المدخل في فن التحرير الصحفي

عبد اللطيف محمود حمزة

مقدمات

مقدمات: تقديم: قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لعلك قد سمعت من جيلنا من يقول: "نحن جيل بلا أساتذة". فهل يستطيع الأديب أو الإعلامي أن ينمو دون أن يكون له أستاذ من التراث في القديم، وفي الإبداع المعاصر والحديث؟ قال الأستاذ لتلميذه الفتى: "ليس هذا الذي نلاحظه في جيلك شيئًا جديدًا, إنه قديمٌ قِدَمَ الإنسان، بل إن من الجيل الأكبر من يظن أن ذكاء الناس يتضاءل أمام ذكائه، فيتعامل في عالم الأدب والفكر بناءً على تصوره هو، ضاربًا بذكاء الآخرين عرض الحائط.. أذكر لك هنا يا بني قول عليّ بن أبي طالب -كرم الله وجهه- لعامر بن مرو الزهري: "من أحمق الناس؟ فأجابه: "مَنْ ظن أنه أعقل الناس"! فقال الإمام عليّ: "صدقت, فمن أعقل الناس؟ " فأجابه: "مَنْ لم يتجاوز الصمت في عقوبة الجهل". ومع ذلك يا بني، فالأدباء الإعلاميون الشيوخ, هم أسعد الناس حين ينبغ من الشباب أديبٌ أو إعلاميٌّ، ألا ترى أنهم كالآباء يفرحون لنبوغ الأبناء؟ لقد مر البحتريّ الشاعر بجماعة من الشعراء، فرأى بينهم صبيًّا، فقال له: أشاعر أنت؟ فقال الصبيّ: نعم. وإني لأشعر منك!

قال البحتريُّ: مرحى.. فهل تستطيع أن تجيز قولي: ليت ما بين من أحب وبيني ... مثل ما بين ملتقى الخافقين قال الطالب لأستاذه الشيخ: ليت ما بين أجيال الأدباء والباحثين والمفكرين والإعلاميين والنقاد، ما بين الحاجب والعين، كما قال تلميذ البحتريّ! تذكر "السندباء" هذه "الشوارد"، حين وُكِّلَ إليه تسجيل هذا الاستهلال في الطبعة الجديدة من السفر النفيس: "المدخل في فن التحرير الصحفيّ" الذي راد به مؤلفه دراسات الإعلام في اللغة العربية، ومهَّدَ الطرق لمن جاءوا بعده من الدارسين والباحثين، ولا يرى "السندباء أن من حقه أن يسمي هذا الاستهلال "بالتقديم" فإن أستاذه: الدكتور عبد اللطيف حمزة -رحمه الله، مقدّم متقدّم، له من بحوثه ومؤلفاته وريادته، ومدرسته العلمية التي شيَّدَها، وأرسى دعائمها، له من ذلك كله، رسلٌ تتقدم به إلى كل مكان تصل إليه دراسات الإعلام في العصر الحديث. وليس من حق "السندباء" أن يسمي استهلال هذا الكتاب بالتعريف، وهو يتمثل قول الفرزدق: "العرب تعرف من عرفت".. فلا حاجة بالأستاذ الدكتور عبد اللطيف حمزة إلى تعريف, ولكننا نحاول أن نقول عنه شيئًا جديدًا فيما يتصل بنا، من تمثل لنموذجٍ من أعظم نماذج التواصل بين الأجيال في العصر الحديث. أستاذنا الجليل د. عبد اللطيف حمزة -رحمه الله، أصح من عرفت بمصر فقهًا في علوم الإعلام، وأصدقهم رأيًا في الأدب، وأكثرهم درايةً بالنص الصحفيّ منذ نشأة الصحافة العربية في مصر، في أوائل القرن التاسع عشر، ومنذ تطورها في القرن العشرين، ودارسًا، حتى رحيله عن عالمنا, بداية الثلث الأخير من هذا القرن. كان يدرس الصحافة في قسم الصحافة والتحرير والترجمة بكلية الآداب جامعة القاهرة منذ إنشاء هذا القسم، وقبله في معهد الصحافة والتحرير والترجمة بالجامعة نفسها.

بدأت أختلف إلى دروسه في كلية الآدابِ, فلزمته أربع سنين؛ لم أنقطع عن درسه في فن التحرير الصحفيّ، وتاريخ الصحافة المصرية، وعرفت فيه محبة الآباء لأبنائهم، ومبادلة الأبناء له محبةً بمحبةٍ تقترن بالإجلال والإكبار، وهي الصلة التي لخصها عميد الأدب العربيّ د. طه حسين في قوله، عن أثر العطف والحنان في نموذج الأستاذ، حين يتواصل مع تلاميذه، فيندفع الأستاذ والتلميذ على أن يتعصب كلاهما لصاحبه, ويناضل عنه, على نحو ما يكون بين الأبناء البررة والآباء المشفقين. سعدت بهذا الأستاذ قديمًا, وسأظل سعيدًا به طول الدهر؛ لأنه صادف القلب، في نضارة الشباب؛ ولأنه حبٌّ مصدره العلم, لم تفسد عنصره المادة، ولم تكدر جوهره مآثم هذه الحياة.. حب الأستاذ ودرسه قد أثَّرَا في نفسي تأثيرًا شديدًا، فصاغها على مثاله، وكوَّنَا لها في الأدب والنقد والصحافة والتحرير ذوقًا على مثال ذوقه، ومنهجًا على نحو منهجه.. إيثارٌ للتأصيل في الفكر والإبداع، وكَلَفٌ بمناحي التجديد في مدارس الإعلام والاتصال بالجماهير, وبغض شديد لما يعارض الضمير الصحفيّ، استجابةً لدعم الصلات بين المجتمع وصحافته، وما ينبغي أن تكون عليه هذه الصحافة.. كان دافعه لتأليف الكتاب إذ ذاك، كثرة ما نشر في نقد الصحافة, وقد انزلقت يومئذ إلى الإثارة والبعد عن النزاهة والاستقامة، والجنوح بالصحف إلى الأخبار الهشة، والموضوعات التافهة، والتسلية الرخيصة، والخوض أحيانًا في أعراض الناس بحقٍّ وبدون حقٍّ.. لذلك كانت قضية "التأهيل الصحفيّ" من أهم القضايا المحورية في عمله العلميّ بالجامعة، منذ انتقل إلى معهد الصحافة والتحرير في كلية الآداب، إلى أن عُيِّنَ رئيسًا لقسم الصحافة بعد ذلك في كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1962. تظهرنا السيرة الغيرية للدكتور عبد اللطيف حمزة, على أنه قد وُلِدَ في 7 يوليو سنة 1907 في طنا, بني سويف, ثم تخرج في كلية الآداب سنة 1931، ووفي سنة 1923 حصل على دبلوم معهد التربية العالي، وعُيِّنَ مدرسًا بمعهد التربية, ثم حصل على

درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة، وعُيِّنَ مدرسًا بكلية الأداب جامعة القاهرة, أستاذًا بقسم اللغة العربية فيها، ثم في سنة 1962 عُيِّنَ رئيسًا لقسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة. وفي 9 نوفمبر سنة 1964 انتدب للتدريس بجامعة بغداد؛ كرئيسٍ لقسم الصحافة بها, إلى أن رحل عن عالمنا في منتصف عام 1970 -رحمه الله, بعد رحلة جهادٍ علميٍّ كان من ثمارها أجيالٌ تخرجت على يديه، لتعمل في وسائل الإعلام على اختلافها، ولتواصل رحلة البحث العلميِّ في الدراسات الإعلامية، مؤكدةً المغزى الذي تلخصه سيرته في النموذج الإيجابيِّ للتواصل بين الأجيال. وتظهرنا سيرته الذاتية، على صورة رائعة من صورة الجهاد في البحث العلميّ، وفي المهنة الجامعية نفسها، وهو يواجه مشقات الحياة والمهنة بقلبٍ مطمئنٍ، وضميرٍ نقيٍّ، لا يبالي بمشقة الحرمان. عرفت أستاذي الدكتور عبد اللطيف حمزة -رحمه الله, منذ نيف وأربعين سنة، أي: منذ جيل كامل في النهضة الإعلامية والعلمية الحديثة، تتلمذ على يديه، ورأى فيه نموذج المجاهد العالم، وهو يعلم الأبناء كيفية تحرير الشعوب من العبودية والجهل، كما يعلمهم كيف يحاربون الطغاة والمفسدين؛ ليحرروا الناس من الظلم والذل والحرمان! رأوا فيه نموذج العالم والأديب والمعلم؛ الذي يتمثل في صورة المستكشف, مساهمًا في تقدم المدنية، والمفكر الذي يُبَصِّرُ الناس بحقائق الحياة، والمبدع الذي يملأ حياة الناس بالحب والإبداع، متوسلًا بوسيلةٍ من أعمق وسائل الاتصال بالجماهير، هي وسيلة الاتصال الصحفيّ، وقد عَلَّمَ تلاميذه أن يتخذوا منها وسيلةً تغطي الجدران العارية, للحياة الكئيبة على حد تعبير "والترسكوت" بثمار عبقرياتهم البهيجة الجميلة! مقدمًا النموذج الذي لا يسعى وراء ثناء الناس ومديحهم، ولا وراء الشهرة والمظاهر الزائفة، وإنما وكده دائمًا: السعى وراء الحرية والحق، وإنارة الطريق الذي يؤدي بالناس إلى السعادة والأمن والاطمئنان.

من مؤلفات أستاذنا الدكتور عبد اللطيف حمزة وبحوثه

من مؤلفات أستاذنا الدكتور عبد اللطيف حمزة وبحوثه: أولًا الكتب الأدبية: 1- تراث الإسلام ترجمة بالاشتراك مع لجنة الجامعيين لنشر العلم عام 1936. 2- ابن المقفع تأليف سنة 1937. 3 صلاح الدين تأليف سنة 1944. 4- حكم قراقوش تأليف سنة 1945. 5- الحركة الفكرية في مصر, في العصرين الأيوبيّ والمملوكيّ الأول. تأليف سنة 1947. 6- أدب الحروب الصليبية تأليف سنة 1949. 7- الفاشوش في حكم قراقوش تأليف سنة 1951. 8- صلاح الدين بطل حطين تأليف سنة 1958-1959. 9- الأدب المصريّ منذ قيام الدولة الأيوبية إلى مجيء الحملة الفرنسية. تأليف سنة 1960. "حلقة من سلسلة ألف كتاب". 10- القلقشندي مؤلف صبح الأعشى "حلقة من سلسلة أعلام العرب" تأليف سنة 1962.

ثانيًا: الكتب الصحفية 1- أدب المقالة الصحفية جزء أول عام 1950 2- أدب المقالة الصحفية جزء ثانٍ عام 1950 3- أدب المقالة الصحفية جزء ثالث عام 1951 4- أدب المقالة الصحفية جزء رابع عام 1951 5- أدب المقالة الصحفية جزء خامس عام 1952 6- أدب المقالة الصحفية جزء سادس عام 1954 7-0 أدب المقالة الصحفية جزء سابع عام 1955 8- أدب المقالة الصحفية جزء ثامن عام 1963 9- أدب المقالة الصحفية جزء تاسع, بالاشتراك مع د. عبد العزيز شرف, هيئة الكتاب 1999 10- الأدب والصحافة في مصر عام 1955 11- المدخل في فن التحرير الصحفيّ عام 1956 12- مستقبل الصحافة في مصر عام 1957 13- الصحافة المصرية في مائة عام عام 1957 14- أزمة الضمير الصحفيّ عام 1960 15- أخبار الشرق الأوسط في الصحافة العالمية "ترجمة - اشتراك". 16- الصحافة والمجتمع عام 1963 17- الإعلام "له تاريخه ومذاهبه" عام 1965 18- قصة الصحافة العربية في مصر طبعة بغداد عام 1967 19- الإعلام والدعاية عام 1968 20- الإعلام والجريمة "مقال طويل نشرته مجلة "الشرطة" ببغداد في عدد من أعدادها" عام 1968 21- الدعاية الصهيونية, طبعة النادي العربيّ بالخرطوم عام 1969 22- الدعاية والإعلام في عهد الرسول, طبعة جامعة أم درمان بالسودان عام 1959 23- الإعلام في صدر الإسلام عام 1970

ثالثًا: بحوث أدبية وصحفية نشرتها مجلات علمية 1- بعض بذور الشخصية المصرية في الأدبين القديم والوسيط, مجلة كلية الآداب, جامعة القاهرة, عدد ديسمبر 1953. 2- الحروب الصليبية وأثرها في العالم الإسلاميّ, مجلة العالم الإسلاميّ, عام 1953. 3- الجاحظ المعتزليّ "مجلة كلية الآداب". جامعة القاهرة, عدد ديسمبر 1957. 4 أسلوب القاضي الفاضل "مجلة الثقافة القديمة". 5 أبو الحسين الجزار وشعره "مجلة الثقافة القديمة". 6- أجواء فكرية وسياسية عاش فيها الأدب الحديث والصحافة المصرية "مجلة كلية الآداب" جامعة القاهرة, عدد ديسمبر 1954. 7- العقدة الشركسية عند مدرسة الشيخ محمد عبده, وأثرها في صحافة هذه المدرسة "مجلة كلية الآداب" جامعة القاهرة, عدد مايو 1956. 8- مستقبل التأهيل الصحفيّ, منشور رقم "1" من منشورات قسم الصحافة, جامعة القاهرة, عام 1957. 9- نشر الوعي الصحفيّ في المدرسة, المنشور رقم "2" من منشورات قسم الصحافة, جامعة القاهرة, عام 1958. 10- دور الصحافة العربية في تنمية الوعي القوميّ "صحيفة المجلة التي تصدرها وزارة الثقافة". 11- الطور الصحافيّ من أطوار الحركة الوطنية, مجلة كلية الآداب, جامعة القاهرة, عدد مايو عام 1958. 12- شخصية لا أنساها, وهي شخصية الشيخ على يوسف ومكانته من تاريخ الصحافة المصرية "مجلة الهلال عدد يولية 1959".

رابعًا: بحوث في مجال التربية والتعليم نشرت هذه البحوث في مجلة "الرائد" التي تصدرها نقابة المهن التعليمية, واتخذ لها عنوانًا ثابتًا في هذه الصفحة, وهو كما يلي: "الخالدون في ميدان التربية والتعليم" وجاءت تباعًا على النحو التالي: 1- زعماؤنا الخالدون في ميدان التربية والتعليم "مجلة الرائد, عدد أكتوبر" عام 1963. 2 رفاعة الطهطاوي, أو المعلم الأول "مجلة الرائد, عدد نوفمبر" عام 1963. 3- محمد عبده, المعلم الثاني "مجلة الرائد, عدد ديسمبر" عام 1963. 4- محمد عبده, أو المعلم الثاني "مجلة الرائد, عدد مارس" عام 1964. 5- أحمد لطفي السيد, أو المعلم الثالث "مجلة الرائد, عدد مارس" 1964. 6- طه حسين, أو المعلم الرابع "مجلة الرائد, عدد أبريل" عام 1964. كما كتب بحوثًا أخرى بعنوان: "الخالدين في ميدان التربية والتعليم". تتضمن الحديث مرةً أخرى عن الدكتور طه حسين, ثم الحديث, والمعلم الخامس, وهو المرحوم إسماعيل محمود القباني, الوزير السابق للتربية والتعليم, وواضح أنه من هذه البحوث الأخيرة سيتألف كتاب جديد بالعنوان المتقدم, وذلك بمشيئة الله تعالى. وما زال قَسَمُ الصحفيّ الجامعيّ الذي لقنه لتلاميذه محفورًا في قلوبهم، وهو القَسَمُ الذي يقول: قَسَمُ الصحفيّ الجامعيّ!! أقسم بالله العظيم, أن أحترم مهنة الصحافة، وأن أعمل فيها بشرفٍ وذمةٍ وأمانةٍ، وصدقٍ, ونزاهةٍ، وأن أجعل مصلحة الوطن هي العليا، وأن أشارك ما استطعت في بناء الإنسانية الراقية "المتحضرة".

وكتابه: "المدخل في فن التحرير الصحفيّ" الذي تصدره الهيئة المصرية العامة للكتاب، في طبعته الجديدة، هو الكتاب "العمدة" في موضوعه، منذ صدور طبعته الأولى من نيفٍ وأربعين عامًا، ولقد صدرت بعده كتب ودراساتٌ في لغة العرب وغيرها من اللغات، وما تزال للكتاب جدة, وما تزال له جوانب تَمَيُّزٍ, انفرد بها بين المراجع الكبرى في هذا الفن. ذلك أن أستاذنا د. حمزة, في رحلته العلمية، منذ اشتغاله بتدريس "الأدب المصريّ" وهو يستقري قوانين الإبداع في الأدب والنقد، وتغدو لديه بمثابة الأساس الراسخ لقوانين التحرير، هذا المنهج الاستقرائيّ أكسب كتابه التميز في موضوعه، وجعل له مكانة تصله بأسلافه من مؤلفي كتب "الصناعتين" في التراث العربيّ، صناعة الشعر وصناعة النثر, وكأنما كان يتفيأ تشييد صناعة ثالثة, هي صناعة "النثر الصحفيّ" الأمر الذي وجهه إلى دراسة "أدب المقالة الصحفية في مصر" كما عُنِيَ بدراسة التحرير، في كتابه: "المدخل في فن التحرير الصحفيّ"، متضمنًا دراسة: فن الخبر والتقرير، والمقال، وفن تحرير المجلة, حتى لنذهب إلى أن هذا الكتاب في "الصناعة الثالثة" صناعة "النثر الصحفيّ" إنما يمثل البلاغة الجديدة، حين تنظر إلى الناس, كما يقول طه حسين: من حيث لا يصطنعون الشعر للإعراب عما يضطرب في نفوسهم من شئون الحياة اليومية, وهم لا يحررون الصحف شعرًا ولا يكتبون فيما يريدون أن يكتبوا فيه حين يؤلفون الكتب شعرًا أيضًا، وإنما يصطنعون النثر في هذا العصر, كما اصطنعوه في جميع العصور, منذ تقدمت الحضارة لتأدية أغراضهم المختلفة". والبلاغة الجديدة ترتبط بالمدرسة التجديدية في المقال الصحفيّ؛ فكتابها هم الذين طوروا الذوق العام في النصف الأول من القرن العشرين، وقد أعانهم على الوصول إلى مشارف هذه البلاغة العملية أنهم لم يكونوا يعيشون في البروج العاجية, ولا يعتزلون الحياة الشعبية, ولا ينأون بحالٍ من الأحوال عن آلام الناس وآمالهم, ولا يهملون قدرتهم وطاعتهم، وإنما كانوا يعيشون مع الشعب, بل يعيشون بالشعب

وللشعب, يعيشون لأنهم كانوا يعربون عن ذات نفسه, يصورون له آماله ليحرض عليها, ويَجِدَّ في تحقيقها, ويفتحون له آفاقًا جديدةً من الأمل ليسرع إليها, ويمعن فيها، ويصورون له آلامه ليبرأ منها, ويضع عن نفسه أثقالها. وأيسر القراءة فيما كانوا يكتبون, وكما يظهر في سلسة: "أدب المقالة الصحفية" تبين ذلك في غير لبسٍ ولا غموض, فهم الذين صوروا له الاستقلال وزينوه في قلبه, وهم الذين بغضوا إليه الاحتلال, وأثاروه على الإنجليز، وهم الذين كَرَّهوا له الاستبداد, وأطمعوه في الحرية, وأغروه بالإلحاح في طلبها، وهم الذين أعدوه للثورة, وأسخطوه على حياةٍ سيئةٍ كان يحياها, وهيأوا ضميره ليسرع إلى الخير حين يدعى إليه، وينصرف عن الشر حين يُرَدُّ عنه، ويتقبل الإصلاح حين يُعْرَضُ عليه، وهم قاوموا الاستبداد, ولقوا في مقاومته ضروبًا من الأذى, وفنونًا من النكر، وهم قوّموا المعوجِّين من الحكام, وجَدُّوا في صرف الشعب عنهم, وتزهيده فيهم. فعلوا كل هذا, وتَقَبَّلَ الشعب منهم ما فعلوا, واستجاب الشعب لهم حين يخطبون أو يتحدثون". وفي دراسات د. حمَزة, التي ضمنها سلسلة: "أدب المقالة الصحفية" يتضح أن الصحفيين في المدرسة التجديدية، وقد جمعوا بين الثقافتين، استطاعوا بجهودهم أن يؤصلوا لغة الفن الصحفيّ العربيّ التي تقترب من لغة الأدب, وتمتاز بالسلالة والواقعية والتبسيط. وهذا التقارب الذي تكشف عنه البلاغة الجديدة بين مستويات اللغة العلمية والأدبية والعملية، إنما يدل على تجانس المجتمع، وتوازن طبقاته وحيوية ثقافته، ومن ثَمَّ إلى تكامله وسلامته العقلية، فمن الثابت أن العصور التي يسود فيها نوعٌ من التألف بين هذه المستويات, هي غالبًا أزهى العصور وأرقاها. يمتاز المقاليُّون التجديديون بأن ولاء مدرستهم يرتبط بالبيئة المتحضرة التي يعيش فيها الكاتب للجمهور وبالجمهور, تتبين هذه الميزة إذا نظرنا إلى المدرسة التقليدية من جهةٍ, وإلى العقاد والمازني وهيكل وطه حسين في المدرسة التجديدية من جهةٍ أخرى، فقد كان الكاتب التقليديّ لا يعيش لأدبه, وإنما يعيش بأدبه, في حاجة إلى حمايةٍ تكفل له ما يجب من العيش والمكانة, ولا بد له من "مسين" كما يقول الأوربيون، يحميه ويعطيه, ويحيطه بالرعاية والعناية، ويدفع عنه العاديات والخطوب, أما الأربعة الآخرون, فثائرون على هذا النوع من الحياة والأدب, يكبرون

أنفسهم أن يحميهم هذا العظيم أو ذاك, يعيشون أولًا ويعيشون أحرارًا. وهم يأبون أن يؤدوا عن إنتاجهم حسابًا لهذا أو ذاك, وقد فتحت هذه الحرية أمام المقاليّين المجددين أبوابًا لم تكن تفتح لهم حين كان الأدب خاضعًا للسادة والعظماء, فهم يؤثرون أنفسهم, ويؤثرون الفن, ويؤثرون الشعب بما ينتجون، وكذلك عكف هؤلاء المقاليون المجددون على الشعب؛ فجعلوا يدرسونه ويتعمقون درسه, ويعرضون نتائج هذا الدرس، ويظهرون الشعب على نفسه فيما ينتجون له من الآثار. ومن ثمار هذا الدرس جاءت البلاغة الجديدة؛ لتجعل من لغة الفن الصحفيّ لغة المغزى والمعنى والأهمية؛ إذ تقوم على الوظيفية الهادفة، والوضوح والإشراق، حتى لتكاد تكون فنًّا تطبيقيًّا قائمًا بذاته, فالفن الصحفيّ تعبيرٌ اجتماعيٌّ شاملٌ, لغته ظاهرة مركبة خاضعة لكل مظاهر النشاط الثقافيّ؛ من علمٍ وفنٍّ وموسيقي وفنٍّ تشكيليّ.. وغيرها من الفنون, إلى جانب السياسة والتجارة والموضوعات العامة. ومن ذلك يتضح لنا أن فن التحرير الصحفيّ يرتبط بنوع الوسيلة التي تحمله إلى الجمهور، ثم بطبيعة مادته وصياغته, فكل الأنواع التي نعرفها أدبيةً وعلميةً وصحفيةً، يمكن أن تكون فنونًا صحفيةً متى توفرت لها الحالية والحيوية والاستجابة لاهتمامات الجمهور، والصياغة السهلة القريبة إليهم. إذ أن فنون التحرير الصحفية هي الفنون التي تنشرها الجريدة لتواجه تساؤلات, أو اهتماماتٍ ذات صفةٍ حاليةٍ ترتبط بالأحداث الهامة, أو المشكلات التي تمس جمهور القراء، أو تلك التي يمكن أن تجري في حياتهم في المستقبل القريب، وهذا الفن يمتاز ببلاغته الصحفية، ويتخذ الصيغة المميزة لطابع الصحيفة التي تنشره, أو الصيغة للمدرسة أو المذهب الصحفيّ الذي ينتمي إليه كاتب المقال. على أن البلاغة الجديدة كما تظهر في دراسات أستاذنا د. حمزة -رحمه الله, تمتاز كما تقدَّم بأنها جاءت ثمرة للخصومة بين أنصار القديم والجديد في تراثنا الصحفيّ، ذلك أن الكثرة المطلقة من الذين يقرءون الصحف والكتب حريصةً كل الحرص على شيئين لا ترضي بدونهما: الأول: أن يُقَدَّمَ إليها نثرٌ فصيحٌ مستقيمُ اللفظِ, نقيُّ الأسلوبِ, برئٌ من الابتذال، حُرٌّ من أغلال البيان والبديع.

الثاني: أن يكون هذا النثر، على كل ما قدمناه ملائمًا لذوقها الجديد وميولها الجديدة، قيِّمًا في معناه, كما هو قيِّمٌ في لفظه, حر في معناه كما هو حر في لفظه أيضًا، ومعنى هذا: أن الكثرة المطلقة من الذين يقرأون العربية الآن, تحرص في حياتها كلها على أمرين: - نحرص على قديمها؛ لأنها لا تريد أن تمحو شخصيتها. - وتحرص على الجديد؛ لأنها لا تريد أن تكون أقلَّ من الغرب علمًا ولا أدبًا ولا حضارةً، وهذا النثر وحده الذي تقدم وصفه هو الملائم لهذا الذوق الجديد وهذه الآمال الجديدة. وفي أدب المقالة الصحفية في مصر يتأكد لنا أن طبيعة المقال تستلزم بيئةً مناسبةً للنمو والازدهار, ويظهرنا التطور المقاليّ على أن البيئة الأولى التي وُلِدَ فيها المقال على أيدي رفاعة الطهطاوي, وعبد الله أبو السعود, ومحمد أنسى، وغيرهم، كان قصاراها أن حاولت إنشاء ما يسمى: بـ "المقال الصحفيّ", ذلك أنها كانت مقيدة في هذه المحاولة بقيود كثيرة, كان معظمها نتيجةً للظروف السياسية والاجتماعية والفكرية التي اكتنفت رجال تلك البيئة, وفرضت على المقال الناشئ صبغة علمية أدبية, أكثر منها سياسةً واجتماعيةً، من حيث الموضوع، أما من حيث الأسلوب, فقد كان كتَّاب البيئة الأولى مقيدين كذلك بقيود تقليدية، أورثت لغة المقال لونًا باهتًا من ألوان النثر العربيّ, لم يكن خليقًا أن يحتذى، ولا كان جديرًا بأن ينسج على منواله, ولكن البيئة الصحفية الثانيةلم تلبث أن سئمت هذا اللون الباهت، فنعم فيها المقال بقسط من الحرية في الموضوع, ومن الحرية في الأسلوب، نتيجةً لاتجاهها إلى لونٍ آخر من ألوان الجهاد القوميّ، فاتجهت إلى الإصلاح الاجتماعيّ والسياسيّ واللغويّ. على أن المقال الصحفيّ في هذه البيئة لم يبرأ من عيوب المقال في البيئة الأول؛ حيث لم يستطع كتابه أن يرسموا في أذهانهم صورةً صحيحةً للمقال الصحفيّ, كما يفهم من هذه الكلمة عند إطلاقها اليوم. وإن كان هؤلاء الكتاب قد مهدوا لإدراك الفرق بين لغة الأدب ولغة الصحف, لظهور كتَّاب البيئة الصحفية الثالثة, التي ترتبط بظهور الصحافة اليومية، وهي

البيئة التي ولد فيها المقال الصحفيّ على يد السيد علي يوسف, صاحب "المؤيد" ولطفي السيد في "الجريدة" ومصطفى كامل في "اللواء" وفريد وجدي في "الدستور" وكانت هذه البيئة لنموِّ المقال الصحفيّ وازدهاره، لما اتصفت به من مقاومةٍ للاحتلال، ونشاط العقول والأقلام في هذه المقاومة، فامتاز المقال بالجِدَّةِ في الأسلوب السياسيّ, كما امتاز بالجدة في التفكير السياسيّ على حد تعبير د. حمزة -رحمه الله. وفي هذه البيئة الثالثة وجد الشبَّان من المجددين أساتذةً لهم, مهدوا للمفهوم المقاليّ الجديد، ووضعوا الثقافة العربية على بداية مرحلةٍ عنيفةٍ من صراع الأضداد، وذهب أبناء هذه المدرسة إلى تنمية الاتجاه العقلانيّ الذي أرساه الجيل السابق من كتّاب البيئة الصحفية الثالثة. ونخلص من دراسات د. حمزة, إلى أن البيئة الصحفية الثالثة هي التي وضعت المقال الصحفيّ على بداية مرحلةٍ جديدةٍ من لقاء الأصالة والمعاصرة؛ حيث تمثلت التيارين: القديم برافديه المصريّ والعربيّ، والحديث الوافد من الغرب، ولعل صفة البقاء والاستمرار التي عرفها المؤرخون عن تطور التاريخ في مصر, والتي نسبها "أرنولد ينبي" إلى اقترانها بعملية التغيير والتجديد, هي في الحقيقة أكثر اقترانًا بعناصر الأصالة وعناصر التجديد، من خلال وحدة الشعور التي وسمت البيئة المصرية بالبقاء والاستمرار. ولعل استقراء "لوبون" للحضارة المصرية, جاء أصدق استقراءٍ لحقيقة القوى الواقعة في البيئة المصرية؛ إذ يرى "مصر الفرعونية تعيش في مصر العربية باقيةً في مصرنا الحاضرة". وفي ذلك ما يُبَيِّنُ عمق العوامل النفسية التي وجَّهَت المقال المصريّ الحديث، حيث برهنت مصر طوال تاريخها على قدرةٍ فذةٍ على الاستجابة, وهذا هو السر في بقائها واستمرارها وتجددها, إلّا أنها في استجابتها, شأنها في ذلك شأن الأمم العريقة, لا تخلو من حوافز المقاومة المرنة، حتى لتضفي على الاستجابة تلك الحيوية التي تتمثل فيها الجديد, وتصهره في قديمها؛ ليكون النتاج: قوةً جديدةً تدفع بها إلى الإمام, ولعل في ذلك ما يفسر الصراع بين القديم والجديد، بين التقليديين والتجديديين في عصر النهضة الصحفية، كلونٍ من ألوان المقاومة المرتبطة بالاستجابة للجديد، الأمر الذي أكسب المقال والفنون الأخرى قوةً أبقى على الأيام.

ولذلك يرى د. حمزة -رحمة الله, أن من أسباب ظهور فن المقال الصحفيّ في مصر ملائمة البيئة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية لطبيعة فن المقال نفسه، وهي البيئة التي شهدت ظهور الرأي العام المصريّ وتكوّنه من خلال الصحافة والتعليم، والرغبة في التغيير السياسيّ والاجتماعيّ، وتلك هي العوامل التي هيأت لظهور فن المقال الصحفيّ؛ لأنه بطبيعته فنٌّ حضاريٌّ يزدهر في بيئة الفكر والعلم والنهضة والتعقيل. ويلاحظ القاريء الكريم لكتاب: "المدخل في فن التحرير الصحفيّ" أن التحرير يشمل قسمين رئيسيين في الصحف هما: الأخبار من ناحية، وفنون المعالم Features من جهةٍ أخرى، وأن هذه الفنون الأخيرة تشمل: فن التقرير الصحفيّ، وفنون المقال. أذكر لأستاذنا د. حمزة -رحمة الله, سلسلة مقالات في بداية الستينات، بعنوان: "دراسات وقراءات في النقد" منها مقالٌ خصَّصَه لدراسة نظرية "لسنج" في التفرقة بين الفنون, قال فيه: عاش لسنج في القرن الثامن عشر الميلاديّ, وحدَّثَ مرةً أن طلع على تمثل في الفاتيكان, وهو تمثال "اللاوكون" وكان موحيًا لكثير من الشعراء والأدباء الذين قالوا فيه الكثير من الشعر، وفي الوقت نفسه كان موحيًا للفنانيين الذين اشتغلوا بتقليده مرات عديدة. وقصة هذا التمثال خلاصتها: أن راهبًا كان يتعبد في معبد أبو لون، ثم كفر به في آخر حياته، وذهب يعبد إله البحر، فما كان أبو لون إلّا أن أرسل عليه لينتقم منه, والتمثال للراهب وهو يصارع ليدفع أذاها عن نفسه وعن ولديه, وحين رأي لسنج التمثال رأى آثار الألم باديةً على وجه الراهب وعلى جسده, ولكنه لاحظ أن هذا الألم مكبوت, وكان لسنج قد سبق له أن قرأ ما كُتِبَ عن شعر اللاتيني فرجيل، وفي هذا الشعر كان الراهب يصرخ ويصيح ويملأ الدنيا بصراخه وعويله, فالتفت لسنج منذ هذه اللحظة إلى الفرق بين فن النحت وفنِّ الشعر. فالقصة التي أوحت إلى النحات والشاعر واحدة، فأخذ لسنج يتساءل: ترى ما سبب هذا الفرق، وما كنهه؟ فالراهب في الشعر يصرخ، ويصف الشاعر ملابسه, ويذكر كثيرًا من التفاصيل التي تتصل بهذا

المنظر، الزاهب نفسه في الصخر, يكبت ألمًا وهو صامت صمتًا مخيفًا، ولا يقلُّ في روعته عن صراخ الشعر وعويله، أوحت هذا القصة للناقد إذن بالتفرقة بين الفنون؛ من حيث المواد الأولية التي يستعملها الفنانون؛ فرأي لسنج أن ذلك الفرق جاء من طبيعة كلٍّ من الصخر والشعر؛ إذ المادة الأولى التي يستعملها النحات وهي الصخر تختلف عن المادة التي يستعملها الشاعر وهي اللفظ. رأى أن النحات لا يمكنه أن يصور الراهب مرتديًا ملابسه, وإلّا اختفت آلامه, ورأى الراهب يصرخ في الشعر, فهل من الممكن أن يصرخ في الصخر؟ لو حاول النحات ذلك لرسم الراهب فاتحًا فمه, فلا يرى الرائي إلّا فتحةً مظلمةً تنقص من جمال التمثال, والجمال ينبغي أن يتوخى في النحت؛ لأنه يعرض للنظارة ليعادوا النظر إليه مرةً بعد أخرى, ولو ظهرت هذه الهوة المظلمة لظهر التمثال بشعًا تشمئز منه النفوس، فلا نعود إلى النظر إليه, وعلى هذا الأساس أخذ لسنج يفرق بين المواد الأولية للفنون, فهناك النحت والرسم والشعر والموسيقي، وموادها: الصخر والألوان والكلمات والأنغام, وهذه المواد تختلف فيما بينها, وبسبب ذلك تختلف الفنون بعضها عن بعض. والكلمة تمثِّل الحركة, فنحن إذ نصوغ صورةً من صور البشر, فإننا لا نصوغها دفعةً واحدةً, وإنما نصوغها كلمةً كلمةً, فهي متتالية في الزمن, وعلى خطٍّ مستقيمٍ, وعلى هذا, فلكلٍّ من الصخر والشعر ميدان يكون فيه أصلح من الآخر. والصخر يضع أمامك التمثال فتراه دفعةً واحدةً, وتعاود النظر فيه, ولكن الشعر لا نراه دفعةً واحدةً, وإنما نراه متتاليًا في فترات زمنية متتالية أيضًا؛ فالصخر أقدر على تصوير العظمة، والشعر أقدر على تصوير الحركة. والصخر يشبه الرسم, في أن كلًّا منهما يظهر دفعةً واحدةً, والرسم يعتمد على الألوان, فتمثال الصبيّ المرح أو صورته, تؤخذ له في وقتٍ معينٍ, وفي لحظةٍ معينةٍ, وفي وضعٍ معينٍ, وتُمَثِّلُ حالةً معينة، أما صورة الصبيّ المرح في الشعر, فتذكر لنا السبب الذي من أجله فرح هذا الصبيّ, والظروف التي جعلته يشعر بهذا الفرح. ولو أن الشاعر أراد أن يصف التمثال والصورة الزمنية, وذكر تلك التفاصيل التي يستخدمها النحات أو الرسام, وأخذ يذكر أن طول الذراع كذا، وأن سعة العين كذا وأن

الظل على هيئة كذا, لخرج كلامه من دائرة الشعر, ثم إن الألوان في الرسم توحي بما لا توحي به الكلمات المقابلة لها في الشعر؛ فمثلًا كلمة "أحمر" لا توحي بما يوحى اللون الأحمر, وهكذا. والشعر يعتمد على الموسيقى, فهو يُمَثِّلُ اللامحدود؛ إذ الموسيقى تتجه إلى العواطف المبهمة، وهي غير محدودة الفهم, فنحن إذا استمعنا لأيَّةِ قطعةٍ موسيقيةٍ لا نفهم ماذا تقول, وإنما تثير فينا هذه القطعة عواطف, وتسير بنا إلى عوالم اللامحدود. ومع ذلك يفترق الشعر عن الموسيقى, وحين افترق عن بقية الفنون, فإنه يدل على معنًى؛ فالكلمة لها جانبان، جانب المعنى, وجانب الصوت؛ إذ لكل كلمةٍ جَرْسٌ، ومن هذا الجرس تتألف موسيقى الشعر, ومن أجل أن لكل كلمةٍ في الشعر معنًى, فإن الشعر يخالف هذه الفنون الأخرى. و"الخلاصة": أن لكل فَنٍّ من الفنون ميدانًا خاصًّا به، وقد جاء هذا التقسيم على أساس المواد الأولية. والتفرقة بين الفنون على هذه الطريقة عملٌ فنيٌّ ممتازٌ, ومع أن النقاد قبل لسنج فرقوا بين الفنون, كما لاحظنا ذلك عند أفلاطون الذي قارن الشعر بالرسم, فقال في نظريته هذه: إن الشعر كالرسم؛ إذ الرسم قريب من التقليد, والشعر مثله قريب من التقليد, ولاحظ أفلاطون أن هناك فنونًا جميلةً وفنونًا غير جميلة. والتصوير يعتمد على حاسة النظر, والموسيقى والشعر يعتمد على حاسة السمع, وهكذا فرقوا بين الفنون كذلك على أساس الفنان نفسه, ولكن لم يفرق أحدٌ قبل لسنج بين الفنون على أساس المواد الأولية, وهو بهذه التفرقة أتى ببرهانٍ جديدٍ لفهم طبيعة الشعر, وهاجم القائلين بنظرية التقليد, قائلًا: إن قصة الراهب السابقة الذكر واحدة, ولكن الفنون التي تختلف في موادها الأولية اختلفت في تصويرها؛ فالصخر يصور الألم المكبوت. ولم يكن هذا التصوير تقليدًا؛ لأن الفنان هنا صوَّر القصة, ولم ينقلها على حقيقتها, فالفنون إذن تختلف باختلاف المواد الأولية, رغم أن الصورة الموجودة في الطبيعة واحدة لم تتعدد.

ولو كان الشعر أو الفن تقليدًا لتشابهت هذه الصور في الفنون كلها، وكانت في ذلك مطابقة للواقع، ولكن هذا محال لاختلاف المواد الأولية لكل فنٍّ. فالشعر لا يصور من الطبيعة إلّا ما يختص بمادته الأولية "وهو عالم الحركة" ولا يقوى الشعر على تصوير العظمة وتخليد الأبطال كما يقوى الصخر على ذلك، ولا ينقل الألوان ويؤثر بها كما يفعل الرسم, ولا يصور اللامحدود والعواطف المبهمة كالموسيقي, بل إن للشعر عالمًا خاصًّا, وميدانًا معينًا لا يتعداه, ولا يصح أن ننظر إلى الشعر في ميدانه هذا على إنه ضربٌ من ضروب التقليد, كما ذهب إلى ذلك أفلاطون، بل هو تعبيرٌ ملائمٌ لطبيعته التي يخالف بها طبائع الفنون الأخرى. وفي الفترة نفسها نُشِرَ في "الأهرام" مقالًا بعنوان: "وداعًا دولة الشعر" قال منه: "بمناسبة البدء في بناء السد العالي، وبمناسبة تأميم قناة السويس قبل ذلك، وما جرى بين هاتين المناسبتين من أحداثٍ جسامٍ, تعرَّضَتْ في أثنائها القومية العربية لمحنة كبيرة, انتقل ذهني سريعًا إلى الحركة الوطنية منذ بدايتها على يد الزعيم الشاب مصطفى كامل, إلى المرحلة التي كان يقود فيها الحركة زعيمٌ آخر جليلٌ, هو المرحوم سعد زغلول، وبالموازنة السريعة بين الحركة الوطنية على يد هذين الزعيمين الكبيرين، والحركة القومية على يد الرئيس جمال عبد الناصر، ووقفت حائرًا في تفسير هذه الظاهرة, لماذا اقترنت الحركة الوطنية في جميع مراحلها بنهضة الشعر المصريّ والعربيّ، ولم تقترن الحركة القومية بنهضةٍ تماثل أو تزيد على الأول زيادةً تتفق وجلال الحركة الأخيرة؟ لقد اقترنت الحركة الأولى، وهي الحركة الوطنية، بظهور طائفةٍ من الشعراء الكبار, أمثال: شوقي وحافظ، وخليل مطران، وإسماعيل صبري، وعلى القاياتي, وأحمد محرم.. أبلى كل واحد منهم بلاء حسنًا في ميدان الحركة الوطنية، وكان لكلٍّ منهم أثرٌ بعيد المدى في نفوس الجماهير. والعجيب في الموضوع أن الصحافة كانت صاحبة الفضل الأكبر في تلك النهضة الشعرية التي صحبت الحركة الوطنية، فقد كان على الشاعر أن ينشر قصيدته في صحيفةٍ سيارةٍ ليضمن أن تصل إلى الجماهير، كما كان على الشاعر أن يحسب في

قصيدته حسابًا كبيرًا لهذه الجماهير، وهكذا أصبحت القصيدة الشعرية صورةً من المقالة الصحفية في هدفها، والعجيب أيضًا أن القراء كانوا يتلهفون تلهفًا عظيمًا على قصيدةٍ لشوقي, أو لحافظ, أو لغيرهما من شعراء الوطنية, كما يتلهفون على مقال مصطفى كامل, أو على يوسف, أو سعد زغلول، أو أمين الرافعي، أو عبد القادر حمزة, أو عباس العقاد، وكانت القصيدة الشعرية تحتل مكان الصدارة من الصحيفة، فهي لا تنشر غالبًا إلّا في الصفحة الأولى، وفي مكانٍ بارزٍ من هذه الصفحة. فأين هذا كله اليوم؟ ولم اختفت القصيدة من الشعر اختفاءً تامًّا من الصحف؟ ولِمَ قلت عناية الناس بقراءة القصيدة السياسية والقصيدة الاجتماعية, وأين من شعراء الشباب العربيّ من كان يجب أن يخلفوا الشعراء القدامى. هل هي الصحافة التي أصبحت كما يقولون صحافة خبر، بعد أن كانت إلى عهد قريب صحافة رأيٍ ومقالٍ؟ وما دام المقال نفسه قد اختفى, أو كاد يختفي من الصحف, فأولى بذلك القصيدة التي قلنا إنها صورة من المقالة في هدفها. هل المسئول عن هذه الحالة نوع من التطور الأدبيّ تخضع له النهضة في أيامنا هذه، وهو تطور من مظاهره أن أصبحت الأغنية, أو النشيد, يقومان مقام القصيدة, ويسدان مسدها "! من هذين المقالين يتضح لنا أن فكرة "الصناعة الثالثة" في النقد الأدبيّ، تمثل محورًا رئيسيًّا في دراسات "التحرير الصحفيّ" عند أستاذنا د. حمزة -رحمه الله، يريد من ورائها وَصْلَ اللاحق بالسابق، كما صنع نقاد أواخر القرن الثاني والقرون التالية؛ حين أثاروا في "صناعة الشعر" أفكارًا نقديةً بموهبة الشاعر، والإجراء الثنائي الذي يبذله، والملاءمة النوعية، وتثقيفه بقوانين فن الشعر، وضرورة مراعاة الزمن المناسب لإنشاء القصيدة، والعمل في ظل الدوافع النوعية!. وفي دراساته الأدبية والنقدية، عُنِيَ بالجاحظ عناية دفعت به إلى أن يراه صحفيُّ عصره، ويشير إلى رسالة "بشر بن المعتمر" التي ضمنها "البيان والتبيين"، وما تشير إليه من إعدادٍ للنصِّ الأدبيِّ نثرًا وشعرًا، وهي الفكرة التي شغلت ابن المدبر 270هـ؛ حين عُنِيَ باستقراء مقومات النص الأدبيّ في "الرسالة العذراء" وقد

خصها د. حمزة, بدراسته في مقدمات "أدب المقالة الصحفية في مصر" وكذلك ابن قتيبة الذي تناول من خلاله عملية بناء النص. وحين يستقرئ النص الصحفيّ في العصر الحديث, يدرس أثر الصحافة في هذا النص، من حيث أصبحت موضوعية في اهتماماتها، أصبحت مقالاتها تُعْنَى بالاقتصاد والاجتماع والفن والأدب والرياضة والثقافة جميعًا, ذلك أن فن التحرير الصحفيّ يشتق موضوعاته من الحياة الواقعية، ويشتق لغته كذلك من نفس تلك الحياة الواقعية، وينبغي أن يكتب باللغة التي يفهمها أكبر عدد من الشعب على اختلاف أذواقهم أو أفهامهم أو بيئتهم أو ثقافتهم, وهذه اللغة هي اللغة القومية في صورتها العملية, وليست صورتها العامية؛ لأنها تمتاز بالبساطة والوضوح والإيناس واللطف والرشاقة، وتنأى ما أمكن عن صفات التعالي على القرَّاء والتقعر, أو الغرابة في الأسلوب, والمبالغة في التعمق الذي لا تقبله طبيعة الصحف بحالٍ ما. في مواجهة هذه الوظيفة الاجتماعية العملية, اتخذ التحرير الصحفيُّ أشكالًا جديدةً منها: المقال الرئيسيُّ والعمود الصحفيُّ، ومقالات اليوميات، والتقرير بأشكاله المختلفة، وذهب الصحفيُّ بهذه الفنون يعالج السياسة والحياة اليومية, ويتعرض لبعض شئون الاجتماع، وقليل منه كان يفرغ للأدب الخالص فراغًا تامًّا، وكان للصحافة المعارضة فضل ظهور فنّ المقال النزالي على الصعيد الأدبيّ أولًا, ثم على الصعيد السياسيّ فيما بعد. فعلى صفحات "الجريدة" تناظر مصطفى صادق الرافعي عن الأدب القديم، وطه حسين عن الأدب الجديد, ثم ما لبثت هذه المعركة أن انتقلت إلى "السياسة الإسبوعية" ولعلها مستمرةٌ إلى يومنا هذا, وتناظر العقاد مدافعًا عن الأدب السكسوني ضد الأدب اللاتيني الذي دافع عنه طه حسين, وعلى الصعيد السياسيّ كانت الحملات قاسيةً, بل ضاريةً أحيانًا, وبعض هذه الحملات أنقذ البلاد من نير الظلم، ونعني: الحملة التي قادها على يوسف ضد اللورد كرومر باسم: "مقالات قصر الدوبارة بعد يوم الأربعاء" وعددها أربعة عشر مقالًا، واشتهر منها مقالات مصطفى كامل ضد كرومر أيضًا، وقد أطاحت به، وأبعدته عن الحكم في مصر. ويذهب الدكتور طه حسين في هذا الصدد إلى أن الخصومات السياسية قد يسَّرت اللغة، ومنحت العقول حدةً ونفاذًا رائعين، واستطاعت أن تشغل الجماهير، وتعلمهم العناية

بالإمور العامة, والاهتمام بها, والتفكير المتصل فيها, ويذهب إلى أن هذه الخصومات التي استحدثت فن المقال النزالي قد أحيت في النشر العربيّ فن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ, وقصر فيه بعده من الكتاب, فقد أصبح هذا الهجاء السياسيّ من أهم الألوان في أدبنا العربيّ الحديث؛ فيه الحدة والعنف, وفيه المتعة واللذة, وفيه التنوع والاختلاف بتنوع الأمزجة واختلافها، وفيه الإيجاز والإطناب، وفيه التصريح والإشارة. ويذهب الدكتور طه حسين أيضًا إلى أن الخصومة السياسية قد دفعت صحف الأحزاب المختصمة إلى التنافس, فافتَنَّت فيما جعلت تنشر من الفصول أو المقالات؛ فاستعرض الكُتَّابُ الادب القديم يحيونه بالنقد والتحليل, كما استعرضوا الآداب الأوروبية الحديثة يذيعونها ناقدين ومحللين ومترجمين, وإذا هم بعد هذا كله يرقون إلى إنشاء الدراسات التي تطول, حتى تصبح كتبًا تستقل بنفسها, وتقصر حتى تصبح فصولًا تنشر في الصحف والمجلات، ثم يجمع بعضها إلى بعضٍ فإذا هي أسفارٌ قيِّمَةٌ يجد فيها القاريء نفعًا ولذةً ومتاعًا. وما دامت اللغة هي الرابطة الكبرى بين الصحافة والثقافة بالمفهوم الاجتماعيّ، فينبغي أن ننظر إليها نظرًا علميًّا صحيحًا، فاللغة ليست القواعد التي نحصلها ونسميها بالنحو المتواضع عليه، وهي لا يمكن أن تكون وسيلة إفادةٍ فحسب، بل لا يمكن أن تخضع لقواعد المنطق الصوريّ, أو المنطق الإستطاليسيّ الذي قسم الكلام إلى مخارج محدودة, جعلها أسماءً وأفعالًا وأدوات, اللغة ليست هذا كله، ذلك لأنها بمفهومها الاجتماعيّ سلوكٌ فرديٌّ وجماعيٌّ, وهي بهذا المفهوم ترتبط بالصحافة من حيث هي مرآة تنعكس عليها مشاعر الجماعة وآراؤها وخواطرها، ومن هنا, جاء تعريف أوتوجروت للصحافة بأنها تجسيد لروح الأمة. وتأسيسًا على هذا الفهم، فإن البلاغة الجديدة في الحضارة الصحفية تبعد به عن البلاغة الجمالية للمقال في حضارة التدوين؛ إذ تجعل من هذا الأخير فنًّا جماليًّا، في حين تنظر البلاغة الجديدة للتحرير الصحفيِّ على أنه فنٌّ تطبيقيٌّ، وكلاهما فنٌّ لا شك فيه, إلَّا أن البلاغة الجمالية تستعمل خامات اللون واللفظ للوصول إلى الجمال، أما البلاغة الجديدة في فنِّ التحرير الصحفيِّ فإنها تدخل في اعتبارها أمورًا عمليةً فنيةً اجتماعيةً. والتحرير الصحفيّ يجب أن يراعي مستوى القرَّاء وثقافتهم، وسياسة

الصحيفة، وقوانين المطبوعات والرقابة, والتعبير المبسط عن الأفكار المعقدة لتلائم السواد الأعظم من الجماهير المتصل بها, ولذلك يهتم التحرير الصحفيّ بتفاصيل ما يجري من الأحداث اليومية في المجتمع، وبتسجيل الإحصاءات والأرقام التي جمعت, والكلمات التي قيلت، والأحداث التي وقعت، كأنه يثبت جسم الحقيقة، في حين ينفذ المقال الأدبيُّ إلى روح تلك الإحصاءات والأرقام التي جمعت, والكلمات التي قيلت، والأحداث التي وقعت، كأنه يثبت جسم الحقيقة، في حين ينفذ المقال الأدبي إلى روح تلك الإحصاءات والأرقام والكلمات والأحداث من خلال اهتمامه بالقيم؛ فالفرق إذن بين الأديب والصحفيّ في فنِّ المقال هو في نزوع أحدهما إلى أعماق النفس البشرية، ونزوع الثاني منزع الناقد الاجتماعيّ الذي يُعْنَى بالواقع والتفاصيل. وعلى هذا فإن البلاغة الجديدة عند أستاذنا د. حمزة -رحمه الله, تطوّع اللغة لتتسع للكثير الجديد في نطاق الفكر النظريّ, والتطبيقات العملية طواعيةً ليست في المفردات فحسب، بل في التراكيب وصور الأداء، قد أدت هذه البلاغة الجديدة المرتبطة بالصحافة نشأةً وبيئةً، إلى تحرير النثر العربيّ من تلك الأغلال والقيود التي كان يرسف فيها النثر القديم, والتي كان يتكلفها في أواخر القرن الماضي بحكم العادة. ولم يكن بُدٌّ في ذلك الوقت الذي أحسَّ فيه العقل بحريته وشخصيته، من أن تشب الحرب ضروسًا بين المذهبين المختصمين دائمًا في النثر؛ مذهب أصحاب القديم, ومذهب أصحاب الجديد، وقد شَبَّتْ بالفعل هذه الحرب. البلاغة الجديدة ترتبط بالصحافة إذن, وبفن التحرير الصحفيّ بصفة خاصةٍ, ونستند في هذا المذهب إلى مقولةٍ يؤيدنا فيها الدكتور طه حسين, من أن الصحفيّ مضطر بحكم صناعته, وما تستتبعه من العجلة والاتصال بالجماهير, إلى أن يتحلل من هذه القيود البديعية، ويتخلص من هذه الأغلال الفنية, وكذلك فعل الصحفيون من السوريين، وكذلك فعل الصحفيون المصريون أيضًا، واستطاع الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وعبد الكريم سلمان, أن يكتبوا فصولًا لا تخلو من آثار القديم، فيها السجع, وفيها تكلف البديع والبيان، ولكنها بعيدةٌ كل البعد عما كان يكتب في أوائل القرن الماضي, ومنتصفه أيضًا، فيها حرية لفظية ومعنوية ظاهرة، وفيها اجتهاد في اختيار الحر من اللفظ

واجتناب المبتذل، وفيها طموح إلى الجديد, لم يكن يألفه الكتاب, وكثر انتشار المباحث العلمية الحديثة في مصر والشام بفضل المجلات والصحف والكتب، واشتدت حركة إحياء الأدب العربيّ في القطرين, وقرأ الناس العلم والأدب الغربيين، فنشطت عقولهم, وقرأوا الأدب العربيّ القديم, فاستقامت ألسنتهم وأقلامهم. ولم يكد ينتهي القرن الماضي حتى كان الجهاد بين القديم والجديد في لغة الفن الصحفيّ قد تطور غريبًا, فأصبح أنصار القديم لا يستمسكون بركاكة الجبرتي، ولا يحرصون على بديع ابن حجة, وإنما يستمسكون بقديم بغداد وغيرها من أمصار البلاد العربية في العصر العباسيّ، ويستمسكون بصحة اللفظ من الوجهة اللغوية, وبراءته من العامية والابتذال, وأصبح أنصار الجديد لا ينفرون من البديع والبيان، فقد استراحوا من البديع والبيان، وإنما ينفرون من الإغراق في هذا الأدب العربيّ القديم، ويطمحون إلى تقليد الأدب الغربيّ الحديث, واصطناع الألفاظ الأوروبية والأعجمية. اشتد الجهاد بين أنصار القديم والجديد في العقد الأول من هذا القرن، وكان السوريون بنوعٍ أخص من أشد الناس نصرًا للجديد, وكان شيوخ مصر هؤلاء الذين توسطوا بين الأزهر والمدارس المدنية؛ لأنهم تخرجوا في دار العلوم من أشد أنصار القديم، وكان العلم يزداد انتشارًا, والشباب يزداد إمعانًا في الاتصال بأوروبا، والتغذي بما فيها من علمٍ وأدبٍ، ثم كانت حركة وطنية في مصر قويةً عُنِيَت بها الصحف, واندفعت فيها اندفاعًا شديدًا, وكان الشبان قوة هذه الحركة، ومن الذي يستطيع أن يأخذ الصحف المندفعة في حركتها السياسية بملاحظة القديم وانتقاء الألفاظ؟ ومن الذي يستطيع أن يأخذ الشباب التأثر بأن يتقيد بالقاموس أو لسان العرب؟ وكان هذا كله صدمةً عنيفةً لأنصار القديم من الكتاب والشعراء, ذلك لأن الحركات السياسية نقلت الكتابة عن بيئتها القديمة إلى بيئاتٍ جديدةٍ, ما كانت لتكتب لولا هذه الحركات، فقد كانت الكتابة -كما كان العلم- حظًّا مقصوًا على بيئةٍ خاصةٍ من الناس، ثم أصبحت الكتابة -كما أصبح العلم- حظًّا شائعًا في الناس جميعًا، ومن ذا الذي يستطيع أن يأخذ الناس جميعًا بالتحرج فيما يكتبون, والتقيد بمعاجم اللغة وأساليب القدماء؟ وكانت الحرب العظمى فاشتد الاتصال والمخالطة بين المشرق والغرب، وانتهيا إلى حدٍّ لم يعرف من قبل، ثم انتهت هذه الحرب ونتج عنها ما نتج من هذه الثورة السياسية العامة في الشرق العربيّ كله، وأثر

هذا في حياة الناس على اختلاف فروعها, فلم يكن بُدٌّ من أن يؤثر في الأدب، وفي النثر بنوع خاص. ويطلق د. حمزة, على الصحيفة اليومية اسم: "جامعة رجل الشارع" يقصد بذلك أن الصحيفة الجيدة هي التي تقدم للقاريء أكبر قدر ممكن من الموضوعات الآنيّة: الحوادث الجارية، وتفسيرها لهذه الحوادث الجارية، الأخبار المتصلة بالحكومة وبالسياسة, وعرض وجهات النظر المختلفة في الميدان السياسيّ, معلومات تتصل بالعلاقات الدولية, معلومات تتصل بالمخترعات الحديثة والنظريات والأراء الحديثة, أخبار عن العمل والعمال, وعن السلع والأثمان, ونحو ذلك من الأخبار الاقتصادية الهامة, أخبار عن سلوك الناس في مختلف الطبقات, يجد فيها المهتمون بعلم النفس والاجتماع مادةً خصبةً للدراسة، ويجد فيها القارئ العاديّ موضوعات ثقافية أخرى, تفيد في تثقيف الملايين, وتبصرهم بالعالم الذي يعيشون فيه، تواريخ عن بعض الشخصيات الهامة في الماضي أو في الحاضر, يحس القارئ برغبته الشديدة في الوقوف عليها, ومعرفة الدور الذي لعبته في بناء الحضارة, معلومات خاصة بالفنون على اختلافها, ونحو ذلك. وباختصارٍ شديدٍ, ينتظر القارئ من الجريدة الجيدة أن تكون حافلةً بالموضوعات التي تخدم المجتمع في شَتَّى نواحيه، ويفيد منها الناس على اختلافهم. يفيد منها كاتب المأساة أو الملهاة، ويفيد الأخصائيّ الاجتماعيّ أو العالم النفسيّ, ويفيد منها الطبيب والمحامي والمدرس والصحفيّ المحترف, والصحفيّ الدارس, أو العالم، ويفيد منها الواعظ ورجل الدين والمصلح الاجتماعيّ والديني, وأخيرًا يفيد منها المدرسون في المدارس؛ لأنهم يرون فيها أمثلةً شَتَّى لكل قضية من قضايا العلم الذي يدرسونه للطلبة في كل مرحلة من مراحل التعليم المعروفة في كل أمة. إذا كانت هذه هي محتويات الصحيفة الجيدة, فكيف نستطيع أن ننتفع بها، أو بعبارةٍ أخرى، الطريقة التي نتبعها في قراءتها, والاطلاع على المهم من موادها؟ نحن نعلم أولًا أن هذه الأهمية نسبية خالصة، فما يهمني أن أطلع عليه في الصحيفة غير ما يهمك أن تطلع عليه في هذه الصحيفة, ومعنى ذلك أنه ليس هناك من يقرأ الجريدة كلها، لا يدع منها كلمة واحدةً، وإلّا لكان على هذا القارئ أن يقضي

أكثر من عشر ساعاتٍ كل يوم في قراءة الصحف التي يحبها ويختارها، وقد لا تكفي هذه الساعات على كثرتها لكي يستوعب ما يريد. إن قراءة الصحيفة يحتاج إلى ذكاء خاص من القارئ الواعي, وإنه ليطعن في ذكاء هذا القارئ اهتمامه بالموضوعات الطفيفة, وانصرافه عن الموضوعات الهامة المفيدة بالقياس إليه, وإلى نوع العمل الذي يرتزق منه، أو نوع الهواية التي يميل إليها, فعلى القارئ الواعي أذن, أن يعرف بالضبط أين تكتب الصحيفة هذه الموضوعات الهامة بالنسبة إليه, ولقد بالغ خبراء الصحافة في كتابة الإرشادات لقراء الصحيفة إلى حَدِّ أنهم أرشدوهم إلى الطريقة التي يمسكون بها الجريدة اليومية، فهمسوا في أذن القارئ مثلًا أن تفتح الجريدة اليومية لِمَ أطوها من نصفها طولًا؟ وابتدئ بقراءة الأعمدة الأربعة, حتى على اليمن؛ حيث تجد أهم أخبار اليوم, بهذه الطريقة نفسها تستطيع أن تقرأ الصفحة الثانية, ثم الصفحات الباقية, وقد دلت الإحصاءات التي أجريت في قراءة الصحف على أن الرجل العاديّ يستطيع أن؟؟؟ في اتباع أحسن الطرق للاستفادة بأحسن صورة ممكنة, لا شك أن القارئ يحس أن عليه أولًا أن ينظر نظرةً تامةً إلى محتويات الصحيفة, فإذا كان هناك دليل لهذه المحتويات فذلك, وإلّا فإن نظرة خاطفة إلى صفحات الجريدة كلها تعطي هذه الفكرة. كما يَحُسُّ هذا القارئ أن عليه بعد ذلك أن ينظر نظرةً خاطفةً إلى الصور والرسوم التي تشتمل عليها الصحيفة، ولا يستغرق ذلك في الغالب أكثر من ثلاث دقائق. وعلى القارئ بعد ذلك أن يعود إلى الأخبار الرئيسية، ولها يجب أن يخصص القارئ وقتًا لا يقل عن عشر دقائق بحالٍ ما, وعليه بعد هذا مباشرةً أن ينتقل إلى المقال الافتتاحيّ ليجد فيه تفسير الجريدة للأهم من هذه الأخبار الرئيسية، ومن حسن الحظ أن المقالات الافتتاحية تكتب في هذه الأيام بطريقة موجزة كل الإيجاز حتى لا تستغرق وقتًا ما من القارئ أن يرجع إلى الموضوعات التي تروقه, وتتفق مع هوايته, أو مع العمل الذي يعمله, وفيها بقضي القارئ بقية الوقت الذي خصصه لقراءة الصحيفة, ويستمتع بهذه القراءة كما يستمتع بأكل الفاكهة في ختام غذائه أو عشائه. وفي مقال آخر -في الفترة نفسها, الستينات- يكتب عن "حرية الصحافة ورقابة الرأي العام قائلًا:

"إذا كان للواجب الوطنيّ وسائل مختلفة يؤدى بها, فمما لا شك فيه أن الصحافة تعتبر من أقوى هذه الوسائل ومن أشرفها, ولكن كيف يمكن للصحفيّ أن يؤدي هذا الواجب الوطنيّ أداءً يرتاح له ضميره، ويكون في الوقت نفسه مصدر خير للمجتمع؟ لا شك في أن الطريق الوحيد إلى ذلك إنما هو حرية الصحافة, فهذه الحرية تعتبر في جميع الأمم الراقية صمام الأمن لها على الدوام, وإذا حدث أن وجدنا صحيفةً من صحف الرأي تعلو بنفسها إلى مرتبةٍ عاليةٍ من مراتب النزاهة والأمانة, وشهد لها المجتمع بذلك، فإن من الحق لهذه الصحيفة أن تعلو علوًّا كبيرًا على الرقابة، سواء أكانت هذه الرقابة من جانب المجتمع, أم كانت من جانب الحكومة. ويقال إن جريدة "التايمز" اللندنية, تتمتع بهذه المنزلة العالية, كما يقال: إن رئيس تحرير هذه الصحيفة الإنجليزية ينظر إليه دائمًا على أنه شريك الحكومة في تحمل المسئولية, وذلك باعتبار أنه موجه للحكومة. فأما الدعاية, فقد كشف الرئيس جمال عبد الناصر في كثير من خطبه عن هذه الدعاية السوداء التي قامت بها الصهيونية العالمية, من طريق الصحف الأمريكية، وبلغ الأمر بهذه الدعاية أنها زيَّفت بعض المجلات المصرية، وزيفت بعض الرسوم الكاريكاتورية، وزيفت بعض الأحاديث الصحفية، نسبتها تارةً إلى رئيس الجمهورية, وأخرى إلى القائد العام للقوات المسلحة. أشكر للأديبة المبدعة الدكتورة جيلان حمزة, وشقيقتيها الكريمتين: الأستاذة "كريمان" والأستاذة "وجدان" وللصديق العالم المفكر الأديب المبدع الأستاذ الدكتور سمير سرحان، إتاحة هذه الفرصة، التي كرمتني بتقديم سفر عظيم لعالم جليل، وأستاذ أعتز به وبعلمه، ولسوف يرى القارئ الكريم مصداق هذا المعنى حين يقرأ كتاب: "المدخل في فنِّ التحرير الصحفيّ", ويتعرف من قريب، على صورة أستاذ أراد للمعرفة العلمية أن تكون أداة عظيمة للوصول إلى غايات أبعد.... وقد كان ما أراد ... ذلك أن الغد إنما يصنع اليوم.... وحسبنا هذا الدرس الذي تعلمنا من أستاذ نذر نفسه للعلم, وأثرى حاضرنا بمن كان يسميهم: رجال المستقبل. رحم الله أستاذنا د. عبد اللطيف حمزة. ونفع الله بعلمه.

هذا الكتاب

هذا الكتاب: "1" كنا قبل اليوم حين نتحدث في دروس الأدب عن النثر نقول إنه نوعان: أولهما: النثر العاديّ, أو لغة التخاطب، وهو النثر الذي نصطنعه في حياتنا اليومية، وليس هذا النثر أدبًا, ولا ينبغي له أن يكون منه في شيء. وثانيهما: النثر الفنيّ، وهو النثر الذي نتجاوز به لغة التخاطب العادية إلى حيث يتوفر فيه شرطان أساسيان هما: التفكير من جهة، والجمال من جهة ثانية، وهذا النوع الأخير يعتبر أدبًا، ولا يشك أحدٌ في أنه جزء منه. كنا قديمًا نقسم النثر في دروس الأدب هذا التقسيم, أما الآن -ومنذ ظهور الصحافة- فنحن مضطرون إلى أن نقسم النثر أقسامًا ثلاثة, هي: النثر العاديّ، أو لغة التخاطب. والنثر الفنيّ، أو لغة الأدب. والنثر العلميّ، أو لغة الصحافة. وهذا النثر الأخير يقف في منتصف الطريق بين النوعين المتقدمين، له من الأول عاديته وألفته وسهولته وشعبيته، وله من الثاني حظَّه من التفكير، وحظه كذلك من عذوبة التعبير، ولكن لا يشترط فيه دائمًا أن يسمو بتعبيره إلى مرتبة النثر الفنيِّ الخالص. نقول: لا يشترط دائمًا فيه ذلك؛ لأن سموَّ النثر العمليّ أو الصحفيّ إلى مرتبة النثر الفنيّ أو الأدبيِّ ليس من الأمور المحظورة على الصحافة، بل كثيرًا ما نرى بعض المواد التي تنشرها الصحيفة تتطلب هذا المستوى الرفيع من جمال التعبير، كما سنوضح ذلك في غير هذا الموضع من الكتاب -إن شاء الله.

من أجل ذلك يصف الأوربيون الصحافة بأنها: "الأدب العاجل" وبأنها: "أدب غير خالد"، ذلك بأنها أدب وقتيّ، والمحرر الصحفيُّ لا ينفق فيها من الجهد ما ينفقه الأديب. "2" نحن نعلم أن المشتغلين بالصحافة كانوا دائمًا -وإلى عهد قريب- من رجال الأدب، ليس ذلك في مصر وحدها، ولكن فيها وفي غيرها من الأمم، وكان لذلك أثره في اللغة نفسها، فقد كان الصحفيون قديمًا لا يعرفون كيف يفرقون بين اللغة التي تستخدم في الصحافة, واللغة التي تستخدم في الأدب، ثم سرعان ما أصبحت الصحافة حرفةً من الحرف, ومنذ ذلك الوقت فقط, أخذت الصحافة تنفصل شيئًا فشيئًَا عن الأدب، وصارت فنًّا قائمًا بذاته, له لغته المستقلة، وصار لهذا الفن الجديد -وهو فن التحرير الصحفيّ- أصول وقواعد، وتفرع هذا الفن الجديد أيضًا إلى فروعٍ وشعبٍ. ونحن نعلم أن للصحافة فنونًا ثلاثةً على وجه الإجمال وهي: أولًا: فن التحرير، وهو الموضوع الذي نتناوله في هذا الكتاب. ثانيًا فن الإخراج، وهو الفن المتصل بالورقة والمداد والطباعة والصور والألوان، وتنسيق الصفحات، وكتابة العناوين صغيرها وكبيرها، وباختصار: هو الفن الذي يحاول به مخرج الصحيفة أن يجعل منها تحفةً فنيةً جميلةً يتسابق القراء إلى اقتنائها والانتفاع بها. ثالثًا: فن إدارة الصحيفة, وهو فن يتصل بالترويج والتوزيع والإعلان, وغيره من الأمور التي تدر الربح على الجريدة. تلك هي الفنون الثلاثة للصحافة, وقد رأينا -أو على الأصح- رأى "قسم التحرير والترجمة والصحافة" بكلية الآداب, أن يبدأ التأليف في الفن الأول، وهو "التحرير"، وعزم القسم بمشيئة الله أن يواصل البحث

في هذا الفن, وفي الفنين الآخرين، وفي سبيل هذه الغاية سيتعاون الأساتذة في هذا القسم من أقسام الجامعة، ومنهم الخريجون الذين يريدون الحصول على الدكتوراة في الصحافة, ولن يمضي وقت طويل -بإذن الله- حتى تزخر المكتبة العربية بالبحوث العلمية والفنية التي تتقدم بها الفنون الصحفية كلها خطوات إلى الأمام. "3" ولكن ما هي أقسام التحرير الصحفيّ من حيث هو؟ هنا يختلف العلماء فيما بينهم اختلافًا بعيد المدى، ومصدر اختلافهم هو الأساس الذي يبنون عليه تقاسيمهم المختلفة على هذا النحو: فمن العلماء من يقسمون التحرير الصحفيّ على أساس الموضوع؛ فتحريرٌ خاصٌّ بالسياسة، وتحريرٌ خاصٌّ بالعلوم، وثالث خاصٌّ بالاجتماع، ورابع بالتعليم، وخامس بالمرأة، وسادس، وسابع، وثامن بالسينما والمسرح والرياضة والكتب والزراعة, إلخ، وعلى الصحف -في رأي هؤلاء- أن تخصص صفحةً لكل موضوع من الموضوعات السابقة على حدة. ومن العلماء من يميلون إلى تقسيم التحرير الصحفيّ إلى فنون؛ من حيث الزاوية التي ينظر منها المحرر إلى هذه الفنون, فهناك الزاوية التاريخية، وهناك الزاوية النقدية، وهناك الزاوية التي تتصل بالخبرات الخاصة, إلخ. ومن العلماء من يفضلون تقسيم التحرير الصحفيّ على أساس الأشكال المختلفة لهذا التحرير, فمن أشكال التحرير الصحفيّ كما هو معروف المقال، ومنها العمود, ثم الحديث والتحقيق، والأخبار المسرودة، والأخبار التي على شكل قصص، والأخبار التي على شكل طرائف خفيفة, يقصد بها إلى التسلية والإمتاع، ويسميها الإنجليز والأمريكيون "Features" وكثيرًا ما تتصل هذه الطرائف بموضوعٍ من الموضوعات الإنسانية التي يميل إليها القراء، ثم من أشكال التحرير الصحفيّ أيضًا الماجريات على

اختلافها من برلمانية إلى قضائية إلى دولية وهكذا. وهذا التقسيم الأخير هو الذي أخذنا به في هذا البحث, ومن هنا يتضح لنا منذ بداية الأمر كيف تتداخل فنون التحرير بعضها في بعض, وكيف يصعب التمييز بينها تمييزًا لا يقبل الشك، وسنعود إلى الحديث عن هذه المشكلة في بداية الكتابة الرابع من كتب هذا البحث. "4" على أن الفن الصحفيّ في ذاته من أشد الفنون كلها قبولًا للتطور، ذلك أنه من أشدها اتصالًا بالحياة الإنسانية والنشاط الإنسانيّ، وهذا النشاط في تغيّر مستمرٍ، لا تستطيع الحياة البشرية معه أن تثبت على حالة واحدة. فرب كتاب يؤلف في "الفن الصحفيّ" هذا العام, يصبح شيئًا قديمًا في ذاته بعد أعوام, غير أن ذلك لا يصح أن يمنع العلماء من القيام بالتأليف في هذا الميدان, فإن كان بحث من هذه الأبحاث -فضلًا عن أنه يرشد إلى أصول هذا الفن وقواعده- يحمل في طيَّاته العمر الزمنيّ لهذا الفن، أو الدرجة التي بلغها في فترة بعينها من حياة أمةٍ من الأمم. وتلك أسباب من شأنها أن تجعلنا نقدم هذا البحث إلى القراء, وإلى العلماء منهم بنوع خاصٍّ -في شيء كثير من التواضع أولًا- ومن الاعتراف بالواقع التاريخيّ ثانيًا، ومن التقدير الدقيق للفرق بيننا وبين الأمم التي سبقتنا إلى التأليف في هذا الفن آخر الأمر. وحسب هذا البحث أنه يعتبر من أول ما كتب باللغة العربية في الفن الصحفيّ بمصر, وأملنا كبير في أن تأتي بعدنا أجيال من الباحثين يتابعون التقدم الذي تصيبه الصحافة العالمية, أو الصحافة الإقليمية من حين إلى حينٍ، ويرسمون الطريق القويم الذي تنفذ منه الصحافة إلى المثل الأعلى الذي يطمع فيه الجميع.

وهنا يسرني أن أستطرد إلى ذكر طرف يسير من رسالة "قسم التحرير والترجمة والصحافة" بجامعة القاهرة، وهو القسم الذي أنشيء في مصر منذ عام 1954 فقط، وإن كان قد سبقه إلى الوجود، "معهد التحرير والترجمة والصحافة" بالجامعة منذ سنة 1940، وكان لا يقبل في ذلك المعهد غير الطلبة الذين أتموا دروسهم في كليات الجامعة على اختلافها, على حين أن القسم أصبح يقبل فيه الطلبة الحاصلون على شهادة إتمام الدراسة الثانوية. 5" إن رسالة "قسم التحرير والترجمة والصحافة" بالجامعة, يمكن أن تتلخص في العبارة الآتية, وهي: "رفع المستوى العلميّ والفنيّ والخلقيّ لجميع المشتغلين بمهنة الصحافة في مصر، والعمل على إثبات الشخصية المصرية لصحافتنا القومية في جميع المراحل التاريخية التي مرت بها إلى اليوم". فأما المستوى العلميّ, أو الثقافيّ, فمبنيٌّ عندنا على أساسٍ من الفهم الصحيح لمهمة الصحافة الحديثة, وتنحصر هذه المهمة في تنوير رجل الشارع, وتزويده بالثقافات التي يفهم بها المجتمع، كما يفهم بها الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تراد به في هذا المجتمع، وذلك ما دامت الحكومات الحديثة على اختلاف أشكالها تعتمد على رجل الشارع في إقناع الأمة بهذه الأوضاع، أو في إشراكها إشراكًا فعليًّا في رسم هذه الأوضاع. والصحافة الحديثة هي المسئولة في الحال والاستقبال عن إفهام المواطنين معنًى صحيحًا لكلمة "الوطنية", بحيث تصبح مرادفة في أذهانهم لكلمات "الضمير الحيّ", "وتقدير المسئولية". والصحافة الحديثة هي المسئولة في الحال والاستقبال عن إشراك المواطنين في كل حركةٍ يراد بها نقلهم من طورٍ إلى طورٍ، ومن حالةٍ إلى حالةٍ، ومن مستوًى ماديٍّ أو معنويٍّ إلى مستوًى أعلى منه.

ولن يتيسر للصحافة الحديثة شيء من ذلك حتى تزود "رجل الشارع" بقدر من المعلومات, يفهم به التيارات أو المذاهب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية. ومعنى ذلك باختصار: أن مهمة الصحافة الحديثة ليست مجرد سرد الأخبار, مهما غلب عليها الطابع الإنسانيّ، ولكن سردها والتعليق عليها، وشرحها "لرجل الشارع" شرحًا يبصره دائمًا بما يجري حوله الآن، وما سيجري حوله في المستقبل. ومن هنا تتضح ضرورة الهدف الأول من أهداف "قسم التحرير والترجمة والصحافة" وهو الهدف العلميّ, أو الثقافيّ, كما يتضح السبب الذي من أجله ينظر بعناية خاصة إلى موضوع "ثقافة الصحفيّ". "6" وأما المستوى الفنيّ فمبنيٌّ عندنا كذلك على أساس من الفهم الصحيح للصحافة, باعتبارها فنًّا من الفنون الحديثة, وإذا قلنا: "الفن" فنحن نعني الموهبة والاستعداد من جهة، كما نعني التدريس والممارسة من جهة ثانية. ذلك أن من الناس من هو موهوب بالطبيعة: موهوب في الموسيقي، أو موهوب في الأدب، أو موهوب في الصحافة، وهكذا, وهؤلاء الموهوبون من حقهم على الدولة دائمًا أن تعينهم على الظهور في المجتمع، كأن تيسر لهم سبيل الدخول في المعاهد الخاصة، وتنفق عليهم بسخاء في هذه الناحية، وتمنحهم أعظم الفرص الممكنة لإظهار المواهب التي خصهم الله بها. والفرق كبير -على أية حالٍ- بين موهوب حُرِمَ حظًّا من التعليم، وآخر نال حظًّا أو حظوظًا من التعليم. وتطبيق ذلك على الصحافة واضح كل الوضوح، فهناك طرق خاصة لتحرير الخبر الداخليّ، وهناك طرق خاصَّة لكتابة العمود أو المقال الصحفيّ، وهناك طرق خاصة لكتابة

الحديث أو التحقيق، ونحو ذلك, وليس شكٌّ في أن وقوف المحترفين للصحافة -حتى الموهوبين منهم- على هذه القواعد والأصول, يمدهم بطائفةٍ من التجارب الكثيرة من جانب، ويشحذ عقولهم ومواهبهم للوصول إلى طرق أخرى جديدة من جانب آخر، وقل مثل ذلك بالقياس إلى الفنون الصحفية الآخرى -عدا فن التحرير- كفن الإخراج، وفن الإعلان, وفن التوزيع, وفن الدعاية.. إلخ. ومن هنا تتضح ضرورة الهدف الثاني من أهداف الجامعة، وهو الهدف الفنيّ، وفيه تعتمد الجامعة على إمكانياتها الخاصة أولًا، وعلى المعونة التي تقدمها الصحف الكبرى لتدريب الطلبة والطالبات في دورها بعد ذلك. "7" أما الهدف الخلقيّ: فمبنيٌّ عندنا كذلك على أساسٍ من الفهم السليم لظاهرةٍ في منتهى البساطة, وخلاصة هذه الظاهرة: أن الصحيفة "كالخبز واللبن واللحم والخضر والفاكهة" من المواد التي تدخل البيت كل صباحٍ ومساءٍ، فينبغي إذن أن تكون على جانب كبير من النظافة والنقاء، بمعنى: أن تكون نقية من الجراثيم التي تجلب الأمراض المعدية والأوبئة الفتاكة. ومعنى ذلك أن على الحكومات -كما على الشعوب- أن تساعد على وقاية صحفها من الأفكار السامة، والآراء الخبيثة، والنظريات الهدامة، والصورة المريضة, أو الضارة بوضعٍ من أوضاع المجتمع، سواء اتصل هذا الوضع بالدين، أم بالأخلاق، أم بالمفهوم العامِّ لكلمة "الوطنية" أو "الحرية" أو "المسئولية" إلخ, أما الصحافة الصفراء التي لا هَمَّ لها إلّا إثارة الجمهور -لا لقصدٍ غير ابتزاز الأموال, واللعب بغرائز النساء والرجال- فصحافة ضررها أكثر من نفعها، بل عدمها خير من وجودها. هل من الحذق الصحفيّ -مثلًا- أن يعمد المخبر الصحفيّ إلى سرقة التقارير من رجال الحكومة والأعمال، مهما كان الدافع إلى هذه السرقة:

من ادعاء خدمة مصلحة من مصالح الوطن العليا، أو الكشف عن سر من أسرار مؤامرة كبرى؟ نظن لا! هل من صالح الجريدة الشعبية, أو من صالح القراء أنفسهم, أن تسعى الصحف في نشر الجريمة، وأن تجعل الغرض من نشرها التشهير بالأسر المعروفة, أو النيل من الشخصيات المرموقة، أو المبالغة في وصف الطرق التي اتبعت في تنفيذ الجريمة؟ نظن لا! إننا نكتفي بهذين المثالين، ونوضح للقارئ موقف "قسم الصحافة" من كل منهما على حدة، ونربط حكمه هنا بهذا الهدف الثالث من أهدافه، وهو الهدف الخلقيّ. أما سرقة الخبر: مهما كان الدافع إليها, فإننا نرى أن ذلك إن أصاب الغرض مرةً, فإنه يخطيء هذا الغرض مرات، وإذ ذاك تنحط قيمة المخبر الصحفيّ في نظر المجتمع، وتفقد الصحيفة ثقة الجمهور والحكومة في وقت ما. وفي شتّى الوسائل التي يدرسها الطلبة للوصول إلى الخبر ما يغني عن ارتكاب السرقة, ومن هذه الوسائل -على سبيل المثال- الصداقة التي ينبغي أن ينشئها المخبر دائمًا مع الناس, على اختلاف الدرجات والطبقات, ومنها الإيهام بالعلم، بمعنى: أن المخبر يستطيع بلبقاته أن يوهم مصدر الخبر بأنه على علم به. وعن طريق الصداقة يستطيع المخبر الناجح أن يدرس نفسية الرجل أو المرأة التي هي مصدر الخبر، وله أن يبني العلاقة بينه وبينهما على المجاملات والهدايا والطرائف، وإشباع الهوايات الخاصة التي يكشف عنها المخبر في الشخصية التي هي "مصدر الخبر". وهذا وذاك من الأمور الجائزة، بل المستحسنة عند رجال الصحف، ولها جزء من ميزانيتها في أغلب الأحيان, وأما نشر الجريمة على أساسٍ من التشهير والتشنيع والفضيحة والمبالغة, فشيء لا نقره مطلقًا، بل نرى فيه دليلًا على انحطاط مستوى الشعب ومستوى

الجريدة معًا. وكما قال أحد أساتذة الصحافة في الجامعات الأمريكية لطلبته كلما دخل حجرة البحث أو المحاضرة "انشروا الخبر- أيها الطلبة- دائمًا بالطريقة التي تستطيعون أن تقرءوه بها على آبائكم وأمهاتكم وإخوانكم في منازلكم الخاصة"! ومعنى ذلك إذن: أنك حين تنشر الخبر, وترى فيه كلمة نائية، أو عبارة مقذعة، أو أسلوبا يخدش الشرف، وتحس أنك غير قادر على أن تقرأ ذلك على أبيك أو أمك أو أختك في منزلك، فمن المروءة والشرف في هذه الحالة أن تحذف هذه العبارة, وتأتِي بأخرى غيرها, قد تؤدي معناها على وجه التقريب, ولكن ليس من المروءة والشرف أن تختفي وراء الكلمة المطبوعة, وتتركها تنفث السموم القاتلة في البيت والطريق والنادي والمقهى, إلخ. وقد ذكرتني كلمة الأستاذ الجامعيّ المتقدمة, بما كان يفعله الأدباء المصريون في القرنين السادس والسابع للهجرة، ففي تلك الفترة من فترات الأدب المصريّ, اخترع النقاد المصريون فنونًا كثيرةً من البديع؛ منها فنٌ أطلقوا عليه اسم: "النزاهة" وقالوا في تعريفه يومئذ: "النزاهة هي أن ينزه الكاتب أو الشاعر نفسه عن ألفاظ الفحش والبذاءة, حتى يكون الهجاء -كما قال أبو عمرو بن العلاء: تنشده العذراء في خدرها فلا يقبح عليها". أليس معنى ذلك أن "النزاهة" صفة من صفات الأدب المصريّ منذ العصور الوسطى إلى اليوم؟ أليس معنى ذلك أن "النزاهة" طابع تمتاز به الشخصية المصرية في الأدب منذ ذلك العهد؟ أليس معنى ذلك أن القيم الإنسانية نفسها خالد بخلود النفس البشرية ذاتها، وأن في بقائها ما ينذر الأشرار من الكتاب والأدباء بالويل؟ إننا نرجو حين نؤرخ للصحافة المصرية دائمًا أن نجد لها هذا الطابع الذي امتاز به الأدب المصريّ منذ عصوره الأولى، وإذ ذاك نطمئن إلى

أن الصحافة -التي هي بنت الأدب- ستحافظ دائمًا على الطابع الذي يمتاز به هذا الأدب؛ وإذ ذاك أيضًا نفخر بأن الصحافة المصرية ستحمي على الدوام ظهر الشخصية المصرية، وتمكنها من النماء والقدرة على مغالبة الزمن. "8" وبعد: فهذا البحث الذي بين يديك مؤلف من مقدمةٍ وأربعة كتبٍ وخاتمة، أما المقدمة: فهى ما فرغت الآن من قراءته. وأما الكتاب الأول: فموضوعه الرأي العام وتعريفه، والفرق بينه وبين الاتجاه العام والسخط العام, والحدود التي ينبغي أن تحد الرأي العام في ذاته، ثم كلمة عن تطور الرأي العام في مصر. وأما الكتاب الثاني: فموضوعه فن الخبر, تحدثت فيه عن تعريف الخبر، وطرق صياغته، والمذاهب المختلفة في نشره، ولغة كتابته، وعلاقته بالمجتمع. وأما الكتاب الثالث: فموضوعه فن المقال, تحدثت فيه عن تعريفه, وأنواعه الثلاثة التي هي: المقال الأدبيّ، والمقال العلميّ، والمقال الصحفيّ، وعن الحيل الصحفية التي تتبع في التحرير, في أوقات الأزمات والظروف السياسية الشاذة، وهي الظروف التي تفرض فيها الرقابة فرضًا شديدًا على الصحف. وأما الكتاب الرابع: فموضوعه فن التقرير, ونعنى به: فن الحديث الصحفيّ، وفن التحقيق الصحفيّ، وفن الماجريات: قضائية كانت أم برلمانية, أم دبلوماسية, أم دولية، وخصائص كل منها. وفي الخاتمة: تحدثت حديثًا تمامًا عن "مستقبل التحرير في مصر". والله أسأل أن ينفع به طلبة العلم، ومحترفي الصحافة في مصر والشرق, إنه سميع مجيب. مصر الجديدة في نوفمبر 1956 دكتور: عبد اللطيف حمزة

الكتاب الأول: الرأي العام

الكتاب الأول: الرأي العام "1" الصحافة والرأي العام: "الصحافة حارس الأمة الأمين" فمن الذي يُعَلِّمُ الوطنيُّ حقوقه؟ من الذي يرشده إلى واجباته؟ من الذي يكون له عونًا في المعترك الذي يلقي بنفسه فيه، ومن الذي يدرأ عنه عادية كل من أراد به سوءًا؟ هي الصحافة, وهي وحدها دون غيرها على الدوام, وإذا لم يكن هناك صحافةٌ أصبحت الشجاعة الأدبية أمرًا من الأمور الشاذة، بل أصبحت في حكم المستحيل، وكذلك شأن الشجاعة الحربية، فإن الجندي لا يرمي نفسه فوق الخطر، ولا يقدم على المهالك، إلّا عندما ترمقه أعين زملائه، ويشجعه صوت الطبول ورائحة البارود!. ولأجل أن يكون الرأي العام، وتتوطد دعائمه، يجب أن يوجد ذلك الصوت القويّ العظيم -صوت الأمة- الذي يعطي كل ذي حق حقه، فيثني في كل يوم على العاملين، ويؤنب المقصرين، ويذكر الناس بالمنافع العامة المشتركة، وبالمبادئ الاجتماعية، ويؤازر بقوته كل حق من حقوق الأفراد1. ويقول الأستاذ هارولد لاسكي في كتابه "محنة الديموقراطية2": "إن القدرة على توجيه الأخبار وجهةً معينةً هي نفسها القدرة على حرمان القراء من أن تصل إليهم المادة التي يستطيعون بها أن يكونوا لأنفسهم رأيًا في كل مشكلة، وإن من يوازن بين الطريقة التي عالجت بها الصحافة البريطانية موضوع نزع السلاح في وقت انعقاد مؤتمر جنيف عام 1932

_ 1 الأخبار عدد "2950" بتاريخ 9 فبراير سنة 1921. 2 الأستاذ هارولد لاسكي في كتابه "محنة الديموقراطية" ص 74.

والطريقة التي عالجت بها تلك الصحافة أخبار السلوك الجنسيّ عند رجال الدين الإنجليز, في الفترة نفسها؛ ليشهد أن الصحافة البريطانية أولت كل اهتمامها للموضوع الأخير, بقصد إهمال الموضوع الأول, على الرغم من أنه خطير, وهنا لا يجد القارئ صعوبة ما في اكتشاف الطريقة التي يتكون بها الرأي العام في بلد من بلاد الديمقراطيات الرأسمالية كانجلترا. الحق أن الصحافة مرآة الآمة، ولسانها الناطق بأفكارها وآرائها, ورغباتها وحاجاتها، وآلامها وآمالها، ومن هنا جاءت قوتها، وقد أطلق الناس عليها اسم: "السلطة الرابعة" -أي: أنها رابعة السلطات الثلاث المعروفة، التي هي السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية- وطريق الصحافة إلى كل ذلك هو التحرير, أعنى: تحرير الخبر أو المقال, وهما مادتا الصحف على اختلاف ألوانها ونزعاتها. ولتكوين الرأي العام في ذاته وسليتان هامتان هما: الكلمة المطبوعة، والكلمة المسموعة، ولكل من هاتين الوسيلتين مجالات تظهر فيها: فالكلمة المطبوعة تظهر في الصحيفة وفي المجلة، وهما مدرستا الشعب, وصاحبتا الفضل الأول فيما يصيبه من تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية، كما تظهر الكلمة المطبوعة في الكتاب، وفي اللافتات، وفي الملصقات، وفي شتّى ضروب الإعلان. وتظهر الكلمة المطبوعة أيضًا في أجهزة استقبال الأخبار TICKERS، وهي الأجهزة التي تقوم عليها وكالات الأنباء، وعلى هذه الأخيرة تعتمد الصحف في حصولها على الأخبار الهامة وغير الهامة, هنا وهناك. أما الكلمة المسموعة: فتظهر في الراديو والتليفزيون، وهما آلة الدهماء في أغلب الأحيان؛ لأن الخاصة ليس لديها من الوقت ما تنفقه في الجلوس إليهما, واستيعاب الجزء الأكبر من منهج كل منهما اليوميّ.

وكما تظهر الكلمة المسموعة في السينما، والمسرح, والمدرسة, والجامعة، تظهر أيضًا في المحادثات الخاصة بين الأصدقاء، سواء أكانت هذه المحادثات في المنزل، أم في الطريق، أم في النادي, أم في المركبات العامة, وسواء أكانت همسًا، أم نجوى، أم كانت على شكل شائعة، أم اغتيابًا، ونحو ذلك. على أن الوسيلة الأولى منهما هي التي تعنينا في هذا البحث, وهذه الوسيلة هي الكلمة المطبوعة، والعجيب حقًّا أن يكون للكلمة المطبوعة كل هذا التأثير القويِّ في النفوس، أو هذا السلطان الكبير على القول، ومن هنا أصبح الرأي العام عن طريق الكلمة المطبوعة قوةً عظيمةً لا يمكن أن تقاوم، فقد تتعرض الجيوش نفسها للهزائم، أما الصحف وما تحمله للناس من قوة الرأي العام, فقلَّمَا تتعرض لذلك، وقلَّمَا تستطيع الحكومات نفسها أن تؤثر في الصحافة إلّا بطريق الإلغاء أو التعطيل. والتاريخ حافل بالأمثلة العديدة التي تدل على قوة الرأي العام, الآتي من طريق الكلمة المطبوعة في الصحيفة. فلقد قبضت السلطات الإنجليزية على "عرابي" وعزمت على التنكيل به، وبأصحابه، ثم ظهرت جريدة "التيمس" معلنةً أن عرابي سيحاكم محاكمةً نزيهةً، وسيعامل معاملةً إنسانيةً مستقيمةً، فاضطرت الحكومة الإنجليزية أمام هذا التصريح أن تعدل من خطتها، وترجع عما عزمت عليه1. وأمامنا الآن -ونحن نكتب هذا الكتاب- مَثَلٌ حيٌّ من التاريخ المصريّ الذي نعيش فيه، وهذا المثل هو تأميم قناة السويس، فمنذ أعلنت الحكومة المصرية هذا التأميم في 26 يوليو سنة 1956 هاج "المستر إيدن" رئيس الوزارة البريطانية، وأراد أن يعلن الحرب على مصر، ولكن الرأي العام في العالم كله, وفي إنجلترا نفسها, كان لا يريد الحرب في ذلك الظرف.

_ 1 التاريخ السري لاحتلال الإنجليز لمصر، لمؤلفه المستر بلانت، انظر الترجمة العربية للكتاب ص311-321.

غير أن "إيدن" ومعه "موليه" رئيس الوزارة الفرنسية، و"بن جوريون" رئيس الوزارة الإسرائيلية، دبروا أمرهم بليل، واتفقوا في مؤامرةٍ تجاهلوا فيها الرأي العام، وتغفلوا هذا الرأي، واعتدوا جميعًا على مصر. واستنكر الرأي العالميّ هذا الاعتداء، ولولا هذا الاستنكار الصارخ، ولولا مقاومة الشعب المصريّ الباسل، ولولا الإنذار الروسيّ للحكومات الثلاث التي اعتدت على مصر، نشبت الحرب العالمية الثالثة، ولأصبح مركز هذه الحرب منطقة الشرق الأوسط، ولا يدري إلّا الله نتيجة ذلك على الحضارة الإسلامية والشعوب الشرقية والغربية.

تعريف الرأي العام

"2" تعريف الرأي العام: من أجل هذا وجب علينا أولّا أن نعرف المقصود تمامًا بكلمة الرأي العام عند إطلاقها، ما دامت الصلة وثيقة بينه وبين الصحافة على هذا النحو: عرفه الأستاذ "كلاريد كنج" في مقدمة كتابه: "قرارات في الرأي العام "فقال: "إنه الحكم الذي تصل إليه الجماعة في مسألة ذات بال، وذلك بعد مناقشات علنية ومستوفاة". وعرفه الأستاذ "جيمس برايس" في كتابه: "الديمقراطيات الحديثة" فقال: "إنه اصطلاح يستخدم للتعبير عن مجموع الآراء التي يدين بها الناس, بإزاء المسائل التي تؤثر في مصالحهم العامة، والخاصة". وعرفه الأستاذ "ألبورت ALPORT" فقال: "إنه تعبير صدر عن مجموعة كبيرة من الناس عما يرونه في مسألة ما، أو اقتراح واسع النطاق، بحيث يمكن استدعاؤهم لهذا التعبير سواء أكانوا

مؤيدين للفكرة أم معارضين لها، وبحيث تكون نسبتهم العددية كافية لإحداث تأثير ما بطريق مباشر، أو غير مباشر". وعرفه الأستاذ "ألبج" ALBIG فقال: "إنه ثمرة تفاعل الأفكار في أيِّ وضعٍ من أوضاع الجماعة التي تصدر عنها هذه الأفكار". فهذه تعريفات أربعة من عشرات التعريفات التي صدرت عن علماء النفس والاجتماع والصحافة، وكلها توضح الدور الخطير الذي يلعبه الرأي العام في حياة الأفراد والمجتمعات، وإن كان بعضها يقلل إلى حد ما من أهمية الدور الذي يقوم به أفراد قليلون في الأمة؛ هم المجددون ذوو الأفكار التقدمية فيها، فبمقدار ما تكون أفكارهم جديدة على المجتمع, يكون الأمل قليلًا في نجاحهم أول الأمر، إلّا أنهم إذ يوطنون أنفسهم على الكفاح والصبر، يستطيعون النجاح في نهاية الشوط. ولكن ماذا يؤخذ من التعريفات السابقة على وجه الإجمال فوق ما ذكرناه حتى الآن؟ يؤخذ منها ما يلي: أولًا: إن الرأي العام هو الاتجاه الذي تتخذه الجماعة في مسألةٍ بعينها, بعد بحث هذه المسألة من جميع وجوهها بحثًا علنيًّا بطريق الصحافة, أو بطريق الخطابة, أو بطريق الإذاعة, أو بغير ذلك من وسائل الإعلام. ثانيًا: إن الرأي العام بالمعنى الصحيح لهذه المشكلة, لا يشترط فيه أن يكون رد فعلٍ للتقاليد والعادات التي عليها الأمة، وإنما هو نتيجة تفكير سليم في المصلحة التي تعود على المجموع، أو هو محاولة في بعض الأحيان للتوفيق بين هذه المصلحة من جهة، ومجموعة التقاليد والعادات التي عليها الأمة من جهة ثانيةٍ، بل إنه إذا أريد التحرر أحيانًا من سلطان العادات والتقاليد، فإنه لا سبيل للمجتمع في هذه الحالة إلّا بالرأي العام؛ لأنه وحده القادر على إحداث التحرر الذي تطلبه المجموعة التي تصبو إلى التحرر.

ثالثا: أن الرأي العام استنادًا إلى النقطة السابقة لا ينبغي أن يكون ثمرة اندفاع عاطفيٍّ في المجتمع، ولا ينبغي أن يكون نتيجةً لتغلب طائفةٍ بعينها, ذات مصلحة خاصة من طوائف المجتمع, وليس من الضروريّ -كما قلنا- أن يكون مرتبطًا كل الارتباط بميراث الأمة من تقاليد وعادات ونحوهما. ولنضرب المثل هنا بالحركة التي قام بها المرحوم قاسم أمين, باسم: "تحرير المرأة" فقد كان المصريون في القرن الماضي لا يعترفون بالسفور، ولا بحق المرأة في الاشتغال بالأعمال العامة، ولا بحقِّ المرأة حتى في التعليم، فجاء قاسم أمين وأخذ ينشر مقالاته التحررية في جريدة "المؤيد", وهاج الرأي العام في مصر، وتضاربت الآراء في هذا الشأن، وتعرض الكاتب نفسه لكثير من السخط والسخرية من جانب الشعب، وأخيرًا وبعد لأي أمكن لهذا الرأي أن يؤثر في نفوس الكثرة من المصريين الذين آمنوا بحقِّ المرأة في السفور وفي التعليم. وهكذا استطاعت الصحافة بطريق الرأي العام أن تزعزع أركان رأي قديمٍ, كاد يصل في نفوس المصريين إلى حد التقديس، وأن تهدم عقيدةً من العقائد الاجتماعية التي وصلها المصريون بالدين الحنيف, بل هكذا جاءت الصحافة بالدليل القاطع على أن الرأي العام هو وحده القادر على تغيير النزعات العامة، وزعزعة العقائد الموروثة، ومحابة الآراء القديمة لتحلَّ محلها الآراء الحديثة. رابعًا: إن التعبير عن الرأي العام لا يكون إلّا في جوٍّ من الحرية التامة، أما في ظل النظام الدكتاتوريّ, فإنه يتعذر على الرأي العام تحت ضغط من الحكام أن يقوم بهذا التعبير, إلّا بطريقة سرية، كثيرًا ما تكون أخطر على الحكومة الدكتاتورية من ألد أعدائها، وشر خصومها، وأخطر معارضيها. فمنذ تطلعت الشعوب إلى التمتع بحريتها, لم تجد الصحافة ضمانًا قويًّا لبقاء هذه الحرية، ومن هنا بدأت العناية بأمر الصحف، والفضل في ذلك يرجع لأولئك الأبطال الذين استخدموا أقلامهم الحرة في الدفاع عن الحرية

وأثبتوا للعالم أن الحياة الحقيقية لا ترتكز إلّا على حرية تلك الأقلام, وإفساح ميادين العمل أمامها1.

_ 1 من كلمة للأستاذ أمين الرافعي, تعليقًا على الكلمة التي اقتبسها من "جول سيمون".

الفرق بين الرأي والسخط والعام والاتجاه العام

الفرق بين الرأي والسخط والعام والاتجاه العام ... "3" الفرق بين الرأي العام، والسخط العام، والاتجاه العام: تقع أزمة من الأزمات في أمة من الأمم, فإذا بالقادة والزعماء في هذه الأمة يبسطون آراءهم في أسباب الأزمة، ويقترح كل منهم علاجًا لها، ويروّج كل حزب في صحفه لما يراه من رأي. وباحتكاك الآراء المختلفة، ووجهات النظر المتباينة, تستطيع الأمة أن تتبين وجه الصواب في الأزمة أو المشكلة التي تواجهها، وبتبلور هذه الآراء والأفكار في خطةٍ واحدةٍ تكاد تجمع عليها الأمة, يتألف ما يسمى: "بالرأي العام" في لغة العصر الحديث، أو "حكم الجماعة" في لغة العصور السابقة. ولكن هل تصلح الجماعة كلها لإبداء الرأي؟ وهل تصلح كلها لمناقشة هذا الرأي؟ هنا ينبغي للباحث أن يفرق تفرقةً واضحةً بين طبقتين على الأقل من طبقات المجتمع, طبقة المستنيرين أو المثقفين الذين يستطيعون أن يدرسوا الأمور، وطبقة السوقة أو الدهماء أو المنقادين, الذين ينقادون انقيادًا أعمًى لرأي من الآراء، أو فكرةٍ من الأفكار؛ لأنهم عاجزون تمامًا عن مناقشتها؛ لمعرفة مقدار الخطأ أو الصواب فيها. ومن هنا كان تصرف الطبقة المستنيرة في المسائل العامة مخالفًا كل المخالفة لتصرف الدهماء أو السوقة في هذه المسائل.

أما الطبقة الأولى فهي التي تسمع وتقرأ، وتناقش وتفهم، وتكَوّن لنفسها رأيًا ما في نهاية الأمر, وأما الطبقة الأخيرة فلا عمل لها إلّا السير وراء الزعماء والقادة, منساقةً لهم، متأثرةً بهم وبآرائهم. ومن ثَمَّ تجد أفراد هذه الطبقة الأخيرة يتبعون أول ناعقٍ، ويستحييون لأول صيحةٍ، ويسلكون سبيل الهياج أو الثورة، ولا يملكون لأنفسهم القدرة على مناقشة المسائل التي ثاروا من أجلها، والمشكلات التي أبدوا سخطهم عليها, وعلى ذلك تنبغي التفرقة دائمًا بين: 1- الرأي العام: وهو ما يصل إليه المجتمع الواعي بعد تقليب وجهات النظر المختلفة، والآراء المتعارضة. 2- والسخط العام: وهو ما تصل إليه الجماهير بمجرد الإثارة والانفعال برجل واحد فقط، أو فكرة واحدة فقط، أو زاوية واحدة فقط, لا تكاد تسمح لغيرها من زوايا النظر الأخرى أن تظهر إلى جانبها. 3- والاتجاه العام: وهو ما يكون نتيجةً لاتفاق الجماهير على شيءٍ معينٍ يرون فيه صيانة لتقاليدهم، أو دفاعًا عن دينهم، أو محافظةً على تراثهم، ونحو ذلك. أجل, تنبغي التفرقة الواضحة بين هذه الكلمات الثلاث: فالرأي العام هو -كما قلنا- نتيجة البحث والدرس والتجربة والفحص, وهو من هذه الناحية يعتبر قوة خالقة، وإن كان في بعض الأحيان -وإلى حدٍّ ما - يعتمد على ماضي الأمة، وعاداتها, وتقاليدها، وعلى ما يسمى بالنزعات أو الاتجاهات العامة فيها. ومن ثَمَّ كان الوعي القوميّ في بلد من البلاد, إنما يقاس بالرأي العام في كل بلد، ولا يقاس مطلقًا بالسخط العام في هذا البلد، اللهم إلّا نادرًا

وفي ظروف معينة، وذلك لسبب واحد فقط، هو أن الناس في حالة "الرأي العام" يتمتع كل منهم بفرديته، ويستطيع أن يظهر شخصيته، وأن يظفر بالحرية الكافية لشرح وجهة نظره التي يقتنع بها، ويريد أن يقنع غيره بما فيها من صواب. ولكن الناس في حالة "السخط العام" تنعدم فرديتهم وذاتيتهم, أو تكاد، ففي الزحام والتجمع تنمحي هذه الصفات, ويفكر الناس بالصور والخيالات، ويكون المجال واسعًا أمام الزعماء والقادة من غير العقلاء, وهم المعرفون عند الأوربيون باسم: "الديماجوج" ممن يثيرون الجماعات, ويستغلون سذاجتها, وانعدام الفردية, أو الذاتية بين أفرادها. إن الشعب في حالة "السخط العام" يكون أشبه شيء بالنظارة في المسرح، يتأثرون بالرواية المسرحية وقت مشاهدتهم لها، فلا يستطيعون الجمع وقتئذ بين المشاهدة والنقد، ولايستطيعون التمييز بين شتَّى المواقف المسرحية المعروضة عليهم في ذلك الوقت.

أنواع الرأي العام

"4" أنواع الرأي العام: اختلف الباحثون في الرأي العام، فمنهم من رأى أنه ثلاثة أنواع على النحو الأتي: 1- الرأي العام المسيطر. 2- الرأي العام المستنير أو القاريء. 3- الرأي العام المنقاد. والأول: رأي القادة، والزعماء، والحكومات في أغلب الأحيان. والثاني: رأي الطبقة المثقفة في الأمة، وهي الطبقة القادرة على الدرس والمناقشة. والثالث: رأي السواد الأعظم من الشعب, ممن يستطيعون متابعة البحث أو الدرس.

ومن الباحثين من رأى أنه -أي: الرأي العام- ثلاثة أنوع، ولكن على النحو الآتي: 1- الرأي العام الكليّ. 2- الرأي العام المؤقت. 3- الرأي العام اليوميّ. فالأول: يتصل اتصالًا قويًّا بالدين، والأخلاق العامة، والعادات، والتقاليد الموروثة، وغيرها من الأشياء الثابتة في الأمة، ولذا يمتاز هذا النوع بالثبات، ويشترك فيه السواد الأعظم من الناس. والثاني: هو ما تمثله الأحزاب السياسية, والهيئات العامة والخاصة، وذلك عندما تسعى لتحقيق هدفٍ معينٍ في وقت معين. والثالث: هو النوع المتقلب كتقلب الجو في شهر أمشير -كما يقول المصريون- وعليه تعيش الصحف اليومية، والإذاعة, ونحو ذلك. ومن الباحثين من يرى في الرأي العام كذلك أنه أربعة أنواع: 1- رأي الأغلبية أو الأقلية. 2- رأي الأقلية مجتمعة. 3- الرأي الساحق. 4- الرأي الجامع. فالأول: هو رأي الجماعة حين تنقسم إلى هذين القسمين: أغلبية، وأقلية, وقد تتحول الأولى إلى الثانية، وقد يحدث العكس، ومن أجل هذا, كان لرأي الأقلية وزنٌ كبيرٌ في الأمة، وذلك أن أصحاب الأقلية إنما يعتمدون على بذل الجهود الكثيرة في سبيل الوصول إلى الأغلبية، وبهذه الجهود تنتفع الأمة. والثاني: هو رأي الأقليات الكثيرة حين تتفق أحيانًا على رأي معين في ظرف معين، ولهدف معين، ولكن قد يفضي هذا النوع من الرأي بالأمة إلى التحول السريع, من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن أجله قد تسقط وزارة، وتعقبها أخرى، ويستمر الحال على ذلك حتى تتمكن إحدى الأقليات من أن تصبح أغلبية.

وأما الثالث: فكثيرًا ما يكون نتيجةً لاندفاع الشعب، أو نتيجةً لتكاسله في بحث المشكلات العامة، والشعب إذا وصل إلى الرأي الساحق عن طريق البحث أو الدرس, فإنه يكون في مثل هذه الحالة بلغ الذروة، ولكنه في الواقع قَلَّمَا يصل إلى ذلك. والرابع: هو الأي تجمع عليه الأمة، ولا يكون ذلك في الأعم الأغلب إلّا في الأمور التي ترتكز على ماضي هذه الأمة، وما ورثته من عادات، ونزعات، ومعتقدات، وهذا الرأي العام هو ما سميناه من قبل: بالاتجاه العام، أو النزعة العامة، وهو شيء لا يناقش في العادة، وإذا تعرض أحد لمناقشته عَرَّضَ نفسه للخطر المحقق. ومع هذا وذاك, ففي استطاعة عددٍ قليلٍ من القادة في كل أمة أن يقنعوا أمتهم بفساد جزء من أجزاء هذا الرأي الجامع، بشرط ألّا يمسَّ هذا الجزء أصلًا من أصول الدين أو العقيدة، فمن الممكن مثلًا أن ينادي مصلح من المصلحين في أمريكا بفساد الفكرة القائمة بالتمييز بين السود والبيض، وإن كان ذلك يحتاج من مثله إلى صبر طويل, وكفاح مرير، وعمل متواصل, فعلى الصحفيِّ دائمًا أن يعرف كيف يفرق بين هذه الأنواع للرأي العام، وعليه أن يفرق بين ما سميناه: بالرأي العام، والسخط العام، والاتجاه العام، فهذه التفرقة يأمن الزلل في تفسير الحوادث التي تجري في المجتمع.

دور الصحافة في تكوين الرأي العام

"5". دور الصحافة في تكوين الرأي العام: نحن نعرف أن الصحافة أقدر من غيرها على التأثير في الجمهور، وهي بلا شكٍّ أقدر في هذه الناحية من الإذاعة, ومن الخطابة، بل هي أخطر منها في الوصول إلى هذه الغاية. والسبب في ذلك أن الصحيفة تستطيع بخلاف الخطب والإذاعة أن تدعو إلى فكرةٍ من الأفكار، أو رأي من الآراء، وأن تكرر هذه الدعوة

يومًا بعد يومٍ, بصور مختلفةٍ، والصحيفة بهذا التكرار أشبه شيء بقطرات الماء التي تسقط تباعًا وباستمرار على صخرةٍ قويةٍ، ولا بد لها يومًا أن تخرق هذه الصخرة، وقد تصل إلى تحطيمها وتهشيمها في نهاية الأمر. غير أنه من الخطأ مع هذا وذاك, أن تعتقد أن الصحافة تصنع الرأي العام بكل ما في هذه الكلمة من معنًى. فإن الأولى من ذلك أن يقال: إن الصحافة تأخذ من هذا الرأي وتعطي، وتؤثر فيه وتتأثر به، تقود الشعب وتنقاد له، توجه الحكومات وتتلقى توجيهاتها, وهكذا. ومن ثَمَّ, نجد الفرق واسعًا بين الرأي العامِّ في أمة متعلمةٍ ناهضةٍ واعيةٍ، والرأي العام في أمةٍ جاهلةٍ نائمةٍمتغافلة. الأولى: تستطيع الاستفادة من الصحافة، أو بعبارة أخرى: تؤثر فيها وتتأثر بها. والثانية: عاجزة عن الانتفاع بالصحافة، ولا دخل لها تقريبًا في تكوين الرأي العام الذي تُعْنَى به الصحف, وفي هذا المعنى يقول الأستاذ "توماس جيفرسون" عبارته المشهورة: "إنني لا أستطيع الاعتقاد بأن الصحافة قد بلغت غايتها إلّا إذا أصبح كل إنسانٍ يعرف القراءة والكتابة, ويعرف كيف يقرأ الصحيفة". "والخلاصة" حتى الآن, أن الأمانة الصحفية تُحَتِّمُ على الصحف أن تتوخى الدقة في رواية الأخبار, داخلية كانت أم خارجية, كما تحتم عليها كذلك ألَّا تنظر إلى الربح الماديِّ وحده، بأن تعرض الأخبار على الجمهور عرضًا ينطوي على سوء القصد قبل كل شيء، أو بأن تُحَرِّفَ الأخبار تحريفًا يبعدها عن الحقيقة كل البعد. ذلك أن الصحافة مسئولةٌُ عن توجيه الأمة، مسئولةٌ عن تكوين الرأي العام الناضج فيها، وهذه المسئولية في الأمم الضعيفة, أو الجاهلة, أو المتأخرة, أثقل منها بكثير في الأمم القوية المتعلمة المناهضة.

وفي هذا المعنى يقول الزعيم الشاب مصطفى كامل: "إذا كانت الصحافة في كل بلاد العالم شديدة التأثير، عظيمة الفائدة، فإنها يجب أن تكون في مصر أشد تأثيرًا، وأكبر نفعًا؛ لأن الأمم الحية غنيةٌ عن إرشاد الصحف في كثير من الشئون, أمَّا في مصر, وبقية بلاد الشرق, فوظيفتها أن تكون المهذبة المؤدبة، المنشطة المشجعة، القائمة مقام المجالس النيابية، حتى تترقى الأمة, وتنال كل حقوقها". ومهما يكن من شيء ففي استطاعتنا أن نقول: إن هناك أمورًا كثيرةً تؤثر في الدور الذي تؤديه الصحافة في توجيه الرأي العام. منها: صبغة الصحيفة, أو الهدف الذي ترمي إليه هذه الصحيفة، فإذا كان الهدف تجاريًّا في مجموعه، وكان الربح الماديُّ هو الغرض الأساسيّ من إصدارها, فإنها إذ ذاك تقل عنايتها بتوجيه الرأي العام، وتزداد عنايتها بتملق القراء، فلا تنشر لهم إلّا ما يلائم رغباتهم، ولو كان في ذلك ما يضر بمصلحتهم التي هي مصلحة المجتمع. ويتصل بهذا العامل عاملٌ آخر, هو سياسة الصحيفة، فإذا كانت سياستها ترمي إلى العبث بالأخبار, أو تلوينها, خاصةً لغايةٍ من الغايات الخاصة بها, كذلك فإن الرأي العام إذ ذاك يتعرض بنفسه لمحنة من أشد المحن، ويحار القراء يومئذٍ في معرفة الحقيقة, فتنحرف الأفكار والخطط انحرافًا بليغًا. وثَمَّ مظهر آخر من مظاهر سياسة الصحيفة، فقد ترغب هذه الصحيفة في اتباع سياسة الإثارة، وقد تزهد في هذه السياسة، ومن الصحف ما تعتمد اعتمادًا تامًّا في كتابة الأخبار على الإثارة، ومنها ما تقتصد اقتصادًا ظاهرًا في ذلك، والذي لا شكَّ فيه أن الرأي العامَّ يصلح باتباع الطريقة الأخيرة، ولا يصلح مطلقًا باتباع خطة الإثارة, ثم إنه من العوامل المؤثرة في الرأي العام عن طريق الصحافة عامل

الحكومة، وسيطرة هذه الأخيرة أو عدم سيطرتها على الصحافة, والذي لا شك فيه أيضًا أن الرأي العام لا يتكوّن تكونًا صحيفًّا في ظل حكومة من النوع الأول، ولكنه يقترب من الكمال في ظل حكومة تبسط للصحافة من الحرية ما يكفي التعبير عن جميع الآراء ومختلف الاتجاهات. وهنا يحلو لنا مرةً أخرى أن نسوق عبارةً للأستاذ أمين الرافعي, نشرها في افتتاحية السنة الثالثة لجريدة الأخبار 1 قال: "قامت الصحافة بدورٍ كبيرٍ في النهضات الوطنية التي شهدها الشرق والغرب، وقد عرفت لها الشعوب المختلفة هذا الفضل, فجعلت في مقدمة أنظمتها الدستورية أن تكون الصحافة حرةً؛ لتستطيع تأدية واجبها العظيم الذي أنشئت من أجله، وقد تبين قادة الحركات السياسية أن هذه الحركات يصعب نجاحها ما لم تكن الصحافة بجانبها, لتقوم بقسطها الكبير فيها". وقال "سايبس": "الصحافة هي الضامن الحقيقيُّ للحرية السياسية، فإذا أردت إصلاح العيوب العامة, وجدت من الصحافة أكبر عضد لك في عملك، فهي التي تنير الرأي العام، وتكون بمثابة المصباح يُهْتَدَى بضوئه، ومتى ظهر هذا المصباح أمام أعداء الأمة، وخصوم الإنسانية, استولى عليهم الرعب, وبادروا إلى العدول عن تنفيذ نيَّاتهم الضارة التي كانوا يتآمرون عليها في الظلام, فاتركوا الصحافة تعمل لإعداد النفوس لفعل الخير، اتركوها تؤهل العقول للشعور بالواجب الوطنيّ". ومضى الأستاذ أمين الرافعي يقول: "وقد أرتأى كثيرٌ من الفلاسفة والسياسيين والمؤرخين, أن الأمة التي لا تحترم حرية الصحافة, لا تستطيع النهوض بنفسها، ولا يسعها الانتفاع من جميع الحقوق الأخرى التي تكون متمتعة بها، مهما كانت هذه الحقوق عظيمة الشأن في ذاتها".

_ 1 انظر العدد رقم "587" بتاريخ 28 يناير سنة 1925.

وقال جول "سيمون": "إذا كانت للشعب حق التشريع لنفسه, بواسطة النواب الذين ينتخبهم، وإذا كانت السلطة الحاكمة لا تمتلك سن القوانين, ولا عرضها، ولا رفضها، وإذا كانت الانتخابات للهيئات النيابية حرةً وغير مقيدةٍ, إذا كان للشعب كل هذه الحقوق, فإنها تظل جوفاء وهمية خيالية, ما لم تتأيد بضمانة كبرى, هي حرية الصحافة". فالذين يتقدمون للخدمة الوطنية عن طريق الصحافة, إنما يتقدمون لتحمل عبء ثقيل لا يجوز أن يستهان فيها بالمسئولية المترتبة عليه، ولا سيما إذا كانت الصحافة في عهدهم محرومة من التمتع بحريتها، فهم مضطرون من جهةٍ للنضال في سبيل تحرير صحافتهم، كما أنهم مطالبون من جهةٍ ثانيةٍ بأن يستخدموا الدائرة الضيقة المخصصة لعملهم في سبيل الدفاع عن القضايا الوطنية التي وقفوا أنفسهم على خدمتها، والسعي في نجاحها, مهما تحمَّلوا في هذا الطريق من تضحيات مختلفة. فذلك إذن, هو الدور الذي تقوم به الصحافة في جميع الأمم, وهو دورٌ خطيرٌ ما دامت الصحافة تقوم بواجبها بكل شرف ونزاهة, وهنا يطيب لي أن أستطرد قليلًا فأقول عن الصحافة المصرية: إنها كانت في العشر الأخير من القرن التاسع عشر, والعشور الثلاثة الأولى من القرن العشرين, كانت في نظر التاريخ صحافة رأيٍ بالمعنى الصحيح، وذلك بالرغم مما تعرضت له تلك الصحافة من إيذاء وتعطيل، وبالرغم مماكانت تعانيه من قانون المطبوعات1. كان الصحفيون في تلك الفترة التي نشير إليها, يقدرون مهمة الصحافة على الوجه الذي شرحه أحدهم، وهو هنا الأستاذ أمين الرافعي، وكانوا يوطِّنُون أنفسهم على البذل والتضحية في سبيل قيامهم بهذا الواجب الأعلى.

_ 1 ارجع إلى ص 24 من "القانون والرأي العام".

أما اليوم: فالصحافة المصرية قد وجهت كل عنايتها إلى أمرين, هما: الإخراج، والتوزيع, وهما الناحيتان اللتان لم تبد صحافة الأمس عنايةً كافيةً بهما في الحقيقة, ولسنا نبالغ إذ نقول: إن صحافة اليوم وجدت في الاهتمام بالإخراج الفنيّ كل ما يعوضها عن الاهتمام بإبداء الرأي, والثبات على المبدأ، وتوخي مصلحة المحكوم قبل توخي مصلحة الحاكم.

القانون والرأي العام

"6" القانون والرأي العام: أيهما أشد تأثيرًا في سلوك الأفراد والجماعات: الرأي العام أم القانون؟ وأيهما أرعى للصالح العام، وللمثل الأخلاقية، وللتقاليد والعادات: الرأي العام أم القانون؟ وهل يستطيع الرأي العام أن يسن قانونًا أو يلغي قانونًا؟ الإجابة على هذه الأسئلة توضح لنا قيمة الرأي العام من جهة، كما توضح لنا الصلة بين الرأي العام والقانون من جهةٍ ثانية، وتزيدنا معرفةً بالدور الخطير الذي يؤديه الرأي العام في حياة الناس آخر الأمر. والمتأمل في حياة الأفراد والجماعات يراها تسير في أكثر الأحيان بقوة التقاليد والعرف والعادات، وكل واحد من هذه الأشياء إنما هي ثمرة الرأي العام، أو الأفكار المتفق عليها بين الناس, في كل شأنٍ من شئونهم الخاصة والعامة. ومعنى ذلك بجلاء: أن الإجماع بين الناس على نوعٍ من أنواع السلوك يعتبر قانونًا عرفيًّا من القوانين التي تسيطر على الحياة العامة من جميع جوانبها، وتخلق ما يسمى بين العلماء باسم "المناخ الاجتماعيّ". ومن ثَمَّ كان "الإجماع" أصلًا من أصول الشريعة الإسلامية، لا يقل في خطورته أو فائدته عن الأصول الثلاثة الأخرى, التي هي: القرآن، والسنة, واجتهاد الأئمة.

وكالشريعة الإسلامية في ذلك جميع الشرائع الأخرى، أي: أنه ليس في استطاعة القوانين الوضعية أن تهمل هذا الأساس القويّ من الأسس التي تبنى عليها، وهو "الرأي العام" وخاصةً إذا بلغ هذا الرأي مرتبة "الإجماع". وفي هذا وذاك ما يدل دلالةً صريحةً على أن الرأي العام هو الذي يصنع القانون, أو بعبارة أدق, هو الأصل الأول من الأصول التي يعتمد عليها واضعو القانون، وكثيرًا ما نرى بعض المجتمعات البدائية محكومة بالتقاليد السائدة بين أفرادها, وبالعرف والعادات التي هي بمثابة القوانين غير المكتوبة. وصف المستر "بلانت" نظام الحكم البدويّ في نجد, عام 1879 فقال: "..... وفي نَجْد, تعيش هيئةٌ اجتماعيةٌ طِبْقًا للنظام الذي يحكم به دعاة المثل الأعلى في بلادنا، فلا ضرائب ولا بوليس، ولا تجنيد، ولا إكراه في أي شيء, ولا قانون لهذه الهيئة في حقيقة الحال إلّا الرأي العام، ولا نظام إلّا ما تمليه مبادئ النبل والشرف "1. ومعنى ذلك: أنه لا ضرر من أن تحكم الأمم بالرأي العام الذي يسوده, وأن في الإمكان أن يحل هذا الرأي محل القانون، ويقوم بكل وظائفه، ويأتي بثمرته. وأكثر من هذا وذاك, أنك ترى في بعض الأحيان أن الرأي العام في الأمة المتحضرة يستطيع أحيانًا أن يلغي قانونًا مكتوبًا بنفس القوة التي استطاع بها أن يسن هذا القانون المكتوب. وكثيرًا ما يكون ذلك في الأوقات التي يبدو فيها القانون المكتوب كأنه يتعارض ومصلحة من مصالح الجمهور، وفي هذا الحالة يضطر الفقهاء وواضعو القانون أن يخضعوا خضوعًا تامًّا لهذه المصلحة، وفي مثل هذه الحالة كذلك تظهر قيمة "الاجتهاد" كأصلٍ من الأصول التي يُبْنَى عليها التشريع.

_ 1 التاريخ السري لاحتلال الإنجليز لمصر, الترجمة العربية ص46.

وعندي أن الأساس الذي بنيت عليه فكرة الاجتهاد في التشريع, هو ما ذهب إليه عامة المفكرين من أن رجال القانون في أيِّ جيلٍ من الأجيال, إنما يمثلون في الواقع جيلًا متخلفًا عن الرأي العام السائد في هذا الجيل، أو بعبارةٍ أخرى: يمثلون الجيل السابق أكثر مما يمثلون الجيل الحاضر أو اللاحق، فإذا صحَّ ذلك, فإنه يفضي بنا إلى القول في صراحة: بأن كل جيلٍ من الأجيال في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى طائفة من أهل الاجتهاد يشرعون له من النظم والقوانين ما يتفق والحالة التي انتقل إليها، أو ما يتفق والتطور الذي خضع له، فإذا حرم جيلٌ من الأجيال من هذا الاجتهاد, أصبح القانون الذي يخضع له جامدًا لا حياة فيه، وعجز هذا القانون عن أن يحل مشكلة، أو يحمي مصلحة، أو يساعد على أيِّ نوعٍ من أنوع التطور أو الرقيِّ. والذي لا شك فيه أن الرأي العام هو وحده القادر دائمًا على أن يكشف عما بالقانون القديم من نقص، ويعبِّر عما يحتاج إليه الجيل الجديد من إضافةٍ أو تعديلٍ أو حذفٍ. ومهما يكن من شيء, فنحن إذ نتعمق البحث في طبيعة الرأي العام من جانبٍ, وطبيعة القانون من جانب آخر، نجد أن بينهما فروقًا من نواحٍ شتَّى منها: أولًا: الرأي العام -كما قلنا- يعتبر أصلًا من الأصول التي يُبْنَى عليها القانون، والعكس قلما يصح. ثانيًا: أن القانون بحاجةٍ على الدوام إلى تأييدٍ من الرأي العام، ولذا فإنه كثيرًا ما تتعرض القوانين التي لا تظفر بهذا التأييد إلى خطر الإلغاء, في اللحظة التي يظهر فيها أن هذا القانون ضارٌّ بمصلحة من مصالح الجمهور، ومثال ذلك: "أن من القوانين الأمريكية ما لم يرض عنه الرأي العام الأمريكيّ، مثل قانون حظر صناعة الخمور وتناولها, سنة 1920، وقد قامت ضده الدعايات

في كل مكانٍ, على زعم أنه يناهض الحرية الشخصية وينتقص منها، فظهر رأي عامٌّ يطالب بإلغائه, حتى تَمَّ إلغاؤه"1. ثالثًا: الرأي العام أكثر ملاءمةً لنفسية الشعوب والأفراد من القانون, بل هو أكثر منه مرونةً, وأقدر على التعبير عن حاجات الناس، وهي الحاجات التي يُسَنُّ من أجلها القانون في معظم الحالات. رابعًا: الرأي العام تثيره العواطف، بينما القانون لا يابه لهذه العواطف، بل كثيرًا مانسمع المحامين في بعض القضايا يصيحون في وجه القاضي: الرحمة فوق العدل، ولكن تذهب صرخاتهم هباء، ولا يسمع لها القضاة في أكثر الأحيان. خامسًا: الرأي العام من وضع الجمهور على مر السنين، في حين أن القانون من وضع طائفةٍ قليلةٍ من هذا الجمهور في فترة معينة، وهم المشرعون. والرأي العام بما له من هذه المزايا الخمس على الأقل, يعتبر قوةً هائلةً تستطيع المحافظة على كيان المجتمع، وتستطيع النهوض بصيانة المثل الأخلاقية التي لهذا المجتمع, وهذه القوة الهائلة تستطيع القيام بكل هذه الأمور الهامة بدون عصا الحاكم, أو تهديد المستبد، أو بطش الدكتاتور. والمهم أنه في ظل الديموقراطية الصحيحة يزدهر الرأي العام وينمو, كما نما بقوة في مثل البيئة اليونانية القديمة، أو البيئة الإسلامية المجيدة، على أيدي الخلفاء الراشدين، ومن جرى على نهجهم من حكام المسلمين.

_ 1 الرأي العام: بحث الدكتور حسين عبد القادر، نشر بمجلة كلية الآداب في مايو سنة 1955.

الرقابة على الصحف

"7" الرقابة على الصحف: مهما يولغ في حرية الصحف, فإن لهذه الحرية حدودًا معينةً، والشارع

حينما وضع القوانين التي تخوّل الحكومة حق الرقابة على الصحافة, إنما قصد في الحقيقة إلى حماية المصالح العامة، والذود عن التقاليد التي تواضع عليها الناس، فأخذهم بشيء من التحفظ في إبداء الرأي، حتى لا تضر الحرية المطلقة بكيان الفرد أو المجتمع، من أجل ذلك تحرص الحكومات على فرض شيء من الرقابة على الصحف، وتتخذ هذه الرقابة الحكومية مظهرين في الغالب: أولهما: مظهر الرقابة الاستثنائية في وقت الحروب والثورات، فإذ ذاك تخضع البلاد للأحكام العرفية التي تتيح للحاكم العسكريّ أن ينظر في كل خبر صحفيٍّ قبل نشره، وذلك عن طريق الرقيب الذي يكون له مطلق الحرية في حذف ما يريد, وإثبات ما يريد. وثانيهما: مظهر الرقابة الجزئية، وذلك عن طريق القضاء؛ إذا ينظر القانون إلى رئيس التحرير على أنه المسئول الأول عن كل ما ينشر في صحيفته؛ من خبر يكون ضارًّا بالفرد أو بالمجتمع, وكاتب المقال يعتبر شريكًا لرئيس التحرير في هذه الحالة. وعلى الرغم من هذا وذاك، فمن الحقِّ أن يقال: إن الشارع في هذه المحاولات قد يتجاوز الحد في تنظيم حرية الرأي, حين لا يكتفي بالقيود الضرورية لحماية الدولة أو المجتمع، بل يعمد إلى وضع العراقيل في سبيل هذه الحرية، وقصده منها -في الأعم الأغلب- أو التعليق على تصرفاتهم، أو محاسبتهم على أخطائهم التي يرتكبونها أحيانًا ضد شعوبهم، من أجل ذلك حرصت الشعوب كلها -حينما وضعت دساتيرها- على أن تنص في هذه الدساتير كلها نصًّا صريحًا على ضمان حرية الرأي، والنظر إلى هذه الحرية على أنها حقٌّ طبيعيٌّ لا غنى عنه للفرد. وعلى هذا فالواجب أن تكون الصحافة حرةً لا رقيب عليها من جانب

الحاكم، فإن هذا شرط أساسيٌّ لنجاحها، إلّا أنه يجب ألَّا تتعارض هذه الحرية الصحفية وصالح الوطن، وألّا تكون أداةً لعرقلة نهضته، كما يجب ألَّا تقف هذه الحرية في سبيل حركة الشعب الوطنية والقومية بحالٍ ما. ومهما يكن الأمر, فهناك نظريتنان تخضان بالتشريع الصحفيّ؛ من حيث حرية إعلان الرأي: الأولى: ترى أن الصحافة وغيرها من طرق النشر والإعلان يجب أن تتحرر من كل قيدٍ قانونيٍّ, مهما كان هذا القيد. والثانية: ترى فرض القيود القانونية على هذه الحرية, ما دام من واجب الدولة حماية الأفراد, والمحافظة على النظام العام. ولكل نظريةٍ من هاتين النظريتين أنصار، ولكل طائفة من هؤلاء الأنصار حجج؛ فمن أنصار النظرية الأولى -على سبيل المثال- "ميرابو" أحد أبطال الثورة الفرنسية المعروفة، يحكى أنه قال: "إن حرية الصحافة دواء لكل الأدواء، وإن تقييدها لا يعوق في الحقيقة إلّا الشرفاء 1". ومنهم "روبيه كولا" الذي قال في كلامه عن الصحافة: "خير قانون ألّا يكون هناك قانون". ومنهم "إميل دي جير ردان" الذي قال: "الصحافة التي لا تترك حرةً ليست صحافةٌ بالمعنى الصحيح، ولكنها صحافةٌ متسامحٌ في وجودها؛ لأنها صحافةٌ يتضافر عليها العسف والتحامل في وقت معًا". ومع هذا وذاك, ففي الصحافة كما يقولون: دواء يشفي من دائها، فقد أضحى القارئ لا يقنع عادةً بمطالعة صحيفة واحدة، والضرر الذي

_ 1 حرية الرأي وجرائم الصحافة والنشر, للدكتور رياض شمس, ص113.

تحدثه صحيفةٌ ما, تصلحه الصحيفة الأخرى، بحيث يزيد خير الصحافة في النهاية على ما فيها من شر1". على أنه لا خوف في الحقيقة من هجمات الصحف، فقد يكون من ورائها خيرٌ للفرد الذي هو موضوع هذه الهجمات، وخيرٌ للمجتمع إذا أريد إظهار عيوبه ونقائصه. ويحدثنا الزعماء والسياسيون أنهم أفادوا من أعدائهم بأعظم مما أفادوا من أنصارهم وأصدقائهم، حتى لقد ظهر فيهم من يقول: "أن يكون لك في عالم السياسة اسم ردئ, خير من ألّا يكون لك اسم على الإطلاق". والأمريكيون يذهبون في حرية إعلان الرأي إلى أبعد حدٍّ، ويرون في الحرية على هذا النحو أمانًا من كل شر، وكذلك يفعل الإنجليز في بلادهم، وأكثر شعوب القارة الأوروبية في وقتنا هذا. أما النظرية الثانية: وهي النظرية التي تفرض قيودًا قانونيةً على الحرية- فلها كذلك أنصار كثيرون، يرون أن من واجب الدولة حماية الأفراد والجماعات، وتنظيم الحقوق والحريات، والاحتراس الشديد من أولئك الذين يهاجمونها, ويعكرون عليها صفوفها وسلامتها، ومن ثَمَّ بادرت الحكومات بوضع القوانين التي تحول دون إساءة استعمال الحريات بوجهٍ عامٍّ، وحرية الصحافة بوجه خاصٍّ، وفي صلب القانون العام جزء هام اسمه "جرائم الرأي", وهو مادة تدرس في معاهد الصحافة كلها تقريبًا إلى يومنا هذا، وقد نصَّ هذا القانون على عقوبات خاصةٍ في أمر السب, أو القذف, وغيرهما من الجرائم التي ترتكب عن طريق النشر. والقاعدة الأساسية في هذا القانون تتلخص في: أن لكل فرد حريةً فكريةً في أية مسألة دينيةٍ, أو سياسيةٍ, أو اجتماعيةٍ، ولا عقاب على التفكير وتكوين الرأي مهما كان مخالفًا للقانون، إنما العقاب على إعلان الرأي

_ 1 نفس المصدر المتقدم ص24.

المخالف للقانون بطريقة من طرق العلانية المعروفة، والعقاب كذلك على استعمال العنف في إقناع الغير بهذا الرأي المخالف. ومعنى ذلك أن العقيدة شيء, وإبداء الرأي شيء آخر؛ لأن إبداء الرأي وسيلةٌ من وسائل التأثير في الناس، وقد يكون في ذلك ضرر ما يحيق بهم, فعلى الحكومة في هذه الحالة أن تحمي المجتمع من الآراء الضارة بمصالحهم، ولذلك يفرِّق القانون دائمًا بين إبداء الرأي والتحريض على اعتناق هذا الرأي؛ فالأول مباح في جملته، أما الثاني فيعاقب عليه القانون، ومن حقِّه -عند اتباع النظرية الثانية- أن يفعل. وجاءت بعض البلاد -ومنها مصر- فنظرت إلى الشيوعية مثلًا على أنها من المذاهب السياسية الخطيرة, وخطورتها في نظر هذه البلاد آتية من أنها تعتمد أولًا على العنف أو القهر، ولذلك يعاقب القانون المصريّ الصادر في سنة 1964 كل من يدعو إلى الشيوعية، ويحاول إقناع الناس بها، وما زلنا نسير على هذا القانون إلى اليوم. على أن الرقابة الصحيحة هي التي تكشف عن النيات السيئة والأغراض المضللة, والرقيب الذكيُّ هو الذي يكشف عن هذه النيات السيئة، حتى ولو لم يقصد الكاتب إلى شيء منها. والخلاصة: أن للصحافة أن تخوض في هذه الموضوعات المختلفة برفق، وأن تعتمد في ذلك على الجدل المحض، وألّا تتجاوز الجدل إلى غيره من مظاهر القهر، وهي بهذه الشروط تستطيع أن تنجح في أمور شَتَّى، مثل تنقية الدين من عار الخرافة، ومثل إقناع الأمة بفكرة جديدة, تحل محل أخرى قديمة، وكثيرًا ما يكون ذلك حين يثبت للأمة أن الفكرة القديمة قد بليت, وأستنفدت أغراضها، كما يقول السياسيون.

على أن هذه الحدود التي يحدُّ بها القانون من حرية الصحافة في بعض الأوقات, أشبه ما تكون بعلامة الخطر أو الإنذار التي نجدها أحيانًا في الطريق العام, وليس من الحكمة مطلقًا أن يتجاهل العاقل هذه الأشياء، ولكن ليس معنى ذلك أيضًا أن يبالغ في خوفه منها مبالغةً تشل حركته، وتحدُّ من نشاطه وقوته؛ فالصحفيُّ المقيد قلَّمَا يكتب شيئًا له قيمة، والصحفيّ متى فعل ذلك حكم على نفسه وعلى جريدته بالجمود الأبديّ، وحَالَ بين أمته وبين أن تتطور وتتقدم، وربما كان ذلك بعض ما عناه الدكتور محمد كامل مرسي؛ حيث قال: "والذين يدعون مخلصين إلى التوسع في توفير الحريات الفردية, إنما يدعون إلى ذلك على اعتبار أن الإنسان بفضل ما بلغه من المستوى الرفيع في أمور الاجتماع، وفي الأخلاق، وفي الثقافة، خليقٌ أن يدرك واجباته نحو الدولة، ونحو المجتمع، ونحو سائر المواطنين، بحيث لا يحتاج الحال إلى تقييده بقيود, ونظمٍ تقلل من نشاطه الاجتماعيّ، على اعتبار أن الحرية نفسها -مع بعض المراقبة- كفيلةٌ بتنظيم نفسها, وبتطورها مع الزمن إلى الأصلح والأنفع1". هذا هو منطق الحكام ورجال القانون والقادة والزعماء. أما الأدباء ورجال الفنون بوجهٍ عامٍّ, فإنهم يبغونها حريةً واسعةً لا حدَّ لها، ويؤمنون إيمانًا لا يمازجه الشك بأن الحرية -مهما حشد لها الظالمون، وبيت لها المتآمرون، وكاد لها الكائدون- لا بد وأن تبلغ ما تريد. وقف الأستاذ أنطون الجميل في مجلس النواب المصريّ يومًا, وطالب الحكومة المصرية بمثل هذه الحرية، واستشهد في كلامه بأبياتٍ للشاعر خليل مطران قال فيها:

_ 1 حرية الرأي" لمؤلفه الدكتور رياض شمس، المقدمة بقلم الدكتور محمد كامل مرسي.

كسروا الأقلام هل تكسيرها ... يمنع الأيدي أن تنقش صخرًا؟ قطعوا الأيدي هل تقطيعها ... يمنع الأعين أن تنظر شزرًا؟ أطفئوا الأعين هل إطفاؤها ... يمنع الأنفاس أن تصعد زفرى؟ أخمدوا الأنفاس هذا جهدكم ... وبه منجاتنا منكم فشكرًا أجل، إن حرية الرأي مكفولةٌ لكل صحيفةٍ، وهي في الأمم الناهضة القوية أظهر منها في الأمم الضعيفة المتخلفة، ولذلك لا تؤثر الحزبية في الأمم الأولى, ولا تضعف قوة الرأي العام فيها، فلا تراها تعادي الحكومات القائمة بغير سبب، ولا تراها تعارض في الأعمال الحسنة كما تعارض في الأعمال السيئة سواء بسواء، بل تصل الأمم الراقية في أكثر الأحيان إلى حدِّ أن تتفق فيها جميع الأحزاب على طائفة من المسائل القومية الكبرى لا تصبح موضعا للمناقشة تحت أيِّ ظرف؛ وإذ ذاك تصبح المعارضة مسئولة هي الأخرى عن الحكم، ومن أجل ذلك يطلق على المعارضة في انجلترا اسم "معارضة جلالة الملك أو الملكة" أسوة بالاسم الذي يطلق على الحكومة نفسها وهو "حكومة جلالة الملك أو الملكة". وفي هذا ما يدل على احترام الحكم البريطانيّ للمعارضة، ومدى شعوره بالاشتراك في تحمل التبعات التي يتطلبها موقف المعارضة.

نشأة الرأي العام في مصر

"8" نشأة الرأي العام في مصر: سبق أن تعرضنا لهذا الموضوع في بداية الجزء الأول من "أدب المقالة الصحفية في مصر" فذكرنا الدوافع التي دفعت إلى ظهور الرأي العام، ولخصنا هذه الدوافع في خمسة دوافع وهي: 1- التدخل الأجنبيّ في مصر. 2- استبداد الحكم المصريّ منذ تولي محمد على هذا الحكم. 3- الأزمة التي وقعت بين الخديو إسماعيل والباب العالي.

4- ظهور الدستور العثماني سنة 1876. 5- ازدياد الحركة الفكرية في مصر بظهور السيد جمال الدين الأفغاني. فلقد كان من آثار هذه الدوافع الخمسة ظهور المحاكم المختلطة، وإقرار الامتيازات الأجنبية، وظهور صندوق الدين، والمراقبة الثنائية، ثم الوزارة الأوروبية، والإكثار من استخدام الأجانب في مصر، وفساد القضاء المصريّ، وظهور السخرة التي عانى منها الفلاح كثيرًا، وفداحة الضرائب التي أثقلت كاهل هذا الفلاح، وظهور إسماعيل بمظهر الرجل المسرف إلى الحدِّ الذي أضر بسمعة البلاد المالية والأخلاقية، وبداية الرغبة الملحة من جانب المصريين في أن يمنحوا الدستور الذي منحه عبد الحميد للشعب التركيّ، وأخيرًا ظهور هذا الرجل في إيقاظ المصريين من سياتهم، وحثّهم على المطالبة بحقوقهم، واسترداد الحرية التي لهم. ثم انتقلنا من ذلك إلى ذكر الحركات الشعبية التي كانت مظهرًا للرأي العام, أو صدًى له، وأشرنا إلى أن هذه الحركات كانت تظهر أحيانًا على شكل صحافة أهلية، وأحيانًا على شكل جمعيات علنية، وأحيانًا على شكل جمعيات سرية. ولا بأس هنا من الإشارة إلى بعض هذه الجمعيات الأخيرة التي لم نتحدث عنها في الماضي؛ لندل بهذا الحديث على أن هذه المنظمات السرية كانت كالصحافة العلنية قادرة على تطوير الأمة, والانتقال بها من حالٍ إلى أخرى أفضل منها، ومن تلك الجمعيات على سبيل المثال: أولًا: الجمعية السرية للضباط وهي أولى الجمعيات السرية في مصر, ظهرت عام 1867م, وكان رئيسها فتًى يقال له: "علي الروبي" وانضم إليها فيها بعد رجال من أهمهم: أحمد عرابي، وعلى فتحي، وعبد العال حلمي، وغيرهم.

وقد اعتادت الجمعية السريَّة إذ ذاك أن تسند ظهرها إلى شخصيةٍ من الشخصيات المرموقة، ولذا رأينا هذه الجمعية السرية التي نتحدث عنها الآن, تحاول التقرب من الأمير حليم -وهو الابن الوحيد الباقي من أبناء محمد علي الكبير- وكان مرشحًا لتولي العرش بعد إسماعيل، لولا سعي هذا الأخير في تغيير نظام الوراثة على نحو ما هو معروف في التاريخ المصريّ. وقد وصلت أنباء هذه الجمعية, وأنباء الأمير حليم, إلى مسامع الخديو إسماعيل، فعمل على نفي حليم من مصر, وإبعاده إلى القسطنطينية، فتَمَّ إبعاد هذا الأمير قبل أن يتمكن من إشعال ثورةٍ دبَّرَها مع أعضاء هذه الجمعية السرية، كان الغرض منها قتل الخديو إسماعيل، وكان الأمير حليم قد مَهَّدَ لهذه الثورة "بعريضة" قدمها إلى الخديو إسماعيل مطالبًا إياه فيها ببعض الإصلاحات الاقتصادية التي ترمي إلى التخفيف من عبء الضرائب عن كاهل الفلاح، ولم يكن من اليسير على إسماعيل أن يقوم بإصلاحٍ كهذا, في وقت كان فيه غارقًا في ديونه, ممعنًا في إسرافه وملذاته. وأخيرًا أعلنت هذه الجمعية السرية عن نفسها، وكان ذلك في عام 1879, وأطلقت على نفسها يومئذ اسم: "الحزب الوطني" وهو بطبيعة الحال غير الحزب الوطنيّ المنسوب إلى مصطفى كامل، ومهما يكن من شيء فتلك هي المرة الأولى التي سمع فيها صوتٌ يدافع عن الفلاح في مصر، وفي المرات التالية تابع المصلحون ترديد هذا الصوت، إلى أن كان عهد الثورة العرابية التي دافعت عن مصالح الفلاح، وسُمِّيَ زعيمُها أحمد عرابي إذ ذاك: "بزعيم الفلاحين". وكان من أعضاء الحزب الوطني يومذاك شريف باشا، وشاهين باشا, وعمر لطفي باشا، وراغب باشا، ومحمد سلطان باشا، وآخرون. وكانت هذه الهيئة في الواقع صدًى لظهور المعارضة في داخل مجلس النواب, واحتجاج المجلس على المشروع المالي الذي أعدته حكومة

رياض؛ لتعلن به على الملأ أنها في حالة إفلاس؛ وإذ ذاك رأى المستنيرون في هذا المشروع امتهانًا لكرامة الأمة، وكرامة الحكومة، وكرامة النوّاب، واجتمعوا بدار السيد البكري نقيب الأشراف، وفكَّروا في تسويةٍ ماليةٍ يمحون بها عار الإفلاس, ويعلنون فيها أن البلاد قادرةٌ على الوفاء بديونها، وانتهزوا الفرصة يومئذ للمطالبة بتأليف وزارة وطنية لا يشترك فيها الوزيران الأوروبيان، على أن تكون هذه الوزارة القومية مسئولة أمام مجلس النواب "1. ثانيًا: جمعية مصر الفتاة نشأت هذه الجمعية في مدينة الإسكندرية, عام 1879, ولئن كان قوام الجمعية السابقة ضباطًا من الجيش المصريّ، فقد كان قوام هذه الجمعية نفرًا من الشبان المثقفين, الذين أطلقوا على جمعيتهم اسم: "مصر الفتاة". ولم تهدنا الوثائق -حتى الآن- إلى معرفة زعيم هذه الجمعية، ولكنها تهدي إلى بعض الأعضاء المنضمين إليها، ومن هؤلاء: محمد أمين "نائبًا للرئيس"، ومحمود واصف "سكرتيرًا" وعبد الله النديم، وأديب إسحق, وسليم النقاش "أعضاء". ثم حدث بتأثير عبد الله النديم, أن تغير اسم هذه الجمعية من "مصر الفتاة" إلى "الجمعية الخيرية الإسلامية"، وهي غير الجمعية الخيرية المعروفة في مصر في أيامنا هذه، ومن ذلك الحين خرجت هذه الجمعية من السر إلى العلن، وكانت هذه الجمعية أيضًا قد أعدت لنفسها صحيفةً تتحدث بلسانها، واسم هذه الصحيفة: "مصر الفتاة" التي ظهرت في أواخر عام 1879، وبعد صدورها بعامٍ واحدٍ, تولى رياسة تحريرها أديب إسحق، وكان النديم يشاركه في تحريرها.

_ 1 راجع كتاب "أدب المقالة الصحيفة في مصر" جزء 2, للمؤلف ص16.

وهكذا تكاملت لهذه الجماعة هي الأخرى مقومات الحزب السياسيّ، ثم ما كاد توفيق يجلس على عرش مصر حتى بادرت الجماعة, فقدمت إليه عريضةً, ضمنتها مقترحاتها في الإصلاح، ورفعتها إليه يومئذ باسم: "اتحاد الشبيبة المصرية". وكانت هذه العريضة تدل دلالةً صريحةً على مبلغ الثقافة التي تمتَّع بها الأعضاء، فقد شرح هؤلاء الأعضاء في مقترحاتهم الحالة الاجتماعية، والحالة الاقتصادية التي عليها البلاد، ووصفوا بإسهابٍ سوء حالة الفلاح، وأشاروا إلى عيوب القضاء، وإلى فساد الإدارة, ونحو ذلك، وأرجعت العريضةُ سوءَ الحالة إلى أسبابٍ أربعةٍ هي: أولًا: حصر السلطة كلها في يد شخص واحد. ثانيًا: الحاجة إلى قانون ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. ثالثًا: فساد القضاء المصريّ. رابعًا: انحطاط التعليم, والحاجة إلى العناية الكافية بشئونه. وقيل: إن رئيس هذه الجماعة هو عمر باشا لطفي محافظ الإسكندرية, ومن أعضائها يومئذ: السيد إبراهيم أبو هيف، والسيد إبراهيم مسعود بك، والسيد محمد شوباش بك، والسيد عبد القادر الغرياني. وفي عام 1880, وقف نشاط هذه الجمعية في مصر, ويبدو أن من أسباب ذلك انضمام أكثر أعضائها يومئذ إلى الحزب الوطنيّ الذي تقدَّمَ ذكره. ثالثًا: الجمعية السرية المنسوبة إلى عباس حلمي الثاني شعر عباس بأنه في حاجةٍ شدةٍ إلى الاستعانة على السلطات الإنجليزية بقوة الشعب المصريّ، وقوة المثقفين فيه خاصة، لكي يقوموا بتنظيم حركة وطنية، فأوعز إلى مصطفى كامل بعد عودته من فرنسا بتأليف

هذه الجمعية، فتألفت منه ومن: أحمد شفيق باشا, صاحب كتاب: "مذكراتي في نصف قرن" وآخرين من المصريين والفرنسيين الذي كان يعينهم أن يشتركوا في مقاومة النفوذ الإنجليزيّ. وحين علم الخديو عباس بعد ذلك بوجود جمعيةٍ سريةٍ غرضها تحرير مصر, يرأسها أحمد لطفي السيد، ومن أعضائها عبد العزيز فهمي، وأحمد طلعت، وعبد الحليم، وعلي بهجت، طلب إلى مصطفى كامل أن يفاوض أحمد لطفي السيد في شأن انضمامه ومن معه إلى الخديو وجماعته ليؤلِّفَ الجميعُ حزبًا وطنيًّا برياسة الخديوي، فأجابه أحمد لطفي السيد إلى ذلك، واجتمع هذا الأخير بمصطفى كامل في منزل محمد فريد، وتَمَّ لهم تأليف الحزب الوطنيّ على النحو الذي أراده الخديو عباس إذ ذاك. رابعًا: جمعية المودة السرية لضباط الجيش مرةً أخرى عمد ضباط الجيش المصريّ في وادي حلفا وسواكن, إلى إنشاء جمعية سرية، وذلك بعد حادثٍ مشهورٍ في التاريخ المصريّ الحديث باسم: "حادث الحدود"، فقد كان الخديو عباس في زيارة للسودان, فاستعرض إحدى فرق الجيش هناك، وأبدى بعض الملاحظات في أثناء الاستعراض، فأحدثت هذه الملاحظات أزمةً كبيرةً تدخلت فيها بريطانيا, واضطر الخديو إلى سحب ملاحظاته، وأحدث ذلك امتعاضًا في نفوس الضباط المصريين في السودان، فأرادوا تأليف هذه الجمعية السرية عام 1894, وكانت تهدف إلى إرسال التقارير السرية إلى الخديو, عن جميع الحركات التي يقوم بها الدراويش في منطقة وادي حلفا وسواكن, وتقارير عن حركات الضباط الإنجليز وأعمالهم هناك. خامسًا: جمعية المقاصد الخيرية هي هيئة شعبيةلم تكن في الواقع على شكل جماعة سرية، وكان من

أعضائها الشيخ محمد عبده، وكان من عملها الانغماس في أمور السياسة، واجتماع الأعضاء من حين لآخر للخطابة، والتداول في أمورٍ كثيرةٍ, وتكوين رأي عام في كل أمر من هذه الأمور على حدة، وذلك للمجاهرة أو المطالبة به في الوقت المناسب, وقد اجتمعت هذه الجمعية في 17 فبراير 1882 للتصديق على المشروع الأساسيّ لمجلس النواب, وخطب الشيخ محمد عبده خطبةً بليغةً في ذلك الاجتماع1. وبعد، فليس من شكٍّ أن جميع هذه المنظمات السرية والعلنية تدلنا دلالةً قويةً على وجود ما يسمى: برأي عامٍّ ضد الفساد القائم في مصر في ذلك الوقت، وهو فساد سياسيٌّ واجتماعيٌّ وقضائيٌّ وإداريٌّ، ومن أسبابه القوية عدم العناية بأمر التعليم، والخضوع التام لسيطرة الأوروبيين. وقد رأينا كيف استتبع ظهور هذه الجمعيات على مسرح السياسة المصرية ظهور الأحزاب السياسية من جانب، وظهور الصحف الشعبية من جانب آخر. وهكذا كان الشعور بسوء الحالة في مصر يظهر أولًا, ثم تظهر الصحف والأحزاب بعد ذلك, وقد أعان هذا كله على نضج الرأي العام في هذه البلاد، وهو الرأي الذي كان له الفضل في مقاومة الاستعمار الأوروبيّ أكثر من سبعين عامًا، انحسر بعدها ظل الاحتلال البريطانيِّ عن مصر، وتحررت في أثناء ذلك أكثر دول الشرق الأدنى من هذا القيد2.

_ 1 انظر المرجع المتقدم ص17و 18. 2 يلاحظ القارئ أن موضوع "نشأة الرأي العام في مصر" في هذا البحث مكمل لموضوع "نشأة الرأي العام في مصر" أيضًا في الجزء الأول, من مؤلفنا: "أدب المقالة الصحفية في مصر".

مصادر الكتاب الأول

مصادر الكتاب الأول: 1- Anatomy of Pnblic opinion. by. Norman Yoem Powell. 2- Public opinion and propaganda. by: Leonard Doob. 3- The making of Public opinion. by Emory Bogardus. 4- Public opinion. by william albig. 5- La Prupagande Nouvelle Force Publicue. Par: Drien cout 6- Das Internationale Zeitungs Wesen, Karl Bomer. 7- The Flow of News: The International Press institute. 8- جرائم الصحافة والنشر، للدكتور رياض شمس. 9- الرأي العام، بحيث بقلم الدكتور حسنين عبد القادر, مجلة كلية الآداب" جامعة القاهرة, بتاريخ مايو 1955. 10- أدب المقالة الصحفية في مصر، الجزء الأول للدكتور عبد اللطيف حمزة.

الكتاب الثاني: فن الخبر

الكتاب الثاني: فن الخبر نشأة الخبر وأهميته ... الفصل الأول: نشأة الخبر وأهميته الغاية من الصحافة هي جمع الأخبار التي تمس الصالح العام، والأخبار هي حجر الأساس في بناء الصحافتين القديمة والحديثة، وعن هذه المادة تصدر جميع المواد الصحفية الأخرى على اختلافها، أي: أن هذه المادة هي الأساس الأول الذي تقوم عليه الصحافة بجميع ألوانها المعروفة، كالمقال، والتعليق، والعمود، والتحقيق، والحديث، والماجريات الصحفية على اختلافها، ولولا الخبر ما عرفت هذه الفنون الصحفية التي نشير إليها بحالٍ ما, غير أنه من الخطأ أن يظن أن نشأة الصحافة مرتبطة بنشأة المطبعة، فالأصح من هذا أن يقال: إن الصحافة ترتبط في الواقع بالصفات الإنسانية والاجتماعية في نفوس البشر، وإن كان لاختراع المطبعة أعظم الأثر في تطور الصحافة ذاتها، فقد تأثرت الصحافة بها كما تأثر غيرها من مظاهر الحضارة في المجتمع. وآية ذلك, أن المجتمعات البدائية تناقلت الأخبار بطرقها الخاصة منذ القدم, فقد كانت تتناقل أخبار الصيد والقنص، وأخبار الحرب والسلم، وأخبار الزواج والعبادات والدين، ونحو ذلك, بطريق النقش على الصخر، أو بطريق الأبواق، أو بطريق المنادين الذين يجوبون الأماكن الآهلة بالسكان، أو بطريق الرواة الذين يروون الأخبار والأشعار في كل مكان، أو بطريق الرسل الذين تناط بهم مثل هذه الأمور. ثم ارتقت الصحافة من هذه المرحلة الصوتية إلى مرحلة الكتابة الخطيّة التي ظهرت أولًا في شكل خطابات دورية، ثم ظهرت بعد ذلك في شكل كتبٍ صغيرة، وبقي الحال على هذا حتى ظهرت المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر للميلاد، ومع ذلك, لم تنتفع الصحافة بهذه الأداة

الجديدة, قبل أواخر القرن السادس عشر, وأوائل القرن السابع عشر. والحقُّ أن أهمية الأخبار ليست وليدة العصور الحديثة، ولكنها بعض ما ورثته هذه العصور الحديثة عن العصور القديمة، فقد كان الناس قديمًا -وخاصةً في الأمة المشهورة بالتجارة والملاحة- يستقون الأخبار من التجار، ومن البحارة، وكان تجار البندقية بنوعٍ خاصٍّ من أهم من نقلوا الأخبار عن الشرق، ووصفوه بالغموض والغرابة, وغيرهما من الصفات التي لفتت إليه أنظار الغرب. وهكذا منذ القدم, ووسائل الحصول على الأنباء متنوعة تنوعًا ظاهرًا؛ فمن شعراء ورواة للأشعار، إلى سفراء تبعث بهم الحكومات إلى البلاد البعيدة, ومن تجار وبحارة يركبون متن البحار؛ ليجلبوا فيما يجلبون إلى بلادهم مادة الخبر، إلى غير هؤلاء وأولئك. أليس معنى كل ذلك أن الحكومات والشعوب والأفراد والجماعات تدرك أن العلم بالأخبار خير من الجهل بها، وأن الوقوف على هذه الأخبار يعتبر نوعًا من التسلح ضد الحوادث والمحن المستقبلة، أي: أن الأخبار في ذاتها ليست إلّا نوعًا من الإنذار في الوقت المناسب عما حدث, أو ما سيحدث للفرد أو للأمة. وما الصحافة في الواقع إلّا مظهرٌ راقٍ من مظاهر الإعلام في العصور الحديثة، وهي وسيلةٌ من وسائل الإعلام إلى جانب الوسائل الأخرى المعروفة، وهي الوسائل التي تكاد تنحصر حتى الآن في أربع، هي: الصحافة، والإذاعة، والسينما، والتليفزيون. ولا ننسى أن كل وسيلةٍ من تلك الوسائل الثلاث, يمكنها أن تعين الأخرى في سبيل الحصول على الأنباء، ومن هذا القبيل ما تعمد إليه بعض الصحف في الوقت الحاضر من أنها تنشيء لنفسها قسمًا من أقسامها يُدْعَى: "قسم الإصغاء الإذاعيّ" وبهذه الطريقة تمكنت إحدى الصحف الإنجليزية من التقاط النبأ الذي أذاعته وكالة تاس السوفيتية، وهو نبأ وفاة "ستالين"، وحققت الصحيفة بذلك سبقًا صحفيًّا لا شك فيه.

ولكن إلى متى بقي الخبر في الصحافة هو كل شيء فيها تقريبًا؟ وما الأسباب التي من أجلها قَلَّت أهمية الخبر بالقياس إلى غيره من مواد الصحيفة؟ أما في مصر: فقد كانت الصحف التي أصدرها القائد الفرنسيّ بونابارت, تهتم بأخبار الحملة الفرنسية وحدها, وتحمل للجند الفرنسيين في مصر أهم الأنباء في بلادهم التي أتوا منها، وتمدهم كذلك بالأخبار التي يعرفون بها شيئًا عن الديار التي أتوا إليها، وكذلك كانت الجريدة التي أصدرها محمد على باسم "الوقائع المصرية" تعنى عنايةً تامةً -جهد المستطاع- بأخبار المحاكم، وبنشر الأوامر التي يصدرها الوالي إلى كبار موظفيه. ثم في ظروفٍ سياسيةٍ خاصةً من أهمها -ظروف الاحتلال البريطانيّ- تحولت الصحافة المصرية من صحافة خبر إلى صحافة رأي، وظهرت الصحف التي تحمل كل واحدةٍ منها اسم زعيم من الزعماء المصريين الذين لهم آراؤهم في السياسة المصرية في ذلك الوقت, ثم في منتصف القرن العشرين, أو قبله بقليل, عادت للخبر الصحفيّ أهميته الأولى، وأصبح مقدمًا على مقال الرأي، وأصبحت الصحيفة غير محتاجة إلى الأسماء العظيمة, تلتمس الرواج عن طريقها، وتعتمد عليها في بقائها حية بين الناس. أما في أوروبا -وخاصة في انجلترا- فقد كانت الناحية الغالبة عليها هي ناحية الخبر, ثم بتقدم الطباعة من جهة, وتقدم الحياة السياسية من جهةٍ ثانيةٍ، وتقدم الديمقراطية التي جعلت من الشعب مصدر السلطات من جهةٍ ثالثةٍ، ظهرت صحافة الرأي إلى جانب صحافة الخبر، وحدث أحيانًا في بلاد "كانجلترا" أن صدرت الصحف وهي لا تشتمل على أخبار مطلقًا, وإنما تشتمل على مقالاتٍ فقط، والسبب في ذلك أن الحكومة كانت تفرض الضرائب هناك على الخبر، ولا تفرضها على غير ذلك من مواد الصحف؛ كالمقال وغيره. ومهما يكن من شيء, فنحن إذ ننظر في الصحافة الحديثة ندرك بوضوحٍ أن أهم العناصر الأساسية لصحيفة من الصحف هي:

أولًا: الخبر. ثانيًا: المقال. ثالثًا: التقرير. فالخبر هو الوظيفة الأولى للصحف، والمهمة الأساسية لها، والمقال يأتي في المرتبة الثانية مباشرةً بعد الخبر؛ لأنه كثيرًا ما يكون تعليقًا على هذا الخبر، أو بيانًا لمغزاه السياسيِّ أو الاجتماعيِّ أو الثقافيِّ، ونحو ذلك. والقارئ الحديث لا يكتفي بأن يعرف الخبر، بل يتوق دائمًا إلى معرفة معنى الخبر، ومقدار تأثيره في المجتمع، وإن كانت حاجة الطبقة التي تمثل الرأي المنقاد في الأمة إلى قراءة المقال, أشد من حاجة الطبقة التي تمثل الرأي النابة بها، ومع ذلك, لا تجد من هذه الطبقة المنقادة من يقرأ المقال في الجريدة. وإذن, فعلى الصحافة الحديثة واجب عظيم في العصر الحاضر, هو توجيه الأمة عن طريق المقال توجيهًا صحيحًا في النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعليها كذلك واجب آخر, لا يقل عن الأول في الأهمية, وهو تثقيف الشعب نفسه تثقيفًا يعينه على المشاركة القوية في الحياة السياسية, والحياة الاجتماعية, والحياة الاقتصادية، وطريق ذلك كله هو المقال. وهنا يجوز لنا أن نستطرد قليلًا لنقول عن صحف الرأي: إنها نوعان: "صحف مستقلة، وصحف حزبية". والاستقلال في الصحافة ليس معناه الحياد، والوقوف موقف المتفرج حيال المشكلات العامة في المجتمع، لا تبدي الصحيفة فيها رأيًا، ولا تعبر عن فكرةٍ، وإلّا أثر ذلك في انتشارها, وربما أفضى إلى موتها واختفائها. وأما الصحف الحزبية: فهي التي تعبر عن آراء حزبٍ معينٍ، وتفرض على نفسها اتجاهًا معينًا، ومع ذلك لا ينبغي أن تسرف الصحف الحزبية في الدعاية.

ولدينا مثالٌ يوضح هذه الحقيقة، هو جريدة "الديلي هرالد" الإنجليزية. وهي جريدة حزب العمال في انجلترا، فقد كانت في أول أمرها تملأ كل صفحاتها بالدعاية لحزبها، فسرعان ما منيت بالفشل، وقَلَّ انتشارها إلى درجةٍ لا تحتمل، فلم يكن من مجلس الإدارة إلّا أن اجتمع، وقرَّرَ ألّا تزيد نسبة الدعاية الحزبية في الصحيفة عن عشرة في المائة، وفي النسبة الباقية من هذه الجريدة تنشر الموضوعات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، مما يُعْنَى به الجمهور القارئ عنايةً كاملةً. بقي أن نشير في ختام هذا الفصل إلى أمرين هامَّين, يتصلان اتصالًا قويًا بما للخير من خطورةٍ كبيرةٍ في الصحف: أما أول الأمرين: فهو "الحاسة السادسة" التي لا بد منها للصحفيّ, حتى يكون أقوى من غيره من الناس فهمًا لقيمة الخبر، وتقديرًا لأهميته, ويكون أعظم قدرةً على التمييز بين خبرٍ جديرٍ بالنشر، وآخر لا يستحق هذه الصفة, والحق أنه كما يمتاز الشاعر بأنه رجلٌ مرهف الحسِّ أكثر من غيره من الناس؛ فهو إذا فرح كان فرحه أكثر من فرحهم، وإذا حزن كان حزنه أشد من حزنهم، وهو إذا انفعل بالأحداث كان في انفعاله بالأحدث أعمق, وهكذا, فكذلك ينفرد الصحفيُّ بقدرته على فهم الأحداث الجارية، والتمييز بين الأخبار العامة، ومن الخطأ كلَّ الخطأ -كما يقول الصحفيون المجربون- القول بأن الأنباء إنما تولد من غير أن نشعر بها، فإن هذه الحاسة الصحفية -أو الحاسة السادسة- التي نتحدث عنها, هي التي ترشد الصحفيُّ دائمًا إلى أهمية الخبر من ناحيةٍ، وإلى المصادر الصحيحة التي يستقي منها هذا الخبر من ناحيةٍ ثانية. وأما ثاني الأمرين اللذين يتصلان اتصالًا وثيقًا بالخبر؛ من حيث هو: "قدسية الخبر" وواجب الصحفيّ نحو الأخبار دائمًا هو الواجب الذي

يمليه عليه الشرف، وتَحُضُّ عليه الأمانة والنزاهة، وهذا الواجب هو نقل الأخبار نقلًا صحيحًا، وتسجيل المعلومات المتصلة بهذه الأخبار تسجيلًا صحيحًا كذلك. فلو قَدَّرَ الصحفيُّ أن الخبر هو الأساس الأول لكل ما يكتب في الصحف؛ من تعليق، وعمود، وطرائف، وحديث، وتحقيق، ونحو ذلك، ولو قَدَّرَ الصحفيُّ أن الخبر هو الأساس الأول لكل تصرفٍ يبدو من جانب الحكومة، أو الأفراد، أوالهيئات، أو الشعوب, لو قَدَّرَ الصحفيُّ كل ذلك؛ لأدرك أن عليه واجبًا لا مفر من أدائه، وهو تحري الصدق والأمانة في الحصول على أخبار من مصادرها الصحيحة، ثم المحافظة التامة على سرية هذه المصادر، متى رأى أصحابها ذلك, ثم الأمانة الكاملة في نقل الخبر ذاته، ومعنى ذلك, أنه لا ينبغي للصحيفة -حرصًا منها على ما يُسَمَّى: بالسبق الصحفيّ- أن تستهين بهذه الأمانة، أو تعبث بسرية الأخبار. حدث في أمريكا أن اختطف طفلٌ رضيعٌ من عربته الصغيرة، ووضع الخاطف ورقة صغيرة يطلب فيها الفدية، وأبلغ الحادث إلى البوليس الذي رأى من المصلحة إذ ذاك عدم إذاعة الخبر إلى أن يعاد الطفل إلى والديه، ووعدت الصحف بعدم النشر، إلّا صحيفةً واحدةً رأت في الموضوع خبرًا مثيرًا للقراء، فنشرت الخبر، وتبعتها الصحف الأخرى في ذلك بعد إذ أصبح الخبر معروفًا، وكان من أثر ذلك أن فشلت خطة رجل البوليس، وعثر على الطفل الذي كان وحيد والديه بعد أيام جثةً هامدةً, وضاع كل أثرٍ من آثار هذه الجريمة، وهكذا أفسد هذا السبق الصحفيُّ الذي حرصت عليه الصحيفة خطة البوليس للتعرف على الجناة، وانحطت قيمة الصحيفة التي سعت إلى ذلك1.

_ 1 جلال الحمامصي: صحافتنا بين الأمس واليوم, ص126و 127.

تعريف الخبر

تعريف الخبر: لماذا نحرص على تعريف الخبر أولًا؟ وهل لذلك صلة منا بطريقة اختيار الخبر الذي ينشر في الجريدة؟ الحق أن الصحف تختلف طعومها ومشاربها لدى القاريء باختلاف فهمها للخبر الصحفيّ من حيث هو, فهناك صحيفة من الصحف ترى أن حوادث الجريمة وأخبارها أهم من سواها من الأخبار والحوادث، ولذلك تختار لهذه الأخبار أحسن الأمكنة في الصحيفة. وهناك جريدة أخرى ترى أن الأخبار السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكلٍ ما, أولى بالنشر عما عداها من الأخبار الكبرى، ولذلك تتوخى الأماكن الجذابة في الجريدة وتخص بها هذه الأخبار الكبيرة أو الصغيرة، واختلاف الصحف في تقدير الأخبار على هذه الصورة, هو المؤثر الحقيقيّ في اتجاهات الشعب واتجاهات الحكومة، والعكس صحيح أيضًا، فإن هذه الاتجاهات من جانب الشعب أو الحكومةكثيرًا ما تؤثر في الصحف من ناحيتين هما: 1- ناحية اختيار الأخبار. 2- ناحية التوزيع والانتشار. وهكذا يصبح اختيار الأخبار عملًا مهمًّا في نظر الحكومات، ونظر الشعوب معًا, كما سبق القول في ذلك، ومن أجل هذا, وجب أن يدرس

الصحفيون موضوع "تعريف الخبر" دراسةً جيدةً، ويكونوا لأنفسهم رأيًا واضحًا في هذا المسألة. الخبر الصحفيُّ: هو الجديد الذي يتلهف القراء على معرفته، والوقوف عليه بمجرد صدوره في الجريدة، ومعنى ذلك: أن أحسن الأخبار الصحفية هو ما أثار اهتمام أكبر عدد ممكن من الناس". هذا التعريف للخبر الصحفيّ هو ما ذهب إليه الأستاذ ويلارد بلاير Willard G. Bleyer في كتابه "الصحيفة وتحريرها". وذهب أستاذ آخر، هو "وليم مولسبي Willim maulsby" في تعريف الخبر الصحفيّ إلى أنه: "وصف أو تقريرٌ دقيقٌ غير متحيز للحقائق الهامة, حول واقعة جديدة تهم القراء". لهذا تبقّى أن تتوفر للخبر خصائص الدقة والإثارة, والتجاوب مع الوقت, والوضوح التام, ونحو ذلك, وهناك تعريف ثالث للخبر الصحفيّ يمثل الناحية الواقعية, أو العملية Pragmatlc للصحيفة، وهو تعريف ماكدوجل Mac Dongall. وفيه يقول: "الخبر الصحفيّ تقرير عن حادثٍ معيَّنٍ ترى الصحيفة في نشره وسيلة للربح الماديّ". وثَمَّ تعريفٌ للأخبار يقول إنها: "أي حادث, أو فكرة, أو رأي ابن ساعته, يمكنه أن يفهم, أو يؤثر في عدد كثير من الأشخاص في مجتمع ما, ويكون مفهومًا منهم". أما لورانس كاميل"، R وولسي في كتابهما Exbloring lournsliam فيذهبان إلى أن الخبر: "وصف أو تقرير عن حادث, أو موقف, أو فكرة, تنشره الصحيفة؛ لأنه يهم القراء، ولأنه يدر الربح على الناشرين". ويقول كارل وارين في وصف الأخبار الصحفية: "إنها بعض وجوه النشاط الإنسانيّ الذي يهم الرأي العام ويسليه، ويضيف إلى معلوماته

جديدًا, وتفسير ذلك: أن الذي تعتبره، موسكو خبرًا, ربما كان شيئًا تافهًا في بلاد الهند، وأن المادة التي تهتم بها صحيفة المحافظين في انجلترا, تلقي بها صحيفة الأحرار في سلة المهملات. وبوجهٍ عامٍّ, فإن الأخبار هي كل شيء لم تعلم به أمس. ومعنى ذلك: أن تعريف الخبر الصحفيّ أمر ليس بالهين، فقد عقدت مجلة "كوليير" الأسبوعية الأمريكية ندوةً جمعت إليها عددًا كبيرًا من محرري الصحف في أمريكا؛ لكي يمدوا المجلة بتعريف صحيح للخبر الذي ينشر في الصحف، لكن أعضاء الندوة اختلفوا اختلافًا كبيرًا في ذلك, فظهرت المجلة وبها عدد كبير من التعريفات، منها على سبيل المثال: 1- الخبر هو كل ما يهم القراء أن يعرفوا عنه شيئًا ما. 2- الخبر هو كل شيء يرغب عدد كافٍ من الناس في قراءته, بشرط ألّا يكون خارجًا على قواعد الذوق العام، وقوانين السب والقذف. 3- الخبر هو كل شيء يحدث ويهتم به الناس. 4- الخبر هو كل ما قد يتحدث عنه الناس، وكلما كان الاهتمام الذي يثيره فيهم أكبر، كانت قيمته أعظم. 5- الخبر هو الاستطلاع الدقيق للأحداث الإنسانية، والكشوف والآراء التي تهم الناس وتؤثر فيهم. 6- الخبر هو كل ما يحدث, وكل ما توحي به الأحداث, وكل ما ينجم عنها. 7- الخبر هو الوقائع الأساسية التي تتعلق بأي حدثٍ أو مناسبةٍ أو فكرةٍ تستحوذ على اهتمام الناس، وتؤثر على الحياة, وعلى السعادة البشرية. 8- الخبر قائم في أساسة على الناس، ويجب أن يكون محدودًا بما يعنيهم، وما يرضيهم دائمًا.

9- الخبر يشمل كل أنواع النشاط الجاري الذي يستحوذ -بصفة عامة- على اهتمام الناس, وأحسن الأخبار ما أثار اهتمام أكبر عدد من القراء. 10- الخبر كل ما يتعلق بالصالح العام, وكل ما يهم القراء, أو يترك أثرًا في علاقاتهم ونشاطهم وآرائهم وأخلاقهم وسلوكهم. 11- الخبر هو الذي تقول الصحيفة عنه إنه خبر. والنتيجة من كل هذه التعاريف السابقة أن الخبر الصحفيَّ مادةٌ من أهم مواد الصحيفة، وأنها تهم القراء من جانب، وتهم الصحيفة من جانب آخر، وأنها تعتبر موردًا من موارد الثروة للصحف. والحق أن الأخبار لم تعد حاجة من حاجات الصحف وحدها، وإنما أصبحت حاجة من حاجات الأمة كلها، ولذلك اتخذت الأخبار مكانها الممتاز في جميع وسائل النشر، ومنها الصحف والإذاعة والسينما والتلفزيون.... إلخ. حدث أن أضرب العمال في انجلترا حوالي سنة 1930, فاضطرت الحكومة إلى وقف إصدار الصحف، ولكنها -أي: الحكومة- لم تجد مفرًّا من إذاعة الأخبار على الجمهور، فأصدرت باسمها نشرة إخبارية أطلقت عليها اسم "الجازيت البريطانية "Britanic Gazette"، ودلت بهذه النشرة على أن مسئولية الإعلام -من حيث هي- تعتبر إحدى المسئوليات التي تقع على عاتق الحكومات. وأن هذه الحكومات والشعوب التي تخضع لها, لا تستغني عن الخبر بحالٍ ما, وإلّا أحست بنقص ظاهر في حياتها لا يمكنها أن تصبر عليه، ومن أجل هذا أثر عن عملاق الصحافة الإنجليزية "لوردت نور ثكليف" أنه قال: "الشيء الوحيد الذي يساعد على زيادة توزيع الجريدة هو الخبر، والخبر هو كل ما يخرج عن محيط الحياة العادية المألوفة، ويكون مدار حديث العامة والخاصة".

ومن ثَمَّ كانت للخبر أهميته التي أشرنا إليها في الفصل السابق، وأصبحت رسالة الصحفيّ تنحصر أو تكاد تنحصر في جمع الأخبار بأمانة، وسردها ونشرها بأمانة، ثم التعليق عليها بأمانة، حتى أن الصحفيَّ الذي يخل يومًا بهذه الأمانة يصبح في نظر الحكومة والجمهور أشبه رجل بالصانع الغشاش، أو التاجر المطفف، أو الطبيب، أو المعلم الذي هان عليه العبث بشرف المهنة. وهنا يعود الباحث ليواجه المشكلة مرةً أخرى، وهي إلى أيِّ حدٍ يجب أن يتصف الصحفيّ المسئول بالأمانة التامة حيال الخبر الذي ينشره في الجريدة؟ هل يحق له أن يساير عواطف الجماهير, فيعمد من أجلهم إلى نشر الخبر حينًا, وإلى تشويهه حينًا آخر، حتى يصبح الخبر متفقًَا والرأي العام. والجواب على هذا، أن الصحيفة ليست إلّا عقدًا اجتماعيًّا بين ناشريها من جهة، وقرائها من جهة ثانية، وفي هذا العقد الاجتماعيّ اتفاقٌ ضمنيٌّ بين هذين الطرفين على أمور كثيرة، من أوّلها أداء هذه الأمانة. وهذا الاتفاق الضمنيّ -كما يقول الأستاذ "ويكهام استيد" في كتابه المعروف عن الصحافة- إنه من نوع العلاقة الصحفية التي تقوم بين الطبيب والمرضى مع فارق واحد، هو أن رجال الطب يعملون طبقًا لنظام خاصٍّ، بينما الصحافة لا تزال مهنةً حرةً لا تخضع إلّا لعدد محدود من القيود الخارجية، ومن القيود الداخلية. وانظر إلى الأستاذ "استيد" هذا يمضي في بيانه قائلًا: "إني أعتقد -كما يجب أن يعتقد كل إنسان- أن الأخبار الكاذبة أكثر ضررًا من الأطعمة المغشوشة أو الفاسدة، ذلك أن الصحافة ذات الكلمة الممتازة في نفوس القراء، مادتها الأولى في العقل العام، وبضاعتها القيم الإنسانية بوجه عام، وهدفها الأخير هو السعيُ نحو الكمال".

ولكن ليس معنى هذا أن تكون الصحيفة راكدة أو غير جذابة، فإنه ليس شيء أخطر على الصحافة من الركود، فالركود مدعاة للكساد، والكساد طريق إلى الموت، ومن هنا تحرص الجريدة على نشر الأخبار الغريبة, متى وجدت إليها سبيلًا. وهنا نسمع من يقول في سخرية مريرةٍ لا تخفي على سامعيها: ولكن الفضيلة لا تحوي غير العادي من الأمور، أما الرذيلة فتحوي كل المادة التي تشتهيها الصحافة، كما تشمل عنصري الإغراب والإثارة، ومن هذه الثغرة الأخيرة تنفذ الصحافة الصفراء، أو الصحافة المثيرة، وحجتها في ذلك أنها لا تريد أن تكون صحافة مملولة، وهذا صحيح -إلى حدٍّ ما- ولكن متى وقفت الصحافة الرشيدة على هذه الحقيقة عرفت أن أمامها صعابًا كثيرة، وأن عليها أن تتغلب كل يوم على واحدة منها، وإذ ذاك تحاول هذه الصحافة أن تستعيض بالتدريج عن عنصر الغرابة عنصرًا آخر, هو عنصر التنويع في عرض مواد الصحافة؛ فهذه أخبار سياسية يهتم بها السياسيون, وهذه أخبار اقتصادية يهتم بها الاقتصاديون, وهذه أخبار رياضية يهتم بها الرياضيون, وتلك أخبار علمية أو أدبية أو فنية يعني بها ذوو العلم والأدب والفن. وبمقدار ما تتنوع الصحف يزداد عدد قرائها، وتنشأ صداقة وطيدة الأركان بينها وبين القراء، فتراهم يتعلقون بها، ويزدادون مع الأيام وفاءً لها, ويؤثرونها على غيرها من الصحف التي تعتمد على الإغراب والإثارة, وما إليهما. ومعنى ذلك: أنه يجب على الصحفيِّ أن يشعر دائمًا بهذه الأمانة الصحفية، وأن يكون له ضمير يقظ يمنعه من نشر خبر من الأخبار ما لم تكن وراء نشره مصلحة تعود على القراء أو المجتمع.

كما ينبغي للصحفيّ أن تكون العلاقة طيبة بينه وبين مصدر الخبر، فإن هذه العلاقة هي الأساس الذي تبنى عليه عملية استنقاء الأنباء, ويجب على الصحفيِّ ألّا ينسى مطلقًا أن مصدر الخبر هو وحده صاحب الحق في نشر الخبر أو عدم نشره متى أراد. وباختصار شديد, يجب على الصحفيِّ أن يدرك أن الخبر ليس ملكًا له ولا ملكًا للصحيفة التي يعمل بها، ولا ملكًا للرأي العام، ولكنه ملك للحقيقة فقط. وكل هذه الاعتبارات هي التي أملت على "هدو له لاسكي" أن ينصح طلبة الصحافة في كتابه: "الصحافة والشئون العالمية" بأن يضعوا نصب أعينهم الحقائق الأربع التالية. الأولى: أنه لا توجد حكومة في العالم لا تعمل على توجيه الأخبار الوجهة التي تخدم مصالحها. الثانية: أن هناك هيئات كثيرة تعمل في جمع الأخبار على أساس تلوينها بما يمليه عليها ميولها وتجهيزها. الثالثة: أن للمراسلين وزنًا خاصًّا في عرض الأمور، وهم لذلك يعمدون إلى تلوين الأخبار التي يبعثون بها إلى الصحف. الرابعة: أن لمكاتب التحرير هي الأخرى شخصيتها الخاصة التي تضفيها على الأخبار، وطريقتها الخاصة التي تقدم بها هذه الأخبار للقراء. والخلاصة: أن الأخبار وجمعها واختيارها وطرق صياغتها, إنما تعتمد اعتمادًا تامًّا على المصدر الذي أتت منه, وعملية امتحان هذا المصدر, والتحقق من نزاهته, هو أصعب عملية تواجه المخبر الصحفيّ، وتقف أمامها الصحيفة نفسها موقف المحكمة أمام الشهود.

في سبيل الحصول على الخبر

في سبيل الحصول على الخبر: تحصل الجريدة على الأخبار الداخلية عادةً بطريق المخبرين الصحفيين, أو مندوبي الأخبار الذين توزعهم على المصالح والوزارات والإدارات المختلفة، وتجعل كل واحد منهم مختصًا بمصلحة أو وزارة أو إدارة، ونادرًا ما يقع المخبر على موضوع يكتبه من تلقاء نفسه، فإن تسعة أعشار الأعمال التي يقوم بها المخبر الصحفيُّ يكلف بها من قبل رئيس قسم الأخبار، وهو الشخص المكلف من قبل الجريدة بوضع خطة يومية يسير عليها المخبرون, تكون مبنية على الحسِّ الصحفيِّ الدقيق عند هذا الأخير، فهذا الحسُّ الصحفيُّ يستطيع أن يعرف بواطن الأخبار الجديرة بالنشر في الصحيفة التي يعمل بها, ومع هذا وذاك, قد يحدث أن يجد المخبر في طريقه شيئًا يستحق الإخبار عنه، وإذا ذاك يتجه إلى أقرب "تليفون", ويبادر إلى تبليغ الجريدة هذا الخبر الذي عثر عليه بطريق المصادفة، ثم يعود إلى تنفيذ الخطة التي وضعها له رئيس قسم الأخبار، ومعنى ذلك: أن المصادفة تلعب دورها أحيانًا في الحصول على الخبر، وفي السبق الصحفيِّ إلى هذا الخبر, وكثيرًا ما تربح الجريدة ماديًّا من وراء ذلك. وقد اطلع الشعب المصريُّ يومًا في جريدة "الأهرام" على خبر زواج "توفيق نسيم باشا" رئيس مجلس الوزراء، وهو في السبعين من عمره، من فتاةٍ نمساويةٍ في السابعة عشرة من عمرها، وكانت جريدة الأهرام أولى الجرائد المصرية التي سبقت إلى نشر هذا الخبر الذي شغل بال الرأي العام في مصر مدةً ليست بالهيِّنة. وسمعت يومئذ أن السبب في نشر الخبر يرجع إلى الأستاذ جبرائيل تقلا, صاحب "الأهرام" حينذاك، قرأت في كتاب الأستاذ جلال الدين الحمامصي

"صحافتنا بين الأمس واليوم"1 بعد ذلك ما يلي: "في ذلك الوقت الذي اشتعل فيه الغرام بين السياسيِّ العجوز, والشابة النمسوية, مر المرحوم الأستاذ "جبرائيل تقلا" بقرية من القرى، وأراد أن يبقى فيها ليلة واحدة، وبينما هو يسجل اسمه في دفتر الفندق, لاحظ صاحبه أنه كتب أمام جنسيته أنه مصريّ، فأخبرنا أن بين نزلاء الفندق مصريًّا آخر كبيرًا, اسمه: توفيق نسيم، وأن هذا السياسيّ الكبير, سيتزوج من ابنته، وأحس الأستاذ جبرائيل تقلا بأنه وقع على نبأ هام، نبأ لا بد أن يحدث دويًّا في مصر، وأمسك الأستاذ تقلا بالورقة التي سجل عليها اسمه فشطب ليلةً واحدةً، وكتب: عدة ليالٍ، فقد شعر بأن مكانه -كصحفيّ- هذا الفندق, حيث تولد قصة صحفية ضخمة، وبالفعل كانت القصة من الضخامة بحيث شغلت قراء الأهرام عدة أشهر. وقد أصبح من المعتاد أن نرى في كل وزارة من الوزارات, أو مصلحة من المصالح الحكومية, وغير الحكومية, قسمًا يقال له: "إدارة الشئون العامة، أو "مكتب الصحافة"، ومن هذه الأقسام يستقي المخبرون الصحفيون أخبارهم في أغلب الأحيان، وفي استطاعة المخبر اللبق أن يحصل على أخبار الوزارات بطرقٍ فيها شيء من الخفاء، كأن يحصل عليها من طريق السعاة, وصغار الموظفين، وبذلك يصل إلى الأخبار التي تبالغ بعض الوزارات والمصالح في إخفائها، ولكن يشترط في هذا الخفاء ألَّا يصل بالمخبر الصحفيِّ إلى حد الإخلال بالشرف، أو ارتكاب جريمة السرقة, أو غيرها من الأساليب التي تعافها الصحافة الشريفة النزيهة، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في المقدمة. ويعود المخبرون إلى الصحيفة, ويقضي كل منهم وقتًا في كتابة أخباره، وفي ركن من الورقة يكتب اسمه, ومصدر النبأ الذي أتى به، ويحسن به

_ 1 انظر الكتاب ص157.

إذ ذاك أن يكتب كل موضوعٍ, أو كل خبرٍ, من ثلاث نسخ؛ واحدة يحتفظ بها لنفسه، والثانية توضع في ملف خاص به، والثالثة تأخذ طريقها إلى رئيس التحرير, مارَّةً في أثناء ذلك بعدة مكاتب في إدارة الصحيفة. ومن أهم هذه المكاتب: مكتب المراجع REWRITER الذي يعيد كتابة الأخبار بعد غربلتها غربلة جيدة، ثم يبعث بها إلى رئيس الأخبار ليقوم فيها بوظيفته، ثم ترسل إلى سكرتير التحرير الذي يحدد لكل خبر مكانه في صفحة الأخبار الداخلية، ثم ينتهي بها المطاف إلى رئيس التحرير -كما سبق القول في ذلك، وليس على هذا الأخير أن يقرأ جميع ما يصل إليه منها، وإنما يكتفي بما له من صلة قوية بالسياسة أو بالمشكلات العامة, ونحو ذلك. ثم تواصل الأخبار رحلتها إلى أن تصل في النهاية إلى غرفة الجمع، فتجمع, ثم تؤخذ عليها تجارب -بروفات, ويقوم المصححون بتصحيحها قبل أن تدور عجلة المطبعة دورتها النهائية. هذا كله من حيث الأخبار الداخلية, أما الأخبار الخارجية فتأتي إلى الصحف عن طريق وكالات الأنباء، أو عن طريق المراسلين الخارجين للصحيفة في مختلف الأنحاء, ولكل صحيفة قسم خاص بالمترجمين الذين يتولون ترجمة هذه الأخبار من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية, ثم ترسل الأخبار مترجمةً ليعيد سكرتير التحرير، أو من يقوم مقامه؛ إذ ذاك قراءتها، ويحدد مكانها من الجريدة، وأخيرًا تعرض الأخبار الخارجية على رئيس التحرير، لعله يجد فيها ما يستحق التعليق بكلمة خاصة، هي في الغالب كلمة الجريدة، أو ما يسمى: "بالمقال الافتتاحي" أو "العمود الرئيسي" فيها. * * * * ولا خلاف إذن في أن وكالات الأنباء هي المصدر الرئيسي لجميع الأخبار الخارجية التي تنشر في صحيفة من الصحف، ولكن إلى جانب هذا المصدر

الرئيس نجد هناك مصادر أخرى أشرنا فيما مضى إلى شيء منها. فمن ذلك: "القسم الإذاعيّ" للصحيفة، فقد تذيع المحطات الخارجية نبأً له أهمية خاصة، فإذا صادف أن سمعه بعض رجال الصحيفة، وسارع في تعجيله وتوصيلة إلى قسم الأخبار، فإنه يكسب لصحيفته سبقًا صحفيًّا كما قدمنا. ومن تلك المصادر التي نشير إليها بعض الشخصيات الكبيرة التي يلتقي بها الصحفيون بطريق المصادفة، ويستطيعون الحصول منهم على بعض الأخبار الهامة، وكهذه الشخصيات الكبيرة: سفراء الدول الأجنبية، ورجال السلك السياسيّ, متى أمكن للصحفيّ أن يحصل منهم على معلومات, أو أخبار هامة، وقلما يتمكن الصحفيون من ذلك في الحقيقة. ونعود إلى المصادر الرئيسية للحصول على الخبر فنجملها فيما يلي: 1- مندوب الأخبار في الصحيفة. 2 مراسل الصحيفة في الداخل، ومراسلها في الخارج. 3 وكالات الأنباء المحلية والدولية أو العالمية. 4 وكالات الأعمدة الصحفية, وسنشرحها فيما بعد. 5- المتطوعون بالأخبار من أصدقاء المحرر أو المخبر وغيرهم. 6- أماكن الشرطة أو "نقط البوليس". 7- دور الخدمة، وبها "إدارات في الشئون العامة" الخاصة بإعطاء الأخبار. 8- المؤسسات العامة، وبها كذلك "إدارات الشئون أو العلاقات العامة". ومن عمل هذه الأخيرة إعطاء الأخبار الخاصة بالمؤسسة.

9- المحاكم على اختلافها. 10- الشخصيات العامة, أو الكبيرة في المجتمع. 11- الاجتماعات العامة, والنوادي العامة, ونحو ذلك. 12- المؤتمرات الصحفية على اختلاف أنواعها. 13- المصادفة في الطريق العام. والمهم أن الصحفيّ هو الذي يدعم المصادر الروتينية بمصادر أخرى ذاتية أو شخصية، ولا يتيسر هذا التدعيم إلّا عن طريق الصداقات, والعلاقات الطيبة التي له ببعض الأفراد, أو بالشخصيات الكبيرة التي يمكن أن تكون مصدرًا للخبر، ولنا أن نقف وقفةً قصيرةً أمام المرحلتين, وهما: المخبر والمراسل: المخبر الصحفيّ أو مندوب الأخبار: مندوب الأخبار هو العنصر الهام في عملية جمع الأخبار, ووظيفته واحدة، وهي أن يذهب بنفسه إلى مسرح الحياة, ويحصل بنفسه على المعلومات التي يتكوّن منها النبأ الذي يهم القراء، وقد يتذرع المخبر إلى ذلك بصفتين هما: 1- صفة الاهتمام الشديد بعملية الصحفيّ: وهو العمل الذي جعل منه مراقبًا للركب الإنسانيّ في مروره بطريق الحياة, وجعله مضطرًا إلى مشاهدة المسرحيات السياسية من خلف الكواليس, كما يقول رجال التمثيل، وأما الصفة الثانية فهي: 2- صفة الفضول: ما دام العمل الصحفيّ ينطوي على شيء من المشقة، ويحتاج إلى شيء من المزاحمة، ولذلك يقول أحد رجال الصحف: "إن المندوب الذكيّ أغلى عند صحيفته بكثير من المحرر الذكيّ".

المراسل الصحفي: مهمته إمداد الصحيفة بمواد غزيرة من حقله, بداخل البلاد إن كان مراسلًا داخليًّا، أو بخارج البلاد إن كان مراسلًا أجنبيًّا، غير أن العمل الذي يقوم به المراسلون في الخارج, أشد صعوبةً وخطورةً من العمل الذي يقوم به المراسلون في الداخل. وأشد ما تكون مهمة المراسل الخارجيّ خطورةً, حين يشترك في مؤتمر صحفيٍّ في بلاد أجنبية, ويحاول أن يعطي أخبار هذا المؤتمر، وأن يشترك في توجيه الأسئلة إلى رئيس المؤتمر، أو الشخص المسئول في الدولة المضيفة للمؤتمر. والمراسل الخارجيّ هو المسئول عن بيان قيمة الأحداث التي ينقلها إلى صحيفته، وعن تفسير هذه الأحداث, وإعطاء صورةٍ دقيقةٍ للشخصيات الكبيرة التي تقترن بكل حادثة منها، ومن ثَمَّ أصبحت لهذا المراسل الخارجيّ أهميةً عظيمةً يعرف بها في المسرح الدوليّ. والمراسل الخارجيّ كالمراسل الحربيّ -تواجهه صعاب كثيرة- ينبغي له أن يواجهها بشجاعة تامة، منها سوء المعاملة التي يلقاها أحيانًا من أهل البلد, أو من حكومته، ومنها الشعور بالوحشة، وبالريبة في كل من يلتقي بهم في هذه البيئة الجديدة، ومنها الرهبة الشديدة من الوقوف في المعركة التي يجمع منها الأخبار؛ ليبعث بها إلى الصحيفة، وحسبه كل ذلك لكي يكون شخصًا فدائيًّا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنًى1. طرق مشروعة للحصول على الخبر: قبل أن ندع الكلام عن كيفية الحصول على الأخبار، ينبغي أن نشير إشارةً عابرةً إلى بعض الطرق التي يعمد إليها المخبر الصحفيّ في الحصول

_ 1 ارجع إلى كتاب "أخبار الشرق الأوسط في الصحافة العالمية" ترجمة الدكتور عبد اللطيف حمزة ووليم الأمير.

على الأخبار، وذلك فيما خلا الطريقة المعتادة التي منها الذهاب إلى المصالح الحكومية المختلفة، أو أقسام البوليس، أو المحافظات والمديريات، والمحاكم والمدارس، والمعاهد والجامعات، ونحوها. ويستطيع المخبر الصحفيّ أن يحصل على أهم الأخبار من المصادر الهامة بطرقٍ سليمةٍ لا تخرج في مجموعها عن طريقة "العلاقات" أو "الصداقات" التي ينشئها المخبر بين حينٍ وآخر معى الشخصيات التي تعتبر مصادر هامة للأنباء. وهنا يجب على المخبر اللبق أن يدرس ميول الشخص الذي هو مصدر الخبر، وعلى أساسٍ متينٍ من هذه الدراسة يستطيع أن يتقرب منه، وأن يبذل أقصى جهده في مجاملته وملاطفته، وإذا لزم الأمر أن يقدم إليه الهدايا والألطاف فليفعل، فإن الهدية في هذه الحالة لا تعتبر نوعًا من الرشوة, أو هي -على الأصح- رشوةً بيضاء لا تحمل غير معنى المجاملة التي يأنس الناس إليها. ومن طرق الحصول على الخبر فيما عدا "الصداقة" طريق آخر، هو ما يسمى: الإيهام بالمعرفة، وكثيرًا ما تجوز هذه الحيلة على مصدر الخبر، فيتساهل في التصريح به, ما دام هذا الخبر قد أصبح معلومًا لكثيرين من الناس، كما أوهمه المخبر بذلك. وهناك طرق أخرى كثيرة لا تخفى على ذكاء المتمرنين، ولا مجال هنا لسرد هذه الطرق, أو الإلمام بها, أو نقدها والحكم عليها. وإليك مثلين منهما: أحدهما: على طريقة الإيهام بالمعرفة، والثاني: على طريقة الصداقة وإنشاء العلاقات الخاصة بمصدر النبأ. المثل الأول: "وهو مثل على الإيهام بالمعرفة"1. حكى أحد الصحفيين الإنجليز عن نفسه قال:

_ 1 راجع كتاب "أزمة الضمير الصحفيّ" للمؤلف, ص160و 161.

إنه كان جالسًا في مقهى من مقاهي الإسكندرية على شاطيء البحر, وتصادف أن جلس معه على نفس المائدة أحد كبار تجار الثغر المعروفين، وجرى الحديث بينهما في أمورٍ عدةٍ, أشار التاجر الكبير في بعضها- عن غير قصد- إلى إلحاح الخديوي إسماعيل في بيع نصيب مصر من أسهم قناة السويس, وإلى أن هذا التاجر الكبير يتمنى لنفسه أن يربح هذه الصفقة, وهنا تغير لون الصحفيّ الإنجليزيّ, وأحسَّ كأنه جالس على برميل من البارود -على حد تعبيره- ولكن المهنة الصحفية أوجبت عليه في هذه اللحظة أن يتماسك, أو يتظاهر بالثبات التام، كما أوجبت عليه المهنة كذلك أن يلجأ إلى طريقة الإيهام بالمعرفة. فأوهم التاجر الكبير أنه على علمٍ بهذا السر الخطير، وهنا اطمأن التاجر إلى أنه لا يذيع سرًّا من الأسرار، وأفاض في الحديث عن أسهم القناة، ثم ما كاد التاجر يغادر المكان حتى أسرع الصحفيّ الإنجليزي إلى مكاتب البرق، وأرسل برقيةً إلى "دزرئيلي" رئيس الوزراء البريطاني حينذاك، وما كان من "دزرائيلي" هذا, إلّا أن اتصل من فوره "بآل روتشلد" وهم من كبار رجال المال في انجلترا, وطلب منهم المال اللازم لشراء أسهم القناة, ولم ينتظر "درزائيلي" ريثما يحصل على إذن بهذا المال من مجلس الوزراء، أو مجلس العموم، أو من الجالس على عرش انجلترا إذ ذاك. المثل الثاني: "وهو مثل على استخدام الصداقة": هو حادثة جرت للأستاذ مصطفى أمين, حكاها عن نفسه قال: "إنه كان بلندن في الوقت الذي دارت فيه مفاوضات "صدقي-يفن" وقد تَمَّ الاتفاق بينهما على نصوص معينة، غير أن مستر بيفن اشترط أن تبقى هذه النصوص سرًّا من الأسرار, فلا تنشر إلّا بإذنه في الوقت الذي يحدده هو؛ وإذ ذاك ساقت الظروف مصطفى أمين فتعرف إلى

سيدة, اتضح أنها تعمل في مكتب مستر بيفن، وبطريقة غير مباشرةٍ علم مصطفى أمين بأن هذه السيدة هي التي كتبت على الآلة الكاتبة نصوص الاتفاق, فدعاها مصطفى أمين مرارًا للجلوس معه في مقهى من مقاهي العاصمة، ولاحظ في كل مرةٍ يجلس إليها أن هذه السيدة تنتظر قطع السكر التي يقدمها المقهى, وتمسك بيدها هذه القطع باحتراس تَامٍّ واهتمام, وتدسها في حقيبة يدها -شنطتها- بخفة وعجلة، إذا ذاك أحضر مصطفى أمين في اليوم التالي كل تموينه من السكر, وأسلمه إلى هذه السيدة العظيمة، ففرحت به فرحًا عظيمًا. ونظرت إليه على أنه أعظم هدية لأطفالها الصغار الذين لا يكفيهم تموينهم من السكر الذي يوزع عليهم بالبطاقة. ومن ذلك الوقت, نشأت صداقة متينة بين مصطفى أمين وهذه السيدة، وعن طريق هذه الصداقة استطاع مصطفى أمين أن يحصل على ورق الكربون الذي كتبت عليه نصوص الاتفاق, ومالبثت هذه النصوص أن نشرت في بعض الصحف الصادرة في مصر، وفوجيء بها "مستر بيفن" كما فوجيء بها رئيس الوزارة المصرية إذا ذاك إسماعيل صدقي. إلّا أننا نحرص الحرص كله هنا على القول بأن الحصول على الأخبار يجب ألّا يضطر المخبر الصحفيّ بحالٍ من الأحوال, إلى سلوك الطرق غير الشريفة، كالسرقة والتساهل في العرض، وخراب الذمم، والتضليل، والغش، ونحو ذلك من الأمور الضارة بالسمعة والشرف، فليكن معلومًا أن الصحافة شيء، والجاسوية شيء آخر، والصحفيّ الشريف ليس جاسوسًا للمجتمع ولا للدولة، ولا ينبغي لأحد أن يطالبه بشيء من ذلك، وبهذا ننفي عن الصحافة كل عمل يشينها, أو يسيء إلى كرامة المشتغلين بها. على أنه لا مناص من القول بأن الوسائل الميكيافلية التي تقول: "بأن

الغاية تبرر الوسطة، لا تجوز مع الخبر الصحفيّ إلّا في حالات شاذةٍ؛ كأوقات الحرب مع دولة أجنبية، وظروف الاحتلال الأجنبيّ الذي ينشب أظفاره في الأمة، ففي مثل هذه الأحوال يجوز للمخبر الصحفيّ أن يلجأ إلى طريق يخدع بها العدو الأجنبيّ، ويحاول أن يتغفله ليحصل من أتباعه على الأخبار ذات الصلة الوثيقة بسلامة الوطن1 وذلك كله على القاعدة القائلة: "الحرب خدعة". وتاريخ الصحافة المصرية يحفظ لنا مثلًا من أقوى الأمثلة على ذلك وهو: قضية التلغرافات: وهي القضية التي تعرضت لها صحيفة "المؤيد"، وخرج بها السيد على يوسف بطلًا من أبطال الصحافة المصرية، وزعيمًا من زعماء الشعب المصريّ. وخلاصة هذه القضية: أنه في مايو سنة 1869, أصدرت نظارة الحربية أمرًا بعدم إمداد "المؤيد" بأية معلومات عن الحملة المصرية على دنقلة، مع السماح في الوقت نفسه بهذه المعلومات للصحف الموالية للاحتلال البريطاني يومئذ، ومنها جريدة "المقطم"، وبذلك تفقد "المؤيد" -التي هي جريدة الشعب المصريّ- قيمتها الإخبارية، ويفضي بها الحرمان من الأخبار إلى الموت الأبديّ. ومعنى هذا وذاك, أن الأمر أصبح مكيدةً مدبرةً، ومؤامرةً منظمةً ضد الشعب المصريّ، والصحافة المصرية، وهكذا تحولت المسألة يومئذ إلى مسألة عداء بين سلطة قوية قاهرة هي سلطة الاحتلال البريطانيّ، وشعب أعزل من السلاح هو الشعب المصريّ.

_ 1 ارجع إلى كتاب "أزمة الضمير الصحفيّ" ص159-162.

في مثل هذه الظروف وحدها يباح للصحفيّ الوطنيّ أن يحصل على الخبر بطريقةٍ أو بأخرى من الطرق الغامضة، وهذا ما فعله السيد علي يوسف صاحب جريدة "المؤيد"، فقد اتهم بأنه اتصل في الخفاء بمواطن من أقباط مصر هو "توفيق أفندي كيرلفس" الموظف بمكتب بريد الأزبكية -وهو المكتب الذي كان يتلقى البرقيات الخاصة بالحملة المصرية على دنقلة- واتفق معه على الوصول إلى هذه البرقيات الخاصة بالحملة، وعبثًا حاول القضاء المصريّ بعد ذلك, إثبات الصلة بين السيد على يوسف وتوفيق أفندي كيرلس، وأكثر من ذلك, رأينا هذا الأخير يعترف في المحكمة بأن المعتمد البريطانيّ هو الذي حمله على الاعتراف بهذه الصلة، وسلك سبيل العنف والضغط عليه في الاعتراف بها، والحقيقة أنه لا صلة بينه وبين السيد علي يوسف، وإزاء هذا الاعتراف الصريح حكمت المحكمة ببراءة السيد علي يوسف، وخرج السيد إذا ذاك محمولًا على الأعناق، والشعب يهتف بحياته وحياة "المؤيد"، وبقي أمر الحصول على هذه التلغرافات سرًّا لا يعرفه أحد من رجال الوكالة البريطانية إلي اليوم. فذلك ظرفٌ من الظروف التي يضطر فيها الصحفيّ إلى سلوك الطرق الغامضة، ومنها طريق الرشوة بالمال على سبيل المثال، ذلك أن الصحيفة -والأمة معها في مثل هذا الحال- تعتبر نفسها في حرب، والحرب خدعة, وظروف التآمر على سلامة الوطن، أو إماتة الروح الوطنيّ في أهله، تبيح يومئذ سلوك جميع الطرق التي من شأنها إحباط المؤامرة.

تقويم الخبر

تقويم الخبر: بم نقوّم الخبر؟ أو ما هي الخصائص التي ينبغي توافرها في الخبر حتى يكون هامًّا في نظر الصحيفة؟ أو ما هي الأسس التي يُبْنَى عليها تقديم خبر من الأخبار على سواه؟ لا شك أن هذه الخصائص أو القيم كثيرة منها: 1- الجدة أو "عنصر الزمان" ومعنى ذلك أن أغلب ما ينشر في الصحيفة من الأخبار إنما هو أحداث أمس واليوم والغد, أما أحداث الأسبوع الماضي فلا تصلح للنشر إلّا إذا كانت قصتها لم تتم بعد. ذلك أن الأخبار هي في الواقع أسرع البضائع في السوق استعدادًا للتلف أو الفساد، ولذا نرى المخبر الصحفيّ يبدأ موضوعه دائمًا بكلمة "اليوم" إذا كانت الصحيفة مسائية, أو "أمس" إذا كانت الصحيفة صباحية. وعلى هذا, فالزمن عامل هام جدًّا في الخبر، حتى أن ساعة أو ساعتين قد تؤثران في قيمة الخبر الصحفيّ من حيث هو، ولذا نرى أن "آخر الأنباء" أكثرها لفتًا لأنظار القراء، وفي موضوع الجدة في الخبر يعرض لنا سؤالان هامان. أولهما: أيهما أولى بعناية الجريدة, التثبت من صدق الخبر، أم السبق الصحفيّ في نشر الخبر؟ والذي نراه أن التثبت من صحة الخبر هو الأهم دائمًا، ولو أدى ذلك إلى التأخر في نشر الخبر يومًا أو يومين، فإن في اتباع هذه الطريقة الأخيرة أمانًا من خطرٍ كبيرٍ على الجريدة، هو خطر "التكذيب"، والتكذيب يفقد الجريدة ثقة القراء بها، وفي فقدان هذه الثقة ضياع لها.

حدث مرة أن تناقلت وكالات الأنباء نبأ قالت فيه: "إن سلطان باشا الأطرش قد مات". وتسابقت الصحف المصرية في نشر هذا الخبر، عدا "الأهرام"، فلما سئل أنطون الجميل رئيس تحرير هذه الصحيفة يومئذ عن سبب ذلك أجاب بقوله متهكمًا: "من لم يمت في الأهرام فإنه لم يمت" وبالفعل أذاعت وكالات الأنباء في اليوم التالي خبرًا قالت فيه: إن الذي توفي هو والد سلطان باشا, وليس هو سلطان باشا نفسه". ثانيهما: ما موقف الجريدة من الخبر التاريخيّ؟ أو بعبارة أخرى: هل يصح أن تكون مادة التاريخ خبرًا مثيرًا يستحق النشر؟ والجواب في ذلك: أن التاريخ يمكن أن يكون خبرًا صحفيًّا مثيرًا في حالات خاصة، فإذا استطاعت صحيفة مصرية -في الوقت الحاضر- أن تنشر وثيقةً, أو خطبةً من خطب أحمد عرابي, لم تكن قد نشرت من قبل في كتاب من الكتب التاريخية, فإن هذه الوثيقة, أو الخطبة, تثير اهتمام القراء، وتكون لها صفة "الجدة" التي نتحدث عنها الآن. قيل: إن مائتي صحيفة أمريكية دفعت كل منها آلاف الدولارات لكي يكون لها قبل غيرها الحق في نشر قصة للكاتب الإنجليزي "تشارلز ديكنز" كتبها في أيام صباه، ولم يسمع أحد بها من قبل. 2- المحليّة "أو عنصر المكان" وكل إنسان في الوجود يهتم بنفسه أولًا، ثم بالوسط المحيط به بعد ذلك، والأشياء المحيطة به تندرج عنده في الأهمية، فيلتفت من هذه الأشياء إلى الأقرب فالأقرب، بمعنى أنه يهتم بذويه وأصدقائه، ومكان عمله، ومكان عبادته، ومكان لهوه وهكذا. وحادث يحدث لأحد أصدقائه لا بد أن يثير اهتمامه، ولابد أن ينفعل به انفعالًا عظيمًا، ولكن حادثة تحدث لولده في الطريق, أو في المدرسة, تجعله يقفز من مقعده، ويخرج هائمًا على وجهه.

وتراعي الصحف هذه الصفة من صفات الخبر مراعاة دقيقة، وتفرق من أجل ذلك بين الطبعة التي توزع في العاصمة، والطبعة التي توزع في الأقاليم، فإذا وقعت الحادثة في العاصمة عنيت بها الطبعة التي توزع في العاصمة عنايةً تامَّةً، وقلت هذه العناية بالقياس إلى طبعة الأقاليم أو المدن، والعكس بالعكس. ومن الأمثلة على هذا العنصر-وهو المحلية- أن فلانًا من القراء, حين يقرأ في صحيفة ما, أن شركة السيارات العامة على خلاف مع العمال، ربما لا يأبه لشيء من ذلك، ولكنه إذا قرأ أن العمال سيبدءون غدًا حركة إضراب عام، وأنه سيمشي على قدميه إلى مقر عمله، فهنا يدخل الخبر دائرة اهتمامه الخاص، ويقرأ الخبر بلهفة. 3- عنصر الإيحاء: قد تنشر الجريدة خبرًا من الأخبار، بل تتسابق الصحف كلها أحيانًا في نشر هذا الخبر بالذات؛ لأنها تعلم جيدًا أنه يوحي للقراء بشتى الأفكار والاحتمالات، فمن قارئٍ يذهب إلى أن إسناد الوزارة العراقية -مثلًا- إلى فلان, سيضر بقضية الجامعة العربية، ومن قارئٍ يذهب إلى أن في ذلك نجاحًا للسياسة الاستعمارية في الشرق الأوسط، ومن قارئٍ يذهب إلى أن فيه نجاحًا لسياسة تركيا، ومن قارئٍ يقول: بل إن فيه نجاحًا لسياسة الأحلاف، ونحو ذلك, إلخ. وهكذا نجد أن الخبر الذي من هذا النوع يوحي إلى قراء الصحيفة باحتمالات شتَّى، وقد يكون لهذه الاحتمالات آثار ملموسة في سياسة الدول المرتبطة بالعراق بصلة من الصلات. ومعنى ذلك أنه بمقدار ما يكون للخبر الصحفيّ من قوة الإيحاء، أو بمقدار ما يثير في نفس القارئ من شتى الأفكار والاحتمالات, تكون أهمية هذا الخبر في نظر الصحيفة، وذلك بغض النظر عن ضخامة الشخصية التي يدور حولها الخبر، وبغض النظر أيضًا عن طرافة الموضوع الذي يتصل به هذا الخبر.

ولا يحتاج الباحث إلى ضرب الأمثلة الموضحة لهذا العنصر من عناصر الخبر الصحفيّ في ذاته، فالأمثلة عليه كثيرة تطالعنا بها الصحف يومًا بعد آخر. 4- عنصر الضخامة: إن الضخامة هنا ليست بمعنى التهويل, أو المبالغة, ونحو ذلك، ولكن بمعنى إثارة اهتمام أكبر عدد من الناس، فمن الأخبار الصحفية ما يمس جماعة قليلة من الناس في المجتمع, فلا يؤبه له كثيرًا في الصحف، وإن كان ولا بد من كتابته, ففي ركن من أركان الصحيفة, قد لا يلتفت إليه أحد. ومن الأخبار الصحفية ما يمس أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع، أو يمس مرفقًا من أهم المرافق الحيوية في هذا المجتمع، أو يمس مشكلة من أكبر المشكلات السياسية أو الخلقية أو الاقتصادية التي تهم المجتمع، وإذ ذاك ترى الصحف تخصص لهذا الخبر الضخم مكانًا ظاهرًا فيها، وتدعه يشغل حيزًا كبيرًا من مساحتها، وقد يكون ذلك في الصفحة الأولى من صفحات الجريدة. وسكرتير التحرير هو الحكم عادةً في مثل هذه الأمور، ولكثرة ما يرد عليه من الأخبار يومًا بعد يوم نراه "ذواقة" لهذه المادة الصحفية "نقادة" لها بارعًا في هذا التذوق والنقد، كبراعة الصيرفيّ الماهر في معرفة الزائف من الصحيح في النقد، أو الجوهريّ الحاذق في معرفة الجواهر الثمينة التي تعرض عليه في كل وقت. ومهما يكن من شيء, فالأساس الذي نزن به حكمنا "بالضخامة" هو اهتمام الرأي العام بالخبر، أو اهتمام أكبر عدد ممكن من الناس بمثل هذا الخبر، وما أيسر ما يعرف القائمون على الصحيفة هذه الأوزان. والخبر الضخم في ذاته خبر متعدد الزوايا، ولابد للصحيفة من تغطية هذه الزوايا جهد المستطاع.

والأمثلة على الأخبار الضخمة كثيرة في صحف العالم، ونريد أن نذكر القاريء ببعضها، ومنها: أولًا: مصرع الرئيس "كنيدي" في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر سنة 1963، وقد شغل هذا الحادث بال الرأي العام العالميّ فترةً كبيرةً, ومنها: الجريمة وكيف حدثت؟ والدوافع إلى حدوثها، وصدى الجريمة في الرأي العام العالميّ، ومنها كذلك الزاوية الإنسانية الخالصة، وذلك فيما يختص بزوجة الرئيس الأمريكيّ الراحل وأولاده، ومنها الزاوية السياسة الخالصة، ونقصد بها النظر في سياسة أمريكا بعد مقتل الرئيس كنيدي الذي كان معروفًا بحبه للسلام العالميّ, وحبه لتحقيق هذا الأمل، وبغضه للتميز العنصريّ، وهو العيب الذي وصمت به السياسة الأمريكية, وما زالت موصومة به إلى اليوم. ثانيًا: تأميم قناة السويس في 26/ 7/ 1956، فقد كان مفاجأة ضخمة للعالم كله، وأخذت الصحف العربية تتحدث عن هذا الموضوع الضخم، وتناولته من زوايا كثيرة, منها: وصف النبأ الخطير الذي أعلنه الرئيس جمال عبد الناصر, والخطاب العام الذي تضمن هذا النبأ، ومنها: الطرق التي استولى بها المصريون على أملاك الشركة في كل من السويس والإسماعيلية وبور سعيد، وكيف احتلوا مكاتب الشركة في هذه المدن الثلاث, وفي مدينة القاهرة أيضًا. ومن هذه الزوايا كذلك الصدى العالميّ لهذا النبأ الضخم، وتتبع هذه الأصداء في العواصم الأوروبية والأمريكية. ثالثًا: اجتماع الملوك والرؤساء العرب في أوائل سنة 1964 لبحث المشروع الخاص بتحويل مجرى نهر الأردن، وهو المشروع الذي أقدمت عليه إسرائيل، وكان لا بد للدولة العربية من أن ترد على هذا

المشروع، وأن تضع مشروعًا عربيًّا يقابله، وقد عنيت الصحف المصرية بهذا النبأ الخطير، وتناولته من زوايا كثيرة، منها: قدوم الملوك والرؤساء العرب إلى القاهرة, على الرغم من وجود التوتر السياسيّ بينهم في ذلك الوقت، ومنها: وصف المؤتمر الذي عقد لهذه الغاية، وهي البحث في المشروع الإسرائيليّ، ومنها: وصف المشروع العربيّ المقابل لهذا المشروع، ومنها: وصول مائة صحفيّ ومصور من شتَّى أنحاء العالم لتغطية هذا الخبر, ومنها: وصف الفندق الذي نزل به الملوك والرؤساء، وهو فندق هلتون، وكيف انقلب في لحظة من فندق عام إلى قصر جمهوريّ. 5- الدراما أو المسرحية: "أو مراكز الاهتمام في الإنسان" إذا صحّ ما يقال من أن الحياة مسرح عام، وأن الناس جميعًا يمثلون على خشبة هذا المسرح، فمعنى ذلك أن الصحف هي المسئولة عن تسجيل هذه المسرحية بأحداثها وأشخاصها ومناظرها وألوانها، لا تدع شيئًا من ذلك إلّا تحدثت عنه، وليس شكٌّ في أن المشهورين من الناس غالبًا ما يكونون أبطال هذا المسرح العام، ولذلك تُعْنَى الصحف بأخبارهم أكثر من غيرهم، وكما تكون الشهرة للأشخاص, تكون كذلك للأماكن وللأحداث وللأعمال، فأسماء الزعماء والقادة من الناس، وأسماء فلسطين ومراكش من البلاد، وتحديد النسل، ونظام المعاش والمرتبات، كل ذلك من الأمور التي تثير اهتمام عدد كبير من قراء الصحيفة. والسبب في ذلك أن بالإنسان ميلًا إلى الاهتمام بالبطولة وبالأبطال، ولا بد للصحف من إشباع هذا الميل في نفوس القراء، والتحدث إليهم كثيرًا في هذا الباب، وعلى هذا, فالشهرة في ذاتها موضوع هام من

موضوعات المسرحية التي تهتم بها الصحافة، وهي مسرحية الحياة، وهي في الوقت ذاته مقوم من مقومات الخبر الصحفيّ. ثم إن مسرحية الحياة كثيرًا ما تلبس ثوب الغموض والإبهام، وهذا العنصر يظهر ظهورًا قويًّا في "الجريمة" فكلما استعصى على رجال الأمن الوصول إلى أسباب الجريمة, أو أشخاص الجريمة, كانت أكثر إثارةً لفضول القراء، فإذا قبض رجال الأمن على المجرم, انتهت القصة, وأسدل عليها الستار. ومسرحية الحياة كثيرًا ما تظهر أيضًا في شكل رواية مضحكة -كوميدية، وإذ ذاك تكون الحوادث الطريفة التي تتألف منها القصة المضحكة بمثابة التوابل على مائدة الصحيفة، ومن الأمثلة على ذلك: حكاية الغزال الهارب من حديقة الحيوان, وحكاية الجمل الذي فَرَّ من صاحبه حتى وصل إلى باب عابدين، وكأنه لاذ بصاحب هذا القصر الكبير، وحكاية الثور الذي وصل إلى المجمع اللغويّ، وأشباه ذلك. ولعل أهم ما في مسرحية الحياة أيضًا "عنصر الغرابة"، التي تثير في القراء أشد الرغبة في القراء، وتشبع فضولهم دائمًا عن هذا الطريق، ومن الأمثلة على ذلك: قصة الطفل الذي يولد في طائرة, وصياح الديك الذي تسبب في موت أسرة كاملة, وخبر الرجل الميت الذي نهض في نعشه, وحكاية الرجل الذي باع الأراضي في القمر, وحكاية الصعيدي الذي اشترى الترام في مصر, وقصة الشحاذ الذي عثر فجأة على عقد من الماس ... إلخ. والحق أن الفضول الإنساني شيء لا يمكن إشباعه، ولذا تتسابق

الصحف في هذا الإشباع, ولكنها لا تبلغ منه كل ما تريد. وفي مسرحية الحياة لا يمكننا أن ننسى مطلقًا عنصر "الصراع". فغريزة القتال من الغرائز التي لا يمكن أن تموت في الإنسان، ومن مظاهر هذه الغريزة صراع الرجل ضد الرجل، وصراع الدولة ضد الدولة، وصراع العلم ضد الجهل, وصراع الصحة ضد المرض، وصراع الإنسان ضد الطبيعة، وصراع العقيدة ضد العقيدة. والصحافة لا غنى لها مطلقًا عن استغلال هذه الغريزة، ولذلك تهتم بتزويد القراء بأخبارٍ من هذا النوع، ومن الأمثلة عليها: المنافسة بين مرشحين على مقعد من مقاعد مجلس الأمة، وهي مادة تستحق أن تملأ عمودًا في جريدة، ومنها قصة الحرب بين معسكرين أو دولتين, وهي مادة قد تتحدث عنها الصحف أيامًا وشهورًا. وفي مسرحية الحياة أيضًا لا ينبغي أن ننسى "الغريزة الجنسية" وكيف أنها تلعب دورًا هامًّا في جميع الصحف، وقد رأينا منذ أعوام كيف أن زواج أميرة من أمراء البيت المالك في مصر إذ ذاك -هي الأميرة "فتحية" أخت فاروق- من شابٍّ مسيحي هو " رياض غالي"- أتاح للجرائد المصرية أثمن الفرص للكتابة الصحفية المتصلة، ونخص من هذه الجرائد المصرية بالذكر جريدة "أخبار اليوم", فقد اتخذت من هذه القصة مسرحية من أعجب المسرحيات التي مثلت على مسرح الحياة المصرية في عهد الملك السابق. للصحافة إذن أن تستغل جميع الغرائز في الإنسان، حتى غريزة البحث عن الطعام، ومن هنا كانت أسعار الخبر واللحم والفاكهة، وأخبار التموين، والضرائب التي تفرض على الدخان وغيره, أمورًا هامَّةً لدى القراء, ولا مفر للجريدة من العناية بها من أجلهم. وكل هذه الأشياء مظاهر لمسرحية الحياة، أو بعبارة أخرى مراكز

لاهتمام القراء، فعلى الصحافة أن تعنى عنايةً تامةً بهذه المراكز كلها، وعليها أن تدبر الأخبار بمثل هذه الطرق. 6- سياسة الصحيفة: وأخيرًا نصل إلى عنصرٍ هامٍّ من عناصر تقويم الصحيفة للخبر، وهذا العنصر هو سياسة الصحيفة، والحق أن من أهم خصائص الخبر الصحفيّ أن يكون مطابقًا لهذه السياسة، ومع هذا, فمن الباحثين من يرى غير ذلك الرأي، ويحاول أن ينشر الخبر طليقًا من كل قيد، على أن يكون التعليق الصحفيّ على الخبر مستقلًّا تمام الاستقلال عن الصورة التي نشر بها، ومحققًا للاتجاه السياسيِّ الذي تعرف به الجريدة. والنزعة الأخيرة في رأينا أدنى إلى الصواب، فلا ينبغي للجريدة أن تتحكم في قرائها مرتين: مرةً عندما تنشر الخبر مصبوغًا بلونها السياسيّ الذي تعرف به، ومرةً عند ما تعلق على الخبر تعليقًا يتفق وهذا اللون، والصحيفة باتباعها للنزعة الأخيرة تكتسب لنفسها احترام القراء، وتحظى منهم بالثقة، ذلك أن التزام الحيدة في تحرير الأخبار أمانةٌ صحفيةٌ ينبغي أن تتحلى بها الصحف، وهي بعد حرة في تكييف الأخبار وشرحها وتفسيرها, وصبغها بالصبغة التي تريدها. ومهما يكن من أمر هذا الخلاف في الرأي, فإن "سياسة الصحيفة" هي التي تستطيع أن تتحكم في خصائص الخبر ومقوماته، فتقدم واحدًا منها على غيره، أو تهمله إهمالًا تامًّا، ونحو ذلك، فصحيفة من الصحف تنظر إلى الضخامة على أنها أهم مقومات الخبر، وأخرى تنظر إلى الجدة على أنها الأهم، وعلى هذا الأساس تقدم خبرًا وتؤخر آخر. وليت الصحف تقف عند حد التحرير المغرض للأخبار، بل إنها تتعداه إلى كتابة العنوانات المثيرة لهذه الأخبار. خذ لذلك مثلًا: مجانية

التعليم، فإن الصحيفة التي ترضى عن هذا المشروع, تتخذ له عنوانًا كهذا العنوان: "التعليم حق لكل فرد من أفراد الشعب". أو "الحكومة تفتح المدارس والجامعات لجميع أبناء الأمة". وأما الصحيفة التى لا ترضى عن المشروع, فتنشر الخبر بعنوان كهذا العنوان: "الحكومة تبذر في أموال الخزانة العامة". أو "الحكومة تحابي الطلبة وترشوهم بالمجانية". ومثال آخر: تجميل مدينة القاهرة, وإعادة تخطيط الأحياء الشعبية, أو بعض المدن الهامة في الأقاليم، فنرى الصحف المحبذة للموضوع تنشره تحت عنوان: "تجميل مدينة القاهرة" و "انتعاش المدن الكبرى في الجمهورية العربية"، ونحو ذلك, أما الجرائد الأخرى -إن صح أنها توجد في ذلك الوقت- فتنشر الخبر تحت عنوان: الحكومة تبذر في أموال الخزانة العامة، وتتملق الجماهير على حساب المشروعات النافعة". وخير من هذه وتلك, صحيفة تنشر الخبر كما هو، وتأتي بنص القرار الذين اتخذته الوزارة في هذا الصدد أو ذاك, ثم في مكان آخر بالجريدة تستطيع التعليق عليه بما تشاء، وبهذه الطريقة يتوفر للخبر عنصران: هما "الدقة" و"الموضوعية". على أن هذا وذاك يدعونا إلى التفكير في الموضوع بطريقةٍ أوسع من هذه الطريقة، كما يضطرنا إلى الإفاضة في المذاهب المختلفة لنشر الخبر، وهو ما سنتحدث عنه في الفصل التالي.

مذاهب نشر الخبر

مذاهب نشر الخبر: عرضنا لطائفةٍ من التعريفات المختلفة للخبر، وعرفنا شيئًا من خصائص الخبر, أو الصفات الأساسية التي ينبغي أن تتصف بها هذه المادة من مواد الصحف، وأهم هذه الصفات أن يكون الخبر مثيرًا لأكبر عدد من القراء، ولكن ما السبيل إلى هذه الغاية؟ هناك اتجاهات ثلاثة في هذه المسألة: الاتجاه الأول: هو الاتجاه الذي يهدف أولًا وأخيرًا إلى إثارة القراء, وهو الاتجاه الذي تمتاز به الصحف الشعبية في كل بلد من بلاد العام في عصرنا هذا، وهذه الصحف الأخيرة لا تجاريها صحف أخرى في سعة الانتشار وضخامة التوزيع، ومثلها: صحف "أخبار اليوم" في مصر، وصحيفة "الديلي اكسبريس" في انجلترا. وما دام القراء هم الهدف الأول والأخير في هذا المذهب من مذاهب نشر الخبر، فمعنى ذلك أنهم -أي: القراء- هم الذين يملون على الصحيفة نوع الأخبار، وهم الذين يكون لهم دخل كبير في اختيارها عادة، وفي ذلك يقول الإنجليز عن رائد الصحافة الشعبية في بلادهم، وهو "نور ثكليف"1. لم يعد هذا الرجل هو الذي يحرر الجريدة؛ لأن محرريها الحقيقيين هم القراء.

_ 1 هو صاحب جريدة The Evening news

ولا شك أن من أهم الصفات التي تثير رغبة القراء في الأخبار صفة الغرابة أولًا، وصفة الدراما ثانيًا، ومن الأخيرة صفات الجنس، والغموض والشهرة، والأمور الشخصية, ونحو ذلك1. من أجل هذا يقول أصحاب الصحف المتمرسون بها إلى اليوم: إن الأخبار هي كل شيء خارج المألوف. ويقول الصحفيّ المشهور "نور ثكليف" الذي تقدم ذكره: "في شارع تسكنه مائة أسرة وأسرة, لا يلتفت الناس إلى مائة أسرة تعيش عيشة مألوفة هناك، بينما يلتفون إلى أسرة واحدة تكون لها حالة شاذة؛ كحالة طلاق, أو جريمة، ونحو ذلك". ومعنى هذا بعبارة وجيزة: أن الصحيفة التي تؤثر هذا الاتجاه تقصد دائمًا إلى إشباع رغبات الجمهور عن هذا الطريق، وتعترف بحق الجمهور المطلق في السيطرة على الصحيفة على هذه الصورة، وتعتبر أن من أول ما يجب عليها البحث عما يعجب هذا الجمهور، ولا تعمد مطلقًا إلى مقاومته، أو إهمال رغباته وميوله من هذه الناحية. ولهذا أيضًا نرى الصحف الشعبية التي من هذا النوع تتجنب صفة "الجفاف" في الأخبار، ولا تبدي عناية تامة بالأخبار الجدية التي تتصل بموضوعات العلم أو السياسة وما إليها. والملاحظ عادة أن الأخبار الجدية تخلو من عنصر التشويق، ولهذا تقدم الصحف الشعبية أخبار الجريمة والجمال والمسرح أولًا، ثم تأتي أخبار المجتمعات الدولية, والهيئات الرسمية, والمؤتمرات, والميزانية, والقرارات الحكومية العامة فيها بعد ذلك.

_ 1 إن الصحفيّ الأمريكيّ "جون بوجارت" من كتاب القرن الـ 19 ينسب القول المشهور: إذا عض كلب إنسانًا, فليس هذا هو الخبر، أما إذا عض إنسان كلبًا, فهذا هو الخبر, كتاب الصحفيّ الأمريكيّ.

ويبدو كذلك للمتأمل في الصحف الشعبية التي تؤثر هذا الاتجاه, نحو أنها تضطر في بعض الأحيان إلى أن تتجاوز هذه الحدود, إلى ما هو أخطر منها بكثير، ويكون من نتيجة ذلك أن تولي هذه الصحف كثيرًا من الأخبار التافهة عنايةً كبيرةً، وبدلًا من أن تبذل جهدها في الحصول على الخبر الهام، ثم التعليق عليه، ثم تفسير كل ما يتصل به، نراها تعمد غير مشكورة إلى تلك الأخبار ذلك الطعوم الحريفة، إثارةً لشهوة القراء، وانحرافًا بهم إلى العناية بهذه التوافه، وما تزال الصحافة الشعبية بقرائها تجذبهم إلى هذه الطعوم، وتعودهم الاكتفاء "بالتوابل" و"المشهيات" من ألوان الأخبار، حتى يعتاد القراء منها ذلك، وينصرفوا انصرافًا تامًّا عن الألوان الصحفية الأخرى. وقد حدث في مصر أن صحيفةً شعبيةً نشرت أخبار عن الجن والشياطين الذين ظهورا بزعمها في حي شبرا، كما نشرت خبرًا عن شيخٍ أو درويشٍ مر على جسده القطار ولم يمت!! ومن الحق أن يقال: إن التبعة في هذه الحالة لا تقع فقط على الصحافة، ولكنها تقع في الغالب على حالة القلق التي يعانيها الناس في العصر الحاضر، أو إلى حالة التوتر النفسيّ والإرهاق العصبيّ الذي يصيبهم في حياتهم العامة، أو إلى حالة الجهل التي عليها أكثر طبقات الشعب في وقتنا هذا، أو إلى الفراغ الذي تشعر به الكثرة من الشباب والفتيات والنساء، أو إلى جميع هذه الأسباب. ومع هذا وذاك, فإن الصحف الشعبية التي تسير في هذا الاتجاه تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا؛ من حيث تقديرها للأخبار، أو من حيث حاسة الشم التي تميز بها بين مختلف هذه الأخبار، فبعض الصحف الشعبية تميل إلى شيء من الحكمة والرزانة, والشعور بتبعة الصحافة، ومن ثَمَّ تحتاط بعض الشيء في إيراد الأخبار التي تتصف بالدراما أو بالغرابة. ولكن من الصحف الشعبية في نفس الوقت ما لا تقيم وزنًا ما لهذه

الأشياء، فتراها تندفع اندفاع السيل في إيراد الأخبار المثيرة، ولو كانت جارحةً للأخلاق, أو منافية لبعض القيم الإنسانية والاجتماعية والدينية في الأمة، وهذه الصحافة الأخيرة هي الصحافة الصارخة, أو صحافة الجاز Gass Journal ism كما يصفها بعضهم بهذا الوصف, أو الصحافة الصفراء, كما تسمى في أمريكا. وإلى أتباع هذا الاتجاه من الصحفيين نوجه الانتباه إلى هذا السؤال: هل الأخبار دائمًا سيئة؟ ويجيب "جون هوهنبرج" صاحب كتاب "الصحفيّ المحترف" فيقول: "يقال: إن الأزمات والكوارث والمصائب تستخدم دائمًا من أجل بيع الصحف، ويقولون: إن معظم الصحف تتألف بشكلٍ واضحٍ من مجموعة الفظائع التي تحدث للأفراد والمجتمعات على حَدٍّ سواء". وفي هذه الأحوال تكون "طبيعة الحال شيء من الصدق" ولكن ليس كل الصدق، فالصحفيون -بتقريبهم من الناس- يفضلون الأخبار السارة على الأخبار السيئة. وقد منحت جائزة "بوليتزر" إلى محرر صحفيٍّ كاد يفقد حياته أثناء محاولته إنقاذ حياة طفلة صغيرة، كما منحت هذه الجائزة إلى محرر نجح في إنهاء إضرابٍ عن طريق التقريب بين وجهات نظر الفريقين المتعارضين، كما منحت لمصور التقط صورة لأحد رجال الشرطة وهو يحادث طفلًا في استعراض عيد رأس السنة الصينية. وليست هذه إلّا أمثلة بسيطة1. أما الاتجاه الثاني: فهو الاتجاه المحافظ، وفيه تنظر الصحيفة إلى اعتباراتٍ أخرى, إلى جانب الاعتبار الأول الذي هو اهتمام القراء، ومن هذه الاعتبارات التي تنظر إليها الصحيفة:

_ 1 الترجمة العربية للكتاب للأستاذ فؤاد ص69.

أولًا: توخي الصالح العام دائمًا، فإذا تعارض هذا الصالح العام مع عنصر الغرابة, أو عنصر الدراما, أو عنصر الجنس, أو عنصر الغموض, آثرت الصحيفة الصالح العام على هذه العناصر، وضحت في هذه الحالة بجزء كبير من القراء، أو بعبارة أخرى: بجزء من الربح الماديّ للجريدة. ثانيًا: أن تكون المادة الصحفية نفسها -خبرًا كانت أم مقالًا- مما يرشد الأفراد ويعلمهم ويثقفهم, ويهديهم في علاقاتهم بالناس, وبالحكومة, وبالعالم. ثالثًا: أن تكون هذه المادة الصحفية مما يتفق وقواعد العرف أو الذوق، ولا يخالف قانون البلاد. وعلى ذلك فأصحاب هذا المذهب الثاني, من مذاهب نشر الخبر, لا يعترفون بالمبدأ القائل: "قدم إلى قرائك ما يحبونه فقط", ولكنهم يرون أن على عاتق الصحف واجبًا كبيرًا, هو أن تخلق في نفوس قرائها الاهتمام بالأخبار الهامة, والمسائل العامة، والأمور التي تتصل بسعادة الجماهير, ورفاهية الشعوب، وتقدم الجماعات الإنسانية، ونحو ذلك، وفي هذه الحالة -أي: باتباع الاتجاه الثاني من اتجاهات نشر الأخبار- يصبح للخبر الصحفيّ عندهم, تعريف آخر يخالف التعريفات المتقدمة من بعض النواحي، وهذا التعريف الجديد هو قولهم: "الخبر الصحفيّ هو كل شيء يهتم به القراء، ويكون ذا صلة واضحة بشئونهم الشخصية, وأحوالهم الاجتماعية, وعلاقاتهم بالدولة, وبالأشخاص. وهكذا تتسع هوة الخلاف بين الاتجاه الأول المسرف في التحديد، والاتجاه الثاني المائل إلى المحافظة والتقييد، ويظهر هذا الخلاف بينهما لا من حيث مادة الخبر ذاتها فقط, ولكن من حيث طريقة العرض أيضًا، فبينما تهتم الصحف الأولى عند شر الأخبار بإثارة الغرائز، وتعتمد دائمًا على رغبة القراء في معرفة الأسرار, والوقوف على الخبايا؛ إذ بالصحف

المحافظة تؤثر العناية بالموضوع الهام؛ من حيث هو دون نظر القراء، مراعيةً في ذلك المطابقة التامة لقواعد الذوق والأخلاق، وما يتطلبه منها الحرص على الصالح والتثقيف العام. لقد اتسع ميدان الأخبار اتساعًا لا يقاس بما كان عليه في بداية هذا القرن، وقديمًا كانت دوائر الشرطة والمحاكم, ودوائر الحكومة, تقدم معظم مصادر الأخبار للصحف، أما اليوم فلا يمكن لأي محرر يحترم نفسه أن يتجاهل العلوم والصحة والتعليم وشئون المنزل، وإعادة إصلاح الضواحي, وأخبار الإذاعات ومحطات التليفزيون, وعشرات من الميادين الأخرى التي قلما عولجت في السنوات الماضية، وقد انتقلت أخبار العمل والعمال من الصفحة المالية حتى استقرت في الصفحة الأولى, جنبًا إلى جنبٍ مع أخبار الثورات والانقلابات، كما أصبحت أخبار العمال شاملةً لأشياء أكثر من الاضرابات وما إليها، أما أخبار الحريات المدنية فتأتي في الدرجة الأولى من الأهمية: "وقد كانت جمهرة القراء يومًا تهتم بأخبار الأثرياء والمشاهير، وأخبار الحسان والأشرار من بني الإنسان فيما مضى، غير أن هذه الأخبارلم تعد كافية في وقتنا هذا"1. خذ لذلك مثلًا -خطبة لزعيم من الزعماء- فالصحيفة الأولى تنشرها مراعيةً في ذلك النواحي التي تجتذب القراء، معنيةً في ذلك بالمظهر الخارجيِّ للخطيب، فتصف لنا ملابسه ووقفته وحركته، وصوته، ونبراته، وما يتخلل خطبته أحيانًا من النكات، وما يقابل السامعون به ذلك من شتَّى الحركات أو التعبيرات، على حين نجد الصحيفة المحافظة تُعْنَى عنايةً تامةً بالخطبة ذاتها. تقسمها إلى موضوعاتها، وتهتم بنص الخطبة نفسها، فتأتي بها كاملة في أغلب الأحيان، وباختصار تعتمد الصحف المحافظة على عنصر الدقة والجدة

_ 2 المصدر السابق ص70, بتصرف.

في إيراد الخبر، على حين أن الصحيفة الشعبية لا تهتم بهذا الجوهر، وإنما تكتفي بالطلاء الخارجيّ فقط، وفي هذه الحالة تصل الصحف الشعبية أحيانًا إلى اختراع التفاصيل، والاهتمام الزائد بشتَّى عوامل الإثارة والتشويق. ومهما يكن من شيءٍ, فعلى هذا النوع المحافظ من الصحف تعتمد الحكومات دائمًا في توضيح سياستها وإقناع الجماهير بها، فجريدة "التيمس" الإنجليزية, تعتمد عليها الحكومة البريطانية في وضع سياستها الداخلية وسياستها الخارجية، وجريدة "الطان" الفرنسية, تعتمد عليها الحكومة الفرنسية في مثل ذلك. وهذه الصحف المحافظة، وإن كانت قليلة الانتشار، محدودة التوزيع، إلّا أنها ضرورة للشعوب والحكومات معًا، ولا تستطيع حكومة منها أن تجد في نفسها غنًى عن مثلها في وقت من الأوقات1. ولذلك تتمتع الصحف المحافظة بسعة النفوذ والسلطان، حتى لقد يتجاوز نفوذها الإقليم الذي تطبع فيه إلى بلاد الدنيا كلها، ويصيح لها صوت مسموع في كل بلد منها، ويهتم بها الرجال الرسميون, وغير الرسميين في أنحاء العالم المتمدين. ولا شك أن هذه الصحف المحافظة إنما تستمد سلطانها ونفوذها من دقتها أولًا، وتوخيها المصلحة العامة ثانيًا، وارتفاع مستوى مادتها, ومستوى قرائها آخر الآمر، وكثيرًا ما يكون قراؤها من أفراد الطبقة الحاكمة، أو من الذين يمثلون الرأي العام المستنير في الشعب.

_ 1 يقال: إن جريدة "التيمس" كما لا يكاد توزيعها يزيد على 350 ألف نسخة في انجلترا، في حين أن جريدة "الديلي ميرور" يرتفع توزيعها عادةً إلى خمسة ملايين نسخة في كل يوم، ومع ذلك, فإن "التيمس" تتمتع بميزات كثيرة؛ منها: جلال القدم، والسيطرة التامة على سياسة الحكومة هناك.

والاتجاه الثالث والأخير من اتجاهات نشر الخبر، هو الاتجاه الذي عليه الآن أحدث الصحف، والصحافة الحديثة -كما يقول بعضهم- كائنٌ حيٌّ يتطور بتطور المجتمع، ولذلك يرى أصحاب هذا الاتجاه الثالث والأخير, أن السياسة الخبرية الصحيحة ليست في الجمود على طريقة واحدة، ولكن في التطور والتجدد بتجديد المجتمعات الإنسانية ذاتها، وتغير الظروف المحيطة بها، ومعنى ذلك باختصار أن أصحاب هذا المذهب الأخير في نشر الخبر يحاولون المزج بين المذهبين السابقين, والتقريب بين الاتجاهين السالفين. والسبب في انتهاج هذا المذهب الثالث والأخير, هو التقدم الذي أصاب المجتمعات الحديثة في العلم والحضارة، وثَمَّ سببٌ آخر لانتهاج هذا المذهب أيضًا، هو أن الصحافة كانت من العوامل الكبيرة التي قربت بين طبقات المجتمعات، وانتهت إلى إيجاد نوعٍ من التجانس العقليِّ بين أفراده كلهم، بحيث لم يعد الفرق كبيرًا في الثقافة بين طبقة وأخرى، كما كان الشأن في الأجيال القديمة. والذي لا ريب فيه أن هذه المشاكلة بين طبقات الأمة دليلٌ على الصحة العقلية لهذه الأمة, والذي لا ريب فيه أيضًا, أن الصحافة صاحبة الفضل الأول في استمتاع المجتمعات الحديثة بهذه الصفة. فإذا صح ما نقول -وهو صحيح في كثير من مجتمعات العالم الحديث- فقد وجب على الصحافة الحديثة أن تعنى بأمرين اثنين عنايةً متساويةً في كليهما: الأمر الأول: هو تسلية الجمهور. الأمر الثاني: هو تثقيف الجمهور. والعناية المتساوية بهذين الأمرين معًا, تحمل الجريدة على الجمع بين المذهبين السابقين من مذاهب نشر الخبر، فإن المذهب الأول لا يصلح إلّا لمخاطبة العوامِّ من الناس، والمذهب الثاني ممعنٌ في سموِّه وترفعه على الناس.

والمزج هو الطريقة المثلى لمخاطبة العدد الأكبر من جمهور الشعب على اختلاف طبقاته. كان الصحفيون قديمًا يقولون: "إن كلبًا عض رجلًا" ليس خبرًا يستحق النشر، ولكن "رجلًا عض كلبًا" هو الخبر الذي يستحق النشر, فأصبح الصحفيون حديثًا يقولون: "إن رجلًا عض كلبًا" ليس خبرًا يُنْشَرُ لخلوه من الدلالة والقيمة بالنسبة للقراء الذين لا يهتمون بهذا الخبر إلّا إذا عرفوا: "أن هذا الكلب مسعور، أو أنه أصبح خطرًا يهدد سكان المدينة أجمعين". وهكذا أصبح جمهور القارئين لا يعبأ بالمبالغات الصحفية التي تظهره بمظهر الأطفال أو المغفلين، بل أصبح هذا الجمهور يسعى وراء الدقة والعناية بالجوهر, وبغير ذلك من الأمور التي تظهر قراء الجريدة بمظهر الكبار الراشدين، ولعل هذا الشعور هو ما أفضى بجريدة فرنسية يقال لها La Press إلى التوقف تمامًا عن الصدور، وذلك في سنة 1927, بعد أن بالغت في التغرير بالجمهور، وأمعنت في تزويده بالأخبار الشاذة الغريبة التي خلا أكثرها من الصحة، فاضطر الجمهور إلى مهاجمة هذه الجريدة الكاذبة في دارها، وحكم عليها بالتوقف عن الصدور1. وحدث مرةً أن نشرت جريدة "كوكب الشرق" في مصر خبرًا عن زيارة الرئيس السابق مصطفى النحاس لبني سويف، وبالغت في وصف الزيارة، وجرت وراء الخيال في هذه المبالغة، ثم ظهر أن النحاس لم يغادر مدينة القاهرة، فسقطت الجريدة من أعين القراء، وعانت كثيرًا من هذه الحالة.

_ 1 من الأخبار التي نشرتها هذه الجريدة خبر عن وصول طيارين مغامرين إلى نيويورك, بعد أن عبرا المحيط الأطلنطي لأول مرة، ثم تبين فيما بعد أن الطائرة سقطت في المحيط!

الحق أن موضوعية الخبر -أو بعبارة أخرى- الاهتمام به من حيث الموضوع, أهم في نظر الصحافة الصحيحة من ذاتية الخبر، بمعنى: ترك الخبر يحمل رأي ناشره، والذي لا شك فيه أن الاتجاه الثالث والأخير أضمن لموضوعية الخبر من الاتجاهين السابقين. والحق أن الدقة في نشر الخبر من ألزم الصفات لنجاح الصحف، وفي ذلك يقول الصحفيّ "جوزيف بولتيزر" صاحب جريدة العالم "The world": "الدقة للصحيفة كالعفة للمرأة". وإذن, فلا عذر لصحيفة من الصحف في تساهلها بعض الشيء في صفة الدقة, إلَّا في حالةٍ واحدةٍ فقط، هي توخي الصالح العام للمجتمع، وفي هذا الحالة تستطيع الصحف أن تقصد إلى بعض التحريف في الخبر، وهذا ما يسمى عند الصحفيين: "الأكاذيب البيضاء" فإذا فرض أن وباءً عامًّا انتشر في البلد، وخافت الحكومة من نشر الأخبار الصادقة الدقيقة عن هذا الوباء, حتى لا يستولي على الناس الهلع، فهنا توحي الحكومة إلى الصحف باستعمال الكذب، وهو حلال في هذه الحالة, وأمثالها فقط. وباختصارٍ ينبغي للصحف الحديثة أن تؤثر الاتجاه الثالث والأخير من اتجاهات نشر الخير، ولا بُدَّ لهذا الاتجاه الأخير من أن يتصف بطائفةٍ أخرى من الصفات, فضلًا عن صفتي الموضوعية والدقة اللتين تحدثنا عنهما، ومن هذه الصفات الأخرى: 1- صفة "التنوع": فلا يَجْمُل بصحيفةٍ ما, أن تكتفي بطعام واحد من الطعوم التي تقدمها للقراء، بل عليها أن تتخذ من نفسها مائدةً حافلةً بألوان مختلفةٍ من الطعام، حتى يقبل عليها القراء, ويصيب كل منهم ما يرغب فيه من هذه الألوان. 2- صفة "الشمول": وهي تلك النزعة الحديثة في الصحافة، وباتباعها يصبح على الصحف أن تكون واسعة الأفق، حاويةً لكثير

من المعلومات التي تتصل بالمكان الذي تصدر به، والأماكن الأخرى البعيدة عنها في أطراف هذا العالم المتحضر، والقراء في حاجة مستمرة إلى الإحاطة بكل ما يَجِدُّ في جميع أنحاء العالم. ويلاحظ الكثيرون أن الأخبار ذات الصبغة العالمية أصبحت تحتل مكانًا عظيمًا في أكثر الصحف، وفي ذلك تقول مجموعة صحف "هرست" الأمريكية, التي أربى توزيعها على 20 مليونًا من النسخ: "إن أمريكا تلح في أن تعلم كل ما يحدث، وكل ما هو خطير وحيويّ، وكل ما هو أقل خطوة وحيوية، إنها يجب أن تعلم ما إذا كان ملك من ملوك البلقان قد أزيح عن عرشه أم لا؟ كما يجب أن تعلم في الوقت نفسه بما حدث أمس في المدينة أو الدولة، وبمن مات، وبمن تزوج, ونحو ذلك، فإنه من تلك الأشياء الدقيقة والجليلة والتافهة، والخطيرة، تتألف مجموعة الأخبار اليومية التي لا بد أن تملأ بها الصحف. على أن الخبر الصحفيّ مهما كانت الطريقة التي ينشر بها، أو المذهب الذي يتبع في ذلك, لا بُدَّ له من صفتين هما: التشويق والإيجاز، فقد مضى الوقت الذي كانت تسلك فيه الأخبار مسلك الإسهاب، وأصبحنا في زمنٍ ينبغي ألَّا نقدِّم فيه هذا الطعام الصحفيَّ في أطباقٍ يجلس لها الطاعمون إلى الموائد العظيمة، بل يجب تقديم هذا الطعام الصحفيّ على شكل شطائر كلما أمكن ذلك. وهذا وذاك يَجُرُّنَا إلى الخوض في موضوعٍ جديدٍ من الموضوعات التي تتصل بالخبر الصحفيّ، وهو موضوع، "صياغة الخبر"، أو "القوالب الفنية لصياغته".

قوالب صياغة الخبر

قوالب صياغة الخبر: لصياغة الخبر الصحفيّ حتى الآن قوالب ثلاثة أو أربعة، هي: أولًا: قالب السرد الصحفيّ. ثانيًا: قالب الحديث المنقول. ثالثًا: قالب القصة الإخبارية. رابعًا: القالب غير الفنيّ. وسنفصل القول بعض الشيء في القوالب الثلاثة الأولى لصلتها الوثيقة بالفن الصحفي من حيث هو، أما القالب الأخير الذي لا صلة له بهذا الفن, فقد دعا إلى ذكره هنا رأيٌ لبعض العلماء, ذهبوا فيه إلى أن من الجائز أن يصاغ الخبر صياغة غير فنية، أيّ: بدون عنوان، وبدون خطة، وبدون شرح، فإن ذلك ربما يضطر القاريء إلى قراءة الخبر كله من أوله إلى آخر، وبهذه الطريقة تكون معلومات القراء كافية لتكوين الرأي العام، أما التأنق في كتابة الخبر، والمبالغة في اتباع الطرق الفنية في صياغته, فقد تصرفان بعض القراء عن مطالعته، وتحملهم على الاكتفاء بالعنوان, أو على الأكثر بجزء يسير من مقدمات الأخبار. غير أن هذا الرأي لا يظفر إلّا بعدد قليلٍ جدًّا من الأنصار، وإن كانت بعض الصحف تسلك هذه الطريقة في طائفة قليلة من أخبارها التي قَلَّ أن تلتفت إليها أنظار القراء. وقبل أن نخوض في الكلام عن القوالب الثلاثة التي أشرنا إليها, يجدر بنا أن نلفت النظر إلى ما يلي:

"إنه كثيرًا ما يحدث أن يُكَلَّفَ الصحفيُّ بتغطية موضوعٍ شاملٍ لكل هذه القوالب الثلاثة، وفي هذا الحالة يتطور التكوين الفنيّ لكتابة الخبر, ويصبح أدنى إلى التعقيد, ولكنه لا يخرج في مجموعه عن الشكل الفنيّ لكتابة الخبر، وهو الشكل الذي سنشرحه بعد الفراغ من الكلام عن الأشكال الفنية الثلاثة لكتابة الخير. وهذا بالقالب الأول من القوالب الفنية. قالب السرد: تعتبر طريقة السرد أيسر الطرق الفنية على الإطلاق، ومع هذا وذاك, فإن أنسب الصور الفنية لصياغة الخبر بهذه الطريقة هي صورة الهرم المقلوب، بمعنى أن يكون للخبر صدر LEAD, وجسم أو صلب BODY، وسنشرح بعد قليل ما هو المقصود بهذين اللفظين، ففي الصدر تكتب خلاصة الأخبار بعبارات قصيرةٍ, فيها عنصر الإثارة، وفي الجسم أو الصلب تكتب الحقائق واحدةً إثر الأخرى حتى نهايتها. ولنضرب لذلك مثلًا من حياة الطلبة في الجامعة، وهو: نتائج امتحانات الفترة الأولى بكلية الآداب. ويمكن نشر هذا الخبر بطريقة السرد على هذا النحو: نسبة النجاح في الفترة الأولى لامتحانات كلية الآداب لا تتجاوز 20%, وهذا هو مصدر الخبر، أما الجسم فإنه يتألف من الحقائق الآتية: الحقيقة الأولى: أعلنت كلية الآداب اليوم نتيجة امتحان الفترة الأولى في جميع الأقسام للعام الدراسي 1955- 1956. الحقيقة الثانية: ظهر أن النتيجة غير مرضية؛ لأن نسبة النجاح في جميع الأقسام بوجهٍ عامٍّ لا تتجاوز 20%, فقد تقدم للامتحان عدد

كذا.. ونجح من هؤلاء عدد كذا.. ورسب الباقون, وعددهم كذا.. ونجح من هؤلاء عدد كذا.. ورسب الباقون وعددهم كذا.." الحقيقة الثالثة: غير أن نسبة النجاح في أقسام اللغة العربية والصحافة والتاريخ كانت أعلى منها في بقية الأقسام الأخرى، فقد بلغت هذه النسبة في قسم اللغة العربية 40%, وفي قسم الصحافة 50%, وفي قسم التاريخ 60%. الحقيقة الرابعة: وقد تبين من الإحصاء الأخير أن الراسبين بسبب المرض أو الأعذار القهرية التي حالت دون دخولهم الامتحان تبلغ نسبتهم 7% من جميع المتقدمين لامتحان الفترة الأولى، ولهؤلاء الحق في امتحان الدور الثاني. على أن قالب السرد يأخذ أحيانًا شكل الحكاية الصغيرة، وهنا تحكي الجريدة الخبر لا على شكل هرم مقلوب، ولكن على شكل هرم معتدل، وذلك كما في الخبر البسيط الذي نشرته جريدة "أخبار اليوم" القاهرية بتاريخ 21/ 10 / 1967 على النحو التالي: هس، ولا كلمة الزبون يجلس على كرسيّ الحلاقة، ووجهه مُغَطَّى بالصابون, وجاكتته معلقة على الحائط وراءه، ورأسه محشوة بكلام الحلاق الذي لا يفرغ. شاب يتسلل إلى الصالون، جسمه في حركة غريبة، أصبعه فوق أنفه وفمه في حركة تحذير للحلاق بألّا يتكلم. كعب رجله مرفوع، وهو يمشي على أطراف أصابعه. ابتسامة شفتيه تطل من عينيه، وفي هدوءٍ مدَّ يده وأخذ جاكتة الزبون وخرج، والحلاق يبتسم هزلًا وهو يكتم السر, سر صديق يعابث صديقه, ويعمل فيها مقلبًا طريفًا. الزبون ينتهي من الحلاقة ويقف على الأرض ملتفتًا إلى الوراء, يسأل عن جاكتته، الحلاق يضحك

ثم يضحك، وهو يشير إلى الخارج وشفتاه تتمتم: ما خدها صاحبك, واختفت الابتسامة وابتلع الحلاق ضحكته عندما انقلبت المسألة جدًّا. كان الاثنان ضحية لص ظريف، وانتقل الأمر إلى قسم البوليس. قالب الحديث المنقول: في هذه الطريقة من طرق نشر الخبر، تظهر عناية الصحيفة بالخطب والبيانات والرسائل، ونحوها من المواد التي يسجلها المخبر الصحفيّ، ويسلك في كتابتها طريقة المستطيلات الكبيرة والصغيرة، حتى ينتهي من نقل هذه المادة. وتمثل المستطيلات الصغيرة الكلام المنقول بنصه تمامًا، كما تمثل المستطيلات الكبيرة ملخص هذا الكلام وشرحه للقراء، وذلك على النحو الأتي: ومن السهولة بمكان أن نتصور حديثا منقولا عن رئيس الحكومة المصرية حول موضوع "تسليح الجيش" فإن هذا الحديث يمكن تقطيعه إلى أجزاء يستقل كل جزء منها بفكرة من الأفكار المتصلة بالموضوع، ثم نرى المخبر الصحفي يتبع هذا الجزء بشيء من التلخيص أو الشرح،

ولا أقول التعليق؛ لأن التعليق وظيفة أخرى، وطريقته في الكتابة مخالفة. وغنيٌّ عن البيان أن الحديث المنقول شيء، والحديث الصحفيّ المعروف شيء آخر، كما سنعرف ذلك في فصول أخرى من هذا الكتاب إن شاء الله. مثال ذلك ما نشرته صحيفة الأهرام بتاريخ 2/ 12 / 1959 استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الجمهورية العربية وانجلترا اتفقت حكومة الجمهورية العربية المتحدة, وحكومة المملكة المتحدة, على استئناف علاقاتهما الدبلوماسية بدرجة قائم بالأعمال، اتفقتا على أن يكون السيد كمال الدين خليل, هو القائم العربيّ في لندن، وأن يكون المستر"كولن كرو" هو القائم البريطاني في القاهرة. "وهذا هو صدر الخير أو خلاصته" ثم أخذت الأهرام بعد ذلك في التفاصيل، متبعةً في ذلك طريقة الحديث المنقول على النحول التالي: كرو يعلن اغتباطه بعودة العلاقات قال مستر كرو: إنه يعتبر البيان المشترك خطوة مفيدة للغاية في تنمية العلاقات بين البلدين. وأضاف كرو: إنه ينتظر وصول خطاب تعيينه من مستر "سلوين لويد" وزير خارجية بريطانيا ليقوم بتقديم هذا الخطاب إلى وزارة الخارجية العربية. ثم أتت الصحيفة بتفسير عارضٍ لهذه العبارة السابقة, فقالت ما يلي: والمعروف أن أوراق اعتماد القائم بالأعمال إنما تقدم إلى وزير الخارجية

طبقًا للعرف الدبلوماسيّ، بينما تقدم أوراق الوزير المفوض أو السفير إلى رئيس الدولة. ثم مضت الأهرام تقول: وقال كرو -الذي يعمل لأول مرة في القاهرة ومنطقة الشرق الأوسط: إن عملية تسلم السفارة البريطانية من جديد سيستغرق ثلاثة أسابيع على الأقل, إلى أن يصل باقي موظفي السفارة من لندن, وخاصَّة القنصل الجديد، وإلى أن يتم ذلك ستمضي السفارة السويسرية في تصريف أمور البريطانيين, ومنح تأشيرات السفر. وعلمت الأهرام من تصريح لمستر "آرثر جفري" المستشار الاقتصادي للسفارة البريطانية, أن عملية استئناف العلاقات ستتم في هدوء، ولن يرفع العلم البريطانيّ فوق مبنى السفارة إلّا بعد تسلمها نهائيًّا. عنوان الخبر: للخبر في أية صيغة من صيغه، أو قالب من قوالبه، عنوان يعرف به، ويدل عليه، وكتابة العنوان بحاجة إلى مهارة فنيةٍ، يمكن الحصول عليها بالممارسة وطول التجربة. غير أنه يشترط في كتابة العنوان -على أية حال- أن تتوافر فيها أمورٌ منها: أولًا: المطابقة التامة بين عنوان الخبر وموضوع هذا الخبر، فكثيرًا ما نرى بعض الصحف الشعبية تضع للخبر عنوانًا مثيرًا جذابًا، ولكنه ليس مطابقًا لواقع هذا الخبر بحالٍ ما، وليس من شك في أن هذا نوع من الكذب على القراء يضر بالصحيفة، ويدخل اليأس إلى قلوب قرائها. ثانيًا: الإثارة: ولكن بشرط ألّا تعتمد هذه الإثارة على التهويل الكاذب, والمخرفة المعمية، والتهويش الخداع، وإلّا فقدت الجريدة ثقة القراء بها، وصعب عليها أن تسترد هذه الثقة.

والملاحظ أن بعض الأخبار ربما احتاج إلى عنوانات كثيرة, يوضع بعضها تحت بعض، وتخالف الجريدة في نوع الحروف التي تكتب بها هذه العنوانات، فهي تخالف الجريدة في نوع الخطوط التي تستعمل في كتابتها؛ كأن تكتب السطر الأول بالخط الثلث، والثاني بخط الرقعة، والثالث بالخط الفارسيّ، وهكذا. ثالثًا: القصر: ولا بد للعنوان -على أية حالٍ- من أن يكون قصيرًا بقدر الإمكان، وأن يكون في الوقت نفسه قويّ الدلالة على فحوى الخبر, وكثيرًا ما تجد الصحف تختار من موضوع السرد الصحفيّ, أو الحديث المنقول, أهم جملةٍ فيه لتكون عنوانًا للخبر نفسه، وقد تكون هذه الجملة تصريحًا لوزير، أو لرجل مسئول، مثال ذلك قول بعض الصحف: وزير التموين يقول: "إن الرغيف الأبيض سيظهر غدا". أو قول بعض الصحف: "مجلس الأمن يقرر فرض العقوبة على إسرائيل". رابعًا: كثيرًا ما يكون العنوان في العادة جوابًا لسؤال: "ماذا"، وقلما يكون جوابًا "لسؤال: أين, أو لسؤال: متى. قالب القصة الإخبارية: في هذا القالب تتبارى الصحف، ويظهر مقدرتهم الفنية, ويتفاوتون تفاوتًا كبيرًا في صياغته, وللقصة الإخبارية أصول عند أهل هذه الحرفة قلَّمَا يتعدونها إلى غيرها، وقَلَّمَا يتصرفون تصرفًا ظاهرًا في بعضها، ومن هنا كان الفرق كبيرًا بين الكتابة الأدبية الخالصة، والكتابة الصحفية الخالصة. فبينما نرى الصحفيُّ مقيدًا بهذه الأصول أو الصور الفنية للقصة الإخبارية؛ إذ بنا نرى الأديب طليقًا من جميع هذه القيود، حرًّا في الوقت

نفسه في اختيار الوقت الذي يكتب فيه إنتاجه الأدبيّ، حرًّا كذلك في المادة التي يخلق منها هذا النتاج. فما هي القوالب الصحفية التي يجب على الصحفيّ أن يصب فيها قصته الإخبارية؟ اتفق رجال الصحف على أن تكون هذه القوالب Paterns على شكل "هرم مقلوب", بمعنى: أن الصحفيّ يأتي بالفكرة الرئيسية, أو ما يسمى: بالصدر The lead أولًا, ثم يأتي بالتفاصيل أو الجسم بعد ذلك. وعكس هذا تمامًا يحدث في المقال، فإن الفكرة النهائية أو الخلاصة تأتي في النهاية، وأما الشواهد، والتفاصيل فتكون قبل ذلك, أي: أن القالب الفنيَّ للمقال الصحفيِّ يجب أن يكون على شكل هرم قائم أو معتدل. ويشترك في تحرير الخبر الصحفيّ عادةً رجلان: هما المخبر أو المحرر الصحفيّ خارج الدار، والمراجع أو المحرر الصحفيّ داخل الدار، فالمخبر أو المحرر خارج الدار واسمه: Sub Editor, هو الذي يأتي بالأخبار مصوغة على عجل، وبشكل من الأشكال حيثما اتفق. ولكن متى وصلت هذه الأخبار إلى المراجع, فإنه يقوم بصياغتها من جديد، ثم يبعث بها -كما سبق أن قلنا- إلى سكرتير التحرير، وهذا الأخير هو المسئول الحقيقيّ عن أخبار الصحيفة، وعن الملائمة التامة بين جميع المواد من حيث الموضوع، والسياسة العامة، والإخراج الفنيّ في النهاية.

ونعود إلى القصة الخبرية فنرى أنها تتألف -كما قلنا- من جزءين هامين هما: الصدر The lead، والجسم The Body. أما صدر الخبر: فينبغي أن تتوافر فيه شروط منها: أولًا: أن يشتمل على أهم النقط الرئيسية للقصة الخبرية. ثانيًا: أن يكتب في جملة واحدة، أو جمل قصيرة ليست بالكثيرة، ولكنها مثيرة بقدر المستطاع، وليس من المفروض أن تكون بينها أدوات الربط. ثالثًا: أن يكوِّنَ إجابةً واضحةً عن ستة أسئلة معروفة، وهي: من، ماذا، متى، أين، كيف، ولماذا. فمن الذي اشترك في الحادث؟ وماذا حدث فيه؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان هذا الحادث؟ وما الطريقة التي تم بها؟ رابعًا: أن تكون ملامح القصة الخبرية واضحةً في صدرها, بحيث تتميز عن غيرها, كي يستطيع القارئ أن يكتفي بها -أي: بملامح القصة الإخبارية في صدرها- عن تكملة قراءة القصة كلها إن ضاق وقته عن هذه التكملة. الأسئلة الستة وطريقة استخدامها: قلنا: إنه ينبغي للمحرر الصحفيّ قبل كتابة الخبر بأية طريقة من الطرق أن يلقي على نفسه الأسئلة المعروفة التي هي:

من، ومتى، وأين، وماذا، وكيف، ولماذا؟ غير أن من الأخطاء التي يتورط فيها المبتدئون من غير المجربين أن يحاولوا الإجابة على هذه الأسئلة بطريقةٍ آليةٍ بحتة، لا حظَّ لها من الذوق وحسن التناول، على حين أنه ينبغي للمحرر الذكيّ دائمًا قبل الإجابة على هذه الأسئلة أن يوازن بينها موازنةً دقيقةً وسريعةً وجيدةً في وقت معًا، فيبدأ بالأهم منها، ثم المهم وهكذا. ومقياس الأهمية هنا هو القارئ قبل كل شيء آخر، فمن الجائز في بعض الأحيان أن يكون اسم الشخص الذي وقع عليه الحادث من الأسماء اللامعة في المجتمع، وفي هذه الحالة تكون الإجابة عن السؤال: مَنْ؟ هي المقدمة على بقية الأسئلة، ومن الجائز أن تكون الطريقة التي حدث بها الحادث غريبةً كل الغرابة، فتصبح في نظر القراء هي الأهم، وفي هذه الحالة تكون الإجابة عن السؤال: كيف؟ هي المقدمة وهكذا. نعم، يجب على المحرر أن يفاضل بذوقه الصحفيّ بين الأسئلة الستة المعروفة، وعليه مع هذه المفاضلة أن يقوم بعمل آخر، هو أن يرجيء الإجابات على بعض هذه الأسئلة إلى فقرةٍ أخرى من الفقرات الاستهلالية التي يتألف منها صدر الخبر، ففي ذلك توفير للحرية التي يجب أن يتمتع بها المحرر في تحرير الخبر، وفيه إطلاق له ولقلمه من القيود المصطنعة التي يضعها نقاد الصحف، وبغير هذه كله تخرج المادة الصحفية بعيدةً عن الذوق الصحفيِّ الذي أشرنا إليه، وتبدو وكأنها مفتقرةٌ إلى المعنى الإنسانيّ، أو اللون الاجتماعيّ، أو الجذب النفسيّ الذي يحتاج إليه القارئ دائمًا في قراءة الخبر. وفي هذا المعنى يقول الأستاذ نيل1 NEAL:

_ 1 في كتابه: News Getting & news writing p. 314.

"لكي ينجح المحرر الصحفيّ في كتابة الخبر الداخليّ, يجب عليه أن يحسب حساب القارئ العاديّ أولًا، والذي لا شك فيه -مثلًا- أن الإحصاءات قلَّمَا تهم هذا القارئ العاديّ، ولكن الذي يعنيه حقيقةً إنما هو انفعاله بالحادث الذي يقرؤه، كما لو كان أحد شهوده، أو كان أحد المشتركين فيه، وإذ ذاك فقط يتخيل القارئ نفسه في هذا الموقف، فيقبل على قراءة الحادث، ويتابع قراءته إلى نهايته". وعلى ذلك, فالمحرر الصحفيّ بإزاء الأسئلة التقليدية المعروفة, يؤدي بسرعة كبيرةٍ ولباقةٍ ظاهرةٍ عملين في وقت معًا: أولهما: المفاضلة السريعة بين الإجابات الست السابقة. ثانيهما: إعمال الذوق الصحفيّ في هذه المفاضلة. وإليك أيها القارئ بعض الأمثلة اليسيرة لتوضيح هذه القاعدة: قرأت عن الحادثة المفزعة التي غرقت فيها السيدة أسماء فهمي عميدة معهد التربية العالي للمعلمات، وعرفت أنها كانت تقود سيارتها, وهي عالمة بفساد شكائمها "فراملها"، ومع ذلك فقد جازفت السيدة المذكورة، وقادت سيارتها إلى ترعة عند أول شارع الهرم، وكان من نتيجة هذا, أنها غرقت دون أن ينقذها أحد. في هذا المثال وجدنا اسمًا لامعًا في المجتمع، هو اسم السيدة أسماء فهمي، ولذا رأينا جميع الصحف تبدأ قصة هذا الخبر بذكر الاسم أولًا، ولو ماتت هذه السيدة بطريقة طبيعية لما احتاج الأمر إلى أكثر من ذكر اسمها في قائمة الوفيات بشكل من الأشكال، ولكن لأنها ماتت بهذه الطريقة المروعة، ولكونها عَلَمًا من الأعلام المشهورة في مصر في تلك الآونة، فقد اقتضى ذلك ذكر اسمها أولًا، ثم كيفية الحادث نفسه ثانيًا، ثم تفصيل الحادث في نهاية الأمر.

أما انفعال القراء بهذا الحادث فيأتي بطريقتين: أولاهما: صلة السيدة أسماء فهمي بكثيرين من المشتغلين بالتعليم الجامعيّ، وغير التعليم الجامعيّ، وبالطالبات اللائي يتعلمن بالمعهد العالي، وبأسر الطالبات.... إلخ. والثانية: أن يتخيل القارئ نفسه في موقف مشابه لهذه الحادثة المفزعة، وهذا يضطره إلى متابعة القصة الخبرية، وإلى أن يدخر في أعماق نفسه هذه التجربة أو الموعظة. وإليك مثلًا آخر: هب أنك أيها القارئ علمت نبأ صبية صغار كانوا يلعبون في بيت أحدهم، ودخلوا غرفة من غرف البيت هي غرفة "المكتب"، وفتح الصبي مكتب والده، وأخرج من أحد أدراجه "مسدسًا"، فدعت غريزة حب الاستطلاع في هذا الصبيّ إلى معرفة كنه هذه الآلة الغريبة في نظره, ونظر زملائه من الصبية، وبينما تداعب أنامله الصغيرة هذا المسدس -وكان محشوًّا بالرصاص- انطلق في صدر المسكين، فوقع قتيلًا لساعته. لا شكَّ أن تلاحظ أن الطريقة التي وقع بها هذا الحادث هي الأهم، وهي التي تلفت نظر القارئ قبل غيرها، وهنا وجب على الصحيفة التي تنشر هذا الخبر أن تُعْنَى بكيفية الحادث أولًا، وتجعل من العنوانات الكبيرة والعنوانات الصغيرة، ومن الجمل التي يتألف منها صدر الخبر أداةً طيبةً لبيان الصورة التي وقع بها هذا الحادث المؤلم, أما الزمان والمكان وأسماء الأشخاص فأمور تأتي بعد ذلك. ومهما يكن من شيءٍ, فالذي نلاحظه غالبًا في القصص الخبرية بالصحف أن سبب وقوع الحادث من جهة، وكيفية الوقوع من جهةٍ ثانيةٍ, هما العنصران اللذان يميزان حادثةً ما عن الحوادث الأخرى، ثم يزداد

القارئ معرفةً بهذا الحادث, بعد ذلك عند ذكر المكان والزمان، وذلك كله ما لم يكن الشخص المصاب في الحادثة من الأسماء المشهورة, أو الشخصيات البارزة، وذلك كله أيضًا ما لم يكن في الأسماء المتصلة بالحادث ما يحرك اهتمام طائفة بعينها من سكان القطر أو المدينة التي تنشر فيها الصحيفة. مثال ذلك: غرق عشرون شابًّا كانوا في زورق صغيرٍ لم يتسع لهم جميعًا إلَّا بصعوبةٍ, حين اصطدم هذا الزورق بصخرةٍ في النيل, لم ينتبه لها الشبان الراكبون لتزاحمهم في الزورق. في مثل هذا الحادث نجد أن سبب الوقوع, وصورة هذا الوقوع, هما اللذان استرعيا اهتمام القراء بالصحيفة, وفي مثل هذه الحالة تجد الصحيفة نفسها مضطرةً إلى العناية التامَّةِ بهذين العنصرين من عناصر الخبر، مضطرةً إلى قلة العناية بالأشخاص الذين غرقوا، أو الوقت الذي غرقوا فيه، أو قلةً مرجئة ذلك كله إلى الفقرة أو الفقرات التي تأتي بعد الفقرات الأولى عادةً. وعلى هذا, فإن المهم في صدر الخبر دائمًا أن يكون من المرونة الكافية؛ بحيث يتشكل بأشكال الحوادث, هذا من جهةٍ، ومن جهة ثانيةٍ, ينبغي أن يحذر المحرر التفاصيل الكثيرة التي يحشو بها صدر الخبر، فإن في ذلك ما يعوق القارئ منذ اللحظة الأولى عن متابعة القراءة. وهذا وذاك يتطلبان من المحرر على الدوام أن يكون واسع الحيلة, حسن التناول، جميل الذوق، دقيق التصرف في كل حالة من حالات نشر الخبر، وهو في هذا كله أشبه بالمحامي الذي يُعِدُّ لكل قضيةٍ من القضايا حلًّا مخالفًا كل المخالفة للحل الذي يُعِدُّه للقضية الأخرى، أو أشبه بالمدارس الذي يفهم الأطفال بطريقة تخالف طريقة المراهقين، ويشرح لهؤلاء بطريقة غير طريقة الشبان الذين تجاوزوا العشرين, وهكذا.

طرق التجديد في صياغة صور الخبر: لاحظنا مما تقدم أن لصدر الخبر أهميةً خاصةً في الصحف، فعليه تعتمد هذه الصحف دائمًا في إثارة القراء، وصحيحٌ أن الإجابة عن الأسئلة الستة المعروفة تساعد في الغالب على إشباع فضول القاريء, وتدفعه إلى متابعة القراءة ما دام لديه مُتَّسَعٌ من الوقت لذلك, ولكن المحرر الخبير بشئون الصحافة يستطيع الخروج أحيانًا على القوالب المعروفة، ويمكنه أن يستحدث بعض الطرق التي يصوغ فيها أخباره، وكثيرًا ما يكون ذلك منه استجابةً لرغبات القراء، أو مطابقةً لمقتضى الحال، أو استرعاءً للأذهان، ونحو ذلك. ومن طرق التجديد في صياغة الأخبار على سبيل المثال ما يلي: أولًا: حشد جميع عناصر الإثارة في الجملة الأولى من الجمل التي يشتمل عليها الصدر، وهي الجملة التي تقوم مقام العنوان في معظم الأحيان، كأن يقول: - صياح ديك يسبب موت طبيب. - فأر صغير يعطل حركة المرور. - جمل المحمل يلوذ بعابدين. - زوجة رئيس وزراء تُرَى في نقطة البوليس. - سفينتان من سفن القضاء توشكان أن تصطدما. ولكن على الصحف بعد ذلك أن تحافظ على حماسة القارئ الذي يقرأ صدرًا من هذا النوع. ثانيًا: من طرق التجديد في صدر الخبر, أن تعمد الصحيفة إلى رسم صورةٍ وصفيةٍ تلفت النظر إلى الشخص الأول والأهم في القصة الإخبارية؛ كأن تبدأ عنه بمثل هذه العبارة:

"كان وجهة ممتقعًا، وكانت شفتاه تتمتمان بحركاتٍ وألفاظٍ غير مفهومة.... إلخ". ثالثًا: من طرق التجديد كذلك, الاعتماد على المفارقات والمفاجآت؛ كأن تقول: فلان الكناس يكتشف أنه الوريث الوحيد لأكبر رجل إقطاعي في الصعيد.....". مثال آخر: "في صوتٍ هادئٍ واضح النبرات، وبألفاظٍ محددةٍ لا غموض فيها ولا إبهام، وفي ثقةٍ كاملةٍ بسلامة الموقف، واقتناعٍ تامٍّ واطمئنانٍ كاملس ببراءة الذمة, استطاع رئيس الوزراء أن يواجه الأسئلة التي وجهت إليه أمس في مؤتمر صحفيٍّ عقده بمكتبه ليرد فيه على الحملات الصحفية الأخيرة بشأن التصرفات التي نسبتها إليه بعض الصحف في الأيام القليلة الماضية". رابعًا: الإتيان أحيانًا بالمقدمة الاستفهامية؛ كأن تقول: "هل من حق الزوج أن يضرب زوجته إذا رفضت أن تعلق ثيابه؟ تلك هي المشكلة التي واجهت قاضي محكمة الوايلي صباح أمس". وتستخدم المقدمات الوصفية كذلك عندما يكون المكان الذي حدث فيه الحادث أهم من الحادث نفسه، ومن الأشخاص المشتركين فيه، وأكثر ما يكون ذلك في الحفلات, والمهرجانات, والمعارض العامة، والحدائق، والأماكن التي تبدو فيها الطبيعة في أحسن زينتها، وفي الرحلات التي تحتاج لركوب البحر, أو لصعود الجبل، ونحو ذلك. خامسًا: المقدمة الاستفهامية، مثال ذلك: هل من حق الزوج أن يضرب زوجته إذا رفضت أن تعلق ثيابه؟ تلك هي المشكلة التي واجهت قاضي المحكمة الوايلي صباح أمس. هل ظهر بالأسكندرية قاتل مجهول ارتكب نفس الجريمة الغامضة التي ارتكبت في الصعيد؟

سادسًا: من طرق التجديد في صدر الخبر أيضًا, الاعتماد على التصريحات المنقولة، فكثيرًا ما يأتي الكاتب في أول الخبر الصحفيِّ بتصريحٍ هامٍّ لشخصيةٍ كبيرةٍ مرموقةٍ، ويظل هذا التصريح -برغم ذلك- أهم نقطة من نقط القصة الخبرية كلها، فإذا صادف الصحفيّ مثل هذه التصريحات, بادر بأن يؤلف منها صدرًا للقصة الإخبارية، مثال ذلك: أن صحيفةً من الصحف نقلت قول المستر "تشمبرلين": "أستطيع أن أجد حلًّا للقضية المصرية في وقت أقل من الوقت الذي يكفي لشرب فنجان من القهوة". سابعًا: ومن طرق التجديد في صياغة صدر الخبر أيضًا, الطريقة التي يسميها الأوربيون في كتبهم "أنت وأنا" ويقصدون بها نقل القارئ إلى جو القصة منذ بداية الأمر؛ كأن يبدأ المحرر قصته الإخبارية بقوله: "نحن الآن في مكان كذا"، ثم يتم القصة، غير أن هذه الطريقة أقرب للإذاعة, وأشبه بها, وأصلح لها. ثامنًا: المقدمة الإنسانية، كالتي تحكي قصة رجلٍ فقد بصره, وفقد ولده الوحيد, وصبر على ذلك سنوات عدة, وبعدها رجع إليه بصره بعد أن اهتدى إلى ولده. تلك وأمثالها طرق لتجديد صدر الخبر، وهي لا تعدو كونها في الواقع مجرد أمثلةٍ من هذا التجديد، وفي وسع الكاتب الصحفيِّ اللبق أن يهتدي إلى أحسن منها، وليس ما قدمناه من الحديث عن صدر الخبر إلَّا وصفًا موضوعيًّا لهذا الجزء من الخبر، وهو وصفٌ يستعين به المبتدئون في الصحافة، أما الذين مارسوها زمنًا طويلًا فإنهم يخترعون كل يوم جديدًا في كتابة هذا الجزء الهامِّ من أجزاء الخبر، وهو الصدر أو المقدمة. على أن التجديد في صياغة الخبر لا يقتصر فقط على الجزء الأول من أجزائه وهو الصدر, بل يتعداه إلى الطريقة التي يختارها المحرر.

والطريقة هنا غير القوالب الفنية لصياغة الخبر، وهي القوالب التي تحدثنا عنها فيها سبق. فهناك -كما يقول الأستاذ جلال الحمامصي-1 طريقتان لنشر الخبر: أولاهما: الطريقة التقليدية المعتادة -أو الطريقة الإخبارية المباشرة- وهي التي تعتمد على تركيز المقدمة "بريد الصدر" حول أهم ما في الخبر، محاولين بذلك الإجابة على واحدةٍ أو أكثر من الشقيقات الخمس "بريد الأسئلة الخمسة". والثانية: أن يحول التركيز إلى زاويةٍ أخرى من زوايا الخبر, على أساس أن هذه الزاوية تضفي على النبأ ضوءًا يجذب القارئ إلى قراءته, وهي طريقة تستعمل كثيرًا في كتابة الأخبار ذات الطابع الشخصيّ, وهنا يُسَمَّى الشخص أو المكان الذي يدور حوله الخبر: "المحور الأساسيّ في الخبر"، فهو الذي يجب أن تسلط عليه الأضواء في المقدمة "المصدر" وما يليها. مثال للطريقتين معًا: يصح أن نضرب المثل هنا بالعامل الذي عثر على ثلاثة آلاف جنيه مصريّ في شرفة منزلٍ لأحد التجار، وهو يشتغل بدهان هذا المنزل في غيبة صاحبه، وقد كافأته الحكومة بتمليكه "شقة" جميلة في أحد المنازل المبنية حديثًا. ويمكن كتابة هذا الخبر بإحدى الطريقتين الآتيتين: الطريقة الأولى -وهي الطريقة المعتادة: الصدر: تسلم عامل نقاش من السيد رئيس الوزراء, ووزير الداخلية, عقدًا

_ 1 انظر كتاب: "من الخبر إلى الموضوع الصحفيّ" 117و 118.

بتمليك شقة جميلة في منزل من المنازل التي بنيت حديثًا، وهذا العقد مكافأةً له على أمانته. الصلب: كان العامل النقاش حامد إبراهيم يجلس مع أسرته للغداء ظهر أمس, حين وقفت ببابه دراجة "موتوسيكل" ففتح الباب, وإذا بجندي من جنود الشرطة يسلمه خطابًا يُدْعَى فيه إلى المثول بين يدي رئيس الوزراء ليسلمه عقدًا بتمليكه شقة جميلة في البيت رقم 15 بمدينة النصر "قرب مصر الجديدة". وفي اليوم التالي, ذهب حامد إبراهيم إلى وزارة الداخلية؛ حيث سلمه السيد رئيس الوزراء هذا العقد بعد أن أثنى عليه لأمانته وشهامته. الطريقة الثانية: "محور الخبر": روى العامل حامد إبراهيم قصة عثوره على مبلغ ثلاثة آلاف جنيه مصري, في شرفة المنزل الذي كان يشتغل بدهانه في غيبة صاحبه، قال حامد لبعض أصدقائه في المقهى الذي تعود الجلوس فيه كل مساء: فرغت من دهان الغرف التي يتألف منها المنزل، ثم وصلت إلى الشرفة، فوجدت بها على الأرض كومةً من الجرائد القديمة، وعندما أردت أن ألقي بها في الطريق, تبين لي أن بها حزمة كبيرة من الأوراق المالية، وأخذت أعد هذه الأوراق؛ فإذا بها ثلاثة آلاف جنيه, فارتعشت أناملي واشتد خفقان قلبي، وذهبت على الفور إلى مركز البوليس وسلمتها له. ودعاني بعد ذلك السيد رئيس الحكومة وأثنى على أمانتي, وسلمني عقدًا أصبحت به مالكًا للشقة الجميلة التي أسكنها. والعامل حامد إبراهيم يعيش الآن في هذه الشقة مع زوجته وأولاده وأمه العجوز.

وبعشر المبلغ الذي عثر عليه -وهو ما يستحقه بنصِّ الشرع- حصل حامد على أثاثٍ جديدٍ، وزوّد بيته بجهاز تليفزيون. بالطريقة الأولى: صيغ الخبر صياغةً تقليديةً حكت تسلم العامل للجائزة من السيد رئيس الوزراء، وتمليكه الشقة الجديدة مكافأةً له على أمانته. وبالطريقة الثانية: دارت القصة الإخبارية كلها حول محور واحد فقط هو "العامل حامد إبراهيم" وكيف عثر على هذا المبلغ, وسلمه إلى مركز البوليس، وكيف يعيش في منزله الجديد، وبهذه الطريقة الأخيرة ظهرت العناية "بروح الخبر" دون ما يشتمل عليه من المعلومات الشكلية, ومنها مقابلة العامل للسيد رئيس الوزراء. ولا شك في أن الطريقة الأخيرة أدنى إلى نفوس القراء من الأولى، وأكثر حيوية، وأكثر إشباعًا لهؤلاء القراء, واجتذابًا لاهتمامهم. وهكذا يكون التجديد في صياغة الخبر؛ إما في صياغة الصدر، وإما في الطريقة التي يكتب بها الخبر نفسه على النحو الذي شرحناه. صلب الخبر: يفرغ المحرر من كتابة الصدر على الوجه المتقدم، وبعد ذلك يأخذ في كتابة التفاصيل شيئًا فشيئًا، والمُتَّبَعُ في كتابة التفاصيل عادةً أن تكون على شكل فقراتٍ متكاملةٍ Block Paragraphs، كل فقرة منها تؤلف وحدة مستقلة بذاتها، بحيث يمكن حذف أية فقرة عندما تحتاج الصحيفة إلى ذلك، بشرط عدم الإخلال بالمعنى العام، أو بالقيمة العامة للخبر نفسه إذ ذاك. وهذا فرق آخر بين الآدب والصحافة، فنحن في الأول نرى أن جميع الفقرات التي يتألف منها المقال الأدبيّ آخذٌ بعضها بحجز بعض، بحيث

إذا حذفنا فقرةً منها, أضر ذلك بالمعنى، لكننا في الخبر الصحفيّ نستطيع أن نستغني عن بعض الفقرات التي يتألف منها عند الحاجة. والخبر الصحفيّ في هذه الحالة يكون أشبه بالقصيدة العربية، كل بيتٍ فيها وحدةٌ قائمةٌ بذاتها، ويستطيع الشاعر أو القارئ أن يحذف من هذه الوحدات ما يشاء، أو يُقَدِّمُ بعضها ويؤخِّرُ بعضها متى شاء, فلا يضر ذلك بالقصيدة. وكما سبق أن ذكرنا، تستطيع الصحيفة أن تفرق من حيث القصة الخبرية بين الطبعة التي تصدر في العاصمة، والطبعة التي تصدر في الأقاليم، فهناك قصة خبرية تهم العواصم الكبرى في الجمهورية العربية، وهناك قصة خبرية تهم الأقاليم، وعلى الجريدة أن تراعي هذا الفرق بينهما مراعاةً دقيقةً، وتستطيع أن تملأ الفراغ الناتج عن هذا الإجراء بشتَّى الأخبار التي تهم القراء. ولا شك أن ذلك مزيةً من مزايا الشكل الهرمي في كتابة الخبر الصحفيّ، فلو لم يكن الخبر مصوغًا على شكل هرم مقلوب, لما استطاعت الصحف أن تحدث هذه التغييرات المطلوبة عند الحاجة، ولعجزت الصحيفة عن أن تمد كل بيئةٍ محليةٍ بالأخبار التي تناسبها. والآن, نعود إلى الكلام عن الخبر الذي يكتبه المحرر الصحفيّ, مستخدمًا فيه جميع القوالب الفنية المعروفة إلى الآن، وهي: قالب السرد، وقالب الحديث المنقول، وقالب القصة الإخبارية. وسنضرب المثل هنا بخبر من الأخبار, علينا أولًا أن نحكي خلاصته كما يلي1: في إحدى نقابات العمال جاء المرشح الجديد لمركز النقيب, واتهم النقيب السابق بأنه أساء استعمال أموال النقابة, وتصرف فيها لمصلحة مؤيديه.

_ 1 أورد هذا الخبر الأستاذ الحمامصي في كتابه "المندوب الصحفيّ" ص111.

وفي اليوم السابق للانتخابات تجمهر أفراد هذا الفريق أمام دار النقابة يريدون اقتحامهما بالقوة؛ وإذ ذاك تحصن النقيب السابق ومؤيدوه بمبنى النقابة. وتصل الشرطة إلى مكان الحادث وتحاول التدخل. ولكن المرشح الجديد لمنصب النقيب يخطب في العمال ويدلي بتصريحاتٍ هامةٍ. وتخشى الشرطة أن يفلت الأمر من يدها, فتستعمل الغازات المسيلة للدموع، ثم تضطر بعد ذلك إلى إطلاق بعض الأعيرة النارية؛ فيصاب عددٌ من العمال وينقلون إلى المستشفى. كيف نكتب صدر هذا الخبر؟ إن خبرًا كهذا, لا بد أن يكون صدره طويلًا؛ لأنه يشتمل على وقائع كثيرة، ولا بُدَّ في خبرٍ مثله أن تتركز نقطة البداية في تجمع العمال حول دار النقابة؛ لأن هذا التجمع هو الذي أدّى إلى إلقاء الخطب والتصريحات المثيرة، وإلى الصدام بين الشرطة والعمال, وإلى وجود ضحايا. بعد ذلك يمكن للمحرر الصحفيّ أن ينتقل إلى الإجابة عن سؤال: ماذا؟ أي: ما الذي حدث حتى أدى إلى هذه النتائج؟ وفي فقرات قصيرةٍ ومركزةٍ بعد ذلك يذكر المحرر وقائع الحادث واحدة بعد أخرى، ويقدم للقارئ هيكلًا هرميًّا لهذه الوقائع، وكل ذلك دون أن يغرق القارئ في مزيد من التفصيلات التي لا مكان لها إلّا "صلب الخبر". وعلى هذا تمكن كتابة "صدر الخبر" على النحو التالي: صدر الخبر: حاول ألف عامل من عمال نقابة "كذا" اقتحام دور نقابتهم بعد

ظهر أمس، متأثرين بأن أحد زعمائهم "فلان" متهم باسم النقيب السابق، وتصرف في مبالغ كبيرة من أموال النقابة لمصلحة مؤيديه. وقع تصادم بين الشرطة وبعض النقابيين, أدّى إلى حدوث إصابات من الفريقين، والسبب في ذلك أن الاتهام جاء في الليلة السابقة لموعد اجتماع الجمعية العمومية لإجراء انتخاب النقيب وأعضاء مجلس النقابة. بادرت الشرطة إلى محاصرة مبني النقابة، وفي داخل المبنى تحصَّن النقيب السابق, ومعه مؤيدوه. حاولت الشرطة إبعاد العمال قليلًا عن مبنى النقابة، ولكن العمال رفضوا ذلك. اضطرت الشرطة إلى استخدام الغازات المسيلة للدموع، ثم إلى إطلاق بعض أعيرة نارية أصابت عشرة من العمل بحروج بالغةٍ, ونقلوا إلى المستشفى. بنى زعيم العمال الثائرين "فلان" اتهامه للنقيب السابق على تقريرٍ وضعته لجنة خاصة كلَّفتها الجمعية العمومية غير العادية, وبحثت في الإعانات العمالية التي صرفت في العام الماضي. وقد جاء في هذا التقرير أن اللجنة تشك في أن هذا الإعانات اتبعت في صرفها الإجراءات التي نص عليها قانون النقابة: وأخيرًا نأتي إلى: صلب الخبر وفيه يأتي الصحفيُّ بالتفصيلات الكثيرة لما تضمنه الصدر من الوقائع الكثيرة، فيبدأ مثلًا في شرح المزيد من البيانات المتصلة بالحادث, ويتكلم عن الطريقة التي حدث بها التجمع أمام دار النقابة، فهل كانت هناك دعوة سابقة، أم أن التجمع جاء بمحض المصادفة؟

ثم يأتي بتفاصيل أخرى عن الصدام الذي وقع بين المتظاهرين ورجال الشرطة، ويشرح للقارئ كيف نصح رجال الشرطة بالامتناع عن التظاهر، ثم يصف حالة المصابين الذين نقلوا إلى المستشفى, ويذكر أسماءهم واحدًا واحدًا كلما استطاع ذلك، ثم ينتقل بعد ذلك إلى وصف زعيم العمال الساخطين وهو يقف بينهم وبيده نسخة من تقرير اللجنة يلوح بها لمؤيديه, وينذرهم بأن النقابة على وشك الإفلاس بسبب تصرفات المجلس السابق والنقيب السابق. وهنا يجب على المحرر أن يقتبس من كلام زعيم العمال الساخطين بعض أقواله، ومنها على سبيل المثال: "إن ما وصلت إليه حالة النقابة المالية يهددنا جميعًا بخطرٍ كبيرٍ، ويحتِّمُ علينا جميعًا أن نتخذ الإجراء الحازم لحفظ حقوقنا". ومثل قوله: "لقد سرقوا أموالنا وأنتم الضحايا، بل إن أولادكم أيها العمال هم الذين سيدفعون الثمن" وهكذا. ويعود المحرر الصحفيُّ بعد كل ذلك إلى سرد الوقائع الباقية واحدةً بعد أخرى، ثم يعود إلى المزيد من الأقوال المقتبسة من تقرير اللجنة، وهي الأقوال التي استشهد بها زعيم العمال الثائرين في تحريضهم ضد الثورة, وأخيرًا يصل المحرر الصحفيُّ إلى الفقرة النهائية أو الختامية للخبر. وهذه ليست لها قواعد مضبوطة في الحقيقة على الرغم من أن لها أهمية كبيرة؛ لأنها آخر ما يقرع سمع القارئ من القصة الإخبارية، ويتوقف اختيار الفقرات الختامية على طبيعة الموضوع الصحفيّ ذاته، والمهم ألًّا يترك الصحفيُّ قراءه معلقين أو حائرين، فإن كلمة واحدة في هذه الحالة

تزيل الشك والتردد، وعلى ذلك يمكن أن تكون الفقرة الختامية لهذه القصة الإخبارية بصورةٍ من هذه الصور, فمثلًا: الصورة الأولى: وما زال الخلاف بين الفريقين المتنازعين على أَشُدِّه، وستحسم هذا النزاع نتائج الانتخابات التي ينتظرون إعلانها في ساعة متأخرة من مساء اليوم. الصورة الثانية: وتواصل النيابة التحقيق، وستستمع إلى أقوال رئيس النقابة السابق, في الساعة العاشرة من صباح اليوم. الصورة الثالثة: وإذا ظلّت الاضطرابات مستمرةً اليوم كذلك, فقد يصدر وزير الشئون الاجتماعية قرارًا بتأجيل الانتخابات إلى وقت آخر. وفي هذا المثال المتقدم من أمثلة الخبر الصحفيّ, وجدنا المحرر يصطنع الطرق الفنية الثلاث المتبعة إلى الآن في تحرير الأخبار، وهي طريقة السرد، وطريقة الحديث المنقول، وطريقة القصة الإخبارية. فاستخدم طريقة السرد؛ لأنه سرد وقائع الحادث واحدةً بعد أخرى, وبالترتيب الذي وقعت به تمامًا، واستخدم طريقة الحديث المنقول؛ لأنه أورد كثيرًا من كلام زعيم العمال الساخطين, ومن كلام التقرير الذي كتبته اللجنة، واستخدم طريقة القصة الإخبارية؛ لأن الخبر كان له صدر أجاب عن الأسئلة التقليدية، ومن سؤال "لماذا", وأن السبب في هذا الحادث كان هو الأهم في الواقع، كما كان للخبر صلب اشتمل على التفاصيل كما رأينا.

الحوادث الداخلية أو المحلية

الحوادث الداخلية أو المحلية: كيف تصاغ في قصة إخبارية؟ تشغل الحوادث الداخلية أو الأخبار المحلية حيزًا هامًّا في الصحافة اليومية منذ نشأتها، غير أن طريقة صياغتها في الوقت الحاضر تختلف اختلافًا كبيرًا عنها في الماضي، ولذا يحرص الكثيرون من المشتغلين بالصحافة في وقتنا هذا على معرفة الأصول والقواعد التي يحسن اتباعها في كتابة هذا النوع من الأخبار بنوع خاص. وقد يكون الحادث الداخليّ من الأهمية والخطورة في بعض الأحيان؛ بحيث يلفت أنظار القراء على اختلاف درجاتهم؛ وإذ ذاك تعنى الصحيفة اليومية بهذا الحادث الداخليّ عنايةً خاصةً، ونكتبه في الصفحة الأولى، وهي الصفحة المخصصة في الغالب للأخبار الخارجية، وتكتب له العنوانات الضخمة، وفي نفس المكان -أعني: بالصفحة الأولى- تنشر الصحيفة صورة قوية الدلالة على هذا الحادث، وتكتفي بكتابة صدر الخبر في هذا المكان الممتاز من الصفحة الأولى، ثم في الصفحات التالية يأتي الجسم، أو الصلب مشتملًا على التفاصيل. وسنحاول في هذا الفصل أن نشير إلى بعض الأصول والقواعد التي تتبع في صياغة مثل هذا الخبر، وسنشفع ذلك ببعض الأمثلة من بيئتنا المصرية الحاضرة، ليقيس عليها الصحفيّ كلما تعرض للحالات المشابهة, ومن القواعد الصحفية التي يرددها الصحفيون دائمًا قولهم:

"إن الأسماء هي التي تصنع الخبر". وهي قاعدة صحيحة لا اعتراض عليها، ولكن الخطأ يأتيها من جانب المبتدئين في التحرير غالبًا؛ إذ نرى هؤلاء يعمدون إلى المبالغة في تكديس الأسماء وازدحامها في صدر الخبر، فيشوشون بذلك على القارئ منذ اللحظة الأولى، فينصرف عن قراءة الخبر. والحقيقة أنه كما تكون المبالغة في التفاصيل مسيئةً إلى الخبر متى احتلت مكان الصدارة منه على خلاف المتبع، فكذلك ازدحام الأسماء يسيء إلى الخبر إذا صدم به القارئ منذ بداية هذا الخبر، فالأحرى بالمحررين في هذه الحالة أن يقدموا الأسماء المهمة, أو المألوفة للقاريء العاديّ، ثم في أجزاء أخرى من صلب الخبر الداخليّ يصح لهم أن يذكروا الأسماء غير المألوفة له، وهكذا. وليس معنى ذلك مطلقًا أن على الصحيفة اليومية أن تقلل من عنايتها بالأسماء، أو أن تغفل عن ذكرهم عمدًا في بعض الأحيان؟ كلَّا، فإن القاعدة التي أشرنا إليها صحيحة من جميع الوجوه، واتباعها واجب في جميع الظروف. وإليك مثلًا يوضح هذا العنصر الهام من عناصر الخبر الداخليّ، ونعنى به عنصر الأسماء -أو بعبارة أخرى- عنصر الإجابة عن سؤال "من؟ " من الأسئلة الستة المعروفة. وازن معي أيها القارئ بين صيغٍ أربعٍ للإخبار عن حادثة بسيطة على النحو الآتي: الصيغة الأولى: غرق صبيان ونجا ثالث مساء أمس عندما انقلب بهم زورق في النيل قرب الزمالك.

الصيغة الثانية: غرق صبيان من سكان شارع عباس بالجيزة، ونجا ثالث لهم, عندما انقلب بهم زورق في النيل قرب الزمالك. الصيغة الثالثة: غرق صبيان من سكان شارع عباس بالجيزة، ومن تلاميذ المدرسة الإعدادية الأميرية, ونجا الثالث، وهو من سكان هذا الشارع, ومن تلاميذ المدرسة نفسها, عندما انقلب بهم زورق في النيل قرب الزمالك. الصيغة الرابعة: غرق صبيان هما فلان وفلان، ونجا الثالث وهو فلان، وثلاثتهم من شارع عباس بالجيزة، ومن تلاميذ المدرسة الإعدادية الأميرية، وكانوا مساء أمس يستقلون زورقًا في النيل, انقلب بهم قرب الزمالك. هذه صورة أربع لصدر هذا الخبر المفزع، ولكن ليس شك هناك في أن الصيغة الأخيرة هي الأقرب إلى الفن الصحفيّ بالمعنى الصحيح؛ إذ هي الصورة التي عُنِيَ فيها المحرر بذكر أسماء الصبية واحدًا واحدًا، وذكر عنوان كل منهم ومدرسته, وهكذا، وهذه الأسماء -وإن كانت في ذاتها مجهولةً لأغلبية القراء, باستثناء سكان شارع عباس، وتلاميذ المدرسة الأميرية الإعدادية- إلَّا أنها تعطي الخبر أهمية خاصة، وتكمله من الناحية الفنية الصحفية الخالصة، وبدونها يعتبر الخبر ناقصًا، ولا يجذب انتباه العدد الكافي من قراء الصحيفة. وكالحوادث الخاصة بالغرق، أو التصادم، أو التشاجر، أو السرقة، أوالقتل والانتحار, تكون الحوادث الداخلية الخاصة بالحريق.

غير أن حوادث الحريق بالذات, يجب أن يعني بها المحرر الصحفيّ عنايةً من نوعٍ آخر، ذلك أن عنصر "المكان" أو الإجابة عن السؤال "أين؟ " هو الذي ينبغي أن يقدم في هذه الحالة، وهنا يجب على المحرر الصحفيّ أن يكون واضحًا كل الوضوح في تحديد هذا الموقع. فإذا قال مثلًا: إن نارًا شبت في العمارة رقم 50 بشارع 23 يوليو, وجب عليه في هذه الحالة أن يتبع ذلك بكلمة "فؤاد سابقًا", فليس كل الناس يعرفون أن اسم هذا الشارع الرئيسيّ من شوارع القاهرة حدث فيه مثل هذا التغيير في التسمية, وأكثر من هذا وجوبًا على المحرر في تحديد موقع الحريق أن يعني بتعريف هذا الموقع, أو المكان للقراء باسم موقع, أو مكان آخر يجاوره، ويكون أعظم منه شهرةً لدى الخاص والعام، كأن يقول المحرر في هذه الحالة: "شبت النار بالعمارة رقم كذا, شارع 23 يوليو "فؤاد سابقا" وهي العمارة المجاورة لسينما ريفولي أو الأمريكيين، أو محلات شملا, وهكذا. وثَمَّ قاعدة صحيفة ثالثة لا بُدَّ من الاهتمام بها فيما يتصل بالحوادث اليومية، وهذه القاعدة هي: أن الإنسان أغلى ما في الوجود، وفيه ينبغي أن يتركز اهتمام الجريدة. واتباعًا لهذه القاعدة يجب على الصحيفة أن تعني دائمًا بذكر الضحايا من الناس قبل الضحايا من الأموال والمتاع. بل إن الضحايا البشرية ذاتها تتفاوت في نظر القراء، فيكون موت طالب من طلاب المدارس الثانوية, أو الجامعات في مظاهرة سياسية، أهم في نظر القراء، من موت رجلٍ من رجال الأمن الذين عهد إليهم إخماد هذه المظاهرات.

فالمعروف أن عمل الشرطيّ في مثل هذه الظروف عملٌ محفوفٌ بالخطر دائمًا، وموت الشرطيّ في هذه الحالة، قد يكون نتيجةً من نتائج هذا العمل المحفوف بالخطر، ثم إن موته في مثل هذه الحالة يعتبر في نظرالحكومة والجمهور موتًا في سبيل الواجب الذي قام به. أمَّا موت طالب أو طالبين، أو عامل, أو عاملين, في مظاهرة سياسية, فإنه ليس متوقعًا دائمًا، فوق أنه يتصل اتصالًا قويًّا بالمعنى أو الغرض الذي قامت من أجله المظاهرة، وهو غرض يلفت نظر القراء قبل أي غرض سواه. ومعنى ذلك باختصارٍ أنه ينبغي للصحيفة اليومية أن تعنى بذكر "الضحايا المدنيين" قبل"الضحايا الرسميين" وذلك في الجمل الافتتاحية، أو الفقرات الاستهلالية التي يتألف منها صدر الخبر، وللصحيفة بعد هذا وذاك أن تذكر الضحايا الرسميين في الفقرة التالية للفقرة الأولى مباشرةً، وقد لا يجوز إرجاء ذلك إلى الفقرة الثالثة أو الرابعة. هذه طائفةٌ من القواعد المتبعة في تحرير الخبر الداخليّ عادةً, أما الطرق المتبعة في صياغته على شكل قصة فكثيرة، سنشرح بعضها فيما يلي: طرق صياغة القصة الخبرية لحادث داخليٍّ: من الأصول التي يجب اتباعها في كتابة القصة الخبرية -على وجه العموم- تقسيم الخبر نفسه إلى أجزاء, يستقل كل منها بجانب من جوانبه, أو بحقيقة من حقائقه، وإذا كانت هذه القاعدة ضروريةً في كتابة الأخبار بوجه عام، فإنها أكثر ضرورة في الواقع للخبر المحلي بوجه خاص، ذلك أن الأخبار المحلية عرضةٌ للتغيير المستمر من لحظة إلى أخرى، والمطبعة لا تمهل المحرر حتى يعيد صياغة الخبر المحلي من أوله إلى آخره، فهي لا تدع له أكثر من الوقت الذي يسمح له بحذف فقرة, وإثبات أخرى مكانها، أو إضافة في فقرة جديدة لم تكن موجودة في الأصل إذا لزم هذا الإجراء.

وندع هذه القاعدة جانبًا لننظر في الطرق التي يمكن أن نتبعها في كتابة الخبر الداخليّ، أو صياغة القصة الإخبارية التي تمد القراء بحقائق هذا الخبر. وهنا نستطيع أن نضع أيدينا على طرق ثلاث، هي: 1- طريقة الترتيب الزمنيّ المعدول. 2- طريقة الترتيب الزمنيّ المعكوس. 3- "التشويق المسرحي "أو التغلب على فتور القارئ". وإليك الأمثلة: 1- بطريقة الترتيب الزمنيّ المعدول: يمكننا أن ننشر الخبر الآتي بالصيغة التالية: ا- حدث أمس -في طريق مصر الجديدة- أن أخرج سائق "المترو" رأسه من العربة، وكان المترو سائرًا بسرعة كبيرة، فاصطدم رأس السائق بعمود من أعمدة الكهرباء، فقتله في الحال، وقذف به في الطريق وبقي المترو سائرًا إلى الأمام بنفس السرعة. ب- وشد ما انزعجت سيدة في غرفة "السيدات" حين رأت المترو يسير وحده بدون سائق في الطريق، فصرخت صرخات عاليةٍ لفتت إليها أنظار الركاب الذين ارتكبوا ارتباكًا شديدًا، وصرخ النساء بعدها صرخاتٍ مدويةٍ كذلك. جـ- وتقدم الكمساري -وهو لا يعرف شيئًا عن القيادة- وطفق يحاول وقف المترو حتى وقف لحسن الحظ في تلك اللحظة الدقيقة. د- وكان وقوف المترو -لحسن الحظ أيضًا- قبيل المنحنى السابق لمحطة روكسي مباشرةً, بما لا يزيد عن ثلاثين بوصة.

هـ- ولو وصل المترو بسرعته إلى هذا المنحنى الحاد قبيل محطة روكسي لانقلب بركابه، ولأصبح ضحايا الحادث يعدون بالعشرات. 2- بطريق الترتيب الزمنيّ المعكوس: يمكننا أن ننشر الخبر بالصيغة التالية: 1- نجا ركاب المترو في طريق مصر الجديدة من الموت بأعجوبة, حين وقف المترو فجأةً عن السير قبيل المنحنى السابق لمحطة روكسي, بما لا يزيد عن ثلاثين بوصة. ب- ولو وصل المترو بسرعته السابقة إلى هذا المنحنى الحادِّ قبيل محطة روكسي لانقلب بركابه، ولأصبح ضحايا الحادث يعدون بالعشرات. جـ- أما الذي تنبه إلى ذلك فسيدة في الحريم, صرخت صراخًا عاليًا حين لاحظت أن المترو يسير وحده بدون سائق, وبسرعة عظيمة، فلفتت إليها أنظار الركاب الذين اضطربوا اضطرابًا شديدًا، وصرخ النساء منهم صرخاتٍ مدويةً كذلك. د- وإذ ذاك تقدَّم الكمساري -وهو لا يعرف شيئًا عن القيادة- وطفق يحاول وقف المترو حتى وقف لحسن الحظِّ في تلك اللحظة الدقيقة. هـ- أما السبب في سير المترو بهذه الصورة, فهو أن السائق كان قد أخرج رأسه من العربه، فاصطدم بعمود من أعمدة الكهرباء، فقتله في الحال, وقذف به بعيدًا عن مكانه. 3- بطريقة التشويق المسرحي: تستطيع الصحيفة أن تنشر الخبر بالصيغة الآتية: 1- صرخت سيدة في غرفة السيدات بالمترو, في طريق مصر الجديدة, حين رأت أن هذا المترو يسير وحده بدون سائق, وبسرعة عظيمة.

ب- واضطرب الركاب، وعلا صراخ النساء والأطفال، وشعر الجميع بالخطر الداهم، خصوصًا أن المترو يقترب سريعًا من المنحنى السابق لمحطة روكسي، التي هي أولى محطات مصر الجديدة. حـ- ولو وصل المترو إلى هذا المنحنى الحادِّ لانقلب بركابه جميعًا, ولعظمت فداحة الحادث، وأصبح الضحايا يعدون بالعشرات. د- وشاءت الأقدار أن يجري الكمساري إلى مكان السائق، وعلى الرغم من أنه يجهل كل شيءٍ عن القيادة، فإنه أخذ يحاول وقف المترو عن السير، والعجيب أن المترو وقف في تلك اللحظة الدقيقة، وكان وقوفه قبل المنحنى الحادِّ بما لا يزيد عن ثلاثين بوصة. هـ- واتضح فيما بعد أن السبب في سير المترو على هذه الصورة, هو أن السائق كان قد أخرج رأسه من العربة، فاصطدم بعمود من أعمدة الكهرباء، فقتل في الحال، وقذف به بعيدًا عن القضبان. تعليق على الطرق الثلاث: إذا نظرت معي أيها القارئ إلى الطريقة الأولى -وهي طريقة الترتيب الزمنيّ المعدول- لاحظت أنها أسهل الطرق جميعًا بالنسبة للمحرر وللقارئ في وقت معًا، أما المحرر: فإنه لم يعمل فكره كثيرًا في تقسيم الخبر إلى وقائع، وترتيبها بحسب وقوعها ترتيبًا زمنيًّا لا تصرف فيه، وأما القارئ: فإنه لم يجد عسرًا في تتبع القصة الخيرية على هذا الوجه. غير أن الطريقة الأولى تفتقر إلى العنصر الدراميّ، والعناية فيها بجميع أجزاء الخبر متساويةً تقريبًا، مع أن المتبع عادةً هو المخالفة في هذه العناية، وذلك بتقديم بعض الأجزاء وتأخير الأخرى، والاهتمام ببعض الأجزاء أكثر من الاهتمام بالأخرى، وهكذا.

على أن أهم ما يوجَّه إلى هذه الطريقة الأولى من نقدٍ, هو أنها مبنيةٌ في الواقع على نظام الهرم المعتدل. وقد سبق أن قلنا عن هذا النظام إنه يصلح لنشر المقال، ولكنه لا يصلح دائمًا لكتابة الأخبار, ومعنى ذلك أن اتباع هذه الطريقة الأولى في صياغة الأخبارمن شأنه ألّا يجعل الفرق واضحًا أو مفهومًا بين صياغة الخبر وصياغة المقال، وفي ذلك ما فيه من الخلط بين الفنون الصحفية من حيث الصياغة. والقائل بهذه الطريقة الأولى من أساتذة الصحافة, هو الأستاذ نيل NELA، ولكنا لا نوافقه على ما ذهب إليه من الإشارة إليها, على أنها من بين الطرق الثلاث المتبعة في صياغة القصة الخبرية، بل نميل إلى القول بالطريقتين الأخيرتين إلى أن يأتي الوقت الذي يبتدع فيه المحررون النابهون طائفة من الطرق الأخرى. وإذا نظرت معي أيها القارئ في الطريقة الثانية -وهي طريقة الترتيب الزمنيّ المعكوس- وجدتها تُعْنِي بنتيجة الحادثة أولًا- فتأتي بها في أول القصة، ثم تندرج منها إلى الوقائع التي أدت إليها. وهذه الطريقة الثانية أكثر اتباعًا في الصحف السيّارة، وإن احتاجت من المحرر إلى جهدٍ أكبر، ووقتٍ أطول. أما الطريقة الثالثة والأخيرة -وهي طريقة التشويق- فإنها أفضل الطرق جميعًا، وفيها يستطيع المحرر أن يغلب على فتور القارئ، وذلك بأن يوفر له العنصر الدراميّ، وفيها كذلك إهمال تام للعنصر الزمنيّ؛ إذ المهم في هذه الحالة هوالحادث نفسه وصورة وقوعه، وحتى النتيجة نفسها تأتي في الأهمية بعد الصورة, أو الكيفية, أو العنصر الدراميّ في مثل هذه القصة. غير أن هذه الطريقة الأخيرة تتطلب من التحرير تفكيرًا أطول,

ومهارة أكبر، وإنها لا يحسنها في الواقع إلّا كاتب بارع، أو محرر متمرن، وهو بهذه البراعة، وهذه المرانة, قادر على التصرف في القصة الخبرية تصرفًا صحفيًّا سليمًا جاريًّا في الوقت نفسه مع الأصول والقواعد التي أشرنا إليها. وقبل الفراغ من هذا الفصل يجدر بنا أن ننبه القارئ هنا إلى أننا في تطبيق الطرق الثلاث على صياغة الخبر, إنما عنينا بشيءٍ واحد فقط، وهو كتابة صدر الخبر, والطرق المتبعة غالبًا في كتابة هذا الصدر، وأهملنا العناية بالعنوان من جهةٍ, وصلب الخبر من جهةٍ ثانيةٍ. والحقيقة التي لا نزاع فيها, أن صدر الخبر أهم في نظر الصحيفة ونظر القارئ من صلب الخبر؛ لأن هذا الأخير -وهو الصلب- هو مكان التفاصيل التي تملأ بها الصحيفة فراغها غالبًا، وهي لذلك إنما نكتب دائمًا "البنط" الدقيق أو الخفيف، ويقع جزء منها في الصحيفة التي كتب فيها صدر الخبر، وتقع الأجزاء الباقية من هذه التفاصيل في الصفحات الأخرى من الصحيفة, أما القرّاء فلا يمضي منهم في قراءة هذه التفاصيل عادةً إلّا مَنْ يسمح له وقته بهذه القراءة، ومن هنا جاء اهتمام الصحيفة دائمًا بصدور الأخبار دون جسومها أو أصلابها، وكان الجهد الفنيّ الذي يبذل في كتابة هذه الأصلاب أقل بكثير جدًّا من الجهد الفنيِّ الذي يبذل في كتابة الصدور. وذلك ما أردنا أن نلفت إليه نظر القارئ حتى يفهم أن القصة الإخبارية على الصورة التي قدمناها له, يجب أن تكون لها بقيةٌ تقصر وتطول حسب التفاصيل التي استطاع مخبر الصحيفة جمعها, وتزويد صحيفته بها, حتى تستطيع كتابة القصة كاملة. وللصحيفة ذاتها بعد ذلك أن تتصرف في هذه التفاصيل, فتكتب منها ما تريد في الطبعة الخاصة بالعاصمة، وتكتب منها ما تريد أيضًا في الطبعة

خاصةً بالأقاليم، وإن كان المتبع في الغالب أن طبعة الأقاليم -حيث يتسع الوقت أمام الجمهور القارئ- تكون مزودةً بقدرٍ أكبر من التفاصيل التي لا تتسع لها طبعة العاصمة، وحيث لا يتسع الوقت فيها للقارئ لكي يأتي على هذه التفاصيل من أولها إلى آخرها. الأخبار الكبيرة, أو الأخبار ذات الزوايا المتعددة: من الأخبار الداخلية, أو الخارجية, مما يمس عددًا محدودًا من القراء، ومنها ما يمس عددًا كبيرًا منهم، وقد ألمعنا إلى ذلك عند الكلام عن "تقويم الخبر"، وسمينا النوع الأخير بالأخبار الضخمة، أي: التي يهتم بها أكبر عدد ممكن من القراء، أو التي تمس مشكلةً من أهم المشكلات السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. وهذا النوع الأخير من الأخبار فوق أنه يوصف بالفخامة, فإنه يوصف كذلك بأنه متعدد الزوايا, والمقصود بالزوايا هنا: الوحدات أو النواحي الكثيرة التي يتألف منها الخبر الصحفيّ, أو الجهات العديدة التي يهمها الخبر, وهنا تحتاج كل وحدة من هذه الوحدات, أو ناحية من النواحي, إلى مندوبٍ صحفيٍّ خاصٍّ يأتي بمعلوماتٍ عنها، وعلى الصحيفة في النهاية أن تؤلف من جميع هذه الزوايا أو النواحي خبرًا كبيرًا يهم القراء أن يقفوا عليه، وكثيرًا ما يقوم رئيس التحرير بدراسة الموضوع الخبريّ في ذاته، ثم يتولى تقسيم المحررين أو المندوبين الإخباريين على نواحي هذا الخبر وزواياه بعد ذلك. ولنبدأ أولًا بضرب الأمثلة على هذه الأخبار الضخمة, أو الأخبار المتعددة الزوايا، فمنها على سبيل المثال: * خبر ثورة داخلية كبرى؛ كثورة مصر في 23 "تموز" يوليه 1952, وثورة العراق في 14 تموز "يوليه" سنة 1958. * خبر عدوان خارجيّ على البلاد؛ كالعدوان الثلاثيّ على مصر سنة 1956.

خبر حادث كبير؛ كحادث تأميم قناة السويس الذي كان سببًا في العدوان الثلاثيّ على مصر كما هو معروف. - حادث انتشار وباء خطير؛ كالطاعون أو الكوليرا. - حادث زلزال, أو انفجار بركان. - حادث عصابة كبيرة تتجر في المخدرات. - حادث سقوط جسر من الجسور, في جهةٍ كالقناطر الخيرية بالقاهرة، وهو المعروف هناك "بالكبري الهزاز". وسنضرب المثل هنا أولًا، بحادث تأميم قناة السويس: عندما أعلن الرئيس عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس، وكان ذلك في مساء اليوم السادس والعشرين من يوليو "تموز" سنة 1956", شعرت الصحافة العالمية عامَّةً, والصحافة المصرية بوجهٍ خاصٍّ أنها أمام خبر في غاية الضخامة، واهتمت الصحف المصرية يومئذ بالنواحي الآتية وهي: الناحية الأولى: الخطبة التي ألقاها الرئيس عبد الناصر واستمعت إليها الجماهير بأعصابٍ متوترةٍ وأنفاس مبهورة، بينما كان الملايين من الناس في الإسكندرية وغيرها من المدن المصرية يحدقون بأجهزة الراديو, أما المعلقون السياسيون من الأوربيين, فوصفوا هذه الخطبة بأنها كانت أقوى من قنبلة مدوية أصمت آذان الاستعمار, وأذهلته عن نفسه. الناحية الثانية: كيف تَمَّ الاستيلاء على مركز الشركة في السويس، وذلك في أثناء الخطاب الذي ألقاه الرئيس، أو كيف طرد الضباط المصريون جميع الأجانب التابعين لهذه الشركة من مكاتبهم, واحتلوا هذه المكاتب. الناحية الثالثة: كيف تَمَّ الاستيلاء كذلك على مكاتب المركز العام للشركة في القاهرة نفسها.

الناحية الرابعة: من هم أعضاء الإدارة الجديد بعد أن ألغى القرار الذي أصدره جمال عبد الناصر مجلس الإدارة القديم. الناحية الخامسة: ماذا تقول وكالات الأنباء الخارجية عن هذا الحادث، وماذا تقول الصحف والإذاعات الأجنبية كذلك؟ كل هذه الأمور تشعبت عن حادثٍ واحدٍ، هو حادث تأميم قناة السويس، وثَمَّ أمورٌ أخرى تشعبت عنه كذلك لا نريد الإطالة فيها، وكل واحد من هذه الأمور، أو كل زاوية من هذه الزوايا تحتاج إلى محرر مسئول لتغطية الأخبار والمعلومات التي تتصل بهذه الناحية أو الزاوية. ومن مجموعة هذه الأخبار والمعلومات تتألف القصة الإخبارية الضخمة ذات الزوايا المتعددة، وتبذل هيئة التحرير مجهودًا فنيًّا كبيرًا في صياغتها, حتى يفهمهما القارئ فهمًا مستقيمًا من جهةٍ, وكاملًا من جهةٍ ثانيةٍ، وحتى لا تحمل القارئ مهمة ترتيب الوقائع، أو استخلاص النتائج, وتفسير البيانات والتصريحات, ونحو ذلك. كيف تصاغ القصة المتعددة الزوايا: قلنا: إن على رئيس التحرير أن يوزع محرريه في الصحيفة على جوانب الموضوع الإخباريّ الكبير؛ بحيث يستقل كل واحد منهم بجانبٍ واحدٍ فقط من جوانبه, ويستطيع كل واحد من أولئك المحررين بعد ذلك أن يكتب الموضوع كما لو كان هذا الموضوع سينشر في الجريدة مستقلًا عن سائر الموضوعات, أو الأجزاء التي يتألف منها الخبر, وبهذه الطريقة يستطيع المحرر المختص بزاويةٍ من الزوايا أن يضع خلاصةً لأهم ما حصل عليه من المعلومات خاصًّا بزاوية، ثم يقدم كل هذه الجوانب, أو الزوايا إلى رئيس التحرير، وفي استطاعة هذا الأخير بعد ذلك أن ينظر في صدور هذه الموضوعات الخبرية؛ ليعرف من أين يبدأ كتابة الخبر الكبير في الصحيفة، كما يستطيع رئيس التحرير بعد ذلك أن ينظر

في جسوم هذه الموضوعات الإخبارية؛ ليعرف أيَّ التفاصيل أهم من الأخرى، ويرتبها ترتيبًا خاصًّا؛ بحيث يقدم الأهم على المهم منها, وهكذا. ومرةً أخرى نعود إلى شرح الطريقة التي تكتب بها القصة الكبيرة, أو الضخمة, أو ذات الزوايا المتعددة. فكيف يكتب الصدر أولًا؟: يمكن لرئيس التحرير أن يكشف بذوقه الصحفيّ عن المحور الذي تدور عليه القصة, ويبدأ به كتابتها, كما يمكن لرئيس التحرير بعد ذلك أن يعرف أبرز ما في القصة كلها من موضوعاتٍ لكي يقدمها للقارئ, ثم يأتي بما هو أقل أهميةً, ومن الجائز أن يتسع صدر الخبر الكبير لأكثر من موضوع واحد، بل إنه ليتسع أحيانًا إلى موضوعاتٍ كثيرةٍ في وقت واحدٍ متى رأى رئيس التحرير أنها متساوية في الأهمية. مثل للخبر المتعدد الزوايا: يضرب أحد الصحفيين مثلًا لذلك, خبرًا عن إضراب سائقي السيارات المسماة "باللوري" احتجاجًا على إجراءٍ معينٍ اتخذه أصحاب هذه السيارات ضد سائقيها، ولذلك اتفق السائقون على الالتجاء إلى العنف في حركة الإضراب التي سيقومون بها. وبدأ الإضراب فعلًا، وجاءت الأنباء إلى المحرر المسئول من مختلف المندوبين الموزعين في أماكن مختلفة. وينظر المحرر المسئول في كافة العناصر التي وصلت إليه، ثم يختار منها واحدًا يدل على العنف الذي اتفق العمال عليه, فيجعل منه أول جملة, أو فقرة من فقرات الصدر, أو الجمل التي يتألف منها، كأن يكتب الفقرة الأولى بهذه الصورة:

"خمسمائة جالون من اللبن سكبت في الطريق الزراعيّ العام بين القاهرة وقليوب, عندما هاجم عدد كبير من العمال ست سيارات لوري محملة باللبن, وهي في طريقها إلى مصنع الألبان. أو أن يقول: وقف العمال القافلة وأرغموا السائقين على النزول من السيارات، وبدءوا في سكب اللبن قبل أن يتدخل رجال الشرطة الذين أسرعوا إلى مكان الحادث، وفي الفقرة التالية من فقرات الصدر يقول: "كان هذا الحادث أبرز ما وقع أمس ,بعد أن أعلن سائقو سيارات اللوري إضرابهم"1. وإلى الآن عنيت القصة الإخبارية بجانبٍ واحدٍ فقط, هو حركة الإضراب في ذاتها، غير أن على رئيس التحرير ومعاونيه أن يعنوا فوق ذلك بالجوانب أو الزوايا الأخرى من زوايا هذه القصة الإخبارية الكبيرة, ومنها الزاوية الإخبارية التي تهم أصحاب المصنع, والزاوية الإخبارية التي تهم الجمهور المنتفع, والزاوية الإخبارية التي تهم الحكومة. وينبغي أن يشتمل صدر الخبر على جملٍ أو فقراتٍ توضح هذه الزوايا الأخيرة، ثم يأتي جسم القصة الإخبارية بعد كل ذلك, وبه جميع التفاصيل التي وردت إلى الصحيفة عن كل زاوية من زوايا القصة الإخبارية كلها, وبذلك تنتهي هذه القصة.

_ 1 جلال الدين الحمامصي "المندوب الصحفيّ" ص125و 126.

الأخبار الخارجية

الأخبار الخارجية: أصاب الأستاذ "أدمون برك" Edmond Burke حين قال: "إن الصحافة هي تاريخ العالم كله في يوم". ذلك أنه كان على الصحيفة منذ نشأتها أن تطلع القراء على ما يحدث في الداخل, وما يحدث في الخارج، والصحيفة بدون هذا العمل بشقيه الداخليّ والخارجيّ لا قيمة لها في الواقع. أهمية الخبر الخارجيّ: تحتاج الشعوب الآن أكثر من أيِّ وقتٍ مضى إلى أن يفهم بعضها بعضًا، وأن يتعاون بعضها مع بعضٍ، وأن تؤمن كلها بهذا المبدأ الذي يسود غيره من المبادئ الأخرى في عصرنا هذا، وهو "مبدأ التعايش السلميّ". ولكي تفهم الشعوب بعضها بعضًا على الوجه الصحيح، وطريقها إلى ذلك واحد دائمًا، هو العناية التامة بوسائل الإعلام المختلفة، ومن أهمها الصحافة، فعلى هذه الصحافة إذن, أن تَعْبُرَ الحدود السياسية بين الدول، ليس فقط في أوقات الحروب والتوتر الدوليّ، والأزمات السياسية، بل في أوقات السلم أيضًا، وعلى الصحافة دائمًا أن تقوم بدور الوسيط بين هذه الدول والشعوب، وأن تكون طريق التعارف السليم بينها دائمًا، وفي ذلك وحده ما يضمن السلام العالميّ والاستقرار الدوليّ، والتعايش السلميّ، وبدونه يصبح السلام أمرًا صعبًا في عالمٍ تتهدده عوامل الانحلال، وتسري في جسده حُمَّى الانقسام، ويذود النوم عن أجفانه شبح الحرب!

إننا بدون الأخبار الخارجية نعيش في ظلام تامٍّ، ونشعر أننا غرباء في هذا العالم الذي ربطت بين أجزائه مصالح مشتركة، ووصلت بين أطرافه شَتَّى طرق المواصلات، وأصبح كالأسرة الواحدة في البيت الواحد، لا غنى لأيِّ فردٍ منها عن الوقوف على أخبار الآخرين. والباحث في تاريخ الصحافة المصرية منذ نشأتها إلى يومنا هذا, لا يسعه إلّا الاعتراف بهذه الحقيقة، وهي أن الصحف المصرية ربما كانت من أكثر صحف العالم اهتمامًا بالأخبار الخارجية، فهي تقدمها دائمًا على الأخبار المحلية، وهي تفسح لها حيزًا كبيرًا من صفحاتها اليومية والدورية، وإلى عهدٍ قريبٍ كانت الصحف المصرية تفرد الصفحة الأولى لهذا النوع من الأخبار، وبقي الحال على ذلك حتى ظهرت أهمية الأخبار الداخلية, فاحتلت جزءًا كبيرًا من حيِّزِ الصفحة الأولى، وإذا قيست المساحة التي تشغلها الأخبار الخارجية من الصحف المصرية بالمساحة التي تشغلها هذه الأخبار من الصحف الأمريكية, وجد أن هذه الأخيرة لا تنشر من تلك الأخبار إلا ما يغطي ثلاثة أعمدة فقط من مائة عمود تشتمل عليها الصحيفة الأمريكية غالبًا, وأكثر ما تصل إليه الصحف الكبرى هناك أنها تشغل ما بين الثمن والخمس من مساحتها لهذا الغرض, وقبل نصف قرنٍ من الزمان, لم تكن الصحف الأمريكية تنشر من الأخبار الخارجية إلّا ما له أهمية قصوى. وإذا كانت مصر -أو الجمهورية العربية المتحدة- في الوقت الحاضر قد اتسعت علاقاتها أكثر من ذي قبل في المجال الدوليّ، وإذا كان ظهور الكتلة الآسيوية الأفريقية قد أحدث نوعًا من التوازن بين المعسكرين الشرقيّ والغربيّ، فمعنى ذلك: أنه أصبح للأخبار الخارجية مكانٌ مرموقٌ في الصحف العربية في وقتنا هذا, ربما كان أعظم بكثير من مكانها في أي وقت مضى.

طبيعة الخبر الخارجيّ: سبق لنا أن تعرضنا لتعريف الخبر من حيث هو، سواء أكان هذا الخبر محليًّا أم خارجيًّا، وسواء أكان هذا الخبر سياسيًّا أم غير سياسيٍّ، وقلنا عن الخبر: إنه الشيء الجديد الذي يهتم به القراء فور صدور الصحيفة. والحق أننا لا نجد صعوبةً ما في تعريف الخبر الداخليّ، فكل ما يقع في مصر, أو الجمهورية المتحدة, هو خبر داخليّ أو محليّ، وكل ما يتلعق بمصر, أو بالجمهورية العربية المتحدة, من الحوادث أو الأخبار التي تقع في الخارج هو أيضًا خبر داخليّ أو محليّ. فإذا صح ذلك -وهو صحيح بأغلبية الآراء- فإن الأخبار الخارجية هي أخبار ما يقع في خارج مصر, أو خارج الجمهورية العربية، وهي الأخبار التي يكون مصدرها الخارج في جميع الأحوال، وهي الأخبار التي تحتل الصفحة الثانية من أكثر الصحف المصرية في الوقت الحاضر, ومن الأمثلة عليها: - بريطانيا تتجاهل قرار الأمم المتحدة لحل مشكلة قبرص. - اليونان تبلغ الأمم المتحدة استياءها من خطة بريطانيا. - خمس هزات أرضية في ثماني ساعات تحدث خسائر فادحة. - بطلة عالمية في الرقص يحكم عليها القدر بألّا ترقص أبدًا. - مليون عامل يبدءون الإضراب في بريطانيا. - أمريكا تزود بريطانيا بصواريخ ذرية. - زعيمة شيوعية تفر من فينا. - رئيس وزراء روسيا يجتمع بالسفير البريطاني. تلك إذن أخبار خارجية: منها ما وقع في لندن، ومنها ما وقع في أثينا، ومنها ما وقع في فينا، ومنها ما وقع في موسكو، وهي أخبار تشترك جميعها في صفتين أساسيتين. أولاهما: أنها أخبار تصف أحداثًا وقعت في بلاد أجنبيةٍ تقع خارج حدود الجمهورية العربية المتحدة.

والثانية: أنها جاءت إلينا من مصادر خارجية. وهنا يصح لنا أن نسأل: هل يفهم من هذا أن كل ما يقع خارج حدود الجمهورية العربية المتحدة يعتبر أخبارًا خارجية، ومكانه من الجريدة هو صفحة الأخبار الخارجية؟ أو بعبارةٍ أخرى: ما القول في أخبار السودان، وأخبار الدول العربية الشقيقة؟ أتعتبر أخبارًا خارجية؟. لقد أجمع المسئولون عن الصحف المصرية على إجابةٍ واحدةٍ عن مثل هذه الأسئلة، وهذه الإجابة التي أجمعوا عليها: هي النظر إلى أخبار السودان والأقطار الشقيقة، بل الشرق الأوسط كله, على أنها أخبار داخلية, وليست خارجيةً بحالٍ من الأحوال. ونحن نعلم أن الأستاذ مصطفى أمين, رئيس تحرير أخبار اليوم -على وجه التمثيل- يقسم الأخبار إلى قسمين: الأول: هو الأخبار الداخلية، وهي أخبار مصر والجمهورية العربية المتحدة، والسودان والعالم العربي والشرق الأوسط. والثاني: هو الأخبار الخارجية، وهي أخبار بقية العالم. وصحيفة "أخبار اليوم" تعتبر نفسها صحيفة الشرق الأوسط، وليست صحيفةً محليةً بالمعنى الضيق، فتنظر مثلًا إلى سياسة أمريكا تجاه أندونيسيا على أنها مسألة داخلية، في حين أنها تنظر إلى النزاع بين أمريكا والصين الشعبية على أنه مسألة خارجية. ولهذا رأينا في الصفة الأساسية الأولى من صفات الخبر الخارجيّ، أنه خبر يصف أحداثًا وقعت في بلاد أجنبية خارج حدود الجمهورية العربية المتحدة.

أما الصفة الأساسية الثانية من صفات الخبر الخارجيّ، وهي أن هذا الخبر آتٍ إلينا من مصادر أجنبية، فاعتراضنا عليها: أنه ليس كل ما يأتي من مصادر خارجية يكون خبرًا خارجيًّا؛ إذ المعلوم أن هناك أخبارًا خارجيةً تتصل بمصر أو بالجمهورية العربية المتحدة ونشاطها في المجال الدوليّ، ومثل هذه الأخبار لا بد أن ننظر إليها على أنها داخلية محلية، ولا يجوز لنا أن ننظر إليها نظرةً أخرى. هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ ثانيةٍ، فإننا نرى أن بعض الأخبار الخارجية تأتي من مصادر مصرية, فقد يحدث مثلًا أن تستقي صحيفة مصرية بعض أخبارها الخارجية من بعض الدبلوماسيين الأجانب الموجودين في البلاد المصرية، وقد يحدث مثلًا أن تكون مصر مسرحًا لنشاط دبلوماسيٍّ أجنبيٍّ من نوع خاصٍّ، وعلى هذا, فإن أخبار هذا النشاط الدبلوماسيّ، أو الأخبار المستقاة من دبلوماسيين غير مصريين, يقيمون في البلاد المصرية، لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن ينظر إليها على أنها أخبار محلية داخلية، ولكنها من غير شك أخبار خارجية، وإن أبدت الصحف المحلية اهتمامًا خاصًّا بمثل هذه الأخبار، لا لشيءٍ إلّا لأنها تقع على مرأى ومسمع من القارئ المصريّ أو القارئ العربيّ. والذي نخرج به من مناقشة هذه المسائل، أنه ليس كل ما يقع في خارج حدودنا خبرًا خارجيًّا، وليس كل ما يأتي من خارج حدودنا خبرًا من هذا النوع أيضًا، إنما الأخبار الخارجية هي الأخبار التي تصف أحداثًا تقع في الخارج، ويكون مصدرها الخارج، ولا تكون مصر أو الجمهورية العربية طرفًا فيها بحالٍ ما، ولا تكون لها صلة بالعالم العربيّ، بل بالشرق الأوسط كله -في نظر بعضهم- كما رأينا. وبعبارةٍ أخرى: يمكن تحديد الأخبار الخارجية بأنها الأخبار التي تصف النشاط السياسيّ وغير السياسيّ, مما يقع في الدول الأجنبية خارج

حدود الجمهورية العربية المتحدة, أو النشاط الأجنبيّ الذي يقع في داخل حدود هذه الجمهورية، ولا تكون مصر أو سوريا أو أي جزء من أجزاء هذا العالم العربيّ طرفًا فيها بحالٍ ما، ويكون مصدر هذه الأخبار خارجيًّا في الأعم الأغلب، ومحليًّا في حالات قليلة الوقوع. أنواع الأخبار الخارجية: الأخبار الخارجية هي كل ما ينشر في الصحيفة بالمعنى المتقدم، ويهم القراء أن يطلعوا عليه، وهي أنواع، منها: أولًا: الأخبار السياسية: وهي تؤلف الغالبية العظمى من صفحة الأخبار الخارجية، وكثيرًا ما تكون لها الصدارة في الصحف العربية؛ فتحتل مكانًا مرموقًا بالصفحات الأولى. ومن الأخبار السياسية ما يصف تطور العلاقات بين الدول، كأخبار المحادثات، والمفاوضات، والمؤتمرات، والاتفاقات، والمعاهدات، والانقسامات، ونحو ذلك. ومنها ما يصف النشاط السياسيّ لدولة من الدول، كخبر استقالة وزارة، وتأليف أخرى، وخبر معركة انتخابية، أو ثورة محلية، أو حرب أهلية، أو فتنة سياسية. ومنها ما يصف سير الحرب بين دولتين, مما يهتم له السواد الأعظم من القراء، وتعنى به الصحف عنايةً خاصة. ثانيًا: الأخبار ذات الطابع الإنسانيّ، كأخبار الأطفال، والحيوان، والكوارث الطبيعية، والحوادث التي تسبب خسارةً في الأرواح والممتلكات، وكأخبار العلاقات الاجتماعية: من زواج، وطلاق، وخاصة منها ما اتصل بالمشهورين والمشهورات. ثالثًا: الكشوف العلمية، وفي مقدمة هذه الكشوف أخبار الذرة،

والقنابل الذرية، والقنابل الهيدروجينية، ثم الأخبار الطبية العلاجية، وأخبار القضاء، والأقماء الصناعية، وما إلى ذلك. وقريب من هذه الأخبار كذلك أخبار الأدب، والجوائر الأدبية، وخاصةً جائزة نوبل، وأخبار الفلاسفة ودعاة السلام، وحماة الأخلاق, ورجال الإصلاح, ونحوهم. رابعًا: الجرائم، وقد أصبح لأخبار الجريمة مكان عظيم، وأهمية كبيرة في الصحافة الحديثة، باستثناء الصحافة الروسية السوفيتية. خامسًا: الطرائف، وهي ضروب شَتَّى، وألوانٌ متباينةٌ، ومصدرٌ للخبر الخارجيّ لا ينضب له معين، ولا تجف له مياه، ولا يسكت له صوت. فهذا ثور مات, وثمنه خمسون ألف دولار، وهذا طائر فرعونيٌّ عُثِرَ عليه في انجلترا، وتلك علبة للتدخين كان يملكها نابليون بونابرت، وهذه ساعةٌ ثمينةُ كان يملكها قيصر، وهكذا. مصادر الأخبار الخارجية: تستمد الصحيفة هذه الأخبار عادةً من المصادر الآتية: المصدر الأول: وكالات الأنباء: ولعل هذا المصدر هو أهم المصادر على الإطلاق، وقد تبين من الإحصاءات أن أكثر من 95% من الأخبار الخارجية تأتي عن هذا الطريق، وأن من تتاح له زيارة هذه الصحف يرى كيف تعمل أجهزة استقبال هذه الأخبار Tickers ليل نهار، وتمد الصحف بأنبائها أولًا بأول، ولا تتوقف عن العمل لحظةً واحدةً في اليوم، ولا تستريح فترةً معينةً في الأسبوع، ولا تتمتع بإجازة معلومة في السنة، ومع هذا وذاك, فإن الصحف لا تنشر من برقياتها -التي تتدفق عليها كالسيل- إلّا جزءًا يسيرًا للغاية. وتزداد الحاجة إلى هذه الوكالات؛ لأن تكاليف المراسلين والمندوبين

الخصوصيين من قِبَلِ الصحيفة إلى مختلف أنحاء العالم, وتكاليف البرقيات التي يبعث بها أولئك المراسلون أو المندوبون إلى صحفهم، هي في الواقع، فوق طاقة الصحف في الوقت الحاضر، ومن يدري, لعلها تصبح ما يمكن تحمله في المستقبل. وقد درجت الصحف اليومية في الجمهورية العربية على أن تستقي البرقيات الخارجية من الوكالات الآتية: - وكالة رويتر الإنجليزية. - وكالة أليونيتد برس الأمريكية. - وكالة الأسوشيتدبرس الأمريكية أيضًا. - وكالة أنا الإيطالية. - الوكالة الفرنسية "وقد تعطلت الآن". - وكالة تاس السوفيتية. وعلى الرغم من أن هذه الوكالات تحاول أن تكون أمينةً دقيقةً في برقياتها, إلّا أن أنباءها لا تسلم من التحيز, والذي لا مراء فيه, أن ما دام الاستعمار قائمًا، وما دامت الدول الكبرى لا تنزع هذا المنزع إلى يومنا هذا، فإنه لا معدي لهذه الوكالات عن مثل هذا التحيز الذي يصدر عنها، ومن هنا تظهر أهمية الاقتراح الذي تقدمنا به في كتابنا: "مستقبل الصحافة في مصر"، وهو أن تكون هناك وكالة أنباء تابعة للأمة المتحدة؛ بحيث يتسنى لهذه الوكالة أن تنشر الأخبار الصحيحة التي لا تخدم دولة بعينها، ولا مذهبًا بعينه، وإذا انحرف عضو من من أعضاء هذه الوكالة عن الصواب, تَعَرَّضَ للعقاب من جانب هذه المنظمة العالمية وحدها، لا من جانب حكومة من الحكومات، وبذلك يتمتع أعضاء هذه الوكالة

بحصانةٍ دوليةٍ تمكنهم من القيام بعملهم على أحسن وجه مستطاع1. والمهم أن هذه الوكالات السابقة ترسل برقياتها إلى الصحف إما باللغة الإنجليزية أو بالفرنسية، ومن هنا كان العمل الرئيسيّ لمحرري القسم الخارجيّ في الصحيفة, هو ترجمة هذه البرقيات إلى اللغة العربية, وإن من الحق أن يقال أيضًا: إن عمل محرري القسم الخارجيّ لا يقتصر في الواقع على الترجمة، وإنما يتعداه إلى شيء آخر سنشرحه فيما بعد. أما وكالة "آنا" الإيطالية, فإنها تقوم بترجمة برقياتها إلى اللغة العربية، وذلك عن طريق الفرع التابع لها بمدينة القاهرة، وقد بدأت وكالة "رويتر" تخدو حذو الوكالة الإيطالية في ذلك، وترسل برقياتها المترجمة إلى العربية عن طريق وكالة أنباء الشرق الأوسط. المصدر الثاني: المراسل الخارجيّ أو الأجنبيّ، وهو مصدر هام من مصادر الأخبار الخارجية في الواقع, وما من صحيفة كبرى تستطيع أن تستغني عن هذا المراسل, إلى جانب اعتمادها اعتمادًا ظاهرًا -كما قدمنا- على وكالات الأنباء، ولكل صحيفة مصرية مراسلوها؛ في كل من لندن، وباريس، ونيويورك، وروما، وأثينا، ودلهي، وأنقرة، وغيرها من العواصم الكبرى. ومع ذلك, يمكن القول هنا بأن وكالات الأنباء حصرت عمل المراسل الأجنبيّ في أضيق نطاق، فلم يعد هذا المراسل مطالبًا أمام صحيفته بأن يرسل إليها كل أخبار البلد الذي يعمل فيه، وإلّا جاءت برقياته التي تكلف الصحيفة أثمانًا باهظةً, تكرارًا لما تأتي به وكالات الأنباء على اختلافها، ولذلك نجد أن أهم ما يعني به المراسل المصريّ، أو العربيّ في الخارج، إنما هو موافاة الصحيفة بالأخبار الخاصة بمصر والجمهورية العربية المتحدة، والعالم العربيّ، والشرق الأوسط عامة.

_ 1 انظر الكتاب المذكور, ص220و 221.

على أن هذا المراسل الأجنبيّ الذي تبعث به صحيفةٌ مصريةٌ إلى عاصمة من تلك العواصم الكبرى, إنما يكتب برقياته إلى الصحيفة باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وأحيانًا باللغة الإيطالية. ويمكن القول باختصار: إن الصحيفة تعتمد على هذا المراسل الأجنبيّ غالبًا في تكوين شخصيتها الإخبارية التي تتميز بها عن شخصيات الصحف الأخرى, ما دامت جميع هذه الصحف تشترك في الاعتماد على وكالات الأنباء، ثم تنفرد كل واحدة منها بمراسيلين تبعث بهم من قبل إلى البلاد الخارجية. المصدر الثالث: الإذاعات الأجنبية: الحق أن نشرة الأخبار التي تذيعها الإذاعات الأجنبية على اختلافها, تعتبر مصدرًا هامًّا من مصادر الأخبار الخارجية، وقد توسعت الإذاعات في مثل هذه النشرات حتى أصبح تقديم الأخبار من أهم الأغراض التي تنشأ من أجلها محطات الإذاعة في العالم. وفي وسع الصحف دائمًا أن تحصل بسهولة على طائفة من الأخبار "الجاهزة" بسرعةٍ عظيمةٍ عن طريق هذه النشرات التي نشير إليها, مع الالتفات التام إلى هذه الحقيقة، وهي أن النشرة الإخبارية الصادرة عن الإذاعة إنما تخضع خضوعًا تامًّا في أكثر الدول لإشراف الحكومة. وهنا يجدر بنا أن ندعو كذلك إلى إنشاء محطة للإذاعة, تكون تابعةً تبعيةً مباشرةً للأمم المتحدة, أسوة بوكالة الأنباء التي اقترحنا تبعيتها كذلك لهذه المنظمة الدولية. المصدر الرابع: الصحف الأجنبية لا ينكر أحد أن الصحف العالمية الكبرى تعتبر مصدرًا هامًا من مصادر الأخبار، وخاصة إذا علمنا أن هذه الصحف الكبرى تعتمد على مجموعة ممتازة من مراسليها في الخارج، وفي مقدمة هذه الصحف في الواقع:

- جريدة التايمز اللندية. - جريدة النيويورك تايمز. - المانشستر جارديان. - الديلي ميلي. - الأيكو نومست. - الديلي هرالد. - سي سوار. ومن ثَمَّ أوجبت الصحف العربية على نفسها الاشتراك في تلك الصحف الأجنبية, والاعتماد عليها أحيانًا في كتابة المهم من الأخبار الخارجية. تلك هي أهم المصادر التي تستقي منها الصحافة العربية أنباءها عادةً، وأنت ترى أن هذه المصادر تبعت ببرقياتها باللغة الأوروبية لا العربية إلّا نادرًا، ومن ثَمَّ كانت الصحف العربية تعاني من الصعوبات المضنية في تحرير الأخبار الخارجية, ما لا تحتاج الصحف الأجنبية إلى معاناته، ولا شك أن هذا عبء من الأعباء الثقيلة التي تواجهها الصحافة العربية، ولا تواجهها الصحافات التي بإحدى اللغات الأوروبية. وهذا يجرنا إلى النقطة الهامة والأخيرة من نقط هذا الفصل، وهي: تحرير الخبر الخارجيّ: عرفنا فيما سبق أن أهم ما يميز الخبر الخارجيّ: أولًا: أنه يأتي من الخارج غالبًا. ثانيًا: أنه يأتي مكتوبًا بلغة أجنبية غير اللغة التي تصدر بها الصحيفة العربية.

ثالثًا: أن موضوعات الخبر الخارجيّ بعيدةً عن القارئ العاديّ، بعيدةً كذلك عن محرر الخبر الخارجيّ نفسه، إلى أن يكتب عنها بقلمه. رابعًا: أن الخبر الواحد تتعدد مصادره، وتختلف وجهات النظر فيه اختلافًا بينًا، فأزمة وزارة في فرنسا تعتبر خبرًا يحمله البرق, ويطير به من وكالة أنباء إلى وكالةٍ أخرى، وينقله المراسلون الأجانب من بلد لآخر، وتنشره الصحف الأجنبية، كلٌّ بطريقتها الخاصة، وبما يتفق وسياستها التي تسير عليها في إصدار هذه الصحف. خامسًا: هكذا يجد محرر الخبر الخارجيّ نفسه أمام سيلٍ من البرقيات الخارجية، كلها تتحدث عن موضوع واحد، وكلها تحاول أن تفسر هذا الموضوع الواحد، ويكون على المحرر وقتئذٍ أن يفاضل بين هذه الطرق والتفسيرات والاتجاهات المختلفة، ويستخلص منها الخبر الذي يريد أن ينشره في الصفحة الخارجية نشرًا يتفق والصحيفة التي يعمل فيها. الترجمة: على محرر القسم الخارجيّ بعد ما تقدَّم, أن يقوم بدور الترجمة، ولعله منذ تعطيل وكالة الأنباء الفرنسية, أصبحت اللغة الإنجليزية هي اللغة الوحيدة التي ترد بها البرقيات من وكالات الأنباء, والمحرر الخارجيّ يرى نفسه ملزمًا بقراءة هذه المواد التي تمده بها وكالات الأنباء، وترجمتها، على النحو المتقدم، ومن هنا لم يزل القسم الخارجيّ في الصحف المصرية يسمى: "قسم الترجمة"، ومن هنا أيضًا جاءت أهمية هذه المادة بين مواد الدراسة في أقسام الصحافة بالجمهورية العربية إلى اليوم. فالترجمة إذن, عنصر من عناصر تحرير الخبر الخارجيّ، وربما اقتصر عمل المحرر الخارجيّ أحيانًا على مجرد الترجمة، على أن النجاح في هذا الفن من فنون الصحافة العربية -وهو الترجمة- يقتضي في الواقع مهارة

وتفوقًا في اللغة المترجم منها، واللغة المترجم إليها في وقت معًا، والمحرر الضعيف في إحدى اللغتين لا يُنْتَظَرُ له نجاحٌ في هذا العمل. وهذان المطلبان يستوي فيهما المترجم الصحفيّ والمترجم غير الصحفيّ، ولكن الترجمة الصحفية في الأقسام الخارجية تتطلب من المحرر أمورًا أخرى, أهمها ما يلي: أولًا: أن يكون دقيقًا في ترجمته, أبعد ما تكون الدقة، وخاصةً حين يتعرض لترجمة التصريحات الهامة، والبيانات الرسمية، والمعاهدات أو الاتفاقات الدولية, فإن أقل خطأ أو تحريف في ترجمة هذه الموضوعات، قد تترتب عليه أمور جسام، وحوادث كبيرة، ونتائج على جانب من الخطورة في العلاقات بين الدول، فقد يؤدي الخطأ في الترجمة إلى سوء فهم بين دولتين من هذه الدول، ويؤدي سوء الفهم إلى قيام حرب, أو على الأقل يفضي بأحد الطرفين إلى سلوك معين، ويرد عليه الطرف الآخر بسلوك مماثل، وبذلك تسوء العلاقات، وتسوء العواقب. وقد تتطلب البرقية من المحرر أن يقوم بترجمة النص الذي أمامه ترجمةً حرفيةً، وهذا الأسلوب من أساليب الترجمة لا غنى عنه في ترجمة المعاهدات والمواثيق الدولية، وقرارات الهيئات، والمؤتمرات، والتصريحات الرسمية التي تصدر عن المسئولين، وبخاصة في الأوقات التي تشتد فيها الأزمات السياسية. ولكن ليس معنى ذلك أن تجور الدقة في الترجمة على سلامة الأسلوب العربيّ، وتفقده رونقه وصحته وروعته، فلا بد إذن من المحافظة على خصائص الأسلوب العربيّ: نحوًا وتركيبًا وصياغةً وترتيبًا، وإلّا أضحت الترجمة نفسها غير مفهومة ولا مستساغة. ثانيًا: أن يكون المحرر عارفًا بالمصطلحات السياسية، أو التعبيرات الدبلوماسية، والعسكرية، والاقتصادية، والأدبية، والفنية، والعلمية, ونحوها, مما يرد في البرقيات على اختلافها، وعلى المحرر ألَّا يخلط بين هذه

المصطلحات بشكلٍ أو بآخر، فاللفظ الواحد قد يكون له قصد ما في موضوع من الموضوعات العسكرية، ويكون له قصدٌ ثانٍ في موضوع آخر، ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلّا بالمرانة، وليس على المحرر ضرر ما في هذه الحالة في أن يستعين بالمعاجم الخاصة التي ربما أفادته في فهم المصطلح الذي يرد ذكره في برقية من البرقيات، وخاصةً إذا كانت البرقية، مما يعالج موضوعًا فنيًّا خالصًا، أو علميًّا خالصًا، أو نحو ذلك، ولا بأس على المحرر أيضًا من الاتصال في هذه الحالات بالمختصين في كل مادة من المواد, يستوضحهم بعض هذه المصطلحات، ويعرف منهم ما يقابلها في اللغة العربية، فلا بد أن هؤلاء المختصين قد اهتدوا قبله إلى مثل ذلك لحاجتهم الماسة إليه، وذلك بطبيعة الحال أسلم للمترجم في قسم الأخبار الخارجية من التخبط في ترجمةٍ ربما لا تكون دقيقةً ولا أمينةً، على حين أنه قد تكون لهذا المصطلح أو ذاك ترجمةً دقيقةً عند المتخصصين قد جرت بها ألسنتهم، وكتبوها واستخدموها في كتبهم ومؤلفاتهم. ثالثًا: ينبغي للمحرر أن يتعرف قدر المستطاع على أساليب وكالات الأنباء، وأن يميز بين أسلوب وكالة منها, وبين بقية الوكالات الأخرى. وقد دلت التجربة على أن لكل واحدة من هذه الوكالات طريقتها الخاصة في عرض الأنباء، وأن لكل منها طريقتها الخاصة كذلك في الحكم على مدى الدقة التي تتوخاها كل وكالة منها في نقل الخبر، كما تعينه على كشف التحريف, أو التهويش الذي تعمد إليه الوكالة في بعض الأحيان لغرض من الأغراض. ويتصل بهذه الناحية كذلك أن يجتهد المحرر في معرفة الأساليب التي يمتاز بها كبار المسئولين العالميين ممن ترد أسماؤهم بكثرة في ثنايا الأخبار، وبذلك يستطيع المحرر أن ينقل هذه التصريحات نقلًا صحيحًا إلى القارئ العربيّ.

والمعلوم أن لكبار الساسة لغةً ليست كاللغة المعتادة، وكثيرًا ما تصدر عنهم تصريحات لها ظاهر ولها باطن، وأحاديث وبيانات تحتمل عدة معانٍ في وقت واحد, إذن فمعرفة اللغة التي يتكلم بها هؤلاء الساسة تعين المحرر على فهم تصريحاتهم وبياناتهم وخطبهم وأحاديثهم، وتكشف عَمَّا وراءها من الحقائق والأغراض. هذا كله من ناحية الترجمة، أمّا من ناحية التصفية أو الغربلة فنقول: ليس عمل المحرر الخارجيّ كله ترجمة، ونحن نعرف كذلك أن المحرر الخارجيّ قَلَّمَا يترجم البرقية بحذافيرها، اللهم إلّا إذا كانت هذه البرقية تشتمل على تصريح أو بيانٍ رسميٍّ، أو تحتوي على نصوص اتفاق أو معاهدة، أو نحو ذلك. إذ أن الذي يحدث عادةً هو أن المحرر يجد أمامه كومةً من البرقيات عن حادث معينٍ، ويأتي رئيس القسم الخارجيِّ فيطلب إليه أن يخرج من هذه الكومة, أو تلك خبرًا معينا على عمود، بمعنى أنه لا يكاد يزيد عن عشرة أسطر، وأمام المحرر أكوام كثيرة من هذه النوع تنبيء عن أحداث أخرى أكثر أهمية من الحدث الأول، ورئيس القسم الخارجيّ يلح كذلك على المحرر في أن يستخلص من هذه الأكوام موضوعًا خبريًّا على عمودين أو ثلاثة أو أربعة على الأكثر، وإذا عمد المحرر إلى ترجمة جميع البرقيات التي أمامه ضاق وقته ووقت صحيفته عن ذلك، فماذا يصنع المحرر الخارجيّ في هذه الحالة؟ الواقع أن تحرير الأخبار الخارجية عملٌ شاقٌّ في طبيعته، ونحن إذا حللنا هذا العمل وجدناه يتألف من الخطوات التالية: أولًا: تصفية البرقيات الواردة إلى الصحيفة، واختيار أكثرها أهميةً, والمفاضلة بين برقيات الوكالة المختلفة في الحادث الواحد، وهذه التصفية والاختيار والمفاضلة, إنما تقوم على أساسٍ من أهمية الموضوع من جهةٍ,

ومن تجربة المحرر نفسه مع هذه الوكالة, أو تلك من جهةٍ ثانيةٍ. ثانيًا: تصفية البرقية الواحدة، فإنها غالبًا ما تتألف من أجزاء متفرقة، منها المهم، ومنها غير المهم، وفيها الحشو، وفيها غير ذلك. وعمل المحرر الخارجيّ هنا هو استبعاد ما لا حاجة له به، والإبقاء على ما يحتاج إليه. ثالثًا: عدم التقيد بترتيب عناصر الخبر، كما أوردته الوكالة تمامًا، فقد تبدأ الوكالة بناحية لا تعد مهمة في نظر الصحيفة، ولا في نظر القارئ العربيّ، وقد تعمد هذه الوكالة إلى وضح جزء من الخبر في نهاية البرقيقة يوحي بعدم أهميته, وعمل المحرر في هذه الحالة هو أن يقرأ برقيات الوكالة قراءة فاحصة، ويلم بكل العناصر والنواحي الهامة في الخبر على عجلٍ، ثم يتصرف في هذه العناصر بما يتفق وسياسة الصحيفة من جانب، واهتمام القراء من جانبٍ آخر. رابعًا: على المحرر الخارجيّ دائمًا ألّا يعتمد على وكالةٍ واحدةٍ بعينها, حتى يطَّلِع على غيرها من الوكالات الآخرى في نفس الموضوع الذي يقدمه لقراء صحيفته. خامسًا: بعد الفراغ من تجميع العناصر المختلفة، والموازنة كذلك بين الوكالات المختلفة, تبدأ صياغة الخبر الخارجيّ، أو تبدأ المهمة الحقيقية للمحرر؛ إذ أن جميع الخطوات السابقة ليست إلّا ممهدةً لهذه الخطوة الهامة. على أن هذه الصياغة تختلف باختلاف حجم الخبر عادة، فإذا كان الخبر قصيرًا, وعلى عمود واحدٍ, فالمحرر يرى نفسه مضطرًا إلى الاكتفاء بنقطة واحدة، أو ناحية واحدة؛ لأن الخبر القصير لا يحتمل أكثر من ذلك. وهنا تظهر مقدرة المحرر الخارجيّ في اختيار أهم النقط التي يشتمل عليها الخبر، أو الزوايا التي يتألف منها. وكثيرًا ما يحدث أن المحررين يكتفون بأن يترجموا مقدمة البرقية, أو صدرها, لاشتمال هذه الصدر عادةً على خلاصة الخبر.

أما إذا كان الخبر الخارجيّ كبيرًا، كأن يكون موضوعًا من الموضوعات -كما هو مصطلح على تسميته بهذا الاسم في الأقسام الخارجية للصحف- فإن الصياغة تتطلب من المحرر في هذه الحالة أن يصيغ مقدمةً أو صدرًا للموضوع الإخباريّ، ولا بد أن يخضع هذا الصدر في صياغته لجميع الشروط التي يخضع لها الصدر عند كتابة الأخبار المحلية، وقد سبق أن ذكرنا طرفًا من ذلك في فصول أخرى، وبعد كتابة المقدمة, أو الصدر, تأتي الأجزاء الأخرى أو الصلب، فيكتبه المحرر في فقرات, أو جمل تقصر وتطول حسب الجزء الذي تعبر عنه هذه الجمل من أجزاء الخبر. ومن المحررين من يفضل الفصل بين هذه الفقرات بعنوان صغير، ومنهم من لا يفعل ذلك، وإذا كان الموضوع كبيرًا، أو كان يتألف من فقرات كثيرةٍ وجب أن يراعي المحرر التوازن بين أجزائه، بحيث لا يطغى جزء على آخر، ولا يتوسع المحرر في جزء على حساب آخر، ولكن يجب أن يراعي المحرر التناسب بين هذه الأجزاء قدر المستطاع. وبعد الانتهاء من صياغة الموضوع الإخباريّ تأتي مهمة "وضع العنوان المناسب"، وفي بعض الصحف يتولى رئيس القسم الخارجيّ وضع العنوان، وفي بعضها الآخر يترك للمحرر الذي تولى تحرير هذا الخبر مهمة وضع العنوان، والاتجاه السائد بين الصحف الآن هو ترك هذا الأمر للمحرر، وإن كان من حق رئيس القسم دائمًا أن يحدث ما يشاء من التغيير في صيغة العنوان بعد ذلك. وكتابة العنوان ليست بالعمل السهل، وبعض المحررين يظهرون نبوغًا في ذلك، وبعضهم يتعثرون كثيرًا، ويجدون عسرًا شديدًا في كتابة العنوان الناجح لموضوع الخبر، وإن كان للممارسة والتجربة دخل كبير في هذه الناحية, وثَمَّ ملاحظةٌ هامة، وهي أننا كثيرًا ما نرى أن عنوان الخبر الخارجيّ

في صحيفة من الصحف, يحمل في طياته رأي محرره في مضمونه عادة، بل يعد تعليقًا عليه، وتوجيهًا منه للقراء في فهم هذا المضمون على نحو خاص، من أجل ذلك وجب على المحرر الخارجي أن يجيء بعنوان معبر عن فحوى الخبر تعبيرًا دقيقًا بقدر المستطاع, من غير زيادة ولا نقصان، وأن يكون هذا العنوان متفقًا تمام الاتفاق مع سياسة الصحيفة التي تنشر هذه الأخبار. تلك هي طريقة تحرير الخبر الخارجيّ في صحفنا المصرية أو العربية، وهي طريقة تتطلب من المحرر-إلى جانب القدرة على الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية- محافظةً تامةً على فحوى الخبر، وبراعةً فائقةً في جميع أجزائه، وسرعةً وصبرًا على فحص هذه الأجزاء، والموازنة بينها في جميع الوكالات التي تعرضت لها، وموازنة سريعةً وسليمةً بين هذه الأجزاء لتقديم الأهم منها على المهم دائمًا، وأمانةً تامةص في القيام بكل هذه المهام على أحسن وجه مستطاع.

طبيعة اللغة التي يكتب بها الخبر

طبيعة اللغة التي يكتب بها الخبر: في اللغة التي يكتب بها الخبر، يقول بعض أساتذة الصحافة "وهو هنا الأستاذ ر. فليش R FLESH": "ما دامت الصحافة تتجه بالخبر إلى الطبقات الديمقراطية في الشعب، وما دامت هذه الطبقات تتزايد في كل بلد من بلاد العالم يومًا بعد يوم، فلا مفر من مسايرة اللغة الصحفية مسايرة تامةً لهذه الطبقات"1. ومعنى ذلك أننا نكتب ليفهمنا الناس, ومعنى ذلك أيضًا أن اللغة التي تكتب بها المادة الصحفية لا بد أن تتوافر فيها جملة أشياء منها: أولًا: إيثار الجمل القصيرة على الطويلة، بحيث لا تزيد الجملة على قدر معين من الألفاظ. وقد أجمع المشتغلون بالصحافة على وجوب تحذير محرر الأخبار من استخدام الكتابة الأدبية, أو الكتابة المنمقة في التحرير, واتفقوا جميعًا على العمل بهذه النصيحة التي تقول: استعمل الجمل القصيرة, واكتب بلغة سلسة ومفهومة. استعمل الكلمة التي تصيب الهدف، بدلًا من استعمال الكلمات العامة التي قد تعني أشياء كثيرة, منها مضافة إلى الهدف، فالألفاظ في أيامنا هذه يجب أن نعتمد على الدقة في استعمالها. ثانيًا: إيثار الفقرات القصيرة على الفقرات الطويلة، حتى تضمن الصحيفة انتباه القراء دائمًا، وتحتاج هذه المسألة إلى ما تحتاج إليه سابقتها

_ 1 راجع الملحق بالصفحة 26 من كتابي "الإعلام".

من التجارب الإحصائية, ولغة الأرقام في مثل هذه الأبحاث لا تحتمل الشك، ولا تضلل الصحف بحالٍ ما. ثالثًا: الحرص على استعمال الألفاظ المألوفة للقراء، وتجنب الألفاظ غير المألوفة, وليس القصد من ذلك هو الحرص على سلامة اللغة, من أن تكثر بها الألفاظ الأجنبية عنها، فللصحف أن تقول: "ماركة رالي" في الدراجات, ولا تقول: "علامة رالي"، ولها أن تقول: "محطة الأوتوبيس" ولا يصح أن تقول: "محطة السيارات العامة" وتقول: "ضاحية مصر الجديدة" ولا يصح أن تقول: "ضاحية هليوبوليس", وتقول: "راديو وتليفون" ولا يصح أن تقول "مذياع ومسرة". وحتى في مجال العلم الخالص, أو الفن الخالص, ينبغي للصحيفة عندما تنشر خبرًا من هذا النوع أن تقتصر ما أمكنها على استخدام المصطلحات المعروفة لأهل هذا الفن أو العلم؛ إذ من الجائز أن يطلع على هذا الخبر بعض الجمهور غير المثقف بهذه الثقافة، ولكنه يرغب في الاستفادة، وليس من شكٍّ في أن نشر الثقافة هدف من أجل أهداف الصحافة، فعليها أن تجعل الطريق سهلًا إلى هذا الهدف، كما أوضحنا ذلك في كتاب "فن المقال". رابعًا: الحرص على استعمال الأفعال المجردة, وتفضيلها على الأفعال المزيدة, أو المبالغ في اشتقاقها على صورة من الصور، ولا بأس هنا من استخدام الألفاظ المنحوتة حديثًا؛ لتدل على معنى من المعاني الحديثة أيضًا، كما في قولهم: تأقلم وتمذهب، وتبلشف، وكما في قولهم: التعايش السلمي، واللامركزية، والروتين الحكومي، ونحو ذلك. خامسًا: اصطناع الألفاظ والتراكيب التي يألفها القراء، أو التي تشعرهم بشيء من الإيناس, وهنا يحسن بالمحرر الصحفيّ أن يكثر من استعمال ضمائر الخطاب، وأن يتجنب ضمائر الغيبة بقدر المستطاع، وأن يشعر

القارئ باستمرار أنه يتحدث إليه كصديق، بل أخٍ شقيقٍ يلذ له أن يستمع إليه، ويصغي بكل جوارحه لكل كلمة من كلماته في الصحيفة، غير أن هذه النصيحة الخامسة, ألزم في كتابة المقال منها في كتابة الخبر, فتنبغي مراعاة ذلك. سادسًا: استعمال الفعل المبنيّ للمعلوم، وتجنب استعمال الفعل المبني للمجهول, إلّا عند الضرورة القصوى، أو عندما يستخدم المحرر في كتابته بعض الألفاظ التي اشتهرت بالبناء للمجهول كلفظ "عني بأمره"، "وأسقط في يده" ونحو ذلك. سابعًا: لا يجوز للخبر الصحفيّ أن يستعان فيه بالأشعار والحكم والأمثال وكلام الفحول من الكتاب والخطباء، فهذه الأشياء أدخل في باب الأدب الخالص, فضلًا عن أنها من أمارات الكتابة الأرستقراطية التي لا تفهمها إلّا طبقة خاصة من القراء، والجريدة إنما تخاطب الطبقات الدنيا أو الوسطى، أو التي سماها العلماء: بالطبقات الديمقراطية -كما قدمنا، ومعنى ذلك باختصار: أن المحرر ينبغي له دائمًا أن يضع نصب عينيه مستوى القارئ، فإذا كان قراء الصحيفة على جانب كبير من العلم, وجب عليه أن يكتب لهم بأسلوب يتناسب وهذا القدر من العلم، وإذا كانوا متوسطي الثقافة, وجب عليه أن يراعي هذا المستوى في تحريره مراعاة دقيقة, وفي هذه الأحوال جميعها لا تكون وظيفة المحرر الصحفيّ إثارة إعجاب القارئ بروعة الأسلوب وجمال التراكيب، وبلاغة الجمل, ونحو ذلك، فهذا كله لا يتلاءم وصياغة الأخبار، ولكنه يتفق مع المقال في حالات خاصة من حالاته، أو صورة معينة من صوره -كما ستعرف ذلك فيما بعد. ثامنًا: في كتابة الخبر الصحفيّ المتصل بحادثٍ من الحوادث الداخلية، كحادث حريق أو حادث تصادم أو نحو ذلك من الأحداث التي تتعرض للتغيير بين لحظة وأخرى، ينبغي للمحرر الصحفيّ أن يخفف من عنايته بإيجاد الروابط الأسلوبية القوية بين أجزاء الخبر الواحد، من أمثال: "وفي أثناء ذلك" أو "ولما كانت الأمر كذلك" إلخ.

ومن حقك أيها الصحفيّ أن تعرف لماذا نسوق إليك هذه النصيحة الأخيرة: فاعلم أن السبب في ذلك هو أن الخبر الصحفيّ لحادث من الحوادث الداخلية بنوعٍ خاصٍّ عرضةً -كما قلنا- للتغيير والتبديل بين لحظة وأخرى, فإذا كانت الروابط بين أجزاء الخبر من هذا القبيل صعب عليك إجراء هذا التغيير المطلوب، على حين أنه إذا كانت أجزاء الخبر الصحفيّ مستقلةً بعضها عن بعض، وغير مرتبط بعضها ببعض إلى هذا الحد، أمكنك أن تحذف جزءًا، وتضع مكانه آخر إذا اقتضى الحال ذلك، دون أن يؤثر هذا في الخبر الصحفيّ نفسه من حيث الصياغة، ودون أن يكون لذلك تأثير ما في سير الطبع، وترتيب مواد الصفحة الخاصة بمثل هذه الأخبار الداخلية. الفرق بين القصة الإخبارية والقصة الأدبية: مهما يكن من شيءٍ, فإن الفرق عظيم جدًّا بين القصة الأدبية والقصة الخبرية، وهو فرق يتضح من جانبين: جانب العقدة أولًا، وجانب الأسلوب بعد ذلك. فالمعروف أن القصة الأدبية لا بد لها من عقدة، وأن مهارة الأديب تظهر في إخفاء هذه العقدة أولًا، والسير بالقصة رويدًا رويدًا نحو حلها آخر الأمر, أما القصة الخبرية, فإن عقدتها تظهر أولًا، ولا يجوز للمحرر أن يؤجل ظهورها إلى ما بعد ذلك، فأهم حادث في القصة الإخبارية ينبغي أن يحتل مكان الصدارة، ثم تأتي الأحداث التي تقل عنه في الأهمية. والقاعدة عند محرر الخبر في الصحيفة أن يسأل نفسه أولًا جميع الأسئلة التقليدية المعروفة في صياغة الخبر, وهي: "من ومتى وأين وكيف وماذا ولماذا"، ثم يختار لصدر الخبر أهم هذا الإجابات الست كلها، وليس عليه

في هذه الحالة أن يضمِّنَ الصدر جميع الإجابات الست دفعةً واحدةً متى رأي ضرورة لذلك. أما من حيث الأسلوب: فطبيعي أن الأديب أوسع مجالًا من الصحفيّ في التعبير عن الحوادث التي تتألف منها القصة، وطبيعي كذلك أن الأديب أغنى في الأدوات والأساليب والوسائل التي يعبر بها عن حوادث القصة الأدبية، في حين أن الصحفيّ مقيد أبدًا باللغة التي يفهمها قراؤه، والطرق التي عودهم عليها في كتابة القصة الخبرية. ولكن: هل معنى ذلك أن القصة الخبرية ليست ذات حظٍّ وافرٍ من الجمال، أو مقضيّ عليها بأن تكون كذلك على الدوام؟ كلّا، فإن الكاتب اللبق يستطيع أن يخلق منها شيئًا جميلًا حقًّا, ومثيرًا حقًّا، ولذلك لا يعهد في الصحف بتحرير القصة الإخبارية إلّا للمحررين الذين قضوا وقتًا كافيًا في التدريب عليها.

تحرير العنوان

تحرير العنوان 1: لم يكن للصحف العربية إلى وقتٍ قريبٍ كبير عنايةٍ بالعنوان من حيث العرض أو التحرير، وليست الصحف العربية وحدها هي التي أهملت العنوان، بل إن الصحف الأوروبية والصحف الأمريكية شاركتها أيضًا في هذه الظاهرة. لكنك حين تتصفح نسخةً من صحيفة يومية تصدر في أيِّ بلدٍ من بلاد العالم المتحضر في أيامنا هذه, تجد الأمر على عكس ذلك، بل تجد أنواعًا شَتَّى من هذه العنوانات، وكل نوع منها يؤدي وظيفة خاصة، ويستطيع القارئ الحديث بنظرةٍ واحدةٍ سريعةٍ يلقيها على الصحيفة أن يلم بجميع الأنباء، وأن يعرف في الوقت نفسه أهم هذه الأنباء، فإن كان لديه مُتَّسَعٌ من الوقت, انتقل من العنوانات إلى صدور الأخبار ليزداد بقراءتها علمًا بالحوادث، وإن كان لديه وقت أكثر من هذا, فرغ لقراءة التفاصيل، ولا يحدث ذلك في الواقع إلّا نادرًا. نخلص من كل هذا إلى أن الصحيفة الحديثة مضطرةً إلى أن تبذل أكبر جهد مستطاع في كتابة العنوان ما دامت ظروف القراء -وخاصة في المدن الكبيرة- لا تسمح لهم بأكثر من قراءة السطور القليلة التي يتألف منها العنوان, ثم السطور القليلة التي تتألف منها صدور الأنباء.

_ 1 رجعنا في هذا الفصل إلى كتب من أهمها كتاب بعنوان: News Ediging. by Westey فانظر الفصلين التاسع والعاشر من هذا الكتاب.

إن صنيع الصحف الحديثة في ذلك؛ كصنيع المحال التجارية في الوقت الحاضر, حين تعنى هذه المجلات "بالفترينات". والحقيقة -كما يقول الأستاذ "وستلي" في كتابة: "تحرير الأخبار": إن العنوانات لا ينبغي أن ننظر إليها فقط على أنها النوافذ التي تطل منها على الصحف، بل يجب أن ننظر إليها كذلك على أنها من المصادر الرئيسة للإعلام، وخاصةً بالنسبة للقراء الذين تضطرهم ظروفهم دائمًا إلى القراءة العجلى على نحو ما أشرنا إليه فيما سبق. ومع هذا وذاك, فهناك الحقيقة التي تقول: ثلاثة أشياء تجذب القارئ إلى قراءة المقال: أولها العنوان, وثانيها طريقة العرض، وثالثها اسم الكاتب والمحرر الذي كتب المقال، ومعنى ذلك أن الطريق إلى شهرة الكاتب الناشئ, إنما هو في حسن اختيار العنوان, وفي حسن كتابة المقال بعد ذلك، فالشهرة آتية بعدهما لا محالة. من الذي يقوم بصياغة العنوان؟ : يقوم بصياغة العنوان في الغالب قسم بالصحيفة يقال له: "قسم المراجعة" ويتألف هذا القسم عادة من رؤساء الأقسام المختلفة, ومعهم نائب رئيس التحرير، وهذا الأخير يشترط فيه أن يكون ذا حس دقيق بالأخبار على اختلافها، وقدرة تامة على التمييز بين هذه الأخبار من حيث القيمة الخبرية ذاتها، وبذلك يستطيع في سهولة ويسرٍ أن يختار لصحيفته العنوانات الدائرية العريضة، أو ما يسمى في اللغة الأوروبية: "المانشتات"1 وقد اعتادت الصحف المصرية الحالية أن تبذل قصارى

_ 1 فكرنا كثيرًا في ترجمة لكلمة: "مانشيت" فآثرنا أن نترجمها بكلمة: "العنوان الدائري" لتكون الترجمة دقيقة وسليمة ومطابقة للفظ الأصليّ في وقت معًا، فالمانشيت في اللغات الأجنبية لفظ يطلق عللى ردن القميص الذي يدور حول معصم اليد، وأنت حين تمسح بنسخة من صحيفة لتطويها, وتجعل منها دائرة تجد "العنوان الدائريّ" يلتف حول عنق الصحيفة تمامًا, كما يلتف الردن حول معصم اليد.

جهدها في العناية بهذه العنوانات الدائرية، وهي عنايةٌ لم تشهد لها مثيلًا في الصحافة الماضية, التي كانت تصدر في البلاد العربية، كما أنها لا تشهد لها مثيلًا في الصحف الأوروبية. ومهما يكن من شيء, فعلى نائب رئيس التحرير ومعاونيه أن يسألوا أنفسهم دائمًا: لماذا نكتب العنوان؟ وهل للعنوان وظيفة في الحقيقة؟ وهل تكتب الصحيفة العنوان لمجرد العادة, والجري وراء التقاليد؟ أم أنها تعنى بكتابة العنوان؛ لأنه يخدم غرضًا بالذات من أغراض الصحيفة؟ إن عليهم أن يناقشوا كل هذه الأسئلة، أو يجعلوها على الأقل في أذهانهم دائمًا عند كتابة العنوانات التي تحتاج إليها الصحيفة، ثم عليهم بعد هذا كله، أو مع هذا كله، أن يجيبوا عن هذه الأسئلة من وجهة نظر الصحيفة أولًا، ومن وجهة نظر القراء بعد ذلك. ومع هذا وذاك, فهناك حقيقة لا ينبغي أن نغفل عنها أو نتجاهلها، وهي أن نائب رئيس التحرير -سواء رضي هو أو رضي رؤساؤه، أم لم يرض هو, ولم يرض رؤساؤه- هو المسئول الحقيقيّ عن الخبر. ومعنى ذلك أنه مضطر أن يعكس شخصيته إلى حدٍّ ما على صياغة الخبر بعنوانه وصدره وبقية أجزائه، ذلك أن الأخبار لا تحدث في الفراغ, ولا يمكن أن تصاغ بشكل آليّ. وهذا وذاك, لا يطعن في قدسية الخبر التي سبق أن أشرنا إليها, وألزمنا جميع الصحف بالمحافظة عليها، وذلك أن انعكاس شخصية المحرر على

صياغة الخبر ليس مطلقًا العبث بجزئية واحدة من جزئيات الخبر، ولكن معناه صياغة الخبر بالطريقة التي تَنُمُّ عن شخصية محررة, أو شخصية الصحيفة التي تنشر, وعلى نائب رئيس التحرير ومعاونيه أن يبرزوا جدية الخبر، معتمدين في ذلك على إجادة التحرير من جانبٍ، وعلى طريقة العرض أو نوع الحروف التي تستخدم في عرض العنوان من جانبٍ آخر، فلعلهم يشيرون بكتابة العنوان بالخط الثلث، ولعلهم يشيرون بكتابته بالخط النسخ، ولعلهم كذلك يشيرون بكتابته بالخط الرقعة, وهم لسبب أو لآخر يتحكمون في أحجام الحروف واختيارها, من أي نوع من هذه الأنواع الثلاثة، وهكذا. وهنا ينبغي أن نلفت أنظار الطلبة الذين يدرسون الصحافة بالجامعة إلى الفرق بين الصحف العربية والصحف الأجنبية من هذه الناحية. فالصحف العربية تعتمد على الخطوط، كما أوضحنا ذلك، والصحف الأجنبية لا تعتمد على الخطوط, وإنما تعتمد على الحروف، ولهذا تملك المطابع والصحف الأجنبية مجموعة كبيرة من طرز الحروف "جمع طراز". كالطراز القوطي، والطراز الروماني، والطراز الحديث، ونحو ذلك، ولكل واحد من هذه الطرز علامة خاصة، أو رقم معين يعرف به في المطبعة، وما على المحرر إلّا أن يشير إلى علامة هذا الطراز أو ذاك؛ ليعرف عامل المطبعة نوع الطراز الذي اختاره المحرر ليحقق به غرضًا معينًا في ذهنه. ونعود إلى عمل نائب رئيس التحرير ومعاونيه، فنراهم يجتهدون في تحرير العنوان؛ بحيث يجذب نظر القارئ بسرعة كبيرة، ونراهم يحاولون أن يكون العنوان متفقًا كل الاتفاق مع شخصية الصحيفة؛ إذ المعروف لدى الجميع أن لكل صحيفةٍ من الصحف أسلوبها الخاصِّ في عرض الخبر، ونائب رئيس التحرير هو المسئول الأول عن مطابقة العنوان لشخصية الصحيفة التي ينتمي إليها، ففي ذلك ما يعين على شهرتها من جانب، وعلى

انتشار التوزيع عن طريق البيع في "الأكشاك" والأماكن العامة من جانب آخر. ومعنى ذلك باختصار: أن فن كتابة العنوان من الفنون الدقيقة التي تتطلب مهارةً خاصةً وذوقًا خاصًّا، ولا يستطيع أي شخص في أسرة التحرير أن يَدَّعِي لنفسه الكمال في الوصول إلى هذه الغاية، ما دام متفقًا مَعَنَا في أن العنوان يجب أن يحتل المكانة الأولى من وظائف الإعلام، ويجب أن يعتمد عليه أولًا في القيام بهذه الوظائف. وقبل أن ندع الكلام عن نائب رئيس التحرير ومعاونيه، وعن الواجب عليهم نحو كتابه العنوان المعبر عن شخصية الصحيفة, يجب أن ننبه الأذهان هنا إلى شيءٍ هامٍّ، وهو أن يكون العنوان مفهومًا فهمًا تامًّا للقراء، فلا يصح للمحرر بحالٍ من الأحوال أن يلجأ إلى ألفاظ تكون غامضة لدى القراء، واختصارات ومصطلحات يعجزون عن فهمها، وإن كان من الحق أن يقال عن ظاهرة استخدام الاختصارات وأوائل حروف الكلمات: إنها أوضح في الصحف الأجنبية منها في الصحف العربية، فالصحيفة الأجنبية -على سبيل المثال- تستخدم الحرفين.A. P لتدل بهما على وكالة الأنباء المعروفة باسم: "الأسوشييتدبرس" كما تستخدم الحروف. U. S. A للدلالة على الدولة التي تحمل اسم الولايات المتحدة الأمريكية, وهكذا. أما نحن في الصحف العربية فلا نلجأ إلى شيء من ذلك، لِأَنَّ ذلك ليس من طبيعة اللغة العربية التي تكتب بها هذه الصحف. ما هو العنوان؟ وما أهم أشكاله في الصحف؟ يمكن تعريف العنوان في الصحيفة بأنه السطر, أو مجموعة الأسطر التي جمعت بحروف كبيرة لتسبق موضوعًا أو قصةً خبريةً، وتلخص هذا

الموضوع أو القصة الخبرية, غير أنه من الخطأ أن نعتقد أن كلمة: "عنوان" تنصب فقط على العنوانات الدائرية "المانشتات" وغيرها من عنوانات الصفحة الأولى وحدها، كما أنه من الخطأ أيضًا أن ننظر إلى كلمة: "عنوان" على أنها تعني: الجزء العلوي وحده من عنوانات الصحف دون سائر الأجزاء الأخرى, من الخطأ أن نعتقد ذلك؛ إذ أن العنوان في الواقع يشمل كل الوحدات التي تسبق صدور الأخبار والموضوعات التي تنشر عنها الصحيفة, وهذا كله من حيث تعريف العنوان. أما أشكال العنوان, أو أنواعه, فأمرها بسيط في الصحف العربية، على حين أن هذه الأشكال والأنواع تتعدد في الصحف الأجنبية: فهناك في تلك الصحف الأجنبية العنوان المكتوب على شكل هرم مقلوب، وفيها العنوان المكتوب على شكل سلم متدرج، وهناك العنوان المكتوب على شكل أسطر متساوية في بداياتها، متساوية في نهاياتها. ولكل شكلٍّ من هذه الأشكال، أو نموذجٍ من هذه النماذج, عددٌ خاصٌّ من الكلمات، وحجمٌ خاصٌّ للحروف التي تجمع منها الكلمات، ورقم خاص يدل عليه، ويهدي المطابع إليه، وما على كاتب العنوان في الصحيفة الأجنبية إلّا أن يشير إلى رقم النموذج الذي يختاره لكتابة العنوان، ومن السهل بعد ذلك على عامل الجمع في المطبعة أن يقوم بتنفيذ ذلك على الوجه الذي أراده المحرر. والأمر على خلاف ذلك في الصحف العربية، فليس لها مثل هذا النظام إلى الآن، وربما يكون لها مثله في المستقبل القريب، وليس أمام الصحف العربية في الحالة الراهنة، إلّا أن تقيد نفسها بحدود الأعمدة التي تنشر عليها هذا العنوان أو ذاك، فيبعث المحرر إلى الخطاط في الصحيفة بتعليماتٍ خاصة يشير فيها إلى عدد الأعمدة التي يمتد عليها العنوان، وإلى السعة

أو العمق الذي يشير به، وما على الخطاط إلّا أن يقوم بتنفيذ ذلك, وإذا كان ولا بُدَّ من أن يتألف العنوان من أسطر يكمل بعضها بعضًا؛ فينبغي أن تراعى في ذلك بعض القواعد الهامة ومنها: أولًا: أن يشتمل السطر الأول على كلمات قليلة توضح المعنى العام للمقال. ثانيًا: أن يشتمل السطر الثاني على ألفاظ تزيد رغبة القارئ في القراءة, وتفتح شهيته لها. ثالثًا: أن يشتمل السطر الثالث -إن وجد- على معلومات تساعد في الربط بين العنوان ومقدم المقال. رابعًا: أن تكون ألفاظ العنوان بأسطره الثلاثة, أو الأربعة, مطابقةً لمضمون المقال، وبدون ذلك يشعر القارئ بنوع من الغرابة، ويرى أن الفجوة واسعة بين العنوان والمقال، وقد يجعله ذلك زاهدًا في قراءته -كما سنشير إلى ذلك بعد. خصائص كتابة العنوان: للصحف أن تختلف في الطريقة التي يكتب بها العنوان، وللصحف أن تعبر كل منها عن شخصيتها المميزة لها في كتابة العنوان، ولكن ثَمَّ أصولٌ عامةٌ لا مَفَرَّ لجميع الصحف من اتباعها في كتابة عنواناتها؛ بحيث تتوافر لها خصائص منها: أولًا: تركيز عبارات العنوان؛ بحيث يجب تجريده من جميع الألفاظ التي يمكن الاستغناء عنها. ثانيًا: تفضيل الفعل المضارع في صياغة العنوان، والحكمة في ذلك هي أن يشعر القارئ بأنه يعيش في جو الموضوع, أو الحادث الذي تنشر

عنه الصحيفة، وإن كانت هذه الطريقة مألوفة في الصحف الأجنبية أكثر منها في الصحف العربية، على أن هذه الطريقة معروفةٌ لدى البلغاء ورجال الأدب وكتاب القصة بنوع خاص. ثالثًا: أن تكون ألفاظ العنوان ملائمةً بقدر المستطاع لطريقة عرضه، وللطراز أو النموذج الذي جمع به، أو الخط الذي اختاره المحرر لكتابته. فالعنوان الكبير الحجم، أي: المكتوب بالخط العريض، تلائمه الألفاظ المختصرة، أو القليلة العدد، والعنوان الأصغر، أو العنوان غير الرئيسي، وهو المجموع في حروف متوسطة الحجم، يمكن أن يحتاج الألفاظ أكثر، وهكذا. والغاية من هذه التوصيات هي تركيز عبارات العنوان, وتوفير الحيز الذي يمكن استغلاله في إضافة حقائق هامة من حقائق الخبر. وأنت ترى من ذلك أنه لكي يحقق المحرر كل هذه الأغراض, لا بُدَّ له من أمور كثيرة: أولًا: استيعاب دقيق لِكُنْهِ الخبر, أو الموضوع الذي يكتب له العنوان؛ فيحاول المحرر أن يعرف جيدًّا أيّ أجزاء الخبر أو الموضوع أولى بالتقديم، وأيُّها أشد لفتًا لأنظار الجمهور، وأيُّها كذلك أهم من سواه في نظر الصحيفة. ثانيًا: حصيلة لغوية كبيرة تعين المحرر على حسن اختيار الألفاظ؛ بحيث تقوى على تأدية الوظائف التي للعنوان، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك. ثالثًا: حاسة دقيقة, وقدرة ظاهرة على بناء الجملة, أو الجمل التي يشتمل عليها العنوان، بحيث لا تحتمل غموضًا أو إبهامًا، ولا تتسع لتأويلات مختلفة، ولعل خير ما يعين المحرر على بناء هذه الجمل، وعلى نجاحها في تأدية الغرض المطلوب منها, المفاضلة بين الأسئلة التقليدية الستة عند

الإجابة عنها، والأسئلة هي: "من، متى، أين، ماذا، كيف، لماذا؟ ". ويستطيع المحرر عن طريق هذه المفاضلة أن يخلص إلى الإجابة التي تهم القراء والصحيفة أكثر من الإجابات الأخرى، فيقدمها على سواها، ويجعلها مادة العنوان. نعم، إن كل جزء من العنوان يعتبر وحدةً لغويةً، أو جملةً مفيدةً قائمةً بذاتها، ولكن لا ينبغي أن يتعارض ذلك مع مبدأ تجريد العبارة أو الجملة أو الوحدات اللغوية التي يتألف منها العنوان من جميع الألفاظ التي يمكن الاستغناء عنها. وغنيٌّ عن البيان بعد هذا وذاك, أنه يجب على المحرر أن يتجنب تكرار الألفاظ التي ترد في العنوان الواحد، كما أن عليه أن يختار الألفاظ والمصطلحات الصحيحة الدلالة بقدر الإمكان، وأن يبذل جهدًا واضحًا في اختيار الفعل المضارع الذي لا يصح أن يحل محله فعلٌ آخر بحالٍ ما. كتابة العنوانات الفرعية: تعمد الصحف كثيرًا إلى تقسيم الموضوع, أو القصة الخبرية إلى أجزاء، وتجعل لكل جزء منها عنوانًا فرعيًّا، وتنظر إلى هذه العنوانات الفرعية على أنها فواصل بين أجزاء الموضوع الواحد, أُرِيدَ بها التغلب على ملل القارئ، كما تنظر الصحف إليها كذلك على أنها معالم في طريق القراءة تجذب إليها نظر القارئ، وتهديه في أثناء القراءة، وتلقي في روعه أن الموضوع الذي يقرؤه لم يطل عرضه بالصحيفة إلّا لفائدة جديرة بالحصول عليها، وقد تستخدم الصحف بدلًا من العنوانات الفرعية فواصل طباعية كالنجوم، أو الرسوم الصغيرة، أو الفراغات البيضاء, ونحو ذلك. وعلى هذا, فالعنوانات الفرعية في الصحيفة تعتبر في نظر الكثيرين فواصل أكثر منها عنوانات بالمعنى المفهوم لهذه الكلمة، ومع هذا فإن

كثيرًا من الصحف تبذل في تحرير هذه العنوانات الفرعية, مثل العناية التي تبذلها في العنوانات الكبرى, أو الأصلية، والمتبع في أكثر الصحف هو أن يتضمن العنوان الفرعيّ إحدى الحقائق الهامة التي تشتمل عليها الفقرة التالية لهذا العنوان الفرعيّ. ومهما يكن من شيءٍ فلا ينصح الخبراء كثيرًا بالإسراف في استخدام العنوانات الفرعية, حتى لا تتجاوز الغرض المقصود منها. على أننا نلفت النظر هنا كذلك إلى العنوانات الخاصة ببقايا الموضوعات, أو القصص الخبرية التي سبق نشرها في صفحات متقدمة, فقد يحدث أن ينشر موضوع كبير في الصفحة الأولى، وتنشر بقيته في صفحات أخرى، وهنا تشير الصحيفة إلى مكان هذه البقية، وعند كتابة البقية, إما: أن يكرر المحرر نفس العنوان الأساسيّ للموضوع أو للقصة، وإما أن يكتفي بالجزء الأول منه، مثال ذلك: إذا كان العنوان الأساسيّ "زيارة الدكتورة نيكروما للرئيس جمال عبد الناصر" فللمحرر -عند كتابة البقية- أن ينشر العنوان كاملًا، وله أن يكتفي بقوله: "زيارة الدكتور نيكروما". لك أيها القارئ أن تطبق هذه الأصول على تحرير العنوان في الصحافة التي تقرؤها، وفي وسعك أن تنقد الطرق المختلفة في تحرير العنوان بهذه الصحف، وأن تتعرف على شخصية الصحيفة من خلال عنوانها على النحو الذي أشرنا إليه.

التعليق على الخبر

التعليق على الخبر: ليس هناك شكٌّ في أن الأخبار في ذاتها لا تؤثر في حياة الناس, ما لم تكن لها صلاتٌ وثيقةٌ بمصالحهم الخاصة والعامة، ولذا يحتاج القراء إلى فهم هذه الأخبار وإدراكها إدراكًا صحيحًا على ضوء هذه المصالح، وهذا ما يسمى عند علماء الصحافة: "الوعي الصحافيّ"، وعلى الصحافة واجبٌ عظيمٌ هو الوصول بقرائها إلى هذا الوعي، ولا يكون ذلك إلّا عن طريق الشرح لمدلول الأخبار، وتكييفها بحيث تمس وجدان الناس، وتخاطب شعورهم ومصالحهم في وقت معًا، ولا يكون ذلك في أكثر الأحيان إلّا عن طريق "التعليق الصحفيّ". والتعليق الصحفيّ على هذا النحو يجعل للأحداث التي تنشرها الجريدة معنًى ومغزًى، ويكسبها رائحة وطعمًا، وهو فوق هذا وذاك, يتحكم في نظرة القراء إلى هذه الأحداث؛ فمرةً يحكم التعليق الصحفيّ على بعض الأخبار بأنه تافه، وأخرى يحكم على بعضها بأنه خطير، وتارةً يصفها بأنها حوادث عابرة، وأخرى يصفها بأنها مقدمات لأزمةٍ حادةٍ تؤدي لنتيجة ما، وهكذا. ومن هنا كان سلطان الصحافة عظيمًا على نفوس الجماهير، ومن هنا كانت الصحافة مسئولة إلى حد كبير عن الثورات، والانقلابات، والتغييرات التي تخضع لها الشعوب، وفي هذه المسئولية الأخيرة، يشترك الأدب مع الصحافة، فليس يكفي أن يقع الظلم على الشعوب حتى تثور، وإنما يشترط للثورة التي يقوم بها الشعب أن يحس هذا الشعب إحساسًا قويًّا بظلم الظالمين، ولن يكون هذا الإحساس الخطير إلّا عن طريق الأدب من

جانبٍ، والصحافة من جانب آخر، والأمثلة على هذا موفورة في التاريخ، فالثورة الفرنسية، والثورة المصرية، والثورة الإيطالية، والثورة الروسية, كلها مدينة لأقلام الكتاب في ميدان الأدب, والمحررين في ميدان الصحافة, ولولا هم لظل الناس يحتملون آلامهم، ويصبرون على بؤسهم وشقائهم، ولا يشعرون بهما يومًا ما. وفي ذلك يقول علماء النفس: "إن الحكم على الشيء جزء من تصوره، فلا تستطيع أن تحكم على شيء ما بأنه نافع أو ضار إلّا إذا تَمَّ تصورك له، وإدراكك لمعناه". ثم إن القراء ليس لديهم الوقت الكافي دائمًا لإدارك الأخبار، وبعضهم عاجزٌ تمامًا عن مثل هذا الإدراك، ومن ثَمَّ كان على كتَّاب الصحف أن يقوموا لقرائهم بهذه المهمة العقلية والنفسية، وبها يستطيع القراء أن يضموا إلى معرفتهم "الخبر" معرفتهم كذلك بـ "ما وراء الخبر". على أن التعليق الصحفيّ في ذاته, له أنواع كثيرة، والمعلقون الصحفيون فئات كثيرة أيضًا؛ فهناك المعلقون السياسيون، والمعلقون الاجتماعيون، والمعلقون في مجال العلم، والمعلقون في مجال الأدب، ولن يستطيع المعلق الصحفيّ أن يتذوق خبرًا من الأخبار كائنًا ما كان, ما لم يكن له رصيد كافٍ من العلم الذي يعنيه على إدراك هذا الخبر إدراكًا صحيحًا. والصحفيُّ الذي حُرِمَ قدرًا من المعرفة يكفي لفهم نوعٍ من الأخبار المتقدمة, لا يستطيع بحالٍ ما أن يتصدى للتعليق على هذا النوع بالذات، وإن تَصَدَّى لذلك على غير علم منه أضل القراء، وجنى على صحيفته جناية تقضي بها إلى السقوط والاختفاء. وثَمَّ سببٌ آخر من أسباب أهمية التعليق على الخبر، ولعله من أخطرها في الحقيقة، وهو سبب يتصل بوكالات الأنباء، وتفسير

ذلك أن بعض هذه الوكالات تهدف في كثير من الأحيان إلى خدمة المصالح الاستعمارية، ويدأب على نشر الأخبار بطريقةٍ ملتويةٍ تساعد على تحقيق هذه الغاية السياسة، وبذلك تلحق الضرر بمصالح البلاد الشرقية أو العربية، وفي هذه الحالة يصح للصحيفة أن تعلق على الأخبار الصادرة عن هذه الوكالات تعليقًا تميز به الجانب الصحيح من الجانب المغرض. ولعله من أجل هذا السبب الخطير, فكرت الحكومة المصرية في إنشاء وكالة أنباء جديدة، وكانت شركة أنباء الشرق الأوسط أثرًا من آثار هذا التفكير، بل إن الجمهورية العربية المتحدة في هذا الوقت تمكنت من إنشاء وكالة أنباء عربية عالمية, سيكون مقرها جريدة الأهرام الحالية. وهنا واجب آخر على الصحافة -من حيث التعليق- ونعني به واجبها نحو المجتمع في مجال الجريمة. نعم، على الصحف في كل وقتٍ أن تعنى عنايةً تامَّةً بالتعليق على أخبار الجريمة، وعليها أن تهدف من وراء هذا التعليق دائمًا إلى بيان الدوافع الحقيقية لارتكاب الجريمة، وطرق الوقاية منها، ودفع أولي الرأي في الأمة لكي يعاونوها معاونةً صادقةً على أداء هذه المهمة الوقائية البحتة. هذا هو التعليق الصحفيّ، وتلك هي أهميته للصحيفة وللقراء، وهو بهذا الوصف يعتبر نوعًا من أنواع المقال، ولا يصح -في نظرنا- أن يعتبر جزءًا من أجزاء الخبر بحالٍ من الأحوال، وسنرى أن التعليق على الأخبار كثيرًا ما يكون موضوع المقال الافتتاحيّ ذاته في الصحيفة. أما الذي يعتبر جزءًا من أجزاء الخبر نفسه, فهو الجانب التفسيريّ الذي يتخلل الصلب عادةً، ويكون من جملة التفاصيل التي يتألف منها هذا القسم الهام من أقسام الخبر. مثال ذلك: أن صحيفةً من الصحف قد تنشر خبرًا عن رئيس وزراء

في السويد أو النرويج، أو الصين الشعبية، أو الصين الوطنية، وتفترض الصحيفة؛ إذ ذاك أن القارئ العاديّ لا يعرف شيئًا ما عن هذا الرجل أو ذاك، وأنه لا يستطيع لذلك أن يفيد فائدةً من الخبر مالم تعمد الصحيفة في جزءٍ من أجزاء هذا الخبر -وهو الصلب عادةً- إلى ذكر شيءٍ عن هذا الرئيس، وكثيرًا ما يبدأ هذا الجزء التفسيريّ بقولها: "ومن المعروف عن هذا الرجل أن ميوله السياسية كذا وكذا" أو "والقراء يعلمون عن اتجاهاته السياسية كذا وكذا"، وبهذه الطريقة تضمن الصحيفة أن الخبر سيقرأ أولًا، وسينتفع به في هداية القارئ بعد ذلك. وقد اصطلح العلماء على تسمية هذا اللون الصحفيّ باسم: "تفسير الأخبار"، وذلك في مقابل اللون المعروف في الصحافة باسم: "التعليق على الأخبار"، كما اصطلحوا على تسمية هذا الهدف في ذاته: "الوظيفة التفسيرية في الصحافة"، وهي شيء مخالف لوظيفة المقال، أو التعليق، أو العمود، ونحو ذلك، ولكنه يتصل اتصالًا تامًّا بالخبر، ويعتبر جزءًا هامًّا من أجزائه، أو تفصيلًا مهمًّا من تفصيلاته، بحيث إذا خلت منه بعض الأخبار أصبحت ناقصة من الناحية الفنية الخالصة. وهذه الوظيفة التفسيرية للصحافة هي التي دعت العلماء إلى مراجعة أنفسهم في البحث عن وظائف الصحافة، فقد اتفقوا قبل الآن على أنه للصحافة وظائف أربعًا هي: 1- وظيفة الإعلام. 2- وظيفة التوجيه والإرشاد. 3- وظيفة التسلية والإمتاع. 4- وظيفة التسويق أو الإعلان. أما الآن، فقد اتفقوا على أن للصحافة الحديثة خمس وظائف، هي:

تلك التي ذكرناها مضافةً إليها وظيفة "تفسير الأخبار" التي فرغنا من شرحها بطريقة موجزة. والخلاصة: أن الفرق كبير بين الخبر، وتفسير الخبر، والرأي المبنيّ على الخبر. فالخبر هو الوقائع التي حدثت بالفعل، وتفسير الخبر جزءٌ هامٌّ من أجزاء الخبر, يراد به شرح نقطة المفاهيم، أو بعض المسميات الواردة في صلب هذا الخبر. وأما الرأي المبنيّ على الخبر، فهو المراد بكلمة: "التعليق الصحفيّ". يقول المستر "ماركل" رئيس المعهد الدولي للصحافة, ومعهد الصحافة الأمريكيّ, في شرح الفروق المتقدمة1: "إن ذُكِرَ أن الكرملين يشن حملة من أجل السلام يعتبر خبرًا, وإن شرح أسباب شن الكرملين لهذه الحملة في هذا الوقت بالذات، هو التفسير, والقول بأن كل حملة لسلام تصدر عن الكرملين يجب أن ترفض، هو الرأي, أما الشرح: فهو جزء هام من أجزاء الخبر، أما الرأي فلا مكان له غير أعمدة التعليقات". وليس من شكٍّ في أنه كما يحتاج التعليق الصحفيّ إلى ثقافة واسعة ومنوعة من جانب المحرر، كذلك يحتاج التفسير الخبريّ إلى هذا القدر من الثقافة، وذلك من حيث السعة والتنوع، حتى يتمكن المخبر الصحفيّ من القيام بهذه الوظيفة الجديدة من وظائف الصحافة خير قيام. على أن هذا الأمر الهام -وهو تفسير الأخبار- كثيرًا ما يقتضي

_ 1 الصحفيّ المحترف: الترجمة العربية لكتاب "جون هوهبرج" ص35و 36.

من المحرر الصحفيّ أن يكون له "أرشيف خاص" عدا الأرشيف العام الذي للصحيفة، وفي هذا الأرشيف الخاص يستطيع المحرر الصحفيّ أن يجمع المعلومات الجديدة أولًا بأولٍ عن الشخصيات الجديدة عليه وعلى القراء، وهو يعلم علم اليقين أنه محتاج إليها يومًا ما, عند تفسير خبر من الأخبار التي تتصل بإحدى هذه الشخصيات. ومن هنا تبدو أهمية هذه الإدارة من أدوات المحرر الصحفيّ، التي هي ألزم له من "كراسة التحضير للمدرس"، ونعنى بها المجمعات الإخبارية الخاصة والعامة، أو ما اصطلح الصحفيون أنفسهم على تسميته باسم: "الأرشيف". وتستطيع الجريدة أن تجمع في التعليق على الأخبار -وخاصة السياسية منها- بين طريقتين: الأولى: الطريقة المباشرة، وبها يتولى أحد المحررين كتابة التعليق الذي يتفق وسياسة الجريدة. الثانية: الطريقة غير المباشرة, وهي التي تعمد فيها الجريدة إلى استعارة تعليق من التعليقات الهامة, من أية جهة من جهات الإعلام المعروفة، كالصحف والمجلات، والإذاعة، ووكالات الأنباء العالمية, ونحو ذلك. ولقد كانت جريدة الأهرام المصرية -إلى وقت قريب- تتبع الطريقتين معًا، فتكتب تعليقًا خاصًّا على شكل مقال افتتاحيٍّ، أو عمودٍ صحفيٍّ عاديٍّ، وتستعير في الوقت نفسه تعليقًا آخر من وكالة أنباء أجنبية، وكانت تكتب هذا النوع الآخر من التعليق تحت عنوان: "العالم يفكر" وفيها -أي: في هذه المادة- تأتي بتعليق لجريدة أمريكية أو إنجليزية، وكثيرًا ما يكون هذا التعليق بقلم صحفيٍّ كبيرٍ متخصصٍ في التعليقات السياسية

كالأستاذ: ليبمان Lippmann وسنختصه بكلمة قصيرةٍ في نهاية هذا الفصل, وفي الجرائد العراقية تنشر أحيانًا تعليقات محمد حسين هيكل مأخوذةً من الأهرام. والحق أن شهرةَ رجلٍ كالأستاذ "ليبمان" في كتابة التعليق السياسيِّ آتيةً من ثقافته الواسعة من جهةٍ، ومن علمه الدقيق بالاتجاهات السياسية في العالم كله من جهةٍ ثانيةٍ, ومن معرفته الدقيقة كذلك بأخلاق الشعوب التي يكتب عنها، وأخلاق الزعماء والقادة الذين يشير إليهم، ونيات الحكومات التي يتعرض لنقد سياستها آخر الأمر. ومن هنا تعدت شهرة هذه التعليقات جريدة "الهرالدتربيون" التي يكتب فيها "ليبمان" إلى جرائد كبرى في شَتَّى أنحاء العالم المتمدن، فضلًا عن وكالات الأنباء في جميع هذه الأنحاء. وكالأستاذ "ليبمان" في فن التعليق الصحفيِّ كل من: جون ديفي في جريدة الأوبزرفر, ووليم كلارك بنفس الجريدة, وديفيد بورانس في جريدة الهرالد تربيون, ومار جريت هيجنز بنفس الجريدة, ومحمد حسنين هيكل في جريدة الأهرام، وذلك بالنسبة للقضايا العربية بنوعٍ خاصٍّ، وهكذا. وبعد أن اختلفت صحيفة ورق عام 1931 تحول "ولترليمان" إلى كاتب رواية، وكاتب عمود صحفي، وغزت كتاباته في عموده المعروف "اليوم وغدًا" قطاعًا واسعًا من جمهور القراء، فهو كثيرًا ما يوفق في القاء الضوء أمام القارئ العاديّ, وكثيرًا ما يمهد له الأرض الصلبة التي أمامه؛ حيث تلتقي السياسة بالاقتصاد، فإذا القارئ العاديّ قادرٌ على أن

يفهم هذه المسائل الصعبة فهمًا مستقيمًا في أكثر الأحيان. تتبع الخبر. Folloing Up: على الصحيفة -فضلًا عن واجب التعليق- واجباتٌ أخرى كثيرةٌ؛ منها: المهمة الخاصة بتتبع الأخبار، ولها في ذلك طرقٌ كثيرةٌ, فهي تستطيع أن تتبع الخبر الصحفيّ: أولًا: بنشر تفاصيل جديدة لم يسبق نشرها في المرة الأولى. ثانيًا: بنشر أحاديث صحفية يدلي بها المسئولون, أو الأشخاص المشتركون في الحادث بأحاديثهم. ثالثًا: بكتابة التحقيقات الصحفية, إن احتاج الأمر إلى ذلك. رابعًا: بكتابة الطرائف الصحفية Peatures. وهذه الأخيرة هي التي سنتحدث عنها أولًا في الفصل التالي: إن أول من اشتهر بذلك هو "ولتر ليبمان" الذي يملك صحيفةً علميةً وخبرة صحفيةً تمكنه دائمًا من أن يكتب بثقة، وهو يملك فوق ذلك براعةً غير عاديةٍ في التعبير عن رأيه بوضوحٍ وبساطةٍ، ذلك أن "ولتر ليبمان" -وهو ثمرة دراسات ورحلات كثيرة في ربوع أوروبا- استطاع وهو صغير السن، أن يغدو طالبًا عمليًّا، ثم طفر فكان باحثًا اختصاصيًّا في الإدارة العامة والاقتصاد, وفاز بتدريبات صحفيةٍ مبكرةٍ ونافعةٍ في جريدة "نيوزبابليك"، ورأس تحرير جريدة "نيويورك ورلد" القديمة, عندما كانت هي الصحيفة الأولى الحرة في البلاد1.

_ 1 نقلَا عن فريزر بوند: مدخل إلى الصحافة، الترجمة العربية للكتاب ص237و 328.

الطرائف المتصلة بالخبر

الطرائف المتصلة بالخبر: يميل الكثير من الباحثين إلى تشبيه مواد الصحيفة أيضًا بهرم، قاعدته الأخبار، وكل ما فوق هذه القاعدة من موادٍّ تنشر في الصحيفة لا بُدَّ أن تعتمد على هذه الأخبار؛ فالمقال، والعمود، والحديث، والتحقيق والماجريات، والطرائف، كلها مواد ترتكز ارتكازًا قويًّا جدًّا على هذه القاعدة، وبدونها لا يكون هناك مبرر ما لإحدى هذه المواد لكي تملأ بها الصحيفة جزءًا من فراغها بشكلٍ أو بآخر. فالخبر إذن هو الأساس الذي تبنى عليه الصحيفة من أساسها، ثم تأتي بعد ذلك بقية المواد التي يرتفع بها بناء الصحيفة، فمن هذه المواد بطبيعة الحال التعليق على الأنباء، ومنها كذلك المقال الافتتاحيّ الذي يُعَبِّرُ عن رأي الصحيفة في الأهم من هذه الأنباء. ولكن: هل بهذا التعليق الصحفيّ ذي المقال الافتتاحيّ تنتهي الصحيفة من واجبها نحو القراء؟ كلَّا، فإن أمام الصحيفة واجبًا من نوعٍ آخر، هو النظر في هذه الأنباء من زاوية أو زوايا جديدة, هذا الزوايا الجديدة هي التي تعطي للخبر قيمةً، وهي التي توضح للقراء كيف أن مندوب الأخبار لديه حاسة سادسة، هي هذه الحاسة التي يشم بها الأخبار، ويقدر بها كل خبر منها تقديرًا خاصًّا. فإذا كان من هذه الأخبار-في نظر الصحيفة- ما يستحق أن تبحث فيه عن طائفة من التفاصيل الهامة، أتت بهذه التفاصيل وهي واثقةٌ من أنها ستجذب اهتمام القارئ، وستجعله يفهم الغير فهمًا جديدًا قد يخالف

فهمه الأول عند قراءته الخبر مجردًا من التعليق، وقد يخالف فهمه الثاني عند قراءته الخبر بهذا التعليق، وقد يتفق معهما، ولكن بزيادةٍ هامةٍ لها خطرها في نظر الصحفيون من جانبٍ، ونظر القارئ من جانبٍ آخر. وكثيرًا ما تكون هذه التفاصيل التي تأتي بها الصحفية ذات طابعٍ إنسانيٍّ بحت، ومثل هذا الطابع من التفاصيل قَلَّ أن يتسع له مجال القصة الإخبارية، وقَلَّ أن يكون واضحًا فيها وضوحًا بينًا، وقلما يعني به كاتب الخبر أية صورة من صور هذه الكتابة. هذه التفاصيل التي تنشرها الصحيفة استجابةً منها لرغبةٍ كامنةٍ في نفس القارئ، يطلق عليها الصحفيون الأوربيون اسم Features، أي: "طرائف" وهذه الطرائف تعتبر جزءًا من الأخبار لا ينفصل عنها -كما قلنا، والغاية منها في الأعمِّ الأغلب, إنما هي تسلية القارئ، وإذا ذهبت تسأل: ما هي أكثر المواد قراءة في الصحيفة الحديثة في الوقت الحاضر؟ أهي مادة المقال الافتتاحيّ؟ أم صفحة الأدب، أم العلم، أم الفن؟ فالجواب: كلّا, لا هذه, ولا تلك, وإنما هي مادة "الطرائف". خذ لك مثلًا: خلع الملك فاروق عن العرش، إنه يعتبر خبرًا من الأخبار الهامة، والطريقة التي تَمَّ بها هذا الخلع، والزمان والمكان، ونحو ذلك, يعتبر قصةً من القصص الخبرية الخطيرة, أما الحديث عن طباع الملك فاروق، أو عاداته في النزهة والرياضة والصيد والحفلات, ونحو ذلك, فتعتبر من الطرائف, والقارئ بحاجةٍ ماسةٍ إلى عشرات من هذه الأخيرة؛ ليشبع بها نفسه من جهةٍ، وليزداد بها إحساسًا بالخبر في ذاته من جهةٍ ثانيةٍ. مثالٌ آخر: اغتيال رئيس حكومة من الحكومات، إنه خبر من الأخبار، أما إذا أتى من يقص علينا قصة هذا الخبر, ويبحث لنا عن أسبابه ونتائجه، ويحكي لنا كثيرًا عن الظروف التي أحاطت بهذا الحادث، ويتنبأ

بكل آثاره في المستقبل، ويذكر لنا علاقات القتيل ببعض النساء أو الرجال ونحو ذلك، فهذه هي "الطرائف". مثالٌ ثالثٌ: يأتي مندوب الصحيفة أحيانًا بنبأ حريق لم يسبب إلّا خسائر بسيطة، وترى الصحيفة أن مثل هذا الخبر قد لا يحظى بقدرٍ ما من الإثارة, ثُمَّ سرعان ما تزداد قيمة هذا الخبر في نظر الصحيفة, وفي نظر القارئ, إذا تضمن أنه كانت في البيت الذي احترق عجوز شمطاء استطاع الجيران أن ينقذوها, أو أن الحريق إنما تسبب عن عبث أطفال كانوا يعدون بأنفسهم حفلة عيد الميلاد في منزل أحدهم، فالحريق في ذاته خبر من الأخبار المحلية، وطريقة الحدوث وزمانه ومكانه والأشخاص الذين أصيبوا به هو القصة الخبرية، أما التفاصيل الأخرى فإنها من "الطرائف". مثال رابع: عندما يأتي المندوب للصحيفة بنبأ تصادم, يشعر إذ ذاك بأن القراء قد سئموا مثل هذه الأخبار واعتادوها، وأنهم قد لا يضيّعون وقتًا ما في قراءتها بالصحيفة، ولكن إذا قيل لهم بعد ذلك: إن هذا التصادم جاء بسبب أن السائق أفلتت من يده عجلة القيادة؛ لأن نحلةً قرصته وطارت, فإن الخبر يصبح له وجه آخر، وإذ ذاك تُعْنَى الصحيفة بمثل هذه التفاصيل, وتكتبها في شكل "طرائف". وهنا يقفز سؤال إلى ذهن الباحث: ما الفرق في هذه الحالة بين القصة الخبرية والطرائف؟ والجواب عن ذلك: أن القصة الخبرية إذا اشتملت على العنصر الإنسانيّ، وغلب عليها عنصر التسلية, فإنها تصبح شيئًا قريبًا جدًّا من الطرائف، وقد قلنا مرارًا: إنه ليس هناك خطٌّ يفصل تمامًا بين كل فَنٍّ من فنون الصحافة الحديثة والفن الآخر، فالأصح دائمًا أن يقال: إن هذه

الفنون يتداخل بعضها في بعض؛ كتداخل الألوان في قوس قزح، ولكن لا يمنع ذلك مطلقًا من تمييز كل لون من هذه الألوان عن الآخر. ومن هنا كانت "الطرائف" Features" من الأمور التي يختلف العاملون في حفل الصحافة اختلافًا كبيرًا في تحديد معناها؛ فمنهم من يشترط في هذه المادة اعتمادها فقط على الجانب الإنسانيّ، ومنهم من يشترط فيها أن تهدف فقط إلى مجرد التسلية، ومنهم من يقول: إنها أيّ نوعٍ, أو قدرٍ من المعلومات, تملأ به الصحيفة ما تخلف عندها من الفراغ بعد كتابة الأخبار بأنواعها، والأعمدة على اختلافها، وما إلى ذلك، وعند هؤلاء أنه ما دامت هذه التفاصيل أو المعلومات ليست معلقةً في الهواء, أو بمعنًى آخر: ليست مقطوعة الصلة بالأخبار, فإنها تصلح لأن يطلق عليها اسم: "الطرائف". أما نحن فلا نتصور الأمر فوضى على هذا النحو، وإلّا لكانت مادة "الطرائف" من المواد التافهة في الجريدة, على حين أن الإحصاءات دلت على أنها هي التي تستحوذ على اهتمام القراء أكثر مما عداها من مواد الجريدة. أجل، ليست الطرائف في نظرنا هي المواد التافهة في الصحافة الحديثة؛ لأنها في الحقيقة هي التي تعطي للخبر قيمةً، فضلًا عن أنها تزود القارئ بمعلوماتٍ شائقةٍ لا يتسع لها الخبر في ذاته من جهة، ولا يمكن إيرادها بطريقة التعليق عليه من جهة ثانية. بل إن الطرائف الخبرية ترفع من قدر الصحيفة في نظر القارئ، وتدفعه إلى قراءتها، ولو كانت سياستها بما يخالف رأي هذا القارئ، وطريقتها مما تتنافى مع ذوقه تمامًا، ومن هنا رأينا أن الصحافة الأمريكية قالت - وهي على الحق فيما قالت: إنها لا تحتاج لكي تكون صحافةً للانتماء إلى حزب سياسيٍّ لكي تعيش، وذلك أنها تستمد بقاءها, وتعتمد في قوتها على عناصر ذاتية، ومقومات فنية تستميل بها قراءها، ومن هذه الفنون- بل من أولها في الواقع- فن "الطرائف".

وهذا الذي يقال في الصحافة المقروءة, يقال مثله كذلك في الصحافة المسموعة, ونعني بها: الإذاعة, والصحافة المرئية -التليفزيون. فهل يستمع الجمهور للبرنامج الثقافيّ؟ وهل يستمع لنقد الكتب؟ وهل يستمع للتعليق على الأنباء؟ الواقع أنه قَلَّ أن يستمع إلى شيءٍ مما سبق بقدر ما يستمع للطرائف، ولما يشبه الطرائف من شتَّى أنواع التسلية. وليس معنى ذلك أننا ندعو القارئ بطريقةٍ غير مباشرة إلى إهمال المواد الصحفية والإذاعية كلها فيما عدا مادة الطرائف؟ لا، بل نحن ندعوه إلى الأخذ من كل مادةٍ من هذه المواد بقدر معين، وإلّا لكان كمن يجلس إلى مائدةٍ حافلةٍ بألوان الطعام، ولكنه لا يصيب إلّا واحدًا فقط من هذه الألوان، ومثل هذا الرجل لا بد أن يكون مريضًا بمرضٍ يمنعه من أن يكون حرًّا في أن يَمُدَّ يده لشتَّى الطعوم التي تملأ المائدة. وصدق من قال1: لقد أصبحت النظرية القائلة بأن الناس يقرءون الأخبار؛ لأنها تهزهم, أو تثيرهم نظريةً أثرية, فقدت تأثيرها لكثرة ما كررها الناس, والواقع أن الناس يقرءون الصحف للاطلاع على ما فيها من معلومات، وبدافع من حب الاستطلاع، وبقصد المتعة والتسلية. وقد جاء في نتيجة إحصاءٍ لبعض المجلات الأمريكية, في 23 من آب أغسطس, سنة 1958 ما يلي: 1- أن قراء الأخبار المحلية يشكلون نسبة 48%. 2- أن قراء الأخبار العامة يشكلون نسبة 40%. 3- أن المهتمين بالطب والصحة العامة يشكلون نسبة 37%. 4- المتتبعين لأخبار الجرائم يشكلون نسبة 28%.

_ 1 عن الصحفيّ المحترف، الترجمة العربية، لفؤاد موياساتي, ص71.

5- المتتبعين لأخبار العلوم يشكلون نسبة 28%. 6- المتتبعين للأخبار الفكاهية يشكلون نسبة 30%. 7- المتبعين للأخبار السياسية الوطنية يشكلون 23%. 8- المتبعين للأخبار الخارجية يشكلون نسبة 21%. ومن ثَمَّ أصبح على مؤسسات الإعلام، على اختلاف أشكالها ودرجاتها؛ كالصحيفة، والمجلة، والكتاب، ومحطة الإذاعة, والتلفزيون، ونحو ذلك, أن تستجيب لرغبات الجمهور، وأن تدرس هذه الرغبات بين حين وآخر، وأن تتعرف ذوق الجمهور، وأن تقدم له ما يتفق معه تمامًا، وألّا تتعالى عليه بوجهٍ من الوجوه، وإلّا جاء يومٌ اضطرت فيه كل وسيلة من وسائل الإعلام التي تَقَدََّمَ ذكرها أن تعلن إفلاسها، وشهر عجزها عن مجاراة القراء والمستمعين على السواء. كيف تجمع الطرائف؟ : الطرائف المتصلة بالأخبار هي -كما قلنا- التفاصيل التي تكمل هذه الأخبار، وتلقي عليها ضوءًا خاصًّا، وتزيد من قدرتها على جذب القارئ, وتضفي عليها من الرواء والصفاء ما يضمن بقاءها عنصرًا هامًّا من عناصر الصحيفة الناجحة في الوقت الحاضر. من أجل هذا, كثيرًا ما ترى سكرتير التحرير يطلب إلى معاونيه أن يقوموا بتحويل مادةٍ من المواد الخبرية في الصحيفة من صورة أخبار إلى صورة طرائف، فإذا أتى إلى الصحيفة خبر عن شخصية بارزة في العالم بادر سكرتير التحرير إلى إحداث نوعٍ من المنافسة بين المحرريين, في أنه يستطيع أن يزود الصحيفة بأكبر قدر ممكن من المعلومات حول هذه الشخصية البارزة، ويراجع سكرتير التحرير كل ذلك، ويختار أكثره

إمتاعًا للقارئ, أو يجمع من المحررين كل ما جمعوه من المعلومات التي يضمن أنها تجذب القارئ. ويكون عمل سكرتير التحرير في هذه الحالة تأليف نسيج إنساني من طرازٍ معينٍ, يعتبر في الواقع من أوضح الأمثلة للطرائف، ويوضِّحُ الجوانب الغامضة في تلك الشخصية، بشرط أن تكون موضع اهتمام القارئ في ناحيةٍ من النواحي. وإذا حدث مثلًا أن زار رئيس إحدى الجمهوريات مسجدًا من مساجد القاهرة, فإن الصحيفة في هذه الحالة تبادر إلى الحصول على معلومات تاريخية وإنسانية مسليةً عن هذا المسجد، وتتحف بها القارئ، وهنا تقدم الصحيفة لونًا جديدًا من ألوان الطرائف, يكون مخالفًا للون الأول. وإذا فرضنا أن هدهدًا طار من قفصه في حديقة الحيوان، وأن الصحيفة أرادت أن تقدم بعض الطرائف إلى القراء بمناسبة هذا الحادث، فإنها في هذه الحالة قد تتحدث عن صيد أول هدهدٍ في العالم، وقد تحتال على القارئ, حتى تسوق له شيئًا من قصص القرآن؛ مثل: قصة الهدهد وسليمان، ونحو ذلك. وفي صحيفة الأخبار التي كان يحررها الصحفيّ المعروف "أمين الرافعي" نشر خبر1 عن فأرة تسببت في إطفاء نور القاهرة، هذا نصه: فأرة أطفأت نور القاهرة "حدث مساء السبت الماضي حادثٌ غريبٌ في بابه، ويكاد يكون فريدًا فيه، ذلك أن فأرةً كانت تسير تحت الآلات البخارية الكهربائية بمعمل شركة النور, وكانت تنتقل من مكان إلى آخر في طمأنينةٍ, فحدث

_ 1 راجع صحيفة الأخبار بتاريخ 28/ 22/ 1922.

أنها وقفت على سلكٍ من أسلاك الآلة المولدة للكهرباء, قوتها أربعة آلاف كيلو واط، وتعطي الكهرباء تحت ضغط عشرة آلاف فولت، ولو أن الفأرة مشت على سلك واحد لما حدث حادث، ولكنها قفزت من سلك إلى آخر، ولطول ذيلها لمست السلكين معًا في آنٍ واحدٍ، فأحدث ذلك اتصالًا بين السلكين، وعليه مَرَّ تيار قوي جدًّا, أحدث قوسًا كبيرًا من النار، فصعقها, وأذاب بعض الأسلاك النحاسية، فوقفت الآلة, وانطفأ نور العاصمة، وبعد الحادثة وجدت الفأرة يابسةً, فوضعت في كمية من الكحول لحفظها". لا شكَّ أن هذه قصةٌ إخباريةٌ صغيرةٌ, تصلح في الوقت نفسه لأن تكون طرفةً من الطرائف التي تسوقها الصحافة الحديثة، وفيها عنصر "الغرابة"، وهو العنصر الذي جعل لهذا الخبر قيمةً، كما أن فيها كذلك عنصر الطرافة؛ لأن القراء لم يعتادوا على مثل هذه الحوادث العجيبة؛ ولأن الفأرة الضئيلة استطاعت أن تحرم سكان القاهرة من نعمة الضوء مدةً ليست بالهينة. ولو أن حادثًا كهذا حدث في أيامنا هذه, لتسابقت الصحف إلى شركة النور تسأل المدير والعمال، ثم يخرج المندوبون إلى الجماهير في الطرقات والدور فيسألونهم: كيف فوجئوا بهذا الحادث؟ وكيف كان تصرفهم وقت وقوعه؟ وما الذي صنعه سائق السيارة, وهو ينهب الأرض نهبًا ليسعف راكبًا في مهمة خطرة؟ ومن مجموع هذه الإجابات يستطيع الصحفيّ أن يستكمل هذه الطريفة. إن الطرائف إذن بمثابة التوابل, أو المشهيات في مائدة الصحافة, وهي من أجل ذلك محبوبة من جانب القراء جميعًا، وتكون مقبولةً في نظرهم أكثر من ذلك إذا كانت ذات أنواع شتَّى، وصورٍ متعددةٍ، وفي هذا المجال تتنافس الصحف, وتتبارى أذهان المحررين، فقد تكون

الطرائف الإخبارية ذات طابع تاريخيّ، أو ذات طابعٍ جغرافيٍّ، أو ذات طابعٍ إخباريٍّ يشبه القصة الإخبارية، وهنا ينبغي للكاتب أن يؤخر نهاية القصة, أو يبطيء في الكشف عن عقدتها الفنية بقدر المستطاع، ذلك لأن الطرائف الخبرية لا تشتمل في الغالب على أخبار هامة، ولا تهدف إلى تزويد القارئ بهذه الأخبار الهامة، وإنما هي أشبه شيء بالمشهيات فوق المائدة, لا تحتوى على العناصر الرئيسية للغذاء، وإنما تشتمل على عناصر تثير شهوة الآكلين باستمرار. أنواع الطرائف: تستطيع بسهولةٍ أن تدرك أن الطرائف على أنواعٍ شتًّى، وألوانٍ متعددةٍ، ولكن أشهرها في الغالب هذا الذي نعرضه فيما يلي: أولًا: الطرائف الإنسانية. ثانيًا: الطرائف التاريخية. ثالثًا: الطرائف الخاصة بتراجم الرجال. رابعًا: الطرائف الجغرافية. خامسًا: الطرائف الخاصة بالأدب. سادسًا: الطرائف الخاصة بالعلم1. سابعًا: الطرائف الخاصة بالفن. ثامنًا: الطرائف الهزلية. وذلك فضلًا عن أنواع أخرى -ربما كانت أقل أهميةً- مثل الطرائف الموسمية، وطرائف أيام الإجازات، والطرائف الخاصة بأصحاب المهن, ونحو ذلك.

_ 1 L, Compbell, Exploring journalism, ch, ,Entertainment p , 484.

والملاحظ دائمًا أن الصحيفة اليومية أكثر عنايةً بالطرائف التي تتوافر فيها صفة "الحالية"، على حين أن المجلات الدورية هي التي تهتم بالطرائف الفنية والأدبية والعلمية. والملاحظ أيضًا أن مادة الطرائف بوجهٍ عامٍّ, أقرب إلى المجلة الدورية منها إلى الصحيفة اليومية, ومع ذلك فعلى الطرائف تعتمد الصحيفة دائمًا في ملء الفراغ المتخلف عن المواد الصحفية المعتادة، ولهذا يجب أن يكون لها رصيدٌ كافٍ من هذه الطرائف كلما أمكنها ذلك. وكما أن للأخبار الخارجية وكالات تحصل منها الصحف على هذه الأخبار, فكذلك "للطرائف" المتصلة بالأخبار وكالات تقدم هذه الطرائف للصحف التي تطلبها بين حينٍ وآخر، وفي مثل هذه الحالة تستطيع الوكالة أن توفر على الصحف مهمة البحث عن معلوماتٍ من هنا وهناك، وتعفيها من مئونة الاتصال المباشر بالأشخاص الذين ذكرت أسماؤهم في الخبر، أو الأماكن التي وقع فيها الحادث. أسلوب كتابة الطرائف: الحق أن قوة هذه المادة من المواد الصحفية -وهي مادة الطرائف- إنما تأتي دائمًا من الطريقة التي تتبع في كتابتها، من أجل ذلك ينصح علماء الصحافة كل من يمارسون كتابة هذا النوع أن يتوخوا دائمًا أن تكون كل كلمة من الكلمات, أو عبارةٍ من العبارات قادرةً على المشاركة في هذا الموضوع، مضيفةً إليه أثرًا من الآثار, لا يكون إلّا بها، ولا معنًى له بدونها. كما ينصح العلماء أيضًا بألّا يحرص الكاتب على أن يقدم كل ما يعرفه من التفاصيل عن الموضوع، بل يكتفي بالإشارة عن العبارة، ويكون بمثابة المضيف اللبق، لا يقدم إلى ضيوفه كل ما يملك في بيته من شتَّى ألوان الطعام، ولكن يقدم إليهم ما يشتهونه منها فقط.

كما ينصحونه كذلك بأن يصطنع في كتابة الطرائف أسلوبًا قريبًا من أسلوب القصة أو الرواية، ومعنى ذلك أن يتوخى الطرق التي من شأنها أن تخلق التأثير في نفس القارئ, وكما يؤثر استخدام الأساليب الخفيفة الروح, بما فيها من تشبيهاتٍ لطيفةٍ، وعباراتٍ جذابةٍ، وألوانٍ ساخرةٍ، وأساليب تتدفق بالحياة والحركة. وأخيرًا يوصي النقاد بأن يقسِّمَ كاتب الطرائف موضوعه إلى فقرات، كما يقسِّم القصة أو المسرحية إلى فصول ومشاهد؛ بحيث لا تظهر للقارئ كأنها كتلة مصبوبة، أو شيء ملقى في الطريق، أو مادة تملأ فراغًا في الصحيفة لا أكثر ولا أقل. وما أشبه هذه المادة من مواد الصحافة الحديثة -وهي مادة الطرائف- بمادةٍ نجدها دائمًا في كتب الأدب العربيّ، ولا يخلو منها كتاب من كتب الجاحظ على الأخصِّ، وهي مادة النوادر والملح1. والقارئ لكتب الأدب العربيّ من جهةٍ، والمتتبع لسير الأدباء -ونخص بالذكر منهم الكتّاب- من جهةٍ ثانيةٍ، يرى كيف كان لهذه النوادر والملح تأثير كبير في ذوق الأديب العربيّ, وكيف كانت مادة من أهم المواد في تثقيفه وتأهيله لأنه يصبح كاتبًا له شأنه، وله قلمه، وله ظرفه، وله أدبه. ولا يتسع المجال هنا لضرب الأمثلة على هذه النوادر والملح من الأدب العربيّ، فهي أكثر من أن تحصى من ناحية، وأشهر من أن ندل عليها من ناحيةٍ ثانيةٍ، ومن هنا نجح كلٌّ من الجاحظ في كتبه الكثيرة، والأبشيهي في كتابه "المستطرف في كل فن مستظرف" وابن حجة الحموي في كتابه

_ 1 وهنا لا ننسى ما يؤديه العلم كل يومٍ من خدمات جلية للصحافة, وغيرها من المؤسسات الكبيرة، ومن ذلك اختراع: "الحاسب الإلكتروني"، وهو جهاز يزيد المعلومات الهامة ويحفظها, ويزود بها الراغب فيها فور الطلب.

"ثمرات الأوراق" وأبو الفرج الأصفهاني في كتابه "الاغاني"، والمبرد في كتابه" الكامل"، وابن عبد ربه في كتابه" العقد الفريد" في أن يكونوا "صحفيين" ناجحين بالقياس إلى العصور التي عاشوا فيها، فقد استطاعوا أن يمدوا قراءهم بطائفة صالحة من "طرائفهم" حول الموضوعات، والأشخاص، والحوادث، والتجارب، والأماكن، والكائنات التي تعرضوا لها في كتبهم، ومن ثَمَّ أقبل قراؤهم على هذه الكتب يقضون في قراءتها, والاستمتاع بها أكبر وقت مستطاع. ومعنى ذلك: أن لهذا الفن من فنون الصحافة الحديثة -وهو فن الطرائف- أصلًا في الآداب القديمة، ومنها الأدب العربيّ. وكما أن النوادر والملح تعتبر على الدوام من الأدب الواقعيّ فكذلك الطرائف تعتمد الاعتماد كله على الواقع الملموس, ولا صلة لها مطلقًا بالخيال أو الصور الوهمية بحالٍ ما، ولا شكَّ في أن من أغراض فن الطرائف مد القارئ بما يسمى: "الصورة الخلفية" 1 للحوادث، وهي صورة تساعد على شرح الأسباب والنتائج والحقائق، ونحو ذلك. من هم كُتَّابُ الطرائف: تعتمد المجلة أو الصحيفة في كتابة الطرائف على نوعين من الكتاب في الغالب: أولهما: أعضاء في هيئة التحرير روضوا أقلامهم على كتابة هذه الطرائف، ومالوا إليها كثيرًا، ووقفوا دائمًا وراء الأخبار يعملون على استكمالها، ويستعينون على ذلك إما بالكتب والمراجع الأدبية والعلمية على اختلافها، وإما بالاتصال بالأشخاص الذين تدور حولهم الأخبار الهامة في الصحف، ومن هؤلاء المراسلون الخارجيون للصحيفة.

_ 1 Booky round

وثانيهما: كتاب يتصلون بالمجلة أوبالصحيفة عن طريق "المصاحفة" ولا يكونون في هذه الحالة أعضاء في هيئة التحرير، ولكن تنظر إليهم المجلة أو الجريدة على أنهم من أصدقائها. والمشاهد أن النوع الثاني من كتاب الطرائف أكثر نجاحًا في الغالب من النوع الأول، ذلك لأن الكتاب الذين من هذا النوع الثاني يكتبون بوحيٍ من أنفسهم، كما يفعل الشعراء أو الكتاب الأحرار سواء بسواء، ثم إن هذا النوع الأخير من كتاب الطرائف يدرك تمامًا أن من أهم مصادر هذا الفن من فنون الصحافة الحديثة الأفراد الذين يتصل بهم، والقصص التي يسمعها من أفواههم, والمناظر الطبيعية التي يراها في المحيط الذي يعيش فيه، والتجارب التي مرت به، ونحو ذلك. على أن أهم مصدر لكتابة الطرائف في الواقع هو نفس المصدر الذي تستقي منه الأخبار والحوادث الداخلية، ونعنى به: أماكن الشرطة، أو البوليس في المدن والقرى، وكثيرًا ما يختلف المخبر أو كاتب الطرائف إلى هذه الأماكن, ويعود وحقيبته مملوءة بشتَّى القصاصات، والبيانات، والمذكرات، والصور، وغير ذلك من المواد التي تساعد على كتابة الطرائف. ما الفائدة التي تعود على القراء من الطرائف؟ لا شكَّ أن الإقبال الذي نراه من القراء على هذا الفن الجميل من فنون الصحافة بَيِّنٌ -كما قلنا- إلى أي حدٍّ يشعر القراء بالفائدة والمتعة في وقت معًا من هذه القراءة. فالكاتب الذي يكتب الطرائف الكثيرة عن الشخصيات البارزة, أو الشخصيات المعقدة، أو الشخصيات المكافحة في الحياة، يقدم أَجَلَّ الخدمات للشباب الذين يجدون صورهم منعكسة في إحدى هذه الشخصيات.

فيشعرون من مطالعة هذه الطرائف بالراحة النفسية التي لا حَدَّ لها. والكاتبة المحترفة أو المصاحفة التي تجسد من وقتها ما يكفي لكتابة الطرائف التي تمس الشئون المنزلية للمرأة، أو تشير من قريب أو من بعيد إلى مشكلاتها الزوجية، أو المادية، أو النفسية، تساعد الكثيرات من الزوجات على التخلص من متاعبهن، أو تحسين حالاتهن، مسترشداتٍ في ذلك بالتأثير النفسي الذي ربحته من مطالعة هذا اللون من ألوان الصحف. وبهذه الطرق وأمثالها يصبح الجيل الجديد من الشبان والفتيات أكثر ثقافةً من الأجيال السابقة، ويخوض غمار الحياة بنفوس أكثر صفاءً وتحررًا من تلك الأجيال، بل بهذه الطريقة تؤدي الصحافة وظيفة "الأدب الواقعيّ" وتحل محله في أوقاتٍ كثيرة، وتكفي -إلى حد ما- في تغذية الجيل الحاضر من هذه الناحية. على أن الأمر عسير على المحرر المحترف أو المصاحف بقدر ما هو يسير على القاريء أو المستمع؛ فالمحرر عليه دائمًا أن يبحث عن احتياجات القراء، وعن مطالب المجلة أو الصحيفة، أو الإذاعة، وعليه أيضًا أن يحسن استخدام النقد عند الضرورة، وعليه أن ينمي اتصالاته بالناس على اختلاف طبقاتهم، وعليه أن يضيف كل يوم جديدًا إلى معلوماته وتجاربه الخاصة، كما أن عليه أن يأخذ نفسه بالصبر والمثابرة في الوصول إلى المعاني الجديدة, والألفاظ التي تناسب هذه المعاني الجديدة. ثم هو بعد هذا كله لا يبدأ الكتابة إلّا حين يشعر بالرغبة الشديدة فيها، فقد بَيَّنَّا أن هذه المادة أقرب إلى المجلات الدورية منها إلى الصحف اليومية، أو بعبارة أخرى: أقرب إلى طبيعة الأدب منها إلى طبيعة الصحافة.

ويستطيع القاريء أن يطلع في كل يوم على الصحف المحلية أو الصحف الأجنبية فيجد العدد الوفير من الطرائف على اختلاف أنواعها، وخاصةً منها الطرائف ذات الطابع الإنسانيّ، ومنها -على سبيل المثال- مقال قرأته في جريدة الجمهورية الصادرة ببغداد، وإليك خلاصة له: قطع الراديو برامجه وأعلن النبأ عادت "تينا" وعطست.. في وجه الملك. قبل حلول عيد الميلاد بأسبوعين, خرجت هانا "23سنة" متوجهةً إلى أسواق "ديبل" التي تقع في وسط مدينة "كوبنها كره" لتختار هديةً لزوجها السيد: بيتر فيكيل "26سنة" الطالب في كلية الهندسة، وقد صحبت معها طفلتها "تينا" التي كانت قد أكلمت الشهرين من عمرها، وتركت الأم الطفلة في عربتها الصغيرة أمام أحد مداخل السوق المزدحم, ودخلت لشراء الهدية. وبعد برهةٍ خرجت الأم إلى حيث تركت ابنتها، ولكن العربة والطفلة التي في داخلها لم يكن لهما أثر, وقد أجرى البوليس تحقيقًا روتينيًا, ووعد الأم برجوع طفلتها خلال ساعاتٍ من نفس اليوم، كما حدث في حالات مماثلة، ومرت أيام على الاختفاء, وبعد أن وجه البوليس نداء إلى كل من لديه معلومات يدلي بها عن الموضوع، وبعد أن وقف البوليس مكافأةً قدرها "1700" دينار, على من يساعد في العثور على الطفلة، أجمعت أكثر من ثلثمائة شهادة على أن امرأةً متوسطة الطول, داكنة الشعر, مستديرة الوجه، لها شفاه ممتلئة, في حوالي الثلاثين من عمرها, شوهدت في فترة الظهر وقت اختطاف الطفلة، وهي تحمل طفلة صغيرة وتسير متجهة ناحية الميناء البحريّ. وقامت الصحف الدانماركية الكبرى بتحقيقاتها للعثور على الطفلة.

ولكن بدون جدوى، وأعلنت جمعية سائقي التاكسيات الدانماركية المساهمة بألفين وستمائة سائق للعمل على إيجاد "تينا". وعقدت الآمال على ليلة عيد الميلاد، وموسم عيد الميلاد في الدانمارك كله فرح واحتفالات عائلية، ولكن اكتنف الاحتفالات هذا العام وجومٌ لم يعرف له الدانماركيون مثيلًا منذ الاحتلال النازي، وذلك بسبب غيباب الطفلة "تينا" عن والديها, وحين حَلَّ عيد رأس السنة, ظهر رئيس وزراء الدانمارك كعادته على شاشة التليفزيون, ووجَّه كلمةً للشعب الدانماركي, ونداءً خاصًّا للحاشية، ووعدها بمعالجة خاصة للحادث. وعاد مدير البوليس الذي قطع إجازته مع مئات من مساعديه الذين قطعوا عطلتهم اختياريًّا من أجل مواصلة التحقيق، وأعاد قراءة أكثر من خمسة آلاف رسالة كانت قد وردت من المواطنين، وفي إحدى الرسائل قال كاتبها: إن إحدى قريباته في مدينةٍ تبعد 50كم عن "كوبنها كرة" قد ولدت في نفس التاريخ الذي اختفت فيه "تينا" وقد لفت نظره كبر حجم الطفلة الوليدة. وتوجَّه البوليس إلى العنوان المذكور، وفتح باب الشقة, وظهرت امرأة تنطبق عليها الأوصاف التي ذكرها أكثر من ثلثمائة شاهد، وطلب البوليس النظر إلى الطفلة، كما طلب رؤية أوراق المستشفى؛ فانهارت أعصاب المرأة, وأعترفت بأن الطفلة هي "تينا". وعلى أثر هذا الاعتراف, حملت سيارة البوليس الأم حيث تعرفت على ابنتها واحتضنتها وهي تبكي, بعد أن غابت "29 يوما" عنها, وقطع الراديو برامجه, وأعلن الخبر, وقد شهدت الدانمارك يومًا مماثلًا لذلك اليوم قبل إحدى وعشرين سنة، يوم أعلن تحرير الدانمارك من قوات الاحتلال النازي،

وقد ظهر من استجوابات البوليس أن الجانية تعاني حالة نفسية معقدة، وخوفًا من أن تفقد زوجها اضطرت للكذب وادِّعاء الحمل، وقد توجه رئيس البوليس لدار "فيكيل" وقبَّل الطفلة، محاولًا أن يريح نفسه من عناء الليالي والأيام التي قضاها وهو يقتفي أثرها. وبعد ساعاتٍ أرسل الملك "فردريك" ملك الدانمارك برقيةً إلى الأم يهنئها باجتماع الشمل، وقد رغبت الأم الشابة في أن تعرب له عن امتنانها, فاتصلت بالقصر الملكيّ, ونظمت للملك زيارة خاصة لتمثل أصغر دائرة رسمية بين يدي جلالة الملك. وفي إحدى الصالات الملكية, توجه الملك "فردريك" إلى زائرته الصغيرة, وحملها بين يديه مبتسمًا. أما الطفلة الصغيرة, فرفعت رأسها ونظرت إليه بعينين بريئتين, ثم فتحت فمها وعطست في وجه الملك1.

_ 1 صحيفة الجمهورية الصادرة في بغداد بتاريخ 20/ 2/ 1966.

الخبر والمجتمع

الخبر والمجتمع: الخبر مادة صحفية ذات أثر كبير في المجتمع -كما رأينا, غير أن هناك طائفةً من الأخبار تدور حول الجريمة، أو الأشياء المثيرة للضمير الإنسانيّ ذاته، بغضِّ النظر عن الضمير الذي يخلفه الدين والأخلاق، فما موقف الصحافة من هذه الأخبار؟ أتنشرها وتتحمل وزرها كاملًا؟ أم تخفيها وهي قطعة من الحياة التي تحياها المجتمعات؟ لقد اختلف العلماء اختلافًا كبيرًا في ذلك، فهم بين مؤيدٍ لنشر الجرائم الخلقية والاجتماعية كما هي، ومعارض للنشر على هذا النحو, والذي نشاهده عادةً أن في نشر الجريمة تعظيمًا لها، وأن هذا النشر في ذاته يجعل من مرتكبيها أبطالًا في نظر المجتمع -في بعض الأحيان- ونخص بالذكر منهم الصبية، والصغار، والمراهقين، ومن إليهم. والذي نعلمه مع ذلك, أننا في عصرٍ ينبغي أن يعرف فيه الصبية والصغار والمراهقون، كلَّ ما في الحياة من خير وشر، وأن نعرض على أبصارهم وأذهانهم صورًا من المآسي التي ربما تعرضوا لمثلها في مستقبل الأيام. ولا يستطيع أحدٌ منا أن ينكر-مع هذا كله- أن الصحافة كثيرًا ما تعين رجال الأمن على القيام بأعمالهم في تعقب المجرمين، وفي الكشف عن النواحي الناقصة في قصة الجريمة. على أننا نلاحظ مع ذلك أن كثيرًا من الصحف تخوض في بعض القضايا المنظورة أمام المحاكم، وتحاول التأثير في القضاء، وفي الشهود، وفي

المحامين، والمخلفين، ومن ثَمَّ يقول الكاتب الأمريكيّ "ولتر ليبمان Walter lippman: " الجريمة قطعة من الحياة التي نحياها، وليس الخطر آتيًا من نشر أخبار الجريمة في ذاتها بقدر ما هو آتٍ من تحوّل الصحيفة إلى مخبر سريّ، وقاضٍ، ونائب عام، ونحو ذلك". ومهما يكن من شيء, فليس أمامنا الآن إلّا أن نستعرض آراء المؤيدين لنشر الجريمة، وآراء المعارضين لهذا النشر. فأما المؤيدون فإنهم يرون: أولًا: أن الصحيفة تمد الجمهور بحقيقة الجريمة، فيصبح الناس مستعدين لعمل شيء حيالها، مهيئين كذلك للسعي في علاجها, أو بعبارة أخرى: يضطر المجتمع إلى تجنب أسباب الجريمة، واتخاذ الإجراءات التي تحول دون تكرار حدوثها. ثانيًا: أن نشر الجريمة يحول أيضًا دون فِعْلِ الشَّرِّ في ذاته؛ لأن المجرم يتوارى عن الناس، ولا يخاف شيئًا مثل ما يخافون عدسة المصور الصحفيّ أو قلم المخبر الذي يتعقبه. ثالثًا أن أخبار الجريمة تكشف عن أساليب المجرمين في اقتراف جرائمهم الفظيعة، وتساعد رجال الأمن في القبض عليهم. رابعًا: يضاف إلى ذلك ما قلناه من أن الأطفال لابُدَّ أن يكون لهم علم بالخير والشر معًا، وذلك قبل النزول إلى معترك الحياة، والشر ناحية من نواحيها ينبغي أن يدرس على الأقل بهذه الطريقة. خامسًا: في النفس البشرية ميلٌ إلى التشفي من مرتكبي الجرائم،

وميل إلى الاطمئنان على سير العدالة التي من شأنها أن تعاقب المجرمين الذين يرتكبون هذه الجرائم، وبها ميل كذلك إلى الوقوف على مدى العقوبة التي حلت بالمجرم، حتى يطمئن الناس إلى ما في الحياة نفسها من قيم إنسانية خالدة، وإلى أن الخير والشر في هذه الدنيا يتصارعان، ولا بد أن تكون الغلبة أخيرًا للأول على الثاني. سادسًا: أما جرائم الأحداث والمتشردين, فتكاد تجمع الصحف على أن الخير كل الخير في عدم نشرها، وفي العدول -على الأقل- عن ذكر أسماء أصحابها، وصورهم, والمعلومات التي تدل عليهم، أو تشير إليهم دون غيرهم، ذلك لأن الحدث لا يزال في مطلع حياته، والأمل كبير دائمًا في إصلاحه، فإذا صلح بالفعل لا يكون من الخير أن يحتفظ الناس له في أذهانهم بتلك الصورة القبيحة، وهذا هو ما يحدث فعلًا في كلٍّ من فرنسا وانجلترا. وأما المعارضون فيقولون: أولًا: إن الصحف كثيرًا ما تكتفي بمجرد عرض أخبار الجريمة بدون التعرض لأسبابها، والتحليل الدقيق لهذه الأسباب. ثانيًا: إن الصحف كثيرًا ما تسلك طريق المبالغة في تأكيد الجريمة، فتعطي بذلك صورة خاطئةً للقارئ. ثالثًا: إن نشر أخبار الجريمة -كما قلنا- يفيد رجال الأمن في تعقب المجرمين، غير كذلك يفيد المجرمين أنفسهم في الإمعان في التخفي. رابعًا: في نشر الجريمة -كما قلنا- تعظيمٌ لشأن المجرم، وتصويره بصورة البطل الذي حَيَّرَ رجال الأمن، واسترعى انتباه العامة والخاصة. ومن هنا يأتي تأثيرها السيء على الأطفال والشبان، وكثيرًا ما رأينا

عددًا من هؤلاء وهؤلاء يرتكبون نفس الجرائم التي يقرءون عنها في الصحف، أو يرونها مصورة على الشاشة البيضاء في دور السينما. خامسًا: كثيرًا ما يحاول نشر الجريمة دون الوصول إلى العدل في الحكم في قضايا الإجرام؛ لأنها تؤثر في إدراك القضاة، والمحامين، والشعب نفسه، وتقديرهم لهذه الجرائم. تلك هي آراء المؤيدين والمعارضين على السواء، ومنها نخرج بنتيجةٍ واحدةٍ، وهي أنه لا بأس على الصحف من نشر الجرائم، على أن تراعي في ذلك الدقة، وتتجنب التهويل والمبالغة، وتشفع الخبر بتحليل أسبابه, وبيان علاجه, كلما أمكن ذلك، وعليها كذلك أن تحذر التدخل في عمل القضاء، إلّا إذا وثقت من أنها تكشف عن جوانب ربما خفيت على القضاء ذاته، ويجب أن تقلل ما أمكن من المساحة التي تعطيها لأخبار الجريمة، وتحتاط في الطريقة التي تنشر بها قصة الجريمة، والصور الشمسية التي تصحبها في العادة. ومما هو جدير بالذكر أن الصحف السوفيتية درجت على أنها لا تنشر أنباء الجرائم، أو حوادث الاعتداء، إلّا في حالاتٍ استثنائيةٍ خاصةٍ، ويكون النشر في هذه الحالة لغرض معين، وبصورة موجزة يكتفي فيها بأن يقال مثلًا: "إن أحد المواطنين أدين بسبب اعتدائه على النظام الاشتراكيّ الذي تسير عليه الحكومة" أو "إنه أدين لإخلال خطيرٍ بنظام العمل" وهكذا، ومثل هذا يلاحظ أيضًا في البلاد الشيوعية الأوروبية التي تدور في فلك الاتحاد السوفييتي. ومع هذا وذاك, فقد ذهب كثيرون من الصحفيين المشهورين في مصر

إلى أن نشر الجرائم بهذه الطريقة الأخيرة لا يؤدي مطلقًا إلى النتيجة المطلوبة، بل إنه كثيرًا ما يبعث الناس على الجريمة, وما زال الباحثون والصحفيون مختلفين في هذا الرأي إلى اليوم. ومهما يكن من أمر هذا الخلاف, فهناك أمور يمكن أن يتفق عليها، وأكبر الظن أنها لا تجد اعتراضًا من الفريقين على السواء، ومنها: أولًا: أنه لا ينبغي للصحف أن تحرص دائمًا على ذكر الأسماء في الجريمة, فإذا نشرت صحيفة ما أن سيدة تقدمت إلى مأمور أحد الأقسام تتهم طالبًا جامعيًّا، أو موظفًا حكوميًّا، أو رجلًا ذا مكانة في المجتمع, بأنه اعتدى عليها، وأنه لجأ إلى القهر والإكراه في ذلك، بحيث لم تستطيع أن تنقذ نفسها منه، فإن على الصحيفة في مثل هذه الحالة ألّا تذكر الأسماء عند نشر الجريمة؛ لأنه لا فائدة للمجتمع من وراء ذلك، بل إن الضرر أكثر من النفع للمجتمع في مثل هذه الحالة. ثانيًا: لا ينبغي للصحف أن تجاري السينما، أو الأدب المكشوف, ونحوهما في إثارة الغرائز الجنسية جريًا وراء الربح الماديّ، فإنه لا يصحُّ مطلقًا أن تثرى طائفة من الناس على حساب الأخلاق، أو بطريق نشر الفضائح. صحيح أن في مواد القانون ما يضمن حماية المجتمع والأخلاق من كل ذلك، ولكن العيب ليس في القانون، وإنما هو في تطبيق هذا القانون على القائمين على دور السينما والراديو والتليفزيون، وناشري الكتب والصحف. ثالثًا: ينبغي للصحافة دائمًا أن تقف إلى جانب القانون، والمجتمع، ورجال الأمن، والقضاء، وأن تكون على الدوام ضد الإجرام. ذلك أن الإجرام في ذاته عمل عدواني على المجتمع، وكثيرًا ما يكون نتيجة لفشل الفرد في الاندماج في هذا المجتمع، وربما كان من أسبابه سواء استعمال أوقات الفراغ، والإدمان على قراءة الأدب المكشوف،

ومشاهدة الأفلام السينمائية الموصوفة بالانحراف، ونحو ذلك. وإذا كان الأمر ككذلك, فقد وجب على الصحافة الرشيدة -وهي أكثر وسائل الإعلام إلحاحا على القارئ- أن تعين على تكوين رأي عام ضد الجريمة في أي شكل من أشكالها المعروفة، وغير المعروفة. رابعًا: خير للصحافة دائمًا أن تحتاط في نشر الأخبار التي تمس النوابغ في الأمة، وأصحاب المواهب فيها، فهؤلاء الناس من البشر، ولهم ما للبشر من نقائص عادة، ولكنهم في الوقت نفسه ممتازون عن سواهم من أفراد المجتمع، وهم من هذه الناحية، يجب النظر إليهم بعين الاحترام والتقدير على اعتبار أنهم "كنوز" حقيقية للمجتمع، ومصدر من مصادر قوته وتفوقه على غيره من المجتمعات الأخرى، وعلى ذلك فمن الخطر أن تعبث الصحف بهم، أو تشوه من أسمائهم، أو تنال منهم بطريقة أو بأخرى, لمجرد أنهم سقطوا فيما يسقط فيه البشر. إن الصحافة التي تحافظ على كنوز الأمة، وتحوط برعايتها عظماء هذه الأمة هي "الصحافة الرشيدة" التي تعرف واجببها نحو أمتها، وتخشى عليها من العواصف والزلازل التي تقوض ركنها، وتذهب بثروتها المعنوية التي لا يمكنها أن تعيش إلّا بها. وسنعود إلى التحدث عن هذا الموضوع في الفصل الآتي بعنوان: "الذوق الصحفيّ والخبر". وهنا يحلو لنا أن نقدم للقارئ طرفًا من الإرشادات التي أصدرتها إحدى الصحف الإنجليزية لمحرريها، وقد جاء في بعضها ما يلي: ليكن مفهومًا لدى المحررين أننا لا نريد تمجيدًا للمجرمين، فلا يصح مطلقًا أن نظهرهم بشكل أبطال، أو شهداء, ونحو ذلك, إن المجرمين هم الأعداء الحقيقيون للمجتمع، ومن ثَمَّ لا يصح لنا أن نستخدم في الإخبار عنهم مثل هذه العبارات: "ملك اللصوص"، "أسد العصابة"،

"أستاذ الإجرام" و"روبين هود البلد الفلاني" وهكذا، فإن مثل هذه العبارات تثير خيال الشباب، والأطفال، وتدفعهم دائمًا إلى السير في نفس الطريق". ويجب علينا نحن المحررين من ناحية أخرى أن نسهب في الكلام -كلما أمكن ذلك- عندما نصف شجاعة رجل الأمن، ومهارته في ضبط اللصوص، وتعقب المجرمين، كما يجب علينا أن نقف دائمًا إلى جانب القانون والنظام، بل يجب علينا دائمًا أن نبحث عن مبرراتٍ لقسوة الأحكام التي يصدرها القضاء ضد هؤلاء المجرمين، حتى يشعروا شعورًا حقيقيًّا باحتقار المجتمع لهم، ورغبة الحكومة في إبادتهم، والتخلص منهم إلى الأبد. كما يحلو لنا كذلك أن نسأل أنفسنا مع الأستاذ "أوكس ريتشلر" رئيس تحرير صحيفة "نيويورك هيران ستيتمان" هذا السؤال: هل نكون مخطئين إذا امتنعنا عن نشر كيفية وقوع سرقة بالتفصيل، أو كيف ارتكب شخص مختل الشعور حادث انتحار؟ إنني أعرف أن شركات التلفزيون تتبع ما يمكن أن يسمى دروسًا تدريبية في القتل والسلب والاغتصاب، غير أننا لا نتبع هذه الطريق، بل نلغيها من أساسها. ونحن نوافق هذا الأستاذ على إجابته، ونرجو أن يوافقنا عليها جميع رؤساء التحرير في الصحف. ومعنى ذلك: أن الصحفيّ الجدير بهذا الاسم يجب أن يشعر دائمًا بشعورين في وقت واحد: الأول: شعور بتجربة الصحافة. الثاني: شعور بمسئولية الصحافة.

والواجب يحتِّمُ عليه دائمًا أن يجعل الشعور الثاني مقدمًا على الشعور الأول. الأمثلة: إن الشعور بالمسئولية الإعلامية في الوقت الحاضر أصبح لازمًا لرجل الإعلام بعد أن كثرت أجهزة الإعلام وأصبحت في متناول أكثر الناس، فإذا خفي الشعور بهذه المسئولية الضخمة, كانت لذلك آثاره السيئة وعواقبه الوخيمة على شباب الأمة بنوع خاص. شهد بعض الشبان في مصر فيلمًا سينمائيًّا صوَّر لهم الطريقة التي استطاع بها بعض اللصوص في أمريكا أن يسرقوا مصرفًا ماليًّا من المصارف الكبيرة، وما كاد الشبان يغادرون دار السينما حتى اتفقوا فيما بينهم على ممارسة التجربة, وحاولوا بالفعل أن يسرقوا مصرفًا ماليًّا في ضاحية مصر الجديدة، فقبضت عليهم الشرطة وساقهم إلى المحكمة، فاعترفوا بأنهم فعلوا فعلتهم هذه بعد أن شهدوا بأنفسهم عرضًا سينمائيًّا شرح لهم هذه الجريمة. ومثل آخر: هو الخبر الخاص بالشقيّ "محمود سليمان" المعروف "بالسفاح" وهو شقيٌّ ظهر فجأة في القاهرة، وارتكب عددًا كبيرًا من السرقات، واقتحم كثيرًا من المنازل، وأحدث إزعاجًا كبيرًا في العاصمة وضواحيها، فاستفحل شره, وانتهزت الصحف المصرية هذه الفرصة وأخذت تبالغ في أخباره، وحاولت الشرطة أن تقبض عليه فلم تفلح في ذلك أول الأمر, ووصفته بعض الصحف بالبطولة، وأنه يأخذ من مال الأغنياء ليعطي الفقراء, وكادت هيئة الشرطة تيأس من ضبطه, واضطرب الأمن بسبب تشجيع الصحف لهذا الشقيِّ على أعماله وتصرفاته، ثم صدر أمر من الحكومة القائمة للصحف بالكفِّ عن هذه الطريقة غير الفنية في نشر

الأخبار، فرضخت الصحف للأمر، وأصبح الشعب يبذل جهده في معاونة رجال الشرطة للقبض على المجرم، وقبض عليه في النهاية، وكان ذلك في جبلٍ بحلوان، وكان أن قتل المجرم نفسه رميًا بالرصاص قبل القبض عليه بدقائق، وهكذا انتهت هذه المأساة التي عرفت بها الصحافة أنها إنما كانت تسيء إلى الحكومة وإلى الشعب, وإلى الأمن بمبالغتها في نشر أخبار هذا المجرم، ومبالغتها في وصف تحركاته وخططه وأفكاره1.

_ 1 انظر: أزمة الضمير الصحفي، وراجع: الصحافة والمجتمع.

الأخبار من الزاوية الأخلاقية وزاوية

الأخبار من الزاوية الأخلاقية, وزاوية المسئولية الإعلامية: إن رجال الإعلام في كل أمة من الأمم هم وكلاء هذه الأمة في ميدان من أخطر ميادين الحياة، وهو ميدان الأخبار وميدان الثقافة والإرشاد. إنهم المسئولون في الواقع عن رفاهية الشعوب، ومسئولون كذلك عما تقع فيه هذه الشعوب من البؤس, وهم المسئولون كذلك عن الحرب, وعن السلام بين شعوب الأرض1. وإن نظرةً واحدةً إلى تاريخ الصحافة في العالم -بما فيها الصحافة العربية- ترينا أن الصحافة قسمان: صحافة الخبر، وصحافة الرأي أو المقال, وصحافة المقال -في تاريخنا العربيّ- سابقةً لصحافة الأخبار، ولم تبدأ صحافة الخبر بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة في تاريخ الصحافة المصرية بنوعٍ خاصٍّ قبل سنة 1936، وهي السنة التي ظهرت فيها جريدة المصري، وفي عددها الأول كتب محمد التابعي يقول: "وعدٌ واحدٌ فقط هو الذي نتقدم به إلى القراء، وهو أن نحاول -ما استطعنا- أن ندخل على "المصريّ" لونًا من روح العصر الذي نعيش فيه، عصر السرعة والاختزال، عصر الأنباء والأخبار، ودائمًا الأخبار". والصحافة العربية فيما انصفت به من الابتداء بصحافة المقال, مخالفةً للصحافة الأوروبية التي اتصفت منذ بدايتها بالميل إلى الأخبار، وبقي الحال على ذلك حتى ظهور الديموقراطيات ونموها في أوائل القرن التاسع عشر.

_ 1 عبد اللطيف حمزه: أزمة الضمير الصحفيّ, ص6 بتصرف.

وإذ ذاك ظهرت في كلٍّ من أوروبا وأمريكا "صحافة الرأي" وحلت محل صحافة الخبر، وبلغت أوجها بقيام الثورة الفرنسية، ثم تغيرت الظروف تغيرًا كاملًا في القرن العشرين، وعادت الصحافة الأمريكية -بنوع خاص- إلى صحافة الخبر, وأصبح التنافس قويًّا في سبيل الحصول على الأخبار, حتى لجأت الصحف أخيرًا إلى طريق الإعارة، ومنذ ذلك الوقت أصبح الهدف الأول للصحافة الأمريكية هو الحصول على أكبر قدر من المال، ولم يصبح الهدف الأول للصحافة هو التوجيه والإرشاد، كما كانت عليه الحال من قبل, ولعل السبب الأول والأخير في وصول الصحافة الأمريكية إلى هذه الحالة الأخيرة هو الخضوع لرأس المال، وخضوع الديمقراطية الأمريكية للنظام الحر Liperalism وهو النظام الذي تدل عليه الجملة المعروفة: "اتركه يفعل، اتركه يمر "Laisses Fuire- laisses passr" سمات صحافة الخبر: إن لصحافة الخبر سماتٍ تعرف بها, وتميزها عن صحافة المقال، ومن هذه السمات ما يلي: 1- قلة عنايتها بالمقال, أو اقتصادها في المساحة المخصصة له، فإن حيِّزَ الصحيفة في مثل هذه الحالة يترك كثرة منه للخبر، ولا تبقى للمقال إلّا مساحة أقل من مساحة الخبر. 2- عناية صحافة الخبر عناية بالغة بحوادث الدجل والدجالين وتسلية القارئ بالخرافات وأخبار الشعوذة والمشعوذين، على حين أن صحافة الرأي إذا عرضت لمثل هذه الأخبار فلكي تنقدها وتسفه أصحابها، وتقدم العلاج الناجح لهذه الأدواء الضارة بالمجتمع. 3- زيادة اهتمام صحافة الخبر بأنباء الممثلين والممثلات والمغنيين

والمغنيات, والراقصين والراقصات, وبأخبار الطبقة البورجوازية في المجتمع، وبإيراد الأخبار الشخصية الخالصة لبعض البارزين في المجتمعات. 4- اختراع الأخبار بقصد إثارة القراء؛ فهذا خبر عن لصٍّ هاربٍ من وجه العدالة، وهذا خبر عن مشعوذ ظهر في الحيِّ الفلانيِّ، وهذا خبر عن تحضير الأرواح وهكذا، وغالبا ماتكون هذه الأخبار من صنع الجريدة نفسها، كما لجأت جريدة "أخبار اليوم" المصرية مرةً إلى الإعلان عن دواء اسمه "هـ3" وزعمت أنه يعيد الشباب للطاعنين في السن، وكان هذا الخبر مجرد اختراع من الصحيفة تسبب في ارتفاع كبير في نسبة التوزيع. صحيح أن لهذا الخبر الصحفيّ نصيبًا ضعيفا من الصحة، فقد قيل إن طبيبةً تركيةً وصلت إلى اختراع هذا الدواء, وعرضته على مجلس أطباء عقد لهذا الغرض برومانيا، غير أن هذا المجلس لم يقر الدواء الذي قدمته الطبيبة, فانتقلت به إلى مجالس طبية أخرى, ولكنها إلى الآن لم تظفر بإقراره بحالٍ من الأحوال, فإذا جاءت صحيفة كأخبار اليوم المصرية, واستغلت هذا الخبر استغلالا صحفيًّا، وأخذت تنشر عنه كل يوم شيئًا, فإن الهدف الرئيسيّ للصحيفة من وراء ذلك يصبح معروفًا، وهو الحصول على أكبر نسبة في التوزيع بالقياس إلى الصحف الأخرى، وهذا بالفعل ما حدث. إن الفرق بين صحافة الخبر وصحافة المقال إذن يتلخص في كلمة واحدة، وهي أن صحافة الخبر سلبية, وصحافة المقال إيجابية؛ لأن صحافة المقال تشارك في بناء المجتمع وبناء الإنسانية، وتضحي من أجل ذلك بالربح الماديّ، بينما تبذل صحافة الخبر قصارى جهدها في التسلية والترفيه عن القارئ, وفي اجتذابه إلى الجريدة بالطرق المشروعة وغير المشروعة, وهذا ما يدعونا إلى الكلام عن الصحافة الصفراء فيما يلي:

الصحافة الصفراء: إن صحافة الخبر التي مَرَّ ذكرها قد أنتجت صحافةً يقال لها: "الصحافة الصفراء" وهي الشكل المبالغ فيه من أشكال صحافة الخبر، وقد سبق أن قلنا إن السبب في هذه التسمية أن صحفيًّا أمريكيًّا ابتدع شخصية "الطفل الأصفر" وهي شخصية كاريكاتورية اتسمت بالانحراف الخلقيّ، وكان هذا الصحفيّ يطبع هذا الكاريكاتور في صحيفته دائمًا باللون الأصفر. ولهذا اللون من ألوان الصحافة الأمريكية تاريخ بدأ بصاحب صورة الطفل الأصفر التي مَرَّ ذكرها، ثم جاء بعد ذلك "بولتزر" و "هيرست" الابن؛ ليتنافسا تنافسًا حادًّا في مجال الإثارة الصحفية في نيويورك, وكان ذلك بين عامي 1893و 1895, وكان كل ذلك طمعًا في زيادة التوزيع، حتى تجاوز هذا التوزيع ستمائة ألف نسخة في الطبعة الواحدة، وتراوح عدد صفحات الجريدة بين 48و 50 صفحة العدد الواحد، وكانت النسخة الواحدة تباع بما لا يزيد عن خمسة بنسات؛ وإذ ذاك اتسمت الصحافة الصفراء بسمات منها: أولًا: فن تصميم العنوان وكتابة الألوان الكثيرة كالأحمر والأزرق والأصفر، لكي يلفت ذلك نظر القارئ. ثانيًا: الإسراف في استخدام الصور, ولولم تكن لها صلة بحقيقة الخبر، والصور في ذلك مثل الرسوم الكاريكاتورية, والكرتون السياسيّ والاجتماعيّ كثيرًا ما تكون وسيلةً من وسائل تضليل القراء بدلًا من هدايتهم إلى الحقيقة. ثالثًا: تزييف الأخبار، وانتحال الأحاديث، واختراع التحقيقات التي لا ظل لها من الحقيقة، وذلك بقصد تشويش الأذهان، وبلبلة الأفكار، وقد فعلت ذلك الصحف الصهيونية في أمريكا حين زيفت عددًا من صحيفة

روز اليوسف المصرية, ونشرت في هذا العدد حديثًا مزيفًا للرئيس جمال عبد الناصر, ليس له ظل من الحقيقة. رابعًا: الإكثار من الفكاهات والدعابات والنكات، والإتيان بكل ذلك عن حسن قصد من الصحيفة. خامسًا: اختراع الشخصيات التي تلعب بها الصحيفة دورًا خطيرًا في توجيه المجتمع, أو الحكومة, وجهةً معينةً قد لا تتفق والصالح العام، كما لا تتفق في كثير من الأحيان مع مصلحة السلام. سادسًا: اختراع المواقف المسرحية التي تتظاهر فيها الصحيفة بالوقوف مع الجانب الضعيف، وذلك بقصد واحد فقط، هو ضياع الحقائق في زحام هذا المسرح الذي خلقته الصحيفة على نحو يتفق ومصلحتها الذاتية لا مصلحة المجتمع. سابعًا: العناية التامة بتوافق الأخبار, والسعي وراء الأسرار الشخصية لهدف واحدٍ؛ كذلك هو نشر الفضائح, والقصص عن بعض الشخصيات المرموقة في المجتمع، وإنزال العظماء عن عروشهم، وقطع العلاقة بينهم وبين أفراد الشعب المملوء إعجابًا بهم وبأفكارهم، ومن حيث توافق الأخبار يقال: إن صحيفة العرب العراقية أيام الاحتلال كانت تقول للمحررين دائمًا: عليكم بتوافق الأخبار ولا شيء غيرها. ثامنًا: الصحافة الصفراء تدعو إلى تشجيع الحرب وتقدمها, وتفضل فكرة الحرب على فكرة السلام، وذلك أن قيام الحرب على أية صورة من الصور يعود على الصحف بالأرباح الوفيرة، ولهذا نرى صحافة الخبر تقيم العداوة والبغضاء بين شعوب الأرض, ونرى الصحفيّ أيضًا يحظى بالأموال السرية الضخمة التي تحمل إليه من المصانع الحربية الكبرى في أوروبا وأمريكا, ولا حياة لهذه المصانع بدون حرب, وهذا ما أشار به الزعيم "نهرو" في كتبه الكثيرة التي حذر فيها الصحافة من الرضوخ لأوامر هذه المصانع الحربية, أو تجار الموت على حد تعبيره.

وباختصارٍ شديدٍ نجد أن صحافة الخبر تثير دائمًا في الأفراد غرائزهم الوضعية، وتخاطب فيهم هذه الغرائز دائمًا، فتنشر بينهم أخبار الجنس والجريمة، كما تنشر فيهم كذلك الأخبار التي تشجع على فكرة الحرب، وتخفي فكرة السلام، وفي ذلك يقول الرئيس روزفلت: "إن الصحافة التي تثير الكراهية في النفوس, هي السبب الأول في انتشار جرائم القتل في المجتمع". وقد أصاب الصحافة المصرية انحرافٌ من هذا القبيل, وإن لم تبلغ مبلغ الصحافة الأمريكية في ذلك، وقد أشار الرئيس جمال عبد الناصر إلى شيءٍ من هذا الانحراف في الحديث الذي ألقاه على الصحفيين في اليوم الذي صدر فيه قانون تنظيم الصحافة, في الرابع والعشرين من شهر آيار "مايو" سنة1960، وضرب الرئيس بعض الأمثلة على انحراف الصحف المصرية يومئذ. ومن ذلك: اهتمام الصحف الكبرى في القاهرة بأخبار الزوجة التي خانت زوجها, وخبأت في دولاب بيتها ثلاثة رجال في وقت واحد، واستطرد الرئيس في التعليق على هذا الخبر, وفي السخرية منه قائلًا: لابد أن يكون هذا الدولاب مزودًا بجهاز تكييف هواء. كيف تعالج صحافة الخبر: فكرت كثير من الحكومات والشعوب، كما فكرت منظمة الأمم المتحدة، فيما سمي "بآداب مهنة الصحافة" وانعقدت لذلك المؤتمرات، وبذلت المحاولات للوصول إلى ما للصحفيّ من حقوق, وما عليه من واجبات، وقد استعرضنا هذه الجهود في كتابنا "أزمة الضمير الصحفيّ" واسترعت أنظارنا عبارة وردت في الميثاق الهنديّ للصحافة، جاء فيها:

"إن الصحفيّ الجدير بهذا الاسم, هو وحده الرجل الذي يستطيع التفرقة دائمًا بين الصالح العام والفضول العام، وهو الذي يدرك جيدًا أن الصحافة النزيهة تسعى دائمًا لخدمة الهدف الأول, وهو الصالح العام، وقلما تسعى لخدمة الثاني، وهو الفضول العام، ولذلك تمتنع عن نشر الأخبار الشخصية ما لم تتأكد من صحتها، وما لم تقدر كل التقدير أن في نشرها نفعًا يعود على المجتمع". وما زالت الجهود تبذل إلى يومنا هذا في ترقية صحافة الخبر، والسير بها في طريق الصالح العام للشعوب والحكومات. وقد شاركت حكومة الجمهورية العربية المتحدة في هذا السبيل بمحاولتين إلى الآن وهما: 1- إصدار قانون تنظيم الصحافة في عام 1960. 2- صدور الميثاق في الحادي والعشرين من شهر مايو سنة 1962. وقد وردت في الميثاق إشاراتٌ كثيرة إلى الصحافة، ووضعت هذه الإشارات دستورًا جديدًا للصحافة المصرية في عهد حكومة الثورة، ومن هذه العبارات التي وردت في الميثاق: "إن حرية الصحافة لم تعد محصورة في المعنى السياسيّ، كما كانت قبل ذلك، ولكنها تجاوزته إلى المعنى الاقتصاديّ، فأصبحت حرية الصحافة تهدف إلى التحرر من الخضوع لرأس المال" وقال الميثاق قبل ذلك: "كذلك تزايد الخطر على ما تبقى من حرية الصحافة -ثانيًا- بتزايد احتياجات المهنة نفسها لمعدات التقدم الآلي, ولم يعد في قدرتها إلّا أن تخضع

لإرادة رأس المال لمستغلٍّ، وأن تتلقى منه -وليس من جماهير الشعب- وحيها, واتجاهاتها السياسية والاجتماعية"1. الصحافة والجريمة: ما هو تعريف الجريمة عند علماء الاجتماع؟ وما هي مسئولية الصحافة عن الجرائم من الناحية القانونية الخالصة؟ أما السؤال الأول: فيجيب عنه الأستاذ "سذر لاند" في تعريف الجريمة بأنها: السلوك الذي تحرمه الدولة لضرورة ما، أو السلوك الذي تتدخل الدولة في منعه بعقاب مرتكبيه. غير أن هذا التعريف لم يشأ أن يبتعد عن التعريف القانونيّ البحت للجريمة، فقد اتجه بعض العلماء إلى تعريف المجرم بدلًا من تعريف الجريمة, ومن هؤلاء "برجسن" الذي قال في تعريف المجرم: "إنه الشخص الذي يعتبر نفسه مجرمًا ويعتبره المجتمع كذلك". ولهذا التعريف ميزةٌ وضحها "برجسن" حين لفت الأنظار إلى رأي المجرم في نفسه، وهي فكرة هامة تقدم على أساسها علم الإجرام. وأما السؤال الثاني -وهو مسئولية الصحف من الناحية القانونية- فإن الجرائم في ذاتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- جرائم ضد الأفراد العاديين. 2- جرائم ضد الدولة. 3- جرائم ضد المجتمع. وعلى الدولة يقع عبء حماية الأفراد والمجتمعات وحماية نفسها من

_ 1 عبد اللطيف حمزة: الإعلام له تاريخه ومذاهبه، الفصل 16.

الجريمة بأنواعها الثلاثة, وعلى الصحافة أن تساعد الدولة على القيام بهذه المهمة الخطيرة، وهذا هو ما يحدد مسئولية الصحافة، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى ما يسمى: "التشريعات الصحفية" والخلاصة: أن الجريمة قطعة من الحياة التي نحياها، وليس الخطر آتيًا من نشر أخبار الجريمة في ذاتها, بقدر ما هو آتٍ من تحول الصحيفة إلى مخبرٍ سريّ, أو قاضٍ يحكم في القضية. عودة إلى مذاهب نشر الخبر: سبق أن عرفنا شيئًا عن مذاهب نشر الخبر من حيث هو، واستطعنا أن نميز بين ثلاثة مذاهب: 1- المذهب المعتمد على الإثارة, أو إيثار الفضول العام على الصالح العام، وهو ما نتج عن ظهور الصحافة الصفراء. 2- المذهب الجاد, أو المذهب الذي يؤثر الصالح العام على الفضول العام، وهو ما تبحث عنه صحافة الرأي. 3- المذهب المعتدل, أو الجامع بين المذهبين السابقين، وهو ما تسير عليه أكثر الصحف المتزنة في العالم في الوقت الحاضر. كما سبق لنا كذلك أن أشرنا إلى سمات الصحافة المثيرة بوجه عام، والصحافة الصفراء بوجه خاص، والمهم أن نقول بعد ذلك إلى إن الدول الحديثة انقسمت بشأن هذا المذاهب الثلاثة؛ فالصحافة الأمريكية تميل إلى الإثارة، والشعب الأمريكيّ يقف وراء المجرم، والصحافة السوفيتية تأتمر بأوامر الحزب الواحد، ولا تبدي أي اهتمام بالجريمة وأخبارها، والصحافة المصرية تقف بين بين، وتؤثر الاتجاه الثالث من اتجاهات نشر الخبر، وإن كان ذلك لم يمنع من وجود صحف مثيرة إلى الوقت الذي صدر فيه قانون تنظيم الصحافة 24 مايو 1960. ولنضرب لك مثلًا بأخبار الجريمة في الصحافة المصرية:

الصحافة المصرية وخبر السفاح: كان من أوضح الأمثلة على اتجاه الصحافة المصرية إلى الإثارة, ذلك الخبر المشهور بخبر السفاح الشقيّ "محمود سليمان". وهو شقيٌّ من أشقياء مصر, ظهر فجأةً, وهدد الناس في أموالهم وحياتهم، وتعبت الشرطة في مطاردة هذا الشقيّ زمنًا طويلًا, لا يقل عن شهرٍ تقريبًا, وأتاح ذلك أثمن الفرص للصحافة لكي تخلق من هذا الشقيِّ في أول الأمر بطلًا يلعب بخيال الشعب، ولعبت الصحافة المصرية في هذه الحادثة دورًا يتلخص في المراحل الآتية: الأولى: اتسمت الصحافة المصرية فيها بالمبالغة في وصف الحادث, واستغلال الموضوع لإثارة القارئ. الثانية: تسابقت الصحف في نشر صورة المجرم في مكان ظاهر بالجريدة، ونوهت الصحف كذلك بالمكافآة التي رصدتها وزارة الداخلية لمن يقبض عليه، ثم اختفت من الصحف بعض العنوانات المثيرة والقصص المخترعة، وحل محل ذلك اتجاه جديد للكشف عن حقيقة المجرم, ومساعدة الشرطة في القبض عليه بأقرب وقت ممكن، وكل ذلك كان بوحي من وزارة الداخلية وتوجيه منها. الثالثة: قُضِيَ على المجرم في التاسع من شهر إبريل سنة 1960؛ وإذ ذاك عنيت الصحف بنشر صورة المجرم، وقد مزقت جسده رصاصات الشرطة, وبدا رجالها يسحبون هذه الجثة، أو يسحلونها على الأرض كما تسحل جثث الكلاب, حتى أثار ذلك غضب الرأي العام المصريّ على هذه الوحشية. وبالموازنة بين مختلف الصحف المصرية في طرق نشرها لهذا الخبر اتضح ما يلي:

1- أن الأخبار كانت أكثر الصحف إثارةً, وإن لم تكن أكثر من بقية الصحف اهتمامًا بمتابعة الخبر من حيث هو. 2- أن الصحف الثلاث: وهي الأخبار، والأهرام، والجمهورية، شغلت الناس بهذه القصة الإخبارية عن مشكلاتٍ كانت تستحق الاهتمام, ولكنها ضاعت في زحام أخبار السفاح. 3- كان نشر جريدة الأخبار عن هذه القصة الإخبارية في صالح السفاح في البداية، فقد خلق هذا النشر جوًّا من العطف عليه بين الناس، حين صورته الصحافة على أنه إنسان يحاول أن يثأر لشرفه، وأنه يسرق إلّا منازل الأثرياء انتقامًا منهم للفقراء، وأنه مواطن رياضيّ وذكيّ للغاية. 4- كفت الصحف عن نشر أخبار المطاردة بناءً على طلب وزارة الداخلية، وكانت الأهرام أكثر الصحف التزامًا بهذه التوجيهات. 5- وأخيرًا تحولت الصحف عن طريقتها إلى تصوير السفاح على أنه مجرم خطير لا ينبغي التستر عليه، ولكن ذلك جاء متأخرًا، خصوصًا وأن الناس يعبدون البطولة في صورتها الشعبية, ويحملون كراهيةً دفينةً لرجال الأمن.

الذوق الصحفي والخبر

الذوق الصحفيّ والخبر: تعتبر الصحافة -من حيث المظهر الخارجيّ، ومن حيث الهدف الإنسانيّ, والهدف الاجتماعيّ- مرادفةً في رأينا لكلمة "الذوق الحسن" أو "التناول الحسن" أو "التصرف الحسن" ونحو ذلك من الصفات الدالة على التهذيب. فحسن الذوق ضروريٌّ للصحفيِّ عندما ينظر في الحروف، والطباعة، والمداد والألوان المختلفة المستخدمة في الكتابة، والذوق ضروريّ للصحفيّ كذلك عندما يشتغل بترتيب مواد الصحيفة، وتنسيق هذه المواد، وتنظيم الأعمدة والعنوانات الكبيرة، والعنوانات الصغيرة، ثم الصور، وكيف تؤدي الغرض منها في نهاية الأمر. والذوق أشد لزومًا للصحفيِّ أيضًا عندما يقوم بتحرير المواد المختلفة؛ من خبر إلى حديث، إلى تحقيق، إلى تقرير مصور، إلى عمود، إلى مقال، إلى إعلان، ونحو ذلك. والذي نجزم به منذ الآن, هو أن جميع هذه الأمور متروكة لحسن تقدير الكاتب، أو المحرر، أو سكرتير التحرير، أو غيره ممن يناط بهم تنظيم الشكل النهائيّ للصحيفة، وهو الشكل الذي يعتمد عليه في رواجها، وإقبال الجمهور عليها. وعلى الصحفيّ اللبق ألَّا تغيب عن ذهنه هذه الحقيقة، وهي أن الذوق ضروريٌّ لكل عمل يتصل بصحيفته، وعليه أن يصدر عن هذه الحقيقة دائمًا في كل عمل من الأعمال التي تتصل بالتحرير في الصحيفة، أو الإخراج، أو الإعلان، أو غير ذلك.

فأما من حيث التحرير -وهو الجانب الذي يعنينا من البحث الذي بين أيدينا الآن- فقد رأيت أيها القارئ كيف أن لكل خبرٍ من الأخبار، أو حادثةٍ من الحوادث, طبيعةً تخالف طبيعة الحادثة الأخرى، فمن الخطأ إذن أن تكتب جميع هذه الحوادث أو الأخبار بطريقة واحدة، أو تطبق عليها قاعدة واحدة، فإن في ذلك بعدًا عن الذوق، وتجافيًا عن المنطق، وإهدارًا لحقوق القراء الذين ينصرفون عن الصحيفة, ومن حقهم أن يفعلوا ذلك إذا وجدوها لا تحسن عرض هذه المادة الهامة من مواد الصحف، وهي مادة الخبر. وفي الجريمة يظن كثير من الناس -كما قلنا- أن مهمة الصحافة هي التشنيع، أو نشر عيوب المجتمع بشكل فاضح, كلَّمَا أمكن ذلك، ويقولون: إن في نشرها على هذا الوجه عظةً للقراء، وحفزًا للمفكرين في الإصلاح، كما يقولون أيضًا: إن وظيفة الصحيفة في هذه الحالة أشبه ما تكون بوظيفة "الكاريكاتور" ومن عمل هذا الفن الأخير تجسيم العيوب حتى تسترعي أنظار الخاصة والعامة، وهل يفعل الناقد الأدبيّ في قصة من القصص الاجتماعية أكثر من ذلك؟ وهذا كله صحيح إلى حد ما، ولكن أصح منه كما ذكرنا أن تراعي الصحف المحلية جانب الذوق في نشر الجريمة، وأهم من ذلك كله أن تصدر في نشرها عن رغبة صحيحة في الإصلاح، إلّا أن النية الحسنة من الأمور التي يصعب ضبطها في الحياة، والقصد الحسن من الميادين التي يكثر فيها الخداع والمغالطة في أكثر الأحيان، وعلى هذا ليس أمامنا إلّا أن نأخذ بظواهر الأشياء، فنحكم على صحيفة تنشر الجريمة بقصد الإثارة، أو الفضيحة، بأنها صحيفة آثمة في نظر الرأي العام، ومحكمة الرأي العام دقيقةً دائمًا في أحكامها, قادرة على تنفيذها على الصحف, مهما عظم سلطانها!

والحق أن من أصعب الأشياء أن نضع لحسن الذوق أصولًا وقواعد، نرسم له خططًا ومناهج، غير أننا مع هذا وذاك, نلح على الصحف بوجهٍ عامٍّ أن تتقيد بهذه القاعدة التي لا ضابط لها، وتأخذ نفسها أخذًا حكيمًا بهذا المبدأ الإنسانيّ العام الذي يقره المجتمع، وهذا المبدأ هو مراعاة شعور الناس في جميع الظروف والأحوال. دعوى القذف في الصحف: من أجل ذلك نريد أن نقف وقفةً قصيرةً عند دعوى القذف في الصحف، وأن نشير إلى رأي الكثرة الساحقة من الباحثين في هذا الموضوع. القذف إساءةٌ مقصودةٌ تراد بها السخرية من فكرة، أو واقعة صدرت من شخص، أو طائفة من الطوائف، أو هيئة من الهيئات، أو مؤسسة، أو شركة، أو نحو ذلك. ولا غرض لهذا النوع من الإساءة إلّا تشويه هؤلاء، والنيل من كرامتهم, وتعريضهم لخسارة مادية، وأخرى معنوية. والقانون من جانبه يحرِّمُ هذه الجريمة, ويعاقب عليها، ولا يسمح لصحيفة من الصحف أن توجه تهمة ما إلى شخص لم يرتكبها فعلًا، ولكنه يجيز للصحف أن ترمي موظفي الحكومة، أو الشركات، بجريمة الإهمال في العمل، والعبث بمصالح الأفراد والجماعات. وفي المجتمع أشخاص لهم بروز من نوع خاص، إما في عالم الأدب، أو الصحافة، أو العلم، أو الفنون على اختلافها، صحيح إن من حق الصحف أن تتعرض لنقد الحياة الخاصة لهؤلاء الممتازين في المجتمع، ما دامت لهم صلة كبيرة بالصالح العام لهذا المجتمع، أو بعبارة أخرى: ما دامت الأضواء مسلطة عليهم وحدهم دون غيرهم من أفراد المجتمع، أو بعبارة أخرى: ما دامت الأضواء مسلطة عليهم وحدهم دون غيرهم من أفراد المجتمع.

ولكن حرية الصحافة في التعرض لهؤلاء الممتازين من الناس ليست مطلقةً كل الإطلاق، بل مقيدةً بالتقاليد الاجتماعية من جهة، وبالرغبة التامة في المحافظة على العرف، وعلى الذوق العام، من جهة ثانية. من أجل ذلك، وجب أن يقدم النقد الصحفيّ الموجه إلى هؤلاء الممتازين من الناس على أسس ثلاثة فقط، هي: أولًا: أن هذا النقد الذي تقوم به الصحيفة نقد صحيح، وأن له نصيبًا من الواقع، وأن في استطاعة الصحيفة أن تقدم الوثائق الدالة على صحته متى طلب إليها ذلك. ثانيًا: أن هذا النقد الذي تقوم به الصحيفة قائم على حقائق لم تتناولها الصحيفة بالتغيير والتحوير، أو العبث بالحقائق في ذاتها عبثًا يقصد به إلى التجريح في ذاته. ثالثًا: أن القصد من نشر هذا النقد, أو التجريح, قصد شريف لا يهدف إلّا للدفاع عن الصالح العام, وحماية أفراد المجتمع. وعلى هذه الأسس الثلاثة المتقدمة يحق لكل صحيفة من الصحف أن توجه النقد إلى الممتازين في الأمة. والقاعدة التي ترتكز عليها الصحف في ذلك تتلخص في: أن من حق القراء أن يعرفوا الكثير عن زعمائهم وكبرائهم، وعن الطريقة التي يعاملهم القانون بها إذا ارتكبوا الخطأ. ومن ثَمَّ وجب على الصحف أن تحتاط احتياطًا كبيرًا في نشر الأخبار التي تتصل بالأشخاص، أو الهيئات التي تؤثر تأثيرًا قويًّا في حياة المجتمعات, ألَا ترى أن الفرق كبير بين أن نقول: "يظهر أن المركز المالي لشركات عبود, قد بدأ يتزعزع، وأن هذه الشركات أوشكت أن تعلن الإفلاس، فقد نزلت أسهمها نزولًا فاحشًا بلغ عشرين بنطًا في بورصة أمس".

وبين أن نقول: "بيعت أسهم إحدى شركات عبود أمس بسعر 185, أي: بنزول عشرين بنطًا عن أول أمس، وقد كان السعر منذ أسبوعين يبلغ 225". فالخبر الأول مبالغ فيه كل المبالغة، وضار بسمعة الشركة كل الضرر، وقد يفضي إلى إفلاسها فعلًا, والخبر الثاني يقرر الواقع، ويحتاج القراء بالفعل إلى معرفته، والوقوف عليه، ولكنه لا يبالغ في إزعاج المساهمين، ولا يملأ نفوسهم ذعرًا وشعورًا بالخسارة. وكائنًا ما كان الأمر, فلا مناص للصحيفة التي تحترم نفسها دائمًا من أن تصون أعراض الناس، وتصون أموالهم، وأرواحهم، وتزداد عنايتها بالممتازين منهم، وخاصة إذا كانوا من رجال القضاء، والأمن، وأساتذة الجامعات، والأطباء، والوزراء، ورؤساء الوزارات، ومن في هذه الدرجة الاجتماعية الممتازة. أما المرأة والفتاة, فعلى الصحف أن تحذر الكتابة عنهما، أو التعرض لهما كلما أمكن ذلك، وكلنا يذكر ما كان يفعله صحفيٌّ مصريٌّ أثيم، هو أبو الخير نجيب- في صحيفة "الجمهور المصري" وكلنا يعرف الطريقة الدنيئة التي كان يحصل بها هذا المجرم على أموال الأسر المصرية التي كان يهددها بين حين وآخر بنشر التهم أو الجرائم على صفحات جريدته هذه، وكلنا يعرف كذلك المصير الذي آل إليه هذا الشرير بعد إذا كشف القضاء المصري عن طريقته في التشنيع على الأسر الكبيرة في مصر. إن صحافة تهبط بنفسها وبقرائها إلى مثل هذا الدرك؛ لخليقة بأن تؤدي بحياة أمة بأسرها في أقرب وقت!

قد يرى الكثيرون من أصحاب الصحف في بعض هذه الآراء بعدًا عن الواقع والحقيقة، وسيتهمنا الكثيرون منهم بأننا نظريون -لا عمليون- وستظل المعركة قائمة بين الباحثين والمحترفين, أو بين الدارسين للصحافة في داخل الجامعات، والممارسين لها في دور الصحف، ولكن ربما كان ذلك الخلاف لفائدة العلم نفسه من جهة، ولفائدة الصحافة ذاتها من جهة ثانية. فلنكن نحن نظريين في رأي الكثيرين، وليكن أصحاب الصحف على اختلافها عمليين في رأي أنفسهم، فأيسر ما يترتب على هذه الظاهرة أن الحق يقع في وسط الطريق بينهم وبيننا، وأقل ما يترتب عليها كذلك أن الجيل الناشيء من الصحفيين سوف يستعرض في ذهنه كل هذه الآراء المختلفة في نشر الخبر، وأكبر الظن أنه سوف يؤمن إيمانًا عميقًا أن الصحافة الحاضرة مسرفةً في إثارة الغرائز، جريًا وراء الربح الماديّ. وأقل ما يترتب على هذا الخلاف كذلك, أن أهل هذا الجيل الناشيء من الصحفيين سيعد نفسه لتحقيق ما دعونا إليه في "المقدمة؛ من وجود صحافة نظيفة، يقص فيها المحرر الصحفيّ ما يشاء من أخبار الجريمة، ولكن كما يقصها على والدته، أو أخته، أو ولده، أو أستاذه في المنزل, أو في المدرسة، أو في الجامعة.

مصادر الكتاب الثاني

مصادر الكتاب الثاني: 1- News Agencies, & Tbeir structure, & operation من منشورات هيئة اليونسكو 1903. 2 - Late city Edition by: Josph Herzberg end Memders of the new Herald Tribune Staff "New york 1947" 3- News- man at work. by: Lauence Camphell and Poland Walselepy 1949. 4- One Hundred Years of Famous Pages from the New- york Times 1951. 5- Jurnale and journey men. by: Brigham, Clarence Sannders 1954. 6- The Art of News Commications by: Buch, Chilton Rowlette, 1954. 7- Newspaper reporting to - day by: Clayton charles , c. 1947. 8- News- man cpeak, by: Comlents Edmond D, 1954. 9- News workers, by: Keliker, Alice Verginia, 1939 10- The News in America, by Mott Frand Suther, 1952, 11- News Getting and News Writing by: R, Millwe neal, 1949. 12- How to read a Newspaper. by; Edgar Dale, 13- Exploring Journalism by L. Compbell. & Wyseleal 14- News Editing by: Westley. 15- كيف تصبح صحفيًّا: لكارل وارل، ترجمة عبد الحميد سرايا. 16- الصحف المصرية على اختلافها

مراجع لدراسة الخبر: 1- مدخل إلى الصحافة, تأليف: فرونزر بوند, ترجمة: راجي صهيون. 2- الصحفيّ المحترف, تأليف: جون هوهنبرج, ترجمة: فؤاد مويساني. 3- الصحافة: رسالة واستعداد, فن وعلم, د. خليل صابات. 4- أخبار الشرق الأوسط, دراسة بمعهد الصحافة الدوليّ بمدينة زيورخ, ترجمة: عبد اللطيف حمزة، ووليم المسير. 5- مخبر والصحف, تأليف دافيد بوتر, ترجمة: محمد مصطفي غنيم. 6- الأخبار ليلًا ونهارًا, تأليف: فيل أولت, ترجمة: أحمد قاسم جودة. 7- الصحفيّ الأمريكيّ, تأليف: برنارد وايزين جر, ترجمة: وديع سعيد. 8- برامج التليفزيون, تأليف: أدوار ستاسيف، ورودي برينتز, ترجمة: أحمد طاهر. 9- المندوب الصحفيّ, تأليف: جلال الدين الحمامصي. 10- من الخبر إلى الموضوع الصحفيّ, تأليف: جلال الدين الحمامصي. 11- الصحافة والسلام العالميّ, تأليف: مختار التهامي. 12- الصحافة: حرفة ورسالة, تأليف: سلامة موسى.

الكتاب الثالث: فن المقال

الكتاب الثالث: فن المقال فنون المقال ... الكتاب الثالث: فن المقال الفصل الأول: فنون المقال سبق لنا القول في كتاب "الصحافة والأدب في مصر"1: بأن للغة التي تُسْتَخْدَمُ في الكتابة مستوياتٍ ثلاثة، وهي: المستوى الأدبيّ: وهو المستوى الذي يقف فيه الأدباء للتعبير عن عواطفهم ومشاعرهم وتجاربهم الإنسانية بوجه عام، ولهم في هذا التعبير طرائق شتَّى تختلف باختلاف الأشخاص، واختلاف العصور، واختلاف البيئات. والمستوى العلميّ: وهو المستوى الذي يقف فيه العلماء ليعبروا عن الحقائق العلمية، سواء أكان ذلك في العلوم الكونية، أم التاريخية، أم الأدبية، وهم في هذا التعبير يلتزمون لغةً تمتاز بالوضوح، واستخدام الألفاظ التي تكون على قدر المعاني، واصطناع المصطلحات التي اتفق عليها أهل كل علم من هذه العلوم على حدة, ومعنى ذلك أن العلم مادته الحقائق وحدها، في حين أن الادب مادته العواطف والصور والأخيلة. والمستوى العمليّ: وهو المستوى الذي يقف فيه الصحافي لينقل للناس أخبار البيئة التي يعيشون فيها، والبيئات التي يتصلون بها، وليقوم للناس بتفسير هذه الأخبار في أثناء نقلها، وبعد نقلها، وذلك عن طريق التعليق عليها، والاستنارة بآراء الممتازين من القراء في بعضها, والصحافي في سبيل هذا الغاية -وهي كتابة الأخبار والتعليق عليها- يستخدم لغةً عمليةً يفهمهما القراء، ولايشترط فيها في لغة الأدب من خيال أو جمال، أو ما يشترط في لغة العلم من دقة بالغة في تحديد معاني الألفاظ.

_ 1 راجع الطبعة الأولى من الكتاب سنة 1955, ص 12.

ولعلنا حين نمعن النظر في تاريخ الكتابة الفنية، في أية أمة من الأمم، نجد أنها تمر بالمستوى الأدبيّ أولًا، فالمستوى العلميّ ثانيًا، فالمستوى الصحفيّ في نهاية الأمر. ففي الأول تكون الكتابة ذاتيةً لأنها أدبية، وفي الثاني تكون الكتابة موضوعيةً لأنها علمية، وفي الثالث تكون الكتابة عملية لأنها صحفية. حدث هذا في أوروبا، فظهرت الكتابة الذاتية أو الشخصية عند الكاتب الفرنسيّ مونتاني "1533- 1592" ثم ظهرت المقالة الموضوعية عند الكاتب الإنجليزيّ بيكون "1561-1636" وأخيرًا ظهرت المقالة الصحفية بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة على أيدي كتاب كثيرين، مثل: الكاتب الإنجليزيّ "ديفو" و"ستيل" وغيره من كتاب القرن الثامن عشر, الذين أدركوا الفروق بين هذه المستويات الثلاثة التي تحدثنا عنها، وقدروا إذ ذاك أن الصحافة جعلت لمخاطبة "رجل الشارع "ولتوجيهه، ولتثقفيه، ولتسليته، وإمتاعه، ومن أجل هذا أثر عن "ديفو" أنه قال كلمته المشهورة: "إذا سألني سائلٌ عن الأسلوب, قلت: إنه الذي إذا تحدثت به إلى خمسة آلاف شخص ممن يختلفون اختلافًا عظيمًا في قدراتهم العقلية -باستثناء البله والمجانين- فإنهم جميعًا يفهمون ما أقول". وإذا صح هذا الذي نقوله الآن, فإننا نستطيع أن نقسِّم المقال في جملته إلى ثلاثة أقسام هي: المقال الأدبيّ، والمقال العلميّ، والمقال الصحفيّ. وننظر في كل قسمٍ من هذه الأقسام الرئيسية, فنرى أنه ينقسم كذلك إلى أنواع وأشكال: في أنواع المقال الأدبيّ -على سبيل المثال- المقال الوصفيّ أو العرضيّ، والمقال النزاليّ، والمقال النقديّ، والمقال الكاريكاتوري، والمقال القصصيّ، والمقالات التي على شكل رسائل بين المحرر وقرائه، والمقالات التي على شكل

مذكرات أو اعترافات، والمقالات التي على شكل خواطر وتأملات، وهكذا. وللمقال العلميّ كذلك أنواع تختلف باختلاف المادة العلمية التي يخوض فيها الكاتب؛ فمقال في مادة التاريخ، وآخر في مادة الطب، وثالث في مادة الفلسفة، ورابع في مادة الأدب، من الناحية الوصفية لا الإنشائية، وهكذا, غير أنه يشترط في المقال العلميّ -إذا أريد نشره في صحيفة من الصحف- أن يبذل المحرر جهدًا كبيرًا في تبسيطه للقارئ، وبغير هذا لا تكون للصحيفة حاجة إلى نشره، أو العناية به. والمقال الصحفيّ ينقسم هو الآخر إلى أنواع؛ منها: المقال الافتتاحيّ, أو العمود الرئيسيّ، والعمود العاديّ, والتقرير بأشكاله المختلفة التي هي: الحديث والتحقيق والماجريات بأنواعها المعروفة. إلَّا أننا مع هذا وذاك, لا نستطيع ولو حرصنا أن نفصل فصلًا تامًّا بين هذه الأقسام الرئيسة الثلاثة التي هي: المقال الأدبيّ، والمقال العلميّ، والمقال الصحفيّ، والسبب في ذلك أنها تتلاقى في كثير من الأحيان، وتدع الباحث المدقق في حيرة من الأمر. خذ لذلك مثلًا: مقال النقد، فإنك ترى هذا الفن من فنون القول ذاتيًّا وموضوعيًّا في وقت معًا، أو بعبارة أخرى: نراه فنًّا وعلمًا في آنٍ واحد، له من الفن ذاتيته، وله من العلم موضوعيته. فالنقد علم بمعنى أن له أصولًا وقواعد تنبغي مراعاتها، ولا يستطيع الناقد أن يتجاهلها بحالٍ من الأحوال, والنقد فنٌّ بمعنى أن صاحبه في استطاعته أن يبني نقده على ذوقه الخاص، وشعوره الخاص نحو القطعة الأدبية أو الفنية التي يتعرض لها النقد، ويزنها بميزانه، ويطبق عليها أصوله. فماذا نسمي المقال النقديّ إذن؟ أنسميه مقالًا أدبيًّا صرفًا؟ أم نسميه مقالًا علميًّا صرفًا، أم ننظر إليه على أنه مزاج من المقالين؟ وبمثل هذه الطريقة في الواقع تتلاقى فنون المقال على اختلافها، ويتداخل

بعضها في بعضٍ إلى الحد الذي تصعب معه التفرقة بينها تفرقةً لا تقبل الشكَّ, وقد أشرنا إلى هذه الظاهرة في مقدمة البحث. تقسيم آخر للمقال: أشرنا إلى أن المقالة في الأدب الأوربيّ بدأت برجلين من أبناء القرن السادس عشر, هما: ميشيل دي مونتاين الفرنسيّ، وفرانسيس باكون الإنجليزيّ، اشتهر أولهما بالمقال الذاتيّ، واشتهر الثاني منهما بالمقال الموضوعيّ، ومنذ ذلك الوقت ورجال الأدب والنقد يقسمون المقال من حيث هو إلى هذين النوعين فقط، أما المقال الذاتي فيُبْنَى على التأمل العميق، والتجربة الذاتية، والتأنق في الأسلوب قدر المستطاع؛ بحيث يتوافر له كثير من نعم الجمالية، وأما المقال الموضوعيّ، فيبنى على العناية بالمضمون والمحتوى، ويعنى فيه الكاتب بالموضوعات العلمية لتقديم النصح والإرشاد إلى طبقة خاصة من الناس, كما فعل ذلك عبد الحميد بن يحيى الكاتب حين كتب رسالته المشهورة إلى الكاتب، وكما فعل صديقه ابن المقفع حين كتب رسالته المشهورة كذلك باسم "رسالة الصحابة" موجهة إلى الخلفاء وذوي السلطان. ومن اليسير علينا أن نفهم بعد ذلك لِمَ كانت المقالات الذاتية أدنى إلى الطول والانطلاق في العبارة، والتعبير عن شخصية الكاتب، على حين أن المقالة الموضوعية تبدو أقل طولًا، وأقصر انطلاقًا، وأدنى إلى التقيد بألفاظ خاصة، وتعبيرات خاصة. والخلاصة حتى الآن أن المحور الذي تدور عليه المقالة الذاتية هو الكاتب نفسه، أما المحور الذي تدور عليه المقالة الموضوعية فهو الموضوع الذي يتعرض له الكاتب. وغنيٌّ عن البيان أن المقالة الذاتية سبقت في وجودها المقالة الموضوعية, بل إن "باكون" -وهو رائد المقالة الموضوعية- كان متأثرًا بالكاتب

الفرنسيّ "مونتين" رائد المقالة الذاتية، جمع الأول -وهو مونتين- مقالاته بعنوان: "محاولات"، وجمع الثاني- وهو بايكون- مقالاته باسم: "موضوعات" والفرق بينهم واضح للقارئ, هكذا ذهب القدماء, وتبعهم المحدثون إلى تقسيم المقال إلى ذاتيّ وموضوعيّ، ولكننا نرى أن تقسيم المقال إلى ذاتيّ وموضوعيّ لا ينطبق في تقديرات الصحفيّ إلّا على المقال الأدبيّ والعلميّ، ولكنه قلما ينطبق على النوع الثالث من أنواع المقال، وهو المقال الصحفيّ. وهذا هو السبب الحقيقيّ الذي من أجله عدلنا عن الأخذ بتقسيم المقال إلى ذاتيّ وموضوعيّ، وأخذنا بالتقسيم الذي ذكرناه، وهو تقسيم المقال إلى أدبيّ، وعلميّ، وصحفيّ؛ لأنه التقسيم الذي وافق خطة الكتاب الذي بين يديك. تعريف المقال: لقد سبق لنا كذلك في كتاب "الصحافة والأدب في مصر" أن تعرضنا لتعريف المقال1. يطلق الإنجليز على المقال اسم: "محاولة Essay"، أي: أنها شيء غير مكتمل، شيء يشبه المذكرات الخاصة والخواطر المتناثرة، وعلى القارئ تكميل ما بالمقال من نقص، كما يكون على سامع القصيدة الغنائية أن يفعل مثل ذلك عند سماعه كل بين من الأبيات التي تتألف منها، وفي معجم لاروس تعريف للمقال كما يلي: "المقال اسم يطلق على الكتابات التي لا يدعي أصحابها التعمق في بحثها

_ 1 كتالب "الصحافة والأدب في مصر" للمؤلف ص16، وكتاب "مستقبل الصحافة في مصر" للمؤلف, ص 49.

أو الإحاطة التامة في معالجتها، ذلك أن كلمة "مقال" تعني: محاولة أو خبرة أو تطبيقًا مبدئيًّا, أو تجربة أولية". وعرفه قاموس أكسفورد فقال: "المقال هو إنشاء كتابي معتدل الطول في موضوعٍ ما، وهو دائمًا يعوزه الصقل، ومن هنا يبدو أحيانًا أنه غير مفهوم ولا منظم". ومرةً ثالثةً أقول: إنني عرضت في بعض كتبي السابقة للفرق بين المقال الأدبيّ والمقال الصحفيّ، وأشرت في أثناء ذلك إلى كتابٍ سبقنا في معالجة هذا الموضوع، هو كتاب الأستاذ "موريس هيونيت" وقد وضع لكتابه عنوان: "العمود وسارية الربيع"1. وبهذا العنوان فرَّقَ الكاتب تفرقةً واضحةً بين المقالة الصحفية التي رمز لها "بالعمود" والمقالة الأدبية التي رمز لها "بسارية الربيع"، وسارية الربيع هي ذلك العمود الكبير الذي يتخذه الإنجليزيّ رمزًا في "عيد الربيع" يزينونه بالزهور البديعة من كل صبغ، والورود الجميلة من كل لونٍ فتبدو السارية كأنها العروس في جلوتها، أما العمود العاري، وهو الذي رمز به الكاتب إلى المقالة الصحفية، فهو عارٍ من جميع هذه الزينة. ومرةً أخرى نقول: إن هذا هو رأينا في تقسيم المقال باعتباره مادةً من المواد التي يمكن أن تنشرها الصحف، وهو تقسيم يقوم على أساس من المستويات الثلاثة للغة من جهة، وأساس من واقع الصحافة المصرية ذاتها من جهة ثانية. فنحن حين ننظر في صحافتنا المصرية من عهد قريبٍ, نرى أن النوعين الأول والثاني من أنواع المقال، وهما الأدبيّ والعلميّ, قد ازدهرا ازدهارًا

_ 1 راجع "مستقبل الصحافة في مصر "للمؤلف ص 20.

عظيمًا في وقت النهضة الفكرية التي سادت مصر في الفترة الواقعة بين عامي 1922و 1942، أعني: في فترة ما بين الحربين العالميتين: الأولى والثانية, على وجه التقريب. ففي تلك الفترة التي نشير إليها, نعمت مصر بشيء من الاستقرار الماديّ والاستقرار الاجتماعيّ أتاحا للشعب المصريّ -أو للطبقة المستنيرة منه- أن تقرأ وتتذوق وتستمتع، وإذ ذاك سعدت مصر بألوانٍ فكريةٍ وأدبيةٍ شتَّى, سنعرض في بعض الفصول القادمة لأمثلة منها، وفي تلك الفترة التي نشير إليها أنجبت مصر خير أدبائها في الواقع، ومنهم على سبيل المثال: أمين الرافعي، ومصطفى صادق الرافعي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وعبد القادر حمزة، وتوفيق دياب، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وإبراهيم المازني، وسلامة موسى، وزكي مبارك، وأحمد حسن الزيات، وأحمد أمين، ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم، وعبد العزيز البشري، وفكري أباظة، وأحمد زكي، ومحمد فريد أبو حديد. ولقد كتب هؤلاء الفصول الممتعة في الصحف، وتوزعوا إذ ذاك على المقال بنوعيه: العلميّ والأدبيّ، وقدموا للقراء خلاصةً طيبةً للفكر المصريّ. ففي المقال الأدبيّ النقديّ ظهرت فصولٌ كثيرةٌ في الصحف، جمعت بعد في كتب، ومنها على سبيل المثال: "حصاد الهشيم" للمازني، و"ساعات بين الكتب" للعقاد، و"مطالعات في الكتب والحياة" له أيضًا، و"شعراء مصر في الجيل الماضي" له كذلك، و"حديث الأربعاء" لطه حسين، و"حافظ وشوقي" له كذلك، و"ثورة الأدب" لهيكل. وإذا تأملنا في هذه الفصول التي اشتملت عليها الكتب المتقدمة

اعتبرناها من المقال الأدبيّ، واعتبرناها كذلك من المقال النقديّ، ونحن على صوابٍ في كلتا الحالتين. وفي المقال الذي على شكل مذكراتٍ أو اعترافاتٍ, نجد على سبيل المثال: كتاب "الأيام" لطه حسين، و"عالم القيود والسدود" للعقاد، وكتاب "حياتي" لأحمد أمين. ولا ننسى أن نذكر أن هذه الفصول أو المقالات التي على شكل مذكرات, أو اعترافاتٍ, تعتبر من الأسباب التي مهدت لظهور الأدب الواقعيّ من جانبٍ، وهي في الوقت نفسه أثر من آثار الصحافة من جانبٍ آخر. أما المقالات التي على شكل خواطر وتأملات فمن الأمثلة عليها: كتاب "فيض الخاطر" لأحمد أمين، وسيل من الكتب الأخرى لا سبيل إلى حصرها، أو الإلمام بها. أما المقال العلميّ البحت, فمنه أكثر ما نشرته مجلة المقتطف، ومجلة الهلال، وإن كانت الأولى منها -بنوع خاص- إلى العلم أسبق، وبه أحفل, وأما المقالات النزالية فلها في مصر طريقان هما: طريق الأدب من ناحية ثانية. ففي الأدب ظهرت معركة حامية الوطيس بين القديم والجديد، وهي المعركة التي بدأت على صفحات "الجريدة" لمحررها أحمد لطفي السيد، وتناظر فيها رجلان هما: مصطفى صادق الرافعي عن القديم، وطه حسين عن الجديد، ثم ما لبثت هذه المعركة أن انتقلت إلى صحيفة "السياسة الأسبوعية" لمحررها محمد حسين هيكل، وما زال لهذه المعركة ذيول في صحفنا المصرية إلى اليوم.

ومن النزال الأدبيّ كذلك, تلك المعركة التي دارت رحاها مرةً أخرى بين طه حسين، وعباس العقاد حول موضوع الأدب اللاتيني، والأدب السكسوني، تَشَيَّعَ فيها الأول للثقافة اللاتينية، وتَشَيَّعَ فيها الأخير للثقافة السكسونية، وبقي الأمر سجالًا بينهما مدةً ليست بالقصرة. وفي الطريق الثاني من طرق النزال السياسيّ كثرت معارك شتَّى بين الأحزاب المصرية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، وأخذت تتزايد شيئًا فشيئًا فيما بعد، وقد أنزلقت بعض هذه المعارك السياسية أو الحزبية شيئًا فشيئًا فيما بعد، وقد انزلقت بعض هذه المعارك السياسية أو الحزبية إلى مستوى الخوض في الأشخاص والأعراض، وكان من هذه الأخيرة تلك الحملات الصحفية العنيفة التي حمل فيها العقاد على الرئيس السابق مصطفى النحاس، وذلك منذ خرج العقاد من حزب الوفد، وانضم إلى حزب آخر من الأحزاب السياسية، هو حزب السعديين في مصر. وإذا ذكرنا المقال النزاليّ في الصحافة المصرية, فإنه لا يصح لنا أن ننسى أولًا الحملات الصحفية في تاريخ هذه الصحافة، ونعني بها: الحملة التي اقترفت باسم "السيد على يوسف" صاحب "المؤيد"، وفيها شهر الرجل قلمًا على اللورد كرومر، جبار الاحتلال الإنجليزي في مصر، وكان ذلك في الفترة البسيطة التي سبقت سقوطه عن عرش الوكالة البريطانية، والفترة البسيطة التي أعقبت هذا السقوط، أعني: في النصف الأخير من سنة 1907، وقد عرفت المقالات النزالية التي تألفت منها حملة "السيد على يوسف" وعددها أربع عشرة مقالة، باسم مقالات: "قصر الدوبارة بعد يوم الأربعاء"1. هذا كله من حيث الصحافة المصرية, أو الأدب المصريّ المعاصر. المقالة العربية في العصور القديمة: أما في الأدب العربيّ القديم, فقد وجدنا أن إقناع الرأي العام كان

_ 1 عن أدب المقالة الصحفية في مصر، للمؤلف، الجزء الرابع ص 46و 76.

يسلك في البيئات السياسية وغيرها من البيئات المتحضرة طريقةً واحدةً فقط، هي طريقة الرسائل الحرة، يكتبها أدباء وعلماء لهم في تاريخ الأدب العربي شهرة واسعة، وكانوا لشهرتهم هذه مصدر خطر على الدولة حينًا ومصدر أمنٍ وصيانةٍ لها حينًا آخر، وهذه الرسائل، التي كتبها أولئك للكتاب في موضوعات الدين والسياسة والاجتماع والأدب، تعتبر مع التحوير القليل صحافةً كاملةً بالنسبة للعصور التي ظهرت فيها1. وقد ذهب الدكتور "محمد عوض محمد" في كتابه "فن المقالة الأدبية" إلى أن الخطبة بما لها من الإتقان اللفظيّ تعتبر أول خطوةٍ من خطوات المقالة الأدبية، أو أقوم صورةٍ لها، ثم تأتي بعد ذلك "المقامة" التي تعتبر الخطوة الثانية, أو الصورة الثانية للمقالة، وقريب من المقامة في الشبه الأحاديث والفصول التي يكتبها أدباء مشهورون مثل كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي، و "الفصول والغايات" لأبي العلاء المعري، وأخيرًا تأتي الرسالة فتمثل الخطوة الثالثة والأخيرة من الخطوات الموصلة إلى المقال، أو ينظر إليها على أنها صورة ثالثة من هذا المقال, كما عرَّفَه الأدب العربيُّ القديم, والرسالة في ذاتها أنواع: فمنها الرسالة الديوانية التي تصدر عن الخليفة أو الأمير أو السلطان, ومنها الرسالة الحرة التي أشرنا إليها، وهي التي تكتب في شتَّى الموضوعات التي لا صلة لها بالدولة. ومنها الرسالة الإخوانية التي يبعث بها الكاتب إلى بعض أصدقائه، وفي هذه الأخيرة يتناول الكاتب في بعض الأحيان شأنًا من شئون الحياة العامة, أو الخاصة, بفرق واحد، هو أن هذه الأخيرة تصطبغ بلون فلسفيّ بحت، ونجد ذلك في رسالة "ابن الفارقي" إلى أبي العلاء المعري، وقد رَدَّ المعري على "ابن الفارقي" في "رسالة الغفران".

_ 1 عبد اللطيف حمزة "أدب المقالة الصحفية "الجزء الأول، ط 1964 ص5و6.

وهناك نوع رابع من الرسائل هو النوع الذي يكتبه الكاتب ليقرأه الناس جميعًا، وهذا لا يرسل إلى شخص3 بعينه، ومن هذا الطراز أكثر رسائل الجاحظ. وعلى ضوء ما تقدَّم في شر ح الرسائل, يصح لنا أن ننظر إلى كل من "رسالة الحسن البصري في وصف الإمام العادل، ورسالة عبد الحميد بن يحيى الكاتب إلى الكتاب، وإلى الرسالة السياسية الإصلاحية المسماة بالهاشميين، أو رسالة الصحابة لابن المقفع، وإلى رسالة إبراهيم بن المدبر المسماة بالرسالة العذراء، وإلى رسائل الجاحظ كلها بدون استثناء, وإلى رسالة مالك بن أنس إلى الرشيد، وإلى بعض رسائل بديع الزمان، والخوارزمي، وإلى بعض رسائل الأبشيهي في كتابه "المستطرف في كل فن مستظرف"، وإلى رسالة أبي العلاء المعروفة برسالة "الغفران"، وإلى رسائل إخوان الصفا، وإلى رسالة سهل بن هروان إلى بني عمه من آل راهبون، كما يصح لنا أن ننظر إلى جميع هذه الرسائل وأشباهها في تاريخ الأدب العربيّ على أنها مقالات أدبية، أو صور حية من صور المقال الأدبيّ، كما عرفته العصور القديمة في تاريخ الأدب العربيّ. وفي ختام هذا الفصل تأتي بعض فقرات من رسالة الحسن البصريّ في وصف الإمام العادل على سبيل المثال: "اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مواقع التهلكة، ويحميها من السباع، ويكفها عن أذى الحر والقر. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح وتفسد بقساوته، وهو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم

وينظر إلى الله ويراهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال وشرد العيال1. وبعد، فإننا كما قلنا لا نستطيع الإلمام بهذا السيل المتدفق، أو الشتات المتفرق من المقال المصريّ بفنونه الثلاثة،: الأدبيّ، والعلميّ، والصحفيّ، ولكنا مكتفون هنا بالوقوف قليلًا عند المقال الأدبيّ، محاولين أن نضرب المثل عليه بأنواع ثلاثة فقط من أنواعه الكثيرة، وهذه الأنواع هي: المقال القصصيّ، والمقال الذي على شكل اعترافات أو مذكرات، والمقال الكاريكاتوريّ. فإذا فرغنا من ذلك انتقلنا إلى المقال العلميّ، فتحدثنا عن خصائصه، وطريقة كتابته. أما المقال الصحفيّ فنحن مضطرون إلى التحدث عن جميع فنونه المعروفة في الصحافة الحديثة، كالمقال الافتتاحي، والعمود، والحديث، والتحقيق، والماجريات الصحفية، كما ستأتي فيما بعد:

_ 1 محمد يوسف نجم: فن المقالة، ص 28ط بيروت 1957.

المقال القصصي

المقال القصصيُّ: لا تعلم كاتبًا مصريًّا بلغ في هذا اللون من ألوان المقال الأدبيّ ما بلغ الأديب الصحفيّ المعروف بالمازني, 1889-1949. ولا تكاد العربية تعلم كاتبًا جم التواضع، خفيف الروح في الكتابة، لاصقًا بالأرض في التفكير، كما كان هذا الكاتب القدير. ظهر تواضعه الجم في اللغة التي كان يكتب بها المقال، وفي طريقة عرضه على القراء، ولقد جمعت مقالاته في كتب، منها على سبيل المثال: حصاد الهيثم، وخيوط العنكبوت، وصندوق الدنيا، وفي الطريق، وقبض الريح، ومن النافذة، وع الماشي ... إلخ. وانظر إليه يقول في كلمة الإهداء التي جاءت في صدر كتابه: "صندوق الدنيا": "إلى التي منها معدني، وإليها المآل ... إلى أمنا الأرض"!! وقد اشتهر المازني بكتابة الأقصوصة، وإن سبقه إليها، وجرى معه في ميدانها كثيرون من أمثال: محمود تيمور، وجبران خليل جبران، وإسماعيل أدهم، وغيرهم. إلا أن أحدًا من هؤلاء لم يرزق موهبة المازني في عذوبة الكلام، وحلاوة الفكاهة، وشعبية العبارة، مع المحافظة التامة في الوقت نفسه على عربيتها. والمازني أكثر الكتاب المحدثين حديثًا عن نفسه، وعن بيئته، وعن صلته بأهله، وبالناس، ومع هذا يقول عنه توفيق الحكيم:

"الويل كل الويل لمن يؤرخ للمازني، فإن الكذب هبة من هباته, ذلك أن قدرة المازني في الخيال، والاختراع، واختلاط حقه بباطله قد أسدلت حجابا كثيفًا على وجهه الحقيقيّ"1. ورد المازني على مقال توفيق الحكيم مفسرًا هذا الكذب بأنه "الصدق الفنيّ" حيث قال: "وليس الصدق عندي -وأحسب الأستاذ توفيق الحكيم مثلي- أن يروي الكاتب قصة رفعت كلها بجملتها وتفصيلها بلا نقص ولا زيادة، فما لهذا قيمة، ولا هو الأدب الجدير بهذا الاسم، وإنما المعول في الصدق والكذب على طريقة العرض، وأسلوب التناول، والإخلاص في التعبير والتصوير, ولا وزن لكون القصة مما وقع للكاتب، أو لسواه، أو مما تخيل، وقد يأخذ الكاتب بعض الوقائع فيضيف إليه، أو ينقص منه، ويبني قصته مما جرب وعرف وتخيل أيضًا، ولا مفر من هذا المزج بين الحقيقة والخيال، وكما أن لكل مخلوق أنجالًا وأجدادًا، كذلك كل فكرة أو خالجة، أو خيال، وسنة الحياة واحدة في خلق الحيوان، وخلق الفكرة أو الإحساس، أو الخيال، وهذه السنة هي التوليد 2". ومعنى ذلك باختصار أن الواقعية عند الفنان هي الحياة التي حوله, مضافةً إليها شخصية هذا الفنان نفسه، أوهي الحياة كما تعكسها مرآة هذا الفنان بالشكل الذي يراه، فلا ينبغي أن ننتظر من الكاتب الواقعيّ أن يجعل نفسه آلة لا تحس، ولا تشعر، أو أن يصور لنا الحياة تصويرًا فوتوغرافيًّا، كما لا ينبغي لنا أن ننتظر منه ألَّا يقص علينا غير ما وقع بالفعل، فليس هذا هو المقصود بالواقعية في الأدب، وحسبنا منه إذن أن

_ 1 أدب المازني، للسيدة: نعمات فؤاد, ص44, نقلًَا عن مجلة الثقافة11/ 4/ 1939. 2 مجلة الثقافة بتاريخ 16/ 1929.

يقنعنا بأن هذه الحوادث، التي قصها علينا ممكنة الوقوع، وأن هذه الشخصيات التي تحدث عنها من الجائز أن توجد في الحياة. ومهما يكن من شيء, فقد اتفق النقاد على أن المازني في "الأقصومة" أعظم أصالة منه في "القصة" والأولى هي التي تعنينا في هذا المجال، وهي التي امتلأت بها الصحف المصرية في فترة من الزمان، وهي ما أطلقنا عليه اسم "المقال القصصيّ". وقد أشرنا إلى أهم الكتب التي جمعت فيها مقالات المازني القصصية، وبحسبنا هنا أن نضرب المثل عليها بأقصوصته التي نشرت بكتاب "صندوق الدنيا"1، وعنوانها: حلاق القرية وفيها يقول: وقعت لي هذه الحادثة في الريف منذ سنوات عديدة, قبل أن تتغلغل المدنية إلى أقصى قراه، وكنت أنا الجاني على نفسي فيها، فقد عرض عليّ مضيفي أن أستعمل موساه فأبيت، وقلت ما دام أن للقرية حلاقًا فعليّ به، فحذرني مضيقي، وأنذرني ووعظني, ولكني ركبت رأسي، وأصررت أن يجيء الحلاق، فجاء بعد بعض ساعات يحمل ما ظننته في أول الأمر "مخلاة شعير" وسلم وقعد، وشرع يحييني ويحادثني حتى شككت في أمره، واعتقدت أن الحلاق شخص آخر, وأن هذا الجالس أمامي ليس سوى "طلائعه" ولما عيل صبري سألته عن حلاق القرية فابتسم, ومشط لحيته بكفه، وأنبأني أن الحلاق "محسوبي" -يعني: نفسه- فلعنته في سري، وسألته: متى ينوي أن يحلق لي لحيتي، أم لا يضرب الرمل والحصى أولًا؟ ويحسب الطالع قبل أن يباشر العمل؟ فلم يفهم ما أقول،

_ 1 صندوق الدنيا، للمازني، ص 71، ط: دار الترقي للطبع والنشر بالقاهرة سنة 1929.

وأولاني صدغًا كث الشعر، وقال "هيه" فظننته أصم، وصحت به، " أ. ر. يد. أن. أ. ح. ل. ق". فسره صياحي جدًّا، وضحك كثيرًا, وأقبل على "مخلاته" فأخرج منها مقصًا كبيرًا، فدنوت من أذنه وسألته: هل في القرية فيل؟ فقال: فيل, لماذا؟ فأشرت إلى المقص، فضحك وقال: هذا مقص حمير ولا مؤاخذة. فقلت: ولما تجيئني بمقص حمير؟ أحمارًا تراني؟ ويظهر أن معاشرة الحمير بلدت إحساسه، فإنه لم يعتذر لي، ولا عبأ بسؤالي شيئًا، ثم أخرج "موسى" من طراز المقص و "مكنه" من هذا القبيل أيضًا، فعجبت له: لماذا يجيء إليّ بكل أدوات الحمير؟ وسألته عن ذلك فقال: إن الله مع الصابرين، وبعد أن أفرغ مخلاته كلها انتقى أصغر الأدوات حجمًا، وأصغرها هو أكبر ما رأيت في حياتي، ثم أقبل عليّ وقال: تفضل. قلت: ماذا تعني؟ قال: اجلس على الأرض. قلت: ولماذا بالله؟ قال ألَا تريد أن تحلق؟ قلت: ألَا يمكن أن أحلق وأنا قاعد على الكرسي؟ قال: وأنا؟ قلت في سري: وأنت تذهب إلى جهنم وبئس المصير! وهبطت إلى الأرض كما أمر, ففتح موسى كالمبرد، فقلت: إن وجهي ليس حديدًا يا هذا. قال: لا تخف إن شاء الله، ولكني خفت بإذن الله! ولا سيما حين شرع يقول: بسم الله، الله أكبر: كأنما كنت خروفًا، وبصق في كفه، ثم شحذ الموسى على بطن راحته، ثم جذب رأسي، فذعرت ونفرت ووليت هاربًا إلى أقصى الغرفة، فقال لي: ماذا؟ قلت: ماذا؟ أتريد أن تخلق لي بمبرد، ومن غير صابون؟ قال: ماذا يخيفك؟ قلت:

يخيفني؟ لقد دعوتك لتحلق لي لحيتي، لا لترد لي شعرها، قال: يا أفندي لا تخف، ثم قرأ من الكتاب الكريم، "فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى" إلى آخر الآية الشريفة، وأظنه أراد أن يرقيني بها، فيا لها من حلاقةٍ لا تكون إلّا برقية! وأسلمت أمري لله، وعدت فقعدت أمامه، فنهض على ركبتيه، وتناول رأسي بين كفيه، وأمال صدغي إليه، ثم وضع ركبته على فخذي، ولف ذراعه حول عنقي، فصار في مدفونًا في صدره، فصحت -أو على الأصح- جاهدت أريد الصياح لعل أحدًا يسمعني فينجدني، غير أن طيات ثوبه كانت في فمي، أما رائحة الثوب فبحسب القارئ أن يعلم أنها أفقدتني الوعي. ولا أطيل على القارئ، فقد أقوى الرجل بموساه على وجهي، فسلخ قطعة من جلدي، فردني الألم إلى الحياة، وآتاني القوة الكافية للصراخ على الرغم من الكمامة، ووثبت أريد الباب، ولكنه كان على كبر سنة أسرع مني، وما يدريني لعله كان يتوقع ذلك، وعسى أن تكون المرانة قد علمته أن يكون يقظًا لأمثال هذه المحاورات، فردني بقوةساعده، فتشهدت، وتذكرت قول المتنبي: وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانًا كلا! سأسدل على هذا المنظر الذي يقف له جلدي على الرغم من كر السنين الطويلة، ثم جاء هذا السفاح بطشت يغرق فيه كبش، ووضعه تحت ذقني، وصب ماءه على وجهي، وفي صدري، وعلى ظهري، ليغسل الدم الذكيّ الذي أراقه، وأخرج من "مخلاته" منشفة هي" بمسمحة" الأرض أشبه، فاعتذرت وأخرجت منديلي، وسبقته إلى وجهي، فهي معركة لا يزال بجلدي منها ندوب وآثار. "انتهى المقال".

فهذا نموذج كامل من المقال القصصيّ الذي قلنا: إنه لون من ألوان المقال الأدبيّ في الفترة ما بين عام 1922، وعام 1942، وهو إن دل على شيءٍ فإنما يدل على سيطرة الأدب على الصحافة، أو المقال على الخبر في تلك الفترة التي نشير إليها. وفي هذا النموذج وأمثاله من مئات المقالات التي كتبها المازني, ترى كيف أن أتفه الحوادث في نظر الناس يصلح أن يكون مادةً أدبيةً رائعةً تروق جميع الناس متى تناولها كاتب قدير يحيلها إلى مادة جديرة بالنشر في صحيفة! واسمع إلى المزني نفسه حيث يقول: "وكذلك أنا, أنا زوج الحياة الذي لا يستريح من تكاليفها، أقوم من النوم لأكتب، وآكل وأنا أفكر فيما أكتب فالتهم لقمة، وأخط سطرًا أو بعض سطر، وأنام، وأحلم أني اهتديت إلى موضوعٍ, وأفتح عيني فإذا بي قد نسيته، فأبتسم، وأذكر ذاك الذي رأى في منامه أن رجلًا جاءه، فنقده تسعة وتسعين جنيهًا، فأبى إلّا أن تكون مائة، فلما انتسخ الحلم, ورأى كفه فارغةً عاد فأطبق جفونه، وبسط راحته، وقال: "رضينا فهات ما معك". ونظرةً عاجلةً إلى فن المقال القصصيّ عند المازني, ترينا أنه يعتمد على أشياء منها: أولًا: الاتساع في الخيال، وهو ما أسماه توفيق الحكيم: "الكذب الحقيقيّ" وما سماه المازني: "الصدق الفني"، فليس من الضروريّ أن تكون الصورة كاملة الأجزاء في الواقع الملموس من الحياة؛ لأن الكاتب المبدع يستطيع بفنه وإبداعه، وتصوره وخياله، أن يكمل ما بهذه الصورة من نقص، أو أن يحذف ما بها من زيادة على حد قول المازني.

ثانيًا: انتزاع الفكاهة من الوقائع التي يرويها الكاتب، ولو كانت من الوقائع التافهة في ذاتها، وهكذا يستطيع المازني أن يستهوينا دائمًا، لا بأفكاره وآرائه، وإنما بقدرته على التصوير، وبراعته في انتزاع الفكاهة من الحياة بجميع صورها وأشكالها، وبما في هذه الحياة من جدٍّ وهزلٍ, وما فيها من أشياء قيمة وأخرى مهمة. ثالثًا: استعمال اللغة التي تصور الواقع، أو التي تشتق منه في أغلب الأحيان، ما دامت هذه الأقاصيص، أو المقالات القصصية قطعةً من الحياة الواقعية، كما أراد لها الكاتب أن تكون كذلك. من أجل هذا حرص المازني على أن يختزن في ذهنه مئات الذكريات، وألَّا يترك واحدةً منها في الماضي أو في الحاضر تفلت من ذاكرته بحالٍ ما، ذلك أن مطالب على الدوام بأن يمد هذه الصحيفة -أو تلك- بالمقال القصصيّ الذي تعوده منه القراء. وفي ذلك يقول المازني أيضًا: "وإن كتبت في الأسبوع مقالين، فجملة ذلك في العام يبلغ المائة، وكل مائة مقال تملأ ثلاثة كتب، فسيكون لي إذن بعد عشرة أعوام -إذا ظللت هكذا - ثلاثون كتابًا، خلاف ما أخرجت قبل ذلك. والبلاء والداء العياء أن تكتب مرة مقالة فكاهيةً، والطامة الكبرى أن تكون المقالة جيدة، وأن تكون الفكاهة فيها بارعة، فلا راحة لك بعد هذا أبدًا؛ لأن الناس يظلون ينتظرون منك بعد ذلك أن تطرفهم بالفكاهات في كل مقال آخر، فإن اخطئوا عندك ما يطلبون من الفكاهة فالويل لك، وأنت عندهم ضعيف لا تحسن أن تكذب، أو غير موفق فيما تحاول حتى ولو كنت تكتب، والناس معذورون، فإن وطأة الحياة ثقيلة، وما دمت قد عودتهم أن تسليهم، وتضحكهم، أو أطمعتهم، وأنشأت في نفوسهم الأمل في هذا، فماذا تريد أن تتوقع؟.

رابعًا: التهويل في وصف الأشياء، وهو نوع من الكذب الذي ذكره توفيق الحكيم، ومعناه عند البلاغيين كمعنى الذي يقول: أعذب الشعر أكذبه، أي: أمعنه في التخيل. فحقيبة الحلاق مخلاة شعير، ومقصه مقص حمير، وموساه مبرد، وحلاقته نفسها لا تكون إلّا برقية من الرقى، وهكذا. وبوابة أبيه -في أقصوصة أخرى- كبوابة المتولي, والمسامير التي تغطيها كبيرة، يعدل الواحد منها رأس طفل، ورتاج الباب غليظ يدخل في جدار عظيم السمك، وهكذا. فالمبالغة إذن, أساس من الأسس التي يبني عليها أقصوصته دائمًا، والمبالغة صفة من الصفات الغالبة على قصص الأطفال، فكأن المازني كان يقدر دائمًا أن قراءه من هذا النوع، ومع ما في هذه العبارة الأخيرة من الهجوم على قراءة المازني، فإن الذي لا ريب فيه أنه كان محبوبًا منهم جميعًا، بما كتب لهم من مقالات وأقاصيص كانت في حقيقة أمرها خير ما يصور البيئة المصرية، والدعابة المصرية، والشخصية المصرية التي بنيت على الإيمان بالقدر، والإيمان بالغيب، كما بنيت على الشكوك، وعلى الشك في الحياة، وعلى عدم الثقة فيها، والاستخفاف بها، وغير ذلك من السمات العامة.

مقال الاعترافات

مقال الاعترافات: لسنا نعرف كذلك أن كاتبًا بلغ في هذا الفن من فنون المقال الأدبيِّ بعض ما بلغه الدكتور طه حسين في كتابه المعروف "بالأيام". وهو صورة نابضة بالحياة، زاخرة بالمعاني، رسمها كاتب قدير عرف بغزارة العاطفة، وجمال التصوير، وعذوبة العبارة. وقد زعم الكثيرون أن كتاب "الأيام" محدود الجوانب, قصره كاتبه على وصف حياته في القرية، ولكن هذا الزعم بعيد عن الصواب؛ لأن الكتاب صورةٌ رائعةٌ للقرية المصرية بما فيها، ومن عليها، فضلًا عن كونه في نفس الوقت صورة رائعة أيضًا لكفاح شابٍّ فقد البصر منذ الصغر، ولكنه ناضل في حياته حتى أصبح ملء السمع وملء البصر! والكتاب من هذه الناحية الأخيرة أشبه بكتاب أمريكيٍّ كان له تأثير كبير في الأوساط الأدبية، وعنوانه: "العالم عند أطراف أصابعي". والحقيقة التي لا مراء فيها أن القرية المصرية لم تظفر بقصةٍ وافيةٍ تصورها هذا التصوير الجديد، كما ظفرت بذلك كله في كتاب "الأيام". من أجل هذا أقبل المصريون وقراء العربية إقبالًا منقطع النظير على قراءة هذه المقالات منذ نشرت تباعًا في مجلة الهلال عام 1926، ثم جمعت فيما بعد في كتاب، ثم ترجم هذا الكتاب إلى عدد غير قليل من اللغات الأجنبية؛ فوجد أصحاب هذه اللغات في قراءته أضعاف اللذة التي وجدها أصحاب العربية. ومهما يكن من شيءٍ، فإن كتاب "الأيام" يمتاز بأمور شتَّى يمكن

تلخيصها في كلمة واحدة، وهي أنه واقعيٌّ في تصويره، وإن لم يكن واقعيًّا في طريقة تعبيره، فهو واقعيٌّ في تصويره بمعنى: أن طه حسين وصف به حياته في الريف المصريِّ أصدق ما يكون الوصف، وصوَّرَ الحياة كلها في هذا الريف المصريِّ أدق ما يكون التصوير، فلا تكلف في تزويق الحديث, ولا جنوح إلى اختراع الحوادث، ولا رغبةً في إخفاء الحقائق عن عين القارئ، ومعنى ذلك: أن أهم ما في كتاب "الأيام" هو عنصر الصدق والأمانة، وهو من هذه الناحية مخالف لكاتب آخر، سبقت الإشارة إليه، وهو "المازني" الذي قلنا إنه يميل إلى اختراع الحوادث بما يتفق وما سماه: "الصدق الفنيّ". غير أن كتاب "الأيام" ليس واقعيًّا من حيث الأسلوب الكتابيّ، أو طريقة التعبير، بل هو في هذه الصفة الأخيرة مخلف كل المخالفة للمازني. ذلك أن "طه حسين" يأبى على شخصياته القصصية في "الأيام" إلّا أن تنطق اللغة العربية الفصيحة، على حين أن المازني، وتوفيق الحكيم، وأضرابهما من الكتاب, يجرون الحوار بين شخصيات القصة الواقعية باللغة العامية، ما دامت هذه اللغة هي التي يتكلمها أشخاص القصة بحكم مركزهم الاجتماعيّ من جانب، أو بحكم حرمانهم من الثقافة، وجهلهم باللغة الفصيحة من جانبٍ آخر. ومع هذا وذاك, لا يحس قارئ "الأيام" بأن في اللغة الفصيحة التي يجريها الكاتب على ألسنة أشخاصه شيئًا من الغضاضة، أو التكليف الذي يقلل تقليلًا واضحًا من صفة الواقعية، وليس كل جانب من الكتاب قادرًا على ذلك من الواقع؛ إذ أن طواعية اللغة لا تتيسر عادة إلّا للعارفين بها، والقادرين عليها. وثَمَّ صفة من الصفات التي يمكن أن يستشفها القارئ لكتاب "الأيام"، وهي أن "طه حسين" يهتم اهتمامًا بالغًا بتصوير النفس الإنسانية.

في كل موقف من المواقف التي تعرض لأشخاص القصة، ثم هو أبرع كاتب يهيء لك الجو من الناحية النفسية لكي تستطيع متابعة القراءة، وهو يعتمد في كل ذلك على ما وهبته الطبيعة من عمق المشاعر، واتساع العواطف، ورحابة النفس، والقدرة على سبر أغوار الأشخاص الذين يتحدث عنهم في مقالاته، كما يعتمد أخيرًا على قدرته على ما يسمى: "التأمل الباطني" حتى لكأن نفسه الباطنة دنيا كبيرة، أو مسرح ضخم يستطيع أن يكون فيه مخرجًا لشتَّى الروايات التمثيلية الإنسانية الخالدة. والخلاصة: أن صفة الخلود في كتاب "الأيام" آتيةٌ له من ناحيتين: هما الصدق الحقيقيُّ الذي تحدثنا عنه أولًا، والقدرة على وصف النفس البشرية بمشاعرها المختلفة في حالاتها المختلفة بعد ذلك. أما أسلوب هذه الفصول أو المقالات التي على شكل اعتراف؛ فمتأثرة بالمدرسة الجاحظية في الكتابة، وهي مدرسة ذات خصائص فنية معروفة, من أهمها: الإسهاب، والاستطراد، واتساع العبارة، وجذب القارئ، وسحبه بلطف ومهارة، ثم هي مدرسة تعنى كذلك بالمقابلات بين الألفاظ بعضها وبعض من جهة، وبين المعاني بعضها وبعض كذلك من جهةٍ ثانية، ولعل أهم ما تمتاز به المدرسة الجاحظية فوق هذا كله أمران: أما أولهما: فقدرة هذه المدرسة على أن تؤدي لك أفخم المعاني بأيسر الألفاظ. أما الثاني: فعنايتها عنايةً ظاهرةً بجرس اللفظ، وموسيقى العبارة، وتقطيع الكلام قطعًا متوازنة، تستطيع أن تقف عند كل واحدةٍ منها, وتستشعر الراحة في هذا الوقوف, ويظهر أن السبب في شيوع هذه الصفة الأخيرة في أسلوب "طه حسين"

-بوجه خاص- هو تعلمه منذ نعومة أظفاره تجويد القرآن الكريم، ثم اعتماده في ريعان شبابه، وإلى الآن في تحرير مقالاته، على الإملاء. ولسنا بقصدٍ في هذا الفصل من الكتاب إلى التعريف بطه حسين، ولا بأدب طه حسين، كما لم نقصد في الفصل السابق إلى التعريف بالمازني ولا بأدب المازني, وإنما قصدنا الكلام عن هذا الضرب من ضروب المقال الأدبيّ، وهو مقال الاعتراف، وقد شئنا أن نضرب له المثل بكتاب "الأيام" وكان يصح أن نضرب المثل بكتب أخرى لولا ضيق المقام. نموذج من كتاب "الأيام": على أن صبينا لم يلبث أن أضاف إلى هذه الألوان من العلم لونًا آخر جديدًا, هو علم "السحر والطلاسم"، فقد كان باعة الكتب يتنقلون في القرى والمدن بخليط من الأسفار، لعله أصدق مَثَلٍ لعقيدة الريف في ذلك العهد، كانوا يحملون في حقائبهم مناقب الصالحين، وأخبار الفتوح والغزوات، وقصة القط والفأر, وحوار السلك والوابور، وشمس المعارف الكبرى في السحر، وكتابًا آخر لست أدري كيف يسمى، ولكنه كان يعرف بكتاب "الديربي", ثم أورادًا مختلفة، ثم قصص المولد النبويّ، ثم مجموعات من الشعر الصوفيّ، ثم كتبًا في الوعظ والإرشاد، وأخرى في المحاضرات وعجائب الأخبار، ثم قصص الأبطال من الهلاليين والزناتيين وعنترة والظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن، ثم القرآن الكريم مع هذا كله. وكان الناس يشترون هذه الكتب كلها، ويلتهمون ما فيها التهامًا، وكانت عقليتهم تتكون من خلاصتها، كما تتكون أجسامهم من خلاصة ما يأكلون ويشربون.

وكان من القصص التي تكثر في أيدي الصبيان، يحملها إليهم باعة الكتب، قصة اقتطعت من ألف ليلة وليلة, وتعرف بقصة "حسن البصري" وفي هذه القصة أخبار ذلك المجوسيّ الذي كان يحول النحاس ذهبًا، وأخبار ذلك القصر الذي كان يقوم من وراء الجبل على أعمدة شاهقة في الهواء، وتقيم فيه بنات سبع من بنات الجن، والذى آوى إليه حسن البصريّ، ثم أخبار "حسن" هذا، وما كان من رحلته الطويلة الشاقة إلى دور الجن. وبين هذه الأخبار خبر ملأ الصبيِّ إعجابًا، وهو أن قضيبا أهدى إلى حسن البصريّ في بعض رحلته، وكان من خواص هذا القضيب أن تضرب به الأرض فتنشق, ويخرج منها تسعة نفر يأتمرون بأمر صاحب القضيب -وهم بالطبع من الجن - أقوياء، خفاف، يطيرون، ويعدون، ويحملون الأثقال، ويأتون من عجيب الأمر ما لا حد له. فُتِنَ الصبيُّ بهذه العصا، ورغب في أن يظفر بها رغبةً شديدةً قويةً، أرَّقَت ليله، ونغَّصت يومه، فأخذ يقرأ كتب السحر والتصوف، يتلمس عند السحرة والمتصوفين وسيلةً تمكنه من هذه العصا. وكان له قريبٌ صبي مثله, يرافقه إلى الكُتَّاب، فكان أشد منه كلفًا بهذه العصا، وما هي إلّا أن جَدَّ الصبيان في البحث حتى انتهيا إلى وسيلة يسيرةٍ تمكنهما مما يريدان، وجداها في كتاب "الديربي" وهي أن يخلو الفتى إلى نفسه -وقد تظهر- ووضع بين يديه نارًا ومقدارًا من الطيب, ثم يأخذ في ترديد هذا الاسم من أسماء الله: يا لطيف، يا لطيف، ملقيًا في النار شيئًا من الطيب من حين إلى حين، ويمضي في ترديد هذه الكلمة، وتحريق الطيب حتى تدور به الأرض، وينشق أمامه خادم من الجن موكل

بهذا الاسم من أسماء الله, فيطلب إليه ما يريد، والحاجة مقضية من غير شك. ظفر الصبيان بهذه الوسيلة، فاعتزما أن يستخدماها، وما هي إلّا أن اشتريا ضروبًا من الطيب، وخلَا صبينا إلى نفسه في "المنظرة" فأغلق بابها من دونه، ووضع بين يديه قطعًا من النار، وأخذ يلقي فيها الطيب، ويردد: "يا لطيف"، وطال به هذا، وهو ينتظر أن تدور به الأرض، وتنشق له الحائط، ويمثل الخادم بين يديه، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن. وهنا نحول صبينا الساحر المتصوِّف إلى نصاب, خرج من "المنظرة" مضطربًا يمسك رأسه بيديه، ولا يكاد لسانه ينطق بحرفٍ واحدٍ، فتلقاه صاحبه الصبيّ يسأله: هل لقي الخادم؟ وهل طلب إليه العصا؟ وصاحبنا لا يجيب إلّا مضطربًا مرتجفًا، تصطك أسنانه اصطكاكًا حتى روع رفيقه الصبيّ، وبعد لأيٍ أخذ صاحبنا يهدأ، ويجيب في ألفاظ متقطعة، وبصوت متهدج: "لقد دارت بي الأرض، وكدت أسقط، وانشقت الحائط، وسمعت صوتًا ملأ الحجرة من جميع نواحيها, ثم أُغْمِيَ عليّ، ثم أفقت وخرجت مسرعًا". سمع الصبيُّ هذا فامتلأ فرحًا وإعجابًا بصاحبه, وقال له: "هوِّن عليك، فقد أصابك الرعب، وملك عليك الخوف من أمرك، فلنبحثن في الكتاب عن شيءٍ يؤمنك ويشجعك على أن تثبت للخادم، وتطلب منه ما تشاء! واستأنفا البحث في الكتاب، وانتهى بهما البحث إلى أن صاحب الخلوة يجب أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس إلى النار ويأخذ في ترديد هذا الاسم، وكذلك فعل الصبيّ من غده، وأخذ يلقي الطيب في النار ويردد

دعاء "اللطيف" ينتظر أن تدور به الأرض، وينشق له الحائط، ويمثل الخادم بين يديه، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن، وخرج الصبيُّ إلى صاحبه هادئًا مطمئنًا، فأخبره أن قد دارت الأرض وانشق الحائط، ومَثُلَ الخادم بين يديه، وسمع منه حاجته، ولكنه لم يشأ أن يجيبه إليها حتى يمرن على هذه الخلوة، ويكثر من الصلاة وإطلاق البخور، وذكر الله، وضرب له موعدًا لقضاء هذه الحاجة شهرًا كاملًا يأتي فيه هذا الأمر في نظام، فإن فسد هذا النظام فلا بد من استئناف الأمر شهرًا كاملًا آخر. وصدَّقَ الصبيُّ صاحبه، وأخذ يلح عليه في كل يوم أن يخلو إلى النار ويردد الدعاء، وأخذ الصبيُّ يستغلُّ من صاحبه هذا الضعف، ويكلفه ما شاء من مشقة وعناء، فإن أبى أو أظهر الإباء, أعلن إليه صاحبه أنه لن يخلو إلى النار، ولن يدعو اللطيف, ولن يلتمس العصا، فيذعن إذعانًا سريعًا. على هذا النحو أخذ "طه حسين" يقص تاريخ حياته، ويكتب فصولًا على شكل مقالاتٍ يبعث بها إلى مجلة الهلال، فيقبل القراء على قراءتها بشغفٍ شديدٍ، وحين انتهى من وصف طفولته، وصدر من شبابه, أشير عليه بأن يجمع هذه الفصول في كتاب، فجمعها باسم: "الأيام". ونعود إلى الحديث عن أسلوب "طه حسين" فتراه يتميز بصفات جعلت منه صحفيًّا ناجحًا إلى جانب أنه عالم وأديب، على أن الجانب الصحفيَّ في شخصية "طه حسين" هو الذي يعنينا في هذا الفصل. فمن الصفات التي أعانته على النجاح في ميدان الصحافة صفةُ السهولة في التعبير، والأسلوب الموسيقيّ العذب المتموج، والواقعية في التصوير، والإيناس في إجراء الحديث، حتى ليشعر القارئ لمقالٍ من مقالات هذا

الأديب, أنه إنما يجلس إلى صديق من أصدقائه، ويستمع إلى بعض إخوانه يدور معه حيث يدور، ويدخل معه في شجون من الحديث لا يحب أن يصل إلى نهايتها. على أن "طه حسين" يعتبر مدرسةً صحفيةً لها تلاميذها في الوقت الحاضر، وهذه المدرسة تُمَثِّلُ -كما قلنا- إلى عربية الأسلوب، ولا يسهل على تلميذ من تلاميذها أن ينزل بأسلوبه إلى مستوى العامية مهما كانت الظروف الداعية إلى هذا النزول، وعلى الرغم من ذلك, فإن عربية هذه المدرسة من النوع الذي يخف على الأسماع بأكثر مما تخفف عليه اللغة الشعبية التي يتكلمها الناس في النوادي والطرقات العامة، وعند هذه المدرسة إيمانٌ عميقٌ بقدرة اللغة العربية الفصيحة على سد حاجات الصحافة التي هي في الحقيقة نوع من الأدب الإقليميّ، أو الواقعيّ، وهو أدب تلزم -له في الواقع - لغة أخرى إلى جانب اللغة الفصيحة. ومثل كتاب "الأيام" في مجال المقال الذي على شكل اعتراف, كل من كتاب "حياتي" للأستاذ أحمد أمين، و "مذكرات مدمن على الحشيش" لطبيب اسمه "الجريدني" نشر هذه المقالات في مجلة الهلال بدون توقيع، وكتاب "عالم السدود والقيود" للأستاذ عباس العقاد عن حياته في السجن. وتعتبر هذه الكتب وأمثالها بحقٍّ من الكتب التي نقلت الأدب العربيّ من طورٍ إلى طورٍ، ومن حالةٍ إلى أخرى. فقد كان هذا الأدب العربيّ أرستقراطيًّا في العصور الوسطى، فأصبح عن طريق هذه الكتب، وبتأثير الصحافة بنوع خاصٍّ، ديموقراطيًّا بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة. والحق أن أدب المذكرات يعتبر من أروع الآداب الحديثة، كما يعتبر أثرًا من آثار الصحافة، ومن حق هذا النوع من الآداب أن يكون خالدًا

على الزمان، فقد اكتسب هذه الصفة من وجهين هما: الصدق أولًا، والتصوير النفسيّ أو السيكولوجيّ بعد ذلك. وربما كان هذا هو السبب في تهافت الصحف في جميع أنحاء العالم على هذا النوع من الأدب، حتى أن بعض الصحف تشتري مذكرات فلان أو فلان من القادة والعظماء بأثمانٍ لا يرقى إليها الخيال، وتبذل في سبيل الوصول إليها طرقًا ممتعةً في الخفاء، ثقةً منها بأن هذه المذكرات إنما تزيد في عدد القراء، وعلمًا منها كذلك بأن هذه المذكرات تحرك في نفوسهم غريزة من أقوى الغرائز، هي غريزة حب الاستطلاع. وفي النفس الإنسانية ميلٌ قويٌّ إلى معرفة الحقيقة حيث كانت، وقَلَّ أن نرى كتب التاريخ العام تكشف عن هذه الحقيقة، ولكن "شاهد العيان" أو الرجل الذي اشترك بنفسه في الحادث، ووقف بنفسه على خشبة المسرح, هو وحده القادر على أن يمد القراء بهذه الحقيقة، ومن هنا جاءت أهمية المذكرات في الأدب، كما جاءت خطورتها في الصحافة. ولكن ليس معنى ذلك أن "أدب المذكرات" أو "أدب الاعترافات" خاصٌّ بالعظماء أو المشهورين فقط من الرجال والنساء، فالحقيقة غير ذلك؛ إذ المعروف أن في حياة كل إنسان في الوجود لونًا من الطرافة, ربما لا يكون في حياة الآخر، وقد تبدو الحياة مملةً أو عاديةً في نظرنا، ولكن فيها -مع كل ذلك- شيئًا يثير اهتمام الناس، ويودون لو عرفوه. وإن كتابة المذكرات أو الاعترافات لا تتطلب من صاحبها -في الواقع- أكثر من الهدوء النفسيّ فترةً ما، واستحياء الماضي البعيد أو القريب، وتصوير ما يوحي به هذا الماضي تصويرًا يعين على تفهم النفس البشرية من حيث هي، ويعكس في الوقت ذاته صورةً للمجتمع الذي أحاط بالصحفي أو بالأديب في فترة من فترات الحياة البعيدة أو القريبة.

تقول الأستاذة "بانرسون" في مقدمة كتابها WRITING & SELLING FEATURES ما خلاصته: يرجع إقبال الجماهير على قراءة مقال "الاعترافات" إلى عدة أسباب, منها ما يلي: أولًا: أن هذا النوع من المقال يدور حول قصص وحوادث تعتبر أقرب إلى الواقع منها إلى أيِّ شيءٍ آخر، كما أنه يكتب بأسلوب موثوق به في الغالب؛ لأنه أسلوب يعترف فيه الكاتب بأخطائه، وبإخفاقه في بعض مراحل حياته، وقد يعلل لهذا الإخفاق. ثانيًا: أن هذا النوع من المقال يتعرض أحيانًا لبعض طبقات من المجتمع، ولحالات غريبة من حالاته، وأوضاع شاذة من أوضاعه، وقد يعود ذلك بالفائدة على القارئ، ويساعده في حياته الخاصة، وسلوكه مع الأفراد والجماعات؛ لأنه يقتدي غالبًا بكاتب هذا النوع من المقال في طريقة تغلبه على هذه الصعاب. ومن ثَمَّ كان مقال الاعترافات من أكثر المقالات الذاتية ملاءمة للصحافة. ثالثًا: إن كاتب هذا النوع من المقال كثيرًا ما يكون شخصًا غير عاديٍّ في نظر القارئ، وإنما يحقق هذا المقال وظائف كبيرة من وظائف الصحافة, منها: الإعلام، والتسلية، والإمتاع، والإرشاد بطريقة غير مباشرة. وفي هذه الأسباب الثلاثة ما يجعل مقال الاعترافات من أهم مواد الصحافة الحديثة، وما يجذب إليها نظر القارئ في الوقت الحاضر. وهكذا أصبح للمقال الأدبيِّ الذي على شكل اعترافات مكان مرموق في الصحافة الحديثة، كما أصبح مادة لا تستغني عنها هذه الصحافة.

المقال الكاريكاتوري

المقال الكاريكاتوري: ربما كان "الجاحظ" أول كاتب إسلاميٍّ عالج فن "الكاريكاتور" في تاريخ النثر العربيِّ، ولقد ترك لنا الجاحظ أعظم رسالةٍ أدبيةٍ كتبت في هذا الفن، ولعلها أعظم رسالةٍ إلى اليوم، فنحن لا نعلم لها نظيرًا فيما كتبه أهل هذا الفن -سواء في الأدب أو في الصحافة- حتى اليوم. وموضوع رسالة الجاحظ هو السخرية من كاتب من كتاب الديوان اسمه "احمد بن عبد الوهاب" كتب فيه الجاحظ رسالة أربت على خمسين صفحة من القطع الكبير، وتفنن فيها الكاتب ألوانًا كثيرة جدًّا من التفنن في السخرية والنقد. ولا يتسع المقام لذكر شيء عن هذه الرسالة التي كتبها الجاحظ1, وإن كنا نعتقد أن هذا الكاتب العباسيّ الكبير -يعتبر بحق- واضعًا لأساس الكاريكاتور في الأدب العربيِّ. ومنذ ظهرت الصحافة الشعبية في مصر، في النصف الثاني من القرن الماضي, وكانت الصحافة في ذلك الوقت مماثلة للأدب في جمال الأسلوب؛ نبغ من رجال الأدب والصحافة كثيرون؛ من أشهرهم في فن الكاريكاتور إبراهيم المويلحي صاحب: "مصباح الشرق". وفي ذلك يقول الأستاذ عبد العزيز البشري2: " ... ولقد كان هذا من مصباح الشرق الأصل الثابت لهذا اللون من النقد

_ 1 راجع كتاب "حكم قراقوش" للمؤلف طه الحلبي, من ص98-102. 2 راجع كتاب "المختار" الجزء لأول للمؤلف, ص221، و "أدب المقالة الصحفية في مصر" للمؤلف جـ 3 ص68 و 95.

أعنى: النقد الكاريكاتوري في مصر، كما كانت صحيفة المويلحيين -يريد المويلحي الكبير والمويلحي الصغير، واسمها: "أبو زيد" أول ما عرف -فيما أعرف أنا- من التصوير الكاريكاتوري في هذه البلاد ... ". وفي القرن العشرين، وفي المرحلة الرابعة من مراحل الصحافة على سبيل التحديد, وهي المرحلة التي تقع بين عامي 1922 و 1942 ظهر المقال الكاريكاتوري على صفحات الصحف المصرية، ونبغ فيه أدباء وصحفيون, أهمهم ثلاثة رجال هم: الشيخ عبد العزيز البشري، والأستاذ فكرى أباظة، والأستاذ أحمد حافظ عوض، الأول نشر في مجلة السياسة الأسبوعية، والثاني نشر في مجلة الهلال، والثالث نشر في مجلة تدعى "خيال الظل" كان يسخر فيها من أعداء حزب الوفد. ونريد أن نكتفي هنا بنموذج واحد فقط للبشري بعنوان: زيور باشا1. أما شكله الخارجيّ, وأوصافه الهندسية, ورسم قطاعاته ومساقطه الأفقية، فذلك كله محتاج في وصفه, وضبط مساحاته, إلى فنٍ دقيقٍ وهندسة بارعة. الواقع أن زيور باشا رجل -إن صح هذا التعبير- يمتاز عن سائر الناس في كل شيء، ولست أعنى بامتيازه في شكله المهول: طوله، ولا عرضه، ولا بعد مداه، فإن في الناس من هم أبدن منه، وأبعد طولًا، وأوفر لحمًا، إلَّا أن لكل منهم هيكلًا واحدًا، أما صاحبنا، فإذا اطلعت عليه أدركت -لأول وهلةٍ- أنه مؤلف من عدة مخلوقات، لا تدري كيف اتصلت، ولا كيف تعلق بعضها ببعض, ومنها ما يدور حول نفسه، ومنها ما يدور

_ 1 كتاب "المرأة" للبشري, ص7، طبع دار الكتب المصرية سنة 1927، وزيوور باشا هو أحد رؤساء الوزارات المصرية في عام 1927.

حول غيره، ومنها المتيبس المتحجز، ومنها المسترخي المترهل، وعلى كل حالٍ, فقد خرجت هضبة عالية ما لت من شغافها إلى الأمام شعبة طويلة, أطل من فوقها على الوادي رأس فيه عينان زائغتان طلة من يرتقب السقوط إلى قرارة ذلك المهوى السحقيق. وزيور عند الناس مجموعة متباينة متناقضة متشاكسة، فهو عندهم كريم وبخيل، وهو شجاع ورعديد، وهو ذكيٌّ وغبيٌّ، وهو طيب وخبيث، وهو داهية وغر، وهو عالم وجاهل، وهو عف وشهوان، وهو وطنيٌّ حريص على مصالح البلاد، وهو مستهتر بحقوق وطنه يجود منها بالطارف والتلاد. كل أولئك زيور، وكل هذا قد يضيفه الناس إلى زيور، فلا تكاد تسعهم مجالسهم بما يأخذهم فيه من الدهشة والاستغراب، وإذا كان مما لا يمكن في الطبيعة أن يستقيم لرجل واحد، فقد غلط الناس إذ حسبوا زيورًا رجلًا واحدًا، والواقع أنه عدة رجال، وعلى الصحيح هو عدة مخلوقات، لا تدري -كما حدثتك- كيف اتصلت، ولا كيف تعلق بعضها ببعض! فإذا أدهشك التباين في أخلاقه، وراعك هذا التناقض في طباعه، فذلك لأن هذا الجرم العظيم الذي تحسبه شيئًا واحدًا مؤلف في الحقيقة من عدة مناطق، لكل منها شكله وطبعه، وتصوره، وحظه من التربية والتهذيب، فمنها العاقل، ومنها الجاهل، ومنها الحكيم، ومنها الغر، ومنها الكريم، ومنها البخيل، ومنها المصريّ، ومنها الجركسيّ، ومنها الفرنسيّ، ومنها الإنجليزيّ، ومنها المالطيّ، كل منها يجري في مذهبه، ويتصرف في الدائرة الخاصة به, فلا عجب إذا صدر عن تلك المجموعة الزيورية كل ما ترى من ضروب هذه المتناقضات! والظاهر أن زيور باشا -برغم حرصه على كل هذه الممتلكات الواسعة- عاجز تمام العجز عن إدارتها، وتوليها بالمراقبة والإشراف، وما دامت الإدارة المركزية قد فشلت كل هذا الفشل، فأحرى به أن

يبادر فيعلن إعطاء كل منها الحكم الذاتي، على أن تعمل مستقلة بنفسها على التدرج في سبيل الرقيّ والكمال! وحسب عقله في هذا النظام الجديد أن يتوافر على إدارة رجليه وحدهما، ولعله يستطيع أن يسيرهما في طريق الأمن والسلام. وإني أورد عليك طائفةً يسيرةً تدلك على ما في هذه المجموعة الغريبة من ضروب المتناقضات التي تجزم منها بأن ذلك الخلق ليس شيئًا واحدًا، وإنما هو في الحقيقة عدة أشياء! وأن ظلمًا أن يؤخذ البريء بجريمة الآثم، وأن عسفًا أن يعاقب البريء بما أجرم الظالم، فقد يكون الذي اقترف كل هذه الآثام هو كوع زيور باشا الأيسر، أو القسم الأسفل من "لغده"، أو المنطقة الوسطى من فخذه اليمنى، أو غيرهما من تلك الكائنات التي تجمعت في هيكله العظيم! فما شأن المخلوقات كلها تجر إلى مواطن الاتهام، وتعاقب بما ارتكب بعضها من الجرائر والآثام؟ إن الحق والعدل ليقضيان بأن يؤلف مجلس النواب -إن شاء الله- لجنةً تقوم بعمل التحقيق في جسم صاحب الدولة، فتسأل أعضاءه عضوًا عضوًا، وتحقق مع أشلائه شلوًا شلوًا، حتى يفرق منها بين المحسن والمسيء، ولا يخلط في العقوبة بين المجرم والبريء. ولعل العضو الوحيد المقطوع ببراءته من كل ما ارتكب من الآثام هو مخ زيور باشا، فما أحسبه شارك, ولا دخل في شيء من كل ما حصل. "انتهى المقال"! وأنت ترى أن هذا النوع من النقد إنما يقوم في جملته على التماس العيوب الرئيسة في شخص ما، وترك القلم يعرضها عرضًا كاريكاتوريًّا يزيد في تشويهها ما يرد على ذهن الكاتب في أثناء كتابته من ضروب التشبيه،

وما يحضره من فنون التمثيل، ولا يزال الكاتب يتوسع في الموضوع عن طريق التوليد للمعاني من جهة، وإيراد النكت البارعة من جهة ثانية, حتى تستكمل عنده الصورة القلمية الكاريكاتورية كل عناصر الإضحاك والسخرية والتندر بالشخص الذي هو موضوع هذه الصورة بالذات. والصورة الكاريكاتورية القلمية منذ القدم تتألف من العناصر الآتية، وهي: أولًا: عنصر التجسيم للعيوب، أو المسخ لصورة الشخص الذي هو موضوع الكاريكاتور. وكما قلنا تقوم طريقة الكاريكاتور على المبالغة في تصوير العيوب: فالرجل ذو الأنف الكبير يبدو بريشة الرسام وقلم الكاتب كأن وجهه كله عبارة عن أنف، والرجل القصير يبدو كذلك كأنه أقصر من طفل، والرجل البدين يظهر في شكل من البدانة والضخامة قَلَّ أن يكون له نظير في الحياة الواقعة نفسها، وهكذا. ثانيًا: عنصر التوليد, وهو ما يتاح للكاتب, ولا يتاح للمصور، وبه يعمد الكاتب إلى توليد المعاني، واستطراد الأفكار، وكل معنًى منها يذكر بآخر، وكل فكرة منها توحي بأخرى، وهكذا حتى يستنفذ الكاتب كل هذه المعاني والأفكار ما استطاع. ثالثًا: عنصر التندر أو ذكر النكات التي ترد على ذهن الكاتب في أثناء الكتابة، وهنا تظهر براعته في طريقة الإيراد، بحيث تبدو كل واحدة من هذه النكات وكأنها لم تذكر إلّا في هذا الموضع الذي يشير إليه الكاتب بالذات، أو كأنها لم تذكر إلّا من أجل هذا الشخص الذي هو موضع السخرية والتندر. رابعًا: عنصر التشبيه أو التمثيل، وهو العنصر الذي يستوحي فيه الكاتب خياله، ويستعين به على عملية "المسخ" التي أشرنا إليها، وكثيرًا

ما يتسلق الكاتب في هذه الحالة على كلام القدماء، وأهاجيّ الشعراء، وحكايات العامة, أو نحو ذلك. وأكثر من هذا وذاك أنك ترى صاحب القلم الكاريكاتور يعتمد في توفير هذا العنصر الأخير من عناصر الصورة على كلام القدماء، وعلى تحويل هذا الكلام من معناه الأصلي الذي وضع له, إلى المعنى الجديد الذي أراده صاحب القلم الكاريكاتوري. ومن الأمثلة على ذلك, أن الشيخ عبد العزيز البشري في سخريته بزيور باشا, على النحو السابق, استشهد ببيتٍ من أبيات أبي نواس وهو: وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد والمعروف أن أبا نواس ذكر هذا البيت من الشعر في معرض المدح لخليفة من خلفاء بني العباس، ولكن البشري ذكر هذا البيت نفسه في معرض التعريض، وإضحاك الناس من شخصية "زيور باشا". ولا يكاد هذا الفن -وهو فن القلم الكاريكاتوري- ينقسم إلى أكثر من هذه العناصر الأربعة، وهي متى توافرت في مقالٍ ما, بلغ هذا المقال كل ما قصده الكاتب من ورائه، وفي هذه العناصر السابقة، وفي كل عنصر منها على حدة مجال واسع يتنافس فيه الكاتب وأصحاب الأقلام، ويظهر نبوغهم, وتتجلَّى عبقريتهم, إما في نقد الأشخاص، وإما في نقد الأفكار والموضوعات. وغنيٌّ عن البيان أن المقال الكاريكاتوري لا يزدهر إلّا في أوقات الأمن, واستمتاع الناس بكل أنواع الحريات، فليس من السهل على كاتب هذا النوع من المقال أن يعرض حياته للخطر الذي يصيبه من الشخصية المرموقة التي هي موضوع المقال. أما في أوقات الظلم والطغيان، وأوقات الرقابة المفروضة على الصحف, فإن الصحافة لا تلجأ إلى القلم الكاريكاتوري بحالٍ من الأحوال، وإنما

تستعيض عنه بالرسم الكاريكاتوري الذي يراه القراء في الصحف، ويفهمون مضمونه ومقصوده، ويكون الرسام والصحيفة مع ذلك بمأمنٍ من بطش الحاكم أو السلطان الذي رسمت من أجله الصورة الساخرة. ويسيرٌ علينا أن نلاحظ كذلك أن القلم الكاريكاتوري لا يجود إلّا في فترات نهضة الأدب، وكثيرًا ما يكون دليلًا من دلائل هذه النهضة الأدبية في ذاتها، ذلك أن هذا الفن الأدبيّ الرائع في ذاته يحتاج إلى قدرة أدبية من نوعٍ خاصٍّ، كما يحتاج إلى قدر من الذكاء من نوعٍ خاصٍّ أيضًا، ثم لا غنى له مع هذا وذاك عن قدر من الثقافة يعين الكاتب على توفير العناصر الأربعة المتقدمة للقلم الكاريكاتوري. وأخيرًا لا يستغني صاحب هذا الفن الأدبيّ الرائع عن أن تكون له صفات ذاتية يخف بها كلامه على الناس، ومن هذه الصفات -على سبيل المثال- أن يكون ظريفًا غاية الظرف، وأن يكون خفيف الظل في كتاباته كأحسن ما تكون خفة الظل، وأن يكون في طبعه مرح، وفي أفقه سعة، وفي ذهنه ذخيرة هائلة من التجارب الإنسانية التي خبر بها الناس خبرة جيدة. وهذه وتلك مواهب تخص بها الطبيعة فريقًا من الناس دون الفريق الآخر، وفي الصحافة المجال الواسع للانتفاع الكامل بهذا الميزات أو المواهب في الإنسان. كيف يكتب المقال الأدبيّ: ذهب النقاد إلى أن المقال إنما يتألف من مقدمة وصلب وخاتمة، ففي المقدمة يستَهِلُّ الكاتب كلامه بفكرة عامة, أو خاطرة من الخواطر التي مرت بذهنه، ووقف أمامها متأملًا ومستغرقًا في تأمله، وعلى هذه الفكرة أو الخاطرة يبني الكاتب مقاله، ويأتي بعد ذلك صلب المقال، فإذا هو شرح لهذه الفكرة وتعليق عليها وإيراد لبعض الأمثلة والشواهد.

ولا بد أن تكون هذه الأمثلة مشتقةً من واقع الحياة، أو نابعة من شخصية الكاتب الخاصة، وأخيرًا تأتي الخاتمة، وهي تلخص موضوع المقال وتأتي بنتيجة. والذي لا ريب فيه أن للمقدمة التي يستهلُّ بها الكاتب مقاله أهميةً بالغةً، فهي التي تجذب القارئ فيمضي في القراءة، وهي التي تصد القارئ فيقف عن القراءة، وهنا يتفاوت البلغاء في العبارات البلاغية التي يستهلون بها مقالاتهم. وكذلك الشأن فيما يتعلق بالخاتمة، فإنها آخر ما يبقى في ذهن القارئ، ولا بد أن تكون الخاتمة قوية جامعة محكمة في آنٍ واحدٍ. وهناك طريقة أخرى في تحليل المقال الأدبيّ، وكيف يكتبه الكاتب، وتتلخص هذه الطريقة في تقسيم المقال إلى عنصرين: هما المضمون، والقالب، والقالب بدوره ينقسم إلى قسمين هما: التصميم والأسلوب1. وقد عرَّفَ "والتر باتر" تصميم المقال في مقالته المعروفة عن الأسلوب فقال: "التصميم هو ذلك التصور البنائيّ للموضوع الذي يتكهن بالنهاية منذ بدايته, وهو في أي جزء من الأجزاء يلفت إلى الأجزاء الأخرى ويدل عليها، حتى إذا وصل القارئ إلى العبارة الأخيرة اتضح له كنه العبارة الأولى وبرَّرَ وجودها دون أن يحس بأي فتور"2. والخلاصة: أن التحرير في ذاته هو التفكير والتعبير، فالتفكير هو المضمون أو الفكرة أو الخاطرة، كما تقدم في العبارات السابقة،

_ 1 محمد يوسف نجم: فن المقالة, ص119. 2 محمد يوسف نجم, فصل عن: 399 AA. w. patev: Stgle P. 399

والتعبير هو الأسلوب, أو هو الوعاء الذي يحمل المعنى أو الفكرة أو الخاطرة، وكما أن البيت في بنائه يحتاج إلى مهندس تصميم، ومهندس تنفيذ، فكذلك المقال في إنشائه يحتاج إلى طريقة أو طراز أو أسلوب أو نظام يتبعه الكاتب في هذا الإنشاء. وسنعود إلى الكلام في هذا الموضوع عندما نعرض للمقال في المجلة الدورية.

مقال الخواطر والتأملات

مقال الخواطر والتأملات: نبغ في هذا النوع من المقال كثيرون من كتابنا، وربما كان من أظهرهم في ذلك "أحمد أمين" الذي وصف لنا الكاتب الدقيق فقال: "إنه الكاتب الذي يسمع حفيف الأشجار، ودبيب النمل، ويرى دقيق الأشياء في الظلمة، ويرى قلوب الناس في أعينهم، ودخائلهم في صفحات وجوههم، وقد يرى بأذنه، ويسمع بعينه، وقد يرى ما لا يراه الناس، ويسمع ما لا يسمع الناس، وقد يدرك الجمال بتفاصيله، كما يدرك القبح بتفاصيله، حتى كأنه قد مُنِحَ من الحواس ما لم يمنحه سائر الناس، وكأن حواسه ليست خمسًا, وإنما هي خمسون أو خمسمائة أو ما شئت"1. وهذا الوصف للكاتب الدقيق ينطبق على "أحمد أمين", كما ينطبق على غيره من الكتاب الواقعيين الذي يميلون دائمًا إلى وصف الحياة الواقعة كما تبدو لأعينهم، وكما تفهمها عقولهم، لا يغيب عن علمهم شيء من دقائق هذه الحياة، ولا تفوتهم همسة من همساتها. ومعنى ذلك أن موضوع المقالات الأدبية بوجه عامٍّ, ومقالات التأملات والخواطر بنوع خاصٍّ, هو كل شيء في المجتمع، ذلك أن الكاتب الفنيّ هو من استطاع أن يجد من كل شيءٍ موضوعًا يجيد فيه, ويستخرج إعجاب القارئ، ومن استطاع أن يجد من كل شيء نواة يؤلف حولها ما يصلح لها حتى يخرج موضوعه منسقًا تنسيقًا يبهر السامع والقارئ, وهو في تأليفه قد يضم الشيء إلى إلفه، وقد يضمه إلى نقيضه، وقد يصل به

_ 1 راجع "فيض الخاطر" أحمد أمين، الجزء الأول ص179و180.

الكلام في الذرة إلى الكلام في الشمس، وقد يصل به الكلام في النملة إلى الكلام في الله، ولكن القارئ لا يشعر بمفارقات، ولا يشعر بهوة بين أجزاء الكلام، ويسير مع الكاتب كأنه في حلم لذيذ أو قصة محبوكة1. وقد كتب "أحمد أمين" مقالات كثيرة في باب الخواطر والتأملات، نشر بعضها في مجلة "الثقافة", وبعضها في مجلة "الرسالة", وبعضها في مجلة "الهلال", وجمع كل هذه المقالات في كتاب له بعنوان: "فيض الخاطر"، وقد رأينا أن نقف عند نموذج واحد من هذه المقالات على سبيل المثال، وهو مقال له بعنوان: سلطة الآباء كتب الكاتب في نقد المجتمع الحديث كتابًا بدأه بقوله: رحم الله زمانًا, كان الأب فيه الأمر الناهي، والحاكم المطلق، والملك غير المتوّج، ينادي فيتسابق كل من في البيت إلى ندائه، ويشير فإشارته أمر، وطاعته غنم, تحدثه الزوجة في خفر وحياء، ويحدثه الابن في إكبار وإجلال، ويرى من سوء الأدب أن يرفع إليه بصره، أو يرد عليه قوله، أو يراجعه في رأي, أو يجادله في أمر، أما البنت, فإذا حدثها لفَّ الحياء رأسها، وغضن الخجل طرفها, قليلة الكلام، متحفظة الضحك، خافضة الصوت، تتوهم أنها أخطأت في التافه من الأمر فيندي جبينها، ويصبغ الخجل وجهها، وإذا جاء حديث الزوج والزواج, فإلى أمها التحدث لا إلى أبيها، وبالتلويح والتلميح لا بالتصريح، والأمر إلى الأب فيما يقبل وفيما يرفض، وفيما يفعل وفيما لا يفعل".

_ 1 نفس المصدر ص179.

ومضى الكاتب في مقاله على هذا النحو, ثم قال: "لقد ودَّعْنَا ذلك الزمن بخيره وشره، وحلوه ومره، واستقبلنا زمانًا صار فيه الأبناء آباء ". ثم يقول: "قالت الخطيبة لخطيبها: الناس أحرار، وأنا إنسان وأنت إنسان, فإن اعتززت بالكسب اعتززت بالإنفاق، وإن اعتززت بالرجولة اعتززت بالأنوثة، وإن اعتززت بأيِّ شيء فأنا أعتز بمثله وبخير منه، فأنا وأنت شريكان, لا سيد ولا أمة، ولا ملك ومملوك، لي كل الحقوق التي لك، وقد يكون عليّ بعض الواجبات التي عليك ... يمكنك أن تحصل على المال وعلى الإنفاق، ولك السلطان التام في اختيار طرق التحصيل، ولي الخيار التام في وجوه التبديد، أنت للبيت والبيت لي، وإن كان لك أمٌّ فقد شبعت سلطة في الماضي أيام كانت زوجة، فلا حق لها أن تنعم بسلطانها وسلطان غيرها، فليس لها الحق إلّا أن تأكل، كما ليس لك الحق في أن تحبها، فالحب كله للزوجة، إنما لك أن ترحمها, والدين لا شأن لك فيه بتاتًا، فهو علاقة بين العبد وربه، وكل إنسان حرٌّ في أن يحدد هذه العلاقة كما يوحي إليه قلبه، فإن شئت أن تتدين فتدين، على شرط ألَّا تقلب نظام البيت, وتقلق راحتي وراحة الخدم. ورأي الرجل أن الأحكام قاسية، والشروط فادحة، وهام يبحث بين الممدنات عمن ترضى به زوجًا على الشروط القديمة, فأعياه البحث ... إلى أن يقول: تَمَّ الزواج وفرحت الزوجة بالظفر, فغالت في الطلب، وابتدعت كل يوم مطلبًا جديدًا، وأرادت أن تنتقم لأمهاتها من آبائه في شخصه، فطالما أطعن، وطالما خضعن، فليطع دائمًا, وليخضع دائمًا جزاءً وفاقًا على ما جنى آباؤه وأجداده.... قالت: إن رقصتَ رقصتُ، فذلك حقكَ وحقي، قال: نعم. قالت: بل إن لم ترقص رقصتُ؛ لأنك إن أضعت حقك لم أضع حقي،

وإن خاللتَ خاللتُ، فالجزاء من جنس العمل، بل إن لم تخالل ربما خاللتُ؛ لأن حياة الزوجية البحتة قد يعتريها الركود والسأم والملل ... فصرخ الرجل, ولفَّ الغضب وجهه، وحاول أن ينكل بها فتراجعت وسحبت مطلبها الأخير، ورأت من الحكمة أن تتريث بعض الشيء حتى يبلع ريقه من أثر الصدمة الأولى، ويستعد للصدمة الثانية، فإن لم يسعفها الزمان, أوصت بناتها بشروطها الجديدة..... قالت: وسيكون أول ما أوصي به ابنتي أن تأخذ قياس خطبها، ثم يكون من أول جهازها أن تفصل له برذعةً ولجامًا على قدره، فتضع البرذعة عليه، وتركبه إذا شاءت، وتشكمه باللجام إذا حاول أن يتحرك يمينًا أو شمالًا على غير رغبتها. وشاء الله أن يرزقا بنين وبنات: .... وقد رأوا أن الأم لم تجلّ الأب فلم يجلوه، ولم تعره كبير التفاتٍ فلم يعيروه، ورأوها تبذر في مال الأب فبذَّروا، ورأوها حرة التصرف فتحرروا، ورأوها تخرج من البيت من غير إذن الأب فخرجوا خروجها, وتعود إلى البيت متى شاءت ففعلوا فعلها، ورأوها لا تتدين فلم يتدينوا, وقال الأبناء لأبيهم: إننا مخلوقون لزمانٍ غير زمانك, فاخضع لحكم الزمان، وقد نشأنا في زمن الحرية في الآراء، والحرية في الأعمال، والحرية في التصرف, لا كما نشأت في جَوٍّ من الطاعة والقيد والأسر والتقاليد، فمحال أن يسع ثوبك الضيق أبداننا، وتقاليدك العتيقة البالية نفوسنا. قال: نعم, قالوا: وأنت الذي سمحت لنا باديء ذي بدء أن نغشى دور السينما والتمثيل، وأن نسمع الأغاني البلدية، وأن نشهد المراقص الأوروبية, فإذا أقررت المقدمة فلا تهرب من النتيجة، فأنت الذي عودنا ألّا نضع للبيت ميزانية؛ لأنك تعطي راتبك لأمنا تنفق منه من غير حساب، فإن انتهى في

نصف الشهر, طلبت منك أن تقترض، فاقترضت، وأن تشتري ما لا حاجة لنا به فاشتريت, فليس لك أن تطالبنا بالاقتصاد في الجدول الصغير, والنهر الكبير ليس له ضابط, قال: نعم, قالوا: وقد أضعت سيادتك على أمنا، فلم تفرض سيادتك علينا؟ وهي أم الحاضر وأنت أبو الماضي، ونحن رجال المستقبل, قال: نعم. وقالت البنات لأبيهن: يا أبانا الذي ليس في السماء: رقصت أمنا فرقصنا، وشربت أمنا فشربنا، وشربت سرًّا فلتسمح لنا بحكم تقدم الزمان أن نشرب جهرًا، ورأينا في روايات السينما والتمثيل حبًّا فأحببنا, ورأينا عريًا في الشواطيء فتعرينا, وتزوجت أمنا بإذن أبيها, فلنتزوج نحن بإذننا. قال: نعم، قلن: وقد أوصتنا أمنا أن نركب الزوج، ولكننا أمام مشكلة يشغلنا حلها، فإننا نرى شباب اليوم متمردين لا يخضعون خضوعك, ولا يستسلمون استسلامك ... يا أبانا: هل البيت ضرورة من ضرورات الحياة؟ أليس نظام الأسرة نظامًا عتيقًا من آثار القرون الوسطى؟ قال: نعم، قلن: عن كل حالٍ يصح أن يجرب جيل النساء الجديد مع جيل الرجال الجديد، فإن وقع ما خشينا عشنا أحرارًا وعاشوا أحرارًا، وطالبنا بتسهيل الطلاق، وبهدم المحاكم الشرعية على رءوس أصحابها. قال الأب: وماذا تفعلن بما ترزقن من أبناء وبنات؟ قلن: لك الله يا أبانا! إنك لا تزال تفكر بعقل جدنا وجدتنا، لقد كنت أنت وأبوك وجدك تحملون أنفسكم عناء كبيرًا في الأولاد، وتضحون بأنفسكم وأموالكم في سبيلهم، وتعيشون لهم لا لكم، أما عقليتنا نحن أهل الجيل الحاضر, فأن نعيش لأنفسنا لا لغيرنا، لقد ضحك عليكم الدين والأخلاق ففهمتم أن

الواجب هو كل شيء، وكشفنا نحن اللعبة ففهمنا أن اللذة هي كل شيء، فنحن نمنع النسل، فإذا جاء قسرًا فليعش كما يشاء القدر.... قال الأب: وأمر المال كيف يدبر؟ كيف تعشن أنتن وأولادكن إذا كان طلاق وكان فراق؟ قلن: هذا ظل آخر ظريف من ظلال تفكيرك، دع هذا يا أبانا والبركة أخيرًا فيك. أما بعد، فقد خلا الأب يومًا إلى نفسه، وأجال النظر في يومه وأمسه، فبكى على أطلال سلطته المنهارة، وعزته الزائلة ... هذه تأملات وخواطر خطرت لكاتب المقال في النماذج الحديثة للحياة، وهي النماذج التي لا يرضى عنها الآباء بحالٍ من الأحوال، بل إنهم يرون فيها الخطر كل الخطر على كيان المجتمع وعلى حياة الأسر، وقد بنى الكاتب مقاله هذا على الموازنة الدقيقة بين حياة الأسرة في الجيل القديم, وحياة الأسرة في الجيل الجديد, وهدفه من ذلك أن يحذر من الأخطار الناجمة عن المبالغة في التجديد الذي ينخدع به الجيل الجديد. و"لأحمد أمين" مقال آخر في باب الخواطر والتأملات يحسن بنا أن ننقله للقارئ فيما يلي: الرأي والعقيدة قال فيه: "فرق كبير بين أن نرى الرأي وأن نعتقده, إذا رأيت الرأي فقد أدخلته في دائرة معلوماتك، وإذا اعتقدته جرى في دمك، وسرى في مخ عظامك، وتغلغل إلى أعماق قلبك، ذوي الرأي فيلسوف يقول: إني أرى الرأي صوابًا، وقد يكون في الواقع باطلًا، وهذا ما قامت الأدلة عليه اليوم، وقد تقوم الأدلة على عكسه غدًا، وقد أكون مخطئًا فيه، وقد أكون

مصبيًا, أما ذو العقيدة فجازم بأنه لا شك عنده ولا ظن، عقيدته هي الحق لا محالة، هي الحق اليوم، وهي الحق غدًا؛ لأنها خرجت عن أن تكون مجالًا للدليل، وسمت عن معترك الشكوك والظنون. ذو الرأي فاتر أو بارد، إن تحقق ما رأى ابتسم ابتسامةً هادئةً رزينةً، وإن لم يتحقق ما رأى, فلا بأس، فقد احترس من قبل بأن رأيه صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب، وذو العقيدة حار متحمس لا يهدأ إلَّا إذا حقق عقيدته، هو حرج الصدر, لهيف القلب، تتناجى في صدره الهموم، أرق جفنه وأطال ليله تفكيره في عقيدته، كيف يعمل لها، ويدعو إليها، وهو طلق المحيا، مشرق الجبين إذا أدرك غايته أو قارب بغيته. ذو الرأي سهل عليه أن يتحول ويتحور، وهو عبد الدليل, أو عبد المصلحة التي تظهر في شكل دليل، أما ذو العقيدة فخير مظهر له ما قاله رسول الله: "لو وضعوا الشمس في يمني, والقمر في شمالي, على أن أدع هذا الذي جئت به ما تركته"$، وكما يتجلى في دعاء عمر "اللهم إيمانًا كإيمان العجائز". ولقد رووا عن سقراط أنه قال: إن الفضيلة هي المعرفة، وناقشوه في رأيه، وأبانوا له خطأه، واستدلوا بأن العلم قد يكون في ناحية والعمل في ناحية, وكثيرًا ما رأينا أعرف الناس بمضار الخمر شاربها، وبمضار القمار لاعبه، ولكن لوقال سقراط: إن الفضيلة هي العقيدة, لم أعرف وجهًا للرد عليه، فالعقيدة تستتبع العمل على وفقها لا محالة, فقد ترى أن الكرم فضيلةٌ, ثم تبخل، والشجاعة خيرًا ثم تجبن، ولكن محال أن تؤمن بالشجاعة والكرم, ثم تجبن أو تبخل. العقيدة حقٌّ مشاعٌ بين الناس على السواء، نجدها في السذج، وفي الأوساط، وفي الفلاسفة، أما الرأي فليس إلّا للخاصة الذين يعرفون الدليل وأنواعه، والقياس وأشكاله، والناس يسيرون في الحياة بعقيدتهم

أكثر مما يسيرون بآرائهم، والمؤمن يرى بعقيدته ما لا يرى الباحث برأيه، قد منح المؤمن من الخواص الباطنة والذوق ما قصر عن إدراكه القياس والدليل. لقد ضلَّ من طلب الإيمان بعلم الكلام وحججه وبراهينه، فنتيجة ذلك كله عواصف في الدماغ أقصى غايتها أن تنتج رأيًا، أما الإيمان والعقيدة فموطنهما القلب، ووسائلهما مد خيوط بين الأشجار والأزهار والبحار والأنهار وبين قلب الإنسان، ومن أجل هذا كانت الآية الكريمة، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ, وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ, وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ, وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت} أفعل في الإيمان من قولهم: "العالم متغير, وكل متغير حادث" فالأول عقيدة, والثاني رأي. الناس إنما يخضعون لذى العقيدة، وليس ذوو الرأي إلّا ثرثارين عنوا بظواهر الحج أكثر مما عنوا بالواقع، لا يزالون يتجادلون في آرائهم حتى يأتي ذو العقيدة فيكتسحهم ... وسار الكاتب في مقاله على هذا المنهج حتى ختمه بقوله: "ليس ينقص الشرق لنهوضه رأي، ولكن تنقصه العقيدة، فلو منح الشرق عظماء يعتقدون ما يقولون لتغير وجهه، وحال حاله، وأصبح شيئا آخر. وبعد، فهل حرم الإيمان مهبط الإيمان؟ إن هذا المقال إلى الخواطر الفلسفية أدنى منه إلى الخواطر الأدبية، أو الاجتماعية، وهو نموذج جيد لهذا الطراز بنوع خاص.

المقال العلمي

المقال العلمي: المقال العلميّ، من حيث هو نوعان، نوع يكتب للمتخصصين، ونوع يكتب لغيرهم من القراء، والأول مكانه الكاتب العلميّ، أو المجلة العلمية التي تصدرها الهيئات أو المؤسسات التي توفرت على نشر العلم، والثاني مكانه الصحيفة اليومية، والمجلة الدورية: أسبوعية كانت أم شهرية أم سنوية، والأول ليس موضوعًا لبحثنا هذا، أما الثاني فموضوع اهتمام الصحافة، ومدار عنايتها، ومادةً من موادها لا تستطيع الاستغناء عنها بحالٍ ما. والمقال العلميّ الذي تنشره الصحف والمجلات, إنما يحقق غرضين من أغراض الصحافة الخمسة التي أشرنا إليها في غير هذا الفصل، وهذان الغرضان هما: 1- التوجيه والإرشاد. 2 التسلية والإمتاع. وليس شكٌّ في أن الناس جميعًا في احتياجٍ إلى من يرشدهم على الدوام فيما يتصل بحياتهم العقلية، وحياتهم الفنية، أو بعبارة أخرى: في احتياج إلى الغذاء العقليّ، والغذاء الفنيّ، وهذا أو ذاك إنما يتم لهم عن طريق المقال العلميّ في الصحيفة أو الإذاعة. والذي لا شك فيه أيضًا أننا في عصرنا هذا لا نستطيع -ولو حرصنا- أن نلم بجميع العلوم والفنون؛ لأننا في عصر التخصص العلميّ والفنيّ، لكل واحد منا شعبة خاصة من شعب المعرفة أو الفن، توفر عليها، واستأثرت بعقله وقلبه، بل امتزجت بروحه ودمه.

غير أنه إلى جانب هذا التخصص العلميّ أو الفنيّ لا غنى للمثقفين في الأمة عن الأخذ من كل علم من العلوم الإنسانية بطرفٍ، وبهذه الطريقة تستروح العقول البشرية من جهة، ويحدث التوازن العقليّ والروحيّ للمواطن المثقف من جهة ثانية. وقد أدركت الصحافة منذ نشأتها هذه الحقيقة، فدرجت على إمداد قرائها من حينٍ لآخر بتلك الفصول العلمية المفيدة, والمقالات الفنية الطريفة يتعلمون منها حينًا، وتسلون بها أحيانًا، ويجدون في كلتا الحالتين لذة عقليةً، ربما لا تضار عنها لذة مادية من لذائذ الحياة. ثم إن القراء أنفسهم -بالقياس إلى المقال العلميّ- طبقتان, كما سبقت الإشارة إلى ذلك: طبقة لا تعرف إلّا علمًا واحدًا، أو فنًّا مفردًا، ولا صلة لها تقريبًا بغير ذلك من العلوم أو الفنون, وطبقة لا تعرف شيئًا من هذا أو ذاك، ولم يتخصص في شيء من هذا أو ذاك, ولكنها تميل إلى أن يكون لها بعض الإلمام بهذا الشتات من المعلومات. وما دام الأمر كذلك, فلا مناص للصحيفة من الاعتراف بهذا الوضع, والتقيد بهذا القيد في كتابة هذا النوع من أنواع المقال، وبعبارة أخرى, ينبغي أن تتوافر في المقال العلميّ الذي تنشره الصحيفة شروط عدة، منها ما يلي: أولّا: الإقلال جهد المستطاع من المصطلحات العلمية المعروفة عند أهل هذا العلم أو ذاك من العلوم التي يتعرض لها المقال. ومعروف أن لكل علمٍ منها عشرات، بل مئات من المصطلحات, يعرفها المشتغلون بهذا العلم معرفةً جيدة، وكلما جَدَّ جديد من هذه المصطلحات، بادروا إلى معرفته، وأخذوا في تداوله، أما غيرهم

من الناس, فلا علم لهم بهذه المصطلحات، ولهذا وجب على كاتب المقال العلميّ بالذات أن يقصد -ما أمكنه- في ذكر هذه المصطلحات. ومع هذا وذاك, ينبغي للمحرر العلميّ أن يدرك أن القارئ لا يضيره أن يقرأ لفظًا علميًّا غريبًا على مسامعه إذا دعت الضرورة إلى استعماله في المقالة. ولا ينبغي للمحرر في هذه الحالة أن يعتذر عن استعمال هذا اللفظ، ولا أن يحاول شرحه شرحًا علميًّا مستفيضًا، فله -مثلًا- أن يستخدم لفظ الوحدة الحرارية، ولكن ليس عليه أن يشرح هذه الوحدة الحرارية من الوجهة العلمية، بل يقول مثلًا: إن ثلاث قطع من السكر، أو قطعة صغيرة من الزبد تولد مائة وحدة حرارية، وإن الإنسان يحتاج إلى مائة وحدة حرارية في الساعة عادة، وإلى مائة وستين وحدة إذا كان يقوم بعمل مجهد "1. ثانيًا: تبسيط المعلومات التي يقدمها الكاتب للقراء مراعاةً منه لهذه الحقيقة -التي أشرنا إليها الآن- وهي أنه إنما يكتب لغير المتخصصين من القراء. والكتاب والمحررون في مجال التبسيط درجات؛ فمنهم من وهب المقدرة على شرح المادة العلمية الصعبة بطريقةٍ سهلةٍ على الأسماع، تعرف طريقها إلى الأذهان، ومنهم من غلبت عليه الصبغة العلمية الخالصة، وعجز عن التخفف منها، ولم يستطع أن يقدم للصحيفة غذاءً ما في هذه الناحية. ثالثًا: اصطناع القوالب الأدبية -كلما أمكن ذلك- في التعبير عن المادة العلمية، ومن هذه القوالب -على سبيل المثال- قالب القصة، وبها

_ 1 كيف تصبح صحفيًّا، لكارل وارين، ترجمة عبد الحميد سرايا، الصفحة الأخيرة.

يستطيع الكاتب القدير أن يحيل هذه المواد الجافة, إلى قصص حيةٍ تحس فيها كأن الطبيعة نفسها تتكلم وتتحرك، أو كأن الحقائق العلمية ذاتها أشخاص تذهب وتجيء, ثم تؤدي أدوارها كأحسن ما يكون الأداء, وبهذا الأسلوب الجذاب يستطيع الكاتب المتمرن أن يحدثنا عن الطبيعة وظواهرها في قصص: فقصة المطر، وقصة للقمر، وقصة للبركان، وقصص للجبال أو الوديان، وهكذا. ثم بهذا الأسلوب الجذاب يستطيع الكاتب أيضًا أن يحدثنا عن الإنسان، وعما يعرض له من حالات الصحة والمرض، وكل ذلك في قصص ممتع. فقصة عن السرطان، وقصة عن الشلل، وقصة عن الجراثيم، وقصة عن الميكروب، وقصة عن الأنسولين، وأخرى عن البنسلين، وثالثة عن أنواع الفيتامين، وهكذا. رابعًا: ربط المعومات الطريفة التي يأتي بها الكاتب في مقاله بحاجة من حاجات القراء، أو رغبة من رغباتهم، حتى ولوكانت هذه النزعة مجرد التأمل في قدرة الخالق، وكثير من الناس تحفزهم هذه النزعة الأخيرة إلى القراءة. خامسًا: عدم طغيان الصفة الذاتية على الصفة الموضوعية, وإن كان ذلك لا يمنع من وجود مسحة ذاتية صريحة تبث في المقال شيئًا من الحياة والإشراق. ومهما يكن من شيءٍ, ففي مجال المقال العلميّ الآن, تتنافس الصحافة والإذاعة أيهما أجدى على القارئ أو السامع، وأيهما أقدر من الأخرى على تثقيفه بشتَّى المعارف التي تجمعها أفلاك ثلاثة يسبح فيها العالم، وهي:

الله، والطبيعة، والإنسان. قيمة المحرر العلميّ: ومعنى ذلك أن أمام المحرر العلميّ مجالات كثيرة يتجه فيها إلى القراء والمستمعين والمشاهدين عن قصة العلم، وهي قصة من أمتع القصص التي يمكن أن يتتبعها المواطنون الراغبون في أذهانهم بالثقافات العلمية على اختلافها. لقد مرَّ العالم إلى يومنا هذا بثلاثة عصور علمية كبيرة، وهي عصر التجارة، وعصر الكهرباء, وعصر الذرة، والمؤلم في كل ذلك أن للغربيين دون العرب الفضل كل الفضل في هذه العصور الثلاثة, أما العرب فقد ظلوا متفرجين طوال هذه العصور، ولم يكن إلّا في النصف الثاني من القرن الثاني من القرن العشرين أن بدأ العرب يشاركون في الميادين العلمية. ومهما يكن من شيءٍ, فقد كان على الصحيفة الحديثة أن تقوم بواجبها نحو تزويد المواطن الحديث بالمعلومات الكثيرة عن قصة العلم التي أشرنا إليها. فمتى اخترعت المطبعة، ومتى اكتشفت أمريكا، ومتى نادى العلماء بكروية الأرض ودورانها حول الشمس، ومتى عرف العلماء شيئًا عن الدورة الدموية، ومتى عرفوا قانون الجاذبية؟ وما هي قصة الآلة البخارية، وإلى أي حدٍّ انتفعت الصناعة بهذه الآلة الجديدة، وما هو التلغراف الكهربائيّ، ومتى نجح الإنسان في تحويل الحديد إلى صلب، ومتى استخدمت الإبرة المغناطيسية في جهاز الاستقبال التلغرافي؟ وكيف واجه "داروين" جميع الناس في عصره بنظريته في أصل الأنواع؟

وما هو صدى هذه النظرية الغربية؟ ومتى عرف العلم الدينامو الكهربائي والمصباح المتألق؟ ومتى عرف التليفون، ومتى عرفت السيارة؟ ومتى ظهر الترام الكهربائي؟ ومتى عرفت الآلة الكاتبة أو الطابعة؟ ومتى سمع الفوتوغراف أو "الحاكي"؟ ومتى وصل العرب إلى الأشعة السينية؟ وما هو أثر ذلك في الطب؟ ومتى كشف العلم عن الإلكترونات، ومتى ظهرت السينما، ثم الراديو، ثم التلفزيون؟ وماذا نعرف عن الأقمار الصناعية؟ وكيف تستخدم الذرة في السلم لا في الحرب؟ وكل موضوع من هذه الموضوعات يصلح لأن يكون قصةً علميةً متى ظفر بالمحرر العلميّ الذي يستطيع أن يصوغ المعلومات الخاصة بها بطريقة تجذب إليها أكبر عدد من القراء، وتوسع في الوقت نفسه مدارك المواطنين، وتخلق بينهم تجانسًا عقليًّا لا بد منه في المجتمع الواحد. من أجل هذا كان للصحافة المصرية منذ نشأتها عنايةً كبيرةً بالمقال العلميِّ الذي يهدف إلى تزويد القراء بالمعلومات في شتَّى ألوان المعرفة على اختلافها، فعنيت بهذا المقال الصحف الآتية، وهي: الوقائع المصرية، وروضة المدارس، ووادي النيل، وروضة الأخبار، ويعسوب الطب، ومصباح الشرق، والمؤيد، واللواء، والأهرام، والجريدة, وما زال اهتمام الصحافة المصرية باديًا بهذه الناحية إلى اليوم. ولكن من الحق أن يقال: إن من أكثر المجلات المصرية احتفالًا بالمقال العلميّ, مجلتا: المقتطف والهلال، ويصح أن تضاف إليهما مجلتا الرسالة والثقافة. غير أن القدح المعلى في هذا الميدان, إنما كان للمقتطف بالذات، فقد استطاعت هذه المجلة المصرية العتيدة أن تقدم للعلم في مصر والشرق خدمة جليلة، وذلك منذ سبعين عامًّا إلى الوقت الذي احتجبت فيه عن سماء الفكر العربيِّ، ثم تليها في الدرجة العلمية مجلة "الهلال" التي انشئت عام 1892.

وما زالت تخدم العلم والثقافة والأدب إلى اليوم، وقد اعتادت هذه المجلة الأخيرة أن تتحف قراءها في كل عدد من أعدادها بمقالٍ طريف في موضوع من الموضوعات العلمية الدقيقة, وكثيرًا ما تنقل الهلال هذه المقالة أو تلك، إما عن كتاب معروف في الأوساط العلمية، وإما عن إحدى المجلات الأوروبية أو الأمريكية، مثل مجلة "الريدرز دايجست" وقد يكون المقال من تأليف عالم من العلماء في مصر، أو الشرق، أو عضو من أعضاء أسرة التحرير بالمجلة ذاتها. أما الصحف اليومية الحديثة في مصر, فلم تغفل هي الأخرى ما يجب عليها نحو المقال العلميّ، ومن هذه الصحف المعاصرة صحيفة "الأهرام", وصحيفة "أخبار اليوم"، وفي الأخيرة ظل الدكتور "سعيد عبده" يكتب فترة طويلة عن الأمراض الكثيرة بعنوان: "خدعوك فقالوا". وما دمنا نشير إلى فحول الكتاب في هذا المجال, فلا مَفَرَّ لنا من الإشادة برائد هذا النوع من المقالات في العصر الحديث، وهو الأستاذ هولدين Holldane في كتابه. "العلم في خدمة الحياة اليومية" Seience for every day life: وهو حلقة من سلسلة كتب بينجوين Pingwin المعروفة، ولعل هذا الأخير من أوائل من اهتدوا إلى أكثر من طريق لتبسيط العلم وتيسيره على القارئ العاديّ. يتضح مما سبق أنه لا غنى للصحيفة في عصرنا الحاضر عن "المحرر العلميّ" وهو عضو من أعضاء أسرة التحرير، يمتاز غالبًا بخبرة واسعة في العلوم، وإليه تلجأ الصحيفة في كل ما يتصل بالمادة العلمية التي تسوقها إلى القراء، سواء أكانت في شكل مقال علميّ، أم في شكل عمود إخباريّ، أم في شكل عدد ممتاز يختص بناحية من النواحي العلمية، أو بمرفق من مرافق الأمة, خذ لك مثلًا -صحيفة الأهرام- فإنها تصدر "الأهرام الاقتصاديّ"

مرةً كل شهر في الغالب، وتصدر كذلك عدد خاصًّا باسم: "البلاد العربية" في مواعيد غير محدودة, ولا مضبوطة، لأن أمثال هذه الدوريات إنما تخضع خضوعًا تامًّا للمناسبات، وذلك كله فضلًا عن العمود أو المقال العلميّ الذي تنشره الأهرام اليومية بين حين وآخر1. وهكذا تتسع دائرة المعارف الإنسانية يومًا بعد يوم، لكنها مهما اتسعت تظل على الدوام ناقصة، وذلك ما يدعو الصحف والمجلات إلى الكتابة العلمية التي تصل الجمهور بكل جديد في العلم من حيث هو. والناظر إلى "المقال العلميّ" الذي تراد به خدمة الجمهور من قراء الصحف, يرى أن لصياغته طرائق شتَّى منها: طريقة السرد، وطريقة الحوار، وطريقة القصة، وطريقة الأمثلة والشواهد، وطريقة تصحيح الأخطاء والأفكار، وطريقة الرسوم الكاريكاتورية التي تصور بعض الشخصيات الهامة في الميدان العلميّ، ونحو ذلك. وقد نبهنا الأستاذ "كارل وارين" في كتابه "كيف تصبح صحفيًّا" إلى طائفةٍ من الوصايا التي يحسن الالتفات إليها عند كتابة المقال العلميّ، ومنها ما يلي: أولًا: لا تحسن الظن دائمًا بمعلومات القارئ، ولكن في الوقت نفسه لا تحتقر ذكاءه, أو تفترض أنه غبيّ. ثانيًا: لا تظن أن هذا الخبر أو ذاك قديم على القارئ, كما هو قديم ومألوف لديك، فهناك قراء كثيرون لا يزالون يعيشون في القرن التاسع عشر، أو في القرن الثامن عشر.

_ 1 يشرف على التحرير العلميّ لصحيفة الأهرام، فيما نعلم، الأستاذ عزيز ميرزا, والمسيو ديبونو Deponoo.

ثالثًا: لا تخرج عن دائرة الحياة الإنسانية، فالقارئ آدميٌّ دائمًا، ولا تعنيه غير هذه الموضوعات. رابعًا: لا تنس كذلك أن القارئ يقاطعك في كل عشرة سطور ليسألك: لماذا، وماذا؟ فإذا لم تجب عن تلك الأسئلة وأمثالها, فلن يتم قراءة موضوعك. خامسًا: لا تعتقد أنك تجعل الموضوع أكثر جاذبية إذا حشوته بخرافاتٍ أو أشياء خيالية، أو بألفاظٍ تدل على التهويل والمبالغة. سادسًا: لا تقل: هذا كشف هام، فما دمت قادرًا على ذلك, فلست في حاجة إلى كتابة هذه العبارة. وعلى أية حالٍ, ليس المحرر العلميّ في الصحيفة عالِمًا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنًى، ولكنه رجل قادر على تفهم المعنى العام لأي اختراع، أو كشفٍ، أو نظريةٍ علميةٍ، ونحو ذلك، وقد لا يتطلب منه ذلك غير دراسات عامة، وتجارب منوعة1. وبعد، فقد كنا نود أن نورد للقارئ نموذجًا للكتابة العلمية, بقلم الأستاذ "هولدين" أستاذ العلوم بجامعة كمبردج, الذي تقدم ذكره، ولكن منعنا من ذلك أنه غير مصريّ، ونحن إنما نسوق أمثله مصرية بحتة كلما أمكن ذلك. وعلى هذا, نكتفي بمثال من مجلة "الهلال" هو بالصدفة منشور في العدد الخامس من المجلد الثامن والخمسين، ويتناول موضوعًا طريفًا, هو موضوع "الرادار" وقد اختار له الكاتب هذا العنوان جاء فيه2:

_ 1 المقال "الترجمة العربية" للكتاب بقلم عبد الحميد سرايا ص59. 2 بقلم الدكتور "محمد رشاد الطوبي" بكلية العلوم في جامعة القاهرة.

الأذن السحرية كلما اكفهر جو السياسة الدولية، وتلبدت فيه الغيوم منذرة باحتمال وقوع الحرب, نشطت السلطات المختصة في كل دولةٍ لتجنيد الرجال العسكريين والعلماء معًا. والواقع أن تجنيد العلماء للبحث والاختراع, لا يقل أهميةً من الوجهة الحربية عن تجنيد العسكريين، وما زالت معركة بريطانيا الجوية ماثلة في الأذهان؛ إذ جند الألمان ما لا يحصى عدده من الطائرات لكي يقضوا على انجلترا القضاء الأخير، ولكنهم لم يستطيعوا أن يكسبوا تلك المعركة رغم استعدادهم الضخم الرهيب، وإحكامهم وضع الخطط لتنفيذه، وما كان فشلهم غير المنتظر إلّا نتيجة اختراع "الرادار" أو الأذن السحرية الذى استطاع الإنجليز بها معرفة الطائرات المعادية قبل وصولها بوقتٍ كافٍ لاستعداد قوات الدفاع التي أصلتها نارًا حاميةً عند وصولها، وبذلك فقدت هذه الطائرة عنصر المفاجأة. ويضع المختصون آمالهم الآن في جهاز "الرادار" لدرء خطر القنبلة الذرية التي ينتظر أن تكون هي السلاح الأول في أية حرب قادمة. وللرادار جهاز لاسلكي يبعث موجات لاسلكية قوية, يسيرها بسرعة عظيمة في اتجاه محدد، فإذا اصطدمت هذه الموجات بجسم صلب، كطائرة تشق عنان السماء، أو باخرة تمخر عباب الماء، انعكست وعادت إلى الرادار ثانية، وبمعرفة الزمن الذي استغرقته في ذهابها وعودتها يعرف موقع الطائرة أو الباخرة، وتعرف المسافة بينهما وبين محطة الرادار. ومن المدهش أن الخفاش أو "الوطواط" سبق إلى أسلوب جهاز الرادار منذ أزمنة بعيدة، وقام باستخدامه بنجاح عجيب قبل أن يدرك الإنسان من أمره شيئًا.

فالمعروف أن الخفاش يختفي بالنهار، فإذا أقبل الليل خرج للبحث عن الغذاء طائرًا بسرعةٍ كبيرةٍ في الظلام الحالك، دون أن يصطدم بتاتًا بالأشجار أو بالأبنية التي تعترض طريقه، وكثيرًا ما يخترق الغابات الكثيقة التي تمتليء بالأشجار المتقاربة والأغصان المتشابكة، فيمرق بينها مروق السهم، في سهولة وأمان! وقد كانت هذه الظاهرة العجيبة -ونعنى بها: تحاشي الخفاش تلك العوائق المتقاربة, وعدم اصطدامه بها- مما آثار دهشة الباحثين زمنًا طويلًا، لما ثبت من أنه لا يستطيع أن يراها في الظلام، فهو إذن لا يعتمد في تجنبها على حاسة النظر، بل هناك -ولاشك- حاسة أخرى، هي التي تنير له السبيل، وتجنبه الاصطدام بتلك العقبات. وقام كثير من الباحثين بإجراء تجارب عدة, أظهرت في وضوحٍ تامٍّ أن الخفاش لا يعتمد على الإبصار في طيرانه ليلًا، فقد أحضر العالم "سبالانزاني" عددًا من الخفافيش، وفقأ عيونها، ثم تركها بعد ذلك تطير في الهواء، فتبين له من حركتها المتزنة أنها لم تتأثر على الإطلاق بفقدها الإبصار! ووضع بعض الباحثين خفاشًا في غرفةٍ كبيرةٍ, وثبت في جميع أرجائها أسلاكًا متقاطعة على شكل شبكة، وعلى في تلك الأسلاك أجراسًا صغيرة تدق إذا لمس أي جسم هذه الأسلاك، ثم أطفئت أنوار الغرفة، ووقف الباحثون في ركن منها، لا يرون شيئًا، ولكنهم يسمعون ويحسون بما يجري فيها، وظلوا كذلك حوالي نصف ساعة، والخفاش يطير من مكان إلى مكان متنقلًا بين فتحات تلك الشبكة, دون أن يمسَّ أي جزء فيها، وكان في بعض الأحيان يقترب من وجوههم حتى ليحسون بحركة الهواء الذي تدفعه الأجنحة. وحينما أضيئت الأنوار انقطع الخفاش عن الطيران، وتراجع إلى أعتم مكان في الغرفة حيث قبع ساكنًا لا يبدي أي حراك.

وبدأ الباحثون يعللون هذه الظاهرة بشتَّى التعلليلات دون أن يهتدوا إلى الدليل الكافي الذي تدعمه التجارب والمشاهدات العملية، وكان التعليل الذي قدمه العالم "هارد تردج" سنة 1920, أول تعليل استساغه أغلب الباحثين، وقد رجح فيه استخدام الخفاش موجات صوتية لا تدركها أذن الإنسان, ثم أيدت الأبحاث الحديثة صحة هذا التعليل. ولتفسير ذلك نقول: إن الأصوات المختلفة التي نسمعها ننتقل في الهواء على صورة موجات صوتية، ويدرك الإنسان تلك الأصوات فور وصولها إلى طبلة الأذن، ولا تستطيع أذنه أن تدرك من الأصوات إلّا ما كانت اهتزازاتها تتراوح بين 20 و 30 ألف اهتزازة في الثانية، وهي تعرف "بالأصوات المسموعة"، أما الموجات الصوتية التي تزيد اهتزازاتها على هذا, فلا تدركها الأذن، وقد أطلق عليها العلماء اسم: "الأصوات فوق السمعية". وأثبت بعض العلماء الأمريكيين حديثًا, أن الخفاش لا يصدر الأصوات المعروفة التي نسمعها فحسب، بل يصدر كذلك أصواتًا أخرى "فوق سمعية"، كما أثبتوا أن في استطاعته سماع تلك الأصوات التي تدركها أذن الإنسان, فهو يقوم بإصدار هذه الأصوات التي تنتقل في الهواء، حتى إذا اعترض طريقها بعض العوائق كالأشجار وغيرها, انعكست كما تنعكس أشعة الشمس على سطح مرآة، فإذا ما وقعت تلك الموجات الصوتية المنعكسة على أذنه, أمكنه أن يدرك وجود تلك العوائق, ويعتمد الخفاش في تقدير المسافة التي بينه وبين السطح الذي ينعكس منه الصوت على الزمن الذي يستغرقه الصوت في الذهاب إلى هذا السطح والعودة منه بعد انعكاسه, وهذا ما يحدث تمامًا في جهاز الرادار. ومن بين التجارب التي أجريت لإثبات وجود تلك الأصوات التي لا نسمعها أنهم وضعوا "ميكروفونات" بالقرب من الخفافيش.

الطائرة، ووصلوا هذه الميكروفوات بأجهزة دقيقة تقوم بتحويل الاهتزازات الصوتية التي لا نسمعها إلى اهتزازات كهربائية يمكن إدراكها بطريقة خاصة، فأثبتت هذه التجارب أن الخفافيش تصدر أصواتًا تتراوح بين 30 و 70 ألف اهتزازة في الثانية، أي: أنها فوق القدرة السمعية للأذن البشرية، وفي الوقت نفسه قام هؤلاء العلماء الباحثون بفحص أذن الخفاش، فظهر لهم أن لها من الميزات ما يجعلها قادرة على سماع مثل تلك الأصوات. ويقال: إن الحاسة التي يتفادى بها الخفاش جميع الحواجز التي تعترضه تتركز في لسانه، فقد لجأ العلماء إلى قطع عصب تحت لسانه, فاكتشفوا أنه يصدر أصواتًا يتعرف بها على الحواجز التي أمامه بواسطة حركات لسان1 من ذلك نرى أن الطبيعة قد وضعت سرًّا من أدق أسرارها في مخلوقٍ ضعيفٍ لا يكاد يعيره الإنسان هو جدير به من تقدير وإعجاب، فقد استخدم هذه الطريقة العجيبة في كفاحه من أجل الحياة، وتغلب على الصعوبات التي تعترض طريقة أثناء تجواله الليليّ الذي يمارسه بحثًا عن الغذاء. وهكذا انتهى هذا المقال العلميّ, في شرح نظرية من أدق نظريات العلم، وهي نظرية "الرادار" واصطنع الكاتب في مقاله هذا لغةً سهلةً, تجنب فيها الإكثار من المصطلحات العلمية التي يشق فهمها على القراء، وسرد في سبيل ذلك طائقة صالحة من التجارب التي مارسها العلماء، وشرح هذه التجارب الكثيرة بأسلوب يمتاز بالوضوح والبساطة، كما يمتاز كذلك بربط ما اشتمل عليه من المعلومات الطريفة بحاجة من حاجات القراء، هي الرغبة في السلام، ونزعة من نزعاتهم، أو غريزة من غرائزهم، هي غريرزة حب الاستطلاع، وفي ذلك ما أغنى الكاتب عن

_ 1 راجع مقال "عندما يسمع اللسان " في الصحيفة الزراعية عدد ديسمبر1959.

سلوك سبيل "القصة" أو "الحوار" أو غيرهما من الوسائل الأدبية التي أشرنا إلى بعضها في غضون هذا الفصل. ومثل هذه المقالات كثير مما كتبه الدكتور أحمد زكي في الصحف والمجلات، وكثير مما أذاعه كذلك من إذاعات، ساردًا في هذه وتلك شيئًا من قصص العلوم والمخترعات. ولا يتسع الفصل الذي بين يديك لإيراد أمثلة أخرى توضح لك الطرق التي سلكها الكتاب في تبسيط العلم، وتقريبه إلى أذهان العامة، سعيًا وراء هذه الغاية التي تهدف إليها الصحافة, وهي تثقيف رجل الشارع بمختلف الثقافات، وتزويده بشتَّى المعلومات. كما لا يتسع هذا الفصل لاستيعاب الأنواع الكثيرة للمقال العلميّ, فإن المقالات العلمية تتنوع بتنوع العلوم ذاتها، وما أكثرها كما نعرف، غير أن أشهر ما عنيت, وتُعْنَى به الصحف والمجلات المصرية إلى اليوم من أنواع المقال العلميّ ما يلي: 1- المقالة النقدية، ومن أشهر كتابها: العقاد، والمازني، وطه حسين. 2- المقالة الفلسفية، ومن أشهر كتابها: أحمد لطفي السيد، والدكتور منصور فهمي، والدكتور زكي نجيب محمود. 3- المقالةا لتاريخية، وهي كثيرة الورود في الصحافة المصرية, ولها كتاب عديدون. 4- المقالةالعلمية، ومن أشهر كتابها: الدكتور صروف، والدكتور أحمد زكي. 5- المقالة الاجتماعية، وكتابها كثيرون أيضًا في الصحف والمجلات في الوقت الحاضر، وكل ذلك تنشره المجلات أكثر مما تنشره الصحف اليومية.

المقال الصحفي

المقال الصحفيّ: اعتاد الباحثون في الفن الصحفيّ أن يشبهوا المخبر بالحواس الخمس للإنسان، وهذه الحواس هي وسيلته دائمًا للاتصال بالعالم الخارجيّ, ومعنى ذلك أن المخبر الصحفيّ يسجل دائمًا ما يشاهده بعينه، ويسمعه بأذنه ويشمه بأنفه, أي: أنه يحس الخبر إحساسًا تامًّا. ثم يأتي بعد ذلك دور المقال الصحفيّ, كائنا ما كان, وقد اعتاد الباحثون تشبيهه "بعقل الإنسان" أو "بالمعدة" ومعنى ذلك: أن وظيفة المقال في الصحيفة كوظيفة المعدة أو العقل سواء بسواء، والعقل البشريّ هو القادر دائمًا على تفسير المحسوسات، وشرح المؤثرات، وربط الأحداث بعضها ببعض، ومن هنا كان الفرق عظيمًا بين كاتب الخبر، وكاتب المقال. فكاتب الخبر ليس له أن يستنبط، أو يستخرج، أو يدخل في موازنات أو يتبرع بالمدح أو بالذم، وإنما هو مسجل للأحداث يعرضها بطريقة تتفق وسياسة الصحيفة. أما كاتب المقال -كائنًا ما كان- فله أن يوازن بين الصور المختلفة لخبر من الأخبار؛ ليخرج من هذه الموازنة بالقدر من الصواب الذي اشتركت فيه جميع الصحف ووكالات الأنباء، وله كذلك أن يختار من صور هذه الأخبار صورةً يراد بها التأثير في نفوس القراء، وعليه تقع هذه التبعة الإخبارية، كما عليه أن يتولى القيام بتبعات الإرشاد والتوجيه وغيرهما من التبعات الأخرى. وكلا الرجلين كاتب الأخبار، وكاتب المقال, لا ينبغي لهما -إلّا في الأوقات النادرة- الاهتمام بالإحساسات الذاتية قدر الاهتمام بإحساسات القراء.

ومما تقدَّم تتضح لنا وظائف المقال الصحفيّ، وهي كثيرة, من أهمها ما يلي: أولًا: وظيفة شرح الأخبار، وتفسير الصلة التي بينها وبين الأفراد والمجتمعات, والتعليق على هذه الأخبار تعليقًا يوضح مغزاها للقارئ. ثانيًا: وظيفة التوجيه والإرشاد، وذلك على أساسٍ من العلم والمعرفة التامة بموضوع التوجيه، وإيراد الشواهد القوية من واقع الحياة. ثالثًا: وظيفة التسلية والإمتاع, وإشباع فضول القراء، وذلك في الموضوعات التي تستأثر باهتمامهم، وتجتذب التفاتهم. من أجل ذلك وجب على "مجلس التحرير" في الصحيفة أن يضمَّ إليه نخبةً طيبةً من المحررين المتخصصين كل في موضوعٍ من الموضوعات الهامة كالسياسة والاقتصاد، والزراعة، والصناعة، والتعليم، ونحو ذلك, ومعنى هذا في إيجاز: أن على "مجلس التحرير" في الصحيفة الحديثة أن يكون أشبه بمجالس الكليات في الجامعة، وتتألف هذه المجالس عادةً من الأساتذة ذوي الكراسيّ، عملهم الرئيسيّ توجيه الدراسات المختلفة في كليات الجامعة، وإحداث التنسيق التام بين مواد كل كلية من هذه الكليات على حدة. وهذا كله ما يمكن أن يطلق عليه اسم: "تجميع الصحيفة" أي: جعلها تأخذ صورة "الجامعة". ولا غرابة في ذلك ما دامت الصحافة في كل أمة من الأمم هي التي يناط بما تثقيف الجمهور، وإرشاده في جميع الأمور. فنون المقال الصحفيّ وطريقة صياغتها: المقال الصحفيّ بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة, لا يكاد ينطبق إلّا على فنين فقط، هما: فن المقال الافتتاحيّ، وفن العمود أما ما عدا ذلك من الفنون الصحفية -عدا الخبر- كالحديث، والتحقيق، والماجريات

والطرائف الصحفية، فهي وإن كانت شبيهةً بالمقال الصحفيّ، إلَّا أنها لا تعتبر مقالًا صحفيًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. ومعنى ذلك: أننا كما فرقنا بين بين المقال الأدبيّ، والمقال العلميّ، وجعلنا لكل منهما أشكالًا، وجعلنا لكل شكل شكل طريقة خاصة به من حيث التحرير، فكذلك نجعل المقال الصحفيّ مقصورًا على مادتين فقط من مواد الصحيفة، وهما: مادة المقال الرئيسيّ، ومادة العمود بأشكاله الكثيرة وأغراضه المنوعة. أما عن صياغة المقال الصحفيّ -كائنًا ما كان- فنحن نعرف أولًا أن بين هذين الفنين من فنون الصحافة، وهما: الخبر، والمقال, فروقًا هامةً من حيث القالب الفنيّ الذي تصاغ فيه كل مادة من هاتين المادتين على حده. فالخبر: وهو شيء مخالف في طبيعته كل المخالفة للمقال, يصاغ على شكل الهرم المقلوب, بأن تأتي الخلاصة أولًا، ثم تأتي التفاصيل بعد ذلك. والمقال: وهو فكرة يتلقفها الكاتب, إما من الصحيفة نفسها، وإما من الراديو أو من التليفزيون، وإما من جهاز استقبال الأخبار TICKER ينبغي أن يصاغ على هيئة الهرم القائم أو المعتدل، بمعنى أن الخلاصة تأتي في النهاية دائمًا، وأما الشواهد والتفاصيل والمقدمات فتكون سابقة لذلك. ومعنى هذا باختصار: أن للمقال الصحفيّ أقسامًا ثلاثةً، وهي: 1- القديم. 2- الاستدلال. 3- النتيجة. في حين أن للخبر قسمين فقط، هما: 1- الصدر 2 الصلب أو الجسم. ومع هذا وذاك, فلكل فنٍّ من فنون المقال الصحفيِّ سمات خاصة، وأصول متبعة، وقواعد يجب على المبتديء في تحرير الصحف أن يعرفها

معرفةً جيدةً, وقبل أن نخوض في شيء من ذلك, يصح أن نقف قليلًا عند موضوع هامٍّ يتصل بتحرير المقال هو: لغة المقال الصحفي: نعرف أن الصحافة عمل اجتماعيّ بحت، وأن اللغة التي تستخدم لهذا الغرض مشتقة من الحياة الواقعة التي يحياها الناس في المجتمعات، وهذه الحياة الواقعة تلد للصحافة كل يومٍ جملةً صالحةً من الألفاظ والتراكيب التي لا عهد لرجال العلم أو الأدب بها، والذين مارسوا الصحافة في أية أمة من الأمم لم يجدوا بدًّا من إيثار الألفاظ التي ولدتها الحياة الواقعة، وما زالت هذه الأمم الكبرى تلد أمثالها إلى اليوم. وعلى هذا, فالمعين الأول الذي يستفي منه المعجم اللغويّ للصحافة في كل أمة من الأمم, هو الشعب، أو شعوب العالم كله حين تضطر هذه الشعوب إلى استحداث ألفاظٍ تعبر بها عن معانٍ جديدةٍ في المجال الدوليّ تارةً، وفي المجال الإقليميّ تارةً أخرى. على أن المسألة ليست مسألة الألفاظ المستحدثة فقط، وإنما هي مسألة التراكيب التي يألفها الشعب نفسه كذلك, وللشعب قدرةٌ عجيبةٌ على صوغ التراكيب الحديثة التي يعبر بها عن بعض التجارب الإنسانية التي تمر به. ومعنى ذلك: أن الشعب يعمل ذوقه في الألفاظ من جهة، وفي التراكيب والجمل من جهة ثانية. ولكن أيّ طبقة من طبقات الشعب يمكنها عمليًّا أن تقوم بهذه المهمة المزدوجة؟ لا شك أنها الطبقة المثقفة التي يقدر أفرادها دائمًا على نحت الألفاظ الجديدة، والذي لا شك فيه أيضًا أن على محرري الصحف في كل بلد من بلاد العالم المتحضر يقع العبء الأكبر في القيام بهذه المهمة التي نتحدث عنها.

والعجب كل العجب أن نرى بعض المجددين في الأدب يطالبون ملحين بين الحين والحين باصطناع اللهجة العامية في الكتابة تيسيرًا على القراء، وإشراكًا لأكبر عدد منهم في التعليم والثقافة، وما دري هؤلاء المجددون -وهم يتبعون أنفسهم في هذا السبيل- أن الصحافة الشعبية تقوم لهم بهذا العمل الجليل، وتقدم كل يوم خطوة جديدة نحو هذه الغاية، ولكن من غير أن تثير عليها ضجة من جانب المحافظين المتزمتين الذين يحمون اللغة الفصيحة من أن يتسرب إليها بعض الألفاظ والجمل التي ليست منها في الحقيقة. ورب قائلٍ يقول: ولكن هاتين المقدمتين السابقتين بينهما شيء من التعارض، والواقع أن هاتين المقدمتين، لا تعارض بينهما، لأنهما تقودان إلى النتيجة المطلوبة، فالمقدمة الأولى تقول: إن الحياة الواقعة تستحدث ألفاظًا وتراكيب جديدةً, لا عهد لرجال العلم أو الأدب بها، والمقدمة الثانية تقول: إن الفئة المثقفة في الأمة هي التي تقوم بهذه المهمة المزدوجة، والنتيجة التي تقودنا إليها المقدمتان هي أن الصحافة لا بدَّ لها من "صفة الشعبية" في التعبير, صفة التطور في الكتابة، وإفساح المجال للجديد من الألفاظ والمعاني التي لم يعرفها القدامى. أما من حيث الألفاظ: فمن ذا الذي يقول: إن القدماء كانوا يعرفون كلمات: التأميم، والتدويل، والتصنيع، والتعايش السلميّ، والضمان الاجتماعيّ، والحكم الديموقراطيّ، والحكم الأوتوقراطيّ، والنقطة الرابعة، وغير ذلك من الكلمات التي نسمع بها في الصحف من حين لآخر, وسنسمع بغيرها في المستقبل؟ وأما من حيث التراكيب: فمن ذا الذي يقول: إن القدماء والمحافظين منهم -بنوع خاص- يستسيغون استخدام الأساليب العامية، حين يؤثرها الكتاب والمحررون على الأساليب الكلاسيكية، حتى أن البعد

أو القرب في الصحافة من المستوى الشعبيّ في الكتابة يحدد طورًا من أطوار التحرير الصحفيّ، أو يعين مرحلة من المراحل التي يمر بها التحرير في عهوده المختلفة؟ من أجل هذا, نرى كثيرين من المحررين -حتى المحافظين منهم- على عربية الأسلوب, يحشون مقالاتهم بالألفاظ والتراكيب العامية, والأمثال الشعبية، ومن الأمثال على ذلك. قول بعضهم في مقام التعبير عن الحيرة: أريد أن أعرف رأسي من رجلي، وقول بعضهم في مقام التعجب، يا سلام!، وقول بعضهم في مقام التهوين أو التخفيف من حدة السامع أو القارئ: الدنيا بخير يا أخي! وقول بعضهم في معنى الانتقال من حديث إلى آخر: ما علينا! إلى غير ذلك من آلاف الأمثلة! ألست ترى معي أن كل هذه الجمل والتراكيب مما يصطنعه الناس في أحاديثهم الخاصة، وأنهم لا يكادون يستخدمون غيرها في مثل هذه المواضع التي أشرنا إليها؟. وأكثر من هذه وذاك, أن عنوانات بعض المقالات تأتي أحيانًا على شكل صور شعبية, لا صلة لها كذلك بغيرها من العنوانات "التقليدية" التي نجدها في الكتب القديمة أو الحديثة. ومن الأمثلة على ذلك, مقال كتاب الدكتور "طه حسين" في موضوع التربية والتعليم, بعنوان: "ولو" رد فيه على الذين يناقشونه آراءه الخاصة به في هذه الناحية. وكثير من العنوانات التي يستخدمونها كتاب آخرون غير "طه حسين" تكون في معظمها على شكل مَثَلٍ عاميٍّ، أو حكمة شعبية، أو عبارة جارية على الألسن، ونحو ذلك.

والخلاصة: أن المقال الصحفيّ ينبغي أن يكتب باللغة التي يفهمها أكبر عدد ممكن من الشعب على اختلاف أذواقهم أو أفهامهم أو بيئاتهم وثقافتهم، وهذه اللغة التي هي اللغة القومية في صورة من صورها تمتاز بأشياء منها: البساطة والوضوح، والإيناس واللطف، والرشاقة، وتنأى ما أمكن عن صفات التعالي على القراء، والتقعر، أو الغرابة في الأسلوب، أو المبالغة في التعمق الذي لا تقبله طبيعة الصحف بحالٍ من الأحوال 1.

_ 1 راجع كتاب "الصحافة والأدب في مصر" للمؤلف "الفصل الثاني "بعنوان": لغة الأدب ولغة الصحافة.

المقال الافتتاحي

المقال الافتتاحي: يطلق عليه الإنجليز والأمريكيون اسم، LEADING ARTICLE أو اسم EDITORIAL ARTICLE، وهو المقال الرئيسيّ للصحيفة، وله فَنٌّ خاصٌّ به من حيث الصياغة، وأساس هذا الفن هو الشرح، والتفسير، والاعتماد على الحجج المنطقية حينًا، والعاطفية حينًا آخر, للوصول إلى غايةٍ واحدةٍ فقط, هي إقناع القارئ. ومعنى ذلك: أن المقال الافتتاحيّ ليس الغرض الأول من أغراضه الإعلام, ولا ينبغي له أن يهدف إلى السبق الصحفيّ من هذه الناحية, إنما الغرض الأصليّ للمقال الافتتاحيّ هو الرأي، وكثيرًا ما يكون هذا الرأي تعليقًا على أحداث الأخبار أو الحوادث الجارية، ومن ثَمَّ نرى كاتب هذه المادة الصحفية سريعًا في تفكيره، سريعًا في تعبيره عن رأي الصحفية في هذا الحدث أو ذاك، ولذا وجب عليه دائمًا أن يكون واسع الاطلاع، قادرًا على ربط الحاضر بالماضي، متصلًا على الدوام بشتَّى الصحف والدوريات، كما يقف الناقد على أحدث الآراء في النقد، أو أحدث الكتب في المادة التي هي موضوع هذا النقد. وفوق هذا وذاك, ينبغي لكاتب المقال الافتتاحيّ أن يكون على صلةٍ لا تنقطع بالصفوة الممتازة من العلماء والأدباء والمفكرين في عصره، وله في بعض الأوقات أن يكل إلى أحدهم كتابة المقال الافتتاحيّ في الموضوع الذي تخصص فيه، وللصحيفة أن تنشر هذا المقال ما دام يتفق وسياستها، ويعبر عن غرضها. ثم إنه لا غنى لكاتب المقال الافتتاحيّ، في أحيانٍ كثيرةٍ، عن

الأرشيف الصحفيّ, يرجع إليه كلما أراد الوقوف على الحوادث السابقة, والشواهد الماضية، ويفيد منه في تقوية المقال، ويكون الأرشيف الصحفيّ في هذه الحالة أشبه شيءٍ بالوثائق والشهود على صدق ما يقول. ومهما يكن من شيءٍ, فنحن نستطيع أن نتبين في المقال الافتتاحيّ هذه العناصر: 1- عنصر التقديم, أو الفكرة المثيرة لاهتمام القارئ. 2- عنصر الحقائق, والشواهد المؤيدة للفكرة. 3 عنصر النتيجة, أو الخلاصة التي يخرج بها القارئ. ومن وسائل التوضيح لهذه العناصر عند الباحثين في الصحافة وضع رسم كالآتي: هذا في شكل هرمي على هيئة مستطيل يسحب اسكنر. ومن وسائل التوضيح لهذه العناصر التي يتألف منها المقال الافتتاحيّ, وضع رسم كذلك على النمط الآتي:

خصائص المقال الافتتاحيّ: نستطيع أن نقول: إن للمقال الافتتاحيّ سماتٌ خاصّةٌ يعرف بها، وخصائص فنية تتوافر له، ومن هذه الخصائص ما يلي: أولًا: خصيصة الثبات على سياسة واحدة هي سياسة الصحيفة؛ إذ لا يصح لهذه الصحيفة أن تكون مذبذبة بين سياسات كثيرة، لأنها بذلك تفقد أهميتها كصحيفة من صحف الرأي. ومن أجل هذا يراعى في المقال الافتتاحيّ عادةً ألَّا يكون مذيلًا بتوقيع كاتبه؛ لأنه مقال منسوب إلى الصحيفة نفسها, بوصفها هيئة من هيئات الإعلام، لها سياستها وهدفها من وراء هذا الإعلام. ثانيًا: خصيصة الحذر والاحتياط في إبداء الرأي؛ لأنه ما دام رئيس التحرير, أو كاتب المقال الافتتاحيّ, لا يعبر عن رأيه الشخصيّ، بل عن رأي الصحيفة باعتبارها مؤسسة اجتماعية وظيفتها -الإعلام- كما قلنا، يجب عليه أن يصطنع الحيطة فيما يكتب من مواد باسم الصحيفة, وإلَّا عرضها للخطر الداهم.

والحقيقة أن كاتب المقال الافتتاحيّ ليس مطالبًا كل يوم بذكر آراء صريحة في كل مشكلة من المشكلات التي تهم المجتمع، بل إنه أشبه بالقاضي العدل، يجوز له أن يؤخر حكمه في القضايا المعروضة أمامه حتى تتجمع لديه الأدلة الكافية، والشهود العدول, والبراهين المؤيدة لوجهة النظر التي ينتهي إليها في كل قضية من القضايا. وبعبارةٍ أخرى: يجب على كاتب المقال الافتتاحيّ أن يفكر مرتين عندما يشرع في كتاب هذا المقال؛ مرةً بوصف أنه كاتب لهذه المادة الصحفية الهامة، والأخرى بوصف أنه معبر عن رأي الصحيفة التي يكتب هذه المادة لها وباسمها. وهنا تثار مسألة تتصل "بضمير الكاتب" فهل معنى ما تَقَدَّمَ من الكلام, أن الكاتب ينبغي أن يخالف ضميره فيما يقدم للقراء من هذه المادة الصحفية الهامة, التي قلنا إنها ملك للصحيفة قبل أن تكون ملكًا لكاتب من كتابها؟ والجواب على ذلك صريح واضح، وهو أن الكاتب الذي يختلف في وجهة نظره عن وجهة نظر الصحيفة يجب ألّا يجعل من المقال الافتتاحيّ مجالات لإظهار ذلك. على أننا لا نعرف من أصحاب الصحف, أو رؤساء التحرير, من يفرض على كاتبٍ من كتاب الصحيفة أن يكتب المقال الافتتاحيّ في موضوع لا يوافق عليه الكاتب، ولا يتفق فيه إطلاقًا مع سياسة الصحيفة، وسنعود إلى الكلام عن هذه المسألة الهامة بعد قليل. ثانيًا: خصيصة التبسط في الحديث والإيناس في السرد، ومعنى ذلك بعبارةٍ موجزةٍ أن حديث الكاتب في المقال الافتتاحيّ لا يجوز مطلقًا أن يأتي عن طريق الاستعلاء الذي يحس به القارئ عند القراءة، بل ينبغي أن يأتي عن طريق الملاحظة، وشعور الكاتب والقارئ معًا بأنهما صديقان يتحدثان حديثًا يهم كل واحد منهما بقدر ما يهم الآخر، وليس

المقال الافتتاحيّ في الواقع إلّا محاولةً هادئةً لجذب القراء، وإشعارهم بأنهم شركاء في حل المشكلات العامة، وتوجيه السياسة التي تتبعها الدولة، أو يتبعها المجتمع، فإذا شعر القارئ يومًا ما بغير هذا الشعور, انصرف عن الصحيفة، ولو كان الحق معها، والصواب في جانبها. رابعًا: خصيصة الإقناع عن طريق الشواهد والأمثلة المشتقة -كما قلنا- من الأحداث الجارية في الحاضر، والأحداث التي جرت في الماضي، والتجارب الإنسانية التي يختزنها الكاتب في ذاكرته, إما بطريق الممارسة، وإما بطريق الإطلاع، ولهذه الشواهد والأمثلة حَيِّزٌ كبير في المقال الافتتاحيّ، وهي مجال واسع يتبارى فيه كتاب الصحف، ويظهر فيه علمهم واطلاعهم ووقوفهم على التاريخ العام والتاريخ الخاص. خامسًا: خصيصة الجدة الزمنية، أو مسايرة المقال للأحداث، ومعنى ذلك: أنه ينبغي للمقال الافتتاحيّ أن يعالج موضوعات الساعة، ومشكلة اليوم، ويهتم بالأفكار التي تشغل أذهان الناس وقت ظهور الصحيفة. وبذلك تضمن الصحيفة أن يكون لها قراء ينتظرون رأيها في كل حادثة تحدث لهم، أو فكرة تولد بينهم، أو وضع الأوضاع السياسية أو الاجتماعية، أو الاقتصادية, يراد نقلهم إليه. سادسًا: خصيصة التوجيه والإرشاد، وهي شيء يختفي دائمًا وراء أسلوب الكاتب، فلا ينبغي أن يكون في شكل موعظة، أو نصيحة، أو أمر، أو نهي أو زجر، أو تعليمات يبعث بها الكاتب من فوق منبر الصحيفة، ليحاول أن يؤثر بذلك في الرأي العام. إنما الكاتب الصحفيّ -كما قلنا ذلك مرارًا- صديق القارئ وشريكه في تكوين هذا الرأي. ومع هذا وذاك, فإن كثيرًا من الصحف التي تعتبر نفسها "صحف رأي"

لا تحاول أن تنزل إلى مستوى العامة, بقدر ما تحاول أن ترفع العامة إلى مستواها، وتلك مهارة صحيفة لا تستعصي على كثير من الكُتَّابِ متى قصدوا إليها، وكانت سياسة صحفهم ترمي إلى ذلك. سابعًا: عنصر التسلية والإمتاع والترفيه، فلا يقتصر المقال الافتتاحيّ على المسائل الكبيرة وحدها، بل يتناول كذلك بعض المسائل الخفيفة، والموضوعات الطريفة، وآية ذلك, أننا نجد الصحف الموقرة في مصر وانجلترا تنزع أحيانًا إلى موضوعات لها مثل هذا الطابع الذي أشرنا إليه، وهو الطابع الممتاز بخفة الروح، وبراعة النكتة، وطرافة الفكرة. ومهما يكن من شيءٍ, فينبغي أن نذكر دائمًا أن للمقال وحدة مستقلة، ومعنى ذلك: أنه ليس مجرد سرد للحقائق، أو إتيان بالشواهد، أو إيراد للأمثلة، ولكنه وسيلة للتعبير عن رأي من الآراء، أو مذهب من المذاهب، فلا ينبغي أن يحشى بحقائق يزحم بعضها بعضًا, أو تتراكم تراكمًا يحول دون فهم الرأي الذي يبسطه الكاتب، أو الفكرة التي كتب من أجلها المقال، كما ينبغي للمقال الصحفيّ أن يكون ذا موضوع معين، وغاية واحدة، ولا بد من معالجته بطريقةٍ يظهر بها المقال كأن له وحدة مستقلة بذاتها، كما قلنا1. ويجب باختصار أن يعرف المحرر الصحفيّ للمقال الافتتاحيّ أن هناك ثلاثة أشياء يؤثر بعضها في بعض، ويعتمد بعضها على بعض، ويتداخل بعضها في بعض؛ كتداخل هذه الدوائر المرسومة.

_ 1 غير أننا نرى بعض الصحف -في الوقت الحاضر- قد درجت على كتابة موضوعات كثيرة في المقال الافتتاحيّ الواحد، وإن كانت الصلة واضحة بين أكثر هذه الموضوعات في أغلب الأحوال.

وهذه الأشياء الثلاثة هي: سياسة الجريدة، وصياغة المقال، واهتمام القراء, فعلى كاتب المقال الافتتاحيّ, أو الرئيس في الصحيفة, أن يتصور هذه الدوائر في كتابته دائمًا، حتى يبلغ بمقاله الدرجة التي تسعى لها الصحيفة، وينتفع بها القراء. ولنضرب لذلك مثلًا يوضح مدى هذا التداخل، وكيف تحاول الصحيفة تنفيذه بما يحقق شخصيتها التي امتازت بها بين سائر الصحف. وهذا المثل هو "القمر الروسيّ"، وليس من شكٍّ في أن هذا الموضوع, قد أثار اهتمام القراء في العالم كله، فلا مَفَرَّ إذن من أن يكون موضوع المقال الافتتاحيّ في جميع الصحف على اختلافها، وبذلك يتحقق الركن الثالث من هذه الأركان, أو الدائرة الثالثة من هذه الدوائر، وهي الدائرة الخاصة باهتمام القراء. غير أن الصحف تختلف سياستها في البلد الواحد, فصحيفة يسارية تجنح إلى روسيا, وإلى جميع الأفكار التي ترد منها، وصحيفة يمينية تجنح إلى أمريكا, وإلى جميع المذاهب التي تصدر عنها، وصحيفة وسط بين طرفين: فأما الأولى، وهي اليسارية، فإنها تبرز هذا الخبر بطريقة تلفت النظر.

وتمنحه من العناية ما يشعر القارئ بأنه من أهم أخبار العالم، وأما الصحيفة الثانية -وهي اليمنية- فإنها لا تأبه له إلّا بالقدر الذي يقف عند حد الإعلام، ثم تسكت عند هذا الحد، فلا تختار له المكان البارز من الصحيفة، ولا تسرف في وصفه أو التعليق عليه. وأما الصحيفة الثالثة -وهي الوسط- فتهتم بالخبر اهتمامًا وسطًا كذلك، وهكذا يسير العمل في الدائرة الأولى من الدوائر الثلاثة، ونعني بها: الدائرة الخاصة بسياسة الجريدة. ثم إن الاختلاف يقع بين هذه الصحف الثلاث كذلك من حيث الصياغة، فالصحيفة الأولى تعتمد على التهويل، والمبالغة، والإنذار، والتهديد، والوعيد، والطنطة، وخلق اليأس من مجازاة الروس في ميدان العلم، والثانية تعتمد على المواربة والتهوين من شأن هذا الاختراع الجديد، وعلى الأمل الكبير في اللحاق بهذا القمر الروسيّ متى أرادت أمريكا شيئًا من ذلك وقصدت إليه، والثالثة تعتمد على الحذر والاحتياط في الحديث، وعلى التوسط بين المدح والذم، أو الإسهاب والاقتضاب، وبين الرجاء واليأس. الصفات التي ينبغي توافرها في كاتب المقال الافتتاحيّ: على أن كاتب المقال الافتتاحيّ ليس كالأديب، وإنما هو شخص آخر لا يعبر عن آرائه الذاتية، بل يتقيد بآراء الصحيفة التي ينتمي إليها, أو الحزب الذي تدافع عنه الصحيفة. ولكي يكون هذا الكاتب ممتازًا في هذا اللون من ألوان التحرير، يحسن أن يكون متمتعًا بصفات، منها: أولًا: أن يكون ذا حاسَّةٍ صحفيةٍ دقيقةٍ, يتذوق بها الأحداث الجارية في محيطة، والأحداث الجارية في خارج هذا المحيط، وعلى قدر حظه من

هذه الحاسة دائمًا يكون نجاحه في كتابه المقال الافتتاحيّ، وخاصَّةً إذا كان في المجال السياسيّ. ثانيًا: أن تكون له حاسة تاريخية كذلك, يستطيع بها ربط الماضي بالحاضر، وبها يستطيع أيضًا أن يتكهن بالمستقبل، ومن ثَمَّ كان التاريخ عنصرًا هامًّا من عناصر ثقافة الصحفيّ، وذلك ما لا تلاحظه معاهد الصحافة في العالم. ثالثًا: أن يكون ذا ثقافة عريضة, ولا بأس أن تبدو في بعض مواضعها عميقة، فهذه الثقافة -التي يعتبر التاريخ جزءًا واحدًا منها- يستطيع الصحفيّ البارع أن يقف على المعلومات التي تمكنه من الحكم الصائب، والنظر الصادق، والتوجيه السليم. وهنا نذكر-مع الأسف- أن أهم ما يميز الصحافة الأجنبية عن الصحافة المصرية إلى يومنا هذا, إنما هو صفة "التخصص". فالمقال الافتتاحي في صحيفة إنجليزية أو فرنسية إنما يكتبه مختص في نوع الموضوع الذي يخوض فيه المقال الافتتاحيّ, فإن كان المقال اقتصاديًّا كتبه شخص اقتصاديّ، وإن كان سياسيًّا كتبه شخص سياسي, وهكذا. رابعًا: وهو خلاصة ما تقدم من الصفات- ينبغي أن يكون كاتب المقال الافتتاحيّ ذا حاسة اجتماعية مرهفة، أو قدرة بالغة على الانغماس في المجتمع، وموهبة في الحديث, والإيناس والملاطفة، ونحو ذلك من الخصال التي تمكنه من الوقوف على حقيقة الرأي العام. وكل ذلك مع مراعاةً تامة لمصلحة الصحيفة التي يكتب فيها، فإذا آنس من نفسه أنه عاجز عن مراعاة هذه السياسة، أو حدث أن تعارض ضميره مع مصلحة الصحيفة، فخير له أن يستقبل فورًا من عمله الصحفيّ بوصفه كاتبًا للمقال الرئيس.

وهذا معنى قولنا فيما تقدم: إنه ينبغي لهذا الكاتب أن يتصور الدوائر الثلاث في ذهنه دائمًا، وهي: دائرة السياسة العامة للجريدة، ودائرة الطريقة العامة لكتابة المقال الافتتاحيّ، ودائرة اهتمام القراء. وقد جرى الكثير من الصحف الهامة على سنة لا بأس بها في كتابة المقال الرئيس، وهذه السنة هي عقد اجتماع في دار الصحيفة يضم أعضاء التحرير فيها, لمناقشة الموضوع الهام الذي يعرض له المقال الرئيس، حتى إذا انفض الاجتماع، وجلس رئيس التحرير لكتابة المقال، أمكنه أن يعبر تعبيرًا صادقًا عن سياسة الصحيفة، غير أن هذه الطريقة لا تتبع عادة إلّا في المسائل الهامة، أو المشكلات الخطيرة، أو الحالات التي ترى فيها الصحيفة -لسبب ما- أنه لا بد من تغيير سياستها العامة. أهمية المقال الافتتاحيّ في الصحافة: يقول علماء الاجتماع: إن الظروف والأحداث التي تمر بالإنسان، والتغيرات التي تطرأ على المجتمع, لا يمكن أن تكون لها دلالة ما، أو يكون لها في كيان الفرد أو المجتمع أثر ما, إلّا إذا وعاها الفرد وأدركها وقدرها وكيفها، فإذا لم يحدث من ذلك شيء, ظلت هذه الظروف والأحداث والتغيرات بعيدة عن وجدان الناس، بل أصبحت في حكم العدم. وهنا تظهر أهمية الكاتب الموجه، والصحفيّ اليقظ، حين ينتهز كل منهما كل فرصة ليتحدث عما وراء الأخبار، وعما يحمل كل خبر منها من مغزى، وبهذه الطريقة يستطيع الأفراد كما تستطيع الجماعات أن تحل مشكلاتها التي تعرض لها، سواء أكانت هذه المشكلات نفسية، أم اقتصادية، أم سياسية، أم اجتماعية، ويكون الفضل في كل ذلك راجعًا إلى الصحافة، أو إلى ذلك الكاتب الذي انبرى للكتابة في الوقت المناسب، وأخذ يزج بنفسه في تلك المشكلات، وإن لم يكن من الأفراد الذين تناولتهم كل مشكلة منها، أو اشتركوا في إحداها على أية صورة

من الصور، بينما قد لا يشعر أصحاب هذه المشكلات التي أحاطت بهم أنه قد أصبح لها أثر في حياتهم، وذلك لانعدام الوعي من جهة، ولعجزهم عن تصور حياة أفضل، أو حالة أحسن من جهة ثانية. إنه حين تحرص صحيفة من الصحف في بلدٍ من البلاد على أن تكون "صحيفة رأي" أكثر منها "صحيفة خبر" نراها تعمد إلى المقال من حيث هو، وتعطي عناية تامة للمقال الرئيسيّ، أو المقال الافتتاحيّ بنوع خاص. وقد كان هذا النوع من المقالات الافتتاحية منذ نشأة الصحافة -كما يؤخذ ذلك من اسمها- يحتل أول صفحة من صفحات الجريدة، ويكون أول شيء يطالعه القراء فيها, ولم تتزحزح المقالة الافتتاحية عن مكانها الممتاز من الصفحة الأولى إلّا في وقتٍ قريب، أي: منذ انحازت الصحافة الحديثة في الفترة الأخيرة إلى الخبر، وقلت عنايتها نوعًا ما بالمقال. وليس شيء أدل على أهمية المقال الافتتاحيّ منذ نشأة الصحافة من أن كتاب هذا المقال كانوا ولا يزالون نوابغ الصحافة في كل أمة من الأمم، بل في كل فترةٍ من فترات التاريخ. ففي الصحافة المصرية كان يكتب المقال الافتتاحيّ للمجلة أو للصحيفة أمثال: محمد عبده، وأديب إسحق، وعبد الله النديم، وإبراهيم المويلحي، والسيد على يوسف، والزعيم الشاب مصطفى كامل، والأستاذ أحمد لطفي السيد، والأساتذة: عبد القادر حمزة، وأمين الرافعي، وإبراهيم المازني، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم من أساطين الأدب، والفكر، والصحافة جميعًا. وفي الصحافة الإنجليزية وجدنا المقال الرئيسيّ مكتوبًا بأقلام: ديفو، وأديسون، وستيل، وجونسون، وويلكز، وجونياس، أو الصحفيّ المجهول, وأضرابهم.

وفي الصحافة الأمريكية لمعت أسماء صمويل آدمز, وجون آدمز، وجيمس أوتز، وجوزيف وارين، وصمويل كوبر، ورالف أمرسون، وغيرهم من قادة الشعب الأمريكيّ. وقُلْ مثل ذلك في الصحافة الفرنسية، والصحافة الألمانية، والصحافة الروسية. وكان للمقال الافتتاحيّ في غير هذه الأيام التي نعيش فيها الآن, شأنٌ عند جميع الأمم الناهضة أكبر من شأنها في الوقت الحاضر، بل إن المقال الافتتاحيّ كان ينظر إليه دائمًا على أنه الأداة الأولى للتقدم، والوسيلة الوحيدة للإرشاد، والطريق الصحيح للأخذ بيد الأمة التي تريد لنفسها صيانة الشعب من جميع المؤثرات الضارة به، وبأفكاره وتقاليده، ما دام في صيانتها صمام الأمن، والسلام والسلامة من هذه الأضرار. ويمكن بإيجاز أن يقال: إن الصحافة في العالم كله لا تستطيع القيام برسالتها الوطنية، أو الإنسانية بأسهل ولا بأوضح من طريق المقال الرئيس، وهو المقال التوجيهيّ الذي ترمقه الأبصار، وتستريح إليه العقول والأفهام. ولكن على الرغم من ذلك نرى المقال يتخلف في أيامنا هذه تخلفًا كبيرًا عن الخبر الصحفيّ، وربما كانت لذلك أسباب كثيرة، من أهمها النزاع بين الكتلتين الشرقية والغربية، أو بعبارة أخرى: الخوف من الخطر الشيوعيّ! وفي إحصائيةٍ قام بها معهد جالوب Gallub بأمريكا ظهر أن 19% فقط من الرجال, و 10 % فقط من النساء يعنون بقراءة المقال الافتتاحيّ. وفي بحث قيمٍ للأمريكيّ روبيرت راند Robert Rand دراسة قيمة لميول القراء حول موضوع المقال الافتتاحيّ لثلاثين صحيفة من صحف أمريكا، وقد خرج الباحث من هذه الدراسة بأن قراء المقال الافتتاحيّ

في صحف أمريكا لا يتجاوزون 18.8%, وأن 78.9% منهم يلقون نظرة عجلى إلى المقال دون قراءته من أوله إلى آخره! فإذا كان هذا هو الشأن في بلاد كأمريكا، فما ظننا بقراء المقال في بلاد كمصر, أو في أي قطر من أقطار الشرق؟ وكم نود أن يجري العلماء عندنا بحوثًا كهذه البحوث؛ ليقيسوا بها ميول القراء المصريين, ورغبتهم في قراءة الخبر أو المقال، وإن كنا نستطيع أن نتكهن منذ الآن, بأن نسبة قراء المقال في مصر لا تكاد تزيد عن 3 أو 4 أو 5% على أكثر تقدير. ولكن ليس معنى ذلك أن الصحيفة يحسن بها أن تعدل عن المقال، أو أن ذلك يقلل من قيمة المقال؟ كلّا لا ينبغي مطلقًا أن تزعجنا هذه النسبة القليلة لقراء المقال في الصحيفة، فنحكم حكمًا قاسيًا على المقال بأنه قليل الأهمية بالقياس إلى الخبر في الصحيفة. لا يصحُّ أن يزعجنا ذلك، فإنما الصحيح هو العكس؛ إذ يجب علينا أن نلاحظ أن عدد القراء المستنيرين في كل أمة لا يزيد غالبًا عن هذه النسب التي أشرنا إليها، وذكرنا أمثلة منها. ومع أن هذا العدد من المستنيرين قليل في الأمة دائمًا، فإن هذه القلة هي صاحبة الحل والعقد، وهي وحدها القادرة على قيادة الأمة في كل وقت. من أجل ذلك نجد في كل أمة من الأمم نوعين من الصحف عادةً؛ صحافة يكتبها الصفوة للصفوة، وصحافة يكتبها الدهماء للدهماء. الأولى: وهي صحافة للصفوة الصفوة، صحافة حقيقية بكل ماتحمل هذه الكلمة من معنى. والأخيرة: وهي صحافة الدهماء للدهماء، سلعة من السلع، لا أكثر ولا أقل!

ولنضرب المثل هنا بصحافة انجلترا: فإن صحيفة "التيمس" لا توزع أكثر من 400 ألف نسخة، بينما توزع صحيفة "الديلي ميرور" أكثر من أربعة ملايين نسخة! ومع هذا وذاك, فإن "التيمس" في نظر الحكومة الإنجليزية، ونظر الشعب الإنجليزيّ, أعظم أهميةً من "الديلي ميرور"، ذلك لأن صحيفة "التيمس" هي صحيفة التوجيه والإرشاد عن طريق المقال الافتتاحيّ، ومن أجل ذلك لا تفرض الحكومة الإنجليزية الرقابة على هذه الصحيفة في الوقت الذي تفرض هذه الرقابة على غيرها من الصحف الأخرى, وتأخذ الحكومة الإنجليزية نفسها بهذه الخطة حتى في أوقات الحروب والمحن، ثقةً منها بأن قسم تحرير "التيمس" شريك لها في الشعور بالمسئولية, وشريك لها في وضع السياسة الإنجليزية، داخلية كانت هذه السياسة أم خارجية. وبعد، فقد مرَّ المقال الافتتاحيّ أو الرئيس, في الصحافة المصرية بطورين: أولهما: كانت فيه المقالة الرئيسة تحتل الصفحة الأولى، وكانت المقالة الرئيسة في هذا الطور طويلةً مسرفةً في الطول، حتى لقد بلغت في بعض الأحيان نحوًا من أربعة آلاف كلمة1، وكثيرًا ما كانت تذيل بتوقيع الكاتب. ثاني الطورين: أصبحت فيه المقالة الرئيسة تحتل مكانًا آخر غير الصفحة الأولى -منذ تركت هذه الصفحة للأخبار الخارجية- كما أصبحت لا تحمل توقيع الكاتب، ولا يصح أن تحمل هذا التوقيع، وأما من حيث الطول, فقد امتازت المقالة الرئيسة في هذا الطور بالقصر، بحيث لا يمكن أن تتجاوز -بشكل ما- ستمائة وخمسين كلمة على الأكثر.

_ 1 انظر مقالًا للسيد على يوسف بعنوان: "حفلة الوداع"، وخطبة اللورد كروسر. نقلًا عن جريدة "المؤيد"، العدد 5157، بتاريخ 7 مايو سنة 1907.

ذلك أن المقال الرئيس في الطور الأخير أصبح يكتب في عمودٍ واحدٍ من أعمدة الصحيفة، وفي هذا العمود مقال واحد حينًا، ومقالان أو ثلاثة حينًا آخر. وغنيٌّ عن البيان أن الصحافة الحديثة عمدت إلى كتابة العمود الرئيس, أو المقال الافتتاحيّ على النحو المتقدم؛ لكي تفسح المجال لبقية المواد الصحفية الأخرى التي لم تعرفها الصحافة القديمة، أو كانت معرفتها بهذه المواد قليلة, ومن هذه المواد التي عنيت بها الصحافة الحديثة مادة الحديث الصحفيّ، ومادة التحقيق الصحفيّ، ومادة الماجريات الصحفية على اختلافها، ثم أخبار الرياضة، والكتب، والمسرح، والسينما، وما إلى ذلك. وهذا ما نجده في الصحف المصرية في يومنا هذا، أما الصحف الإنجليزية -على سبيل المثال- فصفحة المقال الافتتاحيّ بها تتألف عادةً من عدة أعمدة، فنرى هذه الصفحة بجريدة "التيمس" وبها المقال الافتتاحيّ -غالبًا- يتألف من أربعة تعليقات، هي: 1- التعليق السياسيّ. 2- التعليق الاقتصاديّ. 3- التعليق الاجتماعيّ. 4- تعليق خفيف. هذا مع ملاحظة أن المقال الافتتاحيّ يختلف في الصحف الشعبية الإنجليزية عنه في الصحف غير الشعبية، فهو ينشر عادةً في الصفحة الأولى على اليسار في الصحف الشعبية, مثل صحيفة: "ديلي ميل" الصباحية، وصحيفة "ديلي إكسبريس" الصباحية أيضًا. أما الصحف الإنجليزية الرفيعة, فتنشر المقال الافتتاحيّ غالبًا في الصفحة الرابعة أو الخامسة على الشمال تحت عنوان: CommentK , ومن هذه الصحف الأخيرة صحيفة "الستيمس" وصحيفة "الديلي تلغراف".

العمود الصحفي

العمود الصحفي: لا تَجِدُ فنًّا من الفنون يخضع لتطور الحياة كما يخضع له فن الصحافة، ذلك لأن الصحافة إنما خلقت لتخدم المجتمع، وتعبر عن أفكاره، وتساير أهواءه، والمتأمل في تطور الصحافة في العالم يجد علاقة كبيرة بين ظهور "العمود الصحفي" ورغبات القراء، كما تظهر في اضطرارهم إلى السرعة في القراءة، وإيثار المواد القصيرة التي تعطيهم الشيء الكثير في الزمن القصير، ثم تردهم سريعًا إلى هواياتهم الخاصة، أو إلى مشاغلهم الكثيرة، أو إلى عملهم اليوميّ. ولقد كانت الصحافة المصرية إلى أوائل القرن العشرين صحافة مقالٍ من أولها إلى آخرها، وكان المقال الصحفيُّ يشغل حيزًا كبيرًا جدًّا من الصحيفة، بل كثيرًا ما وجدنا "النديم" وأمثاله من الصحفيين يصدر الواحد منهم عددًا كاملًا يتألف من مقالٍ واحد، وإذا ذهبت تقيس هذا المقال بما تجده في الكتب نفسها رأيته لا يقل في مساحته عن فصل أو فصلين من فصول الكتب العلمية أو الأدبية في أيامنا هذه. وكمصر في هذا الاتجاه نحو المقال غيرها من البلاد الأخرى مثل انجلترا وفرنسا، وقد أشرنا في بعض مواضع هذا الكتاب إلى الفترة التي كانت فيها الحكومة الإنجليزية تفرض الضرائب على الأخبار، وتعفي منها المقال، وإلى الأثر الذي أحدثته هذه السياسة في شكل الصحيفة إذ ذاك. وهكذا تخضع الصحافة في مصر لمثل الظروف التي تخضع لها الصحافة في غيرها من الأقطار الأخرى، وهكذا نرى أن الصحيفة التي اقتصرت في الماضي على الخبر والمقال, بدأت بعد ذلك تحفل بألوان أخرى من المواد؛

كالفكاهات، والرسوم الكاريكاتورية, والأعمدة الصحفية، والأحاديث والتحقيقات، وغير ذلك. ويظهر أن العمود الصحفيّ لم يشتد ظهوره في مصر إلّا في المرحلة الرابعة من مراحل الصحافة المصرية، وهي المرحلة التي تقع على وجه التقريب بين عامي 22 و 1942، ثم تعددت أشكاله فضلًا عن ذلك. تعريف العمود الصحفيّ وخصائصه: لكن ما المقصود بالعمود الصحفيّ عند إطلاقه؟ وما هي الصورة التي كان عليها العمود منذ نشأته؟ وكيف تنوعت أشكال العمود وصوره فيما بعد؟ سنجيب على السؤالين الأخيرين من هذه الأسئلة الثلاثة تمهيدًا للإجابة عن السؤال الأول: كان العمود في نشأته عبارة عن فكرةٍ أو رأيٍ, أو خاطر من الخواطر يرد على ذهن الكاتب، فيكتب فيه سطورًا قليلةً، وكثيرًا ما كان هذا الرأي أو الخاطر يدور حول واقعة، أو ظاهرة وقع عليها نظر المحرر في المحيط الذي يعيش فيه، ومعنى ذلك أن العمود الصحفيّ في بداية الأمر كاد لا يتعدى المحيط الاجتماعيّ، ومثله عمود "ما قَلَّ ودَلَّ" في الأهرام أو في "الأخبار" لأحمد الصاوي. ثم سرعان ما لاحظنا أن العمود الصحفيّ أصبح موزعًا في الصحيفة المصرية على أبواب كثيرة، فهناك العمود السياسيّ في صفحة السياسة الخارجية، ومثله عمود "ما وراء الأخبار" الذي كانت تنشره صحيفة "الزمان" في صفحة السياسة الدولية، وهناك العمود المسرحي، أو السينمائي، ومثله العمود الذي عنوانه"رأيت أمس" وكانت تنشره "ميّ شاهين" بصحيفة الأخبار.

ثم هناك العمود الرياضيّ، والعمود الزراعيّ، والعمود الاقتصاديّ، وهكذا. وأكثر من هذا وذاك, أننا وجدنا العمود الصحفيّ يستقل بموضع من مواضع الصحيفة يتعود عليه القراء، ويطالعون فيه رأي الكاتب في الأبواب المختلفة من سياسةٍ، واجتماعٍ، وأدبٍ، وعلومٍ، واقتصادٍ، كما نجد ذلك في الأهرام والأخبار بعنوان: "ما قَلَّ ودَلَّ" لأحمد الصاوي، وفي الأخبار بعنوان: "نحو النور" لمحمد زكي عبد القادر، وفي الأخبار كذلك بعنوان: "فكرة" لعلي أمين، وفي صحيفة القاهرة بعنوان: "بين السطور" لحافظ محمود، وفي صحيفة الجمهورية بعنوان: "خاطر الصباح" لأحمد قاسم جوده. وإذن فليس هناك فرق بين المقال والعمود من حيث الموضوع؛ فكلاهما يعالجان جميع هذه الأمور، وكلاهما يخوضان كل هذه الميادين، ومعنى ذلك أنه من الصعب علينا أن نميِّزَ بين هذه الفنون الثلاثة، وهي: العمود، والمقال، والقصة الإخبارية، على أساس الموضوع، وإذن فلنبحث عن أساس آخر يمكن أن تقوم عليه هذه التفرقة. ألا يكون الفرق بينهما آتيًا من ناحية الأسلوب؟ إن المواد الصحفية يمكن تقسيمها على أساس الأسلوب إلى قسمين: الأول: القصة الإخبارية التي تطغى عليها الناحية الموضوعية، والتي لا تذيل غالبًا بتوقيع كاتبها؛ لأن القصة الإخبارية الواقعة في الحقيقة إنما يشترك في كتابتها أفراد عديدون في الصحيفة الواحدة. والثاني: المواد غير الإخبارية، وهي المواد التي يذيل معظمها بتوقيع كاتبها، ولا يختفى الطابع الشخصيّ في الكثير منها، ومثلها العمود الصحفيّ على اختلاف ألوانه، ولا يستثنى من ذلك غير "المقال الافتتاحيّ" الذي قلنا: إنه يعبر عن سياسة الصحيفة، ولا يكون عليه توقيع كاتبه إطلاقًا.

وعلى هذا لا تجد الفرق واضحًا كذلك بين العمود والمقال على أساس الأسلوب، وإذن فلنبحث عن أساس ثالث يمكن أن تقوم عليه هذه التفرقة. وليكن هذا الأساس الأخير هو "الشكل" أو "المساحة" التي تخصص لكل مادة من مواد الصحيفة على حدة, ومن اليسير علينا أن نلاحظ أنه بينما يجري تنظيم الصفحة الواحدة من صفحات الصحيفة بطريقة توفر المساحة التي يشغلها العمود؛ بحيث يضاف إليه جزء، أو يبتر منه جزء؛ ليوضع في صفحة أخرى، إذ بنا نرى القصة الإخبارية، أو المقالة الصحفية، تبتر منذ بدايتها, وتوزيع على أكثر من موضوع واحد، أو صفحة واحدة من صفحات الجريدة التي تنشر فيها. أي أننا إذا أمعنَّا النظر في شكل العمود، وشكل المقال, وجدنا أن الأول يمتاز بصغر المساحة التي يشغلها من الصفحة بالقياس إلى الثاني، وهذا هو أول الفروق الواضحة بينهما. وثَمَّ فرق آخر بينهماكذلك من حيث الشكل، وهو أن العمود ينشر دائمًا تحت عنوان ثابت، وفي مكان ثابت من الصحيفة لا يتغير أبدًا. وهناك فرق ثالث -أشرنا إليه قبل الآن- وهو أن العمود ينبغي أن يكون له توقيع، وإن كان هذا التوقيع له صور كثيرة، كما سنرى فيما بعد- على حين أن المقال الافتتاحيّ، بوجهٍ خاصٍّ، لا ينبغي أن يحمل توقيع الكاتب. بعد هذا نستطيع أن نقدم تعريفًا للعمود الصحفيّ فنقول: "إنه المادة الصحفية التي تتسم دائمًا بطابع، أو محررها في أسلوب التفكير، وأسلوب التعبير، ولا تتجاوز في مساحتها عمودًا

صحفيًّا على أكثر تقدير، وتنشر بانتظام تحت عنوان ثابت، وتوقيع ثابت هو توقيع المحرر". وتوقيع العمود الصحفيّ قد يكون بالاسم كاملًا، وهو السائد في الأعمدة، أو بالاسم الأول فقط، أو بالحرف الأول فقط، كما في العمود الذي كانت تنشره صحيفة المصري بتوقيع "ج" تحت عنوان "تعليق"، وفيه يعقب المحرر على السياسة الخارجية، وقد يكون التوقيع بالرموز، كتوقيع "الحاج سيد" تحت عمود "بالبلدي" في صحيفة الجمهورية عند أول ظهورها، وتوقيع "دولي" تحت عمود "ما وراء الأخبار" في صحيفة "الزمان" وتوقيع "ديدبان" للدكتور محمود عزمي بصحيفة "الأهرام", وقد يكون توقيع العمود الصحفيّ على شكل نقط بين قوسين هكذا "..... " كما في عمود "لا" بصحيفة الجمهورية عند أول صدورها، وهكذا. أما من حيث الموضع الذي يحتله العمود الصحفيّ من الصحيفة، فيلاحظ أنه يحتل مكانًا متطرفًا في أقصى الصفحة من اليسار، كما في عمود "ما قَلَّ ودَلَّ" بصحيفة الأهرام والأخبار، وكما في عمود "خاطر الصباح" بصحيفة "الجمهورية", أو في أول الصفحة الأخيرة من اليمين، كما في عمود "فكرة" بصحيفة "الأخبار"، وقد يحتل العمود مكانًا متوسطًا في الصفحة، كما في "نحو النور" في رأس العمود الرابع من الصفحة الخامسة لصحيفة "الأخبار" أيضًا، وكما في "بين السطور" في العمود السادس من الصفحة الخامس لصحيفة "القاهرة". وأما من حيث الطباعة، فيحسن لكي يتميز العمود عن غيره من مواد الصحيفة، ولكي يلفت إليه نظر القارئ، أن يكون بحروف سوداء من "بنطٍ" خاصٍّ، ولا بأس من كتابته كذلك في إطارٍ خاصٍّ كلما أمكن ذلك، كما كان الشأن في صحيفة "المصري". ومهما يكن من شيءٍ، فالمهم في العمود الصحفيّ -كما قلنا- أن

يكون له مكان ثابت، وعنوان ثابت، وتوقيع ثابت، وفي هذه المميزات الثلاثة ما يكفي لكي يلفت إليه أنظار القراء فيتعودون على قراءته، ويواطنون على هذه القراءة دائمًا. صباغة العمود الصحفيّ: إن العمود الصحفيّ بالقياس إلى أنواع المقال أشبه بالأقصوصة إذا قورنت بفنون القصص الأخرى، ومعنى ذلك أن العمود الصحفيّ -من حيث التفكير- لا يعدو أن يكون فكرةً صغيرةً محدودةً في مشكلةٍ من مشكلات القراء، يدور حولها الكاتب، ولا يعدوها إلى سواها، أو يستطرد منها إلى أفكارٍ أخرى، أو مشكلاتٍ بعيدةٍ عنها، وفي الحالة التي يتناول فيها العمود تعليقًا على خبر من الأخبار, يُرَاعَى في ذلك عادةً أن يكون هذه الخبر معروفًا لدى القراء، وأن يعتمد الكاتب على هذه المعرفة لكي يثير اهتمامهم من جهةٍ، ويضفي على عموده شيئًا من الطرافة من جهةٍ ثانيةٍ. وعلى هذا لا يعتبر "السبق الصحفيّ" غرضًا من أغراض العمود الذي يستمد منه التعليق على الأخبار، وإنما الغرض من العمود في مثل هذه الحالة هو الإمتاع، والطرافة، والتعقيب السريع، وشرح وجهة نظر الكاتب في سطورٍ قليلةٍ لا أكثر ولا أقل. وثَمَّ مسألةٌ هامةٌ تتصل بكاتب العمود، وتعرض للباحث في هذا الفن من فنون الصحافة، وهي: إلي أيِّ حَدٍّ يعتبر كاتب العمود حرًّا فيما يكتبه ما دام الذي يكتبه يحمل طابعه الشخصيّ، ويتسم بالذاتية البحتة؟

هنا يختلف الباحثون في الإجابة: فمنهم مَنْ يرى أن كاتب العمود صاحب حرية واسعة فيما يكتب، ما دام يتحمل مسئولية الكتابة, وما دام يذيل العمود بتوقيعه. وإنما تسمح الصحيفة لكاتب العمود بمثل ذلك، وتبيح له كل هذا القدر من حرية القول كذلك, طمعًا في التوزيع، والسبب في هذا: أن كاتب العمود كثيرًا ما يكون ذا شهرةٍ خاصةٍ لدى القراء قبل إقدامه على الكتابة، أو يصبح ذا شهرةٍ خاصةٍ بينهم بعد مدة طويلة من الكتابة، وهنا يوازن رئيس التحرير بين سياسة الصحيفة، وسعة التوزيع، فيؤثر الآخرة على الأولى. ومع ذلك, فمن رؤساء التحرير مَنْ لا يبيحون لكاتب العمود كل هذا القدر من حرية الكتابة، وإذ ذاك نرى مثل هذا الكاتب ينزل عن آرائه الخاصة، ويكتب بلسان الصحيفة التي يعمل لها، وينهج النهج الذي يشير به رئيس التحرير. ومن العلماء الذين يذهبون إلى هذا الرأي "لا يبلنج Liebling" في كتابه The wayward 1Pressman"، وحجته في ذلك أن الصحافة بعد إذا أصبحت حرفة أو صناعة، جعلت من الصحافيّ محاميًا لا ينبغي أن يطالب دائمًا بالإيمان الخالص بالقضية التي يدافع عنها، ولقد بالغ الأستاذ لا يبلنج" في ذلك إلى حد أن قال: "إن المحرر الصحافيّ له أن يترك آراءه الخاصة عند باب غرفة التحرير, ويخلعها دائمًا كما يخلع معطفه عند هذا الباب، حتى إذا ما انتهى من عمله، وعاد إلى معطفه عادت إليه آراؤه الخاصة التي يمكنه أن يحتفظ بها لنفسه متى أراد".

_ 1 A. J. Libeling. The wayward pressman p. I. H. g.

أما نحن فلا نميل إلى هذا الرأي؛ لأن في اتباعه إهدارًا لركن هامٍّ من أركان العمود الصحفيّ، وهو الطابع الشخصيّ، والرأي الشخصيّ الذي يتميز به العمود عن سائر أنواع المقال. ولا شكَّ أن الصحيفة التي تفقد هذا القدر الضئيل من الذاتية، أو الحرية, لا تغري القراء بقراءة صفحاتها، ولا تسمح للكاتب بعرض وجهات النظر المختلفة في الموضوع الواحد، وإن زعمت في الوقت نفسه أنها تحافظ على سياستها العامة، وطابعها الصحفيّ الذي تمتاز به عن بقية الصحف الأخرى. وتلك وأمثالها هي خصائص العمود الصحفيّ من حيث أسلوب التفكير، أما خصائص العمود من حيث التعبير فمنها ما يلي: أولًا: جمال الأسلوب: وذلك أن العمود الصحفيّ أشبه بالمقال الأدبيّ لا الصحفيّ؛ من حيث العناية باختيار الألفاظ، والاحتفاظ بحلاوة الأساليب، وفيه مجال كبير لتبيان النبوغ الأدبيّ، أوالقدرة البيانية التي يمتاز بها المحرر الصحفيّ. وانظر إلى كاتب من كتاب العمود مثل: "احمد الصاوي محمد" في عموده "ما قَلَّ ودَلَّ" وهو يكتب عن العواصف والأنواء التي اشتدت بمدينة الإسكندرية في 9 من فبراير سنة 1956 فيقول: "وعندما تهب الريح، وتزمجر العاصفة، ويحجب الغبار المرئيات، وترتعش الأشجار، وتهتز خوفًا وفرقًا، يأوي الرجل إلى البيت، فهو بعد الكفاح اليوميّ مأواه وحماه، وليست البيوت أربعة جدران، فالجدران لا تحمي إلّا الجسد، والبيوت إنما خلقت لتحمي الروح، وتبني الهناء، فما أكثر الذين لهم بيوت كبيرة وحياة صغيرة، وما أكثر الذين لهم قصور، وهم يعيشون في صحراء فقراءَ جرداء من الخيال والحب..... إلخ".

إلّا أن جمال الأسلوب على أية صورةٍ من صوره، أو مرتبةٍ من مراتبه, ليس شرطًا في لغة العمود، ولكنه جائز في هذه المادة الصحفية أكثر من جوازه في بقية المواد الأخرى، وآية ذلك, أننا لا نقع على هذا الجمال في كل ما كتب "الصاوي" نفسه تحت عنوان: "ما قَلَّ ودَلَّ" كما لا نظفر بهذه الطريقة من طرق البيان في بقية الأعمدة الصحفية الأخرى مما نراه في شتَّى الصحف المحلية عدا "الأهرام". ثانيًا: عنصر السخرية: إنه عنصر مشترك بين المقال والعمود، ولكنه في هذا الأخير أشبه ما يكون بلسعة العقرب، أو وخزة الإبرة, أو تحذيرة اليد أو الذراع, ونحو ذلك، على أن المقال يتوسع في السخرية -إذا قصد الكاتب بنفسه إلى ذلك- ويتنوع في طرقها، ويعدد من صورها، وقد تضيع الغاية منها على الكاتب نفسه في طيات هذا التنوع والتعدد، ولذلك ترى القراء يتأثرون بسخرية العمود أكثر مما يتأثرون بسخرية المقال؛ لأنهم يصلون إلى الأولى من أقصر طريق، وقد يضلون في الوصول إلى الثانية لتعدد المسالك المؤدية إلى هذا الطريق. ثالثًا: عنصر الذاتية: ذكرنا أن العمود الصحفيّ أقرب المواد الصحفية كلها إلى الأدب الخالص، والفرق بين الأدب والصحافة أن الأول ذاتيّ، والثانية موضوعية، ومن أجل هذا, أصررنا على أن نعطي لمحرر العمود حريةً كاملةً، بقدر المستطاع في التعبير عن آرائه المختلفة، وهو قدر من الحرية لا يعطاه الأعضاء الآخرون في أسرة الصحيفة، ومن هنا تصبح الرابطة قوية بين محرر العمود وقرائه، ومن هنا وجب على محرر العمود أن يهتم قبل كل شيء بمشكلات الأفراد، ومعالجة كل مشكلة منها، وعلى هذا الوتر الحساس يؤدي كتابة الاعمدة دورهم في الصحف، فيجتذبون إليهم القراء، ويأتي يوم

لا يستطيع فيه القراء أن يجدوا في أنفسهم غنًى عن محرر العمود الذي يشاركهم في عواطفهم الخاصة والعامة، ويهوِّنُ عليهم متاعب الحياة التي يحيونها، والصعاب التي يلاقونها، ويدرس معهم النماذج البشرية التي يلتقون بها دائمًا في طريق الحياة. وكم للسطور القليلة التي يكتبها محرر العمود من تأثير في النفوس، ولو كانت هذه السطور من محض خيال الكاتب, فإنها تؤثر في أخلاقه وطباعه، كما تؤثر القصة الطويلة التي يكتبها أديبٌ بارعٌ، ويريد بها تغيير نفس القارئ، أو تصحيح فكرة من أفكاره، أو معتقد من معتقداته, والأمثلة على هذا كثيرة لا تحتاج إلى بيان. من أجل ذلك, حرصنا على أن يكون كتاب العمود أحرارًا في أفكارهم، أحرارًا في تعبيرهم، حتى يكون لأعمدتهم صدًى كبير في نفوس القراء، فإن وافق ذلك هوًى من الصحيفة التي يكتبون فيها فذاك، وإلّا فلكاتب العمود في هذه الحالة أن يترك العمل في الصحيفة. رابعًا: شكل الهرم المعتدل في الصياغة: ما أشبه العمود في هذا بالمقال؛ إذ يبدأ المحرر بالفكرة التي يدور حولها العمود، ثم يواصل الإتيان بالأمثلة والشواهد، أو الأدلة والبراهين, ثم يأتي بالنتيجة التي أراد الوصول إليها في النهاية. وكثيرًا ما يكون العمود على شكل رسالةٍ من بعض القراء إلى الكاتب الذي يرد عليه، وفي هذه الرسالة يبسط القارئ شكواه من أمر معين، أو تأييده لوضع معين، فيكون على محرر العمود في هذه الحالة أن يرد على القارئ، وأن يؤيد فكرته بالحجج والشواهد، وأن يوجه الخطاب إلى ولاة الأمور بعد ذلك لكي يزيلوا أسباب هذه الشكوى، أو يزدادوا ثقةً بفائدة المشروع الذي كتبت من أجله الرسالة.

خامسًا: الإيجاز في العبارة: على الرغم من أن العمود لا يتسع لأكثر من الكلام عن فكرةٍ واحدةٍ، أو خاطرٍ واحدٍ، فإن كاتبه مضطر كذلك، بحلم الحيز الصغير الذي خصصته الصحيفة للعمود- أن يوجز في عبارته، وألَّا يجنح إلى الإسهاب في هذه العبارة بحالٍ ما. وربما كان ذلك بعض ما أحس به الأستاذ "أحمد الصاوي" -وهو من أشهر كتاب العمود في مصر- حين اتخذ لعموده عنوان: "ما قَلَّ ودَلَّ". والواقع أن كاتب العمود إذا طلب إليه أن يكتب مادةً أخرى، كالقصة الخبرية، أو المقال أو التحقيق، أو الحديث, نراه يصطنع لنفسه أسلوبًا آخر في هذه الحالة, يخالف كل المخالفة أسلوبه المعتاد في كتابة العمود، وإذا كان هذا صحيحًا بالقياس إلى الكاتب الواحد، فلا شكَّ أنه أكثر صحةً بالقياس إلى الكُتَّابِ الكثيرين في أكثر من مادةٍ واحدةٍ من مواد الصحافة. مؤسسات العمود الصحفيّ في الوقت الحاضر: لقد ألفنا في مصر أن يتولى تحرير العمود الصحفيّ كاتبٌ من كتاب الصحيفة, يستوحي في هذه الكتابة خياله حينًا، وحوادث المجتمع حينًا آخر، ومشكلات الأفراد حينًا ثالثًا، وهكذا، ومعنى ذلك أن محرر العمود إنما يكتبه "للاستهلاك المحليّ" بلغة رجال المال والاقتصاد في الوقت الحاضر. غير أن كتاب العمود في خارج مصر, أصبح لهم سلطان واسع تجاوزوا به حدود بلادهم إلى بلاد العالم كله تقريبًا، فنرى الصحيفة في بلادٍ كالولايات المتحدة الأمريكية تشتري "حق نشر الأعمدة" من مؤسسات خاصة بهذه

الأعمدة تشبه من قريبٍ أو من بعيدٍ، وكالات الأنباء" المعروفة في أيامنا هذه. وقد بدأ هذا النوع الجديد من المؤسسات في الظهور بأمريكا منذ الحرب الأهلية الأمريكية عام "1861"1، وهي تزيد الآن عن مائتين وخمسين مؤسسة. ومن أشهر هذه المؤسسات مؤسسة ما كلور، ويقال إنها كانت في أول أمرها توزع حوالي خمسة آلاف كلمة في الأسبوع، ثم لم تلبث أن بلغ ما توزعه ثلاثين ألف كلمة في الأسبوع2. ومن أشهر هذه المؤسسات كذلك, واحدة باسم: "مؤسسة بوك الصحفية" وقد وصل صاحبها "إدوارد بوك" الأمريكيّ إلى منصب رئيس شركة كورتيس للنشر Curtis puplicating camp من سنة 1891 إلى سنة 1930، وبدأ حياته الصحفية بالتزام نشر عمود أسبوعيّ للكاتب الأمريكيّ "هنري وارد بيشر" تعليقًا على الأخبار، وكان الربح الوفير الذي جناه "بوك" من هذه الطريقة أكبر مشجع له على إنشاء المؤسسات المقرونة باسمه إلى اليوم 3. وقد رأت مؤسسة بوك لكي تجذب القارئات من النساء إلى مطالعة العمود الصحفيّ أن تنشر عمودًا خاصًّا بالأطفال ضمن الأعمدة التي تنشرها، وتبيع حق نشرها لجميع الصحف التي تطلب منها ذلك4.

_ 1 Robert W, Jones: Journalism in the united states انظر في هذا الكتاب فصلًا عن المؤسسات التي توزع الأعمدة الصحفية ص349، وفصلًا عن محررات العمود الصحفيّ من النساء ص539، وفصلًا من عمود المسائل العاطفية ص542، ونحن ننبه القارئ إلى كل ما سبق. 2 نفس المصدر ص358. 3 المصدر السابق ص359. 4 المصدر السابق ص360.

ويؤخذ مما تَقَدَّمَ أن هناك مجالًا إنسانيًّا كبيرًا تنشر فيه الأعمدة الصحفية، وأن العمود الصحفيّ الإنسانيّ هو الذي يمكن توزيعه على أكبر عدد ممكن من صحف العالم، ونحن نعلم أن الصحافة عمل اجتماعيّ محليّ، ولكن العمود الصحفيّ بهذا الطابع الإنساني يجذب الصحافة رويدًا رويدًا، إلى محيط الأدب, والأدب هو النتاج العقليّ الذي يصلح لأكبر عدد ممكن من أفراد البشر؛ لأنه يتجه دائمًا إلى النفس البشرية، والنفس البشرية خالدةٌ من جهةٍ، وهي وحدةٌ متشابهةٌ في جميع أقطار العالم من جهةٍ ثانيةٍ. وحين تصبح الصحافة على هذا النحو تصبح أدبًا خالدًا بالمعنى الصحيح. إلّا أن الأمل في وصول الصحافة إلى هذه المنزلة بعيدة التحقيق في الوقت الحاضر لأسباب كثيرة؛ من أهمها فيما يتصل بالعمود: أن العمود نفسه مادة واحدة فقط من بين المواد الكثيرة التي تتألف منها الصحيفة. وأعجب من كل ذلك، وأمعن منه في الغرابة, أن نجد "العمود الصحفيّ" يتجاوز مهمته الأولى في الصحافة - وهي مهمة الإرشاد، وحل مشكلات القراء- إلى وظيفة جديدة هي وظيفة الإعلان! وفي كتاب للأستاذ "لا يبلنج" بعنوان: "الصحفيّ المتجول " -سبقت الإشارة إليه- حديث عن صحفيٍّ بدأ حياته محررًا لعمود إعلانيٍّ لدى مؤسسة "ساشس Sachs" لبيع أثاث المنازل، وقد احتال هذا الصحفيُّ على القراء بحيلة لطيفة، هي أنه أخذ يجذب إليه انتباه القراء أولًا بالكتابة في موضوع الديموقراطيات الحديثة، وكان أول مقال كتبه في ذلك بعنوان: "لا يمكن لأية ديموقراطية أن تعيش من غير صحافة حرة"، ثم أخذ يتدرج في عموده، وينوع في هذا العمود حتى وصل إلى الشئون المنزلية، وإلى أن المنزل يجب أن تتوفر له الراحة والأمن والبهجة والتسلية، ثم أخذ هذا

الكاتب يتوخى في هذه الأعمدة أن تنشر بجوار البضائع المعلن عنها في الصحيفة، فكان لهذه الطريقة أثر فعليٌّ في رواج البضاعة، وأقبل القراء على قراءة الأعمدة الإعلانية العجيبة، ولم لا يفعلون ذلك، وقد بدأهم في هذه الأعمدة بالحديث عن الديموقراطية، والحرية، والصحافة، وما إليها1. ألا ما أبرع الصحافة، وما أذكى كتابها، ومحرريها، والقائمين على إدارتها وإخراجها للجمهور القارئ! وقريبًا تتقدم الصحف في مصر، وتبلغ الحد الذي تصبح فيه قادرةً على شراء حق نشر الأعمدة المشهورة في العالم، كما أصبحت -منذ وقت قريب- قادرة على الحصول -عن طريق وكالات الأنباء- على جميع أخبار هذا العالم. والصحافة المصرية على هذا الوجه المنشود تصبح عملًا إنسانيًّا، وعملًا فنيًّا، وعملًا تجاريًّا في وقت معًا. لقد رأيت مما سبق أن العمود الصحفيّ أنواع كثيرة، ولا نستطيع في هذا الكتاب أن نختص كل موضوع منها يحث معين، فلنكتف إذن بنوعين فقط من الأنواع, على سبيل المثال، هما: عمود الموضوعات الإنسانية، وعمود الرياضة والفنون2, وسنفرد لكلٍّ منهما فصلًا برمته فيما يلي:

_ 1 المصدر المتقدم ص147. 2 لا شك أيضًا أن للعمود السياسيِّ أهميةً كبيرةً في العصر الحاضر، ومن أحسن الأمثلة على هذا النوع أعمدة الكاتب المعروف باسم: والترلبيمان "راجع كتاب مدخل الصحافة" تأليف بون، وترجمة راجي صهيون, ص 317.

عمود الموضوعات الإنسانية

عمود الموضوعات الإنسانية: نعني بالموضوعات الإنسانية جميع الموضوعات التي يخاطب فيها الكاتب إحساس القراء، ويهدف إلى إمتاعهم من الناحية الشعورية البحتة، وإحساسات القراء لا حصر لها في الواقع، وهي في الوقت نفسه تختلف بين فرد وفرد، كما تختلف بين حالة وحالة عند الفرد. فشابٌّ ضيق الدخل, ذو أسرة كثيرة العيال, قد يثير فيك من الإحساسات ما يثيره الشيخ الهرم، أو المرأة العجوز التي مات زوجها وأولادها منذ زمنٍ بعيدٍ، وبائع متجول لفحت وجهه الشمس، وعليه ثياب ممزقة، وصوته قد بُحَّ في الإعلان عن بضاعته اليسيرة, قد يحرك فيك من الشعور ما يحركه منظر اليتيم في يوم عيد، وهكذا. ونعنى بالموضوعات الإنسانية أيضًا, جميع الموضوعات التي يخاطب فيها الكاتب عقول قرائه، والناس في هذا العصر لا يجدون لهم غنًى عن المتع العقلية البحتة، يلتمسونها من أي طريق، وما دام طابع العصر هو السرعة, فلا ينتظر من أكثر القراء أن يلتمسوا هذه المتع العقلية الخالصة في الكتب، ولكنهم مضطرون في معظم الأحيان إلى التماسها في الصحف. من أجل ذلك, نرى الصحف كثيرًا ما تَمُدُّ القارئ بأعمدة تخاطب فيها عقله، وربما كانت هذه الأعمدة خلاصةً طيبةً لمقالٍ قرأه الكاتب، أو لبحث فلسفيٍّ أوحى إليه بكتابة العمود الإنسانيّ. ومن هذا القبيل كثير من الأعمدة التي كان يكتبها "على أمين" بصحيفة

"الأخبار" تحت عنوان: "فكرة", ومنها كذلك بعض الأعمدة التي يكتبها "محمد زكي عبد القادر" في نفس الصحيفة تحت عنوان: "نحو النور". أما الصحف الأجنبية -أمريكية أم أوروبية- فحافلة بهذا اللون من الأعمدة، والذي لا ريب فيه أن هذا الصحف الأجنبية تَقَدَّمَتْنَا أشواطًا بعيدة في هذا السبيل. ولئن كانت الأعمدة الإنسانية العاطفية تعتمد على غزارة العواطف عند الكاتب, وعلى ثروته في المشاعر، فإن الموضوعات الإنسانية العقلية تعتمد على قدرة الكاتب على التأمل في سلوك الناس، والمهارة في تحليل هذا السلوك تحليلًا فطريًّا حينًا، ومبنيًّا على قواعد علم النفس الحديث حينًا آخر. وما أشبه المحرر الصحفيُّ في الحالة الأولى بالأديب, وما أشبه المحرر الصحفيُّ في الحالة الثانية بالفيلسوف, وما أشد حاجته في الحالتين معًا إلى قوة البيان، وجمال الأسلوب، وحلاوة التعبير، والقدرة الصحيحة على ربط هذه الإحساسات أو التأملات بعضها ببعض؛ ليخرج منها مادةً إنسانيةً تريح النفس، وتلذ العقل، وتغذي الوجدان. من أجل هذا, كانت الأعمدة الإنسانية أقرب المود الصحفية كلها على الإطلاق إلى محيط الأدب، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنها أدب خالص, له من القيم الفنية ما يصبح به خليقًا باسم الأدب الخالص، ونحن نعلم أن هذه القيم الفنية إنما تتلخص في ثلاثة أشياء، وهي: عمق التفكير، وغزارة الشعور، وجمال التعبير، وقد رأينا كيف يمكن أن تتوافر هذه الأشياء كلها في الموضوع الإنسانيّ. ومن ثَمَّ وجب أن يكون كاتب هذه الموضوعات أديبًا ممتازًا، وإن كان

الأدب وحده لا يكفي, ما لم تسنده التجارب الذاتية الكثيرة، والمعرفة الإنسانية العميقة، والاطلاع الواسع على الكتب والمجلات، والقدرة على التأمل في سلوك الأفراد والجماعات. وقد تقول: وما الفرق بين العمود الإنسانيّ، والمقال الأدبيّ الذي مَرَّ ذكره في الفصول السابقة؟ والجواب على ذلك: أن هناك فرقًا مبدئيًّا بين هاتين المادتين من مواد الصحف من حيث الطول: فالمقال الأدبيّ طويلٌ إلى حدِّ أنه يعتبر فصلًا كاملًا من أي كتاب, أما العمود فيشترط فيه أن يكون قصيرًا ما استطاع الكاتب إلى ذلك سبيلًا. وهناك فرق بينهما كذلك من حيث الشمول: فالمقال الأدبيّ, إنما تقصد به في الواقع طبقة معينة من القراء، هي الطبقة التي تفهم الأدب، وتعرف شيئًا عن صوره، ووسائله في التعبير، أما العمود الإنسانيّ, فإنه موجه إلى عدد أشمل من الناس، ويستطيع أكثر القراء تتبع العمود الإنسانيّ دون حاجةٍ منهم إلى معرفة الأدب، أو الوسائل التي يؤدي بها الأديب ما أراد. وقد تقول: وما الفرق بين العمود الإنسانيّ، والتقرير أو "الريبورتاج؟ " والجواب على ذلك، كما يقول الأستاذ "كارل وارين" في كتابه "كيف تصبح صحفيًّا"1: "أن التقرير -أو الريبورتاج- هو معلومات جديدة تتناول

_ 1 راجع الترجمة العربية للكتاب، بقلم عبد الحميد سرايا ص124و 125.

أشخاصًا أو أشياء، أو حوادث لها مغزًى معين، والغاية منه أولًا -وقبل كل شيء- نقل المعلومات إلى القارئ, أما الموضوع الإنسانيُّ فيهدف إلى إمتاع القارئ برواية مكتوبة؛ ممثلوها حقيقيون، ومواقفها الإنسانية حقيقية، وهدفها الوحيد إثارة إحساساته، ومع هذا وذاك, فليس ثمة خط واضح يفصل تمامًا بين الموضوع الإنسانيّ والريبورتاج، فحدودهما تختلط كما تختلط حدود الألوان في قوس قزح". أما موضوعات العمود الإنسانيّ فكثيرة، ولا نستطيع لها حصرًا في الحقيقة، فالأطفال، والشبان، والنساء، والشيوخ، والحيوان الأليف؛ كالقطة، والحيوان المسلي كالقرد، والأشجار، والأمكنة التي ارتبطت في الأذهان ببعض الأحداث، والمحكوم عليه بالإعدام، والتاجر، ورجل الأعمال، والسجين, والوزير، والطبيب، والأستاذ، والفلاح والشهيد في موقعة من مواقع القتال، والقائد في الموقعة، والزعيم في المنفى, كل هذه موضوعات صالحة للعمود الإنسانيّ الذي تنشره الصحيفة. غير أن النوع العاطفيّ الخالص من هذه الموضوعات يكثر في الصحافة عند اشتداد الأزمات القومية التي تمر بالبلاد، ومنها أزمات الحروب التي تقوم بها العصابات، وجيوش التحرير الوطنيّ في أي بلدٍ كان، ومنها كذلك أوقات الأمراض الفتاكة، كالكوليرا، والطاعون، ونحوهما، ومنها الأزمات الاقتصادية الحادة، والحوادث الكبيرة المفزعة، كحادثة زلزال، أو بركان، أو سيل من السيول الجارفة، ونحو ذلك، وكل هذه الموضوعات تصلح لأن تكون مادةً للعمود الإنسانيّ، كما تصلح في الوقت نفسه أن تكون مادة للتقرير الصحفيّ أو "الريبورتاج". وإن تنس مصر لا تنسى تلك الأعمدة الفياضة بالمشاعر والوجدانات

مما ظهر في الصحف المصرية على أثر المواقع التي اشتبك فيها الفدائيون المصريون بالجنود الإنجليز عند مدينة الإسماعيلية، وذلك في غضون سنة 1951، وفي هذه المواقع الحربية سقط في ميدان الشرف كثيرون من شباب الجامعات المصرية, ورثت الصحافة هؤلاء الشهداء رثاءً أثارَ أعمق العواطف الإنسانية في قلوب القراء. وهكذا كانت "قناة السويس"منذ نشأتها إلى اليوم مدعاةً لأزماتٍ قويةٍ هزت الشعور المصريّ هزًّا قويًّا، وكان من نتيجة ذلك أن أفاض الشعراء والكتاب ورجال الصحف على اختلافهم في الكتابة في هذا الموضوع بين حين وحين, ولو ذهبت تجمع هذا النتاج الأدبيّ الصحفيّ العظيم, لتألف لك منه ما يمكن أن تطلق عليه اسم "أدب القناة"، وهو جزء من الأدب المصريّ المعاصر, عليه طابع الحزن الذي نجد مثله في جزء من الأدب العربيّ، هو الأدب الشيعي, الذي يدور في معظمه حول حادثة مشهورة في التاريخ الإسلاميّ، هي حادثة مقتل "الحسين بن عليّ". وإلى القارئ مثلًا واحدًا فقط من أمثلة الأدب الذي اصطلحنا على تسميته: "أدب القناة"، وهو هنا عمود من أعمدة الموضوعات الإنسانية التي حفلت بها الصحف المصرية إذ ذاك، ومنها صحيفة "الزمان", وقد نشرت هذه الصحيفة مقالًا بعنوان: إلى البطل الشهيد عادل محمد غانم: قالت في أوله: "استشهد فجر أمس "30/ 12/ 1951" المجاهد عادل محمد غانم, الطالب بكلية الطب بجامعة إبراهيم -عين شمس الآن- فكان أول جامعيٍّ سقط في ميدان الشرف. ثم وجه الكاتب تحيته لهذا الشهيد الكريم، فقال:

"كنت بين زملائك في الجامعة ملء العيون، وبين أهلك وأصدقائك ملء القلوب، وكان هدفك أن تتمتع بالشباب النضير، والربيع الضاحك، والأمل الحلو، وتمتع أهلك بما تنال من فرحة النجاح، وبهجة العرس، وجاه المنصب، ثم هتفت مصر تناديك فلبيت، وأبليت، وضحيت! يا لك من شابٍّ سخيّ البذل، كريم النفس، عظيم الهمة, ألم تهزمك دموع أمك وهي تودعك؟ ألم تغلبك عواطف أبيك وهو يشيعك؟ ألم تستمع إلى نداء المستقبل الذي كافحت من أجله في الدرس؟ ولا إلى الشباب الذي يفتح لأمثالك نوافذ الأمل والمتعة والحرص؟ ولا إلى صوت أصدقائك الذي نعمت بمحبتهم، ونعموا بمحبتك؟ ودعت كل ذلك، وكل ما فوق ذلك, وضحيت بالمستقبل الذي كان ينتظرك، والأمل الذي كان يراودك، وأسرعت نحو أمك الكبرى تلبي نداءها، وتجيب دعاءها، كأن صوتها لحنٌ سماويٌّ ملك عليك كل مشاعرك، وأنساك كل شيء إلّا أمل مصر، وحق مصر، وصوت مصر! يا لك من شابٍّ سخيٍّ كريمٍ! في الوقت الذي تعاني فيه مصر ضغطًا متصلًا من أوروبا، ونقصًا أكرهت عليه في السلاح، تندفع أنت كالشعلة تفيض بالضوء والحرارة، وتؤدي ضريبة الدم زكيةً سخيةً، لتروي بها شجرة الحرية، فلا الظلام أعماك عن الهدف، ولا التثبيط أقعدك عن الكفاح، ولا الخوف حال بينك وبين التضحية! لقد أضفت إلى قائمة الشهداء في معركة التحرير اسمًا لامعًا, سوف لا تنساه مصر، وكتبت بدمائك الطاهرة صفحةً خالدةً في سجل الكفاح الوطنيّ ستذكرها مصر، وقدمت بروحك الغالية وثيقة الثقة بين مصر وشباب مصر! وسوف تثمر هذه الدماء التي تتخضب بها أرض القناة ثمرتها المرجوة

إن شاء الله، ما دامت مصر تجد من بنيها رجالًا مثلك، ينسون في سبيلها نفوسهم، ويضحون من أجل حياتها بحياتهم! فلتطمئن نفسك، ولتهنأ روحك، فإن جهادك لن يضيع، وتضحيتك لن تنسى، ووطنك لن يموت! وتقبل من قلوب أهلك، وأصدقائك، وزملائك، وبني مصر جميعًا باقةً خالدةً مخضلةً بالدموع"! إدجار جلاد. وعندي أن هذه القطعة الأدبية، أو العمود الصحفيّ الإنسانيّ من أروع ما خلفة الصحفيون والأدباء، كُتَّابًا، وخطباء، وشعراء، وهو -على كونه عمودًا صحفيًّا بحتًا- له من الصفات الفنية، والقيم الجمالية ما يجعله خالدًا خلود القطع الأدبية التي تركها لنا هؤلاء القدامى. أما النوع الثاني من أنواع الموضوعات الإنسانية، وهو النوع الذي يخاطب فيه الكاتب عقول القراء بدلًا من عواطفهم، فالأمثلة عليه كثيرة من الصحف المصرية منذ نشأتها، وتذكرنا هذه الموضوعات بما كانت تفعله صحيفة "المؤيد" لصاحبها "السيد على يوسف", فقد كانت تنشر بين حينٍ وآخر موضوعات إنسانية تستعيرها من بعض الكتاب الأمريكيين، ومنهم الكتاب المشهور باسم: "آرثر بريز باين". وكان هذا الكاتب يبعث بأعمدته إلى إحدى مجلات المؤسسة الأمريكية المعروفة باسم: "هرست"، فكانت تلقى رواجًا كبيرًا جدًّا في بلاد أمريكا، وذلك على الرغم من أنها لم تكن تتصل بأمور السياسة، وكان من المعجبين بهذه الأعمدة الإنسانية العقلية -أيما إعجاب- شابٌّ شرقيٌّ اسمه: "سليم" كان مقيمًا بأمريكا، وكان يصدر بها مجلة باللغة العربية، واشتهت نفس "سليم" هذا أن يحظى بلقاء الكاتب الأمريكيّ الكبير في مكتبه، ويشهد

بنفسه كيف يكتب عمود الصحفيّ عادةً، ونجح سليم في ذلك على الرغم من أن مقابلة هذا الكاتب الأمريكيّ كان أعسر على طالبها من مقابلة رئيس الجمهورية نفسه، وإذا ذاك سأله سليم قائلًا: كيف تكتب العمود دائمًا؟ قال الراجل: أقضي نهاري في مراقبة الناس وأحوالهم، ومطالعة أفضل المؤلفات، فمتى اختمر المعنى الذي اخترته موضوعًا للعمود في عقلي, أتيت غرفتي هذه، وكتبت موضوعي على الآلة الكاتبة بيدي1. ونريد أن نستميح القارئ الشرقي عذرًا في إيراد مَثَلٍ واحد من أمثلة العمود العقليّ الإنسانيّ الذي كان يكتبه ذلك الكاتب الأمريكيّ، وهو العمود الذي نشرته صحيفة "المؤبد" بعنوان: الماحوث والناموس: لقد تعلم أيها القارئ أن الماموث حيوان مفترس في غاية الضخامة, وأنه انقرض الآن، فلم تبق إلّا ذكره, وأما الناموس الصغير فلا يزال موجودًا بكثرة، وأنه يزداد ويحصى بملايين الملايين. ولم نعلم إلّا أخيرًا أن الناموس هو الذي ينشر حمى الملاريا، وينقل الحمى الصفراء، وغيرهما من الأمراض, وقد استطاع الإنسان مع ضعفه الأول، وأطواره الأولى أن يتخلص من الماموث، ومن سائر الحيوانات الضخمة، ولكنه لا يزال حتى الآن عاجزًا عن إبادة الناموس على الرغم من صغر حجمه، وعلى الرغم من أنه أشد الهوام المنظورة أذًى وضررًا.

_ 1 انظر "أدب المقالة الصحفية في مصر "الجزء الرابع، للمؤلف, ص92 و 93.

أفلا ينتج عن هذا أن العمل الصغير التافة هو أشد ما يعترض الجنس البشريّ كله، وأن العقل يقوى على حلِّ أعظم المسائل وأشدها تعقيدًا وضخامةً، ولكنه يعجز عن مقاومة المشكلات الصغيرة التافهة؟ نعم، سنتمكن في آخر الأمر من إبادة الناموس، والذباب، وسائر الهوام الجالية للأمراض، وإذ ذاك نبدأ عراكًا من نوعٍ آخر نقاتل فيه الميكروبات، والجراثيم، والأشياء غير المنظورة، ونقاتل فيه ميكروبات الأمراض التي كان الناموس ينقلها، ويوصل أذاها إلينا، وهو عراك عنيف طويل, لا بد لنا من الفوز فيه بطريقةٍ أو بأخرى. ولكن العبرة التي أسوق إليها القارئ من كل ذلك, هي أن الإنسان يجد مثل هذا العناء في المعارك الخلقية، والمعنوية التي تصادفه في حياته، فأصغر الأعداء فيها يحتاج إلى وقت طويل، وصبر أطول بما يحتاج إليه الإنسان في التغلب على أعظم الأعداء، وأقوى الأقوياء. إنني أعتقد أننا لا نزال في دور الهمجية من حيث الأخلاق، والمعنويات، فنحن لا نزال نحارب جرائم القتل، وإحراق البيوت والزرع، ونحارب السرقة، وغيرها من الجرائم الكبيرة والعيوب الضخمة، وكما كان ساكن الكهوف يحارب الماموث، فنحن الآن نحارب هذه الوحوش الأخلاقية الشرسة الضخمة، وستزول هذه الوحوش الأخلاقية يومًا ما، وتتلاشى من الوجود، فلايرتكب الناس القتل، ولا يقترفون السرقة؛ إذ لا تكون هناك حاجة يومئذ إلى القتل، أو إلى السرقة متى أعيد تنظيم المجتمع على أسس أخرى! عند ذلك فقط, نعود إلى محاربة المتاعب الخلقية والمعنوية الصغرى من حيث الإثم، والكبرى من حيث الخطر والفتك بالجنس البشرىّ, ونريد بهذه المتاعب الكثيرة، أو المخلوقات المعنوية الدقيقة: الرياء، والغطرسة، والأنانية، وحب الذات، وانعدام الرغبة في الإحسان،

وأشباه ذلك من العيوب الأخلاقية والاجتماعية التي تشبه الناموس والهوام, في عالم المعاني والأخلاق1. وهكذا نرى أن عمود الموضوعات الإنسانية لا يكاد يختلف كثيرًا عن المقال الأدبيّ، بل هو عبارة في الواقع عن مقال أدبيٍّ صغير، يشترط فيه أن يدور حول فكرة واحدة فقط، لا يعدوها إلى غيره من الأفكار الأخرى، كما يشترط فيه أيضًا أن يكون أدنى إلى الإيجاز في اللفظ، ذلك أن المساحة التي يشغلها العمود في الصحيفة أقل بكثير من المساحة التي يشغلها المقال الأدبيّ أو العلميّ أو الصحفيّ. وثَمَّ فرق آخر بين العمود والمقال، هو أن الأخير لا غنى له في أكثر الأحيان عن الأمثلة والشواهد التي يأتي بها الكاتب لتقوية كلامه، والدفاع عن قضيته، في حين أن العمود لا يحتاج إلى شيء من ذلك إلّا في القليل النادر.

_ 1 راجع صحيفة المؤيد العد 5203 بتاريخ 3 يونيه سنة 1907, وقد نقلنا عنها هذا المقال بشيء من التصرف.

عمود الرياضة والفنون

عمود الرياضة والفنون: قيل: إن القارئ العادي للصحيفة، كما دلت الإحصاءات الكثيرة على ذلك، يلقي نظرةً سريعةً على العنوانات البارزة فيها، ثم يقلب صفحاتها على عجلٍ بحثًا وراء الفكاهات، والصور الكاريكاتورية، ونحوها، وأخيرًا يستقر بصره في صفحتي المرأة والرياضة1. ولسنا ندري إن كان هذا صحيحًا بالقياس إلى الشعب الأمريكيّ، أو الشعب الأوروبيّ، وإلى أيٍّ حدٍّ يكون صحيحًا كذلك بالقياس إلى الشعب المصريّ خصوصًا, والشعوب العربية عمومًا؟ والمعروف -على أية حالٍ- أن الصحف العربية تخصص للألعاب الرياضية والمسرح والسينما حيزًا يلفت أنظار الجمهور القارئ. فلنقف وقفةً ما عند صفحتي الرياضة والفنون في الصحيفة، ولنشر إلى أهم القواعد والأصول المتبعة في تحريرها هاتين الصفحتين, أو العمودين في العادة. صفحة الألعاب الرياضية: نرى معظم الصحف التي تصدر في العالم -في الوقت الحاضر- تفرد صفحةً أو أكثر لأعمدة الألعاب الرياضية، ولعل السبب الحقيقيّ في اهتمام الصحافة الحديثة بهذه الصفحة بالذات, هو انتشار الألعاب الرياضة، والروح الرياضيّ في أكبر أقطار العالم المتحضر، ومن ثَمَّ كان على الصحف

_ 1 راجع كتاب "كيف تصبح صحفيًّا" للأستاذ كارل وارين، الترجمة العربية للأستاذ عبد الحميد سرايا, ص 195.

أن تخضع خضوعًا تامًّا للأمر الواقع، وأن تستجيب لرغبات الجماهير في العناية التامة بهذه الأعمدة, ومعلوم أن أهم الألعاب الرياضية التي تسترعي نظر القارئ, هي: كرة القدم، وكرة السلة، ولعبة التنس، ولعبة الجولف، والسباحة، والمصارعة، والملاكمة، وسباق الخيل، وسباق السيارات، وسباق الدراجات، وصيد الحمام. والذي لا شك فيه أن العنصر الرئيسيّ في جميع الألعاب هو: عنصر المنافسة، وأن الدافع الحقيقيّ إلى تتبع أخبارها في الصحف هو: الإعجاب بالبطولة. والذي لا شك فيه أيضًا أن الجمهور في كل بلدٍ من بلاد العالم تقريبًا يتهافت -كما قلنا- على قراءة أخبار الرياضة, حتى لتشعر الصحيفة أنها لو أغلقت هذا الباب هبط توزيعها إلى درجة كبيرة, ولذلك اهتمت الصحف جميعها بصفحة الرياضة، وكان في هذا الاهتمام معنى الدعاية بالمجان، وهي دعاية يتدفق بها الذهب في جيوب مديري الملاعب، والمسارح على اختلاف ألوانها! وكثيرًا ما نجد في الصحف الكبرى أن لكل نوعٍ من الأنواع الرياضية المتقدمة محررًا خاصًا به، يكتب أخباره ويحاول أن يأتي -عقب ذلك- بالنقد الفني لهذه الأخبار. فإذا أعلن يومًا عن مباراة رياضيةٍ نهض المحرر المختص على الفور، وجمع المعلومات التامة عن المشتركين في هذه المباراة، وعني بالبطولات التي أحرزوها، ورجح كفة فريق على فريق، ووصف المباراة وصفًا دقيقًا من جميع الوجوه، ولم ينس أن يذكر موقف المتفجرين على المباراة, وطريقة تشجيعهم لهذا الفريق أو ذاك، وباختصار يذكر كل ما يرضي كلًّا من

اللاعب والقارئ الذي لم تتح له فرصة الحضور بنفسه لمشاهدة المبارة, أما القارئ الذي شهد المباراة ففي استطاعة المحرر الرياضيّ أن يمده بمعلومات جديدة, قلَّمَا يستطيع الحصول عليها بمجهوده الذاتيّ. من أجل ذلك يعني كثير من الصحف في وقتنا هذا "بالمحرر المختص" وتتوخى فيه دائمًا أن يكون من ذوي الخبر العامة التامة، والمرانة المتصلة، حتى أننا لنرى المحرر الرياضيّ يرتفع في بعض الأحيان إلى مستوى المحرر السياسيّ أو المحرر الأدبيّ، أو المحرر العلميّ. ولكن, كيف يؤدي هذا المحرر الرياضيّ عمله عادةً؟ وكيف يرضي فضول قرائه كذلك؟ دلت التجربة على أن هذا المحرر يتبع في كتابة مادته طائفة من القواعد، منها على سبيل المثال: أولًا: تركيز الانتباه في نقطة واحدة على الدوام، هي السير اللعب في ذاته, وحركات اللاعبين أنفسهم، وذلك بغض النظر ما أمكن عن شعور النظارة. ثانيًا: إن كان ولا بد من العناية بشعور النظارة, فليكن ذلك دائمًا لغايةٍ واحدةٍ فقط، هي وصف الجو الوجدانيّ المحيط باللعب، ومقدار الصلة بين هذا الجو العاطفيّ، وحركات اللاعبين في المباراة، ذلك أن لتشجيع الجمهور أثرًا لا سبيل إلى إنكاره في الفريقين المتنافسين على السواء. ثالثًا: عرض الحقائق الخاصة باللعب عرضًا مجردًا عن الهوى، مجردًا كذلك عن مشاعر النظارة الذين لايصح بحالٍ من الأحوال- أن يعتبرهم المحرر الرياضيّ جزءًا من أجزاء المباراة. رابعًا: من حق المحرر الرياضيّ -بعد ذلك- أن يكتب تعليقًا على المباراة, وينبغي له عندئذ أن يجعل هذا التعليق زاخرًا بالحياة، معبرًا عن الواقع.

خامسًا: كتابة الخبر والتعليق بأسلوب جذاب، يصف المباراة، ويذكر الأطوار التي مرت بها، ويصف النتيجة التي انتهت إليها. على أن هذا الوصف يتطلب من المحرر قدرةً بلاغيةً من نوع معينٍ، ولكن مهما كانت هذه القدرة البلاغية التي ندعو إليها، فلا يصح أن تكون حائلًا دون استخدام الألفاظ الفنية -ولو كانت عامية- وهي الألفاظ التي اصطلح الرياضيون عليها، ولهذا السبب الأخير اشترطت الصحف في محررها الرياضيّ أن يكون عالمًا بتاريخ اللعبة الرياضية، وأن يكون ممارسًا لها منذ مدة. سادسًا: في صياغة القصة الرياضية يحسن أن يتبع نظام القصة الخبرية، فيعني المحرر الرياضيّ بالأسئلة الستة المعروفة، ويصوغ القصة على شكل هرم مقلوب, تأتي فيه النتائج والأخبار المهمة أولًا، ثم تأتي التفاصيل بعد ذلك. سابعًا: على المحرر الرياضيّ أن يعني العناية كلها بنتيجة المباراة، وعليه أن ينوه بالفائز دائمًا، كما أن عليه أن يشرح للقراء مغزى النتيجة التي انتهت بها المباراة، ولا بأس من التعرض في أثناء ذلك لبعض وجوه الضعف في الفريق الخاسر، والإشارة العابرة إلى المهم من أخطائه، ولكن بقصد التوجيه والإرشاد، لا بقصد السخرية والإيذاء، فإن السخرية في مثل هذه الحالة خطأ أدبيّ جسيمٌ لا يتفق مطلقًا والروح الرياضية. وفي يدي عند كتابة هذا الفصل صحيفة "أخبار اليوم" الصادرة في 28 أكتوبر سنة 1956، وقد نشرت في صفحتها الرياضية أخبارًا كثيرةً؛ منها الخبر الآتي بالعنوانات الآتية:

الزمالك والمصري يتعادلان 2 إلى 2: أحمد سليم يسجل هدف التعادل في الوقت الضائع ثم أت الصحيفة بعد هذه العنوانات بـ "صدر الخبر" فكان على النحو الآتي: تعادل الفريقان: الزمالك المصري 2-2، وسجل "أحمد سليم" هدف التعادل للزمالك في الوقت الضائع، كما سجل "عبده سليم" هدفي المصري, وأصاب "خليل" هدفًا للزمالك ... جمهور الدرجة الثالثة يلقي بالفوراغ في الملعب. ثم أتت الصحيفة على "صلب الخبر" وفيه التفاصيل على النحو الآتي: الشوط الأول: تبادل الفريقان الهجوم منذ البداية، وبعد 15 دقيقة شدد الزمالك الهجوم على دفاع المصري، ولكنه لم يستغل جناحه الأيمن، وتمكن دفاع المصري من صد هجمات الزمالك التي كانت جميعها غير محكمة. شدد الدفاع المصري حراسته على "خليل" الذي اضطر لتغيير مركزه أكثر من مرة لمراوغة الدفاع, أضاع هجوم الفريقين فرصًا كثيرةً، وقبل نهاية الشوط الأول بدقيقة تمكن "العيوطي" حارس مرمى الفريق المصري من صد قذيفة قوية من قدم "شريف الفار" أرسلها على بعد 40 ياردة، وانتهى الشوط الأول بدون أهداف. الشوط الثاني: بدأ الشوط الثاني بهجوم الزمالك، وبعد 7 دقائق رد "شريف" الكرة إلى "خليل" الذي انفرد بمرمى المصري، فسدد كرةً مرت بجوار القائم

الخشبي, وبعد 14 دقيقة أحرز "عبده سليم" متوسط هجوم الفريق المصري الهدف الأول من قذيفة قوية لم يستطع "محمد عبد الله" صدها، وبعد 22 دقيقة أحرز "خليل" هدف التعادل للزمالك إثر تمريرة من "شريف الفار", وبعد دقيقة احتسب الحكم ضربة جزاء لصالح المصري, سجل بعدها "عبده سليم" الهدف الثاني للمصري, وعلى الأثر تكتل فريق المصري أمام مرماه للاحتفاظ بفوزه, ولعب "عبده سليم" متوسط هجوم بمفرده، وقبل نهاية الشوط الثاني بعشر دقائق سيطر فريق الزمالك على الكرة حتى نهاية المباراة، وتمكن "أحمد سليم" من إصابة هدف التعادل للزمالك قبل النهاية بنصف دقيقة، وذلك في الوقت الضائع إثر قذيفة من "علاء" صدت في الدفاع المصري, فتلقفها "أحمد سليم" وسجل الهدف الثاني للزمالك. هكذا ركز المحرر الرياضي انتباهه في نقطة واحدة هي سير اللعب، وحركات اللاعبين، وغض النظر عن شعور النظارة. بل إن المحرر الرياضيّ أغفل هذا الشعور تمامًا في مقاله أو عموده، فلم يذكر عنه كلمة واحدة، واكتفى إذ ذاك بصورةٍ شمسيةٍ كبيرةٍ نشرها في أقصى الشمال من يسار صفحة الرياضة، وجاء بها على خمسة أعمدة من هذه الصفحة، وكتب تحتها العبارة الآتية: "ثورة الجمهور على الحكم في مباريات الزمالك والمصري, ثار الجمهور عندما احتسب الحكم ضربة جزاء ضد الزمالك، وأخذ يلقي الفوارغ، وهجم على الملعب، ويرى رجال البوليس وهم يحاولون تهدئة الحالة". وبهذه الصورة الشمسية استغنى المحرر -كما قلنا- عن وصف مشاعر النظارة، وأعطى فكرة عن الجو المحيط باللعب، وأوضح مقدار الصلة بين حركات اللاعبين وتشجيع الجمهور.

ثم هكذا عرض المحرر الرياضيّ بصحيفة "أخبار اليوم" الحقائق الخاصة بالمباراة التي أجريت بين فريق الزمالك وفريق المصري، وتجرَّدَ المحرر في أثناء ذلك عن التحيز لأحد الفريقين، كما تجرَّدَ أيضًا عن مشاعر النظارة, ثم إن المحرر الرياضيّ الذي أمامنا, توخى أن يكتب خبر المباراة على شكل قصة خبرية لها "صدر" ولها "صلب" وأجاب عن بعض الأسئلة الستة، وعني بذكر النتيجة ووصفها، ولم ينس في أثناء ذلك كله أن يوجه النقد من حينٍ لآخر إلى اللاعبين، ويلفت أنظارهم إلى الأخطاء التي كانوا يرتكبونها، ولم ينس هذا المحرر مطلقًا أن ينوه ببعض الممتازين من اللاعبين، وأن يسجل حركاتهم في الملعب، وأن يستخدم في أثناء ذلك كله الألفاظ المصطلح عليها بين الرياضيين أنفسهم، كألفاظ: هدف التعادل، والتعادل، والمرمى، والجناح، ومتوسط هجوم، وضربة جزاء, إلخ، ولا يكاد يعاب على هذا العمود الرياضيّ الذي أتى على شكل قصة خبرية أكثر من أن محرره لم يُقَسِّمْ "صلب الخبر" إلى فقرات, تبدأ كل فقرةٍ منها بسطرٍ جديدٍ، فإنه بدلًا من أن يفعل ذلك, اكتفى بالفصل بين كل فقرةٍ وأخرى, بنقطة أفقية هكذا "..... ". ولا شك أن هذه الصفحة الرياضية التي ينشر فيها هذا العمود الرياضيّ لم تتسع -فيما يظهر- للتعليق الفنيّ على المباراة، بما يعطي للقارئ فكرةً كاملة الوضوح، تامة البناء، ظاهرة المعالم. صحفة الفن: الفن تعبير شخصيٌّ حرٌّ, يشيع الفرح والبهجة والهدوء والاطمئنان في النفس البشرية، والفن تعبير عن الحياة في جميع العصور التي مرت بها, ورسالة الفنان مطابقة دائمًا لشعوره وإحساساته، وهي تقص علينا قصته كما تخيلها وأحس بها.

والفنان هو وحده صاحب الحق في أن يتصرف في الطبيعة من حوله, فيرسمها لنفسه وللناس بالصورة التي يمليها عليه إحساسه وشعوره. نظرت سيدةٌ إلى لوحةٍ فنيةٍ رائعةٍ، لمنظر من مناظر الطبيعة في أبهى مظاهرها، فصاحت في وجه الرسام قائلةً: لكن الطبيعة يا سيدي ليست كذلك!، فأجابها الفنان من فوره قائلًا: "لكن، ألَا تحبين يا سيدتي أن تكون الطبيعة كذلك"؟ تلك هي بعض الأسباب التي من أجلها تعنى البشرية كلها بالفن من حيث هو، وتلك هي بعض الأسباب التي من أجلها تزيد الصحافة من عنايتها بالفنون على اختلافها, وهذه الفنون في ذاتها قسمان: قسم خيالي، وآخر واقعي. أما الخياليّ: فلا يتقيد بقيود من أي نوع, ومن هنا كانت الحرية أصلًا من أصول الفن، وسببًا من أسباب بقائه ونمائه، بحيث إذا حرمها الفن حرم الحياة كلها على الفور. وأما الفن الواقعيّ: ففيه تشترك اليد مع الذهن، أي: أنه فنُّ يحتاج إلى مادةٍ تعمل فيها اليد بوحيٍ من الذهن, ومن هنا أطلق على الفنون الخيالية اسم: "الفنون الجميلة" أو "الفنون الرفيعة"، كما أطلق على الفنون الواقعية اسم: "الفنون العملية"، أو الفنون التطبيقية": فمن الفنون الخيالية: الشعر، والرسم، والتصوير، والزخرفة، والتمثيل، والموسيقى, ومن الفنون التطبيقية: صناعة السجاد، وصناعة الأثاث، ونحو ذلك. وللصحف -في الأعم الأغلب- عناية بالفنون الجميلة أو الفنون الرفيعة

تهتم بأخبارها، وتتصل بذويها، وتحرص على تتبع ما يخرجون من ثمرات قرائحهم، وما يعملون فيه أذواقهم، ومواهبهم، ولعلها -أي: الصحف- بالموسيقي، والمسرح، والغناء, والسينما، أشد عنايةً، وأعظم اهتمامًا, ولذا تراها غاصةً بالأعمدة الفنية حول حفلة غنائية لسيدة الغناء السيدة "أم كلثوم", أو الموسيقار "محمد عبد الوهاب"، أو رواية من الروايات التي تمثل على مسرح الأوبرا, أو الأزبكية، أو التي تظهر كل يوم في دور السينما بنوع أخصّ. وإنك لترى هذا الرجل الذي يحضر الحفلة الأولى لكل تمثيلية، أو لكل فيلمٍ سينمائيٍّ، أو هذا الرجل الذي يحييه الجمهور بين حين وآخر بابتسامة لطيفة, وهو جالس في الصف الأول، أو "اللوج" الظاهر من"ألواج" المسرح، فتعلم أنه "الناقد المسرحيّ", وهو معروف لأكثر النظارة، لأن اسمه يظهر يوميًّا في باب السينما والمسرح، من أبواب الصحف الكبرى في العاصمة. فما السبب -يا ترى- في هذا الاحترام الذي يتمتع به هذا الرجل من جانب النظارة؟ إن السبب في ذلك -غالبًا- هو الخوف من قلم هذا الكاتب، حتى لكأن نجاح "التمثيلية" أو "الفيلم" مرهون بنقده، فإذا أهمل الناقد المسرحيّ الكتابة عن إحدى المسرحيات، أو قال عنها: إنها رديئة، سقطت من أعين الناس، وانزعج لذلك المشتغلون بالمسرح، أو القائمون على إخراج الرواية، أما إذا كتب الناقد المسرحيّ رأيه في المسرحية، وأثنى عليها بوجهٍ ما، فإن الجمهور يقبل عليها، ورجال المسرح يربحون من وراء ذلك الأموال الطائلة، وكثيرًا ما يأتي نجاح الرواية بسبب تحامل الناقد المسرحيّ عليها، وقسوته في نقدها، فقد يدفع ذلك بالكثير من الناس إلى رؤية الرواية بنفسه، ومحاولة الحكم عليها بنفسه، فإمَّا وافق الناقد المسرحيّ، وإما خالفه، ولكن كيف يؤدي الناقد المسرحيّ عمله غالبًا، وما الشروط التي لا بد من توافرها في النقد؟

أولًا: يبادر الناقد المسرحيّ إلى حضور المسرحية التي يريد نقدها، ولكنه قبل الذهاب إلى المسرح لهذا الغرض، عليه أن يحرص كل الحرص على قراءة القصة التي سيشهد إخراجها في المسرح أو في السينما, وعليه أيضًا أن يطَّلِعَ على المقالات التي كتبت عن هذه القصة في الصحف، أو المحاضرات والأحاديث التي أذيعت عنها في الإذاعة، أو النوادي العامة والخاصة, ما أمكنه ذلك، ومتى تجمع لديه -من وراء هذه الجهود- قدر كبير من المعلومات, أمكنه أن ينقد الرواية نقدًا جيدًا، ويسير غورها جيدًا، ويعطي كل ذي حقٍّ حقَّه من المؤلفين أو المخرجين أو الممثلين، وغيرهم. ثانيًا: يشترط في الناقد المسرحي أن تكون لديه ثقافة مسرحية واسعة، وذلك فضلًا عن علمه التام بالمسرحية التي أمامه من حيث المبنى والمعنى، وكم يكون جميلًا -في ذلك الوقت- أن يكون الناقد المسرحيّ مؤلفًا مسرحيًّا قد مارس هذا الفن منذ مدةٍ كافيةٍ، ذلك أن الفرق كبير بين الناقد الأدبيّ، والناقد المسرحيّ. فهذا الأخير لا يكتفي بدرس المسرحية وحدها، بل عليه أن يهتم بالممثلين أنفسهم، ويعني بنقد طرائقهم في التمثيل والإلقاء، كما عليه أن يتعرض كذلك لنقد ملابس الممثلين, وزخارف المسرح، وحركة الإضاءة, وليس له العذر -مع هذا وذاك- في أن ينسى أن يسجل آراء الجمهور، ويصف الجو الوجدانيّ الذي صحب مشاهدة التمثيل، وأصوات الموسيقى التي صحبت الممثلين, أو تلك التي تسمع في الفترات الفاصلة بين فصول الرواية، ونحو ذلك. والحق أن واجب الناقد المسرحيّ ثقيلٌ جدًّا، فعليه أن يعد نفسه للقيام بهذا الواجب إعدادًا حسنًا، وإلّا فشل فشلًا ذريعًا في أداء مهمته.

ثالثًا: يشترط في الناقد المسرحيّ كذلك, أن يكون نزيهًا في الحكم، عفَّ اللفظ في النقد، مهذَّبَ العبارة في التوجيه، وإلّا سقطت هيبته، من أعين الجمهور، وسقطت معه "صفحة الفنون", ثم ما أسرع ما يتهمه الناس بعدئذ بأنه لا يكتب للفن، وإنما يكتب سعيًا وراء الربح الماديّ البحت، وربما بالغ أعداؤه كذلك فاتهموه بمد يده إلى أصحاب المسارح ودور السينما، يأخذ منهم الرشوة في سبيل كلمةٍ طيبةٍ يمدح بها عملهم؛ من حيث لا يستحقون شيئًا من هذا المدح. رابعًا: أما اللغة التي تستخدم في نقد المسرح والسينما, فلسنا بحاجةٍ إلى القول بأنها ينبغي أن تكون في مستوى أعلى من اللغة التي يستخدمها المحرر الرياضيّ؛ إذ المسرح والسينما كالشعر والموسيقي من الفنون الرفيعة التي يجب أن يصطنع لها الكاتب لغةً مكافئةً لها، من حيث السموِّ والرفعةِ، وتصل هذه اللغة إلى الذروة على أيدي النقاد المثقفين الذين يتعرضون لنقد الروايات الإنسانية الخالدة، وللقصص الفلسفية الرائعة. وفي باب المسرح والسينما -من أبواب الصحيفة الحديثة- يجد القارئ أخبارًا عن الممثلين والممثلات، وملخصًا لبعض القصص السينمائية أحيانًا، وإن وجدت فرقة موسيقية، أو فرقة "باليه" بالمدينة, كان على الصحيفة أن تبادر إلى نشر كل ما يتصل بهذه الفرق، من ذكر أسماء القطع الفنية، وأسماء العازفين، والراقصين، وطرق العزف أو الرقص، وغير ذلك من المعلومات التي يرحب بها قراءة هذه الصحفة من صفحات الجريدة. ويعنى هذا الباب -فيما يعنى به كذلك- بالفرق الاستعراضية على اختلافها، وإن كانت السينما قد طغت على الصحف في هذا الميدان طغيانًا مبينًا، بحيث لم تدع لها فرصةً للتنافس معها في شيء من ذلك.

الحملة الصحفية

الحملة الصحفية: لعل أبسط تعريف للحملة الصحفية أنها تتكون من عدد من المقالات أو التحقيقات الصحفية يتبع بعضها بعضًا بلا انقطاع، ويكتبها محرر واحد, أو عدد من المحررين المنتمين إلى صحيفةٍ واحدةٍ، وتكون في معنًى واحدٍ, ولهدفٍ معينٍ, يعود بالنفع على المجتمع المقصود بهذه الحملة. ولكن يظهر أنه ليس من السهل على الباحث أن يفصل فصلًا تامًّا بين المقال الصحفيّ والتحقيق الصحفيّ والحملة الصحفية، فالواقع أن كل فنٍّ من هذه الفنون الصحفية يتصل بالفنَّين الآخرين اتصالًا قويًّا، أو أننا بعبارةٍ أخرى أن التحقيق الصحفيّ يتولد عن الخبر أو المقال، والحملة الصحفية تتولد عن التحقيق, وهكذا. ولنضرب المثل أولًا بما يلي: نجد الفتاة الإنجليزية عارضة الأزياء المعروفة باسم: "كريستيان كيلر" قد قالت عنها الأخبار: إنها كانت على صلة بوزير الحربية البريطانيّ, وبالملحق العسكريّ الروسي في لندن، وتقول الأخبار أيضًا: إن هذه الصلة كانت سببًا في استقالة الوزير، وفي تعديل الوزارة البريطانية سنة 1963. وقد نشرت الصحف البريطانية ما وصل إليها من هذه الأنباء، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، وهو مرحلة الخبر الصحفيّ, بل تعدَّاه إلى مرحلة

المقال الصحفيّ، ثم كثرت البيانات الخاصة بهذا الموضوع، وفتحت هذه البيانات طريقًا إلى المناقشات العامة، ثم كانت هذه البيانات والمناقشات هي السبيل إلى تحقيقات صحفية، وكشفت هذه التحقيقات أن تتحول إلى حملة ضعيفة، وجاءت هذه الحملة على شكل مقالات وتحقيقات متتابعة تهدف كلها إلى البحث عن أخطاء الوزارة البريطانية القائمة، وتستدل على ذلك بالبيانات الموجودة تحت يد الصحف. ولكن, ليس معنى ذلك مطلقًا أن هذه الفنون الثلاثة: المقال، والتحقيق، والحملة الصحفية, متشابهةً في طريقة تحريرها, وإن تشابهت في الهدف من هذا التحرير، فقد رأينا فيما سبق كيف يختلف المقال عن التحقيق من حيث الكتابة أو التحرير، أما الحملة الصحفية: فهي قمة هذه الجهود التي تبذلها الصحيفة، وهي المرحلة الأخيرة التي تصل إليها هذه الجهود بعد أن تقطع الصحيفة مرحلة الخبر، والتعليق على الخبر، والتحقيق المتولد عن هذا الخبر، وأخيرًا تأتي بعد كل ذلك مرحلة الحملة الصحفية إن كانت هناك ضرورة؛ إذ الفائدة من وراء هذه الحملة، والضرورة التي تدعو إلى تنظيم حملة صحفية, كثيرًا ما تكون نتيجة للشعور العميق بالمطالبة بإصلاح وضع من الأوضاع الفاسدة، سياسيًّا كان أو اجتماعيًّا أو مذهبيًّا, ونحو ذلك. ومعنى هذا مرة أخرى: أن الهدف من الحملة الصحفية في الواقع إنما الكشف عن الأخطاء التي تسبب منها فساد واضح في المجتمع، وهو تأكيد لوجود هذه الأخطاء بطريق الإلحاح عليها, والإلحاح على المسئولين عنها، ولذلك نرى أن كاتب الجملة يحرص أكثر ما يحرص على تنبيه المسئول الحقيقيّ عن هذه الأخطاء، وبدون ذلك لا تكون لحمة الصحيفة أية فائدة مرجوة. ولنضرب المثل هنا بسوء نتائج الامتحانات العامة مع وزارة التربية

والتعليم في بعض البلاد العربية, إن أمرًا كهذا, إذا حدث فإننا نجد الصحف تبدأ أولًا بنشر هذه النتائج العامة، ثم يلي ذلك دور التعليق الصحفيّ, أو كتابة المقال الذي يعبر في الصحيفة عن أسفها, أو عجبها من هذه النتيجة، ثم تعقب ذلك مرحلة ثالثة, فيها نجد الصحيفة تسعى وراء البيانات الخاصة بهذا الموضوع، ثم ترى أن هذه البيانات تصلح لأن يُسَْعانَ بها في كتابة تحقيق صحفيٍّ في الموضوع، ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الرابعة والأخيرة، وهي قيام الصحيفة بالتنبيه إلى الأخطاء الحقيقية التي أدت إلى سوء النتائج العامة، وفي سبيل هذه الغاية الأخيرة تقوم الصحيفة بدراسة تفصيلية للموضوع، فتقسمه إلى أجزاء، وتوزع هذه الأجزاء على عدد من الصحفيين المتمرسين, ثم تقترح لذلك الحلول، وتلقي المسئولية الحقيقية -إن وجدت- على الذين ارتكبوا هذه الأخطاء، فهل كانت هذه الأخطاء صادرةً عن المعلمين؛ لأنهم غير متخصصين كُلٌّ في المادة التي يقوم بتدريسها، أم كانت هذه الأخطاء ناجمة عن الهيئة الإدارية التي تقوم بالإشراف على المدرسة, وما يجري فيها من أحداث؟ أم أن مردَّ هذه الأخطاء في الواقع, هو فساد الحياة السياسية القائمة, أو الحياة الاجتماعية المضطربة لسبب من الأسباب؟ إلخ, هذه الأسئلة وأمثالها مما يرد إلى ذلك الصحفيّ الذي يعمد إلى كتابة التحقيقات المؤدية إلى كتابة الحملة الصحفية المقصودة، ومعنى ذلك أن الصحيفة تستطيع في النهاية أن تضع يدها على الأسباب الحقيقية لسوء النتائج العامة، وهذه الأسباب في ذاتها هي المقوّم الأساسيّ للحملة الصحفية التي تريد الصحيفة أن تطلع بها على القراء، ومتى نجحت هذه الحملة, فإنها تخدم قضية التعليم، وتخدم كذلك أسر التلاميذ. الخطة في كتابة الحملة: الخطة التي تتبع في تحرير الحملة, إنما تقوم على تقسيم هذه الحملة إلى

موضوعاتٍ تكتب فيها مقالات يتبع بعضها بعضًا بدون انقطاع، بشرط أن يتناول كل مقال من هذه المقالات مشكلةً بعينها, أو خطأ بعينه, أو زاويةً معينةً من زوايا القضية التي كتبت من أجلها الحملة الصحفية، وما زال الشعب المصريّ يذكر تلك الحملات الصحفية التي قامت بها صحيفة "روز اليوسف", ومن أخطرها الحملة التي قامت بها هذه الصحيفة ضد الأسلحة الفاسدة, وهي الأسلحة التي كانت ترسل إلى الجنود المصريين في أثناء حرب فلسطين 1948, ثم ثبت أنها غير صالحة للاستعمال، وكثيرٌ من المراقبين يرون أن هذه الحملة التي شنتها صحيفة "روز اليوسف" هي من أقوى الأسباب الحقيقية في قيام ثورة الجيش سنة 1952, تلك الثورة التي أطاحت بالملكية، وقضت على نظام الإقطاع، وبشَّرَت بالاشتراكية، إلى آخر ما نعرف من تاريخ هذه الثورة، وفي كتاب الرئيس جمال عبد الناصر ما يؤيد ذلك. وفن الحملة الصحفية معروف في الصحافة العربية منذ فارقت هذه الصحافة دور الطفولة, ودخلت في دور الشباب، وقد عرف القدماء من الصحفيين العرب فن الحملة الصحفية, وما رسوه في صحفهم بنجاح تامٍّ, ونذكر من هؤلاء الصحفيين على سبيل المثال: السيد "علي يوسف" صاحب "المؤيد" وهي الجريدة التي صدرت في مصر سنة 1889, وامتدَّ بها الأجل بعد ذلك حتى شهدت قيام الحرب العالمية الأولى، والمعروف عن تاريخ السيد "علي يوسف" أنه كان في خصومةٍ شديدةٍ مع عميد الاحتلال البريطاني في مصر "اللورد كرومر" وبسبب هذه الخصومة الطبيعية بين الرجلين, نشرت "المؤيد" هذه الحملة ضد كرومر، وكان السبب في ذلك خبرًا نشرته الصحف عن استقالة اللورد "كرومر" من منصبه بالقاهرة، وإذ ذاك نشر السيد "علي يوسف" طائفةً من المقالات المتتابعة في نقد سياسة "كرومر",

لفت بها أنظار الشعب المصريّ، واشتهرت هذه المقالات وعددها يربو على اثنتي عشرة مقالة باسم: "مقالات قصر الدوبارة بعد يوم الأربعاء". وقد نالت هذه المقالات أعجاب القارئ المصريّ، وانهالت بسبب ذلك التهنئات على كاتبها، ثم أضيفت إليها المقالة الرائعة، التي رد بها السيد "علي يوسف" على خطبة الوداع للورد "كرومر"، وهي الخطبة التي نال فيها "كرومر" من كرامة المصريين منالًا عظيمًا، وجاء مقال السيد "علي يوسف" فمسح عن المصريين كل هذه الإهانة. وتعبر هذه الحملة الصحفية من أنجح الحملات في تاريخ الصحافة المصرية التي ضربت رقمًا قياسيًّا في مكافحة الاحتلال البريطانيّ في عهد أطلق التاريخ عليه اسم: "الطور الصحافيّ من أطوار الحركة الوطنية"، وهو الطور الذي حرمت فيه البلاد من جيش يدافع عنها، ومن أية قوةٍ أخرى تقوم بهذا الدفاع, خلا قوة الصحافة1. وهكذا نستطيع أن نضرب الأمثلة الكثيرة من الصحف المصرية على الحملات الصحفية التي قامت بها هذه الصحف في مناسباتٍ شتَّى, ومنها الحملات الصحفية التي كان يشنها العقاد ضد حكومة الوفد بعد خروجه على هذا الحزب. غير أن أخشى ما نخشاه أن يفهم من ذلك أن الحملة الصحفية لا يرتفع صوتها, ولا تظهر أقلام كتابها إلّا في مجالات السياسة وحدها، ذلك أن الحملات الصحفية في مجال الاجتماع أوسع وأعمق.

_ 1 راجع الجزء الرابع من "أدب المقالة الصحفية في مصر" للمؤلف, من ص192-221.

ومما لا شكَّ فيه أن أنجح الحملات الصحفية ما تعاون في كتاباتها أكبر عددٍ ممكنٍ من المشتغلين في الصحيفة، وهذا هو الفرق بين الصحف الحديثة والقديمة؛ من حيث كتابة الحملات، ففي الصحف القديمة كالمؤيد أو اللواء, كان صاحب الجريدة يتولى وحده كتابة هذه الحملة، أما في الصحف الحديثة فلا بد من اشتراك مندوب الأخبار، وسكرتير التحرير، والمحرر المختص في تحرير الحملة الصحفية، حتى يضمن لها النجاح، ومع هذا وذاك, فقد كان تحرير الحملة الصحفية في الصحف القديمة بنظامٍ واحدٍ, وصدورها عن روحٍ واحدةٍ, وطريقةٍ واحدةٍ, سببًا من أسباب قوتها ونجاحها في أداء مهمتها.

الحيل الصحفية أو الصراع بين الصحيفة والرقيب

الحيل الصحفية أو الصراع بين الصحيفة والرقيب: منذ القدم والمعركة حامية بين الحاكم والمحكوم حول مسألة "حرية الرأي", وتشتد هذه المعركة دائمًا كلما تأزمت الأمور أمام الحاكم، وخاصةً في ظروف الحرب، أو الثورة أو الانقلاب، أو الظروف التي تخضع فيها الأمة لحكومةٍ أجنبيةٍ عنها، وفي كل واحدٍ من تلك الظروف يشعر الحاكم بأنه في غاية الحرج، فلا هو يستطيع أن يكاشف الأمة بأسرار الموقف السياسيّ، ولا الشعب صابرٌ على أن يقاد في الطريق كما تقاد الأنعام، وفي كل ظرف من الظروف المتقدمة يضطر الحاكم إلى فرض الرقابة التامة على الصحف والكتب، وذلك أقصى ما يستطيع الحاكم نفسه أن يفعله في مثل هذه الظروف. أما الشعب -ممثلًا في الكتب والصحافة- فإنه يسلك في سبيل غايته طرقًا خاصةً، ليس هنا موضع إحصائها، ولكنا نسوق طرقًا منها على سبيل المثال. نحن نعرف أن الأدب أسبق في ظهوره من الصحافة، ونذكر أن الأدباء -في عصور الاضطهاد الدينيّ والسياسيّ- ذهبوا مذاهب شتَّى في مقاومة الاضطهاد, على أي شكل من أشكاله، ولعل أقدم صورة من صور النقد السياسيّ حفظها لنا التاريخ, هي صورة "القصص على ألسنة الحيوان" كما تظهر لنا في كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع. وقد صرَّحَ لنا هذا الكاتب بأن له أغراضًا أربعةً من وضع هذا الكتاب:

أولها: إقبال العامة على قراءته. ثانيها: انتفاع الخاصة بهذه القراءة. ثالثها: رغبة النساخ في انتساخه على مدى العصور. رابعها: وهو "الأقصى" خاصٌّ بالفيلسوف نفسه. وهنا سكت "ابن المقفع" عن بيان هذا الغرض الرابع الذي وصفه "بالأقصى"، وفهم القراء، وفهم الخليفة العباسيّ إذ ذاك، وكان "أبو جعفر المنصور" أن الكتاب موجه إليه، وإلى حكومته، وأن القصد منه توجيه اللوم إليه، وإلى حكومته. وثَمَّ طريقةٌ أخرى من الطرق الأدبية الخالصة في التعبير عن الآراء والنظريات والمذاهب المخالفة، وهي: "طريقة الرؤيا والأحلام"، وهي وسيلة الكتاب والشعراء إلى نقد المجتمعات، والحكومات، ومن الأمثلة عليها "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعَرِّي، ورسائل الوهراني، وهو أديب مغربيٌّ وفد إلى مصر في العصر الأيوبيّ، سعيًا وراء وظيفة حكومية, ففشل في الحصول عليها، فصب جام غضبه على حكام مصر، وكبرائها على هذه الصورة. بل إن من الطرق التي سلكها بعض المصريين في نقد حكامهم أحيانًا, "طريقة الجنون", أو الظهور بمظهر العته الذي لا يعاقب عليه القانون. "ففي العصر الطولونيّ، وجزء من العصر الإخشيديّ, عرفت مصر شخصيةً عجيبةً كل العجب في تاريخها, هي شخصية "سيبويه المصريّ"، وكان رجلًا يظهر الحمق والجنون، واشتهر عنه ذلك، فاختفى وراء هذه الصفة, وأخذ يهجو الحكام والأمراء، فلم يكن أحدٌ منهم قادرًا على أن يأخذه بقوله؛ لأنه مجنون! ولكن الناظر في كلامه، وأهاجيه, يحس إحساسًا عميقًا بأنه في الواقع

إنما يعبر عن آراء الشعب المصريّ في زمانه أصدق تعبير1. ثم أتى دور الصحافة، وأخذت تحل محل الأدب في مقاومة الظلم والطغيان، وتنوعت طرق هذه الأخيرة، كما سبق أن تنوعت طرق الأولى في سبيل هذه الغاية، وسجَّلَ تاريخ الصحافة المصرية -تنوع خاص- بعض الطرق التي لجأت إليها الصحف الشعبية في القرن الماضي، ومنها على سبيل المثال: طريقة "النديم" في صحيفته المعروفة باسم "التكيت والتبكيت" وهي صحيفة كتبها "النديم" باللغتين, أو اللهجتين: العربية، والعامية, وكتب باللهجة الأخيرة قصصًا شعبيةً للعامة, سخر فيها من كثير من الأوضاع الشاذة في المجتمع المصريّ الحديث, منذ التقت فيه الحضارة الحديثة بالحضارة الشرقية الموروثة، وكتب باللهجة الفصحى مقالاتٍ وقصصًا رمزيةً للخاصةِ, منها على سبيل المثال: أقصوصته التي كتبها بعنوان: مجلس طبي على مصاب بالإفرنجي: "والإفرنجيّ كلمة أطلقها المصريون في القرن الماضي على مرض الزهري, والكاتب يستعمل هذا اللفظ هنا استعمالًا رمزيًّا؛ لأنه رمز به إلى الخراب الذي عم البلاد بسبب إسراف إسماعيل، كما رمز بكلمة "المصاب" إلى مصر التي أصبحت تعاني المرض والفقر بسبب هذا الإسراف، ورمز بكلمة

_ 1 انظر كتاب "الفاشوش في حكم قراقوش"، طبعته أخبار اليوم، في سلسلة "كتب اليوم " ص91.

"مجلس طبي" إلى العقلاء الناصحين للأمة المصرية, الذين عليهم أن يفكروا في مخرجٍ لها من هذه الأزمة1. وكان من ألمع الكتاب الصحفيين بمصر في القرن الماضي، وإمام السخرية في العصر الحديث غير مدافع "يعقوب بن صنوع" الذي اتخذ لنفسه اسم "أبي نظارة"، وسلك في سخريته بحكومة إسماعيل طريقين، هما: طريق المحاورات الصحفية، وطريق القصص المسرحية، ونجح فيهما نجاحًا لا نظير له في الحقيقة, حتى لقد خافه الخديو اسماعيل، واضطر إلى نفيه، وكما سمى "يعقوب بن صنوع" نفسه: "بأبي نظارة" فقد سمى الخديو إسماعيل: "بشيخ الحارة" وسمى الفلاح المصري: "بأبي الغلب". .. إلخ. وما دمنا نتحدث عن الصور الأدبية والصحفية لنقد الحكام الطغاة، ومحاربة الظلم والاستبداد، فلا ننسى الإشارة إلى أديب مصر في القرن الماضي، وهو إبراهيم المويلحي، وإلى بعض طرقه في ذلك. ومن هذه الطرق المقالات التي كتبها بعنوان: "ما هنالك"، وهي مقالات كتبت في نقد الحكومة العثمانية، والفساد العثمانيّ، وفي نفس الوقت أخافت الحكام في مصر، فقد خشوا أن يكتب فيهم "المويلحي" "ما هنا" بدلًا من "ما هنالك". ومن الطرق الأدبية الخالصة التي عمد إليها "إبراهيم المويلحي" كذلك، وشاركه فيها ابنه "محمد المويلحي" طريقة القصة الطويلة، فقد كتب المويلحي الكبير -إبراهيم- قصة موسى بن عصام في نقد الاحتلال الإنجليزي، والتهكم على رجاله، وكتب المويلحي الصغير -محمد- قصة "عيسى بن هشام" في نقد المجتمع المصريّ، ونقد حكامه. أما الكاتب الأول: فالظاهر أن رجال الاحتلال تنبهوا إليه، وحاولوا

_ 1 المصدر المتقدم, من ص112-114.

دون صدوره على هيئة فصول متتابعة في جريدة "مصباح الشرق" التي كان يصدرها المويلحي. أما الكتاب الثاني لصاحبه "محمد المويلحي" فقد نشر تباعًا على صفحات "مصباح الشرق"، وجمعت فصوله -فيما بعد- في كتابٍ لم يزل بأيدينا إلى اليوم. ويطول بنا القول لو أردنا أن نشير إلى كل طريقة من الطرق التي سلكها الأدباء ورجال الصحافة في محاربة الظلم الذي يقع أحيانا من الحكومة في مثل الظروف التي أشرنا إليها في أول حديثنا هذا. وفي القرن الذي نعيش فيه, طلع علينا الأدباء ورجال الصحافة بطرق كثيرةٍ؛ بعضها قديم، وبعضها مبتكر، وليس يعنينا هذا الفصل أن نذكر شيئًا عن هذه وتلك, بقدر ما يعنينا -في الواقع- أن نشير إلى بعض الحيل التي لجأت إليها الصحف المصرية في مثل الظروف التي أشرنا إليها، تحت ضعط الرقابة التي فرضها الحاكم عليها. والصحافة تعرف أن من أسلم طرق الهروب من الرقابة, طريق "الكاريكاتور" سواء أكان عن طريق القلم، أم عن طريق الرسم, أم عن طريق الصورة، والطريق الآخير أوقع وأسلم من الطريق الأول في الغالب، ولذلك تعتمد الصحافة الحديثة اعتمادًا ظاهرًا على الرسم الكاريكاتوري؛ لأنه الرسم الذي يفهمه الشعب على اختلاف طبقاته، في حين أن القلم الكاريكاتوري العلميّ قد لا يستطيع أن يفهمه من الشعب غير الطبقة الخاصة. غير أن الرسم والتصوير خارجان عن التحرير، فما هي أهم الحيل التي يلوذ بها الفن الصحفيّ اليوم في هذا الميدان الأخير؟ تستطيع صحيفة مصرية حديثة كمجلة "خيال الظل" للأستاذ "حافظ

عوض، أو مجلة "الاثنين" التي تصدرها دار الهلال, أن تمد القارئ بطائفة من هذا الحيل! وربما كان من أهمها حيلة: اختراع الشخصيات: فإذا عجزت الصحافة في مصر عن أن تصف الحكام الظالمين -في وقت ما- بأنهم "حمير", أو بأن الذين يقرون منهم مبدأ المحسوبية "حمير", فإن صحفيًّا حديثًا -كالأستاذ مصطفى أمين- باتفاقه مع رسام قدير، كالرسام "رخا" يستطيع أن يبتكر شخصية "حمار أفندي" لتظهر في مجلة "الاثنين", وتوجه النقد لاذعًا إلى الحكام في أخذهم بمبدأ المحسوبية تارةً، وعجزهم عن محاربة الغلاء تارةً أخرى. وإذا عجزت الصحافة في مصر عن أن تكشف الستار عن سياسة الحكام الذين أثروا عن طريق الحرب، وسمحت لهم ضمائرهم بالاتجار في أقوات الشعب، فإن مجلة "الاثنين" تستطيع كذلك أن تبتكر شخصية "غني حرب" وهي شخصية رجل أثري على حساب الشعب، وأصبح الفرق عظيمًا ومخجلًا في الواقع بينه وبين هذا الشعب. وإذا عجزت الصحافة في مصر عن مواجهة الحكام الطغاة الذين أسكرتهم السلطة، وغرهم النفوذ، فإن "مجلة الاثنين" تستطيع أن تبتكر شخصية "سكران باشا طينة" لتعبر عن رأيها في هؤلاء الحكام، وتردهم إلى شيء من التواضع والصواب. ومهما يكن من شيء, فلعل أبدع شخصية ابتكرتها "مجلة الاثنين" في أثناء الحرب العالمية الأخيرة, هي شخصية "ابن البلد":

ابن البلد: ولندع الأستاذ "مصطفي أمين" يصف لنا هذه الشخصية التي اشترك في رسمها كذلك مع الرسام "رخا" حيث يقول1: ".... ابن البلد ثائر على المتبع في هذا البلد، فهو يحب المرشح إلى أن ينتخب، والضعيف إلى أن يقوى والفقير إلى أن يغنى، والحزب إلى أن يتولى الوزارة، وهو يكره القوي إلى أن يضعف، والحاكم إلى أن يستقيل والظالم إلى أن يعزل". "وهو لا يكف عن الابتسام، وبعض الناس يحسب ابتسامته جهلًا ورضى بالخنوع، والبعض الآخر يرى ابتسامته دليلًا على السخرية والاستخفاف". "وابن البلد حاضر النكتة، يلقيها ولايهمه أن تصيب أو تخيب، وقد يتعثر فيها الكبير، وقد تؤلم الصغير، ولكنها دائمًا برئيةً, لا يقصد منها أن تنفع أحدًا أو تضر أحدًا، اللهم إلّا أن تظهر طبيعته الساخرة التي ورثها من توالي عهود الظالمين". "وهو رجل طيب القلب، لا يتعصب ضد دين أو جنس، ولا يحقد على أحد، ولا ينتقم من مغلوب، ولا يمد خنجره في جريح". "كم اضطهدوه وعذبوه، وكم طردوه وانتهروه، ولكنه لا يستطيع إلّا أن يقول لهم كلمته الخالدة خلود الأهرام: "معلهش" أو "ربنا يسامحهم"، أو "منهم لله"!! "وقد يعد بعضهم هذا التسامح دليلًا من أدلة الضعف، ولكنه يعدها رجولة، والرجولة عنده نصيحة".

_ 1 راجع "ثورة الصحافة" للأستاذ سامي عزيز, ص9, وما بعدها.

"إنه يحني رأسه أمام الطغيان، ولكنه -في الوقت نفسه- يلعن في قلبه الطغاة المتجبرين". "ابن البلد رجل خلق من الطبيعة وحدها، والحكمة التي تجري على لسانه هي حكمة السليقة -فقد لا يقصدها- والقبلة التي يضعها على يدي القوي, قد تخرج من فمه ولا يشعر بها، أما اللعنة التي يرسلها فهي من قلبه، وقد يكون لها -دون أن يعلم- أثر أشد فتكًا من رصاص المدفع الرشاش"! "هذا هو ابن البلد الذي ولدته" مجلة الإثنين".... ادعوا له أن يعيش". ولقد كانت الحكومات لا تنتبه إلى هذه الشخصيات التي تخترعها الصحافة من حينٍ لآخر, إلّا بعد فوات الوقت، وبعد أن يكون القراء قد علموا بها، وفهموا قصدها، وأصبحت كل واحدة من هذه الشخصيات ذات صورة واضحة كل الوضوح في أذهانهم، وصار لكل لفظ من الألفاظ التي تجري على ألسنة هذه الشخصيات مغزًى قوي في أذهانهم. وهناك حيلٌ أخرى عمدت إليها الصحافة, عدا حيلة "اختراع الشخصيات"، منها التعليق على حوادث البلاد الأخرى تعليقًا يمكن تطبيقه على حوادث مصر نفسها، وكأنما الكاتب الصحفيّ في مصر يقول لحكومته في هذا التعليق وأشباهه: "إياك أعنى، واسمعي يا جارة"!. والأمثلة على هذا كثيرة، منها: أن إحدى الصحف انتهزت يومًا ما فرصة اعتداء الفرنسيين على رئيس جمهورية "لبنان"، واعتقالهم "رياض الصلح" رئيس الوزارة، وفرضهم

على الجمهورية اللبنانية رئيس وزارة آخر، واستعانتهم على ذلك بالدبابات والجنود، والطائرات، فأخذ الأستاذ "مصطفى أمين" يكتب المقالات الفنية التي وصف فيها هذا الحادث، كما وصف تدخل فرنسا في شئون لبنان, وكيف أن فرنسا داست على استقلال هذا البلد الشقيق، وكأنما كان الأستاذ "مصطفى أمين" يتحدث في الواقع عن حادث 4 فبراير، وكيف تدخل الإنجليز في شئون مصر الداخلية، وفرضوا عليها رئيس وزارة بالدبابات، والجنود والطائرات, وسائر أدوات المظاهرات العسكرية الإرهابية، وفهم القراء في مصر ما قصدت إليه "مجلة الإثنين" من أنها تشير إلى هذا الحادث، وأنها تسخر من رئيس الحكومة المصرية الذي ظفر بالحكم على أسنة الرماح الإنجليزية، وهي هنا حكومة الوفد، وكان على رأسها مصطفى النحاس "باشا", وكما يتحدث الصحفيّ عن حوادث وقعت في بلاد لبنان، وكان لها نظائر في مصر، فكذلك يستطيع أن يتحدث عن خطوبٍ وقعت في بلاد غير لبنان؛ كالصين، أو الهند، أو فارس، ونحو ذلك. وجملة القول: أن مجلة "الإثنين" بالذات, عمدت إلى طريقتين إلى الآن، وهما: طريقة ابتكار الشخصيات، وطريقة انتهاز الفرص والحوادث الخارجية الشبيهة بالحوادث المصرية، وبهذه الطريقة الأخيرة, وقفت الصحافة المصرية يومًا من الأيام تنقد نواب البلاد، كما نقدت من قبل رجال الحكومة في عيب من العيوب الخطيرة، وداء من الأدواء الوبيلة، هو "داء المحسوبية" الذي منيت به البلاد المصرية في العهود الماضية كلها، غير أن الصحافة بدلًا من أن توجه اللوم للنواب المصريين, أخذت توجه هذا اللوم إلى النواب اللبنانيين، أو السوريين، أو العراقيين، حتى تفلت بهذه الطريقة من قلم الرقيب. وهذا كله فضلًا عن الطرق الأدبية الطابع في ذاتها، مثل النبوءات،

والرؤى والمنامات، واختراع الخرافات، والتحدث على ألسنة الطيور، وطريقة الحوار القصير بين أستاذ وتلميذه, ونحو ذلك. ثم إن الصحافة الحديثة لم تسلك طريق المقال على شكلٍ من الأشكال فحسب، بل طرقت طريق الفنون الصحفية الأخرى؛ كفن الحديث الصحفيّ، وفن التحقيق الصحفيّ, على لسان شخصيةٍ مبتكرةٍ لا وجود لها في عالم الحقيقة. وبهذه الطريقة تنكر وضعًا من الأوضاع الغريبة في المجتمع أو في الحكومة، وتستطيع في الوقت نفسه أن تفلت من يد الرقابة. ولعل من خير الأمثلة على هذه التحقيقات الخيالية, ذلك التحقيق الصحفيّ الذي نشرته "مجلة الإثنين" بعنوان: "كيف يعيش محمد أفندي" والتحقيق الصحفيّ الذي نشرته أيضًا بعنوان: "كيف يعيش الأسطى إبراهيم" وقد جاء كلا التحقيقين تعبيرًا صادقًا عن شعور الشعب المصريّ بالأزمة الشديدة التي أحس بها في غضون الحرب العالمية الثانية. ثم إن من الحيل الصحفية التي نراها بين آنٍ وآخر، كتابة الرسائل التي يتجه بها القراء إلى رئيس التحرير، على أن تدور هذه الرسائل حول شخصيات خيالية، أو رحلات وهمية، أو مشاهداتٍ لا نصيب لها من واقع الأمة التي تصدر فيها الصحيفة، وهي طريقة أدبية قديمة, عمد إليها الكتاب الأوروبيون, كما نجد ذلك في الرسائل "الفارسية، لمونتسكيو، والرسائل "الإنجليزية" لفولتير، وغيرها. وفي هذه الرسائل وأمثالها, يتخيل الكاتب شخصًا غريبًا عن البلاد, جاء لزيارتها، ولفت أنظار أهلها بغرابة ملابسه، وغرابة سلوكه، كما لفت نظره ما وجد منهم من تصرفاتٍ عجيبةٍ، وآراءٍ غريبةٍ، فأخذ ينقد كل وضع يراه، وصورة يقع عليها، وعبَّرَ عن ذلك كله بطريق الرسائل. ومن هذا القبيل, يمكن أن يعتبر كتاب الدكتور "طه حسين" بعنوان:

"مرآة الضمير الحديث" أو الرسائل "الجاحظية" التي توجه بها "طه حسين" -يومًا ما - إلى رئيس الوزارة في مصر، وهو المهندس حسين سري. وهذا كله من جانب الصحفيين، أما الأدباء غير الصحفيين، فقد كانت لهم وسائلهم الخاصة بهم في نقد الحكومة والمجتمع، ومن أهم هذه الوسائل: القصص, كما نجد ذلك في قصة "مذكرات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، و "جنة الحيوان" لطه حسين، و"المعذبون في الأرض" له أيضًا، إلّا أن وسائل الأدباء ليست مما نهدف إليه في بحث خاص بالصحافة، فليس من حقنا إذن أن نرسل القول في هذا اللون من ألوان الأدب. والخلاصة: أن على الأدباء، ورجال الصحف واجبًا ثقيلًا, لا مفر من أدائه، وهذا الواجب هو: محاسبة الحكام، وبذل النصيحة لهم وللمحكومين على السواء، فإذا كانت الظروف ظروف سلمٍ وأمانٍ، ولم يحتج الأديب أو الصحفيّ إلى التورية في كلامه، وإن كانت الظروف ظروف حربٍ وظلامٍ، فلا يجوز لرجال الأدب والصحافة أن يقفوا مكتوفي الأيدي حيال الظلم، أو البطش، أو الخيانة، ذلك أن الطبيعة وهبتهم من الذكاء ما يمكنهم من الوصول إلى غرضهم، ومن الأسلحة ما هو بمثابة الحيل التي توصلهم إلى هذا الغرض.

مصادر الكتاب الثالث: 1- The Kemsley Manual of Journalism. by: Hadson 2- Newspaper writing and Editing by: Bleyer. Willard Crosvenor 1932. 3- An Interoduction to Journalism. by: Bond, Frank Fraser, 1954. 4- Commission on Freedom of the Press. by: Univ. of Chicago Press, 1947. 5- Business Journalism, its Function and Furure. by: Elfenbeen. Tuban, 1954. 6- Modern Feature writing. by: Reddick. 7- Journalistic Writig. by: Hyde.crandt Milnor, 1946. 8- American Journalism. by: Mott Frank Lutber, 1950. 9- Journalison. by: Olson,Kenneth. 10- Writing the Feature Article. by: Steigleman. 11- The Complete Journalism. by:F. Mansfield. 12- Journalism. by: Wickman, Stead. 13- جنة العبيط، للدكتور زكي نجيب محمود. 14- ثورة في الصحافة، للأستاذ سامي عزيز. 15- أدب المقالة الصحفية في مصر، للدكتور عبد اللطيف حمزة. 16- مستقبل الصحافة والأدب في مصر، للدكتور عبد اللطيف حمزة.

17- فن المقالة، للدكتور يوسف نجم, ط1967 في بيروت. 18- فيض الخاطر، لأحمد أمين. 19- ساعات بين الكتب، لعباس محمود العقاد. 20- الفصول، لعباس محمود العقاد. 21- حصاد الهشيم، للمازني. 22- صندوق الدنيا، للمازني. 23- الأيام، لطه حسين. 24- في المرآة، لعبد العزيز البشري. 25- الأسلوب، لأحمد الشايب. 26- في الميزان الجديد، لمحمد مندور. هذا عدا الصحف والمجلات التي تصدر في مصر.

الكتاب الرابع: فن التقرير

الكتاب الرابع: فن التقرير المجلة ... الكتاب الرابع: فن القترير وبه الكلام عن فن تحرير المجلة المجلة: لعل أول من استخدم لفظ "مجلة" أو أشار باستعمالها, هو إبراهيم اليازجي, عندما كان يحرر مجلة "الطبيب"، ثم شاعت بعد ذلك، هكذا قال فيليب طرازي1. ويطلق علي المجلة في اللغة الإنجليزية لفظ له دلالته, وهو "Reiew"، والمعنى الحرفيّ لهذا اللفظ هو "إعادة النظر"، ودلالة هذا الاسم آتية من أن المجلة لا تعدو في جوهرها أن تكون عبارة عن إعادة النظر فيما سبق من أخبار وحوادث ومواد سبق نشرها في الجرائد اليومية، ولم تساعد طبيعة الصحافة اليومية ذاتها على استيفاء هذا المواد كما ينبغي. صحيح أن الصحف2 تحاول غالبًا أن تتابع الخبر الصحفيّ بشتَّى الطرق الممكنة، وصحيح أن هذا التتابع للخبر يظهر في الجريدة في شكل تعليق، أو في شكل طرائف Feature أو في شكل حديث أحيانًا, ونحو ذلك، لكن المجلة تستطيع بعد كل هذا أن تعيد النظر في جميع هذه المواد على اختلافها، وأن تبدي للقارئ وجهة نظر جديدة, وتمتاز هذه النظرية الجديدة بشيء من العمل، ونوع من الاستيفاء في البحث، وشيء كذلك من الجمال في العرض قلما يتاح للجريدة اليومية. هيئة تحرير المجلة, وطبقة المحررين بالقطعة: المتبع في كل مجلة من المجلات أن يكون لكل قسم من أقسامها مدير

_ 1 انظر كتابه "تاريخ الصحافة العربية" جـ1 ص7. 2 يجب أن يكون مفهومها منذ الآن أننا نطلق لفظ "صحيفة" على كل من الجريدة والمجلة الأسبوعية أو الشهرية أو الدورية.

مسئول عن مواد هذا القسم، وتساعده هيئة من المحررين, تقوم بجمع المواد وصياغتها صياغة فنية قدر المستطاع. غير أن أنشط الأعضاء في هيئة تحرير المجلة في الواقع هم: "طبقة المحررين بالقطعة"، وهم الذين يتعاملون مع المجلة، ويتقاضون على ذلك مرتبات ثابتة أو مكآفات معلومة من القائمين عليها. وتعتمد المجلات على هؤلاء الكتاب في الحصول على الجانب الأكبر من مادتها الصحفية، ويطلق على الكتاب بالقطعة اسم "المصحافين" Free lancers" تمييزًا لهم عن المحررين الأصليين في المجلة أو في الجريدة, وهؤلاء المصاحفون يقومون بتزويد المجلة بأنواعٍ شتَّى من المواد الصحفية؛ كالمقال، والقصة، والتحقيق، والطرائف، والرسوم الكاريكاتورية، والفكاهات, والألغاز، وغير ذلك. ويحصل المصحافون على هذه المواد من الحوادث الجارية، ومن مراقبة هذه الحوادث أولّا بأول, ومن الهيئات والمؤتمرات، ومن النشرات، ومن المكتبات، ومن الإذاعات، ومن الإحصاءات التي تصدرها الجهات الرسمية وغير الرسمية. وكثيرًا ما يعتمد المصاحف كذلك على الاتصال الشخصيّ، كما يعتمد كذلك على الوكالات الخاصة بالأعمدة، ومعنى ذلك, أنه كما توجد وكالات خاصة بالأنباء, فإنه توجد كذلك وكالات لا تهتم إلّا بالأعمدة الصحفية, تزود بها الصحف والمجلات التي تطلبها، وتشترك بالمال في هذه الوكلات من أجل هذه الغاية. وغير خافٍ كذلك أن هؤلاء المصاحفين يواصلون قراءة المجلات التي يكتبون فيها، ولا تنقطع صلتهم بالمسئولين عنها لكي يقفوا على رغباتهم، ورغبات القراء في نوع معين من المواد الصحفية, وعلى المجلة من جانبها أن تعمل كل ما في وسعها للدعاية اللازمة لنجاح أولئك المصاحفين

في مهمتهم؛ لأن في نجاحهم نجاحًا للمجلة ذاتها من ناحية، ونجاحًا للوكالة التي يعتمد عليها هؤلاء الكتاب من ناحيةٍ ثانية, والمعروف أن هذه الوكالات تتقاضى من كاتب المجلة الذي من هذا النوع عمولةً قدرها 10% من الأجر الذي يحصل عليه من المجلة، والذي لا شك فيه أن حوالي نصف المواد التي تنشرها المجلات الأمريكية, إنما تأتيها عن طريق الوكالات التي من هذا النوع. المصادر التي تُسْتَقَى منها مواد المجلة: عرفنا أن المواد التي تنشر في المجلة قلما تتعدى ما يلي: الافتتاحيات, بعض الأخبار والتعليق عليها, المقالات أو الأعمدة, التحقيقات الصحفية, القصص, الطرائف, المذكرات, والفكاهات, والنوادر, الأقوال المأثورة, الرسوم الساخرة, الإعلانات, الأركان أو الأبواب الصحفية التي تتفق ونوع المجلة وأهدافها ونوع تخصصها، فمن مواد المجلة النسائية -على سبيل المثال- مادة خاصة بالأزياء، وأخرى خاصة بالأطفال، وثالثة خاصة بشئون المطبخ، ورابعة خاصة بمشكلات البيت وبالعلاقات الزوجية، وقس على ذلك بقية المجلات الأخرى؛ كمجلة المهندسين، ومجلة المحامين، ومجلة المعلمين، ومجلة الطلبة، ومجلة العمال, وما إليها. أما المصادر التي تُسْتَقَى منها مواد المجلة, فيمكن أن تتلخص في مصدرين: أولهما: مصدر داخلي، ونعني به: الكتاب والمحررين والمراسلين ومندوبي الأخبار والمصورين والرسامين وغيرهم ممن يعملون داخل المجلة، ويعتبرون عمالًا وموظفين بها. وثانيهما: مصدر خارجيّ، ونعني به: طبقة الكتاب بالقطعة أو المصاحفين، والمصورين، والرسامين في خارج المجلة لا في داخلها، ووكالات الأعمدة والطرائف، وقد سبقت الإشارة إليها، تضاف إلى ذلك:

مكاتب الاستعلامات التابعة للحكومة وللهيئات، ثم المكتبات والمؤسسات والمتاحف، كما تعتبر المجلات المحلية والأجنبية، ويعتبر القراء أنفسهم كذلك مصدرًا هامًّا من مصادر المجلة لا غنى عنه. ولا شك أن الصعوبة في إعداد المجلات تأتي من أنه ليس من السهل في واقع الأمر إرضاء كل قارئٍ, فنحن إذا نشرنا المواد الأصلية "ORIGINAL" اتهمنا بأننا لا نميل إلى التجديد، وإذا نشرنا المواد الهشة أو الخفيفة, اتهمنا بأننا بلهاء أغبياء، وإذا عدلنا عن نشر هذه المواد الأخيرة, فنحن جادون أو متزمتون أكثر مما ينبغي, وهكذا. والمجلة لكي ترضي قرّاءها يجب أن تأخذ في إعداد موادها لستة أشهر مقدمًا، ولا شك أن هذه ميزة تنفرد بها المجلة دون الجريدة اليومية، وهذه الميزة آتيةٌ من أن المجلات لا تقوم دائمًا على عنصر الحالية Actualite، كما في الجريدة اليومية. على أن إعداد المواد قصصًا، ولمدة طويلةٍ, يثير مشكلةً من أعقد المشكلات التي تواجه المسئولين عن تحرير المجلات العامة، وهي: كيف نحكم على أهمية موضوع ما بالنسبة للقراء بعد فترة طويلةٍ من الزمن؛ كهذه الفترة التي أشرنا إليها؟ مع أن الآراء تتبدل، والأذواق تتغير، وما قد يكون هامًّا في نظر القارئ اليوم قد لا يكون هامًّا في نظره بعد ذلك. إن حل هذه المشكلة يتوقف غالبًا على مهارة القائمين بتحرير المجلة، وقدرتهم على فهم اتجاهات الرأي العام أو الذوق العام، ولا شك أن الطريق السليم لمعرفة الاتجاهات العامة هو طريق الاستفاء أو الإحصاء, ولذلك تعتمد المجلات الكبيرة اعتمادًا ظاهرًا على هذه الطرق. ومن المجلات المصرية التي تؤمن بهذه الطرق المبنية على الاستفتاء مجلة "الهلال" بالجمهورية العربية المتحدة، ولا شك أن هذا سبب من أسباب نجاحها وبقائها إلى اليوم.

أما المجلات المحلية والأجنبية باعتبارها مصدرًا تستقي منه المواد الصحفية, فالملاحظ إلى الآن أن المجلة العربية ما زالت إلى يومنا هذا تعتمد في كثيرٍ من موادها على المجلات الأجنبية, وخاصة الأمريكية والإنجليزية والفرنسية، ومن هذه المجلات الأجنبية ما وصل فعلًا إلى الدرجة العالمية التي تجعل منها مصدرًا لأكثر المجلات المحلية، ومثلها مجلة لوك Look، ومجلة ماتش Match، ومجلة لايف Life وغيرها، ذلك أن هذه المجلات الأخيرة لها من الإمكانيات ما يساعدها على الانفراد بموضوعاتٍ ممتازةٍ من ناحية الفكرة، ومن ناحية العرض، ومن ناحية الصورة، ومن ناحية التحرير، ولا تكاد بعض الصحف المصرية في كثير من الحالات تفعل أكثر من أنها تقوم بترجمة هذه المواد، وتحذو حذوها كذلك في طريقة الإخراج، بل إن المجلات المصرية الكبرى كالمصور، وآخر ساعة، وحواء، والكواكب، وهي، وسمير، وكروان، تمعن إلى يومنا هذا في محاكاة المجلات الأجنبية من حيث الإخراج، ومن حيث المواد, أو الأركان, وغير ذلك. ومهما يكن من شيءٍ, فإن المواد التي تنشر في مجلاتنا المصرية الآن على نوعين: أولهما: المواد الإعلامية: كالأخبار والتعليقات والصور المتصلة بحوادث الأسبوع, وغير ذلك من المواد التي اصطلح على تسميتها بالمواد الحالية. وثانيهما: مواد ليس لها صفة الإعلام أو الحالية، وليس لها ارتباط بزمن معين، وهو ما اصطلح على تسميته باسم Magazive، ومن الأمثلة عليها: التحقيقات الصحفية غير المرتبطة بأحداث الشهر أو الأسبوع، والقصص والرسوم الكاريكاتورية والطرائف، وهذا النوع من المواد هو الذي يصح للمجلة المحلية أن تأخذ في إعداده مقدمًا لمدةٍ طويلةٍ, كلما أمكن ذلك،

وهذا بخلاف النوع الأول, فإنه قَلَّمَا يؤخذ في إعداده قبل الأيام القليلة التي تسبق ظهور المجلة، بل في الساعات القليلة التي تسبق هذا الظهور. الأرشيف الصحفيّ للمجلة: الأرشيف الصحفيّ نوعان، عامٌّ وخاصٌّ: فالأرشيف العام: هو تلك المجموعة الضخمة من مواد الكتب والجرائد والمجلات والدوريات والنشرات والقواميس أو المعاجم ودوائر المعارف، أو هو القصاصات المأخوذة من جميع هذه المصادر، وهو مجموعة الصور والرسوم التي تحتفظ بها دار المجلة, أو الجريدة, وترتبها وتنظمها طبقا لقواعد الفهرسة والتبويب المعروفة، ويشرف على هذه العملية الدقيقة مشرفون تابعون للدار، قادرون على القيام بهذا العمل الذي لا غنى عنه للمجلة. ما هي قيمة الأرشيف العام للصحيفة: تظهر قيمة الأرشيف العام للمجلة, أو الجريدة فيما يلي: 1- تزويد الصحفيّ, أو المصاحف, بالمعلومات أو المعارف التي تهمه في موضوعٍ معينٍ, يأخذ في إعداده للصحيفة. 2- يعتبر الأرشيف العام مرجعًا عامًّا للصحفيِّ أو المصاحف عندما يشعر بالحاجة الملحة إلى معلومات أو رسوم أو صور يدعم بها مقاله أو موضوعة أو مادته الصحفية التي لا بد من تقديمها للصحيفة. 3- الأرشيف الصحفيّ يوفر على القائمين بالتحرير جهودًا شاقةً، ووقتًا طويلًا في سبيل البحث عن هذه المعلومات التي يحتاج إليها، أو الصور والرسوم التي يضمنها الموضوع.

4- الأرشيف الصحفيّ يساعد المحررين على الوصول إلى ما يُسَمَّى: "بالسبق الصحفيّ" إذا كانت الحصيلة التي سيعتمدون عليها من المعلومات والصور أكثر من الحصيلة التي يعتمد عليها غيرهم من الصحفيين في صحيفة أخرى. ولنضرب مثلًا لذلك: قد يحتاج أحد المحررين إلى صورةٍ معينةٍ لحادثٍ معينٍ, مضى عليه بعض الوقت، ولكن لسبب ما ظهرت ضرورة تستدعي إعادة النظر في الموضوع والكتابة فيه من جديد، وهنا تتفتح القيمة الكبيرة لهذه الصورة التي أخذت وقت حدوث الحادث لتذكر القراء به، كما تظهر القيمة الكبرى للأرشيف العام لاحتفاظه بهذه الصورة. 5- يمكن النظر إلى بعض ما يحتفظ به الأرشيف العام للصحيفة على أنه سجل تاريخي للأحداث المحلية أو العالمية إن أمكن، ويمكن الرجوع إلى هذا السجل عند الحاجة إلى ذلك. 6- الأرشيف العام يعين الصحفيّ على متابعة الحوادث متابعةً لها خطرها، خذ لذلك مثلًا: عند صدور حكم هام في حادثٍ له أهميته أيضًا, يمكن للصحفيّ أن يرجع للأرشيف الذي من هذا النوع، وينقل منه ما سبق نشره من الأخبار والأحكام الخاصة بهذا الحادث، وبذلك يربط الحكم الصادر ببيانات الحادث، ووقائعه، وبأسماء المجني عليهم فيه، وبأسماء الشهود, ونحو ذلك. ما المقصود بالأرشيف الخاصِّ، وما قيمته؟: الأرشيف الخاص: هو ذلك الأرشيف الذي يجمعه الصحفيّ, أو يجمعه المصاحف بنفسه يومًا بيوم، وشهرًا بشهرٍ، وسنةً بسنةٍ، ويكون ملكًا خاصًّا له

ويعتمد صاحب الأرشيف الخاصِّ على الصحف والمجلات والإذاعات والقراءات والمقابلات الشخصية, والكلام الذي يسمعه من أفواه الخاصة والعامة، وذلك في جمع الأرشيف الخاصِّ, وتأليفه بالصورة التي يرتضيها لنفسهه، ويشترك في تأليف هذا الأرشيف كذلك مجموعة الأحكام القضائية التي تنشر من حينٍ لآخر في موضوعٍ معين، وقد يجمع صاحب الأرشيف الخاصِّ معلوماته كذلك من وكالات الأعمدة -كما قدمنا. لكن ما هي قيمة الأرشيف الخاص؟ تظهر قيمة هذا النوع من الأرشيف إذا كان صاحبه قد جمع فيه من الأخبار والآراء والأحكام ما لم يتيسر لغيره من المشتغلين بتحرير الصحف جمعه، وتظهر قيمة الأرشيف الخاصِّ بشكلٍ أوضح, حين يأتي صاحبه بمعلوماتٍ وآراءٍ وتسجيلاتٍ ليس لها وجود بالصدفة في الأرشيف العام للصحيفة، ثم تبدو هذه الأهمية أو القيمة خطيرة حين يكلف المحرر من قِبَلِ الجريدة, أو المجلةِ بموضوعٍ أو بمشكلةٍ اجتماعيةٍ أو سياسيةٍِ تظهر أهميتها فجأة، وتثير اهتمام العدد الأكبر من القراء. وهنا ينجح المقال أو التحقيق أو الموضوع المبنيّ على أكبر قدر ممكن من المعلومات والوقائع والأسانيد التي أسعف بها الأرشيف الخاص، وكثيرًا ما تكون هذه المواقف سببًا في لمعان اسمٍ معينٍ, أو في تألق نجمه ولفت الأنظار إليه. ولنضرب لذلك مثلًا: وقد تكون المعلومات التي تضمنها الأرشيف الخاصِّ مما تتصل بموضوع "تحديد النسل" أو موضوع "الطفولة المشردة" أو نحو ذلك، فإذا كان الأرشيف الخاصّ قد استطاع أن يزود المحرر بمعلومات كافيةٍ في الموضوع الذي يكتب فيه، وإذا كان المحرر قد صبر على جمع مواده مدة طويلة,

ثم وقعت حالة مشابهة لتلك الحالات, مع اختلاف في الأسماء, أو اختلاف في ظروف النشر, ونحو ذلك، ففي هذه الحالة يستطيع المحرر صاحب هذا الأرشيف الخاصِّ الغني بكل هذه المعلومات والآراء والأحكام أن يكتب تحقيقًا شاملًا، وبحثًا عميقًا يبهر به أبصار الناس، ويستحوذ به على إعجابهم، ويكون ذلك طريقًا إلى نجاح المحرر, وعلوِّه إلى المرتبة اللائقة من مراتب التحرير. وإليك مثلًا آخر: قد يقرأ المحرر قصة طلاق هنا أو هناك، وربما كانت هذه القصة مؤلفة من فقرة أو فقرتين فقط، أو ربما حملته على الضحك، أو أثارت فيه نوعًا من السخط أو الغضب، ولكنه يسجلها عنده فورًا في الأرشيف الخاصِّ, وبعد يومٍ أو أسبوعٍ, أو شهرٍ, سيسمع أو يقرأ عن قصة طلاق أخرى، وربما وجد قصةً مسليةً، فيحفظها أو يسجلها كذلك في أرشيفه الخاصِّ, وتزيد هذه القصص عنده شيئًا فشيئًا، وقد تدور كلها حول شكاوي غير عادية من الأزواج والزوجات، وربما كشفت هذه القصص عن كثير من المآسي في الحياة الزوجية عند أكثر الناس، وقد يضم المحرر إلى هذا الأرشيف بعض الأحكام القضائية في حوادث الطلاق مثلًا. وقد يجد المحرر في هذه الأحكام ما يضع العراقيل أمام القيام بالإجراءات النهائية في الطلاق، إذا تبين أنه ضرورة لا محيص منها، ويفرغ المحرر من جمع المعلومات والأحكام الكافية حول موضوع الطلاق, ثم تسأله المجلة كتابة مقالٍ, أو بحثٍ, أو تحقيقٍ, أو استطلاعٍ في هذا الموضوع، فهنا يجد نفسه قادرًا على كتابة هذه المادة، مستعينًا عليها بالأرشيف الخاصِّ الذي يجعل لكلامه طعمًا ورائحةً، وهو بهذه الصفة يصبح قادرًا على إمداد مجلته بالمادة التي تكتسح بها السوق، كما يقول رجال الاقتصاد.

على أن شيئًا آخر يظهر في مادة الكاتب الذي من هذا الطراز، وهذا الشيء هو مهارته الفائقة في كتابه العنوان، بشرط أن يكون فيه قدر كبير من الإغراء، وقلما يوفق كاتب صحفيّ إلى نجاح كامل في هذه الناحية, ما لم يكن قد درس موضوعه, وعاش فيه مدةً كافيةً. بقي علينا أن نقف وقفةً خاصةً عند كل مادةٍ من هذه المواد، وهي: 1- المقال من وجهة نظر المجلة لا الجريدة. 2- القصة في المجلة. 3- التقرير بفنونه المعروف، وهي: الحديث الصحفيّ, والتحقيق الصحفيّ, والماجريات الصحفية: برلمانية، وقضائية، وسياسية، ودبلوماسية. 4- الإعلان والصورة، وطرق تحرير هذين الفنين من فنون الصحافة.

المقال في المجلة

المقال في المجلة: من رأي الإنجليز أن المقال أنواعٌ ثلاثةٌ, لا تخرج في مجموعها عن الأنواع التي سبق شرحها في باب المقال, وهي: 1- Essay. 2- Article. 3- Feature. والأول منها: يمتاز بشيءٍ من الطول، كما يمتاز بشيءٍ من الذاتية إذا كان الموضوع أدبيًّا، وبشيء من الموضوعية إذا كان علميًّا. والثاني: هو المقصود بالمقال الصحفيّ، لا الأدبيّ ولا العلميّ، وهو أقل من الأول خظًا في عنصر الذاتية؛ لأنه مقال يقصد به نقل الحقائق المتصلة بالخبر، إما بقصد التوجيه والإرشاد, وإما بقصد التدليل والإقناع، وإما بقصد التسلية والإمتاع. والثالث: يكون أقرب إلى المقال الصحفيّ منه إلى المقال الأدبيّ أو العلميّ، وهو أكثر ظهورًا في المجلات, على حين أن المقال الصحفيّ أكثر شيوعًا في الجرائد. وتشترك الجريدة والمجلة في جميع الأنواع المتقدمة، وإن كان النوع الأول أنسب للمجلات، كما قلنا، منه للجرائد، وكان النوع الثاني على عكس ذلك. وفي النوع الثالث تشترك المجلة والجريدة كذلك، إلّا أننا نلاحظ أنه إذا كان الموضوع المشترك بينهما -على سبيل المثال- "أغا خان" في القاهرة

مثلًا, فإن الجريدة تكتب عن "أغا خان" وعن زوجاته وأولاده وعاداته وأخلاقه، وتسوق المادة التي تنشرها من ذلك، وهي أدنى في طبيعتها إلى الخبر من حيث هو خبر. أما المجلة, فإنها تكتب عن "أغا خان" بشيء من التأمل والهدوء، يدعو القارئ إلى التفكير، فضلًا عن كونها تسعى إلى تسليته بما تورده من المعلومات في هذا الموضوع. ولا شكَّ أن عنصر الوقت الذي يتسع أمام المجلة, ولا يتسع أمام الجريدة, هو السبب الذي من أجله اخلتفت نظرة كل منهما إلى موضوع "أغا خان". ومهما يكن من شيءٍ, فإن المقال الذي تنشره المجلة يمتاز بالطول؛ بحيث تتراوح كلماته بين ألف وستة آلاف كلمة، ولا يتقيد المقال الذي ينشر في المجلة بقالبٍ معينٍ، وذلك كله فضلًا عن ميزتين أخريين هما: "الذاتية، والحرية"، وثَمَّ ميزة ثالثة أيضًا، هي أن المجلة تعالج الموضوع من أفقٍ أعلى, وزاوية أكثر انفراجًا. وهكذا نرى أن المجلة تعتمد اعتمادًا كبيرًا على المقال؛ لكي تجذب به انتباه القراء الذين لا يعجبهم القصص أحيانًا، وهذه مايدعونا إلى النظر في صفات كاتب المقال. صفات كاتب المقال: صدق من قال: "إن كاتب المقال شخصٌ يعبر عن الحياة بلغة الحياة، ينقدها بأسلوبه الخاصِّ، ولا ينظر إلى الحياة نظرةَ المؤرخ أو الشاعر أو الفيلسوف أو القصاص، ولكن يتوافر في فنِّه شيءٌ من كل ذلك، وليس يعنيه أن يكشف عن نظريات جديدة، ولا أن يوجد الصلة بين أجزائها المختلفة؛ لأن طريقته في العمل أدنى إلى الأسلوب التحليليّ، فهو يراقب

ويسجل ما يراقب، ويفسر الأشياء كما تبدو لناظره، ثم يدع خياله يمرح في مغزاها. والغاية من هذا كله أن يحس إحساسًا عميقًا بصفات الأشياء، ويلقي عليها نورًا واضحًا رقيقًا، لعله بهذا وذاك يستطيع أن يزيد الناس إحساسًا بالحياة، وأن يهيئهم لما اشتملت عليه من المفاجأت المفرحة حينًا، والمحزنة حينًا آخر"1. "إن المقالة قد تدور حول شيءٍ مما أبصره المؤلف أو سمعه أو شمه أو تصوره أو اخترعه أو توهمه، ولكن المهم أن يكون قد ترك في نفس الكاتب أثرًا خاصًّا، وتكون في ذهنه منه صورة خاصة, ويتوقف مجال المقالة على مجال الفكر الذي تصور، ثم سجل ما تصور, فالعبرة إذن بأن يحس الكاتب إحساسًا قويًّا بموضوعه، وأن يعبر عنه بعبارة قوية رائعة"2. لقد درجت صحيفة "المؤيد" لصاحبها السيد "علي يوسف" على نشر مقالاتٍ أمريكيةٍ من حينٍ لآخر، اشتهر بها كاتب أمريكيّ معروف في ذلك الوقت، واستأثرت هذه المقالات بإعجاب الجمهور المصريّ يومذاك، فذهب أحد المعجبين بها في مصر إلى أمريكا، واحتال حتى وصل إلى هذا الكاتب الأمريكيّ وسأله، كيف تكتب المقال؟ فأجاب: أقضي نهاري في مراقبة الناس وأحوالهم, وفي مطالعة أفضل الكتب والمؤلفات، ومتى اختمر في عقلي المعنى الذي اخترته موضوعًا لكتابة المقال, أتيت غرفتي هذه، وكتبت مقالتي على الآلة الكاتبة.

_ 1 محمد عوض محمد "محاضرات في فن المقالة الأدبية" ص64، نقلًا عن الكاتب الإنجليزي بنسن Benson. 2 نفس المصدر ص63.

إن معنى ذلك إذن, أن المقال يكون وليدًا للصدفة حينًا، وللتأمل والتفكير الطويل حينًا آخر، ومن هنا كانت "العين الصحفية" بالنسبة للمقال "كالأنف الصحفية" بالنسبة للأخبار. يقص علينا الكاتب الأمريكيّ "ويلزلي Welseley" في كتابه: "عالم المجلات" حكايةً بسيطةً عن طالبتين في إحدى كليات الصحافة، طلب الأستاذ إلى إحداهما أن تكتب ثلاث مقالاتٍ في موضوع الدين، ورأت الطالبة أن هذا الطلب معقول بالنسبة لها، فقد قالت: إن لديها قدرًا من الثقافة الدينية يسمح لها بذلك، وفرغت من كتابة المقالات الثلاث، فجاء المقال الأول خليطًا من المعلومات الخاطئة، والعبارات الدالة على التعصب الأعمى، كما جاء مشتملًا على فقرات تشير -على طريقة السرد- إلى بعض العقائد الدينية السائدة. وقرأ الأستاذ المقال فلم يرق في نظره، وسأل الطالبة عن عملها الخارجيّ, فقالت: إنها تشتغل بتجارة "الأبسطة المصنوعة من خيوط النايلون", فطلب إليها أن تكتب ثلاث مقالاتٍ أخرى عن هذا النوع من الأبسطة، وأن تضمن المقال رأيها في تنسيق البيوت، وطريقة تزيينها بهذا النوع من المفروشات، ثم اقترح الأستاذ عليها أن تبعث بهذه المقالات رأسًا إلى مجلة بعينها، وكتبت الطالبة هذه المواد, وبعثت بها إلى هذه المجلة، فلم تلبث أن تلقت من محررة القسم النسائيّ بها دعوةً لتناول الغداء معها في المنزل، وناقشتها المحررة في محتويات المقالات الثلاث، ولما تمت المقابلة عرضت الطالبة آراءها وتعديلاتها لبعض الأجزاء في هذه المقالات، ثم نشرتها تباعًا في المجلة، وكتبت الطالبة لأستاذها بعد ذلك له تقول: لقد تحققت المعجزة، ونشرت المجلة جميع المقالات، وبعد سنوات التحقت هذه الطالبة بهيئة التحرير في هذه المجلة.

حقائق حول كتابة المقال في المجلة: المقال الذي تنشره المجلة, إما أن يكون مقالًا افتتاحيًّا, أو مقالًا غير افتتاحيٍّ. فالأول: تعبير عن رأي المجلة في المشكلة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأدبية أو الفنية التي تعرض لها المجلة. والثاني: تعبير ذاتيٌّ من جانب الكاتب, يصور به آراءه، ويعبر به عن ذات نفسه، ولا يقصد به إلى أكثر من الإقناع حتى يأخذ القارئ بوجهة نظره. وهنا يحسن بنا أن نذكر كلمةً قالها المعقِّبُ الأمريكيُّ "وولتر ليمان Lippmaun" وهو يحلل ما يسميه:"الرأي العام" حيث قال: "إننا لا نحكم على الأشياء في ذاتها، بل على الصورة التي نكونها نحن عنها، أي: أن الصورة التي في رءوسنا هي مادة آرائنا، ومضمون هذه المادة على الدوام". والصحف اليومية -كما يقول الأستاذ "دينواييه" صاحب كتاب "الصحافة في العالم"- تشارك بجزء فقط في تكوين هذه الصورة التي في رءوسنا، وأما الأجزاء الأخرى فآتيةٌ عن طريق المجتمعات العامة، والمنابر والمحاكم والمجالس النيابية, وغير ذلك من الوسائل الفعالة في التأثير على الرأي العام، وأخيرًا تسلطت السينما والإذاعة على عقول الجماهير إلى درجة جعلتهما تعتقدان خطأ أنهما سوف تخلعان الصحافة عن عرشها إلى الأبد. ثم قال الأستاذ "دينواييه" كذلك: "وفي المنافسة بين هذه الوسائل المتعددة في تكوين آراء الناس تلعب المجلات دورًا هائلًا، وذلك عن طريق الصور والقصص والموضوعات التي درست درسًا عميقًا, ونحو

ذلك, ومن المحقق أن الجماهير تتأثر بصورة الصحف الأسبوعية أكثر من تأثرها بصورة الصحف اليومية، ومن المحقق أيضًا أن الأثر النسبيّ الذي تتركه الصحف اليومية في عقول الشعب مائعٌ إلى الحد الذي يتعذر معه القياس الدقيق لهذا الأثر. ثم أيَّدَ الأستاذ "دينواييه" كلامه بعد ذلك ببحثٍ قام به حول قوائم توزيع الدوريات والمجلات في فرنسا, في 31 ديسمبر سنة 1947، أثبت فيه أن الجرائد اليومية تستهلك قدرًا من الورق أقل نسبيًّا من الورق الذي تحتاج إليه جميع الدوريات على اختلافها. والمفروض في افتتاحيات المجلة أنها بناءة، والمجتمع يعتمد في هذا البناء على المجلة أكثر من اعتماده على الجريدة، ولكل فائدةٍ وميزةٍ، بحيث لا تغني إحداهما غناءً تامًّا عن الأخرى. وميزة الجريدة هي التكرار، وميزة المجلة هي العمق، والحق أن الافتتاحيات البناءة جليلة النفع للمجتمع وللحكومة، وخاصةً عندما تقوم على تفكيرٍ عميقٍ، ومعلوماتٍ دقيقةٍ. الواقعية في المقال: هناك شيءٌ آخر يجب توافره كذلك في افتتاحيات المجلة، هو "صفة الواقعية" ولكن كيف تكون كاتبًا واقعيًّا بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة؟ إن الإجابة على هذا السؤال ليست سهلةً ولا هينةً؛ إذ أنه ربما كانت الكتابة الخيالية أسهل بكثير من الكتابة الواقعية، وذلك بالرغم من أن حقائق الحياة كثيرًا ما تكون أغرب من الخيال نفسه. وصعوبة الكتابة الواقعية هي في جعل حقائق الحياة قابلةً للتصديق،

وبعبارةٍ أخرى: يجب على الكاتب الواقعيّ أن يعرف ماذا يروق الجماهير؟ وما الذي يجب أن يعرفوه؟ إن على الكاتب الواقعيّ إذن, أن يتعرف بنفسه إلى الحقائق والمعلومات التي يحب القراء أن يلموا بها، ولكن ليس للكاتب الواقعيّ أن يسأل الناس من آنٍ لآن: ما هي هذه الحقائق أولًا؟ إن على الكاتب الواقعيّ أن يحترم رغبات القراء، وأن يجعل من نفسه خادمًا لهم، ولكن على شريطة ألّا يقدم لهم من المعلومات إلّا ما يتصف بالدقة والصدق؛ كما أن عليه أن يثابر قبل ذلك على البحث عن هذه الحقائق, حتى يتألف له منها عددٌ كافٍ، ثم ينشر من هذا العدد ما يناسب الأحداث الجارية، ويلذ القراء، وكل ذلك في لغةٍ سهلةٍ بعيدةس عن الغرابة والتعقيد، وبذلك كله تتوافر للمقال الصحفيّ الذي تنشره المجلة صفتان لازمتان هما: الواقعية من جانبٍ، ويسر القراءة من جانبٍ آخر، والصفة الأخيرة هي المقصودة بالكلمة الإنجليزية Readability، ومعناها الحرفيّ: "الإنقرائية أو طواعية القراءة"، وتأتي هذه الطواعية المطلوبة عن طريق سهولة الألفاظ، وألفة التراكيب، ومعرفة المحرر بقدرة الكلمة على الإيحاء, أو بما يكون لها من ظلالٍ وأصداء في ذهن القارئ. وبعد, فعلى كاتب المقال في المجلة أن يضع هذه الحقائق نصب عينيه دائمًا، وهي: أولًا: أن قارئ المجلة أعلى مستوًى من قارئ الجريدة اليومية من حيث اللغة، ومن حيث الثقافة، وربما من حيث المستوى الاجتماعيّ والمستوى الاقتصاديّ كذلك.

ثانيًا: أن الوقت الذي ينفقه القارئ في المجلة, أطول من الوقت الذي ينفقه في قراءة الجريدة اليومية، ذلك لأن قارئ المجلة, إنما يقرؤها على مهلٍ، وغالبًا ما يكون ذلك بعد الفراغ من عمله اليوميّ، أو في عطلة الأسبوع. ثالثًا: أن قارئ المجلة يهتم بأسلوب الكاتب، ويهتم بالموضوع الذي يكتب فيه، أما قارئ الجريدة اليومية فقلَّمَا يهمه الأسلوب، إلّا عندما يقرأ العمود الصحفيّ لكاتبٍ معروفٍ؛ لأنه يقرأ ما يقرأ ليقف فقط على المضمون العام. رابعًا: أن الكتابة للمجلات تحتاج إلى عنصر الخيال في كثير من الأوقات، وتعتمد -كما قلنا- على قوة البلاغة، على حين أن الكتابة في الجريدة اليومية لا تحتاج إلى أكثر من الوضوح في شرح الحقائق والأحداث. النظام التقليديّ لصياغة المقال: إن النظام التقليديّ لصياغة المقال, هو أن يكون على النحو الذي سبق شرحه في أحد الأبواب المتقدمة، وهو أن يشمل المقال على ما يلي: 1- مقدمة تشتمل على فكرةٍ من الأفكار, تثير اهتمام القارئ، أو تشتمل على رواية دقيقةٍ وموجزةٍ للخبر الذي يُبْنَى عليه المقال. 2- شواهد وحقائق تؤيد الفكرة التي بُنِيَ عليها المقال. 3- خلاصة للمقال, تكون بمثابة خاتمة له, تبلور النتيجة أو الهدف الذي كتب من أجله المقال. غير أن من الكُتَّابِ من يستطيعون الاستغناء عن عنصر المقدمة, أو التقديم في بعض الأحيان، ولهم في البدء في كتابة المقال طرقٌ شتَّى, منها على سبيل المثال:

أ- أن يبدأ المقال على شكل سؤالٍ يلقيه الكاتب على القارئ. ب- أن يبدأ بجملةٍ تثير الضحك أو السخرية من شيء معين. جـ- أن تكون البداية بجملةٍ فيها معنى الغضب, أو الثورة على شيء معين. د- أن يبدأ المقال بإشارةٍ طفيفةٍ إلى أسطورةٍ من الأساطير المعروفة، عربية كانت أم أجنبية، قديمة كانت أم حديثة. هـ- ربما يبدأ المقال بحقيقةٍ من الحقائق العامة، التي لا تكون موضعًا لجدلٍ من القارئ، وهكذا.

القصة في المجلة

القصة في المجلة: يمكن تقسيم القصة من حيث الطول والقصر إلى ثلاثة أنواع: الأول: الأقصوصة. الثانية: القصة القصيرة. الثالثة: القصة الطويلة. وتمتاز القصة القصيرة بأنها تتيح لكاتبها التعبير عن فكرةٍ واحدةٍ فقط، يسلط الكاتب عليها كل الأضواء، ويعزلها عزلًا تامًّا عن جميع الأفكار الأخرى، وبهذه الطريقة يستطيع الكاتب أن ينقل للقارئ صورةً قويةً عن هذه الفكرة الواحدة, تكون بطبيعة الحال أقوى بكثيرٍ مما لو كانت ضمن أفكارًا أخرى تشتمل عليها القصة الطويلة أو الرواية، ثم إن القصة القصيرة يمكن أن يقرأها القارئ في جلسةٍ واحدةٍ، وفي هذه الحالة يحصل القارئ على جميع ما للقصة من تأثيرٍ كاملٍ دفعةً واحدةً. أما القصة الطويلة, أو الرواية, فإنها تحتاج إلى جلساتٍ كثيرة، ومن ثَمَّ يقع تأثيرها في نفس القارئ على دفعات. ومعنى ذلك: أن القصة القصيرة أصلح للمجلة، وأن القصة الطويلة أو الرواية أصلح للجريدة اليومية. وسندع الكلام عن الرواية؛ لأنها لا تهمنا في الكلام عن المجلة، وننظر قليلًا في القصة القصيرة.

فن القصة القصيرة: إن الذي لا ريب فيه أن القصة القصيرة أدنى إلى الأدب الواقعيّ بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، ومن هنا جاءت ملاءمتها للصحف، وأصبحت من المواد اللازمة لها منذ ظهور الصحافة، والصحافة في ذاتها أدبٌ واقعيٌّ قبل كل شيءٍ؛ لأنها تعنى بالمجتمع, وبما يقع فيه من أحداث. ولقد كان الكاتب الفرنسيّ الشهير "جي دي موباسان" من كتاب النصف الثاني من القرن التاسع عشر, أول كاتبٍ رسم للقصة القصيرة طريقًا جديًّا بالمعنى الصحيح. ذهب هذا الكاتب إلى أن القصة القصيرة ليس من الضروريّ أن تدور حول الأحداث الخطيرة، بل يغلب عليها أن تدور حول الأمور العادية التي تحدث للناس كل يوم، وفي ذلك ما قد يكشف عن أشياء كثيرة في النفس البشرية التي يهم القارئ أن يعرف عنها الشيء الكثير. ومن هنا كانت الأحداث في القصة القصيرة عند هذا الكاتب أحداثًا عاديةً, وكان الأشخاص في القصة أشخاصًا عاديين، وكانت مواقف القصة مواقف عادية، وبهذه المواقف العادية استطاع الكاتب أن يفسر الحياة تفسيرًا سليمًا، وأن يكشف فيها عن زوايا خفيةٍ، وأن يشرح النفس الإنسانية شرحًا دقيقًا. وبينما كان "جي دي موباسان" هذا يكتب القصة القصيرة بأسلوب سهلٍ, يدنو كثيرًا من أسلوب الصحافة، إذا بالكاتب الروسي "تشيكوف" يعمد في كتابة قصصه إلى أسلوبٍ بعيدٍ كلَّ البعد عن أسلوب الصحافة، وبذلك عمل على أن تستعيد القصة القصيرة مكانتها من حيث البلاغة والأناقة وسمو التراكيب.

وأما خطة هذا الكاتب الروسيّ في كتابه القصة القصيرة, فتقوم على هذه القاعدة: "عَرِّفِ الناسَ بالناسِ ولا تعرفهم بنفسك". وهذا مثل من قصص "تشيكوف" يفصح فيه عن طريقته، ويكشف عن ميله الشديد إلى الإيجاز الذي عرف به. في هذه القصص وعنوانها: "موت موظف حكومة" نرى موظفًا حكوميًّا، هو واحد من آلاف الموظفين, عرفته الأداة الحكومية في روسيا القديمة يعطس يومًا فوق صلعة قائدٍ كبيرٍ جلس أمامه في المسرح، فيرتاع الموظف الصغير من فعلته هذه، ويستبد به الخوف إلى درجةٍ مزعجةٍ تملك عليه كل مشاعره، ويقول لنفسه: أما عليَّ أن أقوم بواجب الاعتذار, وأؤكد للقائد العظيم أن العطسة كانت بغير قصدٍ مني؟ إن غضب القائد قد يجر عليَّ -وأنا الموظف الصغير- أوخم العواقب، واستجمع الموظف الصغير كل شجاعته، وذهب إلى القائد واعتذر له مرارًا وتكرارًا، حتى اضطر القائد نفسه في النهاية أن يأمر بطرده من مجلسه, فطرد المسكين؛ وإذ ذاك بلغ به الخوف والهلع مبلغًا, أفضى به إلى الموت في داره فور وصوله إليها.! هذه قصةٌ مبكيةٌ مضحكةٌ في وقت معًا، وهي في الوقت نفسه موجزة كل الإيجاز، محبوكة كل الحبك، ولكن دون أن تنقصها كلمة واحدة يكمل بها التأثير الكليِّ في القارئ أو في السامع. ومن ثَمَّ اشترطت في القصة القصيرة شروط ثلاثة هي: أولًا: أن تكون لها بداية ووسط ونهاية. ثانيًا: أن تكون تصويرًا لحدث متكاملٍ, له وحدته التي تتمثل في البداية والوسط والنهاية. ثالثًا: أن تحدث في القارئ أثرًا كليًّا، أو تؤدي إلى معنًى كليٍّ.

ومعنى هذا أن القصة القصيرة لا يمكن أن تكون مجموعة أخبارٍ يربط الكاتب بينها بطريقة مصطنعة؛ ليوهم القارئ أنها قصةٌ, وهي ليست كذلك. إن القصة القصيرة عبارة عن موقفٍ قصصيٍّ، أو موقفٍ من مواقف الحياة, يأخذ في النمو شيئًا فشيئًا, إلى أن يصل إلى نقطةٍ معينةٍ, يسميها النقاد: "لحظة التنوير" كما سنشرح ذلك فيما بعد. عناصر القصة القصيرة: تُبْنَى القصة القصيرة على أربعة أركان أو عناصر: 1- عنصر الحوادث أو الأخبار. 2- عنصر الشخصيات. 3- عنصر الفكرة أو المعنى. 4- لحظة التنوير، وهي اللحظة التي يكسب بها الحدث معنًى من المعاني, يكون هو المعنى الذي كتبت من أجله القصة. عنصر الحوادث والأخبار: لا بد للقصة من خبرٍ من الأخبار ترويه بصورةٍ فنيةٍ، ولكن يجب أن يكون مفهومًا على الدوام, أنه ليس كل خبر أو مجموعة من الأخبار قصة. فالشرط في أن يصبح قصةً هو أن يكون له أثرٌ كليٌّ في نفس القارئ، وبعبارةٍ أخرى: ينبغي للخبر الذي تحكيه القصة أن تتصل تفاصيله وأجزاءه بعضها ببعض؛ بحيث يكون لمجموعها أثرٌ كليٌّ، هذا فضلًا عن توفر شرط آخر سبقت الإشارة إليه، وهو أن تكون للخبر بداية، ووسط، ونهاية، ثم لا يكفي أن يكون للخبر أثرٌ كليٌّ، بل يجب أن يصور حدثًا أو موقفًا معينًا، أو بدايةً معينةً, تأخذ في النمو شيئًا فشيئًا, حتى تصل إلى نقطة معينة، هي "لحظة التنوير" التي أشرنا إليها، وقلنا إننا سنشرحها بعد ذلك. وعلى هذا, يكون الفرق بين الخبر الذي يقتصر على تزويدها بالمعلومات,

والخبر الذي يصور حدثًا من الأحداث تصويرًا فنيًّا من نوعٍ معينٍ, هو الفرق بين القصة الإخبارية في الجريدة، والقصة الفنية المعروفة في الأدب. فلو كتبت لأحد أصدقائك تقول له: "سافرت إلى الريف, وسحرني بجماله وهدوئه، وقضيت الوقت كله في الحقول، ومن أجل ذلك تأخرت في الكتابة إليك، أما عمدة القرية, فلا يسأم الجلوس في "الدوار", ويجمع حوله رفاقه من شيوخ القرية، ولقد كنت طوال هذه المدة أجالس العمدة، وأقرأ له الجرائد والمجلات، وأستمع معه إلى الراديو، وأكبر أولاد العمدة -وهو صديق لي كذلك- عاد من العاصمة, وقال: إنه انتهى من الامتحان النهائيّ في كلية الحقوق، وأنه سيصبح محاميًا بعد بضعة أسابيع، وهو يمارس الآن تجربة حبٍّ عنيفٍ مع فتاةٍ من بنات القرية, تقرب منه في السن، ويقال: إنها تحب فتًى غيره، ومثلي لا يمكن أن تغيب عنه هذه المعلومات التي أكتبها إليك بثقة". فإن في هذا الخطاب أخبارًا يرويها الكاتب لصاحبه، ولكنها رويت بحيث بدأ كل خبر منها منفصلًا, أو كالمنفصل عن الخبر الآخر، ومجموع هذه الأخبار لم يترك في نفس القارئ أثرًا كليًّا، ولذا عجزت كل هذه السطور, أو الأخبار, عن أن يكون لها معنًى كليّ، لذلك لا ينبغي لنا مطلقًا أن نطلق على هذه السطور اسم "قصة". إنها مجرد أخبارٍ تزودنا ببعض المعلومات؛ كالأخبار التي تقرؤها كل يوم في الصحف لا أكثر ولا أقل. أما القصة: فإنها ومضةٌ من الضوء, يلقيها الكاتب على شريحةٍ من شرائح الحياة -إذا صح هذا التعبير، ليصور بها حادثةً ذات وحدة عضوية، ويكشف بها عما يربط بين أجزائها من معانٍ أو علائقَ. إنها إذن تعتمد على أساسين كبيرين هما: اللسمة الإنسانية من جانب,

وخلق مشكلةٍ من المشكلات التي تعرض للبشر، وحل هذه المشكلة من جانبٍ آخر. وكما عرفنا كيف نفرِّقُ بين القصة الإخبارية في الصحافة، والقصة القصيرة في الأدب، كذلك ينبغي لنا أن نفرِّقَ بين المقال القصصيِّ والقصة القصيرة، فهذه الأخيرة -وهي القصة القصيرة- أدنى إلى الأدب والفن بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة. ذلك أن "العقدة" و "لحظة التنوير" شرطان أساسيان في هذا اللون من الأدب، على حين أن المقال القصصيّ لا يشترط فيه أن تكون له عقدة, ولا يحتاج إلى "لحظة التنوير" التي تنحل بها هذه العقدة. إن المقال القصصيّ أقرب إلى "الأقصوصة" منه إلى "القصة القصيرة" وللقارئ أن يرجع في ذلك إلى ما سبق أن كتبناه عن المقال القصصيّ كما هو معروف عند الكاتب الشهير باسم: "إبراهيم عبد القادر المازني". عنصر الشخصيات: مما لا شك فيه أن كل حدثٍ من الأحداث, لا يقع بالطريقة التي وقع بها في القصة إلّا لوجود شخص معين أو أشخاص معينين يجري على أيديهم هذا الحدث المعين. ومعنى ذلك: أن الحدث في القصة هو هذه الشخصية, أو الشخصيات التي تعمل, ويجري على أيديها الحدث بصورة خاصةٍ، ووحدة الأحداث في القصة لا تتحقق إلّا بتصوير الشخصيات وهي تعمل في داخل القصة، وهكذا يتطور الحدث من نقطةٍ إلى أخرى، أي: أن كل جزء في القصة يبدو كأنه يؤدي إلى الجزء الذي يليه, وهكذا، وربما كان من أوضح الأمثلة على دور الشخصيات وهي تعمل ويجري على يديها الحدث, قصة كتبها

الكاتب الفرنسيّ الذي مر ذكره، وهو هنا "جي دي موباسان "بعنوان": في ضوء القمر 1: بدأت هذه القصة بموقف للأب "مارينيان" وهو يمشي في حديقةٍ له بالقرية, ويسأل نفسه: "لماذا فعل الله ذلك؟؟ إن عظمتك يا ربي أعظم من أن تدركها عقول البشر، وبهذا المنطق البسيط طفق الرجل يفسر الطبيعة من حوله، فالشمس لإنضاج المحاصيل، والمطر لسقي الزرع، والليل ليستعد الناس للنوم.... وهكذا. غير أنه كان يكره النساء كل الكره، وكان يزعم أن الله تعالى غاضبٌ عليهن، وكان يعتقد دائمًا أن الله خلق المرأة لغواية الرجل واختباره، وكانت له ابنة أخت تعيش مع أمها في منزلٍ صغيرٍ قريبٍ من منزله، وكان قد صمم على أن يجعل منها راهبة، وكانت الفتاة تحب الحياة, وتستجيب لجمال الطبيعة بأكثر مما تستجيب لوعظ خالها، وفي يومٍ من الأيام, أخبرت مديرة البيت الأب "مارينيان" أن ابنة أخته قد اتخذت لنفسها عشيقًا, فصاح الأب: كذب.... كذب!!. ولكن المرأة التي أخبرته بذلك قالت: ليعاقبني الله إن كنت أكذب يا سيدي القس.... إنهما يتقابلان كل ليلة بجانب النهر، وما عليك إلّا أن تذهب إلى هناك ما بين الساعة العاشرة ومنتصف الليل، وفي موجة من الشعور بالحزن والخيبة والعار, وخدش الكرامة أخذ القس عصًا في يده من خشب البلوط, وخرج من بيته، ولكنه ما لبث أن توقف عند الباب مبهوتًا مأخوذًا بجمال الطبيعة. وكان بهاء القمر رائعًا روعةً نادرةً، وشعر الرجل فجأةً أن جمال الليل

_ 1 رشاد رشدي "القصة القصيرة" من ص41-48 بتصرف.

وجلاله وبهاءه قد حرَّك قلبه، وفي حديقته الصغيرة التي سبحت في ضياءٍ باهتٍ, عكست أشجار الفواكه ظلالها على ممر أغصانٍ رقيقةٍ من الخشب, تكسوها الخضرة، ومن الزهور المتسلقة على الحائط انبعثت رائحة جميلة، وسار الرجل ببطء, مسحورًا مبهورًا, حتى كاد ينسى ابنة أخته، وعندما وصل إلى بقعةٍ عاليةٍ, وقف يرقب الوادي بأجمعه, وبهاء القمر يحتضنه، وسحر الليل الهادئ الجميل يغرقه ... واستمر الأب يمشي وهو لا يعرف لم تخلت عنه شجاعته! وود لو يجلس, أو يتوقف حيث هو؛ ليحمد الله على ما صنعت يداه، وهناك في طرف المرعى رأي ظلان يمشيان جنبًا إلى جنبٍ تحت الأشجار المتعانقة الغارقة في الضباب الفضيّ. كان الرجل هو الأطول، وقد لف ذراعه حول عنق حبيبته، ومن وقتٍ لآخر كان يقبلها في جبينها، وفجأةً دبت الحياة في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بهما, وكأن الطبيعة نفسها إطارٌ إلهيٌّ صُنِعَ خصيصًا من أجلهما، وبدا الشخصان كأنهما كائن واحد، هو الكائن الذي خُلِقَ من أجله الليل الهادئ الساكن، واقتربا من القس كأنهما إجابةً حيةً على سؤاله الذي ألقاه على نفسه في بداية القصة، إجابةً بعث بها إلى ربه الأعلى.... وإذ ذاك كان الأب "مارينيان" يلقي على نفسه سؤالًا آخر: ألم أكن على وشك الخروج على طاعة الله؟ ، لو لم يكن الله يرضى عن الحب لما أحاطه بمثل هذا الإطار من الجمال والسحر والبهجة والعظمة!!. وهرب الأب مذهولًا وهو يكاد يشعر بالخجل أو بالوجل، كما لو كان قد اجتاز هيكلًا مقدسًا لا حقَّ له في اجتيازه في تلك اللحظة!! هذه القصة تصور لنا حدثًا متكاملًا له وحدته، وتصور لنا الشخصية وهي تعمل، وتصور لنا الفعل والفاعل والشخصية شيئًا واحدًا لا يمكن تجزئته، ومن ثَمَّ نجحت هذه القصة نجاحًا كبيرًا، وبصرف النظر عن

كونها تشتمل على خبرٍ تافهٍ في ذاته، هو عبارة عن قسيس يدعى: "الأب مارينيان", سمع ان ابنة أخته على علاقةٍ بأحد الشبان، فخرج ليضبطهما متلبسين بالجريمة، وتربص لهما في الحقول والوديان، وبعد مدةٍ رآها قادمةً مع حبيبها, تتهادى في ضوء القمر, فخجل من نفسه وعاد إلى بيته. عنصر الفكرة أو المعنى: إن تصور الحدث في القصة من البداية إلى الوسط, ثم إلى النهاية, لا يكفى لتطوير الحدث نفسه؛ لأن الحدث عبارةٌ عن تصوير الشخصية في القصة وهي تعمل، ثم إن تصوير الشخصيات في القصة وهي تعمل لا يكفي كذلك لإحداث التكامل في القصة، فالتكامل في القصة, أو الحدث, هو تصوير الشخصية وهي تعمل عملًا معينًا له معنًى أو فكرةً تهدف إليها القصة، وليس المعنى أو الفكرة شيئًا مستقلًّا عن الحدث, يمكن أن نضيفه إليه متى أردنا، أو نفصله عنه كيفما شئنا، فنقول مثلًا: إن هذه القصة تعالج مشكلة الفقر، أو تثبت أن الفضيلة أقوى من الرذيلة، ومعنى ذلك باختصار شديد: أن الحدث والمعنى, أو الفكرة, في القصة وحدةٌ لا تتجزأ. انظر إلى القصة السابقة: "في ضوء القمر" تجد أن الحدث له بداية، ووسط، ونهاية، وتجد أن المعنى أو الفكرة والحدث وحدة لا تتجزأ إلى أجزاء يمكن أن ينفصل بعضها عن الآخر، ومن ثَمَّ أصبح هذا الحدث متكاملًا، والوحدة بينه وبين المعنى تامة، وليست مفروضة عليه بصورة من الصور، وهذا المعنى هو أن الله تعالى يرضى عن الحب، والكاتب هنا لا يعبر عن هذا المعنى في شكلٍ إخباريٍّ بحت، وإنما يعبر عنه في شكلٍ فنيٍّ هو عبارة عن حدث ينمو في القصة شيئًا فشيئًا, حتى تؤدي إلى المعنى الذي كتبت من أجله القصة.

لحظة التنوير: لكي تكمل للقصة القصيرة مقوماتها الفنية المطلوبة, يجب أن تصور حدثًا متكاملًا يجلو موقفًا من المواقف الإنسانية كما قلنا. إن كاتب القصة القصيرة لا يسرد تاريخ حياة أحدٍ من الناس، ولا يلقي أضواء مختلفة على أحداث كثيرة، ولا يكشف عن زاويا متعددة للأحداث والشخصيات، كما يفعل كاتب القصة الطويلة أو الرواية، بل ينظر إلى الحدث من زاويةٍ معينةٍ لا من عدة زوايا، ويلقي عليه ضوءًا معينًا، لا عدة أضواء، ويهتم بتصوير موقفٍ معينٍ في حياة فردٍ أو جماعةٍ، لا بتصوير الحياة كلها.. فالنهاية في القصة القصيرة تكتسب أهميةً خاصةً؛ لأنها النقطة التي تجمعت فيها خيوط الحدث كلها، وبها يكتسب الحدث نفسه معنًى وفكرةً، ولذا سميت هذه النقطة: "لحظة التنوير". وبالقصة التي ضربنا بها المثل، وهي قصة "في ضوء القمر" نجد لحظة التنوير، وقد عَبَّرَ عنها الكاتب في قوله: "وفجأةً خُيِّلَ إلى القس أن الحياة قد دبت في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بالفتى والفتاة, وكأنها -أي: وكأن هذه الطبيعة الحية- إطارٌ إلهيٌّ صنع خصيصًا من أجلهما، واقتربا من القس كأنهما إجابةٌ حيةٌ على سؤاله، إجابة بعث بها إليه ربه الأعلى، وقال الأب على الفور: ربما خلق الله مثل هذا الجمال إطار المثله الأعلى "وهو حب الإنسان"، وتراجع بعيدًا عن الحبيبين, وهو يكاد يشعر بالحياء والخجل, كما لو كان قد اجتاز معبدًا لا حق له في اجتيازه". نسيج القصة: رأينا كيف أن بناء القصة كبناء الكائن الحيِّ، وأن كل جزءٍ في هذا البناء لا يمكن أن ينفصل أو يستقل بنفسه عن الأجزاء الأخرى، بل يشاركها في الغاية من وجوده.

والغاية من القصة -كما عرفنا- هي تصوير حدثٍ معينٍ لهدفٍ معينٍ، ينسج الكاتب من أجله قصةً، ووسائل هذا النسيج -كما نعرف أيضًا- هي اللغة، والوصف، والحوار، والسرد، وغير ذلك من الأشياء التي تشترك كلها في مهمة التصوير من جهةٍ، وتطوير الحدث في داخل القصة من جهةٍ ثانيةٍ. أما الوصف: فإنه لا يرد في القصة القصيرة لذاته، ولكن يرد فيها لغايةٍ معينةٍ، ولذلك لا يعمد الكاتب إلى وصف شخصيةٍ من الشخصيات من خلال منظاره هو، ولكن من خلال منظار الشخصية التي تتعامل مع غيرها من شخصيات القصة، وفي ذلك ما يساعد الحدث في القصة على التطور والنمو شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى نهايته، ومعنى هذا: أن الوصف في نظر الكاتب والقارئ, جزء كذلك من الحدث الذي تدور حوله القصة. مثال ذلك: إذا كان الشخص في القصة القصيرة يحب الفتاة الطويلة ذات الشعر الأسود، والبشرة التي تميل قليلًا إلى السمرة، فإن الكاتب الذي يريد أن ينشيء علاقة حبٍّ لهذا الشخص في القصة, لا بد له أن يصف الفتاة في القصة بنفس هذه الأوصاف المذكورة، لا بأوصاف يحبها هو، ويترجم بها عن مثله الأعلى في الجمال, ولو فعل غير ذلك لكان هذا خطأً في نسيج القصة بهذا المعنى. وكذلك الشأن في اللغة التي تستخدم في هذا الوصف، فإنها هي الأخرى يجب أن تكون لغة مطابقة للشخصية في القصة القصيرة، فمن غير المعقول أن يدع الكاتب شخصياته تتكلم عن مستوى لغويٍّ واحدٍ، فإن في ذلك ما فيه من البعد عن الواقعية التي هي أساس هذا الفن من فنون الأدب، ونعنى به: القصة القصيرة. وفي نسيج القصة القصيرة يجب أن يلتفت الكاتب دائمًا إلى هذه الحقيقة،

وهي أن التقرير في القصة لا ينبغي أن يحل فيها محل التصوير، فالتقرير شيء والتصوير شيءٌ آخر؛ الأول -وهو التقرير- لا يصح وروده في القصة، والثاني: هو كل ما يمكن أن تعتمد عليه القصة. إن التقرير لا يصف الإحساسات والمشاعر، ولكن الطريق الوحيد لذلك هو التصوير، فالابتسامة، أو الدمعة، أو السكوت عن الجواب، أو العزلة، أو الحركة تصدر من يد الشخص أو من كتفه، والتصرف المعين، أو السلوك المعين يصدر من هذا الشخص أيضًا, كل هذه الأشياء تعين على التصوير الذي يقصد إليه الكاتب، ولا يمكن اعتبارها تقريرًا عن مشاعر الشخصية التي تجري على يدها كل هذه الحركات أو السكنات, ونحو ذلك. وهكذا لا تجد كاتب القصة يعمد إلى تقرير شيء من الأشياء, أو التعليق عليه كما يفعل المحرر الصحفيّ، وإنما يكتفي بتجسيم هذا الشيء في عمل يصدر عن الشخصية، ويحمل ذاتيتها وطابعها في نفس الوقت. والمهم أن تقول بعد ذلك: إن النسيج كالحدث وكالشخصية في القصة, ليس منفصلًا عنها، لكن هذه العناصر كلها شيء واحد، فلا يمكن أن نتصور بناء القصة بعيدًا عن نسيجها، كما لا نستطيع أن نتصور أن أحداث القصة أو شخصياتها أو فكرتها ومعناها معزولة عنها. الواقعية في القصة القصيرة: بقيت لدينا كلمة نشرح فيها المراد بصفة الواقعية في القصة القصيرة، وهي الصفة التي بدأنا بها هذا الحديث, وإنَّا لمكتفون هنا بتجربةٍ قام بها صاحب جريدة "الهاتف"، وهي جريدة صدرت ببغداد ما بين سنة 1934 وسنة 1954، وصاحبها ورئيس

تحريرها هو الأستاذ جعفر الخليلي،1 قال: كتب لي قارئ وأنا أدير جريدة "الهاتف" يقول: إنه كان قد سألني مرةً, ما الذي يجب أن أعتمد عليه في بناء القصة؟ فأجبته بأن الواجب يقضي عليه بتوخي "الواقعية" بعد وثوقه من قابليته الفطرية للكتابة. وعمل القارئ بهذه النصيحة، وكتب قصة بيته، وأرسلها إلى جريدة "الهاتف" فلم تنشرها الجريدة، مع أنه لم يبعد فيها عن الواقع قيد شعرة، وكانت قصة بيته التي يشير إليها، والتي يلوم "الهاتف" على عدم نشرها بعنوان: حياة أسرة: وهي قصة أرض, قال إن أباه قد اشتراها من امرأة، وهي واقعة في الطرف الفلانيّ من المدينة، وبالقرب من المحل الفلاني، وقد أنجز أبوه بناءها في طابقين، اتخذ الطابق الفوقانيّ مسكنًا له، وخصنا أنا وعمتي وجدتي وأختي بالطباق التحتانيّ، وفي البيت سلمان؛ أحدهما بالقرب من باب الدار، والثاني في نهاية البهو، وكلاهما ينتهيان بالطابق الفوقانيّ، ويصلان إلى سطح الدار. وقال: إن أباه ينوي أن يبني جناحًا آخر إذا ما جاء موسم الزراعة بمنتوج جيد في السنة المقبلة، وقد كان ينوي يوم خط خريطة البيت أن يبني سردابًا، ولكن صديقًا لأبي حذره قائلًا: إنه لن يأمن أن يمتلأ السرداب بالماء في موسم الفيضان، فعدل عن بناء السرداب وبنى لنا تنورًا لا تزال أمي وعمتي تتناوبان الخبز فيه، وإن كان خبز أمي أحسن من خبز عمتي. ثم أضاف قائلًا: وليس في بيتهم هذا مجالٌ ليتخذ فيه حديقة، ولكنهم

_ 1 جعفر الخليلي "القصة العراقية" ص155.

ينتظرون أن يبيعهم جارهم بيته المتصل ببيتهم؛ ليتخذوا منه حديقةً غناء -إن شاء الله تعالى. وتنتهي القصة بعد ذلك بحادث وقوع بيتهم هذا بسبب شق الطريق، وكانت نتيجته أن انهدم البيت, وعوضوا عنه بمبلغ معين، وهكذا تمت قصة حياة الأسرة، أو قصة الدار قبل أن يتاح لهم أن يحققوا أمنيتهم منها. لقد أقسم كاتب هذه القصة بأنه لم يكتب شيئًا يخالف الواقع، ولم يفته شيء مما ينبغي أن يذكر لتكون الإحاطة تامةً بجميع أطرافه، وذلك طبقًا للقاعدة المطلوبة في بناء القصة, أو طبقًا لنصيحة "صاحب الهاتف". قال صاحب "الهاتف" بعد ذلك: "إن الواقعة التي أرادت أن تكون قاعدة أساسية للقصة, لم أقصد بها أن ينبري أحدنا إلى بيته أو إلى شارعه أو إلى مدينة, أو أية جهةٍ أخرى, فيصفها وصفًا صحيحًا، ثم يقدمها للناس باعتبارها قصةً من القصص الفنية، وإنما يجب أن تصف الواقعية موضوعًا يصح أن يسترعي انتباه القارئ لغرابته، أو للذته، أو لاستهوائه النفس، أو لإثارته الكوامن، أو لأيِّ شيءٍ مما يعنى به الناس كلهم أو بعضهم، وذلك في قالب فنيٍّ وإطارٍ معينٍ، أما أن ينطلق الكاتب إلى المطبخ مثلًا فينقل للقراء صورةً صادقةً لمواقع القدور والملاعق من الجهة اليمنى إلى الجهة اليسرى، وموضع الطباخ أو من يطبخ في بيته؛ أهي أمه, أم عمته, أم الخادمة، ثم يحاسبنا على أنه قد راعى في وصفه أهم قواعد القصة، وهي "الواقعية" والإحاطة بجميع أطراف الموضوع, فذلك شيءٌ لا يمت إلى القصة بأيِّ وشيجٍ من النسب، وإذا جاز أن يكون قصةً فهو من نوع صاحب البيت المعمور الذي أشرنا إليه هنا، والذي أسأل الله أن يكون أبوه قد اشترى له بيتًا جديدًا حقق فيه آماله من حيث السعة وإنشاء الحديقة"!!

تقول "إليزابيت بوين" في تعريف "الرواية والحقيقة": إنها -أي: الرواية- قصةٌ مبتكرةٌ، ولكنها في الوقت نفسه، ورغم كونها مبتكرةً, فإن لها القدرة على الإيحاء بالصدق، وقد يتساءل البعض، وما قياس هذا الصدق؟ فأقول: إنه بالنسبة للحياة كما يعرفها القارئ، أو ربما كما يتحسسها هذا القارئ، وأنا إنما أعني: القارئ الناضج الكامل النمو، فمثل هذا القارئ يكون قد اجتاز مرحلة قراءة القصص الخرافية، ونحن لا نريد في الرواية شيئًا من الأحداث الغريبة المستحيلة، ولهذا فإني أؤكد بأن الرواية يجب أن تنطبق على الواقع كما يعرفه الناضجون من الناس في المجتمع. ومعنى ذلك: أن الرواية ليست نشرة إخبارية، كما أنها ليست حوادث مثيرةً للحس، أو مثيرةً للنظر، وهنا يأتي دور الشرارة التي تبعث الحياة الحقيقية في الرواية، وهي خيال الكاتب صاحب القدرة الممتازة، وهذا الخيال لا يقتصر على الاختراع، بل إنه يدرك الأشياء, ويمسها, ويضاعف من الأشياء التي تبدو عاديةً مألوفةً، وهو يمدها بقوة جديدة، ويزيد من أهميتها، ويؤكد صدقها، كما يعطيها حقيقة داخلية عميقة، وهذا هو مفهوم الفن الروائي. وقفت "اليزابيت يومين" عند ثلاث خصائص للقصة وهي: أولًا: أن تكون بسيطةً واضحةً سهلة الفهم. ثانيًا: أن تكون طريفةً بحيث تدور حول أزمة من الأزمات، أو تعالج مشكلة ذات أهمية كبرى بالنسبة للكاتب أو للقارئ في حياته الخاصة. ثالثًا: أن تكون ذات بداية جيدة، كأن تنطلق من موقف مشحون بالأمل، أو على الأقل توحي للقارئ بأن مثل هذا الموقف واقع وموجود بالفعل.

وظيفة التقرير الصحفي وأهميته

وظيفة التقرير الصحفيّ وأهميته: بين العلماء والباحثين خلافٌ كبيرٌ في المقال الصحفيّ من حيث هو: أيعتبر فنًّا مستقلًّا بذاته من فنون الصحافة؟ أم يعتبر لونًا من ألوان الخبر أو الإعلام؟ وتمادى الخلاف بينهم في ذلك حتى ذهب بعضهم إلى أن المقال الصحفيّ -وإن كان يهدف إلى التوجيه والإرشاد- فإنه يعتبر في الواقع نوعًا من الإخبار والإعلام، ولِمَ لا يكون كذلك؟ والمقال الافتتاحيّ ذاته يُبْنَى في أكثر الأحيان على خبر هامٍّ، سواء أكان من الأخبار الخارجية أم الداخلية، وقد يدورهذا المقال الافتتاحيّ كذلك حول خبر ما تحول ظروف خاصة دون إيراده مورد النبأ بالشكل المعروف في الصحيفة. على أنه بالرغم من هذا التداخل الكبير بين الخبر والمقال، فإن الكثرة الساحقة من علماء الصحافة مجمعةً على ضرورة الفصل بين هذين الفنين من فنونها، وذلك على أساس من الفهم السليم لوظائفها الخمس المعروفة للصحافة, وهي كما تعلم: وظيفة الإخبار، ووظيفة تفسير الأخبار، ووظيفة التوجيه والإرشاد, ووظيفة التسلية والإمتاع، ووظيفة التسويق والإعلان. والغرض الأول والثاني من هذه الأغراض الخمسة يختصان بالخبر, والغرضان الثالث والرابع منها يختصان بالمقال، وأما الغرض الخامس والأخير فخاصٌّ بالناحية المادية التي لا تعنينا في هذا البحث. فإذا كان هذا هو الخلاف الحادث بين العلماء والباحثين في شأن المقال

الصحفيّ بالذات، فكيف يكون الخلاف بينهم في الفنون الصحفية الأخرى، ومنها فن الحديث، وفن التحقيق، وفن الماجريات؟ إن من هؤلاء العلماء من يعتبرون هذه الفنون الأخيرة لونًا عمليًّا من ألوان الإعلام أو الإخبار، والدليل على ذلك -في رأيهم- أن محرر التقرير الصحفيّ -كائنًا مَنْ كان- يكتب ما يرى وما يسمع في مكان الحادث أو التحقيق، ويهمل كل ما عرفه -ولو من طريق الصحف- عن الشائعات التي تجري على ألسنة الناس بعيدًا عن هذا المكان، ومعنى ذلك أنه لا يكتب في مكتبة، أو غرفة التحرير بالصحيفة، كما يفعل كاتب المقال أو التعليق على الأنباء، وإنما يكتب أولًا في المكان الذي يقع فيه الحادث، أو المكان الذي هو موضوع التقرير الصحفيّ الذي تطلبه الصحيفة. والمعروف أن عمود الأخبار لا يتسع في الصحيفة إلّا لعباراتٍ موجزةٍ وجملٍ مركزةٍ، ولكن بعض هذه الأخبار يجذب إليه انتباه القراءة، وكثيرًا ما تثير فضولهم، فتضطر الصحيفة إلى إشباع فضولهم هذا بكتابة التقرير الصحفيّ المفصل، كائنًا ما كان نوعه، أو كانت صورته. من أجل ذلك, ذهب بعض العلماء إلى أن التقرير الصحفيّ يهبط بمستوى الصحافة؛ لأنه لا يهدف إلّا لغرضٍ واحدٍ فقط في الواقع، هو إرضاء غريزة من غرائز الإنسان، هي غريزة حب الاستطلاع، أو إلى إرضاء غريزةٍ أخرى من غرائزه كذلك، هي الغرور الإنسانيّ لدى المجرمين، والمتهافتين على الشهرة والميل إلى الظهور. وذهب بعض العلماء كذلك إلى اعتبار التقرير صحافةً من الدرجة الثانية؛ لأنه لا يتطلب من كاتبه كل ما يتطلبه كاتب المواد الأخرى في الصحيفة من مهارةٍ وحذقٍ في فنون الكتابة والعرض. لكن يرد على هذه الآراء السابقة وأمثالها بردود كثيرة منها: أنه

يكفي أن نرى جمهور القراء يتهافتون على قراءة التقرير الصحفيّ -أيًّا كان نوعه- وأن نراهم معجبين أشد الإعجاب بكاتب هذا الفن من فنون الصحافة الحديثة. على أن كاتب التقرير الصحفيّ في الحقيقة من أشد الكُتَّابِ الصحفيين عنايةً بعرضه, على أحسن وجه، وكتابته على أحدث طريقة، وجعله تحفةً فنيةً تجذب إليها انتباه القارئ، وسنرى في بعض الفصول القادمة كيف أن كاتب التقرير الصحفيّ، بأشكاله المختلفة، لا بد أن يكون رجلًا يتوافر فيه من الصفات الأدبية والفنية, وما يتوافر في كاتب القصة الإخبارية، أو المقالة الصحفية، أو العلمية، أو الأدبية، أي: أن كاتب التقرير يجب أن يكون كغيره من أعضاء أسرة التحرير؛ على جانبٍ عظيمٍ من العلم والمعرفة، وعلى جانبٍ عظيمٍ من الفن والموهبة، وبغير ذلك تبدو كتاباته ضحلةً فارغةً أو مضحكةً، وتتعرض إذ ذاك "لمقص" سكرتير التحرير, ولقمه "الأحمر" الذي يضرب به على كثير من المواد غير المبذول في كتابتها، وإعدادها من العناية ما يكفل نشرها، ويغري قراء الصحيفة بقراءتها، والانتفاع بها. وفي أهمية المقرر الصحفيّ, يقول مسيو "إيلي ريشارد Elie Richard" وكان رئيسًا لتحرير صحيفة فرنسية يقال لها: "سي سوار": "الحقيقة أن المقرر الصحفيّ ثمرةٌ من ثمار هذا القرن الذي نعيش فيه، إنه المندوب الذي يذهب من قبلك - أيها القارئ- لرؤية الحادث، والكشف عن أسبابه بدقةٍ تامةٍ، إنه ليس أديبًا متجولًا، ولكنه في الواقع العين التي نبصر بها، والأذن التي نسمع بها، وهو يعرف جيدًا أن عليه أن ينقل إلينا جميع الأحاسيس فور شعوره بها، وإدراكه لها، أما التأملات والإيحاءات فمتروكة لنا وحدنا بعد كل ذلك".

ويفرِّقُ الباحثون بين "المقرر الكبير" و "المقرر الصغير" فالأول ذو خبرةٍ واسعةٍ، ومرانةٍ طويلةٍ، وعليه -بوجه عام- تعتمد الصحيفة في كتابة التقارير حول الأخبار الهامة، والحوادث الجسام، كحادث اغتيال رئيس من رؤساء الحكومات، أو حادث غرق سفينة كبيرة، أو هلاك منطقة آهله بالسكان بسبب الفيضان، أو بسبب بركان، وكفضيحة من الفضائح تكون الشخصية الرئيسية فيها نجمًا أو نجمةً من نجوم العلم، أو الأدب, أو السينما، أو المسرح, ونحو ذلك. فإذا وقع حادث من هذا النوع أسرع المقرر الصحفيّ الكبير، فحزم متاعه، واصطحب معه آلة التصوير، وركب الطائرة، أو القطار السريع، ليصل إلى مكان الحادث قبل غيره من الصحفيين، وهنا يجمع المعلومات، ويجري التحقيقات، ولا يعبأ بالمصاعب والعقبات التي تعترض طريقه، ويسابق الوقت فلا تضيع منه دقيقة واحدة، وإلّا فسدت عليه خطته من أولها إلى آخرها. أما "المقرر الصغير" فيحرر في الغالب باب "الأصداء" أو باب "المياومات" أو تلك المواد الصغيرة المسلية التي تهتم بها جميع الصحف، وتفرد لها مكانًا خاصًّا من مساحتها، وكثيرًا ما يكون ذلك بالصفحة الأخيرة التي تعتبر أدنى في طبيعتها إلى "المجلة": MAGAZINE منها إلى الجريدة NEWS PAPER. وفي هذه الصفحة الأخيرة يرى القارئ طائفةً من الأحاديث المصورة، التي هي في الواقع "أصداء" لأهم الحوادث الجارية، وهنا يتساءل الباحث عن هذه الأحاديث، والأصداء: ما نوعها؟ وهل تعتبر من الحديث الصحفيّ، أو التحقيق الصحفيّ، أو الماجريات الصحفية؟ والجواب على ذلك: أن هذه التقارير الصغيرة ليست في شيء من هذه

الفنون الثلاثة بالمعنى المقصود من كل فَنٍّ منها على حدةٍ، وهو المعنى الذي ستشرحه الفصول التالية: فليست هذه التقارير الصغيرة أحاديث صحفية؛ لعدم وجود عنصر الحوار في أكثرها، بل فيها جميعها, وليست هذه التقارير الصغيرة عبارة عن تحقيقات صحيفة؛ لعدم وجود عنصر البحث عن الحقائق، وعنصر جمع المعلومات حول مشكلةٍ من المشكلات العامةِ سعيًا وراء إيجاد حل مناسب لها. وليست هذه التقارير الصغيرة "ماجريات صحفية" لأنه يشترط في هذه الماجريات -كما سنرى- أن تكون تقريرًا عن حوادث كبيرةٍ عقدت لها جلسات في هيئات عامة، كالمحكمة، والبرلمان، والمؤتمر الإقليمي، أو المؤتمر الدوليّ. فإن كان ولا بد من إدراج هذه التقارير الصغيرة تحت فَنٍّ من فنون الصحافة, فهي أدنى إلى فن التعليق على الأخبار منها إلى أيِّ شيءٍ آخر، وذلك بشرط أن نتسامح أيضًا في معنى "التعليق على الأخبار" فلا تكون الغاية منه مقصورةً على توجيه القارئ بقدر ما تكون الغاية من هذا التعليق الصحفيّ أو "الثرثرة الصحفية" هي تسلية القارئ أو إمتاعه، بصرف النظر عن توجيهه أو إرشاده. ثم إن هذا التعليق على الأخبار متى قصد منه إلى إيضاح بعض النقط المتصلة به، أو الكلام بشيء من التوسع عن الأشخاص والأماكن التي تذكر معه، أو تزويد القارئ بطائفة من المعلومات المسلية التي ترتبط به من قريب أو من بعيد, سُمِّيَ في الواقع باسم: "طريفة"، وجمعها "طرائف"، Eeatures وهو فن من فنون الصحافة أدنى إلى الخبر منه إلى المقال، كما

أوضحنا ذلك في فصل من فصول الكتاب الثاني من كتب هذا البحث، وعنوانه: "الطرائف". المقرر الكبير, ومكانته في الصحافة الحديثة: الحق أن المقرر الكبير يعتبر قوةً كبيرةً من قوى الصحافة الحديثة, وعلى أيدي المقررين الكبار تجري أنواع من البطولات والمغامرات, لا تَقِلُّ عن مغامرات المخترعين وكبار العلماء، ومن هذه المغامرات -على سبيل المثال - مغامرة "ستانلي" الذي أرسلته صحيفة "نيويورك هارولد" للبحث عن "لفنجستون" أدت إلى القيام بتقرير صحفيٍّ غريب, أثار آنذاك إعجاب العالم أجمع، فقد كان "ستانلي" صحفيًّا ورحالةً في آنٍ واحدٍ, وفي أكتوبر سنة 1869, كلفه مدير "النيويورك هرالد" بالبحث عن "لفنجستون" في أفريقيا الاستوائية, بعد أن انقطعت أخباره ثلاث سنوات، ووصل "ستانلي" إلى زنزبار في يناير سنة 1871, وتوغل في قلب القارة السوداء، وعثر أخيرًا على "لفنجستون" في "أودجيجي" الواقعة على ضفاف بحيرة تنجانيقا، وزوده بالمؤن ثم كتب "ستانلي "إلى الصحيفة تقريرًا مثيرًا1. "وفي أوائل مايو سنة 1956 استطاع الصحفيّ المصريّ "إبراهيم عزت" أن يتخطى حدود إسرائيل، ويطوف مدنها, ويقف على حقيقة ما يجري فيها من أمور، ويمكث فيها أحد عشر يومًا, قابل في خلالها "دافيد بن جوريون" رئيس الوزراء، و"موسى شاريت" وزير الخارجية، و"جولدا مائير" وزيرة العمل، و"موشى ديان" قائد الجيش. وقد استطاع "إبراهيم عزت" أن يحصل على تأشيرة من سفارة إسرائيل

_ 1 راجع د. خليل صابان "الصحافة" رسالة، استعداد، علم، فن" ص120-121.

بلندن, بعد أن أقنع المسئولين هناك بأنه صحفيٌّ برازيليّ من أصل عربي، واسمه: "جورج إبراهيم حبيب" يفهم العربية, ولكنه لا يكتبها، وأنه يقوم بجولة في منطقة الشرق الأوسط لزيارة الدول العربية وإسرائيل، ولكنه يخشى إن ظهرت على جواز سفره تأشيرة دخول إسرائيل, أن ترفض الدول العربية دخوله أراضيها. وطار "إبراهيم عزت" من لندن إلى نيقوسيا، ومنها إلى "اللد" حيث كان في استقباله مدير المطار، ومندوب وزارة الخارجية، الأمر الذي أفزعه إذ ذاك، ولكن سرَّه لم ينكشف، وظلَّ يجوب مدن إسرائيل حيث مكث ثلاثةَ أيامٍ في تل أبيب وحيفا، ويومين في القدس وبير سبع، وزار المستعمرات الصهيونية على الحدود المصرية. وفي كل لحظةٍ كان يقف على الأمور خلف الأسوار، ويطَّلِع على أدق الأسرار, وبعد أحد عشر يومًا عاد إلى قبرص, ومن هناك أبرق إلى "روز اليوسف" بتفاصيل رحلته إلخ"1. أليس في كل ذلك ما يدل دلالةً واضحةً على المكانة التي يتمتع بها المقرر الكبير في الصحافة الحديثة، وما يدل كذلك على أن التقرير الصحفيَّ في ذاته صحافة من الدرجة الأولى لا من الدرجة الثانية؟ لقد سبق أن قلنا: إن الخلاف قائم بين العلماء في موضوع المقال الصحفيّ: أيعتبر فنًّا مستقلًّا بذاته من فنون الصحافة؟ أم يعتبر لونًا من ألوان الإعلام في هذه الصحافة كبقية الألوان الأخرى. والرأي عندنا في ذلك أنه لا بد من الفصل بين هذه المواد التي هي:

_ 1 المصدر المتقدم ص123.

الخبر، والمقال، والتقرير، فهذا الفن الأخير-وهو التقرير- وإن كان في الواقع يحمل صفة الإخبار، أو الإعلام، فإنه في نفس الوقت يكتب بطريقةٍ مخالفةٍ كل المخالفة للطريقة التي تكتب بها الأخبار، والاختلاف بين الخبر والتقرير في طريقة التحرير كافٍ عندنا للفصل بينهما، ودراسة الخصائص الفنية لكلٍّ على حدةٍ. فلئن كانت القصة الإخبارية تجيب دائمًا عن الأسئلة الخمسة أو الستة المعروفة، وهي: من، وماذا، ولماذا، وأين، ومتى، وكيف، فالتقرير الصحفيّ كثيرًا ما يكتفي بالإجابة عن سؤال: لماذا أو كيف، ويقف عند هذا الحد. ولئن كانت الإجابة عن سؤال "كيف" تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية في القصة الإخبارية، أي: أنها تجيء لمجرد التفسير في الفقرة الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة من صلب هذه القصة، فإن الإجابة عن سؤال "كيف" يلعب الدور الهام في التحقيق الصحفيّ -بنوع خاصٍّ- ويكاد يدور عليه هذا التقرير من أوله إلى آخره. ولئن كانت القصة الإخبارية إنما تصاغ على شكل هرمٍ مقلوبٍ، فإن التحقيق الصحفيَّ بالذات -كالمقال الصحفيِّ- يتبع نظام الهرم القائم أو المعتدل، بمعنى أن الأجزاء التي هي أقل في الأهمية تأتي في بداية الكلام، ثم تتدرج الأجزاء الأخرى إلى أعلى شيئًا فشيئًا، حتى تصل في التقرير-كما تصل في المقال- إلى الذروة Climex، ويستثنى من ذلك في الماجريات: قضائية، وبرلمانية، وسياسية، كما سنرى ذلك في موضعه من هذا البحث. ولئن كان الخبر الصحفيُّ لا يسمح لمحرره مطلقًا بإظهار شخصيته على نحوٍ ما؛ لأنه يتبع في تحريره أسلوبًا يشبه الأساليب العلمية ذات الصبغة الموضوعية، فإن التقرير الصحفيَّ من حديثٍ، وتحقيقٍ، وماجرياتٍ، يحمل

غالبًا طابع كاتبه، ويَنُمُّ عن شخصية محرره، ويدل عليه دلالة قوية، وذلك حتى في بعض الماجريات الدبلوماسية والدولية نفسها. وكل هذه الفروق المتقدمة تجعل من حقنا أن نفصل فصلًا تامًّا بين التقرير الصحفيِّ وغيره من مواد الصحف، كما تجعلنا ننظر إلى فن التقرير على أنه فنٌّ مستقلٌ بذاته؛ له خصائصه التي يمتاز بها، وله أغراضه التي يسعى إليها، وله كتابه ومحرروه الذين تهيئوا للنبوغ فيه، وللتقرير -فيما قلنا- فنون أربعة، وهي: 1- فن الحديث الصحفيّ. 2- فن التحقيق. 3 فن الماجريات الصحفية. 4- فن التقرير المصور "الريبورتاج". وسنتحدث عن كل واحدةٍ من الفنون الثلاثة الأولى على حدةٍ، وسنعنى في أثناء ذلك "بالطابع المصريّ"، و "الشخصية المصرية" في فن التقرير، كعنايتنا بهما في الفنين السابقين، وهما الخبر والمقال. نعم، يصح أن يضاف إلى هذه الفنون الثلاثة، فن التقرير المصور أو الريبورتاج، وهو عبارة عن تقرير صغير يمتاز بأشياء، منها: 1- الإيجاز في التعبير. 2- الحديث عن شخصٍ بعينه, أو مكانٍ بعينه, أو ظاهرة بعينها. 3- أن يكون هذا الحديث مقرونًا بالصور كلما أمكن ذلك. خذ لذلك مثلًا: هب أنك مشيت في الطريق العام، فقابلت شحاذًا يتكفف المارة، ووقفت قليلًا ترقب هذا الشحاذ, فإنك تجد لفائف كثيرة على ساقه اليمنى، ولفائف أخرى على ساقه اليسرى، ثم أخذت تلاحظ هذا

الشحاذ عن قربٍ دون أن يشعر, حتى ابتعد عن زحام الناس, وأخذ يفك لفائفه وهو آمنٌ، فإذا هذه اللفائف تحتوي على عدد كبير من الأوراق المالية! وهنا حدثتك نفسك بأن تكتب عن هذا الشحاذ, وتحكي قصتك معه عن النحو المتقدم، وتقرن ذلك بالصور التي لا بد من التقاطها. في هذه الحالة يعتبر حديثك عن هذا المتسول وحده "تقريرًا مصورًا", أما إذا تجاوزت ذلك إلى الحديث عن مشكلة التسول في ذاتها، ودراسة هذا الموضوع من جوانب متعددةٍ؛ لكان هذا النوع من الحديث تحقيقًا صحفيًّا. ومن الأمثلة الرائعة لفن "الريبورتاج" تقرير مصور نشرته الأهرام يوم 10/ 12/ 1962 بعنوان: "إجازة 19 ساعة لمسجون أمضى 13 سنة في ليمان طره". ومهما يكن من شيءٍ, فيجب العدول عن اعتبار التقرير بصوره المعروفة, وهي: "الحديث الصحفيّ، والتحقيق الصحفيّ، والماجريات الصحفية" ضمن المقال، فالمقال عبارة عن إنشاءٍ لا حظَّ له من الطول، وليس من الضروريّ أن يتصف بالعمق أو بالإحاطة التامة بالموضوع، على حين أن التحقيق الصحفيّ وهو أحد الفنون الثلاثة من فنون التقرير, يطول كثيرًا, ويتعمق فيه الكاتب كثيرًا، وبذلك يبعد التحقيق عن المقال في طبيعته التي اتضحت لنا من تعريفه فيما سبق.

فن الحديث الصحفي وأنواعه

فن الحديث الصحفيّ وأنواعه: ليس صحيحًا ما يقال من أن فن الحديث الصحفيّ من ابتكارات القرن العشرين، وابتداع هذا القرن وحده، فالذي نعرفه من تاريخ الصحافة بانجلترا -على سبيل المثال- أن الصحفيّ الإنجليزيّ المشهور "ديفو Defoe" استطاع في القرن الثامن عشر أن يحصل على حديثٍ صحفيٍّ من قاطع طريق اسمه: "جاك شبرد "J. Shepherd"، وكان هذا قبيل تنفيذ الحكم عليه بالإعدام شنقًا ببضع دقائق. بل إن الأستاذ "ولزلي" في كتابه "Exploring Journalism" يرى أن حوار أفلاطون يعتبر نوعًا من الأحاديث، ذلك أن الأسئلة التي وجهت إلى سقراط حينًا، وإلى غيره من أصدقاء أفلاطون وتلاميذه حينًا آخر، كانت تحمل في طيَّاتِهَا صفات الحديث الصحفيّ، ومثل ذلك كثير من أخبار الأدب العربيّ في قصور الخلفاء والأمراء، حيث كان الحوار يدور بينهم في مسائل شتَّى، وموضوعات متباينة. ولئن دلت هذه الآراء وأمثالها على شيء, فإنما تدل على حقيقةٍ واحدةٍ فقط، وهي أن في النفس البشرية منذ نشأتها ميلًا أصيلًا, ونزوعًا شديدًا إلى معرفة أحوال الغير، والوقوف على جميع أسرارهم كلما أمكن ذلك، وفي الأحاديث الخاصة من أي نوع كان، ما يشبع هذا الميل نفسه إشباعًا كبيرًا. ولهذا الفن، من فنون الصحافة، أهميةً خاصةً، فالأصل فيه، أن القارئ لا يمكنه أن يشاهد مكان الحادث الذي يهمه ليقف بنفسه على

حقيقة الأمر فيه، ومن ثَمَّ وجب على الصحافة أن تقوم له بذلك عن طريق مخبريها، فيذهب أحدهم إلى مكان الحادث، وتكون مهمته توجيه الأسئلة إلى شهود العيان، وبهذه الطريقة يقف القارئ على الحقيقة، على أنه ليس من الضروريّ في كل حالةٍ أن تنشر الأحاديث الصحفية على شكل أسئلة وأجوبة، فربما كان في نشر المعاني نفس القيمة الخبرية التي للأسئلة والأجوبة. وفي بيان أهمية الحديث الصحفيّ يقول الأستاذ "إميل لودفيج" ما يلي: "يعتبر الحديث الصحفيّ من ألمع الفنون الصحفية في الوقت الحاضر، ومن أكثرها استهواءً للقارئ، وقد تظن أن الحديث الصحفيّ لا يزيد على كونه مجرد تسجيلٍ لمناقشةٍ، أو حوار دار بين طرفين, غير أن حقيقة الأمر هي أن الحديث الصحفيّ أهم من ذلك؛ لأنه يتطلب قدرًا كبيرًا من المهارة والتفنن، ويحتاج إلى توفر صفات من نوعٍ خاصٍّ في المخبر الصحفيّ. والواقع أن الحديث الصحفيّ محبب إلى نفوس القراء، فكما أنه يسر كل إنسان أن تتاح له فرصة التحدث إلى شخصية كبيرة لها مكانتها في الحياة العامة، فكذلك يرحب الناس عادةً بالإطلاع على ما تصرح به مثل هذه الشخصيات لمندوب الصحيفة الذي يقوم بنقل هذه التصريحات إليهم. وتزداد أهمية الحديث الصحفيّ تبعًا لأهمية صاحبه، ومدى شهرته، ولكن ليس معنى ذلك أن الحديث الصحفيّ لا يؤخذ إلّا من المشهورين البارزين في المجتمع وحدهم، فقد تكون الأحداث المثيرة التي تقع لبعض المغمورين من الناس سببًا في الاهتمام الشديد بأحاديثهم وتصريحاتهم، وخاصةً حين تكون مادة الحديث متصلة أشد الاتصال بموضوع من موضوعات الساعة. فحين يتحدث المحضر "عثمان أبو الحسن حمودة" قاتل "وداد حمدي".

أو تتحدث ابنتها "أشجان" إلى مندوب الصحيفة بعد وقوع الحادث، والإخبار عنه بالفعل، فإن هذه الأحاديث تستهوي الجمهور القارئ أكثر مما يستهويه حديث آخر عن استقالة "خروشوف" في روسيا, أو مجيء "تشومبي" من الكونغو إلى بلد من بلاد الشرق الأوسط. والخلاصة: أن للحديث الصحفيّ -بالمعنى الذي تقصد إليه الصحيفة- ثلاث وظائف: أولاها: أنه خير معينٍ للصحيفة على كتابة القصص الإخبارية التي لا مكان لها في الواقع غير الصحف. الثانية: أنه من أنجح الوسائل لعرض وجهات النظر، ومحاربة الشائعات الضارة بالمجتمع. الثالثة: أنه من أنجح الوسائل كذلك لتعريف الجمهور بالشخصيات الممتازة لذواتها، أو الشخصيات التي أضفت عليها الحوادث نوعًا من البروز المؤقت في المجتمع. وإذ قد فرغنا من الكلام عن أهمية الحديث الصحفيّ, فإننا ننتقل من ذلك إلى الكلام عن: أنواع الحديث الصحفي: توشك أن تنحصر الأحاديث الصحفية في الأنواع الخمسة الآتية: 1- حديث الخبر "أو الحقائق". Information interview 2- حديث الرأي.Opinion interview 3- حديث المعلومات والتسلية والإمتاع. Feature Interv 4- حديث الجماعات.Group interview 5- حديث المؤتمرات الصحفية.Press Conference

وفي كل نوعٍ من الأنواع الخمسة المتقدمة, لا بد من مراعاة الشروط التي روعيت في الخبر الصحفيّ من حيث هو، وهذه الشروط أو الخصائص المطلوبة هي: 1- الجدة من حيث الزمان Timelimess 2 القرب من حيث المكان proximity 3 الضخامة "وهي اتصال الحادث بأكبر عدد من الناس" Mahnitude 4- قوة الدلالة Significance 5- سياسة الصحيفة Policy ومعنى ذلك: أن على المخبر الصحفيّ أن يحقق هذه الشروط الخمسة عندما يشرع في كتابة الحديث الصحفيّ، ولكن كيف نميز -أولًا- بين هذه الأنواع الخمسة السابقة؟ وكيف نعالج كل نوع منها على حدة؟ ذلك ما نحاول الإجابة عنه فيما يلي: أولًا: حديث الخبر أو الحقائق والغرض منه في الواقع هو جمع الأنباء، واستقضاء المعلومات حول حادثٍ معينٍ، والرجوع في ذلك -ما أمكن- إلى الأشخاص الذين رأوا بأعينهم هذا الحادث المعين، أو اشتركوا فيه وقت وقوعه، وهنا يجب التنبيه إلى أن المطلوب من الصحفيّ في هذه الحالة, إنما هي الأنباء أو الحقائق أو المعلومات، وليس المطلوب هو الآراء أوالاتجاهات أو وجهات النظر المختلفة, ونحو ذلك. وفي هذا يقول الإنجليز: إن القصد من هذا النوع من الحديث هو الحصول على ما يعبر عنه بينهم بهذه العبارة "NEWS NOT VIEWE". هب أن الصحيفة أرادت أن تعرف سياسة الحكومة في التموين, في وقت

من الأوقات، فإنها في هذه الحالة تبادر بإرسال مندوبيها إلى وزير التموين نفسه، أو وكيل الوزارة نفسه، أو مدير العلاقات العامة بالوزارة؛ لكي تستقي منه الحقائق المتعلقة بالسياسة التموينية، وخطة الحكومة في تيسير السلع، وخفض الأسعار, ونحو ذلك. غير أن الناس قسمان: منهم من يحبون الإدلاء بالمعلومات، ويميلون بطبعهم إلى شرح ما أجروه من التجارب، وما وصلوا إليه من النظريات. ومنهم من يترددون كثيرًا في الإدلاء بمعلوماتهم، ويخشى أحدهم أن يجره التصريح بهذه المعلومات إلى القضاء، أو يعرضه لسؤال الحاكم، أو يفسد عليه حياته الخاصة في داخل الأسرة، أو حياته العامة في مكان العمل، أو خارجه، وخاصةً عندما تكون المعلومات مما يخل بالشرف. على أن شاهد العياد -ما دام إنسانًا- لا يمكن أن تكون معلوماته دقيقة بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة؛ لأن الحوادث تأخذه على حين غرةٍ، ويتبع بعضها بعضًا بغاية السرعة، فلا يستطيع أن يعرف ماذا حدث بالدقة، ومن هنا يأتي تردده عند ما يطلب إليه الإدلاء ببعض المعلومات الهامة. وثَمَّ طائفة ثالثة من الناس لايحبون أن تسلط عليهم الأضواء؛ لأنها تكشفهم للملأ، وتعرض حياتهم نفسها للخطر، ومن هؤلاء: المشعوذون، والمجرمون، والدجالون، ورجال العصابات، وتجار المخدرات، والقتلة السفا كون، وبعض الساسة وغيرهم، وكل هؤلاء لا يحبون أن يتحدث عنهم الناس، حتى لا ينكشف سرهم، ويقف الناس على حيلهم وأفكارهم ومقاصدهم. بل إن بعض الساسة، والمسئولين من رجال الأعمال، وأصحاب المشروعات قد لا يحبون أن يكشفوا عن أوراقهم, أو يبوحوا بأسراراهم, إلّا في الوقت المناسب، علمًا منهم بأن التعجيل بهذا الكشف قد يفسد

خططهم، ويزيد في تعقيد أمورهم, وهم حريصون على أن يكونوا بمأمنٍ من كل هذه الأشياء. نرى الواحد من هؤلاء الساسة، ورجال الأعمال لا يجب مطلقًا أن يطرق والحديد بارد، كما يقول الإنجليز، ونرى له حاسةً سياسيةً دقيقةً يعرف بها متى تكون "اللحظة السيكلوجية" التي يكشف فيها عن أوراقه، ويعرض فيها آراءه، ويبسط فيها مشروعه، لكي يضمن ترحيب المسئولين والشعب بهذا المشروع. وفي كل حالةٍ من الحالات المتقدمة تكون مهمة المخبر الصحفيّ صعبةً كل الصعوبة، ولا يكون من السهل عليه في الحقيقة أن يحصل للصحيفة على حديثٍ يمكن أن ينير الطريق للقراء.

ثانيًا: حديث الرأي إن الصحيفة في هذا النوع الحديث بالذات, تهتم كذلك بالحصول على آراءٍ ذوي الخبرة والاختصاص في موضوعٍ له أهميته في المجتمع. ومن الأمثلة عليه حديثٌ لعضوٍ بارزٍ في مجلس النواب, عن مشروع يزمع البرلمان إقراره، أو حديثٍ مع وزير التربية والتعليم عن سياسةٍ جديدةٍ يريد إنتهاجها والسير عليها، أو حديث مع رئيس الجمعية الطبية المصرية عن موضوع تأميم الطب، وفي هذا النوع من الأحاديث يكون لآراء المختصين والفنيين وزن كبير، وخطر جليل. والناس بالقياس كذلك إلى هذا النوع من أنواع الحديث الصحفيّ فريقان: فريق يميل إلى الشهر ويتعطش إليها، فهو يسارع إلى الإدلاء بكل بيانٍ، بمناسبةٍ وبغير مناسبةٍ، وهو يدعي العلم بما يعرف وما لا يعرف. يتكلم في السياسة وفي الدين، وفي الأخلاق، وفي الأمن، وفي الإدارة، وفي الفنون، وفي العلوم، وفي كل شيءٍ، ومثل هذا الفريق من الناس ينبغي الاحتراس من معلوماتهم وآرائهم؛ لأنها دون شكٍّ آراء تمتزج فيها الحقيقة بالخيال، والجد بالهزل. وفريق آخر من الناس قد يكونون مشغولين بأعمالهم على الدوام، وقد يكونون من الذين يترددون في الإدلاء بمعلوماتٍ من أي نوعٍ كان، وفي كلتا الحالتين ينبغي للصحفيّ أن يقدِّرَ الموقف حق قدره، وينبغي له في الحالة الأخيرة بنوعٍ أخصٍّ أن يحدد الأمر تحديدًا واضحًا للمتحدث، حتى يحصر محدثه في الموضوع -إن كان من الخياليين الحالمين- أو يخرج المحدث من الشك إلى اليقين، ومن الخوف إلى الأمن إن كان من المترددين المرتابين، وعلى المخبر أن يقنع هذا وذاك بأن في نشر حديثهما فائدة محققة للرأي العام.

وقد يحدث أحيانًا أن يصرَّ المتحدث على ألّا ينشر اسمه مقرونًا بالحديث، وحينذاك لا يجوز للصحفيّ أن ينشر اسمه، بل يكتفي بأن يقول: عن مصدرٍ مسئولٍ, أو شخصيةٍ كبيرةٍ، أو عن مصدرٍ لا يرقى إليه الشك، ونحو ذلك. ومن الخطر على الصحيفة دائمًا أن يعد مخبرها بأنه أن ينشر هذا الجزء أو ذاك من الحديث، أو بأنه لن ينشر اسم صاحب الحديث، ثم لا يفي بما وعد، وتلك جريمة صحفية يعاقب عليها القانون، ثم إنه لا غنى للصحفيّ كذلك في حديث الرأي عن مراعاة التوازن بين الآراء المؤيدة، والآراء المعارضة، وخاصةً إذا كان الحديث متصلًا بأمرٍ من أمور السياسة، أو الاقتصاد، أو التعليم، ونحو ذلك من المرافق الخطيرة في الدولة. ولا ينسى الصحفيّ مع كل هذا سياسة الصحيفة, بل يجب عليه دائمًا أن يضعها نصب عينيه في الأحاديث الصحفية بوجهٍ عامٍّ، وحديث الرأي منها بوجهٍ أخصٍّ. ثالثًا: حديث التسلية والإمتاع إذا كان الغرض من حديث الخبر والحقائق هو الإعلام، وكان الغرض من حديث الرأي هو التوجيه والإرشاد, فإن الغرض من هذا النوع الثالث -كما يؤخذ من اسمه- هو التسلية والترفيه عن القراء, وعلى ذلك, فالمهم في هذا النوع الثالث ليس ما يقال، ولكن كيف يقال؟ والمتحدث في هذه الحالة هو المحرر نفسه؛ إذ الغرض الأساسيّ في الواقع هو تصوير شخصية اعتدت بما فيها من طرافة أو غرابة، أو تعقيد، أو بساطة، ولذلك يعني المخبر الصحفيّ بنبرات الصوت، وحركات المحدث، وتعبيرات الوجه، ولون الملابس، وطريقة الجلوس، وما إلى ذلك كله.

وباختصارٍ: يهتم المخبر الصحفيّ في هذا النوع من الحديث بشخصية المتحدث، وفلسفته في الحياة أكثر مما يهتم بنوع اختصاصه، أو بنوع تجاربه وخبراته، وإذا عرض لشيءٍ من ذلك, فإنما يكون من أجل تصوير شخصيته أكثر من الاهتمام بما يصدر عنها من رأي. ومن الأمثلة على هذا النوع من الأحاديث مقابلةٌ بين صحفيٍّ وممثلٍ عالميٍّ زار مصر لأول مرة في حياته، أو مقابلة بينه وبين شخصية عالمية مرموقة في السياسة، كشخصية "روزفلت"، أو "ترومان"، أو "ستالين" في زيارتهما لمصر كذلك لأول مرة، ومن أمثلة ذلك أيضًا ظهور شخصية أدبية بمصر على حين غرة، كشخصية "برناردشو"، أو شخصية ذات صبغة دينية كشخصية، "أغا خان" ومن الأمثلة على ذلك أيضًا تعيين وزير جديد في الوزارة, يريد الجمهور أن يعرف شيئًا عن ماضي حياته، ومنها كذلك ما أقدمت عليه صحيفة "الأهرام" يومًا من عرض لشخصية المحامية الزنجية الأمريكية التي زارت مصر، وكان ذلك في عددها الصادر في 4/ 5/ 1945, ونحو ذلك. رابعًا: حديث الجماعة هناك طريقتان لحديث الجماعة: الأولى: أن يختار الصحفيّ جماعةً معينةً من العمال، أو الفلاحين، أو من المدرسين، أو المحامين، أو المهندسين، ويوجه إليهم سؤالًا واحدًا لا يتغير، ويحصل منهم على الإجابة، وبهذه الطريقة يستطيع الصحفيّ أن يخرج بصورةٍ صادقةٍ لقطاعٍ معينٍ في مساحة الرأي العام, وظاهر من هذه الطريقة أنها قريبة الشبه بالإحصاء أو بالاستفتاء، وأنها غالبًا ما تستخدم في البحوث الاجتماعية، وتهتم بها الصحافة في أوقات خاصة كالأوقات التي تسبق الانتخابات العامة، أو الأوقات التي تسبق التغيرات السياسية المنتظرة، ونحو ذلك.

والثانية: هي أن يسأل الصحفيّ طائفةً من المتخصصين في فنٍّ من الفنون، أو علم من العلوم, ذات الصلة الوثيقة بمشكلةٍ من المشكلات التي تهتم الصحيفة ببحثها, والوصول فيها إلى حلٍّ. خذ لذلك مثلًا: مشكة تحديد النسل، ففيها يستطيع الصحفيّ أن يسأل رجال الدين، ورجال الطب، والإخصائيين الاجتماعيين، وعليه أن يجمع آراءهم كلها في صعيدٍ واحدٍ، ومن حقه أن يضيف إليها آراء الأطباء، ورجال الدين، ورجال الاجتماع في البلاد الأخرى. وتسمى هذه الطريقة الثانية بطريقة: "النادي", وتحتاج من الصحفيّ إلى ثقافةٍ واسعةٍ من جهةٍ، ومهارةٍ متفوقةٍ في فهم آراء المختصين، والقدرة على عرضها من جهةٍ ثانيةٍ. خامسًا: حديث المؤتمرات تهتم الصحافة دائمًا بالحصول على أحاديث من المسئولين, سواء أكانوا وزراء، أم رجال أعمال, ونحو ذلك. والطريقة المتبعة هي أن يجمع الوزير، أو الرجل المسئول, ممثلي الصحف المقيمين معه في مكان واحد، ويحدد لهم وقتًا للاجتماع، ثم يدلي إليهم مجتمعين بحديثه، وبعد ذلك يجيب عن الأسئلة التي توجه إليه منهم. وفي البلاد الراقية تتبع طريقة المؤتمرات الدروية، كتلك التي تقام في "واشنطن" بالبيت الأبيض، حيث يدلي رئيس الجمهورية, أو من يقوم مقامه بحديث للصحف. وهناك في نفس الوقت مؤتمرات صحفية تحتاج إليها الحكومات

لتفسير موقف لها أو معاهدة تعقدها، أو مشكلة تريد عرضها على الشعب، أو تغيير هام في الدستور يرى المصلحة في إجرائه. وفي هذا النوع الأخير بالذات -وهو حديث المؤتمرات- لا تنفرد بنشر الحديث صحيفة دون أخرى. وهذا وذاك, يدعونا إلى الكلام عن المراحل التي تتبع عادةً في الحصول على الحديث الصحفيِّ على النحو الذي نراه في الفصل التالي:

مراحل إعداد الحديث الصحفيّ، ونموذج له: يقول الأستاد "كلايتون" في موضوع فن الحديث الصحفيّ ما مؤداه: "إن على المخبر أن تكون له صفات البائع، فهو مضطرٌ إلى أن يذيب شخصيته في شخصية محدثه، وتلك صفة ضرورية لا يقصد بها إلّا الإقناع وحده فقط، ولكنها ألزم ما تكون في الحقيقة لإيجاد المشاركة الوجدانية بينه وبين المتحدث، ونحن نعلم أن الطبيعة البشرية تجعل الناس يميلون إلى التبسيط في الحديث بحريةٍ وصراحةٍ مع أولئك الذين يشاركونهم عواطفهم ومذاهبهم, أكثر من أولئك الذين يعارضونهم معارضةً ما في كل ذلك، أو يقيمون من أنفسهم أوصياء على فكرةٍ معينةٍ، أو رأيٍ معينٍ". وعلى هذا تقوم مشكلتان في وجه المخبر الصحفيّ الذي تكلفه الصحيفة بالحصول على حديثٍ ما: الأولى: كيف يمكنه الاتصال بالشخص الذي يريد أن يتحدث إليه؟ والثانية: كيف يتمكن من استدراجه للتحدث بحريةٍ تامةٍ في موضوع يعده النشر؟ والحق أنها مهمة دقيقة تلك التي يقوم بها الصحفيّ في هذه الحالة، غير أنها تتم غالبًا على مراحل, أهمها ما يلي: أولًا: مرحلة الإعداد للحديث الصحفيّ وتنقسم هذه المرحلة نفسها إلى ثلاث خطوات، هي:

أ- خطوة الوقوف على أكبر قدر ممكن من المعلومات الخاصة بشخصية المتحدث. ب- خطوة الدراسة المستوفاة لموضوع الحديث من حيث هو. جـ- خطوة الإعداد لطائفةٍ من الأسئلة التي تلم بأطراف الموضوع لكي يجب عنها المتحدث، بقدر المستطاع. أما دراسة شخصية المتحدث، والوقوف على أكبر قدرٍ ممكنٍ من المعلومات الخاصة بذلك, فإنها من ألزم الأشياء التي يتوقف عليها نجاح المخبر الصحفيّ، أو هي شرطٌ هامٌّ في نجاح مهمته, فعليه إذن أن يدرس هذه الشخصية التي وقع عليها اختياره، وأن يتعرف ما أمكنه على ميولها وطباعها، بل خيرٌ له في هذه الحالة أن يكشف بنفسه عن بعض ما تميل إليه هذه الشخصية من هوايات, وكثيرًا ما يستعين الصحفيّ على ذلك بقصاصات الصحف والمجلات، وأقوال الأصدقاء، والمعارف، والأقرباء, والمعجبين، وأحيانًا يصل إلى ذلك عن طريق الكتب التي تنسب إلى هذه الشخصية، أو الآراء التي عرفت بها في المجتمع، ويبالغ "أميل لودفيج" في ذلك, فيوجب على المخبر الصحفيّ أن يحصل على صورة شمسية للمتحدث يطيل النظر فيها، ويدرسها جيدًا قبل الذهاب إليه لأخذ الحديث. وثَمَّ نقطة هامة تتصل بهذه المرحلة أيضًا, هي اختيار المكان المناسب لأخذ الحديث، فبعض المتحدثين يجدون حرجًا في التحدث إلى المخبرين الصحفيين بالمكاتب الرسمية، ويؤثرون التحدث إليهم في المنزل, وآخرون على العكس من ذلك. أما دراسة موضوع الحديث, فإنها تتطلب من المخبر الصحفيّ أن يزوِّدَ نفسه بأكبر قدر ممكن من البيانات والمعلومات عن هذا الموضوع بالذات، فليس يشجع المتحدث على الحديث إلّا إحساسه بأن الذي يخاطبه

متحمسٌ لموضوعه، عارفٌ بدقائقه وأهدافه، مُلِمٌّ بجوانبه وأطرافه، وإذ ذاك ينسجم المتحدث مع مندوب الجريدة، وينطق معه في الحديث انطلاقًا تامًّا. وأما خطوة إعداد الأسئلة فهي ضرورية كذلك لنجاح الحديث الذي يريد الحصول عليه، ومتى كان مندوب الجريدة دارسًا لموضوع الحديث على النحو المتقدم, فإنه يستطيع أن يضع الأسئلة الصحيحة التي يتوجه بها إلى المتحدث. ومع هذا وذاك, ليس على المخبر الصحفيّ أن يتقيد بهذه الأسئلة التي يضعها, وإلّا فسدت خطته، ذلك أن أسئلة الصحفيّ ليست إلّا مرشدًا له فقط، والصحفيّ الناجح هو الذي يقدر على تكييف نفسه بظروف الحديث وبشخصية المتحدث، إن الأمر إذن متروكٌ لحسن تصرف الصحفيّ، وقدرته على مواجهة الموقف. ثانيًا: مرحلة قيادة الحديث: إن هذه المرحلة تتخذ ثلاث خطواتٍ أيضًا، هي: أ- خطوة استهلال الحديث. ب- خطوة توجيه الأسئلة للحصول على أكبر قدر ممكن من البيانات الخاصة بهذا الحديث. جـ- خطوة المراجعة. فأما من حيث الخطوة الأولى, فإنها تعتمد على ذكاء الصحفيّ، وحسن اختياره كذلك، فقد يبدأ هذا الصحفيّ حديثه عن صورةٍ جميلةٍ وجدها معلقة على الحائط، أو تحفة فنية وضعت على المنضدة، أو كلمة رائعة، أو شعار جميل، أو مثل حكيم وجده مكتوبًا على المكتب، أو عنوان جذاب لكتاب حديث وجده بين الكتب المرصوصة أمامه، وهكذا.

ومن هذه البداية يستطيع الصحفيّ أن يتطرق إلى هواية المتحدث, ثم من هذه الهواية يصل غالبًا إلى موضوع الحديث. وتأتي بعد ذلك خطوة توجيه الأسئلة، وإذ ذاك ينبغي للمخبر الصحفيّ أن يلوذ بالإصغاء التام لمحدثه، وهنا ملاحظة قد تؤخذ على بعض المخبرين الصحفيين, وهي أن أحدهم قد يأتي لزيارة شخصية كبيرة، ويمطرها وابلًا من أسئلته، ثم ينزلق المخبر نفسه في إذاعة ما يعرفه من الأخبار، وينساق في الحديث انسياقًا ينسى معه مهمته، كل ذلك والشخصية التي أتى لزيارتها تصغي إليه، وقد تجد في طريقته هذه تخلصًا تخرج به من موضوع الحديث متى أمكن ذلك! وثَمَّ خطأٌ آخر يقع فيه المخبر الصحفيّ أحيانًا، وهو حرصه على أن يكتب كل كلمة تخرج من فم محدثه، فيصرفه ذلك على حسن قيادة الحديث، ويشعر محدثه بأنه مدرس، أو محاضر في حجرة الدرس أو المحاضرة. والمهم في توجيه الأسئلة ألَّا تصاغ بطريقةٍ تكون الإجابة عنها بلفظ "نعم" أو "لا" فإذا سألت محدثك: هل تظن أن سياسة التعليم الجديدة ستأتي بالثمرة المرجوة؟ فإن الإجابة في هذه الحالة ستكون: "نعم" أو "لا"، أما إذا سألت محدثك: ما هي العوامل التي تراها في نظرك مساعدة على نجاح السياسة الجديدة في التعليم؟ فإن ذلك يكون أدعى إلى التفكير في هذه العوامل. على المخبر الصحفيّ إذن أن يجتهد في تحديد أسئلته حتى تكون الإجابة عليها واضحة ونافعة، وهنا يقول الأستاذ "إميل لودفيج". "ليس المهم مقدار ما يقوله المتحدث، بل كيفية الإجابة، وطريقة انفعال المتحدث بأسئلة المندوب الصحفيّ". وباختصار: ينبغي للمخبر الصحفيِّ دائمًا أن يذكر الأسئلة التقليدية الستة:

ماذا؟ لماذا؟ من؟ متى؟ أين؟ كيف؟ فإن الإجابة عنها تلم غالبًا بالموضوع من جميع جوانبه. ثم تأتي خطوة "المراجعة"، وهي من الخطوات الشاقة المرهقة لمندوب الجريدة، ففيها يحرص المندوب على مراجعة ما فهمه من الحديث، وتصحيح ما جاء به من أخطاء، وذلك في الأسماء، أو في التواريخ، أو في الأرقام أو في الأحكام. ومعلوم أن الصحفيَّ إنما يثبت في أوراقه أقل قدرٍ ممكنٍ من المذكرات والبيانات في أثناء الحديث, حتى لا يضيق به المتحدث، ذلك أن مهمة الصحفيّ الناجح هي في أن يحصر مجهوده في تهيئة ذاكرته قبل تهيئة مذكراته، لتستوعب هذه الذاكرة أكثر ما يمكن من التفصيلات التي يبادر إلى تدوينها فور الانتهاء من الحديث، وإذ ذاك يستطيع الصحفيّ أن يستوثق من بعض المعلومات، أو التفصيلات التي يشك فيها، وذلك قبل الانصراف من حضرة محدثة، ويجوزله أن يعود عليه السؤال بعد ذلك عن بعض هذه المعلومات أو التفصيلات متى رأى ضرورة لذلك. وأخيرًا تأتي المرحلة الأخيرة من مراحل أخذ الحديث، وهي: ثالثًا: مرحلة صياغة الحديث هنا ينبغي للصحفيّ أن يتوخى الدقة والأمانة والصدق في كتابة الحديث، وقد كانت الصحافة في الماضي - حرصًا منها على ذلك- تنشر الأسئلة والأجوبة نشرًا حرفيًّا دقيقًا، ولكن الصحافة الحديثة عدلت عن هذه الطريقة، ووجدت فيها ما يبعث على الملل والسآمة، فاستعاضت عنها بطريقة: "القصة الإخبارية" واتخذتها قالبًا فنيًّا لصياغة الحديث، وعاملته معاملة الخبر في ذلك، ونحن نعرف أن هذا القالب الفنيَّ من قوالب الصباغة يتألف عادةً من جزئين هما:

"الصدر LEAD": وهو ما يحتوي على أهم نقط الحديث, مع تصويرٍ حذَّابٍ لشخصية المتحدث بقدر الإمكان. و"الصلب BODY": وفيه الأسئلة والأجوبة، وذلك بطريقة الأسلوب المباشر حينًا، والأسلوب غير المباشر حينًا آخر. وفي صلب الحديث, لا يجد المحرر الصحفيّ غنًى عن عنصر "الوصف", وكثيرًا ما يكون ذلك من العناصر التي تجذب القارئ؛ لأن الوصف كثيرًا ما يضفي على الحديث نضارةً وحيويةً، وبه يستطيع المحرر الصحفيُّ أن يخرج قليلًا من جوِّ الأسئلة والأجوبة إلى جوٍّ كله طرافة وإمتاع وتسلية، والمهم في كل ذلك أن يكتب الحديث بطريقة تَنُمُّ عن شخصية المتحدث نفسه، أو صاحب الحديث، ويكشف عن آرائه ونزعاته وأفكاره واتجاهاته، ولا يكون ذلك إلّا عن طريق الأوصاف التي تتخلل الحديث، فإذا به نابض بالحياة، موضح لوجهة نظر المتحدث توضيحًا تامًّا، وبهذه الطريقة وحدها يستطيع المحرر أن يسلط جميع الأضواء على شخص محدثه. ومهما يكن من شيءٍ, فإن لكل نوع من الأنواع السابقة للحديث الصحفيّ طريقته الخاصة في الأداء: 1- ففي حديث الحقائق أو الأخبار يحصر المحرر عنايته في الحقائق الهامة في نظر القارئ، معبرًا عنها بأسلوبٍ تقريريٍّ مباشر، يأتي بعده تلخيص دقيق لهذه الحقائق، وإذا ما كانت شخصية صاحب الحديث مجهولة للجمهور، أو كانت أهميتها مقصورةً على كونها المصدر الوحيد للحقائق التي يتضمنها الحديث، ففي هذه الحالة تسلط الأضواء على الحقائق، ولا تسلط على المتحدث. مثال ذلك الحديث الصحفيّ حول تنفيذ مشروعات السد العالي، والسكك الحديدية، ومصانع الصلب والسماد, إلخ. ففي المثال الأول, وجدنا الأهرام، بتاريخ 5/ 5/ 1955, تعنى ببيان

المبالغ التي يتطلبها المشروع، والخطط التي رسمتها الحكومة لذلك، وأغفلت تمامًا ذكر الأسماء التي استقت منها هذه المعلومات، والبيانات، والتفصيلات, ونحو ذلك. 2- وفي حديث الرأي, ينبغي أن تعنى المقدمة أو "الصدر" بإيراد الرأي الذي صرح به المتحدث، وكثيرًا ما يكون اسم صاحب الحديث من ألزم الأمور في الأحاديث التي من هذه النوع. ففي موضوع: "جواز إفطار المسلم الصائم في رمضان" أو موضوع "حق المرأة في الانتخاب" ونحو ذلك ينبغي أن نذكر الأسماء في صراحة وجلاء، أما إذا كان الموضوع يختص بتغيير نظام من أنظمة التعليم، أو نظام من أنظمة القضاء أو الإدارة، أو التموين، فيكتفي في ذلك بذكر العبارات العامة، كأن تقول: "صرح وزير التربية والتعليم، أو وزير العدل بكذا، أو صرح كبير مسئول في وزارة التربية والتعليم، أو وزارة العدل بكذا" وهكذا، وكثيرًا ما ينسب الحديث الصحفيّ في هذه الحالة إلى الهيئات العامة، وهكذا، والمجالس الكبرى "كالمجلس الأعلى للجامعات" أو "المجلس الأعلى للتعليم"، أو "مجلس الخدمات" ونحو ذلك. وتستخدم بعض الهيئات لهذا الغرض موظفا يطلق عليه اسم مدير العلاقات العامة، وتكل إليه في بعض الأوقات مهمة الاتصال بمندوبي الصحف، وإمدادها بما تحتاج إليه من البيانات الصالحة للنشر بالصحيفة. وكثيرًا ما ينوب هذا الموظف الخاصة عن رئيسة في الوزارة، ومع هذا وذاك, فإن المقابلات الشخصية لرئيس العمل تكون أجدى نفعًا، وأوقع أثرًا، وأقدر على تصوير الرأي. 3- وفي حديث المعلومات, أو التسلية والإمتاع, يحصر المحرر اهتمامه في المعلومات والحقائق ذات الطابع الإنسانيّ، وإذا ذاك يجتهد المحرر عادةً في أن يهيئ الجو المناسب للقصة الإخبارية، أو الحديث الصحفيّ الذي من

هذا النوع، وبعبارةٍ أخرى يقيم مسرحًا مناسبًا لهذه القصة، ثم يدعو محدثه للوقوف على هذا المسرح، والتحدث منه إلى جمهور القراء, وفي ذلك يقول "إدوارد برايس" المراسل السابق لجريدة "شيكاغو ديلي نيوز": "إن الناحية الإنسانية هي التي يجب أن تستأثر باهتمام الصحفيّ حين يريد الحصول على هذا النوع من الحديث، فهو يعلم أن الانفعالات العاطفية تظهر في صورة أفكار، وأن الأفكار تترجم إلى أعمال، وأن الأعمال هي التي تقرر مصير العالم، وعلى ذلك, فإن الانفعالات والعواطف، والأفكار, هي العناصر التي ينبغي للمحرر أن يهتم بها وبإظهارها؛ ليحصل على قراءة معلومات جذابة ومسيلة في هذا الموضوع، فإنما الحديث الصحفيّ مرآةٌ تنقل صورةً رائعةً لشخصيةٍ مرموقةٍ، فتعكس للقراء صفاتها الروحية والخلقية والعقلية، سواء أكانت هذه الشخصية المرموقة شخصية فنان، أم عالم، أم أديب، أم سياسيّ محنك، أم بطل من أبطال المسرح". وهذا النوع من الأحاديث تهتم به الصحف الأسبوعية، أو الدورية أكثر من الصحف اليومية. 4- وأما حديث الجماعة, فإنه أقرب شيء إلى التقرير المبنيِّ على الإحصاء, وذلك إذا كان الحديث على شكل سؤالٍ واحدٍ يلقى على جماعة من المدرسين أو المحامين أو الأطباء أو المهندسين، وربما كان أقرب شيء إلى التقرير المبنيِّ على التسجيل والإحاطة إذا أخذ على شكل استفتاء تشترك فيه جماعات كثيرة، وفي كلتا الحالتين لا يطلب من المحرر الصحفيّ أكثر من اصطناع الدقة، والوضوح، وتقرير الواقع الملموس دون تدخل منه في تغيير هذا الواقع. ومعنى ذلك أن درجة التحرير في هذا النوع من أنواع الحديث لا ترقى في جملتها إلى درجة التحرير في الأنواع التي أشرنا إليها قبل ذلك.

5- وفي حديث المؤتمرات يكون الأمر أيسر على مندوب الصحيفة؛ لأن التحرير في مثل هذه الحالة لا يعدو أن يكون نقلًا للحديث الذي يسمعه المندوبون جميعًا من رجل معين من رجال الحكومة، أو من ذوي الأعمال الجليلة في الدولة. تلك هي الطريقة العامة التي تتبع في صياغة الأنواع الستة للحديث الصحفيّ. وقد لاحظنا أنه إذا كانت القصة الخبرية، أو الصياغة الصحفية, هي المتبعة غالبًا في حديث الحقائق، وحديث الرأي، ونحو ذلك، فإن "الصيغة الأدبية" هي التي تتبع في حديث المعلومات، أو حديث التسلية والإمتاع، ففي هذا الأخير يكون متسعًا أمام المحرر الصحفيّ لعبارةٍ أنيقةٍ، أو لفتةٍ ظريفةٍ، أو كلمةٍ أخاذةٍ، أو صورةٍ جذابةٍ، أو نكتة بارعة، وفي هذه الحالة لا يتحتم على الصحفيّ أن يركز النقط الرئيسة تركيزًا تامًّا في صدر الخبر؛ لأنه في هذه الحالة إنما يختار لنفسه قالبًا أدبيًّا لا قالبًا صحفيًّا، ولكن له أن يوزع هذه النقط الرئيسية على أجزاء حديثة بالطريقة التي يراها, ذلك أن المهم في هذا النوع من الحديث ليس هو الإعلام أو تقديم الآراء أو الأفكار، ولكن المهم هو العرض، وبراعة الوصف، وغير ذلك من الأمور التي تتطلب حسًّا أدبيًّا أكثر منه صحفيًّا. وأخيرًا تصل إلى المرحلة الرابعة من مراحل الحديث الصحفيّ، وهي: رابعًا: مرحلة النشر قلنا: إن الصحافة القديمة -حرصًا منها على الدقة والأمانة- كانت تنشر الأسئلة والأجوبة نشرًا حرفيًّا، أما الصحافة الحديثة, فقد استعاضت عن ذلك بطريقة "القصة الخبرية"، ومعنى ذلك أن الصحف الحديثة ترى

أن من الأصوب أن يتجنب المحرر الأسلوب الذي يأتي فيه بالسؤال، ثم يتلوه بالجواب، أو بالأسلوب الذي تستخدم فيه فقرات طويلة من البيانات التي يصرح بها المتحدث، وترى الصحف الحديثة أن يأتي المحرر بجزء من هذه البيانات، ثم بملخصٍ بسيطٍ لها، ثم يأتي بجزء آخر من البيانات، ثم بملخصٍ بسيطٍ لها، وهكذا، وذلك كله في أسلوب غير مباشر، وطريقته تعتمد في أكثرها، على وصف شخصية المتحدث نفسه، ذلك أن إعداد الحديث للنشر لا بد فيه من إظهار شخصية المتحدث, ما دام ذكر اسمه ضروريًّا، أما المظهر الخارجيّ للحديث: فقد يكون ذا طابع يغلب عليه الطابع الرسميّ الخالص، أو يكون ذا طابع تغلب عليه الصبغة الإنسانية, أو الودية الخالصة. فإذا كان القصد من الحديث هو الحصول على الحقائق، فمن الطبيعيّ أن تكون الحقائق أولى من الأسماء بعناية الكاتب، والعكس صحيح في الحالات الأخرى -كما أوضحنا ذلك. ومهما يكن من شيءٍ, فليس هناك بُدٌّ في نشر الحديث من الأمور التالية: 1- أن يوضح للقارئ خطورة صاحب الحديث، حتى يرى أهميته بالقياس إلى الموضوع، فإذا كان الحديث مما يتصل برأيٍ من الآراء, فعلى المحرر أن يوضح للقارئ أهلية المتحدث لإعطاء هذا الرأي، وإن كان الموضوع عن حادثٍ ما, وجب أن يكون المتحدث شاهد عيان، أو مشتركًا في الحادث نفسه. 2- أن يحذر المحرر-كما قلنا- إقحام شخصه في الحديث, أو أن يتخذ من نفسه محورًا له. 3- أن يوضح المحرر للقراء القصد من الحديث، والغاية منه بجلاء تامٍّ، وأن يقرن هذه الغاية أو القصد بشخص المتحدث وحده ليس غير. 4- على المحرر ألَّا ينسى الجانب الإنسانيّ في الحديث كلما أمكن

ذلك, فعن هذا الطريق يستطيع القراء أن يتابعوا هذه المادة، وأن يجدوا في قراءتها متاعًا ولذةً. تلك هي المراحل الأربع التي يسير عليها مندوب الصحيفة في أخذ الحديث، وتلك هي الخطوات التي يسير عليها في قطع كل مرحلة منها. ولا ينسى الباحثون في هذا الفن أن يوصوا في النهاية بالمظهر الخارجيّ لمندوب الصحيفة، استنادًا في ذلك على أن الوجه والمظهر الخارجيّ هما سفير المرء عند من يريد التعرف إليهم دائمًا من الناس. وبعد, فلا ينسى الصحفيّ كذلك أن الحديث الصحفيّ طريق لكسب صداقات جديدة، وإنشاء علاقات مفيدة, يستطيع أن يعتمد عليها في كثير من المواقف الصحفية التي تعرض له في حياته المستقبلة. بقي أن نقدم نموذجًا واحدًا لنوع من الأحاديث الصحفية، وليكن حديث الحقائق والمعلومات الذي يمكن أن نجد فيه تطبيقًا علميًّا لأكثر القواعد والأصول التي أشرنا إليها. وقد اخترنا لذلك حديثا أجراه الدكتور "محمود عزمي" باسم صحيفة "الأهرام" مع سلطان مراكش "محمد بن يوسف" وهو الحديث الذي نشرته الجريدة المذكورة بالعدد رقم 3520, في يوم الثلاثاء 27 من مارس سنة 1951، وهذا نصه:

نموذج للحديث: سلطان مراكش يشرح الموقف في بلاده: ضغط الإقامة العامة الفرنسية على جلالته: حديث للسلطان تختص بنشره "الأهرام". وصلتُ إلى الرباط عاصمة مراكش مساء الخميس الخامس عشر من شهر مارس الحالي، وكان همي الأول أن أتشرف بالمثول بين يدي جلالة السلطان محمد الخامس؛ لكي أتعرف خلال الحديث مع "المصدر الأول" نصيب الحقيقة فيما أذيع بمصر من تطور العلاقات خلال الثلاثة الشهور الأخيرة بين "القصر الشريف"، والإقامة العامة الفرنسية. فما إن أضحى الضحى بعد ليلةٍ نعمت فيها بالنوم الهادئ, إثر رحلة جوية طويلة من القاهرة إلى أثينا، فروما، فتونس، فالجزائر، فالدار البيضاء، حتى هرولت إلى الفناء السلطانيّ الذي يحيط به سور رفيع. وقصدت إلى عتبة "المخزن" وهو اللفظ الذي يعبر به عن الحكومة المغربية الأصيلة- فاجتزتها، وتقدم إليَّ من كانت عليه النوبة من الموظفين، واليوم يوم جمعة، وتركت لديه بطاقتي برسم الصدر الأعظم "السيد المقري" الذي جاوزت سنه الرابعة بعد المائة, وأفضيت إليه بالتماس التشرف بمقابلة حضرة صاحب الجلالة السلطان. صلاة السلطان: وسألت: هل يخرج السلطان للصلاة؟ وكان قد أذيع في القاهرة أن الإقامة العامة الفرنسية قد منعت جلالته من تأدية فريضة الجمعة, فقيل لي: إن الموكب السلطانيّ يخرج إلى المسجد على عادته عند الزوال، فرأيت

مع السلطان في القصر: وأُبْلِغْتُ من بعد أن منتصف الساعة الثانية عشرة ظهر الثلاثاء, العشرين من شهر مارس الحالي, قد حُدِّدَ موعدًا لتشرفي بالمقابلة السلطانية، وقبيل الموعد قصدت إلى القصر الشريف، فاستقبلني حجابه، ورافقوني إلى مكتب وزيره، فاستمهلت فيه لحظاتٍ جاء على إثرها مستشار الحكومة الشريفة الفرنسيّ، فدعانا نحن الاثنين إلى القاعة السلطانية. وهناك كان جلالة السلطان على أريكته، فتقدمت إليها، وتشرفت بالمصافحة، ثم جلست على مقعد على يسار الأريكة، وجلس إلى جانبي المستشار الفرنسيّ, بعد أن أشار له السلطان بالجلوس دون المصافحة، وقعد الوزير على وسادةٍ إلى يمين الأريكة. وتفضَّل السلطان فغمرني بظرفه؛ إذ بادرني باستطالة المدة التي انقضت بعد زيارتي الأولى لمراكش، فقد قاربت الخمس سنوات، وخصني بعطفه؛ إذ أضاف أنه يود لو يراني مرةً في كل شهر، فلا أقل من أن تكون زيارتي مرةً في كل سنة، وعقب على ذلك بترديده أن "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا". تحية لمصر: وسألني جلالته عن مصر وأحوالها، وأعرب عن خالص شكره لاهتمامها به وببلاده، وحمَّلني شرف الإفضاء بعظيم تحيته، وصادق عرفانه للشعب المصريّ جميعه، وكذلك لجامعة الدول العربية، وأمينها العام، وكان جلالتهه يذكر ذلك كله في عبارات قوية تخرج من الأعماق. عندي سؤال: ثم تقدمت إلى جلالته بأن لديّ سؤالًا أود لو أستطيع أن ألقيه، وأنا أعرفه بالغًا حدًّا من الدقة غير قليل، ولكني ألح في إلقائه إلحاحًا، ولا أود

في الوقت نفسه أن يكون في الإدلاء به شيء من الإحراج، فلا دل به، وليتصرف فيه جلالته كما يشاء, فتلطف جلالته، وأشار إليَّ بالإفصاح، فقلت: إنا سمعنا في مصر بوقوع نوعٍ من الضغط والإكراه، وأود لو استطعت أن أعلم الجهة التي صدر عنها الضغط والإكراه: هل هو الجنرال "جوان", أو قبائل الجلاوي، أو ضمير جلالتكم؟ فأجاب جلالته على الفور: "إن هذا السؤال سياسيّ، ويحسن أن تقدمه مكتوبًا، وسأجيبك عنه كتابة أيضًا، وستكون إجابتي بغاية الصراحة. وعاد جلالته يكرر في حزم: "قدم ما تشاء من أسئلة، وسأجيبك عنها كتابةً، وبكل صراحة". وسألني جلالته عن برنامجي في اليومين التاليين، فأجبت أني قاصدٌ إلى طنجة في اليوم التالي، وأني عائد منها ومن الرباط يوم الجمعة. فعقب جلالته بقوله: "ستكون إجابتي المكتوبة عندك يوم الجمعة، وستكون بغاية الصراحة" فشكرت جلالته خالص الشكر، وأحسست عمق ما تنطوي عليه شخصية السلطان من قوة معنوية. وإذ كنت أعرف أن تصريحات الملوك لا يصح نشرها إلّا بإجازتهم, فقد تقدمت إلى جلالته مستأذنًا في نشر الإجابات على أسئلتي، فتفضل جلالته بذلك.

ثلاثة أسئلة: ولما أذن لي جلالته بالإنصراف مررنا في طريقنا بمكتب وزير القصر، فأخذ منه المستشار الفرنسيّ قبعته، وطلب إلى الوزير أن أجلس لأدوّن الأسئلة، فتركت المستشار يمضي، وجلست إلى منضدة الوزير، وأمسكت بالقلم، وعلى ورقة من أوراق القصر السلطانيّ حررت بالمداد الأزرق ثلاثة أسئلة، وقعتها بإمضائي، وأرختها بتاريخ اليوم، ثم كتبت صورةً منها بالقلم الرصاص على ورقة أخرى من أوراق القصر احتفظت بها، وسلمت الأولى للوزير وانصرفت. وقصدت في اليوم التالي إلى طنجة، وأمضيت بها يومين كاملين، ثم عدت إلى الرباط بعد ظهر الجمعة الثالث والعشرين من هذا الشهر. مع وليِّ العهد: وكان قد تصادف وأنا أغادر القصر الشريف, بعد تسليمي أسئلتي لوزيره, أن التقيت في إحدى الردهات بصاحب السموّ الأمير الحسن ولي العهد، فتفضل بدعوتي إلى تناول الشاي بقصره الخاص يوم عودتي من طنجة, فذهبت إليه عند انتصاف الساعة السادسة بعد الظهر. الجرائديّ: وهناك سلمني صورة والده السلطان التي تفضل جلالته بإهدائها إليّ، فأقبلت على قراءة الإهداء وهو: إلى الجرائدي الفذ السيد محمود عزمي ... محمد يوسف, ملك المغرب, أعانه الله. ووقفت وقفة حتى تبينت أن "الجرائديّ" إنما هو التعبير المقابل عندنا لتعبير "الصحفيّ".

ملك المغرب: كما تبينت صحة التلقب بملك المغرب؛ لأن جلالته إنما هو العاهل الأوحد لسلطنة مراكش التي يسمونها "المنطقة السلطانية"، و"المنطقة الخليفية" و"المنقطة الدولية" أيضًا، وإذا كان مقر جلالته الرسميّ في الرباط, فإن له خليفة في تطوان, ومندوبًا في طنجة. واعتززت بالهدية الكريمة، وتساءلت عن الإجابة على أسئلتي, فناولني الأمير وليّ العهد الورقة المكتوبة عليها، وإذا كانت بالخط المغربيّ, فقد شاءت إرادة سموه أن يتلوها حتى أقف على كنهها في أسرع وقت. وقد استمعت إليها، كما استطعت أن أقرأها بسهولة فيما بعد، فألفيتها مبينة أحسن إبانة، ووجدتها غايةً في الصراحة، على سابق نطق جلالته! حديث السلطان: وها هي أسئلتي، وإجابات ملك المغرب عليها. الضغط والإكراه: السؤال الأول: أذيع أن توقيع جلالتكم على "بروتوكول" 25 فبراير سنة 1951, كان تحت ضغط أو إكراه، وقد سمعت منذ قدومي إلى مراكش في هذا الصدد روايات: يقول بعضها: إن التوقيع كان نتيجةً لتهديدٍ من قِبَلِ الجنرال "جوان"، ويقول بعضها الآخر: إنه كان نتيجة لحركة صدرت عن القبائل بإيعاز من الجلاوي. ويقول بعضها الآخر: إنه يرجع إلى ضمير جلالتكم الذي شاءت حكمته أن ينقذ بلاده من شر التلاحم. ترى أية رواية من هذه الروايات أُصَدِّقُ؟

بل أيها الصحيح؟ الجواب: إن توقيعنا على "بروتوكول" 25 فبراير سنة 1951, كان نتيجةً لعوامل متعددة، أهمها: 1- التهديد الذي وجه إليه بواسطة وزير القصور والتشريفات من بعض شخصيات الإقامة العامة، وذلك في أثناء المخابرات التي كانت جاريةً بين القصر، والإقامة العامة في ذلك اليوم. 2- حركة القبائل التي أُتِيَ بها من جهاتٍ متعددةٍ دون أن تعلم الباعث الحقيقيّ على تحريكها، فرابطت على أبواب فاس، وسلا، والرباط. 3- اجتناب ما كان يتوقع من عواقب سيئة، للعوامل الآنفة الذكر، فاضطررنا مع هذه الأسباب جميعها إلى إرضاء مطالب الإقامة العامة. سبب الأزمة: السؤال الثاني: قيل: إن الأزمة ترجع إلى تعطيل إصدار بعض الظهائر "أي: المراسيم", فإذا كان هذا صحيحًا، ترى ما هي أسباب هذا التعطيل؟ الجواب: إن سبب الأزمة هو غير ما أشيع من أننا رفضنا بعض التشاريع القانونية المقترح عليها قبولها؛ إذ أن الأزمة في الواقع ترجع إلى الرغبة التي أعرب عنها مقيم فرنسا العام في أن يصدر منا استنكًار لأساليب حزب الاستقلال، وإلى عدم نزولنا على هذه الرغبة. ولقد قام المقيم العام هذا الطلب قبل سفره إلى أمريكا بلهجةٍ لا تخلو من تهديد، أما مشاريع الظهائر الشريفة المقترح علينا إمضاؤها، فإننا

لا نرفضها، أو نشير بتعديلها, إلّا بعد أن تدرسها لجان قصرنا الشريف، وتبدي نظرها فيها, مستندةً إلى الأوفقة "أي الاتفاقيات"، والمعاهدات، وسائر فروع القانون. آمال السلطان: السؤال الثالث: ما هي آمال جلالتكم في مستقبل مراكش، وفي علاقاتها مع الجمهورية الفرنسية؟ الجواب: إن رغبتنا شديدةً في تقدم البلاد، ورقيها رقيًّا ديموقراطيًّا، وجميع أعمالنا ومساعينا تهدف إلى إحلال بلادنا العربية الإسلامية في المكان اللائق بماضيها المجيد. وأملنا عظيم أن تنظر حكومة الجمهورية الفرنسية، اعتمادًا على ما بين الدولتين من روابط الصداقة إلى مطامح شعبنا الشريفة بما يليق بهامن العناية. وفي نشر هذه النصوص اليوم كفاية, وسنتابع الإدلاء بملابسات استقصائنا ونتائجها في الأيام التالية, محمود عزمي. بين الطريقة القديمة والحديثة في نشر الحديث: لا بد أنك لا حظت أيها القارئ أن الحديث الصحفيّ الذي كتبه الدكتور "محمود عزمي" يحظى بميزتين هما: ميزة السرد وميزة الوصف، ولأن الحديث لم يكن على شكل حوار بين السلطان والمحرر, فإنه فقد في الواقع شيئًا من الحيوية التي تتمم الحديث بالطريقة الحوارية، وليس الذنب في ذلك على المحرر، ولكن ذنب السلطان الذي أصرَّ على أن تكون إجاباته

تحريريةً لا شفويةً، من أجل ذلك, يمكن النظر إلى النموذج المتقدم على أنه مكتوب بالطريقة القديمة لا بالطريقة الحديثة. والواقع أن هناك طرقًا عدة, استحدثها الصحفيون لإجراء الحديث؛ فمن هذه الأحاديث ما يكتب على طريقة الحوار الداخليّ مع النفس، ولعل من أروع الأمثلة عليها حديث للفنان "عبد الوارث عسر" نشرته مجلة "الأسبوع العربيّ" البيروتية, في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر "كانون الأول" سنة 1976، وقام بإجراء هذا الحديث مع الفنان "عبد الوارث" في هذه المجلة الصحفيّ "فاروق البقيلي" وفيه أوضح طبيعة الفنان الرومانسية وصور عواطفه الإنسانية. ثم إن من أشهر الطرق الحديثة في هذا الفن من فنون الصحافة، وهو الحديث طريقة "القصة الإخبارية" ونحن نعرف أن القصة الإخبارية لا بد لها من عنوان، وصدر، وجسم أو صلب، ثم إن الطريقة الحديثة لا غنى لها عن عنصر الوصف الذي يتخلل الحديث الصحفيّ، وهو خير ما يضمن انتباه القارئ وقراءته الحديثة من أوله إلى آخره، وبدون هذا العنصر يصبح الحديث جافًا كل الجفاف, لا يستطيع القارئ متابعته بيسر. والأمثلة على طريقة "القصة الإخبارية" في إجراء الأحاديث الصحفية كثيرة, تطالعنا بها الصحف اليومية والمجلات على الدوام, مؤثرة إياها على غيرها من الطرق؛ لسهولتها ومرونة الصحفيين في كتابتها، وتدربهم عليها. ومن هذه النماذج -على سبيل المثال- حديث صحفيّ للدكتور طه حسين, أجراه معه الأستاذ "كمال الملاخ" المحرر بصحيفة الأهرام، وذلك بمناسبة بلوغ الدكتور "طه حسين" الثامنة والسبعين من عمره, وقد نشر الحديث ومعه صورة للدكتور "طه حسين" جالسًا بمفرده، وأخرى له مع زوجته، وقد نشر بجريدة الأهرام في عددها الصادر في 15/ 11/ 1967.

مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له

مراحل إعادة الحديث الصحفي، ونموذج له ... أن يبدأ استقصائي الأحوال في مراكش بهذا الجانب من الأنباء، وقررت تأدية الصلاة في حضرة السلطان.. وكانت الساعة الثانية عشرة قد انتصفت فيممت شطر المسجد الواقع مقابل القصر، ودلفت إليه، فلم أجد به إلّا قليلًا جدًّا من العاكفين على قراءة القرآن، فاستميزت بينهم واحدًا قعدت إلى جانبه بعد أن صليت ركعتين تحيةً للمسجد، فسمعته يرتل القرآن ويقرؤه بالقراءات السبع. ودهشت إذ فاتت الساعة الثانية عشرة دون أن يزيد عدد الحاضرين بالمسجد إلّا قليلًا، وعلمت بعد ذلك أن ساعة الزوال في الرباط إنما هي الساعة الواحدة بعد الظهر!! فظللت أشاهد الوافدين، والمتوضئين الحاملين معهم "سجاجيدهم". الصغيرة، وغير الحاملين، وأستمع للمرتلين القرآن علانيةً حتى الساعة الواحدة بعد الظهر، وأنا أغيِّر مواضع الساقين مني، تلمسًا للراحة في هذا الجلوس الطويل.. وعزفت الموسيقي، وتقدم فرسان الحرس ومشاته، وتحرك الركب السلطانيّ من القصر متجهًا إلى المسجد، ووقفت العربة السلطانية أمام نيابة الصغير، فدخل منه السلطان إلى مقصورته الخشبية. وأذن المؤذن في الخارج، ودعا الداعي إلى الإنصات في الداخل، وألقى الخطيب الخطبة، ودعا فيها للخليفة محمد الخامس بالنصر والتأييد، وقامت الصلاة, ثم خرج رجال القصر، والوزراء، واصطفوا أمام المسجد تحيةً للسلطان؛ إذ يخرج ويمتطى هذه المرة جواده، ويعود إلى قصره، فأسرعت في الخروج واستطعت أن أقف إلى جانبه، وأحيي السلطان تحيته، فعرفني جلالته, وقد سبق أن حظيت بالمثول بين يديه منذ خمس سنين، وتفضل جلالته عليَّ بالسلام، فسجلت بهذا حضوري.

التحقيق الصحفي وأنواعه وقواليه

التحقيق الصحفي وأنواعه وقواليه ... التحقيق الصحفيّ وأنواعه وقوالبه: كثير من الناس على حقٍّ حين يقولون: إن الجديد في الصحافة الحديثة هو "فن التحقيق الصحفيّ"، وإن كان التاريخ يحدثنا أن التحقيق فنٌّ قديمٌ في الصحافة الأوروبية، فيذكر لنا عن ديفو "DEFOE" أنه أول من اهتدى إلى هذا الفنِّ في الصحافة الإنجليزية، ثم أتى بعده ثور ثكليف THORNELIFF عام 1896 فجعل من فن التحقيق الصحفيّ ركنًا هامًّا في صحيفته الشعبية، "ديلي ميل" وبفضل الجهود التي بذلها هذا الصحفيّ الأخير، وبذلها أمثاله من الصحفيين تغير مزاج القراء الإنجليز، وأصبح هؤلاء القراء يشبعون رغباتهم عن طريق "التحقيق الصحفيّ" أكثر مما يشبعونها عن طريق القصص. ولا غرابة في ذلك, فقد جدَّت ظروف غير وجه المجتمع الإنجليزي إذ ذاك ومنها: أولًا: انتشار التعليم الذي أصبح في متناول أكبر عدد ممكن من أفراد الشعب منذ ذلك الوقت. ثانيًا: انتصار الديموقراطية على الأرستقراطية في انجلترا، ومعها أكثر بلاد العالم المتمدن. ثالثًا: تقدم الوعي الاجتماعيّ، وهو الوعي الذي نبَّه الأذهان إلى كثير من المشكلات الاجتماعية، وحرَّك في النفوس كل رغبةٍ في الوصول إلى حلٍّ لها بمختلف الطرق. رابعًا: تقدم علم النفس، وعلم الأخلاق، وجنوح الكتاب المحدثين في كتاباتهم إلى التحليل النفسيّ لجميع الشخصيات التي يكتبون عنها، سواء

أكانت شخصياتٌ تميل بطبعها إلى الخير، أم كانت تميل بطبعها إلى الشر. والذي لا ريب فيه أنه إلى جميع هذه الأساليب المتقدمة يرجع الفضل في تقدم التحقيق الصحفيّ, لا في الصحافة الإنجليزية أو الأوروبية فقط، ولكن في الصحافة المصرية أو الشرقية، وصحافة العالم كله كذلك. أما الغرض الأساسيّ من التحقيق الصحفيّ, أيًّا كان موضوعه, فهو التفسير الاجتماعيّ للأحداث، والتفسير النفسيّ للأشخاص الذين اشتركوا في هذه الأحداث. ورب قائل يقول: ولكن, ما الفرق بين الخبر والتحقيق؟ نقول: إذا كان الخبر الصحفيّ جوابًا عن الأسئلة الستة المعروفة، وهي: من، ولماذا، ومتى، وكيف، وأين، وماذا، فإن التحقيق الصحفيّ جوابٌ لأداةٍ واحدةٍ فقط من أدوات الاستفهام السابقة، وهي "لماذا"؟ فالخبر يعرض للمادة أو الواقعة، وبَيَّنَ الظروف التي اكتنفتها, والمكان الذي وقعت فيه، والأشخاص الذين اشتركوا فيها، وما إلى ذلك. والتحقيق يحاول الشرح والتعليق، ويوضح الأسباب النفسية والخلقية والمادية، ويفسر الحادث كله تفسيرًا يقوم على شيء من علم النفس، وشيء من الأخلاق، كما يقوم على شيء من علم الإجرام إذا اتصل التحقيق بخبر من أخبار الجريمة. وبهذه الطريقة, يستطيع التحقيق الصحفيّ أن يلقي جملة أضواء على المشكلة المعروضة، ويزيد في قدرة القراء على الاستمتاع به, وتتبع قراءته، وهذا الشرح أو التعليل, هو الذي يجعل للتحقيق صفة الجذب، وهو الذي يكثر من عدد القراء. ورب قائل يقول أيضًا: وما الفرق بين التحقيق الصحفيّ والقصة الأدبية؟

ونقول: أما القصة الأدبية -قصيرة كانت أم طويلة- فإنها تعتمد على الخيال، وقد تصور جزءًا من واقع الحياة في قالب قصصيٍّ ممتاز, على حين أن التحقيق الصحفيّ يعتمد كل الاعتماد على الحقائق الملموسة، والوقائع المحسوسة، والشكاوي التي تصدر عن الناس من وضع معين، من أوضاع الحياة التي يحيونها. ورُبَّ قائلٍ يقول أيضًا: وما الفرق بين التحقيق الصحفيّ، والمقال الافتتاحيّ أو الرئيسيّ؟ وبحسبنا أن نقول: المقال الرئيسيّ إنما يعبر عن رأي الصحيفة، أما التحقيق فلا يعبر عنها، وإن كان مسايرًا لسياستها العامة، والتحقيق صورة من صور الحياة الواقعة, صيغت في قالب صحفيٍّ لا أدبيٍّ، واستعان المحرر في صياغتها بتجاريبه ومطالعاته، ومراجعاته، وتحركاته، واتصالاته، وإن في اعتماد التحقيق على شيء من علم النفس، أو علم الأخلاق، أو علم الإجرام -كما سبق القول في ذلك- ما ينأى بالتحقيق عن أن يكون سردًا علميًّا، أو سطحيًّا، ولكن يجعل منه سردًا إنشائيًّا، يُبْنَى على طريقة جذابةٍ تأسر العقول، وتهفو إليها الأفئدة. ورُبَّ قائلٍ يقول أيضًا: وما الفرق بين التحقيق الصحفيّ، والمقال الأدبيّ ESSAY؟ ونقول: أما الأول فأكثر موضوعية، وأما الثاني فأكثر ذاتية، والأول ألصق بالمجتمع، والثاني أعلق بقلوب الأفراد في هذا المجتمع، وأشد تعلقًا بقلب الكاتب الذي كتب المقال بوحيٍ من شعوره الذاتيّ أكثر من شعوره الجماعيّ. ورُبَّ قائلٍ يقول: وما الفرق بين التحقيق والعمود الخاص بالموضوعات الإنسانية؟ والجواب على ذلك: أن بينهما تشابهًا وثيقًا من جهةٍ، واختلافًا

في الوقت نفسه من جهةٍ ثانيةٍ، فكلاهما يتناول أشخاصًا, وحوادث وقعت في زمن معين ومكان معين، وهما من هذه الناحية متفقان، إلا أن التحقيق -بوصفه فنًّا من فنون التقرير الصحفيّ- له غاية معينة، هي مجرد نقل المعلومات إلى القارئ، أما الموضوعات: أو الأعمدة الإنسانية, فتهدف فقط إلى التسلية، وغرضها الوحيد إثارة إحساساته. يقول الأستاذ كارل وارين: "ومع هذا, فليس هناك خطٌّ واضحٌ يفصل بين الموضوعات الإنسانية والتقرير، فحدودهما تختلط كما تختلط الألوان في قوس قزح, وكثير من المحررين يقولون: إن الموضوعات، أو الأعمدة الإنسانية ليست إلّا امتدادًا للتقرير الصحفيّ"1. ولقد أجرى العلماء إحصاءات كثيرةً لإثبات هذه الحقيقة، وهي أن التحقيق الصحفيّ من ألزم الفنون للصحافة الحديثة، ومن هؤلاء: السيدة "هيلين باترسون" أستاذة فن المقال بإحدى جامعات أمريكا، وإليك خلاصة بسيطة لإحدى هذه الإحصاءات، قالت السيدة "هيلين": "في أمريكا الآن 416 مجلة، وعدد طبعاتها في العام 340و 171 طبعة، وأما عدد الدوريات، بين شهرية ونصف شهرية, وسنوية ونصف سنوية، فيبلغ الآن 11, 481 دورية، وعدد طبعاتها في السنة يقدر بنحو 1.348.197 طبعة، وجميع هذه المجلات والدوريات -بدون استثناء- تعنى عنايةً تامةً بمادتي التحقيق الصحفيّ والحديث الصحفيّ، وذلك فضلًا عن عناية الصحف اليومية بهذه المادة، ويبلغ عدد هذه الصحف الآن 485، كما يبلغ عدد طبعاتها في العام 252.20 طبعة، ولكل صحيفة يومية من هذه الصحف قسم خاص بإعداد المادة الخاصة بكل من التحقيق والحديث.

_ 1 انظر كتاب "كيف تصبح صحفيًّا, ترجمة عبد الحميد سرايا, ص135.

وباختصار: يمكن القول بأن عدد الصحف الأمريكية التي تهتم اهتمامًا خاصًّا بهذه المادة, لا يقل عن 12.331 صحيفة، وبأن عدد الطبعات التي تصدرها هذه الصحف سنويًّا, لا يقل عن 1.373.418 طبعة، وبأنه حتى الآن لم يظهر أن واحدة فقط من تلك الصحف، أو طبعة واحدة أيضًا من تلك الطبعات استطاعت أن تجد نفسها في غنًى عن فن التحقيق بنوعٍ خاصٍّ، وفي هذا ما يدل دلالة صريحة على خطورة هذا الفن من فنون الصحافة1. القوالب الفنية لكتابة التحقيق الصحفيّ: من السهل على المحرر أن يصب تحقيقه الصحفيّ في أحد هذه القوالب الفنية التالية: 1- قالب العرض Expositiour 2- قالب القصة Narrattion 3- قالب الوصف Discription 4- قالب الاعتراف Confession 5- قالب الحديث Interview وليست هذه القوالب كلها بحاجةٍ إلى الشرح، فهي غنية بأسمائها عن شيء من ذلك، ولكن المهم هو أن يختار المحرر الصحفيّ الزاوية التي ينظر منها إلى موضوع تحقيقه حتى يبدو مثيرًا -بقدر المستطاع- لانتباه القارئ. ذلك أن لكل موضوع من موضوعات التحقيق زاوية فنية تناسبه, وقد لا تناسب غيره على الإطلاق.

_ 1 نحن نشارك الأستاذة "هيلين باترسون" تقديرها لفن التحقيق الصحفيّ, وننظر بعين الاعتبار إلى هذه الإحصائية الدقيقة، ولكنا كنا نود أن توضح هذه الإحصائية كذلك شيئًا عن النسبة المئوية لفن التحقيق بين سائر الفنون الأخرى في الصحيفة الأمريكية.

فطبيب يخترع علاجًا لعودة الشباب, لا يصح أن يكتب موضوعه بطريقةٍ علميةٍ جافةٍ تتعرض لوصف الدواء، وطريقة الاستعمال، وإنما يكتفي في مثل هذا الموضوع بمقابلة شخصية للطبيب، وحديث صحفيّ يدور حول الدواء الجديد. وظاهرة غريبة كظاهرة "السيول في قنا" لا بد فيها من الذهاب إلى هذه المدينة من مدن الصعيد، ووصف ما جرى فيها، وقراءة بعض الكتب في الموضوع، واتصال المحرر الصحفيّ ببعض المهندسين المختصين، ولا ينبغي له في مثل هذه الحالة أن يهمل الحديث مع المنكوبين بهذه السيول، والآثار التي تركها فيهم هذا الحادث. وزائرة عادت من رحلةٍ كبيرةٍ في الخارج, يمكن أن تكون موضوع تحقيق طريف, يدور حول عادات الناس في البلاد التي زارتها، ومعرفة شيء عن أخلاقهم ونظامهم في حياتهم الخاصة والعامة، ونحو ذلك. الخطوات التي تتبع في كتابة التحقيق الصحفيّ: لكي ينجح التحقيق الصحفيّ ينبغي للمحرر -ما أمكنه ذلك- أن يتبع في كتابة تحقيقه هذه الخطوات وهي: أولًا: العناية بالعنوان عنايةً لا تقل عن العناية بالصور الشمسية المصاحبة للتقرير، كما تنبغي العناية بالعنوانات الصغيرة التي تتبع العنوان الكبيرة في المعتاد. فيجب أن تكون هذه العنوانات كلها زاخرةً بالحياة، قادرةً على التصوير، مليئةً بالتعبير, غنيةً بعنصر الجذب والتشويق، مناسبةً لجو التحقيق, وبدون ذلك, لا يضمن الكاتب كسب انتباه القارئ، ولا يضمن إقناعه بخطورة موضوع التحقيق منذ اللحظة الأولى. ثانيًا: يأتي بعد العنوان في المعتاد مدخلٌ يثير اهتمام القراء، ويعتبر حافزًا لهم على القراءة، وعاملًا من العوامل التي يعتمد عليها في المحافظة

على اهتمامهم بالموضوع، ومقنعًا لهم كذلك بأن ما سيقرءونه متصل بهم وبحياتهم على نحوٍ ما. ثالثًا: يلي المدخل ما يعمد إليه المحرر عادةً من الإدلاء بمعلوماتٍ جديدةٍ، وأخبارٍ مثيرةٍ يأتي بها الكاتب أملًا في كسب ثقة القارئ، وإشعاره إذ ذاك بأن ما يقرؤه جديد على سمعه تمامًا. على أن أهم ما في الموضوع, هو الطريقة التي يعرض بها الكاتب معلوماته وأفكاره وحقائقه، وطريقة العرض لا تحتاج إلى شيءٍ كحاجتها إلى سلامة الذوق، وسمو النفس، وعظم الموهبة الصحفية التي تكاد تولد مع الفرد، وكما أن الطاهي الماهر يستطيع أن يقدم لك طبقًا من الطعام تلتهمه التهامًا، وتزدرده ازدرادًا، في لحظاتٍ قصار، فكذلك المحقق الصحفيّ الموهوب, يستطيع أن يقدم لك مادةً شائقةً، تقرؤها بلهفةٍ عظيمةٍ، وسرعةٍ متفوقةٍ. رابعًا: العناية التامة بعد ذلك بإيراد الأمثلة والشواهد، وهنا ينبغي للكاتب أن يقلل ما أمكنه من الاعتماد على المبالغة والتهويل يشتري بهما اهتمام قرائه؛ إذ الواقع أنه ينزل بهما في أعينهم إلى منزلة المهرج الذي يبعث عمله على الهزء والسخرية، بدلًا من أن يبعث على الاحترام والثقة. كل ذلك مع المراعاة التامة للتناسب الكامل بين أجزاء التحقيق الصحفيّ، بحيث لا تكون المقدمة أطول من صلب الموضوع، أو تكون الأدلة أقل مما يلزم لإقناع القراء. وكل ذلك أيضًا مع الاعتماد في الاحتفاظ التام باهتمام القراء على ما ركبه الله فيهم من الغرائز التي من أهمها غريزة حب الاستطلاع, التي ينبغي أن يصدر الكاتب عنها في كل ما يقدمه لقرائه من حينٍ لآخر. ثم الاعتماد -كما قلنا- على علم النفس، وعلم الأخلاق، وعلم الاجتماع, في كل تحقيقٍ صحفيٍّ يمكن تقديمه إلى الصحيفة.

ونعود فنقول: إنه مما لا شك فيه أن التحقيق الصحفيّ الذي لا يبنى على شيءٍ من هذه العلوم, التي أشرنا إليها يفقد الغرض الذي كتب من أجله أولًا، ويفقد القراء الذين يتهافتون على قراءته بعد ذلك. خامسًا: وأخيرًا تأتي الخاتمة, وهي آخر ما يستقر في ذهن القارئ، فلا بد من أن تكون تلخيصًا للحقائق الأساسية لموضوع التحقيق، أو تأكيدًا للقضية الهامة التي من أجلها نشر هذا التحقيق بالصحيفة. وكثيرًا ما تنجح المادة الصحفية -أيًّا كان نوعها- متى وفق الكاتب إلى عبارةٍ قويةٍ يختمها بها، وتمتاز بقدرتها على تلخيص الفكرة الأساسية من جهة، وعلى المطابقة التامة لموضوع هذه المادة الصحفية من جهةٍ أخرى. خطوات الحصول على التحقيق الصحفيّ: جرى المحررون الصحفيون في كتابة التحقيق على اتباع هذه الخطة التي بنيت عندهم على خطوات خمس: أولًا: جمع الحقائق اللازمة لكتابة التحقيق. ثانيًا: جمع الأحاديث اللازمة له أيضًا. ثالثًا: وضع الخطة التي يكتب بها الموضوع. رابعًا: التفكير في الأسلوب الممتع الجذاب الذي يكتب به هذا التقرير. خامسًا: مطابقة التحقيق لسياسة الصحيفة. وتقول السيدة "هيلين باترسون" التي مر ذكرها: "إننا ما دمنا نتفق على أن التحقيق الصحفيّ لا بد أن يمر بهذه الخطوات الخمس, فيجب أن تعرف الأهمية التي لكل خطوة منها, بالقياس إلى الأربع الأخرى، وعندي أن هذه الأهمية يمكن أن تصبح متكونةً من النسب المئوية الآتية، وهي: 10% لجمع الحقائق اللازمة.

10% لجمع الأحاديث. 40% لخطة الموضوع. 10% للأسلوب الممتع الجذاب. 30% لمطابقة الموضوع لسياسة الصحيفة. ومعنى ذلك أن الأهمية الأولى في نظر السيدة الباحثة لخطة الموضوع أو للتحقيق، والأهمية الثانية لمطابقة الموضوع لسياسة الصحيفة, أما العناصر الثلاثة الباقية وهي: جمع الحقائق، وجمع الأحاديث، والأسلوب الممتع الجذاب, فكلها تأتي بعد العنصرين السابقين في الترتيب من حيث الأهمية، وكلها تتساوى في هذه الأهمية، بحيث لا يزيد أحدها عن الآخر، ولا يقل عنه.

مصادر التحقيق الصحفي ونموذج له

مصادر التحقيق الصحفيّ, ونموذج له: لهذا الفن من فنون الصحافة -بوجهٍ عامٍّ- مجال يسبح فيه، ويدور معه، وهو مجال "المشكلات العامة" التي تعرض للمجتمع كله تارةً، وتعرض لطائفة من طوائفه تارةً أخرى. من أجل ذلك لا يشترط في موضوع التحقيق ما يشترط في الخبر من عامل "الجدة الزمنية"، ولكن مهارة الكاتب الصحفيّ تظهر دائمًا في إيهام القارئ بأن الموضوع الذي يتناوله في تقريره مشكلة من المشكلات الهامة، وأنها تتطلب حلًّا سريعًا يتقدم به المعنيون بهذه المشكلة، وأن في استطاعة بعض القادرين من غير هؤلاء أن يشاركوا في إيجاد الحل اللازم لها متى استطاعوا ذلك، ووظيفة التحقيق الصحفيّ في هذه الحالة تنحصر -أو تكاد تنحصر- في جمع الآراء من هنا وهناك، والتأليف بينها قصد الوصول إلى الحل المطلوب. وإذن, فكما يُبْنَى المقال الأدبيّ، أو العلميّ، أو الصحفيّ, على فكرة يتلقفها الكاتب من الوسط الذي يعيش فيه، وينفعل به، فكذلك يُبْنَى التحقيق الصحفيّ على مشكلةٍ يتلقفها المحرر من الوسط الذي يعيش فيه، ويتعاون معه، وما أكثر هذه المشكلات لمن يحاول الوقوع عليها، والنفوذ إليها من باب الصحافة، أو من باب الأدب. فهناك مشكلة الأسرة، ومشكلة التعليم، ومشكلة الشباب، ومشكلة البطالة، ومشكلة المرض، ومشكلة الفقر، ومشكلة الجهل ... إلخ. والحق أن كل وضع من أوضاعنا مشكلة، وفي كل مرفق من مرافقنا العامة مشكلة، وشعورنا بهذا الشعور دليل على حيويتنا العظيمة، وعلى رغبتنا

في الوصول إلى الأوضاع السليمة، والطرق المستقيمة، وتلك سنة البقاء والوجود متى أريد أن يكون وجودًا سليمًا وسائرًا في طريقه إلى التقدم المستمر. وكما يكون موضوع التحقيق إحدى المشكلات التي تهم طائفة من الناس، كذلك يمكن أن يكون موضوع التحقيق شخصية من الشخصيات الكبيرة، أو مكانًا من الأمكنة ذات الذكريات الوطنية العزيزة، أو رحلة من الرحلات، أو حفلة من الحفلات، أو مهرجانًا عظيمًا، أو كشفًا علميًّا جديدًا، وهكذا. ومن هنا تنوعت أشكال التحقيق، كما تنوعت القوالب التي ينصب فيها -كما رأينا- وتنوعت كذلك المصادر التي ينبع منها. فما هي مصادر التحقيق الصحفيّ على وجه الإجمال؟: يرى الأستاذ "بلير Bleyer" أن للمحقق الصحفيّ أن يرجع إلى مصدر من هذه المصادر الخمسة، وهي: أولًا: أخبار الصحف فربَّ نبأٍ عن وفاة عالمٍ من العلماء, أو أديبٍ من الأدباء، أو زعيمٍ من الزعماء, يبعث على كتابة مقال أو تقرير، يتناول فيه المحرر حياة الرجل، ويصف بلاءه في الحياة العامة، ويعرض لمبادئه التي يكافح من أجلها طول حياته. ورُبَّ نبأٍ عن هدم بيتٍ قديمٍ يثير في نفس الكاتب رغبةًَ ملحةً في كتابة تقرير من النوع السابق، بل رُبَّ نبأٍ سريعٍ عن قرب انتخاب رئيس جديد للجمهورية, يحمل الكاتب على الرجوع إلى الأعداد القديمة من الصحف؛ ليحصل منها على معلومات عن الطريقة التي يتم بها انتخاب رؤساء الجمهوريات، وهكذا.

ثانيًا: الملاحظة الشخصية وهذه مجالها واسع أمام المحرر، ومادتها غزيرة لا تكاد تنضب، وطرق الوصول إليها تتعدد بتعدد الأشخاص القادرين على هذه الملاحظات، فاختلاف الكثير إلى المعارض والمتاحف، وغير ذلك من الأماكن, يمكنك دائمًا من الكتابة في هذه الموضوعات، ومن تسجيل ما تلاحظه فيها، وقيامك بعملٍ ما من الأعمال التى تهم الجمهور؛ كالشرطة أو القضاء, أو الطب, أو التعليم, يسمح لك بأن تجمع الملاحظات والمعلومات عن هذه المهنة، وذلك في وقتٍ يكون فيه الجمهور على استعدادٍ لتتبع ما تكتبه عنها. والمحرر الصحفيّ مطالب على الدوام بأن يكون من أكبر الناس تنبيهًا في مثل هذه الموضوعات العامة، وقدرةً على رؤية وجوه النقص فيها. ثالثًا: التجربة الإنسانية قد تصلح التجربة الإنسانية في ذاتها موضوعًا للتحقيق الصحفيّ، فمكافحة شعب من شعوب الأرض ضد الاستعمار، ونجاة أحدٌ من الناس من الانتحار، وقوفك لحظةً أمام المحكوم عليه بالإعدام، كل هذه وأمثالها تجارب إنسانية, تصلح كل واحدةٍ منها لِأَنْ تكون موضوعًا لتحقيقٍ صحفيٍّ. على أن هذه التجارب الإنسانية في ذاتها مصدر لشيئين عظيمين هما: الأدب من جهة، والصحافة من جهة ثانية، وإن كانت إلى الأول أقرب، وبه أشبه. رابعًا: الأحاديث الصحفية وهذه من المصادر القيمة للإعلام, والتقرير على السواء، فرب حديثٍ صحفيٍّ يتناول موضوعًا ما, يوحي إلى المحرر الذكي بموضوعات أخرى لا تصلح لأن تكون جزءًا من الحديث الأصليّ، ولكنها تصلح أن

تكون موضوعًا مستقلًّا عنه، ورُبَّ حديثٍ صحفيٍّ مع شخصيةٍ ذات حظٍّ كبيرٍ من الشهرة, يترك في نفوس الجماهير أثرًا من نوعٍ خاصٍّ, يصلح أن يكون في ذاته موضوعًا لتحقيقٍ صحفيٍّ. خامسًا: النشرات والوثائق كثيرًا ما يكون في هذه النشرات من المعلومات المبسطة في العلم، أو في الفن، أو في الأدب, أو في الفكر, ما يتيح أثمن الفرص أمام المحرر الصحفيّ لكتابة تقرير, أو تحقيقٍ يقرؤه الجمهور, فيفهم عن هذه العلوم أو الفنون قدرًا لا يفهمه عن طريق الكتب الخاصة. ولا شكَّ أن تبسيط العلوم، وطرق الإفادة منها، وتنوير الشعب عن هذا الطريق -كل أولئك من عمل صحفيّ- وليس من عمل الأديب, أو العالم, أو الفنان, أو الباحث المتخصص في أي نوع من أنواع المعارف الإنسانية. نموذج من التحقيق الصحفيّ: إن الأمثلة على ذلك كثيرةٌ لا حصر لها, يمكن أن تؤخذ من التحقيقات الصحفية التي نشرت في الأعوام الأخيرة بالصحف المصرية، وسأكتفي بِمَثَلٍ واحدٍ منها, يغني عن بقيتها، وهذا المثل هو التحقيق الذي نشرته مجلة "آخر ساعة" بالعدد 1039, بتاريخ 22 ديسمبر سنة 1954، وموضوعه: "فساد النظام البيروقراطي في وزارة التربية والتعليم" وقد جرى فيه المحرر على الخطة الآتية: أولًا: عُنِيَ بكتابة العنوان الرئيسيّ, فجعله هكذا: الأخطبوط الذي يواجه كمال الدين حسين في مجاهل العلم ثم أدرف ذلك بعنوانات أخرى غير رئيسية على هذا النحو:

300 ألف ملف في طريق الضياع هيلانة جرجس تخرجت من الأزهر الشريف مشاكل 150 ألف موظف، وملايين العقد فيها ثانيًا: دخل الكاتب على الموضوع دخولًا مثيرًا بالطريقة الآتية, حيث قال: "أجراس الخطر تدق في وزارة التربية والتعليم.. أكبر وزارة في مصر.. الوزير كمال الدين حسين يقود المعركة.. ويعلنها صريحة مدوية.. خمسة آلاف معلم ومعلمة ينتمون إلى خمس وعشرين طائفة.. لا ترابط بينها ولا تعاون.. ولا بد من توحيد جهودهم لصالح التلاميذ! كان لكلِّ وزير فيما مضى سياسة خاصة، وطائفة معه تسانده، وتناصر على حساب الطوائف الأخرى، وقد آن الأوان للقضاء على الطائفية! الجهاز الإداري في الوزارة والجامعات مصاب بالشلل، والأعمال تسير بخطوات السلحفاة، ولا بد من أن تعلن الحرب على الروتين الذي تغلغل في جميع المرافق. ثالثًا: أتى دور المعلومات التي سعى المحرر في الحصول عليها، وكتبها ليكسب ثقة القارئ، ويضمن انتباهه، فأخذ انتباهه، فأخذ المحرر يكتبها بهذه الطريقة: تركة مثقلة بالديون: للمرة الأولى تشهد وزارة التربية والتعليم وزيرًا يكشف حقيقة موقف الوزارة, وموقفه من المشاكل التي تعترض طريقه، ومن التركة المثقلة التي آلت إليه! وهذه الصراحة التي تواجه بها الموقف لونٌ جديدٌ لم يكن مألوفًا عند الوزراء السابقين، فقد كانت هناك عقبات ومشاكل في طريق كل وزير

جديد.. كان هناك فساد، وقليلون هم الذين كان يخطر ببالهم أن الفساد قد ظهر في وزارة العلم والنور! كان هناك -ومن كان يصدق- سرقات بلغت ربع مليون من الجنيهات من أقوات التلاميذ، ولم يكشف عنها سوى ديوان المحاسبة! وكانت هناك ثورة مشتعلة في نفوس الموظفين لفساد الجهاز الإداريّ في الديوان, وفي الجامعات.. ولم تحظ ثورة الموظفين من كل وزير إلّا بابتسامة رقيقة! رابعًا: جاء دور الشواهد والأمثلة, فذكرها الكاتب بقوله: وشُكِّلَتْ لجنةٌ لحصر التركة, فوجدت حقائق مرة!: 82 ألف موظف يشغلون جميع الدرجات الدائمة والمؤقتة، 31 ألف مستخدم خارج الهيئة.. لكل من هؤلاء مشكلة، إما في ترقيته, أو في تسوية حالته، أو في ادخاره وتأمينه, أو معاشه. 46636 حالة مدرس يستعجلها وزير المالية باسم الإنسانية في خطاب مؤثر, يقول فيه لزميله وزير المعارف السابق بالحرف الواحد: "إن الوزارة تهاونت في إرسال استمارات التأمين والإدخار, وإن إدارة الصندوق عاجزة تمامًا عن أداء رسالتها نحو الذين يستحقون معاشات أو تأمينات، وإن الجهود التي بذلت لإنصاف هؤلاء البؤساء وأسرهم قد ذهبت عبثًا بسبب إهمال المسئولين في وزارتكم". "إن بعض المدرسين الذين توفوا عام 1952,لم تصدر قرارات فصلهم بعد، وعلى رأس هؤلاء المرحوم "حسن أبو العلا" المدرس بالمدرسة الإنجليزية للبنات, وإن ورثته ما زالوا ينتظرون عطف الموظف المختص" "وفي إدارة القيد والحفظ مشكلةٌ لا تقل خطورة عن مشكلة إدارة

المستخدمين, "فقد سيطر الروتين الحكوميّ سيطرةً تامةً على هذه الإدارة، وقضى بأن تحتفظ بـ 300 ألف ملف في أرشيفٍ لجميع الموظفين، ولجميع الموضوعات الخاصة والعامة بكل منطقة، حتى ضاقت الحجرات المخصصة لذلك، واضطر الموظفون إلى إيداع الملفات في مخازن أشبه بعش العنكبوت، وضاعت ملفات الموظفين، وأصبح من العسير استخراج ملف موظف بعينه". وهكذا أخذ الكاتب يسوق الأمثلة الكثيرة، والشواهد العديدة على فساد الروتين الحكوميّ في وزارة التعليم، حتى بلغ الحد بهذا الروتين الحكوميّ أن وجد في أوراق وزارة التعليم ملف ذكر فيه أن "هيلانه جرجس عبد الملك" خريجة الجامع الأزهر الشريف إلى غير ذلك من الأوراق التي تبعث على السخرية من ذلك الروتين، وتصور المشكلة على أنها جديرة بعناية الوزير، وعناية الموظفين، وعناية الجمهور. خامسًا: ختم الكاتب تحقيقه الصحفيّ بهذه العبارة: الأمل المنتظر: إن ملايين الآباء والأمهات والتلاميذ والتلميذات يعيشون الآن على أملٍ كبيرٍ، أمل قيام نهضة تعليمية حقة, تنعم فيها البلاد بالاستقرار، وتهدأ أعصاب التلاميذ التي تحطمت من وطأة التغيير والتبديل. ويسيرٌ على القارئ أن يلاحظ أن كاتب هذا التحقيق -وهو هنا الأستاذ محمد نصر- اتبع خطةً صحيحةً في كتابة الموضوع، واتبع الخطوات الست التي سبقت الإشارة إليها في طريقة تحرير الموضوع، وإن جاءت الخاتمة قليلة الصلة بهذا الموضوع في صميمه؛ إذ الشكوى في التحقيق ليست من عدم الاستقرار، ولا من الحاجة إلى نهضة التعليم، وإنما الشكوى من فساد النظام الإداريّ أو البيروقراطيّ في الوزارة, ومن العبث بالناس.

الذين اتصلت مصالحهم بهذه الوزارة, ثم المطالبة بالتخفيف من وطأة هذا الروتين الحكومة الذي هو السبب الرئيسيّ في جميع هذه الأضرار. وجديرٌ بنا أن ننوه في ختام هذا الفصل بالتحقيقات الصحفية الناجحة التي كتبها الأستاذ محمد حسين هيكل رئيس تحرير الأهرام، وهي كثيرة ومعروفة لدى القراء في العالم العربيّ، وترجع شهرتها في الواقع إلى أسباب كثيرةٍ منها: أولًا: براعة الأسلوب الذي تكتب به هذه التحقيقات, وهو أسلوب يتميز بالإسهاب وطول النفس في العبارة, والاستطراد الذي يقود القارئ من فكرةٍ إلى أخرى بدون أن يشعر أو يمل. ثانيًا: أنها تعبِّرُ أوضح تعبيرٍ عن منهج الأهرام وسياسته حتى بدت الأهرام للقراء كأنها لسان حكومة الثورة, واعتقد الكثيرون -إن صدقًا وإن كذبًا- أن كاتب هذه التحقيقات, إنما يرجع إلى السيد رئيس الجمهورية ويعبر فيها عن رأيه. ثالثًا: إن هذه التحقيقات تميزت كذلك بالتوقيت الدقيق، ووضع النقط على الحروف، والإجابة الصريحة عن كل سؤال من الأسئلة التي تقفز إلى أذهان القراء عقب كل مشكلة من المشكلات السياسية، كما نجحت هذه التحقيقات في شرح العلاقة السياسية بين الجمهورية العربية المتحدة وكل من المعسكر الشرقيّ والمعسكر الغربيّ, والدول التي تدور في فلك هذين المعسكرين. ولا يتسع هذا الكتاب للإتيان, ولو بنموذج واحد من هذه التحقيقات التي تنشر في يوم الجمعة من كل أسبوع، وتملأ الصفحة الأخيرة كلها بجميع الأعمدة الثمانية التي تشتمل عليها، فليرجع إليها من أراد.

وبعد, فليست هذه القواعد والأصول قيودًا من حديدٍ, نريد أن نضعها في يد الكاتب أو المحرر، بل هي لا تعدو أن تكون أمورًا يهتدي بها في كتابة هذا الفن الصحفيّ؛ إذ المعول في كل ذلك على الوهبة الصحفية أولًا, وعلى حسن التصرف, وسلامة الذوق من جانب الكاتب الصحفيّ نفسه بعد ذلك.

الماجريات وطريقة تحريرها

الماجريات وطريقة تحريرها: "الماجرى" لفظ مركب من كلمتين هما: "ماء" و"جرى" بمعنى "ما حدث" وهو اصطلاح صحفيّ لا يجرى بمعناه اللغويّ على الأحداث التي تقع في أي مكان، كالطريق، أو المنزل، أو المدرسة، أو المكتب, أو الجامعة، أو الملعب، ونحو ذلك، وإنما يقصد بهذا الاصطلاح كل ما يحدث في الجلسات التي تعقدها الهيئات العامة ذات الصلة الوثيقة بمصلحةٍ عليا من مصالح الوطن الذي تصدر فيه الصحيفة، والأوطان التي تربطها به علاقة ما 1. ونحن نعرف أن الصحف في وقتنا هذا تفرد مكانًا خاصًّا لهذه الجلسات, وتكل إلى محرريها وصف ما يدور بها من مناقشات، وما يتخذ فيها من قرارات، وإن كانت الإذاعة في الوقت الحاضر -كما سيكون التليفزيون في وقت قريب- منافسًا خطيرًا للصحافة في هذا الباب- مع فارق واحد بينهما في ذلك، هو أن الإذاعة لا تعلق في الغالب على هذه الجلسات بالذات فور إعلانها, إلّا من حيث إنها نبأ من الأنباء، وهناك فارق آخر هو أن التليفزيون يمكنه أن يعرض هذه الجلسات على الجمهور كما هي تمامًا، وكذلك تفعل الإذاعة إن أرادت، على حين أن قلم المحرر الصحفيّ لهذه

_ 1 يرجع الفضل في استحداث هذا الاصطلاح إلى الأساذ المرحوم الدكتور محمود عزمي, الرئيس السابق لمعهد التحرير والترجمة والصحافة بجامعة القاهرة، فهو الذي أطلق هذا الاسم على هذا الفن من فنون الصحافة الحديثة في المحاضرات التي ألقاها على طلبة هذا المعهد.

الماجريات يؤدي دورًا هامًّا في تصويرها للقارئ, بما يتفق وسياسة الجريدة، فيحذف ما يشاء أن يحذف من أقوال الأعضاء، ويثبت ما يشاء أن يثبته منها. أما هذه الهيئات العامة ذات الصلة الكبرى بمصالح الوطن الذي تصدر فيه الجريدة فكثيرة, من أهمها: مجالس النواب، والمحاكم على اختلاف أنواعها، والمؤتمرات السياسية في بلاد تربطها بها مصلحة عليا، والمؤتمرات أو الجلسات الهامة التي تعقدها جميع المنظمات الدولية التي تشترك فيها أكثر من دولتين من دول العالم, ومن الأمثلة على هذه المنظمات: عصبة الأمم فيما مضى، ومؤتمر نزع السلاح، وهيئة الأمم المتحدة، ومؤتمرات جامعة الدول العربية، ومؤتمر العمال الدوليّ، ونحو ذلك. والعناية بالجلسات التي تعقدها هذه المجتمعات، أو المنظمات, أو الهيئات، وتسجيل المناقشات التي تدور فيها، والقرارات التي تتخذها، ووصف الجو المحيط بكل جلسة من هذه الجلسات, كل ذلك موضوع "الماجريات الصحفية" التي نتحدث عنها. ورُبَّ قائلٍ يقول: وما الفرق إذن بين الأخبار والماجريات؟ والجواب أن بينهما فروقًا, من أهمها ما يلي: أولًا: أن الماجرى يتناول أعمال الهيئات التي أشرنا إليها، وهذه الهيئات قسمان؛ أحدهما ذو صبغة وطنية أو محلية، ومنه المحاكم ومجالس النواب، والمؤتمرات الوطنية التي تنعقد في مناسبات خاصة، والآخر ذو صبغة عالمية، ومنه الهيئات الدولية الكبرى؛ كهيئة الأمم المتحدة بمنظماتها المختلفة، ومنها -كما نعرف- مؤتمرات العمال الدولية، ومؤتمرات الصحة العالمية، والبنك الدوليّ للإنشاء والتعمير، ومجلس الأمن، ولجنة حقوق الإنسان، والمجلس الاقتصاديّ الاجتماعيّ، ومجلس الوصاية، ومحكمة العدل الدولية.

وعلى حين يجب على محرر "الماجريات الصحفية" أن يعنى بهذه الجلسات عنايةً خاصةً، ويكتب عنها تقريرًا من نوع خاصٍّ، نرى محرر الأخبار لا تعنيه هذه الأمور، ولا يكلف من قبل الصحيفة بشيء منها، بل تقف عنايته عند نتائج هذه الماجريات، ومواعيد حدوثها، والأمكنة التي حدث فيها. ثانيًا: أن الماجرى ليس مجرد سردٍ للأخبار والحقائق, يقصد به إلى مجرد الإعلام، لكنه -أي: الماجرى- يشتمل على عنصرين في وقت معًا، وهما:عنصر الإعلام، وعنصر التوجيه والإرشاد، وقد يضاف إليهما عنصر التعليق البسيط, في غضون التقرير متى دعت الضرورة لذلك، والماجرى على هذا الوجه عبارة عن تقرير مفصل لحادث كبير, عقدت له جلسات هامة، حضر فيها ممثلون عن الدول التي تصدر فيها الصحيفة، أو الدول التي تربطها بها مصلحة كبيرة. ثالثًا: أن مهمة الأخبار يمكن أن يقوم بها صحفيّ ناشيء، أو مخبر مبتديء، على حين أن الماجريات يجب ألَّا يضطلع بها إلّا صحفيون من ذوي الخبرة الطويلة والثقافة العريضة، وخاصةً فيما يتصل بالماجريات الدبلوماسية والدولية، فإن هذين النوعين من الماجريات يحتاجان في الواقع إلى أفق سياسيٍّ واسعٍ، وإلى علم بالسياسة مكتمل. ولسائل كذلك أن يسأل: ما الفرق بين الماجرى الصحفيّ، والتحقيق الصحفيّ؟ ونقول: إن بينهما فروقًا منها: أولًا: أن التحقيق أعم، والماجرى أخص، أي أن الماجرى يمكن اعتباره -بشيء من التساهل- نوعًا من التحقيق- ولكن لا يمكن أن يعتبر التحقيق نوعًا من أنواع الماجريات بحالٍ ما.

ثانيًا: أن التحقيق الصحفيّ -كما رأينا- قائم في أكثر الأحيان على دراسات المتخصصين، وآراء الفنيين، وقد يقتصر مجهود المحرر الصحفيّ في هذه الحالة على جميع هذه الآراء، وتسجيل هذه الدراسات، أو عرضها بشكل يحذب التفات القارئ، ويشركه في التفكير الجديّ للوصول إلى حل من المحلول لهذه المشكلة التي يعرض لها التحقيق. أما في الماجريات فالمجهود كله واقع على كاهل المحرر، والتنظيم كله صادر منه أيضا، والماجريات على هذه الصورة الأخيرة ذاتيةً في كثير من الأحيان، أي: أنها تحمل -إلى حد ما - طابع كاتبها، على حين أن التحقيق الصحفيّ موضوعي في أكثره، أي: أنه لا يحمل -في الغالب- مثل هذا الطابع. ثالثًا: أن التحقيق الصحفيّ يعتمد دائمًا على الصور الكثيرة التي لا غنى له عنها، أما الماجريات الصحفية فأقل حاجةٍ إلى هذا العنصر؛ إذ يكتفي كاتب الماجريات بصورةٍ واحدة فقط للقاعة التي حدثت فيها المناقشات، أو للشخصية البارزة التي استطاعت السيطرة على هذه المناقشات، وقد تظهر هذا الماجريات في الصحيفة بدون صور على الإطلاق. رابعًا: أن الماجريات الصحفية إنما تتناول الحوادث القريبة، أو ما يطلق عليه "حوادث الساعة"، بينما التحقيق الصحفيّ يمكن أن يتناول الحوادث البعيدة، أو الموضوعات التي توصف بالجدة الزمنية، كمشكلة الغلاء، ومشكلة البطالة، ومشكلة الزواج والطلاق، ومشكلة الروتين الحكوميّ. أنواع الماجريات وطرق تحريرها: إننا إذا ذهبنا نحصي الماجريات الصحفية بوجهٍ عامٍّ وجدناها أربعة أنوع:

1- الماجريات البرلمانية. 2- الماجريات القضائية. 3- الماجريات الدبلوماسية. 4- الماجريات الدولية. وبدهيّ أن محرر هذا الفن من فنون الصحافة يحتاج إلى معرفة دقيقة باللغة اليومية، إن كانت الماجريات مما يتصل بدور النيابة أو القضاء، وباللغات الأجنبية إن كانت الماجريات مما يتصل بالسياسة، وخاصة ما دار منها في إحدى منظمات هيئات الأمم. أما الطريقة العامة التي تتبع في تحرير الماجريات فشبيهة بالطريقة العامة التي تتبع في كتابة القصة الإخبارية، ومعنى ذلك باختصار: أن محرر الماجريات لا بد له من كتابة العنوانات الكبيرة، فالتي أصغر منها؛ لكي يلفت إليها نظر القارئ، وعلى محرر الماجريات بعد ذلك أن يجعل لهذا النوع من التقرير الصحفيّ صدرًا, يثبت فيه أهم النتائج التي يشتمل عليها التقرير، وصلبًا يحتوي على التفاصيل، ومنها كلمات المؤيدين، وردود المعارضين، وصف الجوّ الذي كاد يسود الجلسة، وتسجيل القرارات التي اتخذتها. على أن هناك فرقًا تجب مراعاته دائمًا بين القصة الخبرية والتقرير الذي على شكل ماجريات، ويأتي هذا الفرق من ناحية التفاصيل في كل منهما، وهذه التفاصيل في القصة الإخبارية ليست لها الأهمية التي للتفاصيل في الماجريات الصحفية. ولتوضيح ذلك نقول: إنه بينما تستطيع الصحيفة أن تتصرف دائمًا في تفاصيل القصة الخبرية، فتحذف ما تريد أن تحذفه، وتثبت ما تريد أن تثبته تبعًا لظروف الطباعة، أو لظروف المساحة المخصصة للأخبار؛ إذ بالصحيفة لا تستطيع في أغلب الأحيان أن تتصرف في تفاصيل

الماجريات الصحفية، وخاصةً ما كان منها يتصل بالأمور السياسية، ففي هذه الحالات الأخيرة نرى التفاصيل تشتمل على القرارات، أو البيانات، أو الكلمات التي تصدر عن الملوك والرؤساء والوزراء ممن يشتركون في مؤتمر دبلوماسيّ، أو آخر دوليٍّ، وفي هذه الحالة يصعب على المحرر الصحفيّ أن يحذف من هذه المواد كلها شيئًا ما، إلّا عند الضرورة القصوى. وفي مجال تحرير الماجريات الصحفية يتفاوت الكُتَّابُ، وتظهر الفروق الواسعة بينهم في الكتابة. فهذا كاتب يميل إلى الإلمام بالموضوع في إيجاز، ويركز معلوماته تركيزًا خاصًّا، فيورد أهم الأحداث التي جرت داخل الجلسة، ويسجل أهم الأحاديث التي دارت بها، ولا يكترث لغير ذلك من الحوادث الصغيرة، أو الأحاديث العابرة, أو التي لا تؤثر في المجرى العام لسير الجلسة نفسها. ومثل هذا الكاتب أو المحرر, نراه يجهد نفسه كثيرًا في التفرقة بين الغَثِّ والسمين من هذه الحوادث، والمناقشات العامة والخاصة، وقصده من ذلك واضح، هو توفير وقت القارئ، أو كما يقول الأستاذ "ويكهام ستيد" فيما يلى: "إن من الضروري لكل صحيفة تريد لنفسها النجاح والرواج, أن تحرز في كل يوم نصرًا جديدًا في الإخراج, تتغلب به على عنصر الملل والركود عند القارئ، وكثيرًا ما يكون ذلك عن طريق التحرير الصحفيّ قبل أي شيء آخر". ثم إن هناك كاتبًا آخر-على العكس من الأول- يميل إلى الإسهاب والتفصيل، ويحرص الحرص كله على تسجيل شاردة وواردة، ويصور الجو العام للجلسة، ويطيل في ذلك، حتى ليصف للقراء ملابس الأعضاء، وألوان هذه الملابس، وحركات المتحدثين، وطريقة كل منهم في كلامه، وجداله، ومتى ارتفع صوته في هذا الجدال، ومتى انخفض،

ويجعلنا باختصار نشعر شعورًا كاملًا بأننا شهدنا معه الجلسة البرلمانية، أو القضائية، أو الدولية. غير أن هذه الطريقة القائمة على الإسهاب لا تصلح إلّا للطبعات التي تصدرها الصحيفة للأقاليم, لا للعاصمة؛ حيث الناس في تلك الجهات النائية يجدون الوقت الكافي لقراءة هذه التفاصيل، والاستمتاع بما فيها من أوصاف كثيرة، وتعليقات طريفة. أما الطبعة التي تصدر في العاصمة, فلا يصلح لها شيء من ذلك؛ إذ الناس في العاصمة يعرفون للوقت قيمته، فلا يميلون إلى تلك المواد الصحفية التي نسي محررها تقدير هذه التفرقة. وهذا كاتبٌ ثالثٌ تراه يخلط بين المذهبين السابقين، ويجمع بين الطريقتين الآنفتين؛ يوجز في مواطن الإيجاز، ويسهب في مواطن الإسهاب، ويتحاشى الإيجاز الذي يضيع الفائدة على القراء، كما يتحاشى الإسهاب الذي يطغى على جزء كبير من وقتهم، ويصرفهم عن عملهم، ولذلك يحفظ لنفسه طريقًَا وسطًا، لا تفريط فيه ولا إفراط. نستطيع بعد ذلك أن نقف وقفةً قصيرةً عند كل ضرب من الأضرب الأربعة السابقة للماجريات، لنشرح شيئًا من الطرق المتبعة في كتابته، والأمور التي ينبغي توافرها في كاتبه ومحرره.

الماجريات البرلمانية

الماجريات البرلمانية: اعتاد المحررون الصحفيون أن يمهدوا لهذا النوع من الماجريات بعرضٍ سريعٍ يصفون به أهم الأحداث التي جرت بالجلسة، ويشيرون فيه إلى أهم المناقشات التي دارت بها، وينوهون فيه بأهم الأعضاء الذين اشتركوا في المناقشة، وكثيرًا ما يضمنون هذا العرض إشارةً إلى أهم القرارات التي اتخذها المجلس. وقد يحدث أن يهمل المحرر البرلمانيّ -عن قصد- بعض الأعضاء الذين كانت لهم مشاركة قوية في مناقشات المجلس، فلا يذكر أسماءهم، ولا يتعرض لهم بمدح أو بذم، يفعل ذلك حقدًا منه على هؤلاء، لأنهم ينتمون إلى حزب غير الحزب الذي تدافع عنه الصحيفة! وبعد الفراغ من العرض على هذا النحو يدخل المحرر البرلمانيّ في الموضوع مسجلًا فيه ما رأي وما سمع في هذا الجلسة، وإذ ذاك ينبغي له أن يجتهد في مراعاة أشياء منها: أولًا: العناية التامة بالموضوع الأساسيّ للمناقشة، والالتفات إلى أظهر المتكلمين؛ فيعرف كيف دخل كل منهم في الموضوع، وما هي الطريقة التي سلكها في الإقناع، وما الرأي الذي اتجه إليه في المناقشة، ومتى انبرى له العضو المعارض، وكيف ساق حججه وأدلته. ثانيًا: يجدر بالمحرر البرلمانيّ أن يسير في تقريره على النظام الذي سارت فيه الجلسة، فإذا بدأ المجلس بالرد على الاستجوابات التي كان قد قدمها الأعضاء، ثم قام المجلس بعد ذلك بتشكيل اللجان المختصة، وإحالة الموضوعات المختلفة إلى كل منها، ثم دخل المجلس بعد ذلك في مناقشة هامة

حول موضوع معين، فعلى المحرر البرلمانيّ أن يسير في تقريره -كما قلنا- على هذا النظام، حتى يريح نفسه ويريح معه القراء. ثالثًا: على المحرر البرلمانيّ كذلك ألّا ينسى الجو العام للجلسة، ولا بأس من اتصاله بالأعضاء قبيل الجلسة -متى أمكنه ذلك- حتى يعرف نياتهم، ويقف على اتجاهاتهم، ويستشف مشاعر الأعضاء الذين يمثلون الأحزاب المختلفة. رابعًا: يحسن بالمحرر البرلمانيّ أن يؤجل كتابة البيانات، والخطب الطويلة إلى نهاية التقرير الذي يكتبه، حتى لا يقطع على القارئ سير الجلسة حين يقرأ عنها في الصحيفة. خامسًا: على المحرر البرلمانيّ أن يهتم اهتمامًا خاصًّا بنهاية الجلسة، وكيف وصل الأعضاء فيها إلى قراراتهم، وما هي هذه القرارات بالتفصيل. وللمحرر البرلمانيّ في هذه الحالة أن يعتمد على " المضبطة الرسمية" لمجلس النواب، وله في هذه الحالة أيضًا أن يدخل على هذه المضبطة بعض الحواشي، ويقسمها إلى فقرات، ويجعل لبعضها عنوانات، حتى يسهل على القارئ العاديّ تتبعها دون ملل أو سأم. غير أن الأفضل للصحفيّ دائمًا ألّا يعتمد على "المضبطة الرسمية"، فقد يترتب على ذلك تأخير وصول التقرير البرلماني إلى الصحيفة، وقد ينجم عن هذا السبب تأخير صدور الصحيفة عن الوقت المحدد، على أن "المضبطة" في ذاتها, قد لا تصور الوقائع التي يحرص القارئ على معرفتها معرفة جيدة. الطريقة الحديثة في كتابة التقرير البرلمانيّ: إن من أحدث الطرق في كتابة التقرير البرلمانيّ ما تعمد إليه بعض الصحف الأوروبية في الوقت الحاضر؛ إذ يتعاون مندوبو الصحف المختلفة

بعضهم مع بعض على أداء المهمة، فينظمون أنفسهم في شرفة الصحافة على هيئة فرقة، ويكون لكل منهم رقم خاص يعرف به، ويدل عليه، وينتخبون من بينهم رئيسًا لهم, ينظم تسجيل الواقع داخل الجلسة، فتعطى الإشارة للأول في بداية الجلسة؛ فيقوم بالعمل مدة دقيقتين فقط، ثم تعطى الإشارة إلى الثاني، فالثالث، فالرابع، وهكذا، ولما كان هؤلاء المندوبون يستخدمون في عملهم هذا "ورق الكربون" فإنه يتوفر لديهم -في نهاية الجلسة- عدد كافٍ من النسخ لجميع المندوبين المشتركين في وقائعها، وبهذه النسخ يمكنهم أن يذهبوا إلى مكاتبهم، كل في الصحيفة التي يعمل بها. ذلك أن للإنسان طاقة محدودة، وهو قادر على تركيز قواه البدنية، والعقلية فترةً وجيزةً، لا تفوته شاردة، ولا واردة فيها, أما إذا قام بهذا العمل ساعات طويلة، فلا شك أنه يعجز عن أدائه على الوجه الأكمل، وقد يفلت منه الزمام ويدركه السأم في أخطر جزء من أجزاء الكلام، أو أهم واقعة من وقائع المجلس. ومما هو جدير بالذكر أن صحيفة "التايمز" الإنجليزية, تنفرد دون غيرها من الصحف البريطانية بوجود جهاز لها، هو "التلغراف الكاتب TELEPRINER" بدار البرلمان الإنجليزيّ، وبه تستطيع أن تحصل في الحال على ما يجري من مناقشاتٍ داخل البرلمان دقيقة بدقيقة، وتستطيع الصحيفة أن تتصرف بعد ذلك في طبعة العاصمة، وطبعات الأقاليم بما تراه. ولاشك أن مثل الجهاز يتيح للمحررين الصحفيين فرصة التفرغ لمشاهدة الجلسة، والتأمل في وثائقها، ودراسة الشخصيات الهامة التي اشتركت فيها، بحيث يستطيع المحرر الصحفيّ بعد ذلك أن يكتب الماجريات البرلمانية كتابةً دقيقةً، تستوفي جميع مطالب الجمهور القارئ لمثل هذه الصفحة الهامة من صفحات الجريدة.

نموذج من الماجريات البرلمانية: عقد مجلس النواب المصريّ في الثاني من شهر أبريل سنة 1947 جلسة, كان من أهم موضوعاتها الاستجواب الذي قدمه الأستاذ مكرم عبيد عن مصادرة الصحف، ونشرت صحيفة "الأهرام" الصادرة في الثالث من ذلك الشهر تقريرها عن هذه الجلسة بعنوان: في مجلس النواب: الاستجواب عن مصادرة الصحف: كلمة مكرم عبيد, وبيان رئيس الحكومة: بدأت جلسة النواب في مساء أمس بأن حلف اليمين الدستورية "فلان وفلان من النواب الجدد"، ثم أحيلت مشروعات القوانين الجديدة إلى اللجان المختصة، ومنها مشروع قانون التعامل في الأوراق المالية، ومشروع قانون بعدم قبول الطعن في أعمال وزير المالية الخاصة بالحراسة فقط. شركة مياه الاسكندرية: وأجيب بعد ذلك من الأسئلة الباقية، وكان أولها سؤالًا للنائب "فلان"عن مدة التزام شركة مياه الأسكندرية، وانفرادها بتحديد سعر المياه في المدينة, بأن العقد ليس به مدة محدودة، ولكن البلدية ترى أنه ليس له صفة الدوام، أما أسعار المياه فمحدودة في العقود، ولكن للسلطة مانحة الامتياز حق تعديلها. الاستغناء عن البعثة العسكرية: وأجيب عن سؤالٍ للنائب "فلان" عن موعد الاستغناء عن البعثة العسكرية, بأنه تقرر إنهاء عقود نصف أعضاء البعثة في آخر شهر يونيه، والنصف الآخر في نهاية العام.

في المدارس الأجنبية: وأجيب عن سؤالين للنائبين "فلان" و"فلان" في صدد إلزام المدارس الأجنبية باحترام دين الدولة الرسميّ، بأن الوزارة لما بلغها بأن مدرسة "سانت أنطوان" وزعت كتابًا على التلاميذ به طعنٌ في الدين الإسلاميّ قامت بمصادرته، وإجراء التحقيق، ومنعت دخوله إلى البلاد، وأرسلت مفتشها إلى جميع المدارس الأجنبية لفحص الكتب المدرسية وغيرها مما يوجد في مكتباتها، واتخاذ الإجراءات اللازمة ضد أية مدرسة تحتفظ بأي كتاب يشتمل على طعنٍ في الدين الإسلاميِّ. حول التصريح ببطاقات الغزل: وأجيب عن سؤال للنائب "فلان" عن شركة الفيوم للنسيج، وهل منحت بطاقة غزل استثناء ببيانٍ طويلٍ, مدعم بالأدلة, يستخلص منه أن تقرير بطاقة لهذه الشركة إنما كان تطبيقًا لقاعدة عامةٍ تهدف إلى خدمة صالح التموين، دون نظر إلى أي اعتبار آخر، وأنه لم يكن لأشخاص المتقدمين بالطلبات أيّ تأثير في توجيه الوزارة إلى القرار الذي اتخذته. الموافقة على تسعة مشروعات: ثم وافق المجلس بنداء الأسماء على تسعة مشروعات, قوانين تَمَّ بحثها بالفعل في الجلسة الماضية. حرية الصحافة: وعلى أثر ذلك أخذ المجلس في مناقشة الاستجواب الموجه إلى دولة رئيس الوزراء من معالي مكرم عبيد "باشا" والأستاذ محمد حنفي الشريف في مصادرة الصحف، والتجاء الحكومة إلى أوامر الحظر دون سبب قانونيّ. كلمة مكرم "باشا": وأُعْطِيَتْ الكلمةُ لمعالي مكرم عبيد "باشا" فقال: إنه جمع في استجوابه

بين المصادرة والحظر؛ لأن لهما معنًى واحدًا، وهو مصادرة حرية الرأي, وذكر أنه لم يدفعه إلى تقديمه إلّا الرغبة في الاحتكام إلى المجلس، ولعل الحكومة تتفق مع النواب على أن المصادرة عقوبة، ولا يجوز للحكومة أن تحكم بعقوبة؛ لأن ذلك من اختصاص السلطة القضائية، فإذا أجازته السلطة التنفيذية لنفسها كان في هذا مصادرةً للحريات التي كفلها الدستور, وطلب السمو بهذه المناقشة عن أي اعتبار إلّا اعتبار المصلحة العامة, خصوصًا في هذا الوقت الخطير. ثم استطرد قائلًا: إن الذي يعنيه أولًا هو الناحية الوطنية، ففي مصادرة الصحف تقييد شديد للحرية، ولا يجوز في الوقت الذي نتقدم فيه إلى الاحتكام الدوليّ مطالبين بالحرية أن نعتدى نحن على الحرية، ولو جاز هذا في أيِّ وقتٍ من الأوقات لما جاز في الوقت الحاضر. وذكر أن مصادرة الصحف مصادرة لحرية الرأي، مع أنه كفلتها مادة أساسية من مواد الدستور, وهي في الوقت نفسه مصادرة للرقابة القضائية، واعتداء على سلطة القضاء، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات، وعلى الرقابة البرلمانية أيضًا؛ لأن الحكومة تصادر الصحيفة لتمنع وصول خبر من الأخبار إلى نواب البلاد. وهنا سأله دولة رئيس الوزراء: وإذا كان الخبر كاذبًا، وكان من شأنه أن يحدث اضطرابًا؟ فأجاب بأن المصادرة الإدارية لا تجوز على أية حالٍ، بل يجب أن يترك الأمر للقضاء، وإذا سلمنا بنظرية المصادرة لصار حالنا أسوأ منه في سنة 1881, ثم تلا المادة الخاصة بالمصادرة في قانون المطبوعات عامئذ، وفيها أنها لا تكون إلّا بقرار من مجلس الوزراء، أو بعد الإنذار مرتين، أما الآن: فإن الصحيفة تصادر وهي خارجة من المطبعة، وقد يحدث أن يوقظ دولة رئيس الوزراء من نومه، ويقال له: إن جريدة كذا تجب مصادرتها؛ لأنها كتبت كذا، فيصدر أمره التليفونيّ بالمصادرة، غير حاسب حسابًا لأرزاق الناس، ولا الضرر الذي يصيبهم.

وتلا "مكرم" المادة الخاصة بحرية الصحافة من الدستور، ثم تلا المناقشة التي دارت حولها بين أعضاء لجنة الدستور، واستخلص منها أن الفقرة الخاصة بوقاية النظام الاجتماعيّ, إنما قصد بها إصدار تشريعات تحدد فيها أحوال المصادرة التي تتخذ لحماية النظام الاجتماعيّ، ودعَّم رأيه بالمذكرة التفسيرية الخاصة بالمادة 15من الدستور. وقال: إنه في 17 فبراير سنة 1936, وضع قانون المطبوعات، ونَصَّ فيه على الأحوال التي تجوز فيها المصادرة، والأحوال التي تجب فيها، واستشهد ببحوث رجال القانون، فتلا بحثًا لوحيد رأفت "بك" يفسر فيه عبارة "وقاية النظام الاجتماعيّ" بأنها دفع خطر الشيوعية والبلشفية, وإن كانت بعض المحاكم لم تقصرها على هذا المعنى. ثم ذكر أن هناك فرقًا بين النظام السياسيّ والنظام الاجتماعيّ، فلا خطر من الخلاف بين الاحزاب، واستطرد قائلًا: إن الدستور الفرنسيّ يبيح المصادرة في حالة أخرى، هي حاة الخطر الداهم الذي لا يمكن تداركه إلّا بالتعطيل، عملًا بالمبدأ القائل: "إن سلامة الدولة هي القانون الأعلى". وقال معاليه: إن المغفور له أحمد ماهر "باشا" خطب في سنة 1921 فقال: "إن من يتولى الحكم يجب أن يعرض أعماله جميعًا للنقد"، وإن محمد محمود "باشا" تكلم عن قضية الصحافة في عام 1940 فقال: "إنه كلما كانت حرية الصحافة أوسع ازداد الدستور احترامًا". وأراد مكرم "باشا" أن يتلو بيانًا للدكتور هيكل "باشا" عن المادة 15 من مواد الدستور، فقال له دولة النقراشي "باشا" إنه لم يصدر استنادًا إلى المادة 15 من الدستور، بل بحكم المادة 198 من قانون المطبوعات، ولذلك فإنه يحتكم إلى رئيس المجلس في أنه لا داعي للكلام في المادة 15 هذه.

واستطرد مكرم "باشا" فتلا بعض فقرات من مذكرة رئيس الشيوخ، مستشهدًا على أنه ليس للحكومة الحق في مصادرة الصحف إلّا لوقاية النظام الاجتماعيّ. وانتقل إلى المادة 198 من قانون العقوبات فتلاها، وهي تجيز المصادرة إذا كان النشر جريمةً استعمل فيها سوء القصد, وهذه الجريمة هي التحريض على ثورة، أو الاعتداء على الأعراض، أو ما يماثل ذلك، وفي هذه الحالة يكون المقصود بالمصادرة هو منع انتشار الجريمة، على أن يتولاها رجال الضبطية القضائية. واستطرد قائلًا: إنه سيبين للنواب هل صودرت صحيفتنا "حزب الكتلة" لجريمةٍ تنطبق عليها هذه المادة؟ وهنا رأى سعادة رئيس المجلس -الأستاذ محمد حامد جوده- أن تذكر الحكومة أسباب المصادرة، ثم يرد عليها مكرم باشا. بيان الحكومة: وكان دولة رئيس الوزراء قد غادر القاعة لسبب طارئ، فتولى عبد الرحمن عمار "بك" مدير الأمن العام إلقاء بيان "دولته" وهذا نصه: حضرات النواب المحترمين: تحرص الوزارة على كفالة حرية الرأي في شتَّى مظاهرها، ومختلف نواحيها، ولعل أجل صورها تلك التي يتعين توافرها في شأن الصحافة, وهي تؤدي رسالتها التي هي رسالة قومية خطيرة الشأن، عظيمة الأثر. وقد عملت الوزارة منذ وليت الحكم على تقدير ما يجب أن تحاط به هذه الرسالة من قدسية، وما ينبغي أن يتوافر لها من حرية شاملة، فلم تلجأ الحكومة إلى مصادرة الصحف في عهدها القائم إلّا في ثلاث حالات, اضطرت فيها إلى ذلك اضطرارًا بدافعٍ من المصلحة العامة، ونزولًا على أحكام قانون المطبوعات.

ثم شرح بيان الحكومة هذه الحالات الثلاث، وأتت صحيفة الأهرام على هذا البيان الحكوميّ برمته، وفيه شرحٌ لكل حالة من الحالات الثلاث، ولكنا نوجز الحديث عنها إيثارًا للإيجاز. فالحالة الأولى: هي مصادرة صحيفة المصري في 12 / 11/ 1946, وذلك بمناسبة المظاهرة التي نظمها طلبة معهد "فؤاد الأول" الديني بمدينة أسيوط، وتفريق البوليس لها، ووقوع حوادث تولت النيابة تحقيقها، وأصدرت أمرها بحظر إذاعة أيّ خبر يتصل بهذه الحوادث، ومع ذلك، ومع أن صحيفة المصري نشرت أمر هذا الحظر، فإنها عمدت إلى نشر أنباء عن هذا الحادث من شأنها التأثير في سير التحقيق. الحالة الثانية: مصادرة أعداد من صحيفتي "الكتلة" و"صوت الأمة" الصادرتين بتاريخ 20/ 1/ 1947, وسبب ذلك: أن كلتا الصحيفتين قد نشرتا خبرًا غير صحيحٍ تحت عنوانٍ بارزٍ, بخطٍّ عريضٍ, مؤداه: أن رجال البوليس أطلقوا الرصاص على طلبة مدرسة حلوان الثانوية للبنين, في يوم الحداد 19 يناير، وأنه قد أصيب منهم عشرة طلاب, غير أن القضاء كشف عن بطلان هذه الأخبار. الحالة الثالثة: مصادرة أعداد صحيفتي "الكتلة" و"صوت الأمة" الصادرة في 10/ 2/ 1947، ذلك أن صحيفة الكتلة نشرت تحت عنوان: "الحالة في الجامعتين" أنباء غير صحيحة من شأنها إثارة الخواطر، ومؤداها أن جامعة "فؤاد الأول" قد حوصرت منذ الصباح الباكر بقوات كثيرة من المشاة، والخيالة، والسيارات المصفحة، والدبابات، فضلًا من سياراتٍ إنجليزيةٍ من النوع المعروف باسم "جيب" بها جنود من الإنجليز, كانت ترابط في مناطق بمدينة الجيزة. كما نشرت "صوت الأمة" تحت عنوان: "الحالة في الجامعتين والمدارس" أنباء غير صحيحة من نوع الأنباء التي نشرتها صحيفة "الكتلة"

من شأنها كذلك إشاعة الفتنة والاضطراب، وتكدير السلم، وخلاصة هذه الأخبار: أن رجال البوليس قد عاودتهم الشهوة الجامحة، واعتدوا على الطلاب اعتداءً وحشيًّا بالعصيّ الغليظة، فأصيب بعضهم بإصابات مختلفة، وأنهم قبضوا على فريق منهم، وأودعوهم مختلف الأقسام.. ولما كانت جميع هذه الأنباء عاريةً عن الصحةِ, فقد بادرت الوزارة إلى تبليغ النيابة عن الصحيفتين؛ إذ أن نشر هذه الأخبار غير الصحيحة، والمكدرة للسِّلْمِ جريمةٌ تعاقب عليها المادة198 من قانون العقوبات. وقد باشرت النيابة العامة التحقيق في هذا الشأن، وحصلت مصادرة أعداد الصحيفتين المذكورتين في يومي 20 يناير و 10 فبراير تطبيقًا للمادة 198 من قانون العقوبات. ومضى البيان يدافع عن سياسة الحكومة في مصادرة الصحف، مستندًا في ذلك إلى مواد في قانون العقوبات أهمها المادة رقم 192، والمادة رقم 198, ثم أعطيت الكلمة للأستاذ أحمد عبد الغفار "باشا" فقال: إن الحكومة تتسامح في التعريض بأشخاصها، ولكنها تلجأ إلى المصادرة لعلمها أن المعارضة تبذل كل جهدها لتكدير الأمن العام، وفي سبيل حماية الأمن العام ستستعمل الحكومة كل سلاحٍ يبيحه القانون، وستمنع اللعب بالنار بكل حزم. وهنا طلب مكرم "باشا" حذف هذا الكلام من المضبطة؛ لأن فيه اتهامًا للمعارضة لا تقبله عن نفسها. وبعد أن انتهى مكرم "باشا" من إلقاء كلمته, طلب الكلمة عبد الرحمن عمار "بك" فاعترض فكري أباظة "بك" طالبًا أن يؤذن للمستجوب الثاني الأستاذ محمد حنفي الشريف بالكلام قبل أن تتكلم الحكومة, واحتج الأستاذ الشريف على عدم الإذن له بالكلام، قائلًا: إن في ذلك مخالفة

لللائحة الداخلية, فأفهمه الرئيس بأنه لا يمنعه من الكلام، وكل ما في الأمر أن الحكومة طلبت الكلمة، ولها الحق فيها كلما أرادات. بقية بيان الحكومة: وتكلم عبد الرحمن عمار "بك" عن الحظر، فقال: إن الاستجواب في حظر النشر غير دستوري؛ لأن النيابة هي التي تصدر أوامر الحظر, وهي تقوم بعمل قضائيّ، وهو من صميم اختصاص السلطة القضائية، والاستجواب لا ينسجم مع مبدأ فصل السلطات، وذكر أن هذا الرأي يقره رجال القانون، واستشهد بفتوى في ذلك لمعالي وزير العدل. وقد اعترض الأستاذ فكري أباظة قائلًا: إن هذا الكلام خطير؛ لأن النيابة لا يمكن أن يباح لها أن تصدر أوامر الحظر كلما أرادت، ودون أي تقييد. واستطرد عمار "بك" فتلا مذكرةً لمعالي وزير العدل في ذلك، ثم ذكر أن كل حرية يجب أن يكون لها حدود, وليس من الحرية ترك الصحف تقول ما تريد لتكدير السلم، وضرب المثل بقول جريدة "الكتلة" إن جامعة "فاروق الأول" قد أحيطت بالدبابات، وإن رجال البوليس أعملوا عصيهم في الطلبة، وإن عشرات منهم أصيبوا بالرصاص, في حين أنه لم يحدث شيء من ذلك. واختتم عمار "بك" كلامه بأن الحكومة ماضية في خطتها في غير ما تعسف, ولكن حمايةً للأمن العام. المناقشة تستأنف اليوم: وعلى أثر ذلك, رفعت الجلسة على أن تستأنف المناقشة في هذا الاستجواب "اليوم" في السادسة مساء. هذا مَثَلٌ عاديٌّ من أمثلة "الماجريات البرلمانية" التي وقعت في مصر، ومنه يتضح كيف أن المحرر البرلمانيّ عرض لمشروعات القوانين بسرعة وإيجاز،

ولم يطل الوقوف عند شيءٍ منها، حتى إذا بلغ الموضوع الرئيسيّ للجلسة البرلمانية -وهو موضوع مصادرة الصحف- لم يدع من كلام النائب المستجوب, أو كلام الحكومة في الرد على هذا الاستجواب شيئًا ما. وقد وضح للقارئ كذلك الطريقة التي سلكها صاحب الاستجواب في التدليل على حقه في تقديم هذا الاستجواب، وهي طريقة تقوم على الحجج القانونية للموضوع من جميع الوجوه، وكأن الحكومة كانت تعرف بالضبط شيئًا عن هذه الطريقة, فتأهبت للرد لتبريء نفسها من التهم التي كالتها لها الصحف السالفة الذكر. على أن هذه الجلسة لم تتمكن من الوصول إلى قرار في هذا الشأن، فلم يستطع المحرر البرلمانيّ أن يذكر لنا شيئًا من ذلك، ولا استطاع أن يصف نهاية الجلسة في ذاتها، مرجئًَا كل ذلك للجلسة التالية. ولا نستطيع أن ندع الكلام عن "الماجريات البرلمانية" دون الإشارة إلى جهود الدكتور" محمود عزمي" في هذا السبيل. والحق أن أهمية الدكتور عزمي في تاريخ الصحافة المصرية ترجع في معظمها إلى تلك الجهود1

_ 1 فإن ننس, لا ننسى تلك التقريرات البرلمانية التي كان يكتبها الدكتور عزمي في جريدة السياسية, للدكتورمحمد حسين هيكل، وقد كان الدكتور محمود عزمي يومًا ما مندوبًا برلمانيًّا لهذه الجريدة، وفي "تلك الماجريات البرلمانية" كان عزمي يرسم صورةً قلميّةً ساخرةً للنواب المصريين، ويضع يده على كثير من مواطن الضعف فيهم، وبلغ من ذلك حدًّا أثار عليه المجلس, فقرر أعضاؤه إذ ذاك أن يطردوه من المجلس، وأن يحرموه الجلوس في شرفة الصحافة، ويحرموا جريدة "السياسة" من نشر محاضر البرلمان، ووقف عزمي وحده في شرفة الصحافة يواجه ضجة المجلس، وفي اليوم التالي, ظهرت جريدة السياسية وفيها مقال عنيف بقلم الدكتور محمود عزمي ضد مجلس النواب المصريّ، وفيها كذلك وصف دقيق لما ورد في الجلسة التي حرم منها واستمرت جريدة "السياسة" تنشر وصفًا لهذه الجلسات التي يعقدها البرلمان حتى هاج المجلس مرة أخرى، وطالب بإجراء تحقيق مع مندوبي الصحف، وموظفي المضبطة, لمعرفة الموظف الذي يمد جريدة السياسة بأخبار هذه الجلسات، ومع هذا وذاك, لم ينته التحقيق الصحفيّ إلى نتيجةٍ ما، واستمر قرار المجلس بحرمان مندوبي جريدة "السياسة" من دخول البرلمان حتى نهاية الدورة.

الماجريات القضائية

الماجريات القضائية: ربما كانت "الماجريات القضائية" أقدم ما عُرِفَ من أنواع الماجريات الأربعة التي سبقت الإشارة إليها1 ذلك أن القضايا المحلية على الدوام هي أكثر ما يسترعي أنظار القراء للصحيفة. فالواقع أنه ليس كل الشعب قادرًا على تتبع الماجريات الدولية أو الدبلوماسية، ولكن أكثر الشعب يستطيع أن يفهم الظروف التي تحيط ببعض القضايا المنظورة أمام المحاكم الوطنية، أو المحاكم العسكرية. وفوق هذا وذاك, فإن من حقك مواطن في الدولة أن يرى بعينيه، ويسمع بأذنيه كيف يطبق القانون في بلاده، وأن يطمئن على سلامة هذا التطبيق، وإلى نزاهة القائمين عليه، وحق الشعب في ذلك, هوكقحه تمامًا في أن يطمئن إلى أن أعضاء البرلمان، أو مجلس الأمة -وهم الموكلون عنها في القيام بمهمة التشريع, وسن القوانين- قادرون على ذلك بأمانة تامة. على أن هذا الحق الجماعيّ الذي يتيح للجمهور أن يراقب بنفسه طريقة سن القانون، وتطبيق هذا القانون يتعارض في الوقت نفسه تعارضًا تامًّا مع حق الفرد الذي تمسه القضية، ويتناول القضاء كما يتعارض وحقوق النواب الذين يتناقشون في داخل البرلمان, أو داخل مجالس الأمة، فإن من حق هؤلاء جميعًا.

_ 1 عندي أن الماجريات ليست أربعة فقط من حيث العدد، ولكنها خمسة كاملة, بإضافة "الماجريات الجامعية" إليها, ونعني بهذه الأخيرة: جميع التقارير التي يمكن نشرها في الصحف حول الجلسات العلنية التي تناقش فيها الرسائل المقدمة من الطلبة للحصول على درجة الماجستير أو الدكتوراه من إحدى كليات الجامعة، وإن صح -بشيء من التجوز- اعتبار "الماجريات الجامعية" جزءًا من الماجريات القضائية, باعتبارها محكمة علمية.

أن تحفظ لهم كرامتهم، وأن تصان لهم سمعتهم، وألَّا تقوم الصحف بالتشهير بهم, فقد توجه المحكمة بعض التهم الخطيرة للمتهمين، وكثيرًا ما يعاملهم القضاة في أثناء المحاكمة بشيء من العنف، وقد يحدث في داخل البرلمان أن يتراشق أعضاؤه بالسباب، أو أن يتنابزوا بالألقاب، أو أن يسم بعضهم بعضًا بميسم الخيانة للوطن، فإذا انتقلت التهم القضائية إلى مجال الصحف, فهنا يشعر المقصودون بها في جميع هذه المواطن السابقة بالخجل والحرج، وقد يثبت القضاء من جانب، أو البرلمان من جانبٍ آخر، أن هؤلاء كانوا على حقٍّ في موقفهم من خصومهم في المحكمة أو في البرلمان. ومع هذا التعارض الشديد بين الحق الجماعيّ للأمة، والحق الشخصيّ للفرد الواحد، أو الجماعة الواحدة من جماعات هذه الأمة، فإن العرف والتقاليد يسمحان للصحافة بأن تخبر عما يحدث في داخل المحاكم الوطنية، وذلك بالقدر الذي سمح به للصحافة أن تخبر عما يحدث في داخل المجالس النيابية، ومتى نشرت هذه الأخبار جميعها في الصحف, فقد أصبح من حق الأمة والأمم الأخرى جميعها أن تعرف ما يجري في هذه الدور، التي نشير إليها. ومن هنا يبدو الفرق الكبير بين الحالتين, بالقياس إلى المتهم في إحدى القضايا. ففي الحالة الأولى -وهي الحالة التي تمتنع فيها الصحف عن النشر- يشعر المتهم بأنه قد نجا بنفسه، وبماء وجهه من أن يراق على نطاق واسع كبير، وهو نطاق الشعب الذي هو منه، والشعوب التي يمكن أن تصل إليها صحف الأمة التي ينتمي إليها. وفي الحالة الثانية -يقع المتهم في الحرج الذي وصفناه. نقول هذا لكي نلفت نظر الصحف جيدًّا في كتابة "الماجريات القضائية"

إلى أن تنص على نوع الحكم الذي تصدره الحكمة، وخاصةً إذا كان الحكم بالبراءة. ونقول هذا أيضًا حتى لا تتورط الصحف في اتهام الأشخاص الذين لم تثبت إدانتهم، والقاعدة المعمول بها في القضاء دائمًا هي: "أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته". ثم إنه على الرغم من التسليم بهذا المبدأ المتقدم، وهو نشر "الماجريات القضائية" في معظم الحالات والبلدان، فإننا نرى بلادًا كانجلترا, لا تقر هذا المبدأ، ولا توافق على نشر "الماجريات القضائية" بل إن قانون القذف عندهم Libelact يتضمن حظرًا على الصحافة أن تخوض في القضايا المنظورة أمام المحاكم، أو تنشر شيئًا عن بعض هذه القضايا في أثناء ذلك، ويعبر القانون الإنجليزيّ عن مخالفة هذا الحظر بتهمة "التهاون بالقضاء" أو تهمة "ازدراء المحكمة Contempt of court" على حين أننا نرى أن نشر القضايا المنظورة أمام المحاكم المصرية مباحٌ لجميع الصحف, وإن كان قانون الإجراءات الجنائية يجعل من حقِّ القاضي أن يحظر النشر متى رأى المصلحة في أن يكون التحقيق سريًّا، ومتى كان في هذه السرية رعاية من جانب القضاء للصالح العام، والآداب العامة. ويفهم من هذا: أن إباحة النشر وحظره بالنسبة للقضايا المنظورة أمام المحاكم المصرية مسألة اعتبارية بحتة، وأنها متروكة للمحقق، أو للقاضي. ولكن ينبغي للقاضي, أو المحقق, ألَّا يسيء أحدهما استعمال هذا الحق، كما حدث ذلك في بعض القضايا الهامة ذات الصلة بالمصلحة العليا للبلاد، أو الصلة القوية بالرأي العام، ومن الأمثلة على هذه القضايا: "قضية الأسلحة الفاسدة" في أثناء الحرب الفلسطينية، فقد حظر المحقق على الصحف أن تنشر شيئًا ما عن هذه القضية التي تهم الشعب المصريّ كله، والشعوب العربية

بأسرها، ولم يكن القضاء على حقٍّ في هذا الإجراء بحالٍ من الأحوال. أما تحرير الماجريات القضائية فتتبع فيه إحدى الطرق الثلاث التي تقدَّم ذكرها في نهاية الفصل الخامس، فطريقة التركيز توحي إلى كاتبها أو محررها بتلخيص موضوع الدعوى والمرافعات في شبه مقالٍ شديد الإيجاز، وكثيرًا ما يكون محرر هذا النوع من الماجريات رجلًا من رجال القانون، كأن يكون مشتغلًا بالمحاماة، أو تكون له خدمة سابقة في سلك القضاء، ونحو ذلك. وبالطريقة التحليلية يفصل المحرر القول في هذه القضية التي يعرضها للقراء، وسجَّل في هذا التفصيل كل سؤال وجهته المحكمة إلى المتهمين، وكل إجابة صدرت عنهم، كما يسجل المحرر بشهادة الشهود، ويعني العناية التامة بمرافعة المحامين من الجانبين، ويصف كل ما وقع في الجلسة من أخذٍ، وردٍّ، وحركةٍ وسكونٍ، ويتضمن التقرير بهذه الطريقة أيضًا كل ما صدر عن الحاضرين من الجمهور من إشارات، وتعقيبات، ونحو ذلك. وبالطريقة المختلطة يقصر المحرر جهده على وصف الظروف والحوادث التي نشأت عنها الدعوى، ويصف الظواهر النفسية، والدلائل الخلقية التي تقترن بها غالبًا، وله أن يهمل وقائع الجلسة في ذاتها، مكتفيًا بتسجيل الحكم الذي نطق به القاضي. على أن المهم من الناحية الصحفية البحتة, هو الإدلاء بتفصيل الحوادث التي سبقت المحاكمة، وأوصلت الطرفين المتنازعين إلى ساحة القضاء, وللمحرر الصحفيّ أن يعتمد في هذا الإدلاء على ما جرى بالفعل في داخل المحكمة مما شهده بعينه، أو سمعه بأذنه، أو على مصدر آخر كمحاضر التحقيق, وملف القضية، أو على المستندات الرسمية الموجودة فعلًا في غير هذا الملف.

وهذا نموذج من "الماجريات القضائية" نشرته صحيفة "الأخبار" الصباحية، وكان حول حادث سيارة أودى بحياة أطفال، وكان شعور الشعب منذ البداية ضد المتهمة في هذا الحادث، وهي الآنسة "نوال نور", وكانت الصحافة تتملق شعور الشعب في ذلك، وكانت تراعي في عرض الجلسات التي تعقدها المحكمة مسايرةً لعرض هذا الشعور، ومع هذا, فإن المحكمة لم تتأثر بالشعور العام في هذه القضية، وحكمت فيها ببراءة المتهمة، وإليك ما حدث يومئذ بالضبط. نشرت صحيفة "الأخبار" بالعدد رقم 1064 من السنة الرابعة، وهو العدد الصادر في يوم الأحد 27/ 11/ 1955, في صفحتها الثالثة من هذه القضية، هذه العنوانات: براءة نوال نور: المحكمة تستمع إلى الشهود والنيابة والدفاع عم نوال يدافع عنهم بوصفه زعيم العائلة ثم قالت الجريدة في صدر هذا التقرير القضائيّ ما نصه: أصدر القضاء حكمه أمس ببراءة نوال من تهمة القتل الخطأ، اتهمت "نوال" بأنها قتلت اثنين، وجرحت اثنين بسيارتها الـ "بويك", استمعت المحكمة إلى أقوال الشهود والنيابة والمدعين بالحق المدنيّ والدفاع، وانضم عمها "محمود متولى نور" إلى هيئة الدفاع، وقال: إني أدافع عنها بوصفي زعيمًا لأسرة نور, تشنجت والدة أحد القتلى وأسعفت في الجلسة. كان هذا هو صدر التقرير، وبعد ذلك أخذت الجريدة في نشر صلب التقرير على النحو الآتي: بدأت الجلسة في الساعة الحادية عشرة صباحًا، وعلى أثر افتتاح الجلسة نودي شهود الإثبات الذين أعلنتهم، فتبين عدم حضور أحد منهم

سوى إبراهيم عبد الجواد التاجر، وقام أحد محاميّ المتهمة, وطلب سماع أقوال شهود النفي، فرد القاضي بأن الدفاع سبق أن تنازل عن سماع شهاداتهم، ثم قام الأستاذ عدلي فرج محامي والد الطفل "إيليا كارازيدس" الذي قتل في الحادث، وطلب سماع شهادته فوافقت المحكمة على ذلك. ثم نوديت المتهمة فمثلت أمام المحكمة, وقال لها القاضي: أنت ارتكبت الجريمة دي، وتسببت بإهمالك في قتل اثنين، وإصابة اثنين. نوال: لا. الشاهد الأول: ثم بدأت المحكمة في سماع أقوال الشهود، ونُودِيَ الشاهد الوحيد الذي حضر من شهود الإثبات الذين أعلنتهم النيابة، وهو التاجر إبراهيم عبد الجواد، فحضر وحلف اليمين، ثم بدأ شهادته بقوله: إنه شاهد شخصين داخل السيارة، هما فتاة وبجوارها شاب، وإن الفتاة قد غادرت السيارة من الباب الأيسر أولًا، ثم تبعها الشاب، وقال إنه لا يعرف أين ذهبت، وإنه شاهد الطفل الذي قتل وقد غُطِّيَ ببعض أوراق الصحف، وأضاف الشاهد إنه عثر على "شنطة" يد بيضاء سقطت على الأرض من سيدة. أعرفها شعرها قصير: ووصف الشاهد الحادث قائلًا: إن صوت السيارة المرتفع المفاجيء هو الذي نبهه، فالتفت نحوه حيث شاهد السيارة تدخل الأجزاخانة، وقد أصيب ثلاثة أشخاص، وسقط طفل تحت عجلاتها، وحاول الجمهور إنقاذه, وصمم الشاهد على أنه شاهد الفتاة، وهي داخل السيارة أمام عجلة القيادة قبل نزولها مباشرة، وعقب الحادث فورًا, وسأله القاضي عَمَّا إذا كان يعرف المتهمة من قبل، فأجاب بالنفي، وأضاف بأنه يمكن

التعرف عليها حيث شاهدها يوم الحادث، ويعرف أن شعرها قصير, وعندما أشار القاضي إلى المتهمة، وسأله عما إذا كانت هي التي رآها تقود السيارة وقت الحادث أجاب بالإيجاب. والدة القتيل: ثم نُودِيَت الشاهدة الثانية، السيدة اعتماد عثمان غالب، والدة محسن محمود جوهر, الطفل الذي قتل في الحادث فحضرت، ووقفت أمام المحكمة، وكانت الدموع تذرف من عينيها بغزارة، وحلفت اليمين، ثم أدت شهادتها على الوجه التالي: المحكمة: كم عمرك؟ اعتماد: 27 سنة. المحكمة: ما معلوماتك؟ اعتماد: أنا يوم الحادث كان معي ابني محسن علشان أوديه السينما، وما لقيتش تذاكر, فقلت له تعال نتفرج على الفسقية اللي في ميدان التحرير, وبعد ما رحنا واجتزنا الميدان لغاية الرصيف, في محل "استرا" قال: اشتري لي شربات، فذهبنا إلى محل الشربات، وفجأة سمعت صوت سيارة مسرعة خلفي، ولقيت عربية سودة طالعة على الرصيف، وصدمت ابني.... ثم أخذت السيدة اعتماد تبكي، وأصيبت بتشنج، وأخذت تصيح: ده ابني, وأبويا, وجوزي, وحبيبي, ده كل حاجة لي في الدنيا ... وطلب منها القاضي أن تهديء نفسها، وتروي كيفية الحادث، فجففت دمعها, ثم قالت: إنها شاهدت نوال بالسيارة، وحلفت اليمين على أنها شاهدتها، وكانت تلبس فستان "كاروهات" وشعرها قصير، وشاب بجوارها يهمس ويقول لها: "انزلي أنت يا نوال". ورودت والدة القتيل كيفية مصرع ابنها فقالت: كنت ما سكة ابني

محسن، ثم جاءت السيارة مسرعة، وصوتها مسموع بشكل بظاهر وواضح، وبمجرد التفاتي وجدت شيئًا خاطفًا كالوحش يهجم حيث سقط وحيدها تحت العجلة. ورددت اعتماد عدة مرات أنها شاهدت "نوال" وهي تمسك "الدركسيون" ساعة الحادث، وأنها تركته ونزلت من باب السيارة الأيسر. المحكمة: قلت في محضر النيابة إنك شاهدت "نوال" وهي واقفة أمام السيارة، وليست أمام عجلة القيادة! اعتماد: لا أذكر، وكنت وقتئذ كالمذهولة، فلم يكن مرَّ على حادث قتل ابني بالسيارة سوى 24 ساعة فقط. المحكمة: هل هذه -وأشار القاضي إلى نوال- هي المتهمة التي أحدثت الحادث؟ اعتماد: نعم، هيّ نفسها، ونظرات عينيها تدل على أنها فتاة ارتكبت جريمة قتل, جريمة إن دلت على شيء فهي لا تدل إلّا على استهتار امرأة. المحكمة: اتركي هذا التعليق أو الكلام للمرافعة. اعتماد: إنه ابني الوحيد -ثم أخذت في البكاء الطويل- وهدأت وقالت: إنه زوجي.. إن محسن كان جميل! المحكمة: هل تعرفين شخصًا اسمه محمد محمود السمني؟ اعتماد: سمعت عنه, وهو الذي أخذني إلى محل "الشربتلي" لأجلس على كرسي، فطلبت منه إسعاف ابني وتحبيسه. الشاهد الثالث: صاحب الصيدلية ثم نُودِيَ شاهد الإثبات الثالث, الدكتور أديب هلال يعقوب, صاحب صيدلية وندسور، فحضر وحلف اليمين، وأدلى بشهادته قائلًا: إنه أغلق

الأجزاخانة يوم الحادث "4 سبتمبر", حوالي الساعة العاشرة إلّا ثلثًا مساءً، وركب مع بعض أصدقائه في سيارتهم إلى كازينو "سان سوسي" بالجيزة، وترك سيارته في الشارع المجاور لمحل أسترا, حتى عودته, وقال: إنهم مكثوا في الجيزة فترةً لا تتجاوز 10 دقائق أو 15 دقيقة، ثم عاد لسيارته، حيث فاجأه المنادي بأن يسرع ويلحق بصيدليته؛ لأنها أصيبت بحادث, فأسرع إليها وشاهد مقدم السيارة داخلًا في الباب، وطفلًَا ميتًا. سؤال من المدعي بالحق المدني: ماذا فعلت فور علمك بالحادث؟ الشاهد: توجهت لقسم قصر النيل. المدعى بالحق المدني: هل شاهدت المتهمة في القسم ومعها أحد؟ الشاهد: كانت في غرفة المأمور ومعها سيدة وولد صغير. المدعى بالحق المدني: ألم تلاحظ معاملة خاصة من البوليس لشهود الرؤية فور وقوع الحادث؟ الشاهد: مكثت في القسم لغاية الساعة 2 صباحًا بعد منتصف الليل, في غرفة المأمور، وأعلم أن شابًّا ميكانيكيًّا طلب سماع أقواله كشاهد إثبات، فرفض المحقق إجابة طلبه، وأمر عسكري البوليس بإخراجه من القسم فورًا. الشاهد الرابع: ثم نُودِيَ الشاهد الرابع: الدكتور مرقص جندي, فحضر وحلف اليمين، ثم قال: في يوم الحادث أغلقنا الأجزاخانة حوالي التاسعة و35 دقيقة مساءً، وتوجهنا أنا وبعض أصدقائي والدكتور أديب إلى كازينو سان سوسي بالجيزة، حيث أقمنا فترةً قصيرةً, ثم أشرت عليهم باقتراح، وهو النوم مبكرًا؛ لأننا كنا متعبين وقتئذ فاجتزنا ميدان التحرير، ووصلنا إلى الصيدلية،

في حوالي الساعة العاشرة والنصف مساءً, ووجدنا السيارة داخل الصيدلية, ووجدنا جسمًا لشابٍّ ميتٍ ملقى بجوارها على الرصيف. المحكمة: ألم تسمع متى حدثت الحادثة؟ الشاهد: الذي سمعته أن الحادث وقع فور مغادرتنا للصيدلية, قاصدين إلى كازينو سان سوسي، وعلى كلٍّ, فالمسافة بين تركنا الصيدلية، وعودتنا إليها لم تستغرق أكثر من ثلثي ساعة على الأكثر. وقال الشاهد: إنه سمع من الناس الذين كانوا موجودين وقت الحادث، أن السيارة كانت تقودها فتاة، وشخص كان يقف بجوارها، وأشار عليها بالهرب، و"الزوغان".... وأضاف أنه سمع هذا الكلام من أناس كثيرين جدًّا. الشاهد الخامس: ثم نودي الشاهد الخامس, وهو "صبحي تادرس" فحضر وحلف اليمين، وروى شهادته التي لا تخرج عن شهادة الطبيبين السابقين. مدير سينما شهر زاد: ثم نودي شاهد الإثبات "عبد المنعم محمد "مدير سينما شهر زاد، فحضر وحلف اليمين، وسأله القاضي: إيه معلوماتك؟ الشاهد: لا أعرف شيئًا عن الحادث. المحكمة: ولماذا حضرت إلى هنا؟ الشاهد: وصلني إعلان بالحضور. المدعي بالحق المدني: هل تعرف المتهمة كمترددة دائمة على السينما؟ الشاهد: نعم, وأعرف شكلها. المدعي بالحق المدني: أثناء عرض الأفلام, ما هي حدود اختصاصك! الشاهد: أكون بجوار الباب أثناء دخول الجمهور.

المدعي بالحق المدني: حيث إن اختصاصك هكذا, فما موقف العمال الذين يقطعون التذاكر؟ الشاهد: من نفس باب السينما. المدعي بالحق المدني: إذا حدث شيء غير عاديّ على السلم، هل يلفت هذا نظرك أم لا؟ الشاهد: كل الذي أراه في السينما أشعر به. المدعي بالحق المدني: في مساء الأحد 4 سبتمبر الماضي, هل تذكر على وجه التحديد إذا كانت نوال حضرت السينما في ذلك اليوم أم لا؟ الشاهد: لا, وجايز تكون حضرت. المدعي بالحق المدني: هل تستطيع أن تحدد لنا وقت الاستراحة الأولى بين الأفلام المختلفة؟ الشاهد: السينما تعرض عادةً 3 أفلام, والاستراحة الأولى، وهي بين الفيلم الأول والثاني تكون في حوالي الساعة التاسعة، أو التاسعة والربع مساءً، والاستراحة الثانية بين الفيلمين الثاني والثالث، لأنها تبدأ في الساعة الحادية عشرة والربع مساءً. شقيقة القتيل: ثم نُودِيَت شاهدة الإثبات "الآنسة جماني" شقيقة القتيل الثاني, الطفل "إيليا كارازيدس" فأدلت بشهادتها. إسماعيل السنوسي: ثم نُودِيَ شاهد الإثبات "إسماعيل السنوسي" تاجر الأفلام, فحضر وحلف اليمين، وقال إنه شاهد أثناء جلوسه بمحله المجاور للصيدلية السيارة وهي تقتحم الصيدلية بسرعة مذهلة، ثم نزلت منها فتاة، وقد مال عليها شابٌّ وهو يأمرها بالهرب و"الزوغان" حيث شاهدها بعد ذلك، وهي

واقفة مع بوليس النجدة، والناس يشيرون إليها ويقولون: أهي دي اللي كانت سايقة السيارة. الطفل بولي هارجيان: ثم نُودِيَ الطفل "بوللي هارجيان" وهولم يتجاوز العاشرة من عمره, فحضر وحلف اليمين، وروى للمحكمة شهادته: من أنه كان واقفًا مع الطفل "إيليا" على الرصيف المجاور لمحل أسترا، ثم فوجيء بالسيارة وهي تقتل زميله الطفل "إيليا" وقال: إنه شاهد الفتاة وهي تقود السيارة, وفي يدها عجلة القيادة وقت الحادث. قضية لا تحتاج إلى جهاد: وبعد ذلك نهض الأستاذ سليمان أيوب، يمثل النيابة العامة وقال: إن القضية لا تحتاج إلى جهاد فهي ثابتة، والوقائع ليس مختلفًا عليها، والشهود كثيرون، ويؤيدون اتهام الفتاة، وأنها كانت تقود السيارة بسرعة مذهلة، حتى صعدت إلى الرصيف، وصدمت كل من يقف عليه. وقال وكيل النيابة: إن الإصابة لا يمكن وصفها إلّا بأنها قتل, وشهود الإثبات وصفوا الواقعة وصفًا دقيقًا، والنيابة لا يسعها إلّا أن تطلب تطبيق أقصى العقوبة، والحكم بحبسها مع النفاذ. مرافعة المدعين بالحق المدني: ثم نهض الأستاذ "عدلي فرج" الحاضر مع والد الطفل "إيليا" كارازيدس، فقال: إن المتهمة وشهودها حاولوا التلفيق، ثم فند أقوال شهود الإثبات. وانتقل إلى تفنيد أقوال الأنجال الثلاثة للدكتور محمد كامل مرسى, مدير جامعة القاهرة، وقال: إن ولدهم هو الصديق الحميم لعائلة نور، وإن ولديه جميل والمعتز, صديقان لشقيقهما حازم.

اللهم وفق: وقال الأستاذ عدلي: نعرف أن نوال وشقيقها قد انتهزا غيبة السائق، وأخذا السيارة؛ لأن معهما مفتاحًا ثانيًا لها.. وسمُّوها يا حضرات القضاة زي ما تسموها.. رعونة.. شيطنة.. شقاوة.. عدم تقدير للمسئولية.. المهم أن "نوال نور" أرادت أن تخرج في نزهةٍ مع من كانوا معها بعيدًا عن أعين السائق.. وفي سبيل هذه النزهة أرادت نوال أن تقود العربية، فقتلت طفلين, وحطمت رجلين، وأتلفت ممتلكات, وأثكلت أمهات. استراحة: وكانت الساعة قد بلغت الواحدة مساءً, فرفعت الجلسة للاستراحة, ثم أعيدت للانعقاد في الساعة الواحدة والنصف. مرافعة الأستاذ حسين رءوف: ونهض الأستاذ "حسين رءوف" المحامي عن المدعية بالحق المدني، وهي السيدة: اعتماد, والدة القتيل محسن جوهر, وقال: إن القضية قضية وقائع، وتدول حول نقطة هامة، وهي: هل كانت نوال نور في سينما شهرزاد كما تدعي، أم أنها كانت في السيارة وقت الحادث؟ وانتهى إلى القول بأن التهمة ثابتة, قبل نوال نور, وطلب الحكم عليها بأشد العقوبة. مرافعة الأستاذ عبد الرحمن حسن: ثم نهض الأستاذ: عبد الرحمن حسن, المحامي عن والد القتيل الطفل "محسن" وقال: إن حكم القضاء العادل سوف يكون هو الرادع القوي للطائشين من أمثال نوال وغيرها من المستهترين.

مرافعة جمال الشريف: وأعقبه الأستاذ جمال الشريف, المحامي الحاضر مع المدعي بالحق المدني, إسماعيل لبيب، وقال: إنه يطلب جعل مبلغ الثلاثة آلاف جنيه التي طلبها تعويضًا مؤقتًا لا كاملًا، ثم قدَّم للمحكمة شهادة طبية من مستشفى الدكتور الغريني, أثبت فيها أن موكله هو ميت حي في كفنٍ من الجبس. استراحة: وكانت الساعة قد بلغت الثانية والنصف مساءً, فرفعت الجلسة على أن تعود للانعقاد في جلسة مسائية أخرى, بدأت من الثالثة والنصف. الجلسة المسائية: وفي الساعة الثالثة والنصف استأنفت المحكمة جلسةً مسائيةً ثانيةً لنظر القضية، ونهض الدفاع عن المتهمة، الأساتذة: محمد إسماعيل عوض، ومحمد ممدوح، وترافعا، ففندا أقوال الشهود، وتكلما كثيرًا في الناحية القانونية، وطلبا براءة موكلتهما، ورفض الدعوى المدنية. مرافعة عم المتهمة: ثم نهض عم المتهمة الأستاذ: محمود متولى نور، محافظ القاهرة السابق، وقال: إنه ينضم إلى زملائه المحامين عن ابنة شقيقه، ولكنه يتكلم بوصفه زعيم أسرة نور, وقال: إن القضية ليس فيها دليل قبل نوال نور. وعقب ذلك نهض الأستاذ: عدلي فرج, عن المدعي بالحق المدني، وعَقَّبَ على مرافعة الدفاع، وقال: إنه بعد سماع هذه المرافعات ينتهي إلى أن القضية أكثر ثبوتًا الآن, قبل نوال نور. ثم عَقَّبَ عليه الأستاذ: محمد ممدوح, وصمَّمَ على طلب البراءة. وكانت الساعة قد بلغت السابعة إلّا ربعًا، فرفعت للمداولة, حيث أعيدت للانعقاد في الساعة الثامنة والربع، وأصدر القاضي الحكم الآتي نصه:

أولًا: حكمت المحكمة حضوريا للمتهمة وللمدعين بالحق المدني ببراءة المتهمة مما أسند إليها، ورفض الدعاوي المدنية الأربع المقدمة ضدها من كلٍّ من: اعتماد عثمان غالب، ومحمود سليمان جوهر، وإسماعيل أحمد لبيب، وبردورس كازاريدس, مع إلزام رافعيها بمصاريفها "بلا مصاريف جنائية". وزغردت بعض النسوة الحاضرات مع نوال، وهتف بعض مؤيديها: "يحيا العدل", ثم خرجت وركبت سيارتها الشفرولية موديل 55 الجديدة التي اشترتها عقب الحادث. بهذه الطريقةكتبت صحيفة "الأخبار" تقريرها عن هذه القضية التي شغلت بال الجمهور في مصر نحوًا من سنة, وكان شعور الجمهور -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- ضد المتهمة التي كانت السبب في هذه الجناية, وتوخت الصحيفة مسايرة هذا الشعور العام, فكانت تأتي بالصور التي تتفق وهذا الاتجاه، أو التي توحي بهذا الإحساس، كما كانت تكتب "بالبنط الأسود" بعض أقوال الشهود والمحامين الممثلين للاتهام, مما له دلالة خاصة، وتأثير معين في سير القضية نحو الإدانة لا البراءة. ومع هذا وذاك, فقد شاء القضاء المصريّ أن يصدر حكمه بالبراءة على نحو ما رأيت.

الماجريات الدبلوماسية

الماجريات الدبلوماسية: لكل دولة من الدول سياستها الخاصة بها، الداعية إليها، والمروّجة لها، غير أن هذه السياسة الخاصة تتغير من وقتٍ لآخر, حسبما تقتضيه الظروف والأحوال، وحسبما يحيط بالدولة نفسها من ملابساتٍ وتياراتٍ، ومهما يكن الأمر, فلا مناص للدولة الواحدة من أن تكون لها سياسة واحدة في فترةٍ من الزمن واحدةٍ، وإذ ذاك تحاول هذه الدولة أن تجذب إليها أكبر عدد ممكن من الدول التي يمكن أن تتفق معها في هذا الاتجاه, وفي سبيل هذه الغاية تعقد الدولة من حينٍ لآخر بعض المؤتمرات التي تدعوا إليها، أو تُدْعَى هي إليها، للنظر في هذه الاتجاهات السياسية التي تهمها، وتهم الدول الضالعة معها، وهذا ما يطلق عليه: "الأحداث الدبلوماسية"، ومنها على سبيل المثال: مؤتمر الصلح بين دولتين متحاربتين، والمؤتمرات السياسية التي تعقد فيها المعاهدات وقت السلم، والمفاوضات، أو المشاورات التي تدور حول بعض المشكلات الدولية على اختلافها. ومن الأمثلة على هذه الأخيرة: المؤتمر الذي عُقِدَ من ممثلي كوريا الشمالية، وكوريا الجنوبية, في أثناء الحرب الكورية، ومنها مؤتمر الحكومات العربية الذي انعقد بالقاهرة في أوائل عام 1954, لبحث الموقف العربيّ عقب الاعتداءات الصهيونية على حدود البلاد العربية، ومنها المؤتمر الثلاثيّ المؤلف من ملك المملكة العربية السعودية، ورئيس الجمهورية السورية، ورئيس الجمهورية

العربية المتحدة، وقد انعقد بالقاهرة في مارس سنة 1956, لتحديد السياسة العربية تجاه إسرائيل والدول الاستعمارية. ومنها: مؤتمر وزراء خارجية مصر، وسوريا، والأردن، ولبنان, المنعقد في شهر مايو سنة 1956 بدمشق؛ لبحث تقرير الجنرال "بيرنز", مندوب هيئة الأمم المتحدة عن مشروع تقسيم مياه الأردن، ومنها كذلك المؤتمر الذي ضَمَّ ملوك العرب ورؤساهم, في بيروت في 13 نوفمبر سنة 1956, للنظر في سياسة الدول العربية، وعلاقاتها بكل من انجلترا وفرنسا، وذلك عقب الاعتداء الثلاثيّ المسلَّح من جانب هاتين الدولتين، ومعهما دولة إسرائيل في الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر من السنة المذكورة. ومنها كذلك: المؤتمر الذي عقدته دول كولمبو "الهند وأندونيسيا، وسيلان، وبورما", للنظر في سياستها المشتركة بإزاء العدوان الثلاثيّ المسلَّح الذي تقدم ذكره. على أنه من الملاحظ أن هذه المؤتمرات الدبلوماسية كثيرًا ما تنعقد بصفة سرية, فلا يتمكن الصحفيون من حضورها، اللهمَّ إلَّا في البداية، أعني: في الجلسات الافتتاحية، وهي الجلسات التي يكتفي فيها بعرض جدول الأعمال، وإلقاء كلمات الترحيب, أو التشجيع من جانب الملوك والرؤساء والوزراء، ثم يمضي المؤتمر الدبلوماسي بعد ذلك في عقد جلساته دون السماح لمندوبي الصحف بالحضور, إلَّا في حالاتٍ خاصة. من أجل ذلك يصعب على الباحث أن يحصل على تقارير في شكل ماجريات دبلوماسية دقيقة، وبدهيّ أن رجوع الباحث العلمي في الصحافة إلى محاضر هذه المؤتمرات لا يفيده كثيرًا؛ لأنه إنما يُعْنَى بالطريقة الفنية التي تعالج بها الصحف هذه الماجريات السياسية، ولا عناية له بهذه الأحداث من الناحية التاريخية. من أجل ذلك تلجأ بعض الصحف إلى إهمال هذا النوع من الماجريات

فتكتب عنه بإيجازٍ شديدٍ في أول الأمر، ثم تنتظر إلى الجلسة الأخيرة، فتبذل فيها كل ما تستطيع من جهد، وتكتبها في شكل ماجريات دبلوماسية بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة عند إطلاقها, والسبب في ذلك أن هذه الجلسة الأخيرة هي التي ينتهي فيها المجتمعون إلى قرارٍ مشترك يصدرونه بشكل "بيان رسمي" يعبر عن آرائهم، ويوضح اتجاهاتهم، ويَنُمُّ عن الخطط التي وضعوها للسير في هذا الاتجاه. نموذج: لقد اخترنا أن يكون النموذج لهذه الماجريات الدبلوماسية هو المؤتمر الذي عقده وزراء خارجية الدول العربية بالقاهرة, في أوائل يناير سنة 1954، وفيه انتهى هؤلاء الوزراء من رسم "السياسة العربية الجديدة" على ضوء المشروع الذي قدمه الدكتور فاضل الجمَّالي, وزير خارجية العراق فيما يلي: نشرت الأخبار في يوم الاثنين 11 يناير سنة 1954, بالصفحة الأولى من صفحاتها بعنواناتٍ كبيرة، وأخرى أصغر منها ما يلي: محمود فوزي يشرح للجنة السياسية آخر تطورات القضية المصرية: اللجنة السياسية تدرس مشروع الجمالي: صيغة عربية لرفض المفاوضات مع إسرائيل: ثم قالت الصحيفة: علمت "الأخبار" أن مصر قبلت مشروع الدكتور فاضل الجمالي رئيس وفد العراق من حيث المبدأ، وهو المشروع الذي أعدَّه للعرض على اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية، أما تفصيلات المشروع: فإن مصر ستشترك في بحثها في اجتماعات اللجنة السياسية.

ويقضي هذا المشروع باتحاد الدول العربية في شئون الدفاع والمالية والتعليم والاقتصاد والسياسة الخارجية. وقد انتهت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية أمس من مناقشة آخر تطورات القضية المصرية كما عرضها في الاجتماع الدكتور محمود فوزي، وزير الخارجية. وقد صرَّح بذلك الدكتور فاضل الجمالي, رئيس وفد العراق، وتفرعت عن اللجنة السياسية في اجتماعها أمس لجنة فرعية من سفراء الدول العربية, برياسة الأستاذ سامي أبو الفتوح، وكيل وزارة الخارجية. ووافقت اللجنة على صيغة الرد الذي سترسله حكومة الأردن إلى سكرتيرية الأمم المتحدة، والذي سترفض فيه طلب الأمم المتحدة إجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل. وعرضت الصيغة على اللجنة السياسية، فأقرتها في هذا الاجتماع. اجتماع اللجنة: وكتب مندوب "الأخبار" للشئون العربية ما يلي: عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية أولى اجتماعاتها في وزارة الخارجية, في الساعة الخامسة بعد ظهر أمس, برياسة الدكتور محمود فوزي، وزير الخارجية المصرية، وحضور سائر وزراء الوفود العربية، ووزراء خارجيتها، والأستاذين عبد الخالق حسونة الأمين العام، وأحمد الشقيرى الأمين المساعد. كلمة محمود فوزي: واستهلَّ الدكتور فوزي الاجتماع بكلمةٍ رحَّبَ فيها بالوفود العربية باسم الجمهورية العربية المتحدة، وتمنى لهم التوفيق في مهمتهم، وأكَّدَ أن كل ما ترجوه مصر لشقيقاتها العربية هو السيادة الكاملة، والتحرر من كل

نفوذٍ أجنبيٍّ، وأن تسعد الشعوب العربية بوحدتها وحريتها، وأن مصر لن تدخر وسعًا في هذا السبيل، حتى تغدو الأمة العربية خفاقة الأعلام في البر والبحر، مرفوعة الكرامة في الشرق والغرب. وأشار إلى فلسطين، فوصفها بالشقيقة الشهيدة المظلومة، وأنها يجب أن تعاد كما كانت، وينعم بها أهلها المشردون في كل قطر. مناقشة القضايا الكبرى: وعقب ذلك انصرف الأعضاء إلى دراسة الموقف الدوليّ وتطوراته في الأمم المتحدة، وموقف الدول الكبرى من القضايا العربية، وفي مقدمتها القضية المصرية. بحث القضية المصرية: وظلت المناقشة نحو ساعةٍ في هذا الشأن، ثم بدءوا في بحث القضية المصرية وموقف بريطانيا منها. الانقسام إلى ثلاث لجان: وفي نحو الساعة السابعة والربع انقسمت اللجنة السياسية إلى ثلاث لجان؛ الأولى من وزير الخارجية المصرية مع رؤساء الوفود العربية، وقد اجتمعوا نحو ساعةٍ في مكتب الوزير، وأطلعهم الوزير على تطورات القضية المصرية، وظروف المباحثات مع بريطانيا, وحضر هذا الاجتماع السيد عبد الخالق حسونة, الأمين العام للجامعة. واجتمعت اللجنة الثانية في مكتب الأستاذ سامي أبو الفتوح، وكيل الخارجية مع بعض أعضاء الوفود، ومعهم الأستاذ أحمد الشقيري, الأمين المساعد، وبعد ساعةٍ انضمت هذه اللجان، وواصلت بحثها، وفي منتصف الساعة التاسعة انفضَّ الاجتماع، وصرَّح الأستاذ عبد الخالق حسونة, الأمين العام بالبيان التالي:

"بدأت اللجنة السياسية مناقشتها الليلة للقضايا العربية الكبرى، ومن بينها القضية المصرية, ولم تنته المناقشة بعد، وإن اللجنة ستستأنف اجتماعاتها في الساعة الرابعة من بعد ظهر غد -اليوم- لمواصلة أبحاثها". وأضاف أن اللجنة بحثت أيضًا في قضية فلسطين وقضايا شمال أفريقيا. العرب يؤيدون مصر: وذكر الأستاذ حسونة أن جميع الوفود العربية يساندون القضية المصرية، ويؤيدونها تأييدًا تامًّا. الجمالي لم يقدم مشروعه بعد: وسئل عمَّا تَمَّ بشأن موضوع اتحاد الدول العربية الذي يقترحه الدكتور فاضل, رئيس الوفد العراقيّ، فقال: إن الدكتور الجمَّالي لم يقدم بعد أي شيء للجنة، وأن أعضاء اللجنة طالعوا المشروع في الصحف. اقتراح الجمَّالي: وكنا قد أشرنا أمس إلى الاقتراح الذي سيقدمه الدكتور فاضل الجمالي إلى مجلس الجامعة ولجنته السياسية، وهو المشروع الخاص باتحاد الدول العربية، وقد صيغ الاقتراح في مذكرة خطية من صفحة واحدة في حجم "الفولسكاب" وتبدأ بمقدمةٍ عن أهمية الوحدة العربية، وكيف أنها الأمل المنشود للشعوب العربية، وأن العراق لا يرحب بتحقيق الوحدة فحسب، بل يعمل على تحقيقها. وقد تضمنت المذكرة أن مصر في عهدها الجديد قد اتجهت كذلك إلى الدعوة للوحدة العربية، والعمل أيضًا على تحقيقها، وأن الدول العربية لترحب بهذه الدعوة, وتلبي نداءها, ولذلك, فإن العراق يرحب بالاتحاد مع كل دولة عربية، ويعرض اقتراحه هذا تاركًا التفاصيل الخاصة بتنفيذه لتبحثها الدول العربية.

وجاء في المذكرة كذلك، أنه من الطبيعيّ ألَّا يتيسر في الوقت الحاضر تحقيق الوحدة الشاملة بين جميع الدول، ولذلك, فإنه يمكن أن يبدأ بتحقيقها على مراحل, وفي هذه الحالة تظل الجامعة العربية قائمةً إلى أن تتم الوحدة المنشودة. وطالب بأن يبدأ بتحقيق الوحدة بين دولتين أو أكثر، وبعد ذلك تنضم بقية الدول العربية بالتتالي! وبعد ذلك لخَََََّص فاضل الجمالي الفكرة، فقال: إنها تتركز في توحيد الدول العربية من حيث شئون الدفاع والسياسة الخارجية والشئون الاقتصادية والمالية والثقافية. وختم الفكرة بقوله: وإنني أترك البحث في التفاصيل، وفي تنفيذ الفكرة إلى الدول العربية، لتقرر ماتراه. من هذا النموذج الذي قدَّمنَاه للماجريات الدبلوماسية, تتضح لنا الخطوات التي ينبغي اتباعها في كتابة هذا النوع، وتتلخص هذه الخطوات فيما يلي: أولًا: دراسة موضوع التقرير دراسة جيدة من جانب المحرر الصحفيّ الذي عهدت إليه الصحيفة بكتابته، وبديهيّ أن هذه الدراسة لازمة لمعالجة مثل هذا التقرير، ولفهم القضايا السياسية التي يعرضها الأعضاء المشتركون في هذا المؤتمر الدبلوماسيّ أو ذاك. ثانيًا: حضور الجلسات التي يعقدها المؤتمر إذا كان ذلك ممكنًا؛ لأن كثيرًا من هذه الجلسات يكون سريًّا، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، ولكن هذا لا يمنع الصحفيّ من الوجود في مكان المجتمع، والتربص بالأعضاء لكي يتصيد كل ما يمكن من الأخبار، ويلقي الأسئلة على من يراه منهم، ويبذل في ذلك كل جهد مستطاع.

وهكذا يستطيع المحرر الصحفيّ أن يجمع المعلومات والقرارات والأحاديث والبيانات حول موضوع التقرير الذي يريده. ثالثًا: المبادرة بكتابة هذا التقرير, وهو حديث عهد به وبالحوادث التى اكتنفته, والجو الذي حصل فيه, مستعينًا في ذلك بأرشيف الصحيفة، إذا كان هناك ما يدعو إلى هذه الاستعانة، وذلك لتوضيح بعض ملابسات الموضوع، وصلة هذا الموضوع بقرارات وبيانات سابقة. رابعًا: يراعي في كتابة التقرير أن يكون على شكل يقرب من القصة الخبرية في الصحيفة، بمعنى: أن يكون له "صدر" و "جسم" أو "صلب"، مع ملاحظة الفرق بين القصة الخبرية، والتقرير الصحفيّ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وخلاصة هذا الفرق: أن التفاصيل في القصة الخبرية ليست لها نفس الأهمية التي للتفاصيل في الماجريات الصحفية، وذلك أن التفاصيل في القصة الخبرية يمكن الاستغناء عن بعضها, متى أدت ظروف الطباعة -فن وإخراج الصحيفة- إلى ذلك؛ بحيث لا تتأثر القصة الخبرية نفسها بهذا الإجراء، أما التفاصيل في الماجريات الصحفية فكلها ضرورية، وإذا حُذِفَ شيءٌ منها ظهر أن هذه الماجريات مبتورة بترًا واضحًا للقراء. على أنه إذا رأت الصحيفة أن مساحة التقرير كبيرة، ففي هذه الحالة يمكن أن يختصر جزء من هذا التقرير بطريقة فنية لا آلية، بشرط ألّا يحذف هذا الجزء جملة، على نحو ما يحدث في فن المقال بوجهٍ عامٍّ. خامسًا: أما القرارات والبيانات الرسمية ونحو ذلك, فأشياء لا يستطيع المحرر الصحفيّ أن يتصرف فيها على نحو ما. ذلك أن هذه المواد تعتبر وثائق رسمية يرجع إليها يومًا ما، وغاية ما هنالك أنه يمكن للمحرر أن ينشر هذه المواد مستقلة عن التقرير نفسه، وفي مكانٍ بالصحيفة, قريب من مكان هذا التقرير.

الماجريات الدولية

الماجريات الدولية: ليس من السهل في حقيقة الأمر أن يفصل الباحث فصلًا تامًّا بين الماجريات الدبلوماسية، والماجريات الدولية، فكل من هذين النوعين من الماجريات إنما يقوم على السياسة الخارجية للحكومة, بوصفها ذات مصالح وعلاقات خاصة بالدولة الأخرى، أو بعبارةٍ أخرى: بوصفها عضوًا من أعضاء الأسرة الدولية في العالم أجمع. غير أن الفرق الأوحد بين النوعين: أن الأول -وهو الدبلوماسي- أضيق نطاقًا من الثاني، وهو الدوليّ، فكل دولة -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- تدور في فلك دول أخرى قريبة منها في الاتجاه السياسيّ، أو تدور هذه الدول معها في هذا الفلك السياسيّ، فحيث تعقد المؤتمرات بين رؤساء هذه الدول المتشابهة في السياسة, أو بين وزراء الخارجية فيها؛ فهذا هو الماجري الدبلوماسيّ، وحيث تعقد الاجتماعات الدولية الكبيرة التي تشترك فيها الدول بصفةٍ عامةٍ، فتلك هي الماجريات الدولية, ومع هذا وذاك, لا يزال الفصل بين النوعين فصلًا تامًّا في غير مقدور البحث العلميّ إلى يومنا هذا. ففي الوقت الذي تكتسب فيه هذا الكتاب, حضرت إلى مصر لجنةٌ خماسيةٌ يرأسها المستر "روبرت مانزيس R. Menzis" رئيس الوزارة الاسترالية، وكذلك في أوائل شهر سبتمبر سنة 1956، وقد جاءت هذه اللجنة لتفاوض رئيس الجمهورية العربية المتحدة في أمر " تدويل قناة السويس"، وقبلت مصر المفاوضة، ولكن على غير هذا المبدأ؛ لأن مصر كانت قد فرغت من تأميم القناة، وبقيت مصممة على موقفها هذا إلى اليوم.

فهل تعتبر هذه اللجنة التي أشرنا إليها مؤتمرًا دبلوماسيًّا؟ أم تعتبرها مؤتمرًا دوليًّا؟ الواقع أنها تعتبر مؤتمرًا دوليًّا دبلوماسيًّا في وقت معًا. ومثل ذلك يمكن أن يقال بالقياس إلى مؤتمر لندن، وهو المؤتمر الذي عقد في أغسطس من السنة المذكورة. وكان قوامه ثلاثًا وعشرين دولة, اجتمعت بلندن, للنظر في نفس المشكلة المتقدمة، وهي مشكلة قناة السويس، فهو يعتبر في نظرنا ذا صبغة مزدوجة. أما المارجريت التي تختص بجميع المنظمات الدولية؛ مثل عصبة الأمم فيما مضى، ومؤتمر نزع السلاح، وجلسات الأمم المتحدة بفروعها المختلفة1, ومؤتمر الكتلة الآسيوية الأفريقية الذي اجتمع في باندونج، وغيرها من الاجتماعات العامة التي يباح للصحفيين حضورها في الأعم الأغلب، فكلها مجتمعات دولية بحتة، والتقارير التي تكتب عنها تعتبر من الماجريات الدولية التي لاشك في دولتيها. وقد اخترنا أن نضرب المثل هنا بالمؤتمر الذي الذي عقدته الكتلة الأسيوية الإفريقية، وهو: مؤتمر باندونج: هو المؤتمر الذي تألف من الدول الآسيوية والإفريقية, التي تجمعها غاية واحدة، هي الوقوف بين الكتلتين الشرقية والغربية، كما تسعى لتحقيق هدف معين، هو محاربة الاستعمار، وتحقيق التعاون بينهما في الميادين الاقتصادية، والثقافية, والسياسية.

_ 1- وهذه الفروع حسب ورودها في ميثاق الأمم المتحدة هي: 1- الجمعية العامة. 2- مجلس الأمن. 3- المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ. 4- مجلس الوصاية. 5- محكمة العدل الدولية. 6- الأمانة.

ولأن هذا المؤتمر يعتبر في الواقع أجلَّ حادثٍ سياسيٍّ في عام 1955، فقد اخترناه مثلًا من أمثلة الماجريات الدولية, وسنعتمد في ذلك على صحيفة "الأهرام" الصادرة في يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر أبريل من السنة المذكورة، وقد صدرت يومئذ وفي صفحتها الأولى هذه العنوانات الكبيرة التالية: مؤتمر باندونج يقر مبادئ السلام العالميّ: مناشدته العالم خفض القوات المسلحة: وتحريم استخدام أسلحة الدمار الشامل: الرئيس جمال عبد الناصر يشيد بنجاح المؤتمر في جلسته الختامية: ثم قالت الأهرام: انتهت أمس في باندونج اجتماعات المؤتمر الأفريقيّ الآسيويّ الأول، وقد اجمعت الدول السبع والعشرون التي اشتركت فيه على اتخاذ قرارات في مختلف المسائل التي بحثتها، وفي مقدمتها برنامج لتحقيق السلام العالميّ, تضمن عشرة مبادئ، وهي: 1- احترام حقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة. 2 احترام سيادة جميع الدول، ووحدتها. 3- الاعتراف بحق المساواة بين جميع الأجناس، والقوميات. 4- عدم التدخل في شئون الدول الأخرى. 5- حق كل دولة في الدفاع عن نفسها بمفردها، أو بالاشتراك مع غيرها، طبقًا لميثاق الأمم المتحدة. 6- الامتناع عن استخدام أية تدابير، أو اتفاقات جماعية لصالح

أية دولة من الدول الكبرى، والامتناع كذلك عن الضغط على الدول الأخرى. 7- الامتناع عن أعمال التهديد، أوالعدوان، أو استخدام القوة من جانب أية دولة. 8- تسوية كل المنازعات الدولية بالطرق السلمية. 9- تنمية المصالح المتبادلة، وزيادة التعاون. 10- احترام العدالة، والالتزامات الدولية. وفيما يلي ما تلقيناه من الجلسة الختامية للمؤتمر: باندونج في 24: من ممدوح طه مندوب "الأهرام" الخاص، و"جيبون سيموندز" مراسل "الأهرام" الخاص. أنفضَّ مساء الجمعة المؤتمرُ الآسيويّ الأفريقيّ الأول، وأعلن في البيان الرسميّ الذي صدر بهذه المناسبة, أن الدول السبع والعشرين التي اشتركت فيه, وافقت بالإجماع على القرارات التي اتخذت بشأن كل المسائل التي بحثتها. عقد المؤتمر مرة أخرى: وكان الرئيس جمال عبد الناصر قد عرض على المؤتمر أن يعقد اجتماعه القادم في القاهرة، واقترح "شواين لاي" في جلسة اليوم أن ينعقد المؤتمر مرة أخرى، وقد وافق المؤتمر على ذلك، ولكن دون تحديد موعد الاجتماع ومكانه. التنديد بالأسلحة الذرية: وقبل أن يعقد المؤتمر جلسته الأخيرة, قامت لجنة فرعية بإعداد صيغة البيان الرسميّ عن أعمال المؤتمر، بينما أعدت لجنة أخرى صيغة قرار بالتنديد بالأسلحة الذرية.

تقرير اللجنة الاقتصادية: وكانت اللجنة الاقتصادية قد انتهت من أعمالها، وأعدت تقريرًا بذلك, تجنبت أن تشير فيه إلى مسألة حظر تصدير المواد الاستراتيجية من الدول الغربية إلى الصين الشيوعية. قيود التعليم بالمغرب العربيّ: ونددت اللجنة الثقافية في تقريرها ببعض الدول الاستعمارية التي لا تزال تحرم الشعوب الخاضعة لها من الحقوق الأساسية، ولا سيما فيما يتعلق بالتعليم، كما هو الحال في تونس، والجزائر، ومراكش بحيث تحرم فرنسا شعوب تلك البلاد من تعلم لغتهم الأصلية، وهي اللغة العربية. التنديد بالاستعمار: كانت الدول المناهضة للشيوعية في اللجنة الفرعية المكلفة بوضع صيغة قرار المؤتمر عن التنديد بالاستعمار, متمسكةً بوجوب النص في القرار على التنديد أيضًا بأعمال التسلل السياسيّ، والحركات الهدامة. ولكن الدول الأخرى؛ ومنها الصين، والهند، ومصر، وبورما، وسوريا وغيرها, رأت أن يكتفي بالنص في القرار على الاستعمار في كل أشكاله، بدون الإشارة إلى أعمال التسلل السياسيّ، والحركات الهدامة، على اعتبار أن ذلك موضوع آخر لا علاقة له بالاستعمار. وقد اجتمعت هذه اللجنة اليوم وتمكنت -بعد مناقشات طويلة، وتبادل في وجهات النظر- من الاتفاق بالإجماع على الاكتفاء بالنص في القرار على التنديد بالاستعمار بكل أشكاله ومظاهره1.

_ 1 كان المقصود من إضافة العبارة "بكل أشكاله ومظاهره" انتهاء الخلاف الذي نشب بين أعضاء اللجنة حول تحديد معنى كلمة "الاستعمار"؛ إذ رأت بعض الدول المرتبطة بالأحلاف الغريبة أن هذا المعنى يشمل العلاقة بين الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية, راجع تقرير الأمين العام لجامعة الدول العربية عن مؤتمر باندونج.

وكان السودان، وليبيا، ولبنان, من الدول التي تضامنت مع العراق، وتركيا, وغيرها من الدول المناهضة للشيوعية. معجزة في آخر لحظة: وكان قد بدا للكثيرين أن لا سبيل للاتفاق، وخاصةً بعد أن طالت المناقشات, واقترب الموعد المحدد لعقد الجلسة الختامية للمؤتمر، وشاع أن المؤتمر سيضطر إلى إرجاء جلسته الختامية، ولكن حدثت معجزة في آخر لحظة, بعد أن رأت الوفود المختلفة أنه لا بد من أن يصدر المؤتمر قرارًا يندد فيه بالاستعمار بأي شكل، وإلّا فإن الرأي العام العالميّ سينظر إلى المؤتمر على أنه قد أخفق، ولم يتفق أعضاؤه فيما بينهم على المسألة الرئيسية التي اجتمعوا من أجلها، وهي مسألة الاستعمار! التعايش السلميّ: وتعرضت اللجنة المكلفة بإعداد صيغة القرار الخاص بالمعايشة السلمية بين مختلف النظم السياسية, لصعوبات مماثلة، ولكنها تغلبت عليها في النهاية. ويقول المراقبون السياسيون: إن موافقة المؤتمر على إسقاط عبارة: "أعمال التسلل السياسيّ والحركات الهدامة" من القرار الخاص بالتنديد بالاستعمار يعد نصرًا للشيوعين، ومن تضامنوا معهم، ومعنى هذا: أن الدول الموالية للغرب، والمناهضة للشيوعية اضطرت في النهاية إلى التسليم بوجهة نظر معارضيها. برنامج لتحقيق السلام: ووافق المؤتمر على برنامج لتحقيق السلام في العالم، ويتألف هذا البرنامج من النقاط العشر الآتية:

ثم ذكر المحرر الصحفيّ القرارات العشرة التي ذكرها في مقدمة التقرير. كلمات الوفود: ولما عقد المؤتمر جلسته الختامية في المساء, أبدى نحو عشرين وفدًا رغبتهم في إلقاء كلماتٍ لمناسبة انتهاء أعمال المؤتمر، فتمَّ الاتفاق على تخصيص خمس دقائق لكل وفد. كلمة وفد أفغانستان: وكان أول الخطباء في هذه الجلسة, السردار: محمد نعيم, وزير خارجية أفغانستان, وقد استهلها بقوله: "لقد جئنا إلى هذا المؤتمر وقلوبنا مليئة بأمل عظيم، ونحن نغادره اليوم وقلوبنا مفعمة بأمل عظيم", ثم قال: "لقد أوضحت الدول الآسيوية الأفريقية المشتركة في هذا المؤتمر, أن رغبتها هي ذات الرغبة المشتركة لصون السلم والمعارف الإنسانية". كلمة وفد أندونيسيا: وتكلم بعده السيد: على ساسترو إميد جوجو, رئيس وزراء أندونيسيا فقال: "إن المؤتمر لم يتخذ قرارًا يقيم الأرض ويقعدها، أو يخلق عهدًا جديدًا، ويكاد هذا لا يثير أية دهشة، فالغرض الذي من أجله وجهت الدعوة إلى هذا المؤتمر هو اجتماع زعماء الدول الآسيوية، والأفريقية, لتبادل وجهات النظر بغيةَ تحقيق تفاهم أفضل، وهذا هو ما فعله المؤتمر". وأردف قائلًا: "إن مناقشاتنا قد أظهرت بعض الخلافات، وتعارضًا في الآراء، وكان لا بد أن نتوقع هذا، نظرًا لاتساع الرقعة الجغرافية التي تشغلها الدول الممثلة هنا، وفي هذا العالم المضطرب الذي تسوده الشكوك

وعدم التفاهم, يجب أن نعتبر أيّ تحقيق, وأيّ تفاهم في أي جزء منه مرحلة في سبيل التقدم". كلمة شواين لاي: وتكلم بعده شواين لاي, رئيس حكومة الصين الشيوعية، فبدأ خطابه بالإعراب عن شكره لدول "كولومبو" الخمس, صاحبة فكرة الدعوة إلى هذا المؤتمر، ثم وجَّه التحية إلى رجال الحكومة الأندونيسية التي استضافت وفود المؤتمر، وإلى رئيس هذه الحكومة السيد: علي ساستر وأميد جوجو ومضى فقال: إن المؤتمر سيكون له أثره العظيم في المساعدة على مقاومة الاستعمار، وتأمين السلم، وتحقيق المزيد من التفاهم، وإن أهميته تتضح مما أسفر عنه من تفاهم بين الدول الآسيوية والأفريقية، واتفاق على بعض المسائل الكبرى". ثم قال: "إن هذا المؤتمر قد أظهر الحقيقة الواقعة، وهي أن وجهات نظرنا متباينة فيما يتصل بالكثير من المسائل، وقد ناقشنا جانبًا من هذه الخلافات, ولكنها لم تمنعنا من الوصول إلى اتفاقٍ مشتركٍ على الخطوات المؤدية إلى السلم العالميّ، والاتفاق على المسائل الاقتصادية. ثم أشار إلى أن شعور الدول الآسيوية والأفريقية يشارك بعضها بعضًا ذات المصير، وذات الرغبات، وعرض لموقف حكومته من عدة مسائل, يتناولها البيان المشترك فقال: إن الشعب الصينيّ يعرب عن عطفه التام، وتأييده الكامل لشعوب مراكش، وتونس, والجزائر، في كفاحها للفوز بالحكم الذاتيّ، وكذلك اللاجئين العرب الذين يعملون على نيل حقوقهم الإنسانية. وأعرب شواين لاي أيضًا عن عطف الصين الشيوعية على أندونيسيا, في جهودها لتحرير "غينا" الجديدة من الاستعمار. وقال: إن القرارات التي اتخذها المؤتمر بشأن هذه المسائل وغيرها مما

يساعد على إزالة ما هناك من توترٍ بسببها، ثم تحدث عمَّا تقتضيه الضرورة من تنفيذ أصحاب الشأن في الهند الصينية, للاتفاق الذي تَمَّ في جنيف، كما قال بوجوب عمل ذوي الشأن في كوريا على الوصول إلى حلٍّ عاجلٍ لمشكلات هذه الدولة المجزأة. وهنا أكد شواين لاي حق بلاده في تحرير فرموزا، فقال: "إن الصين والولايات المتحدة يجب أن تتفاوضا وتعملا معًا على إزالة التوتر القائم في الشرق الأقصى، وخاصةً في تايوان، "فرموزا"، وبديهيّ أن هذا لا يؤثِّر بحالٍ من الأحوال في مطالب الشعب الصينيّ العادلة، وهي استخدام ما له من حقوق السيادة في تحرير تايوان "فرموزا". وأخيرًا قال شواين لاي: "إني آمل أن تتكرر كثيرًا الاتصالات بين الدول الآسيوية والأفريقية، وأن تجرى الاتصالات الودية بين شعوب هذه الدول". واختتم كلمته بالإعراب عن أمانيه الطيبة لجميع أعضاء الوفود، وسلامة العودة إلى أوطانهم. كلمة الرئيس جمال عبد الناصر: وألقى الرئيس جمال عبد الناصر خطابًا في هذه الجلسة الختامية, ضمنه رأيه في المؤتمر، وشكره للدول الداعية إليه، والدولة المضيفة، هذا نصه: "إن مؤتمرنا يقترب من نهايته بعد مداولاتٍ وديةٍ مثمرةٍ استغرقت ثمانية أيام، وقد سبقت هذه الأيام الثمانية استعدادات واسعة النطاق، وجهود بدأتها السكرتيرية المشتركة للمؤتمر، فكانت عظيمة الفائدة حقًّا, ولا شك في أن مؤتمرنا قد أحرز نجاحًا عظيمًا؛ لأن السلم والتعاون الدوليّ سيفيدان فائدةً عظيمةً من التضامن والانسجام اللذين كشفت عنهما قراراته، وأن قضية السلم تستمد إلهامًا عظيمًا بما أبدته جميع الدول

الآسيوية والأفريقية من اهتمامٍ بالغٍ، وتأييدٍ تامٍّ فيما يتصل بمسألة حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير. ثم قال: إن كثيرًا من الفضل في نجاح المؤتمر يرجع للجهود الشخصية للسيد: علي ساسترو جوجو, رئيس المؤتمر، وإلى خبرته، وطول أناته، كما أن روح أعضاء الوفود التي اتسمت بطول الأناة، والرغبة في التوفيق, ساعدت في جعل مداولاتنا تنهج نهجًا إنسانيًّا في الأوقات التي بدا فيها ألّا مندوحة من وقوع الخلاف! واختتم الرئيس عبد الناصر كلمته بشكر الحكومة الأندونيسية, على ما أظهرته من كرم الضيافة، وشكر الدول الداعية إلى المؤتمر لاتخاذها الخطوة الأولى في سبيل عقده. بهذه الطريقة السابقة كتبت "الأهرام" في صفحتها الأولى تقريرها عن هذا "الماجرى الدبلوماسيّ" الخطير الذي تمخض عن القرارات العشرة لمؤتمر باندونج. وقد اتبعت الصحيفة في كتابة هذا التقرير على وجه التقريب, نفس الطريقة المتبعة في كتابة الخبر، ومعنى ذلك: أنها جعلت للتقرير عنوانًا رئيسيًّا كبيرًا هو: مؤتمر باندونج يقرر 10: مبادئ لصون السلام العالميّ ثم أعقب ذلك بعنوانات هي: - مناشدته العالم خفض القوات المسلحة. - وتحريم استخدام أسلحة الدمار الشامل.

الرئيس عبد الناصر يشيد بنجاح المؤتمر في جلسته الختامية: وعلى أثر ذلك أتت الصحيفة على القرارات العشرة التي هي ثمرة هذا المؤتمر. ومن كل ما سبق تألف ما يسمى: "صدر الخبر" أو الماجرى، ثم انتقلت "الأهرام" من ذلك إلى "الجسم"، أو الصلب، أو التفاصيل، فرأيناها تجعل لكل تفصيلٍ منها عنوانًا خاصًّا، حتى إذا وصلت إلى الجزء الخاص بالقرارات العشرة أولته عنايةً تامةً، وعادت تكتب هذه القرارات "بالبنط" الأسود، أو الظاهر، وأعطت لكل قرار منها رقمًا مستقلًّا به. ثم عُنِيَ التقرير بعد كل هذا بالخاتمة، وقد اقترنت هذه الخاتمة بكلمات رؤساء الوفود، وقد اكتفى المحرر الصحفيّ بأربع كلمات؛ منها كلمة رئيس الحكومة المصرية, وبها انتهى التقرير. على أن مؤتمر باندونج -بالرغم من سعة رقعته، ونبل غايته- يعتبر نموذجًا صغيرًا للماجريات الدولية، وذلك إذا قيس بالاجتماعات الكبيرة التي تعقدها هيئة الأمم المتحدة, وتدعو إليها أكثر دول العالم كله، بما في ذلك دول الكتلة الشرقية، ودول الكتلة الغربية، ودول الكتلة الآسيوية والأفريقية, التي عقدت أول مؤتمر لها في "باندونج". ولعل من أوضح الأمثلة على جلسات هيئة الأمم منذ نشأتها إلى اليوم, تلك الجلسات العاصفة التي عقدتها الهيئة بسبب "أزمة قناة السويس", وذلك منذ شهر أكتوبر سنة 1956. على أن هيئة الأمم المتحدة لم تشهد أخطر ولا أعنف من الجلسات التي عقدتها في أوائل نوفمبر سنة 1956، وذلك على أثر العدوان الثلاثيّ المسلَّح على مصر، وهو العدوان الذي دبرته كلٌّ من انجلترا وفرنسا وإسرائيل, في التاسع والعشرين من شهر أكتوبر عام 1956.

غير أن هذه الجلسات العنيفة الخطيرة التي نشير إليها, قامت بتسجيلها على شكل "ماجريات دولية" إذاعة الحكومة المصرية, بما لم يدع للصحف الوطنية أية فرصة لمنافستها في ذلك. والذي لا شكَّ فيه أن الإذاعة المصرية كانت تفرض شخصيتها على هذه الماجريات الدولية، بل كانت تتدخل في طريقة عرض الماجريات بما يتفق ووجهة النظر المصرية البحتة، وكان من حقها أن تفعل ذلك, وأكثر منه, وراء غاية هامة، هي تعبئة الشعور القوميّ الذي كان من أكبر واجبات الصحافة والإذاعة في مصر والشرق, في مثل ذلك الظرف.

تحرير الصورة والإعلان

تحرير الصورة والإعلان: انتهينا من الحديث عن التحرير بفنونه المختلفة؛ من خبر، إلى مقالٍ، إلى تقريرٍ، وبقيت كلمة أخيرة عن تحرير الصورة، وأخرى عن تحرير الإعلان، ومحرر الأولى يعرف في الأسرة الصحفية، بمحرر الصورة، والمحرر الثاني يعرف: "بمحرر الإعلان". أهمة الصورة: من المعروف أن المعلومات التي تصل إلينا عن طريق الصور والرسوم, ربما كانت أوضح من المعلومات التي تصل إلينا عن طريق الكلمات المكتوبة؛ لأن هذه الأخيرة تتميز بطبيعتها الرمزية. بل إن المعاني التي تعطيها الصور والرسوم قد تكون أقل قابليةً للخطأ وسوء الفهم من المعاني التي تعطيها الكلمات المكتوبة، ثم إن الجاذبية التي نشعر بها نحو الصور والرسوم تضمن إطالة التذكر للشيء الذي تعبر عنه هذه المواد. ونحن نعرف أن الحياة نفسها مليئة بالخبرات العاطفية التي لا تستطيع الكلمات وحدها أن تصف واحدة منها، وذلك كما في حالة الجندي في أثناء تعرفه لنيران الأعداء في إحدى المعارك الحربية، وكما في حالة إنسان سبق أفراده في تسلق جبل شاهق، وكما في حالة إنسان فقد بصره أو سمعه ونحو ذلك. إن الخبرة السابقة الخصبة, والمقدرة اللغوية البالغة, هما شرطان لفهم المشاعر الدقيقة, والمعاني الكثيرة التي تنطبق عليها الإجراءات العاطفية المعقدة.

وكثيرًا ما نمزج الصور بالألفاظ كما في الصحف المصورة ونحوها، وكذلك تحتاج الصور الصحفية إلى قدرة في كتابة الألفاظ المعبرة عنها، وهو ما يسمى: بتحرير الصورة. ومع هذا وذاك, فإن هناك أنواعًا من الصور الممتازة بوضوحها، قادرةً على التعبير عن نفسها بنفسها؛ بحيث لا تحتاج في الحقيقة إلى توضيحٍ ما، والمثال على هذه الأنواع يوجد في مجموعة الصور المعروفة باسم: "أسرة الإنسان" وهي تمثِّل كل أنواع الجنس البشريّ في أجزاءٍ كثيرةٍ من العالم، وتعبِّرُ بالرسم عن "الأخوة البشرية" دون حاجةٍ إلى توضيحات لفظية، إلّا أن أمثال هذه الصورة القوية الدلالة, الشديدة الوضوح, نادرة، ومعنى ذلك أن حاجة الصورة إلى التحرير, أو إلى الألفاظ التي تساعد على فهمها؛ لتبقي حيةً لا غنى عنها إلى الأبد. إن الصور بمدلولها الواسع تعتبر بلا ريبٍ لغةً عالميةً، شأنها في ذلك شأن الموسيقى، ولذا أُثِرَ عن الفيلسوف "كونفشيوس" أنه قال: "إن صورةً واحدةً تعدل ألف كلمة". ولا يخفى علينا ما للصورة من قدرةٍ على محو "الأمية البصرية" إذا صح هذا التعبير، فإن كثيرًا من الناس يعرفون من خلال الصور شيئًا غير قليل من عادات الشعوب البعيدة، وما له دراية بالحياة التي تتبعها ونحو ذلك. وتعتبر الصورة في الصحيفة من أهم وسائل الإعلام والإيضاح في وقت ما, بل إنها تعتبر كذلك من أكبر أدوات الإثارة والتوجيه والإرشاد, وذلك كله فضلًا عن الإعلان. وتتنوع الصورة الصحفية تنوعًا كبيرًا؛ فهناك صور الشخصيات, وصور الأماكن، وصور التجارب، وصور المواقف الإنسانية، وصور الألعاب الرياضية، وهكذا تستعمل الصور في الصحف على أوسع نطاقٍ ممكنٍ حتى ليخيل إلى الصحفيِّ أنه بحاجةٍ إلى أن يضع الصورة بجوار كل فقرة جديدة.

أو كل خير صغير أو كبير، أو كل شخصية يأتي ذكرها في كلامه، أو كل فكرة أو حقيقة, ولو لم تكن في حاجة إلى التوضيح, وهكذا، والسبب في ذلك: أن الصورة تضفي على العبارات حيويةً ومعنًى وإحساسًا وعاطفةً, ونحو ذلك. على أن الصورة التي تعنى بها الصحف عادةً هي التي تعبر عن حركة أو موقف أو موضوع، ولذلك تستخدم الصورة عادةً في الأحوال التي يحتاج الإيضاح فيها إلى عامل الحركة, أو عامل الإيضاح، بل يمكن استخدام مجموعة من الصور لبيان حركة معينة, أو عدة حركات, ونحو ذلك. يقول اللورد نور ثكليف: "ربما كان التحرير المصاحب للصورة من أشق الأعمال الفنية في الصحيفة" وهو كذلك في الحقيقة، فلا يقف التعليق على الصورة عند وصف ما فيها من الأشخاص، أو المعالم, أو المناسبات، ولكن يجب أن يضيف المحرر إلى هذا الوصف شيئًا آخر، فيضيف إلى اسم صاحب الصورة مثلًا: أنه عالم من العلماء المعدودين في نوع خاصٍّ من العلوم، أو أنه لا عب كرة ممتاز بمهارته في الأوساط الرياضية, ونحو ذلك. كذلك يجب على محرر الصورة أن يلفت نظر القارئ إلى مركز الأهمية في الصورة بطريقةٍ لا شعورية، بحيث يشعر القارئ أنه إنما ينظر من تلقاء نفسه إلى تلك النقط الهامة في الصورة التي أمامه. ثم إن أسلوب تحرير الصورة يحتاج كذلك إلى توفر عوامل الجذب والتشويق، وإلى حسن اختيار اللفظ المناسب، المشتمل على أكبر قدر ممكن من التعبير، وكثيرًا ما يوفق محرر الصورة إلى أن يكتب تحتها حكمة من الحكم البالغة، أو مثلًا من الأمثال السائرة، أو عبارة من العبارات الكثيرة الورود على لسان الصورة المنشورة في الصحف، أو جملةً من الجمل تدل على إحدى لوازمه وهكذا.

ولا يتسنى لمحرر الصورة ذلك إلّا إذا كان على حظٍّ ما من الثقافة والاطلاع في السياسة، وفي الأدب، وفي التاريخ, والاجتماع، والوقوف التامِّ على طبقات المجتمع, وما تمتاز به كل طبقةٍ من حيث الزيّ، أو التقاليد، أو الأخلاق، أو العادات. إن محرر الصورة -سواء أكانت شمسية أم كاريكاتورية - يجب أن يكون ممتازًا بصفات لا تقل في مجموعها عن الصفات التي يتحلى بها محرر التحقيق الصحفيّ، وبذلك يستطيع أن يقوم بهذا العمل الفنيّ الذي تعرف له الصحافة مكانته وخطورته، وتُقَدِّرُ له دقته، وصعوبته, وتختار له من المحررين من يتوافر فيه الشعور الكامل بكل هذه الأشياء. والصور "Cuts" عنصر هام في الصحيفة الحديثة، وهي تشمل الصور الفوتوغرافية، والرسوم البيانية، والخرائط، والكاريكاتير، وما إليها، وإذا كانت بعض الصور تنشر التجميل، أو لأنها تمثل شخصيات تدورحولها المادة الصحفية، فإن بعض الصور كذلك تستطيع أن تحل محل الكلمات, فتنقل إلينا خبرًا أو رأيًا. والصورة التي تنقل الخبر هي الصورة الفوتوغرافية التي التقطت لإحدى لحظات الحدث المعبرة, أما الصورة التي تنقل الرأي, فهي الكاريكاتير الذي ينقد في سخرية شخصًا أو فكرةً. ولعل أول صورةٍ صحفيةٍ في تاريخ الصحافة المصرية, هي الصورة التي نشرتها الأهرام في الرابع من شهر مارس سنة 1881, وهي صورة فرديناند دليسبس ومعه طفلة، ثم كانت "الجريدة" أول صحيفة تستخدم صورًا فوتوغرافية للأشخاص والأماكن مع الأخبار والحوادث الهامة، وكان ذلك ابتداءً من الثامن والعشرين من شهر يونيه سنة 1908. ولما كان الإعلام أهم وظائف الصحف في العصر الحديث، فقد

أصبحت الصورة الخبرية تتمتع بمكانةٍ ملحوظةٍ بين مواد الصحيفة, وزاد من اهتمام الصحف بنشر الصور الخبرية نجاحها في وسائل الأعلام الأخرى التي تعتمد عليها، وهي: "المجلة, والسينما, والتليفزيون". ولا مبالغة في القول بأن الصورة قد تكون أفضل من ألف كلمة، فإن آلة التصوير الحديثة تستطيع أن تسجل من اللقطات البارعة، والمشاهد المعبرة, ما يعجز الكلام عن وصفه, مهما بلغ من الفصاحة والبيان. فلا غرو بعد هذا أن أصبح المصوِّر الصحفيُّ الحديثُ محررًا ومصورًا يتخير اللقطات التي تنقل إلى القارئ خبرًا، أو تيسر لذهنه استحضار مشهد معين، وكذلك أصبح المراسل الحديث يجيد التصوير حتى لا يفوته استخدام عدسته كما يستخدم قلمه. والصورة الخبرية قد تكون مستقلةً تروى بدقائقها, وبما يصحبها من عباراتٍ قليلةٍ موضوعًا كاملًا، كما أنها قد تصحب خبرًا فتوضحه, وتلقي الضوء على تفاصيله. والكلام الذي يصحب الصورة "Coption" يراعى في عبارته دائمًا أن تكون موجزة بقدر الإمكان، فالأصل هنا، هو الصورة، والكلام لمجرد التوضيح المختصر. وقد أصبح من وظائف وكالات الأنباء في العصر الحاضر نقل الصور الخبرية -فضلًا عن نقل الأخبار- إلى مشتركيها, بل إن الصورة الخبرية أصبحت لأهميتها تنقل بالراديو, حتى تحقق الغرض منها في سرعة الوصول إلى القارئ؛ كالكلمة سواء بسواء. وتعتمد وظيفة التسويق بدورها على الصورة اعتمادًا كبيرًا, ومما لا شك فيه أن الإعلان التجاريّ الحديث, أصبح يعتمد على الصورة أكثر من الكلام؛ لترويج ما يدعو إليه سواء كانت صورة فوتوغرافية، أم رسمًا يدويًّا أم كاريكاتيرًا.

وسأكتفي هنا بأن أضرب الأمثلة على تحرير "الصورة" مما نشر في صحيفة "السياسة الأسبوعية" التي كان يشترك في تحريرها الشيخ عبد العزيز البشري، وقد مرَّ ذكره في فصل عنوانه: "المقال الكاريكاتوري": فتحت الصورة الخاصة "بزيور باشا" كتب العبارة التي أثرت عن هذا الوزير، وكانت مثارًا لسخرية المصريين في زمانه، وهي قوله: "لإنقاذ ما يمكن إنقاذه". وتحت الصورة التي رسمت لعدلي يكن "باشا" كتب المحرر هذا البيت من الشعر: لا معنى بكل شيء ولا ... كل عجيب في عينه بعجيب! وتحت الصورة التي رسمت لعبد الخالق ثروت "باشا"، وكان يعرف لشدة كتمانه باسم "أبي الهول" كتب المحرر: لي في ضمير الدهر سر كامن ... لا بد أن تستله الأقدار! وفي الصورة التي رسمت للدكتور محجوب ثابت، وكان معروفًا بتعدد شخصياته، كتب المحرر: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد وتحت الصورة التي رسمت لإسماعيل سِرِّي "باشا", كتب المحرر هذه العبارة: لا أبالي إزاء نفع الأقارب والأصهار ... أجف النيل أم ذرت الأثمار! وتحت الصورة التي رسمت لعبد الحميد سعيد "بك" من أعضاء الحزب الوطني، كتب المحرر هذا البيت من الشعر: من أطاق التماس شيء غلابًا ... واغتصابًا لم يلتمسه سؤالًا وتحت الصورة المرسومة لطلعت حرب، منشيء بنك مصر، كتب المحرر هذه العبارة لقاسم أمين:

"الوطنية الصحيحة تعمل كثيرًا، ولا تعلن عن نفسها" وتحت الصورة المرسومة لإسماعيل صدقي "باشا" كتب المحرر هذه العبارة: "من ذخائر الأمم!! " وتحت الصورة المرسومة لمحمد محمود "باشا", وكان معروفًا بالشمم والتكبر، كتب المحرر: وإني لمن قوم كان نفوسهم ... بها أنف أن تسكن اللحم والعظما! أما الصورة التي رسمت للشيخ أبي الفضل الجيزاوي، شيخ الجامع الأزهر، فكتبت تحتها العبارة الآتية: "الحمد لله, لم يبق إلّا مائة ألف جنيه و 500 سهم بنك عقاري قديم, حتى أنقطع لعبادة الله، والزهد في الدنيا! " قد لا يدرك شباب الجيل الحاضر ما لهذه العبارات التي استعان بها المحرر في تحرير الصورة الكاريكاتورية السابقة من قوة الدلالة؛ لأنهم لم يعاصروا شخصياتها، ولكن الواقع أن كل عبارةكتبها محرر الصورة جاءت ملخصة أحسن التلخيص للأوصاف التي لصاحب الصورة، دالةً أقوى الدلالة على مغزاها ومرماها والقصد من نشرها، أو نشر المقال الذي كتب من أجلها، وهل يستطيع ذلك إلّا كاتبٌ ماهرٌ ألَمَّ بموضوع الصورة إلمامًا جيدًا، وعرف ما حولها من الظروف والملابسات معرفة جيدة؟ وقل مثل ذلك في الصورة التي تشتمل على المناظر، أو الحوادث، أو ما يتصل بالأخبار، أو التقارير الصحفية على اختلاف أشكالها, فإن المحرر في كل حالة من هذه الحالات محتاج إلى دقة بالغة، ومهارة ظاهرة في تحرير الصورة التي يجعلها مصاحبةً للخبر، أو التقرير الصحفيّ الذي ينشره بالصحيفة.

من أجل ذلك ينبغي أن يتعاون المخبر، أو محرر التقرير، أو المقال, مع محرر الصورة، وبدون هذا التعاون لا يتم تحرير الصورة التي تعتبر جزءًا متممًا للتقرير أو الخبر أو المقالة، وكثيرًا ما يكون محرر الصورة هو كاتب الخبر أو التقرير أو المقالة، وفي ذلك ما يدل دلالةً صريحةً على مدى التعاون الذي لا بد من وجوده بين هذين المحررين. تحرير الإعلان: أما الإعلان -سواء أكان في مجلة أم في صحيفة- فإنه يحتاج إلى استيفاء الخطط الأربع الآتية، وهي: أولًا: خطة تهدف إلى تشويق القارئ، وجذب انتباهه للشيء المعلن عنه في الصحيفة. ثانيًا: خطة تهدف إلى مخاطبة وجدان القارئ، حتى يشعر بالحاجة الماسة إلى الحصول على هذا الشيء المعلن عنه, وإلى أنه سيسد حاجةً قويةً من حاجاته. ثالثًا: خطة تهدف إلى حسن العرض، وفيها يبذل المحرر أقصى الجهد, حتى ينجح في لفت نظر القارئ. رابعًا: خطة تهدف إلى حسن تحرير الإعلان, أو العناية بالعبارة التي تستخدم في تحريره. وقد رتَّبَ الأستاذ "هوتشكس Hotchkiss" في كتابه: "تحرير الإعلان". Advertising copy تلك الخطط الأربع على النحو المتقدم، ثم زاد على ذلك أنه وضع نسبةً مئويةً لكل منها، على النحو الآتي: 50% لخطة التسويق. 25% لمخاطبة وجدان القارئ. 25% لطريقة العرض. 10% للتحرير.

ثم قال الأستاذ: ومع ذلك, فهي العشرة الأخيرة في المائة، فإذا فشلت هذه الأخيرة في مهمتها, فشل معها كل ترتيب سابق1. فانظر إلى قوله: "ومع هذا وذاك, فهذه العشرة في المائة للتحرير هي العشرة الأخيرة"!! فإنها تدل دلالة كبيرة على عظم الأهمية التي للتحرير من بين عناصر الإعلان، على الرغم من صغر النسبة المئوية التي له, بالقياس إلى النسب الأخرى. ومهما يكن من شيءٍ فإن على محرر "الإعلان" أن يسأل نفسه عند الكتابة هذه الأسئلة التالية: ما هي الفكرة الأساسية للإعلان؟ وما الصلة بين الإعلان ونفس القارئ؟ وأيّ أسلوبٍ يجدر به اتباعه في تحرير الإعلان الذي أمامه؟ ولا شكَّ الإجابة عن جمع هذه الأسئلة تحدد الأسلوب الذي يتبع في التحرير. أسلوب تحرير الإعلان: إن هذا الأسلوب المتبع في تحرير الإعلان, إما أن يكون منطقيّ الصورة، وإما أن يكون عاطفيّ الصورة، وإما أن يجمع بين الأمرين. في الأسلوب المنطقيّ الصورة, يذكر المحرر الإعلاني مميزات السلعة، معتمدًا في ذلك على الحقائق التي لا تقبل الجدل، متخففًا ما أمكن من المصطلحات العلمية التي تدق على ذهن القارئ العاديّ. وفي الأسلوب العاطفيّ الصورة, يخاطب المحرر الإعلانيّ نفوس القراء،

_ 1 Advertising Copy by: Hotchkiss p. 6

ويثير أخيلتهم جهد المستطاع، ويدعوهم إلى ما يسمى: "التسامي الحضاري"، ومعناه: تمشي الإنسان مع المخترعات الحديثة، وعدم التخلف عنها، وبذل أقصى الجهود في الإفادة منها, مهما كلفه ذلك من مالٍ في شراء هذه الأشياء. وليعلم المحرر الإعلانيّ هذه الحقيقة، وهي أن الإنسان مسوق بالعاطفة أكثر منه مسوقًا بالعقل أو المنطق، وهو لهذا يستجيب للإعلان العاطفيّ، ولكنه في نفس الوقت يشعر بالحاجة القوية إلى بعض المبررات العقلية التي تجعله يعتقد أن استجابته العاطفية تستند إلى الحق دائمًا، وفي سبيل هذه الغاية يسلك المحرر الإعلانيّ طرقًا شتَّى لنجاح إعلانه، منها: أولًا: طريقة القصة: وذلك بأن يخترع المحرر قصةً صغيرةً حول الشيء المعلن عنه، وكثيرًا ما يتوخى المحرر الإعلاني أن تكون هذه القصة الإعلانية في ذيل قصةٍ من القصص الأدبية, أو الصحفية التي تنشرها المجلة أو الصحيفة, بقصد إمتاع القراء، وكثيرًا ما يتوخَّى المحرر إيجاد الصلة بين هذه القصة الأدبية، والقصة الإعلانية. ثانيًا: طريقة الوصف: والقاعدة المتبعة في ذلك إلى اليوم هي قولهم: "تجنَّب أن تقول بالألفاظ ما يمكن أن تقوله بالصور"، على أن الصور في ذاتها قد لا تؤثر في أكثر من حاسةٍ واحدةٍ فقط من حواس القارئ، هي حاسة النظر، وفي هذه الحالة, يجب على المحرر الإعلانيّ أن يقوم بإتمام التأثير في بقية الحواس، كحاسة الشم، وحاسة الذوق، وحاسة اللمس، وحاسة السمع, ولايتأتى كل ذلك إلّا عن طريق اللفظ الذي يتوخَّى فيه المحرر الإعلانيّ الدقة البالغة، حتى يعبر عن جميع الإحساسات التي تعجز الصورة عن التعبير عنها. وبهذه الطريقة يتعاون التحرير والصورة على أداء مهمة التأثير في القارئ.

مثال ذلك: صورة نوع خاص من الصابون، كالنوع المعروف باسم: "بالموليف"، فإن الصورة هنا لا تكفي لأن تعطي للقارئ فكرةً عن رائحته الجميلة، ولا عن تأثيره في البشرة، وإذا ذاك يجب على المحرر الإعلانيّ أن يجعل تحريره مكملًا للصورة التي يعلن بها عن هذا النوع من أنواع الصابون. ثالثًا: طريقة الكلمات التي تشبه الحكمة أو المثل القرش الصغير يصنع القرش الكبير، وذلك في مجال الدعوة إلى الإقبال على صناديق التوفير. رابعًا: طريقة العمود الصحفيّ كثيرًا ما يكون العمود الصحفيّ وسيلةً ناجحةً من وسائل الإعلان؛ إذ يحدث أن تخصص بعض الصحف أعمدة، أو صفحات كاملة، تكتب فيها عن بعض الموضوعات التي تهم الجمهور، كموضوع "المنزل الحديث"، وموضوع "المسرح الحديث"، وموضوع "الراديو" أو "التليفزيون"، وهنا ينتهز المعلنون هذه الفرص فيحيطون هذه الأعمدة أو الصفحات بإعلانات عن سلعٍ, أو أشياء تتصل بهذه الموضوعات المتقدمة, فحول "المنزل الحديث" يعلنون عن الثلاجات والأدوات الكهربائية اللازمة لراحة السيدة ربة المنزل، وحول موضوع "الراديو" أو "التليفزيون" يعلنون عن الأجهزة المختلفة لهذين الجهازين، وهكذا، وكثيرًا ما يتمُّ الاتفاق بين الصحيفة والمعلنين على هذه الطريقة، والسبب في ذلك أن الصحف -بالقياس إلى الإعلان- لا تبيع مساحة بيضاء في الواقع، وإنما تبيع إلى جانب ذلك جوًّا نفسيًّا، وإطارًا فكريًّا, فيهما يعيش الإعلان الناجح، وبطريقهما يتفنن المحررون في انتهاز الفرص لنشر الإعلان. ومهما يكن من شيء, فأهم ما في التحرير الإعلانيّ من حيث هو أمران: أولهما: اختيار الألفاظ.

وثانيهما: القوالب الفنية. وقد تحدثنا عن هذا الأخير بغاية الإيجاز. أما الألفاظ التي يستخدمها المحرر في الإعلان, فإنها تحتاج -كما قلنا- إلى اختيارٍ دقيقٍ من جانب المحرر، وهو اختيار يُبْنَى دائمًا على ذكائه، وعلى معرفة تامةٍ بدلالات الألفاظ، وما لها من قوة الإيحاء. والقاعدة في ذلك هي: أن الألفاظ الشائعة الاستعمال هي الأولى بالاستعمال, ومن ثَمَّ كان محظورًا على محرر الإعلان أن يلجأ إلى معاجم اللغة، أو يستشير كبار اللغويين في لفظ من الألفاظ, أو أسلوب من الأساليب، أو طريقة من طرق الأداء التي أشرنا إلى بعضها. والخلاصة: أن تحرير الإعلان يمر غالبًا في خطوات أربع: الأولى: كتابة العنوان الأول، أو العنوان الكبير، والقصد منه عادة هو جذب انتباه القارئ. الثانية: كتابة العنوان الثاني، أو العنوان الصغير، والقصد منه هو إثارة اهتمامه. الثالثة: شرح الإدعاءات التي يدعيها المنافسون للسلعة المعلن عنها، والرد على هذه الإدعاءات، والقصد من هذه الخطوة هو إقناع القارئ. الرابعة: الخاتمة، وكثيرًا ما تكون في جملةٍ واحدةٍ من الجمل القوية المؤثرة، والقصد منها هو حمل القارئ على الإقدام على شراء السلعة، وهو مرتاح الضمير، كبير الثقة بالفائدة. تلك هي الخطوات الأربع التي يمر فيها محرر الإعلان غالبًا، ولكن ليس من الضروري مطلقًا أن يمر تحرير الإعلان بجميع هذه الخطوات في إعلانه عن كل سلعة من السلع، فقد يكتفي التحرير أحيانًا بأقل من نصفها؛ إذ المدار في كل ذلك على المرحلة الإعلانية التي يمر بها، ونحن نعلم أن الإعلان يمر بمرحلة الارتياد أولًا، فمرحلة المنافسة ثانيًا، فمرحلة المحافظة

على السمعة في نهاية الأمر، ولكل مرحلة من هذه المراحل الثلاث خطة للتحرير خاصة بها. ومهما يكن من شيءٍ, فللرسالة الإعلانية في ذاتها جانب نفسيّ، وآخر فنيّ، وفي الأخير تهتم بالألوان والظلال، وبما تحمل هذه الأشياء من المعاني إلى القارئ, وفي الأول تهتم الصحيفة بأمور أخرى، من أهمها: التحرير، وهنا ننصح لكتاب الرسائل الإعلانية بدراسة جزء من علم البلاغة. ولا نعني بهذا الجزء المحسنات اللفظية, وإنما نعنى به المحسنات المعنوية، وهي كثيرة جدًّا في هذا العلم أو الفن، ومنها على سبيل المثال في البلاغة العربية: "قالب المدح بما يشبه الذم، وقالب الحض بما يشبه التحذير". ومن الأمثلة على هذا الأخير عبارة كتبت يومًا في عربات السكة الحديدية بمدينة لندن, إعلانًا عن السجاير المصرية، هذا نصها: "الدخان ممنوع، ولو كانت سجاير البستاني". مر صديقٌ لي بحيّ من أحياء القاهرة، هو حيّ مصر القديمة، فوجد عبارةً مكتوبةً على باب فوَّال -أعنى بائع الفول المدمس- هذا نصها: "إذا خلص الفول أنا غير مسئول" فعجبت لهذه العبارة الإعلانية البديعة Slogan، ودهشت لهذا القدر من التوفيق في كتابة هذه العبارة، ولصدورها من رجل أميٍّ هدته سليقته الإعلانية إلى اختيارها؛ بحيث تؤثر في الجمهور تأثيرًا ليس إلى إنكاره من سبيل. وقديمًا كانت الأزجال والأشعار والمواليا تقوم بمهمة الإعلان عن السلع خير قيام، والأدب العربيّ حافل بأمثلة شتَّى من هذا القبيل، وحسبنا هنا أن نشير إلى بائع الخُمُر -بضم الخاء- جمع خمار، وهو ما تستر به المرأة رأسها ورقبتها وصدرها، فقد قيل: إن تاجرًا من تجار هذه الخُمُر

بالعراق, أوشك على الإفلاس يومًا ما، فلجأ إلى شاعر من الشعراء صنع له أبياتًا ينادي بها على هذه السلعة، أولها: قل للمليحة في الخمار الأسود, ماذا صنعت بزاهدٍ متعبد ... إلخ. وهي أبيات مشهورة تصور هذا الزاهد العابد، وقد خرج من محرابه وترك صلاته منذ اللحظة التي وقع فيها بصره على تلك المرأة المليحة التي وضعت على رأسها هذا الخمار الأسود! وبهذه الأشعار راجت بضاعة التاجر العراقيّ، وأثرى ثراءً عظيمًا. والأمثلة على هذه الأضراب البلاغية في الإعلان كثيرة جدًّا, يعرفها المعلنون بالسليقة.

مصادر الكتاب الرابع

مصادر الكتاب الرابع: 1- Jonrnnlism in the United States. by: Robert. W. Jones. Ncwyork. E. P. Dutton & compony, 1947. 2-The News in America. by: Fiank Luther Mott. Harverd University Press. 3- The Press & The World. by: Rodert W. Desmond. 4- The Complete Journalism. by: F. I. Mansfield. 5- Pictorial Journalism. by: I. R. Hunt. 6- Newspaper Writing & Editing. by: Willard Bleyer. 7- How to Write Reports. by: Calvin D. Linton, 1555. 8- The Wayward Pressman. by. A. I. Liebling. 1948. 9- Patterns of Publicity Company. by: Stewart Huiial. 10- Newsmen at Work. by: Laurence Campbell F Robert Wolseloy. 11- Keys lo Rucoessful Interviewing. University of Oklahoma Press 1954. 12- News paper Advertising & Promotion. by: Maclure. 13- Advertising copy Writing. by: Burton. 14- Writing and Selling Feature Articles. by: H. Pattersn. 15- Modern Feature Writing. by: Reddick.

16- How to write davertising that selis by: Bedell. 17- How to write for Homemakers. by: Riehardson 18- Writing theFeatnre Artiele by:Steigleman. 19- Adveirtisng Copy. by: Hotchkiss. 20- الإعلان في الصحافة، للدكتور على رفاعة الأنصاريّ -رسالة لم تطبع بعد. 21- في المرأة, للشيخ عبد العزيز البشري. 22- محاضرات الدكتور محمود عزمي "لم تطبع بعد". 23- الصحف المصرية المعاصرة على اختلافها.

الخاتمة: مستقبل التحرير الصحفي في مصر

الخاتمة: مستقبل التحرير الصحفيّ في مصر إذا أردنا أن نتكلم عن مستقبل فنٍّ من الفنون، أو علمٍ من العلوم, فلا غنى لنا عن معرفة شيء عن ماضي هذا الفن أو العلم، ثم شيء عن حاضر هذا الفن أو العلم، وعلى أساس من الماضي والحاضر نستطيع أن نتكهن -إلى حد ما- بالمستقبل. ونظرة عاجلة إلى صحافتنا المصرية منذ نشأتها إلى اليوم, ترينا أن هذه الصحافة مرت بخمس مراحل، ولا بأس من أن نقف لحظةً واحدةً عند كل مرحلة منها على حدة. المرحلة الأولى: وهي المرحلة التي بدأت بولاية محمد علي على مصر، واستمرت إلى قرب ولاية إسماعيل، ولقد ظهر من كبار الصحفيين في تلك الفترة: رفاعة الطهطاوي في صحيفة "الوقائع المصرية" ومجلة "روضة المدارس"، وعبد الله أبو السعود في صحيفة "وادي النيل", ومحمد أنسي في صحيفة "روضة الأخبار", وعثمان جلال في صحيفة "نزهة الأفكار"، وميخائيل عبد السيد في صحيفة "الوطن"، وسليم وبشارة تقلا في صحيفة "الأهرام". ولقد اعتدنا في دراستنا لهؤلاء أن نطلق عليهم اسم: "المدرسة الصحفية الأولى". ووجدنا لهذه المدرسة أسلوبًا في التحرير, يوصف في مجموعه بالهبوط عن كلٍّ من المستوى الأدبيّ، والمستوى الصحفيّ في وقت واحد معًا، والسبب في ذلك أن المدرسة الأولى في مصر, إنما ورثت عن الأجيال الأدبية السابقة

لها أسلوبًا مهلهل النسيج، ضعيف البناء, يعتمد على الزينة اللفظية، والزنية المعنوية، ولكن كما تعتمد السيدة الجاهلة بأمور التجميل على كثرة المساحيق، وعلى استخدامها بطريقةٍ تدل على السذاجة، والبعد عن الحضارة, وعدم الفهم الصحيح للغرض الأساسيّ من الزنية، واستمرَّ الحال على ذلك حتى جاءت المرحلة الثانية. المرحلة الثانية: وهي المرحلة التي شبَّت فيها الصحافة المصرية عن الطوق، بعد إذ كانت في المرحلة الأولى تمثل دور الطفولة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنًى. وفي هذه المرحلة الثانية, ظهر من نوابغ الصحفيين المصريين والسوريين من تمثل فيهم شباب الصحافة المصرية من حيث التحرير، ومن أولئك الصحفيين الممتازين: أديب إسحق في صحف: مصر" و"التجارة" و"مصر القاهرة", وسليم النقاش في صحيفتي "المحروسة" و"العصر الجديد", وحسن الشمسي في صحيفة "المفيد", ومحمد عبده في صحيفتي "الأهرام" و"الوقائع المصرية" ومجلة "العروة الوثقى"، وعبد الله النديم في صحف: "التنكيت والتبكيت" و"الطائف" و"الأستاذ", وإبراهيم المويلحي في صحف كثيرة أصدرها بنفسه, من أهمها صحيفة "مصباح الشرق". أما فن التحرير عند هذه المدرسة الثانية, فقد جنح جنوحًا واضحًا إلى الأسلوب الأدبيّ الخالص، وهو أسلوب يمتاز عن سابقه بالجودة، وحسن استخدام الزينة اللفظية, والزينة المعنوية, إلى حدٍّ يدل في مجموعه على مهارة الكاتب. ولقد بلغ هذا الأسلوب أوجَّه عند رجلين بنوع خاص، هما: أديب إسحق، وإبراهيم المويلحي.

واستمر الحال على ذلك حتى دخلت الصحافة المصرية في المرحلة الثالثة. المرحلة الثالثة: وفيها ظهرت الصحافة اليومية, وحلت محل الصحافة الدورية، وفيها وقعت حوادث الثورة العرابية والاحتلال البريطانيّ. وقد اعتمد الاحتلال يومئذٍ على صحيفة مصرية، هي صحيفة "المقطم", التي صدرت عام 1988، فعزَّ على الوطنيين أن يكون للاحتلال الإنجليزيّ صحيفةً، وألَّا تكون لهم صحيفة، فاجتمع رأيهم على إنشاء صحيفة "المؤيد" لصاحبها السيد على يوسف 1889، ثم تلتها صحف وطنية أخرى، منها: صحيفة "اللواء" لصاحبها مصطفى كامل عام 1900، و "الجريدة" لمحررها أحمد لطفي السيد عام 1907. وهناك ظاهرة تستحق التسجيل في هذه المرحلة من مراحل الصحافة المصرية، هي أنه في دور هذه الصحف التي أشرنا إليها, نشأت الأحزاب المصرية التي سمعنا عنها، ففي دار "الجريدة" نشأ حزب الأمة، وفي دار "المؤيد" نشأ حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، وفي دار "اللواء، نشأ الحزب الوطني. والمهم أن الصحافة في المرحلة الثالثة استطاعت أن تفصل فصلًا يوشك أن يكون تامًّا بين فنونها المختلفة التي هي: فن الخبر، وفن المقال بأنواعه الثلاثة: الأدبيّ، والعلميّ، والصحفيّ، فبعد أن كانت هذه الفنون تكتب كلها بلغةٍ واحدةٍ, وصياغةٍ فنيةٍ واحدةٍ، أدرك الصحفيون في تلك الفترة أن الفرق عظيم بين المادة الصحفية الخالصة، والمادة الأدبية, أو العلمية الخالصة, وبعبارةٍ أخرى: استطاع الصحفيون أن يميزوا تمييزًا واضحًا بين الأسلوب الأدبيّ، والأسلوب الصحفيّ، ولا شك أن السيد: علي يوسف, هو رائد الجميع في كل ذلك، ثم جاءت المرحلة الرابعة.

المرحلة الرابعة: وهي المرحلة التي بدأت حوالي عام 1922، وانتهت حوالي عام 1942، وهنا نلاحظ شيئًا هامًّا في تاريخ الصحافة المصرية، هو اهتمام هذه الصحافة اهتمامًا بالغًا بالأدب، حتى ليصح لنا أن نطلق على هذه المرحلة الرابعة اسم: "مرحلة الأدب"، وفيها أنجبت مصر -في الواقع- خير أدبائها، وكتابها، وقصاصيها، وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول من كتاب فن المقال. وبحسبنا أن نصف هذه المرحلة بأنها "مرحلة الأدب" -كما قلنا- لنصوّرَ الحدَّ الذي بلغته الكتابة في تلك الفترة، وقد ضربنا الأمثلة على فنونها المختلفة في الفصول الثلاثة التي تلت الفصل الأول من كتاب "فن المقال"، وأخيرًا تأتي المرحلة الخامسة. المرحلة الخامسة: وهي المرحلة التي نعيش فيها الآن، وفيها نرى تحولًا جديدًا في الصحافة المصرية, تدل عليه ظواهر شتَّى، من أهمها قلة العناية بالأدب، حتى لكأن النهضة الأدبية نفسها قد انتكست في هذه المرحلة، وأصابها شيء من المرض أو الكسل. ومنها -أي من تلك الظواهر- أن الصحافة في هذه المرحلة الأخيرة أصبحت صحافة خبر في أكثرها، ولم تعد صحافة مقال, كما كانت الحال قبل ذلك. وأكبر الظن أن السبب الرئيسيّ في هذه النكسة الأدبية التي تعانيها مصر، ويعانيها العالم أجمع، في وقتنا هذا، يرجع إلى انقسام العالم المتحضر إلى معسكرين كبيرين، هما: المعسكر الشرقيّ، والمعسكر الغربيّ، وحرص كل منهما على تتبع الأخبار، وصياغتها بطريقة خاصة، من شأنها أن تحدث

التأثير الذي يطلبه كل معسكر منهما على حدة، ومن شأنها أن تجعل الحرب الباردة مستمرةً وباقية. كما يرجع السبب في قلة العناية بالمقال كذلك, إلى تغير كبير طرأ على طبيعة القارئ، فبعد أن كان القراء محصورين تقريبًا في طبقة الموظفين, أصبح القراء في عصرنا هذا طبقات مختلفة، منها الموظفون، ومنها العمال وأصحاب الأعمال, ومديرو الشركات والمؤسسات على اختلافها, وغيرهم من ذوي الأمزجة العقلية المختلفة، ولا بد للصحيفة من إرضاء كل هذا العدد من القراء على اختلافهم، وبيان أمزجتهم. تلك نظرة عجلى إلى المراحل التي مرت بها الصحافة المصرية منذ نشأتها إلى اليوم، فماذا عسى أن تكون عليه هذه الصحافة في المستقبل؟ لعل أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو: إلى أيِّ حدٍّ تعتبر الصحافة في وقتنا هذا مرادفة للأدب؟ أو بعبارةٍ أخرى: إلى أيِّ حدٍّ يمكن التمييز في الوقت الحاضر بين الصحافة، والأدب؟ وبين الصحافي والأديب؟ إن الإجابة عن هذا السؤال, هي وحدها التي تهدينا إلى الطريق الصحيح في التنبؤ بمستقبل التحرير الصحفيّ في مصر، وفي غيرها من أقطار العالم المتمدين. نقطة التحول في الصحافة: الواقع أن الصحافيّ والأديب كانا شيئًا واحدًا إلى وقت قريب جدًّا، وليس ذلك في مصر فقط، ولكن في غيرها من جهات العالم أيضًا، والدليل على ذلك أن أعلام الصحافة في مصر - وقد ذكرنا عددا كبيرًا منهم-

كانوا كلهم أو معظمهم من رجالات الأدب والفكر في وقت معًا، وقل مثل ذلك في الصحافة الإنجليزية، أو الفرنسية، أو الأمريكية. غير أننا نشاهد الآن تحولًا كبيرًا في هذه الظاهرة، نشاهد أن الصحافة نفسها غدت حرفةً من الحرف، وإن كانت ما تزال تربطها صلات متينة بالأدب. فتلك إذن هي نقطة التحول الحقيقيّ في تاريخ الصحافة الحديثة في العالم المتمدين. ومنذ أصبحت الصحافة حرفةًَ كحرفة الطب، أو التدريس, أو المحاماة، أو الهندسة، أصبح لهذه الحرفة -وهي الصحافة- فنون خاصة بها، ومن أهم هذه الفنون ثلاثة هي: فن التحرير، وفن الإخراج، وفن إدارة الصحف. ولسنا نحتاج الآن إلى النظر في الفنين الأخيرين، ولكننا بصدد النظر في الفن الأول، فماذا عسى أن يكون عليه مستقبل الصحافة المصرية في فن التحرير؟ الواقع أننا حين نقول: "فن التحرير", نعنى: شيئين دائمًا، هما: التفكير من جهةٍ، والتعبير من جهةٍ ثانيةٍ، أو بعبارةٍ أخرى: الموضوع والأسلوب في وقت معًا. فأما من حيث الأسلوب: فقد لاحظنا من تاريخ الصحافة المصرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر, أنها ورثت عن القرون السابقة أسلوبًا عتيقًا يميل إلى التكلف، ثم أخذ هذا الأسلوب يتخلَّى شيئًا فشيئًا عن هذا التكلف, حتى جاءت المدرسة الصحفية الثالثة، وعلى رأسها السيد: علي يوسف, صاحب "المؤيد", فوجدنا أنفسنا أمام كُتَّابٍ يميزون بين الأسلوب الأدبيّ، والأسلوب الصحفيّ، ومضى التحرير الصحفيّ في طريقه هذا إلى الوقت الحاضر، وإذاك وجدنا له لغةً تبعد بعدًا ظاهرًا عن لغة الأدب، فقد

استحدث الصحفيون الحاليون تراكيب جديدةلم تخطر للأدباء الأولين على بال. فمن ذلك قول بعضهم: وهنا نريد أن نضع النقط على الحروف, وذلك بدلًا من قولهم: وهنا نريد أن نوضح المسألة توضيحًا لا يدع مجالًا للشك أو الإبهام. ومن ذلك ما نسمعه بين حينٍِ وآخر, من الصفات والنعوت التي لا وجود لها في الكتب القديمة, أو في الصحافة القديمة، مثل: الحقيقة الصارخة.. الأكذوبة البيضاء.. الليلة الحمراء. ثم من ذلك ما نراه من معانٍ جديدةٍ لبعض الأفعال، كما في قول بعضهم: "وهكذا أصبح حشد الجنود التركية على حدود سوريا يشكِّلُ خطرًا على هذه البلاد". والشاهد في قوله "يُشَكِّلُ" فقد أصبح لهذا الفعل معنًى جديد في لغة الصحافة، ولغة السياسة. ومن ذلك قول بعضهم -وهو التابعي- على سبيل المثال: "وهنا قفزت طائفة كبيرة من علامات الاستفهمام, معبرًا بذلك عن معنى الغرابة، أو التعجب. وقول آخر: "فكان عليّ أن أضع أعصابي في ثلاجة بعد سماعي هذا الكلام" إلى غير ذلك من مئات التراكيب التي أثرت عن أمثال "مصطفى أمين، وعلى أمين، وسلامة موسى، ويوسف السباعي، وحسنين هيكل، وسامي داود، وعبد الرحمن الخميسي، ومن إليهم من شباب الصحفيين المصريين في وقتنا هذا.

والمهم أن هذه الأساليب التي تطالعنا بها الصحف كل يوم جديدة، ومن صنع هذه الصحافة، ولا صلة لها مطلقًا بالأدب، ولا بطرائفه المعروفة لدى القدماء من الأدباء والمحدثين على السواء. وهناك أثر آخر من آثار الصحافة في الأسلوب، فكثيرًا ما نشاهد في المقال الصحفيّ, أو في العمود, أن الكاتب يؤثر استخدام الجمل الاسمية التي دخلت عليها "إن" بكسر الهمزة, يريد بذلك شيئين في حقيقة الأمر: أولهما: أن تبدو كل جملة من الجمل كأنها وحدة مستقلة بذاتها عن الجمل أو الوحدات الأخرى. ثانيهما: أنه يؤكد المعنى الذي قصد إليه من كتابة كل جملة. والذي لا شك فيه أن الكاتب، أو المحررين الصحفيين، إنما اعتادوا هذا الأسلوب لتأثرهم بالصحافة، وتأثرهم بنوعٍ خاصٍّ بطريقة كتابة الأخبار, وقد أشرنا من قبل إلى أن من القواعد المعترف بها في كتابة الخبر الصحفيّ قاعدة تقوم بتقسيم "صلب الخبر" إلى وحدات متكاملة، تستقلُّ كل وحدة منها عن الأخرى، والغرض من ذلك هو إتاحة الفرصة للصحيفة لكي تحذف ما تريد من هذه الوحدات عند الحاجة, بدون أن يؤثِّرَ ذلك على المعنى العام لصلب الخبر1. ولك أيها القارئ أن تتأمل هذه الظاهرة في جميع الأعمدة الصحفية التي يكتبها محررون من أمثال: مصطفى أمين، وعلى أمين، ومحمد زكي عبد القادر، وغيرهم من المحررين والمذيعين بالإذاعة المصرية. هذا كله من حيث الأسلوب، أما من حيث الموضوع: فقد رأينا العجب أيضًا, رأينا الموضوع يتجه قُدُمًا نحو التوسع, ورأيناه يغزو مناطق جديدة، وعديدة، بحيث أصبح يشمل جميع مرافق المجتمع، ورأينا الفنون الصحفية المستحدثة تعين على هذا التوسع والتضخم، ومن هذه الفنون

_ 1س- راجع الفصل السادس من الكتاب الثاني من كتب هذا البحث الذي بين يديك.

الأخيرة, فن الحديث الصحفيّ، والتحقيق الصحفيّ، وفن الماجريات، ورأينا الصحيفة أشبه ما تكون بمعرض من المعارض الوطنية، أو الدولية, تعرض فيها جميع المنتجات على اختلاف أنواعها، واختلاف أثمانها، واختلاف جودتها. ولقد كان من نتيجة كل ذلك, أن أصبح الجيل الحاضر أوسع علمًا من الأجيال السابقة كلها، وإن كانت الأجيال السابقة كلها تمتاز على الجيل الحاضر من حيث العمق، ومن حيث الفهم لأصول العلم أو الفن، وذلك أن كل طائفةٍ من طوائف الأجيال الماضية توفرت على علمٍ بعينه، أو فنٍّ بعينه, لم تكن تتركه إلى سواء. مستقبل الخبر في الصحيفة: هذا كله من حيث المقال، وهو أحد شطري التحريري الصحفيّ, أما من حيث الأخبار، وهي الشطر الثاني من التحرير الصحفيّ, فقد أصبح لها في الصحافة الحديثة شأنٌ آخر، والخبر عند كثير من الصحفيين هو الغرض الأول من إصدار الصحيفة1. وقديمًا كانت الصحف المصرية تحرر الأخبار بطريقةٍ عجيبةٍ, حرصت فيها على إيراد الخبر مورد السجع، والجناس، والطباق، ثم بالتدريج أخذت الصحف تتخلص من هذا الشكل العتيق من أشكال التحرير، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد, حتى وجدنا أن فَنَّ تحرير الخبر أصبح له

_ 1 من طريف ما قرأت في ذلك أن كلمة الأخبار بالإنجليزية NEWS تتألف من أربعة أحرف، وهي: حرف n وتدل على الشمال NORTH وحرف E وتدل على الشرق EAST، وحرف w وتدل على الغرب WEST، وحرف S وتدل على الجنوب SOUTH. ومعنى ذلك أن الصحيفة مسئولة عن تزويد القارئ بالأخبار من جميع أنحاء العالم، بجهاته الأربع.

أصول، وله قواعد، وله قوالب خاصة، وصيغ معينة، هي التي مرت بك في الكتاب الثاني, من كتب هذا البحث، وهو كتاب: "فن الخبر". ولقد أصبحت للأخبار هذه الأهمية الكبرى من حيث التحرير، وقد شاهدنا من حيث الإخراج نوعًا من الصراع الكبير بينه وبين المقال، وما زال هذا الصراع قائمًا بينهما، فأيهما أولى بعناية الصحيفة في الوقت الحاضر؟ المقال، كما كان الشأن إلى وقتٍ قريبٍ في حياتنا الصحفية، أم الخبر، كما هو الحادث بالفعل في السنوات الأخيرة؟ ولا ريب أن الخبر في هذه الأيام مُقَدَّمٌ على المقال، وأن الصحافة تفسح من صدرها للأخبار، وما يتصل بالأخبار مما لا تفسحه للمقال. والرأي عندنا أن هذا وضعٌ شاذٌّ من أوضاع الصحافة الحديثة، والسبب فيه -كما قلنا- هو ما يعانيه العالم الحديث من موقفه من المعسكرين الغربيّ والشرقيّ. والرأي عندنا كذلك, أن الصحافة الحديثة ستعود في القريب العاجل إلى وضعها الطبيعيّ، أو -على الأقل- إلى المساواة التامة، من حيث العناية، بين الخبر والمقال، غير أن ذلك مشروط بالاستقرار الذي يهيء للكتاب والمفكرين أن يفرغوا أفكارهم، ويتقنوا إنتاجهم, حتى يكون من وراء هذه الثروة الفكرية ربحٌ عظيمٌ للبشرية، ويومئذ تشعر الصحافة الحديثة بأن عليها واجبًا عظيمًا، هو تغذية العقل البشريّ بالأفكار الصحيحة، والآراء السليمة، وإذ ذاك تفتح الصحيفة الحديثة صدرها من جديد للأدباء، والمفكرين، والفنانين، والفلاسفة، وتستعين بهم -على نطاق واسع- في مادة المقال السياسيّ، والمقال الأدبيّ، والمقال العلميّ، والمقال الاجتماعيذ، والمقال الفنيّ، ونحو ذلك. وإذ ذاك تتقدم النهضة الفكرية، والنهضة السياسية، والنهضة الاجتماعية، وأكبر الظن عندي أنه لن يمضي وقتٌ طويلٌ حتى تصيب الصحافة هذا القدر من التقدم لخير البشرية.

المخترعات الحديثة وأثرها في الصحافة: على أن هناك خطرًا آخر يهدد الخبر في الصحيفة, ويجب أن تحسب له الصحافة حسابه منذ الآن، وهذا الخطر هو المخترعات الحديثة، وهي المخترعات التي سوف تلعب دورًا خطيرًا في تكييف الصحافة في المستقبل. ومن أهم هذه المخترعات: الإذاعة, والتليفزيون، فقد أصبحتا منافستين خطيرتين للصحافة. أما الإذاعة: فإنها تمد القارئ بالأخبار فور وقوعها تقريبًا، وأما التليفزيون: فإنه يضيف إلى ذلك تمكين الجمهور من مشاهدة واقع الحادث, فضلًا عن العلم به، ومن ثَمَّ تتمكن الجماهير من رؤية جلسات البرلمان، أو المحاكم، أو الهيئات الدولية على اختلافها بغاية السهولة. وإذن فماذا تكون جدوى الصحيفة بعد ذلك؟ إن الصحف الحديثة أمام هذه الوسيلة الجديدة ستبدو كأنها وسيلةٌ عنيفةٌ من وسائل نقل الأخبار، وستصبح شبيهةً بوسائل النقل الأولى، كالحمير والبغال، وذلك بالقياس إلى الوسائل الحديثة التي هي الطائرة والقطار! لن يكون أمام الصحافة الحديثة إذن إلّا التسليم بالمخترعات الحديثة على طول الخط. وإذ ذاك سوف تجد الصحافة نفسها مضطرةً إلى التقليل نوعًا ما من الأهمية الأولى التي للأخبار أو الإعلام، وإذا ذاك ستضطر الصحافة الحديثة إلى العناية بالمهمة الأخرى من مهام الصحيفة، وهي مهمة تفسير الأخبار, أو التعليق عليها، أي: أن القراء في المستقبل القريب لن يطالعوا الصحيفة ليقفوا منها على أخبار "آخر ساعة" ولكنهم سيطالعون الصحيفة ليفهموا كنه الحوادث الجارية، وهي مهمة لا يستغني عنها السواد الأعظم من القراء على اختلاف طبقاتهم، وتنوع ثقافاتهم.

وتصبح الصحيفة اليومية باختصارٍ أشبه بالمجلة الدورية، لا تُعْنَى بالسبق الصحفيّ من حيث الأخبار، وإنما تُعْنَى بالسبق الصحفيّ من حيث التعليق على هذه الأخبار. وإذ ذاك يعود المقال ليحتل مكانه القديم في الصحافة الحديثة، ويعود الكتاب والمفكرون فيصبحون من أهم أعضاء الأسرة الصحفية الجديدة. وشيء آخر نبشر به الصحافة في القريب العاجل، وهو التخصص, والتخصص في ذاته ظاهرة تدل على التقدم، فسيوجد في الصحف المصرية المتخصص في السياسة، والمتخصص في شئون المرأة، والمتخصص في الاقتصاد، والمتخصص في التربية والتعليم، والمتخصص في الأدب، والمتخصص في شئون المرأة، والمتخصص في شئون الرياضة، والمتخصص في شئون المسرح، بل سنرى قريبًا المتخصص في الصفحة الأولى، والمتخصص في الصفحة الثانية من الصحيفة، وهكذا. وعلى هذا النسق, سيكون لكل صحفيّ من صحافيّ الغد لونٌ يُعْرَفُ به، ومادةٌ يتميز بها، وعمل يخالف عمل الآخرين كل المخالفة. وسيكون من آثار هذا التخصص المنتظر تخلص الصحافة الحديثة من التفاهات العقلية الكثيرة التي توصم بها، بل تخلصها كذلك من هذه الثقافة الضحلة الهابطة التي جنت بها على الجيل الذي نعيش فيه، بل تخلصها من هذا العبث المعيب بمواد الصحيفة، والضعف البادي على محرريها، حتى لقد أصبحوا يعتمدون في تحريرهم على النقط الكثيرة، وعلامات الترقيم الكثيرة هنا وهناك، والفراغ الكثير الذي يتركونه بين كل كلمة وأخرى, وكل جملة وأخرى، ونحو ذلك من الطرق التي توحي للقارئ بأن المحررين قد أعوزهم التعبير، فراحوا يستعيون بكل هذه الوسائل لعلهم يكلمون بها تعبيرهم، ويستمدون منها الحركة والحياة اللازمين لهذا التعبير. بل إن هذا التخصص الذي نتنبأ به للصحافة في المستقبل, سيجعل من الصحيفة شيئًا محببًا لدى القارئ، وشيئًا لازمًا لهم لزومًا تامًّا في نفس

الوقت؛ لأنها ستقدم لكل طائفةٍِ من القراء ما يناسبها، أو يتفق وميولها الخاصة. وكما يقول الأستاذ "ويكهام ستيد": "إن من الضرورة لكل صحيفةٍ تريد لنفسها النجاح والرواج, أن تحرز في كل يوم نصرًا جديدًا في الإخراج, تتغلب به على عناصر الركود والانحلال، وأكثر ما يكون ذلك عن طريق التحرير الصحفيّ, قبل أي شيء آخر, ألَا ما أضخم هذا العبء الذي سوف تقوم به صحافة الغد، وما أثقل هذه التبعات التي ستنهض بها، وما أنبل هذه الرسالة التي ستحققها للبشرية في القريب العاجل". أو كما قال الأستاذ "ويكهام ستيد" أيضًا: "لكل أمة صحافتها التي تستحقها: نعم، لكل أمة صحافتها التي تستحقها، ونحن نريد أن تكون مصر أهلًا لصحافةٍ راقيةٍ بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنًى، وليس عسيرًا عليها أن تبلغ من ذلك ما تريد. المحرر المثالي: وفي ختام هذا البحث عن مستقبل التحرير في مصر، نرى أن ننقل عبارةً كتبها الأديب الإنجليزي "شو" إلى مجلة "تايم آند تايد" Time& Tide" ثم أتى الأستاذ "ويكهام ستيد" W. steed فجعلها كذلك في نهاية كتابه: "الصحافة Journalism"1. يقول "شو" بطريقته الساخرة المعروفة: "إن عمل الصحفيّ

_ 1 انظر الترجمة العربية لهذا الكتاب، بقلم الدكتور على الأنصاري ص 54.

في الأصل هو الإخبار والإعلام، وليست الفلسفة السياسية، وإن جمهور القراء لا يطبق الجعجعة الفارغة التي لا تحوي شيئًا، كما لا يطبق سخافة المدعين من الوعاظ ورجال الدين, ولا من رجال السياسة أيضًا, ولقد يقرأ الجمهور لبعض الحمقى من هؤلاء وأولئك؛ لأن هذا الذي يقرءون خير من لا شيء، ولكن متى ظفر الجمهور القارئ بذلك الشخص الذي يستطيع أن يغذيه بشيء حقيقيٍّ, فإذ ذاك لن تجد حدًّا لنَهَمِ هذا الجمهور، وتَهَافُتِهِ على القراءة"! وهنا تسائل "ستيد" قائلًا: "ولكن ما هو هذا الشيء الحقيقيّ؟ " وأجاب هو على سؤاله بقوله: "هو ما يشعر الناس بأنه حيويٌّ لهم، ومؤثر في حياتهم ومعرفتهم, ومعنى ذلك أنه لا بد أن يجمع المحرر الصحفيّ إلى عنصر الطرافة عنصر صدق الفكرة، سواء أكانت هذه الفكرة جديدة أم قديمة، أيّ: أن مهمة التحرير هي تقديم ذلك الشيء الحقيقيّ للقارئ، ومن هنا كان الأكفاء من المحررين الصحفيين أندر من الذهب، أو الماس، وهم بكفاءتهم النادة هذه قادرون دائمًا على أن ينتجوا في الأدب، ولكنهم يفضلون على الدوام أن يعملوا في الصحافة على أن يعملوا في الأدب" ثم استطرد "ستيد" يقول: "لكن من ينظر إلى الصحف اليومية في عصرنا هذا, يمكنه أن يلاحظ -مع الأسف- أن إدارتها أشبه بالسجون التي عكف فيها المحررون، وانقطعوا فيها انقطاعًا تامًّا عن العالم الخارجيّ، وعن الحياة السياسية، وعن المحاضرات العلمية، وعن حفلات الموسيقى، ودعوات العشاء، بحجة أنهم يكونون في ذلك الوقت مشغولين بتأدية أعمالهم في عقر هذه السجون التي حالت بينهم وبين الحياة نفسها، ولعلاج تلك الحالة أقترح أن يكون للصحيفة اليومية ثلاثة رؤساء

للتحرير، وليس رئيسًا واحدًا فقط، حتى يكون لكل واحد من هؤلاء الثلاثة يومٌ أو يومان, ينقطع فيهما عن العمل بإدارة الصحيفة، ويتصل في أثنائهما بالعالم الخارجيّ، وبغير هذا تصبح الصحف كأنها تعيش متأخرة عشرين عامًا إلى الوراء؛ لأن محرريها يكونون -كما هم الآن- أشبه بنسَّاكٍ يعتزلون الحياة، ولا يزيدون عن حراس المنارات على شواطيء البحار". وهكذا استطاع "شو" أن يضع يده على الداء الأليم الذي يعاني منه التحرير في الوقت الحاضر، وجاء "ستيد" فاقترح حلًّا لهذه الهوة العميقة بين المحررين والقراء. وثَمَّ اقتراحٌ آخر لتقوية الصلة بين المحررين والقراء، وهو ما كانت تفعله صحيفة "المؤيد" للسيد علي يوسف, منذ أواخر القرن الماضي، وما كانت تفعله صحيفة "الأهرام" منذ سنوات، وهذا الاقتراح هو فتح باب الصحيفة، أو بالأحرى باب رئيس التحرير كل مساء لاستقبال الصفوة من المصريين في العلم والأدب، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد، حيث يتناقش هؤلاء جميعًا في جوٍّ من البساطة والحرية في شتَّى المشكلات التي تهم القراء، ورئيس التحرير يصغي لجميع هذه المناقشات كل الإصغاء، ثم ينقل لقرائه في اليوم التالي زبدة الفكرة المصريّ، وخلاصة التجارب المصرية. ولندع هذا الاستطراد جانبًا، لنعود مرة أخرى إلى عبارة "شو" التي قال فيها: "ولكن متى ظفر الجمهور بذلك الشخص الذي يستطيع أن يغذيه بشيء حقيقيٍّ, فإذ ذاك فقط لا تجد حدًّا لنَهَمِ هذا الجمهور، وتَهَافُتِهِ على القراءة". فهذه العبارة وحدها تصلح لأن تكون أساسًا لجانبٍ من جوانب هذا البحث، وهو الجانب المتصل بما نسميه: "ثقافة الصحفيّ". والذي نعلمه حق العلم أنه لا مفرَّ للصحفيِّ في عصرنا هذا من أن يكون

رجلًا مركبًا من عدة رجال، أو بعبارة أخرى: أصبح عليه -كما يقول علماء الصحافة- أن يجمع في حذقٍ، وانسجامٍ، ومهارةٍ، بين صفات السياسيّ، والأديب، والمحدث، والقديس، والاجتماعيّ، والفيلسوف، ورجل المال والاقتصاد في وقتٍ واحدٍ! وعلى الصحفيّ في عصرنا هذا, أن يظهر للناس وكأنه موسوعة عظيمة، أو دائرة معارف كبيرة، وضعت لتكون تحت تصرف القراء في أية لحظة من اللحظات. والصحفيّ المثاليّ -كما يقول أولئك العلماء- هو "من تمكن من حكمة القدماء، وهضمها هضمًا جيدًا، وألَمَّ بفلسفة المحدثين، وفهمها فهمًا مستقيمًا، وعرف آلات المهندسين؛ مما يتصل بفن الطباعة والتصوير وما إليهما، ودرس تاريخ عصره، فضلًا عن تاريخ العصور التي سبقت عصره، ثم عرف العوامل المؤثرة في الحياة السياسية، والحياة الاقتصادية، والحياة الاجتماعية، وشعر بأن عليه مع هذا كله أن يختزن في صدره جميع هذه العلوم والمعارف، كما عليه بعد هذا كله, أن يقدِّر حاجات القراء من هذه العلوم والمعارف، وأن يعرف مدى تقبلهم لهذه الأشياء، وأن يمدهم منها بين آنٍ وآخر بالقدر الذي يسيغونه، وبالطريقة التي يحبونها"1. ثم مضى "ستيد" كذلك يقول: "لهذا كان من الخطأ كل الخطأ, أن نظن أن الجمهور يجري وراء أولئك الذين يتملقون غرائز القراء؛ إذ الحقيقة التي لا مراء فيها, أن الجمهور إنما يريد أن يشعر دائمًا بأن أولئك الزعماء الذين يقودونه يعرفون الجهة التي يقصدون إليها، كما يعرفون الطرق المؤدية إلى هذه الجهة". "والحقيقة الأخرى التي يجب أن نصدقها كذلك هي أن الجمهور

_ 1 المصدر المتقدم ص50.

لا يمكنه في الوقت نفسه أن يغتفر ذنبًا لأولئك الذين يضللونه، أو يغررون به". وبعد, فإن للبحث في مستقبل الصحافة والأدب في مصر كتابٌ آخر لنا غير هذا الكتاب، هو "مستقبل الصحافة في مصر - الأدب والصحافة"، ولكن حسب هذا الكتاب الذي بين يديك أنه أول تنظيم علمي ظهر في مصر والعالم العربيّ لمادة من مواد الحضارة الحديثة، هي: "مادة الفن الصحفيّ". أجل، حسب هذا البحث أنه المحاولة الأولى من نوعها في هذا السبيل، وإننا لنرجو-مخلصين- أن تتبعها محاولات أخرى كثيرة وجليلة -إن شاء الله. فمن حق مصر أن تشارك دائمًا في بناء الحضارة الإنسانية بجميع مظاهرها، ومن حق المصريين ألّا يكونوا متخلفين يومًا ما عن غيرهم من سكان العالم المتحضر في شأنٍ من شئونه، والله يوفقنا دائمًا لما فيه الخير. " تم بحمد الله "

الفهرس

الفهرس: الصفحة الموضوع 5 تقديم: بقلم د. عبد العزيز شرف 11 من مؤلفات أ. د عبد اللطيف حمزة وبحوثه 35 هذا الكتاب الكتاب الأول: الرأي العام: 46 الصحافة والرأي العام 49 تعريف الرأي العام 52 الفرق بين الرأي العام، والسخط العام، والاتجاه العام 54 أنوع الرأي العام 56 دور الصحافة في تكوين الرأي العام 61 القانون والرأي العام 64 الرقابة على الصحف 70 نشأة الرأي العام في مصر الكتاب الثاني: فن الخبر: 80 نشأة الخبر وأهميته 86 تعريف الخبر 93 في سبيسل الحصول على الخبر

الصفحة الموضوع 98 طرق مشروعة للحصول على الخبر 102 قضية التلغرافات 104 تقويم الخبر 114 مذاهب نشر الخبر 123 القوالب الفنية لصياغة الخبر 125 قالب السرد 131 قالب القصة الإخبارية 133 الأسئلة الستة وطريقة استخدامها 138 طرق التجديد في صياغة صور الخبر 143 صلب الخبر 149 الحوادث الداخلية أو المحلية, وكيف تصاغ في قصة إخبارية 153 طرق صياغة القصة الخبرية لحادث داخلي 164 الأخبار الخارجية 169 أنواع الأخبار الخارجية 170 مصادر الأخبار الخارجية 182 طبيعة اللغة التي يكتب بها الخبر 187 تحرير العنوان 188 من الذي يقوم بصياغة العنوان 191 ما هو العنوان، وما أهم أشكاله في الصحف؟ 193 خصائص كتابة العنوان 195 كتابة العنوانات الفرعية 197 التعليق على الخبر 205 الطرائف المتصلة بالخبر 210 كيف تجمع الطرائف؟ 213 أنواع الطرائف 214 أسلوب كتابة الطرائف

الصفحة الموضوع 216 من هم كتاب الطرائف؟ 217 ما الفائدة التي تعود على القراء من الطرائف 222 الخبر والمجتمع 223 رأي المؤيدين لنشر خبر الجريمة 224 رأي المعارضين في نشر خبر الجريمة 231 الأخبار من الزاوية الأخلاقية, وزاوية المسئولية الإعلامية 242 الذوق الصحفيّ والخبر 244 دعوى القذف في الصحف الكتاب الثالث: فن المقال: 253 فنون المقال 256 تعريف المقال 264 المقال الصحفي 272 مقال الاعترافات 282 المقال الكاريكاتوري 291 مقال الخواطر والتأملات 299 المقال العلميّ 308 الأذن السحرية 313 المقال الصحفيّ 314 فنون المقال الصحفيّ, وطريقة صياغتها 316 لغة المقال الصحفيّ 320 المقال الافتتاحيّ 322 خصائص المقال الافتتاحيّ

الصفحة الموضوع 327 الصفات التي ينبغي توافرها في كاتب المقال الافتتاحيّ 329 أهمية المقال الافتتاحيّ في الصحافة 335 العمود الصحفيّ 336 تعريف العمود الصحفيّ وخصائصه 340 صياغة العمود الصحفيّ 345 مؤسسات العمود الصحفيّ في الوقت الحاضر 349 عمود الموضوعات الإنسانية 353 إلى البطل الشهد عادل محمد غانم 356 المأموت والناموس 359 عمود الرياضة والفنون 365 صفحة الفن 370 الحملة الصحفية 372 الخطة في كتابة الحملة 376 الحيل الصحيفة, أو الصراع بين الصحيفة والرقيب 381 اختراع الشخصيات الكتاب الرابع: فن التقرير، وبه الكلام عن فن تحرير المجلة: 390 المجلة 390 هيئة تحرير المجلة وطبقة المحررين بالقطعة 392 المصادر التي تستقى منها مواد المجلة 395 الأرشيف الصحفيّ للمجلة 395 ما هي قيمة الأرشيف العام للصحيفة؟ 396 ما المقصود بالأرشيف الخاص وما قيمته 400 المقال في المجلة

الصفحة الموضوع 401 صفات كُتَّاب المقال 404 حقائق حول كتابة المقال في المجلة 405 الواقعية في المقال 407 النظام التقليديّ لصياغة المقال 409 القصة في المجلة 410 فن القصة القصيرة 412 عناصر القصة القصيرة 412 عنصر الحوادث والأخبار 414 عناصر الشخصيات 417 عنصر الفكرة أو المعنى 418 لحظة التقرير 418 نسيج القصة 420 الواقعية في القصة القصيرة 424 وظيفة التقرير الصحفيّ وأهميته 429 المقرر الكبير ومكانته في الصحافة الحديثة 434 فن الحديث الصحفيّ وأنواعه 436 أنواع الحديث الصحفيّ 445 مراحل إعداد الحديث الصحفيّ ونموذج له 445 أولًا: مرحلة الإعداد للحديث الصحفيّ 447 ثانيًا: مرحلة قيادة الحديث 449 ثالثًا: مرحلة صياغة الحديث 453 رابعًا: مرحلة النشر 456 نموذج الحديث 465 التحقيق الصحفيّ وأنواعه وقوالبه 469 القوالب الفنية لكتابة التحقيق الصحفيّ 470 الخطوات التي تتبع في كتابة التحقيق الصحفيّ

الصفحة الموضوع 472 خطوات الحصول على التحقيق 474 مصادر التحقيق الصحفيّ, ونموذج له 475 ما هي مصارد التحقيق الصحفيّ على وجه الإجمال؟ 477 نموذج من التحقيق الصحفيّ 483 الماجريات وطريقة تحريرها 486 أنواع الماجريات وطرق تحريرها 490 الماجريات البرلمانية 491 الطريقة الحديثة في كتابة التقرير البرلماني 693 نموذج من الماجريات البرلمانية 502 الماجريات القضائية 517 الماجريات الدبلوماسية 525 الماجريات الدولية 537 تحرير الصورة والإعلان 544 أسلوب تحرير الإعلان الخاتمة مستقبل التحرير الصحفيّ: 554 مستقبل التحرير الصحفيّ في مصر 554 المرحلة الأولى 555 المرحلة الثانية 556 المرحلة الثالثة 557 المرحلة الرابعة 557 المرحلة الخامسة 558 نقطة التحول في الصحافة 562 مستقبل الخبر في الصحيفة 564 المخترعات الحديثة وأثرها في الصحافة 566 المحرر المثالي 571 الفهرس

§1/1