِهَا؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ تَوَاضُعٍ وَخُشُوعٍ وَذِلَّةٍ وَمَسْكَنَةٍ لَا حَالَ فَخْرٍ وَخُيَلَاءَ وَتَنَعُّمٍ، حَتَّى إنَّهُ لَيُعْطِي بَعْضُهُمْ فِي خِيَاطَةِ السَّجَّادَةِ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ خِرْقَتِهَا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ خِيَاطَةَ دُلُوقِ الشُّهْرَةِ وَالْمُرَقَّعَاتِ الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُ النَّاسِ كَأَنَّهَا دَكَاكِينُ فَتَجِدُ بَعْضُهُمْ يَأْخُذُ خِرَقًا جُمْلَةً مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ وَأَخْضَرَ وَأَحْمَرَ وَأَسْوَدَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَيُرَتِّبُونَهَا وَاحِدَةً بِجَنْبِ الْأُخْرَى وَبَعْضُهُمْ يَتَغَالَى فِي تِلْكَ الْمُرَقَّعَاتِ فَيَجْعَلُهَا مِنْ الْقُمَاشِ الرَّفِيعِ الْفَاخِرِ الَّذِي لِتَفْصِيلِهِ ثَمَنٌ كَثِيرٌ فَيَقْطَعُونَهَا خِرْقَةً خِرْقَةً لِأَجْلِ غَرَضِ الشُّهْرَةِ الْمَمْنُوعَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى صِفَةِ هَذِهِ الْمُرَقَّعَةِ أَيُّ شَبَهٍ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مُرَقَّعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّتِي كَانَ فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رُقْعَةً أَحَدُهَا مِنْ أُدْمٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ وَقَدْ رَقَّعَ الْخُلَفَاءُ ثِيَابَهُمْ قَالَ: وَذَلِكَ مِنْ شِعَارِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْمُتَّقِينَ قَالَ وَأَخْطَأَتْ الصُّوفِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَجَعَلَتْهُ فِي الْجَدِيدِ وَأَنْشَأَتْهُ مُرَقَّعَاتٍ مِنْ أَصْلِهِ وَهَذَا دَاخِلٌ فِي بَابِ الرِّيَاءِ، قَالَ: وَالْمَقْصُودُ بِالتَّرْقِيعِ اسْتِدَامَةُ الِانْتِفَاعِ بِالثَّوْبِ عَلَى هَيْئَتِهِ أَوْ يَكُونُ رَافِعًا لِلْعُجْبِ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى: لَيْسَ التَّصَوُّفُ لُبْسَ الصُّوفِ تُرَقِّعُهُ ... وَلَا بُكَاؤُك إنْ غَنَّى الْمُغَنُّونَا وَلَا صِيَاحٌ وَلَا رَقْصٌ وَلَا طَرَبٌ ... وَلَا ارْتِعَاشٌ كَأَنْ قَدْ صِرْت مَجْنُونًا بَلْ التَّصَوُّفُ أَنْ تَصْفُوَ بِلَا كَدَرٍ ... وَتَتْبَعَ الْحَقَّ وَالْقُرْآنَ وَالدِّينَا وَأَنْ تُرَى خَاشِعًا لِلَّهِ مُكْتَئِبًا ... عَلَى ذُنُوبِك طُولَ الدَّهْرِ مَحْزُونًا

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ كَسَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ ذُلٍّ وَصَغَارٍ ثُمَّ أَشْعَلَهُ عَلَيْهِ نَارًا» وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ: إنَّهُ أَشَدُّ مِنْ الْمُطْرَقِ بِالْمِطْرَقَةِ وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْمُطْرَقَ بِالْمِطْرَقَةِ قَدْ عَلِمَ مَنْعَهُ وَتَحْرِيمَهُ بِالشَّرْعِ الشَّرِيفِ غَالِبًا بِخِلَافِ هَذِهِ الْمُرَقَّعَاتِ فَإِنَّهُ يَلْتَبِسُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَمْرُهَا فَيَظُنُّ جَوَازَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخِيطَ أَقْبَاعَ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ كَمَا لَا يَخِيطُ ثَوْبًا حَرِيرًا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُعِينًا لَهُمْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فَكَانَ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الْإِثْمِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ يَجْتَنِبُ خِيَاطَةَ الْقُبَعِ الَّذِي أُجْرَةُ خِيَاطَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ لِحُسْنِ خِيَاطَتِهِ كَمَا سَبَقَ فِي السَّجَّادَةِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْغِشِّ بِعَمَلِ الطَّوَاقِي وَالْأَقْبَاعِ مِنْ الْخِرَقِ الْمَلْبُوسَةِ الَّتِي يُدَلِّسُونَ بِهَا عَلَى النَّاسِ فَإِنَّهُمْ يَغْسِلُونَهَا وَيُنَشُّونَهَا وَيُصْقِلُونَهَا صَقْلًا كَثِيرًا حَتَّى تَصِيرَ كَأَنَّهَا جَدِيدَةٌ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَبِيعُهَا بِمِثْلِ ثَمَنِهَا لَوْ كَانَتْ جَدِيدَةً أَوْ بِمَا يُقَارِبُهُ فَإِذَا غُسِلَتْ تَقَطَّعَتْ وَتَمَزَّقَتْ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الصَّنْعَةِ فِي شَيْءٍ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ وَذَلِكَ مِنْ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهَا وَيُبَيِّنُ أَنَّهَا مِنْ الْخَلِيعِ وَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَإِنْ بَاعَهَا بِثَمَنِ مِثْلِهَا وَرَضِيَا بِذَلِكَ هَذَا إذَا صَقَلَهَا وَحَسَّنَهَا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَقْلَهَا وَتَحْسِينَهَا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ يَزِيدُهَا ضَعْفًا عَلَى ضَعْفِهَا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ لَا يَعْمَلَ الذَّهَبَ فِي أَقْبَاعِ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَفْعَلُهُ فِي الْقُصَاصَةِ وَالْخِرَقِ الَّتِي تَفْضُلُ مِنْ الْخِيَاطَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَقْبَاعِ الْجَائِزِ لُبْسُهَا يَرُدُّ مَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ وَفِي الْإِشَارَةِ مَا يُغْنِي عَنْ الْعِبَارَةِ بِذِكْرِ تَفَاصِيلِ مَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْخِيَانَةِ وَعَدَمِ الِاحْتِرَازِ لَا جَرَمَ أَنَّ الْبَرَكَةَ قَدْ انْحَازَتْ عَنْهُمْ بِمَعْزِلٍ وَكَيْفَ لَا وَالْبَرَكَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الِامْتِثَالِ وَالنُّصْحِ لِلْعِبَادِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَأَمَّا الْجَمَاجِمُ

الَّتِي اعْتَادَهَا بَعْضُ مَنْ يَنْسُبُ إلَى الْخِرْقَةِ فِي كَوْنِهِمْ يَعْمَلُونَ الْجُمْجُمَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَا خَفَاءَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ السَّرَفِ وَالْبِدْعَةِ وَالْخُيَلَاءَ؛ لِأَنَّهُ يَجِدُ مَا يُعَوِّضُ عَنْهُ بِدِرْهَمَيْنِ إلَى سَبْعَةٍ إلَى عَشْرَةٍ وَهُوَ كَثِيرٌ سِيَّمَا وَمَنْ يَفْعَلُ هَذَا مَنْسُوبٌ فِي الظَّاهِرِ إلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا وَتَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِهَا وَصَرْفِهَا فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَبِسَ الْجُمْجُمَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ ضِدَّ هَذَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ ثَمَنُ قَدَمِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى لُبْسِ مَا يُنَاسِبُهُ عَلَى بَدَنِهِ ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَسْكَنِ وَالزَّوْجَةِ وَالْخَادِمِ غَالِبًا فَصَارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ يَسْتَقِلُّ مَا يَأْتِيه مِنْ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لِأَجْلِ مَا اعْتَادَهُ مِنْ هَذِهِ الْوَظَائِفِ فَالْحَاصِلُ فِي حَقِّ الصَّانِعِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَرَاتِبِ النَّاسِ وَتَحْصِيلِهَا إمَّا بِالتَّعَلُّمِ أَوْ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ. فَمَا كَانَ مِنْهَا وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا فَيَفْعَلُهُ بِنِيَّةِ الْإِعَانَةِ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ؛ فَيَكُونُ شَرِيكًا لِفَاعِلِهِمَا فِي الثَّوَابِ. وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَيَفْعَلُهُ بِنِيَّةِ قَضَاءِ حَوَائِجِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَيَصِيرُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ قُرْبَةً ثُمَّ يَصْحَبُهُ بِنِيَّةِ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَيَعْمَلُ عَلَى تَرْكِهِ جَهْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ ارْتَكَبَهُ كَانَ ذَرِيعَةً إلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ. وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَلَا يَقْرَبُهُ أَصْلًا بَلْ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِزٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْوُقُوعِ فِيهِ وَهُوَ تَرْكُ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ فَالْوَاجِبُ مِنْ اللِّبَاسِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى سَتْرُ الْعَوْرَةِ عَنْ أَبْصَارِ الْخَلْقِ وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ وَفِي النِّسَاءِ آكَدُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ إسْلَامِيٌّ وَالْوَاجِبُ مِنْهُ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ مَا يَقِي مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَيَسْتَدْفِعُ بِهِ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى فِي الْحَرْبِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ لِحَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ كَالرِّدَاءِ لِلْإِمَامِ وَالْخُرُوجِ إلَى

الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إنَّهُ الرِّدَاءُ. وَقَالَتْ الصُّوفِيَّةُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] أَنَّهُ الطَّاعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَجْمَلُ وَلَا أَزْيَنُ مِنْهَا إذْ إنَّهُ بِالطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى يَكُونُ الْقَبُولُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَهُ ثِيَابٌ لِلْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوْ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ» وَمَا فِي مَعْنَاهُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّينَ وَهُوَ مَا يَتَجَمَّلُونَ بِهِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلِ الَّذِي نَزَعَ الثَّوْبَيْنِ الْخَلَقَيْنِ وَلَبِسَ الْجَدِيدَيْنِ أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا ضَرَبَ اللَّهُ عُنُقَك قَالَ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَهُوَ لُبْسُ مَا كَانَ مِنْ الرَّقِيقِ لِلرِّجَالِ بِلَا خِلَافٍ وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ إلَّا مَعَ زَوْجٍ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ «نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ» . وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَلُبْسُ ثَوْبٍ لِلشُّهْرَةِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَلُبْسُ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ وَهُوَ مُبَاحٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ. فَإِنْ قَالَ الصَّانِعُ مَثَلًا: إذَا تَحَرَّزْت مِمَّا ذَكَرْتُمُوهُ ذَهَبَتْ الْمَعِيشَةُ أَوْ قَلَّتْ وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى الصَّنْعَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَاتِ وَالْعَائِلَةِ وَقَلَّ أَنْ تَتَأَتَّى الصَّنْعَةُ مَعَ مَا ذَكَرْتُمْ. فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ هُوَ الَّذِي يَجْلِبُ الرِّزْقَ جَلْبًا وَيَسُوقُهُ سَوْقًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الْمُتَّقِينَ الْمُوفِينَ بِالْأَمَانَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ نَصَحَ فِي صَنْعَتِهِ فَقَدْ نَصَحَ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَثُرَ الْحَلَالُ لَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عُرِفَ بِذَلِكَ بَادَرَ إلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَشْغَالِهِمْ عَلَى يَدَيْهِ، وَكَسْبُهُمْ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ الْحَلَالِ يُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُكَسِّلُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِذَا امْتَثَلَ الْخَيَّاطُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَشَى عَلَى مَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ وَتَحَرَّى لِنَفْسِهِ فَلَا يُبَالِي فِي أَيِّ وَقْتٍ يَفْجَؤُهُ الْمَوْتُ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا كَانَ فِي دُكَّانِهِ أَوْ فِي بَيْتِهِ كَانَ فِي صَنْعَتِهِ أَوْ فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى جَاءَهُ الْمَوْتُ وَجَدَهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالطَّاعَةِ

فصل في تاجر البز وما أشبهه

وَالِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَمَنْ كَانَ عَاقِلًا فَلْيَنْتَبِهْ وَمَنْ كَانَ مُنْتَبِهًا فَلْيَحْرِصْ وَلْيَزِدْ فِي الْمُبَادَرَةِ وَالِاسْتِبَاقِ إلَى الْخَيْرَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَامَةُ النُّجْحِ وَالصِّدْقِ فِي الْعِبَادَةِ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ بِمَنِّك وَكَرَمِك إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فَصْلٌ فِي تَاجِرِ الْبَزِّ وَمَا أَشْبَهَهُ] ُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ وَلَا يُجْلَبُ بِالْحِيَلِ وَالتَّدْبِيرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ الْمَالُ لَدَيْهِ كَثِيرٌ وَعَكْسُهُ مِمَّنْ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ بِسَبَبِ حَذْقِهِ وَنَبَاهَتِهِ فَقِيرٌ لَا شَيْءَ لَهُ، وَكَذَلِكَ تَجِدُ بَعْضَ مَنْ لَا يُحْسِنُ صَنْعَةً لَدَيْهِ الرِّزْقُ كَثِيرٌ وَبَعْضُ مَنْ يُحْسِنُ صَنَائِعَ جُمْلَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ وَتَعَبٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَهِيَ كَثِيرَةٌ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى التَّاجِرِ أَنْ يَجْلِسَ بِنِيَّةِ التَّيْسِيرِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَإِعَانَتِهِ لَهُمْ بِمَا يُحَصِّلُهُ فِي دُكَّانِهِ مِنْ السِّلَعِ حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ هُوَ مُضْطَرٌّ أَوْ مُحْتَاجٌ فَيَجِدَ حَاجَتَهُ مُتَيَسِّرَةً دُونَ تَعَبٍ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَحْتَاجُ إلَى عَشْرَةِ أَذْرُعٍ مَثَلًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ، فَلَوْ كُلِّفَ هَذَا أَنْ يَشْتَرِيَ سوسية أَوْ مَقْطَعًا عَلَى الْكَمَالِ حَتَّى يَأْخُذَ حَاجَتَهُ مِنْهُ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَصَعُبَ فَإِذَنْ قَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ مَا يُحَاوِلُهُ فِي دُكَّانِهِ مِنْ بَابِ التَّيْسِيرِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» ثُمَّ يُضِيفُ إلَى هَذِهِ النِّيَّةِ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ وَنُصْحَ مَنْ يُبَاشِرُهُ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي رِزْقِهِ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ وُجُودُ الدُّكَّانِ وَعَدَمُهُ بِالسَّوَاءِ بِسَبَبِ النَّظَرِ إلَى الرِّزْقِ الْمَقْسُومِ الْمُقَدَّرِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَمِمَّنْ سَيَأْتِي فَنِيَّةُ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ مَأْمُورُونَ بِهَا لِكَيْ يَعْظُمَ ثَوَابُهُمْ وَيَكْثُرَ خَيْرُهُمْ وَتَعُمَّهُمْ الْبَرَكَةُ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ أُمُورِهِمْ وَتَقَعَ لَهُمْ الْإِعَانَةُ بِسَبَبِ

مَا اسْتَصْحَبُوهُ مِنْ ذَلِكَ فِي تَصَرُّفِهِمْ كُلِّهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا دَخَلَ الْمُشْتَرِي السُّوقَ أَوْ مَرَّ عَلَى دُكَّانِهِ أَنْ لَا يَطْلُبَهُ وَلَا يُشِيرَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِشْرَافِ وَهُوَ مُذْهِبٌ لِلْبَرَكَةِ بَلْ يَتَنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى أَحَدًا يَشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَرْصُدُهُ لَعَلَّ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمَا اتِّفَاقٌ فَيَبِيعُهُ هُوَ بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى يَقِفَ الْمُشْتَرِي عَلَى دُكَّانِهِ وَيَسْأَلُهُ حِينَئِذٍ فَإِذَا طَلَبَ مِنْهُ شَيْئًا مِمَّا هُوَ فِي دُكَّانِهِ أَخْرَجَهُ لَهُ دُونَ أَنْ يَتَكَلَّمَ أَوْ يُشِيرَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَمْدَحُ بِهِ سِلْعَتَهُ أَوْ يُزَيِّنُهَا لَهُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ جَاءَ لِيَطْلُبَ مِنْهُ خِرْقَةً لِيَشْتَرِيَهَا فَأَمَرَ الْعَبْدَ بِأَنْ يُخْرِجَهَا لَهُ فَأَخْرَجَهَا الْعَبْدُ وَضَرَبَ عَلَيْهَا بِيَدِهِ؛ فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: رُدَّهَا فَرَدَّهَا، وَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: لَا أَبِيعُك شَيْئًا، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ الْعَبْدَ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَيْهَا حِينَ أَخْرَجَهَا لَك وَذَلِكَ تَحْسِينٌ لَهَا فِي عَيْنِك فَلَا أَبِيعُك شَيْئًا أَوْ كَمَا قَالَ. فَهَكَذَا كَانَ فِعْلُ السَّلَفِ فِي تَصَرُّفِهِمْ فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت مُحِبًّا لَهُمْ وَإِلَّا فَلَا تَدَّعِ مَا لَيْسَ فِيك فَإِذَا كَانَتْ الضَّرْبَةُ عَلَى الْخِرْقَةِ مِمَّا يُزَيِّنُهَا عِنْدَهُمْ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهَا وَغَيْرِهَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الدُّكَّانُ فِي مَوْضِعٍ كَثِيرِ الضَّوْءِ وَحَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلْمُشْتَرِي أَمْرُ الْخِرْقَةِ وَمَا هِيَ عَلَيْهِ بِنَظَرِهِ لَا بِقَوْلِ غَيْرِهِ وَذَلِكَ بِضِدِّ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ مَوَاضِعَ الْبَزِّ غَالِبًا قَدْ سَتَرُوهَا حَتَّى لَا تَكَادُ السَّمَاءُ أَنْ تُرَى مِنْ كَثْرَةِ السِّتْرِ فَتَبْقَى ظُلْمَةٌ فَتَحْسُنُ الْخِرْقَةُ بِسَبَبِ الظَّلَامِ فَإِذَا خَرَجَ بِهَا إلَى الضَّوْءِ ظَهَرَتْ عُيُوبُهَا مِنْ الْغِلَظِ وَالْخِفَّةِ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا مِنْ بَابِ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ، وَذَلِكَ مُذْهِبٌ لِلْبَرَكَةِ وَمِنْ مُخَالَفَةِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْخِرْقَةِ أَرْشٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْعُيُوبِ أَنْ يُظْهِرَهُ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ تَقْلِيبِ الْخِرْقَةِ عَلَيْهِ نَاوِيًا بِذَلِكَ النُّصْحَ لَهُ وَلِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ قَاصِدًا تَخْلِيصَ ذِمَّتِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ إخْوَانِهِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْمُشْتَرِي أَمْرَ الْخِرْقَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ إنْ كَانَ فِيهَا أَرْشٌ أَوْ عَيْبٌ وَأَزَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ مُشْتَرِيهَا فَيُبَيِّنُهُ لَهُ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ كَانَ غِشًّا إذْ إنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَلِمَهُ لَنَفَرَ مِنْ الْخِرْقَةِ خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ

مُحْتَرِقَةً أَوْ عَفِنَةً. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ يَقِيسُ عَرْضَ الْخِرْقَةِ مِنْ الطَّيَّةِ الْأُولَى وَهُوَ مَوْضِعُ وَجْهِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي عُرْفِهِمْ أَعْرَضُ مِمَّا تَحْتَهَا بِسَبَبِ مَطِّهِمْ وَجَذْبِهِمْ لَهَا حَتَّى يَزِيدَ عَلَى بَاطِنِ الْخِرْقَةِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْخِرْقَةِ مَا هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى بَلَدٍ وَأَغْرَاضُ النَّاسِ تَمِيلُ إلَى قُمَاشِ ذَلِكَ الْبَلَدِ أَنْ لَا يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ قُمَاشِ غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ وَيَنْسِبَهُ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ قُرْبٌ يَسِيرٌ فَإِنَّ الْأَغْرَاضَ مُخْتَلِفَةٌ فِي ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَوْضِعَ هَذِهِ كَذَا وَمَوْضِعَ هَذِهِ كَذَا فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ كِذْبٌ وَغِشٌّ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ سَوَاءٌ زَادَ الثَّمَنُ أَوْ نَقَصَ أَوْ كَانَا بِالسَّوَاءِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إذَا عُرِفَ صَانِعٌ يُحْسِنُ مَا يَنْسِجُهُ وَتَغَالَى النَّاسُ فِي الثَّوْبِ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ فَلَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ وَيَنْسِبُهُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ وَالْكَذِبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَلِمَ ذَلِكَ لَنَفَرَ مِنْ شِرَاءِ الْخِرْقَةِ، وَإِنْ أَعْجَبَتْهُ لِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ جَرَتْ أَنَّ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَالصَّانِعِينَ تَفَاوُتًا فِي الْأَغْرَاضِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النُّصْحُ وَعَدَمُ الْكَذِبِ أَيْضًا. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا جَاءَهُ الْمُشْتَرِي يَطْلُبُ مِنْهُ خِرْقَةً أَنْ يَسْأَلَ مِنْهُ عَمَّا يُرِيدُ فَيُخْرِجُ لَهُ أَوَّلًا غَرَضَهُ الَّذِي طَلَبَهُ. وَيَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ كَوْنِهِ لَا يُخْرِجُ لَهُ أَوَّلًا بَلْ يَعْرِضُ عَلَيْهِ خِرْقَةً دُونَ مَا طَلَبَ ثُمَّ ثَانِيًا فَوْقَهُ قَلِيلًا ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ يُخْرِجُ لَهُ آخِرًا غَرَضَهُ وَكُلَّمَا أَخْرَجَ لَهُ خِرْقَةً ذَكَرَ ثَمَنَهَا بِنَحْوٍ مِنْ ثَمَنِ الْخِرْقَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ بِذَلِكَ لِيُوَطِّنَهُ عَلَى ثَمَنِ الْخِرْقَةِ الَّتِي طَلَبَهَا مِنْهُ وَلِكَيْ يُحَسِّنَهَا فِي عَيْنِ الْمُشْتَرِي إذَا عَرَضَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَدْنَى مِنْهَا وَهُوَ يُقَارِبُهَا فِي الثَّمَنِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْغِشِّ أَيْضًا وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَّفِقَ مَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الثَّمَنِ بِنَفْسِ رُؤْيَةِ وَجْهِ الْخِرْقَةِ، بَلْ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَى جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهَا فَبَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِذَلِكَ حِينَئِذٍ يَتَّفِقُ مَعَهُ عَلَى ثَمَنِهَا وَلَا يَتَّفِقُ مَعَهُ عَلَى الثَّمَنِ حِينَ رُؤْيَةِ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا بَوْنًا كَثِيرًا فِي الْعَادَةِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ غِشٌّ لِمَا عُلِمَ. وَعُهِدَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّ وَجْهَ الْخِرْقَةِ يُحَسِّنُونَهُ بِالنَّسْجِ وَغَيْرِهِ

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا أَلِفَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى إلَى أَجْلِ مُحَاسَنَةٍ عَلَى مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ لِلْمُشْتَرِي حَقِيقَةَ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى بَيْعَةً مِنْ الْقُمَاشِ وَهِيَ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَبَعْضُهَا أَحْسَنُ مِنْ بَعْضٍ أَوْ أَطْوَلُ فِي الْقِيَاسِ، وَإِنْ قَلَّ أَوْ هُمَا مَعًا أَنْ لَا يَجْعَلَ لِكُلِّ قِطْعَةٍ مِنْهَا قِيمَةً مَعْلُومَةً لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ وَيُخْبِرُ الْمُشْتَرِيَ بِذَلِكَ الثَّمَنِ الَّذِي قُوِّمَتْ بِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَدْرَ ثَمَنِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ أَيْضًا بَلْ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلْمُشْتَرِي كَيْفِيَّةَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْبَيْعَةُ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةَ الْأَجْزَاءِ فَيُمْنَعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَخْتَلِفُ الْأَغْرَاضُ فِيهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْهَا إلَّا مُسَاوَمَةً، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَبِيعَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمُسَاوَمَةِ وَالْمُرَابَحَةِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى سِلْعَةً ثُمَّ انْخَفَضَ سُوقُهَا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ بِقِيمَتِهَا إذْ ذَاكَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ أَيْضًا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى خِرْقَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ قَصَّرَهَا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي فَيَقُولُ: اشْتَرَيْتهَا بِكَذَا وَقَصَّرْتهَا بِكَذَا وَقَامَتْ عَلَيَّ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ فِيهَا مِثْلَ الطَّرْزِ وَغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ أَصْلَ الثَّمَنِ وَقِيمَةَ الْعَمَلِ إنْ عَمِلَهُ غَيْرُهُ فَإِنْ عَمِلَهُ صَاحِبُ الْخِرْقَةِ فَيُبَيِّنُ لِلْمُشْتَرِي مَا أَعْطَى فِيهِ وَقِيمَةَ صَنْعَتِهِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا غُبِنَ فِي شِرَاءِ سِلْعَةٍ ثُمَّ اشْتَرَى مِثْلَهَا دُونَ غَبْنٍ نَاقِصٍ عَنْ ثَمَنِ الْأُولَى أَنْ يُبَيِّنَ لِلْمُشْتَرِي مَا غُبِنَ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ ذَلِكَ غِشًّا وَهُوَ حَرَامٌ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي: بِكَمْ بِعْت مِنْ هَذِهِ الْخِرْقَةِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِي إخْبَارِهِ بِمَا بَاعَ مِنْهَا فَإِنْ اخْتَلَفَ بَيْعُهُ فِيهَا فَيُخَيِّرُهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ أَوْ بِالْأَقَلِّ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ رَجَعَ إلَى الْمُسَاوَمَةِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ ذَلِكَ غِشًّا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى الْمُقَطَّعَ مَثَلًا عَلَى قِيَاسٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ وَجَدَهُ نَاقِصًا عَنْهُ أَنْ لَا يُخْبِرَ الْمُشْتَرِيَ بِاَلَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ عَلَى الْكَمَالِ ثُمَّ وَجَدَهُ نَاقِصًا كَذَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَزِّعَ الثَّمَنَ عَلَى مَا بَقِيَ

بَعْدَ النَّقْصِ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ غِشٌّ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ فِي عَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُقَطَّعَ عَلَى أَنَّهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا فَيَجِدَهُ إحْدَى وَثَلَاثِينَ فَيَأْخُذَ الزَّائِدَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يُخْبِرَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ وَلَا يَذْكُرُ لَهُ الزِّيَادَةَ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ غِشٌّ أَيْضًا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى الْخِرْقَةَ قَاسَهَا قِيَاسًا وَاسِعًا وَافِيًا فَيُرْخِي الْخِرْقَةَ أَثْنَاءَ الْقِيَاسِ حَتَّى تَنْقُصَ عَلَى بَائِعِهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ وَيَفْعَلُ عَكْسَهُ إذَا بَاعَهَا لِلْمُشْتَرِي مَطَّهَا وَشَدَّ يَدَهُ عَلَيْهَا فِي أَثْنَاءِ الْقِيَاسِ فَيَزِيدُ قِيَاسُهَا لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَتَنْقُصُ عَلَى مُشْتَرِيهَا مِنْهُ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَهَبُ لِلْمُشْتَرِي زِيَادَةً بَعْدَ قِيَاسِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَإِذَا أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي وَقَاسَهَا وَجَدَهَا مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ نَاقِصَةً عَنْ حَقِّهِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْخِلْسَةِ وَهُمَا مُحَرَّمَانِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ مُسَاوَمَةً، وَإِنْ تَحَقَّقَ شِرَاءَهَا فَهُوَ أَحَلُّ لَهُ وَأَبْرَكُ، وَإِنْ بَاعَهَا مُرَابَحَةً جَازَ ذَلِكَ لَكِنْ قَدْ يَعْتَوِرُهُ فِي الْبَيْعِ مُرَابَحَةً أَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَالِبًا لَا يُعْطِي مِنْ الرِّبْحِ مَا يَخْلُصُ الْبَائِعُ فَيَخَافُ أَنْ يُكَذِّبَهُ فَيَزِيدُ فِي الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَهُوَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ فَإِنْ بَاعَ مُرَابَحَةً فَلْيَتَحَرَّ الصِّدْقَ وَلْيُخْبِرْ بِشِرَائِهَا دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ. وَيَنْبَغِي لَهُ مِنْ بَابِ الْكَمَالِ وَالنُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْظُرَ فِي السِّلْعَةِ الَّتِي يَبِيعُهَا لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُهَا لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ بَاعَهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَرْضَاهُ لَهُمْ. لِمَا وَرَدَ «الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» فَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَا يَسْتَرْشِدُهُ لِنَفْسِهِ يَبِيعُهُ لَهُمْ وَمَا لَا يَسْتَرْشِدُهُ لَا يَفْعَلُهُ مَعَهُمْ وَهَذَا حَقِيقَةُ النُّصْحِ وَعَدَمِ الْغِشِّ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَأَحْوَالُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَا يَأْخُذُهَا حَصْرٌ. لَكِنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ تَجْمَعُ كُلَّ ذَلِكَ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَا تَرْضَاهُ لِنَفْسِك تَرْضَاهُ لَهُمْ وَكُلَّ مَا تَسْخَطُهُ لِنَفْسِك تَسْخَطُهُ لَهُمْ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْلِسَ

فِي دُكَّانِهِ وَهُوَ مُطْرِقٌ بِرَأْسِهِ إلَى الْأَرْضِ مُقْبِلٌ عَلَى ذِكْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُتَشَاغِلًا عَمَّا أَهْلُ السُّوقِ فِيهِ مِنْ اللَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ تَظْهَرُ فِيهِ عَوْرَاتٌ كَثِيرَةٌ يَجِبُ تَغْيِيرُهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ» إلَخْ. فَإِنْ هُوَ الَّذِي جَلَسَ فِي السُّوقِ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ فَقَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ كَانَ عَنْهَا فِي غِنًى وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ بَعْضِهَا أَوْ كُلِّهَا. وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الطُّرُقَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَالْجَالِسُ فِي الدُّكَّانِ جَالِسٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ غَضُّ بَصَرِهِ جَهْدَهُ. وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُلْقِيَ سَمْعَهُ لِمَا أَهْلُ السُّوقِ يَخُوضُونَ فِيهِ وَيَنْوِي بِذَلِكَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ وَلِئَلَّا تَتَعَمَّرَ ذِمَّتُهُ بِمَا لَا يَعْنِيه وَإِذَا تَعَمَّرَتْ قَلَّ أَنْ تَتَخَلَّصَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُمَازِحَ أَهْلَ السُّوقِ وَلَا يُبَاسِطَهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ جَلَسَ النَّاسُ عِنْدَهُ فِي الدُّكَّانِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِغَضِّ بَصَرِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَمَأْمُورٌ أَنْ لَا يَجْلِسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ وَفِي الْأَسْوَاقِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَالضَّرُورَةُ هِيَ الَّتِي دَعَتْهُ إلَى الْجُلُوسِ فِي السُّوقِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَمَاكِنِ الْحِرَفِ فَمَنْ جَلَسَ مَعَهُ لَيْسَ لَهُ ضَرُورَةٌ دَاعِيَةٌ إلَى الْجُلُوسِ فَفِي فِعْلِ ذَلِكَ مُصَادَمَةٌ لِنَهْيِ صَاحِبِ الشَّرْعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِهَا فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا الرَّقِيقُ مِنْ الثِّيَابِ أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ تُظْهِرُ مِعْصَمَهَا أَوْ شَيْئًا مِنْ زِينَتِهَا أَوْ تَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ فِيهِ لُيُونَةٌ وَرِقَّةٌ فَيَعْمَلُ عَلَى تَرْكِ الْبَيْعِ لَهَا مَعَ الْمُدَارَاةِ لَهَا حَتَّى تَنْصَرِفَ عَنْهُ بِسَلَامٍ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَتَى شَعَرْنَ بِمَنْ يَتَوَرَّعُ عَنْ مُخَالَطَتِهِنَّ تَسَلَّطْنَ عَلَيْهِ بِالْأَذِيَّةِ بِبَذَاءَةِ اللِّسَانِ وَالْكَلَامِ الْمُنْكَرِ. وَهَذِهِ بَلِيَّةٌ عُظْمَى وَقَعَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ الْبَزَّازَ فِي الْغَالِبِ لَا يَخْلُو دُكَّانُهُ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ مَا زَادَ عَلَيْهَا مَعَ وُجُودِ لُبْسِ الرَّقِيقِ وَالتَّحَلِّي وَالزِّينَةِ وَالتَّبَرُّجِ حَتَّى كَأَنَّ بَعْضَهُنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ أَوْ ذَوِي مَحَارِمِهِنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ

وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «بَاعِدُوا بَيْنَ أَنْفَاسِ النِّسَاءِ وَأَنْفَاسِ الرِّجَالِ» ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُنَّ اعْتَدْنَ مَعَ ذَلِكَ عَادَةً ذَمِيمَةً وَهِيَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ تَأْتِي بِزَوْجِهَا لِتَشْتَرِيَ مَا تَخْتَارُهُ فَإِذَا جَلَسَتْ عَلَى الدُّكَّانِ ذَهَبَ زَوْجُهَا إلَى مَكَان آخَرَ وَتَرَكَهَا وَهَذِهِ بَلِيَّةٌ عَظِيمَةٌ وَفِتْنَةٌ؛ لِأَنَّهَا إنْ جَلَسَتْ وَحْدَهَا عَلَى الدُّكَّانِ فَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْفِتَنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا مِنْ النِّسَاءِ تَزَايَدَتْ الْفِتَنُ وَتَعَدَّدَتْ وَكَثُرَتْ الْمِحَنُ وَتَضَاعَفَتْ سِيَّمَا إنْ كَانَ صَاحِبُ الدُّكَّانِ شَابًّا فَإِنَّهُنَّ يَعْمَلْنَ عَلَيْهِ أَنْوَاعَ الْحِيَلِ وَالْمَكْرِ سِيَّمَا إنْ كَانَ لَيْسَ بِمُتَأَهِّلٍ فَتَزِيدُهُ الْفِتَنُ وَقَلَّ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ شَبَائِكِهِنَّ وَأَنْ تَخْلُصَ لَهُ سَاعَةٌ دُونَ سَيِّئَةٍ يَرْتَكِبُهَا إمَّا بِعَيْنِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُنَّ لِتَسْأَلَ صَاحِبَ الدُّكَّانِ أَلَك زَوْجَةٌ أَلَك جَارِيَةٌ فَإِنْ شَعُرْنَ مِنْهُ بِالتَّعَفُّفِ عَمِلْنَ عَلَيْهِ الْحِيلَةَ فِيمَا يَرِدْنَهُ مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ عَجَزْنَ عَنْهُ وَقَلَّتْ حِيلَتَهُنَّ فِيهِ يَسْخَرْنَ بِهِ وَيَجْعَلْنَهُ مُثْلَةً وَيَعِبْنَ عَلَيْهِ الْخَيْرَ وَالتَّعَفُّفَ وَيَتَّهِمْنَهُ فِي دِينِهِ وَيَنْسِبْنَهُ إلَى كَثَافَةِ الطَّبْعِ وَيَقُلْنَ إنَّ مَا هُوَ فِيهِ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ بَلْ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ وَحِيَلُهُنَّ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ حَتَّى لَقَدْ تَلِفَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِسَبَبِهِنَّ سِيَّمَا فِي مُعَامَلَتِهِنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ فَبَعْضُ النَّاسِ أَتْلَفْنَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَبَعْضُهُمْ نَفْسَهُ وَبَعْضُهُمْ مَالَهُ وَبَعْضُهُمْ أَطْعَمْنَهُ فَتَجَذَّمَ وَبَعْضُهُمْ تَوَلَّهَ فِي عَقْلِهِ أَوْ تَجَنَّنَ وَبَعْضُهُمْ تَكَسَّحَ وَبَعْضُهُمْ سَحَرْنَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ فَهُنَّ مَصَائِدُ الشَّيْطَانِ وَبِسَبَبِ غِوَايَتِهِنَّ يَتَوَصَّلُ إلَى افْتِتَانِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَهُنَّ أَشَدُّ مِنْهُ كَيْدًا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] وَهَذَا هُوَ حَالُ الْغَالِبِ مِنْهُنَّ. وَقَدْ يُوجَدُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَنْ هِيَ مُلَازِمَةٌ لِبَيْتِهَا مُسْتَتِرَةٌ مُتَعَفِّفَةٌ مُحَافِظَةٌ عَلَى صَلَاتِهَا حَافِظَةٌ لِحَقِّ بَعْلِهَا فَمَنْ وُجِدَتْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَخَيْرٌ

عَمِيمٌ وَلَيْسَ فِي أَصْحَابِ الدَّكَاكِينِ كُلِّهِمْ مَنْ هُوَ مُبْتَلَى بِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرُ مِنْ الْبَزَّازِ وَالصَّائِغِ وَالْأَخْفَافِيِّ فَيَتَعَيَّنُ التَّحَفُّظُ عَلَى مَنْ هُوَ مُتَسَبِّبٌ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَوْ مَا يُقَارِبُهَا التَّحَفُّظُ الْكُلِّيُّ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إلَّا أَنْ يَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ فِتْنَتِهِنَّ فَتَرْكُ الدُّكَّانِ عَلَيْهِ مُتَعَيَّنٌ وَيَتَسَبَّبُ فِي غَيْرِهَا إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ سَالِمًا مِنْ جَمِيعِ الْمَفَاسِدِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى الرَّزَّاقِ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ شَيْئًا وَلَا يُمَكِّنَهَا أَنْ تَجْلِسَ عَلَى دُكَّانِهِ اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ سَلِمَتْ مِنْهُنَّ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ، فَلَا بَأْسَ بِمُعَامَلَتِهَا فَإِنَّ الْخَيْرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يُعْدَمْ مِنْ النَّاسِ، وَإِنْ عُدِمَ مِنْ قَوْمٍ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي آخَرِينَ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْبَيْعَ لِكُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَقِّ الْخَيَّاطِ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَجَعَ مَالُهُ حَرَامًا فِي الْغَالِبِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَلَالًا وَالْحَرَامُ يَجُرُّ إلَى النَّارِ. وَيَحْذَرُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ مِنْ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي بِسَبَبِهِ وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ الْأَيْمَانَ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَأَخْذِهِ وَعَطَائِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَيْلٌ لِلتَّاجِرِ مِنْ تَاللَّهِ وَبِاَللَّهِ» فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقِلَّ الْكَلَامَ وَاللَّغَطَ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ سِيَّمَا فِي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ كَشَهْرِ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الْعِظَامِ وَأَيَّامِ الْجُمَعِ الزُّهْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ يَجُرُّ إلَى الْمَكْرُوهِ وَالْمَكْرُوهُ يَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمِ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِيهِ دِينٌ وَفَضْلٌ أَنْ يَتْرُكَهُ يَقِيسُ لِنَفْسِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ عَيْنُهُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَحِيفَ الْمُشْتَرِي عَلَى نَفْسِهِ فَيَأْخُذُ أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُعْلَمُ دِينُهُ وَخَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَقِيسُ لَهُ بِالْعَدْلِ وَيُبَيِّنُ لَهُ بِالرُّؤْيَةِ وَالْقَوْلِ. وَيَنْبَغِي لَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُ إذَا اتَّفَقَ مَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى ثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَقَاسَ لَهُ الْخِرْقَةَ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِقَطْعِهَا حَتَّى يَأْخُذَ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَيُحَصِّلَهُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَشْتَرُونَ الْخِرْقَةَ عَلَى النَّقْدِ فَإِذَا قَطَعُوا الْخِرْقَةَ أَعْطَوْا بَعْضَ الثَّمَنِ وَبَقِيَ الْبَاقِي فَتَارَةً يَتَكَلَّفُ الْبَائِعُ الصَّبْرَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا عَلَى ثَمَنِهَا وَبِسَبَبِ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ تَكْثُرُ الرُّهُونُ عِنْدَهُمْ وَتَمْكُثُ السِّنِينَ الطَّوِيلَةَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِذَهَابِ مَا هُوَ يَتَسَبَّبُ فِيهِ وَيَبْقَى مَالُهُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ لَا يَجِدُ إلَى قَبْضِهِ سَبِيلًا وَالْغَالِبُ الْيَوْمَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ إذَا تَيَسَّرَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا لَا يُفَكِّرُونَ فِي الدُّيُونِ وَإِنَّمَا يُفَكِّرُونَ فِي قَضَاءِ مَآرِبِهِمْ فِي وَقْتِهِمْ ذَلِكَ وَمَآرِبُهُمْ قَلَّ أَنْ تَفْرُغَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَقْطَعَ الْخِرْقَةَ حَتَّى يَنْقُدَ الْفِضَّةَ إمَّا بِنَفْسِهِ إنْ كَانَ عَارِفًا أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانَةِ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى ضَرَرِهِ أَوْ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الصَّبْرِ إنْ خَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ فِيهِ زَيْفٌ لِكَثْرَةِ الْغِشِّ فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا وَزَنَ الْفِضَّةَ إنْ اشْتَرَى مِنْ قَزَّازٍ أَوْ تَاجِرٍ أَنْ يَجْعَلَ فِي كِفَّةِ الصَّنْجَةِ حَبَّةَ خَرُّوبٍ أَوْ نَحْوَهَا وَإِذَا بَاعَ وَوَزَنَ الْفِضَّةَ لِيَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ أَنْ يَجْعَلَ فِي كِفَّةِ الْفِضَّةِ حَبَّةَ خَرُّوبٍ أَوْ نَحْوَهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ حَاجِزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ. وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِالْبَزَّازِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ يَتَعَاطَى الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَمَنْ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ أَنْ لَوْ كَانَ وَكِيلًا أَوْ وَصِيًّا فَيُمْنَعُ وَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ جَهْدَهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَامِحَ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْخَيْرِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا فَيَتْرُكُ لَهُ بَعْضَ الرِّبْحِ أَوْ كُلَّهُ مَا لَمْ يَضُرَّ بِحَالِهِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَوْ كَانَ لَهُ جِدَةٌ أَنْ يَبِيعَ بِالدَّيْنِ لِمَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ وَيَصْبِرَ عَلَيْهِ بِهِ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي اعْتَادُوا فِيهِ زِينَةَ الْأَسْوَاقِ عَلَى مَا عَهِدَ فِي الزَّمَانِ أَنْ يَتْرُكَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ حَتَّى تَنْقَضِيَ وَيَلْزَمُ بَيْتَهُ أَوْ الْمَسْجِدَ أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُبَاحَةِ السَّالِمَةِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فَإِنْ جُبِرَ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَعَاطَاهُ بِنَفْسِهِ بَلْ يُعْطِي مَا يُلْزِمُونَهُ بِهِ مِنْ الْغَرَامَةِ مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ الْقُمَاشِ فِيهِ صُورَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْسُوجَةً أَوْ مُطَرَّزَةً أَوْ مَرْسُومَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ

فصل في نية التاجر الذي يتجر من إقليم إلى إقليم

شَرِيكًا لِمَنْ يَتَعَاطَى التَّصْوِيرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ السُّوقَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَكَذَلِكَ فِي عَكْسِهِ لَا يَمْكُثُ فِي الدُّكَّانِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ بَلْ يَنْصَرِفُ قَبْلَ اصْفِرَارِهَا لِمَا قَدْ قِيلَ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ الشَّيَاطِينُ ثُمَّ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ، وَعَكْسُهُ الِانْصِرَافُ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ غَالِبًا حَالُهُ الْحِرْصُ وَالِاسْتِشْرَافُ وَهُمَا مُذْهِبَانِ لِلْبَرَكَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْخَيَّاطِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ اشْتَغَلَ بِحِكَايَتِهِ ثُمَّ أَخَذَ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالْمُضِيِّ إلَى الْمَسْجِدِ وَالصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ هُوَ وَمَنْ عِنْدَهُ. فَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ الْبَزَّازِ وَغَيْرِهِ مِنْ سِمْسَارٍ وَشَرِيكٍ وَرَقِيقٍ وَمُبْتَاعٍ فَيَقْطَعُ كُلَّ ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ مِنْهُ عَادَةً مَعْرُوفَةً لَا يَقْصِدُهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِمَا عَلِمَ مِنْ عَادَتِهِ فَتُحْفَظُ بِذَلِكَ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ وَتَنْضَبِطُ وَقَلَّ أَنْ تَفُوتَهُمْ الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ وَهَذَا الْفِعْلُ حَاجِزٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ خُرُوجُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُبَادَرَةُ إلَى الْعِبَادَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا حَاجِزٌ عَنْ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي فَإِنْ قَالَ الْبَزَّازُ مَثَلًا: إذَا تَحَرَّزْت مِمَّا ذَكَرْتُمْ قَلَّ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَقَلَّ الرِّزْقُ فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَقِّ الْخَيَّاطِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ [فَصْلٌ فِي نِيَّةِ التَّاجِرِ الَّذِي يَتَّجِرُ مِنْ إقْلِيمٍ إلَى إقْلِيمٍ] ٍ وَمِنْ بَلَدٍ إلَى أُخْرَى يَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مِمَّنْ يَتَسَبَّبُ فِي الْأَسْفَارِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَنْ يَذْهَبَ تَعَبُهُ وَمُخَاطَرَتُهُ فِيهَا بِسَبَبِ الْمُحَاوَلَةِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَالزِّيَادَةِ مِنْهَا وَالِاسْتِشْرَافِ إلَيْهَا بَلْ يَكُونُ أَصْلُ أَمْرِهِ الَّذِي يُعَوِّلُ عَلَيْهِ وَيَعْتَمِدُهُ التَّقْوَى وَلَا يُسَافِرُ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ وَالِاسْتِشَارَةِ لِذَوِي الْعُقُولِ الْغَزِيرَةِ الْعَارِفِينَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ وَالتَّجَارِبِ. وَصِفَةُ الِاسْتِخَارَةِ

الشَّرْعِيَّةِ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ» . وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَهُ عِلْمٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَعْرِفَةٌ بِحِكْمَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي أَلْفَاظِهِ الْجَامِعَةِ لِلْأَسْرَارِ الْعَلِيَّةِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَخْتَارُونَ؛ لِأَنْفُسِهِمْ اسْتِخَارَة غَيْرَ الِاسْتِخَارَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِيَارِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ غَيْرَ مَا اخْتَارَهُ لَهُ مَنْ هُوَ أَرْحَمُ بِهِ وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَوَالِدَيْهِ الْعَالِمُ بِمَصَالِحِ الْأُمُورِ الْمُرْشِدُ لِمَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالنَّجَاحُ وَالْفَلَاحُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. وَبَعْضُهُمْ يَسْتَخِيرُ الِاسْتِخَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَيَتَوَقَّفُ بَعْدَهَا حَتَّى يَرَى مَنَامًا يَفْهَمُ مِنْهُ فِعْلَ مَا اسْتَخَارَ فِيهِ أَوْ تَرْكَهُ أَوْ يَرَاهُ غَيْرُهُ لَهُ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعِصْمَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ بِالِاسْتِخَارَةِ وَالِاسْتِشَارَةِ لَا بِمَا يُرَى فِي الْمَنَامِ وَلَا يُضِيفُ إلَى الِاسْتِخَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَيَخْشَى مِنْ أَنَّ الْبِدْعَةَ إذَا دَخَلَتْ فِي شَيْءٍ لَا يَنْجَحُ أَوْ لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَمَرَ بِالِاسْتِخَارَةِ وَالِاسْتِشَارَةِ فَقَطْ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَيْهِمَا وَلَا يُعَرِّجَ عَلَى غَيْرِهِمَا فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - اخْتَارَ لَنَا أَلْفَاظًا مُنْقَاةً جَامِعَةً لِخَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتَّى قَالَ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ فِي صِفَتِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ وَالْحَضِّ

عَلَى التَّمَسُّكِ بِأَلْفَاظِهَا وَعَدَمِ الْعُدُولِ إلَى غَيْرِهَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ» وَالْقُرْآنُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُغَيَّرَ وَلَا يُزَادَ فِيهِ وَلَا يَنْقُصَ مِنْهُ وَإِذَا نَصَّ فِيهِ عَلَى الْحُكْمِ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لَا يَرْجِعُ لِغَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَعْدِلُ عَنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْمُبَارَكَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الِاسْتِخَارَةِ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَخْتَارُهَا الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ مَنَامٍ يَرَاهُ هُوَ أَوْ يَرَاهُ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ انْتِظَارِ فَأْلٍ أَوْ نَظَرٍ فِي اسْمِ الْأَيَّامِ. قَالَ مَالِكٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَيَّامُ كُلُّهَا أَيَّامُ اللَّهِ. أَوْ انْتِظَارُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فَيَنْظُرُ فِي اسْمِهِ فَيَشْتَقُّ مِنْهُ مَا يُوجِبُ عِنْدَهُ الْفِعْلَ أَوْ التَّرْكَ. وَمِنْ النَّاسِ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ هَذَا وَهُوَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ وَالنَّظَرِ فِي النُّجُومِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُهُمْ فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ أَوْ غَيْرَهُ وَتَرَكَ الِاسْتِخَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ فَلَا شَكَّ فِي فَسَادِ رَأْيِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ إلَّا أَنَّهُ مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ مَعَ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اخْتَارَ لِلْمُكَلَّفِ مَا جَمَعَ لَهُ فِيهِ بَيْنَ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِلَفْظٍ يَسِيرٍ وَجِيزٍ وَاخْتَارَ هُوَ لِنَفْسِهِ غَيْرَ ذَلِكَ فَالْمُخْتَارُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ مَا اخْتَارَهُ الْمُخْتَارُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. عَلَى هَذَا فَلَا يَشُكُّ وَلَا يَرْتَابُ فِي أَنَّ مَنْ عَدَلَ عَنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْمُبَارَكَةِ إلَى غَيْرِهَا فَإِنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ التَّأْدِيبِ أَنْ يَقَعَ بِهِ وَأَنْوَاعُهُ مُخْتَلِفَةٌ إمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا فِي نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُكَلَّفَ بِأَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الِاسْتِخَارَةِ يُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَضَاءَ حَاجَتِهِ. وَقَدْ مَضَتْ الْحِكْمَةُ أَنَّ مِنْ الْأَدَبِ قَرْعَ بَابِ مَنْ تُرِيدُ حَاجَتَكَ مِنْهُ، وَقَرْعُ بَابِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِالصَّلَاةِ. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا كَانَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ» وَلِأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ آدَابٍ جُمْلَةٍ. فَمِنْهَا خُرُوجُهُ عَنْ الدُّنْيَا كُلِّهَا وَأَحْوَالِهَا

بِإِحْرَامِهِ بِالصَّلَاةِ أَلَا تَرَى إلَى الْإِشَارَةِ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ إلَى أَنَّهُ خَلَفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى مَوْلَاهُ يُنَاجِيهِ. ثُمَّ مَا فِيهَا مِنْ الْخُضُوعِ وَالنَّدَمِ وَالتَّذَلُّلِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي الْجَلِيلَةِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا. فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْفَضَائِلِ الْجَمَّةِ حِينَئِذٍ أَمَرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالدُّعَاءِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فَإِنْ قَرَأَ بِغَيْرِهِمَا مِنْ السُّوَرِ فَذَلِكَ وَاسِعٌ ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي شَرَعَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأُمَّتِهِ لِيُرْشِدهُمْ إلَى مَصَالِحِهِمْ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. فَأَوَّلُهَا «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ» فَقَوْلُهُ: اللَّهُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي مَعْنَاهُ: أَسْأَلُكَ بِجَمِيعِ مَا سُئِلْت بِهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ أَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي تَرْجِعُ إلَيْهِ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ. وَقَوْلُهُ «إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ» أَيْ بِعِلْمِكَ الْقَدِيمِ الْكَامِلِ لَا بِعِلْمِي أَنَا الْمَخْلُوقُ الْقَاصِرُ فَمَنْ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَبِّهِ اخْتَارَ لَهُ مَا يَصْلُحُ وَقَوْلُهُ «وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ» أَيْ بِقُدْرَتِكَ الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ لَا بِقُدْرَتِي أَنَا الْمَخْلُوقَةِ الْمُحْدَثَةِ الْقَاصِرَةِ. فَمَنْ تَعَرَّى عَنْ قُدْرَةِ نَفْسِهِ وَكَانَتْ قُدْرَتُهُ مَنُوطَةً بِقُدْرَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ السُّكُونِ وَالضَّرَاعَةِ إلَيْهِ فَلَا شَكَّ فِي وُجُودِ الرَّاحَةِ لَهُ إمَّا عَاجِلًا أَوْ آجِلًا أَوْ هُمَا مَعًا. وَأَيُّ رَاحَةٍ أَعْظَمُ مِنْ الِانْسِلَاخِ مِنْ عَنَاءِ التَّدْبِيرِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْخَوْضِ بِفِكْرَةِ عَقْلِهِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ عَاقِبَتَهُ. وَقَوْلُهُ «وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ» فَمَنْ تَوَجَّهَ بِالسُّؤَالِ إلَى مَوْلَاهُ دُونَ مَخْلُوقٍ وَاسْتَحْضَرَ سَعَةَ فَضْلِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَنَزَلَ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ فَلَا شَكَّ فِي نَجْحِ سَعْيِ مَنْ هَذَا حَالُهُ إذْ فَضْلُ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ مَعْلُومٍ وَتَقْدِيرٍ. وَقَوْلُهُ «فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» فَمَنْ تَبَرَّأَ وَانْخَلَعَ مِنْ تَدْبِيرِ نَفْسِهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَرَجَعَ بِالِافْتِقَارِ إلَى مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ

شَيْءٌ فَلَا شَكَّ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ وَبُلُوغِهِ مَا يُؤَمِّلُهُ وَوُقُوعِ الرَّاحَةِ لَهُ. وَقَوْلُهُ «اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: وَفِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ» الشَّكُّ هُنَا مِنْ الرَّاوِي فِي أَيِّهِمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ فِي تَحْصِيلِ بَرَكَةِ لَفْظِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الْقَطْعِ فَيَأْتِي بِهِمَا مَعًا. وَقَوْلُهُ «فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ» فَمَنْ رَضِيَ بِمَا اخْتَارَهُ لَهُ سَيِّدُهُ الْعَالِمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ كُلِّهَا وَبِمَصَالِحِ الْأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي لَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَتَحَوَّلُ فَقَدْ سَعِدَ السَّعَادَةَ الْعُظْمَى. وَقَوْلُهُ «، وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ» الشَّكُّ مِنْ الرَّاوِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ «فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ» فَمَنْ سَكَنَ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَضَرَّعَ إلَيْهِ وَلَجَأَ فِي دَفْعِ جَمِيعِ الشَّرِّ عَنْهُ فَلَا شَكَّ فِي سَلَامَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا يَتَوَقَّعُ مِنْ الْمَخَاوِفِ فَأَيُّ دُعَاءٍ يَجْمَعُ هَذِهِ الْفَوَائِدَ وَيُحَصِّلُهَا مِمَّا اخْتَارَهُ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ مِمَّا يَخْطِرُ بِبَالِهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَى مَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ إلَّا أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا كَانَ مُمْتَثِلًا لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مُحَصِّلًا لِبَرَكَتِهَا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَحْصُلُ لَهُ بَرَكَةُ النُّطْقِ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَرْبُو عَلَى كُلِّ خَيْرٍ يَطْلُبُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَيَخْتَارُهُ لَهَا. فَيَا سَعَادَةُ مَنْ رُزِقَ هَذَا الْحَالَ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْعَلَهَا الْمُكَلَّفُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا مَضَى مِنْ السُّنَّةِ فِي أَمْرِ الدُّعَاءِ وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ أَوَّلًا بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَأْخُذُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ ثُمَّ يَخْتِمُهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الِاسْتِخَارَةِ وَالِاسْتِشَارَةِ مِنْ كَمَالِ الِامْتِثَالِ لِلسُّنَّةِ. فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى إحْدَاهُمَا فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مِنْ الِاقْتِصَارِ فَعَلَى الِاسْتِخَارَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي كَانَ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ. وَالِاسْتِخَارَةُ وَالِاسْتِشَارَةُ بَرَكَتُهُمَا ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِامْتِثَالِ لِلسُّنَّةِ وَالْخُرُوجِ عَمَّا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنْ الْهَوَاجِسِ وَالْوَسَاوِسِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ أَدَبِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَمِنْ الْحَزْمِ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ أَنْ لَا يُبْرِمَ أَمْرًا وَلَا يُمْضِيَ عَزْمًا إلَّا بِمَشُورَةِ ذِي الرَّأْيِ النَّاصِحِ وَمُطَالَعَةِ ذِي الْعَقْلِ الرَّاجِحِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَشُورَةِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنْ إرْشَادِهِ وَعَوْنِهِ وَتَأْيِيدِهِ فَقَالَ تَعَالَى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قَالَ قَتَادَةُ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ تَأَلُّفًا لَهُمْ وَتَطَيُّبًا لِأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِمَا عَلِمَ فِيهَا مِنْ الْفَضْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيَسْتَنَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ وَيَتْبَعَهُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانَ عَنْ مُشَاوَرَتِهِمْ غَنِيًّا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمُشَاوَرَةُ حِصْنٌ مِنْ النَّدَامَةِ وَأَمَانٌ مِنْ الْمَلَامَةِ» وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ تَرِدُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَيُصَدِّرُهَا بِرَأْيِهِ وَرَجُلٌ يُشَاوِرُ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ حَيْثُ يَأْمُرُهُ أَهْلُ الرَّأْيِ وَرَجُلٌ حَائِرٌ بَائِرٌ لَا يَأْتَمِرُ رُشْدًا وَلَا يُطِيعُ مُرْشِدًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِعْمَ الْمُوَازَرَةُ الْمُشَاوَرَةُ وَبِئْسَ الِاسْتِعْدَادُ الِاسْتِبْدَادُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ الْمُشَاوَرَةَ وَالْمُنَاظَرَةَ بَابَا رَحْمَةٍ وَمِفْتَاحَا بَرَكَةٍ لَا يَضِلُّ مَعَهُمَا رَأْيٌ وَلَا يُفْقَدُ مَعَهُمَا حَزْمٌ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا خَابَ مَنْ اسْتَخَارَ وَلَا نَدِمَ مِنْ اسْتَشَارَ» وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مِنْ حَقِّ الْعَاقِلِ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْيِهِ آرَاءَ الْعُلَمَاءِ وَيَجْمَعَ إلَى عَقْلِهِ عُقُولَ الْحُكَمَاءِ فَالرَّأْيُ الْفَذُّ رُبَّمَا زَلَّ وَالْعَقْلُ الْفَرْدُ رُبَّمَا ضَلَّ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ. وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ فَإِنَّهُ يُعْطِيكَ مِنْ رَأْيِهِ مَا قَامَ عَلَيْهِ بِالْغَلَاءِ وَأَنْتَ تَأْخُذُهُ

مِنْهُ بِالرَّخَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ الْخَطَأُ مَعَ الِاسْتِرْشَادِ أَحْمَدُ مِنْ الصَّوَابِ مَعَ الِاسْتِبْدَادِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «نَقِّحُوا عُقُولَكُمْ بِالْمُذَاكَرَةِ وَاسْتَعِينُوا عَلَى أُمُورِكُمْ بِالْمُشَاوَرَةِ» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا اسْتَنْصَحَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ» وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «الْمُسْتَشِيرُ مُعَانٌ وَالْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ إذَا اُسْتُعِنْت فَأَعْنِ وَإِذَا اُسْتُشِرْت فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى تَنْظُرَ» وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اسْتَرْشِدُوا الْعَاقِلَ تَرْشُدُوا وَلَا تَعْصُوهُ فَتَنْدَمُوا» فَإِذَا عَزَمَ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ ارْتَادَ لَهَا مِنْ أَهْلِهَا مَنْ اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: إحْدَاهُنَّ عَقْلٌ كَامِلٌ مَعَ تَجْرِبَةٍ سَابِقَةٍ فَإِنَّهُ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ تَصِحُّ الرَّوِيَّةُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ لِابْنِهِ مُحَمَّدٍ احْذَرْ مَشُورَةَ الْجَاهِلِ، وَإِنْ كَانَ نَاصِحًا كَمَا تَحْذَرُ عَدَاوَةَ الْعَاقِلِ إذَا كَانَ عَدُوًّا فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُوَرِّطَك بِمَشُورَتِهِ فَيَسْبِقُ إلَيْكَ مَكْرُ الْعَاقِلِ وَتَوْرِيطُ الْجَاهِلِ. وَكَانَ يُقَالُ: إيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ رَجُلَيْنِ شَابٌّ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ قَلِيلُ التَّجَارِبِ فِي غِرَّةٍ. وَكَبِيرٌ قَدْ أَخَذَ الدَّهْرَ مِنْ عَقْلِهِ كَمَا أَخَذَ مِنْ جِسْمِهِ. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: كُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ مُحْتَاجٌ إلَى التَّجَارِبِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعَقْلَ زَيْنٌ لِأَهْلِهِ ... وَلَكِنَّ تَمَامَ الْعَقْلِ طُولُ التَّجَارِبِ وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ ذَا دِينٍ وَتُقَى فَإِنَّ ذَلِكَ عِمَادُ كُلِّ صَلَاحٍ وَبَابُ كُلِّ نَجَاحٍ وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدِّينُ فَهُوَ مَأْمُونُ السَّرِيرَةِ مُوَفَّقُ الْعَزِيمَةِ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَرَادَ أَمْرًا فَشَاوَرَ فِيهِ امْرَأً مُسْلِمًا وَفَّقَهُ اللَّهُ لِأَرْشَدِ أُمُورِهِ» . وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا وَدُودًا فَإِنَّ النُّصْحَ وَالْمَوَدَّةَ يَصْرِفَانِ الْفِكْرَةَ وَيُمَحِّصَانِ الرَّأْيَ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لَا تُشَاوِرْ

إلَّا الْحَازِمَ غَيْرَ الْحَسُودِ وَاللَّبِيبَ غَيْرَ الْحَقُودِ وَإِيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إلَى الْأَفَنِ وَعَزْمَهُنَّ إلَى الْوَهَنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مَشُورَةُ الْمُشْفِقِ الْحَازِمِ ظَفَرٌ وَمَشُورَةُ غَيْرِ الْحَازِمِ خَطَرٌ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ اُصْفُ ضَمِيرًا لِمَنْ تُعَاشِرُهُ ... وَاسْكُنْ إلَى نَاصِحٍ تُشَاوِرُهُ وَارْضَ مِنْ الْمَرْءِ فِي مَوَدَّتِهِ ... بِمَا يُؤَدِّي إلَيْكَ ظَاهِرُهُ وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْفِكْرِ مِنْ هَمٍّ قَاطِعٍ وَغَمٍّ شَاغِلٍ. فَإِنَّ مَنْ عَارَضَتْ فِكْرَتَهُ شَوَائِبُ الْهُمُومِ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ رَأْيٌ وَلَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ خَاطِرٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ بِتَرْدَادِ الْفِكْرِ يَنْجَابُ لَكَ الْعِكْرُ. وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَشَارِ فِيهِ غَرَضٌ يُتَابِعُهُ وَلَا هَوًى يُسَاعِدُهُ فَإِنَّ الْأَغْرَاضَ جَاذِبَةٌ وَالْهَوَى صَادٌّ وَالرَّأْيُ إذَا عَارَضَهُ الْهَوَى وَجَاذَبَتْهُ الْأَغْرَاضُ فَسَدَ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَقَدْ تَحْكُمُ الْأَيَّامُ مَنْ كَانَ جَاهِلًا ... وَيُرْدِي الْهَوَى ذَا الرَّأْيِ وَهُوَ لَبِيبٌ وَيُحْمَدُ فِي الْأَمْرِ الْفَتَى وَهُوَ مُخْطِئٌ ... وَيُعْذَلُ فِي الْإِحْسَانِ وَهُوَ مُصِيبٌ فَإِذَا اُسْتُكْمِلَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ الْخَمْسُ فِي رَجُلٍ كَانَ أَهْلًا لِلْمَشُورَةِ وَمَعْدِنًا لِلرَّأْيِ فَلَا تَعْدِلْ عَنْ اسْتِشَارَتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ مِنْ فَضْلِ رَأْيِكَ وَثِقَةً بِمَا تَسْتَشْعِرُهُ مِنْ صِحَّةِ رَوِيَّتِكَ فَإِنَّ رَأْيَ غَيْرِ ذِي الْحَاجَةِ أَسْلَمُ وَهُوَ مِنْ الصَّوَابِ أَقْرَبُ لِخُلُوصِ الْفِكْرِ وَخُلُوِّ الْخَاطِرِ مَعَ عَدَمِ الْهَوَى وَارْتِفَاعِ الشَّهْوَةِ. فَعَلَى هَذَا فَمَنْ تَرَكَ الِاسْتِخَارَةَ وَالِاسْتِشَارَةَ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ التَّعَبِ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ لِدُخُولِهِ فِي الْأَشْيَاءِ بِنَفْسِهِ دُونَ الِامْتِثَالِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَمَا أَحْكَمْته فِي ذَلِكَ إذْ إنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ إلَّا عَمَّتْهُ الْبَرَكَاتُ وَلَا تُتْرَكُ مِنْ شَيْءٍ إلَّا حَصَلَ فِيهِ ضِدُّ ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْتَخِيرُ إلَى مَا يَنْشَرِحُ إلَيْهِ صَدْرَهُ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ عَزْمُهُ عَلَى السَّفَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْتَثِلَ

فصل تاجر البز يوسع على نفسه

السُّنَّةَ فِي الْوَصِيَّةِ. لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» هَذَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ فَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِ مِنْ بَابِ أَوْلَى لِمَا يَتَوَقَّعُهُ فِي سَفَرِهِ وَفِي الْبِلَادِ الَّتِي يَتَّجِرُ فِيهَا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى تَخْلِيصِ ذِمَّتِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِهِ إلَى مَا يُعَانِيه مِنْ الْأَسْفَارِ ثُمَّ يَتُوبُ التَّوْبَةَ بِشُرُوطِهَا. وَهِيَ النَّدَمُ وَالْإِقْلَاعُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ وَرَدُّ التَّبَعَاتِ لِمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ شَرْطٌ رَابِعٌ فَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ مُتَيَسِّرَةٌ عَلَى الْمَرْءِ؛ لِأَنَّهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. وَمَا كَانَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ فَالْغَالِبُ الرَّجَاءُ فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُ وَأَمَّا رَدُّ التَّبَعَاتِ فَمُتَعَذِّرٌ فِي الْغَالِبِ وَقَلَّ مَنْ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا إلَّا بِتَوْفِيقٍ وَتَأْيِيدٍ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيُبَادِرُ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدُّيُونِ وَيَرُدُّ الْوَدَائِعَ وَيَتَحَلَّلُ مِنْ كُلِّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُعَامَلَةٌ فِي شَيْءٍ أَوْ مُصَاحَبَةٌ، وَيَكْتُبُ وَصِيَّتَهُ وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ بِهَا وَيُوَكِّلُ مَنْ يَقْضِي عَنْهُ مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَضَاءِ دُيُونِهِ بِنَفْسِهِ وَيَتْرُكُ لِأَهْلِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ نَفَقَتَهُمْ إلَى حِينِ رُجُوعِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ وَالِدَانِ فَلْيَجْتَهِدْ فِي إرْضَائِهِمَا، وَكَذَلِكَ مَنْ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ بِرُّهُ وَطَاعَتُهُ مِنْ عَالِمٍ وَصَالِحٍ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا وَيَسْكُنُ إلَى قَوْلِهِمَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ لِزَادِهِ أَطْيَبَ جِهَةٍ تَكُونُ فِي مَالِهِ. [فَصْلٌ تاجر البز يُوَسِّع عَلَى نَفْسِهِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ لِيَجِدَ السَّبِيلَ إلَى الِاتِّصَافِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الْمَأْمُورِ بِالْحَثِّ عَلَيْهَا فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ يَحْضُرُهُ فِي وَقْتِ أَكْلِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ غَيْرُهُمْ فَيُشَارِكُهُمْ فِي غِذَائِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلسَّلَامَةِ مِنْ الْبُخْلِ وَأَخْلَاقِ اللِّئَامِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «شَرُّ النَّاسِ مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ» ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَجِدُ السَّبِيلَ إلَى مُوَاسَاةِ الْمَسَاكِينِ وَالْمُضْطَرِّينَ؛ لِأَنَّ مَنْ يَأْكُلُ وَحْدَهُ فِيهِ مِنْ الْكَرَاهَةِ مَا فِيهِ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ سَعَةٌ وَبَذْلٌ مِنْهُ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْمَكْرُوهِ وَدَخَلَ فِي بَابِ الْمَعْرُوفِ وَحُصُولِ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ. [تاجر البز لَا يُشَارِكَ غَيْرَهُ فِي الزَّادِ وَالنَّفَقَةِ وَالْمَرْكُوبِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَ غَيْرَهُ فِي الزَّادِ وَالنَّفَقَةِ وَالْمَرْكُوبِ لِأَنَّهُ

فصل يتعين على تاجر البز أن يظهر لصاحب الدابة ما يحمله عليها

إنْ فَعَلَ ذَلِكَ امْتَنَعَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ فَإِنْ شَارَكَ غَيْرَهُ جَازَ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى دُونِ حَقِّهِ لِيَسْلَمَ مِنْ عِمَارَةِ ذِمَّتِهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَصِّلَ لِسَفَرِهِ مَرْكُوبًا جَيِّدًا يَأْمَنُ عَلَيْهِ خَشْيَةَ أَنْ يَنْقَطِعَ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ. [فَصْلٌ يَتَعَيَّنُ عَلَى تاجر البز أَنْ يُظْهِرَ لِصَاحِبِ الدَّابَّة مَا يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بِكِرَاءٍ أَنْ يُظْهِرَ لِصَاحِبِهَا كُلَّ مَا يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا لَمْ يُظْهِرْهُ لَهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ، وَالْخِيَانَةُ إذَا وَقَعَتْ فِي شَيْءٍ امْتَحَقَتْ مِنْهُ الْبَرَكَاتُ. وَإِذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ لَهُ فَلَا يُحَمِّلُهَا أَكْثَرَ مِمَّا تُطِيقُهُ خِيفَةَ أَنْ يَضُرَّ بِدَابَّتِهِ وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى ضَرَرِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَقِفُ مِنْ ثِقَلِ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهَا فَيَكُونُ فِيهِ إضَاعَةُ مَالٍ مِنْ حُصُولِ الضَّرَرِ لِنَفْسِهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُرَافِقَ فِي سَفَرِهِ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ الصَّلَاحِ أَوْ هُمَا مَعًا أَعْنِي الْمُرَافَقَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي تُحْدِثُ الْمَوَدَّةَ وَالْأُلْفَةَ وَالِاسْتِشَارَةَ وَسُكُونَ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ. وَأَمَّا الْمُرَافَقَةُ فِي نَفْسِ الطَّرِيقِ فَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيهَا لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِهَا وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ فِي حَقِّهِ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا مِنْ مُرَافَقَةِ الْعَالِمِ أَوْ الصَّالِحِ؛ لِأَنَّهُمَا يُذَكِّرَانِهِ إذَا نَسِيَ وَيُؤْنِسَانِهِ وَيُعِينَانِهِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ فِي الْمَكْرُوهَاتِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» وَقَدْ قِيلَ: الرَّفِيقُ قَبْلَ الطَّرِيقِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِمَنْ مَعَهُ رَأَيْتُكَ شَبَّهْتُك [فَصْلٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ غُدْوَةَ النَّهَارِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ غُدْوَةَ النَّهَارِ. لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ [فَصْلٌ إذَا عَزَمَ تاجر البز عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ أَوْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ أَوْ يُصَلِّيَ

فصل التعوذ عند خروجه من بيته إلى المسجد للصلاة وغيرها

رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى بِ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " وَفِي الثَّانِيَةِ بِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَإِنْ قَرَأَ بِغَيْرِهِمَا مِنْ السُّوَرِ فَذَلِكَ وَاسِعٌ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا خَلَفَ أَحَدٌ عِنْدَ أَهْلِهِ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يَرْكَعُهُمَا عِنْدَهُمْ حِينَ يُرِيدُ سَفَرًا» وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَ سَلَامِهِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَلِإِيلَافِ قُرَيْشٍ؛ فَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَالْقُرْآنُ بَرَكَةٌ وَخَيْرٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ لَكِنْ يُمْنَعُ الْجُنُبُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حَتَّى يَغْتَسِلَ وَيَتَيَمَّمَ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ. فَإِذَا خَرَجَ قَالَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ اكْفِنِي مَا أَهَمَّنِي وَمَا لَا أَهْتَمُّ لَهُ اللَّهُمَّ زَوِّدْنِي التَّقْوَى وَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي» وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ أَنْ يُوَدِّعَ أَهْلَهُ وَجِيرَانَهُ وَأَصْحَابَهُ وَأَصْدِقَاءَهُ وَمَعَارِفَهُ وَأَنْ يُوَدِّعُوهُ وَيَمْشِي عَلَيْهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا فَهِيَ السُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ. وَأَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَك وَأَمَانَتَك وَخَوَاتِيمَ عَمَلِك زَوَّدَك اللَّهُ التَّقْوَى وَغَفَرَ ذَنْبَك وَيَسَّرَ لَك الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْت. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ فَإِنَّ إخْوَانَهُ وَمَعَارِفَهُ يَأْتُونَ إلَيْهِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيُهَنِّئُونَهُ بِالسَّلَامَةِ وَيَدْعُونَ لَهُ وَيَدْعُو لَهُمْ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ مَعَارِفِ الْجُنَيْدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ إنْ أَنَا ذَهَبْت إلَى بَيْتِي جَاءَنِي الْجُنَيْدُ لِيُسَلِّمَ عَلَيَّ فَالْأَوْلَى أَنْ أَبْدَأَ بِهِ قَبْلَ دُخُولِي بَيْتِي فَأُسَلِّمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْقُطَ عَنْهُ تَكْلِيفُ الْإِتْيَانِ إلَيَّ فَفَعَلَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ اسْتَقَرَّ فِيهِ، وَإِذَا بِالْجُنَيْدِ عَلَى الْبَابِ فَخَرَجَ إلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي مَا حَمَلَنِي عَلَى أَنْ آتِيك قَبْلَ أَنْ آتِيَ إلَى بَيْتِي إلَّا خَشْيَةَ تَكَلُّفِك الْمَجِيءَ إلَيَّ فَقَالَ لَهُ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذَاكَ فَضْلُك وَهَذَا حَقُّك [فَصْلٌ التَّعَوُّذِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ أَنْ يَقُولَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّعَوُّذِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ» إلَخْ ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ «بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْت

فصل ينبغي لتاجر البز أن يتصدق حين خروجه

عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ» لِمَا وَرَدَ «أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لَهُ: هُدِيت وَكُفِيت وَوُقِيت» . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يَقُولُ ذَلِكَ فَعِنْدَ السَّفَرِ مِنْ بَابِ أَوْلَى [فَصْلٌ يَنْبَغِي لتاجر البز أَنْ يَتَصَدَّقَ حِينَ خُرُوجِهِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ حِينَ خُرُوجِهِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بَيْنَ يَدَيْ كُلِّ وِجْهَةٍ يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا أَوْ حَاجَةٍ يُرِيدُ أَنْ يَقْضِيَهَا أَوْ خَوْفٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْمَنَ مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ تَحْصِيلِ الْمَآرِبِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ فَمِنْهُ «ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» وَلِأَنَّ الْمَسَاكِينَ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلُطْفٌ بِالْأَغْنِيَاءِ حَتَّى تَحْصُلَ الْبَرَكَةُ لِلْجَمِيعِ. فَالْمَسَاكِينُ لِقَضَاءِ ضَرُورَاتِهِمْ وَالْأَغْنِيَاءُ لِقَضَاءِ مَآرِبِهِمْ وَدَفْعِ مَضَارِّهِمْ [فَصْلٌ يَنْبَغِي لتاجر البز أَنْ يُكْثِرَ السَّيْرَ فِي اللَّيْل] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْثِرَ السَّيْرَ فِي اللَّيْل لِمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ «عَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ» . وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرِيحَ دَابَّتَهُ بِالنُّزُولِ عَنْهَا غُدْوَةً وَعَشِيَّةً وَعِنْدَ كُلِّ عَقَبَةٍ وَيَجْتَنِبَ النَّوْمَ عَلَى ظَهْرِهَا فَإِنْ حَمَّلَ الْمُكَارِي الدَّابَّةَ فَوْقَ طَاقَتِهَا لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ الِامْتِنَاعُ مِنْ رُكُوبِهَا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا - مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ. وَالثَّانِي - تَحْمِيلُهَا مَا تَعْجَزُ عَنْهُ غَالِبًا وَهُوَ حَرَامٌ. وَالثَّالِثُ - مَا يُؤَدِّي الْأَمْرُ إلَيْهِ مِنْ وُقُوفِ الدَّابَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ وَهُوَ حَرَامٌ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْدُفَ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ مِلْكَهُ وَأَطَاقَتْ ذَلِكَ وَأَمَّا مَعَ عَدَمِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا فَلَا وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَمْكُثَ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَهِيَ وَاقِفَةٌ زَمَانًا طَوِيلًا، وَإِنْ كَانَ لِشُغْلٍ بَلْ يَنْزِلُ عَنْهَا إلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَقْضِيَ مَا يُرِيدُ، ثَمَّ إذْ أَرَادَ السَّيْرَ إنْ شَاءَ رَكِبَهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرِيحَهَا مَهْمَا أَمْكَنَهُ أَكْثَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رَاحَةَ الدَّابَّةِ وَأَمْنًا مِنْ وُقُوفِهَا فِي الْغَالِبِ وَإِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى صَاحِبِهَا إنْ كَانَتْ بِكِرَاءٍ. وَقَدْ وَرَدَ «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّاءَ أَجْرٌ» وَأَمَّا الثَّوَابُ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَمَشْهُورٌ بَرَكَتُهُ وَخَيْرُهُ فَتَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْخَيْرَاتُ وَمَعَ وُجُودِ رَاحَةِ بَدَنِهِ بِالْمَشْيِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ يُقَوِّي

فصل ينبغي لتاجر البز أن يمتثل السنة في الذكر الوارد

الْبَدَنَ وَيُنَشِّطُهُ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ فِيهِ أَمْنًا مِنْ وَجَعِ الْمَفَاصِلِ وَكَفَى بِهَا وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ وَمَعَ صِحَّةِ الْبَدَنِ وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ فَلَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] [فَصْلٌ يَنْبَغِي لتاجر البز أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي الذِّكْرِ الْوَارِدِ] (فَصْلٌ) فَإِذَا رَكِبَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي الذِّكْرِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: شَهِدْت عَلِيًّا أُتِيَ لَهُ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ إلَخْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي خُرُوجِ الْعَالِمِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ. ثُمَّ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ «اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْأَصْحَابِ اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْأَصْحَابِ» [فَصْلٌ يَنْبَغِي لتاجر البز أَنْ لَا يَسْلُكَ بُنَبَّاتِ الطُّرُقِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْلُكَ بُنَبَّاتِ الطُّرُقِ لِمَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْآفَاتِ فِيهَا. وَقَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوِحْدَةَ فِي السَّفَرِ وَقَالَ «الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ مَعَ النَّاسِ وَلَا يَنْفَرِدَ وَحْدَهُ بِطَرِيقٍ دُونَهُمْ فَإِنْ فَعَلَ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ الْآفَاتِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ وَيَنْبَغِي إذَا سَافَرَ ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ أَنْ يُؤَمِّرُوا عَلَيْهِمْ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَيُشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَهُمْ عِلْمًا وَصَلَاحًا وَعَقْلًا وَرَأْيًا فَإِنْ جَمَعَهَا كُلَّهَا فَهُوَ الْكَمَالُ، وَإِنْ عَدِمَ بَعْضَهَا فَصَاحِبُ الرَّأْيِ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ وَيَلْزَمُهُ نُصْحُهُمْ وَتَلْزَمُهُمْ طَاعَتُهُ إذَا أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا مِنْ رَعِيَّتِهِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» [فَصْلٌ لَا يَسْتَصْحِبَ التاجر الْمُسَافِر جَرَسًا وَلَا كَلْبًا] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ جَرَسًا وَلَا كَلْبًا، وَكَذَلِكَ

فصل يتعين على التاجر المسافر أن يحذر مما يفعله بعضهم

يَجْتَنِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ لِمَا وَرَدَ «لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ أَوْ جَرَسٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الْجَرَسَ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ» وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْكُنَ إلَى تَعْلِيلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ حِسَّ الْجَرَسِ يُذْهِبُ الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهَا إذَا سَمِعَتْ حِسَّهُ ذَهَبَتْ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فَقَدْ تَعْطَبُ الْمُشَاةُ أَوْ الدَّوَابُّ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّعِينَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُوقِعَ النَّاسَ فِي الْمُخَالَفَةِ يُوَجِّهُ ذَلِكَ وَيُلْقِي لَهُمْ فِيهِ مِنْ التَّعْلِيلِ مَا يُمْكِنُ أَنْ تَقْبَلَهُ نَفْسُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ أَوْ مَنْ اسْتَحْكَمَتْ عَلَيْهِ الْعَوَائِدُ الرَّدِيئَةُ بَلْ الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّفْقَةَ إذَا كَانَتْ مُمْتَثِلَةً لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ سَلِمَتْ مِنْ الْعَطَبِ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَشَرَاتٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَإِنْ اُبْتُلِيَ بِصُحْبَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَعَجَزَ عَنْ تَغْيِيرِهِ لَزِمَهُ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ ثُمَّ لِيَقُلْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ إذَا عَجَزَ عَنْ تَغْيِيرِهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا مُنْكَرٌ " ثَلَاثًا " [فَصْلٌ يَتَعَيَّنُ عَلَى التاجر الْمُسَافِر أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَكْتَرُونَ مِنْ صَاحِبِ الْجِمَالِ وَيَتَّفِقُونَ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلَّ أَلْفِ رِطْلٍ مِنْ الْأُجْرَةِ كَذَا كَذَا وَيُخْبِرُونَ الْكَرِيَّ بِأَنَّ مَا حَمَلُوهُ ثَمَانِمِائَةِ رِطْلٍ أَوْ نَحْوَهَا وَهَذَا ظُلْمٌ وَغَصْبٌ لِلْجِمَالِ وَلِلْجَمَلِ. أَمَّا الظُّلْمُ لِلْجَمَّالِ فَلِأَنَّهُ يُصَدِّقُهُمْ فَلَا يَزِنُ عَلَيْهِمْ فَيَحْمِلُ الزَّائِدَ الَّذِي كَذَّبُوهُ فِيهِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ. وَأَمَّا ظُلْمُهُمْ لِلْجَمَلِ فَلِأَنَّ الْكَرِيَّ يُصَدِّقُهُمْ فِي الْوَزْنِ وَعَادَتُهُ مَثَلًا أَنْ يَحْمِلَ عَلَى الْجَمَلِ ثَمَانِمِائَةِ رِطْلٍ فَحَمَلَ التَّاجِرُ عَلَيْهِ أَلْفًا وَهُوَ يَقُولُ: إنَّهَا ثَمَانِمِائَةِ رِطْلٍ وَهَذَا يَضُرُّ بِالدَّابَّةِ وَبِالْجِمَالِ وَبِالتَّاجِرِ إذْ الْغَالِبُ أَنَّهَا تَقِفُ بِسَبَبِ ذَلِكَ [فَصْلٌ إذَا دَخَلَ التاجر الْمُسَافِر بَلَدًا أَوْ قَابَلَهَا أَوْ نَزَلَ مَنْزِلًا] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا دَخَلَ بَلَدًا أَوْ قَابَلَهَا أَوْ نَزَلَ مَنْزِلًا أَنْ يَقُولَ «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَهَا وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا» بَعْدَ أَنْ يَبْدَأَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَخْتِمُ بِهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ يَنْزِلُهُ «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ» ثَلَاثًا لِمَا

فصل جاء التاجر المسافر إلى حل الرحل أو إلى شده على الراحلة

وَرَدَ «مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فَصْلٌ جَاءَ التاجر الْمُسَافِر إلَى حَلِّ الرَّحْلِ أَوْ إلَى شَدِّهِ عَلَى الراحلة] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا جَاءَ إلَى حَلِّ الرَّحْلِ أَوْ إلَى شَدِّهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِتَحْصُلَ لَهُ الْبَرَكَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي - امْتِثَالُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي أَحْيَانِهِ كُلِّهَا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُعَرِّسَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهَا مَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ [فَصْلٌ إذَا جَنَّ اللَّيْلُ عَلَى التاجر الْمُسَافِر] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أَنْ يَقُولَ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد وَهُوَ «يَا أَرْضُ رَبِّي وَرَبُّك اللَّهُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّك وَشَرِّ مَا فِيك وَشَرِّ مَا خُلِقَ فِيك وَشَرِّ مَا يَدِبُّ عَلَيْك وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَسَدٍ وَأُسُودٍ وَمِنْ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَمِنْ سَاكِنِ الْبَلَدِ وَمِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» . وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَافَ قَوْمًا أَنْ يَقُولَ «اللَّهُمَّ إنَّا نَجْعَلُك فِي نُحُورِهِمْ وَنَعُوذُ بِك مِنْ شُرُورِهِمْ» وَيُسْتَحَبُّ لَهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ دُعَاءِ الْكَرْبِ وَهُوَ مَا كَانَ يَقُولُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْكَرْبِ «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ» [فَصْلٌ إذَا اسْتَصْعَبَتْ دَابَّةُ التاجر الْمُسَافِر عَلَيْهِ] وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ دَابَّتُهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي أُذُنِهَا {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] وَإِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ نَادَى (يَا عِبَادَ اللَّهِ احْبِسُوا) يَقُولُهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا [فَصْلٌ اسْتِحْبَابُ الْحِدَاءُ فِي السَّفَرِ] وَيُسْتَحَبُّ الْحِدَاءُ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْوِيحًا لِلنُّفُوسِ وَتَنْشِيطًا لِلدَّوَابِّ وَاشْتِغَالًا عَنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا كَانَ سَفَرُهُ فِي الْبَحْرِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ رُكُوبِهِ

فصل الإكثار من الدعاء في السفر

{بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41] ثُمَّ يَقُولُ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] الْآيَةَ بِكَمَالِهَا. فَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ مَنْ قَالَهَا حِينَ رُكُوبِهِ السَّفِينَةَ أَمِنَ مِنْ الْغَرَقِ» . [فَصْلٌ الْإِكْثَار مِنْ الدُّعَاءِ فِي السَّفَرِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الدُّعَاءِ فِي سَفَرِهِ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِهِ وَلِوَلَدِهِ وَإِخْوَانِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَعَارِفِهِ وَلِوُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَخَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ بِمَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ لَا شَكَّ فِيهِنَّ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْرُوفِ فِي طَرِيقِهِ؛ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا صَادَفَ مَعْرُوفُهُ حَاجَةَ أَخِيهِ» وَالسَّفَرُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ بَلْ الِاضْطِرَارِ غَالِبًا فَيَسْقِي الْمَاءَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إذَا أَمْكَنَ وَيَحْمِلُ الْمُنْقَطِعَ إذَا تَيَسَّرَ لَهُ. وَفِيهِ زِيَادَةٌ أُخْرَى وَهِيَ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الشُّحُّ فِي السَّفَرِ مَخَافَةَ احْتِيَاجِهَا لِمَا هُوَ يَبْذُلُهُ [صَلَاة النَّافِلَة عَلَى الراحلة فِي السَّفَر] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْ الْأَوْرَادِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ فِي الْحَضَرِ وَلَا يُسَامِحَ نَفْسَهُ بِتَرْكِهَا وَلَا يَتْرُكَ بَعْضَهَا فِي السَّفَرِ بَلْ يَفْعَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ التَّوَابِعِ لِلْفَرَائِضِ أَوْ غَيْرِهَا لَكِنْ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ بِأَنَّ لَهُ فِي السَّفَرِ أَنْ يُصَلِّيَ النَّوَافِلَ عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْوِتْرَ إلَّا الْفَرَائِضَ الْخَمْسَ فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّيهَا إلَّا بِالْأَرْضِ أَوْ فِي السَّفِينَةِ قَائِمًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَدْعُوَ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ إلَى صَلَاتِهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مَخُوفًا أَوْ يَكُونَ مَرِيضًا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ بِالْأَرْضِ صَلَّى جَالِسًا بِالْإِيمَاءِ فَلْيُصَلِّ رَاكِبًا وَلَا يَنْزِلُ لَكِنْ يُومِئُ إلَى الْأَرْضِ بِالسُّجُودِ لَا إلَى كَوْرِ الرَّاحِلَةِ فَإِنْ أَوْمَأَ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ وَهُوَ رَاكِبٌ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ وَتُوقَفُ لَهُ

الدَّابَّةُ حَتَّى يُتِمَّ صَلَاتَهُ إنْ كَانَ طَرِيقَ سَفَرِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ. ثُمَّ مَعَ مَا ذُكِرَ يَكُونُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي نِيَّتِهِ التَّيْسِيرَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِقْلِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا أَوْ الْأَقَالِيمِ فَيُيَسِّرُ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِمَّا لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ. وَكَذَلِكَ عَلَى الْآخَرِينَ، وَيَجْعَلُ طَلَبَ الرِّزْقِ تَبَعًا لِذَلِكَ مَعَ تَوَكُّلِهِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ وَلَا يُجْلَبُ بِالْحِيَلِ وَلَا بِالتَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ حَاضِرَةٌ جَمِيلَةٌ حَتَّى يَكُونَ سَفَرُهُ وَحَرَكَتُهُ وَخُطَاهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا فِي غَيْرِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْن أَخِيهِ» ثُمَّ يَصْحَبُ ذَلِكَ نِيَّةُ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ فَإِذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ عَلَى مَا وُصِفَ كَانَ اللَّهُ فِي عَوْنِهِ وَمَنْ كَانَ اللَّهُ فِي عَوْنِهِ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَإِيقَاعِهَا فِي جَمَاعَةٍ فِي أَوْقَاتِهَا الْمُخْتَارَةِ لَهَا لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّ فِي الْبَلَدِ غَيْرَهُ يَقُومُ عَنْهُ بِذَلِكَ فِيهَا بِخِلَافِ السَّفَرِ فَعَلَى هَذَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِالْأَوْقَاتِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِصَلَاةِ السَّفَرِ وَمَا يَفْعَلُ فِيهَا وَالْمَسَافَةُ الَّتِي تُقْصَرُ فِيهَا وَالْمَسَافَةُ الَّتِي لَا تُقْصَرُ فِيهَا وَالْحَدُّ الَّذِي يَنْوِي الْإِقَامَةَ فِيهِ وَمَا يَلْزَمُهُ فِيهِ مِنْ قَصْرٍ وَإِتْمَامٍ، وَأَمْرُ الْقَصْرِ وَمَعْرِفَتُهُ وَشُرُوطُهُ وَفَرَائِضُهُ وَسُنَّتُهُ وَفَضَائِلُهُ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَجِبُ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَحْرُمُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَوْفَى فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْأَذَانَ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ فَإِمَّا أَنْ يُؤَذِّنَ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ حَتَّى تَظْهَرَ شَعِيرَةُ الْإِسْلَامِ وَتَبْقَى قَائِمَةً بَيْنَهُمْ وَفِيهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَنْ كَانَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَنَّهُ إذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى وَرَاءَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ وَإِنْ تَرَكَ الْأَذَانَ وَأَقَامَ صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ يَسَارِهِ مَلَكٌ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ سَيْرٍ وَغَيْرِهِ

فصل لا يركب البحر في الفصل الذي يخاف عليه فيه

حَتَّى يُصَلِّيَ لِأَنَّهُ أَبْرَأُ لِلذِّمَّةِ وَأَفْضَلُ وَأَبْرَكُ؛ لِأَنَّ الْأَسْفَارَ الْغَالِبَ فِيهَا وُقُوعُ الضَّرُورَاتِ فَإِنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْجَأَهُ عُذْرٌ فَتَخْرُجُ الصَّلَاةُ بِسَبَبِهِ عَنْ وَقْتِهَا فَيَحْتَاطُ بِأَنْ يُوقِعَ الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ لِيَكُونَ ذَلِكَ حَاجِزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمِ، وَيَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ لِلضَّرُورَةِ لَكِنَّ الِاحْتِيَاطَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُسَافِرَ إلَى بَلَدٍ يَكُونُ الطَّرِيقُ فِيهَا غَيْرَ مَأْمُونٍ أَوْ بَعْضُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْخَطَرِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ [فَصْلٌ لَا يَرْكَبَ الْبَحْرَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ فِيهِ] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرْكَبَ الْبَحْرَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ فِيهِ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ فِي ارْتِجَاجِهِ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الذِّمَّةِ» بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى يَكُونَ الْفَصْلُ مُعْتَدِلًا فَحِينَئِذٍ يُسَافِرُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرْكَبَ الْبَحْرَ مَعَ النَّوَاتِيَّةِ الَّذِينَ اعْتَادُوا كَشْفَ عَوْرَاتِهِمْ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ كَشْفُهَا إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَتِرُوا السُّتْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ. وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُسَافِرَ مَعَ أَحَدٍ مِمَّنْ يُبَاشِرُهُ وَهُوَ تَارِكٌ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا لَهُ فِي وِزْرِهِ بَلْ هُوَ مُشَارِكٌ لِلنُّوتِيِّ وَالْجَمَّالِ إذَا اتَّصَفَ أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ شَرِيكٌ لَهُ لِمُبَاشَرَتِهِ وَتَرْكِ الْأَخْذِ عَلَى يَدِهِ بِالِاشْتِرَاطِ عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ لَا عِبْرَةَ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ إذْ إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ اشْتَرَطَهُ وَإِنَّمَا اُحْتِيجَ هُنَا إلَى اشْتِرَاطِهِ لِأَجْلِ مَا اجْتَرَأَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ تَرْكِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا ذُكِرَ قَلَّ أَنْ تَقَعَ لَهُ الْبَرَكَةُ فِي سَبَبٍ يَضْطَرُّ فِيهِ إلَى مُبَاشَرَةِ مَنْ هَذَا حَالُهُ. [فَصْلٌ لَا يُسَافِرَ إلَى بِلَادِ الْكُفَّارِ] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُسَافِرَ إلَى بِلَادِ الْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْإِسْلَامُ يَعْلُو، وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» إذْ إنَّهُ إذَا سَافَرَ إلَى بِلَادِهِمْ كَانَتْ كَلِمَتُهُمْ هِيَ الْعُلْيَا، وَكَلِمَتُهُ خَامِدَةٌ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ سَفَرَهُ يَكُونُ بِنِيَّةِ التَّيْسِيرِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا عَلَى الضِّدِّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَيْسِيرًا عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ الْكُفَّارِ وَأَعْدَائِهِ بِمَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِسَبَبِ مَا يَبِيعُهُ لَهُمْ

فصل زيارة التاجر للعلماء والصلحاء والأولياء

أَوْ يَشْتَرِيهِ مِنْهُمْ فَيَنْفَعُهُمْ فِي الْحَالَيْنِ مَعًا. [فَصْلٌ زِيَارَةَ التاجر لِلْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ زِيَارَةَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِمَّنْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ الَّتِي هُوَ مُتَو مُتَوَجِّهٌ إلَيْهَا وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَوْجُودًا فِي طَرِيقِهِ لِاغْتِنَامِ فَضِيلَةِ رُؤْيَتِهِمْ وَالتَّبَرُّكِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُوجَدُونَ فِي إقْلِيمٍ دُونَ إقْلِيمٍ وَيَكْثُرُونَ فِي مَوْضِعٍ دُونَ آخَرَ فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ وَوَجَدَ السَّبِيلَ إلَيْهِ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ مَعًا وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْهُ مَانِعٌ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ. وَقَدْ وَرَدَ «مَنْ خَرَجَ يَزُورُ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ مَلَكًا يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ» فَتَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فِيهَا بِغَيْرِ تَعَبٍ، وَلَا نَصَبٍ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ زِيَارَةَ قُبُورِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَرَّ بِهِ أَوْ دَخَلَهُ إنْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَكِنْ يُقَدِّمُ زِيَارَةَ الْأَحْيَاءِ عَلَى زِيَارَةِ الْأَمْوَاتِ إذْ إنَّ حَقَّهُمْ مُتَعَيَّنٌ فِي وَقْتِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَوْ مَرَّ بِالْقُبُورِ أَوَّلًا بَدَأَ بِزِيَارَةِ أَهْلِهَا وَيَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فِيمَا يَفْعَلُهُ هُنَاكَ مِنْ السَّلَامِ وَالتَّرَحُّمِ وَالدُّعَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَإِنْ كَانَ فِي الْقُبُورِ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا بَدَأَ بِهِ إذْ إنَّهُ رَحِمٌ. لِمَا نُقِلَ فِي الْأَثَرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَعْرِفَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا رَحِمٌ وَصَلَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَهُ وَقَطَعَ مَنْ قَطَعَهُ. [فَصْلٌ التاجر إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ أَنْ يَنْوِيَ السِّيَاحَةَ فِي أَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ أَنْ يَنْوِيَ السِّيَاحَةَ فِي أَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَنْظُرَ وَيَعْتَبِرَ فِي اخْتِلَافِ الْأَرْضِ وَبِقَاعِهَا وَسَهْلِهَا وَوَعْرِهَا وَتَفَجُّرِ الْأَنْهَارِ مِنْهَا وَجَرْيِهَا وَآثَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَمَا جَرَى لَهُمْ وَكَيْفَ صَارُوا خَبَرًا وَأَثَرًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا رُؤْيَةً وَنَظَرًا. وَكَذَلِكَ يَعْتَبِرُ بِالنَّظَرِ إلَى اخْتِلَافِ سَاكِنِيهَا فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ وَالْأَلْوَانِ وَاللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَاتِ وَالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْعَوَائِدِ وَالْعَجَائِبِ. [فَصْلٌ أَنْ يَنْوِيَ فِي سَفَرِهِ الْخَلْوَةَ عَنْ النَّاسِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ فِي سَفَرِهِ الْخَلْوَةَ عَنْ النَّاسِ وَفِي الْخَلْوَةِ مِنْ الْفَوَائِدِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إذْ إنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ الْخَلْوَةِ غَالِبًا إذْ إنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَخْلُو حَالُهُ

مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا فَالْمَاشِي الْخَلْوَةُ حَاصِلَةٌ لَهُ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَهُمَا يَتَكَلَّمَانِ فِي الْعُلُومِ أَوْ الْأَعْمَالِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْخَلْوَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ مِنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَالْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي فَإِنْ تَوَقَّعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالْخَلْوَةُ أَوْجَبُ وَلْيَأْخُذْ طَرِيقًا غَيْرَ تِلْكَ أَعْنِي أَنَّهُ يَبْعُدُ عَمَّنْ هَذَا حَالُهُ وَلَكِنْ يَخْلُو بِنَفْسِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا إنْ كَانَ رَاكِبًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَحْمَلٍ وَمَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ هُوَ رَاكِبٌ وَحْدَهُ أَوْ هُوَ رَاكِبٌ فِي الْبَحْرِ فَإِنْ كَانَ رَاكِبًا وَحْدَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاشِي سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا فِي مَحْمَلٍ مَعَ رَفِيقٍ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْمَاشِي مَعَ رَفِيقٍ فَإِنْ تَوَقَّعَ ضِدَّ مَا ذُكِرَ فَالِاشْتِغَالُ عَنْهُ بِالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ مُتَعَيَّنٌ، وَلَوْ جَهَرًا بَلْ الْجَهْرُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ يَنْقَطِعُ كَلَامُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَقَدْ يَقْتَدِي بِهِ فَيُؤْجَرُ هَذَا إنْ كَانَ الرَّفِيقُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَوْرَادِ وَأَمَّا إنْ كَانَ الْآخَرُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَمَلِ فَالْإِسْرَارُ فِي حَقِّهِ مُتَعَيَّنٌ لِئَلَّا يُشَوِّشَ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ بِسَبِيلِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَمَا أَشْبَهَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَضْيِيعٌ لِلزَّمَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَفَرَهُ إنَّمَا هُوَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا يُنَافِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَطَالَةِ الْوَقْتِ وَالْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي غَالِبًا. ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ الْمَاشِي وَالرَّاكِبُ مِنْ رَمْيِ الطُّيُورِ بِالْبُنْدُقِ وَالْمَقَالِيعِ وَالْحَذْفِ بِالْحَجَرِ وَمَا أَشْبَهَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهَا، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهَا بِهِ مَا لَمْ تُدْرَكُ ذَكَاتُهَا مَعَ وُجُودِ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ فِيهَا وَهُوَ نَادِرٌ قَلَّ أَنْ يَقَعَ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّمْيَ بِالسِّهَامِ فَذَلِكَ جَائِزٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ عَلَى مَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا مِنْ الشُّرُوطِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا انْتَفَعَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا آثَرَ بِهَا مَنْ يَحْتَاجُهَا فَلَهُ الثَّوَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا يَشْتَغِلُ بِالْحِكَايَاتِ الْمُضْحِكَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَضْيِيعٌ لِلْوَقْتِ وَسَفَرُهُ إنَّمَا

نَوَاهُ لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَشُوبُهُ بِغَيْرِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ رَاكِبًا فِي الْبَحْرِ فَيَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ مُتَلَبِّسًا بِالطَّاعَةِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ إذْ إنَّهُ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ لِأَجْلِ مَا يُتَوَقَّعُ فِي الْبَحْرِ مِنْ الْأَهْوَالِ وَالْأَخْطَارِ مِمَّا جَرَى فِيهِ لِغَيْرِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ لِيَحْجِزَهُ عَنْ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِي وَيَحُثَّهُ عَلَى دَوَامِ الْإِقْبَالِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ وَذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى صِحَّةِ نِيَّتِهِ وَعَلَى الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ فَلَا يُدَنِّسُهُ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا يُنَاسِبُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ فِي أَوَانِ الْخَوْفِ مِنْهُ غَالِبًا فَلَوْ رَكِبَهُ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ رُكُوبُهُ فِيهِ ثُمَّ هَاجَ عَلَيْهِ فَتَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إلَى تَجْدِيدِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ مَنْ فِي الْمَرْكَبِ وَالرُّجُوعُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالضَّرَاعَةِ وَالِاسْتِكَانَةِ إذْ لَعَلَّ مَا أَصَابَهُمْ يَكُونُ بِسَبَبِ ذَنْبٍ وَاقَعَهُ بَعْضُهُمْ عُوقِبَ الْجَمِيعُ بِهِ فَإِذَا حَصَلَتْ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ وَالِاضْطِرَارُ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَمْتَثِلُونَ السُّنَّةَ فِي إخْرَاجِ الصَّدَقَةِ بِنِيَّةِ رَفْعِ هَذِهِ الشِّدَّةِ عَنْهُمْ فَيُعْطُونَهَا لِفُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ قَوِيَ الرَّجَاءُ فِي خَلَاصِهِمْ وَإِغَاثَتِهِمْ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكْتُبُ الصَّدَقَةَ الَّتِي تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِإِخْرَاجِهَا دُونَ أَنْ يُعْطُوهَا لِأَحَدٍ إذْ ذَاكَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُمْ بَلْ حَتَّى يَصِلُوا إلَى الْبَلَدِ فَإِذَا وَصَلُوا إلَيْهَا اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمْ فِيهَا فَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُبْطِئُ بِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ بَعْضَهَا وَيُمْسِكُ بَعْضَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُخْرِجُ هَذَا وَلَا هَذَا، وَهَذَا أَمْرٌ شَنِيعٌ قَبِيحٌ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ قَدْ تَعَمَّرَتْ بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَمَنْ لَمْ يُخْرِجْ ذَلِكَ مِنْهُمْ بَقِيَتْ ذِمَّتُهُ مَشْغُولَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مِنْهُ بَرِيئَةً فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْجَمِيعَ أَخْرَجُوا مَا ذَكَرُوهُ بَعْدَ وُصُولِهِمْ إلَى الْبَلَدِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ النَّذْرِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَإِنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ فَمَا كُشِفَ عَنْهُمْ فِي الْمَرْكَبِ إنَّمَا هُوَ بِمُجَرَّدِ فَضْلِ اللَّهِ لَا بِسَبَبِ صَدَقَتِهِمْ. وَقَدْ وَقَعَ بِنَا بَعْضُ هَذَا فِي الْمَرْكَبِ الَّذِي جِئْنَا فِيهِ

مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ فَكَتَبَ النَّاسُ الصَّدَقَةَ عَلَى عَادَتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى حَالِهِ مِنْ الشِّدَّةِ فَشَكَا أَهْلُ الْمَرْكَبِ ذَلِكَ لِسَيِّدِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكُنَّا فِي السَّفَرِ مَعَهُ وَفِي خَفَارَتِهِ وَحَصَلَتْ لَنَا النَّجَاةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ شَكَا النَّاسُ إلَيْهِ مَا أَصَابَهُمْ أَمَرَهُمْ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ وَالصَّدَقَةِ فَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا؛ فَقَالَ: وَأَيْنَ هِيَ الصَّدَقَةُ؟ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا جَرَى؛ فَقَالَ: لَا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا عَلَيْهِمْ الطَّلَبَ ثَانِيَةً بِشَرْطِ أَنْ لَا يَذْكُرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا إلَّا وَيُعْطِيهِ الْآنَ فَجُمِعَتْ الصَّدَقَةُ وَجُعِلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَفَرَّقَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَرْكَبِ فَطَابَ الْوَقْتُ وَهَدَأَ الْبَحْرُ وَجَاءَتْ الرِّيحُ الْمُوَافِقَةُ فَلَمْ تَزَلْ مُسْتَمِرَّةً حَتَّى وَصَلْنَا إلَى الْمَقْصِدِ سَالِمِينَ وَسَبَبُ ذَلِكَ بَرَكَةُ الِامْتِثَالِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَالِاهْتِدَاءُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَشَايِخِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ رَحْمَةً عَامَّةً لِلْعَامِلِينَ، وَالْكُلُّ مُتَوَسِّلُونَ بِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ وَرَأْيِهِمْ وَنَظَرِهِمْ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْبَلْدَةِ الَّتِي أَرَادَهَا أَوْ طَلَعَ إلَى بَلْدَةٍ يُرِيدُ الْبَيْعَ فِيهَا أَوْ الشِّرَاءَ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُقِيمُ بِهَا فَيَحْتَاجُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَبْدَأَ بِبَيْتِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُصَلِّيَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ مَا يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِمَادُ الدِّينِ وَبِهَا قِوَامُهُ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ حَصَلَتْ لَهُ خِصَالٌ حَمِيدَةٌ: مِنْهَا امْتِثَالُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا دَخَلَ إلَى بَلَدٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ» وَمِنْهَا مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ زِيَارَةِ بَيْتِ رَبِّهِ. وَمِنْهَا الصَّلَاةُ فِيهِ. وَمِنْهَا عَدَمُ الِاسْتِشْرَافِ لِلْأَسْوَاقِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ فِي نُصْحِهِ لِنَفْسِهِ وَسَلَامَتِهَا وَنُصْحِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَبِيعُهُ لَهُمْ وَيَشْتَرِيهِ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ الَّتِي يَبِيعُهَا لَهُمْ فِيهَا عَيْبٌ مَا فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُبَيِّنَهُ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ التَّفْصِيلَةُ قَصِيرَةً أَوْ فِيهَا أَرْشٌ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ وَتَرْكُهُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»

فصل يتعين عليه إذا اشترى بثمن معلوم أن لا ينقص البائع منه شيئا

فَإِنْ هُوَ غَشَّ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ فَقَدْ دَخَلَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي تَبَرَّأَ مِنْهُ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ. وَمِنْ الْغِشِّ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقُمَاشُ عِنْدَهُ مُخْتَلِفَ الْحَالِ فَبَعْضُهُ جَيِّدٌ وَبَعْضُهُ رَدِيءٌ فَيَأْخُذُ الْبَائِعُ الْجَيِّدَ فَيَعْرِضُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَإِذَا تَعَاقَدَا عَلَى ثَمَنٍ مَعْلُومٍ لِكُلِّ خِرْقَةٍ مِنْهَا أَخْرَجَ الْبَائِعُ الْجَيِّدَ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِإِخْرَاجِ الرَّدِيءِ لِيَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الرَّدِيءَ بِمِثْلِ ثَمَنِ الْجَيِّدِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالْحُسْنِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ غِشٌّ وَإِذْ كَانَ غِشًّا؛ فَتَمْتَحِقُ الْبَرَكَةُ مِنْ الْمَالِ بِسَبَبِهِ، وَالتَّاجِرُ قَدْ تَعِبَ فِي السَّفَرِ وَخَاطَرَ وَفَارَقَ أَهْلَهُ لِلْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلِتَنْمِيَةِ الْمَالِ وَإِصْلَاحِهِ فَيَقَعُ لَهُ الْعَكْسُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْلِطُ الطَّيِّبَ بِالرَّدِيءِ فَإِذَا جَاءَ الْمُشْتَرِي وَكَرِهَ مَا دَفَعَهُ لَهُ مِنْ الرَّدِيءِ يُكَابِرُهُ فِيهِ وَيَقُولُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: هُوَ مِثْلُ الْجَيِّدِ أَوْ يُقَارِبُهُ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْغِشِّ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ بَلْ النَّصِيحَةُ تُوجِبُ أَنْ يَبِيعَ الْجَيِّدَ وَحْدَهُ وَالرَّدِيءَ وَحْدَهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا رَدِيءٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَكَتَ عَلَيْهِ ظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مِنْ الْعَالِ أَوْ الْوَسَطِ، وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَخْلِطَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ وَذَلِكَ طَرِيقُ السَّلَامَةِ لِمَنْ أَرَادَهَا. أَمَّا لَوْ خَلَطَ الْجَيِّدَ بِالرَّدِيءِ وَبَاعَهُ بِسِعْرِ الرَّدِيءِ فَهَذَا جَائِزٌ إذَا كَانَ الْمَالُ لَهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ شَرِيكٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْهِبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ فِيهِ وَكِيلًا أَوْ كَانَ الْمَالُ لِيَتِيمٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَصْلًا وَمَا التَّوْفِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ. [فَصْلٌ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا اشْتَرَى بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ أَنْ لَا يُنْقِصَ الْبَائِعَ مِنْهُ شَيْئًا] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا اشْتَرَى بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ أَنْ لَا يُنْقِصَ الْبَائِعَ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ نَقَصَهُ فَذَلِكَ مِنْ بَابِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ قَدْ تَعَمَّرَتْ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ وَغَالِبُ أَحْوَالِ النَّاسِ الْمُشَاحَّةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَإِذَا نَقَصَهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْبَائِعِ الرِّضَا فَالْغَالِبُ عَدَمُ رِضَاهُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ

الْعَوَائِدِ وَمِنْ رَغْبَةِ النُّفُوسِ فِي أَخْذِهَا جَمِيعَ حَقِّهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا ذُلُّ السُّؤَالِ فِي أَنْ يَحُطَّ عَنْهُ شَيْئًا مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ كَافِيًا فِي الذَّمِّ فَكَيْفَ وَقَدْ جَمَعَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِشْرَافَ النَّفْسِ وَالشَّرَهَ سِيَّمَا إنْ كَانَ غَنِيًّا وَالْبَائِعُ فَقِيرًا فَذَلِكَ أَقْبَحُ وَأَشْنَعُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ وَكِيلًا لِلْغَيْرِ أَوْ وَلِيًّا أَوْ وَصِيًّا لِيَتِيمٍ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الذَّمُّ إنَّمَا هُوَ إذَا وَقَعَ ذَلِكَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ وَعَقْدِ الْبَيْعِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا حَرَجَ فِي الْمُسَاوَمَةِ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ مُسْتَحَبٌّ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَاكِسُوا الْبَاعَةَ فَإِنَّ فِيهِمْ الْأَرْذَلِينَ» وَسَوَاءٌ كَانَا غَنِيَّيْنِ أَوْ فَقِيرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ غَالِبًا (فَصْلٌ) وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْأَلُ الْبَائِعَ أَنْ يُنْقِصَ عَنْهُ وَلَكِنْ يَسْأَلُهُ التَّأْخِيرَ مَعَ كَوْنِ الْبَيْعِ وَقَعَ عَلَى الْحُلُولِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَهُوَ مُلْتَحِقٌ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَعْنِي فِي نُقْصَانِ الثَّمَنِ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْأَلُهُ نُقْصَانَ الثَّمَنِ، وَلَا التَّأْخِيرَ وَلَكِنْ يُمَاطِلُهُ بِقَوْلِهِ: غَدًا وَبَعْدَ غَدٍ وَغُدْوَةً وَعَشِيَّةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَوَائِدِهِمْ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الثَّمَنِ فِي الْوَقْتِ وَهَذَا يَدْخُلُ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إعْطَاءِ الثَّمَنِ كُلِّهِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ إنَّهُ يَقْطَعُهُ عَلَى صَاحِبِهِ مِرَارًا كَثِيرَةً وَهَذَا مُلْتَحِقٌ بِمَا تَقَدَّمَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَطْلِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ بَعْضِهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَتَضَرَّرُ بِتَأْخِيرِ بَعْضِهِ كَمَا يَتَضَرَّرُ بِتَأْخِيرِ كُلِّهِ غَالِبًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ الثَّمَنَ عَلَى مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ أَنْ يَضْجَرَ الْبَائِعُ مِنْ كَثْرَةِ التَّرَدُّدِ إلَيْهِ سِيَّمَا إنْ كَانَ غَرِيبًا يَقْصِدُ السَّفَرَ فَيَفْعَلُ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ مَعَهُ حَتَّى يُضْطَرَّ إلَى أَنْ يَتْرُكَ لَهُ بَعْضَ الثَّمَنِ الَّذِي تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْهُ وَيَذْهَبَ لِشَأْنِهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْبَيْعُ وَقَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّأْجِيلِ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ الْمُعَيَّنُ بَيْنَهُمَا صَارَ الْحُكْمُ فِي

فصل صفة السوق الذي يباع فيه البز

ذَلِكَ حُكْمَ الْحَالِّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [فَصْلٌ صِفَةِ السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْبَزُّ] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى سِلْعَةً مِثْلَ الْحَرِيرِ وَالْبَزِّ وَمَا أَشْبَهَهُمَا يُقَلِّبُهُ عَلَى مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي صِفَةِ السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْبَزُّ مِنْ كَوْنِهِمْ يَشْتَرُونَهُ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ وَقْتُ الْغَلَسِ لِتَحْسُنَ فِي عَيْنِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي لِتِلْكَ السِّلْعَةِ يُقَلِّبُهَا فِي الشَّمْسِ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ أَوْ مَا يُقَارِبُهَا لَوَقَفَ بِذَلِكَ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهَا وَهَذَا مِنْ بَابِ الْغِشِّ أَيْضًا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ مِنْ الذَّمِّ. [فَصْلٌ كَثْرَةِ الْأَيْمَانِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الْأَيْمَانِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَيْلٌ لِلتَّاجِرِ مِنْ تَاللَّهِ وَبِاَللَّهِ» هَذَا إذَا كَانَ حَلِفُهُ عَلَى حَقٍّ وَهُوَ مَذْمُومٌ كَمَا تَرَى فَكَيْفَ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَحْلِفُونَ عَلَى تَحْسِينِ سِلَعِهِمْ وَقَدْ تَكُونُ عَلَى خِلَافِ مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ الْغَالِبُ إذْ إنَّهَا لِأَجْلِ تَحْسِينِ سِلَعِهِمْ وَتَزْيِينِهَا فِي عَيْنِ الْمُشْتَرِي وَتَغْبِيطِهِ بِهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَذْمُومٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَغِّبُ الْمُشْتَرِيَ فِي سِلْعَتِهِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: إنَّ مَوْضِعَهَا الَّذِي أَتَيْت بِهَا مِنْهُ كَذَا وَهِيَ مَعْدُومَةٌ فِيهِ أَوْ قَلِيلَةٌ وَأَنَّهَا تُسَاوِي مِنْ الثَّمَنِ الْعَالِي فِي مَوْضِعِهَا كَذَا وَإِنَّمَا اشْتَرَيْتهَا مِنْ صَاحِبِهَا بِالْجَهْدِ وَالْمُحَابَاةِ حَتَّى بَاعَهَا لِي. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الَّتِي لَا يَنْحَصِرُ تَفْصِيلُهَا. وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَلِفُ بِالْعِتْقِ أَوْ بِالطَّلَاقِ فَهُوَ أَقْبَحُ وَأَشْنَعُ لِوُقُوعِهِ فِي النَّهْيِ الصَّرِيحِ. لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّلَاقِ، وَلَا بِالْعَتَاقِ فَإِنَّهَا أَيْمَانُ الْفُسَّاقِ» فَيَدْخُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَحْتَ عُمُومِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُؤَدَّبُ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْعَتَاقِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَمْتَحِقُ الْبَرَكَةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ امْتَحَقَتْ الْبَرَكَةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ غَالِبًا؛ وَلِأَجْلِ هَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ

فصل في التاجر تكون السلع في الخيش فيشتريها بخيشها

كَأَنَّهُمْ وُكَلَاءُ وَأُمَنَاءُ فِي أَمْوَالِهِمْ فَلَا يَجِدُونَ السَّبِيلَ إلَى الصَّرْفِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِطَاعَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْغَالِبِ بَلْ هُمْ خَزَنَةٌ لِغَيْرِهِمْ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون: 7] قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: خَزَائِنُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ أَيْدِي خَلْقِهِ. فَإِذَا كَانَ خِزَانَةً لِغَيْرِهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ مِثْلَ الصَّانِعِ وَالْأَجِيرِ وَالْوَارِثِ أَعْنِي فِي أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُمْ وَهُوَ مَجْبُورٌ عَلَى إخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ لِهَؤُلَاءِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ طَوْعًا أَمْ كَرْهًا وَعَلَامَةُ كَوْنِ الْمَالِ لِلشَّخْصِ تَسْلِيطُهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فَمَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ وَقَعَتْ لَهُ الْبَرَكَةُ فَانْتَفَعَ بِهِ لِنَفْسِهِ وَانْتَفَعَ وَرَثَتُهُ بَعْدَهُ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ مَعَ الذِّكْرِ الْحَسَنِ وَالْبَرَكَةِ فِيمَا بَقِيَ. [فَصْلٌ فِي التاجر تَكُونَ السِّلَعُ فِي الْخَيْشِ فَيَشْتَرِيَهَا بِخَيْشِهَا] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ السِّلَعُ فِي الْخَيْشِ فَيَشْتَرِيَهَا بِخَيْشِهَا وَيَحْسُبُ عَلَى الْخَيْشَةِ أَرْطَالًا مَعْلُومَةً يَذْكُرُهَا لِلْبَائِعِ وَالْخَيْشَةُ دُونَ ذَلِكَ الْوَزْنِ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْ الْبَائِعِ إنْ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى ذَلِكَ فَيُضْطَرَّ الْبَائِعُ إلَى مُوَافَقَتِهِ لِئَلَّا تَبُورَ سِلْعَتُهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ تَوَاطُئِهِ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ التُّجَّارِ مِمَّنْ يُرِيدُ شِرَاءَ تِلْكَ السِّلَعِ. مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ وَزْنُ الْخَيْشَةِ عَشْرَةَ أَرْطَالٍ فَيَقُولُ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: إنَّمَا أَحْسُبُهَا عِشْرِينَ رِطْلًا، فَإِذَا بَاعَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ عَشْرَةَ أَرْطَالٍ مِنْ الْفُلْفُلِ مَثَلًا أَوْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا مُقَابَلَةِ شَيْءٍ لِزِيَادَتِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ الَّذِي أَخَذَهُ زَائِدًا عَلَى وَزْنِ الْخَيْشَةِ. [فَصْلٌ التاجر إذَا أَعْجَبَتْهُ السِّلْعَةُ أَوْ وَقَعَ لَهُ فِيهَا غَرَضٌ] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَعْجَبَتْهُ السِّلْعَةُ أَوْ وَقَعَ لَهُ فِيهَا غَرَضٌ يُقَبِّحُهَا فِي عَيْنِ الْبَائِعِ وَيَذْكُرُ لَهُ عُيُوبًا لِيَبْخَسَهَا عِنْدَهُ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ مَعَ مَنْ يُرِيدُ شِرَاءَهَا مِنْ الْبَائِعِ حَتَّى يُنَفِّرَ الْمُشْتَرِيَ عَنْهَا فَيَجِدَ السَّبِيلَ إلَى شِرَائِهَا مِنْ الْبَائِعِ بِمَا يَخْتَارُ مِنْ الثَّمَنِ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّحَيُّلِ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

فصل قعود التاجر في بيت مظلم ويقلب السلع على من يريد شرائها

فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ سِلْعَةٌ يُشِيعُ بِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ عِنْدَ غَيْرِهِ وَأَنَّهَا عِنْدَهُ وَقَدْ طُلِبَتْ مِنْهُ بِكَذَا، وَكَذَا مِنْ الثَّمَنِ فَلَمْ يَرْضَ بِهِ وَيَشْكُرُهَا وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا قَدْ جَمَعَ بَيْنَ أَشْيَاءَ مَذْمُومَةٍ بَلْ بَعْضُهَا مُحَرَّمٌ أَمَّا الْمُحَرَّمُ فَقَوْلُهُ: إنَّهَا مَعْدُومَةٌ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ. وَالثَّانِي - الْكَذِبُ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ طُلِبَتْ مِنْهُ بِكَذَا، وَكَذَا مِنْ الثَّمَنِ فَأَبَى أَنْ يَبِيعَهَا بِهِ وَهَذَا كَذِبٌ ثَانٍ إذْ أَخْبَرَ بِخِلَافِ مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ - شُكْرُهُ لَهَا إنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَ فَهُوَ كَذِبٌ ثَالِثٌ وَإِنْ كَانَتْ كَمَا ذَكَرَ عَنْهَا فَهُوَ مَذْمُومٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ اسْتِشْرَافِ النَّفْسِ بِالرَّغْبَةِ فِيهَا وَالتَّغْبِيطِ بِشَأْنِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَالرَّابِعُ - حَلِفُهُ أَنَّهَا عَلَى صِفَةِ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْحُسْنِ وَالْجَوْدَةِ وَهَذَا يَدُورُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْكَرَاهَةُ. وَالْآخَرُ: التَّحْرِيمُ. أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَهُوَ مَا إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ عَلَى مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا التَّحْرِيمُ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ. [فَصْلٌ قُعُود التاجر فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَيُقَلِّبُ السِّلَعَ عَلَى مَنْ يُرِيد شرائها] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنْ يَقْعُدَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَيُقَلِّبُ السِّلَعَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ شِرَاءَهَا لِيُظْهِرَ أَنَّهَا جَيِّدَةٌ وَكَانَتْ عَلَى خِلَافِهِ بِسَبَبِ ظَلَامِ الْمَوْضِعِ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَفْتَحُ الْمَوْضِعَ إلَّا آخِرَ النَّهَارِ لِيَقِلَّ الضَّوْءُ فَيَحْسُنَ الْقُمَاشُ فِي عَيْنِ مُشْتَرِيهِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ وَالتَّحَيُّلِ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ. (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ سِلْعَةً وَأَرَادَ الْمُشْتَرِي أَخْذَهَا مَنَعَهُ غِلْمَانُ الْبَائِعِ مِنْهَا حَتَّى يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا يُسَمُّونَهُ بِهِبَهِتِمْ وَبَائِعُ السِّلَعِ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا مَذْمُومٌ فِي الْفِعْلِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» . وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَأْخُذُ تَوْقِيعًا مِمَّنْ لَهُ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُ يُسَامِحُ فِي الطَّرِيقِ بِالْمَظَالِمِ الَّتِي

فصل المواضع التي يؤخذ فيها الظلم ويزعمون أنها زكاة

فِيهَا عَلَى الْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي أَخْذِهِمْ مِنْ التُّجَّارِ عَلَى كُلِّ حِمْلٍ مِنْ كَذَا، وَكَذَا كَذَا، وَكَذَا وَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ مَنْ بِيَدِهِ ذَلِكَ التَّوْقِيعُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ السَّفَرُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَيَبِيعُ ذَلِكَ التَّوْقِيعَ لِغَيْرِهِ مِنْ التُّجَّارِ بِدُونِ مَا يُلْزِمُونَ التَّاجِرَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ عَلَى مَا مَعَهُ مِنْ التِّجَارَةِ. وَهَذَا الْفِعْلُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمَا مَعًا أَمَّا تَحْرِيمُهُ عَلَى مَنْ بَاعَ التَّوْقِيعَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا لَا يَسْتَحِقُّهُ شَرْعًا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ هُوَ وَالظَّلَمَةُ سَوَاءً. وَأَمَّا تَحْرِيمُهُ عَلَى مَنْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ فَلِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَالْإِعَانَةُ عَلَى الظُّلْمِ مُحَرَّمَةٌ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لِمَنْ يُرِيدُ أَخْذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ إلَّا إذَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْإِكْرَاهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَالْإِكْرَاهُ هُنَا مَعْدُومٌ أَلْبَتَّةَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَهُ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ ظُلْمًا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَمَّا لَوْ أَعْطَاهُ مَا بِيَدِهِ مِنْ التَّوْقِيعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَهَذَا مَعْرُوفٌ صَنَعَهُ مَعَهُ وَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَعَوَّضَ عَنْ فِعْلِهِ لِذَلِكَ الْمَعْرُوفِ هَدِيَّةً، وَلَا يُرْسِلُ مَعَهُ مَالًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَيْئًا أَوْ يُرْسِلُ مَعَهُ مَا يَبِيعُهُ لَهُ أَوْ يُقْتَرَضُ مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَلَا يَبْعُدُ فِي حَقِّ مَنْ بِيَدِهِ التَّوْقِيعُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ إذَا لَمْ يُسَافِرْ لِمَنْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلرِّفْقِ مِنْ التُّجَّارِ لِيَدْفَعَ بِذَلِكَ الظُّلْمَ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُؤْخَذُ فِيهَا الظُّلْمُ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا زَكَاةٌ] (فَصْلٌ) وَمِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّوْقِيعِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُؤْخَذُ فِيهَا الظُّلْمُ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا زَكَاةٌ وَيَكْتُبُونَ لَهُ وُصُولًا بِتَارِيخِ الْوَقْتِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ فِيهِ، وَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا لِمُدَّةٍ تَقْرُبُ مِنْ السَّنَةِ الْآتِيَةِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى بَعْضِ مَنْ بِيَدِهِ الْوُصُولُ الْحَرَكَةُ فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَيَفْعَلُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَيْعِ التَّوْقِيعِ مِنْ غَيْرِهِ فَمَنْ لَهُ شَيْءٌ يُعْطَى عَلَيْهِ مَا اعْتَادُوهُ مِنْ الظُّلْمِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلثَّانِي عِنْدَهُمْ اسْمٌ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنْعِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَلْيَحْذَرْ

فصل جعل الفلفل الذي يريدون بيعه في موضع ندي

مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ جَعَلَ الْفُلْفُلَ الَّذِي يُرِيدُونَ بَيْعَهُ فِي مَوْضِعٍ نَدِيٍّ] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْفُلْفُلَ الَّذِي يُرِيدُونَ بَيْعَهُ فِي مَوْضِعٍ نَدِيٍّ لِيَثْقُلَ بِذَلِكَ فِي الْوَزْنِ. وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الزَّعْفَرَانِ وَالْحَرِيرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْبَضَائِعِ الَّتِي تَقْبَلُ النَّدَاوَةَ لِتَزِيدَ فِي الْوَزْنِ وَهَذَا مِنْ الْغِشِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ بَلْ لَوْ نَدَّى وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ عِنْدَ بَيْعِهِ وَإِنْ خَفَّ وَرَجَعَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْيُبْسِ فَمَا بَالُك بِشَيْءٍ يَفْعَلُهُ هُوَ بِهِ، وَهَذَا وَمَا شَابَهَهُ مُذْهِبٌ لِلْبَرَكَةِ مُمْحِقٌ لِلْمَالِ مُدْخِلٌ لِصَاحِبِهِ تَحْتَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا ابْتَلَّ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا لَهُ صَمْغٌ كَالْعِلْكِ وَاللِّبَانِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا فَيَبْقَى كَالْحِجَارَةِ لِتَصَمُّغِهِ بِالْبَلَلِ فَيَكْسِرُونَهَا وَيَخْلِطُونَ مَعَهَا السَّالِمَ مِنْ الْبَلَلِ وَيَبِيعُونَ ذَلِكَ، وَلَا يُبَيِّنُونَ مَا أَصَابَهُ لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا مِنْ بَابِ الْغِشِّ أَيْضًا إذْ إنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَلِمَ بِهِ لَمْ يَشْتَرِهِ إلَّا بِنِصْفِ الثَّمَنِ أَوْ نَحْوِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ وَتَرْكُهُ غِشٌّ وَهُوَ مِنْ بَابِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا يَبِسَ عِنْدَهُ التَّمْرُ الْهِنْدِيُّ عَجَنَهُ بِالْقُطَارَةِ حَتَّى يَبْقَى كَأَنَّهُ طَرِيٌّ وَهَذَا غِشٌّ لَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ مُلْتَحِقٌ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. [فَصْلٌ جَمَعَ مَعَ الْكِرَاءِ مَا يُلْزِمُونَهُ مِنْ الْبَاطِلِ] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا اكْتَرَى عَلَى حَمْلِ مَتَاعِهِ فِي الْمَرْكَبِ أَوْ عَلَى دَابَّةٍ يَفْعَلُ مَعَ ذَلِكَ فِعْلًا لَا يَسُوغُ وَهُوَ أَنَّهُ يَجْمَعُ مَعَ الْكِرَاءِ مَا يُلْزِمُونَهُ مِنْ الْبَاطِلِ فِي طَرِيقِهِ وَذَلِكَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ قَدْ يَقِلُّ وَقَدْ يَكْثُرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ وَالْجَهَالَةُ هَاهُنَا مَقْطُوعٌ بِهَا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَنْعِ فِي شِرَاءِ التَّوْقِيعِ الَّذِي بِيَدِ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ.

فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ التُّجَّارِ الَّذِينَ يَتَّجِرُونَ فِي الْقُمَاشِ الإسكندراني وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ الْمُقَطَّعَ بِكَذَا، وَكَذَا مِنْ الثَّمَنِ بِالدَّرَاهِمِ الْوَرَقِ ثُمَّ يُعْطُونَهُ الدَّرَاهِمَ النَّقْرَةَ عِوَضًا عَنْهَا فَيَحْسُبُهَا عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ دِرْهَمَيْنِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَهَذَا غَصْبٌ ثُمَّ يَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُنْقِصُونَ الْقُمَاشَ حِينَ يَقِيسُونَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَاقِصًا فَيَقُولُونَ: نَقَصَ كَذَا وَكَذَا؛ فَيُنْقِصُونَ مِنْ الثَّمَنِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَهَذَا غَصْبٌ ثَانٍ. ثُمَّ يَضُمُّونَ إلَيْهِمَا وَجْهًا ثَالِثًا مِنْ الْمَفَاسِدِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْهُ عَلَى كُلِّ مُقَطَّعٍ خَامٍ اشْتَرَوْهُ دِرْهَمَيْنِ عَلَى اسْمِ الْغِلْمَانِ وَهَذَا غَصْبٌ ثَالِثٌ فَلْيَحْذَرْ مِنْهُ. ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ الْقُمَاشَ الْخَامَ الْأَبْيَضَ مِنْ بِلَادٍ مُخْتَلِفَةٍ بِمَا يُشْبِهُ قُمَاشَ الْإِسْكَنْدَرِيَّة ثُمَّ يُقَصِّرُونَهُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ إسْكَنْدَرَانِيٌّ وَهَذَا غِشٌّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة لَمْ يَرْضَ بِهِ وَلَمْ يُعْطِ فِيهِ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا دُونَ مَا أَعْطَاهُ أَوَّلًا. ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ ارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ لَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَخْلِطُونَ الزَّبَادَ بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ التَّدْلِيسِ فِي الْمِسْكِ، وَلَا يَكَادُ ذَلِكَ يُعْرَفُ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ حَتَّى لَقَدْ اشْتَرَى بَعْضُ النَّاسِ مِسْكًا بِمِئِينَ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ سَاوَى دِرْهَمَيْنِ أَوْ نَحْوَهُمَا وَهَذَا لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ خَلْطِهِمْ الْمِسْكَ الْبُدَاوِيَّ بِالْعِرَاقِيِّ الطِّيبِ وَمَا شَابَهَهُ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الطِّيبِ وَذَلِكَ غِشٌّ لَا شَكَّ فِيهِ وَالْبُدَاوِيُّ هُوَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ كُفَّارِ الْهِنْدِ مِنْ نَثْرِهِمْ الْمِسْكَ عَلَى أَصْنَامِهِمْ وَيُسَمُّونَهُ بِالْبُدَاوِيِّ فَيَأْخُذُونَ مَا نَثَرُوا عَلَيْهَا مِنْ الْمِسْكِ وَيَخْلِطُونَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الطِّيبِ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ طِيبٌ كُلُّهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَتَعَامَلُونَ بِالْفِضَّةِ فِي بَلَدٍ فَيَبْقَى لِبَعْضِهِمْ عِنْدَ بَعْضٍ شَيْءٌ فَيَقْبِضُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ وَالسِّكَّةُ مُخْتَلِفَةٌ وَذَلِكَ رِبًا؛ لِأَنَّ الْأَقَالِيمَ وَالْبِلَادَ تَخْتَلِفُ فِي ضَرْبِ السِّكَّةِ وَفِي الْغِشِّ بِالنُّحَاسِ وَعَدَمِ الْغِشِّ بِهِ فَتُوجَدُ هَذِهِ السِّكَّةُ فِي بَلَدٍ دُونَ أُخْرَى وَإِنْ وُجِدَتْ فَتُؤْخَذُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ دَرَاهِمَ الْمَغْرِبِ لَيْسَتْ كَدَرَاهِمِ إفْرِيقِيَّةَ وَلَيْسَتْ دَرَاهِمُ إفْرِيقِيَّةَ كَدَرَاهِمِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَلَيْسَتْ دَرَاهِمُ الْإِسْكَنْدَرِيَّة كَدَرَاهِم الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ وَسِكَكِهَا فَإِذَا بَقِيَ لِبَعْضِهِمْ عِنْدَ بَعْضٍ شَيْءٌ فَيَقْبِضُهُ فِي مَوْضِعٍ وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْفِضَّةُ بِعَيْنِهَا بَلْ غَيْرُهَا فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّفَاضُلُ وَالْجَهَالَةُ وَالْوُقُوعُ فِي الرِّبَا الْمَنْصُوصُ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَأَمَرَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا وَنَشْتَرِيَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْنَا» . وَلَا يَدْخُلُ هَاهُنَا مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِنْ جَوَازِ صَرْفِ مَا فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ صَرْفَ مَا فِي الذِّمَّةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ مِثْلَ الذَّهَبِ مَعَ الْفِضَّةِ، وَأَمَّا صَرْفُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ حُضُورِهِمَا أَعْنِي الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ بِشَرْطِ اتِّفَاقِ السِّكَّتَيْنِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُعْطَى مَنْ بَقِيَتْ لَهُ دَرَاهِمُ فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ بِأَنْ يَأْخُذَ عَنْهَا ذَهَبًا بِقَدْرِ مَا يُسَاوِي الذَّهَبَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْفِضَّةَ فِيهِ ثُمَّ يَصْرِفُ الذَّهَبَ لِنَفْسِهِ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ إنْ شَاءَ فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الْمُخَلِّصُ مِنْ الرِّبَا وَغَيْرِهِ بِمَا لَا شَكَّ فِيهِ إذْ إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ التَّفَاضُلِ فِيهِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ إذْ الْمُمَاثَلَةُ لَا تُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُخَالَفَاتِ أَعْظَمُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الرِّبَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَوَعَّدَ فَاعِلَهُ بِالْحَرْبِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيَحْذَرْ مِنْهُ

وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنْ الظُّلْمِ يَحْسُبُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ غَصْبٌ لَهُمْ وَالْغَصْبُ فِيهِ مَا فِيهِ إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ غَنِيًّا فَكَيْفَ بِهِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ الْمُضْطَرِّ الْمُحْتَاجِ إلَى ذَلِكَ؟ ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَبَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الدِّينِ مِنْهُمْ يَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا وَلَكِنْ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى تَسْمِيَةِ أَنَّهُ زَكَاةٌ يَحْسُبُهُ مِنْ الزَّكَاةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا وَهُوَ غَصْبٌ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ الشَّرْعِيَّةَ لَهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهَا مِثْلُ مَجِيءِ السَّاعِي وَتَمَامِ الْحَوْلِ وَإِسْقَاطِ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ عَنْهُ وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى تَسْمِيَةِ أَنَّهُ زَكَاةٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ إذْ إنَّهُ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ فِي بَلَدِ قُوصَ مَثَلًا ثُمَّ فِي بَلَدِ أَخْمِيمَ ثُمَّ فِي مِصْرَ ثُمَّ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنَّ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ بِغَيْرِ حَوْلٍ وَبِغَيْرِ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا تُجْزِيهِ وَإِنْ سُمِّيَتْ زَكَاةً قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بِالْمَعَانِي اُسْتُعْبِدْنَا لَا بِالْأَلْفَاظِ؛ فَكَوْنُهُمْ يُسَمُّونَهَا زَكَاةً لَا عِبْرَةَ بِهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِشُرُوطِهَا الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا شَرْعًا فَهَذِهِ الَّتِي اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا هَلْ تُجْزِيهِ إنْ أَعْطَاهَا لَهُمْ أَوْ لَا تُجْزِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصْرِفُوهَا فِي غَيْرِ مَصَارِفِهَا فَيَحْتَاجُ أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ إعْطَاءَهَا لِأَرْبَابِهَا مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى الضِّدِّ مِنْ هَذَا الْحَالِ كَمَا حَكَاهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الزَّكَاةَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ جُزْءًا يَسِيرًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُمْ يُخْرِجُونَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَتَسَبَّبُونَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ مَعَ وُجُودِ الْوَرَعِ مِنْ أَكْثَرِهِمْ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ بِالْعِرَاقِ وَكَانَ مِنْ الْمُتَسَبِّبِينَ وَكَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ

وَالْمُنْقَطِعِينَ قُوتُهُمْ مِنْ تَسَبُّبِهِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ وَكِيلُهُ مِنْ بِلَادِ السُّوسِ يُخْبِرُهُ أَنَّ الْحَرِيرَ قَدْ طُلِبَ فِيهَا فَإِنْ كَانَ عِنْدَك شَيْءٌ فَابْعَثْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَك شَيْءٌ فَاشْتَرِ وَابْعَثْ فَلَمَّا أَنْ بَلَغَهُ الْكِتَابُ اشْتَرَى حَرِيرًا بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي اللَّيْلِ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ وَقَالَ: ابْتَعْت الْحَرِيرَ مِنْ صَاحِبِهِ وَلَمْ أُعَرِّفْهُ أَنَّهُ قَدْ طُلِبَ بِبِلَادِ السُّوسِ وَلَعَلَّهُ لَوْ عَرَفَ مَا بَاعَ لِي فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّوْمِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَفْجَأَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لِصَاحِبِ الْحَرِيرِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ مَضَى إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: أَبَلَغَكَ أَنَّ الْحَرِيرَ قَدْ طُلِبَ بِبِلَادِ السُّوسِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ لَهُ: بَلَى قَدْ كَتَبَ إلَيَّ وَكِيلِي بِذَلِكَ أَفَتَرَى الْآنَ تَبِيعُهُ لِي؟ قَالَ: لَا؛ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَمَا كَانَ إلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً وَبَاعَهُ بِضِعْفِ ذَلِكَ الثَّمَنِ وَعَلَى هَذَا الْحَالِ كَانَ تَسَبُّبُهُ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ فِي مَالِي دِرْهَمًا وَاحِدًا حَلَالًا. هَذَا حَالُ الْقَوْمِ عَكْسُ مَا عَلَيْهِ الْحَالُ الْيَوْمَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ مَغْمُوسًا فِي الْأَسْبَابِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ الْمَكْرُوهَةِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَحْلِفُ أَنَّ مَا فِي مَالِهِ دِرْهَمًا وَاحِدًا حَرَامًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى انْعِكَاسِ الْحَقَائِقِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَزَهْوِهَا بِالْبَاطِلِ الَّذِي يَمْحَقُ الْبَرَكَاتِ وَيَأْتِي بِالسَّيِّئَاتِ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَغْتَنِمَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي يَقْعُدُ فِيهَا فِي الْبِلَادِ لِأَجْلِ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ مُجَالَسَةَ عُلَمَاءِ الْوَقْتِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ الْمُنْقَطِعِينَ إلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ بِهَؤُلَاءِ هِيَ التِّجَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي لَا يَفْنَى رِبْحُهَا بَلْ يَبْقَى ذَلِكَ مُتَجَدِّدًا طُولَ عُمْرِهِ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ مِثْلُهُ مَعْدُومٌ فِي أُفُقِهِ أَوْ بَلَدِهِ إذْ إنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبَرَكَتَهَا عَامٌّ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ لَكِنْ قَدْ يُوجَدُونَ فِي إقْلِيمٍ دُونَ آخَرَ وَقَدْ يَقِلُّونَ فَيَحْتَاجُ عَلَى هَذَا أَنْ يَغْتَنِمَ التَّبَرُّكَ بِهِمْ فِي كُلِّ بَلَدٍ دَخَلَهَا لِتَحْصُلَ لَهُ بَرَكَتُهُمْ عَلَى يَقِينٍ وَيَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى الْإِغْضَاءِ عَمَّا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِهِمْ وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ فِي التَّأْوِيلِ لَهُمْ فَهُوَ الْمُخْلِصُ لِاعْتِقَادِهِ حَتَّى لَا يَشُوبَهُ شَيْءٌ غَيْرُ مَا هُوَ قَاصِدُهُ لَكِنْ ذَلِكَ بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ وَهُوَ أَنْ

فصل البيع بالدين

لَا يُخَالِفَ السُّنَّةَ فَإِنْ خَالَفَهَا فَالْفِرَارُ الْفِرَارُ وَتَرْكُ رُؤْيَةِ مَنْ يَقَعُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ مُتَعَيِّنٌ [فَصَلِّ الْبَيْعِ بِالدَّيْنِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ قَدَرَ أَنْ لَا يَبِيعَ إلَّا بِالنَّقْدِ فَلْيَفْعَلْ، وَلَا يَبِيعُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِهِ يَئُولُ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ فِي الْغَالِبِ وَالْمُؤْمِنُ يَحْتَاجُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ حَاجِزًا مَنِيعًا وَلَيْسَ ثَمَّ أَمْنَعُ مِنْ تَرْكِ الْبَيْعِ بِالدَّيْنِ فَإِنْ تَحَقَّقَ صَلَاحُ الشَّخْصِ وَحَاجَتُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذْ إنَّ فِيهِ إعَانَةً لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَتَفْرِيجًا عَنْهُ وَمَنْ كَانَ فِي عَوْنِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي عَوْنِهِ. (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا أَنْ لَا يُعْطِيَ فِي الثَّمَنِ دَرَاهِمَ زَائِفَةً، وَلَا نَاقِصَةً بَلْ جَيِّدَةً وَيُرَجِّحَ لَهُ فِي الْوَزْنِ لِيَكُونَ ذَلِكَ حَاجِزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ وَهُوَ عَدَمُ التَّوْفِيَةِ بِحَقِّهِ وَإِذَا بَاعَ وَوَزَنَ لِنَفْسِهِ يَأْخُذُ أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ، وَلَوْ بِحَبَّةٍ لِلْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ. (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا كَانَتْ لَهُ مُطَالَبَةٌ عِنْدَ أَحَدٍ أَنْ لَا يُبَكِّرَ لَهُ مِنْ غُدْوَةِ النَّهَارِ يُطَالِبُهُ بَلْ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ إلَى آخِرِ النَّهَارِ فَهُوَ أَنْجَحُ إذْ إنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاعَ وَاشْتَرَى وَحَصَلَ لَهُ شَيْءٌ فِي دُكَّانِهِ فَيُعْطِيهِ وَهَذَا عَوْنٌ مِنْهُ لِأَخِيهِ وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. [فَصْلٌ لَا يُكْثِرَ مِنْ الْجُلُوسِ فِي السُّوقِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُكْثِرَ مِنْ الْجُلُوسِ فِي السُّوقِ إلَّا أَنْ تَدْعُوَ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السُّوقَ مَحَلُّ عَامَّةِ النَّاسِ غَالِبًا مِمَّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَمَحَلُّ الشَّيَاطِينِ فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يُكْثِرَ مِنْ ذَلِكَ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَرْجُوعًا إلَيْهِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ فَجُلُوسُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ رَحْمَةٌ بِأَهْلِ السُّوقِ سِيَّمَا فِي حَقِّ مَعَارِفِهِ وَإِخْوَانِهِ إذْ بِسَبَبِ جُلُوسِهِ فِي السُّوقِ تَتَبَيَّنُ بِهِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَقَدْ يَكُونُ أَهْلُ السُّوقِ أَوْ بَعْضُهُمْ غَافِلِينَ عَنْهَا فَيَنْتَبِهُونَ إلَيْهَا بِسَبَبِهِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي بَلَدٍ فَلْيُخْرِجْهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ لَهُ سِلْعَةٌ فِي بِلَادٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْهَا فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي هِيَ فِيهَا

فصل إذا رجع المسافر إلى بلده

حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ نَقْلِ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَدْعُوَ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَغَلَاءٍ يَقَعُ فِي مَوْضِعٍ فَتَزِيدُ حَاجَتُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ النَّقْلُ إلَيْهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَأَمَّا مَعَ عَدَمِهَا فَيُمْنَعُ مِنْ نَقْلِهَا؛ لِأَنَّهُ غَصْبٌ لِمَا اسْتَحَقَّهُ فُقَرَاءُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْمَالِ فَهُمْ شُرَكَاءُ لَهُمْ فِيهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي وَجَبَ لَهُمْ فِيهِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَفْعَلُهُ فِي بَلَدِهِ حِينَ الْخُرُوجِ مِنْ أَنَّهُ يَمْشِي عَلَى إخْوَانِهِ وَمَعَارِفِهِ وَيُوَدِّعُهُمْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا إذَا عَزَمَ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَلْيَفْعَلْ مَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ إذَا رجع الْمُسَافِر إلَى بَلَدِهِ] (فَصْلٌ) فَإِذَا وَصَلَ إلَى بَلَدِهِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يُخْبِرُ أَهْلَهُ بِقُدُومِهِ لِيَأْخُذُوا الْأُهْبَةَ لِلِقَائِهِ. لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا وَالطُّرُوقُ هُوَ الْإِتْيَانُ لَيْلًا. وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ مَنْ يَأْتِي عَلَى غَفْلَةٍ وَعَلَى غَيْرِ أُهْبَةٍ. ثُمَّ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ إذَا دَخَلَ إلَى بَلَدِهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ زِيَارَةَ بَيْتِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُحَيِّيهِ بِرَكْعَتَيْنِ. وَذَلِكَ لِفَوَائِدَ مِنْهَا امْتِثَالُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ» وَكَفَى بِهَا بَرَكَةً وَمِنْهَا أَنَّ أَصْحَابَهُ وَمَعَارِفَهُ مُخَاطَبُونَ بِأَنْ يَأْتُوا إلَيْهِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ وَلِلتَّهْنِئَةِ بِالسَّلَامَةِ فَإِذَا وَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ تَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنٍ، وَلَا وُقُوفٍ وَانْتِظَارٍ بِخِلَافِ الْبَيْتِ. وَمِنْهَا أَنَّ فِي بُطْئِهِ عَنْ الدُّخُولِ إلَى أَهْلِهِ فَائِدَةً أُخْرَى لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَدْهُنَ. وَمِنْهَا أَنَّ أَهْلَهُ يُرِيدُونَ حِينَ لِقَائِهِ التَّمَتُّعَ بِرُؤْيَتِهِ وَالْجُلُوسَ مَعَهُ وَالْحَدِيثَ فَإِنْ هُوَ بَدَأَ بِأَهْلِهِ قَبْلَ الْمَسْجِدِ جَاءَ إلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَقَطَعُوا عَلَيْهِمْ مَا هُمْ بِصَدَدِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِمَا هُوَ مُتَمَحِّضٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ آكَدُ عَلَى الْمَرْءِ مِمَّا هُوَ مَشُوبٌ غَالِبًا بِحَظِّ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنْهَا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْصِيلِ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي مُخَالَفَةِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تُرِيدُ إسْرَاعَ الْأَوْبَةِ إلَى الْأَهْلِ

فصل في ذكر ما يحتاج إليه العطار من تحسين النية والآداب

فَيُخَالِفُ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ بِالْإِبْطَاءِ عَمَّا تُحِبُّهُ وَتَشْتَهِيهِ وَلَيْسَ هَذَا مُعَارِضًا لِأَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ إلَى الْأَهْلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ الْحُكْمَ بِفِعْلِهِ وَبِقَوْلِهِ وَهُوَ أَنَّ سُرْعَةَ الْأَوْبَةِ تَكُونُ بَعْدَ زِيَارَةِ الْمَرْءِ بَيْتَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَطَّارُ مِنْ تَحْسِينِ النِّيَّةِ وَالْآدَابِ] قَدْ تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ تَاجِرِ الْبَزِّ مَا تَقَدَّمَ فَفِي الْعَطَّارِ مِثْلُهُ أَعْنِي فِي بَيْعِهِ السِّلَعَ الَّتِي فِي دُكَّانِهِ فَيَجْتَنِبُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ بِبَيَانِهَا لِلْمُشْتَرِي حِينَ شِرَائِهَا مِنْهُ. ثُمَّ إنَّ الْعَطَّارَ لَا يَخْلُو أَمْرُهُ مِنْ أَحَدِ قِسْمَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي يَشْتَرِي مِنْ الْكَارِمِ. أَوْ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي يَشْتَرِي مِنْ الْعَطَّارِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ بِأَنْ يَنْوِيَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى لَا غَيْرَهُ إذْ إنَّ أَكْثَرَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُحَاوَلَةِ مَا هُوَ يُحَاوِلُهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْعَطَّارِينَ الضُّعَفَاءِ إذَا احْتَاجَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الزَّبَادِ أُوقِيَّةً أَوْ نَحْوَهَا أَوْ مِنْ الْمِسْكِ أَوْ غَيْرِهِمَا بِحَسَبِ حَالِ تِلْكَ السِّلْعَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى شِرَائِهَا مِنْ الْكَارِمِ فِي الْغَالِبِ فَيَكُونُ هُوَ يَنْوِي بِذَلِكَ التَّيْسِيرَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. مِثَالُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمِسْكِ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ مِنْ الزَّبَادِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ السِّلَعِ فَيَبِيعُهُ هُوَ فِي دُكَّانِهِ بِالْخَمْسَةِ دَرَاهِمِ وَالْعَشَرَةِ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ فَهَذَا الْفِعْلُ يَكُونُ مُعِينًا فِيهِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي عَوْنِ هَذَا الْعَبْدِ بِسَبَبِ إعَانَتِهِ الْوَاحِدَ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ السِّلَعِ عَلَى قَدْرِ قِلَّتِهَا أَوْ كَثْرَتِهَا، وَبِذَلِكَ تَكْثُرُ الْحَسَنَاتُ وَيَزِيدُ الثَّوَابُ فَمَا بَالُك بِإِعَانَتِهِ لِجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْهُمْ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَنِمَ مَا سِيقَ لَهُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ

فَيُصَحِّحَ نِيَّتَهُ وَيُجَرِّدَهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَيُخَلِّصَهَا مِنْ دَنَسِ مَا تَتَعَلَّلُ بِهِ النُّفُوسُ مِنْ تَحْصِيلِ الدُّنْيَا وَكَثْرَتِهَا وَطَلَبِ الرِّزْقِ وَالزِّيَادَةِ مِنْهُ إذْ إنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ وَقَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ. لِمَا وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْأَرْزَاقَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَشْبَاحَ بِأَلْفَيْ عَامٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالرِّزْقُ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فَلَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ. وَيَعْمَلُ عَلَى التَّخْلِيصِ مِنْ هَذِهِ الدَّنَاءَةِ وَيَرْجِعُ إلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَرْجَحُ عِنْدَ رَبِّهِ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ صَلَاتِهِ وَصَوْمِهِ الْمُتَطَوِّعِ بِهِمَا وَبَيْنَ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ إذْ إنَّهَا كُلَّهَا أَعْمَالٌ يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَزِيدُ بِسَبَبِهَا فَضِيلَةً فَإِنَّهُ خَيْرٌ مُتَعَدٍّ وَالْخَيْرُ الْمُتَعَدِّي أَرْجَحُ مِمَّا هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَرْءِ نَفْسِهِ فَيَعْمَلُ عَلَى هَذَا يَنْجَحُ سَعْيُهُ وَيَظْفَرُ بِمُرَادِهِ سِيَّمَا عِنْدَ انْكِشَافِ غُبَارِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى لَمَّا أَنْ عَدَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَشْرَاطَ السَّاعَةِ عَدَّ مِنْهَا تَقَارُبَ الزَّمَانِ وَقَدْ وَجَدْنَا الزَّمَانَ وَاحِدًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ سَلَفِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَزِدْ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ وَلَمْ يَنْقُصْ لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَانَ تَسَبُّبُهُمْ وَحَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ لِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ رَبِحُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ أَعْمَارَهُمْ إذْ إنَّ الْعُمْرَ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ إلَّا وُقُوعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِيهِ فَكَانُوا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَمَّا أَنْ كَانَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ كُلُّهَا لِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لِلنَّفْسِ فِيهَا حَظٌّ، وَلَا لِلَّهْوِ فِيهَا مَطْمَعٌ إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ رَجَاءَ الثَّوَابِ وَآخَرُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ الرُّبُوبِيَّةِ وَاتِّصَافًا بِرَسْمِ الْعُبُودِيَّةِ وَهَذَا أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَرْفَعُهَا بِخِلَافِ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ إذْ إنَّ. الْغَالِبَ عِنْدَنَا فِي التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَهُمَا بِالنَّظَرِ إلَى تَصَرُّفِنَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ وَمَا عَدَا ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ عِنْدَنَا لِرَاحَةِ النُّفُوسِ أَوْ لِحُظُوظِهَا أَوْ لِاكْتِسَابِ الدُّنْيَا أَوْ الزِّيَادَةِ مِنْهَا. (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ هَيِّنًا لَيِّنًا فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ. مَعَ وُجُودِ

التَّحَفُّظِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْإِجْحَافِ بِهَا فِيمَا يُخِلُّ بِحَالِهَا فَإِذَا بَاعَ سَامَحَ بِالشَّيْءِ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِحَالِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى يُسَامِحُ الْبَائِعَ بِالشَّيْءِ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِهِ لِيَغْتَنِمَ بِذَلِكَ الدُّخُولَ فِي بَرَكَةِ دُعَائِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ يَقُولُ «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمْحًا إذَا بَاعَ سَمْحًا إذَا اشْتَرَى» وَلْيَحْذَرْ مِنْ اسْتِشْرَافِ النَّفْسِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَزَّازِ فَإِذَا أَتَى الْمُشْتَرِي إلَى دُكَّانِهِ فَحِينَئِذٍ يَبِيعُهُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مَارًّا أَوْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ فَلْيَغُضَّ طَرْفَهُ عَنْهُ، وَلَا يَنْظُرْ إلَى جِهَتِهِ بَلْ حَتَّى يَقْصِدَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَوْ يَسُومَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ فَإِنْ فَعَلَهُ كَانَ حَرَامًا وَامْتَحَقَتْ الْبَرَكَةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ. (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَخْلِطَ مَعَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الْحَلِفِ بِالْأَيْمَانِ عَلَى مَا يُحَاوِلُونَهُ فِي بَيْعِهِمْ وَشِرَائِهِمْ وَذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَهُوَ مَذْمُومٌ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَيْلٌ لِلتَّاجِرِ مِنْ تَاللَّهِ وَبِاَللَّهِ» وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَبُّدِ لِتَعْظِيمِهِ فِي قُلُوبِهِمْ وَكَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى امْتِثَالِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّ أَيْمَانَهُمْ إنَّمَا هِيَ لِلرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَاسْتِجْلَابِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَحْلِفُ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَاَللَّهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَالْجَوَابُ أَنَّ يَمِينَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْسَتْ بِدَاخِلَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا بَلْ هِيَ كُلُّهَا مِنْ بَابِ التَّرْغِيبِ وَالنَّدْبِ لِمَا شَرَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِذَا تَتَبَّعْت ذَلِكَ وَجَدْته كَذَلِكَ. (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ مَهْمَا قَدَرَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ بِالدَّيْنِ فَلْيَفْعَلْ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ يَسُدُّ بِذَلِكَ بَابَ النِّزَاعِ وَالْخُلْفِ فِي الْوَعْدِ. وَالثَّانِي - أَنَّهُ يُزِيلُ بِذَلِكَ

عَنْ نَفْسِهِ مَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ الذُّلِّ بِسَبَبِ الدَّيْنِ الَّذِي يَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَانَ فِي الْغَالِبِ تَجِدُ عَلَيْهِ أَثَرَ الذُّلِّ. وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُؤْمِنُ لَا يُذِلُّ نَفْسَهُ» وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الدَّيْنَ رِيبَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إلَى الدَّيْنِ وَيَكُونَ مِنْ يُدَايِنُهُ مُتَّصِفًا بِالسَّمَاحَةِ وَالدِّينِ فَلَا بَأْسَ إذَنْ، وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْهُ مِنْ قَدِيمِ الصُّحْبَةِ وَحُسْنِ الْمَوَدَّةِ فَإِنَّ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الْيَوْمَ دُنْيَاهُمْ وَالْحِرْصُ عَلَيْهَا وَتَرْكُ الْمُسَامَحَةِ بِهَا فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ أَوْ أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَإِذَا دَفَعَ لِغَيْرِهِ أَرْجَحَ لَهُ وَإِذَا قَبَضَ لِنَفْسِهِ فَلْيَأْخُذْ شَحِيحًا لِيَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ. فَكَذَلِكَ فِي وَزْنِ السِّلَعِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ. (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ تَكُونَ السِّلَعُ عِنْدَهُ مَحْفُوظَةً لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا تَسْتَقْذِرُهُ النُّفُوسُ. مِثَالُهُ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ مَا عِنْدَهُ مِنْ السِّلَعِ الْيَابِسَةِ مَكْشُوفًا فَتَبُولُ فِيهِ الْفَأْرَةُ فَيَتَنَجَّسُ بَعْضُهُ بِذَلِكَ وَيُسْتَقْذَرُ بَاقِيهِ فَإِنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُبَيِّنْ لِلْمُشْتَرِي فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ دَخَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْغِشِّ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. (فَصْلٌ) فَإِنْ كَانَ الْعَطَّارُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِي مِنْ الْعَطَّارِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُخْلِصَ نِيَّتَهُ فِيمَا يُحَاوِلُهُ فَيَجْعَلُهَا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَيْفِيَّتُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَنْ قَبْلَهُ وَهُوَ أَنْ يُيَسِّرَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ السِّلَعِ الَّتِي يُحَاوِلُهَا فَيُيَسِّرُهَا لَهُمْ قَرِيبَةً مِنْ مَوَاضِعِهِمْ؛ لِأَنَّ فِي خُرُوجِ بَعْضِهِمْ إلَى مَوْضِعِ الْعَطَّارِينَ الْكِبَارِ مَشَقَّةً عَلَيْهِمْ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي الْأُوقِيَّةَ وَنِصْفَ الْأُوقِيَّةِ وَالرُّبْعَ وَالثُّمُنَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَالْعَطَّارُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ هَذَا بِشِرَائِهِ مِنْهُ مُيَسِّرًا عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ دُكَّانُهُ فِي مَوْضِعٍ بَعِيدٍ مِنْ الْعَطَّارِينَ الْكِبَارِ فَإِنَّهُ يَعْظُمُ ثَوَابُهُ

بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تُضْطَرُّ الْمَرْأَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ أَرْبَابِ الضَّرُورَاتِ أَنْ يَخْرُجُوا لِشِرَاءِ ذَلِكَ فَإِذَا وَجَدُوا مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِهِمْ زَالَ عَنْهُمْ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ فِي مَشْيِهِمْ لِمَوْضِعِ الْعَطَّارِ الْكَبِيرِ فَكَأَنَّهُ أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ بِلَا ثَمَنٍ إذْ إنَّ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْمُضِيِّ إلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ أَكْثَرُ مَشَقَّةً. ثُمَّ كَذَلِكَ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ فِي تَيْسِيرِ كُلِّ مَا يُحَاوِلُهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إخْوَانُهُ الْمُسْلِمُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» ثُمَّ يَصْحَبُ ذَلِكَ بِنِيَّةِ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ فِي الْبَزَّازِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ تَرَكَ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ وَاشْتَغَلَ بِحِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ وَمَضَى إلَى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ إيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ فِي جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ لَهُ فَلْيُبَادِرْ إلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَعْلَى ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى دُكَّانِهِ وَذَلِكَ أَبْرَكُ لَهُ فِي مَالِهِ وَأَنْجَحُ لَهُ فِي سَعْيِهِ. (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي الْوَزْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْزُونُ قَدْ شَحَّ قَلِيلًا فَيُخْرِجَهُ وَيَدْفَعَهُ لِلْمُشْتَرِي وَيَزِيدَ عَلَيْهِ شَيْئًا بِغَيْرِ وَزْنٍ فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى وَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَخَذَ مَجْهُولًا لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ نَاقِصَةً عَنْ حَقِّهِ أَوْ زَائِدَةً عَلَيْهِ فَتَقَعَ الْجَهَالَةُ فِي الْوَزْنِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْغَرَرِ الْحَاصِلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَإِنْ قِيلَ: الْغَرَرُ الْيَسِيرُ مُغْتَفَرٌ فِي الْبِيَاعَاتِ. فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الصَّقَلِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ فَقَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ الْغَرَرُ الْيَسِيرُ إذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ إذَا لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا قَدْرُ حَقِّهِ لَكَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ حِينَ أَخَذَهُ أَنَّهُ قَدْرُ حَقِّهِ فَامْتَنَعَ لِذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هِبَةُ الْمَجْهُولِ جَائِزَةٌ وَالْمُشْتَرِي وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَدْ وَهَبَ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمَجْهُولَ لِبَائِعِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هِبَةَ الْمَجْهُولِ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ تَحَقُّقِ زِنَةِ

فصل بيع شيء مما عنده دون وزن

مَا اشْتَرَاهُ وَهَذَا لَمْ يَتَحَقَّقْهُ بِالْوَزْنِ الَّذِي دَخَلَا عَلَيْهِ. [فَصْلٌ بَيْعِ شَيْءٍ مِمَّا عِنْدَهُ دُونَ وَزْنٍ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُسَامِحَ نَفْسَهُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ مِمَّا عِنْدَهُ دُونَ وَزْنٍ فَإِنْ فَعَلَ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ بَعْدَ أَنْ يَقِفَ الْمُشْتَرِي عَلَى مُعَايَنَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَبِيعِ لَهُ وَحِرْزِهِ، إذْ إنَّ الْوَزْنَ أَحْصَرُ وَأَضْبَطُ وَأَبْعَدُ عَنْ الْغَبْنِ وَالْكَثِيرُ قَدْ لَا يُحْسِنُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ حِرْزَهُ بِخِلَافِ الْيَسِيرِ. وَالْبَيْعُ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَكِيلٌ وَمَوْزُونٌ وَجُزَافٌ، فَإِذَا بَاعَ شَيْئًا بِغَيْرِ كَيْلٍ، وَلَا وَزْنٍ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ جُزَافًا وَالْجُزَافُ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا مَحْرُوزًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ مُعَايَنَةِ الْمُشْتَرِي لِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْبَائِعِ وَإِلَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْقِسْمِ الْمَمْنُوعِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. [فَصْلٌ الْمَفَاسِدُ الَّتِي تَعْتَوِرُ الْعَطَّارَ] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ السِّلَعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ حِينَ الْكَلَامِ عَلَى التَّاجِرِ الْمُسَافِرِ لَكِنَّ الْمَفَاسِدَ الَّتِي تَعْتَوِرُ الْعَطَّارَ تَرْبُو عَلَى تِلْكَ فَيُحْتَاجُ أَنْ نَذْكُرَ مِنْهَا شَيْئًا لِيَقَعَ التَّنْبِيهُ بِهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْهَا. فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْعُودَ الرَّدِيءَ وَبُرَادَتَهُ وَبُرَادَةَ الطِّيبِ مِنْهُ وَيَعْجِنُونَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَنْبَرِ الْخَامِ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ كُلُّهُ طِيبٌ وَأَجْزَاؤُهُ مَعَ ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ بَيَّنَهُ لَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَرْضَ بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ غِشٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الزَّعْفَرَانَ الْجَنَوِيَّ والبرشنوني وَالْهَمْدَانِيَّ وَيَخْلِطُونَ الْجَمِيعَ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ كُلَّهُ جَنَوِيٌّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَنَوِيَّ يُرْغَبُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَخْلِطُونَ مَاءَ الْوَرْدِ الْعَتِيقَ بِالْجَدِيدِ مِنْهُ وَيَبِيعُونَهُ كُلَّهُ عَلَى أَنَّهُ جَدِيدٌ وَذَلِكَ مِنْ الْغِشِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي لَمَا أَخَذَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ

يَشْتَرُونَ الْوَرْدَ فَيُزِيلُونَ عَنْهُ بَعْضَ الْوَرَقِ الَّذِي فَوْقَهُ فَيَصْغُرُ الزِّرُّ بِذَلِكَ وَيَبِيعُونَ مَا أَخْرَجُوهُ مِنْهُ مِنْ الْوَرَقِ بِزِيَادَةٍ فِي الثَّمَنِ لِلْمُتَسَبِّبِينَ فِي النَّاطِفِ وَغَيْرِهِ وَيَبِيعُونَ مَا بَقِيَ مِنْهُ عَلَى الزِّرِّ بِسِعْرِهِ صَحِيحًا قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يُبَيِّنُوا ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، وَلَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ لَمَا أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي بِيعَ لَهُ بِهِ حَتَّى يُنْقِصَ مِنْهُ أَوْ يَتْرُكَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَأْخُذْهُ وَذَلِكَ غِشٌّ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي الْبَسْتَجِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُهُ فِي حَقِّ تُجَّارِ الْكَارِمِ لَكِنَّ الْعَطَّارَ أَكْثَرُ تَخْلِيطًا مِنْهُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ بِالْمَنْعِ وَلَيْسَ هَذَا مَقْصُورًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بَلْ ذَلِكَ عَامٌّ عِنْدَهُمْ فِي الْغَالِبِ فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ السِّلَعِ فَإِنَّهُمْ يَخْلِطُونَ الرَّدِيءَ بِالطَّيِّبِ ثُمَّ يَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ كُلُّهُ طَيِّبٌ وَذَلِكَ غِشٌّ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَحْسِينِ سِلَعِهِمْ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي اعْتَادُوهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِمْ إنَّ هَذِهِ السِّلْعَةَ مَعْدُومَةٌ فِي الْوَقْتِ وَمَا جَاءَ مِنْهَا شَيْءٌ وَقَلَّ الْوَاصِلُ بِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يُرَغِّبُونَ بِسَبَبِهَا الْمُشْتَرِيَ فِيهَا وَذَلِكَ غِشٌّ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا قَالُوهُ فِيهَا حَقًّا فَلَا بَأْسَ إذَنْ وَتَرْكُهُ أَوْلَى سِيَّمَا وَبَعْضُهُمْ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ الْأَيْمَانَ فَهُوَ أَحْرَى بِالْمَنْعِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ حَالًّا وَيَكْذِبُ وَيَزِيدُ فِي ثَمَنِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ خَلْطِ الْمِسْكِ الرَّدِيءِ بِالطَّيِّبِ وَيَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ طَيِّبٌ كُلُّهُ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الزَّبَادِ فَيَخْلِطُونَ طَيِّبَهَا بِرَدِيئِهَا وَيَبِيعُونَهَا عَلَى أَنَّهَا كُلَّهَا طَيِّبَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ السِّلْعَةَ تَكُونُ عِنْدَهُمْ عَلَى صِنْفَيْنِ طَيِّبٍ وَرَدِيءٍ فَيَعْرِضُ الْبَائِعُ الْعَيْنَ مِنْ الطَّيِّبِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَإِذَا اشْتَرَى مِنْهُ عَلَى مَا رَآهُ مِنْهَا أَعْطَاهُ أَوَّلًا الطَّيِّبَ مِنْ الْعَيْنِ ثُمَّ أَدْمَجَ لَهُ الرَّدِيءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ وَذَلِكَ غِشٌّ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ

فصل السماسرة

إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ يُخْبِرُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ الْأَجَلَ وَذَلِكَ غِشٌّ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْعَطَّارِ وَفِيمَنْ قَبْلَهُ وَمَنْ سَيَأْتِي بَعْدُ فَلْيَحْذَرْ مِنْهُ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ حَالًّا أَوْ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ يُمَاكِسُهُ أَوْ يَسْأَلُهُ التَّأْخِيرَ عَنْ الْأَجَلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَزَّازِ وَلَيْسَ ذَلِكَ خَاصًّا بِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَطْرَحُ عَلَى وَزْنِ الْخَيْشَةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ وَزْنِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي التَّاجِرِ الْمُسَافِرِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ إنَّهُ يُعْطِي الْبَائِعَ عَمَّا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ أَوْ عَنْ بَعْضِهَا فُلُوسًا فِيهَا زَيْفٌ يَكْرَهُهَا الْبَائِعُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَرْغَبَ الْبَائِعُ فِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ اغْتَصَبَهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْغَصْبِ مِثْلَ السَّرِقَةِ وَالْخِلْسَةِ وَالْمُصَادَرَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِي ثَمَنِهَا فَإِنْ كَانَتْ عَلَى يَدِ ظَالِمٍ زَادُوهُ فِي ثَمَنِهَا لِيَتَّخِذُوا عِنْدَهُ يَدًا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ غَيْرِهِ مِنْ السَّارِقِ وَالْمُخْتَلِسِ نَقَصُوهُ مِنْ ثَمَنِهَا النَّقْصَ الْكُلِّيَّ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُحَرَّمٌ إذْ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَالْمُشْتَرِي لَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَمْرَهَا؛ لِأَنَّ مَنْ أَعَانَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ كَفَاعِلِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَتَوَلَّى بَيْعَ السِّلَعِ الَّتِي اغْتَصَبَهَا الْغَاصِبُ فَيَخْدِمُهُ فِي بَيْعِهَا لِغَيْرِهِ وَذَلِكَ أَيْضًا مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ بَيْعِهِ لَهُ وَشِرَائِهِ مِنْهُ، وَلَوْ سَلِمَ النَّاسُ مِمَّنْ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا وَمِمَّنْ يُعِينُ الظَّلَمَةَ لَقَلَّ الْغَصْبُ وَقَلَّتْ الْمَفَاسِدُ وَلَكِنْ بِإِعَانَةِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ كَثُرَ الظُّلْمُ وَفَشَا؛ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. [فَصْلٌ السَّمَاسِرَةُ] (فَصْلٌ) وَأَمَّا السَّمَاسِرَةُ فَبَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ أَقْوَى وَأَكْثَرُ غِشًّا بِالْقَوْلِ مِنْ أَصْحَابِ السِّلَعِ وَقَدْ يَسْلَمُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ يَطَّلِعُونَ عَلَى مَا فِي السِّلْعَةِ مِنْ الْغِشِّ فَيَبِيعُونَهَا لِلْمُشْتَرِي وَيُزَيِّنُونَهَا فِي عَيْنِهِ، وَلَا يُبَيِّنُونَ لَهُ مَا فِيهَا مِنْ

فصل في نية الوراق وكيفيتها وتحسينها

الْغِشِّ ثُمَّ يُضِيفُونَ إلَى ذَلِكَ الْحَلِفَ بِالْأَيْمَانِ الْكَثِيرَةِ لِيُؤَكِّدُوا بِهَا مَا حَسَّنُوهُ فِي عَيْنِ الْمُشْتَرِي. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ السِّلْعَةَ تَكُونُ طَيِّبَةً خَالِصَةً سَالِمَةً مِنْ الدَّنَسِ وَالْغِشِّ فَيُزَيِّنُونَ لِصَاحِبِهَا خَلْطَهَا بِبَعْضِ الرَّدِيءِ مِنْهَا لِيُرَغِّبُوهُ بِذَلِكَ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ غِشٌّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي لَكَرِهَهُ وَإِنْ قَلَّ وَلَمْ يَأْخُذْ مَا خُلِطَ مَعَهُ إلَّا بِثَمَنِهِ دُونَ ثَمَنِ الطَّيِّبِ. [فَصْلٌ فِي نِيَّةِ الْوَرَّاقِ وَكَيْفِيَّتِهَا وَتَحْسِينِهَا] اعْلَمْ - وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ هَذَا السَّبَبَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذَا حَسُنَتْ النِّيَّةُ فِيهِ إذْ إنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ يُكْتَبُ فِي الْوَرَقِ وَتَفْسِيرَهُ وَالنَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْعُلُومِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَرْحُهُ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ الْجَمَّةِ الَّتِي لَا يَأْخُذُهَا حَصْرٌ وَكُتُبُ الْفِقْهِ وَبَاقِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الصَّدَقَاتِ وَعُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْوَكَالَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ وَهَذِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فِي الدِّينِ فَإِذَا كَانَ الْمُتَسَبِّبُ فِيهَا يَنْوِي بِذَلِكَ إعَانَةَ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قَضَاءِ مَآرِبِهِمْ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ لَكَانَ شَرِيكًا لَهُمْ فِيمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الثَّوَابِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا فَيَحْصُلَ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ عَنْهُ عِوَضًا فَيَكُونُ بِسَبَبِ نِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْعِبَادَاتِ وَيُعَوِّلُ فِي رِزْقِهِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُ وَخَلَقَهُ قَبْلَ خَلْقِ جُثَّتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا. ثُمَّ يُضِيفُ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ تَحْسِينِ النِّيَّةِ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ النِّيَّاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي حَقِّ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ. ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ لَكِنْ قَدْ يَعْتَوِرُهُ فِي ذَلِكَ عَكْسُ مَا جَلَسَ إلَيْهِ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ الْوَرَقَ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ أَوْ مَا لَا يَنْبَغِي فَأَمَّا الَّذِي لَا يَجُوزُ فَمِثْلُ الظُّلْمِ

وَمَا شَاكَلَهُ وَمِثْلُ الْكَذِبِ كَقِصَّةِ الْبَطَّالِ وَعَنْتَرَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَنْبَغِي فَمِثْلُ الْحِكَايَاتِ الْمُضْحِكَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا يَلْهُو بِهِ الْمَرْءُ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُحَذَّرَ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ لِئَلَّا يَدْخُلَ بِذَلِكَ فِي ضِمْنِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَاعَ الْوَرَقَ لِمَنْ يَكْتُبُ فِيهِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ فَعَلَ مَا لَمْ يَقُلْهُ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَنْوِهِ بِقَلْبِهِ فَيَدْخُلُ بِذَلِكَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَيَرْجِعُ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ مَثَلًا: إنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْغَالِبِ حَالَ الْمُشْتَرِي فَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي فِي حَقِّ الْبَائِعِ أَنْ يَحْمِلَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالسَّلَامَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ غَيْرُهُمَا، ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ قَلَّ أَنْ لَا يُعْرَفَ حَالُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِسَبَبِ غَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَى أَكْثَرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ بَلْ بَعْضُهُمْ انْغَمَسَ فِي الْجَهْلِ حَتَّى إنَّهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ ذَلِكَ أَوْ نَدْبَهُ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ بِشَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ إذْ إنَّهُ لَا يَسْتَخْفِي أَحَدٌ إلَّا بِالشَّيْءِ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ مَعْصِيَةٌ وَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ لَيْسُوا فِي مَعْصِيَةٍ بَلْ بَعْضُهُمْ يَفْتَخِرُ بِذَلِكَ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنَّهُ إذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فِي الْمُشْتَرِي أَنْ يُظْهِرَ لَهُ الْكَرَاهَةَ بَلْ يَذْكُرَ أَعْذَارًا مَانِعَةً لَهُ مِنْ بَيْعِهِ إذْ إنَّهُ إنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ لَهُ أَوْ عَرَضَ لَهُ بِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ تَرَتَّبَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِتَنٌ كَثِيرَةٌ قَلَّ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهَا وَالْأَعْذَارُ كَثِيرَةٌ فَلْيَحْذَرْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ، وَلَا يَكْشِفُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. فَإِنْ فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ بَاعَ لِمَنْ لَا يُرْتَضَى حَالُهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِنْ غَيْرِ شُعُورِهِ بِذَلِكَ فَقَدْ سَلِمَ مِنْ الْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْوَرَعِ فِي تَسَبُّبِهِ وَتَصَرُّفِهِ فَذَلِكَ لَهُ حُكْمٌ يَخُصُّهُ وَاَلَّذِي يَخُصُّهُ هُوَ أَنْ لَا يَبِيعَ، وَلَا يَشْتَرِيَ مِمَّنْ يَحُوكُ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مَا مِمَّا يَكْرَهُهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ فَإِنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَلْيَتَحَيَّلْ عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدِّ الثَّمَنِ عَلَى

صَاحِبِهِ إنْ تَعَيَّنَ لَهُ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ مَا بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ وَإِلَّا فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ، وَلَا يُدْخِلْهُ فِي مَالِهِ، وَلَا يَنْتَفِعْ بِهِ وَهَذَا عَامٌّ فِي الثَّمَنِ وَالْمَثْمُونِ وَفِي الْوَرَّاقِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ تَأَخَّرَ. (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ الْغِشِّ فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ. مِثَالُهُ أَنْ يُعْطِيَ الدَّسْتَ الَّذِي يُسَاوِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَيَبِيعَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الدَّسْتِ الَّذِي يُسَاوِي أَرْبَعَةً؛ لِأَنَّ الْوَرَقَ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ ثَمَنُهُ بِسَبَبِ صِفَتِهِ فَقَدْ يَكُونُ وَرَقًا زَائِدًا فِي الْبَيَاضِ وَفِي الصِّقَالِ وَيَكُونُ مِمَّا عُمِلَ فِي الصَّيْفِ وَآخَرُ عَكْسُهُ أَعْنِي فِيهِ سُمْرَةً وَنَقْصًا فِي الصِّقَالِ أَوْ الْبَيَاضَةِ وَعُمِلَ فِي الشِّتَاءِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ حَتَّى يَخْرُجَ بِبَيَانِهِ مِنْ الْغِشِّ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ دَخَلَ بِكِتْمَانِهِ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ثُمَّ لَا يَخْلُو بَيْعُهُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسَاوَمَةً أَوْ مُرَابَحَةً. فَإِنْ كَانَ مُسَاوَمَةً فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَخْلَصُ لِلذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَ مُرَابَحَةً فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَمْرِ الْبَزَّازِ مِنْ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى بِالدَّيْنِ أَوْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ. فَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ عَدَمِ التَّشَوُّفِ لِلْمُشْتَرِي وَالنَّظَرِ إلَيْهِ إذَا دَخَلَ السُّوقَ أَوْ وَقَفَ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُشْتَرَطٌ فِي حَقِّ هَذَا وَغَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمُتَسَبِّبِينَ. (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ عِنْدَ شِرَائِهِ الْوَرَقَ مِنْ الْوَرَّاقَةِ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُكْشَفُ فِيهِ عَلَى عَوْرَاتِ مَنْ يَعْمَلُ فِيهَا مِنْ الصُّنَّاعِ إذْ إنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْعَلُونَ فِي أَوْسَاطِهِمْ خِرْقَةً تَصِفُ الْعَوْرَةَ لِصِغَرِهَا وَانْحِصَارِهَا عَلَى الْعَوْرَةِ وَابْتِلَالِهَا بِالْمَاءِ وَالْفَخِذُ عَنْ آخِرِهِ مَكْشُوفٌ فَإِنْ دَخَلَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَهِيَ مَعْصِيَةٌ وَذَلِكَ مُنَاقِضٌ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ مِنْ أَنَّهُ يَعْمَلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَيَحْتَاجُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَتَحَرَّى وَقْتًا يَكُونُونَ فِيهِ سَالِمِينَ مِمَّا ذُكِرَ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَخْلِطَ الْوَرَقَ الْخَفِيفَ بِالْوَرَقِ الْجَيِّدِ الَّذِي يَصْلُحُ لِلنَّسْخِ؛ لِأَنَّ

ذَلِكَ تَدْلِيسٌ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْخَفِيفَ لَا يَحْتَمِلُ الْكَشْطَ لِخِفَّتِهِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَعْزِلٍ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِمَّنْ يَنْسَخُ فِيهِ أَعْطَاهُ مِمَّا يُوَافِقُهُ مِنْهُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِمَّنْ يَكْتُبُ فِيهِ الرَّسَائِلَ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا يَجُوزُ أَعْطَاهُ مِنْ الْوَرَقِ الْخَفِيفِ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ ذَلِكَ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَرَّاقِ الَّذِي فِي الْوَرَّاقَةِ أَنْ لَا يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ الْوَرَقِ الْمَكْتُوبِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ لَهُ حُرْمَةٌ شَرْعِيَّةٌ بَلْ هُوَ الْغَالِبُ. فَإِذَا نَظَرَ فِيهِ عَرَفَ مَا فِيهِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَوْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ اسْمِ مَلَكٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَجْتَنِبُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِحُرْمَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ؛ لِأَنَّ الصُّنَّاعَ يَدُوسُونَ ذَلِكَ بِأَرْجُلِهِمْ وَغَيْرِهَا وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنْ الِامْتِهَانِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدًا مِنْ الصُّنَّاعِ يَفْعَلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَخْرَجَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَأَتَى بِغَيْرِهِ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ سَتْرَ عَوْرَتِهِ مَعَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي التَّحَفُّظِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَحَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ وَالْبَرَكَةُ فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ وَعُرِفَتْ عَادَتُهُ فَلَا يَأْتِي إلَيْهِ إلَّا مَنْ يُجَانِسُهُ فِيمَا هُوَ يَطْلُبُهُ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَالتَّحَفُّظِ عَلَى الدِّينِ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانَتْ أَسْبَابُهُمْ تَابِعَةً لِأَدْيَانِهِمْ وَمَنْ فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ تَشَبَّهَ بِهِمْ وَالتَّشَبُّهُ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ. فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عَادَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ فَإِنَّهُمْ عَلَى عَكْسِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ إذْ إنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ الْأَسْبَابُ وَأَدْيَانُهُمْ تَابِعَةٌ لَهَا كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي صِفَةِ السَّلَفِ يَبْدَءُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ وَذُكِرَ فِي صِفَةِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَتَشَبَّهْ بِهِمْ يَبْدَءُونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ. فَإِنْ قَالَ صَاحِبُ الْوَرَّاقَةِ مَثَلًا: إنْ فَعَلْت مَا ذَكَرْتُمُوهُ قَلَّ أَنْ أَجِدَ

فصل في نية الناسخ وكيفيتها

صَانِعًا يَعْمَلُ فَيَتَعَطَّلُ عَلَيَّ السَّبَبُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَيْرَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ - لَمْ يُعْدَمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ عُدِمَ فِي قَوْمٍ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي آخَرِينَ بَلْ نَجِدُ الْأَمْرَ عَلَى عَكْسِ هَذَا وَهُوَ أَنَّ الصُّنَّاعَ إذَا عَلِمُوا مِنْ الشَّخْصِ أَنَّهُ يُوَسِّعُ لَهُمْ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَيَتَحَذَّرُ عَلَى دِينِهِ وَدِينِهِمْ وَيُسَامِحُهُمْ وَيَتَغَاضَى لَهُمْ فِي شَيْءٍ مَا مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَتِهِمْ بِمَا لَا يَضُرُّهُ كَثُرَ خُطَّابُهُ وَعَزَّ أَمْرُهُ وَحَصَلَتْ لَهُ الْبَرَكَةُ فِي كُلِّ مَا يُحَاوِلُهُ. [فَصْلٌ فِي نِيَّةِ النَّاسِخِ وَكَيْفِيَّتِهَا] اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ النَّاسِخَ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ يَرْبُو عَلَى الْوَرَّاقِ؛ لِأَنَّهُ فِي عِبَادَةٍ عَظِيمَةٍ إذْ إنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ نَسْخُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِي الْفِقْهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَهِيَ مَحْضُ الْعِبَادَةِ وَبَيْنَ الْكِتَابَةِ سِيَّمَا إنْ تَدَبَّرَ فِيمَا يَكْتُبُهُ وَتَفَكَّرَ فِي مَعَانِيهِ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ. وَإِنْ كَانَ يَكْتُبُ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي الثَّوَابِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْفَضِيلَةِ إلَّا مَا وَرَدَ (مَنْ كَتَبَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابٍ بَقِيَتْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ مَكْتُوبَةً فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ) وَكَفَى بِهَا نِعْمَةً. وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ مِنْ النَّسْخِ فِي غَيْرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ نَاقَضَ نِيَّتَهُ الَّتِي جَلَسَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ أَنَّهُ يُحَاوِلُ السَّبَبَ الَّذِي هُوَ فِيهِ بِنِيَّةِ إعَانَةِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِتَيْسِيرِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ السِّلَعِ وَغَيْرِهَا وَأَنَّ الرِّزْقَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يَخْرُجُ إلَى سَبَبِهِ ذَلِكَ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ النِّيَّاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا حِينَ خُرُوجِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ وَيَحْتَسِبُ خُطَاهُ وَتَعَبَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ فَفِي هَذَا مِنْ بَابِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى إذْ إنَّهُ مَحْضُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَنْسَخَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْكَذِبِ

كَقِصَّةِ الْبَطَّالِ وَعَنْتَرَةَ وَشَبَهِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ أَوْ الْحِكَايَاتِ الْمُضْحِكَةِ وَشِبْهِهَا فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي. وَكَذَلِكَ لَا يَنْسَخُ لِظَالِمٍ أَوْ مَنْ يُعِينُهُ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ مَنْ فِي كَسْبِهِ شُبْهَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ دَخَلَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْحُرُوفَ فِي كِتَابَتِهِ، وَلَا يُعَلِّقُ خَطَّهُ حَتَّى لَا يَعْرِفَهُ إلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ قَوِيَّةٌ بَلْ تَكُونُ الْحُرُوفُ بَيِّنَةً جَلِيَّةً فَلَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ الْحُرُوفِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى النُّقَطِ دُونَ أَنْ يَنْقُطَهَا؛ لِأَنَّ الْبَاءَ تَخْتَلِفُ مَعَ التَّاءِ وَالثَّاءِ، وَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالنُّقَطِ، وَكَذَلِكَ الْجِيمُ وَالْحَاءُ وَالْخَاءُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلْيَتَحَفَّظْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِفِعْلِهِ تَعُمُّ الْمَنْفَعَةُ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَنْقُطْ أَوْ يُعَلِّقْ خَطَّهُ عَكْسَ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَثَائِقَ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُمْ اصْطَلَحُوا عَلَى شَيْءٍ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ بَلْ بَعْضُهُمْ لَا يَعْرِفُ أَنْ يَقْرَأَ خَطَّ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اصْطِلَاحًا يَخُصُّهُ فِي ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يَعْرِفَهُ غَيْرُهُ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «يَا مُعَاوِيَةُ أَلْقِ الدَّوَاةَ وَحَرِّفْ الْقَلَمَ وَانْصِبْ الْبَاءَ وَفَرِّقْ السِّينَ، وَلَا تُعْوِرْ الْمِيمَ وَحَسِّنْ اللَّهَ وَمُدَّ الرَّحْمَنَ وَجَوِّدْ الرَّحِيمَ وَضَعْ قَلَمَك خَلْفَ أُذُنِك فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لِلْمُمْلِي» وَفِي كُتُبِهِمْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إضَاعَةُ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَعُقُودِ أَنْكِحَتِهِمْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَمُوتَ الْكَاتِبُ أَوْ يَتَعَذَّرَ وُجُودُهُ، وَلَا يَعْرِفُ غَيْرُهُ أَنْ يَقْرَأَ مَا كَتَبَهُ فَإِذَا تَحَفَّظَ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ عَمَّتْ مَنْفَعَةُ كِتَابَتِهِ لِأَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُنَقِّطْ أَوْ يُعَلِّقْ خَطَّهُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْسَخَ بِالْحِبْرِ الَّذِي يَخْرِقُ الْوَرَقَ فَإِنَّ فِيهِ إضَاعَةَ الْمَالِ وَإِضَاعَةَ الْعِلْمِ الْمَكْتُوبِ بِهِ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ نُسْخَةُ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ مَعْدُومَةً أَوْ عَزِيزًا وُجُودُهَا وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ النَّسْخُ بِالْحِبْرِ الَّذِي يُمْحَى مِنْ الْوَرَقِ سَرِيعًا وَأَمَّا النَّسْخُ بِالْمِدَادِ الَّذِي تَسْوَدُّ بِهِ الْوَرَقَةُ وَتَخْتَلِطُ الْحُرُوفُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ فَلَا شَكَّ فِي مَنْعِهِ

اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكْتُبَ رِسَالَةً مِنْ مَوْضِعٍ إلَى آخَرَ وَمَا أَشْبَهَهَا فَنَعَمْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَكِتَابِ الْقَاضِي بِحُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ بِشَرْطِهِ الْمَذْكُورِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْوَكَالَةِ وَغَيْرِهَا فَحُكْمُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي نَسْخِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ خَيْرَ الْخَطِّ مَا قُرِئَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا جَلَسَ لِلنَّسْخِ أَنْ يَكُونَ عَلَى وُضُوءٍ فَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَلْيَكُنْ فِي أَوَّلِ جُلُوسِهِ عَلَى وُضُوءٍ ثُمَّ يُغْتَفَرُ لَهُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَنْسَخُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْوُضُوءِ حِينَ يُبَاشِرُهُ فِي كُلِّ حِينٍ طَرَأَ عَلَيْهِ الْحَدَثُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ بِذَلِكَ الْحَدَثِ فَيَتَوَضَّأُ فِي أَوَّلِ جُلُوسِهِ وَيُغْتَفَرُ لَهُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ. (فَصْلٌ) وَلْيَجْتَنِبْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَقِّ الْخَيَّاطِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُمَاطَلَةِ بِالشُّغْلِ وَهَذَا أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ أَنْ يُوفِيَ بِمَا يَقُولُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَحْضِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَشُوبُهَا بِمَا يُنَاقِضُهَا بِوُقُوعِهِ فِي خُلْفِ الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ: غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، ثُمَّ لَا يُوفِي بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ وُقُوعِ الْأَيْمَانِ مِنْهُ فِيمَا يُحَاوِلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَزَّازِ وَغَيْرِهِ. (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَأْخُذُ النَّسْخَ مِنْ جَمَاعَةٍ فَيَنْسَخُ لِهَذَا وَلِهَذَا، وَلَا يُعْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ أَنَّهُ يَنْسَخُ لِغَيْرِهِ وَذَلِكَ يُنَاقِضُ النُّصْحَ لِمَنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِذَلِكَ وَلِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الِاسْتِشْرَافِ وَالْحِرْصِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِمَا مِنْ الذَّمِّ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْسَخَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ فِي عِبَادَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ فِي سَبَبٍ وَالْأَسْبَابُ كُلُّهَا يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْهَا هَذَا إذَا لَمْ يُلَوِّثْهُ فَإِنْ تُوُقِّعَ ذَلِكَ مُنِعَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا. (فَصْلٌ) وَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَنْ يَتْرُكَ مَا هُوَ فِيهِ وَيَشْتَغِلُ بِحِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ وَالتَّهَيُّؤِ لِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ فِي جَمَاعَةٍ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَذَانُ وَهُوَ يَكْتُبُ فِي أَثْنَاءِ الْوَرَقَةِ فَلَا يَتْرُكُ الْكِتَابَةَ حَتَّى يُكْمِلَهَا؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ خَطُّ الْوَرَقَةِ بِسَبَبِ قِيَامِهِ عَنْهَا فَيُمْهَلُ حَتَّى يُتِمَّهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ

يُسَطِّرُ فِي أَثْنَاءِ الْوَرَقَةِ فَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ حَتَّى يُكْمِلَهَا. وَلَيْسَ هَذَا بِمَذْمُومٍ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى حُسْنِ الصَّنْعَةِ وَنُصْحِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ وَهَذَا مَا لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنْ يَنْسَخَ الْخِتْمَةَ عَلَى غَيْرِ مَرْسُومِ الْمُصْحَفِ الَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ عَلَى مَا وَجَدَتْهُ بِخَطِّ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقُرْآنُ يُكْتَبُ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى اعْتِلَالِ مَنْ خَالَفَ بِقَوْلِهِ: إنَّ الْعَامَّةَ لَا تَعْرِفُ مَرْسُومَ الْمُصْحَفِ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِمْ الْخَلَلُ فِي قِرَاءَتِهِمْ فِي الْمُصْحَفِ إذَا كُتِبَ عَلَى الْمَرْسُومِ فَيَقْرَءُونَ مَثَلًا وَجَائِي وَجَاي؛ لِأَنَّ رَسْمَهَا بِأَلْفٍ قَبْلَ الْيَاءِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] {أَنَّى يُصْرَفُونَ} [غافر: 69] فَإِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ بِإِظْهَارِ الْيَاءِ إمَّا سَاكِنَةً وَإِمَّا مَفْتُوحَةً. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} [الفرقان: 7] مَرْسُومُ الْمُصْحَفِ فِيهَا بِلَامٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْ الْهَاءِ فَإِذَا وَقَفَ عَلَيْهَا التَّالِي وَقَفَ عَلَى اللَّامِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى لَا أَذْبَحَنَّهُ {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة: 47] مَرْسُومُهُمَا بِأَلْفٍ بَعْدَ لَا فَإِذَا قَرَأَهُمَا مَنْ لَا يَعْرِفُ قَرَأَهُمَا بِمَدَّةٍ بَيْنَهُمَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمَرْسُومَ مِنْ الْأُمَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَقْرَأَ فِي الْمُصْحَفِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْقِرَاءَةَ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَتَعَلَّمَ مَرْسُومَ الْمُصْحَفِ فَإِنْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَحُكْمُهُ مَعْلُومٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَالتَّعْلِيلُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ وَقَدْ تَعَدَّتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ إلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْسَخَ الْخِتْمَةَ بِلِسَانِ الْعَجَمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَلَمْ يُنْزِلْهُ بِلِسَانِ الْعَجَمِ. وَقَدْ كَرِهَ

فصل في نية الصانع الذي يجلد المصاحف والكتب وغيرها

مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَسْخَ الْمُصْحَفِ فِي أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة: 17] وَهَؤُلَاءِ يُفَرِّقُونَهُ، فَإِذَا كُرِهَ هَذَا فِي الْأَجْزَاءِ فَمَا بَالُك بِتَغْيِيرِهِ عَنْ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ. وَلَقَدْ سَرَى هَذَا لِبَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، حَتَّى إنَّهُمْ لَيُعِدُّونَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَنَسْخِ الْخِتْمَةِ بِهَا مِنْ الْفَضِيلَةِ وَبَعْضُهُمْ يَجْمَعُ فِي الْخِتْمَةِ الْوَاحِدَةِ بَيْنَ كَتْبِهَا بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَاللِّسَانِ الْعَجَمِيِّ فَيَكْتُبُ الْآيَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ ثُمَّ يَكْتُبُهَا بَعْدَهَا بِاللِّسَانِ الْعَجَمِيِّ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ وَالْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَرِّجَ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي نِيَّةِ الصَّانِعِ الَّذِي يُجَلِّدُ الْمَصَاحِفَ وَالْكُتُبَ وَغَيْرَهَا] (فَصْلٌ) فِي نِيَّةِ الصَّانِعِ الَّذِي يُجَلِّدُ الْمَصَاحِفَ وَالْكُتُبَ وَغَيْرَهَا. اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ هَذِهِ الصَّنْعَةَ مِنْ أَهَمِّ الصَّنَائِعِ فِي الدِّينِ إذْ بِهَا تُصَانُ الْمَصَاحِفُ وَكُتُبُ الْأَحَادِيثِ وَالْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةِ فَيَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى النِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي النَّاسِخِ؛ لِأَنَّهُ مُعِينٌ بِصَنْعَتِهِ عَلَى صِيَانَةِ مَا تَعِبَ فِيهِ النَّاسِخُ وَحَصَّلَهُ وَفِيهِ أَيْضًا جَمَالٌ لِلْكِتَابِ وَتَرْفِيعٌ لَهُ وَاحْتِرَامُهُ وَتَرْفِيعُهُ مُتَعَيَّنٌ فَإِذَا خَرَجَ الصَّانِعُ مِنْ بَيْتِهِ أَخَذَ مِنْ نِيَّاتِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ مَا يَعْتَوِرُهُ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَنْوِي إعَانَةَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِصِنَاعَتِهِ عَلَى صِيَانَةِ مَصَاحِفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ ثُمَّ يَصْحَبُ مَعَ ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الصَّانِعَ مَثَلًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الصُّنَّاعِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ أَوْ تَأَخَّرَ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْعَالِمِ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ يَخْرُجُ إلَى الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ إلَى التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ وَذَلِكَ يَقْبَلُ كُلَّ مَا نَوَاهُ وَالصُّنَّاعُ لَيْسُوا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْتَغْرِقُونَ فِي الْأَسْبَابِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَغَيْرِهِ إذْ إنَّ الصَّانِعَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْمُتَسَبِّبِينَ يَحْتَاجُ إلَى أَرْبَعَةِ عُلُومٍ: الْأَوَّلُ - عِلْمُ الصَّنْعَةِ الَّتِي يُحَاوِلُهَا. وَالثَّانِي - الْعِلْمُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِيهَا. وَالثَّالِثُ - الْعِلْمُ بِمَا يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ عَامٌّ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ فِيمَا يَعْتَوِرُ كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ فِي عِبَادَتِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي ذَلِكَ

مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ وَمَا يُصْلِحُ الْعِبَادَةَ وَمَا يُفْسِدُهَا. وَالْعِلْمُ الرَّابِعُ - عِلْمُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُكَلَّفُ فِي مُخَالَطَتِهِ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّحَفُّظِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ خَالَطَهُ مِنْ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي وَذَلِكَ كَثِيرٌ؛ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ عُلُومٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا فَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا أَوْ يُعَلِّمَهَا لِمَنْ يَطْلُبُهَا مِنْهُ إنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُتْرَكُ الْمُتَسَبِّبُ مِنْ نِيَّةِ الْعَالِمِ مِثْلُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَتَحِيَّتِهِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِمَّا لَا يَعْتَوِرُهُ فِي السُّوقِ أَوْ الدُّكَّانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا جَاءَ إلَى دُكَّانِهِ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ تَأَخَّرَ فِي فِعْلِ الْآدَابِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي دُخُولِهِ بَيْتَهُ وَخُرُوجِهِ مِنْهُ مِثْلَ تَقْدِيمِ الْيَمِينِ وَتَأْخِيرِ الشِّمَالِ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ مَعَ الِابْتِدَاءِ بِالتَّسْمِيَةِ وَالذِّكْرِ الْمَأْثُورِ فِي ذَلِكَ وَأَنْ يَبْدَأَ بِصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ لِبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي دُخُولِهِ بَيْتَهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَبْدَأُ بِهَذِهِ الصِّلَةِ الْعَظِيمَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِيمَا جَلَسَ إلَيْهِ. وَهَذَا مَعَ الْإِمْكَانِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ يَكُونُ الدُّكَّانُ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعٌ يَرْكَعُ فِيهِ فَيُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ السَّمَادِ أَحَدِ مَشَايِخِ الرِّسَالَةِ أَنَّهُ بَلَغَتْ بِهِ نَافِلَتُهُ فِي دُكَّانِهِ مَعَ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ خَمْسَمِائَةِ رَكْعَةٍ فِي الْيَوْمِ فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ فِي دَكَاكِينِهِمْ لَكِنْ مِنْهُمْ الْمُكْثِرُ وَمِنْهُمْ الْمُقِلُّ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِمْ كَانَ بِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ مَهْمَا قَدَرَ أَنْ لَا يَجْلِسَ فِي دُكَّانِهِ إلَّا وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ فَلْيَفْعَلْ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ إذَنْ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْمَفَاسِدَ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِي صَنْعَتِهِ إذْ هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ؛ لِأَنَّ بِتَجَنُّبِهَا يَحْصُلُ لَهُ الدُّخُولُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» وَقَدْ تَقَدَّمَ فَإِذَا تَجَنَّبَ الْمَفَاسِدَ فَقَدْ نَصَحَ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَتَحْصُلُ لَهُ شَهَادَةُ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ فَإِذَا سَلِمَ مِنْ الْمَفَاسِدِ صَحَّتْ لَهُ الْغَنِيمَةُ وَإِلَّا رَجَعَ عَلَى الضِّدِّ مِنْ

ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ الْكِتَابَ إلَى الصَّانِعِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ عِوَضًا عَنْ أَشْيَاءَ جُمْلَةٍ وَذَلِكَ يُمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ بَيْعِ الْجِلْدِ وَالْبِطَانَةِ وَالْحَرِيرِ وَبَيْنَ أُجْرَتِهِ فِي عَمَلِ ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ مَجْهُولٌ. وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ - أَنْ يَأْتِيَ إلَى الصَّانِعِ بِالْجِلْدِ وَالْبِطَانَةِ وَالْحَرِيرِ مِنْ عِنْدِهِ وَيُؤَاجِرَهُ عَلَى عَمَلِ ذَلِكَ. وَوَجْهٌ ثَانٍ - وَهُوَ أَنَّ الصَّانِعَ يُبَيِّنُ لَهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى حِدَتِهِ وَيُعَيِّنُ ثَمَنَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُؤَاجِرُهُ عَلَى صَنْعَتِهِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ - وَهُوَ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي شِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ثُمَّ يُؤَاجِرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَمَلِهِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ جَائِزَةٍ وَهِيَ يَسِيرَةٌ سَهْلَةُ الْمَدْرَكِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُمَا فِي ذَلِكَ ثُمَّ مَعَ هَذِهِ السُّهُولَةِ وَعَدَمِ الْمَشَقَّةِ يَتْرُكُ أَكْثَرُهُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَفْعَلُ مَا اعْتَادَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَضَى عَلَى أَثَرِهِ مَنْ لَهُ عِلْمٌ لِاسْتِئْنَاسِ النُّفُوسِ بِالْعَوَائِدِ الْمُحْدَثَةِ فَتَتَعَمَّرُ ذِمَّتُهُمَا مَعًا فَصَاحِبُ الْكِتَابِ تَتَعَمَّرُ ذِمَّتُهُ بِقِيمَةِ مَا أَخَذَ مِنْ الْجِلْدِ وَبِطَانَتِهِ وَالْحَرِيرِ وَأُجْرَةِ الصَّانِعِ وَالصَّانِعُ تَتَعَمَّرُ ذِمَّتُهُ بِمَا أَخَذَ مِنْ صَاحِبِ الْكِتَابِ وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَأْتُونَ بِكُتُبِ الْعِلْمِ وَيُجَلِّدُونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ فِيهَا (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْوَرَقِ الَّذِي يُبَطِّنُ بِهِ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِ الصُّنَّاعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الْوَرَقَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفُوا مَا فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَوْ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا امْتِهَانُهُ حُرْمَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ فِيهِ أَسْمَاءُ الْعُلَمَاءِ أَوْ السَّلَفِ الصَّالِح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَوْ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَا يُبْلَغُ بِهِ دَرَجَةُ التَّحْرِيمِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَطَالِبُ الْعِلْمِ أَوْلَى بِأَنْ يُنَزِّهَ نَفْسَهُ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْمَكْرُوهِ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ الصَّانِعَ أَوْ يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا

تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلَا يَعْمَلُ عِنْدَهُ شَيْئًا أَوْ يَعْمَلُ عِنْدَهُ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْهُ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَطِّنَ الْجِلْدَ بِالْأَوْرَاقِ الَّتِي فِيهَا الْحِسَابُ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَكْرُوهٍ إلَّا أَنَّهُ يَتَثَبَّتُ فِي ذَلِكَ وَيُمْهِلُ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ ضَاعَ لِبَعْضِ النَّاسِ الدَّفْتَرُ الَّذِي هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَيَضِيعُ مَالُهُ بِسَبَبِهِ فَإِذَا كَانَ الصَّانِعُ مِمَّنْ يَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ حُفِظَتْ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ضَائِعَةً عَلَيْهِمْ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى عَدَدِ كَرَارِيسِ الْكِتَابِ وَأَوْرَاقِهِ فَلَا يُقَدِّمُ، وَلَا يُؤَخِّرُ الْكَرَارِيسَ، وَلَا الْأَوْرَاقَ عَنْ مَوَاضِعِهَا وَيَتَأَنَّى فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ النُّصْحِ وَتَرْكُهُ مِنْ الْغِشِّ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ الصَّانِعُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالِاسْتِخْرَاجِ لِيَعْرِفَ بِذَلِكَ اتِّصَالَ الْكَلَامِ بِمَا بَعْدَهُ أَوْ تَكُونَ عِنْده مُشَارَكَةٌ فِي الْعِلْمِ يَعْرِفُ بِهَا ذَلِكَ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَحْتَرِزُ أَنْ يُوَلِّيَ عَمَلَهَا لِمَنْ لَا يَعْرِفُ تَمْيِيزَهَا مِنْ الصُّنَّاعِ وَالصِّبْيَانِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْكِتَابُ عَلَى صَاحِبِهِ وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيَتْعَبُ فِي عَمَلِهِ ثُمَّ مَعَ التَّعَبِ الْمَوْجُودِ يَأْكُلُ الْحَرَامَ فِيمَا أَخَذَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الصَّانِعِ إعَادَتُهُ، وَلَوْ مِرَارًا حَتَّى يَنْصَلِحَ، وَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ إلَّا الْعِوَضَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ مَا تَسَلَّمَهُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَهُ عَلَى السَّلَامَةِ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ لَا يُجَلِّدَ كِتَابًا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ يَكُونُ مُعِينًا لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمَنْ أَعَانَ عَلَى شَيْءٍ كَانَ شَرِيكًا لِفَاعِلِهِ هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ أَوْ يُقَارِبُهُ وَهُوَ تَغْبِيطُهُمْ بِدِينِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُعِينُهُمْ سِيَّمَا عَلَى حِفْظِ مَا فِي كُتُبِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي أَتَوْا بِهِ إلَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِثْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَنْعِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا

فِيهَا وَغَيَّرُوا وَذَلِكَ لَا تُعْلَمُ مَوَاضِعُهُ فَتُتْرَكُ كُلُّهَا فَإِنْ < m s=002520> أَتَوْا إلَيْهِ بِكِتَابٍ مَكْتُوبٍ بِالسُّرْيَانِيَّةِ أَوْ الْعِبْرَانِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا فَلَا يُجَلِّدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الرُّقَى بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ كُفْرٌ فَكُلُّ مَا حَاكَ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ مِنْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ فَيَتَعَيَّنُ تَجَنُّبُهُ. (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى الْعَمَلِ عِنْدَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ مِنْ الصُّنَّاعِ فَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُ بِذَلِكَ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يَرْجِعَ. هَذَا إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ رَفْعِ ذَلِكَ إلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَفْعُهُ إلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ أَوْ رَفَعَهُ وَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ هِجْرَانُ الصَّانِعِ الَّذِي يَتَعَاطَى ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُ بِالْحُكْمِ فِيهِ حَتَّى يَشِيعَ بَيْنَ النَّاسِ وَيَعْلَمَ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ (أَنَّ الظَّلَمَةَ يُحْشَرُونَ هُمْ وَأَعْوَانُهُمْ حَتَّى مَنْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةً) فَإِذَا كَانَ مَدُّ لَهُمْ مَدَّةٍ بِهَذَا الْحَالِ فَمَا بَالُك بِالصَّانِعِ الَّذِي يُجَلِّدُ لَهُمْ مَا يَصُونُونَ بِهِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِمَّا هُوَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْمَلَ غِلَافًا لِدَوَاةٍ فِيهَا ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ بِتَجْلِيدِهَا. وَكَذَلِكَ لَا يُجَلِّدُ شَيْئًا لِظَالِمٍ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُعِينَ شَرِيكٌ. الثَّانِي - أَنَّ أَكْثَرَ أَمْوَالِهِمْ حَرَامٌ وَالصَّانِعُ يَتْعَبُ فِي صَنْعَتِهِ لِيَأْكُلَ الْحَلَالَ ثُمَّ مَعَ تَعَبِهِ يَأْكُلُ الْحَرَامَ فَيَتَحَفَّظُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ النَّاسُ يَتَحَفَّظُونَ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ لَقَلَّ الظُّلْمُ وَعُرِفَ صَاحِبُهُ وَلَكِنْ قَدْ صَارَ الْأَمْرُ عِنْدَ الصَّانِعِ وَغَيْرِهِ سَوَاءً فِي الْغَالِبِ فَيُسَوُّونَ بَيْنَ مَنْ كَسْبُهُ حَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَلَا يُعَرِّجُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ التَّغَافُلُ عَمَّا أُمِرَ الْإِنْسَانُ بِهِ وَانْضَمَّ إلَيْهِ اسْتِئْنَاسُ النُّفُوسِ بِالْعَوَائِدِ الْمُحْدَثَةِ مَعَ وُجُودِ الِاسْتِشْرَافِ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الدُّنْيَا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ

فصل في نية الأبزاري ومحاولتها وما يحتاج إليه منها

مِنْ الصُّنَّاعِ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَدًا وَبَعْدَ غَدٍ. وَكَذَلِكَ يَجْتَنِبُ الْأَيْمَانَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَنْ يُبَادِرَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إلَى إيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ فِي جَمَاعَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ يُبَادِرَ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَصَاحِفَ وَكُتُبَ الْحَدِيثِ وَالْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي يُجَلِّدُهَا تَأْمُرُ بِذَلِكَ وَتَنْهَى عَنْ ضِدِّهِ. [فَصْلٌ فِي نِيَّةِ الْأَبْزَارِيِّ وَمُحَاوَلَتِهَا وَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهَا] قَدْ تَقَدَّمَ فِي نِيَّةِ الْعَطَّارِ مَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ هَاهُنَا لَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْأَبْزَارِيِّ الْبَيْعُ بِالْكَيْلِ أَوْ الْجُزَافِ فَالْكَيْلُ مَعْرُوفٌ وَالْجُزَافُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يُعَايِنَ ذَلِكَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا فَيَتَحَفَّظُ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دُونَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى قَدْرِهِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ أَنْ يُصِيبَ مَا عِنْدَهُ مِنْ السِّلَعِ شَيْءٌ مِمَّا تَكْرَهُهُ النُّفُوسُ مِثْلُ بَوْلِ الْفَأْرَةِ وَابْنِ عُرْسٍ وَالْهِرِّ فَيَتَنَجَّسُ بِذَلِكَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ وَمِنْ عَادَةِ النُّفُوسِ أَنَّهَا تَشْمَئِزُّ مِمَّا بَقِيَ سَالِمًا مِنْ ذَلِكَ فَلْيَتَحَفَّظْ عَلَيْهِ بِالتَّغْطِيَةِ لَهُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي دُكَّانِهِ حِينَ غَيْبَتِهِ عَنْهُ وَإِنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِلْمُشْتَرِي لِكَرَاهَةِ بَعْضِ النَّاسِ مَا يَبْقَى مِمَّا أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ كَثُرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى إنَّك لَتَجِدُ الْقِرْطَاسَ الَّذِي تَأْخُذُهُ مِنْ الْبَائِعِ فِيهِ بَوْلُ الْفَأْرَةِ مَخْلُوطٌ بِالسِّلْعَةِ الَّتِي فِيهَا كَالْكُزْبَرَةِ وَالْأَنِيسُونَ وَغَيْرِهِمَا فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي نِيَّةِ الزَّيَّاتِ] اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ الزَّيْتَ يَظْهَرُ فِيهِ التَّدْلِيسُ سَرِيعًا بِسَبَبِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْهُ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ ثُمَّ دُلِّسَ بِشَيْءٍ مَا مِنْ الرَّدِيءِ رَجَعَ كُلَّهُ رَدِيئًا ظَاهِرًا لِلْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ غَالِبًا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ إذَا بَقِيَ فِي أَوْعِيَتِهِ خَفَّ وَصَفَا وَزَالَ مِنْهُ الْكَدَرُ وَلَيْسَ فِي جَمِيعِ السِّلَعِ الَّتِي يَتَّجِرُ فِيهَا الْمَرْءُ أَكْثَرُ سَلَامَةً مِنْهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَظْهَرُ

فِيهِ التَّدْلِيسُ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي عَنْ شَيْخِهِ سَيِّدِي أَبِي الْحَسَنِ الزَّيَّاتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَتَّجِرُ فِي الزَّيْتِ وَيَقُولُ مَا مَعْنَاهُ: إنِّي لَا أَتَّجِرُ فِي الزَّيْتِ إلَّا مِنْ جِهَةِ أَنِّي لَا أَثِقُ بِنَفْسِي مِنْ أَنَّهَا لَا تُدَلِّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالزَّيْتُ لَا يَقْبَلُ التَّدْلِيسَ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ مِنْهُ إذَا خُلِطَ بِهِ شَيْءٌ مَا مِنْ الرَّدِيءِ رَجَعَ كُلُّهُ رَدِيئًا وَإِذَا لَمْ يُخْلَطْ بِهِ شَيْءٌ وَبَقِيَ فِي أَوْعِيَتِهِ تَصَفَّى وَطَابَ فَآمَنُ عَلَى نَفْسِي مِنْ الْغِشِّ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَحْسَنُ مَا يَتَّجِرُ فِيهِ الْمَرْءُ لِهَذَا الْمَعْنَى. (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْلِطَ جِنْسَ زَيْتٍ بِجِنْسِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الزُّيُوتَ عَلَى أَنْوَاعٍ: زَيْتُ الزَّيْتُونِ وَهُوَ أَعْظَمُهَا وَأَعَمُّهَا نَفْعًا. وَيَلِيهِ زَيْتُ السِّمْسِمِ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الشَّيْرَجُ ثُمَّ زَيْتُ الْقُرْطُمِ ثُمَّ زَيْتُ السَّلْجَمِ ثُمَّ بِزْرُ الْكَتَّانِ فَلَا يُخْلَطُ أَحَدُ هَذِهِ الزُّيُوتِ بِغَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ لَا يُخْلَطُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ طَيِّبُهُ بِرَدِيئِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّدْلِيسِ، ثُمَّ إنَّهُ يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الطَّيِّبَ يَرْجِعُ رَدِيئًا إذَا خُلِطَ بِالْقَلِيلِ مِنْ الرَّدِيءِ فَإِنْ خَلَطَهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ فِي الْمَنْعِ يَضُرُّ بِهِ. وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ مَنْفَعَةِ الزُّيُوتِ فِي الْقَلْيِ بِهَا وَغَيْرُهُ وَهُوَ كَثِيرٌ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّدْلِيسِ قَدْ كَثُرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، حَتَّى إنَّك لَتَجِدُ بَعْضَ مَنْ يَقْلِي الزَّلَابِيَةَ أَوْ السَّمَكَ أَوْ غَيْرَهُمَا فِي السُّوقِ يَقْلِيهِ فِي الزَّيْتِ الْحَارِّ وَهُوَ غِشٌّ وَتَدْلِيسٌ وَمُضِرٌّ لِآكِلِهِ فِي بَدَنِهِ وَلِبَائِعِهِ فِي دِينِهِ وَهَذَا فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَمْ تَطِبْ نُفُوسُ أَهْلِهَا بِاسْتِعْمَالِهِ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَطَّارِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ كَيْفِيَّةُ نِيَّتِهِمَا فِيمَا يُحَاوِلَانِهِ مِنْ السِّلَعِ وَبِأَيِّ نِيَّةٍ يَجْلِسَانِ فِي الدَّكَاكِينِ وَبِأَيِّ نِيَّةٍ يَبِيعَانِ وَيَشْتَرِيَانِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الزَّيَّاتِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَمَنْ هُوَ بِقُرْبِ الْبُيُوتِ أَوْ بِالْبُعْدِ مِنْهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا كَالْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ مِنْ التَّيْسِيرِ عَلَى إخْوَانِهِ

فصل شراء الخلول التي عصرت أولا بنية الخمر

الْمُسْلِمِينَ وَالتَّهْوِينِ عَلَيْهِمْ بِرَفْعِ كُلْفَةِ الْمَشْيِ عَنْهُمْ إلَى الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ مِنْ بُيُوتِهِمْ بِسَبَبِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ [فَصْلٌ شِرَاءِ الْخُلُولِ الَّتِي عُصِرَتْ أَوَّلًا بِنِيَّةِ الْخَمْرِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ شِرَاءِ الْخُلُولِ الَّتِي عُصِرَتْ أَوَّلًا بِنِيَّةِ الْخَمْرِ ثُمَّ فَسَدَتْ عَلَى صَاحِبِهَا فَصَارَتْ خَلًّا؛ لِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا. فَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِيَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لَهُ عَلَى كُفْرِهِ وَجَبْرٌ لِثَمَنِ مَا عَصَرَهُ عَلَى أَنَّهُ خَمْرٌ وَبَعْضُ النَّصَارَى يَجْعَلُ الْخَلَّ فِي أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ وَيَبِيعُهُ لِلْمُسْلِمِينَ بَلْ بَعْضُ مَنْ لَا يَتَحَرَّزُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَيَتَعَيَّنُ هِجْرَانُهُ وَأَدَبُهُ وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يَجْبُرَ عَلَيْهِ ثَمَنَ ذَلِكَ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِيمَنْ يَعْمَلُ الْعِنَبَ خَلًّا: إنَّهُ لَا يَكْشِفُ عَنْهُ حَتَّى يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ قَدْ صَارَ خَلًّا وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَشَفَ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَرَآهُ خَمْرًا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ إرَاقَتُهُ وَغَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْهُ وَغَسْلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ وِعَاءٍ وَثَوْبٍ وَبَدَنٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. هَذَا وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إلَّا الْخَلَّ فَمَا بَالُك بِمَنْ قَصَدَ بِهِ الْخَمْرَ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْغِشِّ فِي الْخَلِّ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ أَصْنَافٌ أَطْيَبُهُ وَأَنْفَعُهُ خَلُّ الْعِنَبِ فَيَغُشُّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يَأْخُذُوا حُبُوبًا مِنْ الْعِنَبِ فَيَجْعَلُونَهَا فِي خَلٍّ سِوَاهُ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ خَلُّ الْعِنَبِ وَذَلِكَ غِشٌّ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ خَلًّا، وَلَا يَبِيعَهُ وَفِيهِ بَقِيَّةُ تَخْمِيرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ خَمْرٌ بَعْدُ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَ النَّضُوحَ، وَلَا يَشْتَرِيهِ وَفِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ التَّخْمِيرِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ إرَاقَتُهُ وَالتَّوْبَةُ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا ذَهَبَتْ بَرَكَةُ مَنْفَعَتِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا» وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَسْتَعْمِلُونَ النَّضُوحَ وَصِفَاتُ الْخَمْرِ فِيهِ بَيِّنَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا وَيَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ نَضُوحٌ وَيَجْرِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ مَجْرَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْجَائِزَةِ

وَالْخُلُولِ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ فِي الْحِسِّ وَالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يَرْجِعُ نَضُوحًا بِالنِّيَّةِ وَالتَّسْمِيَةِ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِي السَّمْنِ أَنْ لَا يَخْلِطَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَوْ بِجِنْسِهِ الْقَدِيمِ أَوْ الرَّدِيءِ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ؛ لِأَنَّ الْجَدِيدَ يُسْتَعْمَلُ لِلْأَكْلِ وَالْقَدِيمَ يَنْفَعُ لِلْأَمْرَاضِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَرَاهِمِ النَّافِعَةِ وَبِحَسَبِ قِدَمِهِ تَكُونُ مَنْفَعَتُهُ وَالْغَالِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إلَّا السَّمْنَ الَّذِي لِلْأَكْلِ وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الْجَدِيدُ مِنْهُ وَأَمَّا الْقَدِيمُ فَلَا يُعَدُّ لِلْأَكْلِ. وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْأَغْرَاضُ فِيهِمَا فَيَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يَخْلِطَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ وَإِلَّا فَهُوَ غِشٌّ. وَبَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَغُشُّونَ بِأَنْ يَخْلِطُوهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ وَهُوَ الشَّحْمُ، وَلَا خَفَاءَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا. وَالسَّمْنُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: بَقَرِيٌّ وَهُوَ أَطْيَبُهُ وَجَامُوسِيٌّ وَغَنَمِيٌّ. فَالْبَقَرِيُّ عَلَامَةُ الْخَالِصِ مِنْهُ أَنَّهُ أَصْفَرُ خِلْقَةً. وَالْجَامُوسِيُّ وَالْغَنَمِيُّ أَبْيَضُ خِلْقَةً وَبَعْضُ النَّاسِ يَغُشُّ بِأَنْ يَجْعَلَ فِي الْجَامُوسِيِّ وَالْغَنَمِيِّ صَبْغًا يَصِيرُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْفَرَ. وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الزُّبْدِ وَذَلِكَ غِشٌّ فَإِنْ وَقَعَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ لِلْمُشْتَرِي فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ غِشٌّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ تَغَالَى فِي الْغِشِّ، حَتَّى إنَّهُ لَيَجْعَلُ بَعْضَ حَوَائِجَ فِي اللَّبَنِ فَيَصِيرُ كُلُّهُ سَمْنًا فِي الظَّاهِرِ وَفَرْقٌ كَثِيرٌ مَا بَيْنَ مَنْفَعَةِ السَّمْنِ وَمَنْفَعَةِ اللَّبَنِ سِيَّمَا وَاللَّبَنُ إذَا قَدُمَ فَإِنَّهُ يَكْثُرُ ضَرَرُهُ وَهَذَا أَكْثَرُ غِشًّا مِمَّا قَبْلَهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَجْتَنِبَ الْغِشَّ كُلَّهُ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ وَهَذَا مُتَعَيَّنٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُتَسَبِّبِينَ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ السِّلَعِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ. (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِي الْوَزْنِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ السِّلْعَةُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَشَحَّتْ قَلِيلًا يُعْطِيهَا لِلْمُشْتَرِي وَيَزِيدُهُ عَمَّا شَحَّ مِنْ وَزْنِهَا جُزَافًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ سِيَّمَا فِي هَذِهِ السِّلَعِ خَاصَّةً

فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَأَ بِنَعْلِهِ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَعَاطَى عَلَيْهِ الْبَيْعَ لِئَلَّا يُنَجِّسَهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَتْرُكَهُ مَكْشُوفًا حِينَ غَيْبَتِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُهْرَاقُ شَيْءٌ مِمَّا يَبِيعُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَجْمَعُهُ وَيَرُدُّهُ فِي وِعَائِهِ أَوْ فِي وِعَاءِ الْمُشْتَرِي وَذَلِكَ قَدْ يَتَنَجَّسُ فِي مُبَاشَرَتِهِ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ فَيُطْعِمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَنَجِّسَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَدِبَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْحَشَرَاتِ الْمَسْمُومَةِ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْبَائِعِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَزِنَ تِلْكَ السِّلَعَ فِي كِفَّةِ مِيزَانِهِ أَوْ يُعَايِرَ وِعَاءَ الْمُشْتَرِي وَيَزِنَ لَهُ فِيهِ وَهَذَا الْوَجْهُ أَسْلَمُ لِتَحَقُّقِ الْبَائِعِ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ فَإِنْ كَانَ يَزِنُ فِي كِفَّةِ مِيزَانِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ كِفَّةُ الْمِيزَانِ سَالِمَةً مِنْ النَّجَاسَةِ وَمِمَّا تَسْتَقْذِرُهُ النُّفُوسُ وَمَعَ ذَلِكَ يُغَطِّيهَا حِينَ غَيْبَتِهِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِمَّا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ مَسْحِهِ لِكِفَّتَيْ الْمِيزَانِ بِشَيْءٍ مِنْ الْخِرَقِ الَّتِي جُمِعَتْ مِنْ الطُّرُقِ الَّتِي لَا تَخْلُو فِي الْغَالِبِ مِنْ خِرَقِ الْحَيْضِ وَمِنْ أَثَرِ ذَوِي الْعَاهَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ وَإِنْ غُسِلَتْ؛ لِأَنَّ غَسْلَهَا لَا يُزِيلُ أَذَاهَا ثُمَّ إذَا فَرَّغَ السِّلْعَةَ الَّتِي فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ فِي وِعَاءِ الْمُشْتَرِي فَلْيُبَالِغْ فِي مَسْحِهَا بِيَدِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْكِفَّةِ شَيْءٌ مِمَّا وَزَنَهُ لَهُ فَإِنْ كَانَ يَسْكُبُ مِنْ كِفَّةِ الْمِيزَانِ فِي الْقَدَّاحَةِ فَلْيُبَالِغْ أَيْضًا فِي تَصْفِيَةِ الْقَدَّاحَةِ كَمَا فَعَلَ فِي الْكِفَّةِ لَكِنَّهُ يَتَرَبَّصُ قَلِيلًا حَتَّى يُنَقِّطَ مَا بَقِيَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مَسْحِهَا كَالْكِفَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُرَجِّحَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْوَزْنِ بِقَدْرِ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ مَا زَادَهُ أَكْثَرُ مِمَّا بَقِيَ فِي الْكِفَّةِ أَوْ الْقَدَّاحَةِ سِيَّمَا حِينَ اسْتِعْجَالِهِ لِكَثْرَةِ الْمُشْتَرِينَ مِنْهُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَجْعَلُ الْبَائِعُ الْقَدَّاحَةَ عَلَى وِعَاءٍ طَاهِرٍ نَظِيفٍ فَإِنْ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ تَصَفَّتْ فِي ذَلِكَ الْوِعَاءِ فَإِنْ اجْتَمَعَ فِيهِ شَيْءٌ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْ أَصْحَابِهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ مَنْ يَتَحَرَّى عَلَى دِينِهِ بِمَدِينَةِ فَاسَ قَدْ جَلَسَ فِي دُكَّانِهِ يَبِيعُ مَا ذُكِرَ فَاجْتَمَعَ لَهُ فِي وِعَاءِ الْقَدَّاحَةِ مَا اجْتَمَعَ فَلَمَّا أَنْ رَآهُ قَالَ: هَذَا مِلْكُ الْغَيْرِ مُحَقَّقٌ قَدْ تَعَمَّرَتْ الذِّمَّةُ بِهِ وَإِنْ سَامَحَ بِهِ بَعْضُهُمْ فَقَدْ لَا يُسَامِحُ

فصل في ذكر نية الخضري

بِهِ الْآخَرُونَ فَتَرَكَ الدُّكَّانَ وَاجْتَمَعَ بِسَبَبٍ غَيْرِهِ. لَكِنْ مَنْ كَانَ حَالُهُ الْيَوْمَ عَلَى مِثْلِ حَالِ هَذَا السَّيِّدِ فَالْأَوْلَى فِي حَقِّهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يَجْلِسَ لِذَلِكَ لِنَفْعِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَصَدَّقَ بِمَا اجْتَمَعَ فِي الْوِعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْبَيْعُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالشِّرَاءُ مِنْهُمْ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ. [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ نِيَّةِ الْخُضَرِيِّ] ِّ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ. لَكِنْ بَقِيَ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى أَشْيَاءَ تَخُصُّهُ: فَمِنْهَا مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَيْعِ الْمُلُوخِيَّةِ أَوَّلَ دُخُولِهَا فَإِنَّهَا تُمْنَعُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهَا حُزَمًا وَكُلُّ حُزْمَةٍ مَرْبُوطَةٌ بِالْقَشِّ أَوْ الْحَلْفَاءِ الْكَثِيرَةِ وَفِيهَا مِنْ الطِّينِ وَالْمَاءِ مَا يَزِيدُ مَجْمُوعُهُ عَلَى الْمُلُوخِيَّةِ نَفْسِهَا وَمَعَ هَذِهِ الصُّورَةِ تَكُونُ مَجْهُولَةً جُزَافًا وَوَزْنًا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بِقَدْرِ الْقَشِّ وَالْحَلْفَاءِ وَالطِّينِ وَالْمَاءِ مَوْجُودَةٌ فِيهَا وَالْجَهَالَةُ بِذَلِكَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَيَتَحَرَّزُ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يُمْكِنُ بَيْعُ الْمُلُوخِيَّةِ فِي أَوَّلِ دُخُولِهَا إلَّا كَذَلِكَ لِأَجْلِ مَا اعْتَادَ مَنْ يَزْرَعُهَا فِي عَمَلِهَا كَذَلِكَ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَاطَبٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ مِنْ هَذِهِ السِّلْعَةِ وَغَيْرِهَا. فَإِنْ قَالَ مَثَلًا: إنْ تَحَرَّزَتْ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا، وَلَا شِرَاؤُهَا. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا تَرْكُهَا إلَى أَوَانٍ تَكْثُرُ فِيهِ فَإِنَّهَا إذَا كَثُرَتْ جَازَ بَيْعُهَا بِالْوَزْنِ وَالْجُزَافِ؛ لِأَنَّ مَا يُرْبَطُ بِهِ حُزَمُهَا إذَا كَثُرَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا يَسِيرٌ فَهُوَ تَبَعٌ لِيَسَارَتِهِ أَيْضًا فَلَوْ عَلِمَ الزَّارِعُ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ وَهِيَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا لَمْ يَفْعَلْ فِيهَا ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَكَانَ يُنَظِّفُهَا وَيَرْبِطُ حُزَمَهَا كَمَا يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ عِنْدَ رُخْصِهَا وَيَبِيعُهَا بِأَكْثَرَ مِنْ سَوْمِهَا وَهِيَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الْمَمْنُوعَةِ فَيَصِيرُ الثَّمَنُ لَهُ حَلَالًا وَتَحْصُلُ لَهُ الْبَرَكَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَيُطْعِمُ

فصل في بيع القلقاس

إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ مَا هُوَ جَائِزٌ شِرَاؤُهُ وَبَيْعُهُ فَيُثَابُ عَلَيْهِ فَتَحْصُلُ الْبَرَكَةُ لِجَمَاعَةٍ لِزَارِعِهَا وَبَائِعِهَا وَلِلْخُضَرِيِّ وَلِلْمُشْتَرِي مِنْهُ وَلِآكِلِهَا. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَتَعَاطَى الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ كَيْفَ لَا يُغَيِّرُونَ ذَلِكَ أَوْ يَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهِ أَوْ يُبَيِّنُونَهُ لِمَنْ حَضَرَهُمْ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ عِلْمَ ذَلِكَ بَلْ بَعْضُهُمْ عَلَى عَكْسِ هَذَا الْحَالِ يَفْتَخِرُونَ بِأَكْلِهَا وَهِيَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا فَأَيْنَ الْعِلْمُ وَأَيْنَ أَهْلُهُ وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْعَارِفُ رَزِينٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ وَإِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّيَاتِ؛ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. [فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْقُلْقَاسِ] وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ فِي بَيْعِ الْقُلْقَاسِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى نَوْعَيْنِ رُءُوسٍ وَأَصَابِعَ وَالْأَصَابِعُ أَحْسَنُهُ وَأَطْيَبُهُ فَيُدَلِّسُ بَعْضُهُمْ بِالرُّءُوسِ فَيُقَشِّرُهَا وَيُقَطِّعُهَا عَلَى قَدْرِ الْأَصَابِعِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا وَيَخْلِطُهَا مَعَهَا ثُمَّ يَبِيعُ ذَلِكَ بِسَوْمٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ؛ لِأَنَّ الْأَصَابِعَ وَالرُّءُوسَ مُخْتَلِفَانِ فِي الثَّمَنِ وَالطَّعْمِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِمَا وَالرَّغْبَةِ فِيهِمَا وَالْمُحَاوَلَةِ لَهُمَا غَالِبًا وَلِأَنَّ النَّارَ الَّتِي تُنْضِجُ الْأَصَابِعَ لَا تُنْضِجُ الرُّءُوسَ فَيَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الْوَقُودِ عَلَيْهَا إذَا طَبَخَهُمَا مَعًا، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ انْحَلَّتْ الْأَصَابِعُ وَقَدْ تَكُونُ الرُّءُوسُ لَمْ تَنْضَحْ بَعْدُ وَتَدْخُلُهُ الْمُغَابَنَةُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يُرِيدُ أَنْ يَجْبُرَ الرُّءُوسَ وَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ مِنْ الْأَصَابِعِ فِي الْغَالِبِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَخَلْطُهُمَا غِشٌّ وَتَدْلِيسٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَالْوَجْهُ الْجَائِزُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَبِيعَهُ عَلَى حِدَتِهِ كُلٌّ بِسَوْمٍ يَخُصُّهُ وَهَذَا وَجْهٌ مُتَيَسِّرٌ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ. فَعَلَى هَذَا مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْخَلْطِ لَيْسَ ثَمَّ ضَرُورَةٌ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ لِسُهُولَةِ الْأَمْرِ فِي بَيْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ بَلْ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ إمَّا لِلْجَهْلِ بِالْعِلْمِ أَوْ لِمُجَرَّدِ الْغِشِّ أَوْ لِلْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَجِّحَ

فصل ينبغي أن يكون النية لجلوسه في الدكان التيسير

فِي الْوَزْنِ أَكْثَرَ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُتَسَبِّبِينَ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ مَا يُرَجِّحُهُ الْخُضَرِيُّ يَسِيرٌ وَإِنْ كَثُرَ غَالِبًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مَا يَزِنُ بِهِ مِنْ حَجَرِ الْكَذَّانِ أَوْ الطُّوبِ الْآجُرِّ أَنْ يَتَفَقَّدَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ إذْ إنَّهَا تَنْقُصُ سَرِيعًا فَإِنْ لَمْ يَتَفَقَّدْهَا تَعَمَّرَتْ ذِمَّتُهُ فَلْيَتَحَرَّزْ مِنْ ذَلِكَ [فَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّيَّة لِجُلُوسِهِ فِي الدُكَّانِ التَّيْسِيرَ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ لِجُلُوسِهِ فِي دُكَّانِهِ التَّيْسِيرَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَكْثَرَ اعْتِنَاءً بِتَحْسِينِ النِّيَّةِ فِيمَا جَلَسَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الضُّعَفَاءِ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْعَجَائِزِ وَالْفُقَرَاءِ وَالصِّغَارِ يَحْتَاجُونَ إلَى شِرَاءِ مَا عِنْدَهُ فَيُقَرِّبُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْبَعِيدَ وَيُيَسِّرُ عَلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَيُعِينُهُمْ عَلَى قَضَاءِ مَآرِبِهِمْ. «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» . وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَمْدَحَ سِلْعَتَهُ، وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهَا بِلَفْظٍ، وَلَا كِنَايَةٍ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مُشَاهَدَةُ الْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ فِي الْإِخْبَارِ بِخِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ فَيَقَعُ عَلَيْهِ الْعَتْبُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَدْحَ الْبَائِعِ لِسِلْعَتِهِ مَعَ صِدْقِهِ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وَبَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَمْدَحُ سِلْعَتَهُ بِالْكَذِبِ، حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيُنَادِي عَلَيْهَا وَيَذْكُرُ لَهَا اسْمًا غَيْرَ اسْمِهَا الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ فَمَنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ يَظُنُّ أَنَّهُ كَمَا قَالَ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، مِثَالُهُ مَنْ يَبِيعُ الْفَقُّوسَ يُنَادِي عَلَيْهِ يَا لُوبْيَا فَمَنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ صَحِيحٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَسْرِقُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ قِيلَ: أَيَزْنِي الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قِيلَ: أَيَكْذِبُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: لَا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ «إنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ» فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا

الذَّمِّ الْعَظِيمِ ثُمَّ يَرْتَكِبُونَهُ لَا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلَا غَيْرِهَا بَلْ لِلْعَبَثِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ وَعَدَمِ مَنْ يَأْمُرُ أَوْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَتَغَالَى فِي تَغْيِيرِ اسْمِ الشَّيْءِ الَّذِي يَبِيعُهُ فَيُنَادِي عَلَيْهِ بِاسْمٍ بَعِيدٍ مِنْهُ. مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْجُمَّيْزِ: يَا فِرْصَادُ يَا عَسَلَ نَحْلٍ يَا أَحْلَى مِنْ التِّينِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ. وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُ فِي السِّلْعَةِ الَّتِي يَطُوفُ بِهَا مَنَافِعَ يَخْتَلِقُهَا وَيَسْمَعُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ وَكُلُّهَا عَوَائِدُ اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَذَلِكَ مُذْهِبٌ لِلْبَرَكَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَرَكَةَ تَذْهَبُ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا وَهُوَ الِاسْتِشْرَافُ فَمَا بَالُك بِهَذَا وَأَمْثَالِهِ فَيَجْمَعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ التَّعَبَ وَالنَّصَبَ وَالْمَشَقَّةَ وَقِلَّةَ الرِّزْقِ لِعَدَمِ الْبَرَكَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَبَعْضُهُمْ تَكُونُ سِلْعَتُهُ رَدِيئَةً فَيَمْدَحُهَا وَيُثْنِي عَلَيْهَا. مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْكُرَّاثِ وَالْبَقْلِ اللَّذَيْنِ قَدْ ذَبَلَا: كُرَّاثٌ مَلِيحٌ بَقْلٌ مَلِيحٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ. وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ نِدَائِهِ عَلَى سِلْعَتِهِ وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُنْهَى عَنْهُ وَيُؤَدَّبُ وَيُزْجَرُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَا شُرِعَتْ عَلَيْهِ مِنْ التَّعَبُّدِ لَا أَنَّهَا تُذْكَرُ عَلَى السِّلَعِ حِينَ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِهِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِيمَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ يَقُولُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ يُعَوِّضُ عَنْ حِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُفْسَحَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُ: صَلُّوا عَلَى مُحَمَّدٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ وَبَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْكَذِبِ حِينَ نِدَائِهِ عَلَى سِلْعَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ. وَبَعْضُهُمْ يَجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ. وَاَلَّذِي يَتَعَيَّنُ مِنْ ذَلِكَ تَوْقِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحْتِرَامُهُ

وَتَعْظِيمُهُ بِأَنْ لَا يَذْكُرَ اسْمَهُ، وَلَا يُصَلِّيَ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَبُّدِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وَتُنْدَبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ وَمَوَاضِعِ الْغَفْلَةِ كَمَا أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِيهَا سِرًّا وَعَلَنًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ ارْتَكَبَ مِنْ الْبَيَّاعِينَ أَوْ الطَّوَّافِينَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فَيُؤْمَرُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَجَنَّبَهُمْ بِعَدَمِ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ مَا امْتَنَعَ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ إلَّا لِأَجْلِ تَعَاطِيهِمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ فِي حَقِّهِمْ بِشَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ: عَدَمُ الْإِعَانَةِ لَهُمْ. وَالثَّانِي: الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ. وَمَنْ سَمِعَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُمْ يُؤْمَرُ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فَقَطْ. ثُمَّ إنَّ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ الْمُخَالَفَاتِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مَنْ قَامَ بِهِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. لَكِنْ إنَّمَا يَلْزَمُ الْإِنْكَارُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُفِيدُ وَيُقْبَلُ مِنْهُ. وَيُنْدَبُ لَهُ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ يُسْمَعُ مِنْهُ. وَيُكْرَهُ لَهُ أَوْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ أَنَّ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ يَزِيدُ فِي الْوُقُوعِ فِي تِلْكَ الْمُخَالَفَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِثَالُهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ فَيَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ أُخْرَى بِأَنْ يَشْتُمَ أَوْ يَقْذِفَ مَنْ نَهَاهُ وَيَشْتُمَهُ وَيَقْذِفَهُ الْآخَرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ فَلْيُعْرِضْ عَمَّنْ هَذَا حَالُهُ لَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُعَوِّضَ عَنْ ذَلِكَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا مُنْكَرٌ " ثَلَاثًا " وَقَدْ تَقَدَّمَ. ثُمَّ إنَّ مِنْ الْبَيَّاعِينَ مَنْ يَقِفُ بِمَوْضِعٍ فِي السُّوقِ أَوْ الطَّرِيقِ فَهَذَا يُمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ وَيُمْنَعُ الشِّرَاءُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْمُسْلِمِينَ مَوَاضِعَ مُرُورِهِمْ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ إنْ كَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا، وَلَوْ لَمْ يُضَيِّقْ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِوُسْعِ الطَّرِيقِ فَيُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيقِهَا بِكَثْرَةِ الْجُلُوسِ فِيهَا وَلِأَنَّ فِي الشِّرَاءِ مِنْهُ إعَانَةً لَهُ عَلَى مَا يَتَعَاطَاهُ مِمَّا هُوَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَفِيهِ عَدَمُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَطُوفُ عَلَى الْبُيُوتِ وَيَدْخُلُ الْأَزِقَّةَ وَيَسْلُكُ الْمَوَاضِعَ الْبَعِيدَةَ مِنْ السُّوقِ فَهَذَا جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَمُرَّ فِي حَاجَتِهِ كَمَا يَمُرُّ غَيْرُهُ وَيُغْتَفَرُ لَهُ الْوُقُوفُ عَلَى بَابِ مَنْ يَبِيعُ لَهُ وَفِي أَثْنَاءِ مُرُورِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ

وَصِيَانَةِ حَرِيمِهِمْ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْأَسْوَاقِ. لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَرْتَكِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الطَّوَّافِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّهُ يَبِيعُ لِلْمَرْأَةِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ إلَى مَوْضِعٍ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ مَنْ يَمُرُّ فِي الطَّرِيقِ فَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ فَتَشْتَرِي مِنْهُ فَهَذَا يُمْنَعُ مِنْهُ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَلْوَةٌ بِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وَهُوَ مُحَرَّمٌ وَإِنْ كَانَا لَمْ يَقْصِدَاهُ وَأَمَّا دُخُولُهُ فِي الْبَيْتِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ وَإِنْ أَذِنَتْ لَهُ وَإِنْ كَانَ فِي حَوْزِهَا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا وَقَعَتْ السَّلَامَةُ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ يَغُضَّ طَرْفَهُ حِينَ بَيْعِهِ لِلْمَرْأَةِ فَلَا يَنْظُرُ إلَّا إلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ أَوْ فِي سِلْعَتِهِ. وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي حَقِّ الطَّوَّافِينَ مُتَعَيَّنٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْبَيَّاعِينَ لَهُنَّ مِنْ الْأُجَرَاءِ مِثْلِ مَنْ يَبِيعُ الْكَتَّانَ وَاللَّبَنَ وَالزَّيْتَ الْحَارَّ وَالسَّقَّاءِ وَالطَّحَّانَ. وَمِنْ الصُّنَّاعِ كَالْمُزَيِّنِ وَالْبَنَّاءِ وَالنَّجَّارِ وَالْمُزَرِّبِ وَالْمُبَلِّطِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ فَيَتَحَفَّظُ أَنْ يَقَعَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ. مِثَالُهُ أَنْ يَأْتِيَ مَنْ يَبِيعُ الْكَتَّانَ فَتَارَةً يَخْلُو بِالْمَرْأَةِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَتَارَةً تَأْتِي هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ النِّسَاءِ فَيَجْتَمِعْنَ عَلَيْهِ وَيَقَعُ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِهِنَّ مَعَهُ وَمُحَادَثَتِهِنَّ لَهُ أَشْيَاءُ مَمْنُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُنَّ يَخْرُجْنَ عَلَيْهِ دُونَ حِجَابٍ وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُنَّ عَلَيْهَا الثَّوْبُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَصِفُ أَوْ يَشِفُّ أَوْ هُمَا مَعًا وَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهَا الثَّوْبُ الْقَصِيرُ دُونَ سَرَاوِيلَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَوَائِدِهِنَّ فِي الْوَقْتِ وَمَعَ ذَلِكَ يَزْعُمْنَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَيَخْتَلِقْنَ أَحْكَامًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِنَّ بِأَنْ يَقُلْنَ: إنَّ الْكَتَّانِيَّ وَالسَّقَّاءَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمَا لَيْسُوا مِنْ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُسْتَحَى مِنْهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّعِينَ لَا يُوقِعُ النَّاسَ بِغَوَايَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُخَالَفَةِ حَتَّى يَدُسَّ لَهُمْ فِيهَا مَا يَبْعَثُهُمْ عَلَى قَبُولِهَا مِنْهُ بِأَنْ يُلْقِيَ لَهُمْ وُجُوهًا مِنْ التَّعَالِيلِ. وَهَذِهِ بَلِيَّةٌ قَدْ حَدَثَتْ فِي الْأَكْثَرِ مِنْهُنَّ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْأَشْرَافِ مِنْ النِّسَاءِ يَزْعُمْنَ أَنَّهُنَّ لَا يَسْتَحْيِينَ إلَّا مِنْ شَرِيفٍ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا وَبَعْضُ النِّسْوَةِ مِنْ الْأَشْرَافِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لَا يَحْتَجِبْنَ مِنْ الْغَرِيبِ أَصْلًا وَيَتَحَدَّثْنَ مَعَهُ وَيُطِلْنَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْبَسْطِ مِنْهُنَّ مَعَهُ وَيَزْعُمْنَ أَنَّ الْغَرِيبَ

لَيْسَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُسْتَحَى مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَهَا رِيَاسَةٌ فِي الدُّنْيَا أَوْ لِزَوْجِهَا لَا تَسْتَحِي مِنْ الْغِلْمَانِ، وَلَا مِنْ الْعَوَامّ وَيَرَيْنَ بِزَعْمِهِنَّ أَنَّهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُمْ. ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ إلَى كَثِيرٍ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْوَقْتِ يَزْعُمْنَ أَنَّ الطَّوَّافِينَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ لَيْسُوا مِنْ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُسْتَحَى مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَأَوْقَعَهُنَّ اللَّعِينُ بِتَسْوِيلِهِ فِي الْمُحَرَّمِ بِهَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ وَبِمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ رِجَالِهِنَّ الَّذِينَ هُمْ أَرْجَحُ مِنْهُنَّ عَقْلًا وَأَقْوَمُ دِينًا أَنَّهُمْ يَأْتُونَ إلَى بُيُوتِهِمْ فَيَجِدُونَ الْكَتَّانِيَّ وَمَنْ أَشْبَهَهُ مِنْ الطَّوَّافِينَ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَهْلِيهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْحَدِيثِ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا بَلْ انْغَمَسَ أَكْثَرُهُمْ فِي الْجَهْلِ مَعَ زَعْمِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَجْهَلُونَ وَأَنَّهُمْ عَنْ الطَّرِيقِ الْأَقْوَمِ لَا يَحِيدُونَ فَلَوْ نَبَّهَهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَيْقَظَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَمَرَاتِ لَكَانَ الْجَوَابُ أَنْ يَقُولَ: إنِّي لَا أَتَّهِمُ امْرَأَتِي لِمَا أَعْلَمُ مِنْ عِفَّتِهَا وَصِيَانَتِهَا وَأَنَّ الْخِيَانَةَ لَا تَخْطِرُ بِبَالِهَا فَكَيْفَ أَخَافُ عَلَيْهَا. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ دَخَلَ اللَّعِينُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ فَأَوْقَعَهُمْ فِي الْمُخَالَفَاتِ بِسَبَبِ تَحْسِينِ ظَنِّهِمْ بِأَزْوَاجِهِمْ. وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الظَّنَّ وَصَلَ إلَى حَدِّ الْيَقِينِ لَكَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا شَرْعًا إذْ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ أَنْ تَخْرُجَ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَلَى ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا وَهَذِهِ عَوَائِدُ قَدْ اسْتَحْكَمَتْ فَكَثُرَ بِسَبَبِهَا الْوُقُوعُ فِي الْمُخَالَفَاتِ حَتَّى إنَّك لَتَجِدُ الرَّجُلَ إذَا طَلَبَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الْكَتَّانَ أَوْ الْمَاءَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُمَا يَتْرُكُ عِنْدَهَا ثَمَنَ ذَلِكَ حَتَّى يَعْبُرَ عَلَيْهَا الْكَتَّانِيُّ أَوْ السَّقَّاءُ فَتَشْتَرِي مِنْهُ بِنَفْسِهَا، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ تَكُونُ وَحْدَهَا فَيَدْخُلُ عَلَيْهَا السَّقَّاءُ

أَوْ الْكَتَّانِيُّ أَوْ شِبْهُهُمَا فَتَحْصُلُ الْخَلْوَةُ بِهِ، وَنَفْسُ وُقُوعِ الْخَلْوَةِ مُحَرَّمٌ وَعِنْدَهَا وَمَعَهَا تَكْثُرُ الْمَفَاسِدُ حَتَّى لَا يُسْتَبْعَدَ وُقُوعُ الْمَعْصِيَةِ مَعَ أَنَّ دَوَامَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وُقُوعِ الْمَعْصِيَةِ الْكُبْرَى أَشَدُّ وَأَضَرُّ وَذَلِكَ أَنَّ دَوَامَ الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ كَانَتْ صُغْرَى أَحَبُّ إلَى اللَّعِينِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ الْكُبْرَى؛ لِأَنَّ النَّاسَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ التَّوْبَةُ مِنْ الْكُبْرَى وَالْإِقْلَاعُ عَنْهَا بِخِلَافِ الصُّغْرَى، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَهَاوَنُونَ بِهَا وَهِيَ مَعَ الدَّوَامِ عَلَيْهَا تَصِيرُ كُبْرَى نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. مِثَالُهُ أَنَّ ابْنَ الْعَمِّ وَمَنْ أَشْبَهَهُ إنْ وَاقَعَ الْمَعْصِيَةَ الْكُبْرَى قَدْ لَا يَدُومُ فَيُزَيِّنُ لَهُ الشَّيْطَانُ تَرْكَهَا حَتَّى تَكْثُرَ مِنْهُ الْمُخَالَفَاتُ بِسَبَبِ دَوَامِ خُرُوجِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ الْمُحَادَثَةِ وَالْمُمَازَحَةِ وَالْخَلَوَاتِ، وَكَذَلِكَ الْجَارُ وَالْجَارَةُ وَمَنْ تَرَبَّى بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي حَالِ الصِّغَرِ، وَلَا تَجِدُ فِي الْغَالِبِ الْفَرْقَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ ذُكِرَ إلَّا سَلَامَةَ مَحَلِّ الْجِمَاعِ وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَيَسْتَوِي فِيهِ الزَّوْجُ وَغَيْرُهُ مَعَ أَنَّهُ عِنْدَ قُرْبِ زَوْجِهَا لَهَا بَعْضُهُمْ يُمَثِّلُ الصُّورَةَ الَّتِي رَآهَا وَتَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِهَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ - عَدَمُ السُّؤَالِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَمَّا يَلْزَمُ الْمَرْءَ فِي تَصَرُّفِهِ. وَالثَّانِي - اسْتِحْكَامُ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الْمُحْدَثَةِ حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا دِينٌ يُتَدَيَّنُ بِهِ غَالِبًا وَالثَّالِثُ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِمَنْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْهُ بِأَنَّهُ نَاقِصٌ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى تَجِدُ بَعْضَهُمْ إذَا حَجَّتْ امْرَأَتُهُ أَطْلَقَ لَهَا السَّبِيلَ فِي الِاجْتِمَاعِ بِمَنْ شَاءَتْ وَالْخُرُوجِ عَلَى مَنْ شَاءَتْ لِتَحْسِينِ ظَنِّهِ بِهَا مِنْ أَجْلِ حَجِّهَا وَالْمَفَاسِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَا أَشْبَهَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ لَكِنْ مَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ بِغَيْرِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي عَنْ أَحَدِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ كَانَ كَبِيرَ السِّنِّ وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ عُمْرُهَا مِائَةُ سَنَةٍ أَوْ نَحْوُهَا وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إذَا جَاءَ يَدُقُّ الْبَابَ خَرَجَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ فَفَتَحَتْ لَهُ فَكَانَ يَوْمًا فِي الدَّرْسِ فَوَقَعَتْ مَسْأَلَةٌ احْتَاجَ إلَى إحْضَارِ النَّقْلِ

فصل في المزين

فِيهَا لِلْجَمَاعَةِ فَجَاءَ عَلَى الْعَادَةِ إلَى بَيْتِهِ لِيَنْظُرَ الْمَسْأَلَةَ فَدَقَّ الْبَابَ فَخَرَجَتْ لَهُ جَارِيَةُ زَوْجَتِهِ الَّتِي رَبَّتْهَا فَفَتَحَتْ لَهُ الْبَابَ فَسَأَلَهَا أَيْنَ فُلَانَةُ " يَعْنِي زَوْجَتَهُ "؟ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا فِي الْحَمَّامِ؛ فَقَالَ لَهَا: اُدْخُلِي الْبَيْتَ وَعُدِّي الْكُتُبَ مِنْ الصَّفِّ الْفُلَانِيِّ فَإِذَا وَصَلْت فِي الْعَدِّ إلَى الْجُزْءِ الْفُلَانِيِّ فَأْتِينِي بِهِ؛ فَقَالَتْ لَهُ: أَلَا تَدْخُلُ فَتَأْخُذُ حَاجَتَك، فَقَالَ لَهَا: وَكَيْفَ أَدْخُلُ وَأَنْتِ فِي الْبَيْتِ؛ فَقَالَتْ لَهُ: أَمِّنِي تَخَافُ؟ فَقَالَ لَهَا: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْلُوَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ» وَأَنَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ وَأَنْتِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ فَلَا يُمْكِنُنِي الدُّخُولُ أَوْ كَمَا قَالَ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى كِبَرِ سِنِّ هَذَا السَّيِّدِ وَعَمَلِهِ وَصَلَاحِهِ وَإِسَاءَةِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. [فَصْلٌ فِي الْمُزَيِّنِ] وَأَمَّا الْمُزَيِّنُ فَمَفَاسِدُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا عِنْدَ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ السَّقَّاءَ وَالْكَتَّانِيَّ يُمْكِنُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَأْخُذَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ اجْتِمَاعِهَا بِهِمَا بِخِلَافِ الْمُزَيِّنِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمُبَاشَرَتِهِ لَهَا فَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَيْتِ وَحْدَهَا فَتَعْظُمُ الْمَفَاسِدُ وَيَكْثُرُ الْخَطَرُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُزَيِّنِ أَنْ يَدْخُلَ إلَى بَيْتٍ يَكُونُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى يَكُونَ مَعَهَا غَيْرُهَا فِيهِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ جَمَاعَةِ نِسَاءٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهَا هِيَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ فِي دُخُولِ الْبَيْتِ إلَّا بِحَضْرَةِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ وَمَعَ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ ثِقَةً أَمِينًا وَيَغُضَّ طَرْفَهُ مَهْمَا اسْتَطَاعَ، وَلَا يَنْظُرَ إلَّا لِمَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ هِيَ. وَيَنْوِي بِمَا يُحَاوِلُهُ مِنْ صَنْعَتِهِ الْقِيَامَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ وَأَنْ يُسْقِطَ الْحَرَجَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ إعَانَةَ الْمَلْهُوفِينَ وَالْمُضْطَرِّينَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَهْجُمُ عَلَى بَعْضِهِمْ الدَّمُ فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ لِوَقْتِهِ وَإِلَّا أَفْضَى بِهِ إلَى الْمَوْتِ. وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ إعَانَةَ إخْوَانِهِ عَلَى امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي التَّدَاوِي بِإِخْرَاجِ الدَّمِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ» وَعَدَّ فِيهَا

شَرْطَةَ مِحْجَمٍ. وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ نِيَّةِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ وَرُجُوعِهِ إلَيْهِ وَتَلَبُّسُهُ بِهَذِهِ النِّيَّاتِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَخْذِ مَا يَرْتَفِقُ بِهِ إذَا بَدَا لَهُ، وَلَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا. وَيَنْبَغِي مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى بَلْ الْأَوْجَبُ أَنْ تَكُونَ لِلنِّسَاءِ صَانِعَةٌ مُسْلِمَةٌ مُتَجَالَّةٌ تَفْعَلُ لَهُنَّ فِعْلَ الْمُزَيِّنِ حَتَّى لَا يَضْطَرَّهُنَّ الْأَمْرُ إلَيْهِ فَإِنْ تَعَذَّرَتْ فَالصِّبْيَانُ الْمَأْمُونُونَ الَّذِينَ هُمْ دُونَ مُرَاهَقَةِ الْبُلُوغِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَاَلَّذِينَ مِنْ الشُّيُوخِ وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ عَدَمِ الْخَلْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَتْ الصَّانِعَةُ هِيَ الَّتِي تُبَاشِرُ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُجْتَنَبَ مِنْهُنَّ مَنْ كَانَتْ شَابَّةً؛ لِأَنَّهَا تَمْشِي وَهِيَ مَكْشُوفَةُ الْوَجْهِ غَالِبًا مُظْهِرَةً لِلزِّينَةِ وَالتَّبَرُّجِ وَالْغَالِبُ عَلَى مَنْ هَذَا حَالُهَا الْوُقُوعُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا سَلَامَتَهَا لَكَانَ تَبَرُّجُهَا عَلَى الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ مُحَرَّمًا فَيُخَافُ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهَا أَنْ تَكْتَسِبَ شَيْئًا مِنْ خِصَالِهَا وَأَحْوَالِهَا الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا، وَكَانَ يَتَعَيَّنُ أَنْ لَا تُتْرَكَ شَابَّةٌ تَعْمَلُ هَذَا؛ لِأَنَّهُنَّ يَتَوَصَّلْنَ بِهِ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُخَالَفَاتِ وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَتُعْجِبُهُ الشَّابَّةُ مِنْهُنَّ فَيُفْتَحُ لَهَا الْبَابَ عَلَى أَنَّهَا تَعْمَلُ لِأَهْلِهِ فَمَا تَشْعُرُ إلَّا وَهِيَ مَعَهُ فِي خَلْوَةٍ فَيُخَافُ مَعَ ذَلِكَ الْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ الْكُبْرَى وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ هَجْرُ مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ الصَّوَانِعِ وَمَنْ اسْتَعْمَلَهَا لَمْ يَتَّصِفْ بِهِجْرَانِهَا إذْ إنَّهُ قَدْ أَعَانَهَا وَمَنْ أَعَانَهَا كَانَ شَرِيكًا لَهَا فِيمَا ارْتَكَبَتْهُ مِمَّا يُخَالِفُ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ، أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ. وَهَذَا الْحُكْمُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا تُضْطَرُّ الْمَرْأَةُ إلَيْهِ مِنْ خُرُوجِ الدَّمِ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَتُمْنَعُ مِنْهُ. مِثَالُهُ أَنْ تَدْخُلَ الصَّانِعَةُ أَوْ الْمُزَيِّنُ أَوْ غَيْرُهُمَا لَتُفَلِّجَ أَسْنَانَهَا أَوْ تُجَرِّدَهَا لِتَبْيَضَّ فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ فَعَلَتْهُ بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَة وَفِيهِ الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ» وَهَذَا مِنْهُ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَعَلَى الْمُزَيِّنِ أَيْضًا أَنْ يَجْتَنِبَا مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ ارْتِكَابِ

فصل في معالجة الطبيب والكحال الكافرين

الْمُحَرَّمِ فِي كَوْنِ الْمَرْأَةِ يُحَفِّفُهَا الْمُزَيِّنُ وَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ كُبْرَى مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ فِيهِ خُرُوجًا عَلَى الْمُزَيِّنِ وَاسْتِمْتَاعًا لَهُ بِهَا إذْ إنَّهُ يُبَاشِرُ بِيَدَيْهِ خَدَّيْهَا وَشَفَتَيْهَا وَذَلِكَ حَرَامٌ كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِثْلُ تَفْلِيجِ الْأَسْنَانِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُنَّ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ خُرُوجِهِنَّ عَلَيْهِ بِالثَّوْبِ الْقَصِيرِ دُونَ السَّرَاوِيلِ وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ وَيَجِبُ تَأْدِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْمُزَيِّنِ قَدْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا وَيَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمَا نَهْيُهُمَا فَإِنْ لَمْ يَرْجِعَا أُدِّبَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَدَعَ امْرَأَةً تُحَفِّفُهَا، وَلَا تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ شَعْرِ حَاجِبَيْهَا، وَلَا تَفْعَلَ هِيَ أَيْضًا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَات وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ» قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ يَحْيَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لَهُ النَّامِصَةُ فَهِيَ الَّتِي تُزِيلُ الشَّعْرَ مِنْ الْوَجْهِ وَالْمُتَنَمِّصَةُ هِيَ الَّتِي تَطْلُبُ فِعْلَ ذَلِكَ بِهَا وَهَذَا الْفِعْلُ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ: وَالنَّهْيُ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَوَاجِبِ وَمَا فِي أَطْرَافِ الْوَجْهِ. [فَصْلٌ فِي مُعَالَجَةِ الطَّبِيبِ وَالْكَحَّالِ الْكَافِرَيْنِ] (فَصْلٌ) وَأَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْقُبْحِ وَأَشْنَعُ مَا ارْتَكَبَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ مُعَالَجَةِ الطَّبِيبِ وَالْكَحَّالِ الْكَافِرَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يُرْجَى مِنْهُمَا نُصْحٌ، وَلَا خَيْرٌ بَلْ يُقْطَعُ بِغِشِّهِمَا وَأَذِيَّتِهِمَا لِمَنْ ظَفِرَا بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَرِيضُ كَبِيرًا فِي دِينِهِ أَوْ عِلْمِهِ أَوْ هُمَا مَعًا فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ عِنْدَهُمْ فِي دِينِهِمْ أَنَّ مَنْ نَصَحَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا فَقَدْ خَرَجَ عَنْ دِينِهِ وَأَنَّ مَنْ اسْتَحَلَّ السَّبْتَ فَهُوَ مُهْدَرُ الدَّمِ عِنْدَهُمْ حَلَالٌ لَهُمْ سَفْكُ دَمِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَافَقَهُ يَهُودِيٌّ فِي طَرِيقٍ فَلَمَّا أَنْ عَزَمَ عَلَى مُفَارَقَتِهِ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّكُمْ لَا تُبَاشِرُونَ مُسْلِمًا فِي شَيْءٍ إلَّا غَشَشْتُمُوهُ فِيهِ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَقَدْ خَرَجْتُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَأَنْتَ قَدْ رَافَقْتنِي فِي هَذَا الطَّرِيقِ فَأَيْنَ غِشُّك؟ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ:

أَمَا رَأَيْتنِي أَرْجِعُ تَارَةً عَنْ يَمِينِك وَتَارَةً عَنْ يَسَارِك؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: مَا وَجَدْت شَيْئًا أَغُشُّك بِهِ إلَّا أَنِّي أُتَابِعُ ظِلَّك وَأَطَأُ بِقَدَمِي عَلَى مَوْضِعِ رَأْسِك مِنْهُ خِيفَةَ أَنْ أَخْرُجَ عَنْ دِينِي. فَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلُ دِينِهِمْ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ يُسْكَنُ إلَى قَوْلِهِمْ أَوْ يُرْجَعُ إلَى وَصْفِهِمْ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَهُوَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْوَقْتِ يَسْتَطِبُّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَعَ تَحَقُّقِهِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَيَقُولُ: إنَّهُ لَا يَسْكُنُ إلَى قَوْلِهِمْ بَلْ يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ لَهُ تَأْنِيسًا بِسَبَبِ أَنَّهُ يَطَّلِعُ بِمُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِي عِلْمِ الطِّبِّ فَيَعْلَمُ بِذَلِكَ مَا يَصِفُونَهُ لَهُ فَإِنْ كَانَ غِشًّا أَوْ نُصْحًا اطَّلَعَ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي مُبَاشَرَةِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ لَهُمْ وَهُمْ لَيْسُوا فِي الْمَعْرِفَةِ مِثْلَهُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ الطِّبِّ أَصْلًا. الْوَجْهُ الثَّانِي - أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْغَفْلَةَ عَنْ أَنْ يَدُسُّوا عَلَيْهِ شَيْئًا فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْعَقَاقِيرِ الَّتِي يَصِفُونَهَا فَيَسْتَعْمِلَهَا فَتَكُونَ سَبَبًا فِي ضَرَرِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا مِنْ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَضُرُّهُ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَظَهَرَ غِشُّهُمْ وَانْقَطَعَتْ مَادَّةُ مَعَاشِهِمْ لَكِنَّهُمْ يُضِيفُونَ لَهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ مَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الْمَرَضِ وَيُظْهِرُونَ الصَّنْعَةَ فِيهِ وَالنُّصْحَ وَقَدْ يَتَعَافَى الْمَرِيضُ فَيُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى حِذْقِ الطَّبِيبِ وَمَعْرِفَتِهِ؛ لِيَقَعَ عَلَيْهِ الْمَعَاشُ كَثِيرًا بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى نُصْحِهِ فِي صَنْعَتِهِ لَكِنَّهُ يَدُسُّ فِي أَثْنَاءِ وَصْفِهِ حَاجَةً لَا يُفْطَنُ لِمَا فِيهَا مِنْ الضَّرَرِ غَالِبًا وَتَكُونُ تِلْكَ الْحَاجَةُ مِمَّا تَنْفَعُ ذَلِكَ الْمَرِيضَ وَيَنْتَعِشُ مِنْهُ فِي الْحَالِ لَكِنَّهُ يَبْقَى الْمَرِيضُ بَعْدَهَا مُدَّةً فِي صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ فِي آخِرِ الْحَالِ وَقَدْ يَدُسُّ حَاجَةً أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنَّهُ إنْ جَامَعَ انْتَكَسَ وَمَاتَ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ فِي حَاجَةٍ أُخْرَى يَصِحُّ الْمَرِيضُ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهَا لَكِنَّهُ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ انْتَكَسَ وَمَاتَ. وَقَدْ يَدُسُّ حَاجَةً أُخْرَى فَإِذَا اسْتَعْمَلَهَا الْمَرِيضُ صَحَّ وَقَامَ مِنْ مَرَضِهِ لَكِنْ لَهَا مُدَّةٌ فَإِذَا انْقَضَتْ تِلْكَ

الْمُدَّةُ عَادَتْ بِالضَّرَرِ عَلَيْهِ وَتَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ فِي ذَلِكَ فَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُدَّتُهَا سَنَةً أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غِشِّهِمْ وَهُوَ كَثِيرٌ. ثُمَّ يَتَعَلَّلُ عَدُوُّ اللَّهِ بِأَنَّ هَذَا مَرَضٌ آخَرُ دَخَلَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لِي فِيهِ حِيلَةٌ فَلَوْ سَلِمَ مِنْهُ لَعَاشَ وَصَحَّ وَيُظْهِرُ التَّأَسُّفَ وَالْحُزْنَ عَلَى مَا أَصَابَ الْمَرِيضَ ثُمَّ يَصِفُ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْيَاءَ تَنْفَعُ لِمَرَضِهِ لَكِنَّهَا لَا تُفِيدُ بَعْدَ أَنْ فَاتَ الْأَمْرُ فِيهِ فَيَنْصَحُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ نُصْحُهُ فَمَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ النَّاصِحِينَ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْغَاشِّينَ. وَقَدْ قِيلَ: كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إزَالَتُهَا ... إلَّا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاك فِي الدِّينِ وَقَدْ يَسْتَعْمِلُونَ النُّصْحَ فِي وَصْفِهِمْ، وَلَا يَغُشُّونَ بَعْضَ النَّاسِ بِشَيْءٍ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا خَطَرَ لَهُمْ فِي الدِّينِ، وَلَا عِلْمَ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ الْغِشِّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَنْصَحُوا لَمَا حَصَلَتْ لَهُمْ الشُّهْرَةُ بِالْمَعْرِفَةِ بِالطِّبِّ وَلَتَعَطَّلَ عَلَيْهِمْ مَعَاشُهُمْ وَقَدْ يُتَفَطَّنُ لِغِشِّهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ مَعْرِفَتِهِمْ وَنُصْحِهِمْ فَيَسْتَعْمِلُونَ ذَلِكَ مَعَ هَذَا الصِّنْفِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ أَعْنِي مَنْ لَا خَطَرَ لَهُ فِي الدِّينِ كَالْعَوَامِّ وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ غِشِّهِمْ نُصْحُهُمْ لِبَعْضِ مَنْ يُبَاشِرُونَهُ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لِيَشْتَهِرُوا بِذَلِكَ وَتَحْصُلُ لَهُمْ الْحُظْوَةُ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ شَابَهَهُمْ وَيَتَسَلَّطُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهَذَا النَّوْعُ مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ. وَقَدْ يَنْصَحُونَ الْعُلَمَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَذَلِكَ مِنْهُمْ غِشٌّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِكَيْ تَحْصُلَ لَهُمْ الشُّهْرَةُ وَتَظْهَرَ صَنْعَتُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى إتْلَافِ مَنْ يُرِيدُونَ إتْلَافَهُ مِنْهُمْ وَهَذَا مِنْهُمْ مَكْرٌ عَظِيمٌ. فَالْحَاصِلُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ صَنْعَتَهُمْ فِي قَوْمٍ لِتَمْشِيَةِ مَعَاشِهِمْ وَيَسْتَعْمِلُونَ دِينَهُمْ فِي آخَرِينَ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يُرْكَنَ إلَيْهِ، وَلَا يُسْكَنَ إلَى وَصْفِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا خَطَرٌ عَظِيمٌ إذْ إنَّ كُلَّ صَنْعَةٍ إذَا أَخْطَأَ صَاحِبُهَا فِيهَا قَدْ يُمْكِنُ تَلَافِيهَا إلَّا هَذَا فَإِنَّ الْخَطَأَ فِيهَا إتْلَافٌ لِلنُّفُوسِ وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ لَا يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ مَنْ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ النَّهْيِ

فِيمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ. وَقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عِلْمَ الطِّبِّ عَلَى بَعْضِ شُيُوخِ الْمَغَارِبَةِ بِمِصْرَ قَالَ: وَكَانَ بَعْضُ الرُّؤَسَاءِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ لَهُ طَبِيبٌ يَهُودِيٌّ فَغَضِبَ عَلَيْهِ وَهَجَرَهُ وَطَرَدَهُ فَبَقِيَ الْيَهُودِيُّ يَتَوَسَّلُ إلَيْهِ بِالنَّاسِ وَهُوَ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَاَللَّهِ لَأَذْبَحَنَّهُ ذَبْحًا، فَمَا زَالَ الْيَهُودِيُّ يَتَحَيَّلُ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَصَفَحَ عَنْهُ، ثُمَّ إنَّهُ مَرِضَ ذَلِكَ الرَّئِيسُ مَرَضًا شَدِيدًا قَالَ: فَكُنْت يَوْمًا أَقْرَأُ عَلَى الشَّيْخِ فِي بَيْتِهِ إذْ جَاءَهُ جَمَاعَةٌ يَطْلُبُونَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُمْ إلَى بَيْتِ الْمَرِيضِ فَأَبَى فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى أَنْعَمَ لَهُمْ فَخَرَجَ مَعَهُمْ وَقَالَ لِي: اجْلِسْ هُنَا حَتَّى آتِي فَمَا هُوَ إلَّا قَلِيلٌ وَرَجَعَ وَهُوَ يُرْعِدُ فَقُلْت: مَا الْخَبَرُ فَقَالَ لِي: سَأَلْتهمْ عَمَّا وَصَفَهُ الْيَهُودِيُّ لَهُ فَوَجَدْته قَدْ ذَبَحَهُ ذَبْحًا فَمَا كُنْت لِأَدْخُلَ عَلَيْهِ إذْ إنَّهُ لَا يُرْتَجَى وَلِئَلَّا يَنْسِبَ الْيَهُودِيُّ ذَلِكَ إلَيَّ وَقَالَ لِي: لَا بَقَاءَ لَهُ بَعْدَ الْيَوْمِ فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَصْبَحَ مَيِّتًا وَهَذَا بَعْضُ تَنْبِيهٍ عَلَى غِشِّهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ وَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ أَوْ تَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ يَنْحَصِرُ وَالشَّرَّ لَا يَنْحَصِرُ. فَلْيَنْظُرْ الْعَاقِلُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْعَاقِلَ مَنْ اتَّعَظَ بِغَيْرِهِ فَكُنْ عَاقِلًا أَوْ مُقَلِّدًا لِلْعُقَلَاءِ وَإِيَّاكَ وَاتِّبَاعَ أَخِي الْجَهَالَةِ فَإِنَّهُ مُؤْذٍ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَبَعْضُ النَّاسِ يَتَحَفَّظُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى زَعْمِهِ فَيَأْخُذُ طَبِيبًا مُسْلِمًا وَطَبِيبًا نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا فَيَعْرِضُ مَا يَصِفُهُ الْكَافِرُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ أَيْضًا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ - مَا تَقَدَّمَ قَبْلُ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَغْفُلُ عَنْ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِ مَا وَصَفَهُ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ. الثَّانِي - مَا فِيهِ مِنْ اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّالِثُ - مَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِمَا يُعْطِيه لَهُمْ. الرَّابِعُ - مَا فِيهِ مِنْ ذِلَّةِ الْمُسْلِمِ لَهُمْ. الْخَامِسُ - مَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِهِمْ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَرِيضُ الَّذِي يُبَاشِرُونَهُ رَئِيسًا فَإِنَّهُمْ يَتَفَاخَرُونَ بِمُعَالَجَتِهِ وَيَتَعَزَّزُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ وَصْلَتِهِمْ بِهِ وَالتَّرَدُّدِ لِبَابِهِ وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِتَصْغِيرِ شَأْنِهِمْ وَهَذَا عَكْسُهُ. السَّادِسُ - مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَالشَّنَاعَةِ إنْ كَانَ

فصل لا يأخذ من الأطباء من ليست له معرفة

الْمَرِيضُ امْرَأَةً مُسْلِمَةً؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ عَدُوُّ اللَّهِ يَتَمَتَّعُ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا وَيَجُسُّهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُظْهِرَ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ الْيَهُودِيَّةِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ مِنْهُنَّ فَمَا بَالُك بِالرَّجُلِ وَقَدْ تَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ إلَى كَشْفِ بَعْضِ بَدَنِهَا لِيَرَى مَوْضِعَ الْأَلَمِ مِنْهَا فَيُبَاشِرُ ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ وَعَدُوُّ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا أَمْرٌ فَظِيعٌ يَقْبُحُ سَمَاعُهُ فَكَيْفَ بِتَعَاطِيهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْكَافِرَ يَصِفُ لِبَعْضِ النَّاسِ زَوْجَةَ الْمُسْلِمِ أَوْ ابْنَتَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خِصَالِهِمْ الْمَذْمُومَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ الْغَيْرَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ عَافَانَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَشْفَ الْعَوْرَةِ لِلطَّبِيبِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَرِيضُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مَعَ وُجُودِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو لِمُبَاشَرَةِ الْكَافِرِ مَعَ وُجُودِ الطَّبِيبِ الْمُسْلِمِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ لَا يَأْخُذَ مِنْ الْأَطِبَّاءِ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ] (فَصْلٌ) فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُتَحَرَّزَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَرِيضِهِ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْأَطِبَّاءِ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِهَذَا الشَّأْنِ مِنْ الشُّبَّانِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مَعَهُمْ الْإِجَازَاتُ بِصِنَاعَةِ الطِّبِّ أَوْ الْكُحْلِ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُعَوَّلُ عَلَى نَفْسِ مَعْرِفَتِهِ وَدِينِهِ وَتَجْرِبَتِهِ لِلْأُمُورِ وَمَا يَعْتَوِرُهُ فِي صَنْعَتِهِ وَالشُّبَّانُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ كَبِيرُ أَمْرٍ فِي التَّجْرِبَةِ وَالدُّرْبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَطَأَ فِي هَذَا كَبِيرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَخْطَأَ الطَّبِيبُ قَتَلَ أَوْ الْكَحَّالُ أَعْمَى. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى مَنْ هُوَ أَصْلُحُ فِي الْوَقْتِ مِنْ أَطِبَّاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالدِّينِ فَيُسْكَنُ إلَى وَصْفِهِ. وَمَا وُصِفَ فِي أَمْرِ الطَّبِيبِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْكَحَّالِ أَيْضًا إذْ إنَّ الْكَحَّالَ يُبَاشِرُ وَجْهَ الْمَرْأَةِ بِيَدَيْهِ وَيَنْظُرُ لَهَا بِعَيْنَيْهِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا ذَا مَعْرِفَةٍ وَدِينٍ أَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِ أَهْلِ وَقْتِهِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ

فَيَتَعَيَّنُ تَرْكُ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوُجُوهِ وَلِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمَنُونَ عَلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يُشْرِفُ مِنْهُ عَلَى بَعْضِ جِيرَانِ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ قَالَ: فَرَأَيْت شَابًّا يَهُودِيًّا دَخَلَ بَيْتًا فِي الرَّبْعِ الَّذِي كَانَ مُشْرِفًا عَلَيْهِ وَكَانَ فِيهِ نِسَاءٌ مُجْتَمَعَاتٌ فَخَرَجَتْ إحْدَاهُنَّ إلَى الْكَحَّالِ وَخَلَا بِهَا فَكَحَّلَ عَيْنَيْهَا ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا مَا يُصِيبُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ " فَلَا أَدْرِي أَرَادَ الْوَطْءَ أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ " قَالَ: فَلَمْ أَتَمَالَكْ نَفْسِي حَتَّى أَخَذْت عَصًا وَنَزَلْت إلَى بَابِ الْمَوْضِعِ فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ الْيَهُودِيُّ ضَرَبْته الضَّرْبَ الْمُوجِعَ وَتَوَّبْتُهُ أَنْ لَا يَعُودَ قَالَ: وَلَوْ كَانَ مَعِي غَيْرِي أَشْهَدْت عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ؛ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْحَالِ مَا أَشْنَعَهُ وَأَقْبَحَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَكْشِفَ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ الْكِتَابِيَّةِ فَكَيْفَ بِوُقُوعِ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ وَكُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ التَّسَامُحُ وَالتَّغَافُلُ عَنْ التَّوَقِّي مِنْ خُلْطَةِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَعَادَ الْأَمْرُ كَمَا تَرَى، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَعَلَى هَذَا فَمَنْ اسْتَعْمَلَهُمْ وَأَصَابَهُ شَيْءٌ فِي بَدَنِهِ أَوْ عَيْنَيْهِ كَانَ غَيْرَ مَأْجُورٍ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي إدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ إذْ إنَّهُمْ لَا يُؤْمَنُونَ. ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْأُنْسِ وَالْوُدِّ لَهُمْ، وَإِنْ قَلَّ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدِّينِ وَمَعَ ذَلِكَ يُخْشَى عَلَى دِينِ بَعْضِ مِنْ يَسْتَطِبُّهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ أَثِقُ بِقَوْلِهِ مِنْ الْإِخْوَانِ أَنَّهُ مَرِضَ عِنْدَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ فَأَبَى الْمَرِيضُ إلَّا أَنْ يُؤْتَى إلَيْهِ بِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَجِيءَ بِهِ إلَيْهِ وَبَقِيَ يُوَاظِبُهُ قَالَ: فَرَأَيْت الْيَهُودِيَّ الَّذِي يُبَاشِرُهُ فِي النَّوْمِ وَهُوَ يَقُولُ لِي: دِينُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ الدِّينُ الْقَدِيمُ وَالدِّينُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ التَّمَسُّكُ بِهِ فَهُوَ الدِّينُ الْأَقْوَمُ، وَبَقِيَ يُشَنِّعُ وَيَقُولُ قَالَ: فَانْتَبَهْت مِنْ نَوْمِي وَأَنَا مَذْعُورٌ وَالْتَزَمْت أَنْ لَا يَدْخُلَ لِي مَنْزِلًا أَبَدًا وَبَقِيت إذَا لَقِيته فِي طَرِيقٍ أَسْلُكُ غَيْرَهُ وَأَخَافُ أَنْ يَصِلَ إلَيَّ شَيْءٌ مِنْ وَبَالِهِ فَهَذَا قَدْ رُحِمَ بِسَبَبِ أَنَّهُ

فصل في الاشتغال بطب الأبدان وتكحيل العيون ومعرفة الحساب

كَانَ مُعْتَنًى بِهِ فَيَخَافُ مَنْ اسْتَطَبَّهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مُعْتَنًى بِهِ أَنْ يَهْلِكَ مَعَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا الْخَوْفُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِرِ لَكَانَ مُتَعَيَّنًا تَرْكُهُ فَكَيْفَ مَعَ وُجُود مَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِطِبِّ الْأَبَدَانِ وَتَكْحِيلُ الْعُيُونِ وَمَعْرِفَةُ الْحِسَابِ] (فَصْلٌ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى اشْتِغَالِهِمْ بِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ طِبُّ الْأَبَدَانِ وَتَكْحِيلُ الْعُيُونِ وَمَعْرِفَةُ الْحِسَابِ؛ لِأَنَّهُمْ تَوَصَّلُوا بِسَبَبِهَا إلَى إتْلَافِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ غَالِبًا فِي أَبْدَانِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُهِمُّهُ صَلَاحُ بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ فَإِنْ اعْتَلَّ بَدَنُهُ احْتَاجَ إلَى مُبَاشَرَةِ الطَّبِيبِ لَهُ وَالْكَحَّالِ لِعَيْنَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ احْتَاجَ لِمَنْ يَحْصُرُهُ وَيَحْسِبُهُ وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِخْلَالَ بِالدِّينِ؛ لِأَنَّهُ بِوُقُوعِ الْخَلَلِ فِي أَحَدِهِمَا يَقَعُ الْخَلَلُ فِي الدِّينِ غَالِبًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ قَائِمًا فَإِذَا حَصَلَ لَهُ الْخَلَلُ فِي بَدَنِهِ رَجَعَ إلَى الْجُلُوسِ فَإِنْ اشْتَدَّ عَلَيْهِ رَجَعَ إلَى الِاضْطِجَاعِ، وَكَذَلِكَ يُفْطِرُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ. وَكَذَلِكَ الْمُكَلَّفُ يَكُونُ مَعَهُ مَا يَتَسَبَّبُ فِيهِ فِي سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ مِثْلُ الزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِ بِالظُّلْمِ وَالْغَرَامَةِ يَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ إلَى مَخْدُومِهِمْ مِنْ الظَّلَمَةِ فَيَضْطَرُّ الْمُتَسَبِّبُ الْمِسْكِينُ إلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْحِيَلَ فِي التَّسَبُّبِ بِسَبَبٍ آخَرَ لِيَقْتَاتَ مِنْهُ فَيَحْصُلَ لَهُ بَطَالَةُ الْوَقْتِ وَخُلُوِّهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالْفِكْرِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ لِشُغْلِهِ بِالْفِكْرَةِ فِي أَمْرِ قُوتِهِ. وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الرِّفْقُ فِي النَّفَقَةِ، وَلَا الزِّيَادَةُ فِي الْكَسْبِ أَوْ كَمَا قَالَ. فَهَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِقْلَالَ مِنْ التَّكَسُّبِ فِي الدُّنْيَا أَبْرَكُ وَأَنْجَحُ لِأَجْلِ التَّفَرُّغِ لِلِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَثُرَ عَلَى الْمُكَلَّفِ التَّنَقُّلُ مِنْ سَبَبٍ إلَى سَبَبٍ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَنْ قَالَ لَهُ: لِمَ تَخْرُجُ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ وَكَانَ عَلَى كَتِفِهِ جِرَابٌ؟ فَقَالَ: إلَى بَلَدٍ أَمْلَأُ هَذَا بِدِرْهَمٍ أَوْ كَمَا قَالَ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ السِّعْرَ إذَا رَخُصَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَبِيرِ تَسَبُّبٍ، وَلَا عَمَلٍ فَيَبْقَى الْمَرْءُ مُقْبِلًا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ آخِرَتِهِ مُعْرِضًا عَمَّا يَشْغَلُهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى

قَالَ أَهْلُ الطَّرِيقِ: مَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ كُلِّفَ مِنْ الْعَمَلِ أَكْثَرَ مِنْ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَمِيلُ مَعَ أَكْثَرِ مَا تَعْمَلُهُ فَإِنْ كَثُرَتْ أَسْبَابُ الدُّنْيَا عَلَيْهَا مَالَتْ إلَيْهَا وَإِنْ كَثُرَ شُغْلُهَا بِأَسْبَابِ الْآخِرَةِ مَالَتْ إلَيْهَا. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالُوا: إنَّ مَنْ نَقَصَ فِي عَشَائِهِ عَنْ الْمُعْتَادِ أَنَّهُ يُطِيلُ الْقِيَامَ أَوْ يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ ضِدَّ مَا تُرِيدُهُ النَّفْسُ مِنْ الرَّاحَةِ عِنْدَ الشِّبَعِ، فَإِذَا أَطَالَ الْقِيَامَ أَوْ أَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ كَانَتْ الطَّاعَةُ أَغْلَبَ عَلَى الْجَوَارِحِ فَتَنْقَادُ النَّفْسُ إلَيْهَا أَكْثَرَ وَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ فَضِيلَةُ الْجِهَادِ، وَلَا جِهَادَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «رَجَعْتُمْ مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّ جِهَادَ النُّفُوسِ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ إذْ إنَّهُ عَمَلٌ بَيْنَ الْمُكَلَّفِ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَ أَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ ضَرُورَةٌ دَاعِيَةٌ إلَى مُبَاشَرَتِهِمْ لِوُجُودِ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ الْكَثِيرَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ؛ لِأَنَّك قَدْ تَجِدُ فِي الْمَدَارِسِ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ مَنْ لَهُ الْيَدُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَقَدْ جُبِلُوا عَلَى الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَكِنَّهَا عَوَائِدُ اُنْتُحِلَتْ وَأَنِسَتْ النُّفُوسُ بِهَا مَعَ وُجُودِ الشَّيْطَانِ الْمُغْوِي وَالْهَوَى الْمُرْدِي أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. مَعَ أَنَّ أَصْلَ الطِّبِّ إنَّمَا هُوَ بِالتَّجْرِبَةِ وَعَنْهَا أُخِذَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ طَبِيبٌ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ أَوْ كَحَّالٌ وَقَدْ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْمُشْتَرِينَ لَدَيْهِ الْمَعْرِفَةُ التَّامَّةُ الْجَيِّدَةُ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَمَا ذَاكَ إلَّا بِسَبَبِ كَثْرَةِ التَّجَارِبِ فَمَنْ كَثُرَتْ تَجَارِبُهُ كَثُرَتْ مَعْرِفَتُهُ فِيهِ، وَقَدْ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْقَوَابِلِ وَالْعَجَائِزِ يَعْرِفْنَ جُمْلَةً مِنْ ذَلِكَ الْمَعْرِفَةِ الْجَيِّدَةِ وَهَذَا رَاجِعٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَثْرَةِ التَّجَارِبِ. وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَرْجِعُونَ إلَى اسْتِعْمَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ تَيَقُّنِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنَّ الطَّبِيبَ الْكَافِرَ يُبَاشِرُهُمْ وَلَيْسَ فِي عَقْلِهِ

فصل طب الأبدان والرقى الواردة

بِسَبَبِ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَةَ وَيَسْكَرُ بِهَا ثُمَّ يَمْشِي إلَى مَنْ يُبَاشِرُهُمْ مِنْ الْمَرْضَى فَيَصِفُ لَهُمْ مَا يَصِفُ وَهُوَ فِي غَيْرِ وَعْيِهِ، وَلَا يَعْرِفُ مَا زَادَ عَلَى الْمَرِيضِ، وَلَا مَا نَقَصَ، وَلَا مَا قِيلَ لَهُ، وَلَا مَا كَتَبَ أَوْ وَصَفَ وَهَذَا أَمْرٌ خَطَرٌ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَيْثُ سَدَّ هَذَا الْبَابَ بِقَوْلِهِ: مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ وَكَوْنُهُ أَقَامَهُمْ مِنْ أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ: قَدْ أَغْنَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْكُمْ وَنَهَى عَنْ اسْتِعْمَالِهِمْ وَمُبَاشَرَتِهِمْ وَأَمَرَ أَنْ لَا يُسَاكِنُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَرْفَعُوا عَلَيْهِمْ جِدَارًا بَلْ يَكُونُوا بِمَعْزِلٍ عَنْهُمْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ أَنْ يَقَعَ بَعْضُ مَا جَرَى مِنْ الضَّرَرِ مِنْهُمْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لُعِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ فَإِنَّهُمْ ... بَلَغُوا بِمَكْرِهِمُو بِنَا الْآمَالَا خَرَجُوا أَطِبَّاءً وَحُسَّابًا لِكَيْ ... يَتَقَسَّمُوا الْأَرْوَاحَ وَالْأَمْوَالَا [فَصْلٌ طِبُّ الْأَبَدَانِ وَالرُّقَى الْوَارِدَةُ] ُ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ فَلَا يَخْلُو أَمْرُ الْمَرِيضِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ أَعْلَاهَا وَأَحْسَنُهَا وَأَرْفَعُهَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ وَالتَّفْوِيضُ إلَيْهِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى سَعَةِ فَضْلِهِ وَعَظِيمِ كَرَمِهِ دُونَ أَنْ يَخْتَلِجَ فِي بَاطِنِهِ شَيْءٌ أَوْ يَسْتَعْمِلَ سَبَبًا ظَاهِرًا بَلْ يَكُونُ كَالْمَيِّتِ عَلَى الْمُغْتَسَلِ بَيْنَ يَدَيْ غَاسِلِهِ، وَهَذَا إنْ وُجِدَ فَهُوَ الْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ وَهُوَ الَّذِي نُقِلَ عَنْ حَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي، قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: رَحْمَةَ رَبِّي، قَالَ: أَلَا آمُرُ لَك بِطَبِيبٍ؟ قَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي، قَالَ: أَلَا آمُرُ لَك بِعَطَاءٍ؟ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، قَالَ: يَكُونُ لِبَنَاتِك، قَالَ: أَتَخْشَى عَلَى بَنَاتِي الْفَقْرَ إنِّي أَمَرْت بَنَاتِي بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ

تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا» وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ. وَمِثْلُهُ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَنْ مَرِضَ فَعَادُوهُ وَقَالُوا: أَلَا نَدْعُو لَك بِطَبِيبٍ؟ قَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي. وَمِثْلُهُ أَيْضًا مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَنْ قِيلَ لَهُ: أَلَا نَأْتِيك بِالطَّبِيبِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ عَلِمْت أَنَّ شِفَائِي فِي رَفْعِ يَدِي إلَى شَحْمَةِ أُذُنِي مَا رَفَعْتهَا وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: أَذْنَبْت ذَنْبًا فَأَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قِيلَ لَهُ: وَمَا هُوَ الذَّنْبُ؟ قَالَ: طَلَعَ لِي طُلُوعٌ؛ فَرَقَيْتُهُ فَاسْتَرَاحَ فَجَعَلَ الرُّقْيَةَ ذَنْبًا يُسْتَغْفَرُ مِنْهُ فَمَا بَالُك بِالطِّبِّ عِنْدَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ السَّنِيَّةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ. فَهَذِهِ هِيَ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا فَإِنْ عَجَزَ الْمَرِيضُ عَنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ فَلْيَمْتَثِلْ السُّنَّةَ فِي اسْتِعْمَالِ الْأَدْوِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وَقَعَ النَّصُّ عَلَيْهَا مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَوْ كَانَ شَيْءٌ يَدْفَعُ الْمَوْتَ لَدَفَعَهُ السَّنَا» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلَّا السَّامَ» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ هِيَ الشُّونِيزُ وَهِيَ الْكَمُّونُ الْأَسْوَدُ وَالسَّامُّ الْمَوْتُ. مَعَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ: إنَّ الْأَطِبَّاءَ يَقُولُونَ: إنَّهَا تَنْفَعُ لَسَبْعَةَ عَشَرَ مَرَضًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَيْهَا. قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا أَنْ يَسْأَلَ الْأَطِبَّاءَ عَنْهَا فَإِنْ أَخْبَرُوهُ أَنَّهَا تَنْفَعُ لِذَلِكَ الْمَرَضِ اسْتَعْمَلَهَا وَإِلَّا فَلَا أَوْ كَمَا قَالَ. وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْبَى ذَلِكَ وَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ أَقُولَ بِهَذَا الْقَوْلِ، صَاحِبُ النُّورِ الْأَكْمَلِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ بِشَيْءٍ فَنَعْرِضُهُ عَلَى رَأْيِ أَصْحَابِ الظُّلْمَةِ. فَقِيلَ لَهُ: فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ مَا قَالَتْ الْأَطِبَّاءُ؟ فَقَالَ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ - أَنْ تَكُونَ الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ تَنْفَعُ لِجَمِيعِ الْأَمْرَاضِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ بِالنُّورِ الْأَكْمَلِ الَّذِي وَهَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَنَّ عَلَيْهِ بِهِ فَرَآهَا تَنْفَعُ لِجَمِيعِ الْأَمْرَاضِ، وَأَهْلُ الطِّبِّ نَظَرُوا بِظُلْمَةِ الْفِكْرِ الَّذِي

عِنْدَهُمْ فَلَمْ يَعْرِفُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ. الْوَجْهُ الثَّانِي - أَنَّ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ كَانَتْ تَنْفَعُ لَسَبْعَةَ عَشَرَ مَرَضًا كَمَا قَالَهُ الْأَطِبَّاءُ ثُمَّ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ تَنْفَعُ لِجَمِيعِ الْأَمْرَاضِ كَمَا خُصَّتْ بِخَصَائِصَ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأُمَمِ إكْرَامًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِرٌ بَيِّنٌ. لَكِنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى نِيَّةِ الْمَرِيضِ فِيمَا يُحَاوِلُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْدُرُ مِنْ الشَّارِعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ وَقُوَّةِ التَّصْدِيقِ، فَعَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ يَنْجَحُ السَّعْيُ وَيَظْفَرُ صَاحِبُهَا بِالْمُرَادِ. وَقَدْ حَكَى سَيِّدِي الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْمَعْنَى حِكَايَةً فَقَالَ: إنَّ شَابًّا كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ الزَّيَّاتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَتَكَلَّمَ يَوْمًا عَلَى الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ وَأَنَّهَا شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَبَيَّنَ ذَلِكَ وَأَوْضَحَهُ وَعَلَّلَهُ فَبَعْدَ أَيَّامٍ انْقَطَعَ الشَّابُّ عَنْ الْمَجْلِسِ ثُمَّ حَضَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلَهُ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ مُوجِبِ غَيْبَتِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ مَرِيضًا بِعَيْنَيْهِ فَقَالَ الشَّيْخُ: وَمَا عَمِلْت لَهُمَا؟ فَقَالَ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ، قَالَ: وَكَيْفَ وَجَدْت حَالَك عَلَيْهَا؟ قَالَ: لَمَّا عَمِلْتهَا فِي عَيْنَيَّ كَادَتْ عَيْنَايَ أَنْ تَطِيرَا وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيَّ وَكَثُرَ الْأَلَمُ فَقُلْت مُخَاطِبًا لَهُمَا: اذْهَبَا أَوْ لَا تَذْهَبَا أَوْجِعَا أَوْ لَا تُوجِعَا فَالشَّيْخُ مَا نَقَلَ إلَّا حَقًّا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ إلَّا صِدْقًا أَوْ كَمَا قَالَ؛ فَالْتَفَتَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى جُلَسَائِهِ وَقَالَ لَهُمْ: اجْعَلُوا بَالَكُمْ مَنْ مَرِضَ مِنْكُمْ بِالْعَيْنَيْنِ فَلَا يَكْتَحِلُ بِالْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَا نَجَّاهُ إلَّا قُوَّةُ يَقِينِهِ فَأَشَارَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ الْأَدْوِيَةَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَصْلُ فِيهَا قُوَّةُ الْيَقِينِ وَالتَّصْدِيقِ فَمَنْ قَوَى يَقِينُهُ سَهُلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَحَصَلَ لَهُ الطِّبُّ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ، وَلَا مَشَقَّةٍ وَمَنْ لَمْ يَقْوَ يَقِينُهُ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَحْوَالِنَا الْآنَ فَلْيَرْجِعْ إلَى وَصْفِ الْأَطِبَّاءِ الْعَارِفِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ التَّدَاوِي بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا فَيَسْتَعْمِلُ عَسَلَ النَّحْلِ وَغَيْرَهُ مِمَّا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ الْمُبَارَكَةِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ الشَّهْرِ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى

وَعِشْرِينَ كَانَ لَهُ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْكَيِّ مَكْرُوهٍ بِدَلِيلِ كَيِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُبَيًّا يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى أَكْحَلِهِ لَمَّا رُمِيَ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَوَى نَفْسَهُ» حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَالْحَلِيمِيُّ. وَكَوَى سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الَّذِي اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَقَدْ اكْتَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ. وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَعْرَفَ النَّاسِ بِالطِّبِّ فَسُئِلَتْ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَتْ: مِنْ كَثْرَةِ أَمْرَاضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى لَهُ: وَحُكِيَ أَنَّ طَبِيبًا عَارِفًا نَصْرَانِيًّا قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: لَيْسَ فِي كِتَابِكُمْ مِنْ عِلْمِ الطِّبِّ شَيْءٌ وَالْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الْأَدْيَانِ وَعِلْمُ الْأَبَدَانِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ فِي نِصْفِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِنَا فَقَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ، وَلَا يُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِكُمْ شَيْءٌ مِنْ الطِّبِّ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: رَسُولُنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ الطِّبَّ فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ؛ فَقَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ «الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ كُلِّ دَوَاءٍ وَأَعْطِ كُلَّ جِسْمٍ مَا عَوَّدْته» فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا تَرَكَ كِتَابُكُمْ، وَلَا نَبِيُّكُمْ لِجَالِينُوسَ طِبًّا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُقَالُ: إنَّ مُعَالَجَةَ الطَّبِيبِ نِصْفَانِ: نِصْفٌ دَوَاءٌ وَنِصْفٌ حِمْيَةٌ، فَإِنْ اجْتَمَعَا فَكَأَنَّك بِالْمَرِيضِ وَقَدْ بَرِئَ وَصَحَّ وَإِلَّا فَالْحِمْيَةُ بِهِ أَوْلَى إذْ لَا يَنْفَعُ دَوَاءٌ مَعَ تَرْكِ الْحِمْيَةِ وَقَدْ تَنْفَعُ الْحِمْيَةُ مَعَ تَرْكِ الدَّوَاءِ. وَلَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَصْلُ كُلِّ دَوَاءٍ الْحِمْيَةُ» وَالْمَعْنَى بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا تُغْنِي عَنْ كُلِّ دَوَاءٍ. وَلِذَلِكَ يُقَالُ: إنَّ أَهْلَ الْهِنْدِ جُلُّ مُعَالَجَتِهِمْ الْحِمْيَةُ يُمْنَعُ الْمَرِيضُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْكَلَامِ عِدَّةَ أَيَّامٍ فَيَبْرَأُ وَيَصِحُّ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَكْبَرُ الدَّوَاءِ تَقْدِيرُ الْغِذَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا شَافِيًا يُغْنِي عَنْ كُلِّ كَلَامِ الْأَطِبَّاءِ فَقَالَ «مَا مَلَأَ

ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ حَسْبُ ابْنَ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَوْ سَمِعَ بُقْرَاطُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ لَعَجِبَ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ. وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْبِطْنَةِ أَنْفَعُ مِنْ جَوْعَةٍ تَتْبَعُهَا. وَآكَدُ مَا عَلَى الْمَرِيضِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قُوَّةُ الْيَقِينِ وَالتَّصْدِيقُ نَحْوٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ فَيَمْشِي عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تُؤَثِّرُ بِذَوَاتِهَا، وَلَا بِخَاصِّيَّةٍ فِيهَا بَلْ بِمَحْضِ اعْتِقَادِهِ بِأَنَّهُ لَا فَاعِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِشَيْءٍ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ فِي شَيْءٍ فَالدَّوَاءُ لَا يَنْفَعُ بِنَفْسِهِ بَلْ الشِّفَاءُ وَغَيْرُهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَخْلُقُهُ عِنْدَهُ إنْ شَاءَ وَيَمْنَعُهُ إنْ شَاءَ وَيُمْرِضُ بِهِ إنْ شَاءَ وَمِثْلُهُ الْخُبْزُ لَا يُشْبِعُ بِنَفْسِهِ وَالْمَاءُ لَا يَرْوِي وَالنَّارُ لَا تُحْرِقُ وَالسِّكِّينُ لَا تَقْطَعُ فَلَوْ شَاءَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُشْبِعَ بِالْخُبْزِ لَفَعَلَ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا يَرْوِيَ بِالْمَاءِ لَفَعَلَ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى لَهُ قَالَ خَرَّجَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِإِسْنَادِهِ إلَى «أَبِي رِمْثَةَ قَالَ أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَبِي فَرَأَى الَّتِي بِظَهْرِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أُعَالِجُهَا فَإِنِّي طَبِيبٌ؟ قَالَ: لَا أَنْتَ رَفِيقٌ وَاَللَّهُ الطَّبِيبُ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ فِي هَذَا الْخَبَرِ قَالَ: «فَقَالَ لَهُ: أَرِنِي هَذِهِ الَّتِي بِظَهْرِك فَإِنِّي رَجُلٌ طَبِيبٌ؛ قَالَ: اللَّهُ الطَّبِيبُ بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيقٌ طَبِيبُهَا الَّذِي خَلَقَهَا» . قَالَ الْحَلِيمِيُّ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمُعَالِجَ لِلْمَرِيضِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَإِنْ كَانَ حَاذِقًا مُتَقَدِّمًا فِي صَنْعَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُحِيطُ عِلْمًا بِنَفْسِ الدَّوَاءِ وَإِنْ عَرَفَهُ وَمَيَّزَهُ فَلَا يَعْرِفُ مِقْدَارَهُ، وَلَا مِقْدَارَ مَا اسْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ بَدَنِ الْعَلِيلِ وَقُوَّتِهِ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَى مُعَالَجَتِهِ إلَّا مُصَمِّمًا عَالِمًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ رَأْيِهِ وَفَهْمِهِ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ فِي مَنْزِلَةِ الدَّوَاءِ كَمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي عِلْمِ الدَّاءِ فَهُوَ كَذَلِكَ رُبَّمَا يُصِيبُ وَرُبَّمَا يُخْطِئُ وَرُبَّمَا يَزِيدُ فَيَغْلُو وَرُبَّمَا يُنْقِصُ فَيَلْغُو. فَاسْمُ الرَّفِيقِ إذَنْ أَوْلَى بِهِ مِنْ اسْمِ الطَّبِيبِ؛ لِأَنَّهُ يَرْفُقُ بِالْعَلِيلِ فَيَحْمِيه مِمَّا يُخْشَى أَنْ لَا يَتَحَمَّلَهُ بَدَنُهُ وَبِسَقْيِهِ

مَا يَرَى أَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ. فَأَمَّا الطَّبِيبُ فَهُوَ الْعَالِمُ بِحَقِيقَةِ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ وَالْقَادِرُ عَلَى الصِّحَّةِ وَالشِّفَاءِ وَلَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلَّا الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ أَحَدٌ سِوَاهُ. ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنْ لَا طَبِيبَ، وَلَا شَافِيَ، وَلَا مُصَحِّحَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ خَلَقَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ فَهُوَ الطَّبِيبُ فَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَيَنْقَطِعُ إلَيْهِ وَيَعْتَصِمُ بِهِ وَيَلْجَأُ فِي مَرَضِهِ وَصِحَّتِهِ إلَيْهِ ثِقَةً بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَيَّامَ الْمَرَضِ وَأَيَّامَ الصِّحَّةِ فَلَوْ حَرَصَ الْخَلْقُ عَلَى تَقْلِيلِ ذَلِكَ أَوْ زِيَادَتِهِ لَمَا قَدَرُوا. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] ثُمَّ يَتَنَاوَلُ الدَّوَاءَ وَيَسْتَعْمِلُهُ كَمَا يَسْتَعْمِلُ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنْ أَوْصَلَهُ إلَى الدَّوَاءِ بَرِئَ وَإِنْ حَجَبَهُ بِمَانِعٍ يَمْنَعُهُ وَقَدَّرَ بِمَوْتِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ. لَكِنَّهُ مَأْجُورٌ عَلَى مَا أُمِرَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ. قَالَ اللَّهُ الْعَظِيمُ {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] وَقَالَ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: «قَالَتْ الْأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً إلَّا دَاءً وَاحِدًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ؟ قَالَ الْهَرَمُ» قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أَصَابَ دَوَاءٌ الدَّاءَ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى» هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي إبَاحَةِ الدَّوَاءِ وَالِاسْتِرْقَاءِ وَشُرْبِ الدَّوَاءِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي خُزَامَةَ بْنِ مَعْمَرٍ قَالَ «سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَأَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا أَتَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنْ لَا شَافِيَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ لَا شَافِيَ إلَّا أَنْتَ فَيَعْتَقِدَ الشِّفَاءَ لَهُ وَبِهِ وَمِنْهُ وَأَنَّ الْأَدْوِيَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ لَا تُوجِبُ شِفَاءً وَإِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ وَوَسَائِطُ يَخْلُقُ اللَّهُ عِنْدَهَا فِعْلَهُ وَهِيَ الصِّحَّةُ الَّتِي لَا يَخْلُقُهَا أَحَدٌ سِوَاهُ فَكَيْفَ يَنْسِبُهَا عَاقِلٌ إلَى جَمَادٍ مِنْ الْأَدْوِيَةِ أَوْ سِوَاهَا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَخَلَقَ الشِّفَاءَ بِدُونِ سَبَبٍ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الدُّنْيَا دَارَ أَسْبَابٍ جَرَتْ السُّنَّةُ فِيهَا بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ عَلَى تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ جِبْرِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيك وَاَللَّهُ يَشْفِيك» فَبَيَّنَ أَنَّ الرُّقْيَةَ مِنْهُ وَهِيَ سَبَبٌ لِفِعْلِ اللَّهِ وَهُوَ الشِّفَاءُ. وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ أَعْنِي الرُّقَى بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِالْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ وَذَلِكَ سُنَّةٌ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُنْهَى عَنْ الرُّقَى إذَا كَانَتْ بِاللُّغَةِ الْعَجَمِيَّةِ أَوْ بِمَا لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كُفْرٌ. وَلَا بَأْسَ بِالتَّدَاوِي بِالنَّشْرَةِ تُكْتَبُ فِي وَرَقٍ أَوْ إنَاءٍ نَظِيفٍ سُوَرٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْضُ سُوَرٍ أَوْ آيَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ مِنْ سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ مِثْلُ آيَاتِ الشِّفَاءِ. فَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ وَلَدَهُ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا قَالَ: حَتَّى أَيِسْتُ مِنْهُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيَّ فَرَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَشَكَوْت لَهُ مَا بِوَلَدِي فَقَالَ لِي: أَيْنَ أَنْتَ مِنْ آيَاتِ الشِّفَاءِ؟ فَانْتَبَهْت فَفَكَّرْت فِيهَا فَإِذَا هِيَ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] . {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] . {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] . {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44] قَالَ: فَكَتَبْتهَا فِي صَحِيفَةٍ ثُمَّ حَلَلْتهَا بِالْمَاءِ وَسَقَيْته إيَّاهَا فَكَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ أَوْ كَمَا قَالَ وَمَا زَالَ الْأَشْيَاخُ مِنْ الْأَكَابِرِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَكْتُبُونَ الْآيَاتِ مِنْ الْقُرْآنِ

وَالْأَدْعِيَةَ فَيُسْقَوْنَهَا لِمَرْضَاهُمْ وَيَجِدُونَ الْعَافِيَةَ عَلَيْهَا. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَزَالُ الْأَوْرَاقُ لِلْحُمَّى وَلِغَيْرِهَا عَلَى بَابِ الزَّاوِيَةِ فَمَنْ كَانَ بِهِ أَلَمٌ أَخَذَ وَرَقَةً مِنْهَا فَاسْتَعْمَلَهَا فَيَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ الْمَكْتُوبُ فِيهَا (اللَّهُ أَزَلِيٌّ لَمْ يَزَلْ، وَلَا يَزَالُ يُزِيلُ الزَّوَالَ وَهُوَ لَا يُزَالُ، وَلَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَكْثَرَ تَدَاوِيهِ بِالنَّشْرَةِ يَعْمَلُهَا لِنَفْسِهِ وَلِأَوْلَادِهِ وَلِأَصْحَابِهِ فَيَجِدُونَ عَلَى ذَلِكَ الشِّفَاءَ. وَأَخْبَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهَا لَهُ فِي الْمَنَامِ. ثُمَّ أَخْبَرَ مَرَّةً ثَانِيَةً أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: مَا تَعْلَمُ مَا أَعْمَلُهُ مَعَك وَمَعَ أَصْحَابِك فِي هَذِهِ النَّشْرَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ خَادِمُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَهِيَ هَذِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] إلَى آخِرِ السُّورَةِ. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] إلَى آخِرِ السُّورَةِ. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] كَامِلَةً. وَالْمُعَوِّذَتَانِ ثُمَّ تَكْتُبُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمُحْيِي وَأَنْتَ الْمُمِيتُ وَأَنْتَ الْخَالِقُ وَأَنْتَ الْبَارِئُ وَأَنْتَ الْمُبْتَلِي وَأَنْتَ الْمُعَافِي وَأَنْتَ الشَّافِي خَلَقْتنَا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ وَجَعَلْتنَا فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَسْمَائِك الْحُسْنَى وَصِفَاتِك الْعُلْيَا يَا مَنْ بِيَدِهِ الِابْتِلَاءُ وَالْمُعَافَاةُ وَالشِّفَاءُ وَالدَّوَاءُ. أَسْأَلُك بِمُعْجِزَاتِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَرَكَاتِ خَلِيلِك إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَحُرْمَةِ كَلِيمِك مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اشْفِهِ) وَأَعْطَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَشْرَةً أُخْرَى لِلْعَيْنِ وَهَذِهِ نُسْخَتُهَا تَكْتُبُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا ضُرَّ إلَّا ضُرُّك، وَلَا نَفْعَ إلَّا نَفْعُك، وَلَا ابْتِلَاءَ إلَّا ابْتِلَاؤُك، وَلَا مُعَافَاةَ إلَّا مُعَافَاتُك فَأَنْت الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يُجَاوِزُك ظُلْمُ ظَالِمٍ مِنْ إنْسٍ، وَلَا جِنٍّ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِك التَّامَّةِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ، وَلَا فَاجِرٌ مِنْ إنْسٍ وَجِنٍّ أَسْأَلُك بِصِفَاتِك الْعُلْيَا الَّتِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى وَصْفِهَا وَبِأَسْمَائِك الْحُسْنَى الَّتِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُحْصِيَهَا وَأَسْأَلُك بِذَاتِك

الْجَلِيلَةِ وَنُورِ وَجْهِك الْكَرِيمِ وَبَرَكَاتِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمِ أَنْبِيَائِك أَنْ تَشْفِيَهُ وَتُعَافِيَهُ وَتَرُدَّ مَا بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا) وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ أَكْمَلَ. وَصِفَةُ اسْتِعْمَالِهَا أَنْ يُكْتَبَ بِزَعْفَرَانٍ فِي إنَاءٍ نَظِيفٍ أَوْ فِي وَرَقَةٍ ثُمَّ يُغْسَلُ الْإِنَاءُ بِالْمَاءِ أَوْ تُحَلُّ الْوَرَقَةُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَشْرَبُ ذَلِكَ الْمَاءَ عَلَى الرِّيقِ ثُمَّ يَجْعَلُ يَدَيْهِ فِي الْبَلَلِ الَّذِي بَقِيَ فِي الْإِنَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا مَا أَمْكَنَهُ مِنْ بَدَنِهِ. وَقَدْ مَرِضَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَمِي إلَى الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ يَرَى فِي مَنَامِهِ أَشْيَاءَ تُرَوِّعُهُ وَيَفْزَعُ مِنْهَا فَشَكَا إلَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا بِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ نَشْرَةً فِي إنَاءٍ نَظِيفٍ بِزَعْفَرَانٍ وَيَشْرَبَهَا عَلَى الرِّيقِ وَهِيَ لِلسِّحْرِ وَالْغَمِّ وَالْأَمْرَاضِ. وَهَذِهِ نُسْخَتُهَا (تُكْتَبُ سُورَةُ يس وَالْوَاقِعَةِ وَالْفَاتِحَةِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَانِ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَآمَنَ الرَّسُولُ إلَى آخِرِ الْبَقَرَةِ وَقُلْ {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] فَإِذَا شَرِبَهَا يَأْخُذُ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً بَعْدَ أَنْ يَرْقِيَهَا بِرُقْيَةِ الزَّيْتِ الْمَرْقِيِّ وَيَأْكُلَهَا فَإِنَّ السِّحْرَ يَذْهَبُ عَنْهُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالزَّيْتُ الْمَرْقِيُّ صِفَتُهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ الزَّيْتِ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَهُ فِي إنَاءٍ نَظِيفٍ وَيَأْخُذَ عُودًا أَوْ غَيْرَهُ وَيُحَرِّكَ بِهِ الزَّيْتَ وَيَقْرَأَ عَلَيْهِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} [التوبة: 128] إلَى آخِرِ السُّورَةِ. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] وَ {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] إلَى آخِرِ السُّورَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَيَكْتُبُ لَهُ مَعَ هَذِهِ النَّشْرَةِ حِرْزًا يُعَلِّقُهُ عَلَيْهِ وَهَذِهِ نُسْخَتُهُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] إلَى آخِرِهَا. {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] . {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} [البقرة: 285] إلَى آخِرِ السُّورَةِ. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] . {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] إلَى آخِرِ السُّورَةِ

صفة دواء لوجع الأسنان

{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] إلَى آخِرِ السُّورَةِ. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] . {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46] . {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] . {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] إلَى آخِرِ السُّورَةِ {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] إلَى آخِرِ السُّورَةِ. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ. {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] . اللَّهُمَّ لَا حِجَابَ إلَّا حِجَابُك، وَلَا سِتْرَ إلَّا سِتْرُك فَاحْجُبْ عَنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ " بِاسْمِ الشَّخْصِ وَاسْمِ أَبِيهِ " بِفَضْلِك كُلَّ سِحْرٍ وَشَرَّ كُلِّ إنْسٍ وَجَانٍّ وَأَسْأَلُك اللَّهُمَّ بِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَكَلِمَاتِك التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ، وَلَا فَاجِرٌ أَنْ تَمْنَعَ بِهَذَا الْحِرْزِ الْمُنَزَّلِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مِنْ شَرِّ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَشَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ مَا عُلِمَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ إلَّا أَنْتَ وَسَاكِنِهِ وَجَمِيعِ مَا فِيهِ بِرَحْمَتِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ) فَاسْتَعْمَلَ النَّشْرَةَ الْمَذْكُورَةَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ هَذَا الْحِرْزَ الْمَذْكُورَ فَبَرِئَ مِمَّا كَانَ بِهِ. وَالزَّيْتُ الْمَرْقِيُّ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَنْفَعُ لِجَمِيعِ الْأَمْرَاضِ وَأَنَّ صِفَةَ اسْتِعْمَالِهِ أَنْ يَجْلِسَ فِي الشَّمْسِ قَلِيلًا وَيَدْهُنَ بِهِ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْأَلَمُ فَيَبْرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ الْوَجَعُ شَدِيدًا جَعَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ الِادِّهَانِ بِهِ إمَّا الْمَصْطَكَى وَإِمَّا الشُّونِيزُ وَهُوَ الْكَمُّونُ الْأَسْوَدُ بَعْدَ دَقِّهِ. [صِفَةُ دَوَاءٍ لِوَجَعِ الْأَسْنَانِ] ِ مَرِضَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِوَجَعِ الْأَسْنَانِ حَتَّى امْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ وَالْكَلَامِ بِسَبَبِهِ وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ يَمْرَضُ بِذَلِكَ وَيَتَدَاوَى لَهُ فَوَقَعَ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنَّهُ لَا يَتَدَاوَى لَعَلَّهُ يَدْخُلُ بِذَلِكَ مَعَ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَتَرَكَ التَّدَاوِي

صفة دواء للدوخة التي في الرأس

بِهَذِهِ النِّيَّةِ فَزَادَ الْأَمْرُ بِهِ فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنَامِهِ فَشَكَا لَهُ مَا بِهِ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَوْ عَلِمْت مَا لَك مِنْ الْأَجْرِ مَا شَكَوْت وَلَكِنْ خُذْ السَّعْتَرَ الْبَرِّيَّ وَالْمِلْحَ الْجَيْدَرانِيَّ وَدُقَّ السَّعْتَرَ وَغَرْبِلْهُ بِخِرْقَةٍ وَخُذْ مِنْهُ الثُّلُثَيْنِ وَمِنْ الْمِلْحِ الْجَيْدَرانِيِّ بَعْدَ دَقِّهِ الثُّلُثَ وَاخْلِطْهُمَا مَعًا فَإِذَا جِئْت عِنْدَ النَّوْمِ اسْتَكْ بِخِرْقَةِ صُوفٍ وَإِنْ كَانَتْ تُقَرِّحُ الْأَسْنَانَ لَكِنْ مَا عَلَيْك ثُمَّ ذَرْ عَلَى الْأَسْنَانِ الَّتِي تُؤْلِمُك مِنْهُ قَلِيلًا تَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَفَعَلَ ذَلِكَ فَبَرِئَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَبْرَأُ. وَالسَّعْتَرُ الْبَرِّيُّ هُوَ السَّعْتَرُ الشَّامِيُّ وَالْمِلْحُ الْجَيْدَرانِيُّ هُوَ الْمِلْحُ الأندراني. [صِفَةُ دَوَاءٍ لِلدَّوْخَةِ الَّتِي فِي الرَّأْسِ] ِ شَكَا بَعْضُ النَّاسِ بِدَوْخَةٍ فِي رَأْسِهِ فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ فَأَعْطَاهُ هَذَا الدَّوَاءَ لِهَذَا الْمَرَضِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ قِرْفَةً وَزَنْجَبِيلًا وَقُرُنْفُلًا وَجَوْزَةَ طِيبٍ وَسُنْبُلًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ وَوَزْنُ دِرْهَمَيْنِ مِنْ الشُّونِيزِ يُدَقُّ الْجَمِيعُ ثُمَّ يُطْبَخُ وَيُعْقَدُ بِعَسَلِ النَّحْلِ فَإِذَا قَرُبَ اسْتِوَاؤُهُ عُصِرَ عَلَيْهِ قَلِيلٌ مِنْ اللَّيْمُونِ وَيَكُونُ الْعَسَلُ النَّحْلُ غَالِبًا عَلَيْهِ فَفَعَلَهُ فَبَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. [صِفَةُ دَوَاءٍ لِلْحَصْبَةِ] ِ مَرِضَ بَعْضُ الْفُقَرَاءِ بِالْحَصْبَةِ فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ فَأَعْطَاهُ هَذَا الدَّوَاءَ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ عَسَلِ النَّحْلِ وَشَيْئًا مِنْ خَلِّ الْعِنَبِ وَشَيْئًا مِنْ الزَّيْتِ الْمَرْقِيِّ وَيَخْلِطُ الْجَمِيعَ وَيَدَّهِنُ بِهِ فَعَمِلَهُ فَبَرِئَ. [صِفَةُ دَوَاءٍ لِضَعْفِ الْبَصَرِ] ِ مَرِضَ بَعْضُ النَّاسِ بِعَيْنَيْهِ مَرَضًا شَدِيدًا حَتَّى إنَّهُ كَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَيْهِ بِالنَّهَارِ حَتَّى يُغَطِّيَ عَيْنَيْهِ بِشَيْءٍ يَقِي مِنْ ضَوْءِ النَّهَارِ فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ وَهُوَ يُشِيرُ بِهَذَا الدَّوَاءِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ حَجَرَ كُحْلِ الْإِثْمِدِ وَيُحْمِيَهُ

صفة دواء لنزول الدم والقولنج

فِي النَّارِ فَإِذَا حَمِيَ أَخْرَجَهُ وَأَطْفَأَهُ فِي الزَّيْتِ الْمَرْقِيِّ ثُمَّ يَطْحَنُهُ وَيَكْتَحِلَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَبَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. [صِفَةُ دَوَاءٍ لِنُزُولِ الدَّمِ وَالْقُولَنْجِ] ِ مَرِضَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَمِي إلَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِذَلِكَ فَشَكَا مَا بِهِ لَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ فَأَشَارَ بِهَذَا الدَّوَاءِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ وَزْنَ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ عَسَلِ النَّحْلِ وَوَزْنَ دِرْهَمٍ وَنِصْفٍ مِنْ الزَّيْتِ الْمَرْقِيُّ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ حَبَّةً مِنْ الشُّونِيزِ وَيَخْلِطَ الْجَمِيعَ ثُمَّ يُفْطِرَ عَلَيْهِ وَيَفْعَلَ مِثْلَهُ عِنْدَ النَّوْمِ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَبْرَأَ وَتُعْمَلُ لَهُ التَّلْبِينَةُ وَيَسْتَعْمِلُهَا بَعْدَ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صِفَتُهَا. وَيَكُونُ غِذَاؤُهُ مَسْلُوقَةَ الدَّجَاجِ أَوْ لَحْمَ الضَّأْنِ فَجَاءَ إلَى الْمَرِيضِ بَعْضُ مَنْ يَشْتَغِلُ بِالطِّبِّ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ وَمَا يَتَدَاوَى بِهِ وَمَا هُوَ غِذَاؤُهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَقَالَ لَهُ لَا تَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَقَالَ لَهُ الْمَرِيضُ: لَا أَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ مَا أَشَارَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ رَاجِعْهُ فَإِنْ بَقِيَ عَلَى قَوْلِهِ فَافْعَلْ فَرَاجَعَهُ فَخَرَجَ الْجَوَابُ عَلَى لِسَانِ خَادِمِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ الشَّيْخَ انْزَعَجَ وَقَالَ: إنْ أَرَدْت أَنْ تَفْعَلَهُ فَافْعَلْهُ وَإِنْ لَمْ تُرِدْ فَارْمِهِ فِي الْبَحْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ " يَعْنِي نَفْسَهُ " مَا أَعْطَاك شَيْئًا وَإِنَّمَا أَعْطَاكَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرْنَاك حَيْثُ جِئْت بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَسَتَلْقَاهَا فَأَقْبَلَ الْمَرِيضُ عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَفَعَلَهُ فَبَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ تَعِبَ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ. [صِفَةُ دَوَاءٍ لِلشَّعْرِ الَّذِي يَخْرُجُ فِي الْعَيْنِ] ِ اشْتَدَّ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ الشَّعْرُ الَّذِي يَخْرُجُ فِي عَيْنَيْهِ فَشَكَا ذَلِكَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُشِيرُ بِأَخْذِ الْإِثْمِدِ وَيَشْوِيه فِي النَّارِ ثُمَّ يَدُقُّهُ وَيَعْجِنُهُ بِالزَّيْتِ الْمَرْقِيِّ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَيَشْوِيه فِي النَّارِ ثُمَّ يَدُقُّهُ وَيَعْجِنُهُ بِالزَّيْتِ

صفة دواء لضعف المعدة

الْمَذْكُورِ يَفْعَلُ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَدُقُّهُ وَيَكْتَحِلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا إنْ قَدَرَ فَفَعَلَ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ سَابِعِ مَرَّةٍ جَاءَ لِيَدُقَّهُ فَلَمْ يَقْدِرْ لِكَثْرَةِ رُطُوبَتِهِ وَنُعُومَتِهِ فَعَمِلَ مِنْهُ مِثْلَ الْمِيلِ الَّذِي يُكْتَحَلُ بِهِ وَجَعَلَ يَكْتَحِلُ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَبَرِئَ وَزَادَ بَصَرُهُ حُسْنًا وَقُوَّةً. [صِفَةُ دَوَاءٍ لِضَعْفِ الْمَعِدَةِ] ِ مَرِضَ بَعْضُ النَّاسِ بِمَعِدَتِهِ فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُشِيرُ بِهَذَا الدَّوَاءِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الرِّيقِ وَزْنَ دِرْهَمٍ مِنْ الْوَرْدِ الْمُرَبَّى وَيَكُونَ مَلْتُوتًا بِالْمُصْطَكَى بَعْدَ دَقِّهَا وَيَجْعَلَ فِيهِ سَبْعَ حَبَّاتٍ مِنْ الشُّونِيزِ يَفْعَلُ ذَلِكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَفَعَلَهُ فَبَرِئَ. [صِفَةُ دَوَاءٍ لِلنَّزْلَةِ] ِ مَرِضَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الزُّكَامُ فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُشِيرُ بِهَذَا الدَّوَاءِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْقِرْفَةَ وَالْفُلَيَّةَ وَبِزْرَ قَطُونَا والكثيراء وَالْأَنِيسُونَ وَالشُّونِيزَ وَأَنْ يَدُقَّ الشُّونِيزَ وَيَخْلِطَ الْجَمِيعَ وَيَشُمَّهُ فَأَخَذَ هَذَا الْجَمِيعَ وَدَقَّهُ وَجَعَلَهُ فِي خِرْقَةٍ وَشَمَّهُ فَبَرِئَ. [صِفَةُ دَوَاءٍ لِقَطْعِ الدَّمِ إذَا جَرَى عَقِيبَ السِّقْطِ كَثِيرًا] وَقَعَ ذَلِكَ لَزَوْجَةِ بَعْضِ النَّاسِ وَكَانَ قَدْ جَرَى لَهَا دَمٌ كَثِيرٌ حَتَّى أَضْعَفَهَا فَشَكَا ذَلِكَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُشِيرُ بِهَذَا الدَّوَاءِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الرِّيقِ عَسَلَ النَّحْلِ بَعْدَ لَتِّهِ بِالشُّونِيزِ يَفْعَلُ ذَلِكَ أُسْبُوعَيْنِ وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأُسْبُوعِ الْأَوَّلِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً يَأْكُلُهَا بَعْدَ مَا يَرْقِيهَا بِرُقْيَةِ الزَّيْتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةَ آيَةِ السِّحْرِ مِنْ الْبَقَرَةِ وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِ {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]

صفة دواء لوجع الظهر

إلَى قَوْلِهِ {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] وَسُورَةِ الْوَاقِعَةِ فَفَعَلَتْ فَصَحَّتْ وَبَرِئَتْ. [صِفَةُ دَوَاءٍ لِوَجَعِ الظَّهْرِ] ِ مَرِضَ بَعْضُ النَّاسِ بِظَهْرِهِ فَشَكَا ذَلِكَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُشِيرُ بِهَذَا الدَّوَاءِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْعَسَلَ النَّحْلَ وَالشُّونِيزَ وَدُهْنَ الْأَلْيَةِ وَالزَّيْتَ الْمَرْقِيَّ وَرَقِيقَ الْبَيْضَةِ وَيَخْلِطَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَمُدَّهُ عَلَى الْمَوْضِعِ وَيَذَرَّ عَلَيْهِ دَقِيقَ الْعَدَسِ بِقِشْرِهِ مَعَ الْحَرْمَلِ بَعْدَمَا يُدَقُّ دَقًّا نَاعِمًا حَتَّى يَعُودَ مِثْلَ الدَّقِيقِ فَفَعَلَهُ فَبَرِئَ. [صِفَةُ دَوَاءٍ لِلْحَرَارَةِ الَّتِي تَكُونُ تَحْتَ الْقَدَمِ] ِ مَرِضَ بَعْضُ النَّاسِ بِحَرَارَةٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَشَكَا ذَلِكَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُشِيرُ بِهَذَا الدَّوَاءِ وَهُوَ أَنْ يَدْهُنَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُؤْلِمُهُ بِدُهْنِ الْوَرْدِ الشَّيْرَجِيِّ وَيَجْعَلَ مَعَهُ خَلَّ عِنَبٍ وَيَجْعَلَهُ فِي الشَّمْسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ أَنْ يَرْقِيَ ذَلِكَ بِرُقْيَةِ الزَّيْتَ الْمُتَقَدِّم ذِكْرُهَا فَأَوَّلُ يَوْمٍ دَهَنَ بِهِ بَرِئَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ [صِفَةُ دَوَاءٍ لِسَلَسِ الرِّيحِ] ِ مَرِضَ بَعْضُ النَّاسِ بِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلشَّيْخِ فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُشِيرُ بِهَذَا الدَّوَاءِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الشُّونِيزِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَمِنْ الْخُزَامَى دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وَمِنْ الْكَمُّونِ الْأَبْيَضِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَمِثْلَهُ مِنْ السَّعْتَرِ الشَّامِيِّ وَمِثْلَهُ مِنْ الْفُلَيَّةِ وَوَزْنَ دِرْهَمٍ مِنْ الْبَلُّوطِ وَهُوَ ثَمَرَةُ الْفُؤَادِ وَأُوقِيَّةً مِنْ الزَّيْتِ الْمَرْقِيِّ وَيَجْعَلَ فِيهِ مِنْ الْعَسَلِ النَّحْلِ مَا يُعْتَدُّ بِهِ وَهُوَ رُبُعُ رِطْلٍ وَيَأْخُذَ مِنْهُ غَدْوَةَ النَّهَارِ وَزْنَ دِرْهَمَيْنِ عَلَى الرِّيقِ وَعِنْدَ النَّوْمِ وَزْنَ دِرْهَمٍ وَنِصْفٍ فَاسْتَعْمَلَهُ فَبَرِئَ ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ فِي النَّوْمِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِهَذَا

صفة دواء للشدة إذا وقعت بالإنسان أو توقعها

الدَّوَاءِ: إنَّهُ يَنْفَعُ لِأَدْوَاءَ وَهِيَ الرِّيحُ وَسَلَسُ الرِّيحِ وَالْمَعِدَةُ وَبُرُودَتُهَا وَوَجَعُ الْفُؤَادِ وَلِأَلَمِ الْحَيْضِ وَأَلَمِ النِّفَاسِ وَلِتَعَقُّدِ الرِّيَاحِ. [صِفَةُ دَوَاءٍ لِلشِّدَّةِ إذَا وَقَعَتْ بِالْإِنْسَانِ أَوْ تَوَقَّعَهَا] وَقَعَ بَعْضُ النَّاسِ فِي شِدَّةٍ كَبِيرَةٍ فَشَكَا ذَلِكَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُشِيرُ عَلَى الشَّخْصِ بِأَنْ يُسَبِّحَ مِائَةَ مَرَّةٍ وَيُحَمِّدَ مِائَةَ مَرَّةٍ وَيُكَبِّرَ مِائَةَ مَرَّةٍ وَيَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَيَقُولَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يُصَلِّيَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَيَدْعُوَ بَعْدَهَا بِمَا يَظْهَرُ لَهُ ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقْرَأَ فِي الْخَتْمَةِ خَمْسِينَ آيَةً مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ رَكْعَةً ثُمَّ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَهُوَ (اللَّهُمَّ لَا فَرَجَ إلَّا فَرْجُك فَفَرِّجْ عَنَّا كُلَّ شِدَّةٍ وَكُرْبَةٍ يَا مَنْ بِيَدِهِ مَفَاتِيحُ الْفَرَجِ وَاكْفِنَا شَرَّ مَنْ يُرِيدُ ضُرَّنَا مِنْ إنْسٍ وَجِنٍّ وَادْفَعْهُ عَنَّا بِيَدِك الْقَوِيَّةِ بِإِذْنِك وَقُدْرَتِك إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَفَعَلَهُ فَذَهَبَتْ تِلْكَ الشِّدَّةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا ذَلِكَ الشَّخْصُ وَكَانَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ فِي النَّوْمِ لِلَّذِي أَخْبَرَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّسْبِيحِ وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ: إنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا صَادِقًا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ شِدَّتَهُ فِي يَوْمِهِ، وَلَوْ كَانَتْ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ [صِفَةُ دَوَاءٍ لِوَجَعِ الْيَدَيْنِ] ِ مَرِضَ بَعْضُ النَّاسِ بِوَجَعِ الْيَدَيْنِ فَذَكَرَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُشِيرُ بِهَذَا الدَّوَاءِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الزَّيْتِ الْمَرْقِيِّ أُوقِيَّةً وَمِنْ دُهْنِ الْأَلْيَةِ رُبُعَ أُوقِيَّةٍ وَمِنْ دُهْنِ الْبَابُونَجِ رُبُعَ أُوقِيَّةٍ وَمِنْ دُهْنِ الْبَنَفْسَجِ رُبُعَ أُوقِيَّةٍ وَمِنْ عَسَلِ النَّحْلِ رُبُعَ أُوقِيَّةٍ؛ وَتَكُونُ هَذِهِ الْأَدْهَانُ مَرْقِيَّةً بِرُقْيَةِ الزَّيْتِ وَمِنْ الْخُزَامَى دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وَمِنْ الشُّونِيزِ دِرْهَمَيْنِ وَمِنْ الزَّاجِ دِرْهَمًا وَنِصْفًا وَيَجْعَلَ

صفة دواء لبرودة المعدة

الْكُلَّ عَلَى النَّارِ حَتَّى يَخْتَلِطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَيَدَّهِنَ بِهِ فَإِنْ زَالَ وَإِلَّا جَعَلَ فِي الْحِنَّاءِ وَطَلَى بِهِ الْيَدَ فَإِنَّهَا تَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى [صِفَةُ دَوَاءٍ لِبُرُودَةِ الْمَعِدَةِ] ِ مَرِضَ بَعْضُ النَّاسِ بِذَلِكَ فَشَكَا لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُشِيرُ بِهَذَا الدَّوَاءِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ أُوقِيَّةً وَنِصْفًا مِنْ عَسَلِ النَّحْلِ وَدِرْهَمَيْنِ مِنْ الشُّونِيزِ وَدِرْهَمَيْنِ مِنْ الْأَنِيسُونِ وَنِصْفَ أُوقِيَّةٍ مِنْ النُّعْنُعِ الْأَخْضَرِ وَمِنْ الْقُرُنْفُلِ نِصْفَ دِرْهَمٍ وَمِنْ الْقِرْفَةِ نِصْفَ دِرْهَمٍ وَشَيْئًا مِنْ قِشْرِ اللَّيْمُونِ مَعَ قَلِيلٍ مِنْ الْخَلِّ وَيَعْقِدَ ذَلِكَ عَلَى النَّارِ فَاسْتَعْمَلَهُ فَبَرِئَ [صِفَةُ دَوَاءٍ لِلْمَغَصِ] ِ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَبِيتَ إلَّا وَيَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ الْكَرَاوْيَا شَيْءٌ فَإِنَّهَا تَنْفَعُ لِلرِّيحِ وَالْمَغَصِ وَالْقُولَنْجِ حِينَ اسْتِعْمَالِهَا وَقَدْ جَرَّبَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ فَوَجَدَهُ كَمَا قَالَ [صِفَةُ دَوَاءٍ يُفْعَلُ لِعُسْرِ النِّفَاسِ] ِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُكْتَبُ فِي آنِيَةٍ جَدِيدَةٍ (اُخْرُجْ أَيُّهَا الْوَلَدُ مِنْ بَطْنٍ ضَيِّقٍ وَمِنْ تَحْتِ ضِيقٍ إلَى سِعَةِ هَذِهِ الدُّنْيَا اُخْرُجْ بِقُدْرَةِ الَّذِي جَعَلَك فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] إلَى آخِرِ السُّورَةِ {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] وَتَشْرَبُهَا النُّفَسَاءُ وَيُرَشُّ مِنْهُ عَلَى وَجْهِهَا. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَذْته عَنْ بَعْضِ السَّادَةِ الْمُبَارَكِينَ فَمَا كَتَبْته لِأَحَدٍ إلَّا نَجَحَ فِي وَقْتِهِ [صِفَةُ دَوَاءٍ لِلثِّقَلِ] ِ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا شَكَا لَهُ أَحَدٌ بِمَرَضِ الثِّقَلِ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَأْخُذَ لَبِنَةً مِنْ الطُّوبِ

صفة دواء للبرودة التي تكون في الدماغ

النِّيءِ وَيَجْعَلَهَا فِي الْفُرْنِ حَتَّى تَحْمَى ثُمَّ يَخْرُجَهَا وَيَجْعَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الْفُلَيَّةِ وَيَأْخُذَ خِرْقَةً فَيَبُلَّهَا بِالْمَاءِ ثُمَّ يَجْعَلَهَا فَوْقَ ذَلِكَ ثُمَّ يَجْلِسَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ وَيَتَحَمَّلَ حَرَارَتَهَا مَا قَدَرَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ تَبْرُدَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَرَّةً فِي كُلِّ يَوْمٍ حَتَّى يَبْرَأَ وَقَدْ جَرَّبَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فَبَرِئَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ [صِفَةُ دَوَاءٍ لِلْبُرُودَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الدِّمَاغِ] ِ يَأْخُذُ مَنْ يَشْتَكِي ذَلِكَ مِحْجَمَةً طَاهِرَةً فَيَجْعَلُ فِيهَا شَيْئًا مِنْ الرَّمَادِ أَوْ الرَّمْلِ ثُمَّ يَأْخُذَ جَمْرَةً مِنْ النَّارِ فَيَجْعَلَهَا فَوْقَ ذَلِكَ ثُمَّ يَأْخُذَ خِرْقَةً صَغِيرَةً وَيَبُلَّهَا بِالْمَاءِ وَيُدِيرَهَا عَلَى فَمِ الْمِحْجَمَةِ لِئَلَّا يَتَأَذَّى الْعُضْوُ بِهَا ثُمَّ يَجْعَلَ فَمَ الْمِحْجَمَةِ عَلَى صُدْغِهِ الْأَيْمَنِ وَيَشُدَّ عَلَيْهِ وَيُمِيلَ رَأْسَهُ عَلَيْهَا وَيُمْسِكَ الْمِحْجَمَةَ بِيَدِهِ إنْ قَدَرَ وَإِلَّا فَيُمْسِكَهَا بِحَائِلٍ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْحَرَارَةِ إلَى يَدِهِ الَّتِي يُمْسِكُهَا بِهَا يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا كُلَّ مَرَّةٍ بِجَمْرَةٍ حَتَّى تَنْطَفِئَ تِلْكَ الْجَمْرَةُ ثُمَّ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَلَى الصُّدْغِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ عَلَى أَعْلَى الْجَبْهَةِ مِنْ وَسَطِهَا ثُمَّ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ عَلَى مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ مِنْ الْقَفَا، فَإِنْ بَقِيَ فِي الدِّمَاغِ مِنْ الْبُرُودَةِ شَيْءٌ فَتُعَادُ الْمِحْجَمَةُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ يَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ جَرَّبَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ فَبَرِئَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَهَذَا يُغْنِي عَنْ أَخْذِ الدَّوَاءِ لِتِلْكَ الْبُرُودَةِ وَعَنْ الْكَيِّ بِالنَّارِ. فَهَذِهِ هِيَ النَّشْرَةُ وَالْأَدْوِيَةُ الَّتِي يُتَدَاوَى بِهَا، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهَا. [النَّشْرَةُ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْمُعَزِّمُونَ] وَأَمَّا النَّشْرَةُ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْمُعَزِّمُونَ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ كَانَتْ فَلَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ فِي شَيْءٍ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، وَلَوْ كَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِمْ مَعْرُوفًا؛ لِأَنَّهُمْ يَتَلَفَّظُونَ مَعَ ذَلِكَ بِلَفْظٍ لَا يُعْرَفُ كَمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَرَقَةِ الَّتِي يَكْتُبُهَا مَنْ انْغَمَسَ فِي الْجَهْلِ فِي آخِرِ جُمُعَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ مَا فِيهَا مَعْرُوفًا لَكِنْ مَنَعُوهَا لِأَجْلِ اللَّفْظَةِ الَّتِي فِيهَا وَهِيَ مَعْلُومَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ كُفْرٌ

التداوي باليسير من الخمر

وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ كُلُّ مَا أَشْبَهَهُ مِثْلُ مَنْ يَكْتُبُ فِي وَرَقَةٍ أَوْ يَنْقُشُ فِي شَقَفَةٍ أَوْ فِي جِدَارٍ شَيْئًا بِلَفْظٍ لَا يُعْرَفُ وَيَزْعُمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَدْفَعُ السِّحْرَ أَوْ الْعَيْنَ أَوْ الْبَقَّ أَوْ الْبُرْغُوثَ أَوْ النَّمْلَ أَوْ الْحَيَّةَ أَوْ الْعَقْرَبَ أَوْ الْفَأْرَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ يَنْفَعُ لِمَا ذَكَرُوهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ شَرْعًا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ وَإِنْ تَحَقَّقَتْ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ. [التَّدَاوِي بِالْيَسِيرِ مِنْ الْخَمْرِ] وَقَدْ مَنَعَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ التَّدَاوِي بِالْيَسِيرِ مِنْ الْخَمْرِ، وَكَذَلِكَ التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» فَحُصُولُ الشِّفَاءِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْأَدْوِيَةِ الْجَائِزِ اسْتِعْمَالُهَا مَظْنُونٌ فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُعْمَدَ إلَى فِعْلِ شَيْءٍ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شِفَاءٌ هَذَا بَعِيدٌ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا النَّفْثُ عَقِيبَ الرَّقْيِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفَائِدَةُ النَّفْثِ التَّبَرُّكُ بِتِلْكَ الرُّطُوبَةِ أَوْ الْهَوَاءِ أَوْ النَّفَسِ الْمُبَاشِرِ لِلرُّقْيَةِ وَالذِّكْرِ الْحَسَنِ كَمَا يُتَبَرَّكُ بِغُسَالَةِ مَا يُكْتَبُ مِنْ الذِّكْرِ وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْفُثُ إذَا رَقَى نَفْسَهُ وَكَانَ يَكْرَهُ الرُّقْيَةَ بِالْحَدِيدَةِ وَالْمِلْحِ الَّذِي يُعْقَدُ وَاَلَّذِي يَكْتُبُ خَاتَمَ سُلَيْمَانَ وَالْعَقْدُ عِنْدَهُ أَشَدُّ كَرَاهَةً لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُشَابَهَةِ السِّحْرِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قَرَصَ أَحَدَهُمْ ثُعْبَانٌ أَوْ عَقْرَبٌ أَخَذُوا سِكِّينًا وَجَعَلُوهَا عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَلَ السُّمُّ إلَيْهِ وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِقَوْلِ الْمَلْسُوعِ وَيُمِرُّونَهَا عَلَى بَدَنِ الْمَلْسُوعِ إلَى مَوْضِعِ اللَّسْعَةِ وَيَتَكَلَّمُونَ حِينَئِذٍ بِكَلَامٍ أَعْجَمِيٍّ لَا يُعْرَفُ. وَمِنْ ذَلِكَ الطَّاسَةُ الَّتِي يَعْمَلُهَا بَعْضُهُمْ أَوْ الْإِنَاءُ وَقَدْ صَوَّرُوا فِيهَا تَصَاوِيرَ مَمْنُوعَةً وَيَعْمَلُونَ فِيهَا الْمَاءَ وَيَسْقُونَهُ لِلْمَلْسُوعِ أَوْ مَنْ عَضَّهُ كَلْبٌ وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يَسُوغُ؛ لِأَنَّ التَّصَاوِيرَ مُحَرَّمَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ الشِّفَاءُ فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تَكَلَّمَ فِي مَجْلِسِهِ فَقَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رُقَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ

فصل في الطبيب إذا أراد الخروج من بيته إلى المسجد

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْيَانًا تُوجِعُنِي عَيْنِي فَآتِي إلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَيَرْقِيهَا فَأَسْتَرِيحُ أَوْ كَمَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنَّ الشَّيْطَانَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى عَيْنِك فَيُوجِعُهَا ثُمَّ يُوَسْوِسُ لَك حَتَّى تَأْتِيَ إلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَإِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِ رَفَعَ الشَّيْطَانُ يَدَهُ عَنْ عَيْنِك أَوْ كَمَا قَالَ وَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَعُودَ لِمِثْلِهَا» لَقَدْ فَتَحَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْبَابَ وَأَوْضَحَ وَبَيَّنَ كَيْفِيَّةَ تَلَقِّي أَمْرِ الشَّارِعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ يَأْمُرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا بِوَحْيِ إلْهَامٍ وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَكِلَاهُمَا يَتَعَيَّنُ قَبُولُهُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا جَرَى فِي قِصَّةِ «الَّذِي شَكَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَطْنَ أَخِيهِ فَأَمَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَسْقِيَهُ عَسَلًا فَفَعَلَ، ثُمَّ شَكَا لَهُ فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا فَفَعَلَ، ثُمَّ شَكَا لَهُ فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا فَفَعَلَ، ثُمَّ شَكَا لَهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك اسْقِهِ عَسَلًا فَسَقَاهُ فَبَرِئَ» . قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي مَعْنَى ذَلِكَ: إنَّ الْعَسَلَ الَّذِي شَرِبَهُ الْمَرِيضُ بِبَطْنِهِ كَانَ فِيهِ الشِّفَاءُ فَلَمْ يَزَلْ يُخْرِجُ مَادَّةَ الْمَرَضِ حَتَّى لَمْ يُبْقِ شَيْئًا فَحِينَئِذٍ انْقَطَعَ انْطِلَاقُ بَطْنِهِ وَكَانَ الَّذِي ظَهَرَ لِأَخِيهِ أَنَّ الْعَسَلَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِسَبَبِهِ شِفَاءٌ وَكَانَ الشِّفَاءُ قَدْ حَصَلَ [فَصْلٌ فِي الطَّبِيبِ إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ يَنْوِيَ تِلْكَ النِّيَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي حَقِّ الْعَالِمِ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمُ الْأَدْيَانِ وَعِلْمُ الْأَبَدَانِ، وَكِلَاهُمَا إذَا تَخَلَّصَتْ النِّيَّةُ فِيهِ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ فَيَدْخُلُ فِي عَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يُرِيدُ عَلَيْهِ عِوَضًا مِنْ الدُّنْيَا وَيَنْوِي بِذَلِكَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فِي التَّطَبُّبِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ إعَانَةِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَكَشْفِ الْكَرْبِ عَنْهُمْ وَمُشَارَكَتِهِمْ فِي مَصَائِبِهِمْ وَالنَّوَازِلِ الَّتِي تَنْزِلُ بِهِمْ. وَيَنْوِي السَّتْرَ عَلَى عَوْرَاتِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَطَّلِعُ إلَّا عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِمَّا دَعَتْ الضَّرُورَةُ الشَّرْعِيَّةُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى يُؤْمَرُ الْمَرِيضُ وَمَنْ

فصل لا يقعد مع الطبيب غيره ممن يظن المريض لا يريد مجالسته

تَوَلَّى أَمْرَهُ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَا إلَّا مَنْ يُرْتَضَى حَالُهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَيَنْوِي الشَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ أَعْطَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا وَأَخَذَهُ فَيَأْخُذُهُ بِنِيَّةِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ كَمَا مَضَى فِي حَقِّ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ فِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِهِمَا الْمَعْلُومِ وَتَرْكِهِ وَانْقِطَاعِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي بَابِهِ. فَالطَّبِيبُ مُشَارِكٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. أَعْنِي فِي مُبَاشَرَتِهِ مَنْ يُعْطِيهِ وَمَنْ لَا يُعْطِيهِ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ عِنْدَهُ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ بَلْ يَكُونُ الَّذِي لَا يُعْطِيه عِنْدَهُ أَعْظَمَ؛ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى وَانْتَفَتْ عَنْهُ حُظُوظُ النَّفْسِ. ثُمَّ يُضِيفُ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النِّيَّاتِ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ لِيَتَضَاعَفَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الثَّوَابُ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى مَا مَرَّ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ تَرَكَ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ وَاشْتَغَلَ بِأَدَاءِ فَرْضِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمَرِيضِ وَعَلَى وَلِيِّهِ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَا مِنْ الْأَطِبَّاءِ إلَّا مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِالدِّينِ وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِمَا يَصِفُهُ فِي مُهَجِ الْمَرْضَى. وَيَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا جَلَسَ عِنْدَ الْمَرِيضِ أَنْ يُؤْنِسَهُ بِبَشَاشَةِ الْوَجْهِ وَطَلَاقَتِهِ وَيُهَوِّنَ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْمَرَضِ وَيَقْصِدَ بِذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ أَحْكَمَتْ أَنَّ الْمَرِيضَ يُطَوِّلُ لَهُ الزَّائِرُ فِي أَجَلِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ [فَصْلٌ لَا يَقْعُدَ مَعَ الطَّبِيبِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يُظَنُّ الْمَرِيضَ لَا يُرِيدُ مجالسته] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْعُدَ مَعَ الطَّبِيبِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ بِهِ أَمْرَاضٌ لَا يُرِيدُ أَنْ يُطْلِعَ عَلَيْهَا أَحَدًا سِيَّمَا الْعُلَمَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مِنْ كُنُوزِ الْبِرِّ كِتْمَانُ الْمَصَائِبِ» فَإِذَا اُضْطُرُّوا إلَى ذِكْرِ مَا نَزَلَ بِهِمْ اقْتَصَرُوا فِيهِ عَلَى الطَّبِيبِ خَاصَّةً وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشَّكْوَى كُلُّهَا مَذْمُومَةٌ إلَّا لِثَلَاثٍ: طَالِبِ عِلْمٍ يَشْكُو إلَى عَالِمٍ دَاءَ فَهْمِهِ، وَمُرِيدٍ يَشْكُو إلَى شَيْخِهِ دَاءَ قَلْبِهِ، وَعَلِيلٍ يَشْكُو إلَى طَبِيبٍ دَاءَ بَدَنِهِ. فَعَلَى هَذَا فَغَيْرُ الطَّبِيبِ لَا مَعْنَى لِاطِّلَاعِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ

فصل على الطبيب حين جلوسه عند المريض أن يتأنى عليه

ذَلِكَ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الطَّبِيبِ مَنْ هُوَ مُبَاشِرٌ لِلْمَرِيضِ وَعَالِمٌ بِحَالِ مَرَضِهِ وَالْمَرِيضُ لَا يَسْتَحْيِ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ فَلَا بَأْسَ إذَنْ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّبِيبُ أَمِينًا عَلَى أَسْرَارِ الْمَرْضَى فَلَا يُطْلِعُ أَحَدًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَرِيضُ إذْ إنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي اطِّلَاعِ غَيْرِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ أَذِنَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ مِنْ الْمَرِيضِ فِي أَمْرِهِ بِذَلِكَ اسْتِجْلَابَ خَوَاطِرِ الْإِخْوَانِ وَمَنْ يَتَبَرَّكُ بِدُعَائِهِ لَهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فَهَذَا مُسْتَثْنًى مِمَّا تَقَدَّمَ. وَيَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يُشَهِّيَ الْمَرِيضَ فِي الْأَغْذِيَةِ ثُمَّ يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمَرِيضُ فَإِنْ رَأَى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَنْفَعَةً لَهُ أَوْ عَدَمَ ضَرَرٍ يَعُودُ عَلَيْهِ حَالًا أَوْ مَآلًا وَسَّعَ لَهُ فِيهِ وَإِنْ رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ، وَلَا نَفْعٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يُسَامِحَهُ فِيهِ فَرُبَّمَا اشْتَهَتْ نَفْسُ الْمَرِيضِ شَيْئًا وَيَكُونُ سَبَبًا لِرَاحَتِهَا وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِكَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، وَإِنْ رَأَى أَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَدَلَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ وَتَلَطَّفَ بِالْمَرِيضِ فِي مَنْعِهِ لَهُ مِنْهُ وَمَعَ ذَلِكَ يَعِدُهُ بِهِ عَنْ قَرِيبٍ تَطْيِيبًا لِنَفْسِهِ وَلِئَلَّا يَنْزَعِجَ فَيَزِيدَ مَرَضُهُ. وَيُقَالُ: إنَّ النَّفْسَ أَعْرَفُ بِمَا يُصْلِحُهَا مِنْ الطَّبِيبِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَيَكُونُ الطَّبِيبُ يُرَاعِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَا أَشْبَهَهُ مَعَ وُجُودِ التَّلَطُّفِ بِالْمَرِيضِ وَالْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ. فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يُرْجَعُ إلَيْهِ وَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُ الطَّبِيبُ، بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيقٌ» وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَيَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ الْمَرِيضِ فَإِنْ كَانَ مَلِيًّا أَعْطَاهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَإِنْ كَثُرَتْ النَّفَقَةُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا أَعْطَاهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ مَا تَصِلُ قُدْرَتُهُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ وَلَا مَشَقَّةٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مَوْجُودٌ كَثِيرٌ [فَصْلٌ عَلَى الطَّبِيبِ حِينَ جُلُوسِهِ عِنْدَ الْمَرِيضِ أَنْ يَتَأَنَّى عَلَيْهِ] (فَصْلٌ) وَمِنْ آكَدِ مَا عَلَى الطَّبِيبِ حِينَ جُلُوسِهِ عِنْدَ الْمَرِيضِ أَنْ يَتَأَنَّى عَلَيْهِ بَعْدَ سُؤَالِهِ لَهُ حَتَّى يُخْبِرَهُ الْمَرِيضُ بِحَالِهِ ثُمَّ يُعِيدَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ رُبَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ بِمَا هُوَ فِيهِ لِجَهْلِهِ بِهِ أَوْ لِشُغْلِهِ بِقُوَّةِ أَلَمِهِ وَإِنْ كَانَ الطَّبِيبُ عَارِفًا بِالْمَرَضِ الَّذِي هُوَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْهُ فَيَتَأَنَّى عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ. وَذَلِكَ

بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ الْأَطِبَّاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّهُمْ لَا يُمْهِلُونَ عَلَى الْمَرِيضِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ ذِكْرِ حَالِهِ لَهُ بَلْ عِنْدَ مَا يَشْرَعُ فِي ذِكْرِ حَالِهِ يُجِيبُ الطَّبِيبُ وَيَكْتُبُ وَالْمَرِيضُ بَعْدُ لَمْ يَفْرُغْ مِنْ ذِكْرِ حَالِهِ لَهُ ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَزْعُمُ بِرَأْيِهِ أَنَّ هَذَا مِنْ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ وَالْحِذْقِ وَكَثْرَةِ الدِّرَايَةِ بِالصِّنَاعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَجَلَةَ فِي حَقِّ غَيْرِ الطَّبِيبِ قَبِيحَةٌ لِمُخَالَفَتِهَا لِآدَابِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فَكَيْفَ بِهَا فِي حَقِّ الطَّبِيبِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْمَرِيضِ إلَى آخِرِهِ فَلَعَلَّ آخِرَهُ يَنْقُضُ أَوَّلَهُ أَوْ بَعْضَهُ وَلَرُبَّمَا غَلِطَ الْمَرِيضُ فِي ذِكْرِ حَالِهِ أَوْ عَجَزَ عَنْ التَّعْبِيرِ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ الطَّبِيبُ مِمَّنْ يَتَأَنَّى عَلَى الْمَرِيضِ وَيُعِيدُ عَلَيْهِ السُّؤَالَ بِرِفْقٍ وَتَلَطُّفٍ أَمِنَ مِنْ الْغَلَطِ فَإِنَّ الْغَلَطَ فِي هَذَا خَطَرٌ، إذْ إنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَأَصْلُ الطِّبِّ كُلِّهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَعْرِفَةُ الْمَرَضِ فَإِذَا عُرِفَ الْمَرَضُ سَهُلَ تَدَاوِيهِ فِي الْغَالِبِ فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى يَتَعَيَّنُ عَلَى الطَّبِيبِ التَّرَبُّصُ وَالتَّأَنِّي لَعَلَّهُ يَعْرِفُ الْمَرَضَ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ تَخْمِينٍ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الطَّبِيبِ إنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْمَرَضَ أَوْ عَرَفَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِدَوَائِهِ أَنْ لَا يَكْتُبَ أَوْرَاقًا بِأَشْرِبَةٍ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إضَاعَةُ مَالٍ. وَقَدْ وَقَعَ لِي مَعَ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ إلَيَّ فِي مَرَضٍ كَانَ بِي وَيَصِفُ أَشْرِبَةً وَأَدْوِيَةً يُنْفَقُ فِيهَا نَفَقَةٌ جَيِّدَةٌ فَطَالَ الْأَمْرُ عَلَيَّ فَقَطَعْته وَعَوَّضْت مَوْضِعَ تِلْكَ النَّفَقَةِ خُبْزًا أَتَصَدَّقُ بِهِ بِنِيَّةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي دَفْعِ ذَلِكَ الْمَرَضِ فَمَا كَانَ إلَّا قَلِيلٌ وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِّي وَحَصَلَتْ الْعَافِيَةُ. فَلَمَّا أَنْ خَرَجْت لَقِيت الطَّبِيبَ فَسَأَلْته عَمَّا كَانَ يَكْتُبُهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَأَيُّ مَنْفَعَةٍ كَانَتْ فِيهَا لِذَلِكَ الْمَرَضِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أَنَّهُ يَقْبُحُ بِالطَّبِيبِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِ الْمَرِيضِ، وَلَا يَصِفُ لَهُ شَيْئًا؛ لِئَلَّا يُوحِشَهُ بِذَلِكَ وَهَذَا مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ. وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَرِيضُ فَقِيرًا فَمَنْعٌ عَلَى مَنْعٍ. وَهَذَا إنْ كَانَ مَا وَصَفَهُ لَا يَقَعُ بِسَبَبِهِ ضَرَرٌ لِلْمَرِيضِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيُمْنَعُ وَلِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يَسْأَلَ

فصل ينبغي للطبيب أن يكون عارفا بحال المريض في حال صحته

مَنْ يَخْدُمُ الْمَرِيضَ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِ الْمَرِيضِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَالِجَ رُبَّمَا عَرَفَ مَا بِالْمَرِيضِ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِ مِنْ الْكَشْفِ وَالتَّثَبُّتِ مَا يَقْرُبُ مِنْ الْيَقِينِ بِمَعْرِفَةِ الْمَرَضِ. وَيَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ عِنْدَهُ عَلَى أَصْنَافٍ، وَلَا يَجْعَلَهُمْ صِنْفًا وَاحِدًا فَصِنْفٌ يَأْخُذُ مِنْهُمْ وَصِنْفٌ لَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ وَصِنْفٌ إذَا وَصَفَ لَهُمْ شَيْئًا أَعْطَى لَهُمْ مَا يُنْفِقُونَهُ فِيهِ: فَالْأَوَّلُ - إذَا بَاشَرَ مَنْ لَهُ سَعَةٌ فِي دُنْيَاهُ. وَالثَّانِي - مُبَاشَرَةُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ الْمَسْتُورِينَ فِي حَالِ دُنْيَاهُمْ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَبَرَّكَ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى طِبِّهِمْ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ شَيْئًا فَإِنْ بَذَلُوا لَهُ شَيْئًا رَدَّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ إذَنْ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ - مُبَاشَرَةُ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى كِفَايَتِهِمْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَهَؤُلَاءِ يُعْطِيهِمْ ثَمَنَ مَا يَصِفُهُ لَهُمْ إنْ كَانَتْ لَهُ جِدَةٌ. وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْأَطِبَّاءِ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ أَوْ بَعْضُهَا [فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِحَالِ الْمَرِيضِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِحَالِ الْمَرِيضِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ فِي مِزَاجِهِ وَمُرَبَّاهُ وَإِقْلِيمِهِ وَمَا اعْتَادَهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَدْوِيَةِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَبِالسُّؤَالِ مِنْ الْمَرِيضِ أَوْ مِمَّنْ يَلُوذُ بِهِ فَيَعْمَلُ عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَدْ جَرَى بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ السُّلْطَانَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا وَكَانَ فِي وَقْتِهِ طَبِيبٌ عَارِفٌ حَاذِقٌ فَاسْتَطَبَّهُ فَلَمْ يَفِدْ شَيْئًا فَوَجَدَ السُّلْطَانُ عَلَى الطَّبِيبِ وَأَرَادَ أَنْ يُحَرِّفَ بِهِ فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: إنْ أَرَدْت أَنْ تَسْتَرِيحَ فَاخْرُجْ إلَى الْبَرِّيَّةِ وَادْخُلْ فِي بَيْتٍ مِنْ شَعْرٍ وَافْرِشْ الْمَوْضِعَ الَّذِي تَضْطَجِعُ فِيهِ بِالْعَزَفِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْحَلْفَاءِ الَّذِي يُوقَدُ بِهِ النَّارُ وَأَزِلْ مَا عَلَيْك مِنْ الثِّيَابِ وَالْتَفَّ فِي كِسَاءٍ وَاضْطَجِعْ عَلَى الْعَزَفِ وَأْمُرْ مَنْ يَطْبُخُ لَك مُفْتَلَّةً دَاخِلَ بَيْتِ الشَّعْرِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ أَوْ اُطْبُخْهَا أَنْتَ بِنَفْسِك وَاسْتَنْشِقْ دُخَانَ تِلْكَ النَّارِ الَّتِي تَحْتَ الْقِدْرِ فَإِذَا نَضِجَ الطَّعَامُ فَكُلْ

فصل الطبيب إذا تعذرت عليه عافية المريض

مِنْهُ وَهُوَ حَارٌّ حَتَّى تَشْبَعَ ثُمَّ نَمْ - فَفَعَلَ فَوَجَدَ الْعَافِيَةَ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ كَانَتْ مُرَبَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ سُلْطَانًا. وَقَدْ نَطَقَ الْحَدِيثُ بِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ مَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ «وَأُعْطِ كُلَّ جَسَدٍ مَا عَوَّدْته» وَقَدْ تَقَدَّمَ [فَصْلٌ الطَّبِيبُ إذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ عَافِيَةُ الْمَرِيضِ] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ إذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ عَافِيَةُ الْمَرِيضِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلْيَسْأَلْ عَنْ وَالِدَيْ الْمَرِيضِ فَيَطْلُبْهُ بِمُقْتَضَى حَالِ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهُ أَيْضًا سَبَبٌ لِلْعَافِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُرَبَّى الْمَرِيضِ. وَقَدْ جَرَى فِي إفْرِيقِيَّةَ فِي أَيَّامِ الْمَلِكِ الْمُسْتَنْصِرِ أَنَّ مَلِكَ الْفِرِنْجِ بِصِقِلِّيَّةَ أَرْسَلَ إلَيْهِ يَطْلُبُ مِنْهُ طَبِيبًا حَاذِقًا عَارِفًا وَذَكَرَ أَنَّ وَلَدَهُ مَرِيضٌ وَقَدْ عَجَزَ الْأَطِبَّاءُ الَّذِينَ عِنْدَهُ عَنْ بُرْئِهِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ طَبِيبًا عَلَى مَا طَلَبَ فَلَمَّا أَنْ وَصَلَ اجْتَمَعَ الْأَطِبَّاءُ مَعَهُ عِنْدَ الْمَرِيضِ فَأَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ لَهُ كَذَا فَقَالُوا: عَمِلْنَاهُ فَقَالَ: كَذَا وَكَذَا، إلَى أَنْ فَرَغَتْ الْأَدْوِيَةُ الَّتِي تَدَاوَى بِهَا ذَلِكَ الْمَرِيضُ فَانْفَصَلَ الْمَجْلِسُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ثُمَّ إنَّ الطَّبِيبَ أَرْسَلَ إلَى أُمِّ الْمَرِيضِ وَهُوَ يَقُولُ: أُرِيدُ أَنْ أَجْتَمِعَ بِك دُونَ ثَالِثٍ، فَفَعَلَتْ؛ فَقَالَ لَهَا: إنْ كُنْت تُرِيدِينَ عَافِيَةَ وَلَدِك فَأَخْبِرِينِي ابْنُ مَنْ هُوَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُعْرَفْ أَبُوهُ لَا يَسْتَرِيحُ؟ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَبَاهُ بَدْوِيٌّ كَانَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا فَأَعْجَبَهَا فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَحَمَلَتْ بِذَلِكَ الْوَلَدِ فَقَالَ لَهَا: قَدْ اسْتَرَاحَ وَلَدُك، فَأَرْسَلَ إلَى الْمَلِكِ الْمُسْتَنْصِرِ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ لَهُ جَمَلًا صَغِيرًا يَقْرُبُ مِنْ ابْنِ اللَّبُونِ فَقَالَ الْمُسْتَنْصِرُ إذْ ذَاكَ عَجَبًا: مِنْ أَيْنَ جَاءَ هَذَا الْبَدْوِيُّ؟ فَلَمَّا أَنْ وَصَلَ الْجَمَلُ إلَى الطَّبِيبِ نَحَرَهُ وَشَوَى مِنْهُ شَيْئًا بَيْنَ يَدَيْ الْمَرِيضِ وَشَمَّمَهُ إيَّاهُ وَأَطْعَمَهُ مِنْهُ فَاسْتَقَلَّ مِنْ مَرَضِهِ وَوَجَدَ الْعَافِيَةَ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الطِّبِّ يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ إلَيْهِ [فَصْلٌ عَلَى الطَّبِيبِ النَّظَرُ فِي الْقَارُورَةِ] (فَصْلٌ) وَآكَدُ مَا عَلَى الطَّبِيبِ وَاَلَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي الْقَارُورَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ قَبْلُ تَخْمِينٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَرَضِ وَالْقَارُورَةُ أَبْيَنُ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا لَوْنًا إلَّا الْمَاءَ، فَإِنَّهُ عَزَّ

وَجَلَّ خَلَقَهُ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ لَوْنًا فَلَوْنُهُ لَوْنُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ أَبْيَضَ أَوْ أَصْفَرَ أَوْ أَحْمَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَرْجِعُ الْمَاءُ فِي لَوْنِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَاءُ إذَا دَخَلَ فِي جَوْفِ الْمَرِيضِ تَغَيَّرَ إلَى حَالَةِ الْمَرَضِ الَّذِي يَشْكُو بِهِ الْمَرِيضُ فَيَعْرِفُ الطَّبِيبُ إذْ ذَاكَ الْعِلَّةَ أَوْ يَقْرُبُ فِيهَا مِنْ الْيَقِينِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْأَطِبَّاءِ الْعَارِفِينَ بِهَذِهِ الصَّنْعَةِ إذَا وَصَفَ لَهُمْ الْمَرِيضُ مَا بِهِ أَوْ وَصَفَ لَهُمْ عَنْهُ لَا يَأْخُذُونَ بِهِ، وَلَا يُعَوِّلُونَ عَلَيْهِ لِاحْتِمَالِ الْغَلَطِ وَالْوَهْمِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْقَارُورَةِ فَإِنَّهَا لَا تُخْطِئُ فِي الْغَالِبِ فَيَعْرِفُ الطَّبِيبُ إذَا رَآهَا مَا بِالْمَرِيضِ مِنْ الشَّكْوَى فَيَعْمَلُ الطَّبِيبُ عَلَى مُقْتَضَى مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ مَرِضَ سَيِّدِي أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَجْلَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَدِينَةِ تُونُسَ وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ وَقْتِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَسُئِلَ أَنْ يُؤْتَى لَهُ بِالطَّبِيبِ فَامْتَنَعَ فَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى أَنْعَمَ لَهُمْ فَجَاءُوا بِالطَّبِيبِ فَنَظَرَ إلَى الْقَارُورَةِ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي تَشْتَكِي بِكَذَا وَكَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ تَشْتَكِي بِكَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ عَدَّ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ مَرَضًا. وَكَانَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُخْفِي ذَلِكَ، وَلَا يَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ. لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مِنْ كُنُوزِ الْبِرِّ كِتْمَانُ الْمَصَائِبِ» وَقَدْ تَقَدَّمَ. لَكِنْ لَمَّا أَنْ ذَكَرَ لَهُ الطَّبِيبُ ذَلِكَ وَهُوَ حَقٌّ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَسْكُتَ خَشْيَةَ أَنْ يُظَنَّ بِالطَّبِيبِ أَنَّهُ قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ أَوْ أَنَّهُ كَذَبَ فِيمَا قَالَ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ الْكِتْمَانِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ بِهِ عَنْهُ قَدْ عُوِّضَ عَنْهُ ثَوَابًا آخَرَ وَهُوَ عَدَمُ تَكْذِيبِ الطَّبِيبِ وَدَفْعُ سُوءِ الظَّنِّ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَإِظْهَارُ مَعْرِفَتِهِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ كَيْفَ اسْتَخْرَجَ الطَّبِيبُ مِنْ الْقَارُورَةِ الْوَاحِدَةِ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ كُلَّهَا. وَقَدْ كَانَ بِمِصْرَ قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِ بِقَلِيلٍ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يَجِدُ النَّاسَ مُجْتَمَعِينَ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِقَارُورَةٍ فَيَنْظُرُ فِي كُلِّ قَارُورَةٍ وَيَصِفُ الْمَرَضَ وَالدَّوَاءَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَإِذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ قَارُورَةٍ يَصِفُ مَا بِمَرِيضِهِ لَا يُجَاوِبُهُ بِشَيْءٍ وَيَقُولُ: حَتَّى

فصل الأشتغال بعلم الطب

تَأْتِيَ الْقَارُورَةُ فَإِنَّ الْوَاصِفَ وَالْمَرِيضَ قَدْ يُخْطِئَانِ وَالْقَارُورَةُ لَا تُخْطِئُ. فَإِذَا كَانَ الطَّبِيبُ عَارِفًا اسْتَخْرَجَ مِنْ مَاءِ الْمَرِيضِ كُلِّيَّاتِ مَا هُوَ فِيهِ وَجُزْئِيَّاتِهِ حَتَّى إنَّهُ لَيَظْهَرُ لَهُ مِنْ مَائِهِ هَلْ هُوَ شَابٌّ أَوْ كَبِيرُ السِّنِّ أَوْ كَهْلٌ أَوْ صَغِيرٌ أَوْ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى أَوْ حَامِلٌ أَوْ غَيْرُ حَامِلٍ وَهَلْ هُوَ يَسْكُنُ فِي سُفْلٍ أَوْ عُلُوٍّ فَإِذَا كَانَ يَظْهَرُ لَهُ فِي مَاءِ الْمَرِيضِ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى السُّلَّمُ الَّذِي يَصْعَدُ فِيهِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَعْرِفَ مَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ خَلَطَ. وَقَدْ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ وَكَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا الْحَالُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّك إذَا أَتَيْت بِالْقَارُورَةِ إلَى الطَّبِيبِ وَنَظَرَ فِيهَا شَرَعَ يَسْأَلُ إذْ ذَاكَ عَمَّا يَشْكُو بِهِ الْمَرِيضُ فَلَا فَائِدَةَ إذَنْ فِي نَظَرِهِ إلَيْهَا بَلْ يَكُونُ الطَّبِيبُ يَحْكُمُ وَيَجْزِمُ بِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَاءِ يَشْكُو بِكَذَا وَكَذَا، وَكَانَ سَبَبُهُ كَذَا وَكَذَا، وَمُعَالَجَتُهُ كَذَا وَكَذَا، لَكِنَّ الْقَارُورَةَ لَهَا شُرُوطٌ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا أَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يُؤْخَذُ بَعْدَ انْتِبَاهِ الْمَرِيضِ مِنْ نَوْمِهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَنَامُ لَا قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّوْمِ فَأَوَّلُ مَا يَبُولُ مِنْ اللَّيْلِ. وَأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ كَامِلًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ مِنْ شُرُوطِهَا بِخِلَافِ مَا هُمْ يَفْعَلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْقَارُورَةِ بَعْضَ الْمَاءِ وَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ لَا يُظْهِرُ بِهِ الطَّبِيبُ أَمْرَ الْقَارُورَةِ فَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهَا فَإِذَا اجْتَمَعَ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَدَمُ الْمَاءِ عَلَى جِهَتِهِ وَعَدَمُ مَعْرِفَةِ الطَّبِيبِ بَقِيَ حَالُ الْمَرِيضِ مُتَزَايِدًا وَتَكْثُرُ عَلَيْهِ النَّفَقَاتُ وَيَطُولُ عَلَيْهِ الْأَمَدُ وَرُبَّمَا آلَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى الْهَلَاكِ لِعَدَمِ الصَّنْعَةِ وَسُوءِ الْمُحَاوَلَةِ [فَصَلِّ الأشتغال بِعِلْمِ الطِّبّ] (فَصْلٌ) وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَمَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِلْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَذَا الْعِلْمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِقِلَّةِ مَنْ يَشْتَغِلُ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إنَّهُ لَيَكَادُ الِاشْتِغَالُ بِهِ أَنْ يَكُونَ فَرْضَ عَيْنٍ فَإِذَا اشْتَغَلَ طَالِبٌ بِهِ نَفَعَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَعَارِفَهُ وَإِخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ وَبَقِيَ فِي قُرْبَةٍ نَفْعُهَا مُتَعَدٍّ وَأَنْتَ

على الطبيب أن يترك ما اعتاده بعض من انغمس في الجهل من الأطباء

تَجِدُ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ فِيهِ قَابِلِيَّةٌ لِلْفَهْمِ لِذَكَائِهِ وَحِذْقِهِ ثُمَّ يَتْرُكُ الِاشْتِغَالَ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِهِ [عَلَى الطَّبِيبِ أَنْ يَتْرُكَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ مَنْ انْغَمَسَ فِي الْجَهْلِ مِنْ الْأَطِبَّاءِ] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الطَّبِيبِ أَنْ يَتْرُكَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ مَنْ انْغَمَسَ فِي الْجَهْلِ مِنْ الْأَطِبَّاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصُّنَّاعِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ الْعَلِيلُ الْعَافِيَةَ وَكَانَ الْمَرِيضُ مِمَّنْ لَهُ جِدَةٌ فِي الدُّنْيَا وَثَرْوَةٌ فَإِنَّهُمْ يَخْلَعُونَ عَلَى الطَّبِيبِ خِلْعَةَ حَرِيرٍ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهَا، وَلَا أَنْ يَقْبَلَهَا، وَلَا أَنْ يَبِيعَهَا لِمَنْ يَلْبَسُهَا مِنْ الرِّجَالِ إلَّا أَنْ يَقْبَلَهَا وَيُفَصِّلَهَا لِلنِّسَاءِ فَنَعَمْ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَلْبَسَهَا حِينَ خُلِعَتْ عَلَيْهِ، وَلَا بَعْدَهُ [فَصْلٌ عَلَى الْمَرِيضِ أَوْ وَلِيِّهِ امْتِثَالُ السُّنَّةِ فِي الصَّدَقَةِ] (فَصْلٌ) وَآكَدُ مَا عَلَى الْمَرِيضِ أَوْ وَلِيِّهِ امْتِثَالُ السُّنَّةِ فِي الصَّدَقَةِ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «دَاوُوا مَرَضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَادْفَعُوا الْبَلَاءَ بِالصَّدَقَةِ وَاسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بِالصَّدَقَةِ» وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَالِ الْمَرَضِ وَالْمَرِيضِ فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ شَدِيدًا فَلْيُكْثِرْ مِنْ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ مَلِيًّا فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَجُهْدُ الْمُقِلِّ، لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي التَّمْرَةِ الَّتِي تَصَدَّقَتْ بِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ فَشَقَّتْهَا نِصْفَيْنِ وَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفًا» . وَالْمَقْصُودُ مِنْ الصَّدَقَةِ أَنَّ الْمَرِيضَ يَشْتَرِي نَفْسَهُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَدْرِ مَا تُسَاوِي نَفْسُهُ عِنْدَهُ وَالصَّدَقَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَأْثِيرٍ عَلَى الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَادِقٌ وَالْمُخْبَرَ عَنْهُ كَرِيمٌ مَنَّانٌ، ثُمَّ إنَّ الثَّوَابَ حَاصِلٌ بِنَفْسِ الصَّدَقَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ صَحَّ صَاحِبُهَا مِنْ مَرَضِهِ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي حَقِّ مَنْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَجِدُ صَدَقَتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَلْ مُضَاعَفَةً إلَى سَبْعِمِائَةٍ كَمَا وَرَدَ {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] وَالصَّدَقَةُ لِلْمَرِيضِ عَامَّةٌ فِي الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ. ثُمَّ إنَّهَا لَيْسَتْ خَاصَّةً بِالْمَرِيضِ وَإِنَّمَا تَتَأَكَّدُ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ. وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى عُمُومِهَا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

فصل آكد الأمور على المريض ما تقدم ذكره وهي الوصية

«كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ» وَالسُّلَامَى بِضَمِّ السِّينِ مَعَ فَتْحِ الْمِيمِ وَالْقَصْرِ هِيَ أَعْضَاءُ ابْنِ آدَمَ فَكَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ: عَلَى كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ فَيُعْطِي ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَحْتَاجُ الْمَرْءُ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَدَقَةً عَلَى عَدَدِ الْأَعْضَاءِ وَهَذَا عَسِيرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَقْدِرُ عَلَى هَذَا. وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى أَتَمَّ بَيَانٍ حِينَ «سَأَلَهُ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - حَيْثُ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ حَتَّى قَالَ: رَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئُ عَنْهُ» فَعَلَى هَذَا فَرَكْعَتَا الضُّحَى لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ تُجْزِئُ عَنْ ثَلَثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَدَقَةً {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] وَلِأَجْلِ مَا فِيهِمَا مِنْ هَذِهِ الْبَرَكَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَوْ نُشِرَ لِي أَبَوَايَ مَا تَرَكْتهمَا فَعَلَى هَذَا فَرَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئُ مَنْ عَجَزَ وَمَنْ قَدَرَ فَالْأَمْرُ لَهُ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الصَّدَقَةَ مُحَالَةٌ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ مِنْ إنْفَاقِ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ كَانَ اللِّسَانُ كَانَتْ الْعَيْنَانِ كَانَتْ الْيَدَانِ كَانَتْ الرِّجْلَانِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ» فَكُلُّ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ نَفَقَتُهَا طَاعَةُ اللَّهِ بِهَا فَاللِّسَانُ صَدَقَتُهُ وَنَفَقَتُهُ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تِلَاوَةُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِرَاءَةُ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَرْسُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِرْشَادُ الضَّالِّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللِّسَانَ مِنْهَا إشَارَةً إلَى بَاقِيهَا [فَصْلٌ آكُدُ الْأُمُورِ عَلَى الْمَرِيضِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهِيَ الْوَصِيَّةُ] (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُسَافِرِ أَنَّهُ لَا يُسَافِرُ حَتَّى يُوصِيَ لِأَجْلِ مَا يَتَوَقَّعُ فِي سَفَرِهِ فَهُوَ فِي الْمَرِيضِ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ فِيهِ أَقْوَى. ثُمَّ إذَا أَوْصَى فَلْتَكُنْ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»

فصل في ذكر الشراب الذي يستعمله المريض وما يتعلق به

رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ذَلِكَ وَإِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي. هَذَا وَهُوَ صَحِيحٌ فَمَا بَالُك بِالْمَرِيضِ فَآكُدُ الْأُمُورِ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهِيَ الْوَصِيَّةُ لِأَجْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ هِيَ نَشْرَةٌ لِلْمَرِيضِ وَسَبَبٌ لِعَافِيَتِهِ فِي الْغَالِبِ وَقَدْ وَقَعَ هَذَا النَّوْعُ كَثِيرًا قَوْمٌ يُوصُونَ ثُمَّ يَخْلُقُ اللَّهُ لَهُمْ الْعَافِيَةَ فَيَصِحُّونَ مِنْ مَرَضِهِمْ. وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَا يُنَافِي مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ مِنْ أَنَّ الْمَرِيضَ تُفْسِحُ لَهُ الْعُوَّادُ فِي عُمْرِهِ بِأَنْ يَقُولُوا لَهُ: لَا بَأْسَ عَلَيْك وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ مَأْمُورٌ بِالْوَصِيَّةِ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَرِيضُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فَيَتَأَكَّدُ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ لِلْأَثَرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الشَّرَابِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْمَرِيضُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ] ِ فَإِذَا وَصَفَ الطَّبِيبُ شَرَابَ الْمَرِيضِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَوْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي كَيْفِيَّةِ الشَّرَابِ الَّذِي وَصَفَهُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَرْوَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زُهْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَشْرِبَةُ الْمَعْرُوفَةُ الْمَعْهُودَةُ مَوْجُودَةٌ فِي أَكْثَرِ الْقُرَى وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَعْرِفُونَ تَقْوِيمَهَا وَتَرْكِيبَهَا غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ وَاحِدَةً إنَّ النَّاسَ إنَّمَا يَبِيعُونَ الْأَسْمَاءَ مِثْلَ شَرَابِ الْوَرْدِ فَإِنَّهُمْ إذَا أَقَامُوهُ إنْ أُقِيمَ بِحَيْثُ يَنْفَعُ جَاءَ لَوْنُهُ إلَى السَّوَادِ فَهُمْ لَا يَضَعُونَ فِيهِ مِنْ الْوَرْدِ إلَّا مَا يُغَيِّرُهُ فَإِذَا أَفْتَى الطَّبِيبُ مَثَلًا بِأُوقِيَّةٍ مِنْ شَرَابِ الْوَرْدِ أَعْطَاهُ الشَّرَابِيُّ شَرَابًا عَقَدَ مِنْهُ بِالْمَاءِ شَرَابًا لَا طَعْمَ لِلْوَرْدِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِشَرَابِ الاسطوخودس وَغَيْرِهِ فَيَكُونُ الْمَرِيضُ يَحْسَبُ أَنَّ مَا يَشْرَبُ شَرَابُ الْوَرْدِ أَوْ شَرَابُ الاسطوخودس وَهُوَ إنَّمَا شَرِبَ السُّكَّرَ أَوْ الْعَسَلَ الَّذِي أُزِيلَتْ رَغْوَتُهُ فَلَا يَنْفَعُ الْمَرِيضَ بِشَيْءٍ. وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِالْأَدْهَانِ إلَّا نَفَرًا يَسِيرًا فَإِنَّك تَسْمَعُ دُهْنَ الْبَنَفْسَجِ

أَوْ دُهْنَ الْوَرْدِ، وَلَا رَائِحَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي وَاحِدٍ مِنْ الدُّهْنَيْنِ فَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ تُخْتَبَرَ الْأَشْرِبَةُ بِطَعْمِهَا وَكُلُّ شَرَابٍ يُتَّخَذُ فَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ مَعَ الْأَدْوِيَةِ ثُمَّ يُرْفَعَ عَلَى نَارٍ لَيِّنَةٍ حَتَّى يَأْخُذَ الْمَاءُ طَعْمَ ذَلِكَ الدَّوَاءِ وَرَائِحَتَهُ وَيَتَغَيَّرَ لَوْنُ الْمَاءِ تَغْيِيرًا ظَاهِرًا، فَحِينَئِذٍ يُصَفَّى وَيُضَافُ إلَى صَافِي السُّكَّرِ أَوْ الْعَسَلِ وَيُعْقَدُ شَرَابًا وَلَيْسَ عَلَى الْحَقِيقَةِ ذَلِكَ بِوَزْنِ الصُّنُوجِ وَإِنَّمَا هُوَ بِأَنْ يَكْتَسِبَ الطَّعْمَ أَوْ الرَّائِحَةَ وَيَتَغَيَّرَ اللَّوْنُ وَلِهَذَا السَّبَبِ قَلَّمَا أُفْتِي بِشَرَابٍ مَعْلُومٍ وَإِنَّمَا أُفْتِي بِأَدْوِيَةٍ تُطْبَخُ عَلَى مَا أَكُونُ أَرْسُمُ. وَأَمَّا الْأَدْهَانُ فَاخْتِبَارُهَا بِنَحْوِ هَذَا، وَأَفْضَلُ أَدْهَانِ الْأَدْوِيَةِ مَا كَانَ طَعْمُ الدَّوَاءِ وَرَائِحَتُهُ يُوجَدَانِ فِي الدُّهْنِ وَإِنْ كَانَ لَهُ لَوْنٌ ظَاهِرٌ أَنْ يَتَبَيَّنَ فِي الدُّهْنِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِخِلَافِ مَا الْحَالُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فَإِنَّك تَجِدُ الْأَشْرِبَةَ عِنْدَهُمْ فِي غَايَةِ الصَّفَاءِ وَالشُّرُوقِ. وَلَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ عَمِلَ شَرَابًا عَلَى مُقْتَضَى الصَّنْعَةِ أَوْ بَعْضِهَا لَأَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى يَدِهِ بَلْ يُؤْذُونَهُ أَوْ يُقِيمُونَهُ مِنْ السُّوقِ وَكُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ عَدَمُ الْمَعْرِفَةِ بِالصَّنْعَةِ عَلَى وَجْهِهَا. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ زَهْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّ وَالِدَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ: إذَا صَفَا شَرَابُ الصَّيْدَلَانِيِّ كَدُرَ دِينُهُ، وَالصَّيْدَلَانِيّ هُوَ الْعَطَّارُ وَهُوَ عِنْدَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَبِيعُ الْأَشْرِبَةَ فَإِذَا عَمِلَ الشَّرَابَ صَافِيًا فَقَدْ غَشَّ النَّاسَ بِذَلِكَ وَإِذَا غَشَّ كَدُرَ دِينُهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا كَانَ الطَّبِيبُ حَاذِقًا وَالصَّيْدَلَانِيّ صَادِقًا وَالْمَرِيضُ مُوَافِقًا قَلَّ لُبْثُ الْعِلَّةِ. وَقَدْ أَعْطَى ابْنُ زَهْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَانُونًا كُلِّيًّا فِي عَمَلِ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالْأَدْهَانِ فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ الْمُشْتَرِي لِلشَّرَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَالْعَقَاقِيرِ مَنْ يَكُونُ مَعْرُوفًا بِالدِّينِ وَالنَّصِيحَةِ وَيَكُونُ عِنْدَهُ مَعْرِفَةٌ بِصَلَاحِ الشَّرَابِ وَفَسَادِهِ لِأَجْلِ أَنَّ الْمَرِيضَ أَقَلُّ شَيْءٍ مِنْ الْغِشِّ يَكُونُ فِيمَا يَسْتَعْمِلُهُ مِنْ الشَّرَابِ وَغَيْرِهِ يُكَدِّرُ عَلَيْهِ وَقَدْ يَئُولُ إلَى التَّلَفِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَإِنْ كَانَ الشَّرَابِيُّ عِنْدَهُ مَعْرِفَةٌ بِالطِّبِّ أَوْ بِطَرَفٍ مِنْهُ فَيَتَأَكَّدُ

الْقَصْدُ إلَيْهِ وَإِيثَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لِلشَّرَابِيِّ أَنْ يَتَأَنَّى فِيمَا يُطْلَبُ مِنْهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَغَيْرِهَا وَيَسْأَلَ مَنْ يَطْلُبُ ذَلِكَ مِنْهُ وَيُكَرِّرَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ فَرُبَّمَا غَلِطَ الطَّبِيبُ أَوْ غَفَلَ عَنْ شَيْءٍ فَيَكُونُ الشَّرَابِيُّ يَسْتَدْرِكُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الشَّرَابِيُّ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا فَيَنْبَغِي مِنْ بَابِ الْأَكْمَلِ وَالْأَحْسَنِ أَنْ لَا يَتَسَبَّبَ فِي هَذَا السَّبَبِ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ فَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ التَّوَقُّفُ فِي السُّؤَالِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ بِوَصْفِهِ عَارِفٌ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَثَلًا يَطْلُبُ أُوقِيَّتَيْنِ مِنْ شَرَابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَثَمَنُهُمَا وَاحِدٌ فَيَجْعَلُ الْأُوقِيَّتَيْنِ أَوَّلًا فِي الْمِيزَانِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْ هَذَا وَمِنْ هَذَا عَلَى الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ وَهَذَا قَدْ مَنَعَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِلْجَهَالَةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَزِنَ لَهُ أَوَّلًا أُوقِيَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَحَدِ الشَّرَابَيْنِ ثُمَّ يَزِنَ لَهُ بَعْدَهَا أُوقِيَّةً أُخْرَى مِنْ الشَّرَابِ الْآخَرِ. وَهَذَا أَمْرٌ سَهْلٌ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ مَشَقَّةٍ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ لَهُ أَمْرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ الْأَسْوَاقِ مَنْ يَشْتَغِلُ بِهَذَا السَّبَبِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى عِنْدَهُمْ أَبْوَالُهُمْ طَاهِرَةٌ، وَلَا يَتَدَيَّنُونَ بِتَرْكِ نَجَاسَةٍ إلَّا دَمَ الْحَيْضِ فَقَطْ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالشَّرَابُ الْمَأْخُوذُ مِنْ النَّصَارَى الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَنَجِّسٌ. وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِغِشِّ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا أُخِذَ مِنْهُمْ شَرَابٌ فَغَالِبُ الظَّنِّ فِيهِ أَنَّهُ مَغْشُوشٌ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ مَنْعُهُمْ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِعُلَمَائِنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِنْ الْأَمْرِ بِإِقَامَتِهِمْ مِنْ الْأَسْوَاقِ فِي غَيْرِ هَذَا فَكَيْفَ بِهِ فِي هَذَا السَّبَبِ الَّذِي يَتَمَكَّنُونَ بِهِ مِنْ ضَرَرِ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا عَلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ بَلْ هُوَ مُتَعَيِّنٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لِلشَّرَابِيِّ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى أَوْعِيَةِ الشَّرَابِ بِأَنْ يَصُونَهَا بِالتَّغْطِيَةِ وَأَنْ يَتَفَقَّدَهَا وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ سِيَّمَا فِي

فصل يتعين عليه إذا قدم الشراب عنده أن لا يبيعه

زَمَنِ الْحَرِّ الَّذِي يَكْثُرُ فِيهِ الْخَشَاشُ خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَسِيَ تَغْطِيَةَ بَعْضِهَا أَوْ غَطَّاهَا بَعْضَ تَغْطِيَةٍ فَانْكَشَفَتْ. فَقَدْ يَدْخُلُ فِيهَا حَيَوَانٌ فَيَمُوتُ فِيهَا أَوْ يَخْرُجُ مِنْهُ فَضْلَةٌ فَيَتَنَجَّسُ أَوْ يَدْخُلُهُ نَمْلٌ وَقَدْ يَكُونُ النَّمْلُ أَكَلَ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ ثُعْبَانًا أَوْ عَقْرَبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسْمُومَاتِ الَّتِي تَقْتُلُ أَوْ يَحْدُثُ بِسَبَبِهَا أَمْرَاضٌ لِمَنْ يَتَنَاوَلُهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ ذَلِكَ التَّحَفُّظَ الْكُلِّيَّ وَمَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَإِنْ بَيَّنَ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ مَاتُوا بِهَذَا النَّوْعِ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إرَاقَةُ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَغَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْهُ غَسْلًا بَلِيغًا وَإِرَاقَتُهُ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنْ الصَّدَقَةِ بِمِثْلِهِ إذَا كَانَ سَالِمًا؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ وَنُصْحُ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ وَثَوَابُ الْوَاجِبِ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ الْمَنْدُوبِ [فَصْلٌ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا قَدُمَ الشَّرَابُ عِنْدَهُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا قَدُمَ الشَّرَابُ عِنْدَهُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ قَدِيمٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْفَاكِهَةَ الْجَدِيدَةَ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْأَشْرِبَةِ ذَهَبَتْ فَائِدَةُ مَا عُمِلَ بِالْفَاكِهَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي الْعَقَاقِيرِ وَالْأَدْوِيَةِ: إنَّهَا إذَا كَانَتْ قَدِيمَةً لَا تُفِيدُ مَنْ اسْتَعْمَلَهَا أَوْ تُفِيدُ بَعْضَ فَائِدَةٍ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ بِخِلَافِ مَا يَنْدُرُ مِثْلُ خِيَارِ شَنْبَرٍ وَمَا أَشْبَهَهُ فَإِنَّهُ كُلَّمَا قَدُمَ كَانَ أَحْسَنَ مِنْ جَدِيدِهِ [فَصْلٌ فِي بائع الْأَشْرِبَة] (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّبِيبِ إذَا جَاءَ لِلْمَرِيضِ لَا يُحْضِرُ مَعَهُ أَحَدٌ إلَّا مَنْ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَمِثْلُهُ فِي الشَّرَابِيِّ فَلَا يُسَامِحُ أَحَدًا فِي الْجُلُوسِ عِنْدَهُ لِلْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي الطَّبِيبِ وَلْيَحْرِصْ عَلَى ذَلِكَ مَهْمَا أَمْكَنَهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ كَتُومًا لِلسِّرِّ فِيمَا يُحْكَى لَهُ مِنْ حَالِ الْمَرِيضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقّ الطَّبِيبِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا وُصِفَ لَهُ مَا بِالْمَرِيضِ أَنْ لَا يُحِيلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَطِبَّاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ الْجُلُوسِ عِنْدَهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَالِهِمْ السَّيِّئِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الشَّرَابُ يُشْتَرَى لِصَحِيحٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الشَّرَابِيِّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالطِّبِّ بَلْ لَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا إذَا كَانَ عَارِفًا بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ

فصل السنة في عيادة المريض

وَبِالْوَزْنِ وَإِعْطَاءِ الْحَقِّ (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ نِيَّةِ الطَّبِيبِ فَالشَّرَابِيُّ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ الشَّرَابِيُّ بِمُبَاشَرَتِهِ لِعَمَلِ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالْعَقَاقِيرِ فَلْتَكُنْ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ إعَانَةُ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ لِيَكُونَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ دَائِمًا فِي عِبَادَةٍ نَفْعُهَا مُتَعَدٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» بَلْ إعَانَةُ الْمَرْضَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنْ إعَانَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَصِحَّائِهِمْ لِكَثْرَةِ ضَرُورَاتِهِمْ وَقِلَّةِ مَنْ يَعْرِفُ مُحَاوَلَةَ أَمْرَاضِهِمْ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الطَّبِيبِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَ النُّضُوحَ، وَلَا يَتَسَبَّبَ فِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ وَلِلطَّبِيبِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الطَّبِيبَ لَا يَأْتِي لِلْمَرِيضِ حَتَّى يَطْلُبَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَرُدُّهُ أَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ طَبِيبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَرِيضُ مِمَّنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِشَيْءٍ مِمَّا يُخَالِفُ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ فَتَتْرُكُ عِيَادَتُهُ حَتَّى يُقْلِعَ عَنْ ذَلِكَ وَيَتُوبَ مِنْهُ التَّوْبَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ بَلْ يَحْصُلُ لِلْمَرِيضِ بِعِيَادَةِ الشَّرَابِيِّ وَالطَّبِيبِ مِنْ السُّرُورِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ عِيَادَةِ غَيْرِهِمَا لِمُشَارَكَتِهِمَا لَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْمَرَضِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمَرِيضُ يَسْتَحِي أَنْ يُرْسِلَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا وَيَحْمِلُ عَلَى نَفْسِهِ الْمَشَقَّةَ فَيَكُونُ إتْيَانُهُمَا لَهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمَا رَفْعَ كُلْفَةٍ عَنْهُ وَإِدْخَالَ سُرُورٍ عَلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَرِيضُ فَقِيرًا مُنْقَطِعًا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُرْسِلُهُ [فَصْلٌ السُّنَّةَ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ] (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ تَرْكُ طُولِ الْمُكْثِ عِنْدَهُ وَالطَّبِيبُ وَالشَّرَابِيُّ بِخِلَافِ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ الْمَرِيضِ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ فِي إطَالَةِ مُكْثِهِمَا عِنْدَهُ يَتَبَيَّنُ لَهُمَا مِنْ حَالِهِ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُمَا قَدْ عَرَفَا الْمَرَضَ وَمُحَاوَلَتَهُ

فصل غش الشرابي

(فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا نَزَلَ مِنْ دُكَّانِهِ لِضَرُورَةٍ أَنْ لَا يَتْرُكَ صَبِيًّا صَغِيرًا يَبِيعُ وَيَشْتَرِي لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَنَّهُ يَكُونُ مُشَارِكًا فِي عِلْمِ الطِّبِّ لِئَلَّا يَكُونَ الطَّبِيبُ قَدْ غَلِطَ فِيمَا وَصَفَ كَمَا تَقَدَّمَ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الصَّبِيِّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِشَيْءٍ مِنْ الطِّبِّ فَلَا بَأْسَ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ أَهَمُّ الْأُمُورِ عِنْدَهُ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الدِّينِ وَالنَّظَرَ فِيمَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْآكَدُ عَلَيْهِ فَيُقَدِّمَهُ عَلَى غَيْرِهِ. مِثَالُهُ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ أَنَّ الشَّرَابَيَّ وَالطَّبِيبَ قَدْ يَكُونَانِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ النَّفْعِ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الشَّرِيفَةِ فَإِذَا سَمِعَا الْأَذَانَ تَرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هُوَ فِيهِ وَاشْتَغَلَ بِحِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ وَالْأَخْذِ فِي أَسْبَابِ أَدَاءِ الْفَرْضِ فِي جَمَاعَةٍ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ بِفُرُوضِهِ وَسُنَنِهِ وَآدَابِهِ رَجَعَ إلَى مَا كَانَ بِصَدَدِهِ فَلَا يَزَالُ فِي عَمَلِ خَيْرٍ مُتَجَدِّدٍ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] [فَصْلٌ غِشّ الشَّرَابِيّ] (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَطَّارِينَ مِنْ الْغِشِّ فِي سَبَبِهِمْ فَالشَّرَابِيُّ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْغِشُّ مُحَرَّمًا عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ غِشَّ الشَّرَابِيِّ يَئُولُ إلَى إزْهَاقِ النُّفُوسِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْأَمْرَاضِ أَوْ طُولِهَا لِأَنَّ غَالِبَ مَا يُشْتَرَى مِنْهُ لِلْمَرِيضِ وَالْمَرِيضُ إذَا اسْتَعْمَلَ مَا لَا يُوَافِقُهُ تَضَرَّرَ بِذَلِكَ غَالِبًا وَقَدْ تَعْسُرُ مُدَاوَاتُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَأْخُذَ حَاجَةً حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ سَلَامَتَهَا مِنْ الْغِشِّ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَآكَدُ مَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَ فِي دُكَّانِهِ دِمَاءَ اللِّسَانِ الْبَلَدِيِّ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ رَدِيئَةٍ: أَحَدُهَا - الْمَكْسُ وَالثَّانِي - أَنَّ الْمَكَّاسَ فِي الْوَقْتِ يَهُودِيٌّ وَالثَّالِثُ - غِشُّهُمْ فِيهِ غَالِبًا فَيَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ لِذَلِكَ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَزْغَلُونَ حَاجَةً تُسَمَّى شيرخشك بِحَاجَةٍ أُخْرَى تُسَمَّى ببيرخشك وَهُمَا مُتَشَابِهَانِ فِي الصِّفَةِ مُتَقَارِبَانِ فِي النَّفْعِ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَيْعِهِمْ الزَّنْجَبِيلَ بَعْدَ خَلْطِهِمْ لَهُ بِأَشْيَاءَ يَغُشُّونَهُ بِهَا مِمَّا تُشْبِهُهُ فِي الصِّفَةِ.

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَدْلِيسِهِمْ الزَّنْجَبِيلَ الْمُرَبَّى بِخَلْطِهِ بِغَيْرِهِ فَتَقِلُّ مَنْفَعَتُهُ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ إنَّمَا يُشْتَرَى لِلتَّدَاوِي وَإِذَا كَانَ مَغْشُوشًا بِغَيْرِهِ قَدْ يَعُودُ بِالضَّرَرِ عَلَى مَنْ اسْتَعْمَلَهُ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَدْلِيسِهِمْ شَحْمَ القاوند يَجْعَلُ غَيْرَهُ فِيهِ إذْ إنَّهُ يَنْفَعُ لِلزَّمْنَى فَيَخْلِطُونَ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَيَعُودُ بِالضَّرَرِ عَلَى مَنْ اسْتَعْمَلَهُ وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْغِشِّ فِي بَيْعِ الْخُولَانِ الْهِنْدِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يُوجَدَ خَالِصًا فَمَنْ اسْتَعْمَلَ غَيْرَهُ مِمَّا يُشْبِهُهُ عَادَ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ وَغَالِبُ مَنْ يَحْتَاجُهُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ لِلْعَيْنَيْنِ (فَصْلٌ) وَأَمَّا إنْ كَانَ الشَّرَابِيُّ يَشْتَرِي مِنْ قَاعَاتِ الشَّرَابِيِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُقَلِّلُونَ الْفَاكِهَةَ فِي الْأَشْرِبَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَأْخُذَ الْوَرْدَ الْمُرَبَّى الَّذِي يَعْمَلُهُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَلِّلُونَ الْوَرْدَ فِيهِ وَيَعْمَلُونَهُ بِحُثَالَةِ السُّكَّرِ وَالْأَشْيَاءِ الرَّدِيئَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُقَامُونَ مِنْ أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يُبَاشِرُونَ مَا يَسْتَعْمِلُهُ مَرَضَاهُمْ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَغَيْرِهَا فَمِنْ بَابٍ أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَفِي الْقَاعَاتِ وَالْمَطَابِخِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ بَعْضُ الصُّنَّاعِ الَّذِينَ فِي الْقَاعَاتِ لَا يَعْرِفُونَ قِوَامَ الْأَشْرِبَةِ، وَلَا مَا يُصْلِحُهَا، وَلَا مَا يُفْسِدُهَا فَيَعْمَلُونَهَا كَيْفَمَا اُتُّفِقَ وَيَبِيعُونَهَا لِلنَّاسِ كَذَلِكَ. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَشْتَرِيَ الشَّرَابَ مِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يَعْقِدُ شَرَابَهُ بالجلاسة وَالتَّرْنِيقِ وَالسُّكَّرِ الْأَحْمَرِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ بِالسُّكَّرِ الطَّيِّبِ فَلَوْ نَفَرَ الْمُشْتَرِي مِنْ سَوَادِ شَرَابِهِمْ قَالُوا لَهُ: هَذَا مِنْ كَثْرَةِ الْفَاكِهَةِ فِيهِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَضَمُّوا إلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ الْغِشِّ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمًا آخَرَ وَهُوَ الْكَذِبُ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الشَّرَابَ عِنْدَهُمْ عَلَى صِنْفَيْنِ: شَرَابٌ لِأَهْلِ الْبَلَدِ وَشَرَابٌ لِلتُّجَّارِ وَأَهْلِ الْأَرْيَافِ فَالشَّرَابُ الَّذِي يُبَاعُ لِلتُّجَّارِ وَأَهْلِ الْأَرْيَافِ رَدِيءٌ فَيَعْرِضُونَ عَلَيْهِمْ الْعَيْنَ مِنْ النَّوْعِ الطَّيِّبِ فَإِذَا وَصَلَ التُّجَّارُ وَأَهْلُ الْأَرْيَافِ إلَى الْبَلَدِ

فصل في ذكر ما يفعل في المطابخ

الَّذِي قَصَدُوهُ وَجَدُوهُ رَدِيئًا عَلَى غَيْرِ الْعَيْنِ الَّتِي رَأَوْهَا، وَلَا يُمْكِنُهُمْ الرُّجُوعُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْذَرُ عَلَى دِينِهِ فَلَا يَبِيعُهُ إلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ فَيَغْرَمُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ غَالِبًا وَهَذَا نَادِرٌ وُقُوعُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُدَلِّسُ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا دَلَّسَ الْبَائِعُ عَلَيْهِ هُوَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَأَنْوَاعُ الْغِشِّ فِي هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى بَاقِيهِ بِالضِّمْنِ. وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَنْصَحَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِخَلَاصِ ذِمَّتِهِ وَأَنْ يَنْصَحَ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَقْصِدُونَهُ مِنْهُ مِنْ وَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَا يُفْعَلُ فِي الْمَطَابِخِ] ِ اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ الْمَطَابِخَ هِيَ الْأَصْلُ لِلْأَشْرِبَةِ وَفِيهَا أُمُورٌ عَدِيدَةٌ عَجِيبَةٌ يَتَعَيَّنُ التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِهَا لِيُتَحَفَّظَ مِنْهَا إذْ الْعِلْمُ قَائِمٌ يَأْمُرُ وَيَنْهَى فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَنْدَ إذَا أُتِيَ بِهِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَزِنُونَهُ فِيهِ يَنْكَسِرُ بَعْضُهُ غَالِبًا وَقَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ قَبْلُ؛ فَيَقَعُ بَعْضُهُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَخْتَلِطُ بِزِبْلِ الدَّوَابِّ وَالتُّرَابِ الْمُتَنَجِّسِ ثُمَّ يَضُمُّونَهُ بِمَا اخْتَلَطَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَفْرَادِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ إذَا طُبِخَ وَغُلِيَ وَصُفِّيَ مِنْ الْعُيُونِ طَهُرَ (فَصْلٌ) ثُمَّ إنَّ الْقَنْدَ إذَا كُسِّرَ صَحِيحُهُ فِي الْمَطْبَخِ وَجُعِلَ فِي الْجِفَانِ بَعْدَ طَبْخِهِ وَصَفُّوهُ فِي بَيْتِ التَّعْلِيقِ حَطُّوهُ فِيهِ مَكْشُوفًا فَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ بَوْلِ الْفَأْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَيْهِ سِيَّمَا الْأَيَّامُ الَّتِي يَكْثُرُ الْخَشَاشُ فِيهَا فَإِذَا أَرَادُوا دَفْنَهُ عَمَدُوا بِهِ إلَى طِينٍ فِي بَيْتِ الدَّفْنِ مُعَدٍّ لِتَغْطِيَتِهِ بِهِ وَذَلِكَ الطِّينُ مَعَ كَوْنِهِ فِي بُيُوتٍ مُظْلِمَةٍ مَكْشُوفَةٍ يَدْخُلُ الصُّنَّاعُ إلَى بَيْتِ الْخَلَاءِ حُفَاةً وَيَمْشُونَ كَذَلِكَ فِي الطَّرَقَاتِ عَلَى النَّجَاسَاتِ - وَبَيْتُ الْخَلَاءِ وَالطُّرُقَاتُ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ - ثُمَّ يَمْشُونَ بِتِلْكَ الْأَقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الطِّينِ فَيَدُوسُونَهُ بِهَا وَالْغَالِبُ أَنَّ الْفَأْرَةَ

فصل الخابية التي يطبخ فيها السكر

قَدْ سَكَنَتْ وَوَلَدَتْ فِي ذَلِكَ الطِّينِ فَإِذَا دَاسُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ قَتَلُوا أَوْلَادَهَا فَيَخْتَلِطُونَ بِالطِّينِ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ أَخْرَجُوهُمْ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الطِّينَ قَدْ تَنَجَّسَ بِمَوْتِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلُونَهُ عَلَى وُجُوهِ الْجِفَانِ طَرِيًّا عِنْدَ دَفْنِهِ فَيَتَشَرَّبُ السُّكَّرَ مِنْ ذَلِكَ الطِّينِ الْمُتَنَجِّسِ ثُمَّ يُعِيدُونَهُ إلَى بَيْتِ التَّعْلِيقِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ [فَصْلٌ الْخَابِيَةُ الَّتِي يُطْبَخُ فِيهَا السُّكَّرُ] فَصْلٌ وَأَمَّا الْخَابِيَةُ الَّتِي يُطْبَخُ فِيهَا السُّكَّرُ فَإِنَّهُمْ إذَا مَشَوْا فَوْقَهَا حُفَاةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَعَ كَوْنِهَا مُنْغَسِلَةً وَأَرَادُوا غَسْلَهَا يَغْسِلُونَ أَرْجُلَهُمْ مَعَهَا. وَأَمَّا الْقَطَّارَةُ فَأَوْعِيَتُهَا مُفَتَّحَةٌ مَكْشُوفَةٌ مَأْوًى لِلْفَأْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْحَشَرَاتِ، ثُمَّ إنَّهُمْ يَسْمِطُونَهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِيَأْخُذُوا مِنْهَا مَا يَبِسَ فِيهَا لَا لِأَجْلِ تَطْهِيرِهَا فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ غُسَالَةٌ رَدِيئَةٌ لِأَجْلِ قَذَارَتِهَا بِسَبَبِ مَا يَلْحَقُهَا وَهِيَ مَكْشُوفَةٌ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُظْلِمَةِ الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْ الْحَشَرَاتِ، وَبَوْلُهَا غَالِبًا فِي تِلْكَ الْأَوْعِيَةِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَسِيلُ مِنْ الْأَبَالِجِ فِي بَيْتِ الْقَنْدِ الَّذِي فِي الْمَطْبَخِ إذَا مَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ مَعَ مَا يُغْسَلُ مِنْهُ وَهُمْ كُلَّمَا دَخَلُوا أَوْ خَرَجُوا هُنَاكَ دَاسُوا عَلَيْهِ بِأَرْجُلِهِمْ حُفَاةً كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَا أَرَادُوا طَبْخَ هَذِهِ الْغُسَالَةِ جَمَعُوا الْجَمِيعَ وَغَلَوْهُ عَلَى النَّارِ وَجَعَلُوا فِيهِ قَلِيلًا مِنْ اللَّبِنِ لِتَعْلُوَ تِلْكَ الْأَوْسَاخُ عَلَى وَجْهِ الْخَابِيَةِ فَيُزِيلُونَهَا ثُمَّ يُوقِدُونَ عَلَيْهِ النَّارَ حَتَّى يَثْخُنَ ثُمَّ يَدْعُونَهُ فِي الْأَمْطَارِ الْمَكْشُوفَةِ وَيَتْرُكُونَهُ مَكْشُوفًا وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْأَمْطَارِ الْفَأْرَةُ أَوْ زِبْلُهَا أَوْ غَيْرُهَا مِنْ الدَّبِيبِ، فَمِنْهُ مَا يُوجَدُ صَحِيحًا وَمِنْهُ مَا يُوجَدُ وَقَدْ تَزَلَّعْ فَيُزِيلُونَهُ وَيَشِحُّ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الْغَالِبُ بِإِرَاقَتِهَا فَيَبِيعُهَا لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ مُتَنَجِّسَةٌ، وَلَا يُبَيِّنُ، وَلَوْ بَيَّنَ لَمْ يَجُزْ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الصُّنَّاعِ فِي الْغَالِبِ يَطْبُخُونَهَا، وَلَا يَأْخُذُونَ قِوَامَهَا لِئَلَّا تَنْقُصَ فَيَبْقَى فِيهَا مَائِيَّةٌ فَتَحْمُضُ سَرِيعًا فَمَنْ سَافَرَ بِهَا خَسِرَهَا لِسُرْعَةِ حُمُوضَتِهَا (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْقَطَّارَةُ الطَّيِّبَةُ عِنْدَهُمْ فَقَلَّ أَنْ يُخْرِجُوهَا عَلَى وَجْهِهَا بَلْ يَخْلِطُونَ فِي كُلِّ مَطَرٍ مِنْهَا عِنْدَ بَيْعِهِ شَيْئًا مِنْ مَصْلِ الْعُيُونِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَصًا

فصل في الترنيق

يُحَرِّكُونَ بِهَا كُلَّ مَطَرٍ حَتَّى يَدْخُلَ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَتْ فَوْقَ الْمَطَرِ رَغْوَةٌ صَفْرَاءُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْقَطَّارَةُ سَوْدَاءَ فَتَرِقُّ بِذَلِكَ وَيَحْسُنُ لَوْنُهَا فَيَظُنُّ الْمُشْتَرِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صَفَاءِ قَنْدِهَا وَأَنَّهَا قَطَّارَةٌ طَيِّبَةٌ عَلَى وَجْهِهَا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ [فَصْلٌ فِي التَّرْنِيق] فَصْلٌ وَأَمَّا التَّرْنِيقُ فَيَجْعَلُونَ رَدِيئَهُ فِي قَعْرِ الْجِفَانِ وَطَيِّبَهُ فِي أَعْلَاهَا ثُمَّ يَجْعَلُونَهَا فِي الْهَوَاءِ حَتَّى يَيْبَسَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلُهَا طَرِيٌّ رَدِيءٌ فَيَظُنُّ مُشْتَرِيهَا أَنَّهَا كُلَّهَا مِثْلُ أَعْلَاهَا يَابِسٌ نَقِيٌّ (فَصْلٌ) وَأَمَّا السُّكَّرُ الْعَالِي فَلِبَعْضِهِمْ فِيهِ صِنَاعَةٌ عَجِيبَةٌ عِنْدَ مُحَاوِلَتِهِ وَذَلِكَ أَنَّ قُمْعَ السُّكَّرِ يُرَى ظَاهِرُهُ أَبْيَضَ فَإِذَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي وَمَضَى بِهِ وَكَسَرَهُ وَجَدَ بَاطِنَهُ أَحْمَرَ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ إذَا أَرَادَ شِرَاءَهُ إنَّمَا يُقَلِّبُ ظَاهِرَهُ فَإِنْ تَسَلَّخَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ قَبْلَ بَيْعِهِ أَصْلَحُوهُ بِصِنَاعَتِهِمْ الرَّدِيئَةِ فَمَنْ رَآهُ يَظُنُّهُ أَنَّهُ صَحِيحٌ مِنْ أَصْلِهِ فَإِذَا بَقِيَ قَلِيلًا خِيفَ عَلَيْهِ سِيَّمَا عِنْدَ رُكُوبِ الْبَحْرِ وَطُولِ السَّفَرِ وَكَثْرَةِ الشَّيْلِ وَالْحَطِّ [فَصْلٌ قَطْرُ النَّبَاتِ] فَصْلٌ وَأَمَّا قَطْرُ النَّبَاتِ فَلِبَعْضِهِمْ فِيهِ أَيْضًا غِشٌّ آخَرُ وَذَلِكَ أَنَّ الطَّرِيَّ مِنْهُ هُوَ الْمَرْغُوبُ فِيهِ بِخِلَافِ قَدِيمِهِ فَإِنَّهُ مَرْغُوبٌ عَنْهُ فَيَأْتِي الْمُشْتَرِي فَيَجِدُهُ فِي قُدُورِهِ فَيَرْغَبُ فِي شِرَائِهِ فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُمْ عَوَّضُوهُ عَنْهُ بِالْقَدِيمِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ فَيَجِدُهُ فِي الْقَدْرِ فَيَرْغَبُ فِيهِ فَيَشْتَرِيه مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ طَرِيٌّ وَهُوَ قَدِيمٌ، ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْقَدِيمِ وَهَذَا غِشٌّ وَتَدْلِيسٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ بَلْ لَوْ طَالَ مُكْثُهُ فِي قُدُورِهِ خَالِصًا لَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَيِّنُوا عِنْدَ بَيْعِهِ أَنَّهُ قَدْ صَارَ قَدِيمًا؛ لِأَنَّ الطَّرِيَّ مِنْهُ لَيْسَ كَالْقَدِيمِ (فَصْلٌ) وَأَمَّا السُّكَّرُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ ظَاهِرُ أَسْفَلِ الْقِمْعِ أَحْمَرَ يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنْ السُّكَّرِ الْأَبْيَضِ فَيَحُكُّ بِهِ ظَاهِرَ السُّكَّرِ الْأَحْمَرِ بِصَنْعَةٍ لَهُمْ فِيهِ

فَيَرْجِعُ كَأَنَّهُ أَبْيَضُ فَيَظُنُّ الْمُشْتَرِي أَنَّ بَاطِنَهُ مِثْلُ ظَاهِرِهِ. وَهَذِهِ نُبَذٌ مِمَّا يَغُشُّ بِهِ بَعْضُهُمْ وَمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ بِهِ يُغْنِي عَنْ تَتَبُّعِ الْمَسَائِلِ الْبَاقِيَةِ، وَالْأَمْرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ سَهْلٌ يَسِيرٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ خَلَاصَ ذِمَّتِهِ وَبَرَاءَتَهَا مِنْ التَّبِعَاتِ وَوُقُوعَ الْبَرَكَةِ لَهُ حَالًا وَمَآلًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَزِيدُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا يَسِيرًا فِي أُجْرَةِ الصُّنَّاعِ وَالْمُؤَنِ كَشِرَاءِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي يُغَطِّي بِهَا وَزِيَادَةِ ثَمَنِ الْمَاءِ الَّذِي يَغْسِلُونَ بِهِ مَا يَنُوبُهُمْ وَإِجَارَةِ مَنْ يَقُومُ بِتَغْطِيَةِ الْأَوْعِيَةِ وَصِيَانَتِهَا وَإِجَارَةِ أَمِينٍ يَلْحَظُ بِنَظَرِهِ الصُّنَّاعَ فَيَأْمُرُهُمْ بِغَسْلِ أَقْدَامِهِمْ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنَبَّهَ عَلَى مِثْلِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ قَلَّ أَنْ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ أَهَمُّ أُمُورِهِ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ الْفَرَائِضِ وَهَذَا فَرْضٌ فَأَشْبَهَ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ قَبْلُ فِي أُمُورِ الْوَرَّاقَةِ مِنْ أَنَّ صَاحِبَهَا يَشْتَرِطُ عَلَى الصُّنَّاعِ فِعْلَ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَإِنْ كَانَتْ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ لَكِنْ لَمَّا أَنْ اعْتَادَ بَعْضُ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ تَرْكَهَا اُحْتِيجَ إلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَطَابِخِ، وَلَوْ كَانَ الصَّانِعُ يَتَحَفَّظُ عَلَى دِينِهِ وَمُسْتَأْجِرُهُ يَطْلُبُ مِنْهُ دَوَامَ الْعَمَلِ وَيَشِحُّ عَلَيْهِ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَهُوَ آثِمٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَدْخُلُ إيقَاعُهَا بِشُرُوطِهَا فِي الْإِجَارَةِ، وَلَوْ شُرِطَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُعْطِيَهُ الْأُجْرَةَ كَامِلَةً وَيَحْرُمُ عَلَى الصَّانِعِ أَنْ يُطِيعَهُ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالْجُمُعَةِ وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَا يَعْمَلُ عِنْدَ مَنْ هَذَا حَالُهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِجْرَانِهِ فَكَيْفَ يَعْمَلُ عِنْدَهُ وَفِي نَفْسِ الْعَمَلِ عِنْدَهُ إعَانَةٌ لَهُ. (فَصْلٌ) وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَدَّعِي مِنْ أَصْحَابِ الْمَطَابِخِ أَنَّ مَا ذُكِرَ قَبْلُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ لِكَثْرَةِ الْأَوْعِيَةِ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَى ثَمَنِ الْأَغْطِيَةِ وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الصُّنَّاعِ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مَا يُقَالُ لَهُمْ مِمَّا يُؤْمَرُونَ بِهِ أَوْ يُنْهَوْنَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ رَاجِعٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ زِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ خَلَاصُ ذِمَّتِهِ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْخَيْرُ الْمُتَعَدِّي فِيمَا هُوَ بِسَبِيلِهِ بِسَبَبِ نُصْحِهِ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَرْضَاهُمْ يَحْتَاجُونَ لِلْغِذَاءِ

بِالسُّكَّرِ وَالْأَشْرِبَةِ فَكُلُّ مَرِيضٍ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ سُكَّرِهِ أَوْ مِنْ الشَّرَابِ الَّذِي عَمِلَهُ بِهِ لَهُ فِيهِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ الْأَصِحَّاءِ لِضَرُورَةٍ أَوْ غَيْرِهَا هَذَا لَوْ كَانَ فِي زَمَانِ كُلِّ مَنْ يُبَاشِرُ مَا ذُكِرَ يَتَحَفَّظُ فِيهِ وَيَفْعَلُ الْأَمْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ عَزَّ وُجُودُ هَذَا فَمَنْ فَعَلَهُ كَانَ مَشْهُودًا لَهُ بِالْجَنَّةِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ فَكَأَنَّمَا أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» فَقَدْ شَهِدَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْمَعِيَّةِ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ هَذَا وَهُوَ إنَّمَا أَحْيَا سُنَّةً وَاحِدَةً فَمَا بَالُك بِمَنْ أَحْيَا فَرَائِضَ عَدِيدَةً سِيَّمَا وَنَفْعُهَا مُتَعَدٍّ وَالْخَيْرُ الْمُتَعَدِّي أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرِ عَلَى الْمَرْءِ نَفْسِهِ مَعَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يُعْدَمْ مِنْ النَّاسِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَإِنْ عُدِمَ فِي قَوْمٍ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي آخَرِينَ وَمَنْ سَأَلَ وَفَحَصَ عَمَّنْ يَشْتَرِي مِنْهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَجِدَ مَنْ هُوَ مُتَحَفِّظٌ عَلَى دِينِهِ لَكِنْ قَدْ يُعَزُّ وُجُودُهُ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ السُّكَّرَ السَّالِمَ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَوْجُودٌ وَهُوَ الَّذِي يُعْمَلُ فِي بَعْضِ بِلَادِ الصَّعِيدِ وَيُسَمَّى الْقِفْطِيَّ وَالثَّمَنُ مُتَقَارِبٌ، وَلَوْ غَلَا ثَمَنُهُ لَتَعَيَّنَ شِرَاؤُهُ لِمَنْ يُرِيدُهُ، وَلَوْ فُقِدَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّضَ عَنْهُ بِمَا يُعْمَلُ مِنْ عَسَلِ النَّحْلِ بَعْدَ أَنْ تَبْرُدَ حَرَارَتُهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْتَدِلَ وَلِأَجْلِ عَدَمِ النَّظَرِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى أَعْنِي التَّحَفُّظَ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَالنَّظَرُ فِي خَلَاصِ الذِّمَّةِ قَلَّ أَنْ تَرَى مَنْ يَتَسَبَّبُ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إلَّا وَهُوَ يَشْكُو مِنْ عَدَمِ الْفَائِدَةِ أَوْ قِلَّتِهَا أَوْ الْخَسَارَةِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ أَوْ يُعْدَمُ رَأْسُ الْمَالِ وَيُقَوَّمُ وَدُيُونُ النَّاسِ فِي ذِمَّتِهِ؛ كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ عَدَمِ النَّظَرِ فِي أُمُورِ نَفْسِهِ وَفِكَاكِهَا بِنُصْحِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْ وَقَعَ النُّصْحُ وَزَادَ عَلَى نَفْسِهِ فِي النَّفَقَةِ قَلِيلًا كَمَا تَقَدَّمَ لَجَاءَتْ الْبَرَكَاتُ تَتْرَى وَلَكَثُرَتْ الْخَيْرَاتُ لَدَيْهِ وَهُوَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] فَكُلُّ إنْسَانٍ يَرْجِعُ عَمَلُهُ إلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُرِيَنَا الْحَقَّ حَقًّا وَيَرْزُقَنَا اتِّبَاعَهُ وَيُرِيَنَا

فصل في ذكر الطاحون وما يتعلق بها

الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَيَرْزُقَنَا اجْتِنَابَهُ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الطَّاحُونِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا] وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَصْلُ مُتَقَدِّمًا عَلَى مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ الْقُوتُ الَّذِي بِهِ الْقَوَامُ لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَانَ الْفَصْلُ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ أَكْثُرُهُ مُخْتَصًّا بِالْمَرْضَى قُدِّمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَرِيضِ آكَدُ وَضَرُورَتَهُ أَشَدُّ وَالْفَحْصُ عَمَّا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ فِي حَقِّهِ مُتَأَكِّدٌ وَمُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الصَّحِيحِ وَإِنْ كَانَا مَعًا مُتَأَكِّدَيْنِ. فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الطَّاحُونِ أَنْ يُحْضِرَ نِيَّتَهُ وَيُحْسِنَهَا وَيُنَمِّيَهَا مَهْمَا اسْتَطَاعَ ثُمَّ يَنْوِيَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ تِلْكَ النِّيَّاتِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْعَالِمُ مِنْ بَيْتِهِ وَيَرْجِعُ إلَيْهِ لِيَكُونَ فِي سَبَبِهِ وَهُوَ فِي عِبَادَةٍ مُقْبِلًا عَلَى مَوْلَاهُ فَيَقْصِدُ بِمَا هُوَ فِيهِ أَنْ يُيَسِّرَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ أَقْوَاتَهُمْ لِكَوْنِهِ يَفْعَلُهَا عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فَيَكْفِيهِمْ مُؤْنَةَ الْفِكْرِ فِيمَا هُمْ يَتَوَقَّعُونَهُ فِي الطَّحِينِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ. أَلَا تَرَى إلَى مَا نُقِلَ فِي الْقِدْرِ إذَا أَعَارَهَا الْإِنْسَانُ كَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَا طُبِخَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ إذَا أَعْطَى مِنْهُ شَيْئًا كَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَا طُيِّبَ بِذَلِكَ الْمِلْحِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَمَا بَالُك بِتَخْلِيصِ الْقُوتِ الَّذِي بِهِ قَوَامُ الْبِنْيَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي تَعْتَرِيهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّوَابَ فِي هَذَا أَعْظَمُ وَكَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَا يُبَاشِرُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَالتَّطَوُّعِ بِهِمَا وَبَيْنَ سَبَبِهِ بَلْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ مَقْصُورَانِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ سَبَبِهِ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ عَامٌّ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ إذْ إنَّهُ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَقْدِرُ عَلَى عَمَلِ الطَّاحُونِ فِي بَيْتِهِ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ أَيْضًا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَطْحَنَ بِيَدِهِ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ أَيْضًا يَقْدِرُ عَلَى شِرَاءِ جَارِيَةٍ أَوْ عَبْدٍ يَطْحَنَانِ لَهُ وَصَاحِبُ الطَّاحُونِ قَدْ رَفَعَ هَذِهِ الْكُلْفَةَ عَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يَكُونُ تَطَلُّعُهُ وَتَشَوُّقُهُ لِلرِّزْقِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا إلَى السَّبَبِ فَإِنْ شَاءَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ

يَرْزُقَهُ رَزَقَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ أَبْوَابَ الرِّزْقِ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تَنْحَصِرُ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الصُّنَّاعِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَأَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ فِي جَمَاعَةٍ وَمَنْ لَمْ يَسْتَمِعْ مِنْهُمْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ مُشَارِكٌ لَهُمْ فِي الْإِثْمِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ هِجْرَانُهُ وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ تَرْكُ الشِّرَاءِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْتَرَ مِنْهُ كَسَدَتْ عَلَيْهِ مَعِيشَتُهُ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ بِذَلِكَ أَنَّ تَرْكَ الشِّرَاءِ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ عَدَمِ تَغْيِيرِهِ عَلَى الصُّنَّاعِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ عِنْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ مِثْلُهُ عَلَى مَنْ كَانَ يَطْحَنُ لِلنَّاسِ وَعِنْدَهُ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلَا يُطْحَنُ عِنْدَهُ شَيْءٌ حَتَّى يُقْلِعَ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَعَلَّ قَائِلًا: يَقُولُ: إنَّ الْهِجْرَانَ لَا يُفِيدُ مِنْ وَاحِدٍ، وَلَا مِنْ اثْنَيْنِ حَتَّى يَتْرُكَهُ سَائِرُ الْمُشْتَرِينَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا بِوَظِيفَةٍ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ فِي إنْكَارِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ «إذَا ظَهَرَ فِيكُمْ الْمُنْكَرُ فَلَمْ تُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّ اللَّهُ الْكُلَّ بِعَذَابٍ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّغْيِيرَ قَدْ حَصَلَ بِالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَلِأَنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُ السُّؤَالِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ مُوجِبِ تَرْكِ شِرَاءِ الدَّقِيقِ وَغَيْرِهِ وَتَرْكِ طَحْنِ الْقُوتِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَإِذَا سَأَلَ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ أَخْبَرَا بِمُوجِبِهِ فَيَشِيعُ الْأَمْرُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَيُعْلَمُ فَبَعْضُ النَّاسِ يَقْتَدِي وَيَهْتَدِي وَبَعْضُهُمْ يَعْلَمُ الْحُكْمَ، وَإِنْ كَانَ مُعْرِضًا عَنْ فِعْلِهِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ خَيْرٌ عَظِيمٌ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ لَا يُغَيِّرَانِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ مَعَهَا عَلَى التَّغْيِيرِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى تَرْكِ الْإِنْكَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا يَقُولُ كَمَقَالَتِهِمَا ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ فَيُؤَدِّي هَذَا إلَى عَدَمِ التَّغْيِيرِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَقَعُ الْعَذَابُ عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ قَبْلُ. نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ

فصل مشى الصناع حفاة على بول الخيل

[فَصَلِّ مشى الصناع حفاة عَلَى بَوْل الخيل] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ الصُّنَّاعَ يَفْعَلُونَ مَا اعْتَادُوهُ مِنْ مَشْيِهِمْ حُفَاةً عَلَى بَوْلِ الْخَيْلِ وَدُخُولِهِمْ بَيْتَ الْخَلَاءِ حُفَاةً أَيْضًا، وَكَذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ ثُمَّ يَدُوسُونَ الْقَمْحَ بِتِلْكَ الْأَقْدَامِ النَّجِسَةِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلُوهَا فَيَصِيرُ مَا أَصَابَتْهُ أَقْدَامُهُمْ مِنْ الْقَمْحِ قَبْلَ غَسْلِهَا مُتَنَجِّسًا وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ فِي ذِمَّةِ مَنْ اسْتَأْجَرَهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ رَآهُمْ وَعَلِمَ بِهِمْ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّغْيِيرِ عَلَيْهِمْ بِشَرْطِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ (فَصْلٌ) وَقَدْ نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَنْخُلُونَ الدَّقِيقَ وَنَخْلُهُ مِنْ إحْدَى الْبِدَعِ الثَّلَاثِ الْمُحْدَثَةِ أَوَّلًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الصَّانِعِ الَّذِي يُبَاشِرُ الْقَمْحَ وَيَتَوَلَّى طَحْنَهُ وَيَقِفُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ التَّحَفُّظَ الْكُلِّيَّ عَلَى الدَّقِيقِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا فَيَتَنَجَّسُ بِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَنْخُلُهُ فَيَأْكُلُهُ وَهُوَ مُتَنَجِّسٌ وَمَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ صَاحِبَ الدَّقِيقِ حِينَ أَخَذَهُ لَهُ لِيَعْمَلَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فِيهِ [فَصْلٌ الرِّفْقَ بِالدَّابَّةِ الَّتِي يَطْحَنُ عَلَيْهَا] (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِالدَّابَّةِ الَّتِي يَطْحَنُ عَلَيْهَا لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا - الْإِحْسَانُ إلَيْهَا بِرَاحَتِهَا مِنْ مَشَقَّةِ الْعَمَلِ قَلِيلًا. وَالثَّانِي - لِئَلَّا يَجِيءَ فِي الطَّحْنِ خُشُونَةٌ فَيَصِيرُ كَالدَّشِيشِ سِيَّمَا إذَا طَحَنَ فِي وَقْتِ الْحَرِّ. وَالثَّالِثُ - أَنَّ الدَّقِيقَ لَا يَزْكُو كَثِيرًا وَالْحَالَةُ هَذِهِ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا بَقِيَ فِي الْقَادُوسِ قَلِيلٌ مِمَّا يُطْحَنُ أَخَذَ طَحِينًا لِشَخْصٍ آخَرَ فَيَسْكُبُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ فَتَخْتَلِطُ أَقْوَاتُ النَّاسِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَهِيَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ يُحَصِّلُ قُوتَهُ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ وَآخَرُ يُحَصِّلُهُ عَلَى طَرِيقِ الْوَرَعِ وَمَرَاتِبُهُ مُتَفَاوِتَةٌ وَآخَرُ مَكَّاسٌ أَوْ ظَالِمٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّنْ لَا يُرْتَضَى حَالُهُ فِي أَمْرِ دِينِهِ فَتَفْسُدُ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَقْوَاتُ النَّاسِ وَمَقَاصِدُهُمْ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي قَلَّ أَنْ يَتَخَلَّصَ فِيهِ الْحَلَالُ لِكَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ فَيَتْعَبُ الْمُكَلَّفُ فِي تَحْصِيلِهِ ثُمَّ يَفْسُدُ

عَلَيْهِ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ وَرَدَ «مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَطَاعَ اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى» وَفِي الْحَدِيثِ «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ» فَأَمَّا لِسَانُ الْعِلْمِ فَاَلَّذِي يُخَاطَبُ بِهِ الْمُكَلَّفُ التَّحَفُّظُ عَلَى قُوتِهِ أَنْ يَخْتَلِطَ بِالْحَرَامِ الْبَيِّنِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الطَّحِينُ الَّذِي قَبْلَهُ لِمَكَّاسٍ أَوْ ظَالِمٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا طُحِنَ قَبْلَ طَحِينِهِ تَحْتَ الْحَجَرِ فَيَخْتَلِطَ بِطَحِينِهِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنْ الْحَرَامِ لَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ وَالرِّزْقِ. وَأَمَّا الْوَرَعُ فَلَا يَأْتِي إلَى الطَّاحُونِ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ طَرِيقَهُ مُنَافِيَةٌ لِحَالِ مَا يُفْعَلُ فِيهَا إذْ أَنَّ أَدْنَى الْوَرَعِ أَنْ يَعْرِفَ أَصْلَ اكْتِسَابِ الْقُوتِ مِنْ أَيْنَ هُوَ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فِي الطَّاحُونِ بِسَبَبِ مَا يَبْقَى تَحْتَ الْحَجَرِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ مَا جَرَى لِلْحَجَّاجِ لَمَّا أَنْ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَكَانَ أَهْلُهُ لَا يَتَوَلَّى عَلَيْهِمْ أَحَدٌ وَيُشَوِّشُ عَلَيْهِمْ إلَّا هَلَكَ سَرِيعًا بِدُعَائِهِمْ عَلَيْهِ؛ فَأَمَرَهُمْ الْحَجَّاجُ أَنْ يَأْتِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِبَيْضَةِ دَجَاجَةٍ وَيَضَعَهَا فِي صَحْنِ الْجَامِعِ وَأَرَاهُمْ أَنَّ لَهُ بِذَلِكَ ضَرُورَةً فَاسْتَخَفُّوا ذَلِكَ مِنْهُ فَفَعَلُوا ثُمَّ أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ عَيْنَ بَيْضَتِهِ وَأَرَاهُمْ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ الرُّجُوعُ عَمَّا أَرَادَهُ فَلَمَّا أَنْ أَخَذُوا ذَلِكَ لَمْ يَعْلَمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَيْنَ بَيْضَتِهِ فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ الْحَجَّاجُ أَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِي ذَلِكَ مَدَّ يَدَهُ إلَيْهِمْ فَدَعَوْا عَلَيْهِ عَلَى عَادَتِهِمْ فَمُنِعُوا الْإِجَابَةَ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَثُرَتْ الْمَظَالِمُ الْيَوْمَ وَكَثُرَ الدُّعَاءُ عَلَى فَاعِلِهَا وَقَلَّتْ الْإِجَابَةُ أَوْ عُدِمَتْ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ الْحَرَامَ وَيَلْبَسُ الْحَرَامَ وَيَقُولُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ أَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فَلَوْ سَلِمَ بَعْضُهُمْ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْحَالِ وَدَعَا لَاسْتُجِيبَ لَهُ عَاجِلًا» وَقَدْ وَقَعَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ أَنَّ بَلَدًا بِبِلَادِ السُّودَانِ كَانَ السُّلْطَانُ لَا يُوَلِّي عَلَيْهِمْ أَحَدًا

وَيَظْلِمُهُمْ إلَّا هَلَكَ بِدُعَائِهِمْ عَلَيْهِ فَتَحَيَّرَ السُّلْطَانُ فِي أَمْرِهِمْ فَطَلَبَ مِنْهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: أَنْتَ تَعْرِفُ الشَّرْطَ فَقَبِلَهُ فَوَلَّاهُ فَخَرَجَ مِنْ حِينِهِ فَغَصَبَ مِلْحًا وَبِلَادُ السُّودَانِ لَيْسَ فِيهَا مِلْحٌ وَتَرَكَهُ فِي الْبَلَدِ وَمَضَى لِسَفَرِهِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ وَصَلَ تَرَكَ النُّزُولَ فِي مَوْضِعِ الْوِلَايَةِ وَجَلَسَ فِي الْجَامِعِ وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَالْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ فَقَالُوا لَهُ: أَلَا تَطْلُعُ إلَى مَوْضِعِك؟ فَقَالَ: لَا، مَا جِئْت إلَّا عَلَى أَنِّي وَاحِدٌ مِنْكُمْ وَفِي الْجَامِعِ يُمْكِنُنِي أَنْ أُبَاشِرَكُمْ، وَلَا أَصْدُرُ إلَّا عَنْ رَأْيِكُمْ أَوْ كَمَا قَالَ. فَبَقِيَ كَذَلِكَ مُدَّةً فَاعْتَقَدُوهُ وَحَسَّنُوا بِهِ الظَّنَّ فَلَمَّا أَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُمْ تَمَارَضَ فَاجْتَمَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَسَأَلُوهُ عَنْ مُوجِبِ مَرَضِهِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ عَدَمِ الْمِلْحِ فَقَالُوا لَهُ: نَأْتِي لَك بِالْمِلْحِ فَقَالَ: إنِّي لَا أَعْرِفُ أَصْلَهُ وَإِنَّ لِي مِلْحًا بِالْبِلَادِ أَعْرِفُ جِهَتَهُ وَأَصْلَهُ فَلَعَلَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الشِّفَاءُ فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ أُرْسِلَ مَنْ يَأْتِي بِهِ فَعَلْت وَإِلَّا فَلَا، فَأَذَنُوا لَهُ فَأَرْسَلَ مَنْ يَأْتِي بِهِ فَلَمَّا أَنْ حَصَلَ عِنْدَهُ فَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَرَكَةِ فَجَاءَ شَخْصٌ مِنْهُمْ إلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلْت بِالْمِلْحِ الَّذِي أَخَذْته؟ فَقَالَ: هُوَ ذَا لَمْ أَسْتَعْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدُ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَسْتَعْمِلْهُ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ وَإِنِّي لَمْ أَسْتَعْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ الْوَالِي أَنَّهُمْ قَدْ أَكَلُوا الْمِلْحَ طَلَعَ إلَى مَوْضِعِ الْوِلَايَةِ وَمَدَّ يَدَهُ إلَيْهِمْ فَجَاءَ الشَّخْصُ الْمَذْكُورُ إلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ أَقُلْ لَك: إنَّ تَحْتَ هَذَا شَيْئًا فَقَامَا مَعًا وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْحَهُ مَعَهُ وَجَاءَا إلَى الْوَالِي فَوَضَعَا الْمِلْحَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَا لَهُ: إنَّا لَمْ نَسْتَعْمِلْ مِنْهُ شَيْئًا فَخَافَ مِنْهُمَا وَخَرَجَ هَارِبًا مِنْ حِينِهِ أَوْ كَمَا جَرَى. وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا أَكَلَ الْحَلَالَ لَمْ تُرَدَّ دَعْوَتُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا الَّذِي وَقَعَ بِسَبَبِ بَيْضَةٍ وَمِلْحٍ فَمَا بَالُك بِخَلْطِ الْقُوتِ فِي كُلِّ طَحْنَةٍ. وَلَعَلَّ الصَّانِعَ يَقُولُ: إنَّ فِعْلَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِلضَّرُورَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُنِي غَيْرُهُ؛ لِأَنِّي إنْ صَبَرْت حَتَّى يَفْرُغَ طَحِينُ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ أَخَافُ أَنْ يَنْكَسِرَ حَجَرُ الطَّاحُونِ أَوْ يَفْسُدُ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ مَا يَفْعَلُ حَتَّى تَقِفَ الدَّابَّةُ وَيُبَدِّلَهَا

بِغَيْرِهَا لَكِنَّهُمْ شَحُّوا بِبَطَالَةِ الْوَقْتِ الَّذِي تُوقَفُ فِيهِ الدَّابَّةُ حَتَّى يَفْرُغَ مَا فِي الْقَادُوسِ. فَإِنْ قَالَ الصَّانِعُ مَثَلًا: لَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَاطِ الطَّحِينَيْنِ وَإِنْ فَرَغَ مَا فِي الْقَادُوسِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ مَا تَحْتَ الْحَجَرِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ مِنْهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ فَاغْتُفِرَ لِيَسَارَةِ أَمْرِهِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ وَلِكَوْنِ نُفُوسِ النَّاسِ تَسْمَحُ بِهِ بِخِلَافِ مَا يَبْقَى فِي الْقَادُوسِ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ النَّاسِ عَدَمُ الْمُسَامَحَةِ بِهِ لَكِنْ يَحْتَاجُ أَنْ يُرَاعَى حَالُ الشَّخْصَيْنِ فَيُسْكَبُ طَحِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقِيبَ مَنْ يُجَانِسُهُ فِي الدِّينِ وَالتَّسَبُّبِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ وَأَمَّا لِسَانُ الْوَرَعِ فَلَا يُسَامِحُ صَاحِبُهُ فِي الِاخْتِلَاطِ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ عَقِيبَ مَنْ يُجَانِسُهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَرَاتِبَ الْوَرَعِ مُتَفَاوِتَةٌ بَلْ طَرِيقُ الْوَرَعِ أَنْ يَطْحَنَ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ يَدِهِ، وَلَا مِنْ تَحْتِ نَظَرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُقْفِلُ عَلَى قُوتِهِ بِقُفْلِ حَدِيدٍ حَتَّى يُوقِنَ بِسَلَامَتِهِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهِ. وَقَدْ سَمِعْتُ سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ شَيْخَهُ سَيِّدِي أَبَا الْحَسَنِ الزَّيَّاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ إذَا خَلَا بِهِ يَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ كَمْ قَرَأْت حِزْبًا عَلَى الطَّحِينِ الَّذِي طَحَنْته الْبَارِحَةَ؟ فَأَقُولُ: لَا فَيَقُولُ: قَرَأْت عَلَيْهِ رُبْعَ الْخِتْمَةِ وَمَرَّةً يَقُولُ أَكْثَرَ وَمَرَّةً يَقُولُ أَقَلَّ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِكَيْ يُنَبِّهَهُ عَلَى طَرِيقِ الْوَرَعِ. وَالْوَرَعُ أَيْضًا يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَشْخَاصِ فَلَيْسَ وَرَعُ الْغَرِيبِ كَوَرَعِ أَهْلِ الْبَلَدِ فَوَرَعُ الْغَرِيبِ سُوقُ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أُصُولَ الْأَشْيَاءِ غَالِبًا فَيَعْرِفُونَ الْمَوَاضِعَ الْمَغْصُوبَةَ مِنْ غَيْرِهَا وَأَهْلُ الْغَصْبِ وَالظُّلْمِ، وَكَذَلِكَ يَعْرِفُونَ مَنْ يَتَحَفَّظُ عَلَى دِينِهِ وَالْغَرِيبُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْجَهْلُ بِذَلِكَ فَقَدْ يَتَحَفَّظُ مِنْ جِهَةٍ وَهِيَ مِمَّا يَرْغَبُ فِيهَا وَقَدْ يَقْصِدُ إلَى جِهَةٍ وَهِيَ مِمَّا يَرْغَبُ عَنْهَا عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهَا وَقَدْ كَانَ بِالْمَغْرِبِ بِمَدِينَةِ سَبْتَةَ وَهِيَ مِنْ أَكْثَرِ بِلَادِ الْمَغْرِبِ سَمَكًا وَكَانَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ قَدْ اشْتَهَى السَّمَكَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْلِهِ لِوَرَعِهِ فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ كَانَ

مَاشِيًا عَلَى السَّاحِلِ وَإِذَا بِسَمَكَةٍ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ وَأَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي الْبَرِّ فَفَرِحَ صَاحِبُهُ إذْ ذَاكَ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْيَوْمَ يَأْكُلُ سَيِّدِي الشَّيْخُ السَّمَكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ النَّظَرِ فِي الشَّبَكَةِ الَّتِي يُصَادُ بِهَا أَوْ السِّنَّارَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَأَخَذَهَا فِي مِحْفَظَتِهِ وَأَتَى بِهَا إلَى الشَّيْخِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى وَقَالَ لَهُ مَا لَك عُذْرٌ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كُلْهَا أَنْتَ، فَقَالَ لَهُ: أَبَقِيَ لَك بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تِلْكَ الْمِحْفَظَةُ الَّتِي جِئْت بِهَا فِيهَا مِنْ أَيْنَ جِهَتُهَا وَمَا كَيْفِيَّةُ دِبَاغِهَا وَمَنْ صَنَعَهَا وَعَدَّدَ لَهُ أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تُنْبِئُك أَنَّ الْوَرَعَ لَهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ وَأَنَّ مَنْ يَتَعَانَاهُ لَا يُمْكِنُهُ رُؤْيَةُ الطَّاحُونِ فَضْلًا عَنْ الطَّحْنِ فِيهَا. وَيَخْتَلِفُ الْوَرَعُ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَزْمَانِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ حِكَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَمْ يَشْبَعْ مِنْ الْخُبْزِ مُنْذُ نُهِبَتْ دَارُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: خَالَطَ أَمْوَالَ النَّاسِ الْحَرَامُ، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ لَهُ: فَإِنْ قُلْت فَكَأَنَّ الْوَرَعَ يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَحُكْمَهُ فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرْعَ مَوْضُوعٌ عَلَى الْيُسْرِ وَالسَّمَاحَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» وَالْوَرَعُ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّشْدِيدِ وَالِاحْتِيَاطِ كَمَا قِيلَ: الْأَمْرُ عَلَى الْمُتَّقِي أَضْيَقُ مِنْ عُقْدَةِ التِّسْعِينَ، ثُمَّ الْوَرَعُ مِنْ الشَّرْعِ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا فِي الْأَصْلِ وَاحِدٌ لَكِنْ لِلشَّرْعِ حُكْمَانِ حُكْمُ الْجَوَازِ وَحُكْمُ الْأَفْضَلِ الْأَحْوَطِ فَالْجَائِزُ نَقُولُ لَهُ: حُكْمُ الشَّرْعِ، وَالْأَفْضَلُ الْأَحْوَطُ نَقُولُ لَهُ: حُكْمُ الْوَرَعِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَانْظُرْ إلَى الْحَرَامِ الْيَوْمَ وَكَثْرَتِهِ وَكَثْرَةِ التَّسَامُحِ فِيهِ وَعَدَمِ نَظَرِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ ذَلِكَ غَالِبًا. فَجَاءَ مِنْ هَذَا مَا كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إذَا خَلَّصَ الْفَقِيرُ قُوتَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فَهُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ فِي وَقْتِهِ. وَكَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا كُلُّهَا حَرَامًا لَكَانَ قُوتُ الْمُؤْمِنِ مِنْهَا حَلَالًا، إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَحُوجُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ لِأَكْلِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ

فصل وزن طحين إنسان فنقص منه شيء عن وزنه الأول

وَتَعَالَى أَخْرَجَ لَهُ قُوتَهُ حِينَ كَانَ فِي الْمَهْدِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَهُ وَيَعْبُدَهُ مِنْ بَيْنِ ثَلَاثِ مُحَرَّمَاتٍ: الدَّمِ، وَالْفَرْثِ، وَالْأُمِّ، فَبَعْدَ أَنْ عَرَفَهُ وَعَبَدَهُ يُطْعِمُهُ الْحَرَامَ مَعَاذَ اللَّهِ بَلْ يُخْرِجُ لَهُ رِزْقَهُ مِنْ وَسَطِ الْمُحَرَّمَاتِ حَلَالًا طَيِّبًا كَمَا أَخْرَجَهُ لَهُ أَوَّلًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَهُوَ: إنَّ الْحَرَامَ لَمَّا أَنْ عَمَّ أَمْرُهُ اُضْطُرَّ الْمُؤْمِنُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ كَالْمَيْتَةِ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهَا. وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَوْضَحُ وَأَظْهَرُ وَأَبْيَنُ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ صَالِحَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ وَهَذَا الْكَلَامُ يَلْهَجُ بِهِ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ هُوَ حَدِيثًا إنَّمَا هُوَ كَلَامُ هَذَا الْعَالِمِ الْفَاضِلِ [فَصْلٌ وَزَنَ طَحِينَ إنْسَانٍ فَنَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ وَزْنِهِ الْأَوَّلِ] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا وَزَنَ طَحِينَ إنْسَانٍ فَنَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ وَزْنِهِ الْأَوَّلِ أَنْ يُكْمِلَهُ لَهُ مِنْ دَقِيقِ نَفْسِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَخْلِطَهُ حَتَّى يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا نَقَصَ طَحِينُ شَخْصٍ كَمَّلَهُ لَهُ مِنْ طَحِينِ شَخْصٍ آخَرَ ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ، وَالْعَجَبُ مِنْ أَنَّ صَاحِبَ الطَّحِينِ الَّذِي نَقَصَ طَحِينُهُ يَرَى ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَلَا يَزْجُرُهُمْ بَلْ يَأْخُذُهُ إذَا كَمَّلُوا لَهُ مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْغَصْبِ وَلُحُوقِ الْإِثْمِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِحْلَالُ مِمَّنْ أَخَذُوا لَهُ مِنْ طَحِينِهِ أَوْ غَرَامَتُهُ لَهُ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الطَّاحُونِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِمَّا انْتَحَلَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْقَمْحَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَلَا يُعْطِيَهُمْ ثَمَنَهُ إلَّا دَقِيقًا مُقَسَّطًا. وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا يَنْظُرُ إلَى مَا حَصَلَ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَعْتَبِرُ مَا عَقَدَا عَلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقُوتَ أَوْلَى مَا يُحْتَاطُ لَهُ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَطَاعَ اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى» وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ

فصل ما يتعين على بائع الدقيق إذا اشترى قمحا قديما

وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» وَالْمُتَشَابِهُ مَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ أَكْمَلُ لَكِنْ فِي الْقُوتِ آكَدُ مِنْ غَيْرِهِ لِمَا تَقَدَّمَ [فَصْلٌ مَا يَتَعَيَّنُ عَلَى بَائِعِ الدَّقِيقِ إذَا اشْتَرَى قَمْحًا قَدِيمًا] فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى بَائِعِ الدَّقِيقِ إذَا اشْتَرَى قَمْحًا قَدِيمًا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِمُشْتَرِي الدَّقِيقِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ إنْ كَانَ بَعْضُهُ قَدِيمًا وَبَعْضُهُ جَدِيدًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُخْتَلِطًا بِالشَّعِيرِ أَوْ غَيْرِهِ فَيُبَيِّنُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَقَعَ فِي الْغِشِّ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِحْلَالُ مِمَّنْ بَايَعَهُ أَوْ شَارَاه فَمَنْ لَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إلَّا بِأَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ أَوْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ قِيمَةِ الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَتْ الدَّوَابُّ لِلرَّبِيعِ زَادُوا سِعْرَ الدَّقِيقِ إذْ ذَاكَ وَقَلَّ أَنْ يُظْهِرُوهُ لِلنَّاسِ لِيَجِدُوا بِذَلِكَ السَّبِيلَ إلَى الزِّيَادَةِ فِي السِّعْرِ وَالْقَمْحُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يُعْدَمْ وَلَمْ يَقِلَّ وَأَكْثَرُ التُّجَّارِ يُحِبُّونَ نِفَاقَ سِلَعِهِمْ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي حَقِّ مَنْ يَتَّجِرُ فِي الْأَقْوَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ غُلُوَّ الْأَشْيَاءِ عَلَى إخْوَانِهِمْ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ فِي حَقِّ بَائِعِ الدَّقِيقِ أَشَدُّ كَرَاهَةٍ، بَلْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى التَّحْرِيمِ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ التَّاجِرِ الَّذِي يَتَّجِرُ فِي الْأَقْوَاتِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: يُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطٌ: مِنْهَا أَنْ لَا يُزَاحِمَ النَّاسَ حِينَ شِرَائِهِ بَلْ يَأْتِي إلَى الشِّرَاءِ فِي آخِرِ النَّهَارِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ اشْتَرَاهُ وَإِلَّا فَلَا وَتَكُونُ نِيَّتُهُ أَنْ يَبِيعَهُ فِي شَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ غَلَا السِّعْرُ أَوْ رَخُصَ فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِنِيَّةِ أَنَّهُ يُمْسِكُهُ حَتَّى يَغْلُوَ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَعَ تَحْرِيمِهِ تَمْحَقُ الْبَرَكَةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَيَنْبَغِي مِنْ بَابِ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَّجِرَ فِي الْقَمْحِ، وَلَا فِي الدَّقِيقِ، وَلَا فِي الْحُبُوبِ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ غَالِبًا تُحِبُّ الزِّيَادَةَ وَطَلَبُ الزِّيَادَةِ هَاهُنَا ضَرَرٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَيْفَ بِك إذَا كُنْت بَيْنَ قَوْمٍ يُحَصِّلُونَ قُوتَ سَنَتِهِمْ هَذَا وَهُوَ الْقُوتُ وَحْدَهُ فَمَا بَالُك بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فِيهِ وَشِرَاءِ الْكَثِيرِ مِنْهُ وَخَزْنِهِ لِيَنْتَظِرَ بِهِ السِّعْرَ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ إذَا بَقِيَ الْقَمْحُ عَلَى

فصل لا يشتري المسلم الدقيق من طواحين أهل الكتاب

حَالِهِ وَلَمْ يَزِدْ سِعْرُهُ أَوْ زَادَ قَلِيلًا قَلَّ أَنْ يَبِيعَهُ بِذَلِكَ بَلْ يُؤَخِّرَهُ وَإِنْ كَانَ إلَى السَّنَةِ الْآتِيَةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا مَا لَمْ يَخْشَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ السُّوسُ وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ وَكَسْبِ السَّيِّئَاتِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ بِجَوَارِحِهِ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا وَقَعَتْ لَهُمْ سَنَةُ غَلَاءٍ وَكَانَ عِنْدَهُ قَمْحٌ إمَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَإِمَّا أَنْ يَبِيعَهُ بِالسِّعْرِ الْوَاقِعِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ قُوتَهُ لِيُشَارِكَ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ الشِّدَّةِ وَهَذَا هُوَ حَالُ النَّاسِ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ [فَصْلٌ لَا يَشْتَرِيَ الْمُسْلِمُ الدَّقِيقَ مِنْ طَوَاحِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ] فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ الْمُسْلِمُ الدَّقِيقَ مِنْ طَوَاحِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا يَطْحَنُ عِنْدَهُمْ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا - مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يُعِينُ أَهْلَ الْكُفْرِ بِذَلِكَ. الثَّانِي - أَنَّهُ يَتْرُكُ إعَانَةَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. الثَّالِثُ - أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَسْتَعْمِلُونَ الصُّنَّاعَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفِي ذَلِكَ ذِلَّةٌ لِلْمُسْلِمِ وَعِزَّةٌ لِلْكَافِرِ فَيُؤْمَرُ الْمُسْلِمُ أَنْ لَا يَعْمَلَ عِنْدَهُمْ وَلَا يُعِينَهُمْ. الرَّابِعُ - أَنَّهُمْ لَا يَتَحَرَّزُونَ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. الْخَامِسُ - أَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِغِشِّ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَيْضًا. السَّادِسُ - أَنَّهُمْ إذَا شَكَرُوا سِلَعَهُمْ بِالْحُسْنِ وَالْجَوْدَةِ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى صِدْقِهِمْ بَلْ الْغَالِبُ عَكْسُهُ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ وَازِعٌ وَلِتَحْسِينِ الظَّنِّ بِهِمْ مَجَالٌ. السَّابِعُ - مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الصَّلِيبِ عَلَى بَابِ الطَّاحُونِ وَفِي أَرْكَانِهَا. فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُنَزِّهَ حُرْمَةَ الْإِسْلَامِ عَنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَأَشْكَالِهَا وَقَدْ اسْتَحْكَمَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَصَارَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ بَلْ بَعْضُهُمْ يُفَضِّلُ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مُعَامَلَةِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَيَذْكُرُونَ لِذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِمْ وُجُوهًا مِنْ الْحُجَجِ لَا يَقُومُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى سَاقٍ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ لِقِيَامِ الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ بِرَدِّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الطَّاحُونِ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ الَّذِي يَأْخُذُ الْقَمْحَ مِنْ الْبُيُوتِ وَيَأْتِي بِهِ لِلطَّحْنِ وَيَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ أَمِينًا دِينًا وَإِلَّا فَمَسْتُورُ الْحَالِ

فصل يتعين على صاحب الطاحون أن يتحفظ من تبديد القمح

لِأَنَّهُ يَدْخُلُ بُيُوتَ الْمُسْلِمِينَ وَتَقِفُ لَهُ الْجَارِيَةُ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ الْحَرَائِرِ لِلضَّرُورَةِ وَقَدْ يَجِيءُ فِي وَقْتٍ لَا يَكُونُ فِي الْبَيْتِ إلَّا النِّسَاءُ فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ غَضَّ بَصَرَهُ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الْبَيْتِ إذْ ذَاكَ إلَّا الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ فَتَحْصُلُ الْخَلْوَةُ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَإِنْ غَضَّ طَرْفَهُ. بَلْ يَضَعُ الدَّقِيقَ عَلَى الْبَابِ وَيُعْلِمُ مَنْ فِي الْبَيْتِ بِذَلِكَ وَيَتَوَارَى قَلِيلًا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ وَيَمُرُّ لِسَبِيلِهِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ فِي أَخْذِهِ الْقَمْحَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ إلَّا الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ الَّذِي يُبَاشِرُ مَا ذُكِرَ لَا يُعْهَدُ مِنْهُ الدِّينُ، وَلَا يُعْرَفُ حَالُهُ بَلْ يَطَّلِعُ بَعْضُهُمْ عَلَى سُوءِ حَالِهِ ثُمَّ يَبْعَثُهُ فَيَدْخُلُ بُيُوتَ الْمُسْلِمِينَ وَالْغَالِبُ وُقُوعُ الْفِتَنِ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَوْ تَوَقُّعُهَا وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَتَّخِذُ الصَّبِيَّ الَّذِي يُبَاشِرُ ذَلِكَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَحَّالِ الْيَهُودِيِّ وَمَا جَرَى لَهُ مَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ هُنَا [فَصْلٌ يَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الطَّاحُونِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ تَبْدِيدِ الْقَمْحِ] فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الطَّاحُونِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ تَبْدِيدِ الْقَمْحِ حِينَ إتْيَانِ الْحَمَّالِينَ بِهِ إلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّيْلِ وَالْحَطِّ وَحِينَ إعْطَائِهِ لِلصُّنَّاعِ وَمُحَاوَلَتِهِمْ لَهُ قَبْلَ الطَّحْنِ فَرُبَّمَا كَانَ فِي الْوِعَاءِ خَرْقٌ فَيَزِيدُ تَبْدِيدُ الْقَمْحِ بِسَبَبِهِ وَيَبْقَى بَيْنَ الْأَرْجُلِ يَمْشِي عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ بَابِ الطَّاحُونِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَأْتُونَ بِهِ إلَيْهَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الْقُوتَ إذَا اُمْتُهِنَ يَسْتَغِيثُ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُكْرِمَهُ. وَإِذَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَفَعَ سِعْرَهُ فَيَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا جَهْدُهُ وَيَتْرُكُ مَنْ يَكْنُسُ تِلْكَ الْمَوَاضِعَ وَيَلْتَقِطُ مَا يَبْقَى بَعْدَهُ، وَلَوْ بَقِيَتْ حَبَّةٌ وَلَمْ يَزَلْ هَذَا مِنْ شَأْنِ النَّاسِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِمْ وَلِأَنَّ فِعْلَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْبَرَكَةِ وَإِبْقَاءِ النِّعْمَةِ عَلَى مَنْ هِيَ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ فِي مَوْضِعِ وَزْنِ الدَّقِيقِ وَشَيْلِهِ وَحَطِّهِ وَالْخُرُوجِ بِهِ. وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ عَلَى الْوِعَاءِ الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خَرْقٌ أَوْ قَطْعٌ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ، وَلَا يَكِلُ أَمْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَى الصُّنَّاعِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ

أَنَّهُمْ لَا يُؤْتَمَنُونَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُمْ يَتَهَاوَنُونَ بِهَا فِي الْعَادَةِ وَالْعَوَائِدُ يَقِلُّ الرُّجُوعُ عَنْهَا إلَّا بِتَوْفِيقٍ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَأْيِيدٍ. وَالتَّحَفُّظُ عَلَى الدَّقِيقِ آكَدُ مِنْ التَّحَفُّظِ عَلَى الْقَمْحِ وَإِنْ كَانَا مَعًا مُحْتَرَمَيْنِ لَكِنَّ الدَّقِيقَ إذَا وَقَعَ وَمَشَى عَلَيْهِ بَقِيَ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ النَّاظِرِ إلَيْهِ غَالِبًا فَيُمْتَهَنُ بِالدَّوْسِ عَلَيْهِ وَقَلَّ أَنْ يَأْتِيَ إنْسَانٌ فَيُزِيلَهُ أَوْ يَحْتَرِمَهُ فَلَا يَدُوسَ عَلَيْهِ لِجَهَالَتِهِ بِهِ بَعْدُ بِخِلَافِ الْقَمْحِ فَإِنَّهُ يُرَى فِي الْغَالِبِ فَلَوْ تَرَكَهُ بَعْضُ مَنْ يَمُرُّ بِهِ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَتَحَفَّظُ لَهُ آخَرُ مِمَّنْ يَعْرِفُ قَدْرَ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعْصِيَةٌ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى سِيَّمَا فِي مَوْضِعِ السَّاحِلِ وَالْشُّوَنِ فَإِنَّ الْمَارَّ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ يُعَايِنُ الْقَمْحَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْحُبُوبِ يُدَاسُ بِالْأَقْدَامِ وَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ تَأَكُّدًا كَبِيرًا أَنْ لَا يَمُرَّ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ فَإِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ إلَى الْمَشْيِ فِيهَا فَلَا يَمُرُّ بِهَا رَاكِبًا أَوْ مُنْتَعِلًا بَلْ يَحْتَفِي ثُمَّ يَمْشِي وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَإِنْ تَنَجَّسَتْ قَدَمُهُ بِمَا هُنَاكَ غَسَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا خَيْرُهَا مُتَعَدٍّ وَضَرَرُهَا مُتَعَدٍّ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ مَنْ يُكْرِمُ النِّعْمَةَ يُدِيمُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَبِسَبَبِ مَنْ يُهِينُهَا يَعُمُّ غُلُوُّ السِّعْرِ جَمِيعَهُمْ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يُحْوِجَ أَهْلَهُ، وَلَا أَحَدًا مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهِ إلَى الْوُقُوفِ لِصَبِيِّ الطَّاحُونِ وَمَنْ أَشْبَهَهُ مِنْ الطَّوَّافِينَ، وَلَا يُسَامِحُهُمْ فِي ذَلِكَ بَلْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَلِّيهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ مَحَارِمِ أَهْلِهِ أَوْ عَبْدِهَا أَوْ عَبْدِهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ حُصُولِ الْخَلْوَةِ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ فَإِنَّ التَّهَاوُنَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ يُفْضِي إلَى وُقُوعِ مَا لَا يَنْبَغِي. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يُسَامِحَ فِي الْوَسِيلَةِ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْأَدْوَاءَ إذَا وَقَعَتْ يَسْهُلُ فِي ابْتِدَائِهَا مُدَاوَاتُهَا وَيَصْعُبُ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِحْكَامِهَا، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الشِّفَاءَ حَصَلَ بَعْدُ فَمَا فَاتَ لَا يُسْتَدْرَكُ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْقُلُوبِ مَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ الْمَيْلِ إلَى الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ فِي الْغَالِبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ

فصل في ذكر الفران وما يتعلق به

سَبَبُهُ مُخَالَفَةُ لِسَانِ الْعِلْمِ أَوَّلًا وَهَذَا التَّنْبِيهُ كَافٍ لِمَنْ فِيهِ عُرُوبِيَّةٌ وَغَيْرَةٌ إسْلَامِيَّةٌ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْفَرَّانِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ] ِ فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ نِيَّتَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الطَّاحُونِ فَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ حُسْنِ النِّيَّاتِ فَمِثْلُهُ هُنَا. لَكِنْ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَحْمُونَ الْفُرْنَ بِالنَّجَاسَةِ كَأَرْوَاثِ الْحَمِيرِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَيَتَنَجَّسُ الْفُرْنُ فَلَا يَطْهُرُ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، ثُمَّ إنَّهُ إذَا أَحْمَى الْفُرْنَ رَدَّ النَّارَ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ، ثُمَّ إنَّهُ يَأْخُذُ الْمِمْسَحَةَ الَّتِي يَمْسَحُ بِهَا وَهِيَ مَبْلُولَةٌ بِالْمَاءِ الْمُعَدِّ لِبَلِّهَا فِيهِ فَيَمْسَحُ أَرْضَ الْفُرْنِ بِهَا فَيَزِيدُ الْفُرْنَ بِهَا تَنْجِيسًا ثُمَّ يَرُدُّهَا إلَى ذَلِكَ الْمَاءِ فَتُنَجِّسُهُ وَهَذَا إنْ كَانَ الْمَاءُ أَوَّلًا طَهُورًا ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ أَنْ تَبَتَّلَ يَدُهُ بِمَسِّهِ لِلْمِمْسَحَةِ وَبِذَلِكَ الْمَاءِ يَتَنَاوَلُ الْعَجِينَ بِيَدِهِ قَبْلَ غَسْلِهَا مِمَّا أَصَابَهَا مِنْ ذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يَغْسِلُ يَدَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ وَيَمَسُّ بِهَا الْعَجِينَ حِينَ تَنَاوُلِهِ لِرَمْيِهِ فِي الْفُرْنِ فَيَزِيدُهُ تَنْجِيسًا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْعَجِينِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ وَهُوَ فِي دَاخِلِ الْفُرْنِ فَيُطْعِمُ النَّاسَ الْخُبْزَ الْمُتَنَجِّسَ. وَطَرِيقُ السَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِيَ الْفُرْنَ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ مِثْلَ الْحَلْفَاءِ وَالْقَشِّ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاهِرَاتِ. وَيَجُوزُ حَمْوُهُ بِأَرْوَاثِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَيَخْتَلِفُ مَذْهَبُهُ فِي أَرْوَاثِ الْخَيْلِ وَأَبْوَالِهَا وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَكْلِ لُحُومِهَا وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِالْجَوَازِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الْخَبْزُ بِأَرْوَاثِهَا، وَقَوْلٌ ثَانٍ بِالْمَنْعِ وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ بِالْكَرَاهَةِ وَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ وَأَمَّا الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ فَأَرْوَاثُهَا نَجِسَةٌ مُطْلَقًا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ وَافَقَهُ فَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ. وَيَا لَيْتَهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا كَانَ

ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا أَحْمَى الْفُرْنَ بِالطَّاهِرَاتِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَاءٌ مُطْلَقٌ مُصَانٌ مِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ فَإِذَا أَرَادَ تَنَاوُلَ الْعَجِينَ فَلْيَنْظُرْ أَوَّلًا إنْ كَانَتْ أَصَابَتْ يَدَهُ نَجَاسَةٌ أَمْ لَا فَإِنْ أَصَابَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ غَسْلُ يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ طَاهِرَةً وَتَعَلَّقَ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ الْمُسْتَقْذَرَةِ كَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْعَرَقِ وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ غَسْلُهَا أَيْضًا إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِقْذَارِ وَصَاحِبُ الْعَجِينِ لَوْ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْعَجِينَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى أَنَّهُ يَغُشُّ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ وَيَأْكُلُ الْحَرَامَ وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى نَفْسِهِ تِلْكَ النِّيَّاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطْلِعَ صَاحِبَ الْخُبْزِ عَلَى مَا جَرَى فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَرْضَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُغَرِّمَهُ لَهُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي يَبُلُّ فِيهِ الْمِمْسَحَةَ طَاهِرًا نَظِيفًا أَوَّلًا وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ طَهُورًا ثُمَّ لَا يُبَالِي بَعْدَ ذَلِكَ بِإِضَافَتِهِ مِمَّا أَصَابَهُ مِنْ الْمِمْسَحَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الطَّاهِرَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقْذَرًا وَيَحْذَرُ أَنْ يَغْسِلَ يَدَهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ وَمُسْتَقْذَرٌ بِالسَّوَادِ الَّذِي فِيهِ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى يَدِهِ نَجَاسَةٌ فَأَدْخَلَهَا فِيهِ وَغَسَلَهَا مِنْهُ لَا تَطْهُرُ بِذَلِكَ الْمَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبُلَّ الْمِمْسَحَةَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَلَى الْخُبْزِ إذَا حَصَلَ فِي الْفُرْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:: أَحَدُهَا - أَنْ يَحْتَرِقَ. الثَّانِي - أَنْ تَقْوَى عَلَيْهِ النَّارُ وَلَمْ تُحْرِقْهُ كَالْأَوَّلِ. الثَّالِثُ - أَنْ لَا يُخْرِجَهُ وَهُوَ عَجِينٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَضُرُّ بِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ فَفِيهِمَا إضَاعَةُ مَالٍ؛ لِأَنَّ النَّارَ قَدْ زَادَتْ فِي جَفَافِهَا عَنْ الرُّطُوبَةِ الْمُعْتَدِلَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَالصَّبِيَّ الصَّغِيرَ وَالْمَرِيضَ وَمَنْ بِهِ وَجَعٌ فِي أَسْنَانِهِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ أَكْلُهُ. وَفِيهِ ضَرَرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ يُمْسِكُ الطَّبْعَ وَقَدْ يَحْتَاجُ بَعْضُ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ إلَى الدَّوَاءِ وَالطَّبِيبِ بِسَبَبِ

أَكْلِهِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا إذَا أَخْرَجَهُ وَفِيهِ بَعْضُ عُجُونَةٌ فَإِنَّهُ أَيْضًا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَنْ أَكَلَهُ يَتَوَلَّدُ فِي بَطْنِهِ دُودٌ لِعُفُونَتِهِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهَا أَمْرَاضٌ فَيَحْتَاجُ إلَى الْأَدْوِيَةِ وَالطَّبِيبِ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْرَمَ لِصَاحِبِ الْخُبْزِ خُبْزَهُ إذَا أَصَابَهُ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَيَرُدُّهُ إلَى الْفُرْنِ قَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْطِي الْأُجْرَةَ لِلصَّانِعِ إلَّا أَنْ يُحْكِمَ صَنْعَتَهُ. وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْخُبْزِ إذَا وَقَعَ لَهُ فِي خُبْزِهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ وَكَانَ ذَلِكَ نَادِرًا أَنْ يُسَامِحَ الصَّانِعَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُغَرِّمَهُ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَلِكَ شَأْنُهُ فَلَهُ اتِّسَاعٌ فِي تَغْرِيمِهِ وَتَرْكِهِ فَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْخُبْزِ الْمُحْتَرِقِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَأْخُذَ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ يَوْمَئِذٍ إنْ لَوْ كَانَ سَالِمًا مِنْ حَرْقِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَلَوْ أَرَادَ الْفَرَّانُ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَةَ الْخُبْزِ وَيَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي تَحْصِيلِ أَقْوَاتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَخْتَلِطَ خُبْزُ النَّاسِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ أَنْ لَا يَخْبِزَ إلَّا فِي فُرْنِ خُبْزِ الْعَلَّامَةِ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُمْ لَا يُحْمُونَ الْفُرْنَ إلَّا بِالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ بِخِلَافِ الْفُرْنِ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ خُبْزُ الْبَيْتِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْكُلَ إلَّا لُبَابَ الرَّغِيفِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي يَدِ الْفَرَّانِ حِينَ يَرْمِيهِ فِي الْفُرْنِ إذْ إنَّ الْغَالِبَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَدَمُ الِاحْتِرَازِ. وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَخْبِزُونَ بِالْأَشْيَاءِ النَّجِسَةِ وَهِيَ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهَا، وَلَا بَيْعُهَا وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَهَا إلَّا بِالْعِوَضِ لِأَجْلِ أَنَّ عِوَضَهَا عِنْدَهُمْ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ لِثَمَنِ الطَّاهِرَاتِ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا بَعْضُهُمْ حُبُّ الدُّنْيَا، إذْ إنَّهُمْ بِحُبِّهَا شَحُّوا بِثَمَنِ مَا يُوقِدُونَهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى وَمَا نَحَا نَحْوَهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِمَّنْ يَرَى مَا يَفْعَلُونَهُ أَوْ يَسْمَعُ بِهِ مَنْ هُوَ ثِقَةٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّغْيِيرِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَفْعَلْ

فصل الدقيق الذي يتبدد على المسطبة

(فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَخْتَلِسُ مِنْ خُبْزِ بَعْضِ النَّاسِ الرَّغِيفَ وَالرَّغِيفَيْنِ. فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَلْتَفِتُ لِذَلِكَ لِجِدَّتِهِ وَيَسْتَقْبِحُ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ ضَعِيفَ الْحَالِ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ وَيَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ مِنْ الطَّلَبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ ذَلِكَ لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ أَوْ بُخْلِهِ فَمَرَّةً يُعْطِيهِ الْفَرَّانُ ذَلِكَ وَيَعْتَلُّ لَهُ بِالْغَلَطِ أَوْ النِّسْيَانِ وَمَرَّةً يُكَابِرُهُ، وَلَا يُعْطِيهِ شَيْئًا وَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي أُجْرَةِ الْخُبْزِ فَمَرَّةً يَرُدُّهَا عَلَيْهِ وَمَرَّةً يَرُدُّ بَعْضَهَا وَمَرَّةً لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْئًا [فَصْلٌ الدَّقِيقَ الَّذِي يَتَبَدَّدُ عَلَى الْمَسْطَبَةِ] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الدَّقِيقَ الَّذِي يَتَبَدَّدُ عَلَى الْمَسْطَبَةِ الَّتِي تُوضَعُ عَلَيْهَا الْأَطْبَاقُ يَتْرُكُونَهُ عَلَى حَالِهِ، وَلَا يَكْنُسُونَهُ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ وَيَمْشُونَ عَلَيْهِ بِأَقْدَامِهِمْ وَنِعَالِهِمْ وَذَلِكَ امْتِهَانٌ لِنِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُخَافُ مِنْ عَاقِبَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ الدَّقِيقِ الَّذِي يَجْتَمِعُ عِنْدَهُ مِمَّا يَفْضُلُ فِي الْأَطْبَاقِ بَعْدَ رَمْيِ الْخُبْزِ فِي الْفُرْنِ عَلَى عَجِينِ أَحَدٍ مِمَّنْ هُوَ مُسْتَتِرٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي الِاكْتِسَابِ لِتَحْصِيلِ الْأَقْوَاتِ فَإِنْ فَعَلَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّقِيقُ قَدْ اخْتَلَطَ بِدَقِيقِ مَكَّاسٍ أَوْ ظَالِمٍ أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَعْوَانِهِمْ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيُخَيَّرُ صَاحِبُ الْخُبْزِ فِي تَغْرِيمِ الْفَرَّانِ أَوْ تَرْكِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْفَرَّانِ أَنْ يُعْطِيَ الْخُبْزَ لِصَاحِبِهِ دُونَ أَنْ يُعْلِمَهُ بِمَا جَرَى فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَإِنْ عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ الدَّقِيقِ عَلَى خُبْزِ ظَالِمٍ أَوْ مَكَّاسٍ أَوْ أَعْوَانِهِمْ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَيَنْبَغِي لِلْفَرَّانِ أَنَّهُ مَهْمَا قَدَرَ عَلَى أَنْ لَا يَجْعَلَ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ عَلَى عَجِينِ أَحَدٍ فَلْيَفْعَلْ لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ اخْتِلَاطِ أَقْوَاتِهِمْ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُسَامِحَ فِيمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ عِنْدَهُ فِي الْفُرْنِ الْجَوَارِي وَالنِّسَاءُ وَالْبَنَاتُ الْأَبْكَارُ وَالشُّبَّانُ وَالرِّجَالُ وَالْعَبِيدُ وَيَتَحَدَّثُونَ هُنَاكَ بِأَشْيَاءَ سَقْطَةٍ رَذْلَةٍ مَمْنُوعَةٍ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ اتِّفَاقًا وَيَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الْخُبْزِ أَنْ لَا يُرْسِلَ إلَى الْفَرَّانِ أَحَدًا مِمَّنْ يُخَافُ

عَلَيْهِ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ فَإِنْ فَعَلَ فَلَا يُطِيعُونَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ عُقُوقًا لِمَا وَرَدَ «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ وَقَدْ تَئُولُ إلَى وُقُوعِ الْفَاحِشَة الْكُبْرَى نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ بَلَائِهِ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْبِزَ لِمَنْ سَبَقَ أَوَّلًا فَأَوَّلًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَجِينُ الْمُتَأَخِّرُ يُخَافُ عَلَيْهِ التَّلَفُ وَمَنْ سَبَقَ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَيُقَدِّمُهُ وَإِلَّا كَانَ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ، الْمَالِ هَذَا إذَا كَانَ نَادِرًا وُقُوعُهُ وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِهِ فَيُقَدَّمُ السَّابِقُ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ خُبْزُ مُشَاهَرَةٍ وَخُبْزُ نَقْدٍ يُقَدِّمُونَ صَاحِبَ النَّقْدِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا، وَلَوْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَلَفِ خُبْزِ الْمُشَاهَرَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ فَوَاتَ صَاحِبِ النَّقْدِ بِخِلَافِ الْمُشَاهَرَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَمَنْ فَعَلَهُ كَانَ آثِمًا فَإِنْ تَلِفَ خُبْزُ الْمُشَاهَرَةِ بِسَبَبِ تَأْخِيرِهِ خُبْزَ صَاحِبِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْخُبْزِ الْمُحْتَرِقِ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالْخُبْزِ وَالنَّاسُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَأَمَّا الْخَمْسُ فِي جَمَاعَةٍ فَقَلَّ أَنْ يُفَكِّرَ فِيهَا غَالِبًا وَالدَّيِّنُ فِيهِمْ فِي الْغَالِبِ يُصَلِّيهَا قَضَاءً. فَمَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِمْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ هِجْرَانُهُمْ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِمَّنْ عِنْدَهُ مِنْ خَبْزِهِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهُمْ وَلْيَمْضِ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِ وَيَخْبِزُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَازِعٌ. (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْأَلَ عَنْ أَخْبَارِهِمْ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُضْطَرُّ إلَى مُعَامَلَتِهِ فِي الْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ إذْ إنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَتَبُّعِ الْعَوْرَاتِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَيُحْمَلُ النَّاسُ عَلَى الْأَصْلِ وَهِيَ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ ضِدُّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى ذَلِكَ

فصل في ذكر الخباز الذي يعمل الخبز للسوق وما يتعلق به

(فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يَدُورُ عَلَى الْبُيُوتِ لِأَخْذِ الْعَجِينِ امْرَأَةً مُتَجَالَّةً لِأَجْلِ صِيَانَةِ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ مُنَاوَلَتِهِنَّ الْعَجِينَ لِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيَتَّخِذْ صَبِيًّا عَاقِلًا عَفِيفًا أَمِينًا قَدْ جُرِّبَ وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ مَا تَقَدَّمَ فِي صَبِيِّ صَاحِبِ الطَّاحُونِ حِينَ أَخْذِهِ لِلْقَمْحِ مِنْ الْبُيُوتِ وَرَدِّهِ إلَيْهَا دَقِيقًا [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْخَبَّازِ الَّذِي يَعْمَلُ الْخُبْزَ لِلسُّوقِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ] ِ يَنْبَغِي لِلْخَبَّازِ الَّذِي يَعْمَلُ الْخُبْزَ لِلسُّوقِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَاحِبِ الطَّاحُونِ وَالْفُرْنِ لِيَكُونَ فِي عِبَادَةٍ وَخَيْرٍ وَتَقَرُّبٍ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ عِنْدَ إتْيَانِهِ بِالدَّقِيقِ إلَى الْفَرَّانِ أَوْ إلَى بَيْتِهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَبَدَّدَ مِنْهُ شَيْءٌ مَا فَإِنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَلْيُزِلْهُ سَرِيعًا بِيَدِهِ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلْيَسْتَنِبْ عَنْهُ غَيْرَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ صُنَّاعِ الْفُرْنِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ لَا يُؤْتَمَنُونَ عَلَى حِفْظِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْ تَبْدِيدِ الدَّقِيقِ آكَدُ مِنْهُ فِي الْقَمْحِ كَمَا تَقَدَّمَ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى دَقِيقًا رَدِيئًا أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْخُبْزَ مِنْ الدَّقِيقِ الرَّدِيءِ وَيَحْلِفُ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ مِنْ الدَّقِيقِ الطَّيِّبِ وَذَلِكَ غِشٌّ وَقَدْ وَرَدَ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ خَلَطَ الطَّيِّبَ بِالرَّدِيءِ مِنْهُ وَالْمُكَلَّفُ إنَّمَا يَتْعَبُ فِي السَّبَبِ وَيَدْأَبُ فِيهِ لِيَأْكُلَ حَلَالًا وَهُوَ يَرْجِعُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إلَى الْحَرَامِ الْبَيِّنِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى يَدِ الصُّنَّاعِ وَيَزْجُرَهُمْ عَنْ عَوَائِدِهِمْ

فصل لا يعجنون العجين بماء الآبار المالحة

الرَّدِيئَةِ فِي تَبْدِيدِهِمْ الدَّقِيقَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَعْجِنُونَ فِيهَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَضَعُونَ فِيهَا الْعَجِينَ لِلتَّقْرِيصِ وَالْخَبْزِ. وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى الْعَجِينِ مِنْ مَشْيِ الْخُشَاشِ وَغَيْرِهِ عَلَيْهِ حِينَ يَنْتَظِرُونَ بِهِ التَّخْمِيرَ فَأَمَّا أَنْ يُغَطِّيَهُ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ نَظِيفٍ أَوْ يَتْرُكَ مَنْ يَحْرُسُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إنْ عَجَزَ عَمَّا يُغَطِّيهِ بِهِ فِي الْوَقْتِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ الصُّنَّاعَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي زَمَنِ الْحَرِّ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَعْجِنُونَ وَالْعَرَقُ يَسْقُطُ مِنْهُمْ وَيَقَعُ فِي الْعَجِينِ الذُّبَابُ وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَنُشُّهُ فَيَخْتَلِطَ بِالْعَجِينِ فِي الْغَالِبِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ يَتَّقِي بِهِ الْعَرَقَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْعَجِينِ وَيَتْرُكَ مَنْ يَنُشُّ الذُّبَابَ وَمَا أَشْبَهَهُ حِينَئِذٍ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ غَشَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الْغِشِّ وَلِأَجْلِ عَدَمِ احْتِرَازِهِمْ تَجِدُ فِي الْخُبْزِ أَشْيَاءَ مُسْتَقْذَرَةً كَبَنَاتِ وَرْدَانَ وَغَيْرِهَا مِنْ الدَّبِيبِ وَالْقَشِّ وَالْحَلْفَاءِ وَالشَّعْرِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ [فَصْلٌ لَا يَعْجِنُونَ الْعَجِينَ بِمَاءِ الْآبَارِ الْمَالِحَةِ] فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتْرُكَهُمْ يَعْجِنُونَ الْعَجِينَ بِمَاءِ الْآبَارِ الْمَالِحَةِ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَجْعَلُونَ فِيهِ الْمِلْحَ فَيَصِيرُ طَعْمُ الْخُبْزِ مُرًّا مَالِحًا فَالْمَرَارَةُ مِنْ مَاءِ الْآبَارِ وَالْمُلُوحَةُ مِنْ زِيَادَةِ الْمِلْحِ الْمُضَافِ إلَى مَاءِ تِلْكَ الْآبَارِ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْلِطَ مَعَ الدَّقِيقِ غَيْرَهُ مِمَّا يُحَسِّنُهُ فِي عَيْنِ الْمُشْتَرِي مِثْلَ الْكُرْكُمِ وَمَا أَشْبَهَهُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ - أَنَّهُ يُحَسِّنُهُ فِي عَيْنِ مُشْتَرِيهِ إنْ كَانَ دَقِيقُهُ رَدِيئًا كُلَّهُ أَوْ مَخْلُوطًا بِرَدِيءٍ وَيَزِيدُهُ حُسْنًا فِي عَيْنِهِ إنْ كَانَ دَقِيقُهُ طَيِّبًا كُلَّهُ وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْغِشِّ. الثَّانِي - أَنَّ فِيهِ ضَرَرًا لِآكِلِهِ دُونَ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ شَرْعًا. الثَّالِثُ - أَنَّهُ إذَا بَاتَ أَوْ بَرَدَ تَغَيَّرَ طَعْمُهُ وَنَفَرَتْ نُفُوسُ بَعْضِ النَّاسِ مِنْهُ لِظُهُورِ ذَلِكَ فِيهِ، وَلَا بَأْسَ بِمَا يَجْعَلُونَهُ فِيهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّيِّبَةِ، وَلَا تَضُرُّ بِآكِلِهِ، وَكَذَلِكَ مَا يَجْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الزَّعْفَرَانِ عَلَى وَجْهِ الكماج وَمَا أَشْبَهَهُ

فصل الماء الذي يغسل الصناع فيه أيديهم

(فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى الْمَاءِ الْعَذْبِ الَّذِي يَعْجِنُ بِهِ الدَّقِيقَ مِنْ الذُّبَابِ وَسَائِرِ الْحَشَرَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعَجِينِ بَلْ هَذَا آكَدُ إذْ إنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَسْتَتِرُ فِي الْمَاءِ بِخِلَافِ الْعَجِينِ لِظُهُورِهَا فِيهِ غَالِبًا. وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي يَعْجِنُ مِنْهُ وَعَلَى الْعَجِينِ وَالْخُبْزِ وَآنِيَتِهِ وَمَا يُفْرَشُ تَحْتَهُ وَمَا يُغَطَّى بِهِ مِنْ أَيْدِي الصُّنَّاعِ وَالْفَرَّانِ. فَإِنَّهُمْ لَا يَحْتَرِزُونَ فِي الْغَالِبِ مِنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ. فَمِنْهَا أَنْ يُبَاشِرَ أَحَدُهُمْ النَّجَاسَةَ بِيَدِهِ ثُمَّ يُبَاشِرَ بِهَا تِلْكَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ غَسْلِهَا أَوْ يَغْسِلَهَا بِمَاءٍ مُضَافٍ لِطَاهِرٍ وَذَلِكَ لَا يُطَهِّرُهَا. وَمِنْهَا أَنْ يَمَسَّ الْأَشْيَاءَ الْمُسْتَقْذَرَةَ كَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْأَعْرَاقِ وَحَكِّ بَدَنِهِ وَمُرُورِ يَدِهِ فِي الْمَغَابِنِ وَمَسِّ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ أَوْ النَّجِسَةِ كَجِدَارِ مِرْحَاضٍ وَمَا أَشْبَهَهُ ثُمَّ يَمَسَّ بِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْسِلَهَا [فَصْلٌ الْمَاءِ الَّذِي يَغْسِلُ الصُّنَّاعُ فِيهِ أَيْدِيَهُمْ] (فَصْلٌ) وَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَنْهَى الصُّنَّاعَ عَمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُصَلِّينَ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ أَخَذُوا مِنْ الْمَاءِ الْمُعَدِّ لِلْعَجِينِ فَيَتَوَضَّئُونَ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا لِأَثَرِ الْعَجِينِ أَوْ الدَّقِيقِ أَوْ لِمَا يَكُونُ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَا يَجْعَلُهُ تَحْتَ الْأَرْغِفَةِ وَهِيَ عَجِينٌ طَاهِرًا غَيْرَ مُسْتَقْذَرٍ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ دَوْسِهَا وَإِنْ كَانَتْ قَدَمُهُ طَاهِرَةً؛ لِأَنَّ لَهَا حُرْمَةً بِسَبَبِ مَا يَعْلَقُ بِهَا مِنْ أَثَرِ الدَّقِيقِ أَوْ الْعَجِينِ بَلْ تَكُونُ مُصَانَةً عَنْ كُلِّ ذَلِكَ وَعَمَّا يُصِيبُهَا مِنْ زُرْقِ طَائِرٍ أَوْ زِبْلِ فَأْرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْحَشَرَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهَا بَسَطَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُبْسَطُ عَلَيْهِ طَاهِرًا ثُمَّ يَجْعَلُ عَلَيْهَا أَرْغِفَةَ الْعَجِينِ ثُمَّ يُغَطِّيهَا بِمِثْلِ مَا بَسَطَهُ تَحْتَهَا أَعْنِي فِي الطَّهَارَةِ وَعَدَمِ الِاسْتِقْذَارِ [فَصْلٌ الْمَاءِ الَّذِي يَغْسِلُ الصُّنَّاعُ فِيهِ أَيْدِيَهُمْ مِنْ أَثَرِ الْعَجِينِ] فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي يَغْسِلُ الصُّنَّاعُ

فصل في ذكر السقاء

فِيهِ أَيْدِيَهُمْ مِنْ أَثَرِ الْعَجِينِ، وَكَذَلِكَ غَسَّالَةُ الْأَوَانِي الَّتِي يُعْجَنُ فِيهَا فَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا مِنْهَا فِي مَوْضِعٍ يُمْشَى عَلَيْهِ بِالْأَقْدَامِ، وَلَا فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ أَوْ مُسْتَقْذَرٍ بَلْ يُطْعِمُونَهُ لِلدَّجَاجِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَلِغَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ أُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ أَوْ النَّهْرِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ حُفِرَ لَهُ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ غَيْرِ مُسْتَقْذَرٍ سَالِمٍ مِنْ الْمَشْيِ عَلَيْهِ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَأْمُرُ الْفَرَّانَ أَنْ يُخْرِجَ الْخُبْزَ لَهُ وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَنْضَجْ؛ لِأَنَّهُ يَثْقُلُ فِي الْمِيزَانِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَهُوَ غِشٌّ وَفِيهِ ضَرَرٌ لِآكِلِهِ كَمَا سَبَقَ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْفَرَّانِ أَنْ لَا يَسْمَعَ مِنْ صَاحِبِ الْخُبْزِ إذَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْإِثْمِ مَعًا (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْفَرَّانِ أَنْ لَا يُحْرِقَهُ، وَلَا يُقَمِّرَهُ زِيَادَةً عَلَى نُضْجِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْخُبْزِ فِي الثَّمَنِ وَيَضُرُّ بِآكِلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَبِالْجُمْلَةِ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْجَمِيعِ مُرَاعَاةُ النُّضْجِ التَّامِّ فِي الصَّنْعَةِ كُلِّهَا وَالنَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ السَّقَّاءِ] قَدْ تَقَدَّمَتْ النِّيَّاتُ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا صَاحِبُ الطَّاحُونِ وَيَرْجِعُ بِهَا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ ذُكِرَ بَعْدَهُ فَفِي السَّقَّاءِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى وَالْأَوْجَبِ إذْ إنَّ مَا تَقَدَّمَ إنَّمَا هُوَ الْقُوتُ وَالْمَاءُ قَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ مَعَانٍ جُمْلَةً. مِنْهَا الشُّرْبُ وَهُوَ مُقَابِلٌ لِلْأَكْلِ. وَمِنْهَا إزَالَةُ النَّجَاسَاتِ. وَمِنْهَا رَفْعُ الْحَدَثِ. وَمِنْهَا إحْيَاءُ النَّفْسِ إذَا غَصَّ صَاحِبُهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ فَلِلسَّقَّاءِ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ وَالْخَيْرُ الْعَمِيمُ فِي تَيْسِيرِ الْمَاءِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي نِيَّتِهِ وَيُنَمِّيَهَا لِيَحُوزَ بِهَا ثَوَابَ ذَلِكَ كُلِّهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا بَعْضَهُ وَيَكُونُ تَطَلُّعُهُ فِي الرِّزْقِ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا إلَى أَحَدٍ سِوَاهُ كَمَا مَضَى فِي حَقِّ غَيْرِهِ لَكِنَّ آكَدَ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا فِيهَا

مِمَّا يُضَادُّ نِيَّتَهُ أَوْ يُنْقِصُهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْمَلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْعَمَلُ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ طَاعَةً خَالِصَةً مِنْ الشَّوَائِبِ وَالْمَفَاسِدِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَتَحَفَّظْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْمَاءَ مِنْ الْمَوْرِدَةِ قَرِيبًا مِنْ الْبَرِّ وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ فَضَلَاتِ مَنْ لَا يَتَحَفَّظُ عَلَى دِينِهِ، وَلَا يُرَاعِي حَقَّ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَكُونُ جَاهِلًا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَيَبُولُ قَرِيبًا مِنْ مَوْرِدَةِ الْبَحْرِ أَوْ فِيهَا وَهَذِهِ هِيَ إحْدَى الْمَلَاعِنِ الثَّلَاثِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حَيْثُ يَقُولُ «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ الْبِرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ» ثُمَّ يَأْتِي السَّقَّاءُ فَيَمْلَأُ فَيَطْلُعُ مَا عَمِلَ هُنَاكَ فِي الْوِعَاءِ الَّذِي يَمْلَأُ بِهِ فِي الرَّاوِيَةِ أَوْ الْقِرْبَةِ فَيَتَنَجَّسُ كُلُّ ذَلِكَ ثُمَّ يَسْكُبُهُ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَتَتَنَجَّسُ بِهِ ثِيَابُهُمْ وَأَجْسَامُهُمْ وَقُوتُهُمْ الَّذِي يَعْجِنُونَهُ مِنْهُ وَتَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ تَطْهُرُ بِهِ فَيَحْتَاجُونَ إلَى كُلْفَةٍ فِي غَسْلِ ثِيَابِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ وَإِعَادَةِ صَلَاتِهِمْ وَتَبْدِيدِ قُوتِهِمْ وَغَسْلِ الْأَوَانِي وَغَيْرِهَا مِمَّا أَصَابَهَا. وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاسِ كَثِيرًا وَأَخْبَرَ مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ احْتَاجُوا إلَى كُلْفَةٍ فِي تَطْهِيرِ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ. ثُمَّ مَعَ مَا ذُكِرَ فَالْمَاءُ الَّذِي هُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْبَرِّ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَكِرٌ بِالتُّرَابِ وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ الْفَضَلَاتِ فَتَارَةً تَكُونُ نَجِسَةً وَتَارَةً تَكُونُ مُسْتَقْذَرَةً وَتَارَةً تَكُونُ طَاهِرَةً وَقَدْ يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الْمَاءِ الَّذِي يُمْلَأُ مِنْهُ سَرَابُ حَمَّامٍ أَوْ وَرَّاقَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَفْنِيَةِ الْمُسَلَّطَةِ عَلَى الْبَحْرِ أَوْ النَّهْرِ؛ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنْ يَدْخُلَ فِي الْبَحْرِ حَتَّى إذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ سَلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ حِينَئِذٍ يَغْرِفُ الْمَاءَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ كُلْفَةٌ فَإِنَّ الْكُلْفَةَ هَاهُنَا وَاجِبَةٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَكَلَ الْحَرَامَ لِإِهْمَالِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَنَاقَضَ فِعْلُهُ تِلْكَ النِّيَّاتِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ تُصَدِّقُ النِّيَّةَ أَوْ تُكَذِّبُهَا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَكُونُ عَيْنُهُ نَاظِرَةً إلَى مَا يَحْصُلُ فِي الْوِعَاءِ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ الْمَاءَ فَإِنْ دَخَلَهُ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَشْيَاءِ النَّجِسَةِ أَزَالَهُ وَطَهَّرَ الْوِعَاءَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ

صَبَّهُ وَأَخَذَ غَيْرَهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَمْلَأَ بِاللَّيْلِ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ فِيهِ فَإِنْ فَعَلَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ فِي الِاحْتِيَاطِ فَيَدْخُلُ فِي الْبَحْرِ بِحَيْثُ يَأْمَنُ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَاتِ أَوْ الْفَضَلَاتِ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مَعَ وُجُودِ التَّحَفُّظِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَيَغْرَمُ لِمُشْتَرِيهَا مَا أَخَذَهُ مِنْ ثَمَنِهَا أَوْ يَرْضَى مِنْهُ بِمِثْلِهَا (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْلَأَ الرَّاوِيَةَ أَوْ الْقِرْبَةَ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَهَا نَاقِصَةً وَذَلِكَ غِشٌّ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ الرَّاوِيَةُ أَوْ الْقِرْبَةُ سَالِمَةً مِنْ الْخَرْقِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْقُصُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَهُوَ غِشٌّ أَيْضًا سِيَّمَا إنْ كَانَ الطَّرِيقُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْكُبُ فِيهِ الْمَاءَ بَعِيدًا وَالْخَرْقُ مُتَّسِعٌ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فِيهِ أَذِيَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقَاتِهِمْ لِنَدَاوَتِهَا بِمَا يَنْصَبُّ فِيهَا فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِإِمَاطَةِ الْأَذَى مِنْ الطَّرِيقِ وَهَذَا ضِدُّهُ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الرِّوَايَةُ أَوْ الْقِرْبَةُ جَدِيدَةً أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِمُشْتَرِي الْمَاءِ الَّذِي عَمِلَ فِيهَا لِكَيْ يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ غَيْرُ طَهُورٍ، إذْ إنَّهُ مُضَافٌ لِشَيْءٍ غَيْرِ طَاهِرٍ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ غَشَّ وَأَفْسَدَ الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ مَنْ تَطَهَّرَ مِنْهُ أَوْ أَزَالَ بِهِ نَجَاسَةً، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الرَّاوِيَةُ قَدِيمَةً وَدَهَنَهَا، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ إنْ كَانَ فِيهَا قَطِرَانٌ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الرَّاوِيَةِ غِطَاءً طَاهِرًا كَثِيفًا سَاتِرًا لِجَمِيعِهَا لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ تَلْوِيثِ ثِيَابِهِمْ بِهَا، إذْ إنَّ ذَلِكَ أَذًى لِلْمُسْلِمِينَ وَأَذَاهُمْ مُحَرَّمٌ. وَيَنْبَغِي لِمُشْتَرِي الرَّاوِيَةِ أَوْ الْقِرْبَةِ أَنْ يَرْغَبَ عَمَّا مُلِئَ بِاللَّيْلِ خَشْيَةً مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بَلْ يَنْبَغِي لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَتْ قَدْ مُلِئَتْ بِالنَّهَارِ أَنْ يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ بِالنَّظَرِ فِي أَوْصَافِ الْمَاءِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ وَقَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ لِيَسْلَمَ مِنْ الْمُنَازَعَةِ فَإِذَا احْتَاطَ كَمَا وُصِفَ وَوَجَدَهُ سَالِمًا دَفَعَ لَهُ الثَّمَنَ وَإِنْ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا بِنَجَاسَةٍ لَزِمَهُ إرَاقَتُهُ إنْ اسْتَطَاعَ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ لِلرَّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ لِلْمَشَقَّةِ، وَلَا تَلْزَمُهُ

الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُتَنَجِّسَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِطَاهِرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إعْلَامُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ إذَا بَاعَهُ، وَلَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ وَاسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ لَكَانَ قَدْ فَعَلَ مَعَهُ مَعْرُوفًا لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يُعَرِّفَهُ بِالْحُكْمِ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يَقَعَ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى وَيَبِيعَهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، فَإِنْ أَبَى السَّقَّاءُ إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا وَجَدَ بِالسِّلْعَةِ عَيْبًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إمْسَاكِهَا وَأَخْذِ الْأَرْشِ وَبَيْنَ رَدِّهَا. وَيَنْبَغِي لِمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا وَمُحْتَاجًا إلَيْهَا أَنْ لَا يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَهُ عَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ التَّغْيِيرُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِعُذْرٍ فَأَقَلَّ مَا يُمْكِنُ فِي الْهِجْرَانِ أَنْ يَتْرُكَ الشِّرَاءَ مِنْهُ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْشِيَ بِالْجَمَلِ مَشْيًا مُتَوَسِّطًا لَا يُسْرِعُ فِيهِ فَيَضُرُّ بِالْجَمَلِ، وَلَا يُبْطِئُ فَيَضْرِبُهُ أَيْضًا لِطُولِ مُكْثِ الثِّقَلِ عَلَيْهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَيَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقَاتِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى الْبَحْرِ لِأَخْذِ الْمَاءِ فَيُسْرِعُونَ بِالْجَمَلِ الْإِسْرَاعَ الْكَثِيرَ؛ فَيَرْتَكِبُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَشْيَاءَ مَذْمُومَةً مِنْهَا أَنَّهُمْ يُتْعِبُونَ الْجَمَلَ لِسُرْعَتِهِمْ بِهِ إذْ إنَّ الْجَمَلَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الْجَرْيُ مَعَ الْحِمْلِ وَمِنْهَا إخَافَتُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ بِصَدْمِهِمْ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَسْوَاقِ وَمِنْهَا تَلْوِيثُ ثِيَابِهِمْ بِالرَّاوِيَةِ الَّتِي يَتْرُكُونَهَا مَكْشُوفَةً مُتَدَلِّيَةً مِنْ جَانِبَيْ الْجَمَلِ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ مِنْ بَيْعِهِمْ الْقِرْبَةَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ يَهَبُ ذَلِكَ ثُمَّ يَبِيعُهَا بَعْدُ عَلَى أَنَّهَا كَامِلَةٌ ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ يَبِيعُ الرَّاوِيَةَ ثُمَّ يَبِيعُ مِنْهَا شَيْئًا يَخْتَلِسُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا مَلَأَ الْقِرْبَةَ مِنْ الرَّاوِيَةِ رَبَطَ فَمَ الرَّاوِيَةِ رَبْطًا خَفِيفًا فَيَقْطُرُ مِنْهَا مَاءٌ كَثِيرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمَا يَفْرُغُ مِنْ سَكْبِ الرَّاوِيَةِ إلَّا وَقَدْ نَقَصَ مِنْهَا مَا لَا يَرْضَى بِهِ بَعْضُ الْمُشْتَرِينَ. وَإِذَا

فصل السقاء إذا دخل البيت لسكب الماء

كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُنْقِصَهُ مِنْ الثَّمَنِ بِحِسَابِهِ أَوْ يَتْرُكَ وَيُنْهَى السَّقَّاءُ عَنْ وُقُوعِ مِثْلِ هَذَا مِنْهُ إذْ إنَّهُ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ وَمَعَ ذَلِكَ فَفِيهِ أَذًى لِلْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقَاتِهِمْ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ كَمَا مَرَّ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَتَحَفَّظُونَ عَلَى الْقِرْبَةِ الَّتِي يَمْلَئُونَهَا مِنْ الرَّاوِيَةِ إذْ إنَّهُمْ يَمْلَئُونَ بِهَا وَفِيهَا خَرْقٌ فَيُلَوِّثُونَ بِهَا الْجُدْرَانَ وَالْأَرْضَ وَالسُّلَّمَ وَيَنْقُصُ الْمَاءُ بِسَبَبِهَا وَالْغَالِبُ الْمُرُورُ عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ فِي الْوَقْتِ فَيَتَلَوَّثُ بِهَا ثِيَابُ الْمَارِّينَ وَأَطْرَافُهُمْ فَيَحْتَاجُونَ إلَى كُلْفَةٍ فِي غَسْلِهَا وَيَدْخُلُ لِبَعْضِهِمْ الشَّكُّ فِي صَلَاتِهِ إذَا أَصَابَ بَدَنَهُ أَوْ ثَوْبَهُ شَيْءٌ مِنْهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْجِدَارُ جِدَارَ مِرْحَاضٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ ذَلِكَ [فَصْلٌ السَّقَّاءِ إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ لِسَكْبِ الْمَاءِ] فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى السَّقَّاءِ إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ لِسَكْبِ الْمَاءِ أَنْ يَطْرُقَ بِرَأْسِهِ إلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَنْظُرَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا فِي مَوْضِعِ قَدَمِهِ وَفِي مَوْضِعِ سَكْبِ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ حَاضِرًا فَإِنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِغَضِّ الطَّرْفِ فِي الطُّرُقَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً فَمَا بَالُك بِهِ فِي الدَّارِ الَّتِي هِيَ مَحْجُورَةٌ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النِّسَاءَ فِي الطُّرُقَاتِ مُسْتَتِرَاتٌ بِخِلَافِ حَالِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ سِيَّمَا فِي زَمَنِ الْحَرِّ وَإِذَا لَمْ يَغُضَّ طَرْفَهُ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى السَّقَّاءِ أَنْ يَتَوَلَّى دُخُولَ الْبَيْتِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَكِلُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْبَيْتِ أَمَانَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صِفَةُ صَبِيِّ صَاحِبِ الطَّاحُونِ مِنْ كَوْنِهِ أَمِينًا عَفِيفًا دَيِّنًا فَفِي السَّقَّاءِ مِثْلُهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْغَالِبُ عَدَمُ الِاطْمِئْنَانِ لِغَيْرِهِ مِنْ الصِّبْيَانِ فِي هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَغُضُّ طَرْفَهُ إلَّا بِكُلْفَةٍ وَشِدَّةٍ فِي الْغَالِبِ فَيُخَافُ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَفْعَلُ كَفِعْلِهِ فَتُتَوَقَّعُ الْفِتْنَةُ [فَصْلٌ لَا يَسْكُبَ السقاء فِي بَيْتٍ فِيهِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ] فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْكُبَ فِي بَيْتٍ فِيهِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَظْهَرُ عَلَيْهِ إذْ إنَّ ذَلِكَ خَلْوَةٌ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَالْخَلْوَةُ بِهَا مُحَرَّمَةٌ

فصل على صاحب البيت أن يكون هو الذي يتولى الوقوف

(فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْكُبَ فِي بَيْتٍ فِيهِ مَنْ يَتَبَرَّجُ مِنْ النِّسَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إلَى فَسَادِ الْقُلُوبِ فِي الْغَالِبِ وَإِنْ كُنَّ يَزْعُمْنَ أَنَّهُنَّ لَا يُخْشَى عَلَيْهِنَّ لِصِيَانَتِهِنَّ إذْ إنَّ خُرُوجَهُنَّ عَلَى غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ يَحْرُمُ وَيُذْهِبُ عَنْهُنَّ مَا يَزْعُمْنَهُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالتَّعَفُّفِ إذْ لَوْ كُنَّ كَذَلِكَ لَمَا ظَهَرْنَ عَلَى غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ [فَصْلٌ عَلَى صَاحِبِ الْبَيْتِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْوُقُوفَ] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الْبَيْتِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْوُقُوفَ مَعَ السَّقَّاءِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَشْبَهَهُ أَوْ يَكِلُ ذَلِكَ إلَى ذِي رَحِمٍ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ عَبِيدِهِ أَوْ عَبِيدِ أَهْلِهِ الْمَأْمُونِينَ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ وُقُوعِ الْخَلْوَةِ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا مَضَى فِي صَبِيِّ صَاحِبِ الطَّاحُونِ مِنْ أَنَّهُ يَضَعُ الطَّحِينَ عَلَى الْبَابِ وَيَتَوَارَى حَتَّى تَأْخُذَهُ الْمَرْأَةُ إذْ إنَّ ذَلِكَ لَا خَلْوَةَ فِيهِ بِخِلَافِ السَّقَّاءِ (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّقَّاءَ يَتَوَلَّى مَا ذُكِرَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَكَانَتْ لَهُ ضَرُورَةٌ فَلْيَتَّخِذْ صَبِيًّا مُتَّصِفًا بِمَا اتَّصَفَ هُوَ بِهِ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ الصَّبِيُّ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَبِيعُ الْقِرْبَةَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ يَهَبُ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الْجَمَلِ، ثُمَّ يَبِيعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا كَامِلَةٌ وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ يَبِيعُهَا ثُمَّ بَعْدَ بَيْعِهَا يَهَبُ أَوْ يَبِيعُ مِنْهَا وَذَلِكَ خِلْسَةٌ وَخِيَانَةٌ لِصَاحِبِ الْجَمَلِ وَلِمَنْ اشْتَرَى مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْجَمَلِ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ فَفِي حَقِّ الصَّبِيِّ مِنْ بَابٍ أَحْرَى (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْإِدْلَالِ عَلَى بَعْضِ الْبُيُوتِ حَتَّى يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَذَلِكَ يُمْنَعُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ لِأَمْرِ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالِاسْتِئْذَانِ فَمَا بَالُك بِدُخُولِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَجِبُ أَدَبُهُ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَبِهِ فَلْيَهْجُرْهُ وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي الْهِجْرَانِ تَرْكُ مُعَامَلَتِهِ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَأْخُذُ ثَمَنَ عِدَّةٍ رَاوِيًا

مُعَجَّلًا مِنْ شَخْصٍ وَيَفْعَلُ فِي ذَلِكَ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ الْفَرَّانُ فِي خَبْزِ طَبَقِ الْمُشَاهَرَةِ مَعَ خَبْزِ طَبَقِ النَّقْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ السَّقَّاءُ بِأَنَّهُ يَخْتَارُ لَهُ الْوَقْتَ الَّذِي يَكْسُدُ عَلَيْهِ فِيهِ الْمَاءُ فَيَسْكُبُهُ لَهُ فِيهِ أَوْ يَأْتِي لَهُ بِهِ فِي وَقْتٍ يَرْغَبُ النَّاسُ عَنْ سَكْبِ الْمَاءِ فِيهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَنِ الْحَرِّ فَيَسْكُبُ لَهُ فِي الْقَائِلَةِ أَوْ فِي آخِرِ النَّهَارِ فَقَلَّ أَنْ يَبْرُدَ وَيَبِيعَ أَوَّلَ النَّهَارِ بِالنَّقْدِ وَذَلِكَ ضَرَرٌ وَغِشٌّ فِي حَقِّ مَنْ عَجَّلَ لَهُ ثَمَنَ الْمَاءِ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَ الْمَاءِ أَنْ تَكُونَ يَدَاهُ سَالِمَتَيْنِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرَّانِ إذْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَهَاوَنُونَ بِأَمْرِ النَّجَاسَاتِ وَالْمُسْتَقْذِرَات فَيُبَاشِرُونَهَا ثُمَّ لَا يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ مِنْهَا (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ مِنْ الرَّاوِيَةِ بَعْضَهَا أَوْ وَهَبَهُ كَمَا سَبَقَ فَإِذَا سَكَبَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي جَعَلَ فِي كُلِّ قِرْبَةٍ يَمْلَؤُهَا مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا أَوْ نَحْوًا مِنْهُ وَيُمْسِكُهَا بِصَنْعَةٍ لَهُ فِيهَا حَتَّى يُظْهِرَ لِلْغَيْرِ أَنَّهَا مَلْآنَةُ، وَذَلِكَ لَا يُظْهِرُ لِمُشْتَرِيهَا عَدَدَ قِرَبِ الرَّاوِيَةِ فِي الْعَادَةِ حَتَّى لَا يَتَّهِمَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الرَّاوِيَةُ كَامِلَةً فَإِنَّهُ يَمْلَأُ الْقِرْبَةَ بِكَمَالِهَا لِيَفْرُغَ مِنْ سَكْبِ الرَّاوِيَةِ سَرِيعًا (فَصْلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي اللَّيَالِي الَّتِي يَعْمَلُونَهَا فِي السَّنَةِ فِي الْقَرَافَةِ مِثْلَ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَغَيْرِهَا وَأَنَّ ذَلِكَ يُمْنَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ كُلُّ مَنْ أَعَانَهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعِينُهُمْ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ فِي تَيْسِيرِ الْمَاءِ عَلَيْهِمْ إعَانَةٌ لَهُمْ فَيَكُونُ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي لُحُوقِ الْإِثْمِ فِيمَا ارْتَكَبُوهُ عَافَانَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ وُقُوعِ الْمُشَاتَمَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَذِكْرِ الْأَلْفَاظِ الْخَبِيثَةِ. وَيَنْبَغِي لِلْمُشْتَرِي إذَا عَرَفَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَنْهَاهُ وَيَزْجُرَهُ حَتَّى يَتُوبَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَجَرَهُ، وَمِنْ الْهِجْرَانِ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِهِمْ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَنْ ذُكِرَ قَبْلُ مِنْ الصُّنَّاعِ وَمَنْ يَأْتِي بَعْدُ

فصل في ذكر القصاب

(فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ أَصْلًا وَبَعْضُهُمْ يُخْرِجُونَهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا ثُمَّ يَقْضُونَهَا مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يُفَارِقُونَ الْمَاءَ طُولَ يَوْمِهِمْ وَالْمَسَاجِدُ مِنْهُمْ قَرِيبَةٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى قِلَّةِ الْحَيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَشْيِهِمْ فِي الطَّرِيقِ بِالْمَاءِ لِيَبِيعُوهُ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ إذَا أَرَادُوا أَنْ يُفْسَحَ لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُونَ: صَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَبُّدِ وَالتَّقَرُّبِ. وَمِنْ النَّوَادِرِ لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ سَحْنُونَ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ مِنْ الشَّيْءِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَسَلَّمَ: إنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِسَابِ وَرَجَاءِ الثَّوَابِ. قَالَهُ فِي كِتَابِ الْمُحَارَبِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْقَصَّابِ] ِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْجَزَّارِ " قَدْ تَقَدَّمَ فِي صَاحِبِ الطَّاحُونِ وَغَيْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ فِي التَّيْسِيرِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَالْجَزَّارُ مِثْلُهُ بَلْ أَمْرُهُ أَعَزُّ لِإِحْلَالِهِ الذَّبِيحَةَ وَهِيَ أَمَانَةٌ وَالنَّاسُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ صَحِيحُهُمْ وَضَعِيفُهُمْ فَيُحْسِنُ نِيَّتَهُ مَا أَمْكَنَهُ فَيَكُونُ عَمَلُهُ كُلُّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالرِّزْقُ عَلَى الْخَالِقِ لَا عَلَى الْمَخْلُوقِ كَمَا سَبَقَ فِي غَيْرِهِ فَيَبْقَى بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَةِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَيْرَ الْمُتَعَدِّي أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرِ عَلَى الْمَرْءِ نَفْسِهِ وَشَغْلُهُ بِصَنْعَتِهِ خَيْرٌ مُتَعَدٍّ فَهُوَ فِي عِبَادَةٍ عَظِيمَةٍ إذَا حَسُنَتْ النِّيَّةُ فِيهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي مَوْسِمٍ مِثْلِ الْأَضَاحِيِّ وَالْهَدَايَا فِي الْحَجِّ وَسُنَّةِ الْعَقِيقَةِ فَيَحْصُلُ لَهُ

فرائض الذكاة

مِنْ الْأَجْرِ فِي إعَانَتِهِمْ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ إذْ إنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يُحْسِنُونَ الذَّبْحَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُحْسِنُهُ لَكِنْ قَدْ يَعْجِزُ عَنْهُ لِضَرُورَاتٍ تَقَعُ لَهُ وَكُلُّ مَنْ أَعَانَ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ فَاعِلِهِ. ثُمَّ اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مُهِمَّاتِهَا؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ أَمَانَةٌ فَلَا يَتَوَلَّى أَمْرَهَا إلَّا أَمِينٌ لَا يُتَّهَمُ فِي دِينِهِ إذْ إنَّ لَهَا أَحْكَامًا تَخُصُّهَا مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ وَشُرُوطِ الصِّحَّةِ وَشُرُوطِ الْفَسَادِ وَمَا يَجُوزُ أَكْلُهُ مِنْ الذَّبِيحَةِ وَمَا لَا يَجُوزُ وَمَا يُكْرَهُ وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يَذْبَحُهَا عَالِمًا بِأَحْكَامِهَا ثِقَةً أَمِينًا خِيفَةَ أَنْ يُطْعِمَ الْمُسْلِمِينَ الْحَرَامَ وَيَأْخُذَ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّجِسَ لَا قِيمَةَ لَهُ شَرْعًا. [فَرَائِضُ الذَّكَاة] فَفَرَائِضُهَا خَمْسٌ: وَهِيَ النِّيَّةُ: وَمَعْنَاهَا أَنْ يَقْصِدَ بِذَبْحِهِ لَهَا تَحْلِيلَهَا لِمَنْ يَأْكُلُهَا. وَالْفَوْرُ: وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا مُهْلَةَ فِيهِ. وَقَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ. فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْفَرَائِضِ لَمْ تُؤْكَلْ. وَاخْتُلِفَ فِي أَرْبَعٍ إذَا لَمْ يَقْطَعْ الْمَرِيءَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا قَطَعَ النِّصْفَ فَأَكْثَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَتْ الْجَوْزَةُ إلَى الْبَدَنِ وَإِذَا بَعَّضَ الذَّبْحَ فَرَفَعَ يَدَهُ ثُمَّ أَعَادَهَا فِي الْفَوْرِ. [سُنَنُ الذَّكَاة] وَسُنَنُهَا أَرْبَعٌ: إحْدَادُ الْآلَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَالتَّسْمِيَةُ وَالصَّبْرُ عَلَيْهَا إلَى أَنْ تَبْرُدَ، فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا كُرِهَ أَكْلُهَا إلَّا التَّسْمِيَةُ فَإِنَّهَا لَا تُؤْكَلُ إلَّا أَنْ يَتَأَوَّلَ. [فَضَائِلُ الذَّكَاة] وَفَضَائِلُهَا أَرْبَعٌ: سَوْقُهَا إلَى مَوْضِعِ الذَّبْحِ بِرِفْقٍ وَإِضْجَاعُهَا عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْسَرِ بِرِفْقٍ وَأَنْ يَجْعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى عَلَى صَفْحَةِ خَدِّهَا الْأَيْمَنِ وَأَنْ لَا يَذْبَحَ بَهِيمَةً وَالْأُخْرَى تَنْظُرُ إلَيْهَا وَتَصِحُّ ذَكَاةُ مَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا عَارِفًا بِالذَّبْحِ قَاصِدًا لِلتَّذْكِيَةِ. ، وَلَا تَصِحُّ مِنْ خَمْسٍ: صَغِيرٌ لَا يُمَيِّزُ الْعِبَادَاتِ وَمَجْنُونٌ وَسَكْرَانُ لَا يُمَيِّزُ مَا يَفْعَلُ وَمَجُوسِيٌّ وَمُرْتَدٌّ. وَاخْتُلِفَ فِي ذَكَاةِ أَرْبَعٍ: الصَّبِيُّ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ وَالْمَرْأَةُ وَالْكِتَابِيُّ إذَا وَكَّلَهُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَذْبَحَ لَهُ وَالْمُضَيِّعُ لِصَلَوَاتِهِ هَلْ تُؤْكَلُ

ذَبِيحَتُهُمْ أَمْ لَا. وَتَصِحُّ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا - أَنْ تَكُونَ التَّذْكِيَةُ لَهُمْ. وَالثَّانِي - أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ لَهُمْ أَكْلُهُ. وَالثَّالِثُ - إذَا لَمْ يُهِلُّوا بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَعَلَامَةُ الْحَيَاةِ خَمْسٌ: سَيَلَانُ الدَّمِ وَطَرْفُ الْعَيْنِ وَرَكْضُ الرِّجْلِ وَتَحْرِيكُ الذَّنَبِ وَإِفَاضَةُ النَّفْسِ فِي الْحَلْقِ. وَالْمَقَاتِلُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا خَمْسَةٌ: وَهِيَ قَطْعُ النُّخَاعِ وَهُوَ الْمُخُّ الَّذِي فِي عِظَامِ الرَّقَبَةِ وَالصُّلْبِ، وَقَطْعُ الْأَوْدَاجِ وَكَسْرُ أَعْلَى الظَّهْرِ وَانْتِثَارُ الْحَشْوَةِ وَانْتِثَارُ الدِّمَاغِ. وَاخْتُلِفَ فِي انْشِقَاقِ الْكَرِشِ وَالْأَوْدَاجِ. وَاخْتُلِفَ فِي الذَّكَاةِ بِثَلَاثَةٍ: الْعَظْمُ وَالسِّنُّ وَالظُّفْرُ. فَإِنْ اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْ الْفُرُوضِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا لَمْ يَجُزْ أَكْلُهَا لَكِنْ يُنْتَفَعُ مِنْهَا بِخَمْسٍ: وَهِيَ الْجِلْدُ إذَا دُبِغَ وَالصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالشَّعْرُ وَالرِّيشُ إذَا غُسِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَيُكْرَهُ مِنْهَا أَرْبَعٌ: الْقَرْنُ وَالْعَظْمُ وَالسِّنُّ وَالظِّلْفُ. فَإِذَا كَانَ الْجَزَّارُ مِمَّنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا أَمِنَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَكْلِ مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهِمْ أَوْ كَرِهَهُ لَهُمْ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَيِّنَ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْ يَرْضَاهُ أَهْلُ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لِمُبَاشَرَةِ ذَبَائِحِ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَكِلُ ذَلِكَ إلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ فِي الْغَالِبِ لَا تَطْمَئِنُّ لِصَاحِبِ الْبَهِيمَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهَا شَيْءٌ لَا تُؤْكَلُ مَعَهُ فَيَكْتُمُ صَاحِبُهَا مَا طَرَأَ عَلَيْهَا لِلْأَسْبَابِ الطَّارِئَةِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِثْلُ الشُّحِّ عَلَى ذَهَابِ ثَمَنِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ الذَّابِحُ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِ الْبَهَائِمِ مِمَّنْ قَدْ ارْتَضَاهُ أَهْلُ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ أُمِنَ عَلَى ذَبَائِحِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ لَا يَقُومُ بِهِمْ عَيَّنَ لَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِهِمْ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كُنْت أَعْهَدُ الْأَمْرَ بِمَدِينَةِ فَاسَ لَا يَذْبَحُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْبَهَائِمِ بَلْ مَنْ قَدَّمَهُ لِذَلِكَ أَهْلُ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَأَعْنِي بِالتَّقَدُّمَةِ فِي نَفْسِ التَّذْكِيَةِ لَيْسَ إلَّا. وَأَمَّا السَّلْخُ وَغَيْرُهُ فَصَاحِبُ الْبَهِيمَةِ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ لَا يُنَجِّسَ اللَّحْمَ عِنْدَ سَلْخِهَا بِالدَّمِ

فصل لا يطبخ اللحم الذي يأخذه من السوق إلا بعد غسله

الْمَسْفُوحِ بَلْ يَتَحَفَّظُ مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يُطْعِمَ الْمُسْلِمِينَ اللَّحْمَ الْمُتَنَجِّسَ إنْ تَرَكُوا غَسْلَهُ وَأَمَّا لَوْ غَسَلُوهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي السَّمِيطِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بَعْدَ غَسْلِهِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُفِيضُونَ الْمَاءَ عَلَى الذَّبِيحَةِ بَعْدَ سَلْخِهَا مَعَ وُجُودِ سَلَامَةِ لَحْمِهَا مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَيُثْقِلُونَ بِهِ اللَّحْمَ فِي الْمِيزَانِ [فَصْلٌ لَا يَطْبُخَ اللَّحْمَ الَّذِي يَأْخُذُهُ مِنْ السُّوقِ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ] فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ لَا يَطْبُخَ اللَّحْمَ الَّذِي يَأْخُذُهُ مِنْ السُّوقِ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ لِوُصُولِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَحْكَامُ السَّمِيطِ وَالْحُكْمُ فِيمَنْ يَبِيعُ السَّمِيطَ وَالسَّلِيخَ مَعًا فِي دُكَّانٍ وَاحِدَةٍ. وَمَا يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ السَّلِيخَ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَبِيعُ السَّمِيطَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِعْمَالُ السَّلِيخِ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ يَدَ الْجَزَّارِ وَسِكِّينَهُ مُتَنَجِّسَتَانِ بِمَا نَالَهُمَا مِنْ السَّمِيطِ [فَصْلٌ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ اشْتَرَى الْبُطُونُ أَنْ يَغْسِلَهَا قَبْلَ طَبْخِهَا] (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْبُطُونُ فَمَنْ اشْتَرَاهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهَا قَبْلَ طَبْخِهَا إذْ إنَّهَا لَا تَسْلَمُ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ غَالِبًا وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْهَا فِي الْمَاءِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَهُ عَلَى الْوَزْنِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَدْخُلُهُ لِكَوْنِهِمْ يَجْعَلُونَهَا فِي الْمَاءِ فَتَثْقُلُ فِي الْوَزْنِ فَمَا يُعْرَفُ كَمْ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ، وَلَا كَمْ وَزْنُهَا فِي نَفْسِهَا، وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَجْعَلُونَهَا فِيهِ مُتَغَيِّرٌ بِالدَّمِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَشْتَرِيَهَا وَزْنًا بَلْ جُزَافًا ثُمَّ يُطَهِّرَهَا فِي بَيْتِهِ [فَصْلٌ خلط الجزار لحما طريا بلحم بائت ويبيعه عَلَيَّ أَنَّهُ طريا] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْجَزَّارِ أَنْ لَا يَخْلِطَ لَحْمًا طَرِيًّا بِلَحْمٍ بَائِتٍ وَيَبِيعَهُ عَلَى أَنَّهُ طَرِيٌّ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غِشٌّ وَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَلَا تَتَخَلَّصُ ذِمَّتُهُ بِمَا يَتَأَوَّلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ اللَّحْمَ إذَا بَاتَ نَقَصَ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ لَمْ يَرْضَ بِهِ فِي الْغَالِبِ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ إذَا بَاتَ؛ لِأَنَّ قُوَّتَهُ قَدْ نَقَصَتْ وَلِأَنَّ الْعِلَلَ وَالْأَمْرَاضَ تَحْدُثُ بِسَبَبِ أَكْلِهِ لِكَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ

فصل الذبح في مواسم النصارى

[فَصْلٌ الذَّبْحِ فِي مَوَاسِمِ النَّصَارَى] فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الذَّبِيحَةُ قَلِيلَةَ الشَّحْمِ يَجْعَلُ مَعَهَا شَحْمَ غَيْرِهَا لِكَيْ يُرْغَبَ فِي شِرَاءِ اللَّحْمِ لِكَثْرَةِ دُهْنِهِ وَهَذَا غِشٌّ «وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الذَّبْحِ فِي مَوَاسِمِ النَّصَارَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهُمْ وَفِيهِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ تَعْظِيمٌ لِمَوَاسِمِهِمْ وَالْمُسْلِمُونَ مُنَزَّهُونَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ [فَصْلٌ الذَّبْح لِغَيْرِ الْقِبْلَة] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ فِي مَوْضِعٍ مُسْتَدِيرٍ فَلَا يُصَادِفُ الْقِبْلَةَ إلَّا بَعْضُهُمْ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِهَا سُنَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ وَفِيمَنْ تَرَكَهَا خِلَافٌ هَلْ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ أَمْ لَا كَمَا تَقَدَّمَ بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى تَأْتِيَ نَوْبَتُهُ لِجِهَةِ الْقِبْلَةِ وَحِينَئِذٍ يَذْبَحُ إلَيْهَا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الِاعْتِنَاءُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ قَوِيٌّ فِيمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ السُّنَنِ هَلْ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ أَمْ لَا. لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي التَّسْمِيَةِ أَقْوَى. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الذَّبِيحَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى تَحْلِيلَهَا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا وَقَعَ لَهُ فِي الذَّبِيحَةِ شَيْءٌ مِنْ الْفُرُوضِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ غِشٌّ وَ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» [فَصْلٌ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى الذَّبْحَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَفِّظًا عَلَى صَلَوَاتِهِ] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى الذَّبْحَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَفِّظًا عَلَى صَلَوَاتِهِ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ مُخْتَلَفٌ فِي ذَبِيحَتِهِ هَلْ تُؤْكَلُ أَمْ لَا؟ وَقَدْ مَرَّ فَإِنْ ذَبَحَ وَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يُصَلِّ وَتَابَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ لِلْمُشْتَرِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ غَشَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الشَّرَائِحِيِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ] قَدْ مَرَّ فِي نِيَّةِ الْجَزَّارِ مَا مَرَّ، فَالشَّرَائِحِيُّ مِثْلُهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ. أَعْنِي فِي التَّيْسِيرِ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّفُوا مُحَاوَلَةَ ذَلِكَ؛ لِأَنْفُسِهِمْ لِمَا وَرَدَ «وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ

فصل ترك القدور أو بعضها مكشوفة بأثر الطعام

مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» لَكِنَّ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ تُشْتَرَطُ فِيهِ مِنْهَا أَنْ لَا يَخْلِطَ لَحْمًا لِشَخْصٍ بِلَحْمٍ لِغَيْرِهِ، وَلَا أَنْ يُبَدِّلَهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَخْلِطُ شَيْئًا مِمَّا يَطْبُخُهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ خَلْطِ الشَّيْرَجِ وَغَيْرِهِ وَخَلْطِ الْأَفَاوِيهِ وَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيًا وَمُوَافِقًا وَالِاحْتِرَازُ فِي هَذَا أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي اخْتِلَاطِ الطَّحِينَيْنِ وَإِنْ كَانَا مَعًا وَاجِبَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي كَسْبِهِمْ وَفِيمَا يَشْتَرُونَ بِهِ آلَاتِ الْأَطْعِمَةِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الشَّرَائِحِيَّ يَطْبُخُ لِمَنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ فِي كَسْبِهِ، وَلَوْ كَانَ حَالُهُ مَرْضِيًّا لَمْ يَجُزْ وَأَكْثَرُ مَنْ يَتَعَاطَى هَذَا السَّبَبَ يَتَسَاهَلُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَغْسِلُونَ الْقِدْرَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَقْذَرِ وَإِنْ كَانَ أَوَّلًا سَالِمًا بَلْ يَغْسِلُ كُلَّ وِعَاءٍ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَيَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ نَظِيفٌ يُبَاشِرُ بِهِ الْغَسْلَ وَالتَّنْظِيفَ كَاللِّيفَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا فِي الْخُشُونَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ رَآهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ لَمْ يَرْضَ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ غِشًّا. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْخِرَقِ الَّتِي يَغْسِلُونَ بِهَا آنِيَتَهُمْ وَيَمْسَحُونَهَا بِهَا؛ لِأَنَّهَا مُسْتَقْذَرَةٌ وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِهَا خِرَقُ الْحَيْضِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ إذْ إنَّ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْمَعْرِفَةِ بِتَطْهِيرِهَا وَقَدْ يَبْقَى فِيهَا بَقِيَّةٌ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَشْتَرِيَهَا، وَلَوْ غَسَلَهَا بَعْدَ شِرَائِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمَا شَاكَلَهَا فَإِنْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ غَشَّ وَقَدْ وَرَدَ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» فَإِذَا أَعْلَمَهُ وَلَمْ يَرْضَ بِأَخْذِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ لَهُ. وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ لَا يَطْبُخَ عِنْدَ مَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنْ فَعَلَ مَعَ عِلْمِهِ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا وَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الطَّعَامِ إنْ شَارَكَهُ أَحَدٌ فِيهِ أَنْ يُعْلِمَهُ بِمَا أَنْفَقَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ غَشَّ وَالْغِشُّ مُحَرَّمٌ [فَصْلٌ تَرْكُ الْقُدُورِ أَوْ بَعْضِهَا مَكْشُوفَةً بِأَثَرِ الطَّعَامِ] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَرْكِ الْقُدُورِ أَوْ بَعْضِهَا مَكْشُوفَةً بِأَثَرِ الطَّعَامِ الَّذِي كَانَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يُسْرِعُ إلَيْهَا وَقَدْ يُلْقِي فِيهَا شَيْئًا مِنْ سُمِّهِ ثُمَّ

يَغْسِلُهَا مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِمَا جَرَى فِيهَا فَقَدْ لَا يُبَالِغُ فِي غَسْلِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى إتْلَافِ النُّفُوسِ أَوْ الْوُقُوعِ فِي أَمْرَاضٍ خَطِرَةٍ فَإِنْ تَرَكَ غَسْلَهَا نَاسِيًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ الَّذِي طُبِخَ لَهُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُرْمُ كَمَا سَبَقَ فَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ فَقَدْ غَشَّ «وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى طَعَامِ النَّاسِ مِنْ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ فِي الدُّكَّانِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ فَإِنْ عَلِمَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ إعْلَامُ صَاحِبِهِ لِيَتَحَلَّلَ مِنْهُ فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَذِمَّتُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ غَشَّ وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا. وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يُدْخِلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَدَهُ فِي الطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ نَظَافَةِ أَيْدِيهِمْ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا غَسَلَ الْقُدُورَ مِمَّا كَانَ فِيهَا أَنْ يُغَطِّيَهَا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ غَسَلَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ رَائِحَةِ مَا كَانَ فِيهَا تَعَلَّقَ بِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَجِيءِ الْحَيَوَانِ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ وَيَنْبَغِي إذَا طَبَخَ فِي قُدُورٍ وَأَفْرَغَ مَا فِيهَا لِصَاحِبِهِ وَغَطَّاهَا وَلَمْ يَغْسِلْهَا ثُمَّ بَاتَتْ وَأَرَادَ أَنْ يَطْبُخَ فِيهَا أَنْ يَغْسِلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَطْعِمَةِ إذَا بَقِيَ أَثَرُهَا يُخَافُ مِنْ ضَرَرِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ تَعَافُهُ نَفْسُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا طَبَخَ فِيهَا ثُمَّ أَفْرَغَهُ مِنْهَا ثُمَّ طَبَخَ فِيهَا الْآخَرَ فَلَا بَأْسَ إذَنْ لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَ صَاحِبَ الطَّعَامِ الثَّانِي لِلْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ فِي طَحِينِ شَخْصٍ بَعْدَ طَحِينِ شَخْصٍ آخَرَ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنَّهُ مَهْمَا قَدَرَ أَنْ لَا يَطْبُخَ عِنْدَ الشَّرَائِحِيِّ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَمُرُّونَ عَلَى دُكَّانِهِ وَيَشُمُّونَ تِلْكَ الرَّوَائِحَ وَفِيهِمْ الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ وَالصَّغِيرُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْحَامِلُ وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ صَاحِبِ الطَّعَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَطْلُبُ وَهُوَ الْغَالِبُ، وَمَنْ يَطْلُبُ مِنْهُمْ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَإِنْ أُعْطِيَ فَالنَّزْرُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يَرُدُّ شَهْوَتَهُ وَهَذَا إنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ حَاضِرًا وَالْغَالِبُ عَدَمُ حُضُورِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَرَرِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ أَذِيَّةِ الْجَارِ بِرَائِحَةِ الْقِدْرِ هَذَا وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ جِدَارٌ

فَمَا بَالُك بِمَا يُطْبَخُ فِي السُّوقِ وَالنَّاسُ يَرَوْنَهُ وَيَشُمُّونَ رَائِحَتَهُ فَالْغَالِبُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَأْكُلُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُدْخِلَ التَّشْوِيشَ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ» سِيَّمَا إنْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَمَعَهُمَا صَغِيرٌ أَوْ صِغَارٌ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى تَحْصِيلِ مِثْلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ. وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِأَنْ يُكْثِرَ الْمَرْءُ الْمَرَقَةَ فِي طَعَامِهِ لِيُعْطِيَ الْجِيرَانَ مِنْهَا. فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ احْتَاجَ إلَى الطَّبْخِ عِنْدَ الشَّرَائِحِيِّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الْمَرَقَةِ وَيُكْثِرَ مِنْ الْإِعْطَاءِ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَهَذَا أَمْرٌ عَسِرٌ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْبُخَ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِرَائِحَةِ الْقِدْرِ فِي الْبَيْتِ أَقَلُّ مِنْهُ فِي السُّوقِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُطْعِمَ الْجِيرَانَ مِنْهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْعِلَّةَ فِي إطْعَامِ الْجَارِ وَهِيَ أَنْ لَا يُؤْذِيَ جَارَهُ بِرَائِحَةِ قِدْرِهِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ أَوْجَدُ فِيمَا طُبِخَ فِي السُّوقِ وَالْمُكَلَّفُ عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَتَشَرَّفُ إلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْجِيرَانِ. وَهَذَا بَيِّنٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ (فَصْلٌ) وَيُشْتَرَطُ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الشَّرَائِحِيِّ مَا اُشْتُرِطَ فِي صَبِيِّ صَاحِبِ الطَّاحُونِ وَفِي السَّقَّاءِ وَصَبِيِّهِ. وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الطَّعَامِ إذَا أَتَى لَهُ بِهِ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ حَامِلَهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ مَنْ يُبَاشِرُهُ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ جَارِيَةٍ أَوْ عَبْدٍ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ فَإِنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ» وَيَنْبَغِي لِلشَّرَائِحِيِّ إذَا أَرْسَلَ الْقِدْرَ مَعَ صَبِيِّهِ إلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُغَطِّيَهَا؛ لِأَنَّ بِتَغْطِيَتِهَا تَقِلُّ أَذِيَّةُ النَّاسِ بِرَائِحَتِهَا وَمِنْ ذَلِكَ يَمْتَنِعُ النَّظَرُ لِمَا فِيهَا فَتَكُونُ التَّغْطِيَةُ مُتَعَيِّنَةً لِمَا ذُكِرَ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ هُوَ الْحَامِلُ لَهَا فَهُوَ مَأْمُورٌ أَيْضًا بِتَغْطِيَتِهَا لَكِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ وَقَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ

فصل في ذكر الطباخ الذي يبيع في السوق

لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الطَّبَّاخِ الَّذِي يَبِيعُ فِي السُّوقِ] فَيَنْوِيَ بِذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الشَّرَائِحِيِّ. لَكِنْ يَزِيدُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ بِطَبْخِهِ التَّيْسِيرَ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَالْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَعْجِزُونَ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِمْ أَوْ يَقْدِرُونَ عَلَى فِعْلِهِ بِمَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُمْ فِي مُحَاوَلَتِهِ. وَيُعْتَبَرُ فِي تَصَرُّفِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الشَّرَائِحِيِّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرَائِحِيَّ يَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُغَطِّيَ مَا طَبَخَهُ إذَا أَرْسَلَهُ إلَى صَاحِبِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّشَوُّفِ إلَيْهِ إذَا كَانَ مَكْشُوفًا وَالطَّبَّاخُ إذَا تَرَكَ طَعَامَهُ مَكْشُوفًا تَشَوَّفَتْ إلَيْهِ النُّفُوسُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ هَذَا مُتَعَذِّرٌ فِي حَقِّ الطَّبَّاخِ؛ لِأَنَّهُ إنْ غَطَّى طَعَامَهُ تَعَذَّرَتْ رُؤْيَةُ الْمُشْتَرِي لَهُ أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ فَرَغَ مِنْ بَيْعِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَنْوِي بِطَبْخِهِ التَّيْسِيرَ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فَيَنْبَغِي لَهُ إظْهَارُ طَعَامِهِ لِيَتِمَّ لَهُ قَصْدُهُ وَإِذَا كَشَفَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ خَاطِرُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَمَنْ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ لَا يَأْكُلُهُ إلَّا وَفِيهِ عُيُونُ أُولَئِكَ فَيَحْتَاجُ مَنْ يَشْتَرِيهِ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُبَالِغُ فِي الْإِطْعَامِ مِنْهُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ الطَّعَامِ قَلِيلًا فَيُعْطِي مِنْهُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ، وَلَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ لِمَنْ يَرَى أَنَّ الدَّفْعَ لَهُ أَصْلَحُ مِنْ الْمُضْطَرِّينَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَإِذَا حَمَلَهُ إلَى بَيْتِهِ فَتَغْطِيَتُهُ مُتَعَيِّنَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الطَّبَّاخِ أَنْ لَا يَطْبُخَ إلَّا لَحْمًا مُنْفَرِدًا لَا يَخْلِطُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ اللُّحُومِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ مِنْ خَلْطِهِمْ اللَّحْمَ الضَّانِيَ مَعَ الْبَقَرِيِّ وَيَبِيعُونَهُ كُلَّهُ عَلَى أَنَّهُ لَحْمُ ضَأْنٍ وَهَذَا كُلُّهُ غِشٌّ وَهُوَ مُحَرَّمٌ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ اللَّحْمَ الْبَقَرِيَّ الصَّغِيرَ وَيَطْبُخُونَهُ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ لَحْمُ ضَأْنٍ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَيْضًا. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَبِيتُ عِنْدَهُمْ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ وَطَبَخُوا اللَّحْمَ الطَّرِيَّ خَلَطُوا مَا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي طَبَخُوهُ بِالْأَمْسِ

فصل الطبخ في قدور البرام المشعوبة

وَبَاعُوهُ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا طُبِخَ الْيَوْمَ وَذَلِكَ غِشٌّ وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا. وَيَجِبُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَنْ يُعْلِمَ الْمُشْتَرِيَ بِمَا فَعَلَهُ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ إنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهُ فَإِنْ فَاتَ الطَّعَامُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ كُلِّ مَنْ بَاعَهُ لَهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَذِمَّتُهُ مَشْغُولَةٌ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ رَدُّ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهُمَا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا طَبَخَ اللَّحْمَ صَلَقَهُ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَى النُّضْجِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا - أَنْ يَثْقُلَ فِي الْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَضِجَ خَفَّ فِي الْوَزْنِ. وَالثَّانِي - خِيفَةَ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ فَتَدْخُلَهُ الرَّائِحَةُ لِنُضْجِهِ. وَالثَّالِثُ - أَنَّ النَّاضِجَ مِنْ اللَّحْمِ إذَا بَاتَ يَظْهَرُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْغَالِبِ أَنَّهُ بَائِتٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ طَرِيًّا فَإِنَّهُ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا بَاتَ اللَّحْمُ عِنْدَهُمْ مَطْبُوخًا اسْتَغْنَوْا بِهِ عَنْ شِرَاءِ اللَّحْمِ فِي يَوْمِهِمْ ذَلِكَ وَطَبَخُوا الطَّعَامَ بِالدُّهْنِ فَقَطْ وَبَاعُوا اللَّحْمَ الَّذِي بَاتَ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَحْمٌ طَرِيٌّ طُبِخَ بِهِ هَذَا الطَّعَامُ الْيَوْمَ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَطْبُخُونَ اللَّحْمَ السَّمِيطَ الَّذِي بَاتَ عِنْدَهُمْ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ لَحْمٌ طَرِيٌّ، وَلَا يُبَيِّنُونَ، وَلَوْ بَيَّنُوهُ لَمْ يَجُزْ لِمَا تَقَدَّمَ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْلِطُ مَعَهُ لَحْمَ السَّلِيخِ وَيَطْبُخُونَهُمَا مَعًا وَهُوَ مُلْحَقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَمِثْلُهُمَا فِي الْمَنْعِ الدُّهْنُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ دُهْنَ الْبُدْنِ؛ لِأَنَّهُ دُهْنُ السَّمِيطِ فِي الْغَالِبِ [فَصْلٌ الطَّبْخُ فِي قُدُورِ الْبِرَامِ الْمَشْعُوبَةِ] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الطَّبْخِ فِي قُدُورِ الْبِرَامِ الْمَشْعُوبَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ يُشَعِّبُهَا يَطْلِي عَلَيْهَا بِالدَّمِ الْمُتَّفَقِ عَلَى نَجَاسَتِهِ فَيَتَنَجَّسُ مَا طُبِخَ فِيهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَذْهَبَ ذَلِكَ مِنْهَا وَيُغْسَلَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَلَا بَأْسَ إذَنْ [فَصْلٌ شِرَاء مرقة الطَّعَام وزنا] (فَصْلٌ) وَأَمَّا مَرَقَةُ الطَّعَامِ فَلَا يَشْتَرِيهَا وَزْنًا إلَّا أَنْ تَكُونَ سَالِمَةً مِنْ أَنْ يَخْتَلِطَ بِهَا غَيْرُهَا فَإِنْ اخْتَلَطَ بِهَا غَيْرُهَا تَعَيَّنَ شِرَاؤُهَا جُزَافًا. مِثَالُهُ أَنْ تَكُونَ

فصل في ذكر اللبان وما يتعلق به

الْمَرَقَةُ فِيهَا حِمَّصٌ أَوْ أَرُزٌّ أَوْ سِلْقٌ أَوْ قُلْقَاسٌ أَوْ بَاذِنْجَانٌ أَوْ دُبَّاءُ أَوْ جَزَرٌ أَوْ كُرُنْبٌ أَوْ لُفْتٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ مَرَقَتِهِ عَلَى الْوَزْنِ لِدُخُولِ الْجَهَالَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مُغَابَنَةٍ. وَالْحَاصِلُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُرِيدُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَكْثَرَ وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْهُ أَقَلَّ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَزْنًا وَيَجُوزُ جُزَافًا بَعْدَ أَنْ يُجْعَلَ فِي وِعَاءِ الْمُشْتَرِي وَيَطَّلِعَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْمَرَقَةِ وَغَيْرِهَا، وَمِثْلُ هَذَا شِرَاءُ الْعَدَسِ وَالْبِسِلَّةِ الْمَطْبُوخَيْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا وَفِيهِمَا السِّلْقُ وَالْقُلْقَاسُ فَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ ذَلِكَ وَزْنًا كَمَا تَقَدَّمَ وَيَجُوزُ جُزَافًا بِشَرْطِ مُعَايَنَةِ الْمُشْتَرِي لِذَلِكَ كَمَا سَبَقَ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ اللَّبَّانِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ] اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ اللَّبَّانَ يَنْبَغِي لَهُ أَوَّلًا أَنْ يَنْوِيَ بِمُحَاوَلَةِ اللَّبَنِ التَّيْسِيرَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخَبَّازِ وَالطَّبَّاخِ؛ لِأَنَّ الْخُبْزَ هُوَ الْقُوتُ وَالطَّعَامُ نَوْعٌ مِنْ إدَامِهِ وَاللَّبَنُ أَشْرَفُ؛ لِأَنَّهُ طَعَامٌ وَإِدَامٌ إذْ إنَّهُ قَدْ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَيُحْضِرُ نِيَّتَهُ عِنْدَ مُحَاوَلَتِهِ لَهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالنِّيَّةُ لَا تَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِمُرَاعَاةِ إتْبَاعِ لِسَانِ الْعِلْمِ فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ وَأَوْجَبُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا أُحْدِثَ فِيهِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ اللَّبَنَ إلَّا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا بِمُعَايَنَةٍ لَهُ فَيَجُوزُ بِشُرُوطِ الْبَيْعِ، وَإِمَّا أَنْ يُسْلَمَ فِيهِ فَيَجُوزُ بِشُرُوطِ السَّلَمِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنْ ارْتِكَابِ عَادَةٍ ذَمِيمَةٍ خَالَفُوا فِيهَا الشَّرْعَ الشَّرِيفَ وَهُوَ أَنَّ اللَّبَّانَ يَأْخُذُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ اللَّبَنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ اتِّفَاقٍ مَعَ صَاحِبِ اللَّبَنِ عَلَى ثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَلَا مُعَاقَدَةٍ شَرْعِيَّةٍ بَلْ بِحَسَبِ مَا يَقُولُ لَهُمْ كَبِيرُهُمْ مِنْ السِّعْرِ فِي آخِرِ الْجُمُعَةِ فَيَئُولُ أَمْرُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي آخِرِ الْجُمُعَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي سِعْرِ اللَّبَنِ فَإِنَّ صَاحِبَ اللَّبَنِ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ وَاللَّبَّانُ يُنَازِعُهُ فِيهَا، وَلَوْ فُرِضَ عَدَمُ الْمُنَازَعَةِ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمَا

فصل صبغ الزبد والسمن حتى يبقى كل واحد منهما

دَخَلَا عَلَى الْجَهَالَةِ فِي الثَّمَنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَهَذِهِ الْعَادَةُ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى؛ لِأَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ شِرَائِهِ وَهُمْ يَفْعَلُونَ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَسَرَى ذَلِكَ إلَى مَا يُطْبَخُ بِهِ مِنْ الْأَرُزِّ وَغَيْرِهِ وَسَبَبُ وُقُوعِهِمْ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ عَدَمُ النَّظَرِ إلَى أَمْرِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَنَهْيِهِ فَلَوْ سَأَلُوا أَهْلَ الْعِلْمِ عَنْهُ لَبَيَّنُوا لَهُمْ الْحُكْمَ فِيهِ وَعَرَفُوهُ. وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ، وَلَا مَا عُمِلَ فِيهِ فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرَ أَنَّ مَنْعَهُ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَلِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْفَحَةَ الَّتِي يُعْمَلُ بِهَا الْجُبْنُ نَجِسَةٌ. لَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِيَ الَّذِي قَالَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَفُّ مِنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي نَجَاسَةِ الْإِنْفَحَةِ وَطَهَارَتِهَا فَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا طَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّ مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَبَوْلُهُ طَاهِرٌ بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي مَنْعِهِ [فَصْلٌ صَبْغِ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ حَتَّى يَبْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ صَبْغِ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ حَتَّى يَبْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْنُهُ يَمِيلُ إلَى الصُّفْرَةِ وَهَذَا غِشٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ عَادَةٌ قَدْ عُلِمَتْ بِالْعُرْفِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ الْمَذْمُومَةَ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ لَا تُرَاعَى، وَلَا يُرْجَعُ إلَيْهَا وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ عَلِمَ بِذَلِكَ فَلَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَشْتَرِيهِ مِنْهُمْ. وَهَذَا ضِدُّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ النَّصِيحَةِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِتَرْكِ الْغِشِّ لَهُمْ [فَصْلٌ تَغْطِيَةَ أَوَانِي اللَّبَنِ] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يُهْمِلُونَ تَغْطِيَةَ أَوَانِي اللَّبَنِ وَتَغْطِيَتُهَا مُتَعَيِّنَةٌ سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا لَبَنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانِ يَتَتَبَّعُ الرَّائِحَةَ فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ فِيهِ لَبَنٌ أَلْقَى سُمَّهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فَارِغًا فَكَذَلِكَ فَيُخَافُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى مَنْ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْهُ يُصِيبُهُ مَا يُكْرَهُ وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى إتْلَافِ النُّفُوسِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ غَسْلُ أَوَانِي اللَّبَنِ وَتَنْظِيفُهَا بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ كُلَّ إنَاءٍ عَلَى حِدَتِهِ وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُ يَغْسِلُ الْأَوْعِيَةَ

فصل الصحاف التي يجعل فيها اللبن للمشتري

بِالْمَاءِ الَّذِي غَسَلَ بِهِ الْوِعَاءَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَهَكَذَا وَذَلِكَ لَا يُزِيلُ الرَّائِحَةَ بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الِاسْتِقْذَارِ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى تَجِدُ الْحَلِيبَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْأَوَانِي لَهُ ذَفِرَةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعْمَلْ فِيهَا. وَقَدْ يَكُونُ بِظَاهِرِ الْوِعَاءِ مِنْ أَسْفَلِهِ نَجَاسَةٌ وَهُمْ يَغْسِلُونَ ظَاهِرَ الْوِعَاءِ وَبَاطِنَهُ بِمَاءٍ وَاحِدٍ فَإِذَا غَسَلَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ الْمَاءِ نَجَّسَهُ وَنَجَّسَ مَا أَصَابَهُ وَلِأَجْلِ هَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ كُلَّ إنَاءٍ وَحْدَهُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَمَا تَقَدَّمَ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَغْطِيَتُهَا بَعْدَ غَسْلِهَا وَإِنْ كَانَتْ لَا لَبَنَ فِيهَا لِمَا يُخْشَى عَلَيْهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَلَوْ فُرِضَتْ السَّلَامَةُ مِنْ ذَلِكَ لَتَعَيَّنَتْ تَغْطِيَتُهَا لِمَا يُخْشَى مِنْ وُقُوعِ الذُّبَابِ وَالْغُبَارِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ [فَصْلٌ الصِّحَافِ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا اللَّبَنُ لِلْمُشْتَرِي] (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي الصِّحَافِ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا اللَّبَنُ لِلْمُشْتَرِي فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ لَا يَغْسِلُونَهَا وَمَنْ يَتَحَفَّظُ مِنْهُمْ يَغْسِلُهَا بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ الْمَاءُ وَإِنْ كَانَ طَهُورًا فَقَدْ تَنَجَّسَ بِغَسْلِ الْوِعَاءِ الْأَوَّلِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُوقِدُونَ عَلَيْهَا بِالنَّجَاسَةِ هَذَا إنْ كَانَ طِينُ الصِّحَافِ طَاهِرًا فَيَحْتَاجُ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ أَنْ يَغْسِلَهُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ غَسْلُ كُلِّ إنَاءٍ عَلَى حِدَتِهِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَنَجَّسَ اللَّبَنُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْرَمَ ثَمَنَهُ لِمُشْتَرِيهِ؛ لِأَنَّ النَّارَ لَا تُطَهِّرُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَبَعْضُهُمْ يَنْفُضُ مَا فِيهَا مِنْ الْغُبَارِ وَيَجْعَلُ فِيهَا اللَّبَنَ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ وَالْحُكْمُ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْبَنَّاءِ] اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ هَذِهِ الصَّنْعَةَ مِمَّا يَحْتَاجُ النَّاسُ وَيَضْطَرُّونَ إلَيْهَا كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ بِهَا يَسْتَتِرُ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ وَالطَّائِعُ وَالْعَاصِي وَالْمُخْلِطُ وَقَدْ امْتَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عِبَادِهِ بِذَلِكَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26]

فصل النصيحة في البنيان

أَيْ سَتْرًا لِعَوْرَاتِكُمْ فِي حَالِ حَيَاتِكُمْ وَسَتْرًا لِجِيَفِ أَجْسَادِكُمْ بِالدَّفْنِ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي نِيَّةِ الْخَبَّازِ وَالْفَرَّانِ وَالسَّقَّاءِ مَا تَقَدَّمَ فَمِثْلُهُ فِي الْبَنَّاءِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ إعَانَةَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقِيَامَ بِهَذَا الْفَرْضِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ شَأْنَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ كَذَلِكَ فَمَنْ قَامَ بِهِ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ وَمَعَ هَذَا فَمَنْ فَعَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ قَائِمًا بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ نِيَّةِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ فَيَرْجِعُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ كُلُّ عَمَلِهِ لِلْآخِرَةِ صَرْفًا وَالرِّزْقُ الْمَقْسُومُ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بَعْدَ حُصُولِ حَظِّهِ مِنْ آخِرَتِهِ لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ دُنْيَاهُ فَاتَهُ حَظُّهُ مِنْ آخِرَتِهِ وَلَمْ يَنَلْ مِنْ دُنْيَاهُ إلَّا مَا قُسِمَ لَهُ وَمَنْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ آخِرَتِهِ نَالَ مِنْ آخِرَتِهِ مَا أَحَبَّ وَلَمْ يَفُتْهُ مِنْ دُنْيَاهُ مَا قُسِمَ لَهُ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ بِنَاءَ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَكُنْ عَلَى صِفَةِ الْبُنْيَانِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْبُيُوتَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا يُشْبِهُ بِنَاءَ السَّلَفِ وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ بِخَشَبِ النَّخْلِ وَجَرِيدِهِ وَبِالْقَصَبِ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ بِنَاءِ السَّلَفِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَكَثِيرٌ مِنْ الْبُيُوتِ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا صَغِيرَةٌ ضَيِّقَةٌ فَهِيَ شَبِيهَةٌ بِبُنْيَانِ السَّلَفِ وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا عَلَى جِهَةِ الِاتِّسَاعِ الْخَارِقِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَيَنْبَغِي لِلْبَنَّاءِ أَنْ لَا يَعْمَلَ عِنْدَ صَاحِبِهِ شَيْئًا إلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَغْضَبَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ تَدْعُوَ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ وَالضَّرُورَاتُ لَهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهَا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ صَاحِبِ الْبُنْيَانِ أَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا مِمَّا اصْطَلَحَ عَلَى فِعْلِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِنْ الزَّخْرَفَةِ وَالطِّلَاءِ بِالذَّهَبِ وَغَيْرِهِ أَنْ لَا يَعْمَلَ عِنْدَهُ وَيَتَجَشَّمَ الْمَشَقَّةَ عَلَى نَفْسِهِ لِئَلَّا يَكُونَ مُعِينًا عَلَى إضَاعَةِ الْمَالِ وَالسَّرَفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ [فَصْلٌ النَّصِيحَةِ فِي الْبُنْيَانِ] (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنَ عَلَى الصَّانِعِ إذَا عَمِلَ أَنْ يَنْصَحَ صَاحِبَ الْعَمَلِ فِيمَا هُوَ يَعْمَلُ لَهُ وَأَنْ يُوَفِّرَ عَلَيْهِ الْمُؤْنَةَ فَمَهْمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَ مَعَ وُجُودِ النَّصِيحَةِ فِي

الْبُنْيَانِ حَتَّى لَا يَخْتَلَّ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطْلُبَ مِنْ الْمُؤْنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إضْرَارٌ بِصَاحِبِ الْبِنَاءِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْبَنَّائِينَ مَنْ يَرْتَكِبُ هَذَا وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ» وَمِنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا أَوْ مَكَرَ بِهِ» وَمِنْهُ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ كَثِيرَةٍ يَطْلُبُ مِنْ صَاحِبِهِ بَعْضَهَا أَوَّلًا وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ لَهُ ثُمَّ إذَا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ طَلَبَ زِيَادَةَ الْمُؤْنَةِ ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ يَأْخُذَ أَضْعَافَ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا وَهَذَا غِشٌّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَرَفَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ جُمْلَةَ ذَلِكَ أَوَّلًا لَأَخَّرَ أَمْرَهُ إلَى أَنْ يُيَسَّرَ عَلَيْهِ فَأَوْقَعَهُ بِسَبَبِ الْكَذِبِ فِي التَّكَلُّفِ بِأَخْذِ الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ إلَى تَمَامِ الْبِنَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِ إذْ إنَّهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ فِي الْغَالِبِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُسْرِعُونَ فِي الْعَمَلِ لِكَيْ يُعْرَفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ يَنْصَحُونَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَنْ يُسْرِعُ الْإِخْلَالُ بِالْعَمَلِ فَتَكُونُ طُوبَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ حَدِّ الْجِدَارِ وَأُخْرَى دَاخِلَةٌ فِيهِ بِسَبَبِ الْإِسْرَاعِ وَذَلِكَ عَيْبٌ فِي الْعَمَلِ وَنَقْصٌ فِي الصَّنْعَةِ وَبِسَبَبِهِ يَحْتَاجُ إلَى التَّرْمِيمِ عَنْ قُرْبٍ لِضَعْفِ الْجِدَارِ بِسَبَبِ الْخَلَلِ الَّذِي بَيْنَ الطُّوبِ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ عَكْسِ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ يَأْخُذُ الطُّوبَةَ فِي يَدِهِ وَيَنْظُرُهَا وَيُقَلِّبُهَا وَيَنْحِتُهَا، وَلَا يَضَعُهَا فِي مَوْضِعِ الْعَمَلِ إلَّا بَعْدَ بُطْءٍ وَذَلِكَ مُضِرٌّ بِصَاحِبِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ بِذَلِكَ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا الْقَلِيلَ وَالْمُتَعَيَّنُ هُوَ الطَّرِيقُ الْوَسَطُ لَا الْإِسْرَاعُ الْمُخِلُّ بِالْعَمَلِ، وَلَا الْبُطْءُ الْمُضِرُّ بِصَاحِبِهِ {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]

(فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْعَمَلُ مِمَّا يُعْمَلُ بِالطِّينِ وَالْجِيرِ أَنْ يَتَحَرَّى اعْتِدَالَ قَدْرِهِمَا فِي الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَكْثَرَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَنَقَصَ مِنْ الْآخَرِ اخْتَلَّ الْعَمَلُ وَمَعَ ذَلِكَ يَتَفَقَّدُ بِالسَّقْيِ عَلَى قَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الْجِيرُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى السَّقْيِ بَعْدُ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا الْعَمَلُ قُرْبَ مَوْضِعٍ يَكُونُ مَكْشُوفًا لِلشَّمْسِ فَيَحْتَاجُ إلَى السَّقْيِ كَثِيرًا وَآخَرُ يَكُونُ فِي الظِّلِّ فَيَحْتَاجُ إلَى الْأَقَلِّ مِنْ الْأَوَّلِ وَآخَرُ يَكُونُ فِي السِّبَاخِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْأَقَلِّ مِنْ الثَّانِي فَإِنْ عُكِسَ فِي السَّقْيِ أَخَلَّ بِالْعَمَلِ وَأَضَرَّ بِصَاحِبِهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِقَدْرِ السَّقْيِ لِكُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَحَ فِي عَمَلِهِ فَلَا يَبْنِي بِالْجِبْسِ فِي مَوْضِعِ السِّبَاخِ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَلَلٌ فِي الْعَمَلِ وَغِشٌّ لِصَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ فِي عَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَبْنِيَ بِالطِّينِ وَالْجِيرِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ فَيَبْنِي كُلَّ وَاحِدٍ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ وَيَبْقَى مَعَهُ وَيَنْوِي بِذَلِكَ امْتِثَالَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ بَذْلِ النَّصِيحَةِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ (فَصْلٌ) وَيَنْبَغِي أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الْعَمَلِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّنْعَةِ إلَّا مَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِالدِّينِ وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ وَذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ مِنْهُ فِي الدُّورِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ تُوُقِّعَتْ الْمَفَاسِدُ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ فَلْيَكُنْ حَاضِرًا مَعَهُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لِلْحَرِيمِ أَنْ يَخْرُجْنَ عَلَيْهِ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ صَاحِبُ الْعَمَلِ حَاضِرًا نَصَحُوا فِي الْعَمَلِ وَلَمْ يَتَوَانَوْا وَإِذَا كَانَ غَائِبًا اشْتَغَلُوا فِي الْحَدِيثِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَأَبْطَئُوا فِي الْعَمَلِ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ إذَا قَعَدُوا لِلْأَكْلِ أَبْطَئُوا كَثِيرًا وَذَلِكَ يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْعَمَلِ بَلْ يَأْكُلُونَ مُسْرِعِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ

فصل على الصانع ومن يكون معه التحفظ على أوقات الصلوات

يُخِلُّوا بِالسُّنَّةِ فِي أَكْلِهِمْ مِثْلُ تَصْغِيرِ اللُّقْمَةِ وَتَطْوِيلِ الْمَضْغَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآدَابِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا [فَصْلٌ عَلَى الصَّانِعِ وَمَنْ يَكُونُ مَعَهُ التَّحَفُّظُ عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ] فَصْلٌ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الصَّانِعِ وَمَنْ يَكُونُ مَعَهُ التَّحَفُّظُ عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَيُبَادِرُونَ إلَى إيقَاعِهَا فِي وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ فِي جَمَاعَةٍ بِتَوَابِعِهَا وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أُدِّبَ الْأَدَبَ الشَّرْعِيَّ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ الْعَمَلِ أَوْ مَنْ يَعْمَلُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي تُوقَعُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَتَوَابِعُهَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِجَارَةِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] [فَصْلٌ فِي الصَّائِغِ] اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ الصَّائِغَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ حَسَنَةً وَيُشْعِرَ نَفْسَهُ بِهَا حِينَ التَّلَبُّسِ بِمَا يُحَاوِلُهُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ صَنْعَتِهِ إنَّمَا هُوَ لِزَخْرَفَةِ الدُّنْيَا فَيُزِيلُ ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ الْحَسَنَةِ، وَكَيْفِيَّتُهَا أَنْ يَنْوِيَ إعَانَةَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَضَاءِ مَآرِبِهِمْ وَالتَّفْرِيجِ عَنْهُمْ وَتَتْمِيمِ مَقَاصِدِهِمْ الْمَحْمُودَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ» وَمِنْ حُسْنِ التَّبَعُّلِ الزِّينَةُ وَأَعْظَمُهَا وَأَفْخَرُهَا لُبْسُ الْحُلِيِّ فَإِذَا نَوَى إعَانَتَهُمْ فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِهِمْ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْ نِيَّةِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهَا ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ فَيَبْقَى فِي عِبَادَةٍ وَخَيْرٍ دَائِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي صَنْعَتِهِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الرِّبَا وَيُوقِعُ غَيْرَهُ مِمَّنْ يَشْتَرِي مِنْهُ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُدَنِّسَ نِيَّتَهُ الَّتِي نَوَاهَا بِشَيْءٍ مِمَّا يُفْسِدُهَا مِثْلَ أَنْ يَعْمَلَ أَوْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ لِامْرَأَةٍ مُتَّهَمَةٍ بِالْبِغَاءِ أَوْ مُتَبَرِّجَةٍ وَإِنْ لَمْ تُتَّهَمْ بِذَلِكَ. فَإِنَّ فِعْلَ هَذَا مِمَّا يُفْسِدُ بِهِ قُلُوبَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ

(فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَحَدَّثَ مَعَ امْرَأَةٍ إلَّا فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِمَّا يُحَاوِلُهُ لَهَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ يَبِيعُ لَهَا أَوْ يَشْتَرِي مِنْهَا، وَلَا يَتْرُكُهَا تَكْشِفُ شَيْئًا مِنْ مِعْصَمِهَا أَوْ سَاقِهَا أَوْ غَيْرِهِمَا لِأَجْلِ ذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ الضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ إذْ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِأَنْ تَقِيسَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ بِخَيْطٍ وَتَأْتِي بِهِ مَعَهَا أَوْ تَأْتِي بِسِوَارٍ يَقِيسُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ تَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْهُ بِحَائِلٍ عَلَى يَدِهَا وَتَقِيسُهُ لِنَفْسِهَا مِنْ تَحْتِ إزَارِهَا أَوْ تَصِفُ لَهُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا فِي الْخُفِّ، وَلَا تَتَكَلَّمُ عِنْدَ ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا وَتَجْعَلُ أُصْبُعَهَا فِي فَمِهَا حِينَ كَلَامِهَا لِتُخَشِّنَ كَلَامَهَا مَهْمَا اسْتَطَاعَتْ. وَهَذَا كُلُّهُ إذَا عَدِمَتْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهَا مِنْ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ فَإِنْ وَجَدَتْ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا فِتْنَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ يُفْتَتَنُ بِهَا فَيُكْرَهُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ شَامِلٌ لِكُلِّهِنَّ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْمُتَجَالَّةِ الَّتِي لَا إرَبَ لِلرِّجَالِ فِيهَا. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور: 60] فَإِنْ لَمْ تَجِدْ الْمَرْأَةُ مَنْ يَنُوبُ عَنْهَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فَتُرْسِلُ مَنْ يَنُوبُ عَنْهَا مِنْ النِّسَاءِ الْمُتَجَالَّاتِ اللَّاتِي لَا يُنْظَرُ إلَيْهِنَّ، وَلَا يُعْبَأُ بِهِنَّ، وَلَا فِتْنَةَ فِي صُوَرِهِنَّ، وَلَا فِي كَلَامِهِنَّ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَلْتَسْتَغْنِ عَنْ الْحُلِيِّ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهَا عِنْدَ رَبِّهَا وَأَكْثَرُ ثَوَابًا وَإِذَا وَجَدَتْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهَا مِمَّنْ ذُكِرَ فَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَحْكَامِ الرِّبَا وَالصَّرْفِ وَكَيْفِيَّةِ تَخْلِيصِ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ وَمَا شَاكَلَهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَنْ يَعْلَمُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهَا إرْسَالُهُ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيهَا إنْ تَوَلَّتْ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا، وَكَذَلِكَ فِي زَوْجِهَا وَذَوِي مَحَارِمِهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ النِّسَاءَ لَا عِلْمَ عِنْدَهُنَّ فِي الْغَالِبِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَا يَجِدْنَ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُنَّ فِيهَا غَالِبًا فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا أَنْ تَعْمَلَ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَعْرِفَ أَمْرَ دِينِهَا مِثْلَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَكَذَلِكَ فِي شِرَاءِ حَوَائِجِهَا وَكَمَا تَخْرُجُ لِقَضَاءِ مَا تُضْطَرُّ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهَا فَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْأَلَ أَهْلَ

فصل في ذكر الصيرفي وغيره

الْعِلْمِ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالسُّؤَالِ تَمْضِي فِي قَضَاءِ حَاجَتِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَهَذَا أَمْرٌ سَهْلٌ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: مَعْنَاهُ مَا وَجَبَ عَلَيْك عَمَلُهُ وَجَبَ عَلَيْك الْعِلْمُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَمِلَ الطَّاعَةَ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ فَلَيْسَتْ بِطَاعَةٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الصَّائِغَ يَقْعُدُ فِي دُكَّانِهِ وَيَمْتَلِئُ عَلَيْهِ الدُّكَّانُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْيَانِ بِالنِّسَاءِ مَعَ كَوْنِهِ يَنْظُرُ إلَيْهِنَّ فِي الْغَالِبِ وَيُبَاشِرُهُنَّ بِيَدِهِ حِينَ قِيَاسِ مَا صَاغَهُ لَهُنَّ فَيَتَعَيَّنُ الْحَذَرُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْقُلُوبَ وَيُخِلُّ بِالنِّيَّاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ (فَصْلٌ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْمَلَ فِي صِيَاغَتِهِ شَيْئًا مِنْ الصُّوَرِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَهُوَ مِمَّا يَفْسُدُ عَلَيْهِ مَا جَلَسَ إلَيْهِ مِنْ نِيَّتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا الْمُتَّفَقِ عَلَى مَنْعِهِ شَرْعًا وَهُوَ أَنَّهُمْ يَبِيعُونَ الْخَلْخَالَ وَالسِّوَارَ أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّا عُمِلَ مِنْ فِضَّةِ الْحَجَرِ الْخَالِصِ بِهَذِهِ الْفِضَّةِ الْمَغْشُوشَةِ الْيَوْمَ وَذَلِكَ عَيْنُ الرِّبَا وَقَدْ تَوَعَّدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاعِلَهُ بِالْحَرْبِ (فَصْلٌ) وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَبِيعُونَ فِضَّةَ الْحَجَرِ الْخَالِصَةِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ الْيَوْمَ وَيَأْخُذُونَ مَعَ ذَلِكَ أُجْرَةَ صِيَاغَتِهِمْ لَهَا مُضَافَةً إلَى ثَمَنِهَا وَحُكْمُهَا الْمَنْعُ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ وَلَيْتَهُ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ بَلْ يَفْعَلُونَهُ جِهَارًا فَيُنَادُونَ عَلَيْهِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ يَمُرُّ بِهِمْ وَيَرَى مَا هُمْ فِيهِ وَيَسْمَعُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الصَّيْرَفِيِّ وَغَيْرِهِ] وَأَمَّا الصَّيْرَفِيُّ فَيَنْوِي بِسَبَبِهِ التَّيْسِيرَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ

مَعَهُ ذَهَبٌ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ كَثِيرًا مِنْ ضَرُورَاتِهِ سِيَّمَا الْمُحَقَّرَاتِ إلَّا بَعْدَ صَرْفِهِ فَإِذَا صَرَفَهُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ قَضَاءُ بَاقِي حَوَائِجِهِ وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ فَتَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْإِعَانَةُ الْعَظِيمَةُ بِسَبَبِ إعَانَتِهِ لِأَخِيهِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَا يُعَانِيهِ مِنْ بَابِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ أَعْلَى مِنْ فِعْلِ الْمَنْدُوبِ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ مِنْ نِيَّةِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ حِينَ خُرُوجِهِ مَعَ نِيَّةِ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ. لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا اُشْتُرِطَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الصَّرْفِ وَمِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِيهِ الرِّبَا وَيَتَيَقَّظُ لِذَلِكَ، وَلَا يُسَامِحُ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بَابَ الصَّرْفِ بَابٌ ضَيِّقٌ لَيْسَ كَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُسِّعَ فِي بَعْضِ أَشْيَاءَ فِي غَيْرِهِ لَمْ تُوَسَّعْ فِيهِ فَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي شَيْءٍ مَا مِنْ الرِّبَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّوَعُّدِ بِالْحَرْبِ. وَلِأَجْلِ كَثْرَةِ مَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ مِنْ الرِّبَا كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ التَّسَبُّبَ فِي ذَلِكَ خِيفَةً مِنْ الْوُقُوعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ وَالصَّيْرَفِيُّ إنْ عَرِيَ عَنْ الْعِلْمِ فِي سَبَبِهِ وَقَعَ فِي الرِّبَا وَأَوْقَعَ غَيْرَهُ فِيهِ وَلِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّبَا. كَانَ أَصْبَغُ يَكْرَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِجِدَارِ صَيْرَفِيٍّ. وَقَدْ تَرَكَ ابْنُ الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِيرَاثَهُ مِنْ أَبِيهِ وَكَانَ مَالًا كَثِيرًا جَزِيلًا فَسُئِلَ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّ أَبِي كَانَ صَيْرَفِيًّا وَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الصَّرْفِ لَمْ يَحْكُمْهُ أَوْ كَمَا قَالَ. وَمِنْ كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْفَقِيهِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الدِّرْهَمُ الْحَلَالُ أَشَدُّ مِنْ لُقِيِّ الزَّحْفِ وَأَكْثَرُ أَكَلَةِ الرِّبَا أَهْلُ الصَّرْفِ. وَكَانَ يَقُولُ: إذَا اسْتَسْقَيْت مَاءً فَسُقِيت مِنْ بَيْتِ صَرَّافٍ فَلَا تَشْرَبْهُ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا مَرَّ عَلَى الصَّيَارِفَةِ قَالَ لَهُمْ: أَبْشِرُوا، قَالُوا: بَشَّرَك اللَّهُ بِالْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَبْشِرُوا بِالنَّارِ، فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقِيلَ لَهُمْ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْنَا: إنَّمَا

فصل في ذكر بعض ما يعتور الحاج في حجه مما يتعين التحذير منه

قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرِّبَا غَالِبٌ عَلَى أَهْلِ الصَّرْفِ لَا يَنْجُونَ مِنْهُ فِي تِجَارَتِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مِثْلِ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الْحَسَنُ: إنَّ هَاهُنَا قَوْمًا أَكَلَةُ الرِّبَا لَوْ أَدْرَكَهُمْ مَنْ مَضَى لَنَصَبُوا لَهُمْ الْحَرْبَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التِّجَارَةِ فِي الْقَمْحِ وَالصَّرْفِ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: التِّجَارَةُ فِي الرَّقِيقِ تِجَارَةٌ مَمْحُوقَةٌ. وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ الدَّلَالَةَ. وَكَرِهَ قَتَادَةُ أُجْرَةَ الدَّلَّالِينَ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ أَوْصَى رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: يَا أَخِي لَا تُسَلِّمْ وَلَدَك فِي بَيْعَتَيْنِ، وَلَا فِي صَنْعَتَيْنِ. أَمَّا الْبَيْعَتَانِ فَهُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ وَبَيْعُ الْأَكْفَانِ. وَأَمَّا الصَّنْعَتَانِ فَهُمَا الْجِزَارَةُ وَالصِّيَاغَةُ أَمَّا الْجَزَّارُ فَإِنَّهُ قَاسِي الْقَلْبِ وَأَمَّا الصَّوَّاغُ فَإِنَّهُ يُزَخْرِفُ الدُّنْيَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ مَا يَعْتَوِرُ الْحَاجَّ فِي حَجِّهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ التَّحْذِيرُ مِنْهُ] ُ اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ الْحَجَّ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا لَكِنْ لَمَّا أَنْ حَدَثَتْ فِيهِ أُمُورٌ مُتَشَعِّبَةٌ تَعَذَّرَتْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ بِسَبَبِ مَا يُخَالِطُهَا فِي الْغَالِبِ مِمَّا لَا يَرْضَاهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُضَيِّعُونَ الصَّلَوَاتِ وَيُخْرِجُونَهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا لِأَجْلِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُكَلَّفِ: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ إذَا خَرَجَ إلَى الْحَجِّ فَقَدْ سَقَطَ الْحَجُّ عَنْهُ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الَّذِي يَرْكَبُ الْبَحْرَ إلَى الْحَجِّ، وَلَا يَجِدُ مَوْضِعًا يَسْجُدُ فِيهِ إلَّا عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ أَيَجُوزُ لَهُ الْحَجُّ فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَيَرْكَبُ حَيْثُ لَا يُصَلِّي وَيْلٌ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَيْلٌ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْحَاجِّ يَأْتِي

مُرَاهِقًا لَيْلَةَ النَّحْرِ يُرِيدُ أَنْ يُدْرِكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَذْكُرُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا بَعْدُ فَإِنْ هُوَ اشْتَغَلَ بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ فَاتَهُ وَقْتُ الْوُقُوفِ وَإِنْ وَقَفَ خَرَجَ وَقْتُ الْعِشَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ: يُصَلِّي وَيَفُوتُهُ الْحَجُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي عَكْسُهُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حِجَازِيًّا أَوْ آفَاقِيًّا فَإِنْ كَانَ حِجَازِيًّا قَدَّمَ الصَّلَاةَ وَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَإِنْ كَانَ آفَاقِيًّا قَدَّمَ الْحَجَّ وَإِنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ أَنَّهُ يُصَلِّي كَصَلَاةِ الْمُسَايَفَةِ فَيُصَلِّي وَهُوَ مَاشٍ أَوْ رَاكِبٌ فَيُدْرِكُهُمَا مَعًا وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْخِلَافُ عِنْدَهُمْ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الْعَظِيمَةِ فَكَيْفَ يَتْرُكُ الْمُكَلَّفُ الصَّلَاةَ أَوْ يُخْرِجُهَا عَنْ وَقْتِهَا بِسَبَبِ فَرْضِ الْحَجِّ. هَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ سِيَّمَا إنْ كَانَ مَنْ ذَكَرَ الصَّلَاةَ امْرَأَةً فَيَقْوَى الْخِلَافُ فِي أَمْرِهَا إذْ لَا قُدْرَةَ لَهَا فِي الْغَالِبِ عَلَى تَأْخِيرِ الْحَجِّ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى إنْ كَانَتْ آفَاقِيَّةً، وَلَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَرْكُوبٌ، ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ انْغَمَسَ فِي الْجَهْلِ مِنْهُنَّ يَخْرُجْنَ إلَى الْحَجِّ وَيَتْرُكْنَ الصَّلَوَاتِ وَمَنْ صَلَّتْ مِنْهُنَّ تُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ وُجُودِ الِاضْطِرَارِ وَالِاضْطِرَارُ هُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ فِي مَوْضِعِ خَوْفٍ فَيُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ أَوْ يَكُونَ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ إذَا نَزَلَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ بَلْ يُومِئُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ بَعْدَ أَنْ تُوقَفَ لَهُ وَيَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ فَإِذَا صَلَّيَا عَلَى الرَّاحِلَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَلْيُومِئَا بِالسُّجُودِ إلَى الْأَرْضِ لَا إلَى كُوَرِ الرَّاحِلَةِ فَإِنْ أَوْمَأَ إلَى كُوَرِ الرَّاحِلَةِ فَصَلَاتُهُمَا بَاطِلَةٌ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يُجْزِئُهَا أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِعَدَمِ وُجُودِ الضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حَقِّهَا. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ نُزُولَ الْمَرْأَةِ وَرُكُوبَهَا عَوْرَةٌ مُطْلَقًا لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ كَشْفِهَا وَنَظَرِ غَيْرِ الْمَحَارِمِ لَهَا وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ إذْ لَا غَيْرَةَ فِي هَذَا الزَّوْجِ، وَلَا مَحْرَمَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَغْيَرُ مِنْ زَوْجِهَا وَمِنْ ذِي

مَحَارِمِهَا. - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ» وَقَدْ أَمَرَهُنَّ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُصَلِّينَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُنَّ بِهِ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُنَّ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَلَا فِي إخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا أَوْ صَلَاتِهَا عَلَى الْمَحْمَلِ لِعُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ إلَّا مَا ذُكِرَ قَبْلُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَنْزِلَ إلَى فِعْلِ الطَّهَارَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا فَعَلَتْهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ وَيَجِبُ عَلَيْهَا النُّزُولُ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَتَسْتَتِرُ جَهْدَهَا وَيَحْرُمُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ النَّظَرُ إلَيْهَا. هَذَا حُكْمُ الْفَرَائِضِ. وَأَمَّا السُّنَنُ فَجَائِزٌ فِعْلُهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ إلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إيمَاءً» . وَكَذَلِكَ صَلَاةُ اللَّيْلِ إلَّا الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ إلَّا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَتُهُ فِعْلُ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ أَوْ تَرْكُ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ. فَمِنْ تَقْوَاهُ تَقْدِيمُ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ وَتَقْدِيمُ مَا قَدَّمَهُ مِنْ اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى تَرْكِ الْمَكْرُوهَاتِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ يَتَقَرَّبُونَ وَهُمْ مِنْهُ مُبْتَعِدُونَ فَيُضَيِّعُ أَحَدُهُمْ الْوَاجِبَاتِ حِفْظًا لِلْمَنْدُوبَاتِ وَيَرْتَكِبُ الْمُحَرَّمَاتِ صَوْنًا عَنْ الْمَكْرُوهَاتِ، وَلَا يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا ذَوُو الضَّلَالَاتِ وَأَهْلُ الْجَهَالَاتِ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يُقَدِّمَ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُؤَخِّرَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَآكَدُ الْفَرَائِضِ وَأَعْلَاهَا وَأَعْظَمُهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إقَامَةُ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَمَنْ أَبَى فَهُوَ كَافِرٌ وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَوْضِعُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ مَوْضِعُ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ» وَإِذَا كَانَتْ

فصل شروط وجوب الحج

الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُسَافِرُونَ لِلْحَجِّ وَيُضَيِّعُونَ الصَّلَاةَ فِي الْغَالِبِ وَمَنْ يُضَيِّعُهَا مِنْهُمْ عَلَى أَقْسَامٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهَا أَلْبَتَّةَ حَتَّى يُقِيمَ وَحِينَئِذٍ يُصَلِّي وَمِنْهُمْ مَنْ يُوقِعُهَا فِي وَقْتِهَا بِالتَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُبِحْ التَّيَمُّمَ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ لَهُ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يَتَيَمَّمُ وَالْقِرَبُ مَعَهُ مَلْآنَةُ بِالْمَاءِ وَيَعْتَلُّونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ عَطْشَانُ مَعَهُمْ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْقُونَ غَيْرَهُمْ وَإِنْ سَقَى بَعْضُهُمْ فَقَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ الْمَاءَ الثَّانِي وَالْمَاءُ الْأَوَّلُ أَكْثَرُهُ بَاقٍ مَعَهُمْ وَالتَّيَمُّمُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مَمْنُوعٌ شَرْعًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَلْ يَزِيدُ مَنْ انْغَمَسَ مِنْهُمْ فِي الْجَهْلِ بِأَنْ يَتَيَمَّمَ وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى الْمَاءِ وَيَعْتَلُّونَ لِجَهْلِهِمْ بِأَنَّ نَفْسَ وُجُودِ السَّفَرِ يُبِيحُ لَهُمْ التَّيَمُّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ مِمَّنْ ارْتَكَبَهُ وَالسُّؤَالُ عَنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ مُتَعَيَّنٌ وَمَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمَحْذُورَ فِي عَدَمِ السُّؤَالِ وَفِي إيقَاعِهِ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ. [فَصْلٌ شُرُوطَ وُجُوبِ الْحَجِّ] (فَصْلٌ) وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ أَعْنِي عِبَادَةَ الْحَجِّ افْتَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ ثُمَّ عَذَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي تَرْكِهَا الْأَعْذَارَ تَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ شُرُوطَ وُجُوبِ الْحَجِّ سِتَّةٌ: وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ وَإِمْكَانُ السَّيْرِ فَإِنْ عُدِمَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَجِبْ، وَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ أَمْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِإِيقَاعِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَدِمَ الْمَاءَ تَيَمَّمَ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُيَمِّمُهُ أَوْمَأَ إلَى الْأَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَاءُ بِالسُّجُودِ إلَيْهَا، وَذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ فِي مِثْلِ الْمَرْبُوطِ وَالْمَصْلُوبِ فَإِنْ وَجَدَ

السَّبِيلَ إلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَمَسَّهَا لِمَرَضٍ بِهِ أَوْ رَبْطٍ أَوْ صَلْبٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ أَنْ يُيَمِّمَهُ وَيَنْوِيَ هُوَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا وَنَوَاهَا مَنْ يَمَّمَهُ عَنْهُ فَلَا تُجْزِيهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ السُّورَةَ الَّتِي مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ وَيَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَحْدَهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا مُسْتَنِدًا إلَى جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيَقْرَأَ مَعَ ذَلِكَ أَوْ يَسْتَنِدَ إلَى رَجُلٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ امْرَأَةٍ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ صَلَّى جَالِسًا يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَيَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ السُّجُودِ عَلَيْهَا أَوْمَأَ بِالسُّجُودِ إلَى الْأَرْضِ وَيَكُونُ إيمَاؤُهُ بِالسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْجُلُوسِ صَلَّى مُسْتَنِدًا عَلَى حُكْمِ مَا مَرَّ فِي صَلَاةِ الْقَائِمِ الْمُسْتَنِدِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ صَلَّى مُضْطَجِعًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ إنَّمَا هُوَ مُسْتَقْبِلٌ السَّمَاءَ لَكِنَّهُ لَوْ جَلَسَ لَكَانَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فِي حَقِّ هَذَا إنَّمَا هُوَ بِالْإِيمَاءِ بِعَيْنِهِ إذْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ عَقْلِهِ وَذَلِكَ فِيهَا بِخِلَافِ الْحَجِّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ إنْ عُدِمَ شَرْطٌ مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ لَمْ يَأْثَمْ الْمُكَلَّفُ بِتَرْكِهِ، بَلْ هُوَ مَأْجُورٌ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي فِعْلِ الْعِبَادَةِ، وَفِي تَرْكِهَا. وَلِأَجْلِ تَرْكِ النَّظَرِ إلَى مَا قَرَّرَهُ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَفَهِمُوهُ مِنْ الْمُكَلَّفِ وَبِالدُّخُولِ فِيهَا مِثْلَ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ فَيَظُنَّ لِجَهْلِهِ أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَسْأَلْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَيَدْخُلُ فِيهِ، وَهُوَ بَرِيءُ الذِّمَّةِ مِنْ فَرْضِهِ عَلَيْهِ فَيُكَلِّفُ نَفْسَهُ مَا لَا يَفِي بِهِ وَلَا تَتَخَلَّصُ الذِّمَّةُ بِإِيقَاعِهِ لِتَعَذُّرِ فِعْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ لِكَثْرَةِ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَعْتَوِرُ الْعَمَلَ سِيَّمَا الْحَجُّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إخْفَاؤُهُ لِظُهُورِهِ وَمَعْرِفَةِ النَّاسِ لِفَاعِلِهِ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ لِأَجْلِهِ

وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَوْ نُهِيَ النَّاسُ عَنْ جَاحِمِ الْجَمْرِ لَقَالَ قَائِلٌ لَوْ ذُقْته. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ لَا يَرْجِعُ إلَيْهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا أَهْلُ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَالْمُرُوءَةِ. وَمِنْ كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَكْثُرُ الْحَاجُّ بِالْبَيْتِ يَهُونُ عَلَيْهِمْ السَّفَرُ وَيُبْسَطُ عَلَيْهِمْ الرِّزْقُ وَيَرْجِعُونَ مَحْرُومِينَ مَسْلُوبِينَ يَهْوِي بِأَحَدِهِمْ بَعِيرُهُ بَيْنَ الْقِفَارِ وَالرِّمَالِ وَجَارُهُ مَأْسُورٌ إلَى جَنْبِهِ لَا يُوَاسِيهِ. وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يُوَدِّعُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَقَالَ قَدْ عَزَمْت عَلَى الْحَجِّ أَفَتَأْمُرُنِي بِشَيْءٍ فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ: كَمْ أَعْدَدْت لِلنَّفَقَةِ؟ فَقَالَ: أَلْفَيْ دِرْهَمٍ قَالَ بِشْرٌ فَأَيُّ شَيْءٍ تَبْتَغِي بِحَجِّك نُزْهَةً أَوْ اشْتِيَاقًا إلَى الْبَيْتِ أَوْ ابْتِغَاءَ مَرِضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ ابْتِغَاءَ مَرِضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ فَإِنْ أَصَبْت رِضَا اللَّهِ وَأَنْتَ فِي مَنْزِلِك وَتُنْفِقُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَتَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ مَرِضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى تَفْعَلُ ذَلِكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَأَعْطِهَا عَشْرَةَ أَنْفُسٍ. مَدِينٌ تَقْضِي دَيْنَهُ وَفَقِيرٌ تَرُمُّ شَعَثَهُ وَمُعِيلٌ تُحْيِي عِيَالَهُ وَمُرَبًّى يَتِيمٌ تُفَرِّحُهُ وَتُغِيثُ لَهْفَانَ وَتَكْشِفُ ضُرَّ مُحْتَاجٍ وَتُعِينُ رَجُلًا ضَعِيفَ الْيَقِينِ، وَإِنْ قَوِيَ قَلْبُك أَنْ تُعْطِيَهَا لِوَاحِدٍ فَافْعَلْ، فَإِنَّ إدْخَالَك السُّرُورَ عَلَى قَلْبِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةٍ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ قُمْ فَأَخْرِجْهَا كَمَا أَمَرْنَاك، وَإِلَّا قُلْ لَنَا مَا فِي قَلْبِك فَقَالَ يَا أَبَا نَصْرٍ سَفَرِي أَقْوَى فِي قَلْبِي فَتَبَسَّمَ بِشْرٌ وَقَالَ لَهُ الْمَالُ إذَا جُمِعَ مِنْ وَسَخِ التِّجَارَاتِ وَالشُّبُهَاتِ اقْتَضَتْ النَّفْسُ أَنْ تَقْضِيَ بِهِ وَطَرًا تُسْرِعُ إلَيْهِ تَظَاهُرًا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَقَدْ آلَى اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَقْبَلَ إلَّا عَمَلَ الْمُتَّقِينَ. وَقَدْ كَانَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا إذَا نَظَرُوا إلَى الْمُتْرَفِينَ قَدْ خَرَجُوا إلَى مَكَّةَ يَقُولُونَ لَا تَقُولُوا خَرَجَ فُلَانٌ حَاجًّا وَلَكِنْ قُولُوا خَرَجَ مُسَافِرًا. سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي أَنَّ شَابًّا مِنْ الْمَغَارِبَةِ جَاءَ إلَى الْحَجِّ فَلَمَّا أَنْ وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْبِلَادِ فَرَغَ مَا بِيَدِهِ وَكَانَ يُحْسِنُ الْخِيَاطَةَ فَجَاءَ إلَى خَيَّاطٍ وَجَلَسَ يَخِيطُ عِنْدَهُ بِالْأُجْرَةِ وَكَانَ عَلَى دِينٍ وَخَيْرٍ وَكَانَ جُنْدِيٌّ يَأْتِي

إلَى الدُّكَّانِ فَيَقْعُدُ عِنْدَهُ فَيَتَكَلَّمُونَ وَالشَّابُّ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ، بَلْ مُقْبِلٌ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ فَحَصَلَ لِلْجُنْدِيِّ فِيهِ حُسْنُ ظَنٍّ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ أَوَانُ خُرُوجِ. الرَّكْبِ إلَى الْحَجِّ سَأَلَهُ الْجُنْدِيُّ لِمَ لَا تَحُجُّ فَقَالَ لَيْسَ لِي شَيْءٌ أَحُجُّ بِهِ فَجَاءَ الْجُنْدِيُّ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَالَ لَهُ خُذْ هَذِهِ فَحُجَّ بِهَا فَرَفَعَ الشَّابُّ رَأْسَهُ إلَيْهِ وَقَالَ لَهُ كُنْت أَظُنُّك مِنْ الْعُقَلَاءِ فَقَالَ: وَمَا رَأَيْت مِنْ عَدَمِ عَقْلِي؟ ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا أَقُولُ لَك كُنْت فِي بَلَدِي بَيْنَ أَهْلِي وَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ الْحَجَّ فَلَمَّا أَنْ وَصَلْت إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِّي لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِي جِئْت أَنْتَ بِدَرَاهِمِك تُرِيدُ أَنْ تُوجِبَ عَلَيَّ شَيْئًا أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِّي، وَذَلِكَ لَا أَفْعَلُهُ أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ أَيْضًا جَاءَ إلَى هَذِهِ الْبِلَادِ فَفَرَغَ مَا بِيَدِهِ فَبَقِيَ يَعْمَلُ بِالْقِرْبَةِ عَلَى ظَهْرِهِ وَكَانَ يَحْصُلُ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ فَيَأْكُلُ مِنْهَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي وَكَانَ لَهُ مَالٌ بِبَلَدِهِ فَجَاءَ بَعْضُ مَعَارِفِهِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَمْضِيَ مَعَهُمْ إلَى الْحِجَازِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيَّ الْحَجَّ الْآنَ لِعَدَمِ قُدْرَتِي عَلَى الزَّادِ وَمَا أَحْتَاجُهُ فِي الْحَجِّ فَقَالُوا: خُذْ مِنَّا مَا تَخْتَارُ فَقَالَ: لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ ذَلِكَ وَلَمْ أُنْدَبْ إلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ نَحْنُ نُقْرِضُك إلَى أَنْ تَرْجِعَ إلَى بَلَدِك فَقَالَ وَمَنْ يَضْمَنُ لِي الْحَيَاةَ حَتَّى تَأْخُذُوا قَرْضَكُمْ فَقَالُوا لَهُ نَجْعَلُك فِي حِلٍّ مِنْهُ فَقَالَ لَهُمْ لَا يَجِبُ عَلَيَّ ذَلِكَ وَلَا أُنْدَبُ إلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ فَوَفِّرْ مِمَّا تُحَصِّلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا تَحُجُّ بِهِ وَتَرْجِعُ إلَى بَلَدِك وَمَالِك فَقَالَ لَهُمْ تَفُوتُنِي حَسَنَاتٌ مُعَجَّلَةٌ لِشَيْءٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ الْآنَ وَلَا أَدْرِي هَلْ أَعِيشُ لِذَلِكَ الزَّمَانِ أَمْ لَا أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَدْ مَنَعَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْضَ مَنْ يَنْتَمِي إلَيْهِ مِنْ حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ قَرْضًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ بَلَدِهِ مَعَ رَغْبَةِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي ذَلِكَ وَتَلَهُّفِهِ عَلَيْهِ وَصَبْرِهِ إلَى أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مَالِ الْمُقْتَرِضِ فِي بَلَدِهِمْ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ إلَيْهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا رَاغِبٌ فِي أَنْ لَا يَأْخُذَ عَرْضَهُ لَوْ رَضِيَ الْمُقْتَرِضُ. وَعَلَّلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ

بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عِمَارَةُ الذِّمَّةِ بِشَيْءٍ لَا يَدْرِي هَلْ يَفِي بِهِ أَمْ لَا؟ إنْ كَانَ قَرْضًا. وَالثَّانِي: الْمِنَّةُ فِيهِ فَإِنْ أَخَذَهُ عَلَى جِهَةِ الْهِبَةِ فَفِيهِ الْمِنَّةُ أَكْثَرُ. فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ سَيِّدِي الشَّيْخِ: لَهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ لَا يَمُنُّ، بَلْ يُمَنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ لَمْ يَمُنَّ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ فِي بَلَدِهِ فَقَالَ لَهُ قَدْ لَا يَرْجِعُ هُوَ لِلْبَلَدِ يَعْنِي الْمُقْتَرِضَ فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَقَعُ الْمِنَّةُ عَلَى أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَدْ يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ فَيَقُولُونَ فُلَانٌ أَحْجَجَ فُلَانًا، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمِنَّةِ مَا فِيهِ بِشَيْءٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُنْدَبْ إلَيْهِ أَوْ كَمَا قَالَ. هَذَا فِعْلُهُمْ فِي الْحَجَّةِ الْأُولَى فَمَا بَالُك بِهِمْ فِي التَّطَوُّعِ هَذَا حَالُ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي خَلَاصِ ذِمَمِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ وَالْجَاهِلُ الْمِسْكِينُ يَتَدَايَنُ وَيَحْتَالُ وَيَطْلُبُ مِنْ النَّاسِ بِسَبَبِ الْحَجِّ حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَيَطْلُبُ مِنْ الظَّلَمَةِ الْمُتَسَلِّطِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ هِجْرَانُهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ طُغْيَانِهِمْ لِكَوْنِهِمْ يَرَوْنَ بَعْضَ مَنْ يَعْتَقِدُونَهُ وَيَظُنُّونَ بِهِ خَيْرًا عَلَى أَبْوَابِهِمْ وَيُعَامِلُهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ وَيَطْلُبُ مِنْ فَضَلَاتِ أَوْسَاخِهِمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ الْقَذِرَةِ الْمُحَرَّمَةِ. وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ الْجَهْلُ فَتُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ أَوْ يَغُرُّهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ عَلَى طَاعَةٍ وَخَيْرٍ، وَهُوَ بِالْعَكْسِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ. وَبَعْضُ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِسَبَبِ الْحَجِّ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَعِدَهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ الشَّرِيفَةِ. وَبَعْضُهُمْ يَتْرُكُ أَهْلَهُ ضِيَاعًا وَيَمْضِي إلَى الْحَجِّ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» وَبَعْضُ مَنْ انْغَمَسَ مِنْهُمْ فِي الْجَهْلِ يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَبَعْضُهُمْ قَدْ اتَّخَذَ ذَلِكَ دُكَّانًا يَجْبِي بِهِ أَمْوَالَ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ مَنْ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ. وَبَعْضُهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إلَيْهِمْ فَيَتَشَفَّعُ عِنْدَهُمْ بِمَنْ يَرْجُو أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ أَوْ يَرْجِعُوا إلَى قَوْلِهِ وَيُثْنِي الشَّافِعُ عَلَى مَنْ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُمْ إذْ ذَاكَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لِيَتَعَطَّفُوا بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ فَيَأْكُلُوا الدُّنْيَا وَالدِّينَ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. وَبَعْضُهُمْ لَا يَصِلُ إلَيْهِ

بِنَفْسِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ فَيَخْرُجُ بِغَيْرِ زَادٍ وَلَا مَرْكُوبٍ فَتَطْرَأُ عَلَيْهِ أُمُورٌ عَدِيدَةٌ كَانَ عَنْهَا فِي غِنًى. مِنْهَا عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ. وَمِنْهَا عَدَمُ الْقُوتِ وَالْوُقُوعُ فِي الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ وَتَكَلُّفِ النَّاسِ الْقِيَامَ بِقَوْلِهِ وَسَقْيِهِ وَرُبَّمَا آلَ أَمْرُهُ إلَى الْمَوْتِ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَتَجِدُهُمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ طَرْحَى مَيِّتِينَ بَعْدَ أَنْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ وَأَوْقَعُوا إخْوَانَهُمْ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ عَلِمَ بِحَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الرَّكْبِ فِي إثْمِهِمْ وَكَذَلِكَ يَأْثَمُ كُلُّ مَنْ أَعَانَهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَكْفِيهِمْ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ أَوْ سَعَى لَهُمْ فِيهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ غَيْرَهُ يُعِينُهُمْ بِشَيْءٍ تَتِمُّ بِهِ كِفَايَتُهُمْ فِي الذَّهَابِ وَالْعَوْدِ فَلَا بَأْسَ إذَنْ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ الْإِعْطَاءُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِدُخُولِهِمْ فِيمَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ وَالتَّعَبِ وَالْإِفْضَاءِ إلَى الْمَوْتِ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِيمَا وَقَعَ بِهِمْ وَفِيمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ السُّخْطِ وَالضَّجَرِ وَالسَّبِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا فِي الطَّرِيقِ عَلَى هَذَا الْحَالِ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِمْ إعَانَتُهُمْ بِمَا تَيَسَّرَ فِي الْوَقْتِ، وَلَوْ بِالشَّرْبَةِ وَالشَّرْبَتَيْنِ وَاللُّقْمَةِ وَاللُّقْمَتَيْنِ وَيُعَرِّفُهُمْ أَنَّ مَا ارْتَكَبُوهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَعُودُوا لِمِثْلِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ سَبَبُهُ الْجَهْلُ بِحَقِيقَةِ الْعِبَادَةِ وَمَا يَجِبُ فِيهَا، وَمَا يُمْنَعُ وَمَا يُنْدَبُ وَمَا يُكْرَهُ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا بِالنَّصِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَحُجُّ أَغْنِيَاؤُهُمْ لِلنُّزْهَةِ وَأَوْسَطُهُمْ لِلتِّجَارَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ لِلرِّيَاءِ وَفُقَرَاؤُهُمْ لِلْمَسْأَلَةِ» قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الْقُرَّاءُ هُمْ الْمُتَعَبِّدُونَ. وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا شَاكَلَهَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ طَاعَةُ الْجَاهِلِ شَهْوَةٌ وَطَاعَةُ الْعَارِفِ امْتِثَالٌ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَيُبَادِرَ إلَى فِعْلِهِ بِشَرْطِ سَلَامَتِهِ مِنْ الشَّوَائِبِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَقَعَ فِيمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَتَدَايَنُونَ حَتَّى يُوجِبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَرْضَ الْحَجِّ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يُوفُونَ مَا تَعَمَّرَتْ بِهِ

ذِمَّتُهُمْ. ثُمَّ إنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ فِي عِبَادَتِهِمْ فَيَقَعُ الْخَلَلُ فِي حَجِّهِمْ وَلَرُبَّمَا يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ حُكْمًا لِمَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُفْسِدَاتِ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا} [الكهف: 103] {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. فَلَيْسَ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْتَالَ فِي تَحْصِيلِ شَيْءٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ غَالِبًا فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَذِمَّتُهُ الْآنَ بَرِيئَةٌ فَلَا يَشْغَلُهَا بِشَيْءٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ بَرَاءَتُهَا مِنْهُ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ فِي نَفْسِهِ يُحِبُّ الْحَجَّ وَيَنْوِيهِ وَيَخْتَارُهُ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُسْلِمِ أَنْ يَخْتَارَ طَاعَةَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُحِبَّهَا لَكِنْ يُقَيِّدُ مَحَبَّتَهُ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ فِيهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ الشَّرْعُ بِأَنْ يُوَفِّرَ وَيَحْتَالَ وَيَتَسَبَّبَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ، فَإِنْ تَرَكَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَهُوَ عَاصٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَ ذَلِكَ بِسَبَبِ رِضَا وَالِدَيْهِ لِئَلَّا يَعُقَّهُمَا فَيَتَرَبَّصَ عَلَيْهِمَا الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ أَوْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ وَغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى السَّنَةِ الْآتِيَةِ.، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يُنْفِقُهُ فِيهِ وَيَحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ هُوَ بِهَا مُتَطَوِّعٌ وَالْحَجُّ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَالتَّطَوُّعُ لَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْفِيرُ وَالِاحْتِيَالُ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يَحُجُّ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ وَمَا يَلْزَمُهُ فِيهِ مِنْ الْأَفْعَالِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يَحْرُمُ أَوْ يُنْدَبُ أَوْ يُكْرَهُ أَوْ يُبَاحُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَعَبَّدْ أَحَدًا بِالْجَهْلِ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْك عَمَلُهُ وَجَبَ عَلَيْك الْعِلْمُ بِهِ. فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُكَلَّفُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فِي أَمْرِ الزَّادِ وَمَا يُنْفِقُهُ فِي حَجِّهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَطْيَبِ جِهَةٍ تُمْكِنُهُ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ يُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُكَسِّلُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَطَاعَ

اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى» وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَتْرُكُونَ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعُوا فِي بَابٍ مِنْ الْحَرَامِ هَذَا وَهُمْ لَمْ يَتَلَبَّسُوا بِفِعْلِ الْحَجِّ الَّذِي يُرِيدُ هَذَا أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الَّذِي يَحُجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ يَقُولُ لَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ حَتَّى تَرُدَّ مَا فِي يَدَيْك. فَمَنْ يُجَابُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ كَيْفَ يُقْبَلُ مِنْهُ حَجُّهُ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الشُّبُهَاتِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيَقْتَرِضْ مَالًا حَلَالًا لِيَحُجَّ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدُوسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] » قَالَ سَحْنُونَ الطَّيِّبُ هُوَ الْحَلَالُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدُوسٍ: وَاعْلَمْ أَنَّ عِمَادَ الدِّينِ وَقِوَامَهُ هُوَ طَيِّبُ الْمَطْعَمِ فَمَنْ طَابَ مَكْسَبُهُ زَكَا عَمَلُهُ وَمَنْ لَمْ يُصَحِّحْ طَيِّبَ مَكْسَبِهِ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ لَا تُقْبَلَ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَحَجُّهُ وَجِهَادُهُ وَجَمِيعُ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] وَنَظَرَ عُمَرُ إلَى الْمُصَلِّينَ فَقَالَ: لَا يَغُرُّنِي كَثْرَةُ رَفْعِ أَحَدِكُمْ رَأْسِهِ وَخَفْضِهِ الدِّينُ الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ وَالْكَفُّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَالْعَمَلُ بِحَلَالِ اللَّهِ وَحَرَامِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَمْسَى وَانِيًا فِي طَلَبِ الْحَلَالِ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ» وَقَالَ الْحَسَنُ الذِّكْرُ ذِكْرَانِ ذِكْرٌ بِاللِّسَانِ وَذِكْرٌ بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ حَسَنٌ وَأَفْضَلُ مِنْهُ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَدَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنْ الْحَلَالِ وَلَا أُحَرِّمُهَا وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ كَرَمِ الرَّجُلِ طِيبُ زَادِهِ فِي سَفَرِهِ وَكَانَ يَقُولُ أَفْضَلُ الْحُجَّاجِ أَخْلَصُهُمْ نِيَّةً وَأَزْكَاهُمْ نَفَقَةً وَأَحْسَنُهُمْ يَقِينًا وَيُرْوَى لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ

إذَا حَجَجْت بِمَالٍ أَصْلُهُ سُحْتٌ ... فَمَا حَجَجْت وَلَكِنْ حَجَّتْ الْعِيرُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آدَابِ الْمُسَافِرِ لِلتِّجَارَةِ مَا تَقَدَّمَ فَفِي حَقِّ هَذَا آكَدُ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ لِمَحْضِ الْعِبَادَةِ فَيَكُونُ النَّظَرُ فِي تَخْلِيصِ مَا يُنْفِقُهُ فِي حَجِّهِ أَوْجَبَ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الدِّرْهَمُ الَّذِي يُنْفِقُهُ فِي الْحَجِّ بِسَبْعِمِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ. وَرَوَى يَزِيدُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا» ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِمَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ أَوَّلًا فِي الِاسْتِخَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُسَافِرِ لَكِنَّ الِاسْتِخَارَةَ هُنَا لَيْسَتْ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخَارَةَ فِي فِعْلِ الْوَاجِبِ لَا مَحَلَّ لَهَا وَكَذَلِكَ الِاسْتِخَارَةُ فِي تَرْكِ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الِاسْتِخَارَةُ هُنَا هَلْ يَفْعَلُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ السَّنَةِ الْآتِيَةِ وَهَلْ يُرَافِقُ فُلَانًا أَمْ لَا وَهَلْ يَكْتَرِي مَعَ فُلَانٍ أَمْ لَا وَهَلْ يَشْتَرِي الْمَرْكُوبَ أَوْ يَكْتَرِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَالشَّظَفُ فِي الْحَجِّ أَوْلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ؛ لِأَنَّهَا السُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَيَرْكَبَ فِي الْمَحْمَلِ، وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً لَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَأَرْبَابُ الضَّرُورَاتِ لَهُمْ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ بِدْعَةً؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ فَرَكِبَ النَّاسُ سُنَّتَهُ وَكَانَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِهِ يُنْكِرُونَهَا وَيَكْرَهُونَ الرُّكُوبَ فِيهَا. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ وَأَخَافُ أَنَّ بَعْضَ مَا يَكُونُ مِنْ تَمَاوُتِ الْإِبِلِ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَهُ لِثِقَلِ الْمَحْمَلِ وَثِقَلُهُ عَدْلُ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ وَزِيَادَةٍ مَعَ طُولِ الْمَشَقَّةِ وَقِلَّةِ الْمَطْعَمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا نَظَرَ إلَى مَا أَحْدَثَ الْحَجَّاجِ مِنْ الزِّينَةِ وَالْمَحَامِلِ يَقُولُ إنَّ الْحَجَّ قَلِيلٌ وَالرَّكْبَ كَثِيرٌ. فَإِذَا اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَاسْتَشَارَ فَانْشَرَحَ صَدْرُهُ عَقِيبَ اسْتِخَارَتِهِ لِفِعْلِ الْحَجِّ بَادَرَ إلَى الشُّرُوعِ فِي أَسْبَابِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسَارَعَةَ إلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ أَوْجَبُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَتَغَيَّرُ الْأَحْوَالُ فَلَا يَجِدُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ بَعْدُ. وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

«مَنْ مَلَكَ رَاحِلَةً وَزَادًا يُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبَوَانِ يَمْنَعَانِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا شَفَقَةً عَلَيْهِ فَلْيَتَرَبَّصْ عَلَيْهِمَا الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا مَا لَمْ يَبْلُغْ عُمُرُهُ السِّتِّينَ فَإِنْ بَلَغَهَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ وَلَا يُؤَخِّرُهُ لِأَجْلِ الْوَالِدَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا وَلَا يَسْتَخِيرُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَخِيرُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ هَلْ يَفْعَلُهَا أَوْ لَا، بَلْ يَسْتَخِيرُ فِي فِعْلِ أَحَدِهِمَا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ فِعْلِهِمَا مَعًا. وَلَا يَسْتَخِيرُ الْإِنْسَانُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ» الْحَدِيثَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْ الِاسْتِخَارَةِ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُخَالِفٌ لِمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ حَيْثُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ» ، وَهَذَا لَمْ يَهُمَّ بَعْدُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَوْ هَمَّ بِالْبَعْضِ فَلَا اسْتِخَارَةَ فِي مِثْلِ هَذَا وَمَا وَضَعَهُ الشَّرْعُ لِشَيْءٍ فَالتَّعَدِّي بِهِ لِغَيْرِهِ بِدْعَةٌ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى جَنَائِزِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ صَلَاةَ الْغَائِبِ بَعْدَ الْغُرُوبِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِفِعْلِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ فَعَلَ هَذَا فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ إنْ كُنَّا صَالِحِينَ. فَإِذَا شَرَعَ فِي شِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَجُّهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُمَاكِسَ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ. لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الدِّرْهَمَ الَّذِي يُنْفَقُ فِي الْحَجِّ مُضَاعَفٌ بِسَبْعِمِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَإِذَا مَاكَسَ فَوَّتَ نَفْسَهُ ثَوَابًا كَثِيرًا لِأَجْلِ مَا يُنْقِصُ مِنْ النَّفَقَةِ وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ السَّلَفِ تَرْكَ الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُحَاكَّةِ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ سَفَرِ الْحَجِّ وَقَالَ لَا يُمَاكِسُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْجِدَّةِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّنْ يَخْشَى أَنْ لَا يَقُومَ بِهِ مَا بِيَدِهِ إذَا لَمْ يُمَاكِسْ فَلَا بَأْسَ بِالْمُمَاكَسَةِ

إذَنْ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُمَاكِسُ عِنْدَ شِرَائِهِ الْحَاجَةَ فَلَمَّا أَنْ اشْتَرَى مَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْحَجِّ كَانَ لَا يُمَاكِسُ أَحَدًا مِمَّنْ يَشْتَرِي مِنْهُ فَرُبَّمَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ ابْتَدَأَ هُوَ بِهِ فَقَالَ: إنَّ دِرْهَمَ الْحَجِّ بِسَبْعِمِائَةٍ فَلَوْ مَاكَسْت لَنَقَصَ لِي مِنْ الثَّوَابِ أَوْ كَمَا قَالَ بِخِلَافِ غَيْرِ الْحَجِّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْمُمَاكَسَةِ لِلْبَاعَةِ لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَاكِسُوا الْبَاعَةَ فَإِنَّ فِيهِمْ الْأَرْذَلِينَ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. ثُمَّ يَكُونُ فِي مُبَاشَرَتِهِ لِكُلِّ مَا يَشْتَرِيهِ لِحَجِّهِ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ» وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُمَا رُكْنَانِ عَظِيمَانِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ الْخَمْسَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ. وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الْخُشُوعَ فِي الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ وَاجِبٌ فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَإِلَى زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى مَسْجِدِهِ فَالسَّكِينَةُ آكَدُ فِي حَقِّهِ مِمَّنْ يَخْرُجُ إلَى مَسْجِدٍ سِوَاهُمَا لَكِنَّ طَلَبَ السَّكِينَةِ فِي بَعْضِهَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَالْخُشُوعُ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ عِنْدَ الْخُرُوجِ آكَدُ مِنْهُ فِي شِرَاءِ حَوَائِجِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا وَصَلُوا إلَى مَضِيقٍ فِي الطَّرِيقِ تَزَاحَمُوا وَتَضَارَبُوا وَتَشَاتَمُوا وَظَهَرَتْ مِنْهُمْ عَوْرَاتٌ كَثِيرَةٌ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَعِنْدَ وُرُودِ الْمِيَاهِ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ فَلْيَحْذَرْ إذْ ذَاكَ عِنْدَ الْمِيَاهِ مِنْ الْمُشَاتَمَةِ وَالْمُضَارَبَةِ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ رَآهُمْ أَوْ سَمِعَ عَنْهُمْ. وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ النَّاسِ مَحْمُولِينَ قَدْ قُطِعَتْ بَعْضُ أَطْرَافِهِمْ لِأَجْلِ الْمُزَاحَمَةِ عِنْدَ الْمِيَاهِ وَقَدْ تُزْهَقُ نُفُوسُ بَعْضِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا يُلَاقِي، وَهَذَا مُحَرَّمٌ قَبِيحٌ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ فَكَيْفَ بِهِ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَمَا أَشْبَهَهَا ضِدُّ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ مَسَاوِئِ النَّاسِ وَالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ وَبَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْمِيَاهِ لَا يُبَالُونَ بِكَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ «النَّاظِرُ وَالْمَنْظُورُ مَلْعُونَانِ» أَوْ كَمَا قَالَ

- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلْيَتَحَفَّظْ جَهْدَهُ مِنْ كُلِّ الْقَبَائِحِ الَّتِي تَفْجَؤُهُ فَيَتَلَقَّاهَا بِالِامْتِثَالِ لِأَمْرِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَلَا يَسْأَلُ الْعُلَمَاءَ عَمَّا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَقَعَ لَهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُزَيِّنُونَ الْجَمَلَ بِالْحُلِيِّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَسَاوِرِ وَالْقَلَائِدِ وَيُلْبِسُونَهُ الْحَرِيرَ يَفْعَلُونَ بِهِ ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ الْبَلَدِ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الْعَقَبَةِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ وُصُولِهِمْ إلَى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الرُّجُوعِ مِثْلَهُ وَهُمْ آثِمُونَ فِي ذَلِكَ وَيُشَارِكُهُمْ فِي الْإِثْمِ مَنْ تَطَاوَلَ لِرُؤْيَةِ ذَلِكَ وَهُمْ كَثِيرٌ وَمَنْ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ اسْتَحْسَنَهُ فَإِثْمُهُ أَكْثَرُ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ بَعْضَ النِّسْوَةِ إذَا كَانَ لَهُنَّ قَرِيبٌ أَوْ مَعَارِفُ يَخْرُجُونَ إلَى الْحَجِّ يَخْرُجْنَ لَيْلًا يَمْشِينَ فِي الطُّرُقِ وَفِي بَعْضِ الْأَسْوَاقِ وَيَرْفَعْنَ عَقِيرَتَهُنَّ بِمَا يَقُلْنَهُ مِنْ التَّحْنِينِ وَالرِّجَالُ يَسْمَعُونَ وَيَنْظُرُونَ إلَى فِعْلِهِنَّ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِنَّ، وَهَذَا قَبِيحٌ مِنْ الْفِعْلِ مُحَرَّمٌ سِيَّمَا فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَجِبُ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ، وَهِيَ الْحَجُّ. وَمِثْلُ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِنْ الْحَجِّ إذَا وَصَلُوا إلَى بُيُوتِهِمْ وَيُضْرَبُ إذْ ذَاكَ عِنْدَ أَبْوَابِهِمْ بِالطَّبْلِ وَالْأَبْوَاقِ وَالْمَزَامِيرِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِتَهْنِئَةِ الْحَاجِّ وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَانَ آثِمًا وَكَذَلِكَ مَنْ شَارَكَهُمْ بِالْإِعْطَاءِ لَهُمْ أَوْ بِالْوُقُوفِ وَالنَّظَرِ أَوْ صَغَى إلَيْهِمْ أَوْ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ هَذَا مُنْكَرٌ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ تَغْيِيرُهُ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَمَنْ صَغَى أَوْ نَظَرَ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَلْبِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْقَلْبِ هُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ فَمَاذَا يَبْقَى بَعْدَ الضَّعِيفِ إنْ ذَهَبَ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. فَإِذَا وَصَلَ إلَى مَوْضِعِ الْإِحْرَامِ فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُحْرِمُونَ مِنْ رَابِغٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ قَبْلَ الْجُحْفَةِ فَيَبْدَءُونَ الْحَجَّ بِفِعْلٍ مَكْرُوهٍ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ قَبْلَ الْمِيقَاتِ وَالْحَجُّ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْعُمُرِ وَيَعْتَلُّونَ بِأَنَّ الْجُحْفَةَ الَّتِي جُعِلَتْ لَهُمْ مِيقَاتًا لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ

يَغْتَسِلُونَ بِهِ لِلْإِحْرَامِ وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ فِي رَابِغٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ فِي الْحَجِّ إنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَيَتْرُكُونَ السُّنَّةَ لِأَجْلِ مُسْتَحَبٍّ. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْغُسْلَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ، بَلْ لَوْ اغْتَسَلَ فِي رَابِغٍ عِنْدَ إرَادَتِهِمْ الرَّحِيلَ ثُمَّ سَارَ إلَى الْجُحْفَةِ وَأَحْرَمَ مِنْهَا لَكَانَ قَدْ حَصَّلَ السُّنَّةَ وَالْمُسْتَحَبَّ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّنْ اغْتَسَلَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَحْرَمَ مِنْهَا فَقَالَ: إنَّ غُسْلَهُ صَحِيحٌ أَوْ كَمَا قَالَ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ وَذِي الْحُلَيْفَةِ مَسَافَةٌ أَكْثَرُ مِنْ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ رَابِغٍ وَالْجُحْفَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الْجُحْفَةَ لَا يَدْخُلُهَا الرَّكْبُ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا فَهُوَ يَمُرُّ بِهَا، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِحْرَامِ أَنْ لَا يُحْرِمَ حَتَّى يَدْخُلَهَا، بَلْ إذَا حَاذَاهَا أَحْرَمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَغْتَسِلُ فِي رَابِغٍ عِنْدَ إرَادَةِ النَّاسِ الرَّحِيلَ ثُمَّ يَسِيرُ مَعَهُمْ إلَى أَنْ يُحَاذِيَ الْجُحْفَةَ فَإِذَا حَاذَاهَا نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْإِحْرَامِ ثُمَّ تَعَرَّى مِنْ الْمَخِيطِ وَلَبِسَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَلْبَسَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ مِنْ رَابِغٍ ثُمَّ يَتْرُكَ الْإِحْرَامَ حَتَّى يُحَاذِيَ الْجُحْفَةَ فَلَهُ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَوَّلِ الْجُحْفَةِ بِمَا يُرِيدُهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ هُمَا مَعًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَحْرَمَ مِنْ وَسَطِهَا أَوْ مِنْ آخِرِهَا، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَقَدْ تَرَكَ الْأَوْلَى، وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَهَا فَمَكْرُوهٌ وَعَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةً إذْ أَنَّ الدَّمَ جَبْرٌ لِمَا فَاتَهُ مِنْ فَضِيلَةِ فِعْلِ السُّنَّةِ كَمَا أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ جَبْرٌ لِلْخَلَلِ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ لُبْسِ ثِيَابِ الْأَحْيَاءِ إلَى لُبْسِ ثِيَابِ الْأَمْوَاتِ؛ لِأَنَّ تَجَرُّدَهُ مِنْ الْمَخِيطِ وَلُبْسَهُ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ شَبِيهٌ بِالْمَيِّتِ حِينَ يُدْرَجُ فِي أَكْفَانِهِ وَقَوْلُ الْحَاجِّ لَبَّيْكَ شَبِيهٌ بِقِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ مُهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِي الَّذِي يَدْعُوهُمْ إلَى الْمَحْشَرِ وَالْغُسْلُ

فصل معرفة ما يلزمه في حجه قبل خروجه وبعده

لِلْإِحْرَامِ شَبِيهٌ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ وَوُقُوفُهُمْ بِعَرَفَةَ شَبِيهٌ بِوُقُوفِهِمْ فِي الْمَحْشَرِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَغَيْرُهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ شَبِيهٌ بِالْمَوَاقِفِ الَّتِي لَهُمْ فِي الْمَحْشَرِ وَالسُّؤَالُ عِنْدَ كُلِّ مَوْقِفٍ وَكَوْنُ بَرَكَةِ بَعْضِهِمْ تَعُمُّ عَلَى بَعْضٍ شَبِيهٌ بِالْمَحْشَرِ أَيْضًا فَإِنَّ بَرَكَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - تَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَمِهِمْ، وَالصَّالِحُ مِنْ الْأُمَمِ تَعُودُ بَرَكَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ بِحَسْبِ حَالِهِ وَحَالِهِمْ. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَيْضًا فِي أَمْرِهِ بِالِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي جَمَاعَةٍ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا وَرَدَ «مَنْ صَلَّى خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ» فَأُمِرَ بِالصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ. وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ مَنْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ فَأُمِرَ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ لِيَحْصُلَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِبَادَةِ مَعَ مَنْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ فَيُغْفَرُ لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِهِ. وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ مَنْ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَأُمِرَ بِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لِيَأْتِيَهَا أَهْلُ الْبَلَدِ وَمَنْ هُوَ حَوَالَيْهَا فَيَشْتَرِكَ الْجَمِيعُ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَيُغْفَرُ لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِ مَنْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ مِنْهُمْ، وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الْبَلَدِ وَلَا حَوَالَيْهَا مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَأُمِرَ بِالِاجْتِمَاعِ فِي الْحَجِّ وَفِيهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَهُوَ مُعْظَمُهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ فَيُغْفَرُ لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِ الْمُتَّصِفِ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ وَالرِّضَا عَنْهُ، وَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ عَامٌّ لِلْأُمَّةِ فَيَتَعَيَّنُ التَّحَفُّظُ عَلَى حُضُورِ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ وَتِلْكَ الشَّعَائِرِ كُلِّهَا لِيَفُوزَ مَنْ حَضَرَهَا مَعَ الْفَائِزِينَ. مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بِمَنِّهِ [فَصْلٌ مَعْرِفَةُ مَا يَلْزَمُهُ فِي حَجِّهِ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَبَعْدَهُ] {فَصْلٌ} وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ مَا يَلْزَمُهُ فِي حَجِّهِ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فَأَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَجِّهِ مَعْرِفَةُ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ وَمَا يَجْتَنِبُهُ فِي إحْرَامِهِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا يَجْبُرُهُ. فَفَرَائِضُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ، وَهِيَ النِّيَّةُ وَالْإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ. زَادَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ

فصل سنن الحج الموجبات للدم

وَالْوُقُوفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ [فَصْلٌ سُنَن الْحَجّ الْمُوجِبَاتُ لِلدَّمِ] {فَصْلٌ} وَسُنَنُهُ الْمُوجِبَاتُ لِلدَّمِ عَلَى مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ إفْرَادُ الْحَجِّ وَالْإِحْرَامُ مِنْ مَكَانِ الْمِيقَاتِ وَتَرْكُ التَّمَتُّعِ وَالتَّلْبِيَةِ وَطَوَافُ الْقُدُومِ وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ وَأَنْ لَا يَقِفَ بِعَرَفَةَ بِلَيْلٍ مُخْتَارًا لِذَلِكَ وَالْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَأَنْ لَا يَرْمِيَ الْجِمَارَ بِلَيْلٍ وَالْمَبِيتُ بِمِنًى لَيَالِيَ الْجِمَارِ وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَوُقُوعُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ [فَصْلٌ فَضَائِلُ الْحَجُّ] {فَصْلٌ} وَفَضَائِلُهُ عِشْرُونَ، وَهِيَ أَنْ يُحْرِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلُبْسُ الْبَيَاضِ فِي الْإِحْرَامِ وَاغْتِسَالَاتُ الْحَجِّ كُلُّهَا وَالْإِكْثَارُ مِنْ التَّلْبِيَةِ وَالرَّمَلِ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثِ مِنْ أَوَّلِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيُ فِي بَاقِيهِ وَالرَّمَلُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ فِي السَّعْيِ. وَالْإِسْرَاعُ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَمِنًى. وَأَنْ يَمُرَّ فِي طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ فِي الذَّهَابِ وَالْعَوْدِ " وَهُمَا جَبَلَانِ بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ " وَالتَّطَوُّعُ بِالْهَدْيِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ. وَالْوُقُوفُ بِأَرْضِ عَرَفَةَ دُونَ جَبَلِهَا. وَأَنْ يَبْدَأَ يَوْمَ النَّحْرِ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ثُمَّ يَنْحَرَ ثُمَّ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ. وَتَأْخِيرُ النَّفْرِ الثَّانِي إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَالصَّلَاةُ فِي الْمُحَصَّبِ وَطَوَافُ الْوَدَاعِ. وَتَقْبِيلُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَاسْتِلَامُ الرُّكْنِ الْيَمَانِي. وَدُخُولُ الْبَيْتِ وَالرُّكُوعُ فِي الْمَقَامِ [فَصْلٌ خصائص الحرم] {فَصْلٌ} يَخْتَصُّ الْحَرَمُ بِخَمْسَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُحَارَبَ أَهْلُهُ إلَّا أَنْ يَبْغُوا فَفِيهِ خِلَافٌ. الثَّانِي: تَحْرِيمُ صَيْدِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْمُحِلُّ مِنْ أَهْلِهِ وَمِمَّنْ طَرَأَ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: تَحْرِيمُ قَطْعِ شَجَرِهِ الَّذِي أَنْبَتَهُ اللَّهُ فِيهِ. الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَدْخُلَهُ حَلَالٌ حَتَّى يُهِلَّ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يَتَحَلَّلُ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَكْثُرُ التَّرَدُّدُ إلَيْهِ كَالْحَطَّابِينَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ. الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَدْخُلَهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ لَا مَارًّا وَلَا مُقِيمًا [فَصْلٌ الحرمات خَمْس] {فَصْلٌ} قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ الْحُرُمَاتُ خَمْسٌ الْكَعْبَةُ الْحَرَامُ وَالْمَسْجِدُ

فصل اغتسالات الحج

الْحَرَامُ وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ وَالْمُحْرِمُ حَتَّى يَحِلَّ وَالشَّعَائِرُ سَبْعٌ الرُّكْنُ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ وَالْبُدْنُ وَالْجِمَارُ وَعَرَفَةُ [فَصْلٌ اغْتِسَالَاتُ الْحَجِّ] {فَصْلٌ} اغْتِسَالَاتُ الْحَجِّ ثَلَاثٌ: الْأَوَّلُ: لِلْإِحْرَامِ، وَهُوَ آكَدُهَا. الثَّانِي: لِدُخُولِ مَكَّةَ. الثَّالِثُ: لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَذَلِكَ عَلَى كُلِّ مَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ الْإِحْرَامَ إلَّا الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ، فَإِنَّهُمَا لَا يَغْتَسِلَانِ لِدُخُولِ مَكَّةَ إذْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الطَّوَافُ وَيَغْتَسِلَانِ لِلْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ وَمَنْ اغْتَسَلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَلِلْوُقُوفِ فَلَا يَتَدَلَّكُ إلَّا تَدْلِيكًا خَفِيفًا بِحَيْثُ يَسْلَمُ مِنْ قَتْلِ دَوَابِّ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ [فَصْلٌ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ يَمْنَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ شَيْئًا] {فَصْلٌ} الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ يَمْنَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ شَيْئًا لُبْسَ الْمَخِيطِ كُلِّهِ وَتَغْطِيَةَ الرَّأْسِ وَلُبْسَ الْخُفَّيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَحَلْقَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَإِزَالَةَ الشَّعْرِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَقَصَّ الْأَظْفَارِ وَالطِّيبَ وَقَتْلَ الْقَمْلِ وَالِاصْطِيَادَ وَقَتْلَ الصَّيْدِ وَإِمْسَاكَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اصْطَادَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْخِطْبَةَ وَعَقْدَ النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَمَغِيبَ الْحَشَفَةِ، وَإِنْزَالَ الْمَاءِ الدَّافِقِ فِي الْيَقِظَةِ. وَالْمَرْأَةُ مُسَاوِيَةٌ لِلرَّجُلِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ حَاشَا ثَلَاثٍ: لُبْسُ الْمَخِيطِ وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ وَلُبْسُ الْخُفَّيْنِ [فَصْلٌ الطَّوَافُ فِي الْحَجِّ] {فَصْلٌ} وَالطَّوَافُ فِي الْحَجِّ ثَلَاثٌ. طَوَافُ الْقُدُومِ، وَهُوَ سُنَّةٌ وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ فَرْضٌ وَطَوَافُ الْوَدَاعِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ [فَصْلٌ رَمَى الْجِمَارُ] {فَصْلٌ} الْجِمَارُ ثَلَاثٌ الْجَمْرَةُ الْأُولَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى وَالْوُسْطَى وَجَمْرَةُ الْعَقَبَةِ. {فَصْلٌ} وَالرَّمْيُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ. يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ [فَصْلٌ الْهَدْيُ فِي الْحَجّ] {فَصْلٌ} الْهَدْيُ ثَلَاثٌ إبِلٌ وَبَقَرٌ وَغَنَمٌ وَعَلَامَاتُهُ ثَلَاثٌ تَقْلِيدٌ وَإِشْعَارٌ وَتَجْلِيلٌ وَذَلِكَ كُلُّهُ يَجْتَمِعُ فِي الْإِبِلِ، وَأَمَّا الْبَقَرُ فَتُقَلَّدُ وَلَا تُشْعَرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا أَسْنِمَةٌ وَلَا يُفْعَلُ فِي الْغَنَمِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ {فَصْلٌ} يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ كُلِّهِ وَاجِبِهِ وَتَطَوُّعِهِ إلَّا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ جَزَاءَ

فصل جزاء المحرم إذا قتل صيدا

الصَّيْدِ وَفِدْيَةَ الْأَذَى وَنَذْرَ الْمَسَاكِينِ وَمَا عَطِبَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ مَحَلِّهِ [فَصْلٌ جَزَاءُ الْمُحْرِمِ إذَا قَتْلَ صَيْدًا] {فَصْلٌ} يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا كَانَ سَبَبًا لِقَتْلِ الصَّيْدِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: إذَا نَصَبَ فُسْطَاطًا فَتَعَلَّقَ بِأَطْنَابِهِ صَيْدٌ فَعَطِبَ. الثَّانِيَةُ: إذَا فَرَّ الصَّيْدُ لِرُؤْيَتِهِ فَعَطِبَ. الثَّالِثَةُ: إذَا نَصَبَ شِرَاكًا لِسَبُعٍ فَعَطِبَ فِيهِ صَيْدٌ. الرَّابِعَةُ: إذَا دَلَّ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا عَلَى صَيْدِهِ فَقَتَلَهُ. الْخَامِسَةُ: إذَا أَعْطَى سَوْطَهُ أَوْ رُمْحَهُ لِمَنْ يَقْتُلُ بِهِ صَيْدًا. السَّادِسَةُ: إذَا أَمَرَ غُلَامَهُ عِنْدَ إحْرَامِهِ بِإِرْسَالِ صَيْدٍ فَظَنَّ الْغُلَامُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ فَقَتَلَهُ. السَّابِعَةُ: إذَا قَتَلَ صَيْدًا حَلَالًا، وَهُوَ فِي يَدِهِ. [فَصْلٌ التَّمَتُّعُ بالعمرة إلَى الْحَجِّ يُوجِبُ الْهَدْيَ بِأَرْبَعَةِ] {فَصْلٌ} التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ يُوجِبُ الْهَدْيَ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. الثَّانِي: أَنْ يُقِيمَ حَتَّى يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى بَلَدِهِ أَوْ إلَى مِثْلِ بَلَدِهِ فِي الْبُعْدِ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْحَجِّ. [فَصَلِّ رفع الصوت بالتلبية] {فَصْلٌ} وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى يَعْقِرُوا حُلُوقَهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَخْفِضُونَ أَصْوَاتَهُمْ حَتَّى يَكَادَ أَنْ لَا يُسْمَعَ وَالسُّنَّةُ فِي ذَلِكَ التَّوَسُّطُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى يَتَأَذَّى وَلَا يَخْفِضُهُ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ إذْ أَنَّ شَعِيرَةَ الْحَجِّ لَا تَظْهَرُ بِذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ الْجَهْرُ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ وَيُلَبِّي بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَعِنْدَ لِقَاءِ الرِّفَاقِ وَعِنْدَ صُعُودِ جَبَلٍ أَوْ نُزُولٍ مِنْهُ وَيُلَبِّي سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ لَكِنَّ ذَلِكَ بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَفْعَلُوا ذَلِكَ صَوْتًا وَاحِدًا إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ، بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ يُلَبِّي لِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ ثُمَّ تَكُونُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ مُسْتَصْحَبَةً مَعَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِإِهْلَالِهِ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْحُضُورِ وَالْأَدَبِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَجِّهِ لِئَلَّا يَفُوتَهُ مَا أُعِدَّ لَهُ مِنْ الثَّوَابِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ

فصل الإحرام بالحج وترك المحامل والجحف مسورة على حالها

وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي [فَصْلٌ الْإِحْرَام بِالْحَجِّ وَتَرَك الْمُحَامِل والجحف مسورة عَلَى حالها] {فَصْلٌ} وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ وَيَتْرُكُونَ الْمَحَامِلَ وَالْحُجُفَ مُسَوَّرَةً عَلَى حَالِهَا وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْنَعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، بَلْ يَكْشِفُ عَنْهَا حَتَّى يَتَّصِفَ بِصِفَةِ الْحَجِّ. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْحَاجُّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِذَا كَانَ فِي الظِّلِّ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ اسْتَظَلَّ رَاكِبًا وَقَالَ: أُضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ. ثُمَّ نَقَلَا عَنْ الرِّيَاشِيِّ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ الْمُعَدَّلِ الْفَقِيهَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، وَهُوَ ضَاحٍ لِلشَّمْسِ فَقُلْت لَهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ هَذَا أَمْرٌ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَلَوْ أَخَذْت بِالتَّوْسِعَةِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ ضَحَّيْت لَهُ كَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ ... إذَا الظِّلُّ أَمْسَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصَا فَيَا أَسَفَا إنْ كَانَ سَعْيِ بَاطِلًا ... وَيَا حَسْرَتَا إنْ كَانَ حَجِّي نَاقِصًا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْفُسْطَاطِ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ تَحْتَهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ بِخِلَافِ الْمَحَامِلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالْبَيْتِ الْمَبْنِيِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّ الْحِمْلِ، وَهُوَ مَاشٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَدُومُ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّ الشَّجَرَةِ وَالْحَائِطِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَدُومُ. [فَصْلٌ مَا يَفْعَلهُ الْحَاجّ إذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ] {فَصْلٌ} فَإِذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ وَأَشْرَفَ عَلَى الْبَيْتِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِزِيَادَةِ الْأَدَبِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَالْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ وَالِاحْتِرَامِ لِبَيْتِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالِابْتِهَالِ بِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَالِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ

فصل تقبيل الحجر الأسود

بِالدُّعَاءِ وَطَلَبِ مَا يَحْتَاجُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضِيقٌ وَزَحْمَةٌ فَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِهَا إذْ أَنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ أَوْجَبُ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الثَّنِيَّةِ فَتَقَعُ الزَّحْمَةُ وَيَمُوتُ بَعْضُ النَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَشَيْءٌ يَئُولُ إلَى مِثْلِ هَذَا فَتَرْكُهُ مُتَعَيِّنٌ وَالْمُسْتَحَبُّ إذَا تُرِكَ فَلَا عَتْبَ عَلَى تَارِكِهِ وَلَا ذَمَّ فِي حَقِّهِ. فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ فَلْيَقْصِدْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَيَدْخُلُهُ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيُقَبِّلُهُ وَتَقْبِيلُهُ أَنْ يَضَعَ فَمَه عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ صَوْتٍ وَالتَّصْوِيتُ بِهِ بِدْعَةٌ وَلْيُزَاحِمْ عَلَى تَقْبِيلِ الْحَجَرِ مَا لَمْ يَكُنْ أَذًى فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَبَّرَ حِينَ يُقَابِلُهُ وَمَضَى. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ يَتَزَاحَمُونَ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَقَعُ الِانْضِغَاطُ بَيْنَهُمْ فَقَدْ يَأْتِي فَمُ الرَّجُلِ عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ وَبِالْعَكْسِ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ مِنْ شَرْطِهِ الطَّهَارَةُ فَتَنْتَقِضُ الطَّهَارَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ الْتَذَّ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى مَنْ لَمْ يَلْتَذَّ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْغَالِبُ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَصِحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا بِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ أَوْ بِبُعْدِ الطَّائِفِ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ الْمَسَافَةَ وَإِلَّا فَيُخِلُّ بِطَوَافِهِ غَالِبًا. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ وَالنَّاسُ يَصُبُّونَ عَلَى الْحَجَرِ مَاءَ الْوَرْدِ وَفِيهِ الْمِسْكُ فَيُصِيبُهُ مِنْهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي التَّجَاوُزِ بِمَنِّهِ [فَصْلٌ تقبيل الْحَجَر الْأَسْوَد] {فَصْلٌ} وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُ يَأْتِي لِلْحَجَرِ فَيُقَبِّلُهُ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ وَبَعْضُ الْحَجَرِ خَلْفَهُ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَكْمِلْ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، بَلْ سِتَّةً فَإِنْ كَانَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بَطَلَ طَوَافُهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ فِي كُلِّ مَا يَقَعُ لَهُ مِمَّا يُخَالِفُ إحْرَامَهُ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ هَذَا

فصل الطواف من داخل الحجر

إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّدَارُكُ. وَكَيْفِيَّةُ مَا يَفْعَلُ حَتَّى يَسْلَمَ مِمَّا ذُكِرَ هُوَ أَنْ يَمْشِيَ ثَلَاثَ خُطُوَاتٍ أَوْ نَحْوِهَا مِنْ نَاحِيَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِي ثُمَّ يَرِدُ الْبَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ فَيَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ إكْمَالِ الطَّوَافِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُفْعَلُ فِي الشَّوْطِ الْأَخِيرِ يَمْشِي فِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْحَجَرَ خَلْفَهُ بِخُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ لِكَيْ يَثِقَ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ. ثُمَّ إذَا أَخَذَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ فَلْيَرْمُلْ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَوَّلِهِ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ مَعَ ذَلِكَ لَا يُفَارِقَانِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ أَتَى بِبَاقِي الطَّوَافِ مَاشِيًا الْهُوَيْنَا وَالْخُشُوعُ فِي ذَلِكَ مَطْلُوبٌ لَكِنَّهُ أُجِيزَ لِلطَّائِفِ الْكَلَامُ فِيهِ وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَقَعُ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَهُمْ يَجْرُونَ فِي السَّبْعَةِ الْأَشْوَاطِ كُلِّهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمَارَاتِ الْخُشُوعِ شَيْءٌ، بَلْ ضِدُّهُ فَيُخَالِفُونَ السُّنَّةَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ الشَّرِيفِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ فِي كَوْنِهِمْ يَزِيدُونَ عَلَى الرَّمَلِ الْمَشْرُوعِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْرُونَ فِيهَا جَرْيًا وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي أَنَّهُمْ يُوقِعُونَ الطَّوَافَ كُلَّهُ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي الْجَرْيِ وَالِاسْتِبَاقِ وَالْمَوْضِعُ الثَّالِثُ عَدَمُ الْخُشُوعِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ فِي طَوَافِهِمْ، وَذَلِكَ مَطْلُوبٌ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ [فَصْلٌ الطَّوَاف مِنْ داخل الْحَجَر] {فَصْلٌ} وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَطُوفَ مِنْ دَاخِلِ الْحَجَرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْبَيْتِ وَلَا يَتِمُّ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ كُلِّهِ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ وَلَا يَسْتَلِمُ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَتِمَّ هُنَاكَ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَلِمْهُمَا. فَإِذَا أَتَى الرُّكْنَ الْيَمَانِي وَقَفَ عِنْدَهُ وَلَمَسَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُقَبِّلُونَ الرُّكْنَ الْيَمَانِي كَمَا يُقَبِّلُونَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَالسُّنَّةُ اسْتِلَامُ الْيَمَانِيِ بِالْيَدِ لَا بِالْفَمِ فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَحْتَرِزُ فِي طَوَافِهِ مِنْ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا وَالثَّانِي مَا تَقَدَّمَ فِي الشَّوْطِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ الطَّوَافِ فِي دَاخِلِ

الْحِجْرِ. الرَّابِعُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ الشَّاذَرْوَانِ أَنْ يَمِيلَ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ فِي دَاخِلِهِ، وَهُوَ فِي الطَّوَافِ وَالشَّاذَرْوَانُ هُوَ الَّذِي بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِي. الْخَامِسُ: أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ الطِّيبِ الَّذِي يُصَبُّ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. السَّادِسُ: أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ. ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ، وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدُّعَاءِ بِمَا أَحَبَّ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ أَحَبَّ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ سِرًّا فِي نَفْسِهِ وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ لِئَلَّا يَشْغَلَ غَيْرَهُ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ قَوْلِ الطَّائِفِ إيمَانًا بِك وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك فَقَالَ: هَذِهِ بِدْعَةٌ وَلَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا مِنْ قَوْلٍ مَخْصُوصٍ أَوْ دُعَاءٍ، بَلْ يَدْعُو بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّهُمْ يَسْتَصْحِبُونَ مَعَهُمْ مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَشْتَغِلُ إلَّا بِأَنْ يَقُولَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ كَذَا وَعِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ كَذَا وَعِنْدَ الطَّوَافِ كَذَا وَعِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ كَذَا وَعِنْدَ بَابِ الْبَيْتِ كَذَا وَعِنْدَ الْمُلْتَزَمِ كَذَا وَعِنْدَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي كَذَا، وَإِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ يَقُولُ كَذَا وَفِي الْمَقَامِ كَذَا وَفِي الصَّفَا كَذَا وَفِي الْمَرْوَةِ كَذَا وَفِي السَّعْيِ كَذَا وَفِي مِنًى كَذَا وَفِي عَرَفَاتٍ كَذَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَشْتَغِلُونَ فِي طَرِيقِهِمْ بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَيَتْرُكُونَ مَا يَلْزَمُهُمْ فِي حَجِّهِمْ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ وَمُصَحِّحَاتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافٍ قَبَّلَ الْحَجَرَ كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْكَعَهُمَا فِي الْمَقَامِ مَا لَمْ تَكُنْ مُزَاحَمَةٌ فَإِذَا كَانَتْ رَكَعَ فِي غَيْرِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ رُكُوعِهِ عَادَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَقَبَّلَهُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الصَّفَا فَيَأْتِي إلَيْهَا فَيَصْعَدُ فِي أَعْلَاهَا حَتَّى يَنْظُرَ إلَى الْبَيْتِ فَيُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ ثُمَّ يَدْعُوَ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِأَقَارِبِهِ وَلِإِخْوَانِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يَنْزِلَ مِنْهَا، وَيَأْخُذَ فِي السَّعْيِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْمِيلِ الْأَوَّلِ فَيَرْمُلَ إذْ ذَاكَ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْمِيلِ الثَّانِي ثُمَّ يَمْشِيَ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَرْوَةِ فَيَفْعَلَ فِيهَا مَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا يَفْعَلُ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ يَبْدَأُ

بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْجَرْيِ وَالْإِسْرَاعِ فِي كُلِّ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ فِي الطَّوَافِ، بَلْ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا أَشَدُّ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْعَوْنَ وَهُمْ رُكْبَانٌ عَلَى الدَّوَابِّ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرُّكُوبَ فِي السَّعْيِ أَشَدَّ كَرَاهَةٍ وَهُمْ يَجْرُونَ بِهَا الْجَرْيَ الَّذِي اعْتَادُوهُ فِي بِلَادِهِمْ فَيُؤْذُونَ بِذَلِكَ غَيْرَهُمْ مِنْ الْحُجَّاجِ وَمَنْ فِي السُّوقِ مِمَّنْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى مَفَاسِدَ تَقَعُ لَهُمْ كَانُوا عَنْهَا فِي غِنًى، وَهَذَا ضِدُّ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْخُشُوعِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْعَى عَلَى رِجْلَيْهِ. وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَشَاعِرِ إلَّا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَإِنَّ الرُّكُوبَ فِيهِمَا أَفْضَلُ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَمْشِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا وَالْمَشَاعِرُ وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ إلَى جَانِبِهِ. وَقَدْ نُقِلَ فِي تَفْسِيرِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ أَنَّهُ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلَامِ وَالْمَشْيُ فِي الْمَنَاسِكِ وَالْمَشَاعِرِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا، وَهِيَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى ثُمَّ إلَى عَرَفَاتٍ ثُمَّ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ ثُمَّ إلَى مِنًى ثُمَّ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ إلَى مِنًى ثُمَّ إلَى الْمُحَصَّبِ ثُمَّ إلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى الرُّكُوبِ رَكِبَ وَمَشَى بِالرِّفْقِ وَالْأَنَاةِ خِيفَةً مِنْ الْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، وَهَذَا السَّعْيُ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ فِيهِ وَاجِبَةٌ فَلَوْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ سَعْيِهِ مَضَى فِيهِ حَتَّى يُتِمَّهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ طَوَافِهِ تَطَهَّرَ وَابْتَدَأَ طَوَافَهُ وَالرَّمَلُ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ الْمِيلَيْنِ وَفِي وَادِي مُحَسِّرٍ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَإِنْ كَانَ آفَاقِيًّا فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لَيْلًا وَنَهَارًا لَا يَسْتَثْنِي مِنْهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا وَقْتَانِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَطُوفَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ إلَّا لِحَاجَةٍ تَدْعُوهُ لِلطَّوَافِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ أَنْ يَأْتِيَ عُقْبَةُ بِرَكْعَتَيْنِ. وَيَجُوزُ

لَهُ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُؤَخِّرَ الرُّكُوعَ لَهُ إلَى بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ مَغِيبِهَا وَلَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ فِي حَوَائِجِهِ وَضَرُورَاتِهِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا رَجَعَ إلَى الطَّوَافِ فَإِنْ تَعِبَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَجَلَسَ فِي مَوْضِعِ مُصَلَّاهُ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ فَيَحْصُلُ لَهُ النَّظَرُ إلَى الْكَعْبَةِ، وَهُوَ عِبَادَةٌ. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «النَّظَرُ إلَى الْبَيْتِ عِبَادَةٌ وَيَحْصُلُ لَهُ اسْتِغْفَارُ الْمَلَائِكَةِ» فَإِذَا ذَهَبَ تَعَبُهُ قَامَ وَشَرَعَ فِي الطَّوَافِ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا إلَى الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُمْ أَنْ يُكْثِرُوا مِنْ التَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْآفَاقِيَّ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مَعْدُومَةٌ عِنْدَهُ فَيَغْتَنِمُهَا بِخِلَافِ أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّهَا مُتَيَسِّرَةٌ عَلَيْهِمْ طُولَ سَنَتِهِمْ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُوهُمْ إلَى مُزَاحَمَةِ النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ، فَإِذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ جَلَسَ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَيُصْغِي لِمَا يَقُولُ الْإِمَامُ مِنْ تَعْلِيمِ أَحْكَامِ الْحَجِّ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَرْكِ حُضُورِ الْخُطْبَةِ وَاسْتِمَاعِهَا فَيَتْرُكُ سُنَّةً مَعْمُولًا بِهَا فَإِذَا فَرَغَ الْخَطِيبُ مِنْ خُطْبَتِهِ وَانْصَرَفَ النَّاسُ فَلْيَأْخُذْ فِي الْخُرُوجِ إلَى مِنًى فَيُصَلِّي بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ ثُمَّ يَرْحَلُ مِنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى عَرَفَةَ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَرْحَلُونَ مِنْ مِنًى فَيَأْتُونَ عَرَفَةَ لَيْلًا فَيُوقِدُونَ الشَّمْعَ وَيَصْعَدُونَ بِهِ إلَى جَبَلِ عَرَفَةَ فَيَأْتُونَ الْقُبَّةَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا قُبَّةَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيُدِيرُونَ بِهَا الشَّمْعَ مَوْقُودًا وَيَطُوفُونَ بِهَا كَطَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ مَنْعُهُمْ وَزَجْرُهُمْ وَتَفْرِيقُ جَمْعِهِمْ عَنْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا وَلَهُ فِي ذَلِكَ ثَوَابُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً وَأَخْمَدَ بِدْعَةً فَكَيْفَ بِبِدَعٍ كَمَا سَبَقَ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَجْلِسُوا بِمِنًى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ. فَمَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى وَبَاتَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْتَدَعَ. فَإِذَا وَصَلُوا إلَى عَرَفَةَ أَخَذُوا فِي قَضَاءِ ضَرُورَاتِهِمْ إلَى الزَّوَالِ فَيَغْتَسِلُونَ وَيَأْتُونَ إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ

وَالسُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَعْرُوفَةُ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِنَمِرَةَ وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ تُرِكَتْ فِي الْغَالِبِ إلَّا عِنْدَ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَقَدْ صَارُوا يُصَلُّونَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ بِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ. فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ أَتَى لِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ فَخَطَبَ النَّاسَ. وَخُطَبُ الْحَجِّ ثَلَاثٌ هَذِهِ وَالْخُطْبَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَالْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ فِي ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ وَمُعْظَمُ مَا فِي الْخُطَبِ الثَّلَاثِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُنَّ تَعْلِيمُ الْحُجَّاجِ مَا يَلْزَمُهُمْ فِي حَجِّهِمْ وَمَا يُنْدَبُ لَهُمْ فِيهِ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ وَمَا يُكْرَهُ لَهُمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْمَفَاسِدَ الَّتِي تَعْتَوِرُهُمْ وَكَيْفِيَّةَ التَّحَرُّزِ مِنْهَا وَيَحُضُّهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي كُلِّ مَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ أَمْرِ حَجِّهِمْ بِقَدْرِ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ وَوَاسِعٌ فِي حَقِّهِمْ أَنْ يُؤَمِّنُوا عَلَى دُعَاءِ الْإِمَامِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ وَمَنْ بَعُدَ عَنْهُ، وَأَنْ يَدْعُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا أَحَبُّوا وَلِمَنْ يَخْتَارُوهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ مِنْ صِفَةِ الْوُقُوفِ أَنْ لَا يَزَالَ قَائِمًا إلَى الْغُرُوبِ، بَلْ إذَا تَعِبَ مِنْ الْوُقُوفِ جَلَسَ، وَهُوَ يَفْعَلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَقِفَ رَاكِبًا، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مُسْتَثْنًى مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ اتِّخَاذِ ظُهُورِ الدَّوَابِّ مَسَاطِبَ يَجْلِسُ عَلَيْهَا وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِالرَّاحِلَةِ كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِقْبَالِ إذَا كَانَ بِالْأَرْضِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَنْ حَضَرَ بِعَرَفَةَ كَانَ جَالِسًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ نَائِمًا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْوُقُوفُ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَتَحَقَّقَ غُرُوبُهَا وَأَقْبَلَ ظَلَامُ اللَّيْلِ فَلْيُمْهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ بِاللَّيْلِ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْوُقُوفُ بِالنَّهَارِ سُنَّةٌ وَلَا تُجْزِئُ السُّنَّةُ عَنْ الْفَرْضِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ اللَّيْلِ جُزْءًا بِعَرَفَةَ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ فِي الرَّحِيلِ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ فَيَشُدُّونَ الرِّحَالَ وَيَحْمِلُونَ عَلَيْهَا الْأَحْمَالَ ثُمَّ يَأْتُونَ إلَى الْعَلَمَيْنِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُمَا فَيَقِفُونَ هُنَاكَ فَإِذَا سَقَطَ قُرْصُ الشَّمْسِ أَسْرَعُوا بِالْخُرُوجِ

مِنْ بَيْنِ الْعَلَمَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ قُرْصُهَا بَعْدُ لَمْ يَكْمُلْ مَغِيبُهُ فَيَدْخُلُ الْخَلَلُ فِي حَجِّهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْوُقُوفَ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. وَكَثْرَةُ الدُّعَاءِ فِي عَرَفَةَ وَالْإِلْحَاحِ بِهِ وَالِابْتِهَالُ وَالتَّضَرُّعُ هُوَ السُّنَّةُ عُمُومًا. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» وَلَا يَتْرُكُ ذَلِكَ إلَّا لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَعْلَى. وَذَلِكَ مِثْلُ مَا حُكِيَ عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا أَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ وَيَبْتَهِلُونَ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ فَلَمَّا أَنْ نَفَرَ النَّاسُ قَبَضَ بِيَدِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ وَقَالَ وَاسَوْأَتَاهُ، وَإِنْ غُفِرَتْ ثُمَّ نَفَرَ مَعَ النَّاسِ فَلَحْظَةٌ مِنْ هَذَا السُّكُوتِ وَالْوَقَارِ وَالْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ السُّكُوتُ أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ؟ فَجَوَابُهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» فَإِذَا كَانَ مَنْ اشْتَغَلَ بِذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَفْضَلَ مِنْ الدَّاعِي فَمَا بَالُك بِمَنْ أُلْبِسَ خِلْعَةَ التَّضَرُّعِ وَالِافْتِقَارِ وَالِانْكِسَارِ فَهُوَ أَفْضَلُ مَقَامًا سِيَّمَا مَعَ الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ وَالْفِكَرِ السُّنِّيَّةِ الْجَلِيلَةِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ» وَقِيلَ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الدَّهْرِ. فَإِذَا تَبَيَّنَ لَك ذَلِكَ عَلِمْت أَنَّ الْخُشُوعَ وَالسُّكُوتَ وَالْحُضُورَ وَاسْتِصْغَارَ النَّفْسِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ الْعَظِيمِ آكَدُ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ أَوْ الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ. وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلُ؛ وَلِأَنَّ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمَ أَجَلُّ الْمَقَامَاتِ وَأَعْلَاهَا وَذَلِكَ لَا يَقُومُ فِيهِ إلَّا وَاحِدُ عَصْرِهِ. نَعَمْ لَا بُدَّ مِنْ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي أُمِرَ فِيهَا الْمُكَلَّفُ بِالدُّعَاءِ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَفِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا إلَّا

فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا، وَهِيَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَفِي الرُّكُوعِ وَفِي الْجُلُوسِ قَبْلَ التَّشَهُّدِ. وَكَذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ سِرًّا وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَحَضْرَةِ الْقِتَالِ لِقَوْلِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ سَاعَتَانِ تُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ حَضْرَةُ النِّدَاءِ إلَى الصَّلَاةِ وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ إذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ فِي التِّلَاوَةِ وَقَفَ وَسَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ وَقَفَ وَاسْتَجَارَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا الدُّعَاءُ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ كُلُّ ذَلِكَ يَفْعَلُهُ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ وَإِظْهَارًا لِلْفَاقَةِ وَالِاحْتِيَاجِ وَالِاضْطِرَارِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ رَاضٍ عَنْ رَبِّهِ يَخْتَارُ مَا اخْتَارَهُ مَوْلَاهُ لَهُ وَلَا يَسْكُنُ إلَى غَيْرِهِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَهَذَا كُلُّهُ بِشَرْطِ مُرَاعَاةِ الْأَدَبِ الْمَشْرُوعِ فِي الدُّعَاءِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَنِبَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِحَيْثُ يَعْقِرُ حَلْقَهُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا» وَمِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ قَالَ مَالِكٌ بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَدْعُو بِصَوْتٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَا تُقَلِّصُوا تَقْلِيصَ الْيَهُودِ فَقِيلَ لَهُ مَا أَرَادَ بِتَقْلِيصِ الْيَهُودِ قَالَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ، وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ، فَإِنَّمَا أُنْكِرَ الْكَثِيرُ مِنْهُ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ، وَأَمَّا رَفْعُهَا إلَى اللَّهِ عِنْدَ الرَّغْبَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِكَانَةِ فَصِفَتُهُ أَنْ تَكُونَ ظُهُورُهُمَا إلَى الْوَجْهِ وَبُطُونُهُمَا إلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] أَنَّ الرَّغَبَ تَكُونُ بُطُونُ الْأَكُفِّ إلَى السَّمَاءِ وَالرَّهَبُ بُطُونُهُمَا إلَى الْأَرْضِ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ إذْ ذَاكَ تَسَبَّبَ فِي حُصُولِهِ بِاسْتِدْعَاءِ بَوَاعِثِهِ وَاسْتِجْلَابِ دَوَاعِيهِ وَالِافْتِقَارِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ. فَمِنْ بَوَاعِثِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ ذُنُوبَهُ وَمَا ارْتَكَبَ مِنْ قُبْحِ عَمَلِهِ حَتَّى يَنْدَمَ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَى حَدِّ الْقُنُوطِ وَيَذْكُرُ الْخَوْفَ مَعَ الرَّجَاءِ وَسَعَةِ

فصل ما يفعل بعد الدفع من عرفة

الرَّحْمَةِ وَيُحْسِنُ ظَنَّهُ بِمَوْلَاهُ الْكَرِيمِ سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الشَّرِيفَةِ وَيَدْعُو بِالْأَلْفَاظِ اللَّائِقَةِ بِحَالِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِذُرِّيَّتِهِ وَلِإِخْوَانِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّنْمِيقِ فِي أَلْفَاظِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْخُشُوعِ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ خُضُوعٍ وَانْكِسَارٍ وَذَلِكَ يُنَافِيهِ. [فَصْلٌ مَا يَفْعَل بَعْد الدَّفْعَ مِنْ عَرَفَةَ] {فَصْلٌ} فَإِذَا دُفِعَ مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلْيَمْشِ الْهُوَيْنَا وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَالْخُشُوعُ، وَهُوَ يَتَضَرَّعُ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا مِنْ بَيْنِ الْعَلَمَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا جُعِلَا عَلَمًا عَلَى حَدِّ عَرَفَةَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَيِّ نَوَاحِيهَا شَاءَ فَلَا حَرَجَ. فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ إلَّا مِنْ بَيْنِ الْعَلَمَيْنِ وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا حَجَّ لَهُ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الزَّحْمَةُ الْعَظِيمَةُ وَالضَّرَرُ الْكَثِيرُ لِلنَّاسِ سِيَّمَا الضُّعَفَاءُ وَالْمُشَاةُ وَرُبَّمَا يَنْكَسِرُ بَعْضُ الْمَحَارِّ وَالْحُجُفِ هُنَاكَ وَيَقَعُ بَعْضُ الرُّكْبَانِ وَيَقَعُ بَيْنهمْ رَفْعُ الْأَصْوَاتِ بِالسِّبَابِ وَالشَّتْمِ وَمَا لَا يَلِيقُ عَقِبَ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْمُعَظَّمِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِيَسْلَمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالثَّانِي: لِيَعْلَمَ مَنْ يَرَاهُ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ. وَصِفَةُ الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دُفِعَ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ وَقَدْ شُنِقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامُ حَتَّى أَنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَهُوَ

فصل إحياء ليلة العيد للحاج

يَقُولُ بِيَدِهِ أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ وَكُلَّمَا أَتَى جَبَلًا مِنْ الْجِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَنْ دُفِعَ مِنْ عَرَفَةَ قَالَ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصَّلَاةُ أَمَامَك» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْ وَصَلُوا إلَى الْمُزْدَلِفَةِ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَالرِّحَالُ قَائِمَةٌ فَلَمَّا أَنْ فَرَغُوا مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ حَطُّوا الرِّحَالَ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَصَلَّوْا الْعِشَاءَ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ تُرِكَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى صَارَتْ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ فَطُوبَى لِمَنْ أَحْيَاهَا وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَيَظُنُّونَ أَنَّ الْجَمْعَ هُنَاكَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي عَرَفَةَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَرِ فِي الْأَقَالِيمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ السُّنَّةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ كَمَا وُصِفَ فَتَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ إلَى امْتِثَالِ سُنَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا امْتَثَلَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ وَفِي حَقِّ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَدْ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُلَّمَا فَعَلَ فِعْلًا فِي الْحَجِّ يَقُولُ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَأَكْثَرُ أَفْعَالِ الْحَجِّ إنَّمَا هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَبُّدِ، وَهَذَا مِنْهَا. وَيَنْبَغِي لِلْحَاجِّ أَنْ يَلْتَقِطَ الْحَصَى فِيمَا بَيْنَ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ فَلَا بَأْسَ. وَلَا يَأْخُذُ حَجَرًا كَبِيرًا فَيَكْسِرُهُ فَإِنْ فَعَلَ جَازَ وَعَدَدُهَا سَبْعُونَ حَصَاةً، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ [فَصْلٌ إحْيَاء لَيْلَة الْعِيد لِلْحَاجِّ] {فَصْلٌ} وَيَنْبَغِي لِلْحَاجِّ أَنْ يُحْيِيَ لَيْلَةَ الْعِيدِ بِالصَّلَاةِ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُومُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كُلَّهَا وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ. وَقَدْ اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ. لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَحْيَا لَيْلَتَيْ الْعِيدِ أَحْيَا اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ» وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ كَمَا يَفْعَلُ فِي رَمَضَانَ، بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ فِي بَيْتِهِ لِنَفْسِهِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ بَعْضُ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ [فَصْلٌ صَلَاة الصُّبْح بالمزدلفة] {فَصْلٌ} وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَا

يَنْتَظِرُ بِهَا أَحَدًا؛ لِأَنَّهَا السُّنَّةُ الْمَعْمُولُ بِهَا. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَّى الصُّبْحَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا» . يَعْنِي بِالْجَمْعِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَالصُّبْحِ بِهَا وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ قَبْلَ مِيقَاتِهَا الْوَقْتَ الَّذِي عَادَتُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُوقِعُهَا فِيهِ فَكَانَ يُبَكِّرُ بِهَا عِنْدَ تَحَقُّقِ طُلُوعِ الْفَجْرِ دُونَ مُهْلَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَيْمُونَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا أَنْ حَجَّتْ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَطَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ قَالَتْ عِنْدَ ذَلِكَ: إنْ أَصَابَ عُثْمَانُ السُّنَّةَ فَهُوَ يُصَلِّي الْآنَ فَمَا أَتَمَّتْ كَلَامَهَا إلَّا وَالْمُؤَذِّنُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ. ثُمَّ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ بِهَا دُفِعَ إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَالْمَشْعَرَ عَلَى يَسَارِهِ فَيُثْنِي عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِأَوْلَادِهِ وَلِأَهْلِهِ وَلِجَمِيعِ مَعَارِفِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَيَبْتَهِلُ وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الدُّعَاءَ هُنَاكَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَهُوَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَرْجُوِّ فِيهَا قَبُولُ الدُّعَاءِ وَيَنْوِي بِذَلِكَ كُلِّهِ امْتِثَالَ السُّنَّةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُسْفِرُ الْوَقْتُ الْإِسْفَارَ الْبَيِّنَ. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ الْحُجَّاجِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَرْحَلُونَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ وَيَأْتُونَ إلَى مِنًى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفُوا بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَيَتْرُكُونَ هَذِهِ السُّنَّةَ الْعُظْمَى وَفِيهَا مِنْ الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ مَا لَا يُحْصَى وَكَفَى بِهَا أَنَّهَا سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ مَشْرُوعَةٌ، وَقَدْ تَرَكَهَا أَكْثَرُهُمْ وَمَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ السُّنَنِ فَلَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ. ثُمَّ يُدْفَعُ إلَى مِنًى فَإِذَا وَصَلَ بَطْنَ مُحَسِّرٍ رَمَلَ قَدْرَ رَمْيَةِ الْحَجَرِ وَيَنْوِي بِذَلِكَ امْتِثَالَ السُّنَّةِ أَيْضًا وَإِحْيَاءَهَا ثُمَّ يَمْشِي الْهُوَيْنَا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مِنًى فَيَأْتِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا، وَهُوَ رَاكِبٌ وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ. وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَرْمِيَ فِي جِدَارِ الْجَمْرَةِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَسِبْ بِهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَرْمِيهَا بِقُوَّةٍ وَلَا يَضَعُهَا وَضْعًا وَلَكِنْ يَكُونُ رَمْيًا مُتَوَسِّطًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ رَاحِلَةٌ فَلْيَرْمِ، وَهُوَ قَائِمٌ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الرَّاكِبُ إنْ تَوَقَّعَ هُنَاكَ

زَحْمَةً أَوْ غَيْرَهَا فَيُسَامَحُ فِي الرَّمْيِ، وَهُوَ نَازِلٌ بِالْأَرْضِ قَائِمًا، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِهِ رَجَعَ إلَى مِنًى فَنَزَلَ بِهَا ثُمَّ يَنْحَرُ إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَأَفْضَلُ مَا فِي الْحَجِّ بَعْدَ فَرَائِضِهِ نَحْرُ الْهَدْيِ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ قَلَّ فَاعِلُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ وَفِيهَا النَّفْعُ الْمُتَعَدِّي. وَكَيْفِيَّةُ مَا يُفْعَلُ فِيهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ يُشْعِرُهُ وَيُقَلِّدُهُ وَيَكْسُوهُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْإِبِلِ، وَأَمَّا الْبَقَرُ فَتُقَلَّدُ وَلَا تُشْعَرُ وَقِيلَ إنْ كَانَتْ لَهَا أَسْنِمَةٌ أُشْعِرَتْ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يُفْعَلُ فِي الْغَنَمِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَسْتَصْحِبُ الْهَدْيَ مَعَهُ إلَى أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إلَى مِنًى، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْحَرُهُ فِيهِ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ قَدْ تُرِكَتْ وَقَلَّ الْعَمَلُ وَالْعِلْمُ بِهَا فَتَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ إلَى فِعْلِهَا حَتَّى تَحْيَا هَذِهِ السُّنَّةُ الَّتِي أُمِيتَتْ فَيَحْصُلُ لِمَنْ أَحْيَاهَا الشَّهَادَةُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بِالْمَعِيَّةِ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ قَالَ «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ فَكَأَنَّمَا أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» وَالْغَالِبُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي الْحَجِّ يَتْرُكُونَ جُمْلَةً مِنْ سُنَنِهِ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ مَعَ النَّاسِ فِي تَرْكِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ، بَلْ يَكُونُ مُحَافِظًا عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ نَحْرِ هَدْيِهِ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالتَّقْصِيرُ إنَّمَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ وَالتَّقْصِيرُ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَيْهِنَّ وَعَلَى مَنْ فَعَلَهُ مِنْ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ فَالْحَلْقُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَيْسَرُ مِنْهُ ثُمَّ يُفْطِرُ عَلَى هَدْيِهِ نَاوِيًا بِذَلِكَ اتِّبَاعَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ، وَإِنْ أَفْطَرَ عَلَى زِيَادَةِ الْكَبِدِ فَحَسَنٌ وَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهِ وَجِلْدِهِ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلَالِ الْبُدْنِ الَّتِي

نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا» وَتَقْدِيمُ النَّحْرِ عَلَى الْحَلْقِ هُوَ الْمُسْتَحَبُّ وَلَوْ قُدِّمَ الْحَلْقُ عَلَى النَّحْرِ فَلَا حَرَجَ. وَلْيَكُنْ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ قَوِيَّ الرَّجَاءِ فِي فَضْلِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَرْمِهِ وَإِحْسَانِهِ فِي قَبُولِهِ مِنْهُ مَا تَعَبَّدَهُ بِهِ. لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» وَمَا هُوَ فِيهِ مَقَامٌ عَظِيمٌ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ قُوَّةُ الرَّجَاءِ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَقْبُولِينَ أَوْ مِمَّنْ غُفِرَ لَهُ بِسَبَبِ مُشَارَكَتِهِ لِلْمَقْبُولِينَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعُظْمَى. وَانْظُرْ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَحَ لِأُمَّتِهِ الْبَابَ لِيَدْخُلَ بَعْضُهُمْ فِي بَرَكَةِ بَعْضٍ حَتَّى لَا يَهْلَكَ عَلَى اللَّهِ إلَّا هَالِكٌ أَلَا تَرَى إلَى صَلَاةِ النَّاسِ فِي الْأَقَالِيمِ فِي الْمَسَاجِدِ الْمُتَفَرِّقَةِ كُلُّ إنْسَانٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يَلِي بَيْتَهُ أَوْ مَوْضِعَ سَبَبِهِ أَوْ صَنْعَتِهِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَقْبُولٌ فَيُغْفَرُ لِلْبَاقِينَ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُرْفَعُ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ فَأَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَأَمَرَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ وَمَنْ كَانَ خَارِجَهَا بِالْحُضُورِ إلَيْهَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ لَعَلَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَقْبُولٌ فَيُغْفَرُ لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الْبَلَدِ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ فَيَأْتِي أَهْلُ الْآفَاقِ إلَى الْحَجِّ فَيَجْتَمِعُونَ فِي الْمَوْقِفِ جَمِيعًا وَيَتَشَارَكُونَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعُظْمَى فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَوْجُودًا فِيهِمْ فَيُغْفَرُ لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَأَظُنُّهُ مُقَاتِلَ بْنَ سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمَّا أَنْ حَجَّ وَبَاتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَخَذَتْهُ سِنَةٌ فَرَأَى مَلَكَيْنِ أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ كَمْ حَجَّ بَيْتَ رَبِّنَا فِي هَذَا الْعَامِ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ فَقَالَ لَهُ فَكَمْ قُبِلَ مِنْهُمْ قَالَ سِتَّةٌ فَاسْتَفَاقَ مِنْ سِنَتِهِ مَرْعُوبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ مِنْك فَأَعِدْهَا عَلَيَّ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الشَّيْطَانِ فَأَبْعِدْهَا عَنِّي فَنَامَ فَرَآهُمَا كَذَلِكَ ثُمَّ اسْتَفَاقَ فَقَالَ مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ نَامَ فَرَآهُمَا فَلَمَّا أَنْ قَالَ الْمَلَكُ تَقَبَّلَ اللَّهُ

فصل طواف الإفاضة في يوم النحر

مِنْهُمْ سِتَّةً قَالَ فَقُلْت لَهُ وَبَاقِي النَّاسِ مَا خَبَرُهُمْ أَمَرْدُودُونَ؟ ،، أَوْ كَمَا قَالَ فَقَالَ الْمَلَكُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السِّتَّةِ مِائَةَ أَلْفٍ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَجِّ فَرَأَى شَابًّا وَعَلَيْهِ آثَارُ الْخَيْرِ فَحَصَلَ لَهُ بِهِ حُسْنُ ظَنٍّ فَبَقِيَ يَتَفَقَّدُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مِنْ الْحَجِّ قَالَ فَرَأَيْته لَمَّا أَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَرَجَعَ إلَى مِنًى قَالَ إلَهِي وَسَيِّدِي إنَّ النَّاسَ يَتَقَرَّبُونَ إلَيْك بِهَدَايَاهُمْ، وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ أَتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْك إلَّا رُوحِي فَخُذْهَا إلَيْك فَخَرَّ مَيِّتًا وَحِكَايَاتُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَأَشْبَاهِهِ كَثِيرَةٌ أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَتَعَيَّنُ تَقْوِيَةُ الرَّجَاءِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَقَبَّلِ مِنْهُمْ أَوْ الْمَغْفُورِ لَهُمْ. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِكَرَمِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ [فَصَلِّ طَوَاف الْإِفَاضَة فِي يَوْم النَّحْر] {فَصْلٌ} وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِمَّا ذُكِرَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَحَلَّ لَهُ كُلُّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَدْرَكَهُ الْوَقْتُ وَلَيْسَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ رَمَلٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ فِي مَكَّةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهَا، بَلْ إنْ صَادَفَهُ وَقْتُ الصَّلَاةِ صَلَّى بِهَا وَإِلَّا فَلَا ثُمَّ يَرْجِعُ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ إلَى مِنًى فَيَبِيتُ بِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا مِنْ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ فَيَجِبُ الدَّمُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِهَا لَيْلَةً مِنْ لَيَالِيِهَا أَوْ أَكْثَرَهَا ثُمَّ يُقِيمُ بِهَا إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ عَلَى سُنَّةِ الرَّمْيِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ وَلَا يَتْرُكُ التَّكْبِيرَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَكَذَلِكَ لَا يَدْعُ التَّكْبِيرَ بِمِنًى طُولَ مَقَامِهِ فِيهَا سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ رَفْعًا مُتَوَسِّطًا بِحَيْثُ لَا يَعْقِرُ حَلْقَهُ، وَهَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي شُرِعَ الذِّكْرُ فِيهَا جَهْرًا ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّعْجِيلِ وَالْإِقَامَةِ إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْإِقَامَةُ أَفْضَلُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِنْ التَّعْجِيلِ لَكِنْ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَتَعَذَّرُ فَبَقِيَ التَّعْجِيلُ مُتَعَيَّنًا؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَكْثَرُهُمْ يَرْمُونَ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ يَرْحَلُونَ

وَمَنْ فَعَلَ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ كَمَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَمَنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بِمِنًى وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَبِيتُ بِهَا وَالْإِقَامَةُ إلَى الزَّوَالِ حَتَّى يَرْمِيَ بَعْدَهُ وَلَا تُمْكِنُ الْإِقَامَةُ فِي الْغَالِبِ بَعْدَ رَحِيلِ النَّاسِ مِنْ مِنًى إلَّا بِخَطَرٍ وَغَرَرٍ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ لِمَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ. فَإِذَا رَحَلَ مِنْ مِنًى قَاصِدًا مَكَّةَ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَ النُّزُولَ بِالْمُحَصَّبِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ فَعَلَ فَيُصَلِّيَ فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بَعْدَ دُخُولِ أَوْقَاتِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ غَالِبُهَا التَّعَبُّدُ فَيَفْعَلُ كَمَا كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَفْعَلُ. وَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ قَدْ تُرِكَتْ فَمَنْ أَحْيَاهَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الثَّوَابِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَالْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُمْ إذَا رَحَلُوا مِنْ مِنًى لَا يَنْزِلُونَ إلَّا بِمَكَّةَ وَيَتَعَلَّلُونَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَنَا بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ هُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ وَصَلَّى فِيهِ، وَهُوَ الْمُشَرِّعُ لِأُمَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْعَالِمُ بِمَا هُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَرْجَحُ عِنْدَ رَبِّهِ فَتَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ إلَى تَقْدِيمِ مَا قَدَّمَ وَتَأْخِيرُ مَا أَخَّرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَإِذَا دَخَلَهَا فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَالْعُمْرَةُ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَائِزَةٌ فِي كُلِّ السَّنَةِ إلَّا فِي حَقِّ الْحَاجِّ، فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَإِنْ فَعَلَهَا قَبْلَ غُرُوبِهَا لَمْ تُجْزِهِ، وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا وَلَا يُحْدِثُ لَهَا إحْرَامًا جَدِيدًا. فَعَلَى مَذْهَبِهِ مَنْ فَعَلَهَا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بَعْدَ الرَّمْيِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهُ بَعْدُ وَيَلْزَمُهُ فِي كُلِّ مَا يُحَاوِلُهُ حُكْمُ الْمُحْرِمِ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَوْ يُكْرَهُ فِي حَقِّهِ فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذَا أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْإِتْيَانِ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ

بِمَكَّةَ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَإِذَا أَتَى الْحِلَّ اغْتَسَلَ وَلَبِسَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ وَانْتَظَرَ غُرُوبَ الشَّمْسِ فَإِذَا غَرَبَتْ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِالْحِلِّ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا وَمِنْ الرُّكُوعِ بَعْدَهَا رَكَعَ رَكْعَتَيْ الْإِحْرَامِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَقِبَ الْفَرْضِ صَحَّ، وَيَنْوِي الدُّخُولَ فِيهَا وَيُلَبِّي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ. فَإِذَا أَتَى إلَى مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ وَقَدْ تَمَّتْ عُمْرَتُهُ وَيُدْرِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ فَتَحْصُلُ لَهُ الْعُمْرَةُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهَا وَيُدْرِكُ السَّفَرَ مَعَ النَّاسِ إنْ رَحَلَ الرَّكْبُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَاسِكِ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ. وَالْغَالِبُ أَنَّ الرَّكْبَ لَا يَرْحَلُ إلَّا فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ لَكِنَّهُ قَدْ يَرْحَلُ فِي لَيْلَتِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَمَنْ فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ كَانَ مُتَأَهِّبًا لِلسَّفَرِ مَعَ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الذُّنُوبَ وَالْفَقْرَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إلَّا الْجَنَّةَ» زَادَ التِّرْمِذِيُّ «وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَظَلُّ يَوْمَهُ مُحْرِمًا إلَّا غَابَتْ الشَّمْسُ بِذُنُوبِهِ» ثُمَّ إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْوَدَاعِ فَإِنْ اشْتَغَلَ بَعْدَهُ بِشُغْلٍ كَثِيرٍ أَوْ طَالَ مَقَامُهُ بِهَا وَأَرَادَ السَّفَرَ فَلْيُعِدْهُ عِنْدَ إرَادَةِ الْخُرُوجِ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْقَهْقَرَى وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ وَدَاعِهِمْ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ وَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَلَا فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى اتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ أَدَّتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَعَلَّلُوهَا إلَى أَنْ صَارُوا يَفْعَلُونَهَا مَعَ مَشَايِخِهِمْ وَمَعَ كُبَرَائِهِمْ وَعِنْدَ الْمَقَابِرِ الَّتِي يَحْتَرِمُونَهَا وَيُعَظِّمُونَ أَهْلَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ كَمَا تَقَدَّمَ.

فصل زيارة النبي

[فَصْلٌ زِيَارَة النَّبِيّ] فَصْلٌ} فَإِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَلْتَكُنْ نِيَّتُهُ وَعَزِيمَتُهُ وَكُلِّيَّتُهُ فِي زِيَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزِيَارَةِ مَسْجِدِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ كُلِّهِ لَا يُشْرِكُ مَعَهُ غَيْرَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى مَقْصِدِهِ أَوْ قَضَاءِ شَيْءٍ مِنْ حَوَائِجِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَتْبُوعٌ لَا تَابِعٌ فَهُوَ رَأْسُ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ وَالْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ. فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُعَرَّسِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ خَارِجَ الْمَدِينَةِ حَتَّى يَتَأَهَّبَ لِلدُّخُولِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَتَطَهَّرَ وَيَرْكَعَ وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَيَتَطَيَّبَ وَيُجَدِّدَ التَّوْبَةَ ثُمَّ يَدْخُلَ، وَهُوَ مَاشٍ عَلَى رِجْلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالِاحْتِيَاجِ وَالِاضْطِرَارِ. وَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَنْ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَادَرُوا إلَيْهِ كُلُّهُمْ إلَّا سَيِّدَهُمْ فَإِنَّهُ اغْتَسَلَ وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيك خَصْلَتَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ» . وَقَدْ تَقَدَّمَتْ كَيْفِيَّةُ زِيَارَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِحَسْبِ مَا حَضَرَ فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْآدَابَ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى لِعَظِيمِ أَمْرِهِ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ زِيَارَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِيمَا يُرِيدُهُ وَذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا الْمُجَاوَرَةُ أَوْ السَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَوْ الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ. أَمَّا الْمُجَاوَرَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْعَجْزُ عَنْ الْقِيَامِ بِآدَابِ الْمُجَاوَرَةِ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذْ الْجَنَابُ عَظِيمٌ فَاحْتِرَامُهُ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ عَظِيمٌ وَلَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْ الْهَفَوَاتِ وَالْكَسَلِ الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ هَذَا وَجْهٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - سُئِلَ أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك الْمُجَاوَرَةُ أَوْ الْقُفُولُ فَأَجَابَ بِأَنْ قَالَ: السُّنَّةُ الْحَجُّ ثُمَّ الْقُفُولُ وَلَا شَكَّ أَنَّ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ أَوْلَى. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا فَرَغَ

مِنْ حَجِّهِ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْيَمَنِ يَمَنُكُمْ وَيَا أَهْلَ الْعِرَاقِ عِرَاقُكُمْ وَيَا أَهْلَ الشَّامِ شَامُكُمْ وَيَا أَهْلَ مِصْرَ مِصْرُكُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاوَرَ بِمَكَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ يَبُلْ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ فَمِثْلُ هَذَا تُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُجَاوَرَةُ أَوْ يُؤْمَرُ بِهَا وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ رِبْحٍ لَا مَوْضِعُ خَسَارَةٍ فَيَحْرِمُ نَفْسَهُ الرِّبْحَ لِقِلَّةِ الْأَدَبِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ وَقِلَّةِ الِاحْتِرَامِ سِيَّمَا حِينَ يَكُونُ الرَّكْبُ نَازِلًا بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ فَتَجِدُ الْعَذِرَةُ وَالْبَوْلُ فِي الطُّرُقِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَسْجِدِ الْمُعَظَّمِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى فَيَمْشِي بَعْضُ النَّاسِ عَلَيْهَا فَتَتَنَجَّسُ نَعْلُهُ أَوْ قَدَمُهُ بِذَلِكَ ثُمَّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الشَّرِيفَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ وَقَدْ حَكَى لِي السَّيِّدُ الْجَلِيلُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى قَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ فَخَرَجَ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَعَزَمَ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ فِيهِ فَسَمِعَ هَاتِفًا يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الْحُجَّاجُ يَعْمَلُونَ هَذَا فَأَجَابَهُ الْهَاتِفُ بِأَنْ قَالَ وَأَيْنَ الْحُجَّاجُ وَأَيْنَ الْحُجَّاجُ وَأَيْنَ الْحُجَّاجُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَخَرَجَ عَنْ الْبَلَدِ حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ رَجَعَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُشَاهِدُ مَا فُعِلَ هُنَاكَ مِنْ الْمِيضَاءَاتِ الَّتِي عُمِلَتْ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ وَلَهَا سَرَابَاتٌ وَالْمِيَاهُ تُسْكَبُ وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ يَسْرِي فِي الْأَرْضِ سَرِيعًا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ تَغْيِيرُهُ بِزَوَالِهِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ بَقِيَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَمِنْ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ الْهَرَبُ مِنْ مَوْضِعٍ يُبَاشَرُ مِثْلُ هَذَا فِيهِ ثُمَّ إنَّ فِي النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي تُقَابِلُ الْمِيضَاءَاتِ رُطُوبَاتٍ وَفِيهَا سَرَابَاتٌ وَكُلُّ ذَلِكَ يُخَافُ مِنْهُ الْوُصُولُ إلَى الْمَوْضِعِ الشَّرِيفِ فَيَجِبُ تَغْيِيرُهُ بِحَسْبِ حَالِ الْمُغَيِّرِ. وَسَبَبُ الْوُقُوعِ فِي هَذَا وَأَشْبَاهِهِ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْحَسَنَةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ حَسَنَةٌ وَيَفْعَلُونَهَا وَلَا يُفَكِّرُونَ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنْ السَّيِّئَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْطِنُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْغَالِبِ إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُرَاقِبُونَ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُتَحَفِّظُونَ مِمَّا يُتَوَقَّعُ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ الْفَسَادِ وَفِعْلُ هَذَا بِجِوَارِ

الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ مِنْ أَكْبَرِ السَّيِّئَاتِ، وَإِنْ كَانَ فَاعِلُهُ يَقْصِدُ بِهِ الْحَسَنَةَ؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ لِمَا كَانَ يُفْعَلُ هُنَاكَ فِي الطَّرِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَأَرَادَ إزَالَتَهُ بِفِعْلِ الْمِيضَاءَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرُّبُطِ فَوَقَعَ فِي أَكْثَرَ مِمَّا تَحَفَّظَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَذْهَبُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَالْإِزَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا فُعِلَ مِنْ الْمِيضَاءَاتِ وَالرُّبُطِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ الْأَذَى فِي الْكُنُفِ مَعَ انْصِبَابِ الْمَاءِ فَيَسْرِي تَحْتَ الْأَرْضِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَسْمَعُ وَيُشَاهِدُ قِرَاءَتَهُمْ لِتِلْكَ الْأَسْبَاعِ حَلَقًا حَلَقًا فِي الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ وَكَذَلِكَ الْأَحْزَابُ وَالْأَذْكَارُ وَقَدْ تَقَدَّمَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُمْ إذَا فَرَغُوا مِنْ هَذِهِ الْوَظَائِفِ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ تَارَةً بِالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَتَارَةً بِقَوْلِهِمْ جَرَى لِفُلَانٍ كَذَا وَوَقَعَ لِفُلَانٍ كَذَا وَاتَّفَقَ فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ كَذَا ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ عِنْدَ قَبْرِ وَلِيٍّ فَكَيْفَ يُفْعَلُ عِنْدَ الْحُجْرَةِ الْكَرِيمَةِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ سُوقَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي الصِّغَرِ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ وَيُؤْتَى إلَى السُّوقِ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَجُوزُ مِنْ الْغَنَمِ الَّتِي نُهِبَتْ وَغَيْرِهَا مِنْ السِّلَعِ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ وَذَاعَ أَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ مَنْ لَهُ اعْتِقَادٌ لَا تَرْضَاهُ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فَيُخَافُ أَنْ يَصِلَ هَذَا السُّمُّ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ أَوْ خَالَطَهُمْ فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ وَلَدُهُ وَأَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ وَمَعَارِفُهُ وَالْغَالِبُ أَنَّ تَغْيِيرَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ لِتَعَذُّرِهِ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: مَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْبَوْلِ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَقَدْ وَقَعَ لِي لَمَّا أَنْ حَجَجْت كُنْت أُصَلِّي مُبَاشِرًا لِلْأَرْضِ فَقَالَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْأَمَانَةِ وَالدِّينِ لَا تَفْعَلْ وَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَا بُدَّ لَك مِنْ خِرْقَةٍ تُصَلِّي عَلَيْهَا فَسَأَلْته عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَبِيتُونَ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ فَيَبُولُونَ فِيهِ بِاللَّيْلِ حَتَّى يَكْثُرَ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى فَيَجِيءَ الْمَطَرُ فَيَنْزِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَى الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ فِي عِمَادِ الدِّينِ وَرَأْسِهِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ

الْمَقَامُ مَعَهَا وَقَدْ كُنْت عَزَمْت أَنْ أُجَاوِرَ بِهَا، وَكَانَتْ الْمُجَاوَرَةُ تَيَسَّرَتْ عَلَيَّ فَقَالَ مَا يَحِلُّ لَك أَنْ تُجَاوِرَ فَقُلْت لَهُ وَلِمَ؟ فَقَالَ لِي مَنْ يَنْظُرُ مِنْ أَيْنَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَفْسَدَةُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ فِيهَا فَقُلْت لَهُ فَلِمَ جَاوَرْت أَنْتَ بِهَا فَقَالَ لِي جَاوَرْت اضْطِرَارًا لَا اخْتِيَارًا وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُجَاوِرَ مُخْتَارًا فَانْظُرْ لِنَفْسِك وَالسَّلَامُ أَوْ كَمَا قَالَ. فَتَرَكْت الْمُجَاوَرَةَ لِنُصْحِهِ وَشَفَقَتِهِ عَلَى عَادَتِهِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي كُنْت أَعْهَدُ مِنْهُ. ثُمَّ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْمُجَاوِرَ لَا يُبَاشِرُ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ الْمُجَاوَرَةُ مُسْتَحَبَّةً فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَخِلَّ بِعِبَادَةٍ أُخْرَى هِيَ أَكْبَرُ مِنْهَا كَالِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ الشَّرِيفِ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فِيهَا وَكَالْجِهَادِ وَالرِّبَاطِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ لِمَنْ يُحِبُّ ذَلِكَ بِالْحُضُورِ مَعَهُ دُونَ إرْسَالِ السَّلَامِ بِالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهَا وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُقَدِّمَ امْتِثَالَ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَيُقَدِّمَ مَا قَدَّمَهُ وَيُؤَخِّرَ مَا أَخَّرَهُ فَالْمُجَاوَرَةُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ هَذِهِ هِيَ الْمُجَاوَرَةُ. وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْهَجُ بِهَذَا الْبَيْتِ كَثِيرًا وَخَيْرُ أُمُورِ الدِّينِ مَا كَانَ سُنَّةً ... وَشَرُّ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَاتِ الْبَدَائِعُ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ» فَكَمْ مِنْ بَعِيدِ الدَّارِ قَرِيبٌ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى وَكَمْ مِنْ قَرِيبِ الدَّارِ بَعِيدٌ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ كَمْ مَنْ هُوَ مَعَنَا وَلَيْسَ هُوَ مَعَنَا وَكَمْ مَنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنَّا، وَهُوَ مَعَنَا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ كَانَتْ السَّعَادَةُ بِالْهَيَاكِلِ وَالصُّوَرِ مَا ظَفِرَ بِهَا بِلَالٌ الْحَبَشِيُّ وَحُرِمَهَا أَبُو لَهَبٍ الْقُرَشِيُّ. وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ وَكَمْ مِنْ بَعِيدِ الدَّارِ نَالَ مُرَادَهُ ... وَكَمْ مِنْ قَرِيبِ الدَّارِ مَاتَ كَئِيبًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ الشَّيْءُ لِمَنْ خُبِّئَ لَهُ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ قُسِمَ لَهُ. فَالْمُجَاوَرَةُ بِالْعَمَلِ بِسُنَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ كَانَ الْمَرْءُ مِنْ الْأَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ

بِالْأَشْبَاحِ. وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ كَمْ مِنْ رَجُلٍ بِأَرْضِ خُرَاسَانَ أَقْرَبُ إلَى هَذَا الْبَيْتِ مِمَّنْ يَطُوفُ بِهِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لَأَنْ تَكُونَ بِبَلَدِك وَقَلْبُك مُشْتَاقٌ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْبَيْتِ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ وَأَنْتَ مُتَبَرِّمٌ بِمَقَامِك أَوْ قَلْبُك مُتَعَلِّقٌ إلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إنْ كَانَ مِمَّنْ يُرِيدُ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ مُرَغَّبٌ فِيهِ. فَإِذَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فَيَنْوِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ وَيَزِيدُ هُنَا مِنْ النِّيَّاتِ فِيهِ الِامْتِثَالَ لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ شَدِّهِ الرِّحَالَ إلَى هَذَا الْمَسْجِدِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ حِينَ خُرُوجِهِ إلَى مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَيَنْوِي الصَّلَاةَ فِيهِ لِمَا وَرَدَ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُشْرِكَ فِي نِيَّتِهِ الرُّجُوعَ إلَى وَطَنِهِ، وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ وَطَنُهُ فِي طَرِيقِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ. فَإِذَا بَلَغَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى فَالسُّنَّةُ فِيهِ كَسُنَّةِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ أَعْنِي فِي ابْتِدَائِهِ بِالتَّحِيَّةِ بِالصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّ تَحِيَّتَهُ بِالطَّوَافِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِيهِ لِلْقَادِمِ إلَيْهِ. ثُمَّ الْآدَابُ الْمَطْلُوبَةُ فِي الْمَسَاجِدِ تَتَأَكَّدُ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَيَسْتَصْحِبُ الْخُشُوعَ وَالْهَيْبَةَ وَإِظْهَارَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَتَكُونُ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ تَحِيَّتِهِ أَخَذَ فِي الدُّعَاءِ لَهُ وَلِمَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْمُسْتَهْجَنَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَطُوفُونَ بِالصَّخْرَةِ كَمَا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَجْمَعُوا فِي صَلَاتِهِمْ بِنِيَّاتِهِمْ بَيْنَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَتَيْنِ الْكَعْبَةِ وَالصَّخْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الصَّخْرَةِ مَنْسُوخٌ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فَمَنْ نَوَى ذَلِكَ فَهُوَ بِدْعَةٌ، بَلْ يَنْوِي اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ فَقَطْ دُونَ أَنْ يَخْلِطَ مَعَهَا مَا ذُكِرَ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ إلَى مَوْضِعٍ هُنَاكَ يُسَمُّونَهُ سُرَّةَ الدُّنْيَا فَمَنْ لَمْ يَكْشِفْ عَنْ سُرَّتِهِ وَيَضَعْهَا عَلَيْهِ وَإِلَّا وَقَعَ فِي زِيَارَتِهِ الْخَلَلُ عَلَى زَعْمِهِمْ فَأَدَّى ذَلِكَ إلَى فِعْلٍ

مُحَرَّمٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَشْفُ أَبْدَانِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ لِوَضْعِهَا عَلَيْهِ. وَالْبِدَعُ الَّتِي تُعْمَلُ هُنَاكَ كَثِيرَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِهَا. ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ زِيَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَالدُّعَاءِ فَيُقَوِّي رَجَاءَهُ فِي فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ بِأَنْ يُنْجِزَ لَهُ مَا وَعَدَهُ عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خِلَالًا ثَلَاثًا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَاغِهِ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» فَعَلَى هَذَا فَمَنْ خَرَجَ إلَيْهِ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فِيهِ لَيْسَ إلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وَقَدْ خَرَجَ إلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ فَلَمَّا أَنْ وَصَلَ إلَيْهِ صَلَّى فِيهِ وَرَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ. وَيَنْبَغِي لَهُ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَنْ يَنْوِيَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَزِيَارَةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ أَنَّهُ يَنْوِي زِيَارَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ ثَمَّ مَوْضِعُ نَبِيٍّ مَقْطُوعٌ بِهِ بَعْدَ مَوْضِعِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا مَوْضِعَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْنِي مَا دَارَ بِهِ الْبِنَاءُ فَإِنَّهُ مُحَقَّقٌ أَنَّهُ فِي دَاخِلِهِ. وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قِيلَ لَهُ فِي نَوْمِهِ ابْنِ عَلَى قَبْرِ خَلِيلِي بِنَاءً يُعْرَفُ بِهِ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ نَظَرَ فَلَمْ يَعْرِفْ الْمَكَانَ الَّذِي قِيلَ لَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قِيلَ لَهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلُهُ ثُمَّ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَقَالَ: يَا رَبِّ

لَا أَعْرِفُ الْمَوْضِعَ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَقِيلَ لَهُ إذَا خَرَجْت فَانْظُرْ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَصْعَدُ مِنْهُ النُّورُ إلَى السَّمَاءِ فَابْنِ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ نَظَرَ فَإِذَا هُوَ بِالنُّورِ الَّذِي قِيلَ لَهُ عَنْهُ قَدْ ظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَعَلَّمَ عَلَيْهِ وَبَنَتْهُ الْجَانُّ لَهُ وَلِأَجْلِ هَذَا تَرَى كُلَّ حَجَرٍ مِنْ تِلْكَ الْحِجَارَةِ قَلَّ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى حَمْلِهِ عَشْرَةٌ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ أَكْثَرُ فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ اسْتَوَى عَلَى سَرِيرِهِ وَصَعِدَتْ بِهِ الرِّيحُ إلَى أَنْ خَرَجَ مِنْ فَوْقِهِ فَلَمْ يَعْمَلْ لَهُ بَابًا يَدْخُلُ إلَيْهِ مِنْهُ وَلَا يَخْرُجُ وَكَانَ النَّاسُ إذَا أَتَوْا إلَى زِيَارَةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَزُورُونَهُ مِنْ خَارِجِ الْبِنَاءِ وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَفَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَغَيْرَهُ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ وَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الزِّيَارَةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ إلَى أَنْ تَغَلَّبَ الْفِرِنْجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَخَذُوهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَبَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ إلَى تَمَامِ خَمْسِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِ الرَّوْضَتَيْنِ فَعَمَدَ الْكُفَّارُ لَمَّا أَنْ كَانَ بِأَيْدِيهِمْ إلَى فَتْحِ بَابٍ فِي ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَجَعَلُوهُ كَنِيسَةً وَصَوَّرُوا فِي دَاخِلِ الْبِنَاءِ قُبُورًا فَيَقُولُونَ هَذَا قَبْرُ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذَا قَبْرُ إِسْحَاقَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَذَا قَبْرُ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَذَا قَبْرُ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَذَا قَبْرُ سَارَةَ ثُمَّ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِيهِمْ فِي التَّارِيخِ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرُ فَتَرَكُوا الْبَابَ عَلَى حَالِهِ مَفْتُوحًا وَاِتَّخَذُوهُ جَامِعًا وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَى الْآنَ. فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا لِمَنْ أَتَى إلَى زِيَارَةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَزُورَهُ مِنْ خَارِجِ الْبِنَاءِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْحَالُ أَوَّلًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَزُورَ مِنْ دَاخِلِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ خَطَرٌ إذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْرُ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ الْبَابِ أَوْ مَا قَابَلَهُ أَوْ مَا بَيْنَ ذَلِكَ فَيَدُوسَ عَلَيْهِ حِينَ مَشْيِهِ وَاحْتِرَامُهُ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ فَلَا يَزُورُ إلَّا مِنْ خَارِجِهِ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ هُنَاكَ فَلْيُصَلِّ خَارِجَهُ وَيَبْسُطْ شَيْئًا يُصَلِّي عَلَيْهِ إذْ أَنَّ خَارِجَهُ مَوْضِعُ الْأَقْدَامِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْخَطَرُ فِي نَفْسِ الدُّخُولِ إلَيْهِ فَمَا بَالُك بِمَا يَفْعَلُونَهُ

فِيهِ الْيَوْمَ مِنْ الْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْعَدَسِ الَّذِي يُفَرِّقُونَهُ فِيهِ هَذِهِ ضِيَافَةُ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيُفْرِدُونَهُ بِالذِّكْرِ فَقَدْ يُوهِمُ ذَلِكَ أَنَّ ضِيَافَتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَتْ بِالْعَدَسِ لَيْسَ إلَّا وَكَانَتْ ضِيَافَتُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَبْحِ الْبَقَرِ، وَهَذَا لَفْظٌ يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عَنْهُ قَائِلُهُ وَقَدْ شَاعَ هَذَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الْبِلَادِ تَسْمَعُهُمْ يُنَادُونَ عَلَى الْعَدَسِ الْمَطْبُوخِ فِي الْأَسْوَاقِ عَدَسُ الْخَلِيلِ عَدَسُ الْخَلِيلِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26] ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَحَ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْبَلُ مِنْهُ نَصِيحَتَهُ وَإِلَّا فَلْيَعْتَزِلْهُمْ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُصْغِيَ أَوْ يَنْظُرَ أَوْ يَرْضَى بِمَا يُفْعَلُ هُنَاكَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ الضَّرْبِ بِالطَّبْلِ وَالْأَبْوَاقِ وَالْمَزَامِيرِ وَيَرْقُصُ بَعْضُ النَّاسِ هُنَاكَ عِنْدَ ضَرْبِهِمْ بِهَا وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِنَوْبَةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهَذَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَمُنْكَرٌ ظَاهِرٌ تَتَعَيَّنُ إزَالَتُهُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا يَحْضُرُهُ لِئَلَّا يُشَارِكَهُمْ فِي إثْمِ مَا ارْتَكَبُوهُ وَيَذْهَبُ عَنْهُ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَمِعُ نَصِيحَتَهُ أَوْ يَرْجُو ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ. وَأَشْنَعُ مِنْ ضَرْبِهِمْ بِالطَّبْلِ وَتَصْوِيتِهِمْ بِالْمَزَامِيرِ وَالْأَبْوَاقِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. كَانَ النَّاسُ يَتَقَرَّبُونَ بِالْحَسَنَاتِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ وَجِلُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ فَانْعَكَسَ الْحَالُ وَصَارُوا يَتَقَرَّبُونَ بِالسَّيِّئَاتِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا حَسَنَاتٌ مُتَقَبَّلَةٌ مِنْهُمْ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَالْبِدَعُ الَّتِي تُفْعَلُ فِيهِ وَفِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قَلَّ أَنْ تُحْصَرَ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ فَاللَّبِيبُ الْعَاقِلُ مَنْ أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَأَنْقَذَ مُهْجَتَهُ مِنْ غَمَرَاتِ الْعَوَائِدِ الْمَذْمُومَةِ وَأَقْبَلَ عَلَى مَا يَعْنِيهِ وَمَا يَنْفَعُهُ لِيَوْمِ مَعَادِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ زِيَارَةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ الَّتِي هُنَاكَ

مَنْسُوبَةٌ إلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَذَلِكَ قُبُورُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصُّلَحَاءِ الَّذِينَ فِي طَرِيقِهِ إنْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَقًّا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْبَرَكَاتُ الْعَظِيمَةُ وَيُقَوِّي الرَّجَاءَ فِي إجَابَةِ دُعَائِهِ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ الْجَمِيلَةُ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُقِيمَ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِفَضِيلَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ إنْ سَلِمَ مِمَّا يَعْتَوِرُهُ فِيهِ وَعَجَزَ عَنْ الْإِنْكَارِ كَمَا تَقَدَّمَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَوْرَةَ أَهْلِهِ فَالسَّفَرُ إلَيْهِمْ إذَنْ مُتَعَيَّنٌ فَيَنْوِي بِالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ فِي رُجُوعِ الْعَالِمِ إلَى بَيْتِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ إذَا صَلَّى فِيهِ فَكَذَلِكَ هُنَا لَكِنَّ اسْتِحْضَارَهُ تِلْكَ النِّيَّاتِ آكَدُ لِأَجْلِ طُولِ غَيْبَتِهِ وَتَعَلُّقِ خَوَاطِرِ الْأَهْلِ بِمَا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ غَرَرِ الطَّرِيقِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ لَهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ؛ لِأَنَّهُمْ رَعِيَّتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ لِقَضَاءِ ضَرُورَاتِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَتَغَيَّرَ الْأَحْوَالُ وَلَيْسَ حُضُورُهُ كَغَيْبَتِهِ، وَإِذَا كَانَ سَفَرُهُ إلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا بِحَسَبِ الْحَالِ. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْصِدَ الرُّجُوعَ إلَى وَطَنِهِ فَيَنْوِيَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ هَدِيَّةً لِيُدْخِلَ بِهَا السُّرُورَ عَلَى أَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ وَمَعَارِفِهِ إنْ تَيَسَّرَتْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّفَهَا، وَهِيَ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَفْعَلُ حِينَ قُدُومِهِ إلَى وَطَنِهِ تِلْكَ الْآدَابَ الْمُتَقَدِّمَةَ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا مِنْ سَفَرِ الْحَجِّ جَاءَ بَعْضُ السُّفَهَاءِ فَيَضْرِبُونَ عِنْدَ بَابِهِ بِالطَّارِّ الْمُصَرْصِرِ وَالطَّبْلِ وَالْأَبْوَاقِ وَالْمَزَامِيرِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ. ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ تَحْصِيلِ عِلْمٍ وَعِبَادَةٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُجَانِسُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَسَنَاتِ إنَّمَا هُوَ ارْتِكَابُ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ الْآنَ قَدْ عُرِّيَ عَنْهَا فَهُوَ قَابِلٌ لِتَحْصِيلِ الْحَسَنَاتِ إذْ هِيَ خَفِيفَةٌ عَلَيْهِ وَثَقُلَتْ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ فَيَسْتَصْحِبُ هَذَا الْحَالَ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ فَإِنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى مَنْ تُقُبِّلَ حَجُّهُ وَيَسْتَعْمِلُ الْجَدَّ

فصل في ذكر صلاة الرغائب

وَالِاجْتِهَادَ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا سَيِّئَةَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ السَّيِّئَاتِ قَدْ غُفِرَتْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَهُوَ الْآنَ عَلَى الْحَالَةِ الْمُرْضِيَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ فَمَتَى فَجَأَهُ الْمَوْتُ وَجَدَهُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالسَّلَامَةِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ» وَقَالَ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ] ِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ. لَكِنْ اُحْتِيجَ إلَى إعَادَتِهَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ زَعَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدْعَةً، وَأَنَّ فِعْلَهَا فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً جَائِزٌ وَأَلَّفَ تَأْلِيفًا رَدَّ فِيهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهَا بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ يَسْتَدِلُّ فِيهِ بِشَيْءٍ عَلَيْهِ لَا لَهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ أَبَدًا جَارِيَةً فِيمَنْ يُحَاوِلُ إخْمَادَ سُنَّةٍ وَإِظْهَارَ بِدْعَةٍ أَنَّ كَلَامَهُ يَكُونُ مُتَنَاقِضًا مُتَبَايِنًا فَالرَّدُّ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ فَكَفَى الْغَيْرَ مُؤْنَةُ ذَلِكَ إذْ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فَكُلُّ مَا هُوَ مِنْ اللَّهِ فَهُوَ وَاحِدٌ. فَبَدَأَ فِي رَدِّهِ بِخُطْبَةٍ هَذَا نَصُّهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَبَانَ مَنَارَ الْحَقِّ وَأَنَارَهُ. وَأَزَالَ مَنْ حَادَ عَنْ سَبِيلِهِ وَأَبَارَهُ. وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَوْفَرَانِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ مَا اعْتَرَى ضِيَاءٌ ظَلَامًا فَأَغَارَهُ. سَأَلْتُمْ أَرْشَدَكُمْ اللَّهُ وَإِيَّايَ عَمَّا رَامَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ إزَالَةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَتَعْطِيلِهَا وَمَنْعِ النَّاسِ مِنْ عِبَادَةٍ اعْتَادُوهَا فِي لَيْلَةٍ شَرِيفَةٍ لَا شَكَّ فِي تَفْضِيلِهَا، وَاحْتِجَاجُهُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِهَا ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ

وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُهَا وَإِلْحَاقُهَا بِالْأَمْرِ الْمَطْرُوحِ الْمَدْفُوعِ وَغُلُوُّهُ فِي ذَلِكَ وَإِسْرَافُهُ، وَغُلُوُّ النَّاسِ فِي مُشَاقَّتِهِ وَخِلَافِهِ حَتَّى ضُرِبَ لَهُ الْمَثَلُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 10] إلَى {كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] فَرَغِبْتُمْ فِي أَنْ أُبَيِّنَ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ وَأُوَضِّحَهُ أُزَيِّفَ الزَّائِفَ مِنْهُ وَأُزَحْزِحَهُ فَاسْتَعَنْتُ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَخَرْته، وَأَوْجَزْت الْقَوْلَ فِيهِ وَاخْتَصَرْته وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. أَمَّا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ خُطْبَتِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَبَانَ مَنَارَ الْحَقِّ وَأَنَارَهُ. فَهَذَا اللَّفْظُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَهُ إقَامَةُ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَإِشَاعَتُهَا فِي الْمَسَاجِدِ فِي جَمَاعَةٍ وَكَيْفَ تَكُونُ مِنْ الْحَقِّ النَّيِّرِ الْمُبِينِ، وَهُوَ قَدْ نَقَلَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِهَا مَوْضُوعٌ، وَأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ فَهَذَا تَنَاقُضٌ فِي الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الْبَيِّنَ هُوَ الَّذِي لَا نَكِيرَ لَهُ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي أَرَادَ إثْبَاتَهَا قَدْ أَنْكَرَهَا الْعُلَمَاءُ. وَقَوْلُهُ وَأَزَالَ مَنْ حَادَ عَنْ سَبِيلِهِ وَأَبَارَهُ فَهَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُ مِنْ صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا أَنَّهَا بِدْعَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَهُوَ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ أَنْكَرُوهَا غَلِطُوا فِي ذَلِكَ وَنِسْبَةُ الْغَلَطِ إلَيْهِ أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ مَا خَالَفَ السُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ كُلُّهُ بَاطِلٌ وَالْبَاطِلُ هُوَ الزَّائِفُ الَّذِي لَا يَقُومُ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى سَاقٍ. وَقَوْلُهُ سَأَلْتُمْ أَرْشَدَكُمْ اللَّهُ وَإِيَّايَ عَمَّا رَامَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ إزَالَةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَتَعْطِيلِهَا. فَقَوْلُهُ وَتَعْطِيلِهَا، التَّعْطِيلُ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى أَمْرٍ مَشْرُوعٍ عُطِّلَ هَذَا هُوَ التَّعْطِيلُ الْمَعْرُوفُ، وَأَمَّا تَعْطِيلُ مَا أُحْدِثَ فَلَيْسَ بِتَعْطِيلٍ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ. وَقَوْلُهُ وَمَنْعِ النَّاسِ مِنْ عِبَادَةٍ اعْتَادُوهَا الْعِبَادَةُ هِيَ مَا قَرَّرَهَا الشَّرْعُ الشَّرِيفُ وَبَيَّنَهَا، وَمَا لَمْ يُقَرِّرْهُ فَلَيْسَ بِعِبَادِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ لَا يَخْلُو الْمَانِعُ لَهَا إمَّا أَنْ يَمْنَعَهَا لِكَوْنِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ مَوْضُوعًا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيَمْنَعُهَا أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ عِنْدَهُ ضَعِيفًا فَيَمْنَعُهَا جَمَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ

وَالْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ مَا لَمْ يَتَّخِذْهَا عَادَةً لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَضِدِّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: اعْتَادُوهَا فَهَذَا رَدٌّ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَمْ تُشْرَعْ قَطُّ بِالْعَادَةِ إلَّا مَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَصَلَاةُ الرَّغَائِبِ لَمْ يَرِدْ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَامَهُ شَرْعٌ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْجَمَاعَةِ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ فِي مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ يُقَدِّمُونَ وَاحِدًا يُصَلِّي بِهِمْ جَمَاعَةً إنَّ ذَلِكَ يُمْنَعُ إنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثٌ فِي الدِّينِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَنْعُ فِي حَقِّهِمْ وَهُمْ لَمْ يَزِيدُوا وَلَمْ يُنْقِصُوا فِي التَّنَفُّلِ الْمَشْرُوعِ شَيْئًا إلَّا أَنَّهُمْ أَوْقَعُوا صَلَاةَ النَّافِلَةِ جَمَاعَةً فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ فَكَيْفَ بِهِمْ فِي مَنْعِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ رَأَيْت الصَّحَابَةَ يَتَوَضَّئُونَ إلَى الْكُوعَيْنِ لَفَعَلْت كَفِعْلِهِمْ وَإِنْ كُنْت أَقْرَؤُهَا إلَى الْمَرَافِقِ؛ لِأَنَّهُمْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ وَأَحْرَصُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُتَّهَمُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَلَا يَظُنُّ ذَلِكَ بِهِمْ إلَّا ذُو رِيبَةٍ فِي دِينِهِ أَوْ كَمَا قَالَ فَكُلُّ مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ إذَا فُعِلَ بَعْدَهُمْ كَانَ نَقْصًا فِي الدِّينِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ رَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَشْرُوعِيَّتَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَامَهُ بِالْعَادَةِ لَا بِالشَّرْعِ. وَقَوْلُهُ: فِي لَيْلَةٍ شَرِيفَةٍ لَا شَكَّ فِي تَفْضِيلِهَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهَا لَيْلَةٌ شَرِيفَةٌ لَا شَكَّ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ فِيهَا بِالْعَادَةِ بَلْ يُعَظِّمُهَا الْمُكَلَّفُ بِالِامْتِثَالِ لَا بِالِابْتِدَاعِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَقَدْ بَيَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا تَفْعَلُهُ أُمَّتُهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ وَأَيْضًا فَيَسَعُنَا فِيهَا مَا وَسِعَ السَّلَفَ إنْ كُنَّا صَالِحِينَ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الشَّعَائِرِ وَاحْتِرَامَهَا عَنْهُمْ يُؤْخَذُ وَمِنْهُمْ يُتَلَقَّى لَا بِمَا سَوَّلَتْ لَنَا أَنْفُسُنَا وَمَضَتْ عَلَيْهَا عَادَتُنَا؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ

الشَّرْعُ الشَّرِيفُ فَهُوَ الَّذِي يُتَّبَعُ لَا الْعَوَائِدُ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ. قَوْلُهُ وَاحْتِجَاجُهُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِهَا ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ. فَهَذَا أَيْضًا يُبَيِّنُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَيْفَ يَرُومُ إثْبَاتَهُ وَالتَّقَرُّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُهَا وَإِلْحَاقُهَا بِالْأَمْرِ الْمَطْرُوحِ الْمَدْفُوعِ قَدْ تَقَدَّمَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِهَا مَوْضُوعًا أَوْ ضَعِيفًا فَمَنْ طَرَحَهَا وَأَنْكَرَهَا لَمْ يَسْتَنِدْ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ وَلَا لَفِعْلِهِ بَلْ لِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ فِي الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ وَقَوْلُهُ وَغُلُوُّهُ فِي ذَلِكَ وَإِسْرَافُهُ. هَذَا الَّذِي قَالَهُ لَفْظٌ قَبِيحٌ شَنِيعٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّ عَامَّةِ النَّاسِ فَكَيْفَ بِصُلَحَائِهِمْ وَخِيَارِهِمْ فَكَيْفَ بِالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ مِنْهُمْ وَلَفْظُ الْغُلُوِّ يُسْتَعْمَلُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الشَّيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [النساء: 171] فَاَللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ فَقَالُوا ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فَزَادُوا مَا كَفَرُوا بِهِ مِنْ ذِكْرِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ فَغَلَوْا فِي دِينِهِمْ فَمَنْ زَادَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الْغُلُوِّ بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَ الْبِدْعَةَ وَذَمَّهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَزِدْ شَيْئًا عَلَى مَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْرِفِينَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّ أَنْ يُطْلِقَ هَذَا اللَّفْظَ فِي حَقِّ مَنْ ذَبَّ عَنْ السُّنَّةِ وَحَمَاهَا أَسْأَلُ اللَّهُ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لُحُومُ الْعُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ وَعَادَةُ اللَّهِ فِيمَنْ آذَاهُمْ أَبَدًا مَعْلُومَةٌ. وَكَيْفَ لَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ النَّاصِرُ لَهُمْ وَالْمُقَاتِلُ عَنْهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] أَيْ إنْ تَنْصُرُوا دِينَهُ وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] فَضَمِنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَصْرَهُ مَنْ نَصَرَ دِينَهُ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ» أَوْ كَمَا قَالَ

- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ بَذَاءَةِ اللِّسَانِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ فِي حَقِّ آحَادِ عَامَّةِ النَّاسِ فَكَيْفَ بِهَا فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَمْ يُنْكِرُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بَلْ إنَّهُمْ مُسْتَنِدُونَ فِي ذَلِكَ لِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَلِاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذْ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَمْ تُعْرَفْ عِنْدَهُمْ حَتَّى حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ كَمَا وَافَقَ عَلَيْهِ وَقَرَّرَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَوْ كَانَتْ مِنْ الدِّينِ لَمْ تَتَأَخَّرْ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَللَّهِ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا وَلَقَدْ فُقْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عِلْمًا وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمْ لِلذِّكْرِ جَمَاعَةً فَمَا بَالُك بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي جَعَلُوهُ شِعَارًا ظَاهِرًا فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَنْهَوْا عَنْهُ وَيَزْجُرُوا فَاعِلَهُ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ لَنْ يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأَمَةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا. وَقَوْلُهُ: وَغُلُوُّ النَّاسِ فِي مُشَاقَّتِهِ وَخِلَافِهِ هَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ وَغَيْرَهُمْ قَدْ خَالَفُوا الْقَائِلَ بِأَنَّهَا بِدْعَةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا هُمْ الْعُلَمَاءُ فَقَدْ كَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْت النَّاسَ وَرَأَيْت النَّاسَ وَمَا هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ يَعْنِي بِهِ الْعُلَمَاءَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ وَغَيْرُهُ إنَّمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَةَ النَّاسِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا عِبْرَةَ بِمُشَاقَّةِ غَيْرِهِمْ إذْ لَوْ اُعْتُبِرَ قَوْلُ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ أَوْ عَادَتُهُمْ لَكَانَ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِمَعَالِمِ الشَّرِيعَةِ وَنَسْخٌ لَهَا، وَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَحْفُوظَةٌ إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ حَتَّى ضُرِبَ لَهُ الْمَثَلُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 10] إلَى {كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى كَيْفِيَّةِ اسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ يَرُدُّ بِهَا عَلَى عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَصُلَحَائِهِمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبِدَعَ وَالْمُحْدَثَاتِ وَيَذُبُّونَ عَنْ الدِّينِ فَلَوْ عَلِمَ هَذَا الْقَائِلُ مَا وَقَعَ فِيهِ لَمَا تَكَلَّمَ بِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. ثُمَّ إنَّ النَّهْيَ مَا وَرَدَ

إلَّا فِي حَقِّ مَنْ نَهَى عَنْ الصَّلَوَاتِ الْمَشْرُوعَةِ الْمُقَرَّرَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَأَمَّا مَنْ نَهَى عَنْ الْبِدْعَةِ وَأَنْكَرَهَا فَهُوَ مَحْمُودٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ مَشْكُورٌ عَلَى سَعْيِهِ. لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ» ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فَمَنْ عَدَّلَهُ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ كَيْفَ يُدْخِلُهُ هَذَا الْقَائِلُ فِي الذَّمِّ الَّذِي جَاءَ فِي أَبِي جَهْلٍ وَأَشْبَاهِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. وَقَوْلُهُ: فَرَغِبْتُمْ فِي أَنْ أُبَيِّنَ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ وَأُوَضِّحَهُ وَأُزَيِّفَ الزَّائِفَ مِنْهُ وَأُزَحْزِحَهُ. فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي إقَامَتِهَا وَإِشَاعَتِهَا وَأَنَّ الْبَاطِلَ فِي رَدِّهَا وَإِنْكَارِهَا فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَنْقِيصُ مَنْ مَضَى مِنْ صَدْرِ الْأُمَّةِ وَسَلَفِهَا الصَّالِحِ وَتَزْكِيَةُ مَنْ أَحْدَثَ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ إذْ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ فَاتَتْهُمْ فَضِيلَةُ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَظُنَّ هَذَا أَحَدٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وَقَوْلُهُ: فَاسْتَعَنْت بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاسْتَخَرْته. اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ كَيْفَ يَسْتَعِينُ وَيَسْتَخِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ لَا تَكُونُ فِي وَاجِبٍ وَلَا مُحَرَّمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ عَلَى مَا مَضَى مِنْ بَيَانِهَا، وَهَذَا قَدْ اسْتَعَانَ وَاسْتَخَارَ فِي شَيْءٍ يَلْزَمُهُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى السَّلَفِ الْمَاضِينَ وَعَلَى مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ مِمَّنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى إنْكَارِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي الدِّينِ. وَقَوْلُهُ: وَأَوْجَزْت الْقَوْلَ فِيهِ وَاخْتَصَرْته. فَهَذَا اللَّفْظُ فِيهِ إيهَامٌ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ أَوْ طَالَعَهُ إذْ إنَّهُ يُشْعِرُ أَنَّ لَهُ أَدِلَّةً كَثِيرَةً عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَامَهُ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَعَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَنْ تَعَرَّضَ الرَّدَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْجُلَّةِ يَحْتَاجُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَقْوَى الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ وَأَعْظَمِهَا

لِكَيْ يَحْصُلَ لَهُ مَا رَامَهُ أَوْ بَعْضُهُ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. فَقَوْلُهُ: وَأَوْجَزْت الْقَوْلَ فِيهِ وَاخْتَصَرْته فِيهِ مَا فِيهِ. وَقَوْلُهُ عَقِبَ خُطْبَتِهِ: فَأَقُولُ إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ شَاعَتْ بَيْنَ النَّاسِ بَعْدَ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَلَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ. فَلَفْظُهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ لِنَقْلِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ وَلَمْ تُعْرَفْ قَبْلَهُ وَشَيْءٌ هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَقَدْ وَرَدَ «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: شَاعَتْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَيْنَ النَّاسِ فَيَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِلَفْظَةِ النَّاسِ الْعُلَمَاءَ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْعُلَمَاءِ فِي إطْلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا سَبَقَ. فَإِنْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ أَنْكَرُوهَا وَعَدُّوهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الْمُنْكَرَةِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْعَوَامَّ لَيْسَ إلَّا فَالْعَوَامُّ لَا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي شَيْءٍ. وَإِنْ كَانَ أَرَادَهُمَا مَعًا، فَلَا يَصِحُّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إنْكَارِ الْعُلَمَاءِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَوَامُّ وَلَا عِبْرَةَ بِهِمْ كَمَا سَبَقَ وَقَوْلُهُ وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَنْشَأَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ صَانَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَهَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ إذْ أَنَّ مَبْدَأَ فِعْلِهَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ دُونَ غَيْرِهِ وَالْبُقَعُ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَهَا فَضِيلَةٌ فِي نَفْسِهَا، فَلَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِيمَا حَدَثَ فِيهَا وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ. وَقَدْ حَفِظَهَا اللَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَدْ حَدَثَتْ فِيهِمَا أُمُورٌ مَعْرُوفَةٌ يَأْبَاهَا الشَّرْعُ الشَّرِيفُ وَلَا يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَالتَّشْرِيعُ لَا يَكُونُ بِفَضِيلَةِ الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ وَلَا الْأَزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ وَشَرَفِهِمَا. إنَّمَا يُتَلَقَّى عَنْ الشَّارِعِ بِنَصِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ إنَّ مُنْشَأَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى عَمَلِهَا وَإِثْبَاتِهَا فَمَا تَقَدَّمَ هُوَ جَوَابُهُ. وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْهَا أَنَّهَا حَدَثَتْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ الدِّينِ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ آخَرَ. وَقَوْلُهُ وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِهَا بِعَيْنِهَا وَخُصُوصِهَا ضَعِيفٌ سَاقِطُ الْإِسْنَادِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ

ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَوْضُوعٌ وَذَلِكَ الَّذِي نَظُنُّهُ وَمِنْهُمْ مِنْ يَقْتَصِرُ عَلَى وَصْفِهِ بِالضَّعْفِ وَلَا تُسْتَفَادُ لَهُ صِحَّةٌ مِنْ ذِكْرِ رَزِينِ بْنِ مُعَاوِيَةَ إيَّاهُ فِي كِتَابِهِ فِي تَحْرِيرِ الصِّحَاحِ وَلَا مِنْ ذِكْرِ صَاحِبِ كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ فِيهِ وَاعْتِمَادُهُ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِمَا مِنْ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَإِيرَادِ رَزِينٍ مِثْلَهُ فِي مِثْلِ كِتَابِهِ مِنْ الْعَجَبِ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى اعْتِرَافِهِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ بِهَا ضَعِيفٌ سَاقِطُ الْإِسْنَادِ مَعَ قَوْلِهِ إنَّهُ مَوْضُوعٌ وَإِلَى مُنَاقَشَتِهِ لِرَزِينٍ فِي كَوْنِهِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ وَتَعَجُّبِهِ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ قَالَهُ الْعُلَمَاءُ. وَقَوْلُهُ ثُمَّ إنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ضَعْفِ الْحَدِيثِ بُطْلَانُ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَالْمَنْعُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ مُطْلَقِ الْأَمْرِ الْوَارِدِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ فَهِيَ إذَنْ مُسْتَحَبَّةٌ بِعُمُومِ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِاسْتِحْبَابِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ وَمِنْهَا مَا رَوَيْنَاهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الصَّلَاةُ نُورٌ» وَمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ وَلَهُ طُرُقٌ صِحَاحٌ. وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ نَسَبَ الْحَدِيثَ إلَى ابْنِ مَاجَهْ وَقَدْ خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الْمُوَطَّإِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْحُفَّاظِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ. ثُمَّ. إنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَا رَامَهُ وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] وَالصَّلَاةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تُطْلَقُ عَلَى الدُّعَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أَيْ: اُدْعُ لَهُمْ وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فَهَذَا أَيْضًا أَمْرٌ مُطْلَقٌ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَيَلَانِ وَالِانْحِنَاءِ. تَقُولُ الْعَرَبُ سَجَدَ الظِّلُّ إذَا مَالَ وَسَجَدَتْ النَّخْلَةُ إذَا مَالَتْ فَلَوْ تُرِكْنَا مَعَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِالصَّلَاةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ بَيَانٍ لَمْ نَعْرِفْ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مَا هِيَ فَلَمَّا بَيَّنَهَا صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلِمْنَا حَقِيقَةَ ذَلِكَ وَتَفْصِيلَهُ قَالَ

تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ بَيَّنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَلَّمَهُ وَنُقِلَ عَنْهُ وَتَقَرَّرَ وَلَيْسَتْ صَلَاةُ رَجَبٍ مِنْ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَا بُدَّ أَنْ تُتَلَقَّى مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِمِثْلِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَوْ الْكُسُوفِ أَوْ الِاسْتِسْقَاءِ أَوْ الْخَوْفِ أَوْ الْجِنَازَةِ. هَذَا، وَهُوَ قَدْ فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَيْفَ الْأَمْرُ فِي شَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا قَرَّرَهُ بَلْ إنَّمَا حَدَثَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ عَلَى مَا سَبَقَ فَيَتَعَيَّنُ الْمُكَلَّفُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي التَّنَفُّلِ عَلَى مَا تَنَفَّلَ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَقَدْ سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ بَعَثَ إلَيْنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ. وَقَوْلُهُ: وَأَخُصُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَمْ يَضَعْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» فَهَذَا مَخْصُوصٌ بِمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً دَاخِلَةٌ فِي عِشْرِينَ رَكْعَةً وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ تُوجِبُ نَوْعِيَّةً وَخُصُوصِيَّةً غَيْرَ مَانِعَةٍ مِنْ الدُّخُولِ فِي هَذَا الْعُمُومِ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ أَنَّهُ لَمْ فَلَوْ لَمْ يُرِدْ إذْنَ حَدِيثٍ أَصْلًا بِصَلَاةِ الرَّغَائِبِ بِعَيْنِهَا وَوَصْفِهَا لَكَانَ فِعْلُهَا مَشْرُوعًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ اهـ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِأَوْقَاتِهَا وَأَسْمَائِهَا وَصِفَاتِهَا وَحُدُودِهَا وَلَا مَدْخَلَ لِصَلَاةِ رَجَبٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ عَلَى مَا سَبَقَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ كَيْفَ اسْتَدَلَّ لِجَوَازِ فِعْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِأَنَّ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً دَاخِلَةٌ فِي عِشْرِينَ رَكْعَةً فَرَدَّ الْأَمْرَ إلَى الْحِسَابِ وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَوَاتِ

إذْ أَنَّهَا تَعَبُّدٌ مَحْضٌ وَالْحِسَابُ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْمَوَارِيثِ وَمَا شَاءَ كُلُّهَا. مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ صَلَّى بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ» فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْعَدَدِ وَمَعَ هَذَا فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْقًا، وَهُوَ اخْتِلَافُ النِّيَّتَيْنِ إذْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَنَفَّلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إنَّمَا يَنْوِي النَّافِلَةَ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهَا وَصَلَاةُ رَجَبٍ لَهَا نِيَّةٌ تَخُصُّهَا وَصِفَةٌ تَخُصُّهَا وَاسْمٌ يَخُصُّهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ فَإِذَا تَنَفَّلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ عَادَةٌ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَادَةٌ مَضَى عَلَى عَادَتِهِ فِي جَمِيعِ السُّنَّةِ مَا لَمْ يَجْمَعْ لَهَا فِي الْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا أَوْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ وَتَنَفَّلَ التَّنَفُّلَ الْمَعْهُودَ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عَلَى بَابِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ وَصَلَّى فِي بَيْتِهِ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ فَذًّا أَوْ جَمَاعَةً فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَدِيثِ فِيهَا هَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ أَوْ ضَعِيفٌ فَعَلَى ضَعْفِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ مَا لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِعْلُهَا فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا أَوْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ فَبِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَفِعْلُهَا فِي الْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا أَوْ الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ شِعَارٌ ظَاهِرٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ يُعَيِّنُهُ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّلَوَاتِ. ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا رَغَّبَ فِي التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِالْحَدِيثِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ صَلَاةَ رَجَبٍ وَلَا تَعَرَّضَ لَهَا وَلَا فَهِمَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ هَذَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحِسَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ يُوجِبُ نَوْعِيَّةً وَخُصُوصِيَّةً غَيْرَ مَانِعَةٍ مِنْ الدُّخُولِ فِي هَذَا الْعُمُومِ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْتَاجُ إلَى التَّوْقِيفِ عَلَى بَيَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَإِذَا افْتَقَرَتْ إلَى ذَلِكَ فَأَوْصَافُهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ تَفْتَقِرَ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ فَالْأَذْكَارُ الَّتِي فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ قَدْ جَاءَتْ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ

فَالْجَوَابُ أَنَّهَا، وَإِنْ جَاءَتْ فَفِعْلُهَا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي تَشْرِيعٍ وَشَعَائِرَ ظَاهِرٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْأَمْرِ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ عَدَمِ دُخُولِهَا فِيهِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْعُمُومُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ إذْ أَنَّ ذَاتَ الشَّيْءِ إذَا لَمْ تَدْخُلْ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى صِفَتُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَوْ لَمْ يُرِدْ إذْنَ حَدِيثٍ أَصْلًا بِصَلَاةِ الرَّغَائِبِ بِعَيْنِهَا وَوَصْفِهَا لَكَانَ فِعْلُهَا مَشْرُوعًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ. قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي عُمُومِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ ذَاتُهَا فَمَا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى فَبَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ كَمَا ذَكَرَ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فَلَا يُنْكَرُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَوْلُهُ وَكَمْ مِنْ صَلَاةٍ مَقْبُولَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى وَصْفٍ خَاصٍّ لَمْ يَرِدْ بِوَصْفِهَا ذَلِكَ نَصٌّ خَاصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ثُمَّ لَا يُقَالُ إنَّهَا بِدْعَةٌ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهَا بِدْعَةٌ لَقَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ لِكَوْنِهَا رَاجِعَةً إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ بِوَاقِعٍ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا بَيَّنَهَا الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَبَيَّنَ أَوْقَاتَهَا وَأَسْمَاءَهَا وَجَمِيعَ صِفَاتِهَا حَتَّى الْقِرَاءَةَ فِيهَا فَمَا زَادَ عَلَى بَيَانِهِ فَهُوَ حَدَثٌ فِي الدِّينِ فَإِذَا أَتَى الْمُصَلِّي بِذَلِكَ كُلِّهِ حَكَمَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْقَبُولِ أَوْ الرَّدِّ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمَا وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَشْرُوعَةُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الدِّينِ فَمَا بَالُك بِصَلَاةٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ فِيهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَالضَّلَالَةُ لَا تَكُونُ مُتَقَبَّلَةً. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا قَالَ لَهُ هَنِيئًا لَك يَا أَبَتِ تَصَدَّقْت الْيَوْمَ بِكَذَا وَكَذَا فَقَالَ لَهُ: وَاَللَّهِ لَوْ عَلِمَ أَبُوك أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَقَبَّلَ مِنْهُ حَسَنَةً وَاحِدَةً مَا كَانَ شَيْءٌ أَشْهَى لَهُ مِنْ الْمَوْتِ. هَذَا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْقَبُولِ الْقَبُولَ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى، وَأَمَّا إنْ كَانَ مُرَادُهُ الْقَبُولَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَالْعُلَمَاءُ لَا يَقْبَلُونَ إلَّا مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ الْمُقْتَدَى بِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَكَلَامُهُ مَرْدُودٌ وَالْبِدْعَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَا اخْتَرَعَهُ الْمَرْءُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ غَيْرُهُ فَإِذَا صَلَّى صَلَاةً لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ إلَّا مِنْ بَيَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَنْ فَعَلَهَا وُصِفَ فِعْلُهُ بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهَا بِدْعَةٌ لَقَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْغَفْلَةِ مَا أَشَدَّهَا؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ فَحَكَمَ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَمَنْ زَادَ وَصْفًا عَلَى الصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ فَقَدْ زَادَ عَلَى فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالزِّيَادَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَقَلُّ مَرَاتِبِهِ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا وَالْمَكْرُوهُ ضِدُّ الْحَسَنِ فَكَيْفَ يَحْكُمُ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ يَصِفُهَا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً حَسَنَةً. وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ الْبِدْعَةَ الْحَسَنَةَ مِثْلُ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَقَالُوا فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ إنَّهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَأَنْكَرُوهَا إنْكَارًا شَدِيدًا. حَتَّى أَنَّ مَنْ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ هَذَا الْقَائِلِ، وَهُوَ الْإِمَامُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْكَرَهَا إنْكَارًا شَدِيدًا فِي فَتَاوِيه، وَهَذَا لَفْظُهَا. قَالَ: مَسْأَلَةٌ: صَلَاةُ الرَّغَائِبِ الْمَعْرُوفَةِ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَوْ فَضِيلَةٌ أَوْ بِدْعَةٌ. الْجَوَابُ هِيَ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ مُنْكَرَةٌ أَشَدَّ إنْكَارٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى مُنْكَرَاتٍ فَعُيِّنَ تَرْكُهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا، وَإِنْكَارُهَا عَلَى فَاعِلِهَا وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْعُ النَّاسِ مِنْ فِعْلِهَا فَإِنَّهُ رَاعٍ وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَقَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ كُتُبًا فِي إنْكَارِهَا وَذَمِّهَا وَتَسْفِيهِ فَاعِلِهَا وَلَا يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْفَاعِلِينَ لَهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْبُلْدَانِ وَلَا بِكَوْنِهَا مَذْكُورَةً فِي قُوتِ الْقُلُوبِ وَإِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَحْدَثَ

فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مِنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرُّجُوعِ إلَى كِتَابِهِ فَقَالَ تَعَالَى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وَلَمْ يَأْمُرْنَا بِاتِّبَاعِ الْجَاهِلِينَ وَلَا بِالِاغْتِرَارِ بِغَلَطَاتِ الْمُخْطِئِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِكَوْنِهَا رَاجِعَةً إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَوْقِيفِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْخُرُوجِ إلَيْهَا وَالتَّكْبِيرِ فِيهَا وَكَذَلِكَ بَيَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَصَلَاةَ الْخَوْفِ وَالرَّوَاتِبِ مَعَ الصَّلَوَاتِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالِاسْتِخَارَةِ وَالتَّهَجُّدِ وَصَلَاةَ الْمَرِيضِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَبَيَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَمِيعَ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وَأَوْضَحَهَا بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا وَلَا يُنْقِصَ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِدْعَةً مَمْنُوعَةً فَأَوْلَى بِالْمَنْعِ إذَا أُحْدِثَتْ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ تَسْمِيَةٌ وَوَقْتٌ خَاصٌّ هِيَ بِهَا وَصَارَتْ شِعَارًا ظَاهِرًا شَائِعًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا إلَّا فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ يَفْتَقِرُ اسْتِحْبَابُهَا إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُسْتَقِلٍّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ إقَامَتِهَا جَمَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ. وَقَوْلُهُ وَمِنْ أَمْثَالِ هَذَا مَا إذَا صَلَّى إنْسَانٌ فِي جُنْحِ اللَّيْلِ خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ آيَةً فَآيَةً مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً عَلَى التَّوَالِي وَخَصَّ كُلَّ رَكْعَةٍ مِنْهَا بِدُعَاءٍ خَاصٍّ فَهَذِهِ صَلَاةٌ مَقْبُولَةٌ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ صَلَاةٌ مُبْتَدَعَةٌ مَرْدُودَةٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَوْ وَضَعَ أَحَدٌ حَدِيثًا بِإِسْنَادٍ رَوَاهَا بِهِ لَأَبْطَلْنَا الْحَدِيثَ وَأَنْكَرْنَاهُ وَلَمْ نُنْكِرْ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا شَوَاهِدُ وَنَظَائِرُ لَا تُحْصَى مِنْ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَقَالَ عَنْهَا

إنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَكَفَى غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ: مُؤْنَةَ الرَّدِّ عَلَيْهِ إذْ أَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَالْبِدْعَةُ مَكْرُوهَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَهَذِهِ صَلَاةٌ مَقْبُولَةٌ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ وَكَمْ مِنْ صَلَاةٍ مَقْبُولَةٍ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَيُحْسِنَ النِّيَّةَ مَا اسْتَطَاعَ وَيَتَّبِعَ السُّنَّةَ فِي عَمَلِهِ وَيَرْجُو بَعْدَ ذَلِكَ الْقَبُولَ مِنْ فَضْلِ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ بِفَضْلِهِ أَنَّ مَنْ أَطَاعَهُ وَاتَّبَعَ أَمْرَهُ وَاجْتَنَبَ نَهْيَهُ تَقَبَّلَ مِنْهُ وَنَجَّاهُ، وَأَمَّا إنْ فَعَلَ فِعْلًا لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ فِعْلَ هَذَا حَدَثٌ وَالْحَدَثُ فِي الدِّينِ مَمْنُوعٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ رَأَيْت الصَّحَابَةَ يَتَوَضَّئُونَ إلَى الْكُوعَيْنِ لَتَوَضَّأْت كَذَلِكَ، وَإِنْ كُنْت أَقْرَؤُهَا إلَى الْمَرَافِقِ. وَعَلَى هَذَا دَرَجَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فَمَنْ ادَّعَى غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِهِمْ وَفِعْلِهِمْ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَكَانُوا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَمْتَثِلُونَ السُّنَّةَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَيَخَافُونَ مَعَ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْخَوْفُ عَلَى الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَفْضَلُ مِنْ الْعَمَلِ، وَهَذَا الْقَائِلُ قَدْ ذَكَرَ صُورَةً لَمْ تَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَجَعَلَهَا دَلِيلًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَا رَامَهُ مِنْ صِحَّةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَقَرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ آيَةً فَآيَةً مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً. فَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مَكْرُوهًا فِي صَلَاتِهِ مُسْتَدِلًّا بِفِعْلِ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ إلَى قِصَّةِ مُوسَى وَهَارُونَ أَخَذَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُعْلَةٌ فَرَكَعَ وَلَمْ يَقْرَأْ بِبَعْضِ سُورَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ السُّورَةِ لِلْعُذْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ فَمَا بَالُك بِآيَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخْتَارُهَا فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ وَأَيْنَ الِاتِّبَاعُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَوْ وَضَعَ لَهَا أَحَدٌ حَدِيثًا بِإِسْنَادٍ رَوَاهَا بِهِ لَأَبْطَلْنَا الْحَدِيثَ وَأَنْكَرْنَاهُ وَلَمْ نُنْكِرْ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي

صَلَاةِ الرَّغَائِبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ، وَهُوَ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي التَّنَفُّلِ الَّتِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا فِعْلُهُ وَقَوْلُهُ وَأَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ زَادَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ سَهْوًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِلْجُلُوسِ مَا لَمْ يَرْكَعْ فَإِنْ رَكَعَ مَضَى فِي صَلَاتِهِ حَتَّى يُتِمَّهَا أَرْبَعًا وَيَسْجُدَ قَبْلَ السَّلَامِ فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ وَقَامَ إلَى خَامِسَةٍ سَهْوًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مَتَى ذَكَرَ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ أَكْثَرَ مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ فَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ. أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَنْ «خَرَجَ مَعَ صَفِيَّةَ لَيْلًا فَمَرَّ بِهِ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْرَعَا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيت أَنْ يَقْذِفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا أَوْ قَالَ شَيْئًا» . فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ أَحَدُهُمَا عِصْمَتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْأَصْلُ الثَّانِي قُوَّةُ إيمَانِ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمَا مَا الْحَالُ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ كَافِيًا لَمْ يَحْتَجْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمَا ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِهَذَا شَوَاهِدُ وَنَظَائِرُ لَا تُحْصَى مِنْ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَوَابِ عَنْهَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الشَّوَاهِدِ وَالنَّظَائِرِ الَّتِي قَالَ عَنْهَا وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ أَعْنِي عَلَى مُقْتَضَى الِاتِّبَاعِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَنْقُولَةٌ مَحْفُوظَةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ وَلَا قِيَاسِيَّةٌ. نَعَمْ الْفُقَهَاءُ يُعَلِّلُونَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَمَّا أَنْ يَخْتَرِعَ الْإِنْسَانُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ شَيْئًا وَيُعَلِّلَهُ بِعَقْلِهِ فَبَعِيدٌ عَنْ وَجْهِ الصَّوَابِ غَيْرُ مَعْقُولٍ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ. عَلَى أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى أَصْلٍ مِنْ

الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيهِ فَتْحُ بَابٍ عَظِيمٍ لِاسْتِحْسَانِ الْبِدَعِ وَالزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ إذْ أَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا يَسْتَنِدُ لِهَذَا الْقَوْلِ فَيُعَلِّلُ مَا اسْتَحْسَنَهُ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَا وَإِنِّي قَدْ بَلَّغْت مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَأَكْثَرَ» عَلَى هَذَا فَالْأَصْلُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ بَيَّنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى بَيَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ، فَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِهِ مُتَعَيِّنٌ وَلَا يُطَالَبُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ بِدَلِيلٍ غَيْرِهِ فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ صَلَاةً أَوْ شِعَارًا فَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذُكِرَ فِيهَا مَعَ ضَعْفِهِ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ صَدْرِ الْأُمَّةِ فَهِمَ أَنْ يُجْمَعَ لَهَا وَلَا أَنْ تُعْمَلَ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ إلَى الْقَرْنِ الْخَامِسِ وَشَيْءٌ لَمْ يُوجَدْ مِنْ هَؤُلَاءِ فَاطِّرَاحُهُ مُتَعَيِّنٌ. وَقَدْ بَيَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَمِيعَ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَكَيْفِيَّتَهَا وَوَقَّتَ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَتَغَيَّرُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ وَلَا يُنْقِصَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ. وَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ كَافِيًا كَمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ لَمَا دَعَتْ حَاجَةٌ إلَى بَيَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُلَّ صَلَاةٍ عَلَى حِدَتِهَا وَمَا تَخْتَصُّ بِهِ وَمَا يَنُوبُ الْمَرْءُ فِيهَا، وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ النَّفْسَ مِنْ طَبْعِهَا أَنَّهَا لَا تُرِيدُ الدُّخُولَ تَحْتَ الْأَحْكَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى تَمَرُّدِهِ فِي كُفْرِهِ لَا يُنَازِعُ الرُّبُوبِيَّةَ وَالنَّفْسَ تُنَازِعُهَا فَكُلُّ فِعْلٍ كَانَتْ بِهِ مَأْمُورَةً لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِمُجَاهِدَةٍ قَوِيَّةٍ بِخِلَافِ مَا تَبْتَدِعُهُ وَتُحْدِثُهُ مِنْ قِبَلِهَا، فَإِنَّهَا تَنْشَطُ فِيهِ وَتَتَحَمَّلُ الْمَشَقَّةَ وَالْخَطَرَ لِكَوْنِهَا آمِرَةً غَيْرَ مَأْمُورَةٍ، وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُهَا فِيهِ التَّعَبُ، فَإِنَّهُ حُلْوٌ عِنْدَهَا بِسَبَبِ أَنَّهَا آمِرَةٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتْ الْعِبَادَةُ بِالْعَادَةِ، وَلَا بِالِاسْتِحْسَانِ، وَلَا بِالِاخْتِيَارِ، وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ

إلَى امْتِثَالِ أَمْرِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ بَيَانِ رَسُولِهِ الْمَعْصُومِ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَحَيْثُ مَشَى مَشَيْنَا وَحَيْثُ وَقَفَ وَقَفْنَا، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إلَى مَا اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ وَأَفَادُوهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَدِيثِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَدْخَلٌ. اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بِكَرَمِك يَا كَرِيمُ وَأَيْضًا فَمَا حَدَثَ بَعْدَ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلِمُوهُ وَعَلِمُوا أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إذْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَنْقِيصُهُمْ وَتَفْضِيلُ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَشَدُّهُمْ اتِّبَاعًا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلِمُوهُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ لَمْ يَتْرُكُوا إلَّا لِمُوجِبٍ أَوْجَبَ تَرْكَهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ فِعْلُهُ هَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لَمْ يَعْلَمُوهُ فَيَكُونَ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ بَعْدَهُمْ أَعْلَمَ مِنْهُمْ وَأَفْضَلَ وَأَعْرَفَ بِوُجُوهِ الْبِرِّ وَأَحْرَصَ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَعَلِمُوهُ وَلَظَهَرَ لَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَعْقَلُ النَّاسِ وَأَعْلَمُهُمْ. وَقَدْ قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عُقُولُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ أَزْمِنَتِهِمْ. وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إشْكَالٌ فِي الدِّينِ، وَلَا فِي الِاعْتِقَادَاتِ لِوُفُورِ عُقُولِهِمْ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الشُّبَهُ بَعْدَهُمْ لَمَّا خَالَطَتْ الْعُجْمَةُ الْأَلْسُنَ فَلِنُقْصَانِ عُقُولِ مَنْ بَعْدَهُمْ عَنْ عُقُولِهِمْ وَقَعَ مَا وَقَعَ. وَقَوْلُهُ وَاَلَّذِي يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ أَنَّهُ كَذَلِكَ أُمُورٌ نَذْكُرُهَا وَنُبَيِّنُ بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ كَوْنَهَا سَالِمَةً مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَحَدُهَا: مَا فِيهَا مِنْ تَكْرَارِ السُّورَةِ وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْمُنْكَرِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ تَكْرَارُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ هِيَ فَإِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ نَعُدُّهُ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْمُنْكَرِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ قَوِيٍّ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنْ كَرَاهَةِ نَحْوِ ذَلِكَ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأُولَى، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ قَدْ أُطْلِقَتْ عَلَى مَعَانٍ وَذَلِكَ أَحَدُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ وُقُوعِ التَّوَهُّمِ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هِيَ مَسَائِلُ عَدِيدَةٌ صَحِيحَةٌ خَالَفَ فِيهَا نَقْلَ الْعُلَمَاءِ فَبَدَأَ بِتَكْرَارِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى فِعْلِهَا بِمَا وَرَدَ فِي

الْحَدِيثِ مِنْ تَكْرَارِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَالُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ إنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ يُكَرِّرُهَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَحْفَظُ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَانُوا لَا يُكَرِّرُونَهَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِفَضِيلَتِهَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَكْرَارِ السُّورَةِ لِحَافِظِ الْقُرْآنِ. وَسُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ قِرَاءَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مِرَارًا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلَّذِي يَحْفَظُ الْقُرْآنَ أَنْ يُكَرِّرَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِرَارًا لِئَلَّا يُعْتَقَدَ أَنَّ أَجْرَ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَأَجْرِ مَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَأْوِيلًا لِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ «أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ لَاقْتَصَرُوا عَلَى قِرَاءَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فِي الصَّلَوَاتِ بَدَلًا مِنْ قِرَاءَةِ السُّوَرِ الطِّوَالِ، وَلَكَرَّرُوهَا فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ فَرَائِضِهِمْ وَنَوَافِلِهِمْ وَلَاقْتَصَرُوا عَلَى قِرَاءَتِهَا مِنْ دُونِ سَائِرِ الْقُرْآنِ فِي تِلَاوَتِهِمْ. فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا يُسَاوِي أَجْرَ مَنْ أَحْيَا اللَّيْلَ وَقَامَ فِيهِ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ تَكْرِيرَهَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَرَأَى ذَلِكَ بِدْعَةً، وَهُوَ كَمَا قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ تَكْرِيرَهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةٍ طَوِيلَةٍ تَزِيدُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى قَدْرِ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ تَكْرِيرِهَا الْمَرَّاتِ الَّتِي كَرَّرَهَا فِيهَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] يُكَرِّرُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَقَالُّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» إذْ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يُرَدِّدُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ سِوَاهَا وَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

إنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ السُّوَرِ الطِّوَالِ، وَإِنَّمَا أَعْلَمَ بِأَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَتَقَالُّهَا عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ وِرْدِهِ الَّذِي اعْتَادَهُ وَيُسْتَحَبُّ تَرْجِيعُ الْقُرْآنِ لِلتَّفَهُّمِ وَالتَّدَبُّرِ. هَذَا الَّذِي فَهِمَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ إنْ كُنَّا صَالِحِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ لَمْ نَعُدَّهُ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْمُنْكَرِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ قَوِيٍّ عَلَى ذَلِكَ، فَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ السُّورَةِ لَا يُسْتَحَبُّ لِمَا تَقَدَّمَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ تَكْرَارَهَا مَكْرُوهٌ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ إنَّمَا تُرَادُ لِلثَّوَابِ وَالْقِرَاءَةُ عَلَى طَرِيقِ الِاتِّبَاعِ هِيَ أَكْثَرُ ثَوَابِهَا، وَفِيهَا تَرْكُ الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ خَيْرٌ عَظِيمٌ وَالْمَكْرُوهُ الْمُنْكَرُ لَيْسَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِهَا بَلْ الْكَرَاهَةُ هُنَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَحَدُّ الْمَكْرُوهِ مَا فِي تَرْكِهِ ثَوَابٌ، وَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ عِقَابٌ، وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهِ فِيهِ، فَتَرْكُهُ يَتَأَكَّدُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يَحْفَظْ الْقُرْآنَ فَلَا بَأْسَ إذَنْ بِتَكْرَارِ السُّورَةِ فِي النَّافِلَةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ، وَمَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنْ كَرَاهَةِ نَحْوِ ذَلِكَ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأَوْلَى، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ قَدْ أُطْلِقَتْ عَلَى مَعَانٍ وَذَلِكَ أَحَدُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ تَرْكَ الْأَوْلَى فِي تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ يَتَأَكَّدُ تَرْكُهُ إذْ لَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ارْتِكَابِ مِثْلِ هَذَا فِي تِلَاوَةِ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَوْلُهُ الثَّانِي السَّجْدَتَانِ الْمُفْرَدَتَانِ عَقِبَ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي كَرَاهَةِ مِثْلِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمُنَازِعُ يَخْتَارُ قَوْلَ مَنْ يَكْرَهُهُمَا فَسَبِيلُهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا فَحَسْبُ لَا أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ مِنْ أَصْلِهَا. وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي تَكْرَارِ السُّورَةِ سَوَاءٌ بَقِيَ عَلَى الصَّلَاةِ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ لِبَقَاءِ مُعْظَمِهَا أَوْ لَمْ يَبْقَ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ إبْقَاءَ النَّاسِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ مِنْ شَغْلِ هَذَا الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ وَصِيَانَتِهِمْ عَنْ التَّرْكِ لَا إلَى خَلَفٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّلَاةَ

إنَّمَا يُرَادُ بِهَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّقَرُّبُ إنَّمَا يَكُونُ بِالِامْتِثَالِ لَا بِالِابْتِدَاعِ وَلَا بِالْمَكْرُوهِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي كَرَاهَةِ مِثْلِ ذَلِكَ وَالْعُلَمَاءُ إنَّمَا أَجَازُوا السُّجُودَ الْمُنْفَرِدَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَوْضِعَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: أَحَدُهُمَا: سُجُودُ التِّلَاوَةِ. وَالثَّانِي: سُجُودُ الشُّكْرِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَاهُ. وَلَيْسَتْ هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَبَطَلَ مَا حَكَاهُ مِنْ الْخِلَافِ فِي إجَازَةِ مِثْلِ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ الْمُنَازِعُ يَخْتَارُ قَوْلَ مَنْ يَكْرَهُهُمَا فَسَبِيلُهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا فَحَسْبُ، لَا أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ مِنْ أَصْلِهَا فَهَذَا لَا يَنْهَضُ لَهُ أَيْضًا، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَ السَّجْدَتَيْنِ الْمُفْرَدَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ عَلَى صِفَتِهَا بِكَمَالِهَا فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ صَلَاةَ رَغَائِبَ، وَإِنْ سَجَدَهُمَا فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَمَا سَبَقَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي تَكْرَارِ السُّورَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ سَوَاءٌ بَقِيَ عَلَى الصَّلَاةِ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ لِبَقَاءِ مُعْظَمِهَا أَوْ لَمْ يَبْقَ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ أَوْ صَلَاةَ النَّافِلَةِ الْمَشْرُوعَةِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ لِنُقْصَانِ السَّجْدَتَيْنِ الْمُفْرَدَتَيْنِ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ صَلَاةَ النَّافِلَةِ الْمَشْرُوعَةِ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ هُوَ صِفَةُ النَّافِلَةِ الْمَشْرُوعَةِ وَأَيْضًا فَهُوَ لَمْ يَنْوِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ إبْقَاءَ النَّاسِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ مِنْ شَغْلِ هَذَا الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ. لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرَادَ بِلَفْظَةِ الْمَقْصُودِ الْمَقْصُودُ الشَّرْعِيُّ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنْ أَرَادَ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا هُوَ الِامْتِثَالُ. وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ أَرَادَ مَا لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى لَفْظَةِ النَّاسِ، وَمَاذَا أُرِيدَ بِهَا وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ مَا اعْتَادُوهُ الْعَادَةَ الْمُوَافِقَةَ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ أَوْ الْمُخَالِفَةَ لَهُ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْمُوَافِقَةَ لِلشَّرْعِ فَلَيْسَ مَا أُحْدِثَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ بِمُوَافِقٍ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَإِنْ أَرَادَ بِمَا

اعْتَادُوهُ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ فَالْكَلَامُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى كِلَا التَّقْرِيرَيْنِ. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ كَيْفَ يُثْبِتُ صَلَاةً بِعَمَلِ أَهْلِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِعَمَلِ عُلَمَاءِ مَدِينَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ كَوْنِهِمْ الْجَمَّ الْغَفِيرَ، وَفِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُ ذَهَابُ السُّنَنِ عَنْهُمْ وَلَا يُتَّهَمُونَ فِي تَرْكِ سُنَّةٍ وَلَا فِي إحْدَاثِ بِدْعَةٍ وَلَا يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا حُجَّةٍ وَهُمْ الَّذِينَ رَوَوْا الْحَدِيثَ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ مُعَارِضٌ لِعَمَلِهِمْ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ الرَّاوِيَ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي فَهْمِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ لَهُ، وَيَكُونُ تَرْجِيحًا مُقَدَّمًا عَلَى فَهْمِ مَنْ عَدَاهُ فَكَيْفَ يَحْكُمُ بِعَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ شَغْلِ هَذَا الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ فَالْعِبَادَةُ إنَّمَا هِيَ بِالِاتِّبَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَشَغْلُ هَذَا الْوَقْتِ بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ مِنْ التَّنَفُّلِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ، وَإِنْ شَغَرَ الْوَقْتَ عَنْ الْعَمَلِ. وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ لِأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ بَعْضُهُمْ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ أَفْضَلُ أَعْمَالِهِمْ النَّوْمَ وَأَفْضَلُ عُلُومِهِمْ الصَّمْتَ " يَعْنِي لِفَسَادِ الْأَعْمَالِ وَلِاشْتِبَاهِ الْعِلْمِ " وَأَفْضَلُ أَحْوَالِهِمْ الْجُوعَ لِانْتِشَارِ الْحَرَامِ وَغُمُوضِ الْحَلَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَصِيَانَتِهِمْ عَنْ التَّرْكِ لَا إلَى خَلَفٍ. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ بَقِيَ بِدُونِ عَمَلٍ وَشُغُورُ هَذَا الْوَقْتِ عَنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ أَفْضَلُ وَأَعْلَى بَلْ نَوْمُهُ أَفْضَلُ إذَا تَوَقَّعَ بِدْعَةً فِي عَمَلِهِ أَوْ دَسِيسَةً فَمَا بَالُك بِهِ مَعَ تَحَقُّقِهَا. فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا إلَى خَلَفٍ أَنَّهُمْ لَا يَشْتَغِلُونَ فِي وَقْتِهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ، وَإِنْ أَرَادَ لَا إلَى خَلَفٍ عَنْهَا، وَإِنْ اشْتَغَلُوا فِي وَقْتِهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ مِنْ طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ صَلَاةِ نَافِلَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ تَفَكُّرٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةِ مُسْلِمٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ

فَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ، فَهُوَ أَفْضَلُ وَأَعْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي عَمَلٍ مَشْرُوعٍ يُثَابُ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّوْمَ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ مَشْرُوعٍ كَانَتْ الْفَضِيلَةُ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَقَوْلُهُ الثَّالِثُ مَا فِيهَا مِنْ التَّقْيِيدِ بِعَدَدٍ خَاصٍّ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ فَهَذَا قَرِيبٌ وَاضِحٌ رَاجِعٌ إلَى مَا سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَمَنْ يَتَقَيَّدُ بِقِرَاءَةِ سُبْعِ الْقُرْآنِ أَوْ رُبُعِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَكَتَقْيِيدِ الْعَابِدِينَ بِأَوْرَادِهِمْ الَّتِي يَخْتَارُونَهَا لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُونَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ بَيَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ نَصٍّ فِي عَدَدِهَا بِعَيْنِهَا وَخُصُوصِهَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدْخُلُهَا إذْ أَنَّ أَفْرَادَهَا كُلَّهَا قَدْ بَيَّنَهَا صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَدِهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَهَذَا قَرِيبٌ، وَهُوَ حُكْمٌ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ، وَهُوَ كَمَنْ يَتَقَيَّدُ بِقِرَاءَةِ سُبْعِ الْقُرْآنِ أَوْ رُبُعِهِ كُلَّ يَوْمٍ. فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَوْرَادِ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ الْمَرْءُ مِنْ الْأَوْرَادِ الشَّرْعِيَّةِ مَأْخُوذٌ مِنْ نَصِّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ» فَتَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ حَضَّ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ كَيْفَمَا كَانَ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً. الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي رَكْعَةِ الْوِتْرِ وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا عَالِمِينَ بِحَالِهِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فَكَانَ إجْمَاعًا. فَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ فِي تَقْدِيرِ الْأَوْرَادِ عَلَى مَا يَخْتَارُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَا تُقَاسُ الْبِدْعَةُ عَلَى هَذَا. وَقَوْلُهُ الرَّابِعُ أَنَّ مَا فِيهَا مِنْ عَدَدِ السُّوَرِ وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِمَا مَكْرُوهٌ لِشَغْلِ الْقَلْبِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ. وَقَدْ رُوِيَ عَدُّ الْآيَاتِ فِي الصَّلَاةِ عَنْ عَائِشَةَ وَطَاوُسٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ

وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بَأْسَ بَعْدَ الْآيِ فِي الصَّلَاةِ نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي مَنْصُوصَاتِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرُهُمْ. وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثُ صَلَاةِ التَّسَابِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ فِعْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي عَدِّ الْآيَاتِ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ. أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قُلْت كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسُّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً» . وَمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ» ، فَهَذِهِ عَادَتُهُمْ بِخِلَافِ عَادَتِنَا الْيَوْمَ فَكَانَ الْحَافِظُ مِنْهُمْ لِلْقُرْآنِ إذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ فَهُوَ يَعْلَمُ كَمْ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَ وَعَلَى أَيِّ آيَةٍ يَقِفُ كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ جَلِيٌّ لَا خَفَاءَ بِهِ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى حِسَابٍ وَلَا عَدٍّ، وَإِنَّمَا تُرِكَ ذَلِكَ حِينَ أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ تَحْزِيبَ الْقُرْآنِ فَرَجَعُوا إلَى الْوُقُوفِ عَلَى الْأَحْزَابِ وَالْأَنْصَافِ وَالْأَرْبَاعِ وَالْأَثْمَانِ وَالْأَسْبَاعِ وَنَحْوِهَا وَمَنْ أَحْرَمَ فِي الصَّلَاةِ عَلِمَ كَمْ مِنْ حِزْبٍ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَهُ وَعَرَفَ مَا يَقِفُ عَلَيْهِ مِنْهَا كَمَا كَانَ أُولَئِكَ يَعْلَمُونَ بِالْآيَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ شَغْلٌ عَنْ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدِّ التَّسْبِيحِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ فِي أَيِّ وَقْتٍ يُتِمُّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ إلَّا بِحِسَابِ وَعَدٍّ عَلَى أَنَامِلِهِ، وَذَلِكَ شَغْلٌ فِي الصَّلَاةِ مُتَحَقِّقٌ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ فِيهَا وَالْمَطْلُوبُ فِي الصَّلَاةِ الْخُشُوعُ لَا عَدَدُ الرَّكَعَاتِ وَالْأَذْكَارِ فَافْتَرَقَا. وَأَيْضًا، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ. وَصَلَاةُ الرَّغَائِبِ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ فَلَا يُقَاسَ مَا هُوَ بِدْعَةٌ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ. فَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ شَغْلُ الْقَلْبِ بِمَا يُعَدُّ وَيُحْسَبُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي

الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «سِيرُوا بِسَيْرِ ضُعَفَائِكُمْ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُرَاعَى أَحْوَالُ الْقُلُوبِ وَالنَّاسِ بَلْ حَالُ الضَّعِيفِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ فَلَا يَسِيرُ الْقَوِيُّ إلَّا بِسَيْرِ الضَّعِيفِ. فَعَلَى هَذَا فَقَدْ صَارَتْ الْحَالَةُ وَاحِدَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثُ صَلَاةِ التَّسَابِيحِ. فَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ التَّسَابِيحِ قَدْ وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ وَبَيَّنَ كَيْفِيَّتَهَا فِيهِ، فَهِيَ إذَنْ مِنْ الصَّلَاةِ الْمُبَيَّنَةِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا يُقَاسُ مَا هُوَ مُحْدَثٌ عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُدَاوَمُ عَلَيْهَا وَلَا يُجْمَعُ لَهُمَا فِي مَسْجِدٍ وَلَا فِي مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى بَيَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ حَدِيثِ صَلَاةِ التَّسَابِيحِ. فَقَدْ نَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَظِيمِ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ لَهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فِي صَلَاةِ التَّسَابِيحِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ كَبِيرُ شَيْءٍ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْعُقَيْلِيُّ الْحَافِظُ لَيْسَ فِي صَلَاةِ التَّسَابِيحِ حَدِيثٌ يَثْبُتُ. وَقَوْلُهُ الْخَامِسُ فِعْلُهَا فِي جُمْلَةٍ مَعَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي النَّوَافِلِ مَخْصُوصَةٌ بِالْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَوِتْرِهَا. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا تُسَنُّ إلَّا فِي هَذِهِ السِّتَّةِ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ النَّوَافِلِ. وَفِي مُخْتَصَرِ الرَّبِيعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْإِمَامَةِ فِي النَّوَافِلِ. وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي صَلَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ قَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَوَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ فَأَدَارَهُ إلَى يَمِينِهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ التَّصْرِيحُ «بِأَنَّهُ قَامَ يُصَلِّي مُتَطَوِّعًا مِنْ اللَّيْلِ» . وَثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُمْ فِي دَارِهِمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَصَلَّى بِهِ وَبِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأُمِّ حَرَامٍ. وَفِي رِوَايَةٍ

لِأَبِي دَاوُد «فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا.» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ نَحْوُهُ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فِيهِ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَوَاتِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا لَيْلًا كَانَتْ أَوْ نَهَارًا فَذًّا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ مَوْقُوفٌ عَلَى بَيَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَحَيْثُ جَمَعَ جَمَعْنَا وَمَا لَا فَلَا. وَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وَصِفَاتِهَا وَأَوْقَاتِهَا عَلَى مَا سَبَقَ. وَقَدْ بَيَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَلِكَ أَتَمَّ بَيَانٍ فَمَا فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَذًّا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ فَلْيَفْعَلْهُ الْمُكَلَّفُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» فَدَلَّ عُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّافِلَةِ أَنْ تُصَلَّى فِي الْبُيُوتِ فَشَرَعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْجَمَاعَةَ فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ، فَلَا يَتَعَدَّى بِهَا غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالتَّجْمِيعُ فِي النَّوَافِلِ جَائِزٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّ فِي النَّافِلَةِ فِي بَيْتِهِ وَفِي بَيْتِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ فَلَا يَتَعَدَّى مَا شَرَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ دَلِيلٌ حَتَّى يُقَاسَ عَلَى النَّوَافِلِ الْمَشْرُوعَةِ، وَإِذَا بَطَلَتْ فِي نَفْسِهَا فَكَيْفَ تُقَاسُ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ. وَقَوْلُهُ السَّادِسُ إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَارَتْ شِعَارًا ظَاهِرًا حَادِثًا، وَيُمْنَعُ إحْدَاثُ شِعَارٍ ظَاهِرٍ وَجَوَابُهُ أَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ ظَهَرَتْ وَكَثُرَتْ الرَّغَائِبُ فِيهَا، وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يُعَكَّرَ عَلَيْهَا بِاجْتِثَاثِهَا مِنْ أَصْلِهَا فَإِنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ مِنْ التَّأْصِيلِ وَالتَّفْصِيلِ وَالتَّفْرِيعِ وَالتَّصْنِيفِ وَالتَّدْرِيسِ شِعَارٌ ظَاهِرٌ حَدَثٌ فِي الدِّينِ لَمْ يَكُنْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَلِمَ لَا يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ مُبْتَدَعٌ يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ وَشِعَارٌ ظَاهِرٌ مُحْدَثٌ يُعَيَّنُ اجْتِنَابُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ أَنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ

لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ، وَأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَمْرِ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ أَنْوَاعَ الصَّلَاةِ كُلَّهَا وَصِفَاتِهَا لَا تُتَلَقَّى إلَّا مِنْ بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَقَدْ بَيَّنَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأُخِذَتْ عَنْهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا أَصْلَ لَهَا كَمَا ادَّعَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ظَهَرَتْ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ظُهُورِ مَا حَدَثَ أَنْ يُلْحَقَ بِالْمَشْرُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَكَثُرَتْ الرَّغَائِبُ فِيهَا. فَالرَّغَبَاتُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا رَغَبَاتِ الْعُلَمَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ أَرَادَ الْعُلَمَاءَ، فَهُوَ بَاطِلٌ إذْ الْعُلَمَاءُ قَدْ أَنْكَرُوهَا كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُمْ فَلَا عِبْرَةَ بِرَغَبَاتِهِمْ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ اخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْعَصْرِ لَانْحَلَّ نِظَامُ الشَّرِيعَةِ. وَكَيْفَ تُعْتَبَرُ رَغَبَاتُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ فِيمَا يُحْدِثُونَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَأَوَانٍ وَقَدْ حَفِظَ اللَّهُ الشَّرِيعَةَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يُعَكَّرَ عَلَيْهَا بِاجْتِثَاثِهَا مِنْ أَصْلِهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ إلَخْ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا رَامَهُ مِنْ تَقْرِيرِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَإِظْهَارِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ وَعُمْدَتَهُ إنَّمَا هُوَ كِتَابُ اللَّهِ فَهُوَ مَنْبَعُ الْعُلُومِ وَكُلُّ الْعُلُومِ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ وَمِنْ بَيَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْتُبُونَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الصُّحُفِ وَفِي الْجَرِيدِ وَفِي غَيْرِهِمَا عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ وَذَلِكَ خِيفَةً مِنْهُمْ مِنْ طُرُوِّ النِّسْيَانِ عَلَيْهِمْ أَوْ الْوَهْمِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ. وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ «كُنْت أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا قَالَ فَأَمْسَكْت عَنْ الْكِتَابَةِ حَتَّى ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إلَى فِيهِ وَقَالَ اُكْتُبْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ

مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا حَقٌّ» فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا عَظِيمًا لِكَتْبِ الْعِلْمِ وَالتَّحَفُّظِ عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنْ يَدْخُلَهُ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ وَسَبَبًا قَوِيًّا لِحِفْظِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَانِهَا وَصِيَانَتِهَا مِنْ أَنْ يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْهَا. فَجَعَلَ هَذَا الْقَائِلُ مَا فَعَلَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَمَنِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَأَقَرَّهُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى كَتْبِهِ وَأَخَذَ النَّاسُ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِالْكَتْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَكَانَ مِنْ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ الْمُتَعَيِّنِ عَلَى الْأُمَّةِ كَافَّةً بِدْعَةً. فَأَلْزَمَ هَذَا الْقَائِلُ الْعُلَمَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا عَنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ إنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَصِحَّ هَذَا الْإِلْزَامُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِلْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا صَلَاةَ الرَّغَائِبِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكُتُبِ» فَإِذَا لَمْ يُقَيِّدُوهُ فَقَدْ تَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ وَكَانَتْ الشَّرِيعَةُ تَضِيعُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ أَمْرٌ خَطَرٌ لَوْ عَلِمَ مَا فِيهِ مَا قَالَهُ. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ، وَهُوَ أَنَّهُ رَامَ إثْبَاتَ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فَوَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمَهُولِ، وَهُوَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ بِدْعَةٌ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَاَلَّتِي حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ أَثْبَتَهَا وَقَالَ عَنْهَا إنَّهَا لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ وَقَوْلُهُ وَقَدْ احْتَجَّ الْمُنَازِعُ بِأَشْيَاءَ أُخَرَ لَا تُسَاوِي الذِّكْرَ وَمِمَّا يُجَابُ بِهِ عَنْهَا أَنْ يُقَالَ لَهُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَتَجَنَّبْ وَجَنِّبْ فِيهَا مَا زَعَمْت أَنَّهُ مَحْذُورٌ كَمَا بَيَّنَاهُ فِيمَا سَبَقَ. فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا اللَّفْظِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ مَا أَعْجَبَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعُلَمَاءِ إذَا عَارَضَهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي شَيْءٍ مِمَّا قَامَ لَهُمْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ بِأَدَبٍ وَاحْتِرَامٍ وَتَلَطُّفٍ وَاحْتِجَاجٍ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ كَوْنِهِمْ يُعَظِّمُونَهُ وَقَدْ فَعَلَ هَذَا الْقَائِلُ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَالَ عَنْهَا إنَّهَا لَا تُسَاوِي الذِّكْرَ وَهِيَ مِمَّا وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اجْتِنَابُهُ وَيَفْسُقُ مَنْ فَعَلَهُ أَوْ حَضَرَهُ أَوْ رَضِيَ بِشَيْءٍ

مِنْهُ، وَهِيَ اجْتِمَاعُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مُخْتَلِطِينَ بِسَبَبِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فَوَجَدُوا الْوَسِيلَةَ فِيهَا إلَى أَغْرَاضِهِمْ الْخَسِيسَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَمَا يَجْرِي فِيهَا وَفِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَغَيْرِهِمَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَتِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَرْضَاهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَمِمَّا يُجَابُ بِهِ عَنْهَا أَنْ يُقَالَ لَهُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَتَجَنَّبْ وَجَنِّبْ فِيهَا مَا زَعَمْت أَنَّهُ مَحْذُورٌ وَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ، وَهُوَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: تَكْرَارُ السُّورَةِ. ثَانِيهَا: السَّجْدَتَانِ الْمُفْرَدَتَانِ عَقِبَ هَذِهِ الصَّلَاةِ. ثَالِثُهَا: مَا فِيهَا مِنْ التَّقَيُّدِ بِعَدَدٍ خَاصٍّ بِغَيْرِ نَصٍّ. رَابِعُهَا: مَا فِيهَا مِنْ أَنَّ عَدَّ السُّوَرِ وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِمَا مَكْرُوهٌ لِشَغْلِ الْقَلْبِ. خَامِسُهَا: فِعْلُهَا جَمَاعَةً. سَادِسُهَا: كَوْنُهَا صَارَتْ شِعَارًا ظَاهِرًا حَادِثًا وَيُمْنَعُ إحْدَاثُ شِعَارٍ ظَاهِرٍ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا كَمَا سَبَقَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ لَكِنْ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً أَوْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ فَإِذَا تَجَنَّبَهَا بِمَا فِيهَا لَا يُمْكِنُ فِعْلُهَا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ جَمَاعَةً بِمَا فِيهَا، وَلَا تُصَلِّهَا وَهِيَ كَذَلِكَ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ أَمْرٌ مِنْهُ لَهُ بِفِعْلِهَا وَقَوْلُهُ وَتَجَنَّبْ وَجَنِّبْ فِيهَا مَا زَعَمْت أَنَّهُ مَحْذُورٌ نَهْيٌ مِنْهُ عَنْ إيقَاعِهَا؛ لِأَنَّهَا إنْ فُعِلَتْ خَالِيَةً عَنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي يُنَازَعُ فِيهَا. وَقَوْلُهُ، وَهُوَ مُعْتَدٌّ مِنْهَا بِقَوْلِهِ إنَّ فِي ذَلِكَ اخْتِصَاصَ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِالْقِيَامِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ حَالِ مَنْ يُصَلِّي صَلَاةَ الرَّغَائِبِ أَنْ يَدَعَ فِي بَاقِي لَيَالِيِهِ صَلَاةَ اللَّيْلِ، وَمَنْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ يَكُنْ مُخَصِّصًا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِالْقِيَامِ، وَهَذَا وَاضِحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْجَوَابُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّهُ إذَا قَامَ لَيْلَةً غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ مُخَصِّصًا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِالْقِيَامِ فَتِلْكَ الْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ مَانِعَةٌ مِنْ فِعْلِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ فَقَدْ صَحَّ بِمَا بَيَّنَّاهُ وَأَصَّلْنَاهُ أَنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ غَيْرُ

مُلْحَقَةٍ بِالْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ ذَوَاتُ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَبِهَةٍ فَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ كَانَ بِصَدَدِ إلْحَاقِ الشَّيْءِ مِنْهَا بِغَيْرِ نَظِيرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَا رَامَهُ مِنْ فِعْلِهَا وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ عَلَى مَا ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ وَالْحَدَثُ فِي الدِّينِ مَمْنُوعٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْحَوَادِثَ ذَوَاتُ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَبِهَةٍ. فَقَدْ تَبَيَّنَّ أَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْ الْعُلَمَاءِ فِي إنْكَارِهَا، وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْحَوَادِثِ، وَوُجُوهِهَا، وَمِنْ أَيِّ قِسْمٍ هُوَ مَا حَدَثَ وَقَدْ عَدُّوهَا مِنْ الْحَوَادِثِ الْمُنْكَرَةِ لَا مِنْ الْحَوَادِثِ الْمُسْتَحَبَّةِ أَوْ الْجَائِزَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ كَانَ بِصَدَدِ إلْحَاقِ الشَّيْءِ مِنْهَا بِغَيْرِ نَظِيرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَعِبَارَتُهُ هَذِهِ تُفْهِمُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُمَيِّزُوا أَنَّهُمْ أَلْحَقُوا الشَّيْءَ بِغَيْرِ نَظِيرِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ مَا لَمْ يُمَيِّزُوا، وَأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِمْ مَا وَهَمُوا فِيهِ وَغَلِطُوا وَأَلْحَقَ الشَّيْءَ بِنَظِيرِهِ فَأَصَابَ دُونَهُمْ عَلَى زَعْمِهِ وَقَوْلُهُ، فَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ يَتَضَاءَلُ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ الْعَظِيمُ خِلَافُ الْمُخَالِفِ، وَيَتَبَدَّلُ بِهِ وَصْفُهُ إذَا لَمْ يُعَانِدْ بِوَصْفِ الْمُوَافِقِ الْمُؤَالِفِ يَعْنِي أَنَّهُ بَيَانٌ شَافٍ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِي إنْكَارِهَا، وَالْجَوَابُ عَمَّا أَتَى بِهِ كُلِّهِ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى إعَادَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إذَا لَمْ يُعَانِدْ إلَخْ فِيهِ مَا فِيهِ إذْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُبَرَّءُونَ عَنْ الْعِنَادِ؛ لِأَنَّ الْعِنَادَ هُوَ رَدُّ الْحَقِّ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ. وَقَوْلُهُ وَلَا تَبْقَى لَهُ إلَّا جَعْجَعَةٌ لَا طَائِلَ وَرَاءَهَا وَقَعْقَعَةٌ وَإِيهَامَاتٌ لَا يَغْتَرُّ بِهَا إلَّا شِرْذِمَةٌ أَفْسَدَتْ أَهْوَاؤُهَا آرَاءَهَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَعِيدٌ مِنْ أَوْصَافِ الْعُلَمَاءِ إذْ أَنَّ الْعَالِمَ يُنَزِّهُ لِسَانَهُ عَنْ أَنْ يَصِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الذَّمِيمَةِ أَحَدًا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَصِفُ بِهَا الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ سِيَّمَا الْمُتَّبِعِينَ مِنْهُمْ الْمُحَافِظِينَ عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذَّابِّينَ عَنْهَا، وَأَظُنُّ هَذَا الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ مُرْتَجَلٌ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ وَلَا قَدْرَ الْوَعِيدِ لِمَنْ وَقَعَ

فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ تَنَقَّصَهُ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. مَعَ أَنَّ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُغْنِي عَنْ كُلِّ مَا ذَكَرَ قَبْلُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ كَانَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَالْآنَ قَدْ ظَهَرَ لِي أَنَّهَا تُبَاعُ فَقَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -: رَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ عِنْدَنَا أَوْلَى مِنْ رَأْيِك وَحْدَك فَسَكَتَ عَلِيٌّ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِثْلُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ فَالرُّجُوعُ إلَى رَأْيِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ أَوْجَبُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى رَأْيِ هَذَا الْقَائِلِ وَحْدَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَقُومُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى سَاقٍ سِيَّمَا مَعَ إثْبَاتِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِيهَا مَوْضُوعٌ.، وَإِنَّمَا طَالَتْ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى الْجَوَابَ عَنْ كَلَامِهِ كُلِّهِ، وَلَعَلَّ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَا ادَّعَاهُ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى نَقْلِ كَلَامِهِ بِعَيْنِهِ. وَوَقَعَ الْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ بِحَسَبِ مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَقْتِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ مَعَ أَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْدَ السَّلَامِ بْنَ أَبِي الْقَاسِمِ السُّلَمِيَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ تَقَدَّمَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَوْ فَعَلَهَا لَكِنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُطْلَقٍ، وَلَمْ يَتَّبِعْ أَلْفَاظَ الْقَائِلِ بِهَا. فَقَالَ مَا هَذَا لَفْظُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ وَصْفُ وَاصِفٍ. الْآخَرِ الَّذِي لَا تَحْوِيهِ مَعْرِفَةُ عَارِفٍ. جَلَّ رَبُّنَا عَنْ التَّشْبِيهِ بِخَلْقِهِ، وَكُلُّ خَلْقِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ، أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي سُلْطَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثَ بِحُجَّتِهِ وَبُرْهَانِهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْبِدَعَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ مُبَاحًا كَالتَّوَسُّعِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ فَلَا بَأْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ حَسَنًا، وَهُوَ كُلُّ مُبْتَدَعٍ مُوَافِقٍ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا كَبِنَاءِ الرُّبُطِ وَالْخَانْقَاهْ

وَالْمَدَارِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ الَّتِي لَمْ تُعْهَدْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَكَذَلِكَ الِاشْتِغَالُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ مُبْتَدَعٌ، وَلَكِنْ لَا يَتَأَتَّى تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَفَهْمُ مَعَانِيهِ إلَّا بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ كَانَ ابْتِدَاعُهُ مُوَافِقًا لِمَا أُمِرْنَا بِهِ مِنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ، وَكَذَلِكَ تَدْوِينُ الْأَحَادِيثِ وَتَقْسِيمُهَا إلَى الْحَسَنِ وَالصَّحِيحِ وَالْمَوْضُوعِ وَالضَّعِيفِ مُبْتَدَعٌ حَسَنٌ لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدْخُلَهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ تَأْسِيسُ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ كُلُّ ذَلِكَ مُبْتَدَعٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَوْ مُسْتَلْزِمًا لِمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ. فَمِنْ ذَلِكَ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ، فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذِبٌ عَلَيْهِ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ الطُّرْطُوشِيُّ إنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَّا بَعْدَ ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ مِنْ وُجُوهٍ يَخْتَصُّ الْعَالِمُ بِبَعْضِهَا وَبَعْضُهَا يَعُمُّ الْعَالِمَ وَالْجَاهِلَ. فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْعَالِمُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَالِمَ إذَا صَلَّاهَا كَانَ مُوهِمًا لِلْعَامَّةِ أَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ فَيَكُونُ كَاذِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلِسَانِ الْحَالِ وَلِسَانُ الْحَالِ قَدْ يُقَدَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَقَالِ الثَّانِي: أَنَّ الْعَالِمَ إذَا فَعَلَهَا كَانَ مُتَسَبِّبًا فِي أَنْ تَكْذِبَ الْعَامَّةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُونَ: هَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ السُّنَنِ وَالتَّسَبُّبُ فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا مَا يَعُمُّ الْعَالِمَ وَالْجَاهِلَ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ الْبِدَعِ مِمَّا يُغْرِي الْمُبْتَدَعِينَ الْوَاضِعِينَ عَلَى وَضْعِهَا وَافْتِرَائِهَا وَالْإِغْرَاءُ بِالْبَاطِلِ، وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ وَإِطْرَاحُ الْبِدَعِ وَالْمَوْضُوعَاتِ زَاجِرٌ عَنْ وَضْعِهَا وَابْتِدَاعِهَا وَالزَّجْرُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ مِنْ أَعْلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ. الثَّانِي: أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ السُّكُونِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا تَعْدَادَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ اثْنَتَيْ

عَشْرَةَ مَرَّةً وَتَعْدَادَ سُورَةِ الْقَدْرِ وَلَا يَتَأَتَّى عَدُّهُ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِتَحْرِيكِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ فَيُخَالِفُ السُّنَّةَ فِي تَسْكِينِ أَعْضَائِهِ. الثَّالِثُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ خُشُوعِ الْقَلْبِ وَخُضُوعِهِ وَحُضُورِهِ فِي الصَّلَاةِ وَتَفْرِيغِهِ لِلَّهِ وَمُلَاحَظَةِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِي الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ فَإِنَّهُ إذَا لَاحَظَ عَدَدَ السُّوَرِ بِقَلْبِهِ كَانَ مُلْتَفِتًا عَنْ اللَّهِ مُعْرِضًا عَنْهُ بِأَمْرٍ لَمْ يُشْرَعْ فِي الصَّلَاةِ وَالِالْتِفَاتُ بِالْوَجْهِ قَبِيحٌ شَرْعًا، فَمَا الظَّنُّ بِالِالْتِفَاتِ عَنْهُ بِالْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ النَّوَافِلِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهَا أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْمَسَاجِدِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ، وَقَدْ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» . الْخَامِسُ: أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ الِانْفِرَادِ بِالنَّوَافِلِ فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهَا الِانْفِرَادُ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ الْمُخْتَلَقَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ. السَّادِسُ: أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ السُّنَّةَ فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ إذْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ» . السَّابِعُ: أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ فِي تَفْرِيغِ الْقَلْبِ عَنْ الشَّوَاغِلِ الْمُقْلِقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ يَدْخُلُ فِيهَا، وَهُوَ جَوْعَانُ ظَمْآنُ وَلَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْحَرِّ الشَّدِيدِ. وَالصَّلَوَاتُ الْمَشْرُوعَةُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَعَ وُجُودِ شَاغِلٍ يُمْكِنُ دَفْعُهُ. الثَّامِنُ: أَنَّ سَجْدَتَيْهَا مَكْرُوهَتَانِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَرِدْ بِسَجْدَةٍ مُنْفَرِدَةٍ لَا سَبَبَ لَهَا، فَإِنَّ الْقُرَبَ لَهَا أَسْبَابٌ وَشَرَائِطُ وَأَوْقَاتٌ وَأَرْكَانٌ لَا تَصِحُّ بِدُونِهَا فَكَمَا لَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ غَيْرِ نُسُكٍ وَاقِعٍ فِي وَقْتِهِ بِأَسْبَابِهِ وَشَرَائِطِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ مُنْفَرِدَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ قُرْبَةً إلَّا إذَا كَانَ لَهَا سَبَبٌ صَحِيحٌ؛ وَلِذَلِكَ يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ وَرُبَّمَا تَقَرَّبَ الْجَاهِلُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ مُبْعِدٌ عَنْهُ

مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. التَّاسِعُ: لَوْ كَانَتْ السَّجْدَتَانِ مَشْرُوعَتَيْنِ لَكَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ فِي خُشُوعِهِمَا وَخُضُوعِهِمَا بِمَا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنْ عَدِّ التَّسْبِيحِ فِيهِمَا بِبَاطِنِهِ أَوْ بِظَاهِرِهِ أَوْ بِبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِيِ وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ فِيمَا اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَذْكَارِ السُّجُودِ فَإِنَّهُ «لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» . وَقَوْلُ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ إنْ صَحَّتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ أَفْرَدَهَا بِدُونِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى، وَلَا أَنَّهُ وَظَّفَهَا عَلَى أُمَّتِهِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُوَظِّفُ إلَّا الْأَوْلَى مِنْ الذِّكْرَيْنِ. وَفِي قَوْلِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى مِنْ الثَّنَاءِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاعِ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَامُ الدِّينِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ دَوَّنَ الْكُتُبَ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَلَا دَوَّنَهَا فِي كِتَابِهِ وَلَا تَعَرَّضَ لَهَا فِي مَجْلِسِهِ وَالْعَادَةُ تُحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا سُنَّةً وَتَغِيبُ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَامُ الدِّينِ وَقُدْوَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ الَّذِينَ إلَيْهِمْ الرُّجُوعُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَهَذِهِ الصَّلَاةُ لَا يُصَلِّيهَا أَهْلُ الْمَغْرِبِ الَّذِينَ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. وَكَذَلِكَ لَا تُفْعَلُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَلَمَّا صَحَّ عِنْدَ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُفْتَرَيَاتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْطَلَهَا مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَطُوبَى لِمَنْ تَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَأَعَانَ عَلَى إمَاتَةِ الْبِدَعِ وَإِحْيَاءِ السُّنَنِ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ

يَسْتَدِلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ» فَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِصَلَاةٍ لَا تُخَالِفُ الشَّرْعَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ وَأَيُّ خَيْرٍ فِي مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَفَّقْنَا اللَّهُ لِلْإِجَابَةِ وَالِاتِّبَاعِ وَجَنَّبَنَا الزَّيْغَ وَالِابْتِدَاعَ. وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ تَصَدَّيَا لِلْفُتْيَا مَعَ بُعْدِهِمَا عَنْهَا سَعَيَا فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَأَفْتَيَا بِتَحْسِينِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ مِمَّا عُهِدَ مِنْ خَطَئِهِمَا وَزَلَلِهِمَا فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا فَمَا حَمَلَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمَا قَدْ صَلَّيَاهَا مَعَ النَّاسِ مِنْ جَهْلِهِمَا بِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ فَخَافَا وَفَرَّقَا إنْ نَأَيَا عَنْهَا أَنْ يُقَالَ لَهُمَا فَلِمَ صَلَّيْتُمَاهَا فَحَمَلَهُمَا اتِّبَاعُ الْهَوَى عَلَى أَنْ حَسَّنَا مَا لَمْ تُحَسِّنْهُ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ نُصْرَةً لِهَوَاهُمَا عَلَى الْحَقِّ وَلَوْ أَنَّهُمَا رَجَعَا إلَى الْحَقِّ وَآثَرَاهُ عَلَى هَوَاهُمَا وَأَفْتَيَا بِالصَّوَابِ لَكَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَيُفْتِي بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُسَوِّغُ مُوَافَقَةَ وُضَّاعِهَا عَلَيْهَا وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا إعَانَةٌ لِلْكَذَّابِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ اتَّبَعَ الْهَوَى ضَلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ثُمَّ أَفْتَيَا بِصِحَّتِهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صِحَّةِ مِثْلِهَا، فَإِنَّ مَنْ نَوَى صَلَاةً وَوَصَفَهَا فِي نِيَّتِهِ بِصِفَةٍ فَاخْتَلَفَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ مِنْ أَصْلِهَا أَوْ تَنْعَقِدُ نَفْلًا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، فَإِنَّ مَنْ يُصَلِّيهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ الْمُوَظَّفَةِ الرَّاتِبَةِ. وَهَذِهِ الصِّفَةُ مُتَخَلِّفَةٌ عَنْهَا، فَأَقَلُّ مَرَاتِبِهَا أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الْخِلَافِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. هَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صَلَاةِ الرَّغَائِبِ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَالْكَلَامُ

فصول متفرقة جامعة لمعان شتى

عَلَيْهَا كَالْكَلَامِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي الْمَنْعِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَحْدَثُوهُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قَبْلُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَبِيرًا [فُصُولٌ مُتَفَرِّقَةٌ جَامِعَةٌ لَمَعَانٍ شَتَّى] [النِّيَّةُ النَّافِعَةُ] اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ النِّيَّةَ النَّافِعَةَ هِيَ أَنْ يَقْصِدَ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَتْ النَّفْسُ تُحِبُّ ذَلِكَ وَتَشْتَهِيهِ أَوْ تَبْغَضُهُ وَتَقْلِيهِ فَإِنَّ السُّنَّةَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ تَرِدْ بِمُخَالَفَةِ النَّفْسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ بِاتِّبَاعِهَا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَنَّهَا مَحْكُومٌ عَلَيْهَا لَا حَاكِمَةٌ مَأْمُورَةٌ لَا آمِرَةٌ. فَإِنْ صَادَفَ الِامْتِثَالُ غَرَضَهَا وَاخْتِيَارَهَا وَشَهْوَتَهَا لَمْ يَضُرَّ الْعَامِلَ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» فَإِذَا تَزَوَّجَ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ وَالْمُمْتَثِلُ فِي أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ» فَقَدْ سَوَّى رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ النَّاكِحِ الْمُتَعَفِّفِ وَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي إعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يُؤْجَرُ أَحَدُكُمْ حَتَّى فِي بُضْعِهِ لِامْرَأَتِهِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ مَأْجُورًا قَالَ أَرَأَيْتُمْ إنْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَكَانَ مَأْثُومًا. قَالُوا نَعَمْ. قَالَ كَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ يَكُونُ مَأْجُورًا» أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا تَكُونَ فِيهِ شَهْوَةٌ بَاعِثَةٌ عَلَى فِعْلِ

الْعَمَلِ بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرْطٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ حُظُوظُ النَّفْسِ وَشَهَوَاتُهَا تَابِعَةً لِلنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَتَكُونَ النِّيَّةُ جَمِيعُهَا مُتَوَجِّهَةً لِمُجَرَّدِ الْعِبَادَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ» أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ صَائِمًا وَرَأَى مِنْ إحْدَى جَوَارِيهِ بِالنَّهَارِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ مِنْهُنَّ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ جَامَعَ وَاغْتَسَلَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُفْطِرُ مَعَ أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ يُعْتِقُ رَقَبَةً فَلَوْلَا الْفَضِيلَةُ الْعَظِيمَةُ وَالنِّيَّةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ فِي الْبُدَاءَةِ بِالْوَطْءِ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ لَمَا فَعَلَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ شَهْوَةَ الْإِنْسَانِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا بِطَبْعِهِ لَا تَقْدَحُ فِي نِيَّتِهِ أَلْبَتَّةَ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَأْتِي بِعَمَلٍ إلَّا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ دَوَاعِي النَّفْسِ وَخَوَاطِرِهَا لَكَانَ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ عَلَى الْأُمَّةِ فِي أَمْرِ دِينِهَا. وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَقَالَ تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَرَوَى الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَبِي مُوسَى «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ وَمَا رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ «أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ إلَّا مُقَاتِلٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ طَبِيعَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ احْتِسَابًا فَأَيُّ هَؤُلَاءِ الشَّهِيدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ مَنْ قَاتَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لَهُ هَذَا حَدِيثٌ

فِيهِ نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُ عَمَلِهِ لِلَّهِ وَعَلَى ذَلِكَ عَقَدَ نِيَّتَهُ لَمْ تَضُرَّهُ الْخَطَرَاتُ الَّتِي تَقَعُ بِالْقَلْبِ وَلَا تُمْلَكُ عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُحِبُّ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ وَيَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ السُّوقِ فَقَالَ إذَا كَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ لِلَّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِابْنِهِ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا إذْ أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ مِنْ أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي مَثَّلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَسَأَلَ أَصْحَابَهُ عَنْهَا فَوَقَعُوا فِي شَجَرِ الْبَوَادِي هِيَ النَّخْلَةُ. قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا إلَّا أَمْرٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ لَا يُمْلَكُ وَذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ الْعَمَلِ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يُكْسِلُهُ عَنْ التَّمَادِي عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَلَا يُؤْيِسُهُ مِنْ الْأَجْرِ وَلِيَدْفَعْ الشَّيْطَانَ عَنْ نَفْسِهِ مَا اسْتَطَاعَ وَيُجَرِّدْ النِّيَّةَ لِلَّهِ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسَهَا مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ يَدٌ» وَيُوَضِّحُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. فَقَالَ رَجُلٌ إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطْرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» قَالَ الْعُلَمَاءُ بَطْرُ الْحَقِّ رَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ. فَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ الشَّهَوَاتِ إذَا كَانَتْ تَابِعَةً لِلِامْتِثَالِ كَانَ صَاحِبُهَا مُمْتَثِلًا. وَقَدْ ضَيَّقَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ إنَّ النِّيَّةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ وَرَأَى أَنَّهُ إنْ جَامَعَ أَوْ فَعَلَ مَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ وَغَيْرَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ. وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ يَرُدُّهُ وَلِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ قِيلَ بِهِ جَاءَ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْوُقُوعِ

فِي الْمُحَرَّمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقُنُوطُ وَالْإِيَاسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَمِنْ عَمَلٍ يَتَخَلَّصُ لِلْعَبْدِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إخْبَارًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ «لَوْ كُنْت مُعَجِّلًا عُقُوبَةً لَعَجَّلْتهَا عَلَى الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي» فَيَدْخُلُ الْمُكَلَّفُ فِي الْعَمَلِ عَلَى تَحْقِيقِ تَخْلِيصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَسْلَمَ مِنْ الْآفَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِيهِ فَيَقَعُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ. أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ. وَالشَّرِيعَةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ سَهْلَةٌ سَمْحَةٌ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ كُلٌّ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَ عِبَادَتِهِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُ مِنْ الْعَمَلِ فَوْقَ طَاقَتِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدَّيْنَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا» الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَحْلِبُ ثَدْيَهَا تَسْعَى إذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ فَأَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» . فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي لَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ وَأَطَأهُنَّ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ شَهْوَةٌ قِيلَ وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ ظَهْرِي مِنْ يُكَاثِرُ بِهِ مُحَمَّدٌ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ اتِّبَاعِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلِامْتِثَالِ فَرَجَعَتْ شَهَوَاتُهُ كُلُّهَا تَابِعَةً لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا مَتْبُوعَةً لَهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ لَهُ لَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ لَمَا كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ الْإِطْنَابِ فِيهِ. وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ وَالْعُقَلَاءُ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ عَلَى التَّكَلُّمِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ. وَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ ضَرُورِيَّةً وَالْعَمَلُ اخْتِيَارِيًّا مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَرْجِيحٌ

فصل وجوب تقديم العلم على العمل

[فَصْلٌ وُجُوب تَقْدِيم الْعِلْم عَلَى الْعَمَل] فَصْلٌ إذَا دَخَلَ الْمُكَلَّفُ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْعِلْمِ فِيهِ. كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعِلْمُ إمَامٌ وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ» وَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ تَتَبُّعِ عَوَائِدِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا رَكَنُوا إلَيْهِ مِنْ أُمُورٍ حَدَثَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ تَكُنْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ مَنُوطٌ بِالِاتِّبَاعِ لَهُمْ وَتَرْكِ مَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ كَيْفَمَا كَانَ مِنْ اعْتِقَادٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ قَدْ نَدَرَ وُقُوعُهُ فَنُظِرَ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ فِيمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْتُمْ الْيَوْمَ فِي زَمَانٍ خَيْرُكُمْ فِيهِ الْمُسَارِعُ وَيَأْتِي بَعْدَكُمْ زَمَانٌ يَكُونُ خَيْرُكُمْ فِيهِ الْمُتَثَبِّتُ الْمُتَبَيِّنُ يَعْنِي لِبَيَانِ الْحَقِّ وَالْيَقِينِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَلِكَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ وَالِالْتِبَاسِ فِي زَمَانِنَا هَذَا وَدُخُولِ الْمُحْدَثَاتِ مَدَاخِلَ اللَّيْلِ فِي السِّتْرِ وَقَدْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ إلَّا عَلَى الْفَرْدِ الَّذِي يَعْرِفُ طَرَائِقَ السَّلَفِ فَيَجْتَنِبُ الْحَدَثَ كُلَّهُ. [عَرْضِ الرُّؤْيَا عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ] وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَسْكُنَ إلَى مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الْهَوَاتِفِ الَّتِي تَهْتِفُ بِهِ فِي يَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ وَمِنْ الرُّجُوعِ إلَى سَهْوِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْكُنُ إلَى رُؤْيَا يَرَاهَا فِي مَنَامِهِ تَكُونُ مُخَالِفَةً لِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاتِّبَاعِ لَهُمْ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَقَعُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ أَنْ يَرَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنَامِهِ فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ فَيَنْتَبِهُ مِنْ نَوْمِهِ فَيُقْدِمُ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ بِمُجَرَّدِ الْمَنَامِ دُونَ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى قَوَاعِدِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ أَيْ: إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَالرَّسُولِ أَيْ: إلَى الرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

حَقًّا لَا شَكَّ فِيهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي» عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ. لَكِنْ لَمْ يُكَلِّفْ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَقَعُ لَهُمْ فِي مَنَامِهِمْ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ وَعَدَّ فِيهِمْ النَّائِمَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ نَائِمًا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فَلَا يَعْمَلُ بِشَيْءٍ يَرَاهُ فِي نَوْمِهِ هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالرِّوَايَةَ لَا يُؤْخَذَانِ إلَّا مِنْ مُتَيَقِّظٍ حَاضِرِ الْعَقْلِ وَالنَّائِمُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَنَامِ مُخَالِفٌ لِقَوْلٍ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حَيْثُ قَالَ «تَرَكْت فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي» وَفِي رِوَايَةٍ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي. فَجَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - النَّجَاةَ مِنْ الضَّلَالَةِ فِي التَّمَسُّكِ بِهَذَيْنِ الثَّقَلَيْنِ فَقَطْ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَمَنْ اعْتَمَدَ عَلَى مَا يَرَاهُ فِي نَوْمِهِ فَقَدْ زَادَ لَهُمَا ثَالِثًا فَعَلَى هَذَا مَنْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنَامِهِ وَأَمَرَهُ بِشَيْءٍ أَوْ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ عَرْضُ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا كَلَّفَ أُمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِمَا. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَا فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» الْحَدِيثَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ» وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا عَرَضَهَا عَلَى شَرِيعَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنْ وَافَقَتْهَا عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ، وَأَنَّ الْكَلَامَ حَقٌّ وَتَبْقَى الرُّؤْيَا تَأْنِيسًا لَهُ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ، وَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي وَقَعَ لَهُ فِيهِ أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ لَهُ فِي ذِهْنِهِ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ؛ لِأَنَّهُمَا يُوَسْوِسَانِ لَهُ فِي حَالِ يَقَظَتِهِ فَكَيْفَ فِي حَالِ نَوْمِهِ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ غَيْرَ مَا مَرَّةٍ نَقْلًا عَنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَأَمَرَ

بِشَيْءٍ أَوْ نَهَى عَنْ شَيْءٍ فَالْوَاجِبُ فِيهِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَإِنْ وَافَقَ عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ وَأَنَّ الْكَلَامَ حَقٌّ وَتَكُونُ الرُّؤْيَا تَأْنِيسًا لِلرَّائِي وَبِشَارَةً لَهُ، وَإِنْ خَالَفَتْ عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ أَوْصَلَ إلَى سَمْعِ الرَّائِي غَيْرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَوْ كَانَ الْمَنَامُ مِمَّا يُتَعَبَّدُ بِهِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نَبَّهَ عَلَيْهِ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا فَعَلَ فِي غَيْرِهِ. وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَوَائِلِ كِتَابِ تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى خَصَائِصِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ وَمِنْهُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآهُ حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يُعْمَلُ بِمَا يَسْمَعُهُ الرَّائِي مِنْهُ فِي الْمَنَامِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ خِلَافَ مَا اسْتَقَرَّ فِي الشَّرْعِ لِعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي لَا لِلشَّكِّ فِي الرُّؤْيَا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يُقْبَلُ إلَّا مِنْ ضَابِطٍ مُكَلَّفٍ وَالنَّائِمُ بِخِلَافِهِ فَعَلَى هَذَا فَمَنْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنَامِهِ وَخَاطَبَهُ وَكَلَّمَهُ وَوَصَلَ إلَى ذِهْنِ الرَّائِي لَفْظٌ أَوْ أَلْفَاظٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي هِيَ وَاقِعَةٌ فِي زَمَنِ الرَّائِي أَوْ قَبْلَهُ وَتَكُونُ مُخَالِفَةً لِشَرِيعَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ التَّدَيُّنُ بِهَا وَلَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَا وَصَلَ إلَى ذِهْنِهِ فِي مَنَامِهِ مِمَّا خَالَفَ الشَّرِيعَةَ الْمُطَهَّرَةَ أَنَّهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ تَنْزِيهَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ وَمَا شَاكَلَهُ إلَيْهِ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ. إذْ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْسَ إلَّا دُونَ مَا يَكُونُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. سِيَّمَا وَقَدْ نَقَلَ الْقَرَافِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الذَّخِيرَةِ لَهُ قَالَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا تَصِحُّ رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطْعًا إلَّا لِرَجُلَيْنِ صَحَابِيٌّ رَآهُ أَوْ حَافِظٌ لِصِفَتِهِ حِفْظًا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ السَّمَاعِ مَا يَحْصُلُ لِلرَّائِيِّ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ الرُّؤْيَا حَتَّى لَا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِ مِثَالُهُ مِنْ كَوْنِهِ أَسْوَدَ أَوْ أَبْيَضَ أَوْ شَيْخًا أَوْ شَابًّا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الرَّائِي الَّتِي تَظْهَرُ فِيهِ كَمَا تَظْهَرُ فِي الْمِرْآةِ أَحْوَالُ الرَّائِينَ. وَتِلْكَ الْأَحْوَالُ صِفَةُ الرَّائِينَ لَا صِفَةُ الْمِرْآةِ

فَإِذَا كَانَتْ رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الَّتِي ضَمِنَ فِيهَا عَدَمَ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ عَلَى الرَّائِي إذَا رَآهَا عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى صِفَةِ الرَّائِي وَحَالِهِ وَالْجَنَابُ الْكَرِيمُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَأَشْبَاهِهِ فَمَا بَالُك بِسَمَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي لَمْ تُضْمَنْ الْعِصْمَةُ فِيهِ لِلرَّائِي. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ ضَمِنَتْ الْعِصْمَةَ فِيهَا لِلرَّائِي فَيُقَاسُ عَلَيْهَا سَمَاعُ الْكَلَامِ. فَالْجَوَابُ مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَيُوَسْوِسُ لَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ فَجَاءَ النَّصُّ فِي عِصْمَتِهِ إذَا رَأَى الرَّائِي صُورَتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مَنَامِهِ وَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ تَلْبِيسُ الشَّيْطَانِ عَلَى الرَّائِي. وَمِنْ الْإِكْمَالِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي» وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِي» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ» قَالَ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اخْتَلَفَ الْمُحَقِّقُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي» أَنَّهُ رَأَى الْحَقَّ وَأَنَّ رُؤْيَاهُ لَا تَكُونُ أَضْغَاثًا وَلَا مِنْ تَشْبِيهَاتِ الشَّيْطَانِ وَعَضَّدَ مَا قَالَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الطُّرُقِ «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ» إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا أُرِيدَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمَنَامِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي» إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ رُؤْيَاهُ لَا تَكُونُ أَضْغَاثًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَقًّا. وَقَدْ يَرَاهُ الرَّائِي عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ الْمَنْقُولَةِ إلَيْنَا كَمَا لَوْ رَآهُ شَيْخًا أَبْيَضَ اللِّحْيَةِ أَوْ عَلَى خِلَافِ لَوْنِهِ أَوْ يَرَاهُ رَائِيَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ وَيَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَهُ فِي مَكَانِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فَقَدْ أَدْرَكَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَقْلَ يُحِيلُهُ حَتَّى يَضْطَرَّ إلَى صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا الِاعْتِلَالُ

بِأَنَّهُ يُرَى عَلَى خِلَافِ صُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ وَفِي مَكَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مَعًا فَإِنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي صِفَاتِهِ وَتَخَيُّلٌ لَهَا عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ. وَقَدْ تُظَنُّ بَعْضُ الْخَيَالَاتِ مَرْئِيَّاتٍ لِكَوْنِ مَا يُتَخَيَّلُ مُرْتَبِطًا بِمَا يُرَى فِي الْعَادَةِ فَتَكُونُ ذَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْئِيَّةً وَصِفَاتُهُ مُتَخَيَّلَةً غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَحْدِيقُ الْأَبْصَارِ وَلَا قُرْبَ الْمَسَافَاتِ وَلَا كَوْنَ الْمَرْئِيِّ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ وَلَا ظَاهِرًا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى فَنَاءِ جِسْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكُونُ اخْتِلَافُ الصِّفَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ بِمُرَاءَاتِهَا الدَّلَالَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ فِي بَابِ رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رُئِيَ شَيْخًا فَهُوَ عَامُ سِلْمٍ، وَإِذَا رُئِيَ شَابًّا فَهُوَ عَامُ حَرْبٍ. وَكَذَلِكَ أَحَدُ جَوَابِهِمْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ رُئِيَ آمِرًا بِقَتْلِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ لَا الْمَرْئِيَّةِ وَجَوَابُهُمْ الثَّانِي مَنْعُ وُقُوعِ مِثْلِ هَذِهِ وَلَا وَجْهَ عِنْدِي لِمَنْعِهِمْ إيَّاهُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِتَخَيُّلِ الصِّفَاتِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْتَمِلُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ إذَا رَأَوْهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِ لَا عَلَى صِفَةٍ مُضَادَّةٍ لِحَالِهِ فَإِنْ رُئِيَ عَلَى غَيْرِ هَذَا كَانَتْ رُؤْيَا تَأْوِيلٍ لَا رُؤْيَا حَقِيقِيَّةٍ فَإِنَّ مِنْ الرُّؤْيَا مَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِهِ وَمِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ وَعِبَارَةٍ. ثُمَّ قَالَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ رُؤْيَا اللَّهِ فِي الْمَنَامِ، وَإِنْ رُئِيَ عَلَى صِفَةٍ لَا تَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ لِتَحَقُّقِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَرْئِيَّ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّجْسِيمُ وَلَا اخْتِلَافُ الْحَالَاتِ بِخِلَافِ رُؤْيَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّوْمِ فَكَانَتْ رُؤْيَاهُ تَعَالَى كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الرُّؤْيَا مِنْ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: رُؤْيَا اللَّهِ تَعَالَى فِي النَّوْمِ أَوْهَامٌ وَخَوَاطِرُ فِي الْقَلْبِ بِأَمْثَالٍ لَا تَلِيقُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَتَعَالَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا وَهِيَ دَلَالَاتٌ لِلرَّائِي عَلَى أُمُورٍ مِمَّا كَانَ وَيَكُونُ كَسَائِرِ الْمَرْئِيَّاتِ. قَالَ

الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ أَوْ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ» فَإِنْ كَانَ الْمَحْفُوظُ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ فَتَأْوِيلُهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْفُوظُ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَهْلَ عَصْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ إذَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَاهُ فِي الْيَقَظَةِ وَيَكُونُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُؤْيَا الْمَنَامِ عَلَمًا عَلَى رُؤْيَةِ الْيَقَظَةِ وَأَوْحَى بِذَلِكَ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَرَى تَصْدِيقَ تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ وَصِحَّتَهَا. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ إذْ يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعُ أُمَّتِهِ مَنْ رَآهُ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِهَذَا وَأَنْ تَكُونَ رُؤْيَاهُ فِي النَّوْمِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا وَوُصِفَ عَلَيْهَا مُوجِبَةً لِكَرَامَتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَرُؤْيَتُهُ إيَّاهُ رُؤْيَةً خَاصَّةً مِنْ الْقُرْبِ مِنْهُ وَالشَّفَاعَةِ السَّابِقَةِ فِيهِ وَنَحْوِ هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الرُّؤْيَةِ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا أَيْ: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْآخِرَةِ وَيَبْعُدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعَاقِبَ اللَّهُ بَعْضَ الْمُذْنِبِينَ فِي الْقِيَامَةِ بِمَنْعِهِمْ رُؤْيَةَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَشَفِيعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْ الذَّخِيرَةِ لِلْقَرَافِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ الْكَرْمَانِيُّ الرُّؤْيَا ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ سَبْعَةٌ لَا تُعَبَّرُ وَوَاحِدَةٌ تُعَبَّرُ فَقَطْ. فَالسَّبْعَةُ مَا نَشَأَ عَنْ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الرَّائِي. فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ رَأَى اللَّوْنَ الْأَحْمَرَ وَالْحَلَاوَاتِ وَأَنْوَاعَ الطَّرَبِ أَوْ الصَّفْرَاءُ رَأَى الْحَرُورَ وَالْأَلْوَانَ الصُّفْرَ وَالْمَرَارَاتِ. أَوْ الْبَلْغَمُ رَأَى الْمِيَاهَ وَالْأَلْوَانَ الْبِيضَ وَالْبُرُدَ. أَوْ السَّوْدَاءُ رَأَى الْأَلْوَانَ السُّودَ وَالْمَخَاوِفَ وَالطُّعُومَ الْحَامِضَةَ. وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الطِّبِّيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى غَلَبَةِ ذَلِكَ الْخَلْطِ عَلَى ذَلِكَ الرَّائِي. الْخَامِسُ: مَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِجَوَلَانِهِ فِي النَّفْسِ فِي الْيَقَظَةِ. السَّادِسُ: مَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُعْرَفُ بِكَوْنِهِ يَأْمُرُ بِمُنْكَرٍ أَوْ مَعْرُوفٍ يُؤَدِّي إلَى مُنْكَرٍ كَمَا إذَا أَمَرَهُ بِالتَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ فَيُضَيِّعُ عَائِلَتَهُ وَأَبَوَيْهِ

السَّابِعُ: مَا يَكُونُ فِيهِ احْتِلَامٌ. وَاَلَّذِي يُعَبَّرُ هُوَ مَا يَنْقُلُهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يَنْقُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أُمُورَ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَذَلِكَ. انْتَهَى مَا قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قُتَيْبَةَ فِي تَأْلِيفِهِ الَّذِي أَجَابَ فِيهِ عَنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُدَّعَى عَلَيْهَا التَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى أَقْسَامِ الرُّؤْيَا فَقَالَ: وَإِنَّمَا يَكُونُ الرُّؤْيَا الصَّحِيحَةُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمَلَكُ مِنْ نُسْخَةِ أُمِّ الْكِتَابِ فِي الْحِينِ بَعْدَ الْحِينِ. ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ أَوْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ كُنْت أَحْضُرُ ابْنَ سِيرِينَ يَسْأَلُ عَنْ الرُّؤْيَا فَكُنْت أُحْرِزُهُ يُعَبِّرُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ وَاحِدَةً، وَهَذِهِ الصَّحِيحَةُ هِيَ الَّتِي تَجُولُ حَتَّى يُعَبِّرَهَا الْعَالِمُ بِالْقِيَاسِ الْحَافِظُ لِلْأُصُولِ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، فَإِذَا عَبَّرَهَا وَقَعَتْ كَمَا قَالَ. {فَصْلٌ} إذَا كَانَتْ الرُّؤْيَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّفْصِيلِ وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنْهَا قِسْمٌ وَاحِدٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ السُّكُونُ إلَى مَا يَرَاهُ الرَّائِي فِي نَوْمِهِ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ أَوْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يَرَاهُ الرَّائِي فِي نَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَضْمُونُ لَهُ الْعِصْمَةُ فِي اتِّبَاعِهَا هَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ. وَقَدْ قَالَ سَيِّدِي أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ضَمِنَ لَك الْعِصْمَةَ فِي جَانِبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يَضْمَنْهَا لَك فِي الْكَشْفِ وَالْإِلْهَامِ. هَذَا، وَهُوَ فِي حَالِ الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ الْكَشْفَ فِيهِ أَجْلَى مِنْ النَّوْمِ فَمَا بَالُك بِمَنْ هُوَ غَيْرُ حَاضِرِ الْعَقْلِ، وَقَدْ رُفِعَ عَنْهُ الْخِطَابُ فِي حَالِ نَوْمِهِ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَرَوْنَ فِي الْيَقَظَةِ أَشْيَاءَ ثُمَّ لَا يَرْجِعُونَ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ عَرْضِهِمْ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ إمَامُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَطِيرُ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ وَيَمْشِي

عَلَى الْمَاءِ، وَلَكِنْ اُنْظُرُوا فِي اتِّبَاعِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا أَوْ كَمَا قَالَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ شُرِعَ الْأَذَانُ بِسَبَبِ الْمَنَامِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَرْضِ الرُّؤْيَا عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ فَإِذَا وَافَقَتْ أُمْضِيَتْ، وَإِنْ خَالَفَتْ تُرِكَتْ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا رَأَوْهُ حَتَّى عَرَضُوهُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَشَرَّعَ بِمَا رَآهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] وَالْوَحْيُ عَلَى قِسْمَيْنِ وَحْيٌ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَوَحْيُ إلْهَامٍ؛ لِأَنَّ مَا يَرَاهُ الرَّائِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَاضِي وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَقْبَلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا حَكَاهُ أَصْحَابُ عِلْمِ التَّعْبِيرِ فِي كُتُبِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ انْتِقَالِهِ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَيَقُولُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ رُؤْيَا قَصَّهَا فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا قُلْنَا لَا قَالَ لَكِنِّي رَأَيْت اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي» الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَا قَدْ تَكُونُ وَحْيًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا فِي حَقِّ الرَّائِي نَفْسِهِ أَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُهُمْ لِيَقِفَ بِذَلِكَ عَلَى مَا رَأَوْهُ فَيَعْلَمَ مَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِهِ وَمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالرَّائِي وَمَا هُوَ لِغَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِهَا فَكَانُوا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا إلَى مَا رَأَوْهُ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ انْتِقَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَالرُّجُوعُ إلَى شَرِيعَتِهِ لَا إلَى الْمَرْئِيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِذَا عُرِضَتْ الرُّؤْيَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَافَقَتْ فَهُوَ حَقٌّ وَبِشَارَةٌ لِلرَّائِي أَوْ مَنْ رَآهَا لَهُ. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْ النُّبُوَّةِ

إلَّا الْمُبَشِّرَاتُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ» وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَعْرِضَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَجْرِي عَلَى يَدِي الْمُبَارِكِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ مِثْلُ الْقَلِيلِ يَصِيرُ كَثِيرًا وَمِثْلُ الطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَصَفَاءِ الْبَاطِنِ وَالنَّظَرِ بِالنُّورِ وَسَمَاعِ الْخِطَابِ وَالْهَوَاتِفِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ السُّنِّيَّةِ، فَإِذَا عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَافَقَ كَانَ بِشَارَةً، وَتَأْنِيسًا لِمَنْ وَقَعَ لَهُ أَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَسْكُنْ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ، فَإِنْ سَكَنَ خِيفَ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالُوا إنَّ الْكَرَامَةَ كَرَامَةٌ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَدَّتْ إلَى ذَلِكَ أَوْ يَزْهُو بِهَا. وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الشُّكْرُ عَلَى مَا خُلِعَ عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْقَبُولِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ» وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا أَوْ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَقَدْ قَالَ سُرِّيُّ السَّقَطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ أَنَّ وَاحِدًا دَخَلَ بُسْتَانًا فِيهِ أَشْجَارٌ كَثِيرَةٌ وَعَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ طَيْرٌ يَقُولُ لَهُ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا وَلِيَّ اللَّهِ فَلَمْ يَخَفْ أَنَّهُ مَكْرٌ لَكَانَ مَمْكُورًا بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ فِي «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قِيلَ لَهُ إنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ ازْدَادَ يَقِينًا لَمَشَى فِي الْهَوَاءِ» فَقَالَ إنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشَارَ بِهَذَا الْقَوْلِ إلَى نَفْسِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؛ لِأَنَّ فِي لَطَائِفِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ أَنَّهُ قَالَ فَلَمَّا بَلَغْت الرَّفْرَفَ رَأَيْت الْبُرَاقَ قَدْ بَقِيَ وَمَشَيْت يَعْنِي أَنَّهُ مَشَى فِي الْهَوَاءِ إلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ قَدْ مَشَى رِجَالٌ بِالْيَقِينِ عَلَى الْمَاءِ وَمَاتَ بِالْعَطَشِ أَفْضَلُ مِنْهُمْ يَقِينًا وَقَوْلُهُ مَشَى فِي الْهَوَاءِ إلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى يُرِيدُ مَعَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ عَنْ الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّ أَكْبَرَ الْكَرَامَاتِ فِي هَذَا الزَّمَانِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَالْعَضُّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَالتَّشْمِيرُ لِامْتِثَالِ مَا وَرَدَتْ بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ

فصل تربية الأولاد وحسن سياستهم

وَتَرْكُ الْبِدَعِ وَقِلَاهَا وَتَرْكُ الِالْتِفَاتِ لِمَنْ يَتَعَاطَاهَا أَوْ يَرْضَى بِهَا إذْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ زَمَانَ ذَلِكَ وَلَيْسَ ثَمَّ أَسْبَابٌ تُعِينُ عَلَيْهِ إلَّا فَضْلُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِعَدَمِ الْيَقِينِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ لَا يَسْكُنُونَ لِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الِاتِّبَاعِ وَلُزُومِ الْخَيْرِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَيْهِ حَتَّى يَرَوْا كَرَامَةً أَوْ رُؤْيَا مَنَامٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُهْمَلٌ يَحْتَمِلُ لِأَشْيَاءَ وَالِاتِّبَاعُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَهُوَ التَّوْفِيقُ؛ لِأَنَّهُ خُلْعَةٌ مُحَقَّقَةٌ خُلِعَتْ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَرَاهَا إلَّا أَهْلُ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ [فَصْلٌ تَرْبِيَة الْأَوْلَادِ وَحُسْن سِيَاسَتِهِمْ] فَصْلٌ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ وَمَشْيِهِمْ عَلَى قَانُونِ الشَّرِيعَةِ وَتَرْكِ مَا عَدَاهَا وَحُسْنِ السِّيَاسَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ. اعْلَمْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ وَقَلْبَهُ الطَّاهِرَ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ سَاذَجَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُورَتِهِ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُلِّ نَقْشٍ وَقَابِلٌ لِكُلِّ مَا يُمَالُ بِهِ إلَيْهِ فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يُشَارِكُهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ وَكُلُّ مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِلَ إهْمَالَ الْبَهَائِمِ شَقِيَ وَهَلَكَ، وَكَانَ الْوِزْرُ فِي رَقَبَةِ الْقَيِّمِ بِهِ وَالْوَلِيِّ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَمَهْمَا كَانَ الْأَبُ يَصُونُهُ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَصُونَهُ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَوْلَى وَصِيَانَتُهُ بِأَنْ يُؤَدِّبَهُ وَيُهَذِّبَهُ وَيُعَلِّمَهُ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ وَيَحْفَظَهُ مِنْ الْقُرَنَاءِ السُّوءِ وَلَا يُعَوِّدَهُ التَّنَعُّمَ وَلَا يُحَبِّبَ إلَيْهِ الزِّينَةَ وَأَسْبَابَ الرَّفَاهِيَةِ فَيُضَيِّعَ عُمُرَهُ فِي طَلَبِهَا إذَا كَبُرَ وَيَهْلِكَ هَلَاكَ الْأَبَدِ. بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاقِبَهُ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ فَلَا يُشْغِلُ فِي حَضَانَتِهِ وَإِرْضَاعِهِ إلَّا امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ مُتَدَيِّنَةٌ تَأْكُلُ الْحَلَالَ فَإِنَّ اللَّبَنَ الْحَاصِلَ مِنْ الْحَرَامِ لَا بَرَكَةَ فِيهِ فَإِذَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ نَشْأَةُ الصَّبِيِّ عَجَنَتْ طِينَتَهُ فَيَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى مَا يُنَاسِبُ الْخَبَائِثَ وَمَهْمَا بَدَتْ فِيهِ مَخَايِلُ التَّمْيِيزِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْسِنَ مُرَاقَبَتَهُ وَأَوَّلُ ذَلِكَ ظُهُورُ أَوَائِلِ الْحَيَاءِ فَإِذَا كَانَ يَحْتَشِمُ وَيَسْتَحِي

وَيَتْرُكُ بَعْضَ الْأَفْعَالِ فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِإِشْرَاقِ نُورِ الْعَقْلِ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى بَعْضَ الْأَشْيَاءِ قَبِيحَةً وَمُخَالِفَةً لِبَعْضِهَا فَصَارَ يَسْتَحِي مِنْ شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ إلَيْهِ وَبِشَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَصَفَاءِ الْقَلْبِ، وَهُوَ مُبَشِّرٌ بِكَمَالِ الْعَقْلِ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَالصَّبِيُّ الْمُسْتَحِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْمَلَ بَلْ يُعَانُ عَلَى تَأْدِيبِهِ بِكَمَالِ حَيَائِهِ وَتَمْيِيزِهِ. وَأَوَّلُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ شَرَهُ الطَّعَامِ فَيُعَلِّمُهُ مَتَى يَأْكُلُ وَيُعَلِّمُهُ أَنَّهُ لَا يُسْرِعُ فِي الْأَكْلِ وَيَمْضُغُ الطَّعَامَ مَضْغًا جَيِّدًا وَلَا يُوَالِي بَيْنَ اللُّقَمِ وَلَا يُلَطِّخُ يَدَهُ وَلَا ثَوْبَهُ وَيُعَوِّدُهُ الْخُبْزَ الْقِفَارَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى لَا يَصِيرَ بِحَيْثُ يَرَى الْإِدَامَ حَتْمًا وَيُقَبِّحُ عِنْدَهُ كَثْرَةَ الْأَكْلِ بِأَنْ يُشَبِّهَ مِنْ يُكْثِرُ الْأَكْلَ بِالْبَهَائِمِ وَأَنْ يَذُمَّ بَيْنَ يَدَيْهِ الصَّبِيَّ الَّذِي يُكْثِرُ الْأَكْلَ وَيَمْدَحُ بَيْنَ يَدَيْهِ الصَّبِيَّ الْمُتَأَدِّبَ الْقَلِيلَ الْأَكْلِ وَيُحَبِّبَ إلَيْهِ الْإِيثَارَ بِالطَّعَامِ وَقِلَّةَ الْمُبَالَاةِ وَالْقَنَاعَةَ بِالطَّعَامِ الْخَشِنِ أَيَّ طَعَامٍ كَانَ وَيُحَبِّبَ إلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ الْأَبْيَضَ دُونَ الْمُلَوَّنِ وَالْإِبْرَيْسَمِ وَيُقَرِّرَ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ لِبَاسُ النِّسَاءِ وَالْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَمَهْمَا رَأَى عَلَى الصَّبِيِّ ثَوْبًا مِنْ إبْرَيْسَمٍ أَوْ مُلَوَّنٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَنْكِرَهُ وَيَذُمَّ ذَلِكَ ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ إلَى الْمَكْتَبِ وَيُشْغَلَ بِتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَبِأَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ وَالْأَخْيَارِ وَمَا قَارَبَ ذَلِكَ وَيُمْنَعَ مِنْ سَمَاعِ الْأَشْعَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعِشْقِ وَأَهْلِهِ وَيُحْفَظَ مِنْ مُخَالَطَةِ الْأُدَبَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الظَّرْفِ وَرِقَّةِ الطَّبْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَغْرِسُ فِي قُلُوبِ الصِّبْيَانِ الْفَسَادَ ثُمَّ مَهْمَا ظَهَرَ مِنْ الصَّبِيِّ خُلُقٌ جَمِيلٌ وَفِعْلٌ مَحْمُودٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَرَّمَ وَيُجَازَى عَلَيْهِ بِمَا يَفْرَحُ بِهِ وَيُمْدَحَ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ فَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مَرَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَغَافَلَ عَنْهُ وَلَا يُهْتَكَ سِتْرُهُ وَلَا يُكَاشَفَهُ وَلَا يُظْهَرَ أَنَّهُ يَتَصَوَّرُ أَنَّ أَحَدًا يَتَحَاشَى عَنْ مِثْلِهِ لَا سِيَّمَا إذَا سَتَرَهُ الصَّبِيُّ وَاجْتَهَدَ فِي إخْفَائِهِ فَإِنَّ إظْهَارَ ذَلِكَ رُبَّمَا يُفِيدُهُ جَسَارَةً حَتَّى لَا يُبَالِي بِالْمُكَاشَفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ عَادَ ثَانِيًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَاقَبَ سِرًّا

وَيُعَظَّمَ الْأَمْرُ فِيهِ وَيُقَالَ لَهُ إنْ يُطَّلَعْ عَلَيْك فِي مِثْلِ هَذَا تَفْتَضِحْ بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ وَلَا يُكْثِرُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِالْعِتَابِ فِي كُلِّ حِينٍ فَإِنَّهُ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ سَمَاعَ الْمَلَامَةِ وَرُكُوبَ الْقَبَائِحِ وَيُسْقِطُ وَقْعَ الْكَلَامِ مِنْ قَلْبِهِ، وَلَكِنَّ الْأَبَ حَافِظًا هَيْبَةَ الْكَلَامِ مَعَهُ لَا يُوَبِّخُهُ إلَّا أَحْيَانًا وَالْأُمَّ تُخَوِّفُهُ بِالْأَبِ وَتَزْجُرُهُ عَنْ الْقَبَائِحِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ النَّوْمَ نَهَارًا، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْكَسَلَ وَلَا يُمْنَعَ النَّوْمَ لَيْلًا، وَلَكِنْ يُمْنَعَ الْفُرُشَ الْوَطِيئَةَ حَتَّى تَصْلُبَ أَعْضَاؤُهُ وَلَا يُخَصِّبُ بَدَنَهُ فَلَا يَصْبِرُ عَنْ التَّنَعُّمِ بَلْ يُعَوِّدُهُ الْخُشُونَةَ مِنْ الْفُرُشِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ فِي خُفْيَةٍ إلَّا، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَبِيحٌ فَإِذَا تُرِكَ تَعَوَّدَ فِعْلَ الْقَبِيحِ. وَيُعَوَّدُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ الْمَشْيَ وَالْحَرَكَةَ وَالرِّيَاضَةَ حَتَّى لَا يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْكَسَلُ. وَيُعَوَّدُ ذَلِكَ بِكَشْفِ أَطْرَافِهِ وَلَا يُسْرِعُ الْمَشْيَ وَلَا يُرْخِي يَدَيْهِ بَلْ يَضُمُّهُمَا إلَى صَدْرِهِ. وَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَفْتَخِرَ عَلَى أَقْرَانِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَمْلِكُهُ وَالِدَاهُ وَبِشَيْءٍ مِنْ مَطَاعِمِهِ وَمَلَابِسِهِ وَمَلْذُوذَاتِهِ. وَيُعَوَّدُ التَّوَاضُعَ وَالْإِكْرَامَ لِكُلِّ مَنْ عَاشَرَهُ وَالتَّلَطُّفَ فِي الْكَلَامِ مَعَهُمْ. وَيُمْنَعُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الصِّبْيَانِ شَيْئًا بِدَايَةً إنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُحْتَشِمِينَ بَلْ يُعَلَّمُ أَنَّ الرِّفْعَةَ فِي الْإِعْطَاءِ لَا فِي الْأَخْذِ وَأَنَّ الْأَخْذَ لُؤْمٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْفُقَرَاءِ فَيُعَلَّمُ أَنَّ الْأَخْذَ وَالطَّمَعَ مَهَانَةٌ وَمَذَلَّةٌ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِ الْكَلْبِ فَإِنَّهُ يُبَصْبِصُ فِي انْتِظَارِ لُقْمَةٍ. وَبِالْجُمْلَةِ يُقَبَّحُ إلَى الصِّبْيَانِ حُبُّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالطَّمَعُ فِيهِمَا وَيُحَذَّرُ مِنْهُمَا أَكْثَرُ مِنْ التَّحْذِيرِ مِنْ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ، فَإِنَّ آفَةَ حُبِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالطَّمَعِ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ آفَةِ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ عَلَى الصِّبْيَانِ بَلْ عَلَى الْكِبَارِ أَيْضًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّدَ أَنْ لَا يَبْصُقَ فِي الْمَجَالِسِ وَلَا يَتَمَخَّطَ بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ وَلَا يَضَعَ رِجْلًا عَلَى رِجْلٍ وَلَا يَضْرِبَ بِكَفِّهِ تَحْتَ ذَقَنِهِ وَلَا يَسْتَدْبِرُ غَيْرَهُ وَلَا يَغْمِزُ رَأْسَهُ بِسَاعِدِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الْكَسَلِ وَيُعَلَّمُ كَيْفِيَّةَ الْجُلُوسِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَيُبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى

الْوَقَاحَةِ وَأَنَّهُ عَادَةُ أَبْنَاءِ اللِّئَامِ. وَيُمْنَعُ الْيَمِينَ رَأْسًا صِدْقُهَا وَكَذِبُهَا حَتَّى لَا يَتَعَوَّدَهُ فِي الصِّغَرِ. وَيُمْنَعُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْكَلَامِ وَيُعَوَّدُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ إلَّا جَوَابًا وَأَنْ يُحْسِنَ الِاسْتِمَاعَ مَهْمَا تَكَلَّمَ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا وَيُوَسِّعُ لِمَنْ فَوْقَهُ الْمَكَانَ وَيَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَيُمْنَعُ مِنْ لَغْوِ الْكَلَامِ وَفُحْشِهِ وَعَنْ اللَّعِبِ وَالشَّتْمِ وَمِنْ مُخَالَطَةِ مَنْ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ شَيْءٌ مِنْ الْفَوَاحِشِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْرِي لَا مَحَالَةَ مِنْ الْقُرَنَاءِ السُّوءِ. وَيَنْبَغِي إذَا ضَرَبَهُ الْمُعَلِّمُ أَنْ لَا يُكْثِرَ عَلَيْهِ الصُّرَاخَ وَالشَّغَبَ وَلَا يَسْتَشْفِعَ بِأَحَدٍ بَلْ يَصْبِرَ وَيُذَكَّرُ أَنَّ ذَلِكَ دَأْبُ الشِّجْعَانِ وَالرِّجَالِ وَأَنَّ كَثْرَةَ الصُّرَاخِ دَأْبُ الْمَمَالِيكِ وَالنِّسْوَانِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْمَكْتَبِ أَنْ يَلْعَبَ لَعِبًا جَمِيلًا يَسْتَرِيحُ إلَيْهِ مِنْ تَعَبِ الْأَدَبِ بِحَيْثُ لَا يَتْعَبُ فِي اللَّعِبِ فَإِنَّ مَنْعَ الصَّبِيِّ مِنْ اللَّعِبِ وَإِرْهَاقَهُ إلَى التَّعْلِيمِ دَائِمًا يُمِيتُ قَلْبَهُ وَيُبْطِلُ فِكْرَهُ وَذَكَاءَهُ وَيُبْغِضُ إلَيْهِ ذَلِكَ وَيُنَغِّصُ عَيْشَهُ حَتَّى يَطْلُبَ الْحِيلَةَ فِي الْخَلَاصِ مِنْهُ رَأْسًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّمَ طَاعَةَ وَالِدَيْهِ وَمُعَلِّمِهِ وَمُؤَدِّبِهِ وَكُلِّ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا مِنْ قَرِيبٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ وَأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْجَلَالَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَأَنْ يَتْرُكَ اللَّعِبَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. وَمَهْمَا بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُسَامَحَ فِي تَرْكِ الطَّهَارَةِ وَيُؤْمَرُ بِالصِّيَامِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مِنْ رَمَضَانَ وَبِتَجَنُّبِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيُعَلَّمُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ حُدُودِ الشَّرْعِ وَيُخَوَّفُ مِنْ السَّرِقَةِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ وَمِنْ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْفُحْشِ وَكُلِّ مَا يَغْلِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ شِدَّةِ الْكَلَامِ مِنْ لِسَانِهِ فَإِذَا وَقَعَتْ نَشْأَتُهُ فِي صِبَاهُ انْتَفَعَ بِذَلِكَ وَمَهْمَا قَارَبَ الْبُلُوغَ أَمْكَنَ أَنْ يُعَرَّفَ أَسْرَارَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَيُذْكَرُ لَهُ أَنَّ الْأَطْعِمَةَ أَدْوِيَةٌ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يَتَقَوَّى الْإِنْسَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا لَا أَصْلَ لَهَا إذْ لَا بَقَاءَ لَهَا وَأَنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُ نَعِيمَهَا وَأَنَّهَا دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مُقَرٍّ وَأَنَّ الْمَوْتَ مُنْتَظَرٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَنَّ الْكَيِّسَ الْعَاقِلَ مَنْ تَزَوَّدَ

فصل كيف يحاول المكلف التكسب

مِنْ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ حَتَّى تَعْظُمَ عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَتُهُ وَتَتَّسِعَ فِي الْجِنَانِ نِعَمُهُ. فَإِذَا كَانَتْ نَشْأَتُهُ صَالِحَةً كَانَ هَذَا الْكَلَامُ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَاقِعًا مُؤَثِّرًا ثَابِتًا يَثْبُتُ فِيهِ كَمَا يَثْبُتُ النَّقْشُ فِي الْحَجَرِ، وَإِنْ وَقَعَتْ النَّشْأَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ حَتَّى أَلِفَ الصِّبَا وَاللَّعِبَ وَالْفُحْشَ وَالْوَقَاحَةَ وَشَرِهَ الطَّعَامَ وَاللِّبَاسَ وَالتَّزَيُّنَ وَالتَّفَاخُرَ نَبَا قَلْبُهُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ نُبُوَّ الْحَائِطِ عَنْ التُّرَابِ الْيَابِسِ فَأَوَائِلُ الْأُمُورِ هِيَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى فَإِنَّ الصَّبِيَّ خُلِقَ جَوْهَرَةً قَابِلًا لِنَقْشِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يَمِيلَانِ بِهِ إلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ» [فَصْلٌ كَيْف يُحَاوِلُ الْمُكَلَّفُ التَّكَسُّب] فَصْلٌ فِي ذِكْرِ التَّكَسُّبِ وَكَيْفِيَّةِ مَا يُحَاوِلُهُ الْمُكَلَّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّكَسُّبَ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَاكْتِسَابِهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الذَّمَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي نَفْسِ الْحُبِّ لَهَا لَا فِي نَفْسِ التَّكَسُّبِ فَكَمْ مِنْ مُتَكَسِّبٍ زَاهِدٍ وَكَمْ مِنْ تَارِكٍ رَاغِبٍ عَلَى أَنَّ مِقْدَارَ الضَّرُورَةِ لَيْسَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ فَلَوْ تَكَسَّبَ الْإِنْسَانُ بِنِيَّةِ أَنْ يَكْفِي إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامَ بِضَرُورَاتِهِ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَكَانَ فِي أَجَلِّ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ فَرْضٍ وَنَفْلٍ. أَمَّا الْفَرْضُ فَهُوَ قِوَامُ بِنْيَتِهِ وَسَتْرُ عَوْرَتِهِ وَتَجَمُّلُهُ الشَّرْعِيُّ، وَأَمَّا النَّفَلُ فَهُوَ رَفْعُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى ثَلَاثَةَ نَفَرٍ فِي الْمَسْجِدِ مُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ فَسَأَلَ أَحَدَهُمْ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ يَأْتِينِي بِرِزْقِي كَيْفَ شَاءَ فَتَرَكَهُ وَمَضَى إلَى الثَّانِي فَسَأَلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ أَخًا يَحْتَطِبُ فِي الْجَبَلِ فَيَبِيعُ مَا يَحْتَطِبُهُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَأْتِيه بِكِفَايَتِهِ فَقَالَ لَهُ: أَخُوك أَعْبَدُ مِنْك ثُمَّ أَتَى الثَّالِثَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ يَرَوْنِي فَيَأْتُونِي بِكِفَايَتِي

فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ لَهُ اُخْرُجْ إلَى السُّوقِ أَوْ كَمَا قَالَ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّكَسُّبَ أَفْضَلُ مِنْ الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ إذَا كَانَ عَالَةً عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ بِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَأَقَلُّ مَا يَكُونُ رَفْعُ الْكُلْفَةِ عَنْهُمْ وَالْمُتَسَبِّبُ قَدْ رَفَعَ كُلْفَتَهُ عَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي ذَلِكَ إدْخَالُ الرَّاحَةِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ الْمُتَسَبِّبُ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ قُوتِهِ مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِتَحَرُّزِهِ فِي كَسْبِهِ مِمَّا تَأْبَاهُ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ أَوْ تَكْرَهُهُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ مُسْتَغْرَقَةً فِي التَّعَبُّدِ فَانْقِطَاعُهُ أَوْلَى بِهِ وَأَفْضَلُ. وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ عَمِلَ فَتْوَى وَدَارَ بِهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِهِ وَفِيهَا مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ فِي فَقِيرٍ مُنْقَطِعٍ لِلْعِبَادَةِ هَلْ التَّسَبُّبُ لَهُ أَفْضَلُ أَوْ الِانْقِطَاعُ لَهُ أَفْضَلُ أَوْ كَمَا قَالَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: انْقِطَاعُهُ أَفْضَلُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ التَّسَبُّبُ لَهُ أَفْضَلُ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنْ كَانَ الْفَقِيرُ لَيْسَتْ لَهُ فَتْرَةٌ عَلَى الْعِبَادَةِ فَيُكْرَهُ فِي حَقِّهِ التَّسَبُّبُ أَوْ يَحْرُمُ بِحَسَبِ الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَقْتُ رَاحَةٍ فَيَجْعَلُهُ فِي التَّسَبُّبِ فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ وَرَجَعُوا إلَيْهِ فِيمَا أَفْتَى بِهِ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَرَى لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَرْكِهِ الْأَوَّلَ مِنْ الثَّلَاثَةِ نَفَرٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ الْمُتَسَبِّبِ وَالْمُنْقَطِعِ فِي الْعِبَادَةِ فِي الْفَضِيلَةِ إذَا حَسُنَتْ نِيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ عَدَمِ الِاسْتِشْرَافِ وَعَدَمِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ مَعَ وُجُودِ السَّلَامَةِ فِي السَّبَبِ الَّذِي هُوَ يَتَسَبَّبُ فِيهِ وَسَلَامَتِهِ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيْهِ الْخَلَلَ فِيهِ بِلِسَانِ الْعِلْمِ. وَقَدْ تَعَذَّرَتْ الْأَسْبَابُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ فَقَلَّ أَنْ تَجِدَ السَّبَبَ بِدُونِ غِشٍّ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَمِلَ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ أَكَلَ الْحَرَامَ، وَإِنْ لَمْ يَغُشَّ فِيهِ لَمْ يَرْضَوْا بِهِ فَصَارَ التَّسَبُّبُ فِي حَيِّزِ الْحَرَامِ لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ فِي حَيِّزِ الْمَكْرُوهِ بِحَسَبِ الْحَالِ فَصَارَ الِانْقِطَاعُ أَفْضَلَ وَأَوْجَبَ لَكِنْ بَيْنَ هَذَا الِانْقِطَاعِ وَانْقِطَاعِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَرْقٌ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ، وَهُوَ أَنَّ انْقِطَاعَ السَّلَفِ

فصل في معنى قوله أنتم في زمان من ترك عشر ما أمر به هلك

كَانَ اخْتِيَارِيًّا طَلَبًا لِلْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وَتَسَبُّبَهُمْ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الِانْقِطَاعُ الْيَوْمَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ لَا اخْتِيَارَ لِلْمَرْءِ فِيهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُ فِيهِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَهُ هُرُوبًا مِنْ الْوُقُوعِ فِيمَا تَتَعَمَّرُ بِهِ ذِمَّتُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ؛ لِأَنَّ الْمُتَسَبِّبَ لَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ دَخَلَ عَلَيْهِ كَسْبُهُ وَالْمُنْقَطِعَ نَاظِرٌ إلَى الْمَخْلُوقِينَ مُتَطَلِّعٌ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ رَاغِبٌ فِيهِمْ رَاهِبٌ مِنْهُمْ وَلِأَجْلِ هَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ عَلَى أَبْوَابِ الْمُتَسَبِّبِينَ يَا لَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ بَلْ تَجِدُ مَنْ انْغَمَسَ مِنْهُمْ فِي الْجَهْلِ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ فِي الْوَقْتِ فَصِرْنَا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ يُمْنُ بْنُ رِزْقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا نَعْرِفُ الْعُقَلَاءَ مِنْ كَثْرَةِ الْحَمْقَى، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا كَانَ فِي زَمَانِهِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ عَمَّ الْأَمْرُ وَاشْتَدَّ الْكَرْبُ إلَّا عَلَى الْفَرْدِ النَّادِرِ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» لِأَيِسَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنْ يَجِدَ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ يَرُدُّ هَذَا الْإِيَاسَ أَوْ كَمَا قَالَ لَكِنَّهُمْ فِي الْقِلَّةِ بِحَيْثُ إنَّهُمْ لَا يُعْرَفُونَ فَطُوبَى لِمَنْ عَرَفَ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَرَآهُ بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ فَهُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ [فَصْلٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ أَنْتُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ] فَصْلٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنْتُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ وَسَيَأْتِي زَمَانٌ مَنْ فَعَلَ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ نَجَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ قَدْ يَخْفَى مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى بَعْضِ مَنْ يَسْمَعُهُ مِنْ أَجْلِ ظَاهِرِهِ وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ اسْتَوَيْنَا نَحْنُ وَإِيَّاهُمْ فِي إقَامَةِ الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَمَنْ تَرَكَ مِنَّا وَمِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَالْحُكْمُ فِيهِ مَعْلُومٌ وَمَنْ ارْتَكَبَ مِنَّا وَمِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَالْحُكْمُ فِيهِ مَعْلُومٌ فَمَا هَذَا الَّذِي إنْ فَعَلْنَا عُشْرَهُ نَجَوْنَا، وَإِنْ تَرَكُوا عُشْرَهُ هَلَكُوا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفَرَائِضَ

بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَنْدُوبَاتِ تَكُونُ الْعُشْرَ أَوْ نَحْوَهُ فَإِذَا اقْتَصَرْنَا عَلَى الْفَرَائِضِ نَجَوْنَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا يَعْتَوِرُ الْمُكَلَّفَ فِي الْعِبَادَاتِ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَضَرَ وَلِيمَةً وَفِيهَا مِنْ الثَّوَابِ مَا فِيهَا يَشْهَدُ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمُحَرَّمَاتِ أَوْ هُمَا مَعًا شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَحُضُورُ الْجَنَائِزِ وَزِيَارَةُ الْإِخْوَانِ وَحُضُورُ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالْبَحْثُ فِيهَا وَلِقَاءُ الْمَشَايِخِ وَالِاهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَجِدُ الْمُكَلَّفُ فِي مُبَاشَرَتِهَا أَشْيَاءَ عَدِيدَةً تَمْنَعُهُ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْهَا فَإِذَنْ قَدْ اضْطَرَّ الْمُكَلَّفُ الْيَوْمَ إلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَتَوَابِعِهَا دُونَ غَيْرِهَا وَتَبْقَى الْعِبَادَةُ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ إلَّا وَذَلِكَ هُوَ الْعُشْرُ أَوْ نَحْوُهُ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فَإِنَّ مَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ السُّنَنِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ مَانِعٌ لِوُجُودِهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ فَلَا يَتْرُكُهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا رَغْبَةً عَنْهَا وَمَنْ تَرَكَ الْمَنْدُوبَ اخْتِيَارًا فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُوفِيَ بِالْفَرَائِضِ فَيَهْلِكُ. يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى فِي مَنَامِهِ رَجُلًا مُضْطَجِعًا عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ يَشْدَخُ بِهَا رَأْسَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَيَنْطَلِقُ إلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلَا يَرْجِعُ إلَى هَذَا إلَّا وَيَلْتَئِمُ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إلَيْهِ فَضَرَبَهُ» الْحَدِيثَ فَفَسَّرَ لَهُ الْمَلَكَانِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - ذَلِكَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ بِالنَّهَارِ يُصْنَعُ بِهِ هَذَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا يُعَذَّبُ الْمُكَلَّفُ عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ لَكِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا فَهُوَ يُجْبَرُ بِهِ مَا وَقَعَ مِنْ الْخَلَلِ فِي الْفَرَائِضِ. وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ بِالنَّهَارِ وَتَرْكُ

تنبيه النهي عن مخالفة السنة خشية كلام الناس

عَمَلِهِ بِهِ فِيهِ خَلَلٌ فِي فَرَائِضِهِ، وَهُوَ لَمْ يَقُمْ بِهِ فِي اللَّيْلِ حَتَّى يُجْبَرَ بِهِ الْفَرْضُ فَالْعَذَابُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى تَرْكِ الْفَرْضِ لَا عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ. فَعَلَى هَذَا فَمَنْ تَرَكَ الْمَنْدُوبَ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ الْخَلَلُ فِي فَرَائِضِهِ وَلَا يُوجَدُ مَنْدُوبٌ يَجْبُرُهُ فَصَارَتْ أَكْثَرُ عَادَةِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ بِالتَّرْكِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَتْرُكُونَهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَهُمْ فِي أَسْنَى الْأَعْمَالِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الظَّاهِرِ تَارِكِينَ فَتَخَيَّرَ لَهُمْ الْفَرَائِضَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ الْجَمِيلَةِ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ. [تَنْبِيهٌ النَّهْي عَنْ مُخَالَفَةَ السَّنَة خشية كَلَام النَّاس] {تَنْبِيهٌ} وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ عَنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ يَقُولُ لَا يُمْكِنُنِي ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِئَلَّا يَقَعَ النَّاسُ فِي عِرْضِي وَيَتَكَلَّمُونَ فِي فَأَكُونُ سَبَبًا فِي إيقَاعِهِمْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ الْمَكْرُوهَاتِ، وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْقَوْمِ مَا هُوَ إذْ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ التَّصَدُّقُ بِعِرْضِهِمْ عَلَى مَنْ نَالَ مِنْهُمْ مِنْ إخْوَانِهِمْ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ. كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك» فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُرِيدِ الطَّالِبِ لِخَلَاصِ مُهْجَتِهِ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا وَيَعُدُّ الْخَلْقَ كَأَنَّهُمْ مَوْتَى لَا يَحْسَبُ إلَّا حِسَابَ السُّنَّةِ فَيَتَتَبَّعُهَا وَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَا يَصْدُرُ مِنْ النَّاسِ يَشْغَلُ الْخَاطِرَ وَيُكْثِرُ الْوَسْوَاسَ وَالْحِقْدَ وَيَقْطَعُ عَنْ الِاتِّبَاعَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ ابْنَهُ السُّلُوكَ أَنْ يَفْطِمَهُ عَنْ النَّظَرِ إلَى الْخَلْقِ فَخَرَجَ رَاكِبًا عَلَى دَابَّةٍ هُوَ وَوَلَدُهُ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: اُنْظُرُوا إلَى هَذَيْنِ كَيْفَ رَكِبَا عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ وَهِيَ لَا تُطِيقُ فَنَزَلَ وَلَدُهُ عَنْهَا وَبَقِيَ الْوَالِدُ رَاكِبًا فَقَالُوا: اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الرَّجُلِ كَيْفَ هُوَ رَاكِبٌ وَوَلَدُهُ يَمْشِي وَكَانَ الْوَلَدُ أَوْلَى مِنْهُ بِالرُّكُوبِ فَنَزَلَ الْوَالِدُ وَرَكِبَ الْوَلَدُ فَقَالُوا: اُنْظُرُوا

إلَى هَذَا الْوَلَدِ مَا أَقَلَّ أَدَبَهُ أَبُوهُ يَمْشِي عَلَى أَقْدَامِهِ، وَهُوَ رَاكِبٌ فَقَالَ لِوَلَدِهِ: انْزِلْ فَنَزَلَ عَنْ الدَّابَّةِ وَمَشَيَا عَلَى أَرْجُلِهِمَا وَتَرَكَا الدَّابَّةَ تَمْشِي دُونَ رَاكِبٍ عَلَيْهَا فَقَالُوا: مَا أَقَلَّ عَقْلَ هَذَانِ يَمْشِيَانِ عَلَى أَقْدَامِهِمَا وَالدَّابَّةُ لَا رَاكِبَ عَلَيْهَا أَوْ كَمَا جَرَى فَقَالَ لِوَلَدِهِ اُنْظُرْ إلَى هَذَا الْأَمْرِ وَاعْتَبِرْ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ فِيهِ، وَإِنْ عَمِلَ مَا عَمِلَ وَقَدْ رَأَيْته عِيَانًا فَعَلَّمَ وَلَدَهُ تَرْكَ النَّظَرِ لِلْمَخْلُوقِ بِالْفِعْلِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَكَابِرِ السَّلَفِ نَظَرْت إلَى النَّاسِ فَرَأَيْتهمْ مَوْتَى فَكَبَّرْت عَلَيْهِمْ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ أَخَذَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى الِامْتِثَالِ بِكُلِّيَّتِهِ وَتَرَكَ الِالْتِفَاتَ لِلْمَخْلُوقِ حَتَّى لَا يَخْطِرَ لَهُ غَيْرُ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، فَإِذَا رَأَى الْبِدَعَ تَكْثُرُ وَالْعَوَائِدَ تُفْعَلُ وَبَعْضَ النَّاسِ يَسْخَرُونَ بِهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ مِنْهُ فَلِيَشُدَّ يَدَهُ عَلَى مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ الِامْتِثَالِ وَيَحْرِصْ عَلَى الزِّيَادَةِ مِمَّا هُوَ فِيهِ. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَمَلُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ مَعِي» وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِلْعَامِلِ مِنْهُمْ أَجْرُ خَمْسِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ بَلْ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا وَلَا يَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا» وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً» وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ. وَأَمَّا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْفَارِسَ الشُّجَاعَ لَا يُعْرَفُ إلَّا وَقْتَ الْهَزِيمَةِ وَأَيُّ هَزِيمَةٍ أَعْظَمُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا أَنْ كَتَبَ إلَى سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ اُكْتُبْ إلَيَّ سِيرَةَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي النَّاسِ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسِيرَ بِهَا فَكَتَبَ إلَيْهِ. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك لَسْت فِي زَمَانِ عُمَرَ وَلَا لَك رِجَالٌ كَرِجَالِ عُمَرَ فَإِنْ عَمِلْت فِي زَمَانِك هَذَا وَرِجَالِك هَؤُلَاءِ بِسِيرَةِ عُمَرَ فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ سِيرَتِهِ الْحَسَنَةِ فَمَا بَالُك بِزَمَانِنَا هَذَا فَيَحْتَاجُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ السُّنَنِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهَا وَيَعْمَلَ

فصل في ذكر محاسبة النفس

بِهَا وَيُعَلِّمَهَا. وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ إلَى الْغُرُورِ وَالْأَمَانِي لِمَا يَرَى مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُتْلِفَةِ وَوُقُوعِ الْمَهَالِكِ بَلْ يَغْتَنِمُ مَا سَبَقَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ الْعَظِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ بِالسُّنَّةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إمَّا أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ أَوْ لَا. فَإِنْ قُبِلَ مِنْهُ حَصَلَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالْمَعِيَّةِ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَنِي قَدْ أُمِيتَتْ فَكَأَنَّمَا أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» وَيَنْبَغِي أَنْ يَرَى الْفَضِيلَةَ لِمَنْ قَبِلَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى إحْيَاءِ السُّنَّةِ وَإِقَامَتِهَا، وَمَنْ أَعَانَ عَلَى الْخَيْرِ كَانَ شَرِيكًا لِعَامِلِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِعَانَةَ حَاصِلَةٌ لِمَنْ قَبِلَ وَامْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَصَلَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْدِرْ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَصِلَا إلَيْهِ. لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَمَلُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ مَعِي» كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْهِجْرَةُ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَفُوقُهَا غَيْرُهَا وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعَ هَذَا اسْتِصْغَارُ النَّفْسِ وَحَقَارَتُهَا إذْ أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِ بِمِنَّةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِشُكْرِ بَعْضِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا يَأْمُرُ بِالسُّنَّةِ وَيَحُضُّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَرْجِعْ هُوَ إلَيْهِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ لَكَانَ فِي خَطَرٍ عَظِيمٍ وَأَمْرٍ مَهُولٍ فَلِيُكْثِرْ الشُّكْرَ عَلَى مَا أَوْلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ يَقُولُ «قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ» نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِذَلِكَ بِمَنِّهِ [فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ] ِ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا» ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَيَعْلَمَ مِنْ أَيِّ قِسْمٍ هُوَ أَعْنِي مِنْ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهُ كُلُّهُ جَلِيًّا أَمْرُهُ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَإِنْ لَمْ

فصل النظر إلى المسلمين بعين التعظيم والاحترام

يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِعُذْرٍ وَقَعَ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ النَّهَارِ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ فِيهَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَمِلَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ فَيَعْرِضُهُ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ حَمِدَ اللَّهَ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ الْقَبُولَ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ نَزَعَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ مَعَ وُجُودِ النَّدَمِ وَالْإِقْلَاعِ، فَإِنْ وَجَدَ فِي قَوْلِهِ أَوْ فِي فِعْلِهِ شَيْئًا تَعَمَّرَتْ بِهِ ذِمَّتُهُ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَرِيضُ أَنْفَعَ مِنْ الْحَمِيَّةِ ثُمَّ الدَّوَاءُ بَعْدَهَا فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْحَمِيَّةِ دُونَ الدَّوَاءِ نَفَعَهُ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ اسْتَعْمَلَ الدَّوَاءَ دُونَ حَمِيَّةٍ لَمْ يَنْفَعْهُ بَلْ يَعُودُ بِالضَّرَرِ عَلَيْهِ فَأَصْلُ الْحَمِيَّةِ وَرَأْسُهَا تَخْلِيصُ الذِّمَّةِ مِنْ حُقُوقِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا يَتَمَيَّزُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ وَوُقُوفِهَا عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ وَقَوْلٍ وَاعْتِقَادٍ. فَإِذَا كَانَتْ لَهُ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ فِيهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ الْخَلَلِ وَيَتَوَجَّهَ بَعْدُ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ التَّبِعَاتِ. نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ [فَصْلٌ النَّظَرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ] فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظَرِ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ وَرُؤْيَةِ الْفَضْلِ لَهُمْ عَلَيْهِ يَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا النَّظَرِ الْحَسَنِ. فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَجَدَهُمْ عَلَى طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ لَهُ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهَا سُلُوكٌ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. أَمَّا الطَّبَقَةُ الْأُولَى، فَإِنَّهُ إذَا نَظَرَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا أَوْ أَعْلَمُ أَوْ أَكْثَرُ عِبَادَةً وَانْقِطَاعًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلِمَ أَنَّ لَهُ فَضِيلَةً عَلَيْهِ بِسَبْقِهِ لِلْإِسْلَامِ أَوْ مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَعَلِمَ تَقْصِيرَهُ فِي نَفْسِهِ فَيَحْتَرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيَرَى فَضْلَهُ عَلَيْهِ وَسَبْقَهُ. الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَرَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَهُ بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَالِمًا مِنْ الذُّنُوبِ أَوْ تَكُونُ لَهُ ذُنُوبٌ

خاتمة أسباب تأليف هذا الكتاب

لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّائِي لَهُ أَقَلُّ إذْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِفُ ذُنُوبَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا يَعْرِفُ ذُنُوبَ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ إذَا اطَّلَعَ عَلَى ذَنْبٍ لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَهُ بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْضِيلِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَرَى مَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ سِنًّا فَيَقُولُ هَذَا أَقَلُّ مِنِّي ذُنُوبًا لِأَنِّي قَدْ سَبَقْته إلَى الدُّنْيَا وَارْتَكَبْت فِيهَا مَا ارْتَكَبْت، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَلَا ذُنُوبَ عَلَيْهِ فَإِنْ رَأَى مَنْ هُوَ مُبْتَلًى فِي دِينِهِ وَضَاقَ عَلَيْهِ سُلُوكُ بَابِ التَّأْوِيلِ فِي حَقِّهِ فَلْيَرْجِعْ إذْ ذَاكَ لِنَفْسِهِ وَلْيَنْظُرْ مِنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فِي كَوْنِهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَا تَلَبَّسَ بِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ وَكَوْنِهِ سَالِمًا مِمَّا ابْتَلَى بِهِ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ مَحْظُورٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُذَكِّرُ نَفْسَهُ بِالْخَاتِمَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي بِمَاذَا يُخْتَمُ لَهُ فَإِنَّهُ إنْ عُومِلَ بِالْعَدْلِ فَلَا يُخَلِّصُهُ شَيْءٌ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ أَفْعَالِ الْقُرَبِ، وَإِنْ كَثُرَتْ، وَإِنْ عُومِلَ مَنْ رَآهُ بِالْفَضْلِ قُضِيَتْ عَنْهُ التَّبِعَاتُ وَقُبِلَ مِنْهُ الْيَسِيرُ مِنْ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ لَا يَنْحَصِرُ فِي جِهَةٍ وَعَدْلَهُ لَا يُؤْمَنُ فِي حَالٍ. فَإِذَا نَظَرَ إلَى النَّاسِ بِحُسْنِ هَذَا النَّظَرِ رَبِحَ وَعَادَتْ عَلَيْهِ بَرَكَةُ تَحْسِينِ ظَنِّهِ بِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ حَالًا وَمَآلًا وَكَانَ اجْتِمَاعُهُ بِهِمْ رَحْمَةً فِي حَقِّهِ وَحَقِّهِمْ وَكَذَالِك الْفِرَارُ مِنْهُمْ وَالْهُرُوبُ مِنْ خُلْطَتِهِمْ بِهَذَا النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارُ بِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ سُلُوكٌ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ أَسْلَمُ وَآمَنُ عَاقِبَةً لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ إذَا رَأَى مُبْتَلًى فِي دِينِهِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ سَطْوَةَ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّأْوِيلِ الْحَسَنِ فِي حَقِّهِ لَهُ فَإِنْ عَجَزَ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُهُ الْهِجْرَانُ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ [خَاتِمَة أَسْبَابُ تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ] أَسْبَابُ تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ بَعْضَ الْإِخْوَانِ قَصَدَنِي فِي تَلْخِيصِ شَيْءٍ أَذْكُرُ فِيهِ بِأَيِّ نِيَّةٍ يَخْرُجُ بِهَا الْمَرْءُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ. وَإِلَى حُضُورِ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَإِلَى

قَضَاءِ حَوَائِجِهِ مِنْ السُّوقِ وَغَيْرِهِ وَبِأَيِّ نِيَّةٍ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ وَبِأَيِّ نِيَّةٍ يَمْكُثُ فِيهِ فَأَسْعَفْته بِذَلِكَ حَتَّى بَلَغْت فِيهِ إلَى الْكُرَّاسِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْهُ ثُمَّ حَصَلَ لِي قَلَقٌ وَانْزِعَاجٌ فِي أَخْذِ الْعِلْمِ عَنِّي وَلَسْت عِنْدَ نَفْسِي أَهْلًا لِذَلِكَ. فَعَزَمْت عَلَى أَنْ أُعْدِمَ تِلْكَ الْكَرَارِيسَ فَأَخَذْتهَا وَشَدَدْت عَلَيْهَا وَدَفَعْتهَا لِبَعْضِ الْإِخْوَانِ وَقُلْت لَهُ يُثَقِّلُهَا بِحَجَرٍ وَيُلْقِيهَا فِي الْبَحْرِ فَمَكَثْت عِنْدَهُ أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ. ثُمَّ جَاءَ الْفَقِيهُ الْخَطِيبُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمُعْطِي الْمَعْرُوفُ بِابْنِ سَبُعٍ خَطِيبُ جَامِعِ الظَّاهِرِ بِالْحُسَيْنِيَّةِ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا فَطَلَبَ الْكَرَارِيسَ فَأَخْبَرْته بِمَا جَرَى فَشَقَّ عَلَيْهِ وَقَالَ لِي: اسْأَلْ عَنْهَا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرْته بِهِ إلَى الْآنَ فَقُلْت لَهُ: إنَّ لَهُ مُدَّةً فَقَالَ: وَلَعَلَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ بَقِيَتْ فَسَأَلْت الشَّخْصَ الَّذِي أَمَرْته بِتَغْرِيقِهَا فَقَالَ: لِي هِيَ بَاقِيَةٌ إلَى الْآنَ فَسَأَلْته عَنْ مُوجِبِ تَرْكِهِ لَهَا فَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَضَعَهَا فِي مَوْضِعٍ فِي بَيْتِهِ حَتَّى يَتَفَرَّغَ فَيُلْقِيَهَا فِي الْبَحْرِ. قَالَ فَعَزَمْت عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا ثُمَّ إنِّي أَنْسَى وَهِيَ إلَى الْآنَ عِنْدِي لَمْ أُغْرِقْهَا بَعْدُ. فَطَلَبْتهَا مِنْهُ وَأَخَذْتهَا وَدَفَعْتهَا إلَى الْفَقِيهِ الْخَطِيبِ الْمَذْكُورِ فَطَالَعَهَا ثُمَّ أَتَانِي بِهَا فَقَالَ لِي: يَحْرُمُ عَلَيْك إتْلَافُهَا وَحَضَّنِي عَلَى إتْمَامِهَا وَسَأَلَنِي مِرَارًا أَنْ أُعَيِّنَ اسْمَهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ مِنْ أَعَانَ عَلَيْهَا لِكَيْ يُدْعَى لَهُ لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبًا فِي إتْمَامِهَا. خَاتِمَةُ الْمُؤَلِّفِ: وَهَذَا دُعَاءٌ أَخْتِمُ بِهِ الْكِتَابَ رَجَاءَ الِاسْتِجَابَةِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدُّ مِنْك الْجَدُّ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ صَدَّقَهُ. بِتَوْفِيقِك وَاتَّبَعَهُ بِإِرْشَادِك

وَتَسْدِيدِك وَأَمِتْنَا عَلَى مِلَّتِهِ بِنِعْمَتِك وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ بِرَحْمَتِك. اللَّهُمَّ بِنُورِك اهْتَدَيْنَا وَبِفَضْلِك اسْتَغْنَيْنَا وَفِي كَنَفِك أَصْبَحْنَا وَأَمْسَيْنَا أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَا شَيْءَ قَبْلَك وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَا شَيْءَ بَعْدَك نَعُوذُ بِك مِنْ الْفَشَلِ وَالْكَسَلِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ اللَّهُمَّ نَبِّهْنَا بِذِكْرِك فِي أَيَّامِ الْغَفْلَةِ وَاسْتَعْمِلْنَا بِطَاعَتِك فِي أَيَّامِ الْمُهْلَةِ وَانْهَجْ لَنَا إلَى رَحْمَتِك طَرِيقًا سَهْلَةً. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ آمَنَ بِك فَهَدَيْته وَتَوَكَّلَ عَلَيْك فَكَفَيْته وَسَأَلَك فَأَعْطَيْته. اللَّهُمَّ يَا عَالَمَ الْخَفِيَّاتِ وَيَا بَاعِثَ الْأَمْوَاتِ وَيَا سَامِعَ الْأَصْوَاتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَيَا خَالِقَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْجَوَّادُ الَّذِي لَا يَبْخَلُ وَالْحَلِيمُ الَّذِي لَا يَعْجَلُ لَا رَادَّ لِأَمْرِك وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِك رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُقَدِّرُ كُلِّ شَيْءٍ نَسْأَلُك أَنْ تَرْزُقَنَا عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَقَلْبًا خَاشِعًا وَلِسَانًا صَادِقًا وَعَمَلًا زَاكِيًا وَإِيمَانًا خَالِصًا وَأَنْ تَهَبَ لَنَا إنَابَةَ الْمُخْلِصِينَ وَخُشُوعَ الْمُخْبِتِينَ وَأَعْمَالَ الصَّالِحِينَ وَيَقِينَ الصَّادِقِينَ وَسَعَادَةَ الْمُتَّقِينَ وَدَرَجَاتِ الْفَائِزِينَ وَالْعَابِدِينَ يَا أَفْضَلَ مَنْ قُصِدَ وَأَكْرَمَ مَنْ سُئِلَ وَأَحْلَمَ مَنْ عُصِيَ مَا أَحْلَمَك عَلَى مَنْ عَصَاك وَأَقْرَبَك مِمَّنْ دَعَاك وَأَعْطَفَكَ عَلَى مَنْ سَأَلَك لَك الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ إنْ أَطَعْنَاك فَبِفَضْلِك، وَإِنْ عَصَيْنَاك فَبِحِلْمِك لَا مَهْدِيَّ إلَّا مَنْ هَدَيْت وَلَا ضَالَّ إلَّا مِنْ أَضْلَلْت وَلَا مَسْتُورَ إلَّا مَنْ سَتَرْت نَسْأَلُك أَنْ تَهَبَ لَنَا جَزِيلَ عَطَائِك وَالسَّعَادَةَ بِلِقَائِك وَالْفَوْزَ بِجِوَارِك وَالْمَزِيدَ مِنْ آلَائِك وَأَنْ تَجْعَلَ لَنَا نُورًا فِي حَيَاتِنَا وَنُورًا فِي مَمَاتِنَا وَنُورًا فِي قُبُورِنَا وَنُورًا فِي حَشْرِنَا وَنُورًا نَتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْك وَنُورًا نَفُوزُ بِهِ لَدَيْك فَإِنَّا بِبَابِك سَائِلُونَ وَلِنَوَالِك مُتَعَرِّضُونَ وَلِأَفْضَالِك رَاجُونَ. اللَّهُمَّ اهْدِنَا إلَى الْحَقِّ وَاجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ وَانْصُرْنَا فِيهِ وَأَعْلِنَا بِهِ

اللَّهُمَّ اجْعَلْ شُغْلَ قُلُوبِنَا بِذِكْرِ عَظَمَتِك وَأَفْرِغْ أَبْدَانَنَا فِي شُكْرِ نِعْمَتِك وَأَنْطِقْ أَلْسِنَتنَا بِوَصْفِ مِنَّتِك وَقِنَا نَوَائِبَ الزَّمَانِ وَصَوْلَةَ السُّلْطَانِ وَوَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ وَاكْفِنَا مُؤْنَةَ الِاكْتِسَابِ وَارْزُقْنَا بِغَيْرِ حِسَابٍ. اللَّهُمَّ اخْتِمْ بِالْخَيْرِ آجَالَنَا وَحَقِّقْ بِالرَّجَاءِ آمَالَنَا وَسَهِّلْ فِي بُلُوغِ رِضَاك سَبِيلَنَا وَحَسِّنْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ أَعْمَالَنَا. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِآبَائِنَا كَمَا رَبَّوْنَا صِغَارًا وَاغْفِرْ لَهُمْ مَا ضَيَّعُوا مِنْ حَقِّك وَاغْفِرْ لَنَا مَا ضَيَّعْنَا مِنْ حُقُوقِهِمْ وَاغْفِرْ لِخَاصَّتِنَا وَعَامَّتِنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ فَإِنَّك جَوَّادٌ بِالْخَيْرَاتِ يَا مُنْقِذَ الْغَرْقَى وَيَا مُنْجِيَ الْهَلْكَى وَيَا شَاهِدَ كُلِّ نَجْوَى وَيَا مُنْتَهَى كُلِّ شَكْوَى وَيَا حَسَنَ الْعَطَاءِ وَيَا قَدِيمَ الْإِحْسَانِ وَيَا دَائِمَ الْمَعْرُوفِ وَيَا مَنْ لَا غِنَى لِشَيْءٍ عَنْهُ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ وَيَا مَنْ رِزْقُ كُلِّ حَيٍّ عَلَيْهِ وَمَصِيرُ كُلِّ شَيْءٍ إلَيْهِ إلَيْك ارْتَفَعَتْ أَيْدِي السَّائِلِينَ وَامْتَدَّتْ أَعْنَاقُ الْعَابِدِينَ وَشَخَصَتْ أَبْصَارُ الْمُجْتَهِدِينَ نَسْأَلُك أَنْ تَجْعَلَنَا فِي كَنَفِك وَجِوَارِك وَعِيَاذِك وَسِتْرِك وَأَمَانِك. اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ. اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا تُغْنِينَا بِهِ عَنْ أَهْلِهَا وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا مِنْ السَّلْوِ عَنْهَا وَالْمَقْتِ لَهَا وَالزُّهْدِ فِيهَا وَالتَّبَصُّرِ بِعُيُوبِهَا مِثْلَ مَا جَعَلْت فِي قُلُوبِ مَنْ فَارَقَهَا زُهْدًا فِيهَا وَرَغْبَةً عَنْهَا مِنْ أَوْلِيَائِك الْمُخْلِصِينَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ لَا تَدَعْ لَنَا فِي مَقَامِنَا هَذَا ذَنْبًا إلَّا غَفَرْته وَلَا هَمًّا إلَّا فَرَّجْته وَلَا كَرْبًا إلَّا كَشَفْته وَلَا دَيْنًا إلَّا قَضَيْته وَلَا عَدُوًّا إلَّا كَفَيْته وَلَا عَيْبًا إلَّا أَصْلَحْته وَلَا مَرِيضًا إلَّا شَفَيْته وَلَا غَائِبًا إلَّا رَدَدْتَهُ وَلَا خَلَّةً إلَّا سَدَدْتهَا وَلَا حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَنَا فِيهَا خَيْرٌ إلَّا قَضَيْتهَا، فَإِنَّك تَهْدِي السَّبِيلَ وَتَجْبُرُ الْكَسِيرَ وَتُغْنِي الْفَقِيرَ. اللَّهُمَّ إنَّ لَنَا إلَيْك حَاجَةً وَبِنَا إلَيْك فَاقَةً فَمَا كَانَ مِنَّا مِنْ تَقْصِيرٍ فَاجْبُرْهُ بِسَعَةِ عَفْوِك وَتَجَاوَزْ عَنْهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِك وَاقْبَلْ مِنَّا مَا كَانَ

صَالِحًا وَأَصْلِحْ مِنَّا مَا كَانَ فَاسِدًا فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت إلَيْك نَشْكُو قَسَاوَةَ قُلُوبِنَا وَجُمُودَ عُيُونِنَا وَطُولَ آمَالِنَا وَاقْتِرَابَ آجَالِنَا وَكَثْرَةَ ذُنُوبِنَا فَنِعْمَ الْمَشْكُوِّ إلَيْهِ أَنْتَ فَارْحَمْ ضَعْفَنَا. وَأَعْطِنَا لِمَسْكَنَتِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا لِقِلَّةِ شُكْرِنَا فَمَا لَنَا إلَيْك شَافِعٌ أَرْجَى فِي أَنْفُسِنَا مِنْك فَارْحَمْ تَضَرُّعَنَا وَاجْعَلْ خَوْفَنَا كُلَّهُ مِنْك وَرَجَاءَنَا كُلَّهُ فِيك نَسْأَلُك اللَّهُمَّ بِكَرَمِك وَإِحْسَانِك أَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِوَالِدَيْ وَالِدَيْنَا إلَى مُنْتَهَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِمَشَايِخِنَا وَمَشَايِخِهِمْ إلَى مُنْتَهَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِمَنْ قَرَأَ عَلَيْنَا أَوْ قَرَأْنَا عَلَيْهِ وَاسْتَفَدْنَا مِنْهُ وَاسْتَفَادَ مِنَّا وَاغْفِرْ لَنَا بِرَحْمَتِك وَكَرَمِك وَإِحْسَانِك يَا ذَا الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ وَالِامْتِنَانِ. وَأَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِوَجْهِهِ خَالِصًا وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ مَنْ طَلَبَهُ أَوْ كَتَبَهُ أَوْ قَرَأَهُ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ أَوْ عَمِلَ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْنَا بِالْعَمَلِ بِهِ وَأَنْ يَجْعَلَهُ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا وَأَنْ يَخْتِمَ لَنَا بِخَيْرٍ أَجْمَعِينَ وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكَرِيمَ الْمَنَّانَ أَنْ يُخَلِّصَنَا وَيُخَلِّصَ بِنَا وَيَكْفِيَنَا وَيَكْفِيَ بِنَا وَأَنْ يُعَافِيَنَا مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَإِمَامِ الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ

§1/1