المدخل إلى علوم القرآن الكريم

محمد فاروق النبهان

مقدمة الناشر

مقدمة الناشر بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله والرضا عن الصحابة والتابعين ومن والاه وبعد. - فقد أخذت على عاتقها طباعة المصحف الشريف وما يتصل به من علوم وأبحاث ودراسات وما يتعلق به من رسائل تعليمية وقصص قرآنية ومن منهج يتخلّص فيما يلي: 1 - المضمون العلمي الدقيق. 2 - المظهر الحضاري الأنيق. مدركة عظم المسئولية ومقدار الهمة باذلة كل جهد. سائلة كل توفيق راجية من الله المدد والعون. - وقد أرادت الدار أن يكون باكورة عملها كتاب يعرّف بالقرآن الكريم وعلومه. فوقع الاختيار- من بين كثير مما قدم إلى الدار من كتب ودراسات وأبحاث- على هذا الكتاب الذي يعتبر بحق مدخلا إلى علوم الكتاب العزيز ومنارة للدارسين ومرجعا للباحثين. - والله المسئول أن يجزي مؤلفه ما هو أهله وأن ينفع به المسلمين إنه سميع مجيب. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم الناشر

مقدمة

مقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. منذ فترة طويلة كنت أتطلع إلى إعداد كتاب عن القرآن الكريم، علومه ومباحثه، وكنت أشتاق إلى ذلك، ولم تكن الغاية تأليف كتاب جديد يضاف إلى ما كنت أعددته من مؤلفات سابقة، وإنما كانت غايتي الخوض في بحر هذه العلوم القرآنية، لمزيد من المعرفة حول كتابنا العظيم، الذي يجدر بنا أن نحتضنه بحب وأن نمسك بناصيته، في حياتنا، مستهدين بنوره، متطلعين إلى أفقه الرحب في التربية والتوجيه والتشريع ... وجاء شهر رمضان، وهو شهر خير وبركة، ووجدت نفسي أبحث عن الكتب القرآنية وأقلب صفحاتها بشغف وفرحة، أستطلع ما بذله العلماء السابقون من جهود، وأستزيد من ثقافتي القرآنية، وبخاصة فيما يتعلق بعلوم القرآن، ووجدت نفسي على غير إرادة مسبقة أخوض في مباحث الدراسات القرآنية، وأتتبع المصنفات الأصيلة التي تناولت علوم القرآن، وفي هذه الفترة دعيت لمؤتمر عقد في القاهرة عن السيوطي، وعكفت على إعداد دراسة عن منهج السيوطي في كتابه: «الإتقان في علوم القرآن»، وأخذت أقارن بين ما كتبه السيوطي في الإتقان وما كتبه الزركشي في البرهان، وبدأت رحلة هذه الدراسة، التي اطمأنت نفسي إلى متابعتها، والخوض في مباحثها الممتعة، وكنت قبل ذلك أتهيب الخوض في الدراسات القرآنية، لدقة هذه العلوم ولاتساع مباحثها، ولقد ألفت في هذه العلوم مصنفات موسعة، ما زلنا حتى اليوم نجهل الكثير عن مظان وجودها، ولم يصل إلينا منها إلا النزر اليسير. وأعترف أنني لم أضف شيئا فيما كتبت، ولم أنفرد برأي أو اجتهاد، واكتفيت بعرض المادة العلمية، كما جاءت في مصادرها، باذلا جهدي في تبسيط هذه المادة، تيسيرا لطلابنا، ومساعدة لهم على حسن الفهم، وسعة الاستيعاب، واختصرت ما اعتقدت أنه بحاجة إلى اختصار، وأوجزت ما رأيت أنه يحتاج لإيجاز، وتوسعت في مباحث توقعت أن تكون مفيدة.

وحسبي من هذه الإطلالة على دراساتنا القرآنية أنني أضفت لبنة صغيرة متواضعة في صرح هذا العلم، وتعلمت ما كنت بحاجة إليه من معرفة بعلوم القرآن، وبخاصة فيما يتعلق بالقراءات القرآنية، وأوجه الإعجاز القرآني، ومباحث الرسم القرآني. وسميت هذا الكتاب: ب «المدخل إلى علوم القرآن الكريم» لكي أؤكد على أن الغاية من هذه الدراسة تبسيط المادة العلمية، وتيسير الرجوع إليها، بعبارة سهلة التناول، واضحة العبارة. وقسمت هذا الكتاب إلى فصول، خصصت «الفصل الأول» للتعريف بالقرآن، وكيفية إنزاله، وأسباب نزوله منجما، وأقوال العلماء في الأحرف السبعة، ومعرفة أسباب نزوله، وتكلمت في «الفصل الثاني» عن ظاهرة الوحي ومعاني الوحي وكيفية نزوله، وناقشت فكرة الوحي، وعرضت في «الفصل الثالث» لنشأة علوم القرآن، والتصنيف في هذه العلوم، وبينت أهمية كتاب البرهان للزركشي والإتقان للسيوطي، ومنهج كل منهما، وقارنت بين منهجي الكتابين، وفي «الفصل الرابع» تحدثت عن التفسير والتأويل، وخصائص كل منهما. وتكلمت عن ترجمة القرآن في «الفصل الخامس»، وأوضحت الفرق بين الترجمة والتفسير من حيث الصفة الاستقلالية ومدى إمكان استيعاب كل المعاني الأصلية، واقترحت تشكيل «هيئة مختصة بترجمة القرآن» تضم كفاءات مختصة في اللغة والتفسير وفي الدراسات اللغوية المقارنة تعكف لمدة سنوات على إعداد ترجمة دقيقة للقرآن الكريم، وتلحق بالترجمة «ملاحق بيانية» توضح المعاني الممكنة والمحتملة، والغاية من تشكيل هذه الهيئة القضاء على الترجمات الفردية المليئة بالأخطاء والتجاوزات. وفي «الفصل السادس» تكلمت عن المكي والمدني في القرآن الكريم، والغاية من معرفة ذلك دراسة مراحل الدعوة، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وفهم النصوص عن طريق معرفة تاريخ نزول القرآن، وأوضحت في «الفصل السابع» مراحل جمع القرآن، وخصائص كل مرحلة، والدقة في الجمع والاعتماد على الحفظ والكتابة، لتوثيق النص القرآني أولا، ولتوحيد القراءة

القرآنية ثانيا، وخصصت «الفصل الثامن والتاسع» لفواتح السور ولخواتمها، ولترتيب السور والآيات، وبينت اختلاف العلماء في ترتيب السور من حيث التوقيف أو الاجتهاد، كما عرضت لآراء العلماء في التناسب بين السور والآيات بحيث تكون الآيات محكمة البناء، متلاحمة الأجزاء، مما دفع العلماء إلى اعتبار علم المناسبة من مظاهر الإعجاز في القرآن. وفي «الفصل العاشر» تحدثت عن علم الناسخ والمنسوخ وآراء العلماء في المكثرين في النسخ، وسجلت قواعد النسخ عند «ابن العربي» التي تعتبر نواة نظرية متكاملة في النسخ في القرآن الكريم، وخصصت «الفصل الحادي عشر» لرسم القرآن، وأقوال العلماء في الرسم القرآني، وأكدت ضرورة الحفاظ على الرسم القرآني لأنه الرسم الأصيل للخط القرآني، واعتبرت فكرة الخطأ في الرسم القرآني من الأفكار التي لا يمكن قبولها من الناحية الدينية ومن الناحية التاريخية، ولا بد من التسليم بخصوصية الرسم القرآني، ورجحت مراعاة المصلحة في جواز كتابة الآيات بالخطوط المتعارف عليها بطريقة استثنائية لتيسير التعليم، على أن يحتفظ بالرسم العثماني الأصيل، وعرضت لمزايا الرسم القرآني، وأهمها مراعاة القراءات وإفادة المعاني المختلفة، والدلالة على بعض المعاني الخفية، ومراعاة بعض اللغات الفصيحة، وأوضحت في «الفصل الثاني عشر» معنى المحكم والمتشابه، وآراء العلماء في معنى المتشابه، وقد أدى المتشابه بسبب غموضه إلى فتح آفاق واسعة من البحث والدراسة، لاستقصاء المعاني الممكنة للألفاظ المتشابهة، وتوسعت في بحث القراءات القرآنية في «الفصل الثالث عشر»، والغاية منها العلم بكيفية أداء القرآن من حيث نطق الألفاظ أو اختلاف تركيبها، بحيث تكون القراءة موافقة لما ثبت نقله عن القراء الأوائل الذين اشتهروا بحفظ القرآن وضبطه، وأكدت أن القراءات ليست هي الأحرف السبعة، فالقراءات السبع هي التي اعتمدها «ابن مجاهد» في القرن الثالث الهجري واختارها من القراءات التي شاعت في عصره، والمقياس المعتمد في القراءة الصحيحة، أن تكون موافقة للعربية ولو بوجه، وأن تكون موافقة لأحد المصاحف العثمانية ولو

احتمالا، وأن تكون صحيحة السند، وأكد ابن الجزري في كتابه النشر أن القراءة التي توفرت فيها هذه الشروط لا يجوز إنكارها ولا ردها، فإذا افتقد شرط من هذه الشروط اعتبرت القراءة شاذة ... والحكمة من تعدد القراءات كما ذكر السيوطي في الإتقان التخفيف على الأمة، والكشف عن أوجه التعليل والترجيح في كتاب الله، وإظهار سر الله في صيانة القرآن عن التبديل، والمبالغة في الإعجاز، كما يؤكد لنا تعدد القراءات عناية العلماء بكتاب الله، وتوقيف كل ما يتعلق به، قراءة له، ورسما لكلماته وحروفه، وأداء لألفاظه، وضبطا لكيفية نطق كلماته وألفاظه، وشرحت بعض المصطلحات الفنية التي استخدمها القراء لتوضيح كيفية النطق والأداء اللفظي من حيث الإدغام والوقف والإشمام والروم والسكت والقطع والقصر والمد والحدر والتدوير والترتيل والتجويد والترقيق والتفخيم والإمالة، وشرحت في «الفصل الرابع عشر» الوقف والابتداء، ولا يحسن الترتيل إلا بمعرفة الوقوف وتجويد الحروف، وتحدثت في «الفصل الخامس عشر» عن إعجاز القرآن، وذكرت أقوال العلماء في وجوه الإعجاز، وشرحت معنى الإعجاز عند العلماء، فالخطّابي نظر إلى الإعجاز من خلال تأثير القرآن في النفوس والقلوب، والرمّاني نظر إلى الإعجاز من حيث البلاغة وأورد الخصوصيات البلاغية في القرآن، ورأى القاضي الباقلاني الإعجاز في «بداعة النظم»، من حيث مخالفته لما عهد العرب من أساليب السجع والشعر وابتعاده عن الألفاظ الوحشية والمستكرهة، وذهب القاضي عبد الجبار إلى أن الإعجاز القرآني يتمثل في «جزالة اللفظ وحسن المعنى ومطابقة الكلام لمقتضى الحال»، ورأى عبد القاهر الجرجاني الإعجاز في «الملاءمة بين الألفاظ»، لأن الكلمة لا تستمد مكانتها من ذاتها، ويقع التفاضل بين الكتاب بحسب قدرتهم على إيجاد التلاؤم بين اللفظة واللفظة التي تليها، كالنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير، بحيث يكون الوضع والترتيب خاضعا لمعايير وأقيسة ومرجحات، بحيث لو تم استبدال هذا الترتيب بغيره لما صح النظم ولما استقام، وأكد «الجرجاني» أن ما أعجز العرب هو تلاقي اللفظ والمعنى معا، فلا مجال للإعجاز في لفظ دون معناه، ولا في معنى دون لفظ، والعبارة البيانية هي نتاج لفظ

معبر ومعنى يجسد الصورة، ويعطي للألفاظ أبعادها وصورها وجمالها، ويؤكد الجرجاني أهمية اللفظ، ويعتبره الأداة الأولى للتعبير، فاللفظة تجد مكانها المناسب والمعنى الدقيق يبحث عن لفظ معبر. وختمت هذه الدراسة بالفصل الخاص ب «القصة في القرآن»، وتكلمت في هذا الفصل عن المحور العام للقصة القرآنية وعن أشخاص القصة القرآنية، وخصائص هذه القصة من حيث الإقناع العقلي واستخدام اللغة لإحداث التأثير النفسي، وأهم خصوصيات القصة القرآنية تداخل القصة بالحكم والعبر المستفادة منها حيثما دعت الحاجة إلى ذلك، في بداية القصة أو في نهايتها، أو على لسان شخصيات القصة أثناء الحوار. ولا شك أن القصة القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني، سواء من حيث إخبارها عن الأمم السابقة، أو من حيث وضوح الالتزام بالأهداف القرآنية أو من حيث الأسلوب المؤثر في إحداث الغاية المطلوبة من عرض القصة، ومن اليسير علينا أن نستنتج من كل قصة في القرآن مواقف إنسانية، وبخاصة فيما يتعلق بالصراع بين الحق والباطل، والطغاة والمستضعفين، ويقف الأنبياء دائما في وجه الطغاة، يقاومون بشجاعة رموز الشر، ويدافعون عن حقوق الإنسان وكرامته، مبشرين ومنذرين، منتصرين للفضيلة والحق، مؤكدين أن الدين الحق غايته تحرير الإنسان من العبودية، ومقاومة الطغيان في المجتمع. وفي الختام، أرجو الله تعالى أن يتقبل هذا العمل العلمي المتواضع، وأن يجعله مباركا، وأن ينفع به، وأعتذر عما يمكن أن يكون قد وقع فيه من أخطاء، وأسأله تعالى أن يشرح قلوبنا لما يحبه لنا، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم. والله الموفق لكل خير. محمد فاروق النبهان رباط الفتح 27 رمضان المبارك 1414 هـ 10 مارس 1994 م

الفصول الرئيسية الفصل الأول: القرآن الكريم. الفصل الثاني: الوحي والقرآن. الفصل الثالث: نشأة علوم القرآن. الفصل الرابع: مقدمة في التفسير. الفصل الخامس: ترجمة القرآن. الفصل السادس: المكي والمدني في القرآن الكريم. الفصل السابع: جمع القرآن وكتابته. الفصل الثامن: فواتح السور القرآنية وخواتمها. الفصل التاسع: ترتيب السور والآيات. الفصل العاشر: علم الناسخ والمنسوخ. الفصل الحادي عشر: رسم القرآن. الفصل الثاني عشر: علم المحكم والمتشابه. الفصل الثالث عشر: القراءات القرآنية. الفصل الرابع عشر: الوقف والابتداء. الفصل الخامس عشر: إعجاز القرآن. الفصل السادس عشر: القصة في القرآن.

الفصل الأول: القرآن الكريم

الفصل الأول: القرآن الكريم القرآن هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، وهو المصدر الأصيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتطرق الشك إلى أيّة آية من آياته، ينسخ المصادر الأخرى ولا تنسخه، ويحتج به على ما عداه ولا يحتج عليه، وما ورد في القرآن فهو قرآن وهو كلام الله، وتتمثل مهمة البشر في تفسيره وبيان ما ورد فيه. وتفسير القرآن حق ثابت لكل من كان يملك أهلية التفسير، من حيث الكفاءة العقلية والاستقامة السلوكية ومعرفة أدوات التفسير ومتطلباته، اللغوية والشرعية، ولا يمكن إنكار حق البشر في التفسير، لأن المخاطب بالنص يملك حق تفسير ذلك النص والأجيال المتعاقبة مخاطبة بالقرآن، ومن حق كل جيل بل من واجب كل جيل أن يسهم في تفسير القرآن، وأن يبدي رأيه واجتهاده، فمن أساء التفسير فمن حق الآخرين أن يناقشوه ويجادلوه، ولكن لا يجوز إنكار حق البشر في الفهم والتفسير، والتفسير هو أداة التجديد، لأن المخاطب متعدد، والتعدد يستلزم اختلاف الرؤية، والأجيال المتعاقبة ليست متماثلة في تكوينها وفي ظروف حياتها، وإذا انتفت المماثلة في المخاطب تعدد التفسير، واتسعت دائرة الفهم، بحثا عن معاني الخطاب القرآني وتأكيدا لإعجاز القرآن. ولا يجوز لجيل أن يستبد بحق التفسير مانعا أجيالا لاحقة من حقها الطبيعي في الفهم، كما لا يجوز لجيل أن يعتبر نفسه وصيا على الخطاب القرآني، معلنا أنه الأحق بالتفسير والأقدر عليه، فالأجيال متكافئة، وكل جيل مسئول عن نفسه، وهو الأقدر على الفهم والتفسير، وهكذا يتجدد التفسير بتجدد الأجيال، ويظل الخطاب القرآني متواصل العطاء دائم الإشعاع يعطي ويلهم ويعلم ويهدي، مؤكدا عظمة التواصل بين القرآن والإنسان، في رحلة الحياة المستمرة وفي مسيرة الإنسان من أمس إلى غد.

لفظ القرآن:

لفظ القرآن: القرآن في اللغة مصدر مرادف للقراءة، ثم نقل من معناه اللغوي إلى معناه الاصطلاحي الدال على الكلام المعجز المنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (¬1) وهذا الرأي رجحه بعض العلماء معتمدين في ذلك على قواعد اللغة. وقال آخرون: القرآن اسم غير مشتق من شيء، وهو اسم خاص بكلام الله، مثل التوراة والإنجيل، وهو اسم غير مهموز، ولم يؤخذ من قرأت ولو أخذ من قرأت لكان كل ما قرئ قرآنا وروي هذا الرأي عن الشافعي، وقال البيهقي: كان الشافعي يهمز «قرأت» ولا يهمز القرآن ويقول: هو اسم لكتاب الله، قال الواحدي: قول الشافعي يعني أنه اسم علم غير مشتق (¬2). وذهب الأشعري إلى أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه، وسمي القرآن بذلك لأن السور والآيات مجموعة فيه، وقال أبو عبيد: سمي القرآن قرآنا لأنه جمع السور بعضها إلى بعض، وقال الراغب: سمي قرآنا لكونه جمع ثمرات الكتب المنزلة السابقة، أو لأنه جمع أنواع العلوم كلها بمعان، وقال الهروي: كل شيء جمعته فقد قرأته، وقيل مشتق من القري وهو الجمع ومنه قريت الماء في الحوض إذا جمعته. وقال القرطبي: القرآن بغير همز مأخوذ من القرائن لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضا، ويشابه بعضها بعضا، وقال الزجاج: هذا القول سهو، والصحيح أن ترك الهمز فيه من باب التخفيف، ونقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها. وسمى الله تعالى القرآن بأسماء كثيرة، منها: الكتاب والقرآن والكلام والنور والهدى والرحمة والفرقان والشفاء والموعظة والذكر والحكمة والصراط المستقيم وأحسن الحديث والتنزيل والبيان والتذكرة والعروة الوثقى والبلاغ والأمر، ولكل اسم من هذه الأسماء معنى، ووردت هذه الأسماء في القرآن (¬3). ¬

_ (¬1) سورة القيامة، الآيتان: 17 - 18. (¬2) انظر البرهان في علوم القرآن للزركشي ج 1، ص 278. (¬3) نفس المصدر.

القرآن ولغة العرب:

وقد بالغ بعض العلماء في التسميات حتى أوصلها بعضهم إلى نيف وتسعين اسما، ويبدو أنهم لم يفرقوا بين الأسماء والصفات، واعتبروا كل لفظة وردت في إطار الدلالة على القرآن من أسماء القرآن، وهذا أمر مبالغ فيه، ولو اقتصروا على الأسماء التي استعملها القرآن وأراد بها تسمية القرآن لكان أولى. القرآن ولغة العرب: نزل القرآن بلغة العرب، ولا تجوز قراءة القرآن بغير لغة العرب لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (¬1)، وذهب معظم العلماء إلى أن القرآن ليس فيه ما هو خارج عن لغة العرب، لأنه تحدى العرب بأسلوبه وكلماته وصياغته، وبلاغته وفصاحته، ولو اشتمل على غير لغة العرب لما تحقق ذلك الإعجاز الأسلوبي، وقال أبو عبيد: من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم على الله القول، وقال ابن عطية في مقدمة كتابه في التفسير: بأن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم كانت لهم مخالطة لسائر الألسن، بسبب تجاراتهم ورحلاتهم، فدخلت بعض الكلمات الأعجمية في العربية، واستعملها العرب بعد إدخال تغييرات فيها تخفف من ثقل العجمة، حتى جرت مجرى العربي الفصيح، ووقع بها البيان، وأصبحت عربية. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: «والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، إلا أنها سقطت إلى العرب فعرّبتها بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال أعجمية فصادق». ونزل القرآن بلغة قريش، وحكي عن أبي الأسود الدؤلي أنه نزل بلسان الكعبين كعب بن لؤي جد قريش، وكعب بن عمرو، جد خزاعة، وقال أبو عبيد ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 2.

أقوال العلماء في الأحرف السبعة:

في كتابه: فضائل القرآن عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزل بلغة الكعبين، كعب قريش وكعب خزاعة، قيل: وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة، وفضل «الفراء» لغة قريش على سائر لغات العرب، لأنهم كانوا يسمعون كلام العرب فيختارون من كل لغة أحسنها، فصفا كلامهم. وثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته، ثم لم أزل أستزيده فيزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف». وروى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمة». أقوال العلماء في الأحرف السبعة: اختلف العلماء القائلون بأن القرآن نزل على سبعة أحرف على أقوال (¬1): القول الأول: يعتبر الأمر من المشكل الذي لا يعرف معناه، لأن العرب تسمي الكلمة المنظومة حرفا والقصيدة كلمة. القول الثاني: المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع، وحكي هذا القول عن الخليل بن أحمد، وحكى ابن عبد البر القرطبي عن بعض العلماء المتأخرين من أهل العلم بالقرآن أنه قال: تدبرت وجوه الاختلاف في القرآن، فوجدتها سبعة، منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، ومنها ما يتغير معناه ويزول بالإعراب ولا تتغير صورته، ومنها ما يتغير معناه بالحروف ولا تتغير صورته، ومنها ما تتغير صورته ولا يتغير معناه، ومنها ما تتغير صورته ومعناه، ومنها بالتقديم والتأخير، ومنها الزيادة والنقصان. القول الثالث: المراد سبعة أنواع، كل نوع منها جزء من أجزاء القرآن، فبعضها أمر ونهي، ووعد وعيد، وقصص، وحلال وحرام، ومحكم ومتشابه ¬

_ (¬1) انظر البرهان في علوم القرآن للزركشي، ج 1، ص 213 - 227.

وأمثال، وردّ ابن عبد البر هذا القول، ونقل عن العلماء القول بفساد هذا التفسير، وقال ابن عطية: هذا القول ضعيف، وقال الماوردي: هذا القول خطأ. القول الرابع: المراد سبع لغات لسبع قبائل من العرب، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، فبعضه نزل بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة تميم، وبعضه بلغة ربيعة، وهكذا، وإلى هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام، وقال الأزهري صاحب التهذيب في اللغة: إنه المختار، واحتج بقول عثمان حين أمرهم بكتب المصاحف: وما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فإنه أكثر ما نزل بلسانهم. وقال البيهقي في شعب الإيمان: إنه الصحيح أي: المراد اللغات السبع، وأنكر ابن قتيبة هذا القول، قال: لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش، وقال ابن عبد البر: قد أنكر أهل العلم أن يكون معنى سبعة أحرف سبع لغات، لأنه لو كان كذلك لم ينكر القوم بعضهم على بعض في أول الأمر، لأن ذلك من لغته التي طبع عليها. القول الخامس: المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة، نحو أقبل وهلم وتعال وعجل وأسرع وانظر وأخر .. قال ابن عبد البر: وعلى هذا القول أكثر أهل العلم، وأنكروا على من قال: إنها لغات. القول السادس: الأمر راجع إلى بعض الآيات، مثل قوله تعالى: أُفٍّ لَكُمْ وتقرأ على سبعة أوجه: بالنصب والجر والرفع، وكل وجه بالتنوين وغيره، وسابع الأوجه الجزم. القول السابع: الأحرف السبعة ظهرت واستفاضت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضبطها عنه الأئمة وأثبتها عثمان في المصحف. القول الثامن: كانت الحاجة ماسة إلى تعدد الأحرف واللغات، لصعوبة أن يتحول الإنسان عن لغته، ولما كثر الناس والكتاب ارتفعت تلك الضرورة، وارتفع حكم الأحرف السبعة. القول التاسع: المراد أن علم القرآن يشتمل على سبعة أشياء، علم الإثبات

والإيجاد، وعلم التوحيد وعلم التنزيه، وعلم صفات الذات، وعلم العفو والعذاب، وعلم النبوات، وعلم الإمامات. القول العاشر: المراد بذلك علم المطلق والمقيد والعام والخاص والنص والمؤول والناسخ والمنسوخ والمجمل والمفسر. القول الحادي عشر: المراد الحذف والصلة، والتقديم والتأخير والقلب والاستعارة، والتكرار والكناية، والحقيقة والمجاز، والمجمل والمفسر. القول الثاني عشر: المراد التذكير والتأنيث، والشرط والجزاء، والجمع والتفريق، والتصغير والتعظيم. القول الثالث عشر: المراد كيفية النطق بالتلاوة من إظهار وإدغام، وتفخيم وترقيق، وإمالة وإشباع، ومد وقصر، وتخفيف وتليين وتشديد. ونلاحظ من الأقوال السابقة أن العلماء مختلفون في تفسير معنى الأحرف السبعة، وآراؤهم متباعدة متباينة، وجميع الاحتمالات ممكنة، ويبدو أن المتأخرين حاولوا تقريب الأمر، ورجحوا أن يكون المراد بتعدد الأحرف تيسير الأداء القرآني وتيسير التلاوة على العرب، بحيث تتمكن القبائل العربية المختلفة من القراءة باللغة التي تستطيع النطق بها، من حيث التفخيم والإمالة والإظهار والإدغام، والمهم في ذلك كله التيسير على الأمة بحيث لا يكلف المسلم بما لا يطيق، بشرط ألا يؤدي ذلك إلى تغيير في المعاني، فالأداء اللفظي تحكمه استعدادات موروثة، وقابليات فطرية، ولا يؤثر ذلك في سلامة النص القرآني، ولا في المعاني المستنبطة منه، ويؤكد هذا المعنى ما رواه الترمذي عن أبيّ بن كعب أنه لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبريل فقال: «يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط، فقال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف». والحكمة من ذلك احترام اللهجات العربية، وإشعار مختلف القبائل العربية أنها قادرة على أن تقرأ القرآن بلهجتها، وأن العربية تتسع لكل العرب، وتعترف

كيفية إنزال القرآن:

بخصوصيات اللهجات العربية، وفي هذا تأكيد على وحدة اللغة العربية، ودعوة للعرب جميعا لكي يلتفوا حول القرآن كتابهم الخالد، ورمز وحدتهم اللغوية، وحافظ هذه اللغة من أي عبث أو تحريف. كيفية إنزال القرآن: اختلف العلماء في كيفية إنزال القرآن على ثلاثة أقوال: القول الأول: نزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما على النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكة قبل الهجرة والمدينة بعد الهجرة، في مدة عشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين سنة، حسب الاختلاف في مدة إقامته في مكة بعد البعثة، وقال «السيوطي» في معرض بيان هذا القول: «وهو الأصح الأشهر». ويؤيد هذا القول ما أخرجه الحاكم والبيهقي وغيرهما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بعضه في أثر بعض، وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم أنزل نجوما، كما أخرج الطبراني والبزار من وجه آخر عنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلّم بجواب كلام العباد وأعمالهم». القول الثاني: نزل القرآن إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة، وقيل: في ثلاث وعشرين ليلة قدر، وقيل: خمس وعشرين ليلة قدر، ينزل في ليلة القدر في كل سنة ما يقدر الله إنزاله في تلك السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجما في جميع السنة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا القول ذكره الإمام فخر الدين الرازي، نقلا عن بعض العلماء. القول الثالث: ابتدأ نزول القرآن في ليلة القدر، ثم أخذ ينزل منجما بعد ذلك في أوقات مختلفة، وهذا قول الشعبي. قال «ابن حجر» في شرح البخاري: والأول هو الصحيح المعتمد، وهناك

رواية رابعة حكاها الماوردي، وهي أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، ثم تولى الحفظة تنجيمه على جبريل، ثم تولى جبريل تنجيمه على الرسول صلّى الله عليه وسلّم. والحكمة من نزول القرآن منجما تفخيم أمره، وأمر من نزل عليه، وإعلام الملائكة بأهمية آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل، لكي يكون له تميز عن سائر الكتب السماوية. وقد تولى الله أمر الإجابة عن تساؤل الكفار الذين قالوا: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة بأن الإنزال المفرق للقرآن لتثبيت فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتقوية قلبه، وتجديد عهده مع جبريل لكي يكون القرآن بالنسبة له نافذة أمل وبسمة رجاء، يمده بالقوة، ويعده بالنصر، ويفسر له المواقف، ويجيبه عن بعض ما يحتاجه من بيان وتوضيح. ولا أعتقد أننا بحاجة لتأكيد أهمية نزول القرآن منجما من حيث التدرج في مواكبة مراحل الدعوة، في المرحلة المكية أولا، والمرحلة المدنية ثانيا، ومواكبة الأحداث الجسام، في تاريخ الدعوة، وكان القرآن هو المدد الإلهي المتجدد الذي يبعث الحياة في المجتمع الإسلامي الوليد، ويواكب مسيرة الدعوة، مؤيدا وملهما وناصحا ومسددا. ولا يمكن تصور حياة المسلمين الأوائل بغير ذلك التواصل الإيماني العميق بين السماء والأرض، عن طريق الوحي المتجدد الملهم، الذي كان يغذي مشاعر الإيمان، وينير الطريق لمواكب المؤمنين. قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (¬1). وقال أيضا: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآيات: 192 - 195. (¬2) سورة النحل، الآية: 102.

أولا: تثبيت فؤاد الرسول الكريم:

ونستطيع أن نحدد أسباب النزول المتدرج للقرآن بما يلي: أولا: تثبيت فؤاد الرسول الكريم: والآية واضحة وصريحة في إقرار هذا المعنى، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بصفته الإنسانية كان محتاجا لمن يقوي عزمه، ويثبت فؤاده، ويعزيه عما يلاقيه من عقبات، ويفتح أمامه أبواب الأمل، لكيلا يستبد اليأس بنفسه ويستولي الحزن عليه. ثانيا: تيسير حفظه وفهمه: وهذه غاية في منتهى الأهمية، فالقرآن كتاب تشريع وتوجيه، ويهدف إلى إقامة وتكوين مجتمع إسلامي متكامل، عقيدة وسلوكا وتشريعا، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق النزول المتدرج للأحكام، لكي ينتقل المجتمع الإسلامي من جاهلية إلى إسلام، ومن فوضى إلى نظام، ولكي يتمكن المسلمون من حفظ القرآن الكريم وفهم أحكامه وحكمه، واستيعاب هديه وتعاليمه، وبفضل ذلك استطاع المسلمون- كما تحدثنا كتب السيرة- أن يحفظوا القرآن، وأن يستوعبوا ما جاء فيه من توجيه وتعليم. ثالثا: مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع: وهذا واضح كل الوضوح، وربما كان هذا السبب من أكثر الأسباب التي ذكرناها أثرا، فقد كانت الآيات القرآنية تتنزل بحسب الحاجة، وتختلف موضوعاتها بحسب ما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي، ومن السهل علينا أن نفهم تطور المجتمع الإسلامي اليوم، ومشاكله وأحداثه من خلال متابعتنا للقرآن، لأن القرآن كان يعايش الأحداث ويمد المسلمين بالرأي الأمثل لكل مشكلة من مشاكلهم، ولهذا كانت الأنظار تتطلع دائما إلى الوحي لكي يرسم للمسلمين الطريق، ويقوّم ما اعوج من شئونهم وما التبس عليهم من أمورهم. معرفة أسباب نزول القرآن: اهتم المفسرون بمعرفة أسباب نزول القرآن، وألّفت كتب كثيرة في معرفة

سبب النزول، ومن أبرزها وأقدمها ما كتبه علي بن المديني شيخ البخاري، وما كتبه الواحدي، وابن حجر، ثم ألف السيوطي صاحب الإتقان كتابا في الموضوع سماه «لباب النقول في أسباب النزول» (¬1). ومن فوائد معرفة أسباب النزول ما يلي: أولا: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، ولا سبيل إلى ذلك على وجه الدقة إلا عن طريق معرفة السبب الذي أدى إلى نزول الحكم. ثانيا: تخصيص الحكم عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب. ثالثا: الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال، قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها، وقال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. ومن الصعب على المفسر أن يتمكن من التفسير الصحيح واستنباط الحكم من النص القرآني، وإدراك الحكمة من الآية قبل أن يعرف سبب نزول الآية، ومعرفة السبب يؤدي إلى الربط بين الآية والواقع الذي كان قائما أثناء ورود النص، وكأن النص جاء كجواب عن واقعة أو كتفسير لحكم، وتوضيح لدلالة، ولهذا اتجه اهتمام العلماء قديما وحديثا لدراسة أسباب نزول القرآن، وإيراد سبب النزول في مقدمة تفسير الآية، لكي يكون السبب واضحا ودالا على المراد. ولو أخذنا مطلق المعاني الواردة من بعض الآيات لتغيرت بعض الأحكام، ولكن معرفة السبب الذي أدى إلى نزول الآية يوجه الآية لكي تكون كجواب عن سؤال، وإذا عرف السؤال كان الجواب واضحا وخاصّا بالسؤال، ولا يتعداه إلى غيره. ولهذا كان من واجب علماء التفسير أن يوجهوا اهتمامهم لمعرفة أسباب النزول، وأن يربطوا الآية بمحيطها العام، لكي تدل دلالة صحيحة على المراد ¬

_ (¬1) انظر البرهان في علوم القرآن للزركشي، ج 1، ص 22 - 23.

بها، ومن الآيات القرآنية التي يتغير معناها والحكم المستفاد منها عند معرفة سبب نزولها قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115]، ولو ترك مدلول اللفظ على إطلاقه لأفاد بجواز الصلاة إلى أية جهة كانت في السفر والحضر، وهو أمر مخالف لما وقع الإجماع عليه، ويتضح المعنى المراد إذا عرف أن هذه الآية نزلت عند ما صلى النبي صلّى الله عليه وسلّم على راحلته، في رحلته من مكة إلى المدينة. وهذا لا يعني أن جميع آيات القرآن نزلت بسبب حادثة وقعت أو جوابا عن سؤال، إذ من المؤكد أن بعض الآيات نزلت مقررة لأحكام وموضحة لقضايا، وليست مرتبطة بأي سبب وغايتها تشريع أحكام وبيان معالم العقيدة الإسلامية وإقرار مبادئ الإسلام. ومثل هذه الآيات لا تحتاج إلى بيان سبب للنزول، وهي كثيرة ولم يتعرض لها علماء التفسير إلا في إطار تفسير معانيها المستفادة، كما تفهم من الدلالة القرآنية. ويعرف سبب النزول عن طريق النقل الصحيح، ولا مجال للاجتهاد في هذا الموطن، والصحابة هم المؤهلون لمعرفة أسباب النزول، فإذا ورد سبب النزول عن صحابي فيعتد به، لأنه لا يعقل أن يجتهد الصحابي فيه أو يورده من غير سماع أو مشاهدة. وأحيانا يرد سبب النزول في إطار الربط بين الواقعة ونزول الآية بأداة من أدوات الربط الدال على سبب نزول الآية، من غير تخصيص بالسبب أو توضيح له، مما لا يخفى أمره على العلماء المختصين في هذا العلم. وإذا تعددت أسباب النزول، ووردت روايتان في بيان السبب، تقدم الرواية الصحيحة وتعتمد، وترجح الرواية الراجحة على المرجوحة، فإذا استوت الروايتان في درجة الصحة، ولا مجال للترجيح يحمل الأمر على تعدد الأسباب،

وهو أمر مقبول، كما يحتمل أن يتكرر نزول الآية عند تعدد الأسباب للتذكير بالحكم ولتأكيد أهميته. وذهب جمهور العلماء إلى أن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب، لأن الحكم يتناول كل ما يفيده اللفظ، ولا يحتاج الأمر إلى نص جديد لإثبات الحكم العام، لأن الأصل هو حمل الألفاظ على المعاني المستفادة منها عند إطلاقها ما لم يقم دليل يقيد هذا الإطلاق ويلغيه، أو يصرفه عن عمومه وأكد هذا الاتجاه ما ذهب إليه الصحابة من الاحتجاج بعموم الألفاظ الواردة في أسباب خاصة.

الفصل الثاني: الوحي والقرآن

الفصل الثاني: الوحي والقرآن ظاهرة الوحي: القرآن كظاهرة دينية غيبية مرتبطة بالوحي، جديرة بأن تكون في موطن الدراسة والاهتمام، ومن حق الإنسانية في مسيرتها الطويلة أن تقف متدبرة ظاهرة الدين في الحياة البشرية، وأن تدرس الأديان السماوية من هذا المنطلق، وأن تتأمل في النبوة كحقيقة مدركة ثابتة، بكل ما تحمله النبوة من مؤشرات وما تبشر به من قيم، وما تدعو إليه من عقائد، وما يقترن بها من معجزات. إن البشرية اليوم وقبل اليوم عكفت على دراسة مظاهر الحياة الإنسانية وتطلباتها من منطلق الرؤية العقلية المادية، والعقل يدرك ما يقع تحت مجهره، مما تدركه الحواس من المشاهدات، وما تعقله وتلمس آثاره المادية، والعقل يقف حائرا أمام الظاهرة الدينية، بل يقف حائرا أمام الكون وعظمة الكون، ويقف عاجزا أمام تفسيره لظاهرة الحياة، الإنسان، الكون، الوجود، الكواكب، الحياة، الموت، والحياة البشرية تحكمها معايير وقوانين بعضها مدرك ومفهوم، والبعض الآخر وهو الأهم غير مدرك، ولا يقع تحت سيطرة العقل، ولا يدرك بالحواس. ومن اليسير علينا أن نتحدث عن الدين، كتعاليم وشرائع، وأن ندرس تاريخ الأديان كوقائع مدونة أو محفوظة أو مروية، وأن نتحدث عن حياة الأنبياء منذ ولادتهم إلى وفاتهم، وما قاسوه من محن ومصاعب، وما تحملوه من مشاق في أداء مهمتهم، ولكن من الصعب علينا أن نستوعب بعقولنا حقيقة الدين كظاهرة غيبية مرتبطة بالسماء، تحكمها قوانين غيبية، وينفذها ملائكة يبلغون رسالة الله إلى الأنبياء. وفي نفس الوقت لا يمكن للعقل البشري أن ينكر حقيقة الدين، ولا أن ينكر الغيب، ولا أن يتجاهل الحقائق الغيبية، ولا أن يتخطى المفاهيم الدينية، فالدين حقيقة مدركة، ولا تتصور البشرية بغير دين، ولا تتصور الحياة خالية من مفاهيم

الغيب، والإنسان أقل قدرة من أن يحيط بالكون وأن يفهم أسراره وغوامضه، فالإنسان لا يدرك الكثير عن نفسه ولا عن تكوين ذاته، ولا عن معنى الحياة التي يعيشها، وفي معظم الأحيان يقف موقف العجز المطلق أمام ظاهرة صغيرة لا يستطيع فهمها، ويجد نفسه على غير إرادة منه يستسلم لها، متجاوزا معاييره العقلية، معلنا عجز الإنسان عن الفهم، مكتفيا بما هو قادر على فهمه. والدين ليس كرواية تاريخية، والوحي ليس كحدث تاريخي مروي بأسانيد موثقة، والأمر أعمق من ذلك وأكثر دقة، وهو دراسة ظاهرة الدين والوحي والقرآن ... ولا شك أن الإنسان يحتاج إلى ما هو أكثر من العقل، وإلى ما هو أكثر من الرواية، إنه يحتاج إلى الفهم، يحتاج إلى النظر الشمولي للحياة، يحتاج إلى أن يكتشف الكون في عظمته، في وجوده، في إحاطته. العقل جزء يسير من الإنسان، الإنسان أسمى من العقل وأشمل، والإنسانية جزء يسير من أسرار الأرض، والأرض جزء صغير من الكون، والكون كله مخلوق، والمخلوق لا يقاس بالخالق، وإذا عجز العقل عن إدراك بعض أسرار الإنسان والحياة على الأرض فإن من الأولى أن يكون أكثر عجزا عن إدراك أسرار الكون. والإنسان القديم منذ فجر الإنسانية أحس بحاجته للدين، وكان نزوعه للدين واضحا في تفكيره وسلوكه، وكان سعيه البدائي للبحث عن الدين مؤكدا أصالة الشعور الديني في تكوين الإنسان، قد يخطئ الإنسان الطريق، وقد يضل في بحثه عن الدين، ولكنه لم يستطع أن يتخلص بطريقة فعلية من الدين، وأثبتت الآثار القديمة التي اكتشفها الإنسان أن الإنسان البدائي كان يمارس عبادته الدينية بطريقة تلائمه، وكانت له شعائر دينية يتمسك بها، ولما بدأت الحضارات لم تستطع أن تضعف الشعور الديني، ونما هذا الشعور في ظل الحضارة، وأصبحت المعابد الصروح الأولى التي بناها الإنسان، وما زلنا حتى اليوم نجد في المعابد القديمة رموزا تؤكد عمق الشعور الديني لدى الإنسان القديم، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن الحضارات الأولى كانت حضارات ذات مضامين دينية.

وارتبط الدين منذ القديم بمفهومين: الأول: ارتباط الدين بالحضارة والثقافة، وهذا ما يؤكد أن المعابد القديمة كانت مراكز إشعاع ثقافي وعلمي، فالدين يدعو إلى العلم ويشجع التعليم، وكان رجال الدين هم علماء عصرهم، وكانت المعابد الأولى مدارس للتعليم، وحيث يكون الدين تكون الحضارة وحيث يكون الدين تكون الثقافة، وفي تاريخنا الإسلامي كانت المساجد هي المدارس الأولى، وكانت هي الجامعات الأولى في العالم الإسلامي، وأول تدوين منظم ومدقق كان تدوين القرآن، وأول علم من علوم العربية كان في إطار علوم القرآن. الثاني: ارتباط الدين بحرية الإنسان وكرامته، ويؤكد هذا تاريخ الأديان، فالدين في أساسه وفي منطلقه هو تحرير للإنسان من العبودية والظلم، وتوعية له لكي يدرك إنسانيته، وكان الأنبياء هم رموز الحرية وهم أبطال الإنسانية، وكان جهادهم الأول هو الدفاع عن كرامة الإنسان، والقصص الواردة في القرآن تؤكد هذه المعاني، وتبين أن الأنبياء كانوا حلفاء المستضعفين في الأرض، يدافعون عن حريتهم ويوقظون في نفوسهم مشاعر الاعتزاز بالكرامة، ولهذا وقع الاصطدام عنيفا وقويا بين الأنبياء ورموز القوة والسلطة والجبروت، وفرعون في القرآن هو رمز للاستكبار، ورمز لادعاء الربوبية، ولهذا تصدى له موسى وتحداه، وكشف عن خداعه وظلمه وطغيانه. والدين الحقيقي هو الدين الذي يسعى في إسعاد البشر، ينظم حياتهم، ويقيم العدل فيهم، ويقاوم رموز الظلم والطغيان، وينمي في الإنسان مشاعر إنسانية، فيكون أقرب لأخيه الإنسان، لا يظلمه ولا يغدر به ولا يقتله ولا يعتدي على حريته وكرامته وعرضه وماله، فإذا سكت الدين عن الظلم أو أقرّ به، فهذا ليس من الدين. ويكفي الدين فخرا واعتزازا أنه كان باستمرار منارة هداية للمجتمع، يبني ولا يهدم، ويعلم ولا يدعو إلى جاهلية، وينير مسالك المؤمنين به، ويدعوهم إلى التمسك بالأخلاق وإلى محاربة كل أنواع الظلم والعدوان والفجور والانحراف،

ولا يتصور الدين إلا في هذا الإطار من المبادئ والمثل، ولهذا اضطهد الأنبياء والرسل وحوربوا ووقع الاعتداء بهم، ووقفت قوى الجاهلية المتمثلة في أصحاب السلطة والمكانة والمال الذين وجدوا في الدين محررا للمستعبدين ورافعا الظلم عن المظلومين، ومتحالفا مع الضعفاء والمحكومين، معترفا لكل هؤلاء بكرامة إنسانية غير منقوصة، رافعا من شأنهم، واضعا قيما اجتماعية تعطي الأفضلية للمتقين والصالحين. وسنة الأنبياء واضحة، وتعاليمهم متكاملة، وشرائعهم واحدة، تنطلق كلها من منطلق واحد، وتنهل من معين السماء، إيمانا بالله وبما جاء من عنده، والتزاما بمنهج الله في الحياة، استقامة وعدلا. وظاهرة الوحي ملفتة للنظر داعية للاهتمام، وهي ليست صورة مادية يحاكمها العقل، ويرتضيها أو يرفضها، لأنها خارجة عن نطاق المدركات العقلية، والعقل السليم لا يمكنه أن يرفض هذه الظاهرة، لأنه يدرك حجم قدراته، ويتوصل بهذه القدرات المحدودة إلى التسليم بما هو خارج عن نطاقه الحسي، والحس محكوم بدائرة ضيقة، ولا يمكنه أن يحيط بالكون، وما أثبته العلم اليوم عن طريق الوسائل العلمية والبراهين المادية هو جزء يسير من حقيقة الكون، وما عجز عنه الإنسان لا يقاس بما قدر عليه. ويكفينا في مجال الوحي أن نستعمل عقولنا في دراسة الظاهرة من خلال ما نراه منها من معرفة واسعة لشخصية الرسل، وسيرتهم، وحياتهم وسلوكهم وأفكارهم، ومثل هؤلاء لا يمكن إلا أن تقع الثقة بما يقولون، وأن يقع الاطمئنان لما يدعون، وما يدعون إليه ليس فيه ما يطمع نفسا أو يحقق رغبة، فدعوة الرسل هي دعوة خير وهداية وتحرير وإرشاد وتعليم، وكيف يصح لعاقل أن يتردد في قبول كلمة حق سمعها أو دعوة لهداية تلقاها. لو كان الأنبياء ممن عرفوا في قومهم بسوء الخلق لما صدقهم أحد، ولما اتبع ملتهم أحد، ولو كان أمرهم صادرا عن هوس وهذيان يتراءى لهم فيه الشيطان لما خفي أمرهم على مجتمعهم، ولما اطمأن المجتمع إلى كلامهم، ولو

كانت تعاليمهم مما كان شائعا ومكررا ومتداولا لما أحدثوا في مجتمعهم ذلك التأثير العظيم في العقيدة والسلوك والقيم. ولا يملك الأنبياء في مجتمعهم ما يملكه الملوك وأرباب السلطة من وسائل الإقناع والإجبار والإكراه، أو من وسائل الإغراء والعطاء، ومعظم الأنبياء عاشوا في طفولتهم حياة فقر ويتم، وامتلأت صفحات سيرتهم بالأحزان والشدائد، ولا سبيل للاعتقاد بأن ما يملكون من شهرة ومكانة ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، ولا خيار لنا إلا أن ندرس هذه الظاهرة في إطارها العام دراسة موضوعية هادئة منصفة، وسوف نكتشف النبوة حقيقة ثابتة، لها دعائمها وخصائصها ومكوناتها، وهي ظاهرة طبيعية في الحياة الإنسانية، لا تستقيم الحياة إلا بها ولا تتكامل إنسانية الإنسان إلا بأن يستجيب لدعوة الله، ويقف بخشوع أمام الرسالة التي يحملها رسل الله إلى الناس. إن نظرة يسيرة إلى تاريخ الأنبياء سوف تدلنا على عظمة دور الأنبياء في حياة الإنسان، وسوف نكتشف من خلال قصص الأنبياء أن منهج الأنبياء واحد، وتعاليمهم ليست متناقضة، قد تختلف في بعض الأحيان، ولكنها لا تختلف أبدا فيما يتعلق بمبادئ الإيمان بالله، والدعوة للفضائل، ومحاربة الكفر والفسوق والمظالم الاجتماعية. ما أقسى حياة ذلك الإنسان الذي لا يؤمن بالله، وما أقسى الحياة بالنسبة له، إنها حياة قاحلة كصحراء يشتد فيها الظمأ، فلا ماء ولا ثمر ولا شجر، إنها حياة يأس وقنوط، وما أقسى مشاعر اليأس والقنوط. والوحي الذي تنزل على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم لا يختلف عن الوحي الذي تنزل على الأنبياء السابقين من حيث الظاهرة التي يمثلها الوحي، وإن اختلفت وسائل التبليغ وكيفياته، ولكل نبي وحيه الخاص به، وخصوصياته، ارتضاها الله لهم أسلوبا من أساليب التبليغ والتكليف. قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى

معاني الوحي في القرآن:

إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (¬1) واستعمل القرآن لفظة الوحي في آيات كثيرة، وتفيد معنى الإعلام الخفي والإلهام الفطري، وهي في معناها العام أعم وأشمل من معناها الخاص الذي استعملت به في مجال الاصطلاح الذي يدل على الكيفية التي كان يبلغ بها جبريل رسالة ربه للنبي صلّى الله عليه وسلّم. معاني الوحي في القرآن: جاءت لفظة الوحي في القرآن في معان عدة: أولا: معنى الإلهام الغريزي، وذلك في قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (¬2) وكلمة الوحي في هذه الآية تفيد معنى التكوين الغريزي الذاتي، وهو في إطار الخلق والتكوين، وهذا معنى يختلف عن معنى «الوحي» الذي نتحدث عنه، وكلمة الخلق والتكوين والتوجيه أدق من كلمة الإلهام في هذه الآية، لأن اتخاذ الجبال والأشجار بيوتا للنحل صفة ذاتية وتكوين غريزي، والإلهام يغلب عليه تكوين الاستعداد لسلوك غير مألوف، فإذا كان السلوك مألوفا عن طريق التكوين الغريزي فلا يسمى «إلهاما»، فلا يقال في الأمور الغريزية إلهام إلا عن طريق تكوين الاستعداد عند الخلق، فلا يصح أن يستعمل معنى الإلهام في السلوك المألوف المعتاد. ثانيا: معنى الإلهام الإرادي، وذلك في قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (¬3) وواضح من الآية أن كلمة «وأوحينا» لا تقتصر على ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآيات: 163 - 165. (¬2) سورة النحل، الآية: 68. (¬3) سورة القصص، الآية: 7.

معنى الإلهام، فالإلهام توجيه خفي لا يدرك مصدره، وفي هذه الآية توجيه رباني مقترن بأوامر وتعليمات، وفيه نهي عن الخوف وتبشير من الله بعودته إلى أمه وأنه سيكون من المرسلين، ولا بد أن أم موسى أدركت مصدر هذا الإلهام، وعرفت أنه من الله، ولهذا نفذت ما أمرت به واطمأنت، ولولا ذلك لما نفذت هذا الأمر الذي لا يمكن لأم أن تفعله، وكيف يمكن لأم أن تلقي وليدها في اليم لمجرد خاطر عابر لا تعرف مصدره، وهو أمر خارج عن نطاق الفطرة، فالفطرة تأبى أن تلقي الأم وليدها في اليم، وما فعلته أم موسى خارج عن نطاق الفطرة. ثالثا: معنى الإشارة الظاهرة التي تعطي معنى الأمر، وذلك في قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (¬1) والمعنى هنا واضح في أن كلمة الوحي تفيد معنى التوجيه والتعليم وليس مجرد الإشارة. رابعا: معنى الوسوسة وذلك في قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ (¬2). والمعنى هنا لغوي، وكلمة الوسوسة ليست دقيقة، فالشياطين يوسوسون حينا ويأمرون أولياءهم حينا آخر، ويزينون لهم فعل الشر، وجاءت في نفس المعنى في قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً (¬3). ومعظم ما جاءت كلمة الوحي في القرآن في معنى الوحي المنزل من عند الله وهي الكلمة القرآنية التي ترددت في القرآن في كل آية أراد الله بها بيان طريقة توجيه الأمر الإلهي لرسله وأنبيائه وتعليمهم. وجاءت كلمة الوحي في أكثر من سبعين مرة في القرآن الكريم، بألفاظ مختلفة «أوحى»، «أوحيت»، «أوحينا»، «يوحي»، «نوحيه»، «نوحيها»، «ليوحون»، «أوحي»، «وحي»، «وحيه»، «وحينا»، ومعظم المعاني القرآنية معبرة عن الأمر الإلهي للرسل، وأكثر ما استعملت في القرآن كلمة «أوحينا» قال تعالى: ¬

_ (¬1) سورة مريم، الآية: 11. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 121. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 112.

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (¬1). وقال أيضا: - وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (¬2). - وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ (¬3). - وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ (¬4). - وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي (¬5). - وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ (¬6). - ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ (¬7). - وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ (¬8). - إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ (¬9). - وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ (¬10). والاستعمال القرآني للفظة «الوحي» جعلت هذه الكلمة ذات مدلول خاص يعبر عن أمر الله للأنبياء في بعض الأحيان، ويعبر عما يتنزل على الأنبياء من ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 163. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 117. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 160. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 73. (¬5) سورة طه، الآية: 77. (¬6) سورة فاطر، الآية: 31. (¬7) سورة آل عمران، الآية: 44. (¬8) سورة الكهف، الآية: 27. (¬9) سورة يونس، الآية: 15. (¬10) سورة الشورى، الآية: 51.

كيفية نزول الوحي:

كلام الله بواسطة جبريل، وفي جميع الأحوال لا تطلق كلمة «الوحي» في اللغة العربية إلا في هذا الإطار، وإذا استعملت في بعض الأحيان في المعنى اللغوي فإن هذا الاستعمال قليل، وغالبا ما يكون في صيغة الفعل التي تعبر عن المعنى اللغوي الدال على الإشارة الخفية الدالة على معنى معين. وتتعدد معاني «الوحي» في القرآن، بحسب الآيات، فأحيانا تفيد معنى الإخبار كقوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (¬1)، وأحيانا تفيد الأمر كقوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (¬2)، وأحيانا تفيد معنى الإنزال كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها (¬3). كيفية نزول الوحي: بالرغم من تعدد كيفيات الوحي كما جاء في الآيات القرآنية، فإن القرآن حدد بطريقة واضحة وبينة كيفية نزول الوحي بالقرآن على النبي صلّى الله عليه وسلّم قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (¬4) وهذه صورة من صور نزول الوحي، وهي خاصة بالقرآن. وهناك صور أخرى للوحي، وحددها القرآن بقوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (¬5) والآية تنفي إمكان تكليم الله للبشر بطريقة مباشرة، وهذا أمر طبيعي، فالتكلم المباشر غير ممكن، لأن الطبيعة البشرية محدودة ولا يمكن لها أن تتلقى الكلام إلا بالحواس، وكلام الله أسمى من أن تكون أداته الحواس البشرية. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية: 13. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 117. (¬3) سورة الشورى، الآية: 7. (¬4) سورة الشعراء، الآيات: 192 - 194. (¬5) سورة الشورى، الآية: 51.

وصور الوحي كما حددها القرآن هي: أولا: الوحي المباشر، وهنا يبرز معنى الإلهام أو النفث في الروع وهو إلقاء المعنى الموحى به في القلب، والقلب في نظر القرآن هو مصدر المعرفة وهو موطن الفهم، ولهذا كثر استعمال القرآن للفظة القلب في موطن حديثه عن الفهم، والقلب هو الخصوصية الإنسانية وهو المخاطب بالأمر الإلهي، ويختلف الوحي المباشر عن الإلهام الغريزي أو الفطري، فالإلهام قد يكون نابعا من الذات، وقد يخطئ الإنسان فيه أو يصيب ولا يعرف مصدره، فقد يكون من وسوسة الشيطان، بخلاف الوحي المباشر فإنه أمر خارجي تتلقاه النفس البشرية، وتعرف جيدا مصدره، فلا يلتبس الأمر عليها، وهو خاص بالأنبياء، ولا يكون لغير الأنبياء، بخلاف الإلهام الفطري فقد يكون لغير الأنبياء، وقد يكون إلهام خير أو إلهام شر، ويختلف مصدره. ثانيا: الكلام من وراء حجاب: وهذه الصورة وردت في القرآن في قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (¬1). ثالثا: الوحي عن طريق رسول: والمراد بالرسول هنا جبريل، ويفسر هذه الكيفية قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (¬2). وفسرت السنة النبوية كيفية الوحي بما رواه البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآيات: 29 - 31. (¬2) سورة الشعراء، الآيتان: 193 - 194.

كيفية الوحي عند السيوطي:

الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاء الملك فقال: «اقرأ». وهذه هي الصورة الأولى للوحي، الرؤيا الصالحة في النوم، أو لعلها من مقدمات الوحي، وليست هي الوحي. ثم جاءت كيفية الوحي كما بينها النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ما سأله الحارث بن هشام، روت السيدة عائشة أن الحارث بن هشام سأل الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن الكيفية التي يأتيه الوحي بها فقال: - يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ - فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا». كيفية الوحي عند السيوطي: ذكر السيوطي في الإتقان كيفية الوحي بقوله: وذكر العلماء للوحي كيفيات: إحداها: أن يأتيه الملك في مثل صلصلة الجرس، كما في الصحيح وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمر، سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل تحس بالوحي فقال: «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض»، قال الخطابي: والمراد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يبين له أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل: هو صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقي فيه مكانا لغيره، وفي الصحيح أن هذه الحالة أشد حالات الوحي عليه، وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد وتهديد. الثانية: أن ينفث في روعه الكلام نفثا، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن روح القدس نفث

مناقشة فكرة الوحي:

في روعي» أخرجه الحاكم، وهذا قد يرجع إلى الحالة الأولى أو التي بعدها، بأن يأتيه في إحدى الكيفيتين وينفث في روعه. الثالثة: أن يأتيه في صورة الرجل فيكلمه، كما في الصحيح «وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول». الرابعة: أن يأتيه الملك في النوم، وعد من هذا قوم سورة الكوثر. الخامسة: أن يكلمه الله إما في اليقظة كما في ليلة الإسراء أو في النوم، كما في حديث معاذ «أتاني ربي فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى» الحديث (¬1). مناقشة فكرة الوحي: من الطبيعي أن تخضع فكرة الوحي لمناقشات قوية بين المؤمنين والمعارضين، فالمؤيدون لفكرة الوحي والمعتقدون بهذه الظاهرة هم المؤمنون حقا، وهؤلاء لا يجدون صعوبة في قبول هذه الفكرة، لأنها لا تخرج عن إطار المفاهيم الإيمانية، والإنسان بفطرته لا يرفض الغيب، بل يجد في الغيب تفسيرا لكثير من المعاني والظواهر، فالغيب بالنسبة للمؤمن أمر ضروري لكمال الحياة ولا تستقيم الحياة المادية المشاهدة إلا بوجود عالم الغيب الذي يعيد التوازن في الحياة، ويفسر بعض مظاهرها، ويضبط مسارها، ويملأ ذلك الفراغ الثقيل في حياة البشر. أما المنكرون لفكرة الوحي فهم يرفضون عالم الغيب، لأنه غير مشاهد، ويحتكمون للعقل، فما يثبته العقل من عالم الحس يثبتونه، وما ينكره العقل من عالم الروح ينكرونه، ولم يستطع العقل حتى الآن أن يقيم الدليل على عدم وجود عالم الروح، بل إن العقل في معظم الأحيان يسلم بوجود عالم غير محسوس، لا تراه الأبصار ولا تدركه العقول، إلا أنه لا يتصور الحياة بدونه، وتقوم أدلة وقرائن على وجوده، وفي كل يوم تتعزز الأدلة والقرائن على وجود عالم روحي ¬

_ (¬1) انظر الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 128 - 129.

أشمل من عالم المادة، وهو عالم غير محدود، يحيط بحياة الإنسان، ويفسر حركته الإنسانية. ولو تأملنا قليلا في ظاهرة الغيب من خلال المنهج العقلي لوجدنا أن العقل لا يرفض هذه الظاهرة، ولا يستطيع إنكارها، وكلما رفض هذه الظاهرة لعدم قدرته على مشاهدتها وجد نفسه أمام آثار هذه الظاهرة وقرائن لا سبيل لإنكارها، تؤكد وجود عالم الغيب، وهو عالم الروح. وتاريخ الأنبياء وقصصهم أصدق دليل على صدق ظاهرة النبوة، فلا يمكن بالقدرات البشرية المعتادة والمقاييس العقلية الكمية أن يحقق الأنبياء ما حققوه من معجزات إلا إذا سلمنا بصدق نبوتهم، وتعهد الله لهم بالرعاية والعناية، لكي يكتب لرسالتهم النجاح والتوفيق. وظاهرة الوحي كما جاءت في كتب السيرة لا يمكن اعتبارها حالة ذاتية فردية ناتجة عن شعور قلق لدى محمد عند ما كان في غار حراء، ولو كانت كذلك لكانت مظاهرها واضحة، وكان المجتمع المكي يرقب الظاهرة بدقة، ويحاول أن يحاكمها من خلال معيار عقلي واضح، ولم يرفض ذلك المجتمع الظاهرة بالرغم من محاربته لما جاء به الوحي، ولم يعتبرها دالة على خلل في التكوين العقلي أو في التكوين النفسي، فلم تكن صورة محمد في أذهان قومه قبل البعثة معبرة عن ذلك الخلل، وكل الروايات التي جاءت في السيرة أكدت أن صورة محمد كانت في أعلى درجات الإشراف والكمال، فكان يثنى عليه في المجالس، ويحتكم إليه في المنازعات، ويؤخذ رأيه في موطن النصح والحكمة، ولما أمر بالدعوة، وجاء بالإسلام ودعا إلى نبذ ما كان عليه قومه من عبادة الأوثان، وتحركت القلوب تؤيده وتؤمن بما جاء به بدأت عواطف الكراهية والحسد تبرز ظاهرة معلنة عداءها للرسالة الجديدة، ولما تضمنته دعوة محمد من مبادئ وآراء وقيم. ولا يمكن تصور الوحي الذي كان ينزل على محمد مجرد مشاعر وأحاسيس وتخيلات وأوهام أدت إليها عزلته الطويلة في غار حراء الموحش، وانصرافه عن الحياة الدنيا وتفرغه للعبادة وطاعة الله، واستغراقه في التأمل في مظاهر الحياة،

ولو كان الوحي كذلك لما استطاع محمد في تلك اللحظات الشديدة المرهقة الثقيلة أن يتلو كلاما في أعلى درجات الفصاحة وأسمى أساليب البيان، متضمنا حكما عميقة، وحافلا بأخبار الأمم السابقة، ومتكاملا في معانيه وأفكاره. إن ما نزل على «محمد» لم يكن أمرا مألوفا لدى قومه، ولو كان مما ألفوه في حالات بشرية مماثلة لما انصرفوا إلى محاربة «محمد»، ولما طاردوا أتباعه وأنصاره، ولما آمنوا به من بعد، لا شك أن الوحي كان مما اعترف العرب بصدقه، وأدركوا أنه منهج الأنبياء، وهم لم ينكروا الوحي فقد كانت قلوبهم مؤمنة بصدق محمد، وإنما أنكروا ما تضمنته الدعوة الدينية من إدانة ما كانوا قد ألفوه من عقائد وعادات وقيم ومعاملات، فالدعوة التي جاء بها محمد كانت تبشر بعالم جديد، وتنادي بإقامة مجتمع على أسس جديدة، لا تفاضل بين أفراده بسبب المال أو النسب أو المنزلة الاجتماعية، وإنما يقع التفاضل بالتقوى، والتقوى خلق لا يحسنه الأقوياء ولا يلتزم به معظم الأغنياء، ولا يألفه الطغاة ممن استكبروا في الأرض بغير الحق، وأقاموا سياجا من القيم الفاسدة تحمي نفوذهم وتبرز مظالمهم. وجاء الوحي على مراحل، ووصفت السيدة عائشة رضي الله عنها كيف بدأ الوحي، وقبل الوحي كانت الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، وفي غار حراء جاءه الحق، ملك يخاطبه لأول مرة. - اقرأ .... قال: ما أنا بقارئ، أخذه فغطه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله. - اقرأ ... قال: ما أنا بقارئ، أخذه فغطه الثانية حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله. - اقرأ ... قال: ما أنا بقارئ .. أخذه فغطه الثالثة ثم أرسله. - فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [سورة العلق]. ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، ودخل على خديجة بنت خويلد، قال

لها والروع يطوقه ويحيط به: زمّلوني زمّلوني فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، وأخذ يحدث خديجة ويخبرها الخبر: - يا خديجة .. لقد خشيت على نفسي ... قالت خديجة بلهجة المرأة الواثقة من زوجها المؤمنة بأن ما جاء به هو بداية رسالة، وأنه مقبل على عهد جديد لا عهد له به، ما كان يدري قبله ما الكتاب ولا الإيمان. «كلا ... والله لا يخزيك الله أبدا .. إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق». لم يكن محمد يتوقع هذا الأمر، ولا يعرفه ولا يدري عنه شيئا .. وأنّى له أن يعلم، ومكة لم تكن دار علم ولا ثقافة، وأهلها لا يعلمون إلا القليل عن تاريخ الأنبياء والرسل. وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (¬1) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (¬2). ويقف محمد حائرا خائفا وجلا ... ويسمع من جديد ذلك الصوت الذي ما زال يسمعه: اقرأ باسم ربك الذي خلق، وينظر إلى خديجة وهي تقف إلى جانبه تشجعه وتقويه وتشد أزره، ما كان يرجو أن يلقى إليه الكتاب، وما كان يدري ما الكتاب والإيمان. هل يمكن أن يكون ما رآه مجرد اختلاط وقع في وعيه، أو حلم نائم، وهل يمكن للأحلام أن تظل حية في الوجدان بعد أن يستيقظ النائمون، وهل يصح في نظر العقول أن يؤدي اختلاط العقول إلى حكمة تضاهي حكمة القرآن وإلى ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآيتان: 86 - 87. (¬2) سورة الشورى، الآية: 52.

معجزة يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ... ما أضيق نظر الحاقدين والحاسدين والموتورين وهم يتجاهلون حقائق لا تملك العقول إلا أن تقرّ بها. لقد كانت ظاهرة الوحي واضحة الدلالة على صدق «محمد»، ذلك الرجل الأمي الذي عاش في مكة في أجواء بعيدة كل البعد عن معرفة أمر السماء غافلة كل الغفلة عن أمر النبوة، لا تعرف إلا القليل مما كان يتتبعه حكماء مكة عن تاريخ الأنبياء، وكل ذلك لا يرقى إلى مستوى المعرفة المستوعبة التي تمد «محمدا» بتاريخ الأمم السابقة وقصص الرسل والأنبياء. ووقف «محمد» أمام الوحي وهو يتنزل عليه لأول مرة خائفا وجلا يترقب، لا يدري ماذا يفعل .. أهذا حق ما يراه، أهو حلم نائم أم طيف عابر .. ووقفت زوجته تشجعه وتشد أزره «والله ما يخزيك الله أبدا». ما زال يتذكر ذلك الطيف وهو يخاطبه «اقرأ» فيجيب بخوف: «ما أنا بقارئ»، فيتكرر الأمر «اقرأ يا محمد»، ويجيب وكأنه يخشى من ذلك الجواب .. ما أنا بقارئ، ويأتيه الأمر من جديد «اقرأ باسم ربك الذي خلق». وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ويزول الطيف. ويبتعد .. ويترك «محمدا» وحيدا والهلع يأخذ منه كل مأخذ. ويرتفع صوت بدأ هامسا، وأخذ يتردد في كيان «محمد» «والله ما يخزيك الله أبدا». ما أجمل ما فعلت هذه الكلمة في نفس «محمد»، أعادته إلى هدوئه، شعر بالأمن والدفء، أحس بفجر يطل من بعيد، إنه فجر صادق، والفجر الصادق لا يكذب أهله. وأخذ «محمد» يستعيد أحداث حياته، طفولة قاسية، يتم ووحدة، مواقف صغيرة في حياته ما زال يذكرها، ولا يعرف تفسيرها .. طيف كان يلاحقه ويرعاه، لم يكن طيف أشباح وأوهام، إنما كان طيف رعاية واحتضان، يؤنسه في وحدته، يقويه ويغذي فؤاده بالأمل، ويقوده من حيث لا يدري إلى موطن الفضيلة، وتفتحت القلوب لذلك الشاب الصادق المستقيم الذي ما عهده قومه إلا أمينا صادقا وفيا وديعا حسن الخلق صافي النفس.

وأخذ الوحي يتردد، وبدأت الرسالة. وتوقف الوحي فجأة، وأحس «محمد» بضيق شديد، ما بال الوحي الذي جاءه انقطع عنه، أيكون قد أخطأ فيما فعل. أيكون قد ضعف أمام جبريل، أيكون ربه قد ودعه وقلاه وهجره، كل ذلك كان يطوق مشاعر النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقلق مضجعه. وسرعان ما جاءه الوحي من جديد، مبشرا واعدا مطمئنا، وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى، ويتهلل وجه الرسول، وينظر للملإ الأعلى نظرة شكر، ويدعو الله، ويتابع الوحي خطابه: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ولا حدود للعطاء، لأنه مرتبط بالرضى، والرضى نهاية ما يتطلع إليه الإنسان، وكلما تطلع لجديد أعطاه الله من جديد إلى أن يتحقق الرضى، في عطاء مستمر لا نهاية له. وأخذ الوحي يطمئن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضحى]، كل ذلك من عطاء الله، والعطاء مستمر حتى يتحقق الرضى. وبالرغم من كل ذلك، فإن الطبيعة البشرية تأبى إلا أن تشعر في بعض المواقف بالخوف والوجل، وينتابها الفزع والهلع، وهي تحمل أمانة ثقيلة، ستواجه مجتمعا قويا قاسي الملامح متكافلا في دفاعه عن ذاته، ولن يسمح ذلك المجتمع لمحمد أن يتحداه برسالته الجديدة، ولا أن يدعو إلى تغيير ذلك المجتمع، ويتنزل القرآن منجما لكي يحقق غايتين: الأولى: تثبيت قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (¬1)، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحتاج إلى هذا التثبيت المستمر الذي يجدد الأمل ويقوي النفس وبخاصة في مواقف قاسية لا تحتمل النفس قسوتها، وتكاد تفقد قدرتها على الصبر. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 32.

الثانية: مواكبة الوحي لحركة المجتمع الإسلامي الوليد، لكي يكون ذلك المجتمع في موطن الرعاية والاحتضان، فلا يضيق ذلك المجتمع بهمومه ومشاكله، وكلما ضاق به الأمر والتبس عليه السبيل وجد في الحي مرشدا وهاديا، فتطمئن القلوب بعد يأس، وتأنس بعد قلق ووحشة، وتواصل طريقها مطمئنة راضية مرضية، وكيف يمكن للقرآن أن ينزل مرة واحدة، ويتوقف الوحي، تاركا رسول الله تائها في خضم تحديات قاسية، لا يعرف كيف يواجهها، وهل كان يمكن للوحي أن يتنزل بتشريع تفصيلي في الأيام الأولى والمسلمون في محنة، تستهدف عقيدتهم وحياتهم، وهل كان يمكن للوحي أن يتحدث عن قضايا لم تقع بعد، فيجيب عنها. لا شك أن الوحي كان عظيم الأثر في حياة المسلمين، كان الملهم والمرشد، والموجه والمعلم، وهنا تبرز شخصية «محمد» البشرية وهي تستقبل الوحي، ولا تملك تلك الشخصية إلا أن تمتثل لما تؤمر به، وهي لا تملك إلا أن تبلغ الرسالة، كما جاءت. ويقف «محمد» صلى الله عليه وسلّم أمام قومه يسمع كلامهم الساخر، ائت بقرآن غير هذا أو بدله، ويأتيه الوحي معلما ومجيبا، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (¬1). ولا يملك محمد صلّى الله عليه وسلّم أن يدعي لنفسه شيئا، فهو بشر كسائر البشر في خلقه وتكوينه، وهو مكلف بما يكلف به غيره، إلا أنه يوحى إليه، والوحي هو الخصوصية التي خصه الله تعالى بها، وأكرمه بما خصه به، وجعله سيد المرسلين وخير الناس قاطبة، وأناط به مهمة الدعوة إلى الله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآيتان: 15 - 16.

ضرا، لأن ذلك من اختصاص الخالق، والخالق هو الله، وما عداه فهو مخلوق، والمخلوق لا يملك لنفسه إلا ما أراده الخالق له قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ (¬1). ويقف المشركون حيارى لا يدرون ماذا يقولون، هل محمد مجنون، أم هو ساحر أو شاعر، واضطربت نفوسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فالمجانين لا يتحدون العقلاء فيما تميز به أولئك العقلاء وتفاخروا به، وتحداهم القرآن، أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (¬2). فلما عجزوا عن مواجهة التحدي نزل الوحي يؤكد عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل القرآن قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (¬3). وانتصر الوحي بإذن الله، وحفظ الله القرآن، وأعز الله المسلمين بالإسلام، ورفع مكانتهم، وأقام لهم دولة وحضارة، وامتدت دولة القرآن في أمصار الأرض رافعة أعلام الإسلام، محررة الشعوب من الظلم والاستعباد، مقررة حقوق الإنسان، منتصرة لقيم الفضيلة، متحدية كل طغيان واستكبار، داعية إلى عبادة الله وحده، مؤكدة أن دين الحق لا يتحالف مع أعداء الحق، ولا يستسلم أمام جبروت القوة، ويتحدى أعداء الله والإنسان في كل مكان، لكي تظل الأرض موطنا آمنا يجد فيها الإنسان مستقره. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 188. (¬2) سورة هود، الآيتان: 13 - 14. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 88.

الفصل الثالث: نشأة علوم القرآن

الفصل الثالث: نشأة علوم القرآن ابتدأت العلوم الإسلامية بالقرآن، فالقرآن هو مصدر العلوم، وهو المنطلق الأول لنشأة العلوم الإسلامية التي تركزت حول دراسة القرآن وتوثيقه وحفظه وتفسيره وبيان إعجازه ومعرفة الناسخ والمنسوخ منه، والمحكم والمتشابه والأحرف السبعة، والقراءات الثابتة الصحيحة ووجوه بلاغته وفصاحته، ودراسة مفرداته ومعانيه. ولم تكن هناك علوم مدونة بالمفهوم العلمي الذي عرف فيما بعد، فقد كانت اللغة تعتمد على السليقة العربية السليمة، فما استعمله العرب في كلامهم المنثور والمنظوم فهو حجة، وكان الأمر ميسرا، ولم يكن التدوين منتشرا إلا في نطاق ضيق، وكانت الأمية سائدة، ولم تتجه اهتمامات العرب في الجاهلية إلى التوسع في مجال العلوم، واقتصرت اهتماماتهم على لغة العرب التي كان شعراء الجاهلية يتفاخرون بإجادتها والتعبير عنها وبيان فصيحها. ولما نزل القرآن كان معجزة النبي صلّى الله عليه وسلم، وتحدى الله العرب به، وعجز العرب عن الإتيان بمثله، بل عجزوا عن الإتيان بآية من آياته، ووقفوا مذهولين حائرين، يدرسون الظاهرة القرآنية في إطارها العام، ولا يجدون جوابا شافيا لتساؤلاتهم سوى التسليم بعظمة القرآن، وبأنه كلام الله. وتوجهت الأنظار إلى هذا القرآن، باحثة عن معانيه، دارسة أسلوبه، مستخرجة منه قوانين اللغة، مدونة تاريخه، نزولا وكتابة وحفظا وجمعا، مسجلة أوجه قراءاته، محددة ما يجوز منها وما لا يجوز، معتمدة في ذلك على ضوابط ومعايير علمية موضوعية. ما أعظم تلك البداية. كتاب الله هو المنطلق .. ومواكب العلماء تلتف حول نصه، باحثة عن معانيه، مدونة تاريخه، مفسرة مفرداته اللغوية، مبينة أوجه الفصاحة والبلاغة فيه،

وتتلاحق المواكب والأجيال، كل جيل يضع لبنة في صرح هذا التراث العلمي العظيم، معليا بها ذلك الصرح، مضيفا إلى جهود العلماء السابقين إضافة جديدة، في رحلة موفقة من جاهلية قاتمة المعالم، ضيقة الأفق قليلة العطاء إلى حضارة منيرة مشعة، وجدت في المعرفة امتدادها، وضاعفت بفضل الإسلام عطاءها، وتنافست عواصم الإسلام في رفع منارة العلم، وتزاحمت مواكب العلماء تغذي الفكر الإسلامي وتثري مدارسه. ومن الطبيعي أن تحظى الدراسات القرآنية باهتمام العلماء والباحثين، وأن تنشأ علوم القرآن وتتعدد، وتخصّص في كل علم علماء، يكتبون فيه ويصنفون، ويتفقون ويختلفون، ولولا هذه الحرية لما تعددت المدارس والمذاهب، ولما تكاثرت الآراء وتباعدت، وليس من حق أحد أن يوقف مسيرة الفكر البانية الأركان المنيرة الطريق، مطاردة عصر الأمية والجهل، مقتحمة غوامض الفكر، مفسرة محكمه، مجتهدة في فهم متشابهه، لا تتهيب رأيا ولا تخشى اجتهادا، تبحث عن الحقيقة، كما يراها العقل، والعقول متفاوتة في طاقاتها متباينة في تكوينها، وكلها مخاطب ومسئول، والمخاطب مكلف بالفهم، لا يغني البعض عن البعض الآخر. وإن من يدرس علوم القرآن يدرك عظمة الجهد الذي بذله علماء الإسلام، في خدمة كتاب الله، ففي كل جزئية علم، وفي كل علم عشرات الكتب، وفي كل كتاب آراء واجتهادات تعبر عن عظمة تراثنا العلمي، وبخاصة ما يتعلق بالدراسات القرآنية، وبالرغم من مئات المؤلفات في هذه الدراسات، فإن علوم القرآن لا حدود لها، ومن حق أي جيل أن يضيف الجديد من رأيه وفكره واجتهاده، فالجيل اللاحق كالجيل السابق في قدراته، لا يتفاضل جيل عن جيل، ولا يحق لأي جيل أن يدعي لنفسه حق الوصاية على جيل لاحق أو سابق، فالكل في مسيرة واحدة، وتتفاضل الآراء بالحجة والبرهان، ولا تتفاضل بأسبقية تاريخية أو انتماءات مكانية، فلا مجال لذلك في مثل هذه الأمور. والتفسير هو العلم الأهم في العلوم الإسلامية، وتتفاضل الأجيال بمدى

احترامها لقدسية هذا الحق، فالمفسر مجتهد، ولا خير في جيل لا يجد علماؤه ما يكتبونه أو يضيفونه إلى مجال المعرفة الإسلامية سوى ما كتبه السابقون، فمثل هذا الجيل عبء على أجيال سابقة، لأنه لم يضف، والفكر الذي لا يواكب حركة المجتمع سرعان ما ينعزل عن ذلك المجتمع، لأن المجتمع ساحة امتداده، لا يمكن أن يجد ما يقوله، سوى ما سبق أن قيل ولا فضل له فيما نقله عن غيره، فنقلة العلوم لا يرقون إلى درجة العلماء. وعلوم القرآن كثيرة، ومن الصعب معرفة العلم الأول منها، إذ أن نشأة العلوم بدأت مع بداية نزول القرآن، فالرسم القرآني هو العلم الأول من حيث النشأة، لأنه ارتبط بكتابة القرآن، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم كتّاب الوحي كيفية كتابة القرآن، والعناية برسمه، بطريقة متميزة عن قواعد الإملاء، وعند ما جمع «عثمان بن عفان» القرآن وكتبه في مصحف موحد، راعى الرسم القرآني الأصيل الذي كتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتم جمع القرآن لأول مرة في عهد أبي بكر، وتعددت القراءات في وقت مبكر، وكان كل فريق من العلماء يدرس جانبا من جوانب تاريخ القرآن، من حيث الرسم والجمع والنقط والشكل، أو من حيث كيفية الأداء القرآني، كعلم القراءات والتجويد في النطق، أو من حيث معرفة أوجه البلاغة والفصاحة ومنهج الإعجاز البياني. وكان قراء الصحابة هم الأوائل في معرفة علوم القرآن، وهم الحجة فيما يتعلق بالقرآن، جمعا ورسما وأداء ومعرفة بالناسخ والمنسوخ، وبأسباب النزول، ومعرفة الفواصل والوقف، وكل ما هو توقيفي من علوم القرآن، فلا بد له من سند صحيح يثبت أصله ونقله وصحته. واشتهر عدد من الصحابة ممن عرفوا بمعرفة القرآن وإتقان حفظه وأدائه، ومن أبرز هؤلاء: زيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، ومعاوية، وطلحة، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان.

أبرز الذين صنفوا في علوم القرآن

ثم اشتهر عدد من التابعين بقراءة القرآن، ومن أبرز هؤلاء في المدينة: سعيد بن المسيب، وعروة، وابن شهاب الزهري، وعطاء بن يسار، ومعاذ بن الحارث، وزيد بن أسلم، وفي مكة: عبيد بن عمير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وابن أبي مليكة، وفي الكوفة: علقمة، والأسود، ومسروق، وعمرو بن شرحبيل، وسعيد بن جبير، والنخعي، والشعبي. وفي البصرة: عامر بن عبد قيس، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، ويحيى بن معمر، وابن سيرين، وقتادة. وفي الشام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وخليد بن سعيد. ثم تتالت مواكب علماء القرآن، ففي كل عصر هناك علماء مختصون، في كل بلد من بلاد الإسلام، ألفوا في علوم القرآن، وصنفوا في كل علم من علومه، في الناسخ والمنسوخ، وفي أسباب النزول، وفي فضائل القرآن، وفي القراءات القرآنية، وفي إعجاز القرآن، وفي غريب القرآن، وفي مفردات القرآن، وفي مجاز القرآن، وفي مبهمات القرآن، كما كتب بعضهم في علوم القرآن. وكانت الكتابات الأولى في التفسير، نظرا لأنه الأهم في الدراسات القرآنية، والمنهج الأول في التفسير هو التفسير المأثور، وهو المادة الأساسية لمعرفة تفسير القرآن، ولا يمكن معرفة علم التفسير إلا بعد معرفة التفسير المأثور الذي يعطي المعاني الأولى للآية، ويوضح بعض غوامضها، ويبين أسباب نزولها، ويعتبر تفسير الطبري من أبرز كتب التفسير وأهمها، نظرا لما اشتمل عليه من روايات مأثورة، واستنباط صحيح، وترجيح موثق بالأدلة، وأصالة في المنهج، ودقة في التعبير. [أبرز الذين صنفوا في علوم القرآن] ومن أبرز الذين صنفوا في علوم القرآن ما يلي (¬1): أولا: في القرن الثالث: - اشتهر في هذا القرن كل من: علي بن المديني شيخ البخاري الذي كتب في «أسباب النزول» وأبي عبيد القاسم بن سلام الذي كتب في «الناسخ ¬

_ (¬1) انظر مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي الصالح، ص 121 - 123.

ثانيا: في القرن الرابع:

والمنسوخ» وفي «القراءات وفي فضائل القرآن»، ومحمد بن خلف بن المرزبان الذي كتب «الحاوي في علوم القرآن». ثانيا: في القرن الرابع: - اشتهر في هذا القرن كل من: أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري الذي كتب «عجائب علوم القرآن»، وأبي الحسن الأشعري الذي كتب «المختزن في علوم القرآن»، وأبي بكر السجستاني الذي كتب في «غريب القرآن»، وأبي محمد الكرخي الذي كتب في «نكت القرآن». ثالثا: في القرن الخامس: - اشتهر في هذا القرن كل من: علي بن سعيد الحوفي الذي كتب «البرهان في علوم القرآن»، و «إعراب القرآن» وأبي عمرو الداني الذي كتب «التيسير في القراءات السبع» و «المحكم في النقط». ثم توالت الكتب والمؤلفات والمصنفات، ومن أشهرها «فنون الأفنان في علوم القرآن» لابن الجوزي، وجمال القراء للشيخ علم الدين السخاوي، والمرشد الوجيز في علوم تتعلق بالقرآن العزيز لأبي شامه، والبرهان في مشكلات القرآن لأبي المعالي عزيزي بن عبد المالك المعروف بشيذلة (¬1). وذكر السيوطي في الإتقان عددا من الكتب التي اعتمد عليها ولخص منها، ومن هذه الكتب ما يلي (¬2): من الكتب النقلية: تفسير ابن جرير الطبري، وفضائل القرآن لأبي عبيد، وفضائل القرآن لابن أبي شيبة، والمصاحف لابن أبي داود، وأخلاق حملة القرآن للاجري، والتبيان في آداب حملة القرآن للنووي. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 18. (¬2) المصدر نفسه.

من كتب القراءات:

من كتب القراءات: جمال القراء للسخاوي، والنشر والتقريب لابن الجزري، والإرشاد في القراءات العشر للواسطي، والشواذ لابن غليون، والوقف والابتداء لابن الأنباري وللنحاس وللداني. ومن كتب اللغات والغريب والعربية والإعراب (¬1): مفردات القرآن للراغب، وغريب القرآن لابن قتيبة، والوجوه والنظائر للنيسابوري والجمع في القرآن للأخفش، وشرح التسهيل لأبي حيان، وإعراب القرآن لأبي البقاء، ومشكل القرآن لابن قتيبة، واللغات التي نزل بها القرآن للقاسم بن سلام. ومن كتب الأحكام (¬2): أحكام القرآن للرازي ولابن العربي والكيا الهراسي، ولغيرهم، والناسخ والمنسوخ لمكي ولابن الحصار ولابن العربي وللنحاس وللسجستاني ولأبي القاسم بن سلام، ولغيرهم. ومن كتب الإعجاز (¬3): إعجاز القرآن للخطابي، وللرماني، ولابن سراقة، ولأبي بكر الباقلاني، ولعبد القاهر الجرجاني، ومجاز القرآن لابن عبد السلام، والإيجاز في المجاز لابن القيم، وبدائع القرآن لابن أبي الإصبع، ومناسبات ترتيب السور لأبي جعفر بن الزبير، وفواصل الآي للطوفي. [كتب اخرى] وهناك كتب أخرى منها (¬4): البرهان في متشابه القرآن للكرماني، ودرة التنزيل وغرة التأويل في المتشابه ¬

_ (¬1) انظر الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 18. (¬2) انظر الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 19. (¬3) المصدر نفسه. (¬4) المصدر نفسه.

البرهان في علوم القرآن:

للرازي، وأمثال القرآن للماوردي، وأقسام القرآن لابن القيم، وجواهر القرآن للغزالي، والتعريف والإعلام فيما وقع في القرآن من الأسماء والأعلام للسهيلي، والتبيان في مبهمات القرآن للقاضي بدر الدين بن جماعة والمقنع للداني. وهذه الكتب التي ذكرها السيوطي، بعضها وصل إلينا، والبعض الآخر لم يصل، وهناك كتب أخرى كثيرة، وتشير الروايات إلى أن معظم هذه الكتب كان يبحث في علم من علوم القرآن، كالإعجاز والقراءات والوقف والناسخ والمنسوخ والمجاز والإيجاز والفضائل والغريب والمفردات والإعراب، وبعضها كان يبحث في جوانب من علوم القرآن في إطار بحثه في التفسير أو اللغة أو البلاغة أو علم الكلام. ويبدو أن أول كتاب صنف في علوم القرآن، واشتهر أمره وحظي باهتمام العلماء هو كتاب «البرهان في علوم القرآن»، للإمام بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794 هـ بمصر. البرهان في علوم القرآن: يعتبر كتاب «البرهان في علوم القرآن» من أبرز كتب علوم القرآن وأجمعها، ويعود الفضل في التعريف به إلى جلال الدين السيوطي الذي ألف كتابه «الإتقان»، وأشار إلى كتاب البرهان وأشاد به واعتمد عليه، ونقل منه الكثير من الأقوال والنصوص، وقد جمع فيه الزركشي زبدة أقوال العلماء وصفوة آرائهم، ونقل عن المفسرين والمحدثين والفقهاء والنحاة وأهل البلاغة واللغة أقوالهم، وجمع شتات تلك الأقوال في فصول مستقلة واضحة الدلالة، بينة المعنى، عجيبة الترابط والتكامل، وقسم كتابه هذا إلى سبعة وأربعين نوعا، تحدث في كل نوع من الأنواع عن علم من علوم القرآن وخص النوع الأول بالحديث عن معرفة أسباب النزول، وقسمه إلى فصول، واشتملت الفصول على تنبيهات وفوائد، ثم انتقل إلى النوع الثاني وتحدث فيه عن معرفة المناسبات بين الآيات، من حيث ارتباط الآيات بعضها ببعض، أو من حيث اتصال اللفظ والمعنى، وفي النوع الثالث تحدث عن معرفة الفواصل ورءوس الآيات، وأوضح مباني الفواصل

مقدمة البرهان:

باعتبار التماثل والتقارب في الحروف، وأكد ائتلاف الفواصل مع ما يدل عليه الكلام، وختم هذا النوع بطرق معرفة الفواصل، وهي طريقان توقيفي وقياسي، وتابع دراسة الأنواع المختلفة لعلوم القرآن. مقدمة البرهان: قال الزركشي في مقدمة كتابه «البرهان»: «فإن أولى ما أعملت فيه القرائح وعلقت به الأفكار اللواقح، الفحص عن أسرار التنزيل، والكشف عن حقائق التأويل، الذي تقوم به المعالم، وتثبت به الدعائم، فهو العصمة الواقية، والنعمة الباقية، والحجة البالغة، والدلالة الدافعة، وهو شفاء الصدور والحكم العدل عند مشتبهات الأمور، وهو الكلام الجزل الفصل الذي ليس بالهزل، شهاب لا يخبو ضياؤه وسناؤه، وبحر لا يدرك غوره بهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، وتظافر إيجازه وإعجازه، وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتقارن في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه، قد أحكم الحكيم صنيعته ومبناه» (¬1). والمقدمة رائعة معبرة، جميلة المبنى، بديعة الصياغة، رفيعة الأسلوب، تعبر عن عظمة القرآن، وروعة معانيه، وهي تلخص علوم القرآن، وتشير إلى علومه، وتبين الغايات المقصودة، ونقل في هذه المقدمة أقوال عدد من العلماء ممن عرفوا بحسن الفهم ونقاء القلب، يؤكدون فيها أن حكمة القرآن وفهم آياته لا ينالها إلا أهل القلوب، ممن اختصهم الله بالحكمة، ولا يجتمع فهم القرآن والاشتغال بالحطام في قلب مؤمن أبدا، كما يقول سفيان الثوري، انطلاقا من قوله تعالى في سورة الأعراف: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ (¬2) وفسر سفيان بن عيينة، هذه الآية بقوله: سأحرمهم فهم القرآن، وقال ذو النون المصري: أبي الله عز وجل إلا أن يحرم قلوب البطالين مكنون حكمة الله» (¬3). ¬

_ (¬1) انظر البرهان في علوم القرآن، ج 1، ص 3. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 146. (¬3) انظر البرهان في علوم القرآن، ج 1، ص 6.

التفسير عند الزركشي:

وقال الزركشي في إشارة إلى كتابه البرهان: «ولما كانت علوم القرآن لا تنحصر، ومعانيه لا تستقصى، وجبت العناية بالقدر الممكن، ومما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه، كما وضع الناس ذلك بالنسبة إلى علم الحديث، فاستخرت الله تعالى- وله الحمد- في وضع كتاب في ذلك جامع لما تكلم الناس في فنونه، وخاضوا في نكته وعيونه، وضمنته من المعاني الأنيقة، والحكم الرشيقة ما يهز القلوب طربا، ويبهر العقول عجبا، ليكون مفتاحا لأبوابه، وعنوانا على كتابه، معينا للمفسر على حقائقه ومطلعا على بعض أسراره ودقائقه، والله المخلص والمعين، وعليه أتوكل وبه أستعين، وسميته البرهان في علوم القرآن» (¬1). التفسير عند الزركشي: ابتدأ الزركشي كتابه «البرهان» بمقدمة وفصلين: الفصل الأول: عرّف فيه التفسير، وقال فيه: «التفسير علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف، وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ» (¬2). وأكد في هذا الفصل أن من المعلوم أن الله تعالى خاطب خلقه بما يفهمونه، ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه، وأنزل كتابه على لغتهم، وإنما احتيج إلى التفسير والشرح لأمور ثلاثة (¬3): أحدها: كمال فضيلة المصنف، فإن المصنف لقوته العلمية يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز، فربما عسر فهم مراده، فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني الخفية، ومن هنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له. ¬

_ (¬1) انظر البرهان في علوم القرآن، ج 1، ص 9. (¬2) المصدر نفسه، ص 13. (¬3) المصدر نفسه، ص 14.

ثانيها: قد يكون حذف بعض مقدمات الأقيسة أو أغفل فيها شروطا اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر، فيحتاج الشارح لبيان المحذوف ومراتبه. ثالثها: احتمال اللفظ لمعان ثلاثة، كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه، وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو منه بشر من السهو والغلظ وتكرار الشيء، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك. والتفسير إما أن يكون من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها وإما أن يكون من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض لبلاغته ولطف معانيه، ولهذا لا يستغنى عن قانون عام يعول في تفسيره عليه، ويرجع في تفسيره إليه، من معرفة مفردات ألفاظه، ومركباته، وسياقه، وظاهره، وباطنه، وغير ذلك مما لا يدخل تحت الوهم، ويدق عنه الفهم. الفصل الثاني: تحدث فيه عن علوم القرآن، ونقل أقوالا لعدد من العلماء في عدد علوم القرآن وأقسامها، وعما اشتمل عليه القرآن من علوم، فالقاضي أبو بكر بن العربي في كتابه قانون التأويل (¬1) اعتبر أن علوم القرآن على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة، وقال بعض السلف: لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع، وأم علوم القرآن ثلاثة أقسام: توحيد وتذكير وأحكام، فالتوحيد تدخل فيه معرفة الخالق بأسمائه وصفاته، ومعرفة المخلوقات، والتذكير: معرفة الوعد والوعيد والجنة والنار. والأحكام: هي معرفة التكاليف والمنافع والمضار والأمر والنهي والندب. وقال ابن جرير الطبري: القرآن يشتمل على ثلاثة أشياء: التوحيد، والأخبار، والديانات، وقال غيره: علوم ألفاظ القرآن أربعة: الإعراب والنظم والتعريف والاعتبار، وبه يكون الاستنباط والاستدلال (¬2). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه، ص 17. (¬2) انظر البرهان، ج 1، ص 19.

أنواع علوم القرآن عند الزركشي:

أنواع علوم القرآن عند الزركشي: ذكر الزركشي سبعة وأربعين نوعا، وقال: إن كل نوع من هذه الأنواع لو أراد الإنسان استقصاءه لاستفرغ عمره، ولم يحكم أمره، وإنه اقتصر من كل نوع على أصوله، والرمز إلى بعض فصوله. وهذه الأنواع هي: 1 - معرفة سبب النزول. 2 - معرفة المناسبات بين الآيات. 3 - معرفة الفواصل. 4 - معرفة الوجوه والنظائر. 5 - علم المتشابه. 6 - علم المبهمات. 7 - في أسرار الفواتح. 8 - في خواتم السور. 9 - في معرفة المكي والمدني. 10 - معرفة أول ما نزل. 11 - معرفة على كم لغة نزل. 12 - في كيفية إنزاله. 13 - في بيان جمعه. 14 - في معرفة تقسيمه. 15 - في معرفة أسمائه. 16 - في معرفة ما وقع فيه غير لغة الحجاز. 17 - معرفة ما فيه من لغة العرب. 18 - معرفة غريبه. 19 - معرفة التصريف. 20 - معرفة الأحكام.

21 - معرفة اللفظ والتركيب. 22 - معرفة اختلاف الألفاظ. 23 - معرفة توجيه القراءات. 24 - معرفة الوقف والابتداء. 25 - علم مرسوم الخط. 26 - معرفة فضائل القرآن. 27 - معرفة خواصه. 28 - هل في القرآن شيء أفضل من شيء. 29 - في آداب التلاوة. 30 - في جواز استعمال آيات القرآن في الرسائل والخطب. 31 - معرفة الأمثال الكائنة فيه. 32 - في معرفة أحكامه. 33 - في معرفة جدله. 34 - في معرفة ناسخه ومنسوخه. 35 - في معرفة توهم المختلف. 36 - في معرفة المحكم من المتشابه. 37 - في حكم الآيات المتشابهات. 38 - معرفة الإعجاز. 39 - معرفة وجوب التواتر. 40 - في معرفة معاضدة السنة للكتاب. 41 - في معرفة تفسيره. 42 - في معرفة وجوه المخاطبات. 43 - بيان الحقيقة والمجاز. 44 - في الكناية والتعريض. 45 - في أقسام معنى الكلام.

ترجمة الزركشي مؤلف البرهان:

46 - في ذكر ما تيسر من أساليب القرآن. 47 - في معرفة الأدوات. ترجمة الزركشي مؤلف البرهان: هو الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة 794 هـ بالقاهرة، أخذ العلم عن شيوخ عصره، عن الشيخ جمال الأسنوي والشيخ سراج الدين البلقيني، والحافظ ابن كثير، واستطاع أن يحظى بمكانة كبيرة في عصره، واشتهر أمره، وبانت أهليته وكفاءته، وتفرغ للتدريس والتأليف، وكان ملازما لسوق الكتب، يسجل ويصنف، واشتهر بالزهد والورع والانصراف عن الدنيا، والرضى بالقليل من المال. وكان شافعي المذهب، وله أكثر من ثلاثين كتابا، في الأصول والقواعد والفروع والأحكام والعقيدة والأدب، وله كتب في التفسير والحديث، وقام بتخريج أحاديث بعض الكتب، منها تخريج أحاديث الشرح الكبير للرافعي، والتنقيح لألفاظ الجامع الصحيح، وكان كثير الاهتمام بعلم الأصول والفقه، وقام بتكملة شرح المنهاج للإمام النووي وشرح جمع الجوامع. ويعتبر كتابه: «البرهان في علوم القرآن» من أهم كتبه، وأكثرها شهرة ومكانة، ويتألف من أربعة أجزاء، وقام الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم بتحقيقه (¬1). منهج الزركشي في البرهان: يتميز الزركشي بأسلوبه الرصين، وعبارته الواضحة والأمانة في النقل، وحسن الاختيار للعبارات المنقولة، والدقة في الاستشهاد، وغالبا ما يذكر في كل علم ما صنف من مؤلفات، ثم يعرف بهذا العلم، بعبارات موجزة واضحة معبرة. ويمكننا استنتاج معالم منهجه في التأليف من خلال تتبعنا لفصل من فصول كتابه، وهو علم المبهمات الذي يعتبر النوع السادس، وابتدأ هذا العلم بذكر من ¬

_ (¬1) انظر مقدمة المحقق.

صنّف فيه، وهو أبو القاسم السهيلي في كتابه المسمى بالتعريف والإعلام، وتلاه تلميذه ابن عساكر في كتابه المسمى بالتكميل والإتمام (¬1). ثم ذكر أسباب الإبهام (¬2): الأول: أن يكون أبهم في موضع استغناء ببيانه في آخر في سياق الآية، كقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بيّنه في قوله: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. الثاني: أن يتعين لاشتهاره: كقوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ولم يقل حواء لأنه ليس غيرها. الثالث: قصد الستر عليه، ليكون أبلغ في استعطافه كقوله تعالى في سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. الرابع: ألا يكون في تعيينه كثير فائدة، كقوله تعالى في سورة البقرة: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ والمراد بها بيت المقدس. الخامس: التنبيه على التعميم كقوله تعالى في سورة النساء: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. السادس: تعظيمه بالوصف الكامل دون الاسم: كقوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ. والمراد الصديق. السابع: التحقير بالوصف الناقص، كقوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ والمراد به الوليد بن عقبة، وكقوله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ والمراد فيها العاصي ابن وائل. ثم أعقب ذلك ببعض التنبيهات والتوضيحات (¬3)، معتمدا في ذلك على أدلة من القرآن الكريم، وفي مواطن كثيرة يستشهد بأقوال العلماء الذين كتبوا في الموضوع وصنفوا فيه، وينقل أقوالهم وكلامهم، وأحيانا يناقش تلك الأقوال مؤيدا لها أو معارضا أو مرجحا. ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 155. (¬2) المصدر نفسه. (¬3) المصدر نفسه.

الإتقان في علوم القرآن:

ويدل منهجه على ما يلي: أولا: تمكنه من مادته العلمية وسعة اطلاعه. ثانيا: حسن استيعابه لما يكتب فيه، فلا يستطرد ولا يطيل. ثالثا: النقل الأمين، وينسب كل قول لقائله، وينقل عبارة العلماء مروية عنهم. رابعا: روعة أسلوبه، وسلامة عبارته. وهذه الخصائص جعلت الزركشي حجة فيما يكتب، وجعلت كتاب البرهان من أبرز الكتب في علوم القرآن، ولا يستغني عنه باحث أو دارس، وقد تأثر به جلال الدين السيوطي في كتابه «الإتقان»، ونقل عنه الكثير من العبارات والنقول، ونستطيع أن نقول إن كتاب الإتقان هو مختصر لما في كتاب البرهان، وهو شديد الشبه به في أسلوبه ومنهجه». الإتقان في علوم القرآن: يعتبر كتاب «الإتقان في علوم القرآن» للحافظ جلال الدين السيوطي من المراجع المعتمدة والهامة، ولا يمكن الاستغناء عنه لكل من يريد البحث في علوم القرآن، فهو كتاب جمع فيه السيوطي علوم القرآن، ونقل أقوال العلماء في كل علم من العلوم، وأشار إلى الكتب المصنفة في كل علم، واختار من كتب السابقين ما يتعلق بالموضوع من آراء وأقوال، وقد قام بتحقيق هذا الكتاب الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم الذي قام بتحقيق كتاب البرهان للزركشي. وقال المحقق في مقدمة كتاب الإتقان في معرض كلامه عن الحافظ السيوطي (¬1): وكتابه الإتقان في علوم القرآن هو الحلقة الذهبية في سلسلة كتب الدراسات القرآنية، أحسنها تصنيفا وتأليفا، وأكثرها استيعابا وشمولا، جمع فيه من أشتات الفوائد، ومنثور المسائل ما لم يجتمع في كتاب، ولم تكن هذه ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 7، مقدمة المحقق.

منهجه في التصنيف:

الدراسات قد اتخذت وضعا مستقلا في العصور الإسلامية الأولى، وإنما وردت متفرقة في روايات المحدثين وأقوال العلماء، ومقدمات كتب المفسرين، كالطبري والزمخشري والحوفي وابن عطية والقرطبي، وجاء قدر منها في كتب البلاغة والنقد، كدلائل الإعجاز وأسرار البلاغة والصناعتين ونقد النثر ومفتاح العلوم، ومثلها في كتب الجدل والمناظرات، كالانتصار للباقلاني والمغني للقاضي عبد الجبار، ومثلها أيضا في كتب القراءات والرسم والأحكام، وأول كتاب صنف مستقلا في هذا الفن، كتاب البرهان في علوم القرآن للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، أحد فقهاء الشافعية في القرن الثامن، جمع فيه عصارة أقوال المتقدمين، وصفوة آراء العلماء المحققين، وجعله في سبعة وأربعين بابا». وظهرت كتب بعد كتاب البرهان، تحدثت عن بعض المسائل المتعلقة بأسباب النزول وطرق الأداء والتفسير والتأويل، وقال عنها السيوطي: «إن ما ورد فيها لم يشف غليلا، ولم يهد إلى المقصود سبيلا، وعندئذ تصدى السيوطي للكتابة في علوم القرآن، وكتب كتابا سماه «التحبير في علوم التفسير» جمع فيه أكثر من مائة باب استوفى فيه كل ما يتعلق بهذا الفن، وجمع في كل باب كل مسائله وفروعه، ثم شرع في تنقيح هذا الكتاب، وتهذيبه وإعادة النظر في ترتيب أبوابه وفصوله، بشكل يحقق الغاية المقصودة، وكان هذا الكتاب هو «الإتقان في علوم القرآن» وجعله مقدمة لكتابه في التفسير «مجمع البحرين ومطلع البدرين»، وجعل أبوابه ثمانين بابا اشتملت على كل ما يتعلق بعلوم القرآن» (¬1). منهجه في التصنيف: وصف المحقق في مقدمة الكتاب منهج السيوطي في التصنيف بقوله: «وطريقته في التصنيف أن يذكر عنوان الموضوع، ويذكر أشهر من ألف فيه، ثم يشفعه بفائدة معرفته، وأهميته في تفهم القرآن وتفسير معانيه، ثم يذكر ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 8، مقدمة المحقق.

السيوطي يعرف كتابه الإتقان:

مسائله، وما عساه أن يكون لها من فروع وذيول، مستشهدا في كل ذلك بالقرآن أو الحديث أو أقوال العلماء، وينقل نصوصا من الكتب التي ألفت فيه، فصولا كاملة أو مختصرا منها، وكثيرا ما يذيل هذه الأبواب برأيه بعد أن يورد كلمة «قلت». ثم قال المحقق بعد أن ذكر نماذج من كتاب الإتقان: «ومن خير ما امتاز به كتاب الإتقان أنه أورد فيه كثيرا من نصوص الكتب التي لم تقع لنا، من كتب الجعبري والباقلاني والكيا الهراس والزملكاني وابن الأنباري وغيرهم بعد أن نثرها متفرقة في الفصول والأبواب، ويؤخذ على السيوطي أنه أورد في الكتاب كثيرا من الروايات الضعيفة والأحاديث التي لم تثبت صحتها عند المحدثين، ولكنه أوردها بإسنادها وإن كان في ذكر السند ما يميز الصحيح من الضعيف عند العلماء» (¬1). ثم قال بعد ذلك: «وفي الجملة، فإن كتاب الإتقان بما حواه من مصارف وفنون، وما جمع فيه من أخبار وأقوال يعد بحق من أكرم الذخائر وأنفس الأعلاق» (¬2). السيوطي يعرف كتابه الإتقان: ولد جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال السيوطي سنة ثمانمائة وتسع وأربعين هـ، ونشأ يتيما، وأخذ علمه عن كبار علماء عصره في مصر، من أمثال شيخه محيي الدين الكافيجي، وتنقل في عدد من البلاد الإسلامية، واشتهر بكثرة التأليف والتصنيف، وذكر له بروكلمان أربعمائة وخمسين مؤلفا بين مطبوع ومخطوط، وأوصل ابن إياس مؤلفاته إلى ستمائة مؤلف، ونظرا لكثرة مؤلفاته ولشهرته، فقد اتهمه منافسوه بالسطو على كتب المكتبة المحمودية، وادعاء بعض كتبها لنفسه، بعد إدخال بعض التعديلات عليها، وممن شارك في اتهامه ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 9، مقدمة المحقق. (¬2) انظر نفس المصدر، مقدمة المحقق.

السخاوي، إلا أن تلك التهم لا يمكن أن تقلل من مكانته العلمية وقدرته على التأليف، وهناك كتب عظيمة لا يمكن أن يشك في نسبتها إليه، وهي كافية للتدليل على موهبته وكفاءته وعلمه، واشتهر بالزهد والتقى والصلاح، وتوفي سنة 911 هـ بالقاهرة (¬1). وشرح في مقدمة كتابه الإتقان الأسباب التي دفعته لتأليف هذا الكتاب، وإنه أراد أن يضع كتابا جامعا شاملا سماه «التحبير في علوم التفسير» وذكر أبواب هذا الكتاب في مقدمته، وهي أكثر من مائة باب، ثم خطر له أن يؤلف كتابا مبسوطا ومجموعا مضبوطا يسلك فيه طريق الإحصاء، ويمشي فيه على طريق الاستقصاء، وكان يظن أنه متفرد بذلك غير مسبوق بالخوض في هذه المسالك، وبينما هو يجيل في ذلك فكره، بلغه أن الإمام بدر الدين الزركشي ألف كتابا في ذلك سماه «البرهان» (¬2). وقال في وصف ذلك: ولما وقفت على هذا الكتاب ازددت به سرورا، وحمدت الله كثيرا، وقوي العزم على إبراز ما أضمرته، وشددت الحزم في إنشاء التصنيف الذي قصدته، فوضعت هذا الكتاب العلي الشأن، الجلي البرهان، الكثير الفوائد والإتقان، ورتبت أنواعه ترتيبا أنسب من ترتيب البرهان، وأدمجت بعض الأنواع في بعض، وفصلت ما حقه أن يبان، وزدته على ما فيه من الفوائد والفرائد، والقواعد والشوارد، ما يشغف الآذان، وسميته بالإتقان في علوم القرآن، وسترى في كل نوع منه إن شاء الله تعالى ما يصلح أن يكون بالتصنيف مفردا، وستروى من مناهله العذبة ريا ولا ظمأ بعده أبدا، وقد جعلته مقدمة للتفسير الكبير الذي شرعت فيه، وسميته بمجمع البحرين ومطلع البدرين «الجامع لتحرير الرواية وتقرير الدراية» (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الإتقان ج 1، ص 9، مقدمة المحقق. (¬2) انظر مقدمة السيوطي في كتابه الإتقان، ج 1، ص 10. (¬3) انظر مقدمة الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 14.

مقارنة بين البرهان والإتقان:

مقارنة بين البرهان والإتقان: من اليسير علينا أن نكتشف أوجه التشابه بين كل من البرهان للزركشي والإتقان للسيوطي، وهو تشابه يؤكد أن السيوطي قد اعتمد كل الاعتماد على كتاب البرهان، ونقل الكثير مما ورد فيه من أقوال العلماء، وأحيانا تكون العبارة واحدة في كل من الكتابين، ويتميز البرهان بدقة العبارة، وتكامل الموضوع، وأصالة المنهج، وعمق الدراسة في الوقت الذي يتميز فيه الإتقان بالجمع والإيجاز. قال الزركشي في البرهان في معرض حديثه عن معرفة أسباب النزول الذي بدأ به أبواب كتابه وأنواع علوم القرآن. «وقد اعتنى بذلك المفسرون في كتبهم، وأفردوا فيه تصانيف، منهم علي بن المديني شيخ البخاري، ومن أشهرها تصنيف الواحدي في ذلك، وأخطأ من زعم أنه لا طائل تحته، لجريانه مجرى التاريخ، وليس كذلك، بل له فوائد: - منها وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. - ومنها تخصيص الحكم به عن من يرى أن العبرة بخصوص السبب. - ومنها أن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيص. - ومنها الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال. - ومنها الوقوف على المعنى. - ومنها أنه قد يكون اللفظ عاما ويقوم الدليل على التخصيص. - ومن الفوائد أيضا دفع توهم الحصر» (¬1). وقال السيوطي في معرض كلامه عن معرفة سبب النزول: «أفرده بالتصنيف جماعة أقدمهم علي بن المديني شيخ البخاري، ومن أشهرها كتاب الواحدي على ما فيه من إعواز، وقد اختصره الجعبري فحذف ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 22.

أسانيده ولم يزد عليه شيئا، وألف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر كتابا مات عنه مسودة، فلم نقف عليه كاملا، وقد ألفت فيه كتابا حافلا موجزا محررا، لم يؤلف مثله في هذا النوع، سميته «لباب النقول في أسباب النزول» (¬1). قال الجعبري: نزول القرآن على قسمين: قسم نزل ابتداء، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال، وفي هذا النوع مسائل: المسألة الأولى: زعم زاعم أنه لا طائل تحت هذا الفن لجريانه مجرى التاريخ، وأخطأ في ذلك، بل له فوائد: - منها: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. - ومنها: تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب. - ومنها: أن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه. - ومنها: الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال. - ومنها: دفع توهم الحصر. وهناك اختلافات في بعض المسائل، وزيادات، وتقديم وتأخير، وروايات قد نجدها في الأول ولا نجدها في الثاني، وقد ينفرد بها السيوطي، نظرا لأنه المتأخر، واعتمد على مصنفات ومؤلفات لم يطلع عليها الزركشي. ولا خلاف أن الباحث في علوم القرآن لا يمكنه أن يستغني عن كل من البرهان والإتقان، ومعظم ما كتبه المتأخرون لا يخرج عما ورد فيهما، ولكل منهما خصائصه ومزاياه، ومن اليسير أن نجد كتبا ومصنفات في كل علم من علوم القرآن، كأسباب النزول، والقراءات وغريب القرآن، وإعراب القرآن، وأمثال القرآن، وفضائل القرآن، اشتملت على مباحث ومسائل وفروع لا نجدها في الكتب المؤلفة في علوم القرآن، إلا أن من الصعب أن نجد مصنفات في علوم القرآن ترقى إلى مستوى هذين الكتابين، وما كتبه المتأخرون في علوم القرآن لا يخرج عما كتبه الزركشي والسيوطي. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 82.

وتتميز كتب المتأخرين بالاختصار والإيجاز، وعدم الإكثار من الأقوال المنقولة عن العلماء، واستيعاب ما قيل في الموضوع، وهذا منهج من الصعب تجاهل أهميته، وإنكار فوائده، فكثرة النقول، وبخاصة ما يبرز فيها التكرار، لا يضيف شيئا، وربما ينصرف الذهن عن المتابعة، ويعجز عن جمع شتات الأقوال الكثيرة. وهذا لا ينفي أهمية ذكر هذه الآراء في مجال البحوث المتخصصة، حيث تتكامل الآراء وتتقارب، مكونة مدارس للتفكير ومناهج متميزة تساعد على معرفة تطور الدراسات القرآنية. ويجدر هنا أن نفرق بين المؤلفات المدرسية التي يراد بها تيسير الدراسات المتعلقة بعلوم القرآن، والإلمام بكل ما يتعلق بكتاب الله، من حيث مواطن نزوله وجمعه وكيفية قراءته ورسمه وقواعد وقفه وفواتح سوره وخواتمها وفواصله وآياته، أو من حيث إعجازه وأسلوبه وفصاحته وبلاغته، وما جاء منه محكما أو متشابها، والمؤلفات العلمية التي تحرص على دراسة جوانب دقيقة من تاريخ القرآن أو علومه، وما يصح في المؤلفات التي أعدت للتدريس لا يصح في مجال البحث العلمي، ولا يقبل، ولا يعتبر كافيا. ولا نستطيع أن ننكر أهمية الدراسات والبحوث التي أعدت في العصر الحديث، في مجال الدراسات القرآنية، وهي تؤكد أن عصرنا هذا هو بداية عصر جديد في مجال الدراسات الإسلامية، وبالرغم من قلة البحوث الأصيلة، فإن كل المؤشرات تؤكد على أن هذا الجيل مؤهل لتحمل المسئولية، عازم على متابعة طريق البحث للوصول للمعرفة. ومعظم الدراسات المتعلقة بتاريخ القرآن يراد بها تعليم الأجيال اللاحقة تاريخ قرآنهم، وإعلامهم بعظمة الجهود التي بذلها علماء السلف في خدمة القرآن، لتوثيق نصوصه وضبط قراءاته، ولا مجال للاجتهاد في هذا الأمر، فتاريخ القرآن لا بد فيه من صحة الروايات، ولا يتصور أن يقع الاجتهاد في أمر يتعلق بجمع القرآن أو بسبب نزوله، وغاية ما يمكن أن يفيده البحث هو ترجيح رواية على أخرى، والترجيح لا بد فيه من دليل.

الفصل الرابع: التفسير والتأويل

الفصل الرابع: التفسير والتأويل قال ابن فارس: معاني العبارات التي يعبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة: المعنى والتفسير والتأويل، وهي إن اختلفت فالمقاصد بها متقاربة (¬1). ويراد بالمعنى القصد والمراد، يقال عنيت بهذا الكلام كذا أي قصدت، وهو مشتق من الإظهار ويقال عنت القربة إذا أظهرت الماء ولم تحفظه، ومنه عنوان الكتاب، وتطلق لفظة علماء المعاني على من صنف في معاني القرآن كالزجاج والفراء وابن الأنباري، وأهل المعاني هم العلماء الذين اختصوا بهذا العلم (¬2). المراد بالتفسير: ويراد بالتفسير الإيضاح والتبيين، ويفيد معنى الإظهار والكشف، وأصله في اللغة من الفسر وهو الإبانة، وفسّر الشيء يفسره بالكسر والضم أي أبانه، والفسر كشف المغطى، ويراد به كشف المغلق من المراد باللفظ وإطلاق للمحتبس عن الفهم به، ويقال فسرت الشيء أفسره تفسيرا، وفسرته أفسره فسرا، وقال بعضهم: فسر مقلوب من سفر ومعناه الكشف، يقال: سفرت المرأة سفورا إذا ألقت خمارها عن وجهها وهي سافرة، وأسفر الصبح أضاء. وقال الراغب: الفسر والفسر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما، وجعل الفسر لإظهار المعنى المعقول، وجعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار، يقال: سفرت المرأة عن وجهها وأسفر الصبح (¬3). وذهب أبو حيان إلى أن التفسير يراد به التعرية، يقال: فسرت الفرس إذا عريته لينطلق، وهو يعبر عن معنى الكشف، ومعظم ما جاءت به لفظة التفسير في اللغة معبرة عن معنى الكشف والبيان. ¬

_ (¬1) انظر البرهان للزركشي، ج 2، ص 147. (¬2) انظر نفس المصدر. (¬3) انظر نفس المصدر ص 148.

واستعمل القرآن كلمة التفسير مرة واحدة في سورة الفرقان في قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان: 33]. أي: بيانا، وقال ابن عباس في قوله تعالى: وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أي: تفصيلا. وأطلقت كلمة «التفسير» على العلم الذي يتحدث عن معاني القرآن، من حيث نزول الآية ومناسبتها، والإشارات النازلة فيها ومعانيها المحتملة، والدلالات اللفظية، من حيث العموم والخصوص والمطلق والمقيد والمجمل والمفسر، كما يبحث علم التفسير عن كل ما يتعلق بالقرآن من معاني مستفادة من الألفاظ، من حيث الأحكام والتوجيهات والعبر والقصص والمواعظ. ويمكننا أن نعرف علم التفسير بأنه العلم الذي يبحث عن كل المعاني القرآنية المحتملة التي تدل عليها الألفاظ، سواء ما يتعلق منها باستنباط الأحكام الشرعية، أو ما تعلق بها بمعرفة المعاني الواردة في القرآن، ويستعين المفسر بأدوات التفسير التي تمكنه من معرفة المراد بالقدر الممكن. واختلف العلماء في تعريف التفسير، ولا حدود لاجتهادات العلماء في تعريف هذا العلم، فكل عالم يعرف علم التفسير بما يراه الأقرب والأدق، في معرفة المعاني القرآنية، وينظر من زاوية تختلف عن الزاوية الأخرى، فالبعض عرف التفسير بأنه العلم الذي يبحث عن أحوال القرآن من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية، والبعض الآخر اعتبره علم نزول الآيات وشئونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيّها ومدنيّها، ومحكمها، ومتشابهها، وناسخها، ومنسوخها، وخاصها، وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وحلالها وحرامها ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها (¬1). ولعل المعنى الأيسر للتفسير والأوضح هو العلم الذي يبحث عن معاني القرآن ودلالاته بحسب ما تفيده الدلالة اللفظية، ويستعين لذلك بما ييسر له الأمر. ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 2، ص 148.

وهنا يقع التساؤل: - هل من واجب المفسر أن يبحث عن مراد الله، أم يجب عليه أن يبحث عن الدلالة المستفادة من اللفظ؟ قد يقول قائل: ليس هناك تعارض بين القصدين، فالمفسر يبحث عن مراد الله من خلال الدلالة اللفظية، إذ لا يمكنه أن يكشف مراد الله إلا عن طريق الدلالة اللفظية، ولو تجاوز تلك الدلالة لوقع في خطأ جسيم، وانحرف عن خط الاستقامة، وتحكم في مراد الله بحسب هواه. وأحيانا قد تقوده الدلالة اللفظية إلى معاني لا يمكن أن تكون من مراد الله، لوجود أدلة وقرائن ومرجحات تؤكد بطلان هذا الاستنتاج، وبخاصة إذا اصطدم هذا التفسير بمقاصد ثابتة للشريعة مستفادة من أدلة قاطعة. وهنا يبرز دور المفسر، في توجيه الدلالة اللفظية لكي تنسجم مع التوجيهات القرآنية العامة، فلا يمكن أن يقع التناقض بين آية وأخرى، ولا يمكن أن يقع التصادم بين حكم وآخر، كما لا يمكن أن يقع التنافر بين توجيه وآخر، فالقرآن متكامل في توجيهاته، يؤكد بعضه البعض الآخر، وإذا ظهر التنافر والتباين بين آية وأخرى، فهذا التنافر دال على قصور في التفسير، ووقوف عند حدود الألفاظ، والألفاظ متعددة المعاني، والمعنى الأدق والأصح في تفسير الآية هو المعنى الذي يحقق ذلك التلاؤم والتكامل بين الآيات القرآنية. وتبرز عظمة المفسر وموهبته في مثل هذه المواقف الصعبة، حيث يقف عمالقة المفسرين بشجاعة يتخطون حواجز الألفاظ الضيقة باحثين عن المعنى الأدق والأصح الذي يؤكد الانسجام والتوافق في التوجيه القرآني، وهم في سعيهم هذا يعتمدون على أدوات التفسير اللغوية والعقلية والنظرية لكي يوجهوا النص القرآني نحو غايته المرجوة التي يدل عليها النسق القرآني العام، وتؤكدها مقاصد واضحة للشريعة الإسلامية. وليست مهمة المفسر قاصرة على شرح المفردات وبيان دلالاتها. فهذا عمل

الفرق بين التفسير والتأويل:

يسير لا يحقق غاية مرجوة، ولا يتطلب موهبة كبيرة، وتمتد مهمة المفسر لكي يطرح الآفاق المحتملة المستفادة من الآية، بحيث يكون ما استنبطه المفسر وما وصل إليه بعد جهد منسجما مع الهدي القرآني العام، مراعيا غاية القرآن في استقامة أمر البشر، مصححا مسيرة الإنسان في رحلته في الحياة، مدافعا عن حق الإنسان في حياة كريمة. والمفسر ليس هو الشارح للمفردات اللغوية، فتلك مقدمات ضرورية على طريق التفسير، وليس هو الباحث عن مكي الآيات ومدنيها، وناسخها ومنسوخها، وأسباب نزولها، فذلك شرط ضروري يجب أن يعرفها المفسر قبل أن يتصدى للتفسير، وبعد ذلك تبتدئ مهمة المفسر الشاقة في استكشاف الإرادة القرآنية، وفي استلهام الحكم المرادة المستهدفة، وفي إقرار التوجهات السلوكية في مجال الأمر والنهي، التي تنسجم مع التوجيهات القرآنية العامة المستفادة من القرآن كله، بحيث لا يقع أي تصدع في صرح المنهج الرباني المتكامل، سواء في نظرة القرآن للكون والإنسان، أو في مطاردة كل الأسباب التي تعارض المبادئ التي أقرها الإسلام لاستقامة الحياة البشرية. المفسر إذا كان ضيق الأفق لا يمكنه أن يستوعب الآفاق الممكنة للتوجيه القرآني، وهو في تفسيره الضيق يضيّق الخناق على النص، فيسيء من حيث لا يدري، ويضيق ما اتسع من آفاق، ويحرم ويحلل وفق معايير يظنها موضوعية وعلمية، وهي في الحقيقة معايير تغلب عليها الرؤية الذاتية، ولا بد في التفسير من النظر إلى شخصية المفسر، فالشخصية عامل هام في التفسير، تحسن وتسيء وتصيب وتخطئ، وتوسع وتضيق، لأن التفسير رؤية ذاتية للنص المفسر، تتأثر بشخصية المفسر، لأنه أداة الرؤية، ويستمد تلك الرؤية من تجربته الذاتية، ولهذا تتفاضل قدرات المفسرين وتتباين في مدى عمقها ودقتها، فمنهم الغني بفكره وآفاقه، ومنهم الضيق الذي لا يضيف شيئا. الفرق بين التفسير والتأويل: خصص الزركشي في البرهان فصلا مستقلا لبيان الفرق بين التفسير والتأويل،

ورد على من قال بأن التفسير والتأويل واحد بحسب عرف الاستعمال، وقال: والصحيح تغايرهما (¬1)، ونقل عن الراغب قوله: التفسير أعم من التأويل، وأكثر استعماله في الألفاظ، وأكثر استعمال التأويل في المعاني، وأكثر ما يستعمل التأويل في الكتب الإلهية، وأكثر ما يستعمل التفسير في معاني مفردات الألفاظ. ولفظة التأويل مأخوذة في اللغة من الأول، يقال آل الأمر إلى كذا أي صار إليه، وأصله من المآل وهو العاقبة والمصير، يقال: أوّلته فآل أي: صرفته فانصرف، وكأن التأويل يعني صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني (¬2). وجاءت لفظة التأويل في القرآن في قوله تعالى: ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف: 82]، وقوله: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف: 53]، وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7]، وقوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59]. واستعملت لفظة التأويل في مواطن كثيرة في القرآن الكريم في معرض تأويل الأحلام وتأويل الأحاديث، وكأن هذه الاستعمالات للفظة التأويل تفيد أن التأويل أمر يختص بتفسير الأشياء الغيبية مما لا يتعلق بالألفاظ والمفردات اللغوية، فالتأويل هو تفسير إشارات واستلهام معاني من مفردات وحوادث ووقائع مما لا يخضع للمعايير التفسيرية المحكمة التي لا يملك المفسر فيها حق الخروج عن مقتضى الدلالات اللغوية. ويمكننا أن نلاحظ أن الفرق بين التفسير والتأويل كما هو واضح في الاستعمالات اللغوية كبير، وقد استعملت لفظة التأويل حيث لا يجوز أن تستعمل لفظة التفسير، فالتفسير توضيح وبيان لمعاني مفردات، ويخضع المفسر لضوابط لغوية، بحيث لا يملك المفسر أن يخرج عن إطار الدلالة اللغوية، بخلاف ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 2، ص 149. (¬2) انظر البرهان، ج 2، ص 148.

آراء العلماء في التفسير والتأويل:

التأويل فهو تفسير خفي للإشارات والمواقف، ويغلب عليه جانب الإلهام المعتمد على قوى عقلية خارقة أو على قوة روحية متميزة. والتفسير هو بيان للمفردات وتوضيح لمعانيها، بحسب الدلالة اللغوية، والتأويل أعم وأشمل، ووسائله ليست هي اللغة، وإنما هي قوة الملاحظة ودقة الإشارة واستلهام المعاني الخفية غير المدركة بالحواس، ولهذا يكون التأويل مظنة للانحراف إذا وجه المؤول العبارة نحو معاني مخالفة لما تدل عليه الألفاظ، معتمدا في ذلك على إشارات خفية. وبالرغم من كل محاولات إبراز أوجه التباين والاختلاف بين التفسير والتأويل، فإن من الصعب وضع ضوابط دقيقة، لكل من التفسير والتأويل، بل إن بعض العلماء ذهب إلى أنه لا فرق بين التفسير والتأويل، وإنهما يأتيان بمعنى واحد. آراء العلماء في التفسير والتأويل: نقل السيوطي في الإتقان (¬1) والزركشي في البرهان (¬2) آراء العلماء في معنى كل من التفسير والتأويل: - قال أبو عبيد وطائفة من العلماء: التفسير والتأويل بمعنى واحد، وردّ الزركشي هذا الرأي وقال: والصحيح تغايرهما، وحجة من قال بفكرة التماثل والترادف أن كلا من التفسير والتأويل يفيد معنى البيان والتوضيح، ويبدو أن علماء التفسير يرجحون هذا القول، وهذا الرأي يقلل من أهمية الفروق الواضحة في استعمال كل من اللفظتين، وقد استعمل القرآن كلمة التأويل في مواطن محددة حيث يبرز عجز الإنسان عن الإحاطة بإرادة الله، مما لا تستطيع القدرة البشرية أن تفسره أو أن تستكشف معانيه المرادة، وغالبا ما يكون في الأمور الغيبية. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 4، ص 167. (¬2) انظر البرهان، ج 2، ص 149.

- قال الراغب الأصفهاني: التفسير أعم من التأويل، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل، وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها (¬1). - قال الماتريدي: التفسير القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي، وهو المنهي عنه، والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله (¬2). - قال أبو طالب التغلبي: التفسير بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازا، كتفسير الصراط بالطريق والصيب بالمطر، والتأويل تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول وهو الرجوع لعاقبة الأمر، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد، لأن اللفظ يكشف عن المراد، والكاشف دليل، مثاله قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ تفسيره أنه من الرصد، يقال: رصدته راقبته، والمرصاد: فعال منه، وتأويله: التحذير عن التهاون بأمر الله والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه، وقاطع الأدلة تقتضي بيان المراد منه على خلاف وضع اللفظ في اللغة (¬3). - قال الأصبهاني في تفسيره: اعلم أن التفسير في عرف العلماء كشف معاني القرآن، وبيان المراد، أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره وبحسب المعنى الظاهر وغيره، والتأويل أكثره في الجمل، والتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ نحو البحيرة والسائبة والوصيلة أو في وجيز يتبين بشرح، نحو أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وما في كلام متضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها كقوله: «إنما النسيء زيادة في الكفر»، وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عاما ومرة خاصا، نحو الكفر المستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 4، ص 167. (¬2) انظر الإتقان، ج 4، ص 167. (¬3) انظر الإتقان، ج 4، ص 168.

أولا: خصائص التفسير:

جحود الباري عز وجل خاصة، وما في لفظ مشترك بين معاني مختلفة، نحو لفظ «وجد» المستعمل في الجدّة والوجد والوجود (¬1). - قال البغوي والكواشي: التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها، تحتمله الآية، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط ونقل هذا القول عن ابن القاسم بن حبيب النيسابوري (¬2). - قال أبو نصر القشيري: ويعتبر في التفسير الاتباع والسماع، وإنما الاستنباط فيما يتعلق بالتأويل، وما لا يحتمل إلا معنى واحدا حمل عليه، وما احتمل معنيين أو أكثر، فإن وضع لأشياء متماثلة كالسواد حمل على الجنس عند الإطلاق، وإن وضع لمعان مختلفة فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر إلا أن يقوم الدليل (¬3). قال أبو حيان: التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك» (¬4). ويمكننا أن نستنتج من مجمل هذا التعاريف خصائص كل من التفسير والتأويل كما يلي: أولا: خصائص التفسير: 1 - أكثر استعمال التفسير في الألفاظ والمفردات. 2 - مهمة التفسير بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازا. 3 - غاية التفسير كشف معاني القرآن وبيان المراد منه. 4 - يعتبر في التفسير الاتباع والسماع. 5 - التفسير يتعلق بالرواية. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 4، ص 168. (¬2) انظر البرهان، ج 2، ص 150. (¬3) انظر البرهان، ج 2، ص 150. (¬4) انظر الإتقان، ج 4، ص 169.

ثانيا: خصائص التأويل:

وهذه الخصائص تجعل مهمة المفسر محددة ومنضبطة، فلا يملك أن يخرج عن حدود مهمته، سواء من حيث ارتباطه بالاتباع والسماع أو من حيث وقوفه عند حدود بيان معاني الألفاظ والمفردات، وظاهر هذا التقييد يفيد أن المهمة البيانية للمفسر لا تؤهله لدور الاستنباط الذي يتطلب جهدا يتجاوز حدود البيان، والاستنباط هو غاية المفسر، وبخاصة فيما يتعلق بآيات الأحكام. ثانيا: خصائص التأويل: 1 - موطن التأويل في المعاني والجمل. 2 - غاية التأويل تفسير باطن اللفظ وإخبار عن حقيقة المراد. 3 - التأويل يعتمد على الترجيح ولا مجال للقطع فيه. 4 - التأويل يتعلق بالدراية. وهذه الخصائص تجعل التأويل مرحلة متقدمة في التفسير ولا يستغنى عنه، لأنه يتعلق بالمعاني والجمل، ولأنه يكشف عن حقيقة المراد، وهذا الاختلاف في تعريف كل من التفسير والتأويل يؤكد غموض المعنى المراد بالتأويل، والحرص على أن يظل كل من التفسير والتأويل ملازما للآخر ومتتمما دوره في بيان المعاني الغامضة وكشف النقاب عن المراد. وبالرغم من وضوح الخصائص لكل من التفسير والتأويل، فإن التداخل بين اللفظين واضح، ومن الصعب وضع معيار دقيق يحدد مواطن التفسير والتأويل، وما يعتبر من التفسير وما يعتبر من التأويل. ولعل هذا هو السبب الذي دفع طائفة من العلماء إلى القول بأن كلا من التفسير والتأويل يدلان على معنى واحد. ومع هذا، فإن السليقة العربية التي تعتبر حجة في دلالات الألفاظ والاستعمالات اللغوية لتلك الألفاظ، ومواطن وكيفيات استعمال القرآن للفظة التأويل تجعلنا نقف أمام لفظة التأويل مستوحين منها معاني ودلالات ليست هي نفس الدلالات المستوحاة من لفظة التفسير، فالمعنى البياني واضح في لفظة

التفسير، وليس الأمر كذلك فيما تدل عليه كلمة التأويل، فالتأويل أدق وأعمق، ويحتاج لموهبة خاصة وقدرة متميزة، وإذا كان العقل هو أداة المفسر واللغة هي وسيلته، فإن القلب هو أداة التأويل وهو أداة الفهم، وهو موطن النقاء والصفاء في الإنسان، وليس المراد بالقلب ذلك الجزء النابض بالحياة، وإنما المراد به الخصوصية الإنسانية التي أناط بها الله تعالى مهمة الفقه والفهم، فإذا ختم الله على قلب الإنسان أصبح عاجزا عن الفهم، وعن إدراك المراد، والقلب المعمر بالتقوى والصلاح، يملك من أدوات الفهم وإمكاناته ما لا يملكه القلب الغافل المثقل بالأوساخ والحجب والستائر التي تحجب القلب عن إدراك الحقائق، فيدرك منها ما لا ينفعه ولا يضره، وقد يقوده عقله المحجوب بالغفلة إلى ضلال في الفهم وسقم في التأويل، فلا يحسن الفهم، ولا تستقيم رؤيته. وليست هناك في موطن التفسير والتأويل ألفاظ ومعاني ينفصل بعضها عن البعض الآخر، بحيث يختص التفسير بألفاظها والتأويل بمعانيها، وإنما هناك أدوات للفهم، ووسائل للتعبير وهي ضرورية للفهم، فإذا استوعب المفسر كل أدوات التفسير الضرورية كمعرفة معاني المفردات وكل ما يحيط بالنص المراد تفسيره من بيان وتوضيح أدرك بخصوصيته الإنسانية النقية الصافية «حقيقة المراد» واستقرت في نفسه بطريقة تلقائية غير متكلفة وبانت له واضحة متيقنة وكأنه يراها بحواسه. واستعمل القرآن الكريم لفظة «القلب» كثيرا، والقلب في القرآن ليس هو القلب الصنوبري النابض، وإنما هو الخصوصية الإنسانية. فالقلب هو موطن الإنابة وموطن الذكرى وموطن الإثم وموطن الاطمئنان وموطن الهداية وموطن الغفلة وموطن المرض وموطن الختم وموطن الرعب وموطن الفقه، وموطن الزيغ وموطن الاشمئزاز وموطن الرحمة وموطن القسوة وموطن التآلف وموطن الطهر (¬1)، وكرر القرآن استعمال لفظة المرض في معرض وصفه للقلوب الغافلة القاسية، وعند ما يطبع الله على قلوب بعض الناس فإنهم لا يفقهون. ¬

_ (¬1) هذه الأوصاف مستنبطة من القرآن الكريم في موطن الحديث عن القلب.

ولهذا فالتفسير يتطلب من المفسر نقاء في القلب لكي يدرك حقيقة المراد من معاني الألفاظ، فالألفاظ أدوات للتعبير والإنسان هو المخاطب، ولكي يدرك الإنسان فحوى الخطاب، فلا بد من أن تكون أداة الفهم نقية صافية لم تشوهها توجهات سابقة وتنحرف بها، ولم تحجبها حجب عن إدراك المعاني المقصودة. وتظل كلمة التأويل خاضعة للتفسير والبيان، لتحديد ما المراد بالتأويل، فبعض العلماء ذهب إلى أن التفسير مختص بالرواية والتأويل مختص بالدراية. ولا أظن أن هذا الأمر يخضع لهذا المعيار، إذ لا يمكننا اعتبار التفسير قاصرا على الرواية وخاليا من الدراية، فهذا معنى يحمل بعض الانتقاص من مكانة العلماء الذين عرفوا بالتفسير، ولعل المعنى الأقرب في هذا المجال أن التفسير جهد خاضع لمعايير بيانية، ولا بد في التفسير من رواية ودراية، وإذا خلا التفسير من الدراية، فقد خلا من قيمته البيانية والتوضيحية، وإذا كانت الرواية كافية في مجال التفسير بالمأثور، فإن التفسير بالرأي لا بد فيه من دراية واسعة، ولا يحسن هذا النوع من التفسير إلا من أوتي سعة من علم ومعرفة. وتختلف معاني التأويل بحسب موقع اللفظة في الجملة، فأحيانا تفيد معنى التفسير، وتكون مرادفة لها، وأحيانا تفيد معنى مغايرا للتفسير، بحيث يكون التأويل فيما يخرج عن نطاق مهمة التفسير، بسبب غموض المعاني وعدم وضوحها، وبخاصة فيما يتعلق بالقضايا التي لا تخضع للمقاييس العقلية، ولا تقدم الألفاظ في معانيها اللغوية ما يفيد في كشف الخفاء عن المراد، ويكون التأويل هنا هو بذل جهد متميز في استكشاف المراد، ويحتاج هذا الجهد إلى كفاءة علمية وقدرة ذاتية، وموهبة متميزة وحكمة مكتسبة. ومن الطبيعي أن يقع الاختلاف في حكم التأويل واتجاهاته، وبخاصة إذا لم يلتزم المتصدي للتأويل بالضوابط اللغوية والشرعية، وعندئذ يكون التأويل مطية للانحراف والزلل، ولذلك يجب وضع ضوابط دقيقة، لكي يكون التأويل سليم الاتجاه مقبول المعاني، وأهم هذه الضوابط أن يكون منسجما مع قواعد الإسلام ومبادئ العقيدة.

أهم ضوابط التأويل

[أهم ضوابط التأويل] وأهم ضوابط التأويل ما يلي: أولا: أن يكون المعنى مما يمكن استنباطه من النص، ومما تدل عليه اللغة من دلالات ومعاني، والتأويل الذي لا تفيده اللغة لا يمكن الاعتداد به وقبوله، لأنه لا سند له من اللغة، وكيف يستنبط معنى من لفظ لا يدل عليه ولا يفيده، ومن حقنا أن نطرح على صاحب التأويل سؤالا يبين لنا فيه وجه الاستدلال وكيفية الاستنباط، ولا بد له من دليل حسي على ذلك، ولو وقع التسامح في هذا الشرط لأدى ذلك إلى انحراف مؤكد. ثانيا: أن يكون المؤول عالما باللغة عارفا قواعدها ملما بمعاني الألفاظ، مستوعبا ما قاله العرب في معانيها ودلالاتها، لأن التأويل سواء اتفق في دلالته مع التفسير أو اختلف معه، لا يمكن أن يكون بمعزل عن المعاني المستفادة من الألفاظ، ولا يمكن للتأويل أن يكون مجرد عبث، ولو سلمنا بوضوح معنى الإلهام في التأويل، فهذا الإلهام يعبر عن قدرة المؤول في توجيه الألفاظ القرآنية نحو معاني خفية ليست مدركة لدى المفسر، ويمكن إدراكها بقوة التأويل ودقة صاحبه، بحيث يلتفت الذهن إلى أهمية المعنى المستنبط من تلك الألفاظ. ثالثا: استقامة المؤول وسلامة عقيدته، وهذا الضابط غايته ضبط حركة الفكر لكي تكون صحيحة المنطلق صادقة التعبير عن رؤية فكرية، نزيهة في تجسيدها لقدرات الإنسان على استلهام معان دقيقة يعجز عنها المفسر الذي يتوقف غالبا عند حدود المعاني المتبادرة إلى الذهن الواضحة الدلالة. رابعا: أن يكون الحكم المستنبط عن طريق التأويل واضح الانسجام مع التصور القرآني العام في إقراره لمبادئ الإسلام وعقيدته وأن يكون مؤكدا لقيم إسلامية ثابتة، داعيا إلى ترسيخ معاني العقيدة في النفوس، فإذا كان التأويل مناقضا لعقيدة الإسلام ناسخا لأحكام ثابتة في القرآن، مشوها مبادئ الفطرة الإسلامية مشجعا نمو عقائد منحرفة فهذا تأويل واضح البطلان لأمرين: الأمر الأول: آثاره الضارة على الفكر الإسلامي، وإثارته للفتنة، ودعوته إلى فساد العقيدة.

الأمر الثاني: عدم استناده إلى دليل من لغة أو سند من قرآن أو حديث، وإذا افتقد التأويل سنده اللغوي والشرعي وثبت ضرره في مجال العقيدة، كان تأويلا فاسدا ووجبت مقاومته والتنبيه على فساده وخطره. وإذا كنا تكلمنا عن خصائص التأويل، وأنه تفسير خفي وأنه يدخل في علم الدراية، وأن جانب الإلهام واضح فيه، فإن هذه الخصائص لا تنفي عنه صفة التأويل المرتبط بالنص، فإذا انتفت صلة التواصل والانتماء بين النص والتأويل انتفت شرعية ذلك التأويل، وأصبح من نوع العبث الدال على الجهل، ولو وقع إقرار هذا النوع من التأويل لتجرأ الجهلة على القرآن، وفسروا آياته تحت شعار التأويل بما شاءت لهم انحرافاتهم أن يقرروه، واختلط التأويل السليم الصحيح الذي يدل على عمق في الفهم ودقة في الإدراك بالتأويل الفاسد والسقيم الذي يدل على جهل صاحبه. وهذه الضوابط ضرورية وهامة، ولا يجوز التساهل فيها، وإذا جاز لنا أن نقبل تأويل العلماء وأن نستفيد من آرائهم وتصوراتهم وأن نشجع حرية الرأي ونحترم قدسية الفكر فلا يجوز لنا أن نقبل الفكر السقيم ولا أن نسمح للجهال بأن يعبثوا بمعاني القرآن، إرضاء للعوام واستجابة للجهلة والمنحرفين. قال أبو القاسم محمد بن حبيب النيسابوري: وقد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل، ما اهتدوا إليه، لا يحسنون القرآن تلاوة، ولا يعرفون معنى السورة أو الآية، ما عندهم إلا التشنيع عند العوام، والتكثر عند الطغام، لنيل ما عندهم من الحطام، أعفوا أنفسهم من الكد والطلب وقلوبهم من الفكر والتعب، لاجتماع الجهال عليهم وازدحام ذوي الأغفال لديهم، لا يكفون الناس عند السؤال، ولا يأنفون عن مجالسة الجهال، مفتضحون عند السبر والزواق، زائغون عن العلماء عند التلاق (¬1). ¬

_ (¬1) انظر البرهان للزركشي، ج 2، ص 152.

الفصل الخامس: ترجمة القرآن

الفصل الخامس: ترجمة القرآن لا خلاف بين العلماء في أن الإعجاز القرآني يتمثل في أسلوب القرآن، ودقة ألفاظه، وذلك التوافق والانسجام بين اللفظ والمعنى المراد، بحيث يصور اللفظ المعاني أدق تصوير، بحيث تبرز عظمة القرآن في روعة ألفاظه وجمالها، وذلك التناسق العجيب بين اللفظ والمعنى، والتكامل والترابط بين الألفاظ، بحيث تكون اللفظة اللغوية معبرة أدق تعبير عن المعنى المراد، ولو وقع أي إبدال أو تغيير في الألفاظ المترادفة لاختلت المعاني واضطرب الأسلوب. إن كل لفظة في القرآن تعبر عن الإعجاز وتمثل جانبا من جوانبه وتصور عظمة الأسلوب القرآني، ولا مجال لإبدال كلمة بأخرى أو لفظة بما يماثلها، إذ لكل لفظة موسيقاها الخاصة بها من حيث موقعها من الكلام، ومن حيث دقة تعبيرها عن المعنى المراد. وإبدال لفظة بأخرى ولو كانت مماثلة للمعنى، تخل بالمعنى العام، وتوجد حالة من التوقف في ذلك النسق القرآني، وكأن الآية ليست هي الآية، وكأن المعنى ليس هو المعنى، فالقرآن وحدة متكاملة، من حيث ألفاظه ومعانيه ورسمه وأداؤه، ولو كتب بغير الرسم القرآني لما أدى نفس المشاعر التي يولدها الرسم القرآني في كيفية تعبيره عن الكلمات القرآنية. ولا يتصور من الناحية العقلية أو الفعلية أن تقع ترجمة القرآن من اللغة العربية إلى لغة أخرى، فالترجمة جهد بشري، ويقع التفاوت فيه، من حيث اختيار المفردات، ولهذا تتعدد الترجمة وتتباين ألفاظها، ويختلف الحكم عليها من حيث الدقة والضبط. وإذا كان من العسير على المفسر في نطاق اللغة العربية أن يستبدل لفظة قرآنية بما يماثلها أو يفسرها بما يدل عليها، فإن من المستحيل على من يريد ترجمة القرآن أن يجد الكلمة المعبرة عن المعنى القرآني فضلا عن استحالة الحفاظ على روعة الألفاظ القرآنية التي تعتبر من مظاهر الإعجاز القرآني.

وكيف يمكن لمترجم أن يعبر عن الألفاظ المتشابهة الدالة على معان متعددة، وأي المعاني هي الأولى والأقرب ... وإذا ثبت من الناحية الواقعية استحالة ترجمة القرآن إلى أية لغة أخرى وجب علينا القول بأن أية ترجمة للقرآن لا تعتبر قرآنا، لأن هذه الترجمات لا تخلو أولا من أغلاط في الترجمة، وثانيا لا يمكن توحيدها، لأن تفسير المترجمين للألفاظ القرآنية ليس واحدا، وإذا أمكن توحيد تفسير تلك الألفاظ، فإن من الصعب اختيار الكلمات المعبرة والدالة على تلك المعاني. وهنا نجد أنفسنا أمام حقائق أساسية: أولا: ترجمة القرآن غير ممكنة، من الناحية اللغوية، لتعدد المعاني المحتملة للألفاظ، وهذا أمر لا مجال لإنكاره، ومن اليسير أن يدرك حقيقته كل من كابد مهمة الترجمة ووقف أمام الألفاظ حائرا مترددا لا يدري بأي المعاني يأخذ، وأي الألفاظ يختار. ثانيا: كل ترجمة للقرآن لا يمكن أن تكون قرآنا، وإذا انتفت قرآنية النص المترجم انتفت معه كل خصوصيات النص القرآني المتعبد بتلاوته، ولا خيار لنا في هذه الحالة إلا أن ننظر للقرآن المترجم نظرتنا إلى كتب التفسير المختصرة من حيث هي مصادر للتوضيح والبيان، تيسر المعاني وتقربها إلى القراء، وتساعد على معرفة القرآن. ثالثا: لو جازت ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى، واعتبر النص المترجم قرآنا لتعددت نصوص القرآن وتكاثرت لغاته وتباينت معانيه، وضعف الاهتمام بالنص الأصلي المعجز الذي لا يأتيه الباطل، وفي هذا فتنة لا مجال لحصرها، وإذا أمكن التحكم في مسار القرآن المترجم على المدى القصير، فإن من الصعب التحكم في ذلك على المدى البعيد، وربما أصبحت النصوص المترجمة نصوصا أصلية تفسر ويترجم منها ويحتج بها، مما يؤدي إلى خطر محقق، وبخاصة إذا وقع التنافس بين الشعوب الإسلامية، واحتجت كل أمة بقرآنها الذي احتضنته

مدى الحاجة إلى ترجمة القرآن:

وأمسكت به واعتزت بنصوصه، وهذا طريق محاط بالأشواك والأخطار، ومن الواجب تطويق الأخطار قبل أن يستفحل أمرها، وأن يمنع كل أمر يمكن أن يؤدي إلى خلاف وانقسام. وهذا يؤكد لنا أن ترجمة القرآن ليست ممكنة من الناحية الواقعية، وكل ترجمة للقرآن لا تعتبر قرآنا، ولا يجوز أن يطلق عليها لفظ القرآن، إلا عن طريق المجاز. مدى الحاجة إلى ترجمة القرآن: بالرغم من كل ما يقال عن استحالة ترجمة القرآن، فإن ترجمة القرآن إلى لغات الشعوب الإسلامية أمر ضروري، إذ لا يمكن لتلك الشعوب أن تقرأ القرآن بلغته العربية، وهي بحاجة إلى معرفة ما اشتمل عليه القرآن من معان وحكم، ونقل هذه المعاني من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى ليس أمرا محرما وليس ممنوعا، بل هو أمر مطلوب ومفيد، وفيه مصلحة واضحة، ومن حق كل مسلم أن يعرف معاني القرآن بلغته. وإذا أثبتنا استحالة ترجمة القرآن بطريقة حرفية، لأن أية ترجمة لا يمكن أن تستوعب جميع دلالات الألفاظ العربية، ولا أن تتضمن جميع المقاصد المستفادة من النص القرآني، فإن الترجمة النسبية ممكنة، ويحرص المترجم من خلالها على أن يختار الكلمة المعبرة عن الكلمة الأصلية بقدر الطاقة البشرية، وبحسب ما يتراءى له أنه الأصح والأدق، سواء من حيث فهمه للفظة القرآنية، أو من حيث اختياره للكلمة المرادفة لتلك اللفظة، وفي جميع الأحوال فإن أية ترجمة للقرآن مهما بلغت درجة إتقانها ودقتها، لا يمكن أن تكون قرآنا. وذهب الزرقاني في كتابه: «مناهل العرفان في علوم القرآن» إلى تقسيم ترجمة القرآن إلى قسمين: - ترجمة حرفية: وهي غير ممكنة، لأنها تتطلب وجود مفردات متماثلة في اللغة المترجم إليها، واللغة المترجم منها، بحيث تترجم اللفظة بما يماثلها ويعبر

عنها، وهذا أمر غير ممكن، لعدم إمكان التماثل في اللغات، ولأن كل لفظة تدل على معنى قد لا تدل عليه اللفظة المماثلة في اللغة الأخرى، ولو أمكنت الترجمة الحرفية لتماثلت الترجمات وتوحدت، ولما وقع الاختلاف بين المترجمين في كيفية الترجمة وفي اختيار الألفاظ المعبرة عن المعنى الأصلي. - ترجمة تفسيرية: وهذه ممكنة من الناحية الواقعية، أولا: لأنها تعتبر الترجمة نوعا من التفسير، وثانيا: لأنها تنفي عن الترجمة صفة الترجمة، ولا تعتبر الترجمة في ظل هذا المفهوم ترجمة للقرآن، وإنما هي نوع من التفسير. وكلمة التفسير ليست ملائمة في مجال الترجمة، فالترجمة ليست تفسيرا، وشروط الترجمة ليست هي شروط التفسير، وكلمة الترجمة التفسيرية تنفي عن الترجمة صفة الترجمة، لأن المفسر لا يكلف بما يكلف به المترجم من الالتزام باختيار الكلمة المماثلة، فإذا جاءت الكلمة غامضة فليس من حق المترجم أن يفسر غموضها، بخلاف المفسر، فهو مكلف بإزالة الغموض، وإذا كانت اللفظة محتملة لمعان عدة وجب على المترجم أن يأتي باللفظة المحتملة لنفس المعاني والدلالات، وليس من حقه أن يختار ويرجح، بخلاف المفسر فمن واجبه أن يبين ويوضح ويرجح، ولهذا فإن استعمال كلمة «الترجمة التفسيرية» ليست دقيقة في هذا المجال، لاختلاف معاني التفسير عن الترجمة. وبالرغم من أنني استعملت كلمة الترجمة التفسيرية في بعض كتبي (¬1) تعبيرا عن معنى الترجمة النسبية، واعتبرت ذلك هو الترجمة الممكنة، فإنني أؤكد أن الكلمة ليست دقيقة، فالترجمة صيغة بديلة عن الأصل، ولا تنفصل عنه، وتفي بجميع معاني الأصل ومقاصده، وكلمة التفسير لا تلزم المفسر بالإتيان بالصيغة البديلة عن الأصل، والتفسير في اللغة هو البيان والتوضيح، والترجمة لا تعني البيان والتوضيح، وإذا قام المترجم ببيان الأصل وإزالة غموضه، فهو مفسر وليس مترجما، وتحكمه مقاييس التفسير وليس مقاييس الترجمة. ¬

_ (¬1) انظر مبادئ الثقافة الإسلامية للمؤلف ص 156 - 157، طبعة دار البحوث العلمية.

الفرق بين الترجمة والتفسير:

ولعل كلمة «الترجمة النسبية» هي الأدق، فليست هناك ترجمة حرفية، وكلمة الترجمة التفسيرية ليست دقيقة، فالمترجم ليس هو المفسر، ويختلف دور كل منهما عن الآخر، فإذا قصد المترجم التفسير، فقد خرج عن مهمته، ويملك المفسر من حرية التعبير ما لا يملكه المترجم، الذي يكلف بوفاء الترجمة لكل معاني النص الأصلي، وجميع دلالاته، وإذا وقع التساهل في ترجمة كلام البشر، فلا يمكن أن يقع التساهل في ترجمة القرآن، حيث يبرز الإعجاز فيه، ولا يمكن للمترجم أن يكون قادرا على فهم أوجه الإعجاز أو التعبير عنه. الفرق بين الترجمة والتفسير: فرق الزرقاني في مناهل العرفان بين الترجمة والتفسير، وهو على حق في هذا التفريق، وذكر أربعة فروق (¬1): الفارق الأول: صيغة الترجمة صيغة استقلالية، ويراعى فيها الاستغناء بالترجمة عن الأصل، بخلاف التفسير، فإنه يرتبط بأصله ولا ينفصل عنه أبدا، ومهمة المفسر شرح المفردات والجمل، واستنباط المعنى المراد، ولا مكان للتفسير إلا بربطه بالأصل، ويتعدد التفسير وتتباين المعاني المستفادة من النص الأصلي، ويظل الأصل هو الأساس، ولا مجال للقول باستقلال الترجمة القرآنية عن الأصل في جميع الأحوال، مهما بلغت درجة دقة تلك الترجمة، لأن القرآن لا يطلق إلا على القرآن نفسه بلغته وبألفاظه وبمفرداته، ولا يطلق لفظ القرآن على أية ترجمة، وبخاصة وأن الترجمة متعددة والقرآن واحد ولا يتعدد. الفارق الثاني: لا يجوز الاستطراد في الترجمة، لأن الأصل فيها أن تكون مطابقة للنص الأصلي، مساوية له في الألفاظ والمفردات معبرة عن معانيه بدقة وأمانة، ولا يجوز للمترجم أن يفسر أو يوضح. وتتمثل مهمته في النقل الأمين للأصل، ويختلف الأمر بالنسبة للتفسير، فمن واجب المفسر أن يوضح ويبين ويستشهد ويرفع الفحوص، ويرجح المعاني المستفادة، ويوجه مسار النص ¬

_ (¬1) انظر مناهل العرفان للأستاذ محمد عبد العظيم الزرقاني، ج 2، ص 10 - 12.

المفسر ويحكم قبضته عليه بما يملكه من قوة التوجيه ووضوح الأدلة، ولهذا غلب على كتب التفسير أنها تأثرت بشخصية المفسر واختصاصه، ورضخت لآرائه وتوجيهاته واختياراته، وتعددت مناهج المفسرين وتباعدت، وأصاب بعضهم فيما ذهب إليه وأخطأ البعض الآخر، وقسم العلماء التفسير إلى محمود ومذموم، بحسب التزام المفسر بقواعد التفسير الصحيح، وإذا تضمنت الترجمة استطرادا أو تفسيرا أو ترجيحا وتوجيها فلا تعتبر ترجمة، ولا بد من الترجيح في الترجمة لأن المفردات التي تحتمل أكثر من معنى تتطلب من المترجم أن يختار أو يرجح أحد المعاني المحتملة، ولا خيار له في ذلك، فإذا لم يرجح أحد المعاني وجب عليه أن يورد جميع المعاني المحتملة، وهذا أمر غير ممكن في الترجمة. الفارق الثالث: يفترض في المترجم أن يأتي باللفظ المتضمن لجميع معاني الأصل، ولا يلتمس له العذر فيما قصر فيه، لأن الترجمة تتطلب ذلك، وليس من حقه أن يستبدل لفظة مرادفة للأصل بلفظة أخرى أوضح دلالة على المعنى، لأن غموض الأصل في بعض المواطن يحمل دلالات معينة، ويجعل النص قابلا للتفسير المتعدد، فإذا اختار المترجم تفسيرا واحدا فقد ضيق الخناق على المعنى المترجم وقصره على بعض معانيه، ويختلف الأمر بالنسبة للمفسر، فمن حقه أن يختار من المعاني ما يراه أقرب، ومن حقه أن يرجح وأن يوجه النص لاستنباط حكم تراءى له، فالمترجم ناقل والمفسر متحكم، وسلطة المفسر أوسع وسلطة المترجم ضيقة وأكثر مشقة. الفارق الرابع: يفترض في المترجم أن يؤكد أن المعاني المستفادة من اللفظ المترجم أو من النص المترجم تفيد نفس المعاني والدلالات المستفادة من النص الأصل، فإن أفاد النص المترجم معنى ليس واردا في النص الأصلي، فهذا خطأ فادح، وتحريف للأصل، وانحراف عنه، ونسبة معنى مستفاد من أصل لأصل، لا يفيد ذلك المعنى، وهذا أمر بالغ الخطورة، ولهذا فإن مسئولية المترجم كبيرة، ولا بد له من الإحاطة بكل ما يفيده النص الأصلي من دلالات، وما يفيده النص

المترجم من معاني، فإذا لاحظ خللا في المعاني المستفادة وجب عليه أن يعيد النظر في الترجمة، فيصحح منها ما يحتاج إلى تصحيح، ويستبدل من الألفاظ ما يحتاج إلى إبدال، ويقوّم أسلوب الترجمة من تقديم وتأخير إلى أن يجد التوافق في المعاني بين الأصل والفرع، بحيث يعبر كلا منهما عن الآخر، وبحيث لو تم الاستغناء عن الأصل لأفاد الفرع المترجم نفس المعاني، وهذا من المحال في مجال ترجمة القرآن، ومن العبث أن يحاول مترجم بلوغ تلك الغاية، وليس الأمر كذلك بالنسبة للمفسر الذي لا يكلف بهذه الإحاطة، وليست هذه مهمة التفسير. ومن منطلق أهمية ترجمة القرآن، وعدم إمكان ذلك من الناحية الفعلية ذهب بعض العلماء إلى جواز الترجمة، واعتبرت تلك الترجمة «ترجمة تفسيرية»، فهي ليست ترجمة حرفية وهي ليست تفسيرا، ووضعوا ضوابط للترجمة التفسيرية، ومن أهم هذه الضوابط ما يلي (¬1): أولا: أن تكون الترجمة على شريطة التفسير، والغاية من هذا الشرط ضبط الترجمة، وتقييد حرية المترجم بحيث يتقيد في ترجمة المفردات بما دلت عليه اللغة العربية، وبما فسرت به السنة النبوية تلك المفردات، وبما دلت عليه الشريعة من معان موضحة لبعض المصطلحات، والمترجم في هذه الحالة، يتقيد بالمعنى التفسيري المنقول، ولا حرية له في تفسير أو توضيح، ويؤخذ على هذا الشرط أن كلمة الترجمة في معناها الأصلي تختلف عن معنى التفسير، فالتفسير قد يكون بنفس اللغة، وقد يكون بلغة أخرى، والترجمة هي أمر آخر، فالمترجم لا يفسر، ولا يملك حق التفسير، بخلاف المفسر، فلا ينكر حقه في التفسير والتوضيح، ومن الصعب وضع ضوابط دقيقة للتفريق بين التفسير والترجمة التفسيرية وكلمة التفسير ليست دقيقة في مجال الترجمة، لاختلاف طبيعة مهمة كل من المفسر والمترجم. ثانيا: أن يلتزم المترجم بالموضوعية والحياد والإنصاف، وألا يكون صاحب بدعة أو دعوة، فإن كان مؤمنا بعقيدة منافية لعقيدة الإسلام، أو ملتزما ببدعة ¬

_ (¬1) انظر التفسير والمفسرون للدكتور محمد حسين الذهبي، ج 1، ص 29، طبعة دار الكتب الحديثة.

مغايرة لما أجمع عليه المسلمون، فلا يمكن الاطمئنان إلى سلامة ترجمته للقرآن، لاحتمال أن يترجم القرآن بما يخالف معناه المأثور عن الصحابة والتابعين، وهذا الشرط ذكره العلماء في مجال شروط المفسر، والمترجم ليس هو المفسر، فالمترجم تحكمه ضوابط ومقاييس في الترجمة من حيث دقة اختياره للمفردات، وليس الأمر كذلك بالنسبة للمفسر الذي يملك حرية التفسير بما يحتمله اللفظ من معان ودلالات، ومن اليسير اكتشاف الخطأ في عمل المترجم، أو عدم الدقة في اختيار المفردات المعبرة عن معنى الأصل. فقد يملك صاحب بدعة من أدوات الترجمة ما لا يملكه صاحب استقامة من حيث إلمامه بمعاني المفردات في كل من اللغتين، والمترجم منها والمترجم إليها، وما لم يقم دليل على قصد لتزوير المعاني القرآنية، وتحويرها عن معانيها، وإهمال في اختيار المفردات الدقيقة أو جهل باللغة العربية، فإن الترجمة تخضع لمقاييس موضوعية، ومن اليسير ضبط تلك المقاييس، وتتبع احترامها والالتزام بها، والحكم على الترجمة حكما موضوعيا، من حيث الدقة والالتزام، فقد تقبل الترجمة في لفظة أو آية، وترفض في لفظة أو آية أخرى، ويحكم على الترجمة بحسب دقتها، فإن كثرت أخطأ المترجم، وتجاوزاته حكم عليه بالجهل وردّت ترجمته، ووجب تنبيه الناس إلى تلك التجاوزات وبخاصة إذا كانت فاحشة فاسدة المعنى. ولسنا بحاجة إلى اشتراط إتقان المترجم لكل من اللغتين المترجم منها والمترجم إليها، فهذا شرط بدهي لا تتصور الترجمة بدونه، إذ كيف يمكن لجاهل بالعربية أن يفهم معاني القرآن، وإذا عجز عن الفهم عجز عن الإتيان باللفظة المعبرة عن المعنى باللغة الأخرى، وإذا أتقن العربية، فلا يمكنه أن يترجم إلى لغة أخرى، إلا أن يكون متقنا لتلك اللغة، ممسكا بزمام مفرداتها مالكا ناصية أمرها، والإتقان المطلوب لكل من اللغتين، ليس هو إتقان حفظ ومعرفة بالمفردات، وإنما هو إتقان فهم للدلالات اللغوية وإتقان أسلوب تتميز به كل لغة عن اللغة الأخرى، وفضلا عن ذلك فالترجمة تحتاج إلى موهبة خلاقة

وذكاء ودقة وحسن فهم وعمق إدراك، فلا يكتفي في الترجمة أن تكون قاصرة على استبدال لفظة بأخرى، أو الإتيان بلفظ مكان لفظ، فهذا مما يحسنه الكثير والترجمة أعمق من ذلك وأدق، وهي عمل متكامل، يجري تصحيحه وتقويمه باستمرار، إلى أن يستوي قريبا من الكمال دقيقا في استيعابه للمعاني والدلالات المطلوبة. والملكة اللغوية هي أساس كل عمل جدير بالتقدير، ولا بد من ملكة الإجادة في الترجمة، وهي ملكة نابعة من حسن فهم معاني القرآن باللغة العربية، وعمق ما يدل عليه الأسلوب القرآني من مقاصد وغايات وتوجيهات. ثالثا: الأهلية والكفاءة والقدرة، وهذا هو الشرط الذي يعبر عن كثير مما يجب أن يتوفر في المترجم سواء كان فردا أو هيئة من أهلية وكفاءة وقدرة، ومعرفة كل من اللغتين يدخل ضمن هذا الشرط إلا أن كلمة الأهلية أولى وأوسع، فليس كل عالم باللغتين مؤهلا للقيام بترجمة القرآن، كما أن ليس كل عالم بالعربية مؤهلا لتفسير القرآن وفهمه، فقد ينحرف في تفسيره، وقد يضله علمه فتلتبس عليه المعاني، وتضيق عليه الخناق، فلا يهتدي إلى الطريق، ولا بد في فهم القرآن من «أهلية» تتجاوز حدود المعايير اللغوية، فمن ختم الله على قلبه بالغفلة وسوء الفهم فلا يتوقع منه خير، وكم من عالم أحاط بعلم الأولين واستوعب كل الكتب ومع ذلك فقد ضل طريقه، لأن المعرفة تحتاج إلى بصيرة ثاقبة وأهل البصيرة يدركون بنور تلك البصيرة ما لا يدركه أهل البصر، فالبصر يحتاج إلى نور، والنور عطاء من الله يمن به على من اطمأن قلبه بذكر الله، وخشعت جوارحه بطاعة الله. وفي كل ترجمة للقرآن يجب أن يذكر نص القرآن بلغته العربية، والتأكيد على أن ذلك النص العربي هو القرآن، بألفاظه وبرسمه، وبترتيبه، وما عداه فهو ليس القرآن، والقرآن لا يتعدد، فليس هناك قرآن باللغة العربية، وقرآن آخر بلغات أخرى، وليس لأية ترجمة للقرآن ما للقرآن من أحكام، سواء من حيث التعبد بقراءته أو من حيث وحدة نصوصه، فالترجمة تتعدد وتقبل الخطأ

والصواب، ويجري عليها ما يجري على أية ترجمة من حيث التقويم والتصحيح والمراجعة والتدقيق في عمل متواصل لا يتوقف، بحثا عن الترجمة الأفضل والأدق. وأعتقد أن ترجمة القرآن لا يمكن أن ينهض بها فرد مهما بلغت درجة إتقانه، وارتقت مداركه، فالقرآن ليس كتابا كبقية الكتب تحكمه قدرات عادية، ويلتمس العذر لمترجمه في حالتي التقصير أو الخطأ، ويجوز لأي فرد أن يترجم لنفسه آية أو سورة أو يترجم القرآن نفسه، ولكن لا يجوز أن تنشر ترجمة القرآن الفردية إلا بعد أن تعتمد الترجمة وتراجع وتدقق من قبل جهات علمية مختصة، وأقترح في هذا المجال أن يتم إنشاء «هيئة علمية مختصة» (¬1) تضم كفاءات قادرة في مجال اللغة والتفسير، وفي مجال الدراسات اللغوية المقارنة، تعكف لمدة سنوات على إعداد ترجمة نسبية للقرآن الكريم، تقترب أكثر من المعنى الأدق للمفردات القرآنية، وتعبر عن المراد من الآية، ثم يطرح مشروع الترجمة الأول للحوار والنقاش، يهدف إلى مزيد من الدقة إلى أن يقع اعتماد الترجمة النهائية، التي تمثل الحد الأقصى الممكن من ترجمة القرآن، ثم تقع مراجعة هذه الترجمة بين فترة وأخرى، وتلحق بالترجمة ملاحق بيانية توضح المعاني الممكنة والمحتملة، والأسباب التي دفعت اللجنة المختصة لاختيار اللفظة المعتمدة، وهذه الدراسات البيانية الملحقة بالترجمة هي الأهم لأنها تحقق الأهداف التالية: أولا: تنفي عن الترجمة صفة القرآن، وتؤكد للباحثين أن الترجمة جهد بشري محتمل للخطأ والصواب، وأنه قابل للحوار والنقاش، ومن حق أي مختص أن يناقش الترجمة المعتمدة منتقدا اختياراتها وترجيحاتها، مبينا ملاحظاته الموضوعية شارحا وجهة نظره في الدلالات الممكنة لكل لفظة تحتمل معاني عدة. ثانيا: تحدث علما جديدا في إطار الدراسات القرآنية يعطي المعاني المحتملة للمفردات القرآنية في اللغات المختلفة. وتعتبر هذه الدراسات نواة لعلم التفسير في اللغات المختلفة بحيث تتداخل الترجمة والتفسير، في إطار المفردات الدالة ¬

_ (¬1) انظر مبادئ الثقافة الإسلامية للمؤلف، ص 158.

على معنى واحد أو معاني متقاربة، وهذا العلم واضح الأهمية في مجال الدراسات القرآنية، يغني هذه الدراسات، ويعمق مباحثها وينمي معارف جديدة في مجال التفسير. ثالثا: تقضي على الترجمات الفردية المليئة بالأخطاء سواء بسبب نقص في الإمكانات العلمية لدى المترجم أو بسبب سوء قصد يهدف إلى تشويه المعاني القرآنية، ومن واجب أمتنا في مجال الترجمة، وفي مجال الاجتهاد وفي مجال التقنين أن تعتمد أسلوب العمل العلمي المتقن، الذي يخفف من الأخطاء والتجاوزات ويعطي للجماعة دورها في إثراء فكرنا الإسلامي، فلا تنطلق حركتنا العلمية من خلال وثبات فردية مرتجلة، أو آراء اجتهادية غير مدروسة، تحكمها، وتؤثر فيها نظرات ضيقة قد تكون ضارة في بعض الأحيان، ومع هذا، فإن الجهد الفردي المدروس لا ينبغي تجاهل أثره ودوره، وهو الأكثر شجاعة في اقتحام الجديد من الآراء، وفي تكسير القيود التي غالبا ما تقيد حركة الفكر وتحد من حرية المجتهد. ونخلص من هذا إلى أن ترجمة القرآن ليست هي القرآن، وأية ترجمة لا يمكن أن تجسد معاني الإعجاز القرآني، سواء من حيث الأسلوب البياني أو من حيث المعاني والأحكام والدلالات، ومع هذا فالترجمة أمر لا بد منه، لتعريف المسلمين بأمر دينهم. الترجمة ليست هي التفسير، وما يملكه المفسر لا يملكه المترجم، من حيث حرية التعبير، وتتطلب الترجمة جهدا فائقا وعملا شاقا ومعرفة دقيقة بالقرآن وعلومه واللغات والمفردات والاشتقاقات، وتختلف الترجمة عن التفسير من حيث طبيعة علاقة النص المترجم بالأصل، وتبرز العلاقة قوية في مجال الترجمة حيث يفترض في الترجمة أن تكون معبرة عن الأصل ملتزمة به دالة عليه، وليس الأمر كذلك في مجال التفسير، حيث يقبل الاجتهاد ويتسع مداه، ويلتمس العذر للمفسر في حالة الخطأ ولا يلتمس العذر للمترجم. وإنشاء هيئة مختصة بترجمة القرآن أمر ضروري، ولا بد منه وهو الطريق لضمان ترجمة دقيقة، يقع الاطمئنان لها، والثقة بها.

الفصل السادس: المكي والمدني من القرآن الكريم

الفصل السادس: المكي والمدني من القرآن الكريم اهتم علماء القرآن بدراسة المكي والمدني من الآيات، لأن معرفة ذلك طريق ضروري لمعرفة الناسخ والمنسوخ من الأحكام، ولا يمكن لفقيه أن يعرف الحكم الشرعي إلا بعد أن يدرس الناسخ والمنسوخ، لكي يصل إلى الحكم النهائي الذي استقر عليه الأمر. وبالإضافة إلى هذا فإن معرفة المكي والمدني من الآيات يقودنا برفق في مسيرة الدعوة في رحلة طويلة من بداية المرحلة المكية التي بدأت بعد البعثة إلى نهاية العصر المدني الذي توقف بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكل مرحلة زمنية خصائصها وموضوعاتها وأساليبها وانفعالاتها وأولوياتها. ومن خصائص التشريع الإسلامي أنه نزل متدرجا، وكانت الآيات القرآنية تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم مواكبة لمسيرة المجتمع الإسلامي، محتضنة ذلك المجتمع الوليد، مصححة مسيرته، ومؤكدة سداد طريقه، خاصة إياه على الصبر والتضحية، راسمة له معالم الطريق، مشرعة أحكاما ضرورية لاستقامة أمره، ناصحة له أن يتكافل ويتعاون ويتناصر في سبيل الدفاع عن عقيدته. وكان القرآن هو محور الحركة الاجتماعية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الرمز البشري الذي يحمل مشعل الدعوة، ويجسد قيم الإسلام بخلقه وسلوكه، وكان الوحي هو أداة التواصل بين السماء والأرض، وهو أداة انتقال الرسالة من مصدرها الإلهي إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الطبيعي أن يتوجه اهتمام العلماء والباحثين إلى معرفة المكي والمدني من الآيات، لمواكبة مسيرة الدعوة، ولرصد ذلك التدرج المحكم للتشريع، من بدء الرسالة إلى نهايتها. قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري في كتابه «التنبيه على فضل علوم القرآن»:

اصطلاحات العلماء في المكي والمدني:

«من أفضل علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني وما يشبه نزول المدني في المكي» (¬1). وقال ابن العربي في كتابه الناسخ والمنسوخ: «الذي علمناه على الجملة من القرآن أن منه مكيا ومدنيا وسفريا وحضريا، وليليا ونهاريا وسمائيا وأرضيا، وما نزل بين السماء والأرض، وما نزل تحت الأرض في الغار» (¬2). اصطلاحات العلماء في المكي والمدني: استعمل العلماء في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة: الاصطلاح الأول: يطلق المكي على ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة، ويدخل في مكة كل ما قرب منها من ضواحيها، كعرفات ومنى والحديبية، ويدخل في المدينة ما قرب منها، كبدر وأحد، ولوحظ في هذا التقسيم المكان، وليس الزمان، ومن الصعب في ظل هذا التقسيم تطبيق الخصائص الزمانية المرتبطة بتطور الدعوة، حيث من الصعب دمج الآيات المكية التي نزلت قبل الهجرة والآيات المكية التي نزلت بعد الهجرة في إطار نسق واحد موضوعي وأسلوبي. الاصطلاح الثاني: وهو الأشهر، يطلق المكي على ما نزل قبل الهجرة إلى المدينة، وإن كان بالمدينة، ويطلق المدني على ما نزل بعد الهجرة وإن كان بمكة، وهذا التقسيم لوحظ فيه الزمان وليس المكان، والزمان يجسد المرحلة التاريخية ويعبر عنها، ومن اليسير في ظل هذا التقسيم تطبيق الخصائص الزمانية المتعلقة بكل من المكي والمدني، وهو تقسيم سليم من هذا الجانب، وييسر الأمر على الدارس والباحث. ¬

_ (¬1) انظر البرهان للزركشي، ج 1، ص 192. (¬2) انظر الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 22، طبعة المكتبة العصرية، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

فوائد التفريق بين المكي والمدني:

وبهذا الاعتبار تعتبر آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ضمن الآيات المدنية مع أنها نزلت بعرفة أثناء حجة الوداع. الاصطلاح الثالث: يطلق المكي على ما كان خطابا لأهل مكة، والمدني على ما كان خطابا لأهل المدينة، وبناء عليه، فكل خطاب بدأ بلفظ «يا أيها الناس» فهو مكي، لأن غالب أهل مكة كانوا كافرين، وكل خطاب بدأ بلفظ «يا أيها الذين آمنوا» فهو مدني، لأن غالب أهل المدينة كانوا مؤمنين. أخرج أبو عبيد في كتابه فضائل القرآن عن ميمون بن مهران قال: «ما كان في القرآن يا أيها الناس أو يا بني آدم فإنه مكي، وما كان يا أيها الذين آمنوا فإنه مدني». ولا سبيل إلى معرفة المكي والمدني من الآيات إلا عن طريق الصحابة الذين كانوا يتابعون نزول الوحي، ويعرفون تاريخ نزول كل آية، والأسباب المؤدية إلى النزول. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت؟ ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه». وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: «إنما يرجع في معرفة المكي والمدني إلى حفظ الصحابة والتابعين، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول، لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة» (¬1). فوائد التفريق بين المكي والمدني: اهتم العلماء بدراسة المكي والمدني من الآيات، وتتبعوا أقوال الصحابة في ¬

_ (¬1) انظر الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ج 1، ص 231.

ذلك، ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا عن طريق الصحابة الذين عاصروا وقت النزول، وعايشوا تلك المرحلة الزمنية، واهتمام العلماء بذلك مؤشر واضح على عناية علماء المسلمين بالقرآن، وتوثيق للقرآن، وتتبع لمراحل نزوله، وتحديد لتاريخ كل آية وموطن نزولها. وهذا التفريق ساعد العلماء على تحقيق ما يلي: أولا: تحديد خصائص كل من الآيات المكية والمدنية عن طريق الاستقراء والتتبع، من الناحية الموضوعية والأسلوبية. ثانيا: دراسة مراحل تاريخ الدعوة الإسلامية خلال المرحلتين المكية والمدنية، وتوثيق روايات السيرة النبوية، المرتبطة كل الارتباط بالقرآن والسنة النبوية. ثالثا: معرفة الناسخ والمنسوخ من الآيات والأحكام، وهذا أمر كبير الأهمية، لأن النسخ وقع في القرآن، ومعرفة المتقدم والمتأخر من الآيات هو السبيل الوحيد لمعرفة الناسخ من المنسوخ. رابعا: فهم النصوص القرآنية عن طريق معرفة تاريخ القرآن، والظروف التي أدت إلى نزول الآيات، واستنتاج منهج الدعوة الإسلامية في الخطاب والإقناع. واستطاع العلماء بعد جهد كبير وتتبع دقيق أن يعرفوا المكي والمدني من الآيات، ومن الطبيعي أن يقع الاختلاف في بعض الآيات، نتيجة تعدد الروايات فيها، إلا أن ذلك الالتباس أمكن التغلب عليه، والآيات المكية معروفة والآيات المدنية كذلك. وعدّد «الزركشي في البرهان» والسيوطي في الإتقان كلا من السور المكية والسور المدنية، والسور المكية خمس وثمانون والسور المدنية تسع وعشرون، على اختلاف الروايات، ووقع الاختلاف في اثنتي عشرة سورة، ويبدو أن سبب الخلاف هو أن بعض السور نزلت بين مكة والمدينة أو أن بعضها مكي والبعض الآخر مدني، وهو خلاف يدل على جدية الاهتمام بالأمر، ودقة تتبع الروايات الواردة عن الصحابة.

روى أبو بكر ابن الأنباري عن قتادة قال: نزل في المدينة من القرآن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والحديد، والرحمن، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، ويا أيها النبي لم تحرم، إلى رأس العشر، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله، وسائر القرآن نزل بمكة» (¬1). وقال أبو الحسن بن الحصار في كتابه: الناسخ والمنسوخ: المدني باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة، وما عدا ذلك مكي باتفاق، ونظم ذلك أبياتا. وأول ما نزل بمكة من القرآن اقرأ باسم ربك، ثم ن، ثم يا أيها المزمل، ثم يا أيها المدثر، ثم تبت يدا أبي لهب وتب، ثم إذا الشمس كوّرت، ثم سبح اسم ربك الأعلى .... وهكذا ..... ووقع خلاف في سورة الفاتحة، وذهب الأكثرون إلى أنها مكية، وورد أنها أول ما نزل، وقال مجاهد: إنها مدنية، وقيل: إنها نزلت مرتين، مرة بمكة، ومرة بالمدينة تشريفا لها .. وقيل أيضا: إنها نزلت نصفين، نصفها بمكة، ونصفها بالمدينة، والظاهر أنه النصف الثاني، وقال السيوطي في الإتقان: ولا دليل لهذا القول. وخصص السيوطي في كتابه «الإتقان» فصلا خاصا في ذكر ما استثني من المكي والمدني، ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري: قد اعتنى بعض الأئمة ببيان ما نزل من الآيات بالمدينة في السور المكية، قال: وأما عكس ذلك، وهو نزول شيء من سورة بمكة، تأخر نزول تلك السورة إلى المدينة، فلم أره إلا نادرا» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 28. (¬2) انظر الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 38.

ضوابط المكي والمدني:

ضوابط المكي والمدني: اتفق العلماء على أن السماع والنقل عن الصحابة هو معيار العلم بالمكي والمدني من السور والآيات، إلا أن المعيار لا ينفي أن تكون هناك ضوابط وقرائن مستفادة من استقراء الآيات المكية والمدنية يعرف بها المكي والمدني، وهي ضوابط عامة يمكن ملاحظتها بسهولة ويسر، تؤكد انسجام الآيات المكية مع المرحلة الزمنية في مكة من حيث طبيعة الخطاب والمخاطب وأسلوب الخطاب، وكذلك الأمر بالنسبة للآيات المدنية، والأمر لا يخفى على العلماء الذين درسوا السيرة النبوية، وتتبعوا مراحل التشريع وتدرجه. [خصائص الآيات المكية] ومن خصائص الآيات المكية ما يلي: أولا: من حيث الأسلوب: يلاحظ أن أسلوب الآيات المكية يغلب عليه أسلوب التعنيف والتهديد والتخويف، لأن أهل مكة كانوا مشركين أشداء في عداوتهم قساة القلوب، وكان لا بد من مخاطبتهم بما يلائم حالهم، ويتلاءم مع الوضع النفسي الذي كان قائما آنذاك، ولهذا استعمل القرآن كلمة «كلا» الدالة على الزجر والإنكار، وخاطبهم بلفظة «يا أيها الناس»، وأكثر من قصص الأنبياء بهدف الإقناع، واستشهد بما وقع للأمم السابقة، واستعمل حروف التهجي، وذكر قصة آدم وإبليس ليدلل على الصراع بين الخير والشر والإيمان والكفر، وجاءت الآيات موجزة، والسور قصيرة، وهي مليئة بالقسم. ثانيا: من حيث الموضوع: حثت الآيات المكية على تصحيح العقيدة، ونبذ الشرك، والإيمان بالله وحده، والإيمان بالبعث، ودعت هذه الآيات إلى الالتزام بالأخلاق والاستقامة ومحبة الغير، ورفض كل أنواع الفسوق والعصيان والإضرار بالغير والاعتداء على حقوق الآخرين، ومن الطبيعي أن يقترن ذلك بالتنديد بالعادات التي كانت سائدة في العصر الجاهلي من وأد البنات وعبادة الأصنام وظلم القوي للضعيف، وشرب

خصائص الآيات المدنية:

الخمر وإتيان الفواحش، وأكل مال اليتيم واضطهاد الرجل للمرأة. ولم تكن المرحلة المكية مهيأة لوضع أسس نظام إسلامي، لغياب مكونات ذلك المجتمع، وكان لا بد من توسيع دائرة الدعوة، لكي ينصب الاهتمام أولا على إصلاح العقيدة، عن طريق المقارنة بين الإيمان والكفر، واستخدام العقل البشري كأداة للتمييز والترجيح، والعقل البشري قادر على أن يكتشف الحقيقة، ولهذا استعمل القرآن الكلمات المعبرة عن ثقة الدعوة الإسلامية بالعقل والعقلاء، والاحتكام إلى أهل البصيرة لكي يسلطوا الضوء على ذلك الصراع التاريخي بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والفضيلة والرذيلة، ولا بد في النهاية من انتصار الحق والإيمان والتوحيد والفضيلة، مهما طال الزمن، لأن الاستقامة هي الأصل، والانحراف عن الأصل سرعان ما ينكشف أمره عند طلوع الفجر. خصائص الآيات المدنية: تتميز الآيات المدنية بخصائص تجسد واقع المجتمع الإسلامي الذي يواجه تحديات خارجية تستهدف كيانه ووجوده، وتحديات داخلية تستهدف تنظيم شئونه على قواعد ثابتة تحقق الانسجام بين مبادئ الإسلام وواقع المجتمع الإسلامي. وكان من الضروري أن ينصرف الاهتمام إلى وضع أسس ذلك المجتمع، إذ لا يمكن لأي خطاب أن يتجاهل طبيعة المخاطب وهمومه ومشاغله وقضاياه، وجاءت الآيات المدنية معبرة عن قضايا المسلمين، منظمة شئونهم، مرشدة لهم لكي يختاروا الطريق السليم في التعامل لإرساء الحجر الأساسي في بناء المجتمع الإسلامي، منظمة أحكام الجهاد والمال والحكم والأسرة والعقوبات داعية المسلمين إلى التكافل المادي الذي هو أساس التناصر وعماد الأمن والاستقرار. واختلف أسلوب الخطاب القرآني، واختلفت موضوعاته، وتوجه الخطاب إلى أهل المدينة من مؤمنين ومنافقين ويهود، مشجعا المؤمنين على الدفاع عن وجودهم وكيانهم، محذرا المنافقين من مغبة ما يفعلونه في الظلام من غدر

1 - بيان أحكام التشريع

ناصحا إياهم بالتوبة والتزام طريق المؤمنين، وفي نفس الوقت اتجه الخطاب القرآني إلى اليهود، مبينا لهم زيف ما حرفوه من كتبهم وديانتهم، ذاما ما أخذوا أنفسهم به من غدر وخيانة، مشجعا لهم على الانضمام إلى مواكب الإيمان، مرحبا بكل من يعلن توبته وولاءه للإسلام. ونستطيع أن نحدد خصائص الآيات المدنية بما يلي: 1 - بيان أحكام التشريع من حدود وإرث ومعاملات مادية وبيان مناهج الحكم، ولهذا جاءت الآيات المدنية ذات طبيعة تشريعية مفصلة للأحكام مبينة للحقوق، وأسلوب البيان التشريعي لا بد فيه من الإطالة والتوضيح. 2 - وضوح أحكام الجهاد ، والجهاد لم يكن مشروعا في مكة، وجاءت الآيات المدنية مفصلة لأحكام الجهاد والأسرى، مبينة أسباب الانتصار وأسباب الانتكاس، داعية المسلمين إلى الصبر والتضحية. 3 - توجيه الخطاب إلى المؤمنين ، وخطاب المؤمنين يتطلب اختيار منهج التعليم والتوجيه والنصح والتكوين، ولهذا جاءت أحكام البيان التشريعي في إطار خطاب المؤمنين، وأحيانا يتضمن خطاب المؤمنين الشدة والتخويف والتحذير من غضب الله في حالة التقاعس عن أداء ما أمر الله به، أو ما نهى عنه، كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 278 - 279]. وهناك ملاحظات كثيرة لاحظها العلماء الذين درسوا الآيات المكية والمدنية من حيث ما اختصت به كل منهما من خصائص، وهذه الملاحظات مأخوذة من استقراء تلك الآيات، واستنتاج ما يغلب عليها. ومع هذا فإننا نلاحظ وحدة النص القرآني من ناحية الأسلوب المعجز والتوجيه الحكيم والترغيب والترهيب، ودعوة الناس إلى الاحتكام إلى العقل وحسن فهم قيم الإسلام، والتمسك بعقيدة التوحيد التي تعتبر عماد العقيدة الإسلامية. والقرآن تحكمه مقاصد وغايات، ويخاطب البشر جميعا، فيشتد الخطاب

معرفة أول ما نزل من القرآن:

ويعنف عند ما يتطلب الأمر ذلك، ويلين ويسهل عند ما تتطلب الحكمة ذلك، لا فرق في ذلك بين مكي ومدني، لأن القرآن كلام الله وهو معجز في حكمته، ومن الإعجاز أن يكون الخطاب مؤديا غايته ومحققا مقاصده. وما اكتشف المفسرون حتى اليوم من إعجاز القرآن لا يتجاوز المقدار القليل، والإعجاز مستمر ومتواصل، والخطاب القرآني متجدد لا يتوقف، وكل جيل مخاطب بالقرآن، ومكلف بأن يكتشف الجديد من إعجازه وأحكامه ومقاصده وغاياته، فإذا كان هناك قصور في الفهم فهذا دليل على عجز الإنسان وجمود فكره وتخلف إدراكاته، ومسيرة البشرية متواصلة، وعطاء القرآن لن يتوقف أبدا. معرفة أول ما نزل من القرآن: اختلف العلماء في أول ما نزل من القرآن، وسبب الاختلاف في هذا الأمر بالرغم من شهرة بعض الروايات ورجحانها أن الأمور التي تتعلق بالنقل والرواية يختلف الرأي فيها باختلاف الرواية، وتتعدد الأقوال بتعدد ما ثبت من الروايات، ولا يملك الباحث في موطن الروايات المنقولة إلا أن يقف موقف الحياد، سامعا للرواية، ناقدا لسندها، مفسرا لمتنها مرجحا بالحجة والبيان ما يراه أقوى وأرسخ. والخلاف في معرفة أول ما نزل وفي معرفة آخر ما نزل يدلنا دلالة أكيدة على أمرين: الأمر الأول: اهتمام علماء القرآن بكل ما يتعلق بالقرآن من حيث النزول وتاريخ النزول وأسبابه، وهذا الاهتمام عمق الثقة بجدية الدراسات القرآنية، وجعلها في موطن اليقين، لكيلا يتطرق الشك إلى قطعية الثبوت فيما يتعلق بالنص القرآني. الأمر الثاني: أمانة العلماء في تسجيل ما ثبت لديهم من روايات منقولة، تاركين للباحثين المختصين أمر توثيق تلك الروايات والنظر في أسانيدها، في ضوء مقارنتها مع الروايات المنقولة الأخرى المتعارضة منها، مما يجعل أمر

الأقوال في أول ما نزل

الترجيح خاضعا لمعايير نقدية معتمدة. [الأقوال في أول ما نزل] ووردت أربعة أقوال في أول ما نزل (¬1): القول الأول: صدر سورة اقرأ إلى قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ، ووصف السيوطي في الإتقان هذا القول بأنه «الصحيح»، واستدل لذلك بما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها، فتزوده لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، حتى بلغ «ما لم يعلم» فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتجف بوادره ... ». وأخرج الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدلائل وصححاه عن عائشة، قالت: «أول سورة نزلت من القرآن اقرأ باسم ربك». وروى أبو عبيد في فضائله عن مجاهد قال: إن أول ما أنزل من القرآن اقرأ باسم ربك ون والقلم». القول الثاني: أول ما نزل من القرآن: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، واستدل من قال بهذا الرأي بما رواه الشيخان عن سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قلت: أو اقرأ باسم ربك؟ قال: أحدثكم بما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري، نزلت فاستبطنت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وشمالي، ثم نظرت إلى السماء، فإذا هو- يعني جبريل- فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم ¬

_ (¬1) انظر الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 68 - 71.

فدثروني، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ. وأجاب أصحاب القول الأول عن هذا الحديث بنفي التعارض بين القولين، وأكدوا بأن صدر سورة «اقرأ» هي أول ما نزل، وإن سورة المدثر هي أول سورة نزلت كاملة، وفيها تكليف ببدء الدعوة، ونزلت بعد آيات القراءة، والقراءة أولا، والتكليف ثانيا، والأولوية ليست أولية مطلقة، فهناك الوحي وهناك بدء الرسالة والتكليف، وقال ابن حجر: إن المراد أول ما نزل بسبب متقدم وهو التدثر الناشئ عن الرعب، بخلاف اقرأ فنزلت ابتداء ... وقال الكرماني: قال جابر بن عبد الله ذلك باجتهاده، وليس هو من روايته، فيقدم عليه ما روته عائشة، ومع هذا فلا يمكن أن يجهل «جابر» أولوية سورة «اقرأ»، والأمر ليس اجتهادا، وإنما هو نقل ورواية، وهي بيان عن نزول سورة المدثر، وهي واضحة في الدلالة على أنها من أول ما نزل من آيات التكليف والدعوة ولا تعارض أولوية سورة «اقرأ» كبدء للوحي، ويؤكد هذا لفظة «فإذا هو» في حديث جابر، وكأن الرسول سبق أن رآه عند ما نزل عليه يأمره بالقراءة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. القول الثالث: أول ما نزل من القرآن «سورة الفاتحة» واستدل من قال بهذا القول بما أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فو الله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث، فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له، وقالت: اذهب مع محمد إلى ورقة، فانطلقا فقصا عليه، فقال: لا تفعل إذا أتاك، فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه، يا محمد قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى بلغ وَلَا الضَّالِّينَ وهو مرسل رجاله ثقات. قال البيهقي: إن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر.

وقال الزمخشري في الكشاف: ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن أول سورة نزلت اقْرَأْ، وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب. ورد ابن حجر على هذا القول مؤكدا أن ما ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول، وما نسب إلى أكثر المفسرين لم يقل به إلا عدد أقل من القليل. ويلاحظ أيضا عدم التناقض بين هذا القول والأقوال السابقة، فهذا القول يؤكد أن سورة الفاتحة كانت من أوائل السور التي نزلت مع اقرأ والمدثر، ولم يكن أمر الوحي والقرآن في ذلك الحين واضحا للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان يأخذه العجب والخوف والهلع كلما جاءه جبريل، ولا يدري ماذا يفعل، وينبغي أن تحمل الروايات الواردة في هذا المجال على أساس تكامل الأحداث التي واكبت نزول القرآن في المرحلة الأولى، واصفة بدقة حالة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يفاجئ بالوحي يلاحقه ويخاطبه وينزل عليه القرآن، والرسول وجف خائف يعيش هذه المرحلة ولا يستطيع أن يفسر ظاهرة الوحي التي كانت جديدة عليه. القول الرابع: أول ما نزل من القرآن: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ واستدل من قال بهذا الرأي بما أخرجه الواحدي بإسناد عن عكرمة والحسن قالا: أول ما نزل من القرآن: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وأول سورة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: أول ما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد استعذ ثم قل: بسم الله الرحمن الرحيم. وذكر الزركشي في البرهان (¬1): طريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وأول ما نزل من أوامر التبليغ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وأول ما نزل من السور «سورة الفاتحة»، وقيل: أول ما نزل للرسالة: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وللنبوة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وقال العلماء: «اقرأ باسم ربك» دال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأن النبوة عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان الملك بتكليف خاص، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ دليل على رسالته، لأنها عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان الملك بتكليف عام. ¬

_ (¬1) انظر البرهان في علوم القرآن للزركشي، ج 1، ص 207.

معرفة آخر ما نزل من القرآن:

وتعدد الأقوال في هذا الأمر لا يمكن فهمه إلا في إطار وصف المرحلة الأولى التي واكبت نزول القرآن، ولا مجال للقول بتناقض الأقوال أو تباينها، وكل راو كان ينقل ما سمعه عن وصف لبعض المراحل، مما يوثق الروايات التي تؤكد الآيات والسور الأولى التي نزلت من القرآن، ويؤكد صدق النبي صلى الله عليه وسلم في تلقيه الوحي، وعفويته في وصف حالته الأولى عند ما بدأ الوحي يتنزل عليه بالآيات الأولى من القرآن. والروايات تنقل الواقع وتعبر عنه، وكلها صحيحة، وليس فيها تعارض أو تناقض، وهذا التعارض الظاهري يؤكد صدق الظاهرة القرآنية. معرفة آخر ما نزل من القرآن: اختلف العلماء في آخر ما نزل من القرآن، كما اختلفوا في أول ما نزل منه، واختلافهم في أول ما نزل أيسر وأوضح، لإمكان معرفة ذلك، ولأن النصوص ذاتها توضح بطريقة جلية الخطاب القرآني الأول، وجاءت الأحاديث واضحة في وصف تلك المرحلة. بخلاف الأمر في آخر ما نزل، فلا سبيل إلى معرفة ذلك عن طريق السنة، والطريق الوحيد هو ما رواه الصحابة من سماعهم، وربما وقع الاختلاف في آخر ما نزل، لأن بعض الصحابة سمع ما لم يسمعه الآخرون، ووقع الاختلاف في آخر آية، مع اتفاقهم على أن الأمر ينحصر في بعض آيات نزلت في المرحلة الأخيرة التي أعقبت حجة الوداع. وأرجح الروايات الواردة في ذلك ما أخرجه ابن حاتم عن سعيد بن جبير قال: آخر ما نزل من القرآن كله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 282]، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال، وأخرج ابن جرير مثل هذه الرواية عن ابن جريج .. وأخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين، وقال السيوطي في الإتقان: ولا منافاة عندي بين هذه الروايات لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف ولأنها قصة

واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر. وذكر ابن حجر في شرح البخاري إمكان الجمع بين آية الربا وقوله: واتقوا يوما، لأن هذه الآية جاءت خاتمة لآيات الربا، وهي معطوفة عليهن، وقال البراء بأن الآيتين نزلتا جميعا، فيصدق أن كلا منهما آخر بالنسبة لما عداهما. وهناك روايات أخرى تقول: آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176]، وقيل قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128]، وقيل قوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آل عمران: 195]، وقيل قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها [النساء: 93]، وقيل قوله تعالى في خاتمة سورة براءة: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [براءة: 128 - 129]، وقيل قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف: 110]، وقيل سورة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ هي آخر ما نزل ... قال القاضي أبو بكر في الانتصار (¬1): «وهذه الأقوال ليس في شيء منها ما رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون قاله قائله بضرب من الاجتهاد وتغليب الظن، وليس العلم بذلك من فرائض الدين». ¬

_ (¬1) انظر البرهان للزركشي، ج 1، ص 210.

الفصل السابع: جمع القرآن وكتابته

الفصل السابع: جمع القرآن وكتابته استعمل القرآن كلمة الجمع بمعنى الحفظ، وأطلقت لفظة جمّاع القرآن على حفاظ القرآن، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وكان القرآن محفوظا في الصدور ولم يكن مجموعا في مصحف أو مرتبا في سور متتابعة، وعلل الخطابي عدم جمع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة. ولفظة «حفظ القرآن» يراد بها أحد معنيين: المعنى الأول: الجمع بمعنى الحفظ في الصدور. المعنى الثاني: الجمع بمعنى الكتابة، سواء كانت كتابة مفرقة أو مرتبة. وشاع استعمال لفظة جمع القرآن للدلالة على الكتابة والتدوين وترتيب الآيات والسور في مصحف واحد. المعنى الأول: الجمع بمعنى الحفظ: اتجهت همة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أخذ القرآن يتنزل عليه إلى حفظ آياته واستظهارها خشية أن يفلت منها شيء فينساه، أداء منه صلى الله عليه وسلم للأمانة الملقاة عليه، وكان قلق النفس بسبب ذلك، حتى نزلت عليه الآية القرآنية التي دعته إلى الاطمئنان، ووعدته بأن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن وبيانه، قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: 16 - 19]، وقال أيضا: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويعيد قراءته، ويقرئه لأصحابه، ويحضهم على حفظه في الصدور، وروت السيدة عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان جبريل يعارضني القرآن في كل سنة مرة».

وكانت مجالس الصحابة هي مجالس قرآن، يتدارسون القرآن، ويحفظونه، فهو بالنسبة إليهم كل شيء، ولا شيء غيره في حياتهم، يخاطبهم ويعلمهم، وكانت الأنظار ترقب نزوله، وسرعان ما تنطلق الحناجر بشغف وحب تردد الآيات الجديدة وتحفظها، حتى أصبحت المساجد تضج بأصوات الصحابة وهم يقرءون القرآن. روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار». وروى البخاري ومسلم أن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ عليّ القرآن، قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية، فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا، قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. وكان إذا هاجر رجل دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الصحابة يعلّمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا. وقال ابن الجزري صاحب كتاب النشر في القراءات العشر المتوفى سنة 533 هـ: «ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة» (¬1). وهذا يؤكد لنا أن الأساس في حفظ القرآن هو حفظه في الصدور، وبخاصة أن معظم الصحابة كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، وليس من اليسير عليهم أن يكتبوا القرآن، واعتمدوا على الحفظ في الصدور، وتكرار ذلك، حتى أصبحت آيات القرآن في صدر كل صحابي محفوظة يستشهد بها في كل مناسبة ويقرؤها في كل صلاة. ¬

_ (¬1) النشر، ج 1، ص 6.

قال الزركشي في البرهان في بيان من جمع القرآن حفظا في عهده صلى الله عليه وسلم: «حفظه في حياته جماعة من الصحابة، وكل قطعة منه كان يحفظها جماعة كثيرة أقلهم بالغون حد التواتر» (¬1). المعنى الثاني: الجمع بمعنى الكتابة: إذا أطلقت كلمة جمع القرآن أريد بها كتابة القرآن في مصحف، وهي التي قام بها أبو بكر الصديق في عهد خلافته، ثم أتمها عثمان بن عفان ... واعتمد الجمع الذي تم في عهد أبي بكر على كتاب الوحي الذين كانوا يكتبون الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونستطيع أن نحدد مراحل الكتابة القرآنية بثلاث مراحل: المرحلة الأولى: الكتابة في عصر النبوة: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوثق ما نزل عليه من القرآن بكتابته، بالإضافة إلى حفظه في الصدور، واختار بعض الصحابة الذين يحسنون الكتابة لكي يكتبوا القرآن. قال الحاكم في المستدرك: جمع القرآن ثلاث مرات، إحداها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخرج بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع» (¬2). وقال الإمام الحارث بن أسد المحاسبي المتوفى سنة 243 هـ في كتابه فهم السنن: كتابة القرآن ليست محدثة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرّقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء». فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟ قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف، وقد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) البرهان، ج 1، ص 241. (¬2) انظر الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 164.

عشرين سنة، فكان تزويد ما ليس منه مأمونا، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحيحه» (¬1). ومن أهم كتاب الوحي الخلفاء الأربعة، ومعاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وخالد بن الوليد، وثابت بن قيس. روي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا». قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (¬2). واشتهر بجمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة من الصحابة من الأنصار هم: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد. وروى البخاري عن قتادة قال سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، وفي رواية: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، وقال البيهقي في كتاب المدخل: الرواية الأولى أصح، ثم أسند عن ابن سيرين قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة لا يختلف فيهم، معاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد وأبو زيد، واختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبو الدرداء وعثمان، وقيل: عثمان وتميم الداري .. (¬3) وتكلم القاضي أبو بكر في كتاب الانتصار عن حملة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام الدليل على أنهم كانوا أضعاف هذا العدد، ويشهد لذلك كثرة المقتولين من القراء يوم اليمامة، وعلل الروايات التي حددت القراء بأربعة ¬

_ (¬1) انظر البرهان للزركشي، ج 1، ص 238. (¬2) انظر البرهان للزركشي، ج 1، ص 241. (¬3) المصدر نفسه ص 242.

باضطراب تلك الروايات، أو المراد بها أن هؤلاء هم الذين جمعوا القرآن على جميع الأوجه والأحرف والقراءات (¬1). وكانوا يكتبون القرآن على الوسائل المتاحة في ذلك العصر، وهي العسب (¬2) واللخاف (¬3) والرقاع (¬4) وقطع الأديم (¬5) وعظام الأكتاف (¬6) والأقتاب (¬7). والروايات الواردة تؤكد حقائق أساسية تلقي الضوء على كيفية حفظ القرآن وجمعه وكتابته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. الحقيقة الأولى: الاعتماد على الحفظ في الصدور، وكان هذا الحفظ عاما لدى جميع الصحابة، يتسابقون إليه، ويجتمعون في المساجد لقراءة القرآن وحفظه، ولا يمكن تصور صحابي لا يحفظ بعض آيات القرآن، ويتفاوتون في مدى ذلك الحفظ، فمنهم الحفاظ ومنهم القراء، ومنهم كتاب الوحي، ومنهم من يحفظ القليل أو الكثير مما تيسر له. الحقيقة الثانية: تأكيد كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبين يدي رسول الله، عقب نزول القرآن، وكان يختص بذلك كتاب الوحي، وأسماؤهم معروفة، والروايات تؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن، وكان الصحابة يكتبون، ونهاهم عن كتابة السنة لئلا يقع الالتباس عليهم فيما كتبوه، حرصا منه صلى الله عليه وسلم على سلامة النص القرآني. الحقيقة الثالثة: ليس هناك شيء من القرآن لم يكن مكتوبا، فكل القرآن مكتوب، وكتاب الوحي متعددون، بحيث إذا غاب البعض عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى الآخرون الكتابة، ولا يتصور غياب الجميع، وبخاصة أن كتاب الوحي كانوا من أقرب الناس لرسول الله، ومنهم الخلفاء الأربعة. ¬

_ (¬1) انظر البرهان للزركشي، ج 1، ص 242. (¬2) العسب: جمع عسيب وهو جريد النخل وكانوا يكشفون الخرص ويكتبون على ما تحته. (¬3) اللخاف: جمع لخفة، وهي الحجارة الدقيقة أو صفائح الحجارة. (¬4) الرقاع: جمع رقعة وتكون من جلد أو ورق أو كاغد. (¬5) الأديم: الجلد. (¬6) الأكتاف: جمع كتف عظم البعير أو الشاة وكانوا يكتبون عليه بعد أن يجف. (¬7) الأقتاب: وهي الأخشاب التي توضع على ظهر البعير.

الحقيقة الرابعة: لم يكن القرآن مجموعا في مصحف وفق ترتيب واحد، وكان كتاب الوحي يحتفظون بما كتبوه، بحيث يسهل على من أراد جمع القرآن أن يقوم بذلك، والسبب في عدم الجمع هو استمرار نزول الوحي حتى الأيام الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم، ولم تكن الحاجة ملحة لجمع القرآن، لوضوح نصوصه محفوظة في الصدور، ولثبوت نصوصه مدونة في الرقاع لدى كتاب الوحي ولدى غيرهم ممن كان يحرص على كتابة القرآن. الحقيقة الخامسة: لا مجال للشك في ثبوت النصوص القرآنية، وما قام به أبو بكر فيما بعد لا يتعدى حدود الجمع، وتوثيق ذلك الجمع والاطمئنان إلى سلامة النص القرآني، ومطابقة النصوص المكتوبة بما هو محفوظ في صدور القراء الذين اشتهروا بالحفظ والدقة. المرحلة الثانية: الجمع في عهد أبي بكر: بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم توقف الوحي، واستقرت نصوص القرآن، فلم يعد ينسخ منها شيء، ولا يضاف إليها جديد، وتولى أبو بكر الخلافة، واتجهت أنظار الصحابة إلى حفظ القرآن وجمعه في مصحف موحد، خشية أن يضيع منه شيء أو يضاف إليه ما ليس منه، إذا وقع التقاعس في جمعه في وقت مبكر، وبخاصة بعد معالم فتنة تبدو في الأفق، متمثلة في حركة الردة التي هزت المجتمع الإسلامي الوليد، وأيقظته على واقع جديد مليء بالتحديات والمواجهات. وفي معركة اليمامة استشهد عدد كبير من حفظة القرآن، وصل عددهم إلى سبعين صحابيا، وبعضهم قال أكثر من ذلك، وخشي عمر بن الخطاب- وكان رجل دولة بعيد النظر واسع الرؤية قوي الحجة شجاعا في قراراته، غيورا على الإسلام- أن يضيع بعض القرآن أو يلتبس الأمر على المسلمين في شأن بعض آياته بعد موت الكثير من الحفاظ، فعرض الأمر على أبي بكر، وتردد الخليفة في قبول ذلك، خشية أن يفعل شيئا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد تردد شرح الله صدره لذلك.

روى البخاري في صحيحه أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستمر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر» (¬1). وأخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد خير قال: سمعت عليا يقول: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله. وشرع «زيد» في جمع القرآن، وطلب من حفاظ القرآن وكتابه، أن يأتوا بما لديهم من القرآن، واشترط لقبول ذلك أن يشهد شاهدان على صحة ما يأتيه، مبالغة في الاحتياط، وروى ابن أبي داود قال: قدم عمر، فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 165. (¬2) انظر الإتقان، ج 1، ص 165

وفي رواية أخرى أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. وفسر ابن حجر المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة، وقال السخاوي في جمال القراء: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المراد أنهما يشهدان على ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن. ونقل السيوطي عن أبي شامة المقدسي صاحب كتاب الروضتين أنه قال: وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة لم أجدها مع غيره أي لم أجدها مكتوبة مع غيره، لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة. وفسر السيوطي في الإتقان معنى الشهادة أن المراد أنهما يشهدان على أن ذلك مما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم عام وفاته (¬1). وهذه الروايات الكثيرة تؤكد الوقائع التي أدت إلى جمع القرآن في عهد أبي بكر، وأن هذا الجمع أحيط بضوابط دقيقة لكي يكون القرآن في موطن الثقة واليقين. وتجلت عوامل الدقة فيما يلي: العامل الأول: الاعتماد على الحفظ والكتابة التي تمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤكد هذا مشاركة الصحابة جميعا في هذا الجمع عن طريق تزويد «زيد» بكل ما هو مكتوب. العامل الثاني: تفويض أمر الجمع إلى زيد بن ثابت، وقد كان في موطن الثقة، ولم يطعن أحد بكفاءته ونزاهته وقدرته على القيام بهذه المهمة. العامل الثالث: توثيق النص القرآني بشاهدين، يشهدان على أن الكتابة تمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

العامل الرابع: تأكيد ما هو محفوظ في صدور الصحابة لما هو موضوع في الرقاع والعسب وقطع الأديم. ولما اكتمل الجهد، وتكامل الجمع، قال أبو بكر: سموه أو التمسوا له اسما، روى ابن شهاب قال: لما جمعوا القرآن فكتبوه على الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسما، فقال بعضهم: السفر، وقال بعضهم: المصحف فإن الحبشة يسمونه المصحف، وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه المصحف (¬1). واستقبل هذا المصحف الذي تم جمعه في عهد أبي بكر من الصحابة، بالتقدير والتنويه، اعترافا بعظمة هذا العمل، وتأكيدا على سلامة منهج الجمع الذي نال ثقة الصحابة، وحظي بموافقتهم، وأجمعوا على قبوله والإشادة به. المرحلة الثالثة: الجمع في عهد عثمان: في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وامتد سلطانها، وتباعدت أرجاؤها، واختلطت شعوبها، وتداخلت لغاتها، وتناثر ذلك الجمع المبارك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفاظ القرآن في تلك البقاع البعيدة، وأخذ كل إقليم يلتف حول رمز من رموز الإسلام من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلم منهم القرآن، ويسمع منهم ما حفظوه من السنة، وما اختزنوه في ذاكرتهم من أيام الإسلام الأولى في عصر النبوة. وكان من الطبيعي أن تتعدد القراءات وتتباعد اللهجات، ويقع الاختلاف في ترتيب الآيات والسور وبخاصة في ظل مصاحف مكتوبة، احتفظ بها أصحابها، لا تختلف من حيث الآيات عن مصحف أبي بكر، لأن ذلك مما وقع الإجماع عليه. ولم يكن من اليسير مراقبة تلك المصاحف الفردية، وتتبع ترتيبها، وضبط تلاوتها ورسمها، لتباعد الأمصار الإسلامية عن المدينة، وخشي بعض الصحابة أن تتسع دائرة الخلاف، ويقع الاختلاف في القرآن، وطلبوا من الخليفة وهو ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 147.

المؤتمن على القرآن أن يتدارك الأمر قبل أن يستفحل، وأن يوحد المصحف، وأن يضع في كل بلد مصحفا معتمدا يرجع إليه عند الاختلاف، واستجاب عثمان لذلك الطلب، وحققت خطوته الموفقة أهدافها في توحيد المصحف، وكان هذا من توفيق الله وحفظه لكتابه. روى البخاري في صحيحه أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينيا وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن ارسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق» (¬1). قال زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فألحقناها في سورتها في المصحف. قال ابن حجر: وكان ذلك سنة خمس وعشرين. وأخرج ابن أشتة عن أبي قلابة أن أنس بن مالك قال: «اختلفوا في القراءة على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمصلحون، فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فقال: عندي تكذبون به وتلحنون فيه، فمن نأى عني كان ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 169، والبرهان، ج 1، ص 236.

أشد تكذيبا وأكثر لحنا، يا أصحاب محمد، اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما، فاجتمعوا فكتبوا، فكانوا إذا اختلفوا وتدارءوا في آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانا، فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة، فيقال له: كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كذا وكذا، فيقول: كذا وكذا، فيكتبونها، وقد تركوا لذلك مكانا» (¬1). قال ابن التين وغيره: «الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان، أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة، حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع قراءته بلغة غيرهم، رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة» (¬2). وقال القاضي أبو بكر الباقلاني صاحب الإعجاز في كتابه الانتصار: «لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد» (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 169. (¬2) انظر الإتقان، ج 1، ص 171. (¬3) انظر الإتقان، ج 1، ص 171، والبرهان للزركشي، ج 1، ص 235.

جمع القرآن على ضربين:

وقال الحارث المحاسبي: «المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان، وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي نزل بها القرآن، فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق» (¬1). وقال أبو الحسين بن فارس في المسائل الخمس: جمع القرآن على ضربين: أحدها: تأليف السور، كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين، فهذا الضرب هو الذي تولته الصحابة. وأما الجمع الآخر: وهو جمع الآيات في السور فهو توفيقي تولاه النبي صلى الله عليه وسلم (¬2). وهذه النصوص واضحة الدلالة على تتابع الجهد وتكامل العمل، في رحلة جمع القرآن، وتوثيقه وتوحيد المصحف، وحسم الخلاف، وجمع كلمة المسلمين على مصحف موحد معتمد موثق لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، معتمدين في ذلك على ما كتبه كتاب الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما حفظه الصحابة في صدورهم. ويلاحظ في جمع عثمان للقرآن ما يلي: أولا: اعتماده الكلي على مصحف أبي بكر الذي كان محفوظا لدى السيدة حفصة، ومصحف أبي بكر أعدته لجنة مختصة من حفاظ القرآن، ووقع الإجماع عليه، ولو وقع أي خلاف بين المصحفين لما ارتضاه المسلمون. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 171 - 172. (¬2) انظر البرهان للزركشي، ج 1، ص 237.

ثانيا: كلف عثمان لجنة رباعية أحد أفرادها زيد بن ثابت الذي قام بجمع القرآن في عهد أبي بكر. ثالثا: هناك إشارة إلى أن جمع عثمان للقرآن كان يستهدف كتابة القرآن ورسم القرآن وتوحيد القراءة، «فاكتبوه بلسان قريش» وهذا دليل على أن أي خلاف لا يمكن أن يتعلق بنص القرآن، وإنما يتعلق بلغة القرآن وكتابة القرآن، وحدد لهم عثمان أنه إذا وقع أي خلاف بينهم وبين زيد فليكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، وهذا يؤكد ما ذهب إليه الباقلاني من أن ما قصد إليه عثمان هو جمع المسلمين على القراءات الثابتة المعروفة، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير. وهكذا يتبين لنا أن جمع أبي بكر كان يستهدف جمع القرآن في مصحف واحد بعد أن كان مفرقا في الرقاع، وجمع عثمان كان يستهدف توحيد القراءة، لئلا يقع اختلاف بين القراء في قراءة القرآن، والأحاديث التي رواها البخاري في سبب الجمع الأول والجمع الثاني واضحة الدلالة على الأسباب التي دفعت أبا بكر للقيام بجمع القرآن، والأسباب التي دفعت عثمان للقيام بتوحيد القراءة القرآنية لكي تكون موافقة للغة قريش. ويبدو أن بعض المستشرقين هالهم هذا الجهد المحكم الذي قام به الصحابة في وقت مبكر من تاريخ الإسلام، منطلقين في ذلك من إيمانهم بالقرآن، مدركين واجبهم في حماية نصوصه، متطلعين لمرضاة الله، فانطلقوا كعادتهم في مثل هذه المواقف يشككون في كل رواية، ويلتمسون لأنفسهم عذرا في طعن مقدسات الإسلام، مفسرين الأحداث والمواقف تفسيرا مريبا، فتارة يكتشفون صراعا بين المكيين والمدنيين، وتارة يفسرون ظاهرة عادية بما يحقق أغراضهم من إثارة الشبهات. وأفضل رد على هؤلاء تجاهل ما يثيرونه من شبهات، وبخاصة تلك الشبهات التي لا يقوم عليها دليل، ولا تؤيدها حجة، لأن غايتهم الأولى من إثارة تلك الشبهات إشغال المسلمين بالرد عليها، وأنهاكهم بتتبعها، وإيصال صداها إلى المجتمعات الإسلامية لكي تكون في موطن النقاش والجدال.

والروايات التي نقلناها عن أئمة في العلم دالّة على وضوح مراحل الجمع، وسلامة تلك المراحل، وقبول الصحابة لذلك، وليس هناك ما يثير الشك والريبة في الجمع الأول والثاني، فالجمع الأول اعتمد على قرآن مكتوب في الرقاع والأكتاف والعسب، وأكد هذا الحارث المحاسبي «كتابة القرآن ليست محدثة» وأمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان»، وفسر السخاوي مهمة الشاهدين الذين اشترط أبو بكر على «زيد» ألا يقبل شيئا من القرآن إلا بعد شهادتهما بقوله: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله، والجمع الثاني كما أكدته الروايات المنقولة كان جمعا قصد به توحيد القراءات القرآنية، ومنع الاختلاف فيها، تأكيدا لوحدة لغة القرآن. واختلف العلماء في عدد مصاحف عثمان، ونقل «الزركشي في البرهان» عن أبي عمرو الداني في المقنع قال: «أكثر العلماء على أن عثمان لما كتب المصاحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية واحدا، الكوفة والبصرة والشام، وترك واحدا عنده، وقد قيل: إنه جعله سبع نسخ، وزاد: إلى مكة وإلى اليمن وإلى البحرين، قال: والأول أصح وعليه الأئمة» (¬1). وكانت مصاحف عثمان مجردة من كل ما هو خارج عن القرآن، لئلا يختلط القرآن بغيره، ويدخل بعض التفسير فيه، وكانت المصاحف التي كتبها بعض الصحابة قبل ذلك تشتمل على بعض الكلمات التفسيرية الموضحة لبعض معاني القرآن، وكان يمكن لتلك الكلمات مع مرور الزمن أن يقع الالتباس فيها، ويظن بأنها من القرآن، ولذلك أمر عثمان بإحراق المصاحف الفردية التي كانت موجودة لدى البعض، لئلا يقع الاختلاف في القرآن، وبخاصة في ظل كتابة قرآنية خالية من النقط والشكل، ويمكن أن تقرأ الكلمات المتشابهة في الرسم بألفاظ عدة. ولا شك أن إحراق المصاحف الفردية كان اجتهادا موفقا من خليفة المسلمين، ولقي ترحيبا من معظم الصحابة، لأنه أدى إلى توحيد المصحف، ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 240.

وقطع دابر أي خلاف في آياته، من حيث القراءة والرسم، ومن اليسير علينا نحن اليوم أن نكتشف عظمة هذا الإنجاز وعظيم أثره، ولو بقيت المصاحف الفردية قائمة بيد أصحابها لكان من اليسير أن يتعصب كل صاحب مصحف لما كتبه وجمعه، ولاعتبر مصحفه هو الأصح والأدق، ومن الصعب بعد ذلك ضبط الأمور وإعادة اللحمة إلى ما تفرق من الآراء، وبخاصة في ظل عصر بدأت معالم الفتنة تطل عليه من بعيد، منذرة متوعدة، ومن حسن الحظ أن خطوة توحيد المصحف قد اكتملت قبل أن تتفجر الأحداث، وأصبح في كل إقليم من أقاليم الدولة الإسلامية مصحفا معتمدا، هو الأساس لكل المصاحف، يوحد الكلمة، ويوحي بالثقة، ويجعل القرآن فوق كل الشبهات، مطوقا بحفظ الله ورعايته. ولو صح أن خلافا حقيقيا وقع في مصحف عثمان، أو نزاعا بين الصحابة نشب بسبب إحراق المصاحف لما خفي هذا الخلاف والنزاع، ولارتفعت أصوات المعارضين عالية محتجة رافضة منددة بما فعل «عثمان»، وبخاصة في أواخر عهده، حيث أخذت أصوات الاحتجاج تتعالى مدينة بعض جوانب سياسته وإدارته. وحاول بعض خصوم القرآن إثارة شكوك حول قطعية ثبوت النص القرآني، واعتمدوا في ذلك على روايات شاذة وحكايات موضوعة تؤكد ظنونهم، وتدعم ما أخذوا أنفسهم به من هدم هذا الصرح الكبير الذي أجمع المسلمون على صحته، وتكاتفوا في سبيل حفظه، ولا تخلو أية رواية من الروايات الشاذة من نقد واضح الدلالة على ضعفها وتهفتها، أو سوء تفسيرها، سواء تعلقت بشبهات حول سقوط شيء من القرآن بسبب نسيان، أو إضافة إليه. ولا نهاية لمثل هذا المنهج الذي يعتمد التشكيك في القرآن، ولا سبيل لإيقاف النفوس المريضة التي أخذت تتتبع ما سقط من الأقوال، وما نبذ من الروايات، إلا بتجاهل هذا المنهج ورفضه، وعدم الخوض فيه، فما أجمعت عليه الأمة، لا يمكن أن يكون في موطن الظن، وأن يخضع لمعايير نقدية أخذ بها من ران على قلبه مرض، أفقده الإحساس بحرارة الإيمان، وبإشراقة القرآن في النفس، فما تعهد الله بحفظه لا سبيل لبشر عليه، وكلام الله أسمى من أن يختلط بكلام البشر.

الفصل الثامن: فواتح السور القرآنية وخواتمها

الفصل الثامن: فواتح السور القرآنية وخواتمها [فواتح السور] اهتم العلماء المتخصصون بعلوم القرآن والباحثون عن أوجه الإعجاز فيه بدراسة فواتح السور القرآنية في إطار دراستهم لكل ما يتعلق بالقرآن، من حيث قطعية ثبوته وأوجه دلالته. وجاء افتتاح السور القرآنية متعدد الأشكال مختلف الأساليب، واضح الدلالة على معاني دقيقة، بعضها واضح جلي، والبعض الآخر لا سبيل لمعرفته، وحرص العلماء على بيان رأيهم واجتهادهم فيه، ملتمسين أوجه الحكمة في ذلك، باحثين عن دلالات هذه الظاهرة التي تدخل ضمن مظاهر الإعجاز. وكتب ابن أبي الإصبع كتابا في هذا الموضوع سماه «الخواطر السوانح في أسرار الفواتح» (¬1)، حققه الدكتور حفني شرف، وطبع بمصر سنة 1960. قال الزركشي في البرهان: «وقد افتتح سبحانه وتعالى كتابه العزيز بعشرة أنواع من الكلام، لا يخرج شيء من السور عنها» (¬2). الأول: الاستفتاح بالثناء عليه عز وجل، وهو قسمان: 1 - إثبات لصفات المدح، كالتحميد «الحمد لله»، وجاء في خمس سور، الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر، و «تبارك» وجاءت في سورتي الفرقان والملك تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ، تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ. 2 - تنزيه الله عن النقص: كالتسبيح، وجاء في سبع آيات، في الإسراء والحديد والحشر والأعلى والجمعة والتغابن، سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، سَبَّحَ لِلَّهِ، يُسَبِّحُ لِلَّهِ. ¬

_ (¬1) اسمه عبد العظيم بن عبد الواحد المعروف بابن أبي الإصبع، ذكره صاحب كشف الظنون وأشار إليه السيوطي في الإتقان، ج 3، ص 317. (¬2) انظر البرهان، ج 1، ص 165.

وهذه أربع عشرة سورة، نصفها لإثبات صفات الكمال له، ونصفها لتنزيه الله عن النقص. الثاني: الاستفتاح بحروف التهجي: وجاء في تسع وعشرين سورة، الم، المص، المر، كهيعص، طه ... طس، طسم، حم، حم عسق، ق، ن، قال الزمخشري في الكشاف: «وإذا تأملت الحروف التي افتتح الله بها السور وجدتها نصف أسامي حروف المعجم، ثم تجدها مشتملة على أصناف أجناس الحروف، المهموسة والمجهورة والشديدة والمستعلية والمطبقة والمنخفضة وحروف القلقلة» وحاول العلماء إيجاد رابط بين أحرف الافتتاح وموضوع السورة، فسورة «ق» مناسبة لما في حرف القاف من شدة وجهر وقلقلة وانفتاح، وسورة «ص» اشتملت على خصومات متعددة وسورة «ن والقلم» جاءت فواصلها على الوزن من الألفاظ النونية. الثالث: الاستفتاح بالنداء: وجاء في عشر سور: - قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ وجاءت في الأحزاب والطلاق والتحريم. - وقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وجاءت في سورة المدثر. - وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وجاءت في المائدة والحجرات والممتحنة. - وقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ وجاءت في النساء والحج. - وقال: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ في سورة المزمل. الرابع: الاستفتاح بالجمل الخبرية: وجاء في ثلاث وعشرين سورة: - قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ، وبَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ، أَتى أَمْرُ اللَّهِ، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ، قَدْ سَمِعَ اللَّهُ. الخامس: الاستفتاح بالقسم:

وجاء في خمس عشرة سورة: - قال تعالى: وَالصَّافَّاتِ، ووَ الذَّارِياتِ، وَالطُّورِ، وَالنَّجْمِ، وَالْمُرْسَلاتِ، وَالْفَجْرِ، وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ ... وهكذا. السادس: الاستفتاح بالشرط: وجاء في سبع سور: - قال تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ... السابع: الاستفتاح بالأمر: وجاء في ست سور: قُلْ أُوحِيَ، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قُلْ أَعُوذُ في سورتين. الثامن: الاستفتاح بالاستفهام: وجاء في ست سور: - قال تعالى: هَلْ أَتى، عَمَّ يَتَساءَلُونَ، هَلْ أَتاكَ، أَلَمْ نَشْرَحْ، أَلَمْ تَرَ، أَرَأَيْتَ. التاسع: الاستفتاح بالدعاء: وجاء في ثلاث سور: - قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ، تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. العاشر: الاستفتاح بالتعليل: وجاء في سورة واحدة: - قال تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. اختلاف العلماء في حروف التهجي:

اختلف العلماء في الحروف المقطعة في أوائل السور على قولين (¬1): القول الأول: هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله به، وروي عن الصديق قوله: في كل كتاب سر، وسره في القرآن أوائل السور، وقال الشعبي: إنها من المتشابه، نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله عز وجل. قال الرازي: وقد أنكر المتكلمون هذا القول وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لا يفهمه الخلق، لأن الله أمر بتدبره والاستنباط منه، وذلك لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه. القول الثاني: المراد منها معلوم، وذكروا ما يزيد عن عشرين وجها، ومن أهم هذه الأوجه ما يلي: 1 - كل حرف من هذه الأحرف مأخوذ من اسم من أسماء الله، فالألف من الله، واللام من لطيف. 2 - هذه الأحرف تدل على القسم بأن هذا الكتاب لا ريب فيه، كالقسم بالضحى والليل والطور والفجر. 3 - كل حرف يدل على معنى: «الم» تفيد أنا الله أعلم. «المص» تفيد أنا الله أفصل. «الر» أنا الله أرى. 4 - إنها أسماء للسور، ولتمييز بعضها عن بعض، وقال الرازي: هذا قول أكثر المتكلمين. 5 - هذه الأحرف هي سر القرآن، ولا يعلم السر إلا الراسخون في العلم. 6 - الغاية من هذه الأحرف صرف العرب عن اللغو إذا سمعوا القرآن، ودفعهم إلى التعجب من أسلوبه والإنصات له، لكي ترق قلوبهم إذا سمعوا القرآن. ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 172 - 175.

7 - افتتح الله السور بهذه الأحرف للدلالة لكل حرف منها على معاني كثيرة، ويجوز أن يكون الافتتاح بهذه الأحرف لتحقيق هذه المعاني كلها، كالدلالة على أسماء الله، ولإثارة الانتباه إلى قراءة القرآن، وللإعجاز بها. 8 - للدلالة على أن القرآن مؤلف من حروف، وإن هذا الأسلوب يدفع العرب للبحث عن أوجه الحكمة من هذا الافتتاح، وتلمس جوانب الإعجاز. وهذه بعض الأقوال، وهناك أقوال أخرى، والواضح في هذه الأقوال تلمس وجه الحكمة بكل المعاني والدلالات المحتملة، والأفضل في هذا الموطن أن ينظر فيه في إطار مظاهر الإعجاز البياني الذي تحدى الله به العرب، ولا يمكن معرفة وجه الحكمة، لأن ذلك مما يخرج عن إطار القدرة العقلية، فالقدرة العقلية تحكمها معايير مادية، ولا سبيل إلى معرفة الحكمة في القضايا التوقيفية، لعجز العقل عن إدراك الحقيقة، ولا تدرك الحقيقة إلا بالنقل، والنقل لا يثبت إلا بدليل، وتعدد الرأي في الأمر دليل على عدم وجود دليل نقلي عن النبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذه الحكمة، ويفسر هذه الظاهرة القرآنية. وما أجمل أن تظل مظاهر الإعجاز معجزة على الفهم، يقف المفسرون أمامها عاجزين لا يقدرون على شيء من فهمها، وتظل آراؤهم واجتهاداتهم قاصرة عن إدراك جوانب العظمة في القرآن الكريم، في فواتح السور وخواتمها، في حروف التهجي، في رسم القرآن، في كل متشابه، يؤكد عظمة الإعجاز، وسمو النص القرآني، وما أجمل أن تظل الم، المص، المر، حم، طسم، وطه، وق آيات محكمات معجزات، يدرك العقل عظمة الحرف في أداء معناه، وتدرك الفطرة ما لا يدركه العقل من جوانب الفهم، ويقف أصحاب القلوب اليقظة خاشعين ينصتون إلى صوت القارئ وهو يردد هذه الأحرف الناطقة، فيفهمون بقلوبهم وفطرتهم ما لا يفهمه العقلاء من العلماء الذين حجبهم علمهم عن إدراك كثير من الحقائق، وانصرفت هممهم إلى استنطاق الأحرف الصامتة، والأحرف لا تنطق، لأنها تخاطب القلوب ولا تخاطب العقول، وما أقسى حجاب العقول وهي تصرف الهمم عن الفهم الصحيح إلى استعمال أقيسة ضيقة الأفق، لا تلهم

خواتم السور:

ولا تخاطب ولا تنطق، وما أجمل آيات القرآن وهي تسري كالدماء في شرايين الجسد الإنساني، تحييه وتوقظه وتبعث فيه الدفء والنور والحياة. ولا نملك في موطن الحديث عن حروف التهجي في القرآن إلا أن نقف خاشعين أمام أسلوب القرآن المعجز. - ألم تؤد هذه الأحرف أغراضها في الخطاب القرآني؟ - ألم يجد المسلم في هذه الأحرف القرآنية قداسة القرآن وعظمة أسلوبه؟ - ألم يقف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدب وخشوع أمام هذه الأسرار؟ فلم يتطاولوا على القرآن بفهم عقيم، ولم يحاولوا الجدل فيما لا طائل تحته ولا فائدة منه. فما أجدرنا أن نقف اليوم بخشوع أمام جلال القرآن، فلا نتخطاه ونتلقى الخطاب القرآني كما تلقاه أسلافنا، بفهم عميق وإدراك لأغراضه ومقاصده. خواتم السور: وتميزت خواتم السور كما تميزت فواتح السور بدلالات ومعاني وإشارات محققة أهدافها في مخاطبة البشر، مبينة لهم حكما، ومواعظ، داعية لهم بالهداية والاستقامة، مبشرة ومنذرة. انظر إلى ذلك الخطاب الرباني الملهم في آخر سورة البقرة: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. ما أجمل هذه الخاتمة، القرآن يعلمنا كيف ندعو الله، كيف نلتجئ إليه، ندعوه بألا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، وندعوه بألا يحملنا ما لا طاقة لنا به. خاتمة رائعة، ما أجمل أن يقف المفسرون أمامها بخشوع وأدب، لا يفسرونها بالقواميس، ولا يشوهون لغتها بالمفردات اللغوية، ولا يعبثون بجمالها، ولا يحيطونها بمعاني جديدة، فهي أوضح من كل تفسير، وأجمل من كل تعبير وأدل على المراد من كل بيان.

فواصل الآيات:

وتأتي نهاية سورة آل عمران داعية المؤمنين إلى الصبر والمصابرة والمرابطة، وكأنها توقظ الأمل في نفوس المؤمنين، وتحثهم على مواجهة الشدائد، ثم تقول بعد ذلك لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ولا نهاية للفلاح، فالفلاح هو الأمل وهو النهار بعد ليل طويل ... وتأتي سورة النساء مبينة لأحكام الفرائض، لئلا يقع الظلم، والظلم ضلال، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وهذه هي الرقابة التي تضمن أن تنفذ الأحكام كما أرادها القرآن. ثم تأتي المائدة وبعدها الأنعام والأعراف والأنفال، وكل سورة تختم بخاتمة ملائمة، ناصحة أو موجهة أو معلمة أو محذرة أو داعية لصبر أو حاثة على الاعتماد على الله والتوكل عليه. قال السيوطي في خواتم السور: هي أيضا مثل الفواتح في الحسن، لأنها آخر ما يقرع الأسماع، فلهذا جاءت متضمنة للمعاني البديعة، مع إيذان السامع بانتهاء الكلام، حتى لا يبقى معه للنفوس تشوف إلى ما يذكر بعد، لأنها بين أدعية ووصايا وفرائض وتحميد وتهليل ومواعظ ووعد ووعيد إلى غير ذلك (¬1). فواصل الآيات: الفاصلة في اللغة هي الشيء الذي يفصل بين أمرين، وتطلق على الخرزة بين خرزتين، والفصل القضاء بين الحق والباطل، والتفصيل هو التبيين والتوضيح، وكتاب فصلناه أي بيناه ووضحناه. واستعملت الفاصلة في القراءات القرآنية كمصطلح دال على الكلمة التي تأتي في آخر الجملة. قال أبو عمرو الداني: الفاصلة: كلمة آخر الجملة، وفرق بين الفواصل ورءوس الآية، فالفاصلة هي الكلام المنفصل مما بعده، سواء كان رأس آية أو نهاية كلام، وتسمى بالاستراحة في مجال الخطاب، حيث يتوقف الكلام. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 3، ص 320.

وقال أبو بكر الباقلاني: الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع، يقع بها إفهام المعاني. وقال الزركشي في البرهان: الفاصلة كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع (¬1). وقد ألف بعض العلماء في الفواصل، من هؤلاء، نجم الدين الطوفي المتوفى سنة 716 هـ الذي نسب إليه كتاب «بغية الواصل إلى معرفة الفواصل» وهو كتاب مفقود، وهناك كتاب آخر «القول الوجيز في فواصل الكتاب العزيز» لأبي عبد الله المخللاتي المتوفى سنة 1311 هـ وهو موجود في الخزانة التيمورية (¬2). وقال الجعبري صاحب شرح الشاطبية (¬3): لمعرفة الفواصل طريقان: توقيفي وقياسي: أما التوقيفي فما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه دائما تحققنا أنه فاصلة، وما وصله دائما تحققنا أنه ليس بفاصلة، وما وقف عليه مرة، ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريف الفاصلة أو لتعريف الوقف التام أو للاستراحة. وأما القياسي: فهو ما ألحق من المحتمل غير المنصوص بالمنصوص لمناسب، ولا محذور في ذلك، لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان (¬4). وقال بعض العلماء: «تقع الفاصلة عند الاستراحة بالخطاب لتحسين الكلام بها، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام، وتسمى فواصل، ولا يجوز تسميتها قوافي إجماعا، لأن الله تعالى لما سلب عنه اسم الشعر وجب سلب القافية عنه أيضا لأنها منه». ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 53. (¬2) انظر كتاب الفاصلة في القرآن للأستاذ محمد الحسناوي ص 62. (¬3) هو إبراهيم بن عمر الجعبري المتوفى سنة 732 هـ، وهو صاحب كتاب روضة الطرائف في رسم المصاحف. (¬4) انظر الإتقان للسيوطي، ج 3، ص 290.

وذهب الرماني في إعجاز القرآن، والباقلاني أيضا إلى عدم وجود سجع في القرآن، وفرقوا بين الفاصلة والسجع، فالفاصلة بلاغة والسجع عين، وذهب غيرهم إلى إثبات السجع في القرآن، لأن ذلك مما يتبين فيه فضل الكلام، وإنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان والفصاحة كالتجنيس والالتفات (¬1). وهذا الخلاف بين من قال بإثبات السجع في القرآن، ونفيه عنه هو الرغبة في تنزيه القرآن عما لا يليق به من الأوصاف، فمن نفى السجع اعتبر أن السجع تكلف وتصنع، والقرآن لا تكلف فيه، ومن أثبت السجع في القرآن نظر إلى كلام فصحاء العرب، واعتبر أن بعض السجع فضيلة، وهو دليل فصاحة (¬2). وقال بعضهم: «وكيف يعاب السجع على الإطلاق، وإنما نزل القرآن على أساليب الفصيح من كلام العرب، فوردت الفواصل فيه بإزاء ورود الأسجاع في كلام العرب، وإنما لم يجئ على أسلوب واحد، لأنه لا يحسن في الكلام جميعا أن يكون مستمرا على نمط واحد لما فيه من التكلف، ولما في الطبع من الملل عليه، ولأن الافتنان في ضروب الفصاحة أعلى من الاستمرار على ضرب واحد، فلهذا وردت بعض آي القرآن متماثلة المقاطع وبعضها غير متماثل» (¬3). وهذا الخلاف- على ما يبدو- ظاهري، فهو يناقش الفواصل القرآنية، ثم يقف أمام التسمية متسائلا: هل هذا النسق في النظم القرآني يعتبر سجعا، أم أنه نوع جديد من أنواع البلاغة القرآنية، فمن أنكر إنما أنكر التسمية، فكلمة «السجع» كانت تستخدم في كلام الكهان، وهي تدل على تصنع وتكلف، والقرآن منزه عن ذلك، ولو قيل بإثبات السجع في القرآن لكان الأسلوب القرآني غير خارج عن أساليب العرب، وهذا ينافي الإعجاز القرآني، الذي يؤكد تميّز القرآن عن أساليب العرب، وفضلا عن هذا فإن السجع تحكمه أوزان ولا يمكن للسجع أن يخرج عن أوزانه المعتادة، وإلا اعتبر ذلك السجع خارجا عن نطاق السجع المستحب والممدوح. ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 54. (¬2) نفس المصدر. (¬3) انظر البرهان، ج 1، ص 60.

ومن أثبت السجع في القرآن، فإنه لم يعتبر أن السجع عيب في القرآن، وبخاصة إذا كان ذلك السجع خاليا من تكلف أو تصنع، ولا يمكن لسجع القرآن إلا أن يكون في أعلى درجات الفصاحة، والنهي مقتصر على سجع الكهان، لما يتصف به ذلك السجع من زيف وباطل. ولذلك فإن الخلاف ظاهري، وهو خلاف مصطلح وتسمية، ولا يترتب عليه أي أثر، ولا شك أن أسلوب القرآن متميز، ولو وقع الالتزام بالمصطلحات القرآنية لكان أفضل، ولابتعدنا عن كثير من المزالق، فالفاصلة القرآنية ذات خصوصيات أسلوبية، وذات صيغ متعددة، وذات تعبيرات إعجازية قد تدلك بدرجات متفاوتة، فما يدركه البعض من مظاهر الإعجاز والجمال قد لا يدركه البعض الآخر. ولا شك أن القرآن راعى المناسبة بين الفواصل، وهو أمر مألوف في اللغة، ومحمود في الأسلوب، ومؤثر في جمال العبارة، وقال شمس الدين بن الصائغ المعروف بابن أبي الفرس المتوفى سنة 776 هـ، في كتابه «إحكام الرأي من أحكام الآي»: بأن المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية يرتكب لها أمور من مخالفة الأصول، وتتبع ذلك في القرآن، وعثر على أكثر من أربعين حكما، نورد منها أمثلة (¬1): 1 - زيادة حرف كإلحاق الألف في قوله: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. 2 - حذف همزة أو حرف كقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ. 3 - تأخير ما أصله أن يقدم: كقوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، وقوله: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ فأخر الفاعل لأجل الفاصلة. 4 - إفراد ما أصله أن يجمع، كقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ والأصل «الأنهار». ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 6 - 70.

5 - جمع ما أصله أن يفرد، كقوله تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ والأصل ولا خلة بالإفراد. 6 - تثنية ما أصله أن يفرد، كقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وأنكر ابن قتيبة أن الغاية من التثنية هنا مراعاة الفاصلة، ومعه حق في إنكاره، لأن مراعاة الفاصلة فيما لا يضيف معنى، كزيادة حرف لا يضيف معنى. 7 - تأنيث ما أصله أن يذكر، كقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ. 8 - صرف ما أصله ألا ينصرف: كقوله تعالى: قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ فنوّن الكلمتين لأجل التناسب مع الفواصل وَأَغْلالًا وَسَعِيراً. 9 - إمالة ما أصله ألا يمال: كقوله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها، وجَلَّاها وغشاها. 10 - العدول عن صيغة الماضي إلى الاستقبال، كقوله تعالى: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ، ولم يقل: «وفريقا قتلتم». 11 - إيراد أحد القسمين غير مطابق للآخر: كقوله تعالى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ. 12 - حذف المفعول كقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى. 13 - إثبات هاء السكت: كقوله تعالى: مالِيَهْ/ سُلْطانِيَهْ/ ما هِيَهْ. قال الزمخشري: «لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها إلا مع بقاء المعاني على سردها، على المنهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه، فأما أن تهمل المعاني ويهتم بتحسين اللفظ وحده غير منظوم فيه إلى مؤداه، فليس من قبيل البلاغة، وبني على ذلك أن التقديم في وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ليس لمجرد الفاصلة بل لرعاية الاختصاص» (¬1). ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 3، ص 314.

ويلاحظ أن فواصل القرآن إما أن تكون متماثلة أو متقاربة، فالفواصل المتماثلة دالة على حسن البيان ما لم تكن متكلفة، كقوله تعالى: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور: 1 - 5]، وقوله أيضا: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً [العاديات: 1 - 5]، وقوله أيضا: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الفجر: 1 - 4]. أما الفواصل المتقاربة فلا تعتبر من السجع عند من يقول بإطلاق السجع في القرآن، لانعدام التماثل في الحروف، كقوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 75.

الفصل التاسع: ترتيب السور والآيات

الفصل التاسع: ترتيب السور والآيات اختلف العلماء في ترتيب القرآن، وتعددت آراؤهم وتباعدت، وذلك بسبب ما ورد من روايات مأثورة، احتج بها كل فريق على ما ذهب إليه في ترتيب القرآن من حيث هو توقيفي أو اجتهادي. والأرجح أن الأمر يختلف بين الآيات والسور، والأصل أن كل ما يتعلق بالقرآن من حيث الترتيب لا بد فيه من دليل، لأن من الصعب الاتفاق على أمر اجتهادي، ولا يمكن للاجتهاد أن يتوصل إلى معايير دقيقة للترتيب يقع عليها الإجماع، ولا بد في هذه الحالة من دليل يعتمد عليه، ويحتكم إليه. وهناك أدلة تؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر كتاب الوحي بأن يضعوا كل آية في الموطن الذي يحدده لهم، ولو كان الأمر خاضعا للاجتهاد لجاءت السور متساوية في عدد الآيات، ولما كانت هناك سور طويلة وقصيرة، وكيف يتصور وجود سورة كسورة البقرة إلى جانب سور أخرى قصيرة لا تتجاوز بضع آيات، مما يؤكد وجود أدلة واضحة ثابتة حددت مواطن الآيات والسور، بالطريقة التي جاءت في القرآن. ويبدو أن العلماء فرقوا بين الآيات والسور من حيث الحكم، لوضوح الأمر بالنسبة لترتيب الآيات، وتعدد الروايات بالنسبة لترتيب السور. ترتيب الآيات: أجمع العلماء على أن ترتيب الآيات توقيفي، لوضوح الأدلة في ذلك، وثبت أن جبريل عليه السلام كان يرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما ينزل عليه بالوحي أن يضع كل آية في موقعها من السورة، ولا تتصور تلاوة القرآن إلا في ظل وضوح ترتيب الآيات ومراعاة هذا الترتيب أثناء الحفظ. روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ شخص ببصره ثم صوبه، ثم قال: «أتاني جبريل فأمرني

أن أضع هذه الآية هذا الموضع من السورة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» إلى آخرها. وروى مسلم عن عمر قال: ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال: «تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء». قال السيوطي في الإتقان: «الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، وأما الإجماع فنقله غير واحد، منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته، وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين» (¬1). وقال الزركشي في البرهان (¬2): «وأما ما يتعلق بترتيبه، فأما الآيات في كل سورة ووضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفي بلا شك، ولا خلاف فيه، ولهذا لا يجوز تعكيسها». وقال القاضي أبو بكر: «ترتيب الآيات أمر واجب وحكم لازم، فقد كان جبريل يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا. وجاء في كتاب فضائل القرآن لأبي عبيد: قيل لابن مسعود: إن فلانا يقرأ القرآن منكوسا، فقال: ذلك منكوس القلب». وهذه الأدلة واضحة كل الوضوح ومؤكدة كل التأكيد أن ترتيب الآيات توقيفي، ولا مجال للاجتهاد في ذلك، بل لا يتصور الاجتهاد في مجال ترتيب الآيات لوضوح النصوص المؤكدة للتوقيف. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 172. (¬2) انظر البرهان، ج 1، ص 256.

وجاءت كلمة «الآية» في اللغة دالة على معاني عدة: الأول: الجماعة: تقول العرب: خرج العرب بآيتهم أي بجماعتهم. الثاني: للدلالة على التفوق والإعجاب: فلان آية في الجمال. وتفيد معنى الإعجاز كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ. الثالث: العلامة: قال تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي علامة ملكه. الرابع: العبرة: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي عبرة، وجاءت في القرآن الكريم بمعنى البرهان، في قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. واستعملت في القرآن دالة على مقاطع مستقلة من السور القرآنية، بحيث تنقسم السورة إلى آيات، كل آية دالة على معنى مستقل، وبفضل هذا التقسيم أصبحت قراءة القرآن ميسرة، ومعانيه واضحة، فضلا عما تمثله كل آية من مظاهر الإعجاز البياني. وحاول بعض علماء اللغة تعريف معنى الآية، قال بعضهم: هي طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها وما بعدها ليس بينها شبه بما سواها، وقال آخرون: الصحيح أنها إنما تعلم بتوقيف من الشارع لا مجال للقياس فيه لمعرفة السورة، فالآية طائفة حروف من القرآن علم بالتوقيف انقطاعها معنى عن الكلام الذي بعدها في أول القرآن، وعن الكلام الذي قبلها في آخر القرآن (¬1). وقال الزمخشري: الآيات علم توقيف لا مجال للقياس فيه: واستشهد بما ذهب إليه العلماء من اعتبار «الم» آية حيث وقعت من السورة المفتتح بها، وكذلك «المص» و «المر» و «الر» ليست بآية، وليست هناك قاعدة قياسية للحروف الواردة في القرآن، ولو كان الأمر خاضعا للاجتهاد لكانت المعايير قياسية وموحدة. ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 266.

ترتيب السور:

ترتيب السور: تختلف السورة عن الآية، فالسورة تطلق على طائفة من الآيات المتصلة ذات بداية ونهاية، ووفق ترتيب محكم دقيق، وكلمة السورة مأخوذة من سور البناء المكون من قطع متلاحقة، أو من سور المدينة الذي يحيط بأبنيتها المجتمعة، أو من السوار لإحاطته بالساعد. قال ابن جني: «إنما سميت سورة لارتفاع قدرها، لأنها كلام الله تعالى، وفيها معرفة الحلال والحرام، ومنه رجل سوار أي معربد، لأنه يعلو بفعله ويشتط، ويقال: أصلها من السورة وهي الوثبة». قال الجعبري: «حد السورة قرآن يشتمل على آي ذوات فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات، فإن قيل: فما الحكمة في تقطيع القرآن سورا؟ قلت: هي الحكمة في تقطيع السور معدودات، لكل آية حد ومطلع، حتى تكون كل سورة بل كل آية فنا مستقلا وقرآنا معتبرا». وقال الزمخشري: «الفوائد في تفصيل القرآن وتقطيعه سورا كثيرة، وكذلك أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور، وما أوحاه إلى أنبيائه سورة، وبوب المصنفون في كتبهم أبوابا موشحة الصدور بالتراجم، منها أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع وأصناف كان أحسن وأفخر من أن يكون بابا واحدا، ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر، كان أنشط له، وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله». واختلف العلماء في ترتيب السور هل هو توقيفي أو اجتهادي (¬1)، قال ابن فارس: «جمع القرآن على ضربين: أحدهما: تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين، فهذا هو الذي تولته الصحابة، وأما الجمع الآخر وهو جمع الآيات في السور، فهو توقيفي تولاه النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه». وقال أبو بكر بن الأنباري: «أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرقه في ¬

_ (¬1) انظر الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 176 - 177.

بضع وعشرين، فأنساق السور كأنساق الآيات والحروف، كله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن». وقال الكرماني في البرهان: «ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب». وقال الطيبي: «أنزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا على حسب المصالح، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ». وذهب الزركشي في البرهان إلى أن العلماء اختلفوا في ترتيب السور على ما هو عليه هل هو توقيف أو من فعل الصحابة إلى ثلاثة أقوال (¬1): القول الأول: ترتيب السور اجتهادي، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء ومنهم مالك والقاضي أبو بكر بن الطيب، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم فوض الأمر إلى أمته. القول الثاني: ترتيب السور توقيفي: واعتبر الزركشي أن الخلاف بين القول الأول والثاني يرجع إلى اللفظ، لأن الصحابة ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما قاله مالك فمن قال بالاجتهاد اعترف بأن الصحابة ألفوا القرآن بحسب ما سمعوه، والخلاف بين التوقيف القولي أو الاستناد الفعلي كما يقول الزركشي. القول الثالث: التفصيل: فبعض القرآن علم ترتيب سوره في حياته صلى الله عليه وسلم كالسبع الطوال والحواميم والبعض الآخر فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده. وقال أبو جعفر النحاس: المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويلاحظ أن الخلاف لفظي وظاهري كما قال الزركشي، بين من قال بالتوقيف والاجتهاد، فمن قال بالاجتهاد اعترف أن الصحابة راعوا في الترتيب ما ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 257.

عدد سور القرآن:

كان عليه الأمر في عهده صلى الله عليه وسلم من حيث وضوح الترتيب بالنسبة لمعظم القرآن، وربما وقع الاجتهاد في بعض السور التي لم يتضح فيها الترتيب، وكان لا بد من الاجتهاد في الأمر، والاجتهاد ليس في الترتيب، وإنما في ترجيح ما كان عليه الأمر في عهد النبوة، ولهذا اختلف ترتيب مصحف عثمان عن ترتيب مصحف ابن مسعود، الذي جعل سورة النساء مقدمة على سورة آل عمران، ويبدو أن اللجنة الرباعية التي أعدت مصحف عثمان رجحت تقديم سورة آل عمران على النساء، ورأت أن ذلك الترتيب هو الأرجح في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومما يؤكد التوقيف في كل ما يتعلق بالقرآن أن الصحابة التزموا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدم الاجتهاد في أي أمر يتعلق بالقرآن، والتوقف عند حدود النقل الثابت، ويؤكد هذه الحقيقة أن الصحابة لم يضيفوا البسملة إلى أول سورة «براءة» ولم يكن يحق لهم ذلك، ولم يجتهدوا في الأمر، حتى إن بعضهم ظن أن سورة براءة هي جزء من سورة الأنفال السابقة لها، لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتفريق بين السورتين، ولم يضف إليها البسملة، واختلفوا في تفسير سقوط البسملة في «سورة براءة» وقال بعضهم: السبب في ذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا أرادوا نقض عهد لم يكتبوا البسملة في كتاب النقض، ونزلت براءة بنقض العهد الذي كان للكفار، ولما قرئت خلت من البسملة، إيذانا لهم بما اعتادوه في مثل هذه المواقف. عدد سور القرآن: أجمع العلماء على أن عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وقيل: مائة وثلاث عشرة سورة عند من جعل الأنفال وبراءة سورة واحدة. وطلب الحجاج بن يوسف من قراء البصرة أن يحصوا له كلمات القرآن وحروفه، فمكثوا أربعة أشهر يعدون الكلمات والحروف بالشعير، وأجمعوا على أن كلمات القرآن سبع وسبعون ألفا وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة، وحروف القرآن ثلاث مائة وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر حرفا (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 184.

وأما عدد الآيات فهو ستة آلاف آية، واختلفوا فيما زاد على ذلك، مائتان وأربع آيات، أو مائتان وتسع عشرة آية، أو مائتان وخمس وعشرون، أو مائتان وست وثلاثون: وأطول سورة في القرآن هي البقرة وأقصر سورة هي الكوثر، وأطول آية هي آية الدين، وأقصر آية هي «والضحى». وتعلم الآية بتوقيف من الشارع الحكيم، كما هو الشأن بالنسبة للسور القرآنية، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر كتاب الوحي بمراعاة ذلك، ولولا ذلك التوقيف الشرعي لما أمكن بالاجتهاد أن تكون هناك آيات طويلة أو قصيرة، لصعوبة وضع معيار ثابت لذلك، فبعض الآيات كلمة واحدة، وبعضها آيات طوال. وأكد الزمخشري ذلك بقوله: الآيات علم توقيفي لا مجال للقياس فيه، والأرجح أن نقول إن كل ما يتعلق بالقرآن توقيفي، وبخاصة ما يتعلق بالرسم والترتيب والآيات والسور، والاجتهاد قليل، وهو معتمد على نقل أو رواية راجحة أو قرينة ثابتة يستعان بها في معرفة التوقيف. وحاول بعض العلماء ذكر الفائدة من معرفة الآيات والفواصل، وأن ذلك ضروري في بعض الأحكام الفقهية، في قراءة آية كاملة في خطبة الجمعة، وفي صلاة من جهل فاتحة الكتاب وفي معرفة مواطن الوقف، وقال البخاري: «لا أعلم لعدد الكلمات والحروف من فائدة»، وبخاصة وإن من الصعب ضبط الكلمات والحروف لاختلاف مفهوم الكلمة من حيث الحقيقة والمجاز. وإذا انتفت الفائدة من بعض ما انصرف العلماء إليه من بيان الكلمات والحروف، فإن ذلك مؤشر واضح الدلالة على عظمة الجهود التي بذلها العلماء في ضبط كل ما يتعلق بالقرآن، رسما وترتيبا وجمعا ورواية. تأكيدا لمكانة هذا القرآن العظيم في نفوس المسلمين، وحرصا منهم على صيانته من أي عبث يسيء إليه.

مناسبة الآيات والسور:

ومن العبث إثارة شبهات حول القرآن، ومحاولة الرد عليها، لأن ذلك مما أصبح متجاوزا، وليست هناك فائدة من إثارة تلك الشبهات التي رد عليها العلماء ردّا موضوعيا بالأدلة العلمية، ومن حق المسلم أن يرفض كل جديد فيما يتعلق بالجدل المرتبط بقطعية القرآن، ولا وسيلة لإرضاء خصوم القرآن إلا بعد التسليم بكل ما يثيرونه من شبهات، وهذا مطلب يأباه المسلم ويرفضه، ويجب أن تقتصر الدراسات القرآنية على بيان تاريخ القرآن، ومراحل جمعه وتوثيقه، وأن ينصرف الاهتمام إلى ما يساعد الباحثين على معرفة جوانب الإعجاز في القرآن واكتشاف الجديد من معانيه وحكمه وأحكامه، وهذا باب كبير وعالم فسيح ولا نهاية له، لأن التفسير القرآني متواصل ومتجدد مع تجدد الخطاب القرآني، والبشر متكافئون في قدراتهم الذهنية، والأجيال مطالبة بأن تسهم في خدمة القرآن وفي استنباط أحكامه وحكمه. مناسبة الآيات والسور: المناسبة في اللغة المقاربة، يقال: فلان يناسب فلانا أي يقرب منه ويشاكله، ومنه النسيب وهو القريب، ومنه المناسبة في العلة في باب القياس، والعقول البشرية تدرك أهمية المناسبة بين الأشياء المتجاورة والمتجانسة، ولا يمكن إغفال أهمية التقارب بين الأشياء، فهناك على وجه التأكيد علاقات بين الأضداد والنظائر، وأحيانا تدرك تلك العلاقات إذا قام دليل يؤكدها أو يشير إليها، وأحيانا لا تدرك تلك العلاقات، لخفائها أو لعجز العقل عن إدراكها، والعقول البشرية ليست متساوية في إمكاناتها، فما يمكن إدراكه لدى البعض لا يمكن إدراكه لدى البعض الآخر، للتفاوت في القدرات. ومن هذا المنطلق حاول بعض العلماء البحث عن أوجه المناسبة بين الآيات والسور، من حيث التجاور والتتابع، أو من حيث تسمية أسماء السور، والمناسبة ليست أمرا محددا، ولهذا تحتاج إلى قدرة وبديهة وحسن تأمل. وأشاد بعض علماء القرآن والتفسير بأهمية التناسب بين الآيات، واعتبروا ذلك علما مستقلا جديرا بالعناية والتأمل (¬1). ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 35.

وقال الزركشي في البرهان: «وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم، المتلائم الأجزاء» (¬1). وقال العز بن عبد السلام المتوفى سنة 660 هـ: «المناسبة علم حسن، ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث فضلا عن أحسنه» (¬2). وقال الإمام الرازي في تفسيره: ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة، وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضا بسبب ترتيبه ونظم آياته (¬3). وقال أيضا: «أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط». وقال أبو بكر بن العربي في سراج المريدين: «ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني، علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة، ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه». وقال أبو الحسن الشهراباني: «أول من أظهر ببغداد علم المناسبة، ولم نكن سمعناه من غيره، هو الشيخ ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 36. (¬2) انظر الإتقان للسيوطي، ج 3، ص 322. (¬3) انظر نفس المصدر.

المناسبة مظهر من مظاهر الإعجاز:

الإمام أبو بكر النيسابوري، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه: لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة، وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة (¬1). وقد ألف عدد من العلماء في علم المناسبة، منهم أبو جعفر بن الزبير شيخ أبي حيان في كتابه البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن، وبرهان الدين البقاعي في كتابه: «نظم الدرر في تناسب الآي والسور» والسيوطي في كتابه: «تناسق الدرر في تناسب السور». المناسبة مظهر من مظاهر الإعجاز: والمناسبة تؤكد التوقيف بالنسبة لترتيب الآيات والسور، وهي مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني الذي يؤكد الترابط بين الآيات والحكمة في تسلسل المعاني، وإلحاق فكرة بأخرى، وربط حكم بآخر، مما يؤكد وجود نسق قرآني مترابط متلاحم يسعى بعضه في تأكيد البعض الآخر وتوضيحه، للوصول إلى معنى مقصود وحكمة مبتغاة، وغاية مرجوة ... والمناسبة تؤكد الترابط والتكامل في الآيات والسور، ولا يمكن تصور انفكاك الآيات عن بعضها، لأن ذلك يخل بالنسق القرآني المعجز، وعجز البشر عن إدراك وجه المناسبة لا يعني انعدام الترابط، ولهذا تتفاوت قدرات المفسرين في تلمس المناسبة المؤدية إلى غاية، ويحتاج علم المناسبة إلى إشراقة روحية تعين المفسر على تلمس عظمة الترتيب القرآني، ومهما بلغ العقل في درجة إدراكه، فإنه يعجز أحيانا عن إدراك أوجه للتقارب والتجانس تحتاج إلى صفاء نفسي وروحي، يوقظ قدرات القلب على الفهم والإدراك. وعلم المناسبة علم ذاتي لا يخضع لمعايير مادية، فما كان واضح التقارب والتماثل كما هو الشأن في النظائر والأضداد واقتران المسببات بالأسباب ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 36، والإتقان، ج 3، ص 522.

ارتباط علم المناسبة بأسباب النزول:

والمعلولات بالعلل لا يحتاج إلى كثير جهد لوضوح أوجه العلاقة والترابط، وما كان ظاهر الانقطاع والانفصال بين الآيات يحتاج إلى عمق نظر وحسن تأمل، لإدراك وجه العلاقة واكتشاف ما غمض من أوجه الترابط. ومن العوامل الأساسية في فهم أوجه المناسبة بين الآيات والسور أن يحيط المفسر بالقرآن، وأن يستوعب مقاصده وغاياته، وأن يفهم أغراضه وأساليبه، وأن ينظر للقرآن نظرة شمولية متكاملة، بحيث تكتشف التوجهات القرآنية، وتعلم أساليب القرآن في التربية والتوجيه. ارتباط علم المناسبة بأسباب النزول: ويرتبط علم المناسبة ارتباطا واضحا بأسباب نزول القرآن، وبالبيئة التي نزل بها القرآن، وبطبيعة المخاطبين بالخطاب القرآني، ولا بد من معرفة المكي والمدني من الآيات، لأن علم المناسبة يتطلب الإحاطة بكل ما يتعلق بالخطاب. ولا بد من توفر شروط أهمها: - معرفة جيدة بالقرآن، لأن ذلك هو الأساس في إدراك أوجه الترابط بين الآيات والسور. - معرفة بأساليب اللغة العربية، لأن القرآن نزل بلغة العرب، وراعى ما كان سائدا عندهم من أوجه البيان والتعبير. - معرفة السيرة النبوية، لأنها هي الأساس في تفسير القرآن، وفي فهم ما ورد فيه من أحكام، وما اشتمل عليه من معان وتوجيهات. - قدرة ذاتية على التماس أوجه التشابه والترابط والتناسب بين الآيات، وهذه القدرة تحتاج لاستعداد ذاتي. وفسر السيوطي في الإتقان والزركشي في البرهان معنى المناسبة بين الآيات بأن ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلق الكلم بعضه على بعض على وجه التفسير والتأكيد، وإما ألا يكون ظاهر الارتباط، فعندئذ لا يخلو الأمر من وجود عطف مؤكد لوجود جهة جامعة أو لا يكون هناك عطف، وعندئذ

لا بد من البحث عن قرائن معنوية تؤكد، وتعلم بوجود رابط بين الآيات، ومن أهم القرائن ما يلي: أولا: التنظير: لأن إلحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء. ثانيا: المضادة: وهو اتباع آية الحديث عن المؤمنين بآية تصف حالة الكافرين، لبيان أوجه التضاد، وهو أسلوب واضح في التشويق. ثالثا: الاستطراد: والحكمة منه الانتقال من ذكر حال إلى بيان حكم أو حكمة مناسبة للمقام، ثم العودة إلى الموضوع الأول، وهذا الاستطراد يؤدي غايته في بيان ما قصد إليه القرآن من الإشارة إلى حكمة أو عبرة أو لفت نظر إلى مقاربة أو إقرار حقيقة أو تذكير بأمر. وأفاض العلماء في ذكر أمثلة من القرآن الكريم، وبينوا وجه المناسبة في اقتران الآيات والسور، ملتمسين استكشاف أوجه التشابه والتقارب، باحثين عن القرائن التي يمكن أن تفيدهم في معرفة ذلك. ولعل كلمة الإمام الرازي هي أوضح كلمة وأدلها تعبيرا عن عظمة علم المناسبة، وإن «أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط».

الفصل العاشر: علم الناسخ والمنسوخ

الفصل العاشر: علم الناسخ والمنسوخ اهتم العلماء بدراسة النسخ في القرآن الكريم، وصنفوا فيه، وأفردوا له مؤلفات خاصة، وكشفوا النقاب عن مواطنه، وأزالوا الشبهات التي أحيطت بموضوع النسخ، ومن أبرز من ألف في النسخ كل من ابن الجوزي الفقيه الحنبلي المتوفى سنة 597 هـ في كتابه: «أخبار الرسوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ» وهو مطبوع مع كتاب مراتب المدلسين لابن حجر، وأبي جعفر النحاس محمد بن أحمد المرادي المتوفى سنة 338 هـ في كتابه: «الناسخ والمنسوخ»، وهو مطبوع بهامش كتاب أسباب النزول للواحدي، ومكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 313 هـ في كتابه: «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه»، وكتابه: «الإيجاز في ناسخ القرآن ومنسوخه»، وكتب في الناسخ والمنسوخ كل من: قتادة بن دعامة من تابعي البصرة، وأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي داود السجستاني، وأبي بكر بن الأنباري وأبي بكر بن العربي المعافري (¬1). واعتبر علماء القرآن علم الناسخ والمنسوخ من أهم علوم القرآن والتفسير، وهو عمدة العلوم، لأنه لا يمكن تفسير القرآن إلا بعد معرفة علم الناسخ والمنسوخ، وهو العلم الذي يبين مراحل نزول التشريع وتدرجه ويوضح منهج التشريع في إقرار الأحكام، وحكمته في خطاب المكلفين. ونظرا لأهميته، فقد انصرف اهتمام علماء التفسير لدراسة هذا العلم، وناقشوا فكرة النسخ في القرآن، وأوضحوا مواطن النسخ، ودرسوا الروايات التي أشارت إلى وجود النسخ. معنى النسخ: يطلق النسخ في اللغة على معنيين: المعنى الأول: إزالة الشيء وإعدامه ومنه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 2، ص 28.

مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [الحج: 52] ويفيد معنى الإبطال، يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته، ونسخت هذا الكلام أي أبطلته ومعنى الإزالة واضح في النسخ. المعنى الثاني: النقل والتبديل والتحويل: يقال: نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه حاكيا لفظه وخطه، ويأتي بمعنى التبديل، وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [النحل: 110] واستعملت كلمة النسخ في المصطلح الفقهي بمعنى التحويل، كتناسخ المواريث أي تحويل الميراث من واحد إلى آخر. وجاءت لفظة «النسخ» في الاصطلاح بمعنى: «رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي» وكلمة «الرفع» دقيقة المعنى، لأنها تعبر عن المعنى الحقيقي لمعنى النسخ والغاية منه، وكلمة الرفع أدق من كلمة الإزالة والتبديل والنقل والتحويل، فالنسخ هو رفع حكم شرعي بدليل، وكلمة النسخ أدق من كل كلمة تفسيرية، إذ لا يمكن لأية كلمة أن تفيد المعنى المطلوب، وعلم الناسخ والمنسوخ هو العلم الذي يبحث في ظاهرة رفع الأحكام الشرعية السابقة بأحكام شرعية لا حقة. وهنا نتوقف قليلا عند مفهوم النسخ، فقد يكون النسخ الظاهر بيانا لا حقا للحكم الشرعي الأول، وبخاصة في حالات عدم وجود تعارض حقيقي في الأحكام المتعاقبة المتلاحقة ولا مجال للقول بوجود النسخ مع وجود البيان المتمم للحكم، إذ لا يمكن القول بوجود نسخ في قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ، عن طريق اصطناع فصل بين أجزاء الآية، فالكلام متصل ومتكافل وواضح، ولا يتضح الحكم بعد أن يكتمل الخطاب. ولا يمكن تصور النسخ إلا في حالات محدودة، حيث يبرز النسخ كحقيقة لا يمكن إنكارها، كما في حالات نسخ التلاوة، وهذا نسخ حقيقي، لا مجال لإنكاره، وهناك نسخ حكم سابق بحكم لاحق، إذا تعذر الجمع بين الحكمين، ولا أظن أن توسيع دائرة النسخ في القرآن من الأمور المطلوبة، فالأصل أن يكون كل ما في القرآن خطابا للمكلفين، إلا ما ثبت نسخ حكمه.

أنواع النسخ:

ولا فائدة في مناقشة ما أثاره العلماء في موضوع النسخ من استحالة البداء على الله، لأنه يتضمن ظهورا بعد خفاء وتغييرا في الرأي، وذلك جدل غير مفيد، وأمر النسخ واضح الحكمة، جلي الفائدة، وهو منهج تشريعي، لا بد منه، لمواكبة سير الدعوة، وإقرار أحكام تحقق المصلحة، وتنسجم مع المرحلة الزمنية، وإذا سلمنا بمبدإ الإيمان بالله، وبما جاء من عند الله وجدنا أنفسنا في حلّ من تفسير ظاهرة النسخ وكثير من الظواهر المتعلقة بالرسالة والقرآن تفسيرا عقليا يخل في معظم الأحيان بقدسية المعاني الإيمانية، ويجعل المؤمن في موقف التساؤل والوصاية على ما لا يجوز أن يتدخل فيه أو يناقشه من أمور دينه وعقيدته. إن منهجا جديدا في دراسات الفكر الإسلامي يعتمد على طرح ذلك المنهج الجدلي المكرر والمحفوظ جدير بأن يسهم في تطور فكرنا الإسلامي، فلا نناقش فيه ما قاله اليهود والنصارى، وكأنهم أوصياء على فكرنا، ولا نضيع وقتنا في جدل مع علماء الكلام في قضايا تجاوزها منهج السلف ولم يقف عندها، لأن الحوار فيها لا يؤدي إلى نتيجة، وربما يثير قضايا جديدة، تشغل العلماء بما هو غير مفيد من أنواع الحوار. أنواع النسخ: قسم علماء القرآن النسخ إلى أنواع: النوع الأول: ما نسخت تلاوته وحكمه معا: قال أبو بكر الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف، فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى «ولا يعرف منها اليوم شيء» (¬1). وأورد السيوطي ما روته عائشة: «كان فيما أنزل «عشر رضعات معلومات ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 2، ص 40.

فنسخن بخمس رضعات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن» رواه الشيخان، وقد تكلموا في قولها: وهي مما يقرأ: «مما يفيد بقاء التلاوة، وأجيب بأن المراد أن النسخ تم قبل الوفاة، ولم يبلغ كل الناس بذلك، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الناس يقرؤها» (¬1). النوع الثاني: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته: وهذا النوع هو الذي وقع الاهتمام به، وألّفت المؤلفات فيه، وانصرف إليه العلماء، وكتب ابن العربي المعافري كتابه: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم في هذا النوع من النسخ، نظرا لاختلاف مدلوله، وتعدد الآراء فيه، وسبب الاختلاف في هذا النوع من النسخ أن القراءة باقية، ولم تنسخ، فتوسع العلماء في فهم معنى النسخ وشموله، والتبس عليهم الأمر بين التخصيص والنسخ، فاعتبروا التخصيص نسخا، وهذا تجاوز. ومما ذهب إليه بعض العلماء في هذا المجال أنهم اعتبروا آيات القتال ناسخة لكل الآيات الواردة في القرآن التي تتضمن العفو والصفح والصبر، وأن تلك الآيات الداعية إلى قتال المشركين عامة وشاملة، فلا مجال بعدها للمهادنة أو المجادلة أو الصبر أو الصفح أو الإمهال، وذكر ابن العربي في كتابه الناسخ والمنسوخ أكثر من سبعين آية منسوخة بآيات القتال، كما ذكر الآيات التي نسخ حكمها وبقيت تلاوتها. وأورد ابن العربي الآيات التي نسخ حكمها، وبقيت تلاوتها، ومن هذه الآيات ما يلي: الآية الأولى: قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 180]. قال ابن العربي في هذه الآية: «قال علماؤنا وابن القاسم عن مالك: هذه الآية نزلت قبل الفرائض ثم ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 3، ص 63.

أنزل الله الفرائض في المواريث، فنسخت الوصية للوالدين ولكل وارث إلا أن تأذن الورثة في شيء فيجوز» واتفق الكل على أنها منسوخة واختلفوا في ناسخها على أربعة أقوال (¬1): الأول: إن ناسخها آية المواريث. الثاني: إن ناسخها قوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً [النساء: 8]. الثالث: إنه نسخها أن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه ولا وصية لوارث. الرابع: إنه نسخها بإجماع الأمة على إبطالها وأن الوصية لا تجوز لأحد ممن سمى الله له فرضا معروفا أو جعل النبي صلى الله عليه وسلم له حقا مفروضا. وقد ناقش ابن العربي هذه الأقوال الأربعة وردها، ولم يعتبرها ناسخة للآية الأولى، فآية المواريث لا تتعارض مع آية الوصية، ومن شروط النسخ التعارض، ولا يعرف المتقدم والمتأخر من الآيتين، وآية القسمة لا تصلح لنسخ آية الوصية لعدم التعارض أيضا، ولا يصلح الخبر «لا وصية لوارث» لنسخ الآية، لأن الآية أقوى من هذا الخبر من حيث الصحة، ولا بد في النسخ من التماثل بين الناسخ والمنسوخ، أما الإجماع فلا يصلح لنسخ الآية، لأن الإجماع لا ينسخ أصلا لأنه ينعقد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وفرق بين الإجماع الذي ينعقد على نظر، والإجماع الذي ينعقد على أثر، فما انعقد على نظر لا يصلح للنسخ، وما انعقد على أثر جاز أن يكون ناسخا، ويكون الناسخ الخبر الذي انبنى عليه الإجماع، وعندئذ تكون الأمة قد أجمعت على إسقاط الوصية للوالدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» (¬2). الآية الثانية: قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ¬

_ (¬1) انظر الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن العربي ج 2، ص 7، تحقيق الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري، نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية. (¬2) نفس المصدر، ج 2، ص 19.

[البقرة: 184] وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185]. وأورد ابن العربي الأقوال التي وردت في بيان هذه الآية، وأقوال الفقهاء في حكم الإطعام، فالصوم واجب على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام على من لم يطق الصيام إذا فطر من كبر (¬1). الآية الثالثة: قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ إلى قوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة: 187]. وهذه الآية ناسخة للآية التي قبلها وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، ونقل ابن العربي عن المفسرين أن المراد بالآية نسخ ما كان عليه العمل لدى الأمم السابقة، من تحريم الوطء بعد النوم في ليلة الصيام، وكان صوم المسلمين في بداية الأمر كصوم الأمم السابقة، ثم نسخ هذا الحكم، وأصبح الوطء جائزا خلال الليل، وكان بعض الصحابة لا يصبر على الامتناع عن الوطء عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ، فرخص الله لهم في هذا الأمر وأباح لهم ما كان محرما عليهم فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ (¬2). وهذه أمثلة من الآيات التي نسخ حكمها وبقيت تلاوتها، واعتمدنا في ذلك على ما كتبه ابن العربي المعافري في كتابه الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، وهو كتاب قيم عرض فيه للنسخ في القرآن، وذكر الآيات المنسوخة في كل سورة في سور القرآن. وتساءل السيوطي عن الحكم من نسخ الحكم وبقاء التلاوة، وأجاب من وجهين: - أحدهما: أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيتلى لكونه كلام الله فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة. ¬

_ (¬1) انظر الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن العربي ج 2، ص 22. (¬2) انظر الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن العربي ج 2، ص 25.

- والثاني: أن النسخ غالبا ما يكون لتخفيف، فبقيت التلاوة تذكيرا للنعمة ورفع المشقة (¬1). النوع الثالث: ما نسخ تلاوته دون حكمه: أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبيّ بن كعب قال: كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور، فكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما، وقال عمر: «لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي» رواه البخاري في صحيحه معلقا، ولو كانت التلاوة باقية ولم تنسخ لبادر عمر إلى كتابتها في المصحف، ولم يعرج على مقال الناس (¬2). وروى مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري: إنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني أحفظ منها «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» (¬3). وهنا طرح الزركشي في البرهان سؤالا وهو أن يقال: «ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم، وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها، ونقل جواب ابن الجوزي صاحب كتاب فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن على هذا التساؤل بقوله: إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي» (¬4). ومما لا شك فيه أن النسخ وقع في القرآن الكريم، والأدلة النقلية تؤكد وقوع النسخ، والنسخ دليل صحة، وهو ظاهرة عظيمة الدلالة على عظمة منهج الإسلام في التشريع، إلا أنه يجب أن تحدد مواطن النسخ في القرآن، فيما لا يمكن إيجاد ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 3، ص 69، (¬2) انظر البرهان، ج 2، ص 36. (¬3) انظر البرهان، ج 2، ص 37. (¬4) المصدر نفسه.

رأي السيوطي في المكثرين في النسخ:

طريقة للجمع بين الناسخ والمنسوخ، وبالرغم مما كتب في موضوع النسخ في القرآن، فإن الأمر يحتاج إلى تدقيق، فمعظم ما كتب في النسخ لا يدل على وجود النسخ فيه، ولا تصادم ولا تناقض فيما ورد من آيات ذات دلالات متباعدة، ولكل نص دلالته وحكمه وحكمته. ولا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، لأن النسخ رفع حكم شرعي بدليل، والحكم لا يتصور إلا في مجال الأمر والنهي، أما الأخبار فلا يتصور النسخ فيها، لانعدام الفائدة من نسخها، ما لم يتضمن الخبر حكما، وفي هذه الحالة ينسخ الحكم وليس الخبر، وبناء على هذه القاعدة لا يتصور وقوع النسخ في كثير من السور، التي جاءت مبينة لأركان العقيدة مدافعة عن فكرة الإيمان، مجادلة المشركين فيما أخذوا أنفسهم به من عبادة الأصنام، وهناك أكثر من أربعين سورة لم يقع فيها ناسخ أو منسوخ، ومعظمها السور القصيرة التي لا تتضمن أمرا أو نهيا، ووقع النسخ كثيرا في السور المدنية الطويلة، لأن هذه السور جاءت بالأمر والنهي (¬1). وتوسع بعض العلماء في مفهوم النسخ، وتفاوتت آراؤهم حول عدد آيات النسخ في القرآن، وقام بعض العلماء المعاصرين الذين درسوا موضوع النسخ في القرآن الكريم بإحصاءات بيانية أوضحوا فيها ما قاله العلماء في آيات النسخ، فالمكثرون أدخلوا في الناسخ والمنسوخ ما ليس منه. رأي السيوطي في المكثرين في النسخ: أشار السيوطي إلى ظاهرة الإكثار من آيات النسخ، ووصف العلماء المكثرين من آيات النسخ بأنهم أدخلوا أقساما في النسخ ليست منه، وأهم هذه الأقسام (¬2): الأول: قسم ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص، ولا له بهما علاقة بوجه من الوجوه، وذلك مثل قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وقالوا: إنه ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 2، ص 63. (¬2) انظر الإتقان، ج 2، ص 63 - 64.

قواعد النسخ عند ابن العربي:

منسوخ بآية الزكاة، وليس كذلك بل هو باق ... وكذلك القول بأن قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ، مما نسخ بآية السيف، لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا، وهذا الكلام لا يقبل النسخ. الثاني: قسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ، وقد اعتنى ابن العربي بتحرير هذا القسم وأجاد فيه، ويشمل هذا القسم الآيات التي خصت باستثناء أو غاية، كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ. الثالث: قسم رفع ما كان عليه الأمر في الجاهلية أو في شرائع من قبلنا أو في أول الإسلام، ولم ينزل فيه قرآن، كإبطال نكاح نساء الآباء، ومشروعية القصاص والدية وحصر الطلاق في الثلاث، والراجح عند العلماء عدم اعتبار هذا من النسخ، لأن الأحكام الشرعية كلها رافعة لما كان عليه العمل في الجاهلية، والنسخ هو نسخ آية بأخرى أو رفع حكم ثبت بدليل بحكم لاحق يثبت بدليل أيضا. واعتبر ابن العربي المعافري عدد الآيات المنسوخة لا تتجاوز مائة آية، خمس وسبعون آية منها منسوخة بآيات القتال، وذهب ابن حزم في كتابه معرفة الناسخ والمنسوخ أن آيات النسخ تبلغ مائتين وأربع عشرة آية، وذهب أبو جعفر النحاس في كتابه: «الناسخ والمنسوخ» إلى أنها تبلغ مائة وأربعا وثلاثين آية، وأوصلها ابن سلامة الضرير إلى مائتين وثلاث عشرة آية، وقصرها عبد القاهر البغدادي في كتابه الناسخ والمنسوخ إلى ست وستين آية (¬1). قواعد النسخ عند ابن العربي: استخرج الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري ثلاثين قاعدة من قواعد النسخ من كتاب الناسخ والمنسوخ لابن العربي المعافري، وسجلها في معرض دراسته وتحقيقه لهذا الكتاب، وأهم هذه القواعد ما يلي (¬2): ¬

_ (¬1) انظر الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن العربي، ج 1، ص 229. (¬2) انظر الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن العربي، ج 1، ص 225 - 228.

1 - كل قول وعمل كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز أن يكون ناسخا ولو كان إجماعا. 2 - لا يجوز نسخ حكم في الشريعة بعد استئثار الله بالرسول صلى الله عليه وسلم. 3 - لا ينسخ الإجماع القرآن والسنة. 4 - إن كان الإجماع ينعقد على نظر، لم يجز أن ينسخ، وإن انعقد على أثر جاز أن يكون ناسخا، ويكون الناسخ الخبر الذي انبنى عليه الإجماع. 5 - حكم الجاهلية ليس بحكم فيرفعه آخر، وإنما هو باطل كله. 6 - إن كان الخبر عن الشرع فيدخل فيه النسخ لدخوله في المخبر عنه، فالخبر إنما يكون على وفق المخبر عنه، وإن كان القول في الوعد والوعيد فلا يدخل فيه النسخ بحال، لأنه لا يحتمل التبديل، إذ التبديل فيه كذب، ولا يجوز ذلك على الله سبحانه. 7 - الخبر ينسخ إذا دخله التكليف، لأنه يكون حينئذ خبرا عن الشرع، فينسخ الخبر بنسخ المخبر، وإنما يمتنع نسخ الخبر الذي لا ينسخ خبره. 8 - لا نسخ في الوعد والوعيد وإنما تنسخ الأحكام. 9 - كل تهديد في القرآن منسوخ بآيات القتال. 10 - الزيادة في التكليفات بعد حصرها بالنفي والإثبات لا تعد نسخا. 11 - الحكم المحدود إلى غاية لا تكون الغاية ناسخة له. 12 - الاستثناء ليس بنسخ باتفاق من العقلاء وأرباب اللغة، وإنما هو نوع من التخصيص. 13 - خبر الواحد لا ينسخ القرآن إجماعا. 14 - خبر الواحد إذا اجتمعت الأمة على نقله أو على معناه جاز نسخ القرآن به. 15 - النسخ إنما يدخل في الأحكام لا في التوحيد. 16 - المتقدم لا ينسخ المتأخر عقلا ولا شرعا. 17 - إذا جهل التاريخ بطلت دعوى النسخ بكل حال.

18 - القرآن ينسخ السنة والسنة تنسخ القرآن. 19 - لا ينسخ المنقول إلا المنقول. وهذه القواعد ترسخ منهج ابن العربي في فهمه للناسخ والمنسوخ، وهي قواعد هامة، وتحتاج لدراسة عميقة، لوضع أسس نظرية ابن العربي في النسخ، وهي نظرية متميزة دقيقة محكمة، تقيم أساسا متينا لكل ما يتعلق بالنسخ في القرآن الكريم.

الفصل الحادي عشر: رسم القرآن

الفصل الحادي عشر: رسم القرآن تطلق كلمة «الرسم القرآني» على الكتابة القرآنية التي كتب بها مصحف عثمان، وجاء هذا الرسم مخالفا في بعض الكلمات لما اقتضته قواعد الإملاء وليس متطابقا مع اللفظ المنطوق. وتتميز المصاحف العثمانية برسم مغاير لما ألفته الكتابة المعتادة، وهذه الظاهرة دفعت العلماء إلى تفسير هذا الغموض، في محاولة جادة لوضع قواعد الرسم القرآني، ملتمسين أوجه الحكمة في هذا الرسم. ومن أبرز العلماء الذين أفردوا هذا الموضوع بالتأليف: أبو عمرو الداني في كتابه: «المقنع» وأبو العباس المراكشي المعروف بابن البناء في كتابه: «عنوان الدليل في رسوم خط التنزيل»، والشيخ محمد خلف الحسيني في كتابه: «مرشد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن»، وفي شرحه لأرجوزة «اللؤلؤ المنظوم في ذكر جملة من المرسوم». ومعظم العلماء الذين كتبوا في علوم القرآن خصصوا فصلا مستقلا لعلم مرسوم الخط، ووضعوا قواعد للرسم القرآني، وتحدث الزركشي في البرهان عن الرسم القرآني، كما تحدث السيوطي في الإتقان عن «مرسوم الخط القرآني وآداب كتابته». أقوال العلماء في الرسم القرآني: اختلف العلماء في حكم الرسم القرآني من حيث وجوب الالتزام به، وهناك آراء متعددة في الموضوع، ونستطيع أن نلخص هذه الآراء بما يلي: الرأي الأول: الرسم القرآني توقيفي: ذهب جمهور العلماء إلى أن الرسم القرآني توقيفي، ولا يجوز أن يكتب القرآن إلا برسمه، لأنه الرسم الذي ارتضاه الصحابة الذين كتبوا القرآن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الرسم الذي أجمعت عليه الأمة.

واستدل من قال بهذا الرأي بما روي عن جمهور العلماء من دعوتهم إلى ضرورة الالتزام بالرسم القرآني وعدم الزيادة والنقصان فيه، وحرم بعضهم مخالفة هذا الرسم. قال أحمد بن حنبل: «تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك» (¬1). وقال البيهقي في شعب الإيمان: «من كتب مصحفا ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما كتبوه شيئا، فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا وأعظم أمانة، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم» (¬2). وقال أشهب: سئل مالك رحمه الله: «هل تكتب المصحف على ما أخذته الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى، رواه أبو عمرو الداني في المقنع ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة» (¬3). وقال النيسابوري: «وقال جماعة الأئمة إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتابة أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف، فإنه رسم زيد بن ثابت وكان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب وحيه» (¬4). وقال ابن فارس في فقه اللغة: «الذي نقوله: إن الخط توقيفي، لقوله تعالى: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ، ون وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ وإن هذه الحروف داخلة في الأسماء التي علم الله آدم» (¬5). ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 379. (¬2) انظر نفس المصدر. (¬3) انظر نفس المصدر. (¬4) انظر مناهل العرفان للزرقاني، ج 1، ص 373. (¬5) انظر الإتقان للسيوطي، ج 4، ص 145.

الرأي الثاني: الرسم القرآني اجتهادي:

الرأي الثاني: الرسم القرآني اجتهادي: ذهب بعض العلماء ومنهم الباقلاني وابن خلدون إلى أن رسم القرآن اجتهادي، ولا مجال للتوقيف في مجال الإملاء الذي تحكمه قواعد، ونفى الباقلاني أن يكون هناك أي دليل يثبت التوقيف في الرسم، والتوقيف يحتاج إلى دليل. وقال في كتابه الانتصار: «وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون ما أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحد محدود، لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية. وأكد الباقلاني أن السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يأمر برسمه، ولم يبين لهم وجها معينا ولا نهى أحدا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف وأن تعوج الألفات وأن يكتب على غير هذه الوجوه». وعلل ذلك بأن الخطوط إنما هي علامات ورسم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دال على الكلمة مقيد لوجه قراءتها تجب صحته، وتصوير الكاتب به على أي صورة كانت. وختم الباقلاني كلامه بأن كل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنّى له ذلك» (¬1). ¬

_ (¬1) انظر مناهل العرفان للزرقاني، ج 1، ص 374.

وتطرف ابن خلدون وابتعد، وتحدث عن الرسم القرآني في مقدمته خلال كلامه عن الحضارة والعمران وربط بين الحضارة والكتابة، فالكتابة تزدهر بازدهار العمران وتتراجع بتراجعه، وكلما كانت الأمة أقرب إلى البداوة كانت أبعد عن صناعة الكتابة، لأن الكتابة صناعة، والصناعة لا تزدهر إلا في ظل الحضارة. وقال في معرض كلامه عن الكتابة عند العرب: وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيه تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الخلق من بعده المتعلقون بوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا، ويتبع رسمه خطأ أو صوابا. ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل ... «وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص من قلة إجادة الخط، وحسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه وذلك ليس بصحيح» (¬1). ثم قال بعد ذلك: «واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، كما رأيته فيما مر، والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر مقدمة ابن خلدون ص 747. (¬2) انظر مقدمة ابن خلدون ص 748.

وتبرز خطورة رأي ابن خلدون فيما طرحه في جرأته على كتاب الوحي، وجمّاع القرآن من حيث عدم إجادتهم قواعد الإملاء، وعدم تمكنهم من الكتابة الصحيحة، وتأكيده على وجود أغلاط إملائية في الرسم القرآني، وهذا اتجاه خطير، ولا يمكن التسليم به، لأنه يتعلق بكتاب الله أولا، ولأنه لا يحترم خصوصية الرسم القرآني ثانيا (¬1). ويختلف رأي ابن خلدون عن رأي الباقلاني من حيث تفسير ظاهرة الرسم القرآني، فالباقلاني اكتفى بالقول بعدم التوقيف في مجال الرسم، لعدم قيام الدليل على ذلك، ولكن ابن خلدون اعتبر الرسم القرآني ناتجا عن جهل العرب بقواعد الإملاء بسبب انتشار البداوة التي تضعف الاهتمام بصناعة الكتابة، وهذا قول كبير وادعاء خطير. وليس هناك أي دليل عليه، ولم يفرق ابن خلدون بين جودة الخط وأناقة الرسم وبين صحة الإملاء ومعرفة قواعد اللغة، وإذا صح أن جودة الخطوط تتعلق بالحضارة والعمران، فإن صحة الإملاء لا علاقة لها بالعمران، وربما أفسدت الحضارة الكثير من قواعد اللغة والإملاء، لأن الحضارة توجه الاهتمام إلى مظاهر الترف، وتبعد الفرد عن أصالته وتضعف لديه القدرة على التركيز. ولا خلاف في أن الخط ليس بكمال في حق الصحابة وكتاب الوحي، ولا يتفاضل الصحابة بجودة الخطوط وحسن الرسوم، فذلك فن يحتاج إلى إعداد وتكوين وتعليم، إلا أن ذلك كله لا يمكن أن يكون حجة على ما يقوله ابن خلدون من وقوع أخطاء إملائية في الرسم القرآني، وذلك دليل قصور، وهذا أمر مرفوض بالنسبة لجماع القرآن (¬2). ولو توقف ابن خلدون عند حدود القول بأن الرسم القرآني أمر اجتهادي، ولا مجال للتوقيف فيه لكان الأمر مقبولا، وبخاصة وأن بعض العلماء ذهبوا إلى ذلك، واعتبروا أن القضايا التوقيفية تحتاج إلى دليل، وردّ الفريق الذي قال ¬

_ (¬1) انظر كتابنا الفكر الخلدوني من خلال المقدمة ص 405 (تحت الطبع). (¬2) انظر كتابنا الفكر الخلدوني من خلال المقدمة ص 406.

الرأي الثالث: موقف التوسط:

بالتوقيف على من قال بالاجتهاد أن الدليل موجود، ويتمثل الدليل في إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم للرسم القرآني، كما كتبه كتاب الوحي، وكان صلى الله عليه وسلم يوجههم في بعض الأحيان ويعلمهم كيف ترسم بعض الكلمات. وفضلا عن هذا، فقد انعقد الإجماع على الإشادة بالرسم القرآني، ومحاولة استكشاف جوانب الخصوصية في هذا الرسم، ولم يقل أحد بما انفرد به ابن خلدون من القول بأن الرسم القرآني مخالف لقواعد الإملاء بسبب جهل الصحابة بتلك القواعد. وقد أوردت في كتابي «الفكر الخلدوني من خلال المقدمة» رأي ابن خلدون في رسم القرآن، وناقشت هذا الرأي وبينت بطلان ما ذهب إليه ابن خلدون وخطورته ثم قلت: «ويجب أن تستبعد كليا فكرة الخطأ في الكتابة، لأن الخطأ يؤدي إلى نتائج أكثر خطورة، ولا تستقيم مع حفظ الله تعالى لكتابه، إذ من المؤكد أن الرسم العثماني هو رسم لا يتطرق الخطأ إليه من حيث الكتابة، ولا يجوز القول بذلك، ولو صح وقوع الخطأ لأدى ذلك إلى ملاحظة الصحابة لذلك الخطأ أو اللحن، ولأشاروا إليه وأنكروه، وأصلحوا في المصاحف العثمانية، إذ لا مبرر لإبقاء اللحن والخطأ، وهم أكثر الناس حرصا على كتاب الله تعالى (¬1). الرأي الثالث: موقف التوسط: يستفاد من كلام بعض العلماء أنه ليس من الضروري كتابة القرآن على الرسوم الأولى لكتابته، وإن ذلك لا يكون على إطلاقه، لئلا يؤدي إلى دروس العلم. ولما نقل الزركشي في البرهان ما قاله الإمام أحمد في تحريم مخالفة خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك عقّب على ذلك بقوله: «قلت: وكان هذا في الصدر الأول، والعلم حي غض، وأما الآن فلا يخشى الإلباس، ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف ¬

_ (¬1) انظر كتابنا الفكر الخلدوني من خلال المقدمة ص 413.

الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل الجاهلين» (¬1). ويستنتج من هذا النص ما يلي: الأمر الأول: إباحة كتابة القرآن بالكتابة الإملائية الموافقة لقواعد اللغة، وذلك تيسيرا لقراءة القرآن، وتمكينا من التلاوة السليمة، لأن الرسم العثماني يتطلب قدرة على قراءة الرسم وحفظا للقرآن. الأمر الثاني: الحفاظ على الرسم العثماني، كرسم أصيل للنص القرآني، لأن ذلك الرسم يحظى بمكانة متميزة في النفوس. ويمكننا أن نقرر في موضوع رسم القرآن ما يلي (¬2): أولا: استبعاد فكرة الخطأ في الرسم العثماني: وهذا منطلق أساسي لدراسة فكرة الرسم القرآني، فلا يمكن التسليم بما ذهب إليه ابن خلدون من إثبات الخطأ الإملائي في الرسم، لعدم قيام الدليل على ذلك، ولاستحالة قبول الصحابة الأخطاء الإملائية في رسم المصاحف العثمانية، ولو افترضنا أن خطأ ما وقع اكتشافه بعد الكتابة لكان من اليسير التنبيه عليه وإصلاحه، وإن قبول الصحابة والتابعين وأجيال العلماء التي جاءت بعدهم بالرسم العثماني دليل على انعدام فكرة الخطأ، والتسليم بخصوصية الرسم القرآني. وردّ العلماء على ما أثاره البعض من شبهات، وضعفوا ما روي عن عثمان عند ما عرض عليه القرآن أنه قال: «أحسنتم وأجملتم إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها»، وقال الألوسي عن هذه الرواية أن ذلك لم يصح عن عثمان أصلا، وكيف يجوز من الناحية العقلية أن يقول عثمان عن مصحفه الذي اعتمده ¬

_ (¬1) انظر البرهان للزركشي، ج 1، ص 379. (¬2) انظر كتابنا الفكر الخلدوني من خلال المقدمة ص 414.

وأشرف على جمعه وكتابته «إن فيه لحنا» وإذا ثبت اللحن فلماذا لم يكلف عثمان اللجنة المؤتمنة على الكتابة والجمع والضبط أن تقوم بإصلاح اللحن؟ ثانيا: ضرورة الحفاظ على الرسم العثماني: وهذا أمر بديهي، فالرسم العثماني هو الرسم الأصيل للقرآن، وهو الرسم الذي وقع اعتماده وإقراره، وأجمعت الأمة على قبوله، وهو الأصل في الكتابة القرآنية، وما عداه من إشكال الرسوم والخطوط لا تعتبر رسوما أصيلة في كتابة القرآن. ثالثا: جواز كتابة الآيات بالخطوط المتعارف عليها: وذلك للتيسير على الأمة، لكي يتمكن الناس من قراءة القرآن بطريقة سليمة، ويتصور ذلك في الكتب المدرسية حيث تتطلب المصلحة أن تكون الكتابة القرآنية مطابقة للنطق القرآني، وموافقة لقواعد الإملاء، وجواز الكتابة بالرسوم والقواعد المعتادة لا يقلل من أهمية تعويد الناس على القراءة بالرسم العثماني، لكي يكون هذا الرسم هو الأساس في المصاحف. ولا شك أن الأمر يتعلق بالمصلحة، فإذا تأكدت المصلحة في كتابة الآيات وفقا للقواعد الإملائية وجب الأخذ بالمصلحة، لكي يكون النطق القرآني سليما وصحيحا. وبهذا نفرق بين المصاحف التي يجب أن تحافظ على الرسم العثماني الذي هو الأصل في الكتابة القرآنية وكتابة الآيات القرآنية في إطار الكتب المدرسية أو في إطار الاستشهاد بها، مما لا يعتبر من المصاحف. وفي جميع الأحوال لا يجوز التساهل في أمر الرسم العثماني في المصاحف المعتمدة، كتراث قرآني عظيم الفائدة واضح الدلالة على تميز المصاحف بخطوطها ورسومها عن الكتابات الأخرى.

مزايا الرسم القرآني:

مزايا الرسم القرآني: ذكر الزرقاني في كتابه «مناهل العرفان» فوائد الرسم ومزاياه بما يلي (¬1): الفائدة الأولى: مراعاة القراءات المتنوعة في الرسم، وذلك عن طريق وضع قاعدة للرسم القرآني يمكن بفضلها قراءة الكلمة وفقا للقراءتين معا ... وهذا المنهج يوحد الرسم القرآني، ويجعله قابلا للقراءات المتعددة. الفائدة الثانية: إفادة المعاني المختلفة، وذلك عن طريق الإشارة الإملائية إلى التفاوت بين المعاني في الكلمات التي تنطق بطريقة متماثلة، بحيث يدرك القارئ المراد من خلال الإشارة الإملائية إلى المعنى. الفائدة الثالثة: الدلالة على بعض المعاني الخفية، كما في كتابة «أيد» في قوله تعالى: والسّماء بنيناها بأييد وقد كتبت بزيادة الياء للإيماء إلى تعظيم قوة الله في بناء السماء. الفائدة الرابعة: الدلالة على أصل الحركة، كما في قوله تعالى: سأوريكم دار الفاسقين والأصل أن تكتب سأريكم، وكذلك الأمر في لفظ الصلاة والزكاة، حيث كتبت بالواو، لأن الألف منقلبة عن الواو. الفائدة الخامسة: مراعاة بعض اللغات الفصيحة، وذلك عن طريق الإشارة إلى بعض لغات العرب في حذف بعض الأحرف. الفائدة السادسة: الاعتماد في القرآن على الحفظ وليس على الكتابة، لأن الرسم العثماني لا يطابق النطق، ويحتاج القارئ إلى حفظ القرآن لكي يتمكن من القراءة الصحيحة. ولا حدود لمثل هذه الاستنتاجات واستكشاف فوائد الرسم القرآني، فكل من نظر في الرسم العثماني حاول أن يستخرج جانبا من جوانب الفائدة المحققة منه، ومن الواضح أن بعض الفوائد حقيقة وبعضها الآخر متكلفة، ولا يمكن أن تكون الحكمة من عدم مطابقة الرسم العثماني للنطق زيادة الاعتماد على الحفظ، والتقليل من أهمية الاعتماد على الرسم، لأن الحكمة باعثة على الفعل بخلاف ¬

_ (¬1) انظر مناهل العرفان، ج 1، ص 366.

النتيجة فهي لاحقة ومتأخرة، ولا شك أن الرسم القرآني بصورته العثمانية أدى إلى زيادة الاعتماد على الحفظ وشجع عليه، لأن من الصعب على غير حفظة القرآن والمتقنين لتلاوته أن يقرءوه قراءة سليمة. قال ابن درستويه: خطان لا يقاس عليهما: خط المصحف، وخط تقطيع العروض. وقال أبو البقاء في كتاب اللباب: «ذهب جماعة من أهل اللغة إلى كتابة الكلمة على لفظها إلا في خط المصحف، فإنهم اتبعوا في ذلك ما وجدوه في الإمام، والعمل على الأول» (¬1). ومما لا شك فيه أن الرسم القرآني له خصوصية ذات صفة معنوية، وهي غير محكومة بمعايير مادية، ويمكن تلمس بعض آثارها في مجال القراءة المتعددة للألفاظ، ومراعاة القراءات واللهجات العربية وسعة الدلالات في مجال الزيادة والنقصان، إلا أن الهدف الأسمى والأعلى لا يمكن إدراكه بالمعايير، وإنما يمكن إدراكه بالفطرة، وبما يشعر به قارئ القرآن في المصحف العثماني من تميز الرسم القرآني، وخصوصيته الشكلية والرمزية وتعبيره الأدق عن إعجاز بياني عظيم الوضوح في اللفظة العربية والرسم المعبر عن ذلك، حتى أن قارئ القرآن يشعر بقدسية الرسم القرآني وهيبة ذلك الرسم، ولا يشعر بمثل ذلك في غياب ذلك الرسم المميز والمعبر. إن الرسم القرآني أصبح جزءا من ذاتية القرآن، وهو مظهر من مظاهر القدسية التي يشعر بها القارئ، فكلمة «الرحمن» والصلاة، والزكوة، وحم، والم، وطه، ويس ... » كل ذلك يعبر عن قدسية ويجسد مشاعر دينية ويغذي في النفس شعورا بالأمن والراحة، ولو كتبت هذه الكلمات وفق القاعدة الإملائية لفقدت الكثير من دلالاتها، ولهذا لا نملك إلا أن نعترف بخصوصية لا محدودة للرسم العثماني، مما يؤكد التوقيف في بعض معالم ذلك الرسم، إذا لم يكن توقيفيا كليا ¬

_ (¬1) انظر البرهان للزركشي، ج 1، ص 376.

قواعد رسم القرآن:

وكاملا فعلى الأقل هو توقيف جزئي في بعض المفردات لكي تكون أكثر ملاءمة للتعبير القرآني ولرسمه المميز. وأشار بعض أعلام التصوف من أهل الفهم لعظمة الدلالات في الرسم القرآني، ولما توحي به تلك الأحرف الزائدة والناقصة والموصولة والمفصولة والمبدلة والمهموزة في إشارات لا يدركها العقل ولا تحكمها معاييره، وإنما يدركها أرباب الفهم من أصحاب القلوب اليقظة الذين يفقهون ما لا يفقه غيرهم من حقائق القرآن، ويفهمون ما لا يفهم غيرهم من حقائق الدين. قواعد رسم القرآن: قال الزركشي في البرهان: «واعلم أن الخط جرى على وجوه، فيها ما زيد عليه على اللفظ، ومنها ما كتب على لفظه، وذلك لحكم خفية وأسرار بهية، تصدى لها أبو العباس المراكشي الشهير بابن البناء في كتابه: «عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل»، وبين أن هذه الأحرف إنما اختلف حالها في الخط بحسب اختلاف أحوال معاني كلماتها» (¬1). وحدد علماء القرآن قواعد الرسم القرآني بما يلي: أولا: قاعدة الحذف (¬2): 1 - تحذف الألف من ياء النداء: يأيها الناس، وهاء التنبيه: هؤلاء، وبعد لام: خلئف، وبين لامين: الضللة، ومن كل علم زائد على ثلاثة: إبراهيم، ومن كل مثنى وجمع تصحيح لمذكر أو مؤنث: اللعنون، ومن كل جمع على وزن مفاعل المسجد واليتمى، ومن كل عدد كثلث ومن كل ما اجتمع فيه ألفان كقوله آشفقتم، آنذرتم. 2 - وتحذف الياء من كل منقوص منون: باغ وعاد، وفي حال التكرار: نحو، والحواريّين، وفي قوله: وَأَطِيعُونِ، وَاتَّقُونِ، وَخافُونِ. ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ح 1، 380. (¬2) انظر الإتقان، ج 1، ص 147 - 150.

ثانيا: قاعدة الزيادة:

3 - وتحذف الواو في حال التكرار، في قوله: فاءو. 4 - وتحذف اللام مدغمة في مثلها في قوله: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، والَّذِي، اللَّاتَ. 5 - وأحيانا تحذف هذه الأحرف ولا تدخل ضمن قاعدة، نحو قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ، ذُرِّيَّةً ضِعافاً، الدَّاعِ إِذا دَعانِ، وَمَنِ اتَّبَعَنِ، يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ، وَقَدْ هَدانِ، نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَدْعُ الْإِنْسانُ وَيَمْحُ اللَّهُ، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ. قال المراكشي: السر في حذفها من هذه الأربعة التنبيه على سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل وشدة وقوع الفعل المنفعل المتأثر به في الوجود (¬1). ثانيا: قاعدة الزيادة: - تزاد الألف بعد الواو في آخر كل اسم مجموع، بنو إسرائيل، ملاقوا ربهم، كما تزاد بعد الهمزة المرسومة واوا، وفي مائة ومائتين، وفي قوله: الظُّنُونَا، والرَّسُولَا، والسَّبِيلَا. - تزاد الواو للدلالة على ظهور معنى الكلمة في الوجود سأوريكم آيتى. - تزاد الياء لاختصاص ملكوتي باطن، كما قوله: من نبإى المرسلين، من تلقائ نفسى. وجاء زيادة الياء في قوله: والسّماء وبنيناها بأييد للتفريق بين الأيد وهو القوة الإلهية في الخلق، والأيدي، جمع يد. ثالثا: قاعدة الهمز: تكتب الهمزة الساكنة بحرف حركة ما قبلها، «ائذن» «اؤتمن»، أما الهمزة المتحركة فإن كانت أولا كتبت بالألف، نحو أيوب، أولوا، وإن كانت وسطا كتبت بحرف الحركة نحو سأل سئل نقرؤه، وإن كانت آخرا كتبت بحسب حرف حركة ما قبل الآخر نحو سبأ، شاطئ، لؤلؤ. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 4، ص 150.

رابعا: قاعدة البدل:

رابعا: قاعدة البدل: تبدل الألف واوا للتفخيم: كالصلوة، والزكوة، والحيوة، والربوا، والعدوة، وتبدل ياء إذا كانت الألف منقلبة عن ياء كما في قوله: يتوفيكم يا حسرتى، يا أسفى، وتبدل الألف ياء في الألفاظ التالية: إلى، على، أنى، متى، بلى، حتى، لدى. وتكتب نون التوكيد الخفيفة ألفا في قوله: لنسفعا ويكونا وإذا، وتمد التاء في كلمة الرحمة، ووقع ذلك في سبعة مواضع في القرآن: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ، أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ، ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، وكذلك مدت التاء في كلمت النعمة في أحد عشر موضعا: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، وجاءت مقبوضة في مواطن أخرى. وجاءت التاء ممدودة في بعض الألفاظ كما جاءت مقبوضة، وهذه الألفاظ هي: كلمة، سنة، فطرة، قوة، معصية، لعنة، شجرة، جنة، ابنة، امرأة. قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى [الأعراف: 137]. فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 38]. فِطْرَتَ اللَّهِ [الروم: 30]. قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [القصص: 9]. إنّ شجرت الزّقّوم [الدخان: 43]. وجنات نعيم [الواقعة: 89]. ومعصيت الرّسول [المجادلة: 8]. وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ [التحريم: 12]. امْرَأَتُ عِمْرانَ [آل عمران: 35].

خامسا: قاعدة الوصل والفصل:

امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ [القصص: 9]. امْرَأَتُ الْعَزِيزِ [يوسف: 30]. وحاول الزركشي أن يعلل هذا الإبدال، في كل لفظة، فالألف أبدلت واوا في أصول الدين المطردة، تفخيما وتعظيما، كالصلاة والزكاة، وهما عماد الدين، والحياة وهي عماد البقاء، وترك الربا عماد الأمان، ومدت التاء في «السنة» في المواضع التي تدل على الإهلاك والانتقام: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا، ومدت التاء في الجنة وجنات نعيم لكونها بمعنى فعل التنعم بالنعيم واقترانها بالروح والريحان، ومدت التاء أيضا في «امرأة»: امْرَأَتُ عِمْرانَ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ للتنبيه على فعل التبعل والصحبة وشدة المواصلة والمخالطة والائتلاف. خامسا: قاعدة الوصل والفصل: قال الزركشي: «اعلم أن الموصول في الوجود توصل كلماته في الخط، كما توصل حروف الكلمة الواحدة، والمفصول معنى في الوجود يفصل في الخط كما تفصل كلمة عن كلمة» (¬1). وجاءت لفظة «إنما» بالكسر موصولة إلا في موضع واحد إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ [الأنعام: 134]، وجاءت لفظة «إنما» بالفتح موصولة إلا في موضعين وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ [الحج: 62]، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ [لقمان: 30]. وجاءت لفظة «كلما» موصولة إلا في ثلاث مواضع، في النساء وإبراهيم والمؤمنون، لأن «ما» وقعت على أنواع مختلفة في الوجود، وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم: 34]، وما عداها جاءت موصولة لأنها وقعت على شيء لا ينفصل كالزمان في قوله: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً [البقرة: 25]. ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 411 - 416.

سادسا: قاعدة تعدد القراءة:

وجاءت لفظة «أينما» موصولة في قوله: فَأَيْنَما تُوَلُّوا، أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. وجاءت مفصولة في قوله: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ. وجاءت «بئسما» موصولة إلا في ثلاثة مواضع، اثنان في البقرة وواحد في الأعراف في قوله: بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي. وجاءت «يوم هم» موصولة في قوله: يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ، وجاءت مفصولة في قوله: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ. وجاءت لفظة «في ما» موصولة ومفصولة كما في قوله: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 234]، فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ [الأنبياء: 102]. وجاءت لفظة «لكيلا» موصولة في ثلاثة مواضع ومفصولة فيما عداها: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ [الحديد: 23]، لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً [النحل: 70]. وهناك أحرف الإدغام، مثل قوله: «عمّا» «مما» «عمّن» «ممن «ألّن» «ألّا»، وجاءت هذه الأحرف موصولة ومفصولة، والأمثلة واضحة ومفصلة في كتاب البرهان الذي أفاض في ذكر كل لفظة، مبديا تفسيره لحالات الاتصال والانفصال محاولا التعليل، واضعا قواعد عامة لكل هذه الحالات ولا يخلو الأمر من تكلف فيما يبدو لي، لصعوبة وضع معايير واضحة أو إيجاد أسباب مطردة. سادسا: قاعدة تعدد القراءة: وبمقتضى هذه القاعدة تكتب بعض الكلمات التي تقرأ بقراءتين برسم إحدى القراءتين، كما في قوله تعالى: ملك يوم الدّين، تكتب بغير ألف، وتقرأ بالألف وبحذف الألف، وكذلك الأمر في كثير من الألفاظ التي تكتب وفقا لإحدى القراءتين، وتقرأ بالقراءتين معا، وهذا كله خارج نطاق القراءات الشاذة، وأحيانا تراعى في الرسم بعض القراءات الشاذة.

مصير المصاحف العثمانية:

وهذه القواعد تؤكد أن الرسم العثماني روعيت في كتابته غايات ومقاصد، منها ما يمكن إدراكه ومعرفته، ومنها ما لا يمكن إدراكه وتفسيره، ولهذا فإن الرسم العثماني يظل إحدى أهم دعائم النص القرآني من حيث التوثيق والضبط والدقة، وسواء قلنا بأن هذا الرسم توقيفي أم اجتهادي فإن الحفاظ على هذا الرسم يجب أن يظل من المطالب الضرورية، وهذا لا يمنع عند الضرورة من كتابة القرآن بالإملاء الموافق للنطق المعتاد في الكتابة العربية لأغراض تعليمية، وبخاصة إذا كثر اللحن في قراءة القرآن، وتعذرت على الناس قراءته بطريقة سليمة وصحيحة. مصير المصاحف العثمانية: اعتمد «عثمان» مصحفه بعد أن أتمت اللجنة المكلفة بجمعه وكتابته عملها، وأشرف على ضبط الآيات، وترتيب السور بحيث يكون هذا الترتيب موافقا للتلاوة والترتيل الذي كان حفاظ القرآن يلتزمون به. وأصبحت المصاحف العثمانية هي المصاحف المعتمدة في الأمصار الإسلامية الرئيسية في مكة والشام والبصرة والكوفة والمدينة بالإضافة إلى المصحف الإمام الذي هو الأساس في المصاحف الأخرى، وهو المصحف الأول الذي نسخت منه المصاحف. وأوفد عثمان مع كل مصحف قارئا يقرئه ويسهر عليه، فقد كلف زيد بن ثابت أن يقرئ الناس بالمدينة، وأوفد عبد الله بن السائب إلى مكة، والمغيرة بن شهاب إلى الشام، وأبا عبد الرحمن السلمي إلى الكوفة، وعامر بن عبد القيس إلى البصرة، وأصبح هؤلاء هم قراء القرآن وحفظته يسهرون على حفظ المصحف المعتمد، ويقرءون الناس به، ولا يسمحون بأن يناله تحريف أو تبديل، أو زيادة أو نقص. وكان هذا العمل من أعظم الأعمال التي أدت إلى حفظ القرآن، وتوحيد نصه وقراءته ورسمه، لئلا يقع فيه تغيير أو تبديل، وظلت المصاحف العثمانية في

الأمصار الإسلامية نسخا معتمدة أجمعت الأمة على قبولها وصحتها وسلامة ما جاء فيها. ومن أبرز ما كان يميز المصاحف العثمانية أنها كانت خالية من النقط والشكل والزركشة والنقوش، وجاءت روايات عن بعض العلماء السابقين في القرن الخامس والسادس تؤكد رؤيتهم لبعض المصاحف العثمانية، وقال ابن كثير صاحب التفسير المشهور وكتاب البداية والنهاية في التاريخ في كتابه فضائل القرآن: إنه رأى مصحف عثمان الموجود في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وكان قبل ذلك بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود سنة 518 هـ، وقد وصفه بقوله: وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي بحبر محكم في رق أظنه من جلود الإبل» (¬1). وذكر ابن الجزري صاحب كتاب: «النشر في القراءات العشر» وابن فضل الله العمري صاحب: «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» إنهما رأيا المصحف الشامي. وروى الدكتور صبحي الصالح في كتابه: «مباحث في علوم القرآن» أن بعض الباحثين يميل إلى أن هذا المصحف أمسى زمنا ما في حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في لينينجراد ثم نقل إلى إنكلترا، وهناك فريق من الباحثين يرجح أن هذا المصحف بقي في مسجد دمشق حتى احترق فيه سنة 1310 هـ، ونقل الدكتور الصالح عن الدكتور يوسف العش أن أحد قضاة دمشق أخبره بأنه قد رأى المصحف الشامي قبل احتراقه، وكان محفوظا بالمقصورة وله بيت خشب. وهناك مصاحف كثيرة في المكتبات الإسلامية وخزانات المساجد المشهورة يدعى المشرفون عليها أنها من المصاحف العثمانية، وبعضها واضح في عدم مطابقته لما كانت عليه المصاحف العثمانية، من حيث النقط والشكل والزركشة والفواصل، مما يؤكد أنه كتب بعد ذلك. ¬

_ (¬1) انظر مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي الصالح، ص 88.

حكم النقط والتحلية:

والأمر في جميع الأحوال لا يترتب عليه شيء، فالمصاحف موحدة ونصوصها واحدة، ولا مجال للتفريق أو الاختلاف، بين المصاحف العثمانية والمصاحف التي كتبت بعد ذلك حتى اليوم، ولم يلق كتاب من أوجه العناية والرعاية والضبط ما لقيه القرآن، سواء في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر صحابته أو في العصور اللاحقة، فالقرآن واحد في جميع العصور، ولدى جميع المذاهب الإسلامية، وحتى من اعترض على ذلك من بعض المذاهب الإسلامية متهما «عثمان» بالتحيز، طاعنا في قراره بإحراق المصاحف الأخرى، فإنه سرعان ما يعترف بأن مصحف عثمان هو أدق المصاحف وأصحها، وأن المصاحف التي أمر بإحراقها لم يبذل فيها من وسائل الضبط والدقة ما يجعلها في مستوى مصحف الإمام الذي أجمعت الأمة على قبوله، وأجمع الصحابة على مطابقته لمصحف أبي بكر الذي اعتمد في جمعه على كتاب الوحي وحفظة القرآن. حكم النقط والتحلية: روى الحافظ ابن أبي داود السجستاني المتوفى سنة 316 هـ في كتابه المصاحف، روايات كثيرة عن الصحابة والتابعين تؤكد كراهيتهم لتصغير المصحف والتعشير والفواتح، وروى عنه قوله: لا تكتب المصاحف صغارا، وروي عن سفيان الثوري قوله: كانوا يكرهون النقط والتعشير وإحصار السور، وروي عن عبد الله بن مسعود قوله: جردوا القرآن ولا تخلطوا به ما ليس منه، وروى شعبة عن أبي رجاء قال: سألت محمد بن سيرين عن المصحف ينقط بالنحو قال: أخشى أن يزيدوا في الحروف (¬1). ويبدو من الروايات أن كراهية النقط ليست لذات النقط، وإنما كانت بسبب الخوف من زيادة في القرآن، ولهذا نسب إلى ابن سيرين قوله: لا بأس بنقط المصحف (¬2). ¬

_ (¬1) انظر كتاب المصاحف لابن أبي داود ص 136، تحقيق أرثر جفري المطبعة الرحمانية. (¬2) انظر كتاب المصاحف لابن أبي داود، ص 143.

وكانوا يكرهون تحلية المصاحف بالذهب، وروي عن أبي بن كعب قوله: إذا حليتم مصاحفكم وزوقتم مساجدكم فعليكم الدثار، وروي عن أبي الدرداء قوله: إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فعليكم الدثار» (¬1). وروى الأعمش قال: «مرّ على عبد الله بن مسعود بمصحف قد زين بالذهب فقال: إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته في الحق» (¬2)، وهناك روايات أخرى تؤكد جواز تحلية المصحف. وكره بعض العلماء بيع المصاحف وشراءها، وروي عن علقمة وابن سيرين والأعمش والنخعي كراهة بيع المصاحف، وقال أبو العالية: وددت أن الذين يبيعون المصاحف، ضربوا، وأجاز ابن عباس شراء المصاحف وكره بيعها، وروى الأعمش عن ابن عباس أنه سئل عن بيع المصاحف فقال: لا بأس إنما يأخذون أجور أيديهم (¬3). والأمر كما يبدو تحدده الظروف، فكل أمر مبالغ فيه من حيث التحلية فهو مكروه، والتجارة في المصاحف مكروهة، ما لم تكن النية في ذلك خدمة المصحف الشريف. والواضح أن تعدد الروايات والأحكام في الأمر الواحد يشير إلى الرغبة في صيانة القرآن عن كل ما يسيء إليه، سواء كانت تلك الإساءة شكلية كالمبالغة في التحلية والتزيين، أو كانت مما يسيء إلى مكانة القرآن، والأصل في القرآن أنه لا يجوز أن يعتبر سلعة من السلع التجارية، لأن ذلك مما يفقده قداسته في النفوس، ويخضعه لما تخضع له السلع التجارية من أنواع الغش والتدليس، فإذا كان البيع والشراء لا يعبر عن هذه المعاني، فليس هناك ما يمنع من خدمة القرآن، عن طريق الطباعة والنشر، ومن يفعل ذلك بنية خدمة القرآن وتيسير أمر توزيعه، فهو مأجور ومثاب على فعله، ومثل هذه الأمور تحكمها مقاصد وغايات، فما يرفضه ¬

_ (¬1) انظر كتاب المصاحف لابن أبي داود، ص 150. (¬2) انظر نفس المصدر، ص 151. (¬3) انظر نفس المصدر، ص 175.

العناية بالمصاحف ومراحل تحسينه:

العقل ويتنافى مع الفضيلة فهو حرام على وجه التأكيد، وما يرتضيه العقل ويقره العرف ولا يتنافى مع الفضيلة فهو جائز ومباح. العناية بالمصاحف ومراحل تحسينه: كان المصحف العثماني الإمام هو أول مصحف اكتمل جمعه وترتيبه وإعداده بصورته النهائية، وبعد أن أجمعت الصحابة على قبوله نسخت منه عدة نسخ أرسلت إلى الأمصار الرئيسية لكي تكون المصحف المعتمد. ومنذ ذلك اليوم بدأت المصاحف تنسخ، ويدخل عليها من أنواع التحسين والتجويد ما يجعلها في متناول القراء، من حيث تعدد خطوطها والتفنن في إدخال التحسينات التي تيسر قراءتها، وإدخال النقط والشكل لضبط الألفاظ والمفردات، حتى لا يقع أي اختلاف في النقط أو تباين في ضبط الكلمات. وكانت مسيرة التجويد والتحسين منسجمة مع حركة المجتمع الإسلامي وتطوره، فقد كانت الدولة بسيطة المعالم في المدينة، عكفت في أيامها الأولى على تثبيت أركان العقيدة، ومواجهة خصومها، ثم اتسعت اهتماماتها، ونمت مطامحها، وامتد سلطانها في مشرق ومغرب، وكان لا بد من مواكبة هذا التطور بتنظيم محكم، وإعداد سديد، واهتمام بمظاهر العمران الذي يجسد عظمة الدولة واستقرارها، ويؤكد استجابة شعبها لما تتطلبه الحضارة من اهتمام بأساليب التطوير والتحسين، من تنظيم للجيوش، وإنشاء لدواوين المال والإدارة والجند، واهتمام بقضايا الفكر والثقافة، وتدوين للعلوم. وأول ما انصرف الاهتمام به العناية بكتاب الله، شرحا لآياته، وتوضيحا لأحكامه، وتفسيرا لمفرداته، وبيانا لأسباب نزوله، وتدوينا لتاريخه، وتجويدا لخطوطه، وضبطا لألفاظه، لئلا يقع أي التباس في كلمة من كلماته. وأول مظاهر هذا التحسين إدخال النقط والشكل فيه، لضبط النطق به، لئلا يقع فيه تحريف أو تبديل، أو لحن أو ما يشبه اللحن، ولم يكن مصحف عثمان منقطا أو مشكولا، ربما لعدم معرفة العرب بالنقط في ذلك الحين، أو لإمكان

قراءة القرآن بما يوافق القراءات المختلفة، وبما يستجيب لكل اللهجات العربية، وبما يوافق الأحرف السبعة. ومن الطبيعي أن يتوقف بعض العلماء أمام النقط والشكل موقف التردد والهيبة، كشأن كل أمر جديد، وسرعان ما أدرك الجميع أهمية الضبط والتيسير في القراءة، لكيلا يقع لحن في النطق أو لبس في ضبط بعض الكلمات. وتشير الروايات إلى أن التفكير في الأمر بدأ في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي خاف من أثر الاختلاط بين العرب والعجم على اللغة، فأمر الحجاج بن يوسف بأن يهتم بالأمر، ويقال بأن الحجاج أصلح الرسم القرآني في أحد عشر موضعا. وتؤكد الروايات كما قال السيوطي في الإتقان أن (¬1): «أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي بأمر عبد الملك بن مروان، وقيل: الحسن البصري ويحيى بن يعمر، وقيل: نصر بن عاصم الليثي»، ويبدو أن الحسن البصري كان دوره محصورا في مباركة هذا العمل وتأييده وتشجيعه، إذ لم يعرف له اهتمام بالنقط والشكل، وكان من الضروري أن ينال هذا العمل موافقة العلماء. وهناك روايات تشير إلى أن بعض العلماء كانوا يكرهون النقط والشكل (¬2)، وروى عن النخعي أنه كره نقط المصاحف، وروي مثل هذا عن ابن سيرين، وقال ابن مسعود: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء، وقال مالك: «لا بأس بالنقط في المصاحف التي يتعلم فيها الغلمان، أما الأمهات فلا». وقال الحليمي (¬3): «تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه، أما النقط فيجوز، لأنه ليس له صورة فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا، وإنما هي دلالات على هيئة المقروء، فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها». ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 4، ص 160. (¬2) نفس المصدر، ص 161. (¬3) هو أبو عبد الله حسين بن حسن الحليمي الجرجاني المتوفى سنة 403 هـ.

وقال ابن مجاهد: «ينبغي ألا يشكل إلا ما يشكل» (¬1)، وقال النووي: نقط المصحف وشكله مستحب، لأنه صيانة له من اللحن والتحريف (¬2). وكان أبو الأسود الدؤلي معنيا بشئون اللغة، واشتهر أنه أول من وضع العربية، وأن الخليل بن أحمد أول من وضع العروض، ومن الطبيعي أن تتوجه الأنظار إليه، وأن يطالب بإعداد ما يضمن سلامة النص القرآني، ويقال بأن زياد ابن أبيه والي البصرة طالبه بأن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله، فتثاقل أبو الأسود وتباطأ، ولعله تهيب الأمر، ولما سمع قارئا يقرأ قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ بجر اللام في «رسوله» قال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، وذهب إلى زياد بعد أن أفزعه الأمر وقال له: «قد أجبتك إلى ما سألت» (¬3) وعكف على إعداد نقط دالة على الحركات والسكون. ولا شك أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من شرع في الأمر ببدايات بسيطة، إذ لا يعقل أن يقوم بهذا العمل شخص واحد، ولا يمكن أن يكتمل من خلال عمل في جيل واحد، فمثل هذه الأعمال الكبيرة، تبتدئ كفكرة، ثم يشرع فيها بخطوة، ثم تعقبها خطوات متعسرة خجولة تتعثر مرة وتتقدم أخرى إلى أن يستقر الأمر على الأفضل والأيسر مما لا مشقة فيه على الأمة. وهناك رواية تقول: بأن أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر، ويقال: إنه قام بتنقيط مصحف ابن سيرين المتوفى سنة 110 هـ، وكان يحيى بن يعمر من أهل البصرة، واتهم في عصر الحجاج بالتشيع ونفي إلى خراسان، وهناك اشتهرت مكانته وأصبح «قاضي مرو». وتابع العمل من بعده نصر بن عاصم الليثي تلميذ أبي الأسود الدؤلي، وكان أحد قراء البصرة، وهناك من يقول: بأنه أول من نقط المصاحف، ولا يمكن الترجيح بين هذه الأقوال والروايات، لصعوبة تحديد دور كل فرد في هذا العمل ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 4، ص 161. (¬2) نفس المصدر. (¬3) انظر مناهل العرفان للزرقاني، ج 1، ص 401.

الكبير الذي يرجح أن خطواته الأولى كانت من تفكير أبي الأسود الدؤلي، ثم تكاملت واستقامت على يد كل من يحيى بن يعمر وتلميذه نصر بن عاصم. ويكفينا هذا القدر من بيان نشأة المرحلة الثانية من تاريخ القرآن التي تمثلت في دور التحسين والتجويد والإكمال، لكي يكون الرسم القرآني مكتمل المعالم، واضح الألفاظ، مزودا بإشارات ضابطة للكلمة، مبينة لكيفية النطق بها.

الفصل الثاني عشر: علم المحكم والمتشابه

الفصل الثاني عشر: علم المحكم والمتشابه انطلقت بعض المصطلحات القرآنية من القرآن نفسه، وأخذت هذه المصطلحات معاني محددة، لا تخرج في إطارها العام عن المعنى المستفاد من القرآن، وإذا تعددت المفاهيم والاجتهادات في مجال تفسير هذه المصطلحات فإن هذه المفاهيم تظل حبيسة الدلالات القرآنية، لا تتجاوزها بمعنى يناقض تلك الدلالة في إطارها العام .. وكلمة المحكم والمتشابه من هذه المصطلحات القرآنية التي جاء بها القرآن في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7]. وكلمة: «الإحكام» في اللغة تفيد معاني عديدة، أهمها: «المنع» «والإتقان» يقال: أحكمت الأمر أي: أتقنته ومنعته من الفساد، وكلمة «الإحكام» تفيد معنى السداد، والحكمة في القرآن تأتي بمعنى العلم والعدل والنبوة. وكلمة «المتشابه» مأخوذة من التشابه والمشاركة والمماثلة، وتفيد معنى التشابه المؤدي إلى الالتباس وعدم الوضوح ... والتقابل في كلمتي المحكم والمتشابه، تفيد المعنى المراد، فما كان محكما فهو المبين والمفصل، ولا يمكن أن يعطي معنى الإتقان، لأن القرآن كله متقن، فالمتشابه هو الذي لا يتضح معناه إلا ببيان إضافي، والقرآن بعضه واضح الدلالة على معناه، والبعض الآخر ليس واضح الدلالة، وما كان كذلك فيحتاج إلى بيان. آراء العلماء في معنى المتشابه: اختلف العلماء في تحديد معنى المحكم والمتشابه، ولا بد من وقوع الخلاف فيه، فالبعض اعتبر أن المحكم هو الواضح الدلالة، ولا يحتاج إلى بيان، والمتشابه هو الخفي الدلالة، ويحتاج إلى بيان، والبعض الآخر اعتبر

«المحكم» ما يمكن معرفة معناه ودلالاته بالتفسير والتأويل، والمتشابه اختص الله به فلا تعلم دلالته ولا معناه، لا بالتفسير ولا بالتأويل. قال السيوطي في الإتقان: وقد اختلف في تعيين «المحكم والمتشابه» على أقوال (¬1): - فقيل: المحكم ما عرف المراد منه، إما بالظهور وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في أوائل السور. - وقيل: المحكم ما وضح معناه والمتشابه نقيضه. - وقيل: المحكم ما لا يتحمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما احتمل أوجها. - وقيل: المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه، كإعداد الصلوات واختصاص الصيام برمضان دون شعبان، قاله الماوردي. - وقيل: المحكم ما استقل بنفسه والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره. - وقيل: المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يدرى إلا بالتأويل. - وقيل: المحكم ما لم تتكرر ألفاظه ومقابله المتشابه. - وقيل: المحكم الفرائض والوعد الوعيد، والمتشابه القصص والأمثال» (¬2). وجاءت بعض المعاني لكل من المحكم والمتشابه، قال ابن عباس: المحكمات: ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه ... والمتشابهات: منسوخه ومقدمه ومؤخره وأقسامه وأمثاله، وروي عن مجاهد قال: المحكمات ما فيه الحرام والحلال وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضا ... ، وروي عن الضحاك قوله: المحكمات ما لم ينسخ منه، والمتشابهات ما قد نسخ. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 3، ص 3. (¬2) انظر الإتقان، ج 3، ص 3 - 4.

وعرف الزركشي في البرهان المحكم بأنه ما أحكمته بالأمر والنهي وبيان الحلال والحرام، والمتشابه ما يشتبه اللفظ فيه في الظاهر مع اختلاف المعاني، ويقال للغامض متشابه، واختلفوا فيه، فقيل: هو المشتبه الذي يشبه بعضه بعضا، وقيل: هو المنسوخ غير المعمول به، وقيل: القصص والأمثال، وقيل: فواتح السور، وقيل: ما لا يدرى إلا بالتأويل (¬1) وهذه الأقوال بالرغم من تعددها فهي دالة على المراد، ومعبرة، وواضحة، فالمتشابه ما كان غامض الدلالة، محتاجا لتأويل، محتملا عدة أوجه، لا مجال للترجيح بينها بمجرد العقل، ولا بد فيها من دليل نقلي ... ونقل صاحب البرهان عن ابن حبيب النيسابوري تعدد الأقوال في هذه المسألة، من حيث كون القرآن محكما ومتشابها أو مشتملا على المحكم والمتشابه، فاعتبر البعض أن القرآن محكم، لقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ والبعض قال: إنه متشابه، والصحيح أنه منه المحكم ومنه المتشابه، كما جاء في القرآن نفسه (¬2) ... وذهب بعض علماء الكلام إلا أن القرآن يجب أن يكون معلوما وإلا بطلت فائدة الانتفاع به، ونقل الراغب الأصفهاني قولهم هذا، وناقش الزركشي كلام من قال: ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان والهدى، فأجاب بأن الأمر لا يخلو من حالتين (¬3): الحالة الأولى: إن كان يمكن علمه فله فائدتان: الفائدة الأولى: حث العلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن دقائق معانيه، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب. الفائدة الثاني: إظهار فضل العالم على الجاهل، ويستدعيه علمه إلى المزيد في الطلب في تحصيله ليحصل له درجة الفضل ... ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 2، ص 68 - 69. (¬2) البرهان، ج 2، ص 68 - 69. (¬3) البرهان، ج 2، ص 75.

الحالة الثانية: إن كان لا يمكن علمه فله فائدتان: الفائدة الأولى: إنزاله ابتلاء وامتحانا بالوقف فيه والتعبد بالاشتغال من جهة التلاوة وقضاء فرضها ... ويجوز أن يمتحنهم بالإيمان بها حيث ادعوا وجوب رعاية الأصلح ... الفائدة الثانية: إقامة الحجة بها عليهم، وذلك لأن القرآن نزل بلغة العرب فإذا عجزوا عن الوقوف على ما فيها مع بلاغتهم وأفهامهم دلّ ذلك على أن الذي أعجزهم عن الوقوف هو الذي أعجزهم عن تكرر الوقوف عليها. ولا شك أن هناك حكمة من إيراد الآيات المتشابهات، ولا يمكن أن يكون الأمر من غير غاية، ومن الإعجاز أن تخفى غايات المتشابه، وأن يقع الاختلاف في تحديد مراده، لأن العقول البشرية لا يمكن أن تدرك كنه بعض الحقائق المتعلقة بالله وبالكون، وبالغيب وبالحياة الآخرة، ولا بد من بعض الغموض، وهو غموض نسبي، بسبب عجز العقول عن الفهم، ولا يكلف الإنسان بإدراك ما لا يطيق من معرفة الأمور التي لا يدركها العقل. وليس من حق الإنسان أن يطلب معرفة كل شيء، وهذا أمر فيه استحالة، فالحياة أكثر تعقيدا مما يتصوره العقل، وعلى الإنسان أن يسلم فيما لا يقدر على إدراكه، وأن يؤمن بحكمة الله، وأن ما جاء به هو الحق، والخطاب القرآني موجه لكل الناس وفي جميع الأزمان، ولا يمكن أن يدرك كل مخاطب حكمته وأسراره، وأن يحيط بكل شيء ... وذهب الخطابي إلى أن المتشابه على ضربين (¬1): أحدهما: يعرف معناه إذا رد إلى المحكم واعتبر به. والآخر: لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهذا النوع هو الذي يتبعه أهل الزيغ فيطلبون تأويله ولا يبلغون كنهه، فيرتابون فيه فيفتنون ... ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 3، ص 9.

وقال ابن الحصار: قسم الله آيات القرآن إلى محكم ومتشابه، وأخبر عن المتشابه أنها أم الكتاب، لأن إليها ترد المتشابهات وهي التي تعتمد في فهم مراد الله من كل ما تعبدهم به من معرفته وتصديق رسله وامتثال أوامره واجتنابه نواهيه» (¬1). أنواع المتشابه عند الأصفهاني: قسم الراغب الأصفهاني في كتابه: «مفردات القرآن» الآيات إلى ثلاثة أضرب (¬2)، محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه متشابه من وجه، والمتشابه ثلاثة أضرب أيضا: الضرب الأول: متشابه من جهة اللفظ فقط، وهذا التشابه يرجع إلى الألفاظ المفردة من حيث الغرابة أو الاشتراك، كما يرجع أحيانا إلى جملة الكلام المركب سواء من حيث الاختصار أو البسط أو النظم ... الضرب الثاني: متشابه من جهة المعنى. ويشمل هذا المتشابه ما تعلق بأوصاف الله تعالى وأوصاف القيامة، لأن تلك الأوصاف لا تتصور لنا ولا تحصل في نفوسنا ... الضرب الثالث: متشابه من جهة اللفظ والمعنى معا، وهو أقسام: الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص كقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5]. الثاني: من جهة الكيفية كالوجوب والندب كقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3]. الثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ، كقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102]. ¬

_ (¬1) نفس المصدر. (¬2) انظر الإتقان، ج 3، ص 10 - 11.

آيات الصفات:

الرابع: من جهة المكان والأمور نزلت فيها كقوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37]. ويشترط لفهم الآية معرفة عادات الجاهلية. الخامس: من جهة الشروط التي يصح بها الفعل أو يفسد، كشروط الصلاة والنكاح، وأكد الأصفهاني أن كل ما ذكره المفسرون عن المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم .. وينقسم المتشابه من جهة أخرى إلى ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت الساعة، وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة، وضرب متردد بين الأمرين، ويختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على غيرهم وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (¬1). وتساءل العلماء هل يمكن أن يكون في القرآن شيء لا تعلم الأمة تأويله، ونقل الزركشي هذا الخلاف بين المفسرين والمتكلمين، فالمفسرون أجازوا أن يكون في القرآن بعض ما لا يعلم تأويله إلا الله، وهذا ما أكده عدد من العلماء في تفسيرهم لمعنى المتشابه، وأن بعض المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، ونقل الراغب الأصفهاني عن المتكلمين أن كل القرآن يجب أن يكون معلوما، وإلا أدى ذلك إلى إبطال الانتفاع (¬2). آيات الصفات: وأبرز ما وقع الاختلاف فيه في موضوع الآيات المتشابهة آيات الصفات، في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. وذهب جمهور أهل السلف وأهل الحديث إلى الإيمان بما جاء في القرآن، وتفويض المعنى إلى الله، وعدم الخوض في تفسير هذه الآيات وتأويلها (¬3)، وسئل مالك عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فقال: «الكيف غير ¬

_ (¬1) انظر الإتقان في علوم القرآن، ج 3، ص 11. (¬2) انظر البرهان للزركشي، ج 2، ص 4. (¬3) انظر الإتقان، ج 3، ص 12.

معقول والاستواء غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة»، وروي عن محمد بن الحسن قوله: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه، ونقل هذا الرأي عن سفيان الثوري ومالك وابن عيينة ووكيع، وقالوا جميعا بضرورة عدم التفسير والتأويل، وذهب بعض أهل السنة إلى جواز تأويل هذه الآيات على ما يليق بجلاله تعالى، وتوسط ابن دقيق العيد، فأجاز التأويل إذا كان قريبا من لسان العرب، فإذا كان التأويل بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه. وموقف أهل السلف أوضح وآمن وأسلم، فإن من الصعب على العقل البشري أن يخوض في تأويل ما ليس به علم، وأنى له علم ذلك والعقل البشري لا يدرك إلا المعاني القريبة منه، مما تدركه الحواس، والتأويل قد يبتدئ يسيرا منضبطا، ثم تتوسع مجالاته، وتنحرف مسالكه، وتضطرب أقواله، ثم يكون مطية لانحراف خطير. وهنا نقف وقفة يسيرة عند أنواع المتشابه كما أوردها «الراغب» في مفرداته، وليس كل متشابه سواء، فمتشابه الغرابة في الألفاظ والتراكيب ليس كمتشابه المعاني، حيث يقف العقل عاجزا عن الفهم، حائرا مضطربا، لا يدري وجه الصواب، وأنى للمفسر أن يدرك الصواب في أوصاف الله وفيما يدخل ضمن الغيب؟ ويكفي المؤمن أن يقف في مثل هذه المواطن مؤمنا مسلما خاشعا تاركا تفسير ذلك وتأويله لله تعالى، فما توصل إليه أهل التأويل في موضوع الاستواء على العرش من حيث تفسير الاستواء بالاستقرار وبالاستيلاء أو بالصعود أو بالعلو لا يبدو مقنعا، لأن كل معنى لا يخلو من محاذير، وأخطرها التجسيم، والله منزه عن ذلك، والآية واضحة الدلالة معبرة صادقة معجزة، ولا تحتاج بعد ذلك إلى تفسير أو تأويل. واعتبر العلماء أن حروف التهجي في أوائل السور القرآنية من المتشابه،

أخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن فواتح السور. والمتشابه كالمحكم من حيث مكانة النص القرآني، ولا يقدم المحكم على المتشابه ولا يفضله إلا من حيث وضوح الاستدلال بالمحكم لوضوح لفظه ومعناه، ولا مجال للاستدلال بالمتشابه إلا بعد معرفة ما يراد به، ولا شك أن المتشابه بسبب غموضه قد فتح الآفاق لمجالات واسعة من البحث، ودفع العلماء إلى تقصي معانيه المحتملة، وهذا منهج في البحث مفيد ...

الفصل الثالث عشر: القراءات القرآنية

الفصل الثالث عشر: القراءات القرآنية يراد بالقراءات القرآنية العلم بكيفية أداء القرآن من حيث نطق الألفاظ أو اختلاف تركيبها، بحيث تكون القراءة موافقة لما ثبت نقله عن القراء الأوائل الذين اشتهروا بحفظ القرآن وضبطه. ومن الثابت لدى علماء القراءات أن القراءات ليست هي الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وكلمة القراءات السبع هي التي أوجدت ذلك اللبس في المصطلحات، والقراءات ليست منحصرة بسبع قراءات، فهناك أكثر من ذلك، ولكن «ابن مجاهد» شيخ قراء عصره في بغداد المتوفى سنة 324 هـ، حاول أن يضبط القراءات الكثيرة التي انتشرت في البلاد الإسلامية، وكان بعضها ليس موثقا، فحاول أن يجمع القراءات، وأن يستخرج منها ما كان ثابتا عن طريق الرواية المتواترة بنقل الثقات من القراء، فاعتمد سبع قراءات، ووثقها، وثبت لديه أن قراءها عرفوا بالثقة والضبط والأمانة، وعرفت هذه القراءات بالقراءات السبع ... وتحديد عدد القراءات المعتمدة بسبع قراءات جاء بمحض الصدفة، وكان يمكن أن يكون أكثر من ذلك أو أقل، وأدى هذا العدد إلى التباس كبير لدى كثير من الناس بين الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن والقراءات السبعة التي اعتمدها ابن مجاهد في القرن الثالث واختارها من القراءات الكثيرة التي شاعت في عصره. ولا شك أن العمل الذي قام به ابن مجاهد كان عملا عظيما وكان جهدا فائقا، لأنه استطاع أن يضع معايير دقيقة للقراءة المعتمدة الموثقة، وأن يقف عن طريق هذه المعايير في وجه القراءات الكثيرة التي لا يسلم بعضها من شذوذ أو ضعف، وهذا لا يعني أن القراءات الأخرى ليست صحيحة، فهناك قراءات موثوقة، وموافقة لمعايير التوثيق والضبط التي وضعها العلماء، إلا أن «ابن

مجاهد» اقتصر في قبوله للقراءات على سبع قراءات اختارها من بين القراءات التي كانت شائعة. قال مكي بن أبي طالب: من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطا عظيما، قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة وغيرهم ووافق خط المصحف ألا يكون قرآنا، وهذا غلط عظيم، فإن الذين صنعوا القراءات من الأئمة المتقدمين كأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي حاتم السجستاني وأبي جعفر الطبري وإسماعيل القاضي قد ذكروا أضعاف هؤلاء، وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة ابن عمرو ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، واستمروا على ذلك، فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب، قال: والسبب في الاقتصار على السبعة مع أن في أئمة القراء من هو أجلّ منهم قدرا ومثلهم أكثر من عددهم أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرا جدا، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل مصر إماما واحدا» (¬1). وقال ابن الجزري في النشر: كره كثير من الأئمة المتقدمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القراء، وخطئوه في ذلك، وقالوا: «ألا اقتصر على دون العدد أو زاده أو بين مراده ليخلص من لا يعلم من هذه الشبهة». وقال الضراب في الشافي: «التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة وإنما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر رأيهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك، وذلك لم يقل به أحد» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 224. (¬2) انظر نفس المصدر.

وقال أحمد بن عبد الحليم بن تيمية: لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست قراءات القراء السبعة المشهورة، بل أول من جمع ذلك ابن مجاهد ليكون ذلك موافقا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده واعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة أو أن هؤلاء السبعة المعنيين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم، ولهذا قال بعض من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المائتين» (¬1). وأضاف ابن تيمية: ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبعون من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين، بل من ثبتت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة أو قراءة يعقوب الحضرمي ونحوهما كما ثبتت عنده قراءة حمزة والكسائي فله أن يقرأ بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف» (¬2). وقال ابن الجزري (¬3): وقد تدبرنا اختلاف القراءات كلها فوجدناه لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: اختلاف اللفظ والمعنى واحد. الثاني: اختلافهما جميعا مع جواز اجتماعهما في شيء واحد. الثالث: اختلافهما جميعا مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد بل يتفقان من وجه آخر لا يقتضي التضاد. ثم ختم ابن الجزري كلامه بقوله: ¬

_ (¬1) انظر النشر، ج 1، ص 39. (¬2) انظر المصدر نفسه. (¬3) انظر نفس المصدر ص 50.

وكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقد وجب قبوله، ولم يسع أحدا من الأمة رده ولزم الإيمان به، وإن كله منزل من عند الله، إذ كل قراءة منها مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلها واتباع ما تضمنته من المعنى علما وعملا لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض» (¬1). وقال السيوطي في الإتقان: وقد اشتد إنكار أئمة هذا الشأن على من ظن انحصار القراءات المشهورة في مثل ما في التيسير والشاطبية، وآخر من صرح بذلك الشيخ تقي الدين السبكي فقال في شرح المنهاج: قال الأصحاب: «تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بالقراءات السبع، ولا تجوز بالشاذة، وظاهر هذا يوهم أن غير السبع المشهور من الشواذ، وقد نقل البغوي الاتفاق على القراءة بقراءة يعقوب وأبي جعفر مع السبع المشهورة، وهذا القول هو الصواب» (¬2). وفصل السبكي ذلك بقوله: واعلم أن الخارج عن السبع المشهورة على قسمين: منه ما يخالف رسم المصحف، فهذا لا شك فيه أنه لا تجوز قراءته لا في الصلاة ولا في غيرها، ومنه ما لا يخالف رسم المصحف ولم تشتهر القراءة به، وإنما ورد من طريق غريب لا يعول عليها، وهذا يظهر المنع من القراءة به أيضا، ومنه ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن القراءة به قديما وحديثا، فهذا لا وجه للمنع منه، ومن ذلك قراءة يعقوب وغيره» (¬3). والمعتمد في القراءات القرآنية النقل والتلقي والرواية، فما ثبت نقله وتلقيه ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق، ص 51. (¬2) انظر الإتقان، ج 1، ص 225 (¬3) انظر نفس المصدر.

عن إمام موثوق بقراءته وحفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قراءة صحيحة، ولقد تعددت القراءات لسببين: السبب الأول: ثبوت نزول القرآن على سبعة أحرف، وهذا ثابت فيما رواه البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب قوله: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله، اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت»، ثم قال: «اقرأ يا عمر»، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه». السبب الثاني: رسم القرآن، وروعي في رسم القرآن أن يكون شاملا للأحرف السبع، وقد ناقش «ابن الجزري» في كتابه «النشر» هذا الموضوع وقال: «وأما كون المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة فإن هذه مسألة كبيرة اختلف العلماء فيها، فذهب جماعات من الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، وبنوا على ذلك أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها» (¬1). وأكد أن الرأي الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة. ¬

_ (¬1) معجم القراءات القرآنية للدكتور عبد العالم سالم مكرم، والدكتور أحمد مختار عمر ص 43.

وأشار بعض العلماء إلى وجود اختلافات بين المصاحف العثمانية من حيث الرسم القرآني، وحددوا أوجه الاختلاف بين مصحفي أهل المدينة والعراق باثني عشر حرفا، وهناك اختلاف بين مصحفي أهل الشام والعراق وبين مصحفي أهل الكوفة والبصرة، وهذه الاختلافات لا تتجاوز حدود الاختلاف فيما يدل عليه الرسم، أو زيادة حرف أو نقصانه، أو استبدال حرف بآخر. ومن أمثلة هذه الاختلافات (¬1): 1 - مصحف أهل المدينة: وأوصى (¬2) مصحف أهل العراق «ووصّى» بنقص الألف. 2 - مصحف أهل المدينة: «سارعوا» (¬3) مصحف أهل العراق «وسارعوا» بزيادة الواو. 3 - مصحف أهل المدينة: «يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا» (¬4) ومصحف أهل العراق «ويقول الذين آمنوا» بزيادة الواو. 4 - مصحف أهل المدينة: «ومن يرتدد» (¬5) مصحف أهل العراق «ومن يرتد» بدال واحدة. 5 - مصحف أهل المدينة: «بما كسبت أيديكم» (¬6)، مصحف أهل العراق «فبما كسبت» بزيادة الفاء. وهذه الاختلافات كما رأيناها لا تتجاوز حدود زيادة حرف عطف أو نقصانه، وهي لا تعتبر اختلافات بالمفهوم الحقيقي، ومع هذا فقد درسها العلماء، وحاولوا بيان أوجه الاختلاف وهو لا يتجاوز اختلاف رسم وأدى ذلك إلى اختلاف في القراءات .. ¬

_ (¬1) معجم القراءات القرآنية ص 45 - 46. (¬2) سورة البقرة، الآية: 132. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 133. (¬4) سورة المائدة، الآية: 53. (¬5) سورة المائدة، الآية: 54. (¬6) سورة الشورى، الآية: 30.

مقاييس القراءة الصحيحة:

وقال الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه «عنوان البيان في علوم التبيان» في هذا الموضوع: «إن هذا الاختلاف بين تلك المصاحف إنما هو اختلاف قراءات في لغة واحدة لا اختلاف لغات، قصد بإثباته إنفاذ ما وقع الإجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين واشتهاره بينهم» (¬1). وهذا يؤكد لنا أن المصاحف العثمانية اتسعت لجميع القراءات وجميع الروايات التي نقلت إلينا عن طريق أئمة القراء الذين اشتهروا بجودة الحفظ وعمق المعرفة بالقراءات صحيحة. «والحاصل أن المصاحف العثمانية كتبت لتسع من القراءات ما يرسم بصور مختلفة إثباتا وحذفا وإبدالا، فكتبت في بعضها برواية، وفي بعضها برواية أخرى تقليلا للاختلافات في الجهة الواحدة بقدر الإمكان، فكما اقتصر على لغة واحدة في جميع المصاحف اقتصر على رسم رواية واحدة في كل مصحف، والمدار في القراءة على عدم الخروج عن رسم تلك المصاحف، ولذلك لا يخطر على أهل أي جهة أن يقرءوا بما يقتضيه رسم الجهة الأخرى» (¬2). وعلّل «ابن الجزري» تجريد المصاحف العثمانية من النقط والشكل ليحتملها ما صح نقله وثبتت تلاوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الرأي يطرح علة جديدة لعدم النقض ويفسر عدم النقض لكي يستوعب المصحف القراءات القرآنية المتفقة مع الرسم. مقاييس القراءة الصحيحة: وضع الحافظ أبو بكر بن مجاهد البغدادي المتوفى سنة 324 هـ معايير للقراءة الصحيحة، وكان ابن مجاهد شيخ القراء في بغداد وأبرز علماء عصره في القراءة، قال عنه ابن النديم في الفهرست: ¬

_ (¬1) انظر معجم القراءات القرآنية، ص 50. (¬2) انظر معجم القراءات القرآنية، ص 50، نقلا عن تاريخ القرآن لمحمد طاهر الكردي ص 79.

مقاييس القراءات الصحيحة عند ابن الجزري:

«كان واحد عصره غير مدافع، وكان مع فضله وعلمه وديانته ومعرفته بالقراءات وعلم القرآن حسن الأدب، رقيق الخلق، كثير المداعبة، ثاقب الفطنة جوادا»، وكانت حلقات دروسه غاصة بالقراء، يتعلمون منه علم القراءات. واختار ابن مجاهد سبع قراءات، اعتبرها القراءات التي وقع الاتفاق عليها، وهي منسوبة لسبعة قراء، ولكل قارئ منهم سنده في روايته، وحجته فيما يقرأ، واختار قراءة السبعة من قراء الحجاز والعراق والشام ممن أتقن القراءة، وتعلم أصولها وقواعدها. وانتقد بعض العلماء «ابن مجاهد»، لأنه اختار سبعة قراء وكان بإمكانه أن يضيف إليهم بعض القراء الآخرين الذين لا يقلون عنهم مكانة، وقراءتهم لا تختلف عن القراءات السبع من حيث الدقة والصحة والشهرة والضبط، فضلا عما أدى إليه اختيار هذا العدد من لبس واشتباه لدى عوام الناس الذين لم يفرقوا بين القراءات السبع والأحرف السبعة، وبينهما فرق كبير .. وقد وضع العلماء مقاييس دقيقة للقراءة القرآنية الصحيحة، وبمقتضى هذه المقاييس تتسع دائرة القراءات الصحيحة. مقاييس القراءات الصحيحة عند ابن الجزري (¬1): المقياس الأول: موافقة العربية ولو بوجه: الأصل في القراءة الصحيحة أن تكون موافقة لقواعد اللغة العربية، نظرا لأن القرآن نزل بلغة عربية، ولا يتصور أن تكون هناك قراءة ليست متلائمة مع القواعد النحوية، ومع هذا فإن علماء القراءات يعتمدون في صحة القراءة القرآنية على الإسناد الصحيح، ولا يبحثون عن مطابقة القراءة للقواعد النحوية، قال «الداني»: «وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في معجم القراءات القرآنية ص 98 - 110، وانظر تفصيل ذلك في كتاب النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج 1، ص 9، طبعة دار الكتب العلمية.

المقياس الثاني: موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا:

ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها» (¬1). ولا يحتج البصريون بالقراءات إلا حينما تتفق مع أصولهم، ويرى الكوفيون أن القراءات يجب أن تشتق منها المقاييس النحوية لأن سندها الرواية، وهي أقوى في مجال الاستشهاد من الشعر، وهذا هو الأصل، إذ لا يتصور أن يتم الاستشهاد بالشعر وهو قول بشر، ولا يحتج بالقراءات في مجال النحو، وانتقد ابن حزم موقف البصريين في ذلك ... ولا شك أن هذا الخلاف بين القراء والنحويين أدى إلى نشاط لغوي كبير، وازدهرت بفضله حركة النقد والتخريج للقراءات، وقد أثرى هذا الخلاف المدارس النحوية، وعمق حوارها اللغوي ... المقياس الثاني: موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا: وهذا المقياس يجعل المصاحف العثمانية هي الأساس في القراءات القرآنية، بحيث تتوافق القراءة الثابتة عن طريق النقل والرواية بما جاء في المصاحف العثمانية ولو احتمالا، لأن الرسم العثماني قد يخالف بعض القراءات، في زيادة حرف أو نقصانه أو إدغامه في حرف آخر، كما في قوله: «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»، فقد كتبت بغير ألف في الرسم القرآني، وكذلك قوله: وأوصى، ووصّى. وأكد ابن الجزري أن مخالف صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفا إذا ثبتت القراءة به ووردت مشهورة مستفاضة وفرق بين مخالفة الرسم في زيادة حرف زائد أو نقصانه وبين مخالفة الرسم بزيادة كلمة أو نقصانها، ولو كانت تلك الكلمة حرفا من حروف المعاني، فإن حكم ذلك الحرف كحكم زيادة أو نقصان كلمة، ولا تجوز مخالفة الرسم فيه. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 211، وفسر ابن الجزري قوله في الضبط (ولو بوجه) نريد به وجها من وجوه النحو سواء كان أفصح أو فصيحا مجمعا عليه أم مختلفا فيه اختلافا لا يعني مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع (انظر النشر، ج 1، ص 9 - 10).

المعيار الثالث: صحة السند:

وهذا معيار دقيق في طبيعة العلاقة بين القراءات القرآنية والرسم العثماني، فالمصحف العثماني هو المصحف الذي أجمعت الأمة على قبوله والرسم العثماني هو النص القرآني الثابت، ولا يجوز لأية قراءة أن تخالفه أو تخرج عنه بإضافة كلمة أو نقصانها، ما لم يكن ذلك الاختلاف محصورا في حرف لا يترتب عليه أي تغيير في المعنى كحروف الزوائد. المعيار الثالث: صحة السند: يشترط في القراءة القرآنية الصحيحة والمعتمدة والمقبولة أن يكون سندها صحيحا، بنقل العدل الضابط عن مثله، وتكون مشهورة عند القراء الثقات، فإذا لم تكن القراءة صحيحة السند بنقل الثقات فلا تقبل، ولو وافقت الرسم القرآني، واشترط بعض العلماء التواتر في الرواية، فإذا انتفى النقل في القراءة فلا مجال لقبولها، وإن جاءت موافقة لكل من الرسم وقواعد العربية، لأن النقل هو الشرط الأهم في إثبات القراءات ... والأجدر في هذا المجال أن يقال بأن المقياس في قبول القراءات صحة الرواية وهو شرط وحيد ومقياس لا خلاف فيه، ولكي يتم اعتماد هذا النقل لا بد فيه من موافقة تلك القراءة لقواعد العربية والرسم القرآني، واعتبار مقياس النقل هو الأساس يخرجنا من تناقض واضح فيما يتعلق بأهمية المقاييس الثلاثة، ومقياس الرسم هو قرينة لصحة الرواية، ولا يمكن اعتباره كافيا في قبول القراءة ... ونقل السيوطي في الإتقان عن الكواشي قوله: «كل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية ووافق خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة، ومتى فقد شرط من الثلاثة فهو الشاذ» (¬1). وأكد «ابن الجزري» مقاييسه للتفريق بين القراءات الصحيحة والقراءات الشاذة والضعيفة في أول كتابه «النشر»: ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 255.

القراءات الشاذة:

كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف (¬1). وقال أبو شامة في المرشد الوجيز: لا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى أحد السبعة ويطلق عليها لفظ الصحيحة. وأنها أنزلت هكذا، إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره، ولا يختص ذلك بنقلها عنهم، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة، فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب إليه، فإن القراءة المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم» (¬2). ثم شرح «ابن الجزري» هذه المعايير والضوابط، من حيث موافقة العربية ولو بوجه، أي نريد به وجها من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحا، ونعني بموافقة أحد المصاحف ما كان ثابتا في بعضها دون بعض، وموافقة الرسم ولو احتمالا ولو تقديرا (¬3). القراءات الشاذة: يراد بالقراءات الشاذة تلك القراءات التي لم تبلغ درجة الصحة في ثبوتها، ¬

_ (¬1) انظر النشر في القراءات العشر، ج 1، ص 9. (¬2) انظر نفس المصدر. (¬3) أورد ابن الجزري أمثلة واضحة من هذه الضوابط ومدى تطبيقها على القراءات والقراء.

وفي رأي ابن مجاهد أن القراءات السبعة هي القراءات الصحيحة، وما عداها فهو قراءات شاذة، ولم يوافق العلماء على هذا التحديد، ووضعوا مقاييس للقراءة الصحيحة والشاذة، وهي أن كل قراءة توفرت فيها شروط القبول الثلاثة تعتبر قراءة صحيحة، وما لم تتوفر فيه تلك الشروط من حيث الصحة وموافقة العربية والرسم العثماني فهو شاذ، وانتقد العلماء تحديد القراءات الصحيحة بسبعة قراءات، ورأوا أن تطبيق المقاييس هي الطريق الأدق لمعرفة القراءات الصحيحة من القراءات الشاذة ... واهتم العلماء بالقراءات الشاذة، من حيث إثبات الشذوذ والضعف فيها، وأفردوا لها مؤلفات قيمة، وناقشوا مواطن الشذوذ فيها، وحكم القراءة بها. ومن أهم الكتب التي ألّفت في القراءات الشاذة، كتاب المحتسب لابن جني (¬1)، وإعراب القراءات الشواذ للعكبري، وكتاب الشواذ لأبي العباس المعروف بثعلب النحوي، وكتاب المصاحف لأبي داود السجستاني، وكتاب الشواذ لابن مجاهد، وكتاب البديع لابن خالويه وكتاب المحتوى في القراءات الشواذ لأبي عمرو الداني، واللوامح لأبي فضل الرازي، وشوق العروس لأبي معشر الطبري القطان ... واختلف العلماء في حكم الصلاة بالقراءة الشاذة على أقوال (¬2): الأول: عدم جواز الصلاة بالقراءة الشاذة، لعدم ثبوت هذه القراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب إلى هذا الرأي جمهور العلماء. الثاني: جواز الصلاة بالقراءة الشاذة، نسب إلى الشافعي وأبي حنيفة. الثالث: لا يجوز أن يقرأ بها في القراءة الواجبة في الصلاة لعدم التيقن من أداء الواجب، ويجوز أن يقرأ بها فيما عدا ذلك. ¬

_ (¬1) كتاب المحتسب مطبوع، وحققه كل من الأستاذين علي النجدي ناصف وعبد الفتاح شبلي. (¬2) انظر معجم القراءات القرآنية ص 113.

فوائد اختلاف القراءات:

فوائد اختلاف القراءات: لخص السيوطي فوائد اختلاف القراءات بما يلي (¬1): أولا: التهوين والتخفيف على الأمة ... ثانيا: إظهار شرف الأمة الإسلامية وفضلها بما ميزها الله به على غيرها من الأمم. ثالثا: إعظام الأجر على تحقيق كتاب الله وضبط لفظه وتتبع معانيه واستنباط أحكامه وحكمه والكشف عن أوجه التعليل والترجيح فيه .. رابعا: إظهار سر الله في كتابه وصيانته له عن التبديل والاختلاف. خامسا: المبالغة في إعجازه بإيجازه عن طريق تنوع القراءات .. سادسا: إظهار بعض المعاني في بعض القراءات مما يجهل في القراءات الأخرى، ولا شك أن ظاهرة تعدد القراءات تؤكد لنا حقيقة أساسية تتمثل في أمرين اثنين: الأمر الأول: عناية العلماء بكتاب الله، وحرصهم على ضبط القراءات القرآنية التي ثبت عن طريق النقل الصحيح بالسند المتصل الموثوق بروايته أنها من أوجه القراءات التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتمدها تيسيرا على الأمة ومراعاة لتعدد لهجاتها وطرقها في التعبير، وأساليبها في الخطاب. الأمر الثاني: توقيف كل ما يتعلق بالقرآن، قراءة له، ورسما لكلماته وحروفه، وأداء لألفاظه، وضبطا لكيفيات نطق كلماته وعباراته، بحيث تقتصر مهمة القراء على تتبع الروايات المنقولة عن الثقات والتأكد من حصة تلك الروايات .. والفرق بين الرواية الصحيحة والرواية الشاذة يظهر في مدى قوة السند ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 227، وذكر ابن الجزري في كتابه النشر فوائد اختلاف القراءات منها كمال الإعجاز وجمال الإيجاز، ومنها: التأكيد على صدق القرآن، ومنها: تيسير الحفظ والنقل على هذه الأمة، ومنها ظهور سر الله في حفظ القرآن.

أنواع القراءات:

وضبط الرواة، وإذا كانت المقاييس لقبول القراءة الصحيحة تشترط لقبول الرواية بالإضافة إلى صحة السند ملائمة القراءة لكل من قواعد اللغة والرسم العثماني، فإن صحة السند هي الأساس وهي المعيار الأقوى والأكثر سدادا واعتبارا في هذا الموضوع. واشترط العلماء الدقة في كل ما يتعلق بالقرآن، والضبط في نقل القراءات عن القراء من الصحابة والتابعين الذين اشتهروا بالإقراء وحسن المعرفة بالقرآن ... أنواع القراءات: نقل السيوطي عن القاضي جلال الدين البلقيني قوله: القراءة تنقسم إلى متواتر وآحاد وشاذ، فالمتواتر: القراءات السبعة المشهورة، والآحاد: قراءات الثلاثة التي هي تمام العشر، ويلحق بها قراءة الصحابة، والشاذ: قراءات التابعين كالأعمش ويحيى بن ثابت وابن جبير ونحوهم (¬1). ولم يوافقه على هذا التقسيم وقال: «هذا الكلام فيه نظر» (¬2)، واختار السيوطي كلام ابن الجزري في كتابه النشر الذي وضع معيارا موضوعيا للقراءة الصحيحة ومقياسا دقيقا، وهي الرواية التي صح سندها ووافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا» (¬3) وفسر ابن الجزري معنى قوله وافقت العربية «ولو بوجه» «نريد به وجها من وجوه النحو، سواء كان أفصح أم فصيحا مجمعا عليه أم مختلفا فيه، وقسم السيوطي القراءات إلى ستة أنواع (¬4): الأول: المتواتر: وهو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، عن مثله إلى منتهاه، وغالب القراءات كذلك. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، 210. (¬2) انظر نفس المصدر. (¬3) انظر نفس المصدر، ص 211. (¬4) انظر الإتقان ج 1، ص 215 - 216.

الثاني: المشهور: وهو ما صح سنده ولم يبلغ درجة التواتر ووافق العربية والرسم، واشتهر عند القراء، فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ ... ومثاله ما اختلفت الطرق في نقله عن السبعة، فرواه بعض الرواة عنهم دون بعض ... الثالث: الآحاد: وهو ما صح سنده وخالف الرسم أو العربية أو لم يشتهر الاشتهار المذكور، ولا يقرأ به، من ذلك ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ [الرحمن: 76]، ومن حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17]. الرابع: الشاذ: وهو ما لم يصح سنده ومنه قراءة: ملك يوم الجنّة وهم هذا ينفقون رزقناهم المضاجع يستكبرون بصيغة الماضي ونصب يوم». الخامس: الموضوع: وهو ما ثبت أنه ليس له أصل، كقراءات أبي جعفر الخزاعي التي نسبها إلى أبي حنيفة. السادس: وهو ما يشبه حديث المدرج، ويراد به الزيادة على وجه التفسير، كقراءة سعد لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [في مواسم الحج] [البقرة: 198]. قال ابن الجزري: ربما كانوا يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا وبيانا، لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا، فهم آمنون من الالتباس، وربما كان بعضهم يكتبه معه. وقال السيوطي: «لا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه، ولما في محله ووضعه وترتيبه .. للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله، لأن هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم مما تتوفر الدواعي على نقل جمله وتفاصيله، فما نقل آحادا ولم يتواتر يقطع بأنه ليس من القرآن قطعا (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 1، ص 217.

العشر الذي يعتبر حجة في القراءات، ووصفه السيوطي بقوله: «أتقن الإمام ابن الجزري هذا الفصل جدا»، وفي مجال التساؤل عما يقبل من القرآن الآن فيقرأ به، وما لا يقبل ولا يقرأ به قال ابن الجزري: أولا: قسم يقرأ به اليوم وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال، وهي أن ينقل عن الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن سائغا، ويكون موافقا لخط المصحف، فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث قرئ به وقطع على مغيبه وصحته وصدقه لأنه أخذ عن إجماع من جهة موافقة خط المصحف وكفر من جحده .. ثانيا: ما صح نقله عن الآحاد وصح وجهه في العربية وخالف لفظه خط المصحف فهذا يقبل ولا يقرأ به لعلتين: إحداهما: أنه لم يؤخذ بإجماع إنما أخذ بأخبار الآحاد، ولا يثبت قرآن يقرأ به بخبر الواحد. والعلة الثانية: أنه مخالف لما قد أجمع عليه فلا يقطع على مغيبه وصحته، وما لم يقطع على صحته لا يجوز القراءة به، ولا يكفر من جحده، ولبئس ما صنع إذا جحده. ثالثا: ما نقله غير ثقة أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية، فهذا لا يقبل وإن وافق خط المصحف ... ». ثم قال بعد ذلك: واختلف العلماء في جواز القراءة بذلك في الصلاة، فأجازها بعضهم لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة، وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد، وأكثر العلماء على عدم الجواز، لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني، أو أنها لم تنقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن أو أنها لم تكن من الأحرف

المصاحف العثمانية والأحرف السبعة:

السبعة، كل هذه مآخذ للمانعين، وتوسط بعضهم فقال: إن قرأ بها في القراءة الواجبة وهي الفاتحة عند القدرة على غيرها لم تصح صلاته، لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة .... وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل، لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل، لجواز أن يكون ذلك من الحروف التي أنزل عليها القرآن» (¬1). المصاحف العثمانية والأحرف السبعة: اختلف العلماء في مدى اشتمال المصاحف العثمانية على جميع الأحرف السبعة على قولين (¬2): القول الأول: ذهب جماعة من القراء والفقهاء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، وبنوا هذا الرأي على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة، وهذا المصحف الذي أجمعت الأمة عليه وعلى ترك ما سواه لا يمكن أن يهمل الأحرف السبعة ... القول الثاني: ذهب جمهور السلف والخلف إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل. وعلق ابن الجزري على هذا القول بقوله: وهذا القول هو الذي يظهر صوابه، لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المشهورة المستفيضة تدل عليه وتشهد له، وفي معرض الرد على الإشكال الذي طرحه أصحاب الرأي الأول استشهدوا لكلام الإمام محمد بن جرير الطبري أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة، وإنما كان ذلك جائزا لهم ومرخصا فيه، وقد جعل لهم الاختيار في أي حرف قرءوا به، كما في الأحاديث الصحيحة، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا ¬

_ (¬1) انظر النشر في القراءات العشر، ج 1، ص 14 - 15. (¬2) انظر النشر في القراءات العشر، ج 1، ص 31.

أول من ألف في القراءات:

على حرف واحد اجتمعوا على ذلك اجتماعا سائغا وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور، وقال بعضهم: إن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أوفق لهم أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة» (¬1). أول من ألف في القراءات: وأول من قام بجمع القراءات وضبطها في كتاب هو أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224 هـ، وقام بهذا العمل العظيم بعد أن تعددت القراءات وكثر القراء، وخاف من فتنة وفوضى واضطراب، فتصدى لهذا العمل العظيم، حيث قام بضبط بعض القراءات، وجمع خمسا وعشرين قراءة، ثم جاء بعده أحمد بن جبير الكوفي سنة 258 هـ، وجمع خمس قراءات من كل مصر، ثم جاء بعد ذلك القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي فألف كتابا في القراءات وجمع فيه عشرين قراءة، ثم جاء بعد ذلك الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310، فألف كتابه الجامع، وجمع فيه أكثر من عشرين قراءة، ثم تتالت المؤلفات والمصنفات في القراءات، ثم انتقلت هذه القراءات إلى الأندلس في أواخر القرن الرابع، وكان أبو عمر أحمد بن محمد الطلمنكي مؤلف كتاب «الروضة» أول من أدخل القراءات إلى الأندلس ثم تبعه مكي بن أبي طالب القيسي مؤلف التبصرة، ثم الحافظ أبو عمرو الداني مؤلف التيسير وجامع البيان (¬2) ... ثم استمرت حركة التأليف في القراءات، ولم ينكر أحد على أحد قراءته ما دامت تلك القراءة خاضعة للمقاييس التي وضعها علماء القراءات، من حيث موافقتها للمصاحف العثمانية وثبوت نقلها عن القراء الثقات الذين نقلوها عن الصحابة ... ورد «ابن الجزري» في كتابه «النشر» على من حدد القراءات بعدد أو اعتبر أن ¬

_ (¬1) انظر نفس المصدر، ج 1، ص 31 - 32. (¬2) انظر النشر في القراءات العشر، ج 1، ص 34.

القراء السبعة:

القراءات المقبولة هي سبع قراءات، ظنا منهم أن القراءات السبع هي الأحرف السبعة الواردة في الحديث ... وعلل اقتصار أهل الأمصار على القراء السبعة المشهورين، بأنه من باب الاختصار، وذهب إليه بعض المتأخرين لقطع الطريق على القراءات الشاذة، وأنكر على ابن مجاهد سبع هؤلاء السبعة فعله في تحديد القراءات بالسبع، فقد فعل ما لا ينبغي أن يفعله، وأشكل الأمر على العامة حتى جهلوا ما لم يسعهم جهله (¬1). القراء السبعة: اشتهر عدد من الصحابة بإقراء القرآن، هم: عثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري ... وأخذ التابعون عن الصحابة، واشتهر عدد من التابعين بالقراءة، في كل من المدينة ومكة والبصرة والكوفة والشام، واشتهر من قراء التابعين عدد منهم انصرفوا إلى العناية بالقرآن، وقاموا بضبطه، وانشغلوا بحفظه، وتفرغوا لإقرائه وتعليمه. [أبرز قراء التابعين] ومن أبرز قراء التابعين ما يلي: - قراء المدينة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، شيبة بن نصاح، نافع بن أبي نعيم ... - قراء مكة: عبد الله بن كثير، حميد بن قيس الأعرج، محمد بن محيصن. - قراء الكوفة: يحيى بن وثاب، عاصم بن أبي النجود، سليمان الأعمش، حمزة، الكسائي. - قراء الشام: عبد الله بن عامر، عطية بن قيس الكلابي، إسماعيل بن عبد الله ابن المهاجر، يحيى بن الحارث الذماري، شريح بن يزيد الحضرمي. واشتهر من هؤلاء سبعة قراء، عرفوا بالقراءة السبعة، اختارهم أبو بكر بن ¬

_ (¬1) انظر النشر في القراءات العشر، ج 1، ص 36.

الأول: ابن عامر:

مجاهد البغدادي شيخ القراء ببغداد، وهم (¬1): الأول: ابن عامر: هو أبو عمران عبد الله بن عامر اليحصبي، المتوفى سنة 118 هـ، كان من التابعين، وإمام أهل الشام وقاضيهم وشيخ القراء بدمشق وإمام المسجد الأموي، أخذ القراءة عن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وعن أبي الدرداء، واشتهر برواية قراءته كل من هشام وابن زكوان وكانا من أبرز قراء الشام. الثاني: ابن كثير: هو عبد الله بن كثير الداري ويكنى بأبي معبد توفي سنة 120 هـ، وكان شيخ مكة وإمامها في القراءة، لقي من الصحابة عبد الله بن الزبير، وأبا أيوب الأنصاري، وأنس بن مالك، واشتهر بالرواية عنه كل من البزي وقنبل وكانا من أبرز قراء مكة. الثالث: عاصم: هو أبو بكر عاصم بن أبي النجود الأسدي، المتوفى بالكوفة سنة 127 هـ، وكان عاصم شيخ القراء بالكوفة، ومن أكثرهم فصاحة وإتقانا، وروى عنه قراءته كل من شعبة وحفص. الرابع: نافع: هو أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني المتوفى سنة 167 هـ، أخذ القراءة عن سبعين من التابعين، وهم أخذوا قراءتهم عن ابن عباس وأبي هريرة عن أبي بن كعب، كان «نافع» شيخ القراء بالمدينة واشتهر بالرواية عنه كل من قالون وورش ... الخامس: الكسائي: ¬

_ (¬1) انظر معجم القراءات القرآنية ص 79 - 89، ومناهل العرفان للزرقاني ج 1، ص 449، وانظر تفصيل ذلك في الجزء الأول من كتاب النشر في القراءات العشر لابن الجزري.

السادس: أبو عمرو:

هو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي النحوي المتوفى سنة 189 هـ، وكان الكسائي أعلم الناس بالنحو، وكان فارسي الأصل، وانتهت إليه الرئاسة في الكوفة في القراءة والنحو واللغة، وكان يجلس على منبر الكوفة فتضبط المصاحف بقراءته ... واشتهر بالرواية عنه كل من أبي الحارث والدوري. السادس: أبو عمرو: هو أبو عمرو زيان بن العلاء بن عمار المازني البصري المتوفى سنة 154 هـ، كان إمام البصرة، وأعلم الناس بالقرآن والعربية، وكان يلقب بسيد القراء، واشتهر بالرواية عنه كل من الدوري والسوسي. السابع: حمزة: هو أبو عمارة حمزة بن حبيب الزيات الكوفي مولى عكرمة المتوفى سنة 156 هـ، وكان من تابعي التابعين، وعرف بالورع والتقى، واشتهر بالحديث والفرائض، واشتهر عنه كل من خلف بن هشام وخلاد بن خالد. هؤلاء هم القراء السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد، واعتبرهم أبرز قراء عصرهم الذين خلفوا التابعين في القراءة، واشتهر أمرهم في الشام والعراق والحجاز ... أما القراءات الثلاث المكملة للعشر فهي: 1 - قراءة أبي جعفر: وهو أبو جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي المتوفى سنة 130 هـ، وكان من التابعين، وكان إمام المدينة المنورة، وروى مجاهد عن أبي الزناد قوله: «لم يكن بالمدينة أحد أقرأ للسنة من أبي جعفر، أخذ قراءته عن ابن عباس وأبي هريرة عن أبي بن كعب، اشتهر بالرواية عنه كل من أبي موسى بن وردان المدني وأبي الربيع سليمان بن حجاز ... 2 - قراءة يعقوب:

3 - قراءة خلف:

وهو أبو محمد يعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري، المتوفى سنة 205 هـ، وكان إماما في القراءة، وانتهت إليه رئاسة القراء بالبصرة بعد أبي عمرو، وصفه أبو حاتم السجستاني بأنه كان أعلم من رآه بالحروف والاختلاف في القرآن وعلله ومذاهب النحو وأروى الناس لحروف القرآن. واشتهر بالرواية عنه كل من روح بن عبد المؤمن، ومحمد بن المتوكل المعروف برويس وكان من أحفظ أصحاب يعقوب ... 3 - قراءة خلف: هو أبو محمد خلف بن هشام البزار المتوفى سنة 229 هـ، واشتهر بالرواية عنه كل من أبي يعقوب المروزي البغدادي وأبي حسن إدريس الحدّاد البغدادي .. [القراءات الأربعة الشاذة] أما القراءات الأربعة الشاذة فهي: 1 - قراءة الحسن البصري إمام البصرة المتوفى سنة 110 هـ. 2 - قراءة ابن محيصن المكي المتوفى سنة 123 هـ. 3 - قراءة اليزيدي البصري المتوفى سنة 202 هـ. 4 - قراءة الأعمش الأسدي المتوفى سنة 148 هـ. والقراءات السبع متواترة بالإجماع، ووقع خلاف في الروايات الثلاثة المكملة للعشرة، وهي قراءة أبي جعفر وقراءة يعقوب وقراءة خلف، والصحيح عند العلماء أن الروايات الثلاث المكملة للعشر متواترة، ولا تختلف من حيث التواتر عن القراءات السبع، وأنكر علماء القراءات التفريق بين القراءات العشر من حيث التواتر، واعتبروا أن هذا التقسيم بين القراءات السبع والقراءات الثلاث المكملة للعشر، لا يعتمد على دليل. ولا شك أن معيار القراءة الصحيحة هي ما صح سندها ووافقت العربية ولو بوجه ووافقت خط المصحف الإمام، فإذا انتفى شرط من هذه الشروط اعتبرت القراءة شاذة، ولا تجوز الصلاة بالقراءة الشاذة، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، فإذا جاءت رواية أحادية في كيفية نطق كلمة لا تقبل، وإن توافرت فيها شروط

الصحة، لأنه يشترط في الثبوت أن يصل إلى درجة الشهرة وتلقّي الأمة لهذه القراءة بالقبول، وهذا دليل على التواتر والقطعية ... والتشدد في المعايير المرتبطة بثبوت القرآن فضيلة لأنه يؤكد حجم العناية بكتاب الله، ويؤكد في نفس الوقت أن العلماء تشددوا أقوى ما يكون التشدد في قبول القراءات لئلا يقع أي التباس أو شبهة في قطعية القراءات القرآنية ... وهذا المنهج العلمي الذي نجد ملامحه واضحة في كتب القراءات لا يترك أي ثغرة في مجال إثبات قطعية القرآن، من حيث القراءة والأداء، وهو يتحدى كل المناهج العلمية من حيث الدقة، ويزيل كل شبهة، ولا يترك مجالا للشك أو التردد، وعلم علمي كهذا لا يمكن إلا أن يقع الاعتراف بعظمته والثقة بنتائجه والاطمئنان إلى سلامته. ونقل الزركشي عن «مكي» قوله: «والسبب في اشتهار هؤلاء السبعة دون غيرهم أن عثمان رضي الله عنه لما كتب المصاحف، ووجهها إلى الأمصار، وكان القراء في العصر الثاني والثالث كثيري العدد، فأراد الناس أن يقتصروا في العصر الرابع على ما وافق المصحف، فنظروا إلى إمام مشهور بالفقه والأمانة في النقل، وحسن الدين وكمال العلم قد طال عمره واشتهر أمره، وأجمع أهل مصر على عدالته، فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان مصحفا إماما هذه صفة قراءته على مصحف ذلك المصر، فكان أبو عمر من أهل البصرة، وحمزة وعاصم من أهل الكوفة وسوادها، والكسائي من العراق، وابن كثير من أهل مكة، وابن عامر من أهل الشام، ونافع من أهل المدينة، كلهم ممن اشتهرت إمامتهم وطال عمرهم في الإقراء وارتحل الناس إليهم من البلدان» (¬1). وعلّل الهروي في كتابه الكافي التفريق بين القراءات بقوله: «ثم إن التمسك بقراءة سبعة فقط ليس له أثر ولا سنة، وإنما السنة أن تؤخذ ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 329 - 330.

أول من ألف في القراءات:

القراءة إذا اتصلت روايتها نقلا وقراءة ولفظا، ولم يوجد طعن على أحد من رواتها، ولهذا المعنى قدمنا السبعة على غيرهم وكذلك نقدم أبا يعقوب وجعفر على غيرهما» (¬1). ومعيار القراءة الصحيحة واضح لدى جميع العلماء، ولا مجال للخلاف فيه، وأكد هذا الشيخ شهاب أبو شامة بقوله: كل قراءة صحيحة معتبرة، فإذا اختل أحد هذه الأركان الثلاثة أطلق على تلك القراءة أنها شاذة وضعيفة (¬2). أول من ألف في القراءات: نقل ابن الجزري عن أبي حاتم السجستاني قوله: كان أول من سمع بالبصرة وجوه القراءات وألفها وتتبع الشاذ منها فبحث عن إسناده هارون بن موسى الأعور، وكان من القراء. وأول من جمع القراءات في كتاب: «أبو عبيد القاسم بن سلام» المتوفى سنة 224 هـ ... وذكر ابن الجزري في كتابه النشر الكتب المؤلفة في القراءات، وذكر ستين مرجعا في هذا العالم ... ومن أهمها ... (¬3) 1 - السبعة لأبي بكر بن مجاهد التميمي حققه الدكتور شوقي ضيف ونشرته دار المعارف. 2 - التيسير لأبي عمرو الداني، طبع في استانبول .. 3 - جامع البيان في القراءات السبع لأبي عمرو الداني. 4 - الكافي لأبي عبد الله محمد بن شريح الإشبيلي. 5 - التبصرة لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي. 6 - حرز الأماني في القراءات السبع للقاسم الرعيني الشاطبي ... ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 1، ص 330. (¬2) نفس المصدر، ص 331. (¬3) انظر تفصيل ذلك في معجم القراءات القرآنية الذي رتب هذه الكتب بحسب القرون.

تفسير بعض المصطلحات:

7 - المبهج في القراءات لسبط الخياط البغدادي. 8 - الإقناع في القراءات السبع لابن خلف الأنصاري. 9 - جمال القراء وكمال الإقراء لأبي الحسن السخاوي. 10 - الكنز في القراءات العشر للواسطي. وهناك كتب كثيرة ذكرها ابن الجزري، وجاءت في كتاب «معجم القراءات القرآنية مع مقدمة في القراءات، وأشهر القراء» الذين نشرته جامعة الكويت، كما ذكر هذا المعجم عددا من المؤلفات في القراءات الشاذة .. تفسير بعض المصطلحات: استعمل القراء مصطلحات فنية دقيقة المعنى، لا يمكن فهم دلالتها أو معرفة ما يراد بها إلا بتوضيح وتفسير، وكثيرا ما يستعمل القراء هذه المصطلحات، لتوضيح كيفية النطق والأداء اللفظي من حيث الإدغام والوقف والإشمام والروم والسكت والقطع والقصر والمد والحدر والتدوير والترتيل والتجويد والترقيق والتفخيم والإمالة .. ويمكن توضيح دلالة هذه المصطلحات بما يلي (¬1): - الإدغام: النطق بحرفين في حرف واحد، لتقارب الحرفين أو تماثلهما فإن كان الحرف الأول متحركا سمي الإدغام الكبير، وإن كان ساكنا سمي الإدغام الصغير .. - الوقف: وهو عبارة عن قطع الصوت على الكلمة زمنا تتنفس فيه، ثم يستأنف بعد ذلك، ويختلف بين الوقف التام والوقف الكافي والوقف القبيح، ولكل وقف حكمه من حيث أثره على المعنى، فإن أساء إلى المعنى فهو قبيح ولا يحسن الوقف عليه ... - الإشمام: وهو عبارة عن الإشارة إلى الحركة من غير تصويت. - الروم: وهو عبارة عن الإتيان بأقل الحركة أو النطق ببعض الحركة، أو ¬

_ (¬1) انظر معجم القراءات القرآنية، ص 131 - 136.

معنى الإمالة:

النطق بالحركة بصوت خفي، والكوفيون لا يفرقون بين الإشمام والروم .. - السكت: هو عبارة عن قطع الصوت زمنا يقل عن زمن الوقف من غير تنفس. - القطع: هو عبارة عن قطع القراءة رأسا، للوقوف عن القراءة أو لأداء ركعة السجود. - القصر: هو عبارة عن ترك الزيادة في حروف المد. - المد: هو عبارة عن طول زمان الصوت، لتحقيق أهداف معينة، للتعظيم، أو للحجز بين الساكنين والمتحرك، أو للفصل بين الكلمتين، أو للتفريق بين الاستفهام وغيره. - الحدر: هو عبارة عن إدراج القراءة وسرعتها وتخفيفها. - التدوير: هو عبارة عن التوسط بين المقامين. - الترتيل: هو عبارة عن اتباع الكلام بعضه بعضا من غير عجلة. - التجويد: هو عبارة عن الإتيان بالقراءة مجوّدة الألفاظ بالغة حدّ النهاية في إجادة النطق. - الترقيق: هو عبارة عن إنحاف الحرف. - التفخيم: هو عبارة عن تسمين الحرف. معنى الإمالة: المراد بالإمالة ميل الحركة إلى حركة أخرى، وميل الحرف إلى حرف آخر، والإمالة لغة بعض القبائل العربية، وهي لغة تميم وأسد وقيس، والأصل فيها كما يقول السيوطي حديث حذيفة مرفوعا: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها .. ». والإمالة أن تمال الفتحة لكي تكون قريبة من الكسرة وأن يمال الألف نحو الياء، وذلك لأسباب تتعلق باللفظ نفسه من حيث تجاوز الألفاظ أو من حيث الإشعار بأصل الكلمة، والغاية من الإمالة تيسير النطق، فالفتح يحتاج إلى فتح الفم والإمالة تخفف من صعوبة النطق بالفتح في بعض الحالات، فالألف المنقلبة

مخارج الحروف:

عن ياء تمال في بعض القراءات كالهدى والفتى والعمى ويخشى ويرضى ومأوى وأدنى وأذكى، وأمال بعض القراء كل ألف بعد راء متطرفة مجرورة نحو الدار والنار والقهار، وهكذا في كثير من الألفاظ .. والأصل في الفتحة أن يفتح القارئ فمه بلفظ الحرف، وإذا كان هناك ألف بعده فالفتح أظهر وأوضح، وينقسم الفتح إلى قسمين فتح شديد وفتح جيد، فالشديد هو نهاية فتح الشخص فمه بذلك الحرف، ولا يوجد هذا النوع في لغة العرب ويقال له التفخيم، وهو شائع في لغة عجم الفرس، وأهل خراسان، أما الفتح المتوسط فهو فتح الفم قليلا بحيث يكون بين الفتح الشديد والإمالة. والإمالة كما جاء في كلام الحافظ ابن الجزري أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة وبالألف نحو الياء «كثيرا» ويقال له الإضجاع والبطح، «وقليلا» وهو التقليل والتلطيف، والإمالة إما أن تكون شديدة أو متوسطة، فالإمالة الشديدة هو الإشباع المبالغ فيه والإمالة المتوسطة هي درجة بين الفتح المتوسط والإمالة .. قال الداني: والإمالة والفتح لغتان مشهورتان فاشيتان على ألسنة الفصحاء من العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، فالفتح لغة أهل الحجاز والإمالة لغة عامة أهل نجد من تميم وأسد وقيس، واختار العلماء الإمالة الوسطى التي هي بين بين، لأن الغرض من الإمالة حاصل بها وهو الإعلام بأن أصل الألف الياء ... (¬1) قال ابن الجزري في بيان الفائدة من الإمالة: «وأما فائدة الإمالة فهي سهولة اللفظ وذلك أن اللسان يرتفع بالفتح وينحدر بالإمالة، والانحدار أخف على اللسان من الارتفاع، فلهذا أمال من أمال، وأما من فتح فإنه راعى كون الفتح أمتن أو الأصل» (¬2). مخارج الحروف: ¬

_ (¬1) انظر النشر في القراءات العشر، ج 2، ص 32، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت. (¬2) انظر نفس المصدر، ج 2، ص 35.

اهتم علماء القراءات بمخارج الحروف، وبسطوا ذلك في كتبهم، وأوضحوا أهمية مراعاة ذلك في تجويد القرآن وتحسين قراءته، ولكل حرف مخرج، ولكي تكون القراءة متقنة فيجب معرفة مخارج الحروف، وكانت الكتاتيب القرآنية تعنى بذلك، وتعلم الصبيان منذ الطفولة الأولى كيفية النطق بالحروف العربية، وإتقان القراءة القرآنية هو إتقان للأداء العربي، وتعليم لكيفية النطق به، وتدريب اللسان العربي على النطق بلغة العرب، وهذا المنهج اللغوي السليم أسهم في تقوية اللغة العربية، واستقامة اللسان العربي، وعند ما أغفلت المناهج المدرسية ذلك تداخلت الحروف وتعثرت القراءة. وحدد النحاة والقراء مخارج الحروف بستة عشر مخرجا (¬1) وأبرزها: المخرج الأول: الجوف، والحروف الجوفية هي الألف والواو الساكنة المضموم ما قبلها والياء الساكنة المكسور ما قبلها ... المخرج الثاني: أقصى الحلق، وهو للهمزة والهاء. المخرج الثالث: وسط الحلق وهو للعين والحاء المهملتين. المخرج الرابع: أدنى الحلق أي الفم، وهو للغين والخاء. المخرج الخامس: أقصى اللسان مما يلي الحلق وهو للقاف. المخرج السادس: أقصى اللسان من أسفل وهو للكاف. المخرج السابع: وسط اللسان وهو للجيم والشين والياء. المخرج الثامن: أول حافة اللسان وهو الضاد. المخرج التاسع: في حافة اللسان من أدناها وهو حرف اللام. وهكذا تتعدد المخارج، محددة كيفية نطق كل حرف مبينة وجه الدقة بين حرفين متقاربين يخرجان من مكان واحد، وبينهما فرق يسير، وهذا يؤكد لنا عظمة الجهد الذي بذله علماء القراءات في خدمة القرآن وتجويد قراءته، وتحسين ¬

_ (¬1) انظر النشر في القراءات العشر، ج 1، ص 199.

تلاوته وإتقان لفظه ونطقه .. وهناك مخارج أخرى لم نذكرها، اخترنا بعضها للتقريب والتمثيل، كما أن العلماء قسموا الحروف من حيث أوصافها، فهناك حروف مجهورة وحروف مهموسة وحروف رخوة وحروف شديدة وحروف مستفلة وحروف مستعلية، وحروف صفير وحروف القلقلة. وعلم التجويد هو العلم الذي يمكّن القارئ من إعطاء الحروف حقها وإنزالها منزلتها من النطق، وإخراجها من مخرجها الصحيح، وتلطيف النطق بالحرف، لكي يأتي النطق مريحا صحيحا من غير تكلف ولا مشقة .. قال ابن الجزري في ذلك: أول ما يجب على مريد إتقان القرآن تصحيح إخراج كل حرف من مخرجه المختص به تصحيحا يمتاز به عن مقاربه، وتوفية كل حرف صفته المعروفة به توفية تخرجه عن مجانسه، يعمل لسانه وفمه بالرياضة في ذلك أعمالا يصير له ذلك طبعا وسليقة، فكل حرف شارك عنه في صفاته فإنه لا يمتاز عنه إلا بالمخرج .. وإذا أحكم القارئ النطق بكل حرف على حدته موفّ حقه فليعمل نفسه بإحكامه حالة التركيب لأنه ينشأ عن التركيب ما لم يكن حالة الإفراد، وذلك ظاهر، فكم ممن يحسن الحروف مفردة ولا يحسنها مركبة بحسب ما يجاورها من مجانس ومقارب وقوي وضعيف ومفخم ومرقق فيجذب القوي الضعيف ويغلب المفخم المرقق فيصعب على اللسان النطق بذلك على حقه إلا بالرياضة الشديدة حالة التركيب، فمن أحكم صحة اللفظ حالة التركيب حصل حقيقة التجويد بالإتقان والتركيب» (¬1). ¬

_ (¬1) انظر النشر في القراءات العشر، ج 1، ص 214 - 215.

الفصل الرابع عشر: الوقف والابتداء

الفصل الرابع عشر: الوقف والابتداء الوقف علم ضروري لمعرفة معاني القرآن، وهو معيار دقيق لحسن الفهم ودقة الملاحظة وتكامل المعاني، ولا يحسن هذا العلم إلا من حسن علمه، واتسعت دائرة ثقافته القرآنية، وملك ناصية الفهم الموفق، فمن أساء الوقف اضطربت المعاني لديه، وتعارضت الأحكام في نظره، وربما وقع في أخطاء جسيمة، وأهم ما يجب أن يتعلمه قارئ القرآن مواطن الوقف الصحيح، لكي يستقيم المعنى وتتضح الدلالة ويصح الحكم ... ونظرا لأهمية الوقف في الدراسات القرآنية فقد انصرف بعض العلماء للتأليف في علمه وبيان مواطنه، واعتبر الوقف من علم التجويد، وهو من أهم ما اهتم به قراء القراءات، نظرا لأن التنفس أمر ضروري خلال القراءة، ولا يمكن الاستغناء عنه، ولذلك حدد علماء القراءات المواطن التي يحسن الوقف عليها، والمواطن التي لا يجوز الوقف عليها، لما يؤدي إليه ذلك من خلل في المعنى. وممن ألّف في الوقف: الزجاج وأبو جعفر النحاس وابن الأنباري وابن عباد والداني والعماني وغيرهم، وكتب «ابن الجزري» في كتابه «النشر في القراءات العشر» عن الوقف والابتداء في الجزء الأول وعن الوقف على مرسوم الخط في الجزء الثاني، وقال في موطن تعليل أسباب الوقف: «لما لم يمكن القارئ أن يقرأ السورة أو القصة في نفس واحد ولم يجر التنفس بين كلمتين حالة الوصل بل ذلك كالتنفس في أثناء الكلمة وجب حينئذ اختيار وقف للتنفس والاستراحة وتعين ارتضاء ابتداء التنفس والاستراحة، وتحتم ألا يكون ذلك مما يخل بالمعنى ولا يخل بالفهم، إذ بذلك يظهر الإعجاز ويحصل القصد، ولذلك حضّ الأئمة على تعلمه ومعرفته (¬1). ونقل ابن الجزري عن علي بن أبي طالب قوله: الترتيل معرفة الوقوف ¬

_ (¬1) انظر النشر في القراءات العشر، ج 1، ص 224.

اقسام الوقف عند ابن الانبارى

وتجويد الحروف، وروي عن ابن عمر قوله: لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على النبي صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها، وقال: فعن كلام علي رضي الله عنه دليل على وجوب تعلمه ومعرفته، وفي كلام ابن عمر برهان على أن تعلمه إجماع من الصحابة .. وصح بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء به من السلف الصالح (¬1). واشترط كثير من أئمة الخلف على المجيز ألا يجيز أحدا إلا بعد معرفته الوقف والابتداء، وكان الأئمة يوقفون القراء المتعلمين عند كل حرف ويشيرون إليهم بالأصابع ... [اقسام الوقف عند ابن الانبارى] وقسم ابن الأنباري الوقف إلى ثلاثة أقسام (¬2): الوقف التام: وهو الذي يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده ولا يكون بعده ما يتعلق به، كقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. الوقف الحسن: وهو الذي يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده كقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ولا يحسن الابتداء ب رَبِّ الْعالَمِينَ لأنه صفة لما قبله .. الوقف القبيح: وهو الذي ليس بتمام ولا حسن، كالوقف على قوله: «بسم» من قوله: «بسم الله» ولا يتم الوقف على المضاف دون المضاف إليه، ولا المنعوت دون نعته ولا الرافع دون مرفوعه، ولا الناصب دون منصوبه، ولا المؤكد دون توكيده ولا المعطوف دون المعطوف عليه ولا البدل دون مبدله وهكذا، بالنسبة للاسم والخبر والاستثناء والموصول ... [اقسام الوقف عند معظم القراء] ومعظم القراء يقسمون الوقف إلى أربعة أقسام (¬3): الأول: تام مختار: وهو الذي لا يتعلق بشيء مما بعده، وأكثر ما يكون عند ¬

_ (¬1) انظر النشر في القراءات العشر، ج 1، ص 225. (¬2) انظر الإتقان للسيوطي، ج 1، ص 232. (¬3) انظر البرهان، ج 1، ص 352 - 353.

رءوس الآيات، وأحيانا يوجد قبل انقضاء الفاصلة عند ما ينتهي الكلام كقوله تعالى: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً، وهنا انتهى كلام بلقيس، وكقوله تعالى: مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ، لأنه معطوف على المعنى، أي الصبح وبالليل. الثاني: الكافي: منقطع في اللفظ متعلق في المعنى فيحسن الوقف عليه، والابتداء بما بعده، كقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ هنا الوقف، ثم يبتدئ بما بعد ذلك. الثالث: الحسن: وهو الذي يحسن الوقوف عنده، ولا يحسن الابتداء بما بعده، لتعلقه به في اللفظ والمعنى، كقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وقوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرابع: القبيح: وهو الذي لا يفهم منه المراد. ومن الوقف القبيح الوقف على قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا والابتداء بقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، ومن تعمد الوقف وقصد معناه فقد كفر .. ومن الوقف القبيح الوقف على قوله: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ، والوقف على النفي دون الإيجاب في قوله: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ. وقال ابن الجزري في النشر: «وأقرب ما قلته في ضبطه أن الوقف ينقسم إلى اختياري واضطراري، لأن الكلام إما أن يتم أولا، فإن تم كان اختياريا، وكونه تاما لا يخلو إما أن لا يكون له تعلق بما بعده وإن كان له تعلق فلا يخلو هذا التعلق إما أن يكون من جهة المعنى فقط وهو الوقف المصطلح عليه بالكافي للاكتفاء به عما بعده» (¬1). وأكثر ما يكون الوقف التام في رءوس الآي وانقضاء القصص، ويكثر الوقف الكافي في الفواصل، ويختلف حكم الوقف القبيح بحسب درجة القبح في المعنى من حيث فساد ذلك المعنى ... ¬

_ (¬1) انظر القراءات العشر ج 1، ص 225 - 226.

وفرق العلماء بين الوقف والقطع والسكت، فالوقف: عبارة عن قطع الصوت على الكلمة زمنا بتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة إما بما يلي الحرف الموقوف عليه أو بما قبله، والقطع: عبارة عن قطع القراءة رأسا للانتهاء من القراءة، ولا يكون إلا على رءوس الآيات، والسكت: عبارة عن قطع الصوت زمنا هو دون زمن الوقف عادة من غير تنفس، واختلفت ألفاظ الأئمة في التأدية عنه مما يدل على طوله وقصره، وهي وقفة قصيرة، وقال الداني: وقفة لطيفة من غير قطع، كالسكت عند قوله: ص. ق. ن، واتفقت أقوال العلماء على أن السكت زمنه دون زمن الوقف العادي، وقال الجعبري: السكت قطع الصوت زمانا قليلا أقصر من زمن إخراج النفس، لأنه إن طال صار وقفا يوجب البسملة (¬1). ووضع علماء القراءات معايير دقيقة للوقف والابتداء، وقاموا بدراسات مفصلة لكل حالة من الحالات ولكل لفظة من الألفاظ، مثل كلا وبلى، ونعم، والذين، وأوضحوا حالات الوقف عليها وحالات الابتداء بها، متى يجب ومتى يجوز ومتى يمتنع، ويختلف الأمر بحسب موضع الكلمة من الآية وبحسب ما تدل عليه ... وهذا كله يدلنا على مدى العناية التي بذلها علماء القرآن بكل ما يتعلق بقراءة القرآن وكيفية أدائه، وسلامة تلاوته، لكي تكون القراءة صحيحة مؤدية المعنى المراد بها ... ¬

_ (¬1) انظر نفس المصدر، ص 240 - 241.

الفصل الخامس عشر: إعجاز القرآن

الفصل الخامس عشر: إعجاز القرآن الإعجاز مأخوذ من «عجز» يقال: عجز عن الأمر، وأعجزت فلانا ألقيته عاجزا، وأعجزه الشيء فاته، والإعجاز الفوت والسبق وجاء في القرآن قوله تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أي: ظانين أنهم يعجزوننا، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي: بقادرين على معاندة أمر الله، وقال الزمخشري: أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه، والمعجزة أمر خارق للعادة مقترن بالتحدي، وقال القاضي عبد الجبار بأنه يتعذر على المتقدمين في الفصاحة فعل مثله في القدر الذي اختص به .. وإعجاز القرآن يعني قدرة القرآن على أن يكون في أعلى درجات التميز والتفوق في الفصاحة والبيان والأحكام بحيث يعجز البشر عن الإتيان بمثله، وقد تحدى العرب به، لأنهم كانوا يعتزون بفصاحتهم وبيانهم، فتحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، فإن عجزوا عن ذلك فلا مناص من تسليمهم بأنه كتاب الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88] وهذه الآية جاءت بعد آيات سابقة تحدى الله بها أفصح الفصحاء في العربية بأن يأتوا بحديث مثله، ثم تحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله، ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله (¬1). ولو كان بإمكان العرب أن يأتوا بمثله لما قبلوا هذا التحدي ولما استسلموا له، ولما رضخوا لحكم الله، فلما عجزوا عن كل ذلك أدركوا أن القرآن كلام الله. أخرج الحاكم عن ابن عباس قال: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 23.

جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك كاره له، قال: وماذا أقول، فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: دعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره (¬1). قال الزركشي في البرهان: ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله معجز، واختلفوا في إعجازه فقيل: إن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، وأن العرب كلفت في ذلك ما لا تطيق، وفيه وقع عجزها، والجمهور على أنه إنما وقع بالدال على القديم وهو الألفاظ، فإذا ثبت ذلك فاعلم أنه لا يصح التحدي بشيء مع جهل المخاطب بالجهة التي وقع بها التحدي (¬2). ثم قال بعد ذلك الإعجاز في القرآن العظيم إما أن يعني بالنسبة إلى ذاته أو إلى عوارضه من الحركات والتأليف أو إلى مدلوله أو إلى المجموع أو إلى أمر خارج عن ذلك، لا جائز أن يكون الإعجاز حصل من جهة ذوات الكلم المفردة فقط لأن العرب قاطبة كانوا يأتون بها، ولا جائز أن يكون الإعجاز وقع بالنسبة إلى العوارض من الحركات والتأليف فقط ... ولو كان الإعجاز في الإعراب والتأليف المجرد لم يعجز صغيرهم عن تأليف ألفاظ معربة فضلا عن كبيرهم، ولا جائز أن يكون بالنسبة إلى المعاني فقط، لأنها ليست من صنيع البشر، وليس لهم قدرة على إظهارها، من غير ما يدل عليها، ولا جائز أن تكون إلى المجموع ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 4، ص 5. (¬2) انظر البرهان، ج 2، ص 92.

أقوال العلماء في وجوه الإعجاز:

لأنا قد بينا بطلانه، بالنسبة إلى كل واحد، فيتعين أن يكون الإعجاز لأمر خارج عن ذلك (¬1). أقوال العلماء في وجوه الإعجاز: اختلف العلماء في وجوه الإعجاز، ومنطلق الاختلاف أن كل فريق ذهب إلى تلمس الإعجاز في جانب من جوانب التميز والتفوق في القرآن، فمنهم من وجد الإعجاز في البلاغة والفصاحة، ومنهم من وجد الإعجاز في الإخبار عن أمور الغيب، مما لم يكن معروفا عند العرب، ومنهم من وجد الإعجاز في قصص الأولين، ومنهم من رأى في النظم والتأليف والتركيب والإحكام البياني مظهرا من مظاهر الإعجاز. وهذا التعدد في الرأي دليل على الإعجاز، فالقرآن الذي وجد فيه اللغوي قمة في الإبداع، ووجد فيه البلاغي قمة في الفصاحة، ووجد فيه الفقيه تشريعا رائع الأحكام، ووجد فيه الفيلسوف رؤية شمولية للكون والحياة والإنسان، لا بد إلا أن يكون معجزا في كل شيء، فالإعجاز إعجاز تحد، وهو مطلق ولا يتوقف عند حدود اللغة والبيان والفصاحة والبلاغة .. وإعجاز القرآن إعجاز مطلق، فهو معجز بكل ما فيه، ومن الخطأ أن نتصور الإعجاز في جانب محدود، فالإعجاز الإلهي إعجاز متعدد الجوانب، لا يتوقف عند حدود الزمان أو المكان، وهو مستمر إلى يوم الدين، ويمتد الإعجاز لكي يشمل حفظ الله للقرآن، ولعل الحفظ هو الإعجاز الأكبر والأوضح والأكمل، ولولا حفظ الله للقرآن لما استطاع أن يظل على امتداد السنين وتكاثر الفتن فيها، واختلاف الرأي والاجتهاد وتعدد الطوائف موحد النص، واضح العبارة، متميزا في رسمه، يحتكم إليه في كل موقف، ويحتج فيه في كل حكم، ويجد الجميع فيه ما يبتغون من هداية وإرشاد، وما وقع من خلاف فيه من حيث الجمع والرسم والقراءة، لم يتجاوز حدود الخلاف اليسير الذي لم يثر أية ريبة في سلامة النص القرآني وقطعية آياته وسوره .. ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 2، ص 93.

أولا: الإعجاز بالصرفة:

ومع هذا فإننا نورد أقوال العلماء في وجوه الإعجاز، كما أوردها الزركشي في البرهان وهي (¬1): أولا: الإعجاز بالصرفة: ومعنى الإعجاز بالصرفة أن الله تعالى صرف العرب عن معارضته فلم يقدروا على ذلك، ولولا الصرفة لما أعجزهم القرآن، ولما أعجزهم أن يأتوا بمثله، وهذا القول منسوب إلى ابن إسحاق إبراهيم بن سيار النظام، وهو زعيم الفرقة النظامية، وأحد أبرز رجال الفكر الاعتزالي، وكان شيخا للجاحظ، وتوفي في خلافة المعتصم. وهذا الرأي واضح البطلان، فاسد المعنى، لأنه يجعل الإعجاز خارجا عن نطاق القرآن ذاته، متعلقا بأمر خارجي يتمثل في حفظ القرآن عن طريق صرف العرب عن الإتيان بمثله، لا لأنهم لا يقدرون على ذلك، ولكن لأن الله أراد ذلك، وبمقتضى هذا الرأي فإن القدرة على الإتيان بمثل القرآن أمر ممكن من الناحية الواقعية ولكن الله صرف العرب عن ذلك، وهذا الرأي مخالف لظاهر الآية القرآنية في قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. والواضح من الآية أن الإعجاز ثابت ولو اجتمع الإنس والجن وتعاونوا على ذلك، لأن الإعجاز كامن في القرآن نفسه، ولا يتوقف الإعجاز في أي عصر، ومبدأ الإعجاز بالصرفة هو إلغاء للإعجاز، وإلغاء للخصوصية القرآنية، واعتبار الإعجاز أمرا خارجيا .. ونقل السيوطي عن أبي بكر الباقلاني في كتابه الإعجاز: «وما يبطل القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزا، وإنما يكون المنع معجزا فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه، وقال أيضا: وليس هذا بأعجب من قول فريق منهم ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 2، ص 93.

ثانيا: الإعجاز بالتأليف الخاص به:

أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به ولا بأعجب من قول آخرين، أن العجز وقع منهم، وأما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله، وكل هذا لا يعتد به» (¬1). ثانيا: الإعجاز بالتأليف الخاص به: والمراد بالتأليف الخاص بالقرآن اعتدال المفردات من حيث التركيب والوزن وسمو معانيه، بحيث يكون القرآن في أعلى درجات العلو والتفوق والتميز، ونسب هذا القول الزركشي لكمال الدين الزملكاني صاحب البرهان في إعجاز القرآن .. وذهب ابن عطية وجمهور العلماء إلى أن التحدي إنما وقع بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه، ووجه الإعجاز في هذا أن الله أحاط بكل شيء علما ولا يمكن الإتيان بمثل القرآن، وهو أمر خارج عن قدرة البشر، ولو كان بإمكان العرب أن يأتوا بمثله وهم في موطن التحدي لفعلوا ذلك، ولكنهم كانوا عاجزين وهم أعرف الناس بعجزهم ... وذهب أبو بكر الباقلاني إلى أن وجه الإعجاز هو ما فيه من النظم والتأليف والترصيف، وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ومباين لأساليب خطاباتهم، ولهذا لم يتمكنوا من معارضته، وليس الإعجاز القرآني متمثلا في أصناف البديع الموجود في الشعر، فذلك ليس مما يخرق العادة، وإنما يتمثل الإعجاز في النظم المتميز للقرآن الذي ليس له مثال يحتذى، ولا إمام يقتدى به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا، ثم تساءل الباقلاني عما وقع التحدي به، أهو الحروف المنظومة أو الكلام القائم بالذات أو غيره؟ وأجاب بأن التحدي تمثل في إتيانهم بمثل حروف القرآن من حيث النظم والأحكام (¬2) .. وقال بعض الأئمة: ليس الإعجاز المتحدى به إلا في النظم لا في المفهوم، لأن المفهوم لا يمكن الإحاطة به ولا الوقوف على حقيقة المراد به .. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 4، ص 7، نقلا عن إعجاز القرآن للباقلاني ص 43 - 44 بتصرف. (¬2) انظر البرهان، ج 2، ص 99، نقلا عن إعجاز القرآن.

ثالثا: الإعجاز بالأسلوب:

ثالثا: الإعجاز بالأسلوب: وهذا النوع من الإعجاز يتمثل بالفصاحة وغرابة الأسلوب، والسلامة، من جميع العيوب، ونقل كل من الزركشي والسيوطي هذا الرأي عن الإمام فخر الدين الرازي صاحب مفاتيح الغيب، وهذا الرأي قريب من رأي الباقلاني وابن عطية، ونقل الزركشي عن ابن الحسن حازم القرطاجني صاحب منهاج البلغاء أن الإعجاز فيه من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا توجد له فترة، ولا يقدر عليه أحد من البشر، وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المحدود، ثم تعرض الفترات الإنسانية فتقطع طيب الكلام ورونقه، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه .. وقال «الخطابي» في كتابه بيان إعجاز القرآن: أن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة، «لكن لما صعب عليهم تفصيلها صغوا فيه إلى حكم الذوق والقبول عند النفس .. وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور، منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني والحوامل، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ .. وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة، لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا منه الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه، وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقديم في أبوابه والرقي في أعلى درجاته .. فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أصح المعاني، من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان لطريق عبادته في تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه» (¬1). ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 2، ص 103.

رابعا: الإعجاز بما يتركه في النفس من مشاعر:

رابعا: الإعجاز بما يتركه في النفس من مشاعر: ذهب بعض العلماء إلى أن الإعجاز شيء لا يمكن التعبير عنه فهو يدرك ولا يمكن وصفه، كالملاحة واستقامة الوزن، تدرك ولا يمكن وصفها، وتدرك بالفطرة السليمة وبإتقان علوم المعاني والبيان وهذا الاتجاه يعتبر الإعجاز أمرا يدرك بالذوق السليم والعلم الصحيح، وتدركه الفطرة، ويشعر فيه الإنسان بالفرحة والسرور. قال أبو حيان التوحيدي في البصائر: لم أسمع كلاما ألصق بالقلب وأعلق بالنفس من فصل تكلم به بندار بن الحسين الفارسي، وكان بحرا في العلم، وقد سئل عن موضع الإعجاز من القرآن فقال: هذه مسألة فيها حيف على المفتي وذلك أنه شبيه بقولك: ما موضع الإنسان من الإنسان، فليس للإنسان موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ومعجزة لمحاوله وهدى لقائله، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده (¬1). خامسا: الإعجاز بالإخبار عن الغيب: ذهب البعض إلى أن الإعجاز يتمثل في إخبار القرآن عن الغيب كقوله تعالى في أهل بدر: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، وردّ العلماء على هذا القول بأن الآيات التي لا خبر فيها لا إعجاز فيها وهذا رأي باطل ... سادسا: الإعجاز بكل ذلك: وهذا القول يعتبر الإعجاز القرآني لا ينحصر في أسلوب أو نظم أو إخبار بغيب أو بما يتركه في النفس من أثر، فالإعجاز شامل وكامل، وهو معجز بكل ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ج 2، ص 100.

خصوصيات القرآن، الأسلوبية والتعبيرية والتصويرية والتشريعية والرؤية الشمولية، واعتبر الزركشي أن هذا القول هو قول أهل التحقيق .. فمن الخصوصيات القرآنية الروعة التي يتركها في قلوب السامعين، والخشية التي يشعر بها قارئ القرآن، ومنها جمعه بين صفة الجزالة والعذوبة، ولا تجتمعان غالبا في كلام البشر، لأن جزالة الألفاظ لا توجد إلا بما يشوبها من القوة، والعذوبة تحتاج إلى السلاسة والسهولة، وقد جمع القرآن بين الصفتين، وذلك من أعظم وجوه البلاغة والإعجاز ... وفي موطن الإعجاز لا نملك إلا أن نعتبر الإعجاز القرآني إعجاز تميز وتفوق وسمو وعلو في كل جانب من الجوانب، ولا نهاية لهذا الإعجاز، ولا يحده زمان ولا مكان، ولا يحيط به عقل بشري ولا يمكن إدراك أبعاده ومعرفة خصوصياته. قال القاضي عياض اليحصبي المتوفى سنة 544 هـ في كتابه «الشفا»: اعلم أن القرآن منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه: أولها: حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام. الثاني: صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته، وانتهت إليه فواصل كلماته. الثالث: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيّبات. الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السابقة. ثم قال: ومن وجوه إعجازه كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه، ومنها أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب» (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 4، ص 17.

عناية العلماء بإعجاز القرآن:

عناية العلماء بإعجاز القرآن: أجمع العلماء على أن القرآن هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في أوجه الإعجاز القرآني، وتعددت الآراء والبحوث وتكاثرت المصنفات التي درست الإعجاز في القرآن، ولكل رأيه واجتهاده ولكل رؤيته وفهمه، ومن حق كل باحث وعالم أن يدلي بدلوه، وأن يحاول إبراز ما يراه من أوجه الإعجاز ... وإعجاز القرآن سر لا تدركه العقول، وتقف أمامه حائرة عاجزة، ترى الإعجاز وتحسه وتدركه، ولا تعرف سره وكنهه، فالقرآن من حيث ألفاظه كلام عربي محكم، يفهمه كل عربي، وليس فيه غموض أو إبهام، فكيف يقع الإعجاز في كلام اعتاد العرب سماعه ولماذا وقفوا أمامه حائرين مندهشين مستسلمين، يتحداهم، ويبالغ في التحدي، فلا يستطيعون مجاراته ولا الإتيان بمثله، ولا بعشر سور مثله، ولا بآية من آياته. ووقف العلماء يبحثون عن سر الإعجاز وحقيقته، فإذا عجزوا عن إدراك ذلك قالوا بأن الله قد صرف العرب عن الإتيان بمثله ومبدأ الصرفة ما هو إلا تسليم العجز، وما هو بالرأي، ولذلك قال جمهور العلماء بفساد هذا الرأي، وأخذوا يبحثون عن أوجه الإعجاز في الألفاظ حينا وفي المعاني حينا آخر، وينظرون في النظم القرآني فيجدون نظما متميزا متفوقا يروقك ويؤنسك، فالألفاظ جميلة معبرة، ملائمة للمعاني، وكأنها أنزلت لكي تصور تلك المعاني أدق تصوير وأجمله. ومن أقدم الذين كتبوا في الإعجاز في القرن الثالث الهجري أبو عثمان الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ، وكان من أبرز كتاب عصره وأكثرهم شهرة، وعرض لمعجزة القرآن في إطار كتبه ومؤلفاته الكثيرة ورسائله العديدة التي تناول فيها معجزة محمد صلى الله عليه وسلم وتتمثل هذه المعجزة بالقرآن، المعجزة الخالدة، التي تحدى بها النبي صلى الله عليه وسلم العرب، وعجز العرب عن مواجهة التحدي، والعاقل يتساءل عن أسباب عجز العرب عن مواجهة التحدي، هل لأنهم أدركوا عجزهم، فاستسلموا له لئلا ينكشف عجزهم وتقوى حجة «محمد» عليهم، وقال الجاحظ

متسائلا: وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز والتوقيف على النقص ثم لا يبذلون مجهودهم ولا يخرجون مكنونهم، وهم أشد خلق الله أنفة، وأفرطهم حمية. ولم يتكلم الجاحظ عن وجوه الإعجاز، ولم يؤلف في أوجه الإعجاز كما فعل غيره كالباقلاني والجرجاني والرازي والخطابي والرماني، واكتفى ببيان المعجزة القرآنية، محللا ظاهرة عجز العرب عن مواجهة التحدي، متسائلا عن أسباب تخوفهم من هذه المواجهة، وهم أصحاب فصاحة وبلاغة، وأهل خطابة وشعر وبيان وكانت لغتهم في أعلى درجات القوة، فكانوا يملكون من أسباب المواجهة ما لا تملكه الأجيال اللاحقة، وهذا التوقف والتخوف دليل على عجز القوم من كثرة كلامهم وسهولة ذلك عليهم. ثم قال بعد ذلك: فمحال أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين، مع التقريع بالنقص، والتوقيف على العجز، وهم أشد الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم، وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر (¬1). وهذا الكلام المنسوب إلى الجاحظ لا يمكن أن يستفاد منه أن الجاحظ قد أخذ بمبدإ الإعجاز بالصرفة الذي نسب إلى «النظام» فما نسب إلى الجاحظ يؤكد عجز العرب عن التحدي، لسمو الأسلوب القرآني وعظمة هذا الأسلوب ورقيه وتميزه عن الأساليب العربية فالعرب ما استسلموا وهم قادرون على التحدي، وإنما استسلموا لأنهم وجدوا القرآن معجزة حقيقية لا سبيل إلى إنكارها، فالقرآن معجز بكل ما فيه من أسلوب ومعاني وأحكام وتشريع، وقدرة على التأثير وجمال في النسق القرآني وحكمة في الخطاب وروعة في البيان .. فمن رأى المعجزة في القرآن نظر إلى القرآن نظرة شمولية متكاملة، فأسلوبه ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 4، ص 6.

لا ينفصل عن معناه، ومعناه لا ينفصل عن الأسلوب وكل لفظة في القرآن معبرة ومحكمة ودالة، ولا يمكن أن تستبدل لفظة بلفظة أو مفردة بأخرى، تلك عظمة القرآن، وهذا هو إعجازه الحقيقي، فمن بحث في الإعجاز فقد بحث في جزئية صغيرة دالة على الإعجاز، فالبلاغة وحدها لا يمكن أن تكون وجه الإعجاز، والفصاحة وحدها لا يمكن أن تكون هي كل الإعجاز، والمعاني مستقلة لا يمكن أن تكون منفصلة عن أسلوب القرآن، فالإعجاز القرآني إعجاز متجدد متنوع واضح، يتمثل في عجز الإنسان عن الإتيان بمثل القرآن أو بمثل آية من آياته، فإذا أتى بآية تحاكي الأسلوب القرآني لفظا وبلاغة فإن من المستحيل أن تحاكيه وتماثله جمالا وتأثيرا ومعاني محكمة ومفردات دالة وألفاظ معبرة .. وبالرغم من كل ما كتب في الإعجاز القرآني من كتب وما ألّف فيه من مصنفات، وما ذكر فيه من وجوه، فإن الكلمات القليلة التي كان الصحابة والتابعون ينطقون بها في مجال القرآن من حيث عظمة هذه المعجزة وسمو هذا الكتاب كانت أكثر تعبيرا وأوضح دلالة وأبرز للإعجاز وأسمى من كل ما كتب وقيل، فالإعجاز القرآني هو إعجاز كتاب أنزله الله على رسوله، ولا يمكن أن يدرس إعجازه في إطار بلاغته ولغته ومفرداته، فذلك مما تأباه العامة بفطرتهم فكتاب الله معجز وكفى ... ولعل هذا ما دفع الجاحظ ومن عاش في زمانه أو من سبقه إلى ذكر إشارات واضحة إلى الإعجاز من غير خوض في أوجه الإعجاز كما أوردها علماء الإعجاز الذين أفردوا لهذا العلم مصنفات مستقلة. وليس في هذا إدانة لمنهج علماء الإعجاز ولا يعني هذا التقليل من أهمية ما كتبوه وصنفوه، فلقد قاموا بجهد عظيم وخدموا هذا العلم خدمة كبرى، وإنما أود أن أشيد بمنهج الأولين السابقين من العلماء الذين أدركوا من أوجه الإعجاز الشمولي المتكامل ما لم يدركه اللاحقون، وكان فيما كتبوه وسجلوه أبلغ تعبير عن عظمة منهج الأولين في الفهم، وهو منهج يستوعب حقائق الإسلام، ويعطي لكل شيء حقه، ولا يترجم الظواهر العظيمة إلى معايير مادية تتمثل في صور

الإعجاز عند الخطابي:

بلاغية، ومفردات لغوية، ومعاني قاموسية. إن الإنسان يفقه بقلبه وفطرته، وبطريقة تلقائية، ما لا يفقهه أصحاب العقول الكبيرة من فلاسفة وفقهاء ورجال لغة وبيان، وما يفقهه العامة أصحاب الفطرة السليمة أدق وأعمق وأصفى، وهو أقرب للحق وأسمى. ومع هذا .. فإن من واجبنا أن ننصت لصوت هؤلاء العلماء وهم يضعون معاييرهم العقلية، ويصوغون رؤيتهم العلمية في وجوه من الإعجاز متعددة، وأن نعترف لهم بما كتبوه وسجلوه، وأن نثني على عملهم العظيم، وفي نفس الوقت فإن من واجبهم أن يعترفوا بأن الفطرة السليمة تدرك بالبداهة الإعجاز القرآني، وترى فيه الإعجاز العظيم الذي يتحدى كل أعمال البشر .. وسوف أذكر مناهج بعض العلماء الذين كتبوا في الإعجاز وسوف نجد أن ما قاموا به من أعمال علمية جديرة بأن تكون في موطن الإشادة والإعجاب، وهذا يدل على مدى عناية علماء الإسلام بالقرآن الكريم. الإعجاز عند الخطابي: ممن كتب في الإعجاز أبو سليمان محمد بن إبراهيم الخطابي المتوفى سنة 388 هـ، وكان من أوائل الذين كتبوا في الإعجاز ولا شك أنه تأثر بما كتبه الجاحظ من قبله، واطلع على ما كتبه أبو إسحاق النظام أحد أئمة المعتزلة الذي قال بأن الله تعالى قد صرف العرب عن معارضة كلام الله، وهذا أمر مقبول، إذا تضمن الإقرار بعظمة القرآن من حيث أسلوبه ونظمه ومعانيه، فإن الله تعالى قد تحدى العرب بالقرآن، وأعجز العرب عن الإتيان بمثله، والعجز هنا عجز مادي لتميز القرآن وعظمة أسلوبه ودقة معانيه وعجز محاط بهالة من الرهبة والخشية تمثل في حفظ الله لهذا القرآن، وتعهد بحماية الدعوة وانتصار لرسوله، وفكرة الصرفة ليست مرفوضة من الأساس إذا جاءت في إطارها الصحيح المتمثل في رعاية الله لهذه الرسالة وتدعيم موقفها ومناصرة المسلمين، ولقد ثبت أن الله تعالى قد صرف عن المسلمين أخطارا ودفع عنهم أعداءهم، وشتت شملهم كلما

اجتمعوا على الإسلام، وأغشى أبصارهم في مواقف كثيرة، وحمى القرآن من العبث ووحد به كلمة العرب. وكل قول إذا وقع تفسيره في إطاره الضيق أخل بفكرة الإعجاز وأساء لعظمة القرآن، فمن قال بالصرفة لا يختلف عمن قصر الإعجاز على الصور البلاغية والألفاظ اللغوية من حيث تضييق الخناق على مفاهيم واسعة وإطارات للتفكير ذات أبعاد شمولية، فما أضيق ما ذهب إليه اللغويون والبلاغيون من تفسير الإعجاز، وما أوهن هذا الإعجاز الذي لا يعجز عنه البشر، فالإعجاز أعم وأشمل وأسمى وأعلى من كل وجوه الإعجاز المذكورة في كتب الإعجاز. ولقد تصدى جمهور العلماء للرد على «النظّام»، وأبانوا عن فساد رأيه وبطلان مذهبه، وهذا أمر لا خلاف فيه، فلا يمكن القول بانتفاء الخصوصية القرآنية الذاتية في الأسلوب والنظم واللغة والبلاغة، ولا يمكن القول أيضا باقتصار الإعجاز على الجوانب اللغوية، ومن رد على «النظّام» ومدرسته وجب عليه أن يرد على المدارس اللغوية أيضا، لأنها نظرت للإعجاز نظرة ضيقة، وسدت الأبواب أمام الظاهرة القرآنية المعجزة. ولقد أنكر الخطابي فكرة الإعجاز بالصرفة، واعتبر أن الإعجاز لا بد إلا أن يكون في إطار الأمور الخارجة عن مجاري العادات فالتحدي لا يكون إلا فيما هو خارج عن القدرة الإنسانية، ولا بد إلا أن يكون في إطار النظم والأسلوب، بحيث جاء القرآن جامعا بين الفخامة والعذوبة، وهما ضدان، واجتماع الضدين في النظم القرآني فضيلة وبينة ومعجزة، وأشار إلى أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أحسن المعاني، من توحيد لله وتنزيه له وبيان لأحكام شرعه من تحليل وتحريم وحظر وإباحة وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ودعوة إلى مكارم الأخلاق، والإتيان بكل ذلك والجمع بين مختلف الغايات أمر يعجز عنه البشر، ولا تبلغه قدرتهم، ولذلك زاغت أبصارهم واضطربت أفئدتهم فقالوا أنه سحر أو شعر، من حيث عجزهم عن الإتيان بمثله.

الإعجاز عند الرماني:

وأشار الخطابي في كتابه «بيان إعجاز القرآن» إلى تأثير القرآن على النفوس، فإذا سمعه المؤمنون خروا سجدا وبكيا، واستقرت نفوسهم واطمأنت قلوبهم لكلام الله، وأصابهم من مشاعر الروعة والبشرى ما جعلهم في أمن نفسي وروحي. وقال «الخطابي» في ذلك مشيرا إلى عظمة المعجزة القرآنية وشمولها (¬1): «قلت في إعجاز القرآن وجها آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم .. ويتمثل هذا الجانب في صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما أو منشورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، وفي الروعة والمهابة في أخرى، ما يخلص من القرآن إليه» وأورد أمثلة من تاريخ الدعوة تؤكد عظمة هذا الدور المؤثر، فكم من أعداء للإسلام لما سمعوا القرآن اهتزت قلوبهم وتحولوا من عداء إلى إيمان ودخلوا في الإسلام وحسن إسلامهم. الإعجاز عند الرمّاني: ركز «الرماني» المتوفى سنة 382 هـ وكان معاصرا للخطابي على الجانب البلاغي في القرآن، واعتبر البلاغة من أهم مظاهر الإعجاز، وهناك علاقة بين البلاغة والتأثير النفسي، فالبلاغة ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي أداة لإيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، وأورد «الرماني» الخصوصيات البلاغية في القرآن، كالإيجاز والتشبيه والاستعارة والتجانس والمبالغة والتعريف، وأورد شواهد من القرآن تؤكد عظمة الأسلوب البلاغي في القرآن، مبرزا جانب الإعجاز البلاغي ... وقال في ذلك: «وجوه إعجاز القرآن تظهر من جهات ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة، والتحدي للكافة، والصرفة والبلاغة والإخبار عن الأمور المستقبلة ¬

_ (¬1) ثلاث رسائل في الإعجاز، ص 64.

الإعجاز عند الباقلاني:

ونقض العادة، وقياسه بكل معجزة»، ثم قال: «ونقض العادة هو أن العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة، منها الشعر ومنها السجع ومنها الخطب ومنها الرسائل ومنها المنثور الذي يدور بين الناس في الحديث فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة، وتفوق الموزون الذي هو أحسن الكلام» (¬1). الإعجاز عند الباقلاني: يعتبر القاضي أبو بكر الباقلاني- المتوفى سنة 403 هـ أول- من كتب كتابا في الإعجاز بطريقة مستقلة، وما كتب قبله كان في إطار بيان معاني الإعجاز في رسائل عامة أو مقدمات مؤلفات أو بيان. وكتب كتابه «إعجاز القرآن» وهو من دعائم هذا العلم وأركانه، تحدث في بدايته عن المعجزة، وقرر أن القرآن هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الكبرى، وهناك معجزات أخرى، ومعجزة القرآن هي معجزة تحدي، وليس الأمر كذلك بالنسبة للمعجزات الأخرى. وكان القاضي «الباقلاني» إمام عصره، وحجة زمانه، له مؤلفات كثيرة، ويدور معظمها حول العقيدة والدفاع عن مذهب الأشاعرة، وله أسلوب متميز يقوم على أساس الحوار والنقاش وكان قوي الحجة واسع الثقافة، وعاش في فترة زمنية كانت المذاهب الفكرية متعددة ومتنافسة، وألف كتابه «إعجاز القرآن» في إطار دفاعه عن قوام الدين وعماد التوحيد وبرهان صدق النبوة. واعتبر أن القرآن فارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء بأنه يدل على نفسه بذاته، بخلاف الكتب الأخرى فلا تدل على نفسها إلا بأمر زائد عليها، لأن نظمها ليس معجزا. ويرجع الإعجاز في نظر القاضي الباقلاني إلى أمور ثلاثة: ¬

_ (¬1) انظر الإتقان، ج 4، ص 15.

1 - إنباؤه عن الغيب. 2 - أمية الرسول صلى الله عليه وسلم. 3 - بداعة النظم. وترجع بداعة النظم إلى أمور: أولا: مخالفته لما عهد العرب من أساليب السجع والشعر، وهذا ينفي عن القرآن هذه الأوصاف. ثانيا: اشتماله على الفصاحة والبلاغة وعدم التفاوت في مستوى هذه الفصاحة في الآيات والسور، مما يؤكد سمو النظم القرآني وعظمة أسلوبه وتتضح هذه الظاهرة في مقارنة النص القرآني بالنصوص العربية التي كان العرب يفخرون بها في مجال الشعر والنثر، وبعد المقارنة يبرز القرآن في أسلوبه واضح الإعجاز متميز الخصائص رائع النظم مشرق العبارة بليغا في اختيار مفرداته. ثالثا: بناء القرآن من الأحرف التي بني عليها كلام العرب وهذا من الإعجاز، فهذه الأحرف في فواتح السور دالة على معاني في الإعجاز، ولها آثار واضحة في الخطاب القرآني، وذات دلالات متعددة. رابعا: ابتعاد القرآن عن الألفاظ الوحشية المستكرهة والغريبة المستنكرة، واستخدام الكلمات السهلة والعبارات الواضحة، وهذا من الإعجاز. وأكد الباقلاني أن القرآن منزل بلسان العرب ولكنه نزل على وزن يفارق سائر أوزان كلامهم ولو كان من بعض ما ألفوه من نظم وشعر لعرفوا أن صاحبه قد برع فيه وتقدم، ولكنه جاء من غير جنس كلامهم، وليس يخرج الحذق في الصنعة إلا أن يؤتى بغير جنسها وما ليس منها وما لا يعرفه أهلها، وهذا الكلام يؤكده كلام الوليد بن المغيرة الذي قال لقومه: والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني والله ما يشبه الذي يقوله محمد شيئا من هذا». وقال في ذلك: «نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من

جميع كلامهم ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد». وذكر الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم والكلام الموزون غير المقفى والكلام المسجع وغير المسجع، وأكد أن القرآن خارج عن هذه الوجوه ومباين لهذه الطرق، وأن المتأمل إذا تأمله تبين له خروجه عن أصناف كلام العرب وأساليب خطابهم وأنه خارج عن العادة وأنه معجز، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن وتميز حاصل في جميعه. ولا يتصور أن يكون لحكيم هذه الفصاحة والغرابة والتصريف البديع والنظم المحكم في كتاب طويل كالقرآن، وتنسب لبعض الحكماء كلمات وأمثال رائعة، ولبعض الشعراء قصائد متينة رفيعة من حيث النظم من وضوح التكلف في معظم ذلك، وجاء القرآن فصيحا في كل آياته عظيما في نظمه بديعا في تآليفه، وليس فيه تفاوت ولا تباين في مختلف الموضوعات في القصص والمواعظ والتشريع والوعيد والأخلاق. قال الباقلاني: ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها .. فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه، ووقف دونه، وبان الاختلاف على شعره .. وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميعا ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم وبديع التأليف والوصف .. لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا ولا إسفاف فيه إلى الدرجة الدنيا. وقال أيضا: ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشعر لأنه ليس مما يخرق العادة، بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب والتصنع به، كقول الشعر ورصف الخطب وصناعة الرسالة والحذق في البلاغة، وله طريق

تسلك، فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى ولا إمام يقتدى به ولا يصح وقوع مثله اتفاقا» (¬1). ورد الباقلاني على من قال بوجود السجع في القرآن بما يلي (¬2): 1 - لو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلام العرب ولو كان داخلا فيها أو واحدا منها لم يقع بذلك إعجاز. 2 - لو كان في القرآن سجع لجاز أن يقولوا هو سجع معجز ويتبع ذلك أن يقولوا شعر معجز. 3 - إن السجع مما يألفه الكهان من العرب، والكهانة تنافي النبوات، وإذا كان القرآن قد نفى عن نفسه صفة الشعر فلا بد أن تنتفى صفة السجع أيضا. 4 - قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن كلموه في شأن آية الجنين كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح فاستهل، فمثل ذلك يطل، قال لهم: «أسجاعة كسجاعة الجاهلية؟». 5 - أكد الوهم فيمن قال بسجع القرآن، وقد يكون الوهم على مثال السجع وإن لم يكن سجعا، وفي اللفظ يتبع المعنى اللفظ، بخلاف القرآن فاللفظ تابع للمعنى. 6 - جاءت بعض الآيات على سبيل السجع ولم تأت مقصودة ومتكلفة. 7 - لو كان الذي في القرآن سجعا لكان مذموما مرذولا لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه واختلفت طرقه كان قبيحا من الكلام. 8 - لو كان ما في القرآن سجعا لما تحير العرب فيه، ولكانت الطباع تدعو إلى معارضته لأن السجع غير ممتنع عليه. 9 - من قال بالسجع لا بد من القول بفكرة الصرفة التي قال بها «النظّام» وأمثاله الذين قالوا بأنه ليس في نظم القرآن وتأليفه إعجاز وإنما صرفوا عنه ضربا من الصرف. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان للسيوطي، ج 4، ص 8. (¬2) انظر الباقلاني وكتابه إعجاز القرآن للدكتور عبد الرءوف مخلوف، ص 210، طبعة مكتبة الحياة، بيروت.

10 - من جوز السجع في القرآن فقد سلم بوقوع الخبط في طريقة النظم، ويكون قد استهان ببديع نظمه وعجيب تأليفه الذي وقع به التحدي. وردّ بعض العلماء على ما ذهب إليه الباقلاني من مبالغة في نفي صفة السجع في القرآن، ولم يوافقوه فيما ذكره من حجج ليست مسلمة، وهي قابلة للنقاش، فالسجع ليس كله رذيلة وهو أمر تحكمه قواعد معروفة، ولو كان مذموما كله ما جاء في القرآن في بعض الآيات، وليس هناك ما يمنع القرآن من أن يستخدم السجع في بعض الأحيان من غير تكلف فيه لزيادة التأثير على السامع، وقال أبو الحسن القرطاجني: كيف يعاب السجع على الإطلاق وإنما أنزل القرآن على أساليب الفصيح من كلام العرب فوردت الفواصل بإزاء ورود الأسجاع. والسجع المكروه والمذموم هو سجع الكهان، وهو سجع الجاهلية، والإسلام حارب الجاهلية وهدم قيمها الفاسدة، وقضى على ما ألفته من عادات ضارة، وسجع الكهان مما حاربه الإسلام ولكن السجع كأسلوب تعبيري ليس رذيلة، فإذا جاء من غير تكلف فهو من فصيح الكلام، وليس للسجع قاعدة ثابتة لا تتغير فإذا جاء السجع في بعض آيات القرآن فهو سجع محمود، ومن أساليب اللغة الفصيحة، ومن خصائص السجع القرآني أنه غير متكلف، وجميل التأليف وموسيقاه اللفظية مؤثرة ورائعة وليس له وزن واحد، وفاصلة ثابتة، فقد ينتقل من وزن إلى وزن مغاير، ومن فاصلة إلى أخرى، لتوضيح المعنى، ولإعطاء الإعجاز. والسجع ليس هو أسلوب القرآن، فالقرآن لا يوصف بالسجع ولكن لا يمكن نفي السجع فيه، فالسجع موجود في القرآن، وهو من أساليب العرب، وجاء السجع في القرآن متميز الملامح مؤثرا، واستخدم القرآن أساليب أخرى لا توصف بالسجع، فالأسلوب يتغير بتغير المواقف والمقاصد، وهذا من الإعجاز، فالإعجاز هو اختيار الأسلوب الأفضل والأفصح والأجمل لتحقيق الهدف المنشود، من بيان حكم أو دعوة إلى إقناع أو تخويف أو ترغيب أو إيراد مثل أو إخبار عن أمم سابقة أو استنتاج عبرة.

الإعجاز عند القاضي عبد الجبار:

والخلاف كما يبدو بين من يقول بوجود السجع في القرآن أو نفيه هو خلاف لفظي، وهو خلاف مصطلح، فإن شئت أن تسميه سجعا فهو كذلك، وهو سجع محمود وهو متميز لا تكلف فيه، وإن شئت أن تسميه تسمية جديدة فمن حقك أن تفعل ذلك، ومن حقك أن تطلق عليه كلمة السجع أو تنفيها عنه. الإعجاز عند القاضي عبد الجبار: ويعتبر ما كتبه القاضي عبد الجبار (¬1) امتدادا لما كتبه الباقلاني في الإعجاز، نظرا لأن القاضي عبد الجبار كان معاصرا للإمام الباقلاني، وكان مهتما بعلم الكلام، ويعتبر كتابه «المغني» من أبرز كتب علم الكلام، وجاء كتابه في الإعجاز في إطار دراساته الكلامية، وهو جزء من كتابه «المغني» ولهذا ظهرت آثار آرائه الكلامية في مجال دراسته للإعجاز. ويبدو أنه لا يميل إلى اعتبار الإعجاز في أوجه البلاغة وإنما يتمثل الإعجاز في جزالة اللفظ وحسن المعنى، ولا عبرة بالقوالب والأشكال البلاغية، لأن المعول عليه في مجال الفصاحة هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فالصورة البلاغية إذا جاءت في موطنها مؤكدة جزالة الألفاظ مبينة جمال المعاني فهي من الإعجاز، وإذا لم تعبر عن هذه المعاني ولم تحقق هذه الغايات فقد تكون متكلفة سيئة الأثر، واستبعد القاضي عبد الجبار أن تكون الصرفة التي قال بها بعض علماء الكلام من أوجه الإعجاز، واعتبر العرب من أقدر الناس على معرفة ما يقع به التحدي، وقد تحداهم القرآن، وأدركوا معنى هذا التحدي، ولا يمكن لهذا التحدي أن يكون إلا في مجال الفصاحة والبيان. وقد تعرض القاضي عبد الجبار لموضوع التحدي بالكلام وأكد أن الفصاحة في الكلام لا تظهر في اللفظة الواحدة والكلمة المفردة، وإنما تظهر عند ضم ¬

_ (¬1) هو أبو الحسن بن عبد الجبار الأسد بادي المعتزلي، وكان شيخ القضاة بمصر، وكان من أبرز علماء المعتزلة وأكثرهم حجة، وله كتاب «المغني» أشهر مؤلفاته وهو موسوعة في علم الكلام توفي سنة 415 هـ بمدينة الري.

الكلمات إلى بعضها فيقع التناسب والتجانس، ويتحدد في هذا الإطار موقع اللفظة من حيث دورها في التعبير عن المراد، والكلمة ينظر إليها من زاويتين: الأولى: نظرة في حال إفرادها، ونظرة أخرى في حال نظمها مع غيرها، ولا بد من تحديد مفهوم الكلمة بذاتها من حيث وضعها عند أهل اللغة، ومفهومها في إطار موقعها في الجملة من حيث موقعها الإعرابي، ومفهومها حين تأخذ مكانا خاصا في الكلام، من حيث المعنى المستفاد منها ... والكلمة لا يمكن أن تفهم إلا في إطار موقعها العام في الكلام، والوظيفة التي تؤديها، فقد تفهم المعاني، وتتحد المفردات، ثم يقع التباين في مدى الفصاحة والبيان والإفهام والتأثير، وهنا نكتشف عظمة الدور الذي يؤديه اختيار الكلمة وموقعها، وهنا تبرز الفصاحة .. وهذا يؤكد اهتمام القاضي عبد الجبار بالنظم، والنظم كما أورده كالثياب المنسوجة تتفاضل بمواقع الغزل وكيفية تأليفه وتنسيقه، مع أن الغزل في حقيقته لا يتغير، والكلام يتفاضل أثره ويتباين معناه بحسب قوة المتكلم، وقدرته على اختيار مواقع الكلام من حيث التقديم والتأخير، وهذا يحتاج إلى قدرة ذاتية تعطي صاحبها فصاحة وقوة بيان، ولا يتم ذلك إلا بتأييد من الله وإلطاف ورعاية وتوفيق. وهذا المنهج يقودنا إلى إقرار فكرة الإعجاز القرآني، من خلال توافق اللفظ والمعنى، وتكاملهما في أداء الدور المطلوب فيهما، فالتأليف هو الدور الأهم في فن الفصاحة، بحيث تكون اللفظة دالة على المعنى المراد، وتقع في الموقع المناسب لها، ولهذا عند ما يقع التحدي بالكلام فلا بد من أن يكون تأليف هذا الكلام في أعلى درجات الترتيب والتنسيق وحسن التركيب بحيث يكون الكل في موقعه المناسب، من حيث اختيار الكلمة، واختيار موقعها في الجملة، لكي يؤدي هذا التركيب المحكم الغاية المطلوبة. ولهذا يتفاضل الفصيح من الكلام بتفاضل الكتّاب، مع أن الألفاظ واحدة، فالأقدر على التأليف هو الأفصح، ولا نهاية للفصاحة، ويقع الإعجاز فيما وقع التحدي به والعجز عن الإتيان بمثله.

والقاضي عبد الجبار يركز على أهمية الفصاحة في الإعجاز ولا يتصور الإعجاز إلا بالفصاحة، والفصاحة عنده لا تتوقف عند حدود النظم ولا علاقة لها بالشكل والقالب، من حيث كون الكلام شعرا أو نثرا مسجوعا، فالنظم عامل في الفصاحة له أثره الواضح ولكنه ليس العامل الوحيد، ولا بد في الفصاحة من تكامل حسن المعنى وجزالة اللفظ، ومتى تحقق هذا الشرط في الكلام كان فصيحا، سواء كان شعرا أو نثرا، وكلما زادت معالم هذا التوافق في اللفظ والمعنى اتضحت الفصاحة وبرزت في الكلام. ولعل القاضي عبد الجبار في تركيزه على معنى الفصاحة واعتبارها نتاج عاملين أساسيين، جزالة في اللفظ وحسن في المعنى، إنما يرد فيه على أبي بكر الباقلاني، الذي اعتبر الإعجاز متمثلا في مغايرة جنس الكلام لأساليب العرب وأجناس كلامهم، ولهذا اتجه اهتمام الباقلاني إلى نفي التجانس بين القرآن وكلام العرب، وشدد النكير على من قال بوجود السجع في القرآن، لأن السجع من جنس كلام العرب، والقرآن جاء مغايرا لأساليب العرب، فلا يستقيم أن يوصف أسلوب القرآن بالسجع ولو جاءت أوزانه مماثلة لأوزان السجع في الأسلوب العربي. ويؤكد هذا الاختلاف بين كل من القاضي عبد الجبار وأبي بكر الباقلاني أن كلّا منهما ينظر للإعجاز من زاوية مغايرة لما ينظر منها الآخر، فالقاضي عبد الجبار لا ينظر للإعجاز من زاوية الخروج عن مألوف كلام العرب، ولهذا لم يحرص على نفي السجع في القرآن، فالأمر لا يعنيه سواء سمي سجعا أو غير سجع، وإنما يعنيه أولا إثبات الإعجاز عن طريق الفصاحة، وطريقها واضح وهو جزالة اللفظ وحسن المعنى، وهذا معيار لا نملك إلا أن نشيد بدقته، لأنه معيار موضوعي، يقيم أمر الإعجاز على معايير موضوعية لا تتصور الفصاحة إلا بها، وليس أدل على الإعجاز من تلاقي «لفظ» بلغ الذروة في الجزالة والقوة و «معنى» بلغ القمة في جودة المعنى ودقته وسلامته، وهنا تبرز تساؤلات حول أهمية المعايير البلاغية ويقف القاضي عبد الجبار أمام هذه المعايير وقفة موضوعية فلا

الإعجاز عند عبد القاهر الجرجاني:

يعتبرها من الإعجاز ما لم تتحقق الشروط الموضوعية المتمثلة في جزالة اللفظ وحسن المعنى، فالصورة البديعية ليست كافية وحدها لإثبات الإعجاز ما لم تكن معبرة عن المعايير الموضوعية للفصاحة. الإعجاز عند عبد القاهر الجرجاني: يتميز الجرجاني (¬1) عن كل من القاضي عبد الجبار وأبي بكر الباقلاني باعتماده على الذوق البياني والفطرة النقية الصافية التي مكنته من استكشاف آفاق جديدة من معاني الإعجاز لم يدركها من كتبوا في الإعجاز في إطار مقاييسهم المنطقية ومعاييرهم الكلامية ونظرتهم الفلسفية، فالإعجاز يدرك بالعقل من خلال مقاييسه الثابتة ويدرك بالفطرة والذوق من خلال اكتشاف آفاق جمالية في النص القرآني. واعتبر «الملاءمة بين الألفاظ»، هي أساس الفضيلة في البيان العربي، فاللفظة لا تستمد مكانتها من ذاتها، ولو كانت كذلك لتساوى الكتاب والأدباء في مكانتهم، ولكن يقع التفاضل بين هؤلاء بحسب قدرتهم على إيجاد التلاؤم بين اللفظة واللفظة التي تليها، فالكلمة الواحدة قد تكون حسنة في موضع ومستقبحة في موضع آخر، مقبولة في عبارة ومرفوضة في عبارة أخرى، وفرق الجرجاني بين حروف منظومة وكلم منظومة، فنظم الحروف تواليها في النطق ونظم الكلم مراعاة المعاني في النظم وترتيبها بطريقة ملائمة ومعبرة، كالنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير، بحيث يكون الوضع والترتيب خاضعا لمعايير وأقيسة ومرجحات بحيث لو تم استبدال هذا الترتيب بغيره لما صح النظم ولما استقام أمره. وقال في شرح ذلك: فقد اتضح إذن اتضاحا لا يدع للشك مجالا أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة ¬

_ (¬1) هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى سنة 471 هـ.

وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ، ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر (¬1). وقال بعد ذلك: والفائدة في معرفة هذا الفرق أنك إذا عرفته عرفت أن ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل وكيف يتصور أن يقصد به إلى توالي الألفاظ في النطق بعد أن ثبت أنه نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وأنه نظير الصياغة والتحبير والتفويف والنقش وكل ما يقصد به التصوير (¬2). وأكد هذا المعنى بقوله: «واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض وتجعل هذه بسبب من تلك، هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس» (¬3). ثم ختم عبارته بقوله: «وإذا كان لا يكون في الكلم نظم ولا ترتيب إلا بأن يصنع بها هذا الصنيع ونحوه، وكان ذلك كله مما لا يرجع منه إلى اللفظ شيء ومما لا يتصور أن يكون فيه ومن صفته بان بذلك أن الأمر على ما قلناه من أن اللفظ تبع للمعنى في النظم، وأن الكلم تترتب في النطق بسبب ترتيب معانيها في النفس، وأنها لو خلت من معانيها حتى تتجرد أصواتا وأصداء حروف لما وقع في ضمير ولا هجس في خاطر أن يجب فيها ترتيب ونظم، وأن يجعل لها أمكنة ومنازل، وأن يجب النطق بهذه قبل النطق بتلك» (¬4). ¬

_ (¬1) انظر دلائل الإعجاز للجرجاني، ص 41، طبعة مطبعة السعادة بمصر. (¬2) انظر دلائل الإعجاز ص 43. (¬3) انظر دلائل الإعجاز ص 46. (¬4) انظر دلائل الإعجاز، ص 47.

وتساءل الجرجاني في معرض حديثه عن إعجاز القرآن، ماذا أعجز العرب، هل أعجزهم لفظ القرآن أم أعجزهم معناه، لا شك أن ما أعجز العرب «هو تلاقي اللفظ والمعنى معا»، فلا مجال للإعجاز في لفظ دون معناه، ولا مجال للإعجاز في معنى دون لفظ، فالإعجاز هو نتاج علاقة تكاملية بين اللفظ والمعنى، ولا يمكن تصور الفصاحة في إطار لفظ دون معنى، فالصورة البيانية هي نتاج لفظ معبر ومعنى يجسد الصورة، ويعطي للألفاظ أبعادها وصورها وجمالها، فاللفظة المفردة لا يمكن أن تكون معجزة، لأنها تظل قاتمة صامتة لا تنطق والمعنى العظيم هو الذي ينطق اللفظ ويجعل له لسانا معبرا، وعند ما يتحدث أهل البيان عن الألفاظ الجميلة والألفاظ القلقة والمستكرهة، فإنهم لا يقصدون على وجه التأكيد مجرد اللفظ، فاللفظ لا يمكن وصفه بدقة إلا في إطار ملاءمته لمعناه المراد، وحسن انسجامه مع الألفاظ الأخرى في الجملة الواحدة بحيث يصبح الكلام معبرا أحسن تعبير عن معنى مراد. وبالرغم من اهتمام الجرجاني بالتلاؤم والانسجام والتوافق بين اللفظ والمعنى فإنه لا يتجاهل أهمية اللفظ، فاللفظ هو الأداة الأولى للتعبير، وهو الجانب الواضح في النظم، وهو معيار ضروري لجودة الكلام وفصاحته وبيانه، فاللفظة تجد مكانها المناسب والمعنى الدقيق يبحث عن لفظ معبر، ولولا ذلك اللفظ لما ظهرت المعاني ولما برزت الفصاحة، فاللفظة تقع في الجملة معبرة مجسدة مصورة مبينة ناطقة، وكأنها تصور المعنى تصويرا، وترسم الملامح بدقة، فتكون أكثر قدرة على التأثير، فلا يستطيع القارئ أو السامع إلا أن يجد فيها المعنى الذي يريد أو تحدثه هي عن المعنى المراد. وفي مثل هذه المواقف لا يملك الإنسان إلا أن يقف بإعجاب أمام اللفظة المعبرة عن المعنى، وينظر في النظم فيجد التلاؤم والتكافل والتعاهد بين اللفظة واللفظة، وكأن كل لفظة تقود إلى أخرى مجسدة الصورة البيانية، معبرة عن معنى أراده الكلام.

من هنا بدأ الإعجاز:

من هنا بدأ الإعجاز: إعجاز لفظ معبر مختار وإعجاز معنى عظيم، ويبرز الإعجاز في تلاؤم عجيب بين ذلك النظم والمعنى، بحيث تمتد الأبصار شاخصة مترقبة يقظة، تتابع النظم الدقيق المعجز. لو رأى العرب كلمة نابية لأمسكوا بها، ولما سمحوا لها بأن تفلت من أيديهم، واحتجوا بها على ما يريدون من الإساءة للقرآن، ولكنهم لم يجدوا في القرآن إلا كل ما يدعوهم للإعجاب به من حيث اللفظ والمعنى، ومن حيث التوافق والتلاؤم. وقال الجرجاني معبرا عن حسن الملاءمة بين اللفظ والمعنى: «وهل تجد أحدا يقول هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها في النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها، وهل قالوا لفظة متمكنة ومقبولة وفي خلافه قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم» (¬1). كتابات أخرى في الإعجاز: وبالإضافة إلى هؤلاء الأعلام ممن أفردوا للإعجاز مصنفات مستقلة، وتميزوا بما كتبوه عن الإعجاز بمناهج ثابتة، هناك مجموعة أخرى من العلماء كتبوا في الإعجاز، وأبانوا عن وجوه الإعجاز القرآني، وآراؤهم لا تخرج عن آراء أولئك الأولين من رواد مدارس الإعجاز القرآني. ولا نهاية للإعجاز، ولذلك تصدى المفسرون لبيان أوجه الإعجاز، وعرف الزمخشري بأنه صاحب مدرسة في الإعجاز، وقد أبرز جوانب الإعجاز ومظاهره من خلال تفسيره للقرآن، ويعتبر كتابه «الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل» من أشهر المؤلفات في علم التفسير، وحرص على أن يبرز جوانب الإعجاز من خلال رصده الذكي لكل وجوه الإعجاز، متعقبا كل آية يجد فيها ذلك الإعجاز، ¬

_ (¬1) انظر دلائل الإعجاز ص 39 - 40.

شارحا ذلك مبرزا عظمة النص القرآني، مؤكدا من خلال تفسيره أن القرآن محكم الآيات سديد العبارة جيد التصوير البياني عظيم في أسلوبه البياني رائع في صوره البلاغية لا يضاهى ولا يقارن بما اعتاده العرب من أساليب البيان، فهو أفصح من كل أسلوب وأعلى من كل بيان. وألف «السيوطي» في إعجاز القرآن، وكتب كتابا سماه «معترك الأقران في إعجاز القرآن» (¬1)، تحدث فيه عن وجوه الإعجاز، وأوصلها إلى خمسة وثلاثين وجها، وخصص الوجه الأخير للحديث عن مشترك القرآن وجمع في هذا الباب ألفاظا من القرآن وفسرها وبيّن معانيها، واعتمد في ذلك كله على كتب التفسير والحديث واللغة، وقال في بداية كلامه في معرض حديثه عن وجوه الإعجاز أنه لا نهاية لوجوه الإعجاز، ونقل كلامه السكاكي في المفتاح أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن. ونقل الزركشي عن أبي حيان التوحيدي في البصائر قوله: لم أسمع كلاما ألصق بالقلب وأعلق بالنفس من فصل تكلم به بندار بن الحسين الفارسي وقد سئل عن موضع الإعجاز من القرآن فقال: هذه مسألة فيها حيف على المفتي وذلك أنه شبيه بقولك: ما موضع الإنسان من الإنسان؟ فليس للإنسان موضع من الإنسان بل ومتى أشرت إلى جملته فقد حققته، ودللت على ذاته، وكذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه، ومعجزة لمحاوله، وهدي لقائله، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه، فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده» (¬2). وأكد «الزركشي» أن مما يبعث على معرفة الإعجاز اختلاف المقامات وذكر كل شيء في موضعه الملائم، ووضع الألفاظ اللائقة والمناسبة، بحيث لو أبدلت لفظة بأخرى ذهبت تلك الطلاوة وفاتت تلك الحلاوة. ¬

_ (¬1) الكتاب مؤلف من ثلاثة أجزاء، قام بتحقيقه الأستاذ علي محمد البجاوي وطبعته دار الفكر العربي بالقاهرة. (¬2) انظر البرهان، ج 2، ص 100.

من وجوه الإعجاز عند السيوطي:

والمقامات لا تدرك إلا بالذوق فالفرق بين الفصيح والأفصح والرشيق والأرشق في الكلام لا يمكن إقامة دليل منطقي عليه، وذكر «ابن أبي الحديد المدائني» صاحب شرح نهج البلاغة أن ذلك بمنزلة جاريتين إحداهما بيضاء مشربة حمرة، دقيقة الشفتين، نقية الشعر، كحلاء العين، أسيلة الخد، دقيقة الأنف، معتدلة القامة، والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن ولكنها أحلى في العيون والقلوب منها، وأليف وأملح، ولا يدري لأي سبب كان ذلك، ولكن بالذوق والمشاهدة يعرف، ولا يمكن تعليله، وهكذا الكلام .. وإذا كان الجمال الظاهري يدرك بالعين المجردة فإن جمال الكلام لا يدركه إلا أهل البيان، وممن اشتغلوا بهذا الفن من العلوم (¬1). من وجوه الإعجاز عند السيوطي: ومن وجوه الإعجاز التي ذكرها «السيوطي» في كتابه الإعجاز ما يلي (¬2): أولا: اشتماله على مختلف العلوم، وبالغ بعضهم في ذلك، واعتبر العلوم المستنبطة من القرآن بقدر حروف القرآن. ثانيا: حسن تأليفه والتئام كلمه وخصاصتها ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن فجاء نطقه العجيب وأسلوبه الغريب مخالفا لأساليب كلام العرب ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاءت عليه. ثالثا: احتواؤه على جميع لغات العرب، وقال ابن فارس: لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله، لأنه أتى بلغات لا يعرفونها ... وقال أبو عبيد: إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أن كذا بالنبطية فقد أكبر القول، وقد اهتم ¬

_ (¬1) انظر البرهان، ج 2، ص 124. (¬2) انظر معترك الأقران في إعجاز القرآن الجزء الأول.

علماء اللغة بهذا الموضوع ولا خلاف بينهم في أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وما استعمله القرآن من ألفاظ أعجمية لا يغير من هذه الحقيقة، فهذه الألفاظ سواء كانت عربية صرفة أو استعملت في العربية وشاعت أصبحت في حكم العربية، وجرت مجرى العربي الفصيح، وطالما أن البيان وقع بها، واتضحت معانيها فهي في حكم الألفاظ العربية، ولا عبرة بالبحث عن أصول اللفظة، وهذه الكلمات ذات الأصل العجمي كانت واضحة الدلالة، معبرة عن المعنى المراد، ولو قام مقامها لفظ عربي فصيح لما كان اختارها القرآن، وما اختيرت إلا لإتمام البيان وإكماله، ولو جاءت نشازا في سياق النظر لوضح الأمر وبان، وكما استعمل القرآن كلمات من أصول عجمية قد استعمل ألفاظا من غير لغة الحجاز، كالأرائك والمرجان بلغة أهل اليمن وهناك كلمات كثيرة جاءت في القرآن بلغة كنانة وهذيل وحمير وجرهم وكنده ومزينة واليمامة وجذام وخزاعة وتميم وغيرها من القبائل العربية، وتخصص بعض العلماء في هذا الموضوع وألفوا منه، ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام والواسطي، ونزول القرآن بلغة قريش هو الأغلب، لأن لغة قريش هي الأيسر والألين في النطق فليس فيها الغريب والوحشي الشاق في مجال النطق .. رابعا: تعدد أوجه الخطاب القرآني (¬1) فالخطاب في القرآن متعدد في أسلوبه بحسب المخاطب وطبيعة الموقف، فهناك خطاب التهكم «ذق إنك أنت العزيز الكريم» «وخطاب الكرامة» «يا أيها النبي» «يا أيها الرسول»، وخطاب التحبب «يا أبت لم تعبد الشيطان»، وخطاب التعجيز «فأتوا بسورة»، وهناك خطاب الجنس البشري وخطاب النوع، والخطاب العام المراد به الخصوص، والخاص المراد به العام، وتعدد الخطاب واضح الدلالة على تحقيق المراد والتأثير في المخاطب، ولا يتصور أن يكون الخطاب القرآني عاما موحدا، فليس هذا من الفصاحة أو البيان يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. ¬

_ (¬1) انظر معترك الأقران للسيوطي، ج 1، ص 229.

خامسا: استعمال الكناية والتعريض (¬1)، والكناية أبلغ من الصريح في بعض المواطن، وهي ترك التصريح بالشيء إلى ما يساويه في اللزوم، ويتم اللجوء إلى الكناية لأسباب عدة إما لأن التصريح مما يستقبح ذكره، كاستعمال الملامسة والمباشرة بمعنى الجماع، وكذلك الغشيان والرفث والحرث والمراودة، والغائط والإدبار، أو لقصد المبالغة كاستعمال البسط للدلالة على سعة الجود والكرم، أو لاختيار لفظ أجمل وأدق في التعبير، كالتكنية بالنعجة أو الفرس عن المرأة أو الزوجة، ولا بد في اختيار الكناية بدلا من التصريح من مبرر يقصده المتكلم ويريد الإشارة إليه للستر والمدح والذم والاختصار والتيسير والإيضاح، وهذا أسلوب ذكي في التعبير، ولا حدود للكناية، وما تحققه الكناية لا يحققه الصريح من الألفاظ، بل قد يؤدي الصريح إلى جرح المشاعر في بعض الأحيان والإسفاف في اللفظ والسقوط في أوحال الارتباك مما يحرج المتكلم والسامع. واستعمل القرآن الألفاظ المرادفة للألفاظ الصريحة المعبرة واعتبر هذا من أنواع البديع وهو قريب الشبه بالكناية، وسمي بالإرداف كقوله تعالى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي: انتهى الأمر بهلاك من هلك ونجاة من نجا، ولا مجال بعد ذلك لحوار أو نقاش أو تغيير أو تبديل، والكلمة تدل على معنى الحكم الملزم الذي لا رجعة فيه، وفيه هيبة القرار وسمو الأمر .. واستعمل القرآن التعريض (¬2) وهو ذكر شيء للدلالة على شيء آخر هو المراد بالكلام، ويختلف عن الكناية من حيث أن الكناية تذكر المراد بلفظ غير لفظه، قال تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وهنا تعريض بالفاعل وذم له، وإشارة إلى سوء ما فعل، وكأن الموءودة في موطن القضاء تحاكم من قتلها، وقال تعالى: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا، إشارة إلى عجز هذه الآلهة عن فعل أي شيء، وسخرية من عقول المؤمنين بها. سادسا: الإيجاز والإطناب: وهو تأدية المعنى بلفظ أقل أو أكثر بحسب ما ¬

_ (¬1) نفس المصدر، ص 286. (¬2) انظر معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي ج 1، ص 286.

فوائد إيجاز الحذف

يتطلبه المقام، فيستعمل الإيجاز في موطن الاختصار وهو معبر عن التمكن من الفصاحة، وهو مما يستحسن في الكلام، وجوامع الكلم هي الكلمات المختصرة الدالة على معان كثيرة، ويستعمل الإطناب للتأكيد والترسيخ وتوضيح المعنى المراد، سواء بتكرار الكلمة أو زيادة حروف أو تأكيد الكلمة بمصدرها، قال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً. والإيجاز من عظمة النص القرآني (¬1)، واهتم علماء الفصاحة والبيان بمباحث الإيجاز، وقالوا يحسن الحذف في بعض المواطن لقوة الدلالة على المحذوف ولإفساح الفرصة للتأمل والتفكير فيما يفيده الكلام، أو لتركيز الذهن على المطلوب من الكلام لئلا يضيع في زحمة التطويل، ولكي يستقيم الكلام لا بد من ترك إشارة تدل على المحذوف، والإيجاز قد يكون عن طريق الحذف وقد يكون بغير حذف، كالإيجاز الجامع وإيجاز القصر، ومن الإيجاز قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ، وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ، أما إيجاز الحذف فيتم عن طريق اقتطاع بعض أحرف الكلمة أو عن طريق الاكتفاء بأحد المعنيين المتلازمين كقوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ، وخص الخير بالذكر لأن ذكر الشر ليس من الأدب. [فوائد إيجاز الحذف] وذكر العلماء فوائد إيجاز الحذف، ومن أهم هذه الفوائد: أولا: التفخيم والإعظام لما فيه من الإيهام، ويقع ذكره فيما يتعلق بوصف الأشياء التي لا تتناهى ولا تفي الكلمات بوصفها وتضيق الألفاظ عن التعبير عنها، كقوله تعالى في وصف النار: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، لا شك أن أي وصف لا يمكن أن يعبر عما يمكن أن يروه. ثانيا: شهرة ما يمكن أن يقال، ويختصر لكيلا يكون ذكره من باب التكرار ¬

_ (¬1) انظر معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي، ج 1، ص 295.

الذي لا مبرر له، وأحيانا يتم الإيجاز للتخفيف، كما في حذف حرف النداء في قوله تعالى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وأحيانا يفيد الحذف معنى التحقير عند ما يراد تجاهل الأمر أو لرعاية الفاصلة في القرآن ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى. ولا يتصور الحذف فيما يجب ذكره لإتمام الكلام، فالحذف في القرآن لا يمكن أن يؤدي إلى وجود خلل، فلا يحذف ما يجب ذكره كالفاعل ولا يحذف ما هو مختصر، ولا يتم الحذف في موطن التأكيد، ويجب تقدير المحذوف بما يناسبه من الألفاظ والمعاني ويكمله وهنا يقع الاجتهاد في تفسير معاني المحذوف، ويمكن أن يكون الحذف في بعض الأحيان لتوسيع دائرة الاجتهاد لمعرفة المحذوف أو لتعدد الاحتمالات الممكنة لإتمام المعاني وإكمالها، والحذف في جميع الأحوال مما تقتضيه اللغة وتدعو إليه، وهو أمر محبب إذا لم يؤد إلى نقص في المعنى، ويتحدد الحكم عليه بحسب أثره في النظم من حيث سلامة التعبير ووضوح المعنى. وكما يبرز الإعجاز في الإيجاز كأسلوب دال على عظمة النص القرآني يبرز أحيانا في الإطناب المتمثل في زيادة بعض الكلمات أو الحروف للتأكيد والتوضيح، والتأكيد لا يقع إلا بالنسبة لما يحتاج إلى التأكيد، وهو موافق لما كان عليه كلام العرب من استعمال التأكيد وكانوا يعتبرون ذلك من الفصاحة ما دام دالا على معنى. وفي مجال الرد على المنكرين لا بد من اللجوء إلى أدوات التأكيد وكلما اشتد الإنكار زادت الحاجة إلى قوة التأكيد كما في قوله تعالى: قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 16]، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1]، وقوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53]. واستعمل القرآن في هذه الآيات «أدوات التأكيد»، لتأكيد الرسالة في الآية الأولى بعد إنكار الكافرين لنبوة الرسل، وتأكيد الحساب بعد دعوتهم إلى التقوى، وتأكيد طبائع النفس الأمارة بالسوء بعد نفي ادعاء البراءة، وتستعمل

أدوات التأكيد المعروفة إذا كان المخاطب منكرا ومترددا في قبول الخطاب، وأحيانا يترك التأكيد إذا قامت قرائن وأدلة واضحة على الحكم، وهذه القرائن كافية لترجيح كفة الإثبات، ومن العبث استعمال أدوات التأكيد كالقسم وحروف التأكيد الأخرى لإثبات ما هو ثابت أو لما قامت الحجة عليه. وأحيانا يستعمل «التأكيد الصناعي» (¬1) وهو التأكيد بتكرار اللفظ الأول أو بمرادفه، كما في سورة فاطر وَغَرابِيبُ سُودٌ، وفي سورة المؤمنون هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ، أو التأكيد باستعمال الكلمات الدالة على التأكيد مثل: كل وأجمع وكلا وكلتا، كما في قوله تعالى في سورة الحجر: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ أو تأكيد الفعل بمصدره، كقوله تعالى في سورة النساء: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، أو التأكيد بالحال كقوله تعالى في سورة البقرة: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، وقوله في سورة مريم وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا، وقوله في سورة البقرة: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ. وأحيانا يستعمل القرآن «التكرار» (¬2)، لتحقيق معان وغايات أهمها تقرير الكلام وتثبيته وتأكيده، وهذا هو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن في حالة تكرار الكلام، وقد جاءت الأحكام والأخبار مكررة في القرآن، لتأكيدها وبيان أهميتها والتذكير بها، وأحيانا يراد بالتكرار التعظيم والتهويل كما في قوله تعالى: الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ، وقوله: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ. ولا يمكن حصر أشكال التكرار ولا أهدافه وغاياته، فذلك أمر يتعلق بطبيعة الخطاب القرآني وأسلوبه، من حيث سلامة النظم واستقامته ومن حيث التركيز على بعض ما يجب التنبيه إليه من عبر ومواعظ في مجال القصص القرآني، وتأكيد المبادئ الأساسية للعقيدة الإسلامية، والاستشهاد بكل ما يؤدي إلى إقناع المخاطب. ¬

_ (¬1) انظر البرهان للزركشي، ج 2، ص 385. (¬2) انظر الإتقان، ج 3، ص 200 - 224. سورة الزخرف، الآية: 51.

أنواع الأطناب عند السيوطى

[أنواع الأطناب عند السيوطى] وذكر «السيوطي» أنواعا للإطناب كثيرة أهمها: أولا: الإيضاح بعد الإبهام: قال أهل البيان: إذا أردت أن تبهم ثم توضح فإنك تطنب، وفائدته رؤية المعنى من صورتين مختلفتين، الإبهام والإيضاح، أو لتمكّن المعنى في النفس تمكنا زائدا، كقوله تعالى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، فكلمة «اشرح» هي طلب لشرح شيء ما، «وصدري» هي التفسير والإيضاح لمعنى الشرح، وكذلك قوله تعالى: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. ثانيا: التفسير: ومهمة التفسير إزالة اللبس والخفاء من الكلام، كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج: 19 - 21] .. وكلمة «إذا مسه الشر» هو تفسير لكلمة «هلوعا»، وقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255]، فكلمة «لا تأخذه سنة» هي تفسير لكلمة «القيوم»، فالقيوم لا تأخذه سنة ولا نوم. ثالثا: عطف العام على الخاص، وعطف الخاص على العام، كقوله تعالى في سورة البقرة: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فالصلاة الوسطى معطوفة على العام، وداخلة ضمن لفظة الصلوات، وكقوله أيضا في سورة الأنعام: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي والنسك أعم من الصلاة، وهذا من عطف العام على الخاص. وهناك صور أخرى اعتبرها السيوطي من أنواع الإطناب، كالإيغال والتذييل والطرد والعكس والتكميل والتتميم والاستقصاء والاعتراض والتعليل، ولكل صورة معنى خاص بها، وكلها تدخل ضمن أنواع الإطناب، ويبدو أن كلمة الإطناب ليست دقيقة في هذا المجال، فالإطناب كما يدل عليه لفظه هو الزيادة في الكلام أو بسطه، وهو خلاف الإيجاز، ولا يعتبر التفسير والتوضيح من الإطناب بهذا المفهوم، ولو حذفت الكلمات التفسيرية والتوضيحية لوقع الخلل في المعنى.

الفصل السادس عشر: القصة في القرآن

الفصل السادس عشر: القصة في القرآن القرآن كتاب هداية، وهذا هو الأصل فيه، وكل ما ورد فيه من توجيه وما اشتمل عليه من منهج وما تميز به من أسلوب إنما يهدف إلى تحقيق تلك الغاية، ولذا فلا يمكننا أن نطبق المعايير البشرية المتعارفة على كتاب الله، ولو طبقت تلك المعايير عليه لانتفت الخصوصية القرآنية، وهي خصوصية في الأسلوب، وفي القصة، وفي النظم، وفي التصوير، وفي المنهج. والقصة في القرآن ليست قصة بالمفهوم الأدبي المتعارف عليه عند كتاب الرواية، ولا يمكن أن تكون كذلك، فالقرآن ليس رواية، وليست غايته سرد حادثة، وإنما غايته تحقيق هدف ينسجم مع رسالة القرآن .. وما يقصه القرآن من أخبار الأنبياء السابقين والأمم السابقة إنما يراد به أولا العبرة والعظة، ويراد به ثانيا تأكيد منهج الدعوة واستمرارية هذا المنهج، ويراد به ثالثا تصحيح الأحداث التاريخية ووضع تلك الأحداث في إطارها الصحيح، للتأكيد على أن أنبياء الله واجهوا تحديات وصعوبات وصبروا، ولم يضعفوا أو يستسلموا، وتابعوا طريقهم من غير تردد، مدافعين عن الحق رافعين لواء الإيمان بالله، مطالبين بتصحيح مسيرة الإنسان، مبرزين عظمة الفضيلة في السلوك الإنساني. والقصة في القرآن خبر عن أمم سابقة، وهو خبر عن غيب ولا يمكن أن يعلمه إلا من أوتي سعة من علم، وجاء الوحي بها، لتأكيدها وإقرارها وتصحيحها، وما كان أهل الجاهلية يعلمون إلا القليل من أخبار الرسل والأمم، ولا بد أن ما علموه دخله التحريف والتزوير والتشويه حتى أصبحت الحقيقة ضائعة، وجاء القرآن لكي يؤكد الواقعة، ويصحح الحدث، ويشير إلى العبرة، ويقود الإنسان إلى أن يكتشف بنفسه ما أراده القرآن من حتمية انتصار الإيمان على الكفر، وانتصار الخير على الشر.

والمحور العام الذي تدور حوله القصة القرآنية يتمثل في المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدعوة الإسلامية، من إيمان بالله ورفض لكل مظاهر الكفر والشرك، ومحاربة الظلم في المجتمع، وتشجيع الفضيلة، ومنطق الأنبياء واحد، ومنهجهم متماثل، ومنطق أهل الكفر والظلم أيضا واحد، في جاهلية مستمرة يصحح مسارها رسل الله في كل حين. قال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام: 33 - 34]. وقال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [الحج: 42 - 44]. وهذه الآيات واضحات بينات على أن القصص القرآني كان يراد به تشجيع النبي صلى الله عليه وسلم وتقويته لكيلا يضيق بكفر أهل الجاهلية وبتكذيبهم لدعوته، وألا ييأس من النصر، فهذا هو طريق الأنبياء والرسل، وهو طريق جهاد وصبر وهو محفوف بالأشواك والآلام والأحزان، ولكن النصر في النهاية لهم، لأن الله ناصرهم ومؤيدهم. قال تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف: 110]. ولا شك أن القصة يراد بها أولا النبي صلى الله عليه وسلم، ويراد بها ثانيا أصحابه ومن جاء بعدهم من المسلمين، لكي يعلموا جيدا منهج الإسلام.

قال تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [القلم: 48 - 49]. والقصة في القرآن تساق لغاية معينة، ولهذا يذكر من عناصر القصة ما يخدم تلك الغاية، ويحقق الغرض من إيراد القصة فالزمن لا يذكر غالبا إلا عند ما يمثل الزمن عنصرا من عناصر التعبير والتصوير، كقوله تعالى في حالة إخوة يوسف: وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ [يوسف: 16 - 17]. وتصور القصة في القرآن الحدث وكأنه واقع فعلا، وتهيئ الأسباب النفسية لكي ينفعل القارئ بالحدث، ويعيش معه، ويراه أمامه كمشهد حي ناطق، وليس مجرد صورة جامدة ميتة، فليست الغاية القصة ولا المشهد وإنما الغاية إيراد قصة أو مشهد منها للتعبير عن معنى معين ينسجم مع أغراض القرآن في إبراز الصراع الدائم بين الحق والباطل، وتصوير حالة المشركين والطغاة وهم يدافعون عن مواقعهم أمام دعوة الأنبياء التي تهدف إلى تحرير المفاهيم الإنسانية وتصحيح العادات والقيم الاجتماعية، وخلق الإنسان يليق بخلافة الله في الأرض، فلا يطغى ولا يظلم ولا يذل ولا يسقط في هاوية الضلال .. ولو تأملنا في قصة الرجلين اللذين يملك أحدهما جنتين من أعناب، وتابعنا ذلك الحوار الرفيع المعبر عن عظمة القرآن في تقريب المعاني من الأذهان، وفي تصوير القيم الخالدة تصويرا رائعا، ما أعظم ذلك الحوار بين غافل عن الحق ظالم لنفسه دفعته غفلته إلى أن يعتز بماله ورجاله، ودخل جنته وهو يفخر بما يملك، وينظر نظرة صغار واحتقار لصاحبه المؤمن، ويقف المؤمن وقفة إيمان ونصح، ويقول له: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ثم يقول بلهجة الواثق من ربه فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً. وفجأة ... يأتي أمر الله .. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها

وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً. وتأتي العبرة .. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً ويأتي الهدي القرآني مقررا الحقيقة التي يجب أن يعيها البشر: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً [الكهف: 32 - 44]. إنه أروع تصوير، وأجمل تمثيل وأصدق تعبير عن الحياة في مظاهرها، وعن الإنسان في قصور نظره وعجزه وضعفه، وقليل ما هم أولئك الذين يدركون الحق فلا يخدعون أنفسهم، ولا تخدعهم الدنيا، موقفان لرجل .. الموقف الأول: يمشي بخيلاء، في جنتيه أعناب ونخل وزرع، ونهر يتدفق ماء وينظر باستعلاء لصاحبه: - أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا. ويشير إلى جنته بيده قائلا: ما أظن أن تبيد هذه أبدا. أما الموقف الثاني: جنة خاوية على عروشها، لا أعناب ولا نخل ولا زرع، ولا نهر ولا ثمر، ويقف صاحب الجنة حائرا دهشا يقلب كفيه لا يصدق ما يرى. ويبحث عن ناصر ينصره، فلا يجد رجاله ولا ماله. - يعود إلى حقيقته التي نسيها في لحظة غفلة. - يا ليتني لم أشرك بربي أحدا. وتسدل الستارة عن هذا المشهد الرائع المعبر .. وتظل الصورة في الأذهان ناطقة حية معبرة. وفي كل يوم يتجدد الحدث ويتجدد الحوار. وينسى الإنسان في لحظة الغفلة حكمة الحياة وعظمة الدرس. ويتجدد المشهد على مسرح الحياة. فرعون يقف شامخا بين قومه ينادي بأعلى صوته: - يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (¬1). ويشير بسخرية واستهزاء إلى موسى. - أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ. ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 51.

قصة موسى وفرعون:

وانحطت الهامات طاعة وذلا، وفجأة حل بهم عقاب الله وغرقوا جميعا فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ. وتأتي العبرة: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ. ويتجدد المشهد. قرية بطرت معيشتها .. كذبت الرسل .. وظلمت .. وليس هناك أقسى من الظلم .. ولا بد من الهلاك .. هذا وعد الله .. وهذه هي العبرة .. وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (¬1). قصة موسى وفرعون: والحكمة في القصة في القرآن جاءت في القرآن نفسه واضحة في بداية سورة القصص طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [القصص: 1 - 3]، ثم يأتي بعد ذلك البيان، لماذا اختار القرآن قصة فرعون. والجواب واضح في الآية: إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وفي البداية تلخص الآية الرابعة من سورة القصص القصة كاملة، قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 4]. وقبل أن تبدأ قصة فرعون وموسى التي جاءت مفصلة في سورة القصص جاءت الآية الخامسة في السورة مبينة الحكمة من القصة والعبرة من الواقعة، وفيها تشجيع للمؤمنين وبشرى للمستضعفين ووعد لهم بالتمكين في الأرض وتحذير وتخويف للمتكبرين والظالمين. قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية: 58.

وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 5 - 6]. ثم تبتدئ القصة: - وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ. - فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ. - وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي. - إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وفي هذه الآية القصة كلها .. إيحاء من الله إلى أم موسى بأن ترضعه، فإذا خافت عليه أمرت بأن تلقيه في اليم، وبشرت في نفس الوقت بأنه سيرد إليها، وأنه سيكون من المرسلين، ولولا تلك البشرى لما استطاعت أن ترميه في اليم، وكيف يمكن لأم أن ترمي وليدها في اليم، وهي تعرف جيدا أنها تلقيه إلى الموت، وبالرغم من البشرى، فقد خافت عليه وحزنت، ومن حقها أن تخاف وتحزن .. فالإنسان محكوم بغرائز وطبائع ومشاعر .. وامتثلت أم موسى للأمر .. وصدقت البشرى .. والتقطه آل فرعون .. وتركت القلوب بأمر الله .. وارتفع صوت امرأة فرعون: لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً. وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ، ووقفت أم موسى خائفة فزعة تترقب المشهد أمامها .. وتخشى أن يفتضح أمرها، وتتدخل العناية الإلهية إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها .. ويتحقق الوعد الإلهي الأول الذي كان صداه يتردد فوق المكان فيحكم قبضته على الأحداث، وتنصاع القلوب صاغرة لذلك النداء الرباني إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ. وتقف أم موسى فرحة مستبشرة مطمئنة وهي تتسلم ابنها: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ

كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ. وهنا تبرز الحكمة الربانية والتوجيه الإلهي ويتوجه الخطاب إلى «محمد» وإلى أصحابه وإلى كل المؤمنين، لكي يعلموا جيدا أن وعد الله حق والخطاب لأم موسى وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. ولكن المراد بهذا الخطاب كل مؤمن لكي يطمئن إلى وعد الله، فلا يخاف ولا يحزن، والعاقبة للمتقين، وختم القرآن هذه الآية التعليمية والتوجيهية بقوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وتوقف المشهد الرابع .. انتهى بانتصار الحق، عاد الوليد إلى أمه بعد عاصفة من الأحداث المتتابعة المثيرة، المليئة بالمفاجئات والمواقف، ويتحرك الأبطال في حركة منتظمة دقيقة وكأنهم دمى صغيرة في يد قادرة تحركهم .. في آيات معدودات وكلمات مختارات معبرات، نعيش أحداثا جسيمة كبيرة مثيرة غامضة .. وعد الله هو المنطلق .. إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ .. وكل شيء بعد ذلك يتحرك لكي يتحقق وعد الله .. وما أروع هذا التصوير لعظمة الأمر الإلهي ولعظمة الكون وهو يتحرك في حركة دقيقة محكمة لتنفيذ أمر الله، ولا يعلم أحد من شخصيات القصة أنه يتحرك بأمر الله، ولما يراد له، ويظن كل واحد أنه يتحرك بإرادته المطلقة فإذا هم يتحركون بإرادة الله، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً، وبين الأحداث المتسارعة تبرز الحكمة من خلال كلمات موجزات معبرات إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ. وتهدأ الأنفاس بعد تسارع، كانت تواكب الأحداث المثيرة بدهشة ورهبة وخوف، وأسدلت الستارة على أم موسى وهي تحتضن طفلها بعد أن عاد إليها وقد قرّت عينها به، وزال عنها الحزن واطمأنت بوعد الله، وآل فرعون وهم فرحون مبتهجون في هذا الولد الذي طمعوا في أن يكون قرة عين لهم عسى أن ينفعهم أو يتخذونه ولدا .. وفجأة ترتفع الستارة من جديد على شاب قوي الساعد مفتول العضلات

واضح الرجولة ذكي الملامح ذي إرادة واضحة وعزم أكيد. وتبتدئ الأحداث متتابعة راسمة الملامح لتاريخ هذا الشاب القوي التكوين الذي رأيناه في المشهد الأول طفلا تلقيه أمه في اليم فليلتقطه آل فرعون، ليكون لهم عدوا وحزنا. وعدان من الله أولهما تحقق في المشهد الأول، وثانيهما تتحرك الأحداث بوتيرة محكمة لكي تحققه وتهيئ الأجواء والنفوس له .. - إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ... - وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ .. - وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ. ويقف موسى موقف الترقب والخوف والرهبة .. فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ ما أجمل هذا التصوير لحالة الخوف والخائف يترقب دائما، وهذا هو مصدر الخوف، فالترقب هو انتظار مجهول يخيفه، قد يأتي هذا المجهول وقد لا يأتي، وقد يكون الخوف ناتجا من وهم ومع ذلك فإن الترقب هو الذي يجعل الإنسان في حالة خوف .. واشتدت القبضة عليه، وزاد اختناقه عند ما ورد صديق الأمس الذي استنصره يستصرخه، فلما استجاب له صدمه بكلمة أيقظته، أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ. واشتد الخناق عليه .. لا يدري ماذا يفعل .. وفجأة جاءه رجل من أقصى المدينة يسعى .. ولسان حاله ينذره بالخطر، ويكفيه أنه جاء من أقصى المدينة مسرعا وكأنه ينقل إلى موسى خبرا مخيفا ... قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ.

وخرج موسى من المدينة وبصره شاخص إلى السماء، وقد أحيط به من كل جانب، وهو يقول: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وأسلم أمره لله، وهنا تبتدئ مرحلة التكوين النفسي للوعد الثاني، حالة الوحشة من البشر، حالة العزوف عنهم، حالة العودة لله والاستسلام لأمره. ويسدل الستار على موسى وهو يمشي في طريقه إلى مدين، يبحث عن الهداية ويردد: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. ومن جديد ترفع الستارة عن مشهد جديد. - أمة من الناس يسقون .. وامرأتان تذودان أغنامهما عن الماء ... - قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فسقى لهما .. وتولى إلى الظل .. وأخذ يدعو ربه: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. وفجأة جاءته إحداهما تمشي على استحياء ... قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وقالت إحداهما: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ بدأت مرحلة جديدة في حياته، «وعد الله» بأنه سيكون من المرسلين ... ومن بعيد .. آنس موسى من جانب الطور نارا، فقال لأهله امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. - فَلَمَّا أَتاها ... - نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى .. - إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ.

فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب، وأحس موسى بالخوف والهلع، ولا يمكن للبشرية في لحظة الالتقاء بالحقيقة الإلهية ممثلة في مظهر الخروج عن القوانين الطبيعية إلا أن تخاف والخوف هنا أمر حتمي، فالإنسان يخاف من المعجزات ويخاف من الخوارق ويخاف من الغيب، ولهذا جاءت المعجزات في نطاق ضيق لكي يشعر الإنسان بالأمن والاطمئنان، وارتبطت المعجزة وهي العصا في الآية بقوله تعالى: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، لكي تكون المعجزة مؤكدة لكل ما سمعه موسى من نداء، ولولا المعجزة الحسية لكان النداء أقل أثرا في النفس، وهنا تأتي العناية الإلهية .. يتجدد النداء وفيها تأكيد على الأمن، يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ. ولا بد من معجزة حسية تؤكد الإحساس بالأمن وتعمقه وتغذيه وتقويه وتدعمه، لكي يرتد إليه الشعور بالاطمئنان ولكي يزول عنه الخوف .. وهنا جاء الأمر الإلهي من جديد .. - اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ. - وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ. معجزة واضحة لموسى، لكي يطمئن .. يده يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء .. ثم تعود ثانية كما كانت .. هذا برهان من الله، وهي بداية التكليف .. وخاف موسى .. كيف يمكنه أن يواجه فرعون وملأه .. وارتفع صوته المتهدج الوجل المتهيب. قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وجاء الجواب مطمئنا وواعدا وضامنا ومتعهدا. قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما

أشخاص القصة القرآنية:

وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ. وذهل قوم فرعون أمام الآيات البينات، وقالوا: ما هذا إلا سحر مفترى، ووقف فرعون أمام الملأ من قومه خائفا حائرا مندهشا متكبرا ولا بد له من أن يقول شيئا أمام معجزة موسى. وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ. وتتوقف القصة القرآنية أمام ظاهرة فرعون، ظاهرة الاستكبار في الأرض، ظاهرة الطغيان والبغي، ظاهرة الغفلة عن الحق، ولا بد من الحكم والعقاب والعبرة .. ويتوجه الخطاب من جديد إلى البشرية في كل عصر وفي كل مصر ويأتي القرآن بهديه وإرشاده، لكي يعلم الناس الدروس من الماضي فالتاريخ أحداث وقعت، والغاية من رواية الرواية التاريخية هي العبرة والاستفادة والتعلم، وعدم الوقوع في نفس الأخطاء فالوقائع تتجدد أسبابها، والعاقل من يحسن الفهم، ويتعلم من القصة التاريخية الحكمة ويأخذ العبرة ... وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص: 39 - 42]. أشخاص القصة القرآنية: والأشخاص في القصة القرآنية رموز معبرة عن مواقف ومعاني ودلالات، ولا تذكر الشخصية إلا في مواطن التعبير عن معاني معينة دالة على أحداث القصة القرآنية، ولا تراد الشخصية بذاتها فالقرآن ليس قصة ولا رواية تاريخية، وليس ذلك من أهدافه، ولهذا اقتصرت الرواية على ما يدل على الهدف، وتركزت

العبارات حول ذات الحدث المراد، والجزئيات الخارجة عن نطاق الهدف من القصة ليست مرادة وليست ضرورية، ولهذا جاءت القصة في القرآن موجزة، بآيات قليلة، وبإشارات واضحة، وأشخاص القصة القرآنية كما وردت في قصة موسى وفرعون، انحصرت في موسى وفرعون وأم موسى وهناك أشخاص عابرون في القصة القرآنية لا يذكرون إلا في معرض الإشارة إلى دورهم كالرجلين الذين يتقاتلان، هذا من شيعته، وهذا من عدوه، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه، وإغفال الأسماء للدلالة على أنها ليست مهمة في القصة وليست دالة، ويكفي أن تشير القصة القرآنية إلى وصف يحدد دور ذلك الشخص ومكانه هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ، وأحيانا لا تذكر الأوصاف، ويخفى الخبر أو الموقف لأنه المراد، كما في قوله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى، وليس ذلك الشخص مهما لكي يذكر، هل هو من شيعته أو من عدوه، يكفي أنه ناصح، نقل خبره وأدى مهمته وانتهى أمره. وفرعون في القرآن دالة على معنى السلطة الظالمة الطاغية المستبدة التي تدعي الألوهية، وتستغل سذاجة الشعب لإذلاله وفرض الطاعة عليه، وجاءت لفظة فرعون في القرآن أربعا وسبعين مرة في سبع وعشرين سورة من سور القرآن، وأكثر ما وردت فيه في سورة الأعراف وسورة القصص وسورة غافر .. وارتبط اسم فرعون وملأه بأوصاف ذكرها القرآن، وأهمها ما يلي: أولا: الكفر بآيات الله في قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ [الأنفال: 52]. ثانيا: التكذيب بآيات ربهم في قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ [الأنفال: 54]. ثالثا: سوم الناس سوء العذاب في قوله تعالى: نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ [البقرة: 49]. رابعا: العلو في الأرض في قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً [القصص: 4].

خامسا: الطغيان في قوله تعالى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 24]. وجاءت في عدة أماكن في القرآن. سادسا: الفسق في قوله تعالى: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [النمل: 12]. سابعا: ادعاء الألوهية في قوله تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38]. وهذه الصفات التي وصف القرآن بها فرعون وقومه جعلت فرعون يمثل شخصية المستبد الطاغي المعاند الذي يكفر بآيات الله ويكذب بها، ويدعي لنفسه الألوهية والملك والسلطان، وسيظلم ويقتل ولذلك اتجهت دعوة الأنبياء والرسل لمقاومة هؤلاء الطغاة، لتحرير الإنسان الذي وقع عليه الظلم، ولتقويته ولشد أزره، لكي يقاوم ويرفض ويتمرد، ومن الطبيعي أن يستجيب الضعفاء لدعوة الأنبياء وأن يقف الأنبياء إلى جانب هؤلاء المستضعفين، لتخليصهم من سوء العذاب الذي يسلطه عليهم آل فرعون، لكي تستقيم مسيرة البشرية. وقال آل فرعون لموسى ما قاله المشركون لمحمد، واتهموه بالسحر، والاتهام بالسحر هو تسليم بالعجز، واعتراف بعظمة التأثير ولا يوصف بالسحر إلا من أتى بشيء خارق للعادات معجز لا يقدر البشر على مثله، وقال محمد للمشركين ما قاله موسى لآل فرعون قال لهم: إني رسول من رب العالمين، وجاءهم بالبينات وبسلطان مبين، وسخر فرعون من موسى كما سخر المشركون من محمد، قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر: 29]، وقال ساخرا: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً [غافر: 36 - 37]. وشخصية فرعون هي إحدى الشخصيات التي اعتمدت عليها القصة في القرآن، لأن دعوة موسى ومحمد واحدة، وما يلقاه «محمد» من قومه شبيه بما

قصة يوسف في القرآن:

لقيه موسى من آل فرعون، وانتهت قصة موسى وفرعون بانتصار الحق على الباطل، وأغرق الله آل فرعون في اليم وامتن الله على بني إسرائيل بما أسبغه عليهم من نعمة فضّلهم به على غيرهم، قال تعالى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة: 49]، ولا بد أن ينتصر «محمد» على قومه من المشركين كما انتصر موسى على آل فرعون، تحقيقا لقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 51 - 52]. قصة يوسف في القرآن: ومن أبرز القصص القرآني قصة يوسف، وهي قصة رائعة التصوير رفيعة المعنى، جميلة النظم، عظيمة الدلالات، عميقة الإشارات، تصف الطبائع البشرية، وتفضح أساليب الغدر والكيد. وأروع ما في قصة يوسف تلك الخاتمة العظيمة التي ختم الله بها القصة وتحمل في ثناياها أعظم الدلالات على أهداف القصة في القرآن، وأروع الدروس التي تبين عاقبة الأمم من قبلنا، ومن آمن منهم ومن كفر، من صدق بالأنبياء ومن جحد، قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 109 - 111]. وقصة يوسف كما حددتها الآيات الأولى من السورة تهدف إلى بيان أمرين اثنين: أولا: بيان نعمة الله على أنبيائه، وكيف يجتبيهم ويعلمهم من تأويل

الأحاديث ويتم نعمته عليهم، وقصة يوسف لا تختلف من حيث الدلالة عن قصة موسى وآل فرعون، وكما التقط آل فرعون الطفل من اليم ليكون لهم قرة عين فقد اشترى عزيز مصر يوسف بثمن بخس دراهم معدودات وقال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وتبرز العناية الإلهية في توجيه أحداث القصة ووقائعها والإمساك بزمام الشخصيات التي تنفذ ما أحكمته القدرة الإلهية من التمكين ليوسف في الأرض وتعليمه من تأويل الأحاديث .. ثانيا: بيان ما طبعت عليه النفس الإنسانية من استعداد للشر، وتمثل هذا الاستعداد فيما توقعه الأب عند ما سمع رؤيا يوسف في المنام، وأنه رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له فقال له أبوه، وقد توقع من أبنائه الآخرين إذا سمعوا بذلك أن يكيدوا له، قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف: 5]. وبدأت القصة القرآنية لحياة يوسف وإخوته بقوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ، وهذه هي العبرة من القصة أن تكون آية لغيرهم من الناس، ثم بدأت بعد ذلك بمقدمة يسيرة عن أصل المشكلة، إخوة متنافسون، شعور الإخوة بحب الأب لأحد أبنائه، الطبيعة البشرية .. وبسرعة يتخذ القرار. - اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً. - لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ... - وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ .. ووقف الأبناء أمام أبيهم معاتبين: - يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ .. - أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ .. وبدأ الخوف ينتاب الأب الصالح .. لماذا هذه العناية المفاجئة بيوسف، لماذا هذا الحب الذي ما عهده في أولاده .. وداخله الشك والريبة وخاف عليه .. ولا سبيل إلى إيقاف هذا الحكم الإلهي الذي يساق البشر إليه، وهم

عنه غافلون .. وفي العشاء .. والظلام يخيم والرهبة مسيطرة على النفوس .. وقف الأبناء أمام أبيهم يبكون .. - يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ. - وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ لتأكيد الرواية .. وأحس الأب الصالح بما جرى .. ولكن لا سبيل لديه لمعرفة الحقيقة .. ولا يملك إلا الصبر .. وهمس لسانه بكلمات قليلة: - بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً. - فَصَبْرٌ جَمِيلٌ. - وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ. ثلاث كلمات معبرة .. الشك في الرواية .. التمسك بالصبر .. الاستعانة بالله لمواجهة هذه النكبة .. ويبتدئ مسلسل الإعداد والتكوين .. وفقا لأحداث متتالية يقود بعضها البعض الآخر، في حلقات متكاملة .. - جاءت سيارة .. قال واردهم: - يا بُشْرى هذا غُلامٌ .. - وباعوه بثمن بخس .. قال الذي اشتراه لامرأته: - أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً .. وبدأت المحنة الجديدة .. - وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ .. - وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ .. - وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ ..

بلهجة المؤمن الذي مكن الله له في الأرض وعلمه تأويل الأحاديث وبإيمان من آتاه الله حكما وعلما قال: - مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ .. وهمت به .. وهم بها .. والهم هنا متعدد المعاني .. والأقرب والأوضح من الآية هو البطش .. في حالتي المدافعة والمغالبة، كل منهما يريد أن يهم بالآخر، هي تريد تنفيذ ما فكرت فيه .. وهو يريد أن يتخلص بالقوة، ولا سبيل لتفسير الهم بإرادة الفاحشة منه لأن سياق الآية أكد أن الهم المتبادل جاء بعد الرفض .. وفي تلك اللحظة رأى برهان ربه، الذي تولى أمره، وجعله من المخلصين .. وأسرع كل منهما للباب .. وفجأة ظهر السيد .. ورأى المشهد المثير، وقبل أن يسأل أو يستفسر أو يحكم أو يتهم أو يدين انفجرت المرأة لتحقق أمرين معا: تبرئة نفسها ... والكيد لذلك الذي أذل أنوثتها قالت بحدة: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم واستعملت كلمة «أهلك» لتحريض الزوج وإثارته، وحددت له العقوبة، السجن أو العذاب الأليم .. ودافع يوسف عن نفسه .. ولا خيار له .. - هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي .. - وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها .. فلما تأكد الزوج من براءة يوسف .. قال كلمة معبرة عن الإدانة: - إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ .. والتفت إلى كل من يوسف وامرأته قائلا: - يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا .. - وأنت وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ .. ولما انتشر الأمر وشاع .. وأخذ نسوة في المدينة يتحدثن عن امرأة العزيز التي تراود فتاها عن نفسه، قالوا:

- قَدْ شَغَفَها حُبًّا .. - إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .. وغضبت لما سمعت ما قيل عنها .. وأرادت أن تؤكد لهن لماذا شغفها حبا .. ويصف القرآن بعبارات موجزة ما فعلت تلك المرأة: - أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ .. - وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً .. - وَءاتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً .. - وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ .. فلما رأينه أكبرنه .. وقطعن أيديهن .. وبصوت واحد قلن: - حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً. - إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. هنا .. ارتاحت امرأة العزيز .. انتصرت .. ليست الوحيدة التي يمكن أن تضعف، ولماذا تخفي الحقيقة .. لماذا تكذب على نفسها .. لماذا تضعف .. هي امرأة العزيز ومن حقها أن تعيش سعيدة .. وليس من حق يوسف الذي أحبته أن يرفض طلبها، لن تسمح له بذلك .. لن تخجل بعد اليوم من حبها .. هي امرأة ومن حقها أن تحب .. وقالت بغضب وحدة لمن حولها من النسوة: - فذلكن الذي لمتنني فيه. - ولقد راودته عن نفسه فاستعصم .. نعم راودته .. ولا أخجل من هذا .. ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين .. ولا خيار له بعد ذلك .. وأطرق يوسف رأسه هنيهة .. ثم رفع رأسه إلى السماء معتصما بالله مستسلما لأمره ملتجئا إليه، كما يفعل العبد عند ما يشعر بعجزه .. وأخذ يدعو ..

- رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ .. - وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ .. ودخل السجن .. ربما كان ذلك رحمة به .. لكي تتوقف المحنة التي صبت عليه من امرأة العزيز .. ما زال كيدها يلاحقه .. لن تتركه أبدا ينعم بالراحة .. وفي السجن برز يوسف .. أنضجته المحنة .. وعلمته ما لم يكن يعلم .. واشتهرت معجزته التي أكرمه الله بها، آتاه الله حكما وعلما وعلمه من تأويل الأحاديث، وأخذ يحدث أصحابه في السجن بما علمه الله من تأويل الأحاديث ويدعو بالحكمة والحجة إلى الإيمان بالله وإلى نبذ الشرك والكفر، داعيا إلى عبادة الله واتباع ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب .. ووقف بين صاحبيه في السجن يقول لهما: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 39 - 40]. ومكث يوسف في السجن بضع سنين، وكاد أن ينسى، تلك شريعة الظلم والطغيان، وكيف يمكن لعزيز مصر أن يذكر ذلك الشاب الذي تعلقت به زوجته، وتحدث الناس بشغفها فيه .. كان عليه أن يمكث في الظلام لكي يطمئن ذلك العزيز إلى وفاء زوجته .. لكي تنساه .. وينسى الناس ما تحدثت النسوة به .. ودخل معه السجن فتيان من فتيان العزيز اتهما بالتآمر عليه: - قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا .. - وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه .. قال يوسف وقد علمه الله تأويل الأحاديث .. وذلك بفضل ما ترك من ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون، واتباعه ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

يا صاحبي السجن: - أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً. - وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ. وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان .. ومرت هذه الحادثة .. ونسي من هو ناج منهما يوسف، أنساه الشيطان ذكره. بعد بضع سنين .. في مجلس الملك .. وقد التف صحبه حوله وكان قلقا من منام: - يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ .. - إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ .. وأطرقت الوجوه حائرة لا تنبس ببنت شفة .. ماذا نجيب .. والملك يلح عليهم وهو قلق: ويكرر: أفتوني في رؤياي .. ويلتفت يمنة ويسرة .. فلا يسمع إلا صوتا هامسا يتردد في الأرجاء .. - أضغاث أحلام .. يا أيها الملك .. وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين .. وفجأة تقدم رجل .. يمشي بخطا ثابتة .. واثقا من نفسه قال باطمئنان: - أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ .. ونظر الجميع إليه بدهشة .. والكل يتساءل .. من أين لك علم التأويل، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين .. قال: - هناك في السجن يوسف .. أرسلوني إليه .. ما أتانا طعام رزقناه إلا نبأنا بتأويله قبل أن يأتينا .. ذلك مما علمه الله .. ووقف الرجل أمام يوسف خجلا معتذرا، وقد أنساه الشيطان ذكره أمام الملك .. قال بتحبب: - يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ [يوسف: 46].

قال يوسف: - تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف: 47 - 49]. سمع الملك تأويل الرؤيا، وأعجب بدقة التأويل وبصدقه ولا شك أنه تأكد من صدق ذلك التأويل، وعلم أن ذلك التأويل مما لم يعهده الناس، وأنه مما اختص الله به يوسف. وأسرع الملك مخاطبا أعوانه: - ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي .. فلما جاءه الرسول مبشرا بأمر الملك .. رفض يوسف أن يعود قبل أن تبرأ ساحته، وينصف بعد ظلم، ويعاد له اعتباره، وقال للرسول: - ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، ووقف الملك أمام النسوة يستفسرهن عن الحقيقة قائلا: - ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ .. أجابت النسوة بصوت واحد: - حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ .. وتقدمت امرأة العزيز مطأطئة رأسها بخجل وحياء، معترفة بالحقيقة، مؤكدة أنها لا يمكن أن تخونه بالغيب قائلة: - الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ .. - وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ .. ولما عرف الملك الحقيقة كاملة، وتأكد مما ألحقه بيوسف من ظلم، وما قاساه من كيد النساء، وما سمعه من ثناء عليه، قال من جديد مستعجلا عودته إليه:

- ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي .. ووقف يوسف أمام الملك عزيزا كريما رافع الرأس موفور الكرامة، قال له الملك: إنك اليوم لدينا مكين أمين .. وأجابه يوسف بثقة: - اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ .. وتسدل الستارة على هذا المشهد الرائع المعبر، ويبتدئ مشهد جديد، هو الأشد في التأثير وهو الأقوى في التعبير عن عظمة الحكمة الإلهية في القصة القرآنية، التي تشير في كل مشهد وفي كل موقف إلى تلك الحكمة، وتضع يدنا على عبر عظيمة الدلالة، لكي يتعلم جيل الخلف من جيل السلف، فالغد أمس يتجدد، والأمس غد يعاد، ويقف الإنسان أمام الأحداث مذهولا، لا يدري أن الدروس والعبر بين يديه، شاخصة حية .. ووقف يوسف بشموخ ورفعة بعد أن مكن الله له في الأرض يستقبل وفود المحتاجين من بلاد كنعان بعد أن أصابهم القحط وحل بهم الجوع يعطيهم الطعام والمال، ووقف إخوته أمامه، فعرفهم وهم له منكرون وقال لهم: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ، فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون. ومن جديد .. وقع حوار لطيف بين الأب وأبنائه: - يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. وأجابهم الأب بصوت هامس حزين، يدل على عمق الجرح العظيم ومدى تأثيره في نفسه. - هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .. ولما رأوا بضاعتهم ردت إليهم صاحوا بفرح:

- يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ .. وأجابهم الأب وقد أحيط به: - لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ .. فلما فعلوا أوصاهم أبوهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، ووقفوا من جديد بين يدي يوسف، وآوى إليه أخوه، وقال له: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ وجعل السقاية في رحل أخيه، ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون. وساد صمت رهيب .. أعقبه احتجاج وإنكار، قالوا: - تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ .. ولما استخرج صواع الملك من وعاء أخيه، عاودهم شعور الكراهية والحسد نحو يوسف .. قالوا: - إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ .. وفجأة تذكروا موثقهم مع أبيهم، سيشك في صدقهم، وخجلوا من أنفسهم، والتفتوا إلى يوسف، وهو يقهقه في أعماقه، يرى حيرتهم ويتتبع ملامح وجوههم، وهم يرددون: - يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. ورد عليهم بحزم: - مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ. ووقفوا من جديد أمام أبيهم: - يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ .. واستسلم الأب الصالح لأمر ربه .. والشك يراوده، وأخذت الدموع تسيل

من عينيه، وابيضت عيناه من الحزن .. وأخذ يردد: - فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ .. ولما ضاق صدرهم بما كان يردده الأب عن يوسف قال: - إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. وأمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه .. وألا ييأسوا من روح الله. ومن جديد عادوا إلى يوسف قائلين: - يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا. وأراد يوسف أن يكشف عن نفسه، فلقد أوشكت القصة على النهاية وأدت الغاية منها. - قال: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ .. - قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ. - قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا. - قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ. - قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. ونادى الأب الصالح لما اقتربت العير: - إني لأجد ريح يوسف .. فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف: 96 - 98]. ووقف الأب والإخوة أمام يوسف وقد رفع أبويه على العرش وخروا له سجدا، وأخذ يوسف يخاطب أباه:

الحوار في القصة القرآنية:

يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف: 100]. - رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101]. الحوار في القصة القرآنية: يعتبر الحوار عنصرا أساسيا في القصة القرآنية، ويجري الحوار بين شخصيات القصة معبرا عن المعنى المراد مشيرا إلى بعض ما ترمز إليه القصة من أهداف، والحوار يبعث الحياة في القصة القرآنية ويجعلها أكثر تعبيرا عن المعنى المقصود، ولا يمكن لأسلوب العرض التقريري أن يغني عن الحوار في بعض المواقف، فهو أداة التعبير المباشر عن الشخصية، والحوار يوضح ملامح الشخصية الإنسانية ويعبر عن أسلوبها وطبيعتها ويكشف خفايا تلك الشخصية الإنسانية من حيث الاستعدادات والانفعالات ويأتي الحوار في إطار السرد التاريخي للقصة، ويبرز هذا في قصة يوسف عند ما تحدث القرآن عن المرأة وراودته التي هو في بيتها وقالت: هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وهناك علاقة بين الحوار والشخصية لأن لكل شخصية أسلوبها المعبر، فالملك يعبر بأسلوب يعبر عن شخصيته ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي، إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ والأمر واضح في خطاب الملوك، وفيه شدة ويلاحظ في الحوار أسلوب الرجاء: يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا، وأسلوب النصح في خطاب الأب لأولاده يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وليس هناك كلمة أبلغ في التعبير عن الاطمئنان وإزالة الخوف من كلمة يوسف لأخيه إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ، وتأتي كلمة امرأة العزيز حاسمة صادقة: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ. والحوار متعدد الأساليب، فهناك من الحوار ما يفيد معنى التهديد والوعيد، وهناك ما يفيد معنى الازدراء والاستخفاف وهناك ما يفيد معنى التلقين والتقرير،

خصائص الحوار في القصة القرآنية:

وهناك ما يفيد معنى النصح أو الاعتراف .. والقصة في سورة يوسف غنية بدلالاتها ومعانيها وألفاظها ومفرداتها، والحوار فيها مؤثر ومعبر وبليغ، يتميز بقوة الألفاظ وبجمالها وبقدرتها التعبيرية عن الموقف، حتى أن القارئ يشعر كأنه يعيش الحدث ويتفاعل معه ويتأثر به، وكأنه يراه أمامه نابضا بالحياة .. ويتميز الأنبياء في الحوار بالرفق والنصح والتوجيه وسعة الصدر، لأنهم أصحاب رسالة، ومن الطبيعي أن يكون حوارهم معبرا عن قيم أخلاقية رفيعة وداعيا إلى عبادة الله والاحتكام إليه والاعتماد عليه، وتبرز معجزاتهم الدالة على صدق رسالتهم من خلال ما يمثله الحوار وما يعبر عنه من قدرات خاصة، كتأويل الأحاديث بالنسبة ليوسف، ومعجزات واضحة بالنسبة لموسى .. والحوار في القرآن متعدد الجوانب، فقد يخاطب الإنسان نفسه ويحاورها في نوع من أنواع التعبير عما يجيش في النفس من خواطر، لتفسير بعض المواقف، وأحيانا يجري الحوار بين الله والملائكة أو بين الله والإنسان، كقوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30]، وأحيانا يجري الحوار بين الملائكة والإنسان أو بين الإنسان والشياطين أو بين الإنسان والحيوان. وغاية الحوار في كل ذلك تقريب الأفكار وتوضيح المعاني وإغناء السامع بالحجة وتمكينه من الوصول إلى الحقيقة، والإجابة عن طريق الحوار إلى ما يجول في ذهنه من تساؤلات وشكوك، ويتضمن الحوار في معظم الأحيان ما يراد أن يصل إلى السامع من إقرار مبادئ الإيمان، ومن انتصار الخير على الشر، ومن الاعتراف بنعمة الله وشكره والتخويف من عذابه .. خصائص الحوار في القصة القرآنية: وأهم ما يتميز به الحوار في القصة القرآنية ما يلي: أولا: الإقناع العقلي، وهذه هي خصوصية الحوار، فالحوار وسيلة للإقناع،

وربما يعتبر من أهم وسائل الإقناع، ولهذا اتجه الحوار إلى مخاطبة العقول وطرح التساؤلات العقلية التي يمكن أن يثيرها العقل، وبخاصة في القضايا التي تتصل بالعقيدة والإيمان، وإذا لم يحقق الحوار في بعض المواطن أغراضه بطريقة مباشرة فإنه على الأقل يساعد العقل على تلمس بعض الحقائق الإيمانية التي لا تدرك إلا بالذوق الإيماني وصفاء النفس وطهارة النفس ونقاء الفطرة، والمنهج العقلي في القرآن واضح وبين، ويخاطب القرآن العقل البشري، وينيط به مهمة التفسير والفهم، ويجعل المخاطب الموثوق بحسن إدراكه وعمق فهمه والعقول السليمة تستجيب لمنهج القرآن في الحوار، لأن القرآن الذي يخاطب العقول لا يمكن أن يقرر حقائق منافية للعقول والقصة القرآنية هي إحدى أدوات القرآن للإقناع والتأثير. ثانيا: استخدام اللغة لإحداث التأثير النفسي، ومفردات القرآن متميزة في قوة تأثيرها، وفي دقة تعبيرها، وفي إحداث التأثير المطلوب منها، ولو استبدلت لفظة قرآنية بأخرى لضعف التأثير واختل المعنى، وترهلت العبارة، ومن اليسير علينا أن ندرك عند قراءتنا للقرآن أثر اللفظة القرآنية في إحداث التأثير النفسي ولو حاولنا أن نعيد كتابة قصة يوسف، أو استبدال لفظة بأخرى من ألفاظ الحوار لفقدت هذه القصة كل تأثير، ولكانت مملة، لأن القصة معروفة، واللفظة القرآنية هي أداة التعبير المؤثر، حتى أن السامع عند ما يسمعها يظن أنه يسمعها لأول مرة، ويتأثر بها، واللفظة المفردة ليست لها قيمة متميزة إلا في إطار المكان الذي جاءت فيه من النظم والتركيب، ولو تتبعنا بعض الكلمات القرآنية لاكتشفنا عظمة النظم المؤثر. - وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ .. - وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ .. - وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ .. - قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ..

- وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ .. - قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ. - يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ .. - وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ. - قَدْ شَغَفَها حُبًّا .. - وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ. - وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ .. - وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ. إن كل كلمة مؤثرة، ولا تغني عنها لفظة أخرى، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز البياني، والقصة القرآنية في شخصيتها وفي الحوار الذي يجري على لسان تلك الشخصيات هي أداة من أدوات الإقناع ولا تختلف من حيث الأثر عن الآيات الأخرى التي تقرر فيها مبادئ العقيدة بطريقة مباشرة .. ونلاحظ أن شخصيات القصة من خلال الحوار تنطق بما ينسجم مع دعوة الأنبياء في هداية البشر وإرشادهم إلى طريق الخير وتدعيم قيم الفضيلة في المجتمع الإنساني ... ويتمثل هذا في قول يوسف لرفيقيه في السجن: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [يوسف: 39 - 40]. وقول يعقوب لبنيه: وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف: 67]. ويحرص القرآن في مجال القصة القرآنية إلى أن يدعو أثناء عرض القصة أو

روعة الوصف في القصة القرآنية:

بعد الانتهاء منها إلى استخراج العبرة منها، وأحيانا يبتدئ القصة بذكر العبرة منها. ويؤكد هذا ما جاء في بداية قصة يوسف: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف: 7]، وهذا بيان وتوضيح لأسباب عرض القصة في القرآن، فالقصة ليست مرادة، ويراد بها بيان الآيات التي تؤكد نبوة الأنبياء، وأن الله تعالى أعدهم لأمر وتكفل بأمرهم وجاء هذا في قوله تعالى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21]، وجاء هذا المعنى واضحا في قصة موسى وفرعون في سورة القصص في قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 5 - 6]. وكثيرا ما تأتي الآيات في القصة موضحة العلة من إنزال العلة في الظالمين، كما في قوله تعالى في حق فرعون: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [القصص: 39 - 40]. وهذا يؤكد خصوصيات القصة القرآنية من حيث الموضوع ومن حيث الأسلوب ومن حيث الغاية والهدف، وأهم خصوصياتها تداخل القصة بالحكم والعبر المستفادة منها، حيثما دعت الحاجة إلى ذلك في بداية القصة أو في نهايتها، أو على لسان شخصيات القصة أثناء الحوار. ونخلص من هذا أن القصة في القرآن هي إحدى أبرز معاني الإعجاز، من حيث إخبارها عن الأمم السابقة مما لم يكن معلوما أو من حيث وضوح الالتزام بالأهداف القرآنية، أو من حيث الأسلوب البليغ المؤثر في إحداث الغاية المطلوبة من عرض القصة ... روعة الوصف في القصة القرآنية: لو تتبعنا قصة مريم في القرآن لوجدنا أروع نموذج لدقة الوصف، وتصوير

الحالة النفسية، واختيار المفردات اللغوية المعبرة وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. - قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. - قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا. - قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. - قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [مريم: 16 - 21]. ثم يبتدئ الوصف الرائع لمريم فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا، وكلمة الانتباذ تعبر عن الوضع النفسي لمريم وهي تعيش حالة النفور من المجتمع ونفور المجتمع منها، لأنها تشعر أنها فعلت شيئا سيكون منكرا، وهي لا تدري ماذا تفعل، وكيف يمكن أن تدافع عن نفسها، ولما اشتد عليها ألم الوضع ودفعها إلى جذع الشجرة قالت والألم الجسدي والنفسي يكاد يخنقها: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا. وهناك تبرز العناية الإلهية، صوت خفي يناديها: أَلَّا تَحْزَنِي .. - وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. - فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم: 26]. وجاءت به إلى قومها تحمله .. وارتفعت الأصواب منكرة معنفة ساخطة: - يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. - يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا .. ما أقسى ما تسمعين يا مريم .. من اتهام .. بالسوء والبغي ... لم تتكلم

مريم .. لقد نذرت للرحمن صوما .. أشارت إليه .. قالوا بسخرية: كيف نكلم من كان في المهد صبيّا؟ .. فجأة .. ارتفع صوت الصبي من المهد .. قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 30 - 33]. ثم جاء التوجيه القرآني ... ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم: 35]. ونلاحظ أن الوصف القرآني معبر، فالكلمة دالة ناطقة حية .. مواقف .. وصور .. وحالات انفعال .. وحوار .. كل ذلك يتم في آيات قليلة، كل كلمة معبرة .. لوحات متتابعة ... تعبر بالصورة الجميلة ... عن الحد ... والصورة جاءت في لفظة ... ... وفي قصة جديدة .. يقف إبراهيم أمام أبيه ... باستعطاف ورجاء .. - إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً .. - يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. - يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. - يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا [مريم: 42 - 45]. وانتهى الحوار بجواب أبيه، كان قاسيا كل القسوة ... قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (¬1). ¬

_ (¬1) سورة مريم، الآية: 47.

دروس من القصة القرآنية:

دروس من القصة القرآنية: وفي كل القصص تبرز معاني إنسانية عظيمة الأهمية في حياة البشر، فهناك الصراع بين الحق والباطل، وهناك عواطف البشر تطفو على السطح متحدية قيم المجتمع مؤكدة أن الإنسان لا يملك ذاته وهناك الظلم الطاغي الذي سلطه الطغاة على المستضعفين. ويمكننا أن نستنتج من كل قصة مواقف إنسانية، ففي قصة موسى وفرعون يتجسد الطغيان في أقسى صورة، وفرعون هو رمز لهذا الطغيان، فهو يستعبد الناس ويظلمهم، ويقتل من شاء، ولا تجد امرأة ضعيفة طريقا لإنقاذ وليدها الصغير إلا أن تلقيه في البحر وهذا أقسى حالات اليأس والقنوط والإذلال، ويأبى الله إلا أن ينتصر الحق وتتدخل القدرة الإلهية فتتعهد ذلك الطفل، وتجعله الأمل المرتجى لخلاص بني إسرائيل، وتبرز المعجزة كما حكاها القرآن، يكبر موسى، وتلتقطه امرأة فرعون لكي يكون قرة عين لها ولزوجها فإذا به الخصم العنيد الذي يحمل اللواء لتحرير الإنسان من الظلم، والعاقبة في كل المعارك للحق والعدل، ومهما طال ليل العبودية فالفجر هو الوليد المنتظر بعد كل ظلام، ويحمل موسى أمانة التكليف ويواجه فرعون وقومه ويتحداهم في عقر دارهم، ويطارد استقرارهم وأمنهم، وينغص عليهم عيشهم، ويقع الصدام ولا بد منه، ويقع التنكيل برموز الحق ودعاة الحرية، وهذا لا بد منه أيضا، وفي النهاية، ومهما طال الصراع، فالمواطن المظلوم سيقاوم من ظلمه إلى أن يسترد حقه ويمارس حريته، وعظمة الرسل والأنبياء أنهم كانوا دائما إلى جانب الحق يدافعون عن حرية الإنسان وكرامته وينتصرون لمبادئ الفضيلة ويقاومون الكفر والشرك، ويعيدون المسيرة الإنسانية لطريقها الصحيح، كلما ضلت طريقها. وفي قصة يوسف تبرز النفس الإنسانية عارية مكشوفة، تحت تأثير الغرائز والشهوات، وليس أقسى على الإنسان من تحكم غرائزه والغريزة هي العدو الأول للإنسان، إذا تحكمت واستبدت، لأن الغريزة قوة عمياء متسلطة طاغية تتحكم في السلوك الإنساني وتقود الإنسان إلى أسوأ أنواع السلوك، فلا يتعقبه ضمير ولا

يحاسبه رادع من خلق، ويقف إخوة يوسف في مواجهة أخيهم الصغير يوسف الذي حظي بسبب جماله وذكائه وفطنته بمحبة والده ورعايته .. وتتحرك النفس الأمارة بالسوء غاضبة مختنقة بمشاعر الحسد متطلعة للانتقام، باحثة عن سبب لتحقيق هذه الغاية، والنفس التي لم تبلغ كمالها الخلقي تظل عرضة لانفعالات خطيرة مدمرة لكل القيم الأخلاقية، وينقض الإخوة على أخيهم الصغير، فيوسعونه إذلالا، فينتصر الأب لولده الصغير، فتزداد مشاعر الغضب، وتستبد تلك المشاعر بتفكير الإنسان، ويفكر بعضهم بقتل ذلك الأخ، وينصرف الجميع إلى إلقائه في غيابات جب مهجور في طريق بعيد، ويحزن الأب ويتألم، ولا يملك إلا أن يصبر الصبر الجميل. وتقود العناية الإلهية التي احتضنت هذا الطفل مسيرته، وتطوقه بما يضمن له السلامة، ويجد نفسه في رحاب قصر عظيم السلطان وفي قبضة امرأة أحكمت طوقها حوله، أحبته وتعلقت به وشغفها حبا وراودته عن نفسه فاستعصم، وجرح كبرياءها وأذل أنوثتها وكيف يمكن لمثله أن يرفض هذا الشرف العظيم، وأرادت أن تذله كما أذلها وأن تجرحه كما جرحها، وأن تقول للناس جميعا بأنها الأقوى والأقدر، فرمته في السجن غلاما منسيّا، وكان يمكن أن يظل في السجن ولا يذكره أحد، وأعطاه الله سلاح التأويل، وأمده بمعجزة، وسلط على مصر قحطا، وخرج من السجن بعد أن شهدت له تلك المرأة بحسن السلوك وأصبح صاحب سلطة ونفوذ، ووقف إخوته بين يديه يطلبون منه الطعام ويخرون بين يديه سجدا، يلتمسون منه العفو والصفح والمغفرة ... وهكذا تمضي القصة في القرآن، في أداء دورها في الإقناع والتأثير، مخاطبة الإنسان، مستلهمة العبر من التاريخ، مستشهدة بمواقف مشهودة ومعلومة، مؤكدة دور الأنبياء والرسل في إصلاح المجتمع ومقاومة رموز الشر فيه، داعية إلى الاعتبار من التاريخ معززة القيم الإنسانية مبشرة الإنسان بغد ينتصر فيه الخير على الشر والعدل على الظلم ..

فهرس المحتويات الإهداء 5 مقدمة 7 الفصول الرئيسية 13 الفصل الأول: القرآن الكريم 15 الفصل الثاني: الوحي والقرآن 27 الفصل الثالث: نشأة علوم القرآن 46 الفصل الرابع: التفسير والتأويل 67 الفصل الخامس: ترجمة القرآن 80 الفصل السادس: المكي والمدني من القرآن الكريم 91 الفصل السابع: جمع القرآن وكتابته 105 الفصل الثامن: فواتح السور القرآنية وخواتمها 120 الفصل التاسع: ترتيب السور والآيات 132 الفصل العاشر: علم الناسخ والمنسوخ 144 الفصل الحادي عشر: رسم القرآن 155 الفصل الثاني عشر: علم المحكم والمتشابه 178 الفصل الثالث عشر: القراءات القرآنية 186 الفصل الرابع عشر: الوقف والابتداء 215 الفصل الخامس عشر: إعجاز القرآن 219 الفصل السادس عشر: القصة في القرآن 253

§1/1