المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي

رمضان عبد التواب

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: اللغة أعظم إنجاز بشري على ظهر الأرض، ولولا اللغة ما قامت للإنسان حضارة ولا نشأت مدنية ولقد وقر في أذهان الناس منذ القديم تقديس اللغة وإعظام شأنها، وبلغت القداسة عند الشعوب البدائية، أن ارتبطت اللغة عندهم بتأثير اللفظ وسحر الكلمة، واختلط الاسم بالمسمى، في عقيدة هذه الأقوام. وقد أدرك العلماء في العصر الحديث، علاقة اللغة بالمجتمع الذي تعيش فيه، ومدى تأثرها وتأثيرها عليه، كما عرفوا الصلة القائمة بين اللغة والنفس الإنسانية، وتلونها بألوان الانفعالات والعواطف الوجدانية، لدى بني البشر. ولم يأل علماء اللغة جهدا في الوقوف على أسباب الصراع اللغوي بين اللغات المتجاورة ومظاهره ونتائجه، وولادة لغة واندثار أخرى، والعلاقة بين اللغات واللهجات. وأفاد هؤلاء العلماء من معطيات العلوم الأخرى في الدرس اللغوي، فاستخدموا المعامل في الوقوف على كنه الصوت اللغوي ومميزاته، واستطاعوا أن يصفوا بدقة الفرق بين صوت وصوت، ويميزوا الوحدات الصوتية، وتنوعاتها المختلفة في هذه اللغة أو تلك. كما استخدم العلماء طرائق علم الجغرافيا، في وضع الظواهر اللغوية على خرائط تبين حالها، وتوضح توزيعها بين المتحدثين بهذه اللهجة أو تلك. شأنها في ذلك شأن الظواهر الطبيعية والجوية والاقتصادية، في خرائطها الدالة عليها.

وقد تعددت مناهج البحث اللغوي عند علماء اللغة، وتمخضت بحوثهم عن ثلاثة مناهج مختلفة: المنهج الوصفي، والمنهج التاريخي، والمنهج المقارن. ولكل منهج من هذه المناهج أنصار يدعون له، ويغضون من شأن المناهج الأخرى، ولكننا مع ذلك نرى أن كل منهج منها يؤدي غرضا لا يؤديه غيره، وإن مال الميزان في العصر الحديث مع المنهج الوصفي، وتعددت طرائقه وتشعبت مسالكه. ولكن هذه اللغة التي جند لها العلماء كل هذا الحشد الهائل من الدراسات والبحوث، لم تسفر بعد عن طريقة نشأتها عند الإنسان الأول، رغم كثرة النظريات والمذاهب اللغوية، حول هذه النشأة. وهذا الكتاب مدخل إلى كل هذه القضايا اللغوية، توخيت فيه الإحاطة والإيجاز، ولم أغفل جهد السابقين الأوائل من علمائنا العرب، أو أسرف في النقل عن المحدثين من علماء الغرب. وقد أوليت فيه تطبيقات المنهج المقارن عناية خاصة. وفي النية أن تكون لتطبيقات المناهج الأخرى، مساحة في هذا الكتاب في طبعة أخرى بعون الله تعالى. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. د. رمضان عبد التواب

القسم الأول: المدخل إلى علم اللغة

القسم الأول: المدخل إلى علم اللغة مدخل ... بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد: علم اللغة، هو العلم الذي يبحث في اللغة، ويتخذها موضوعا له، فيدرسها من النواحي الوصفية، والتاريخية، والمقارنة، كما يدرس العلاقات الكائنة بين اللغات المختلفة، أو بين مجموعة من هذه اللغات، ويدرس وظائف اللغة وأساليبها المتعددة، وعلاقتها بالنظم الاجتماعية المختلفة. وموضوع علم اللغة، هو كل النشاط للإنسان في الماضي والحاضر، يستوي في هذا الإنساني البدائي والمتحضر، واللغات الحية والميتة، والقديمة والحديثة، دون اعتبار لصحة أو لحن، أو جودة أو رداءة، أو غير ذلك1. واللغة التي يبحث فيها هذا العلم، ليست هي اللغة العربية أو الإنجليزية أو الألمانية، وإنما هي اللغة في ذاتها، ومن أجل ذاتها2، هي "اللغة" التي تظهر وتتحقق، في أشكال لغات أخرى كثيرة ولهجات متعددة، وصور مختلفة من صور "الكلام" الإنساني، فمع أن اللغة العربية، تختلف عن الإنجليزية، وهذه تختلف عن الألمانية، فإن هناك أصولا وخصائص جوهرية، تجمع ما بين هذه اللغات، كما تجمع بينها وبين سائر اللغات، وصور الكلام الإنساني، وهو أن كلا منها لغة، أو نظام اجتماعي معين، تتكلمه جماعة معينة، بعد أن تتلقاه عن المجتمع، وتحقق به وظائف معينة، ينتقل من جيل إلى جيل، فيمر بأطوار من التطور، متأثرا في ذلك بسائر النظم الاجتماعية، والسياسية، الاقتصادية، والدينية وغير ذلك.

_ 1 انظر: F De Saussure Grundfragen S 7 2 انظر: علم اللغة للدكتور محمود السعران 51.

وهكذا نرى أن علم اللغة، يستقى مادته من النظر في اللغات على اختلافها، وهو يحاول أن يصل إلى فهم الحقائق والخصائص، التي تجمع اللغات الإنسانية كلها، في إطار واحد. وتتحدد لذلك وظائف علم اللغة فيما يلي1: 1- وصف ما وصل إلينا من اللغات البشرية، والتأريخ لها، وتقسيم اللغات إلى فصائل وعائلات، وإعادة صوغ اللغات الأم، لكل هذه الفصائل، على قدر الإمكان. 2- البحث عن القوى المؤثرة في حياة اللغات في كل مكان، واكتشاف القوانين العامة، التي تفسر الظواهر اللغوية الخاصة بكل لغة. 3- تحديد مجالات علم اللغة، والبحث عن تعريف مناسب لهذا العلم. وكان لا بد لكي تكتمل مباحث هذا العلم، أن يسبق بدراسات تفصيلية لمعظم لغات البشر، وقد مهدت تلك الدراسات المستقلة لكل لغة على حدة، للبحث في تاريخ اللغات والمقارنة بينها، فكثر التفكير في نشأة اللغة، وفي تطورها، وفي العائلات اللغوية، وغير ذلك. نعم إن تلك الدراسات السابقة للغات البشر، أو لأشهرها، يعاد النظر فيها الآن مرة أخرى. والذي يدعو إلى إعادة النظر فيها، هو نتائج "علم اللغة" نفسه؛ لأن بعض تلك الدراسات، قام على أسس غير سليمة، أو استعان بوسائل قاصرة، ولكن تلك الدراسات، مع ما فيها من

_ 1 انظر: F De Saussure Grundfragen K 7

قصور، كانت خطوة أساسية، لظهور "علم اللغة"، ووصوله إلى ما وصل إليه الآن. ومن واجبات اللغوي أن يدرس اللغة كما هي، فليس له أن يغير من طبيعتها، شأنه في ذلك شأن الباحث في أي علم من العلوم، فليس له أن يقتصر في بحثه على جوانب من اللغة مستحسنا إياها، وينحي جوانب أخرى، استهجانا لها، أو استخفافا بها، أو لغرض في نفسه، أو لأي سبب آخر من الأسباب. ولا ترمي دراسة علم اللغة إلى أغراض عملية، فالباحث اللغوي يدرس اللغة لغرض الدراسة نفسها، فهو يدرسها دراسة موضوعية، تستهدف الكشف عن حقيقتها، فليس من موضوع دراسته، أن يحقق أغراضا تربوية مثلا، أو أية أغراض عملية أخرى، فهو لا يدرسها بغرض الارتقاء بها مثلا، أو تصحيح جوانب منها، أو القضاء على عوج فيها، فإن عمله يجب أن يقتصر على وصفها وتحليلها، بطريقة موضوعية.

مجالات علم اللغة: يبحث علم اللغة في المجالات التالية: 1- دراسة الأصوات التي تتألف منها اللغة، ويتناول ذلك تشريح الجهاز الصوتي لدى الإنسان، ومعرفة إمكانات النطق المختلفة الكامنة فيه، ووصف أماكن النطق ومخارج الأصوات في هذا الجهاز، وتقسيم الأصوات الإنسانية إلى مجموعات، تظهر في كل مجموعة منها خصائص معينة، ودراسة المقاطع الصوتية، والنبر والتنغيم في الكلام، والبحث عن القوانين الصوتية التي تكمن وراء إبدال الأصوات وتغيرها. كل ذلك يتناوله فرع خاص من فروع علم اللغة، وهو "علم الأصوات". 2- دراسة البنية، أو البحث في القواعد المتصلة بالصيغ، واشتقاق الكلمات وتصريفها، وتغيير أبنية الألفاظ للدلالة على المعاني المختلفة، وهو ما يدرس عند العرب باسم "علم الصرف". 3- دراسة نظام الجملة، من حيث ترتيب أجزائها، وأثر كل جزء منها في الآخر، وعلاقة هذه الأجزاء بعضها ببعض، وطريقة ربطها، وبعض هذه البحوث تدرس عند العرب في "علم النحو". 4- دراسة دلالة الألفاظ، أو معاني المفردات، والعلاقة بين هذه الدلالات والمعاني المختلفة، والحقيقي منها والمجازي، والتطور الدلالي وعوامله ونتائجه، ونشوء الترادف والاشتراك اللفظي والأضداد، وغير ذلك. وكذلك دراسة حياة الكلمة عبر العصور اللغوية المختلفة، وما ينتابها من تغير في الصوت والدلالة، وما يطرأ عليها من أسباب الرقي والانحطاط، وعوامل البلي والاندثار.

5- البحث في نشأة اللغة الإنسانية. وقد ظهرت في ذلك عدة نظريات مختلفة، تحاول أن تفسر لنا، كيف تكلم الإنسان الأول هذه اللغة، التي تطورت على مر الأزمان، حتى وصلت إلينا في صورها المختلفة الراهنة. وقد نادى بعض اللغويين المحدثين بإخراج موضوع نشأة اللغة، من موضوعات علم اللغة، أمثال "فندريس" Vendryes الذي يرى "أن غالبية أولئك الذين كتبوا عن أصل الكلام، منذ مائة عام، يهيمون في تيه من الضلال.. وغلطتهم الأساسية، أنهم يواجهون هذه المسألة، من الناحية اللغوية، كما لو كان أصل الكلام، يختلط بأصل اللغات"1. فإن اللغويين يدرسون اللغات، التي تتكلم والتي تكتب، ويتتبعون تاريخها، بمساعدة أقدم الوثائق التي تم اكتشافها، ولكنهم مهما أوغلوا في هذا التاريخ فإنهم لا يصلون إلى لغات قد تطورت، وتركت وراءها تاريخا ضخما، لا نعرف عنه شيئا. أما فكرة الوصول إلى إعادة بناء رطانة بدائية، بمقارنة لغات موجودة بالفعل، فسراب خداع!. 6- علاقة اللغة بالمجتمع الإنساني والنفس البشرية. وهنا يتنازع علم اللغة علمان آخران، هما: علم الاجتماع، وعلم النفس، فهناك بحوث ترمي إلى بيان العلاقة بين اللغة والإنسان في حياته الاجتماعية، وتبين أثر المجتمع وحضاراته ونظمه، وتاريخه وتركيبه وبيئته الجغرافية، في مختلف الظواهر اللغوية، كما أن هناك بحوثا أخرى نفسية، تدرس العلاقة بين الظواهر اللغوية، والظواهر النفسية، بمختلف أنواعها، من تفكير وخيال، وتذكر واسترجاع وعاطفة، وغير ذلك.

_ 1 اللغة لفندريس 29.

7- وآخر مجالات هذا العلم، هو البحث في حياة اللغة، وتطورها في نواحي: الأصوات، والبنية، والدلالة، والتركيب وغير ذلك. وكذلك البحث في صراع اللغات، وانقسامها إلى لهجات، وصراع اللهجات بعضها مع بعض، وتكون اللغات المشتركة، وغير ذلك من الأمور.

الفصل الأول: الدراسة الصوتية

الفصل الأول: الدراسة الصوتية مدخل ... الفصل الأول: الدراسة الصوتية مقدمة: الوحدة الكبرى لأية مجموعة كلامية، هي الجملة، مثل قولنا: "محمد في البيت" مثلا. وتتركب الجملة من وحدات أصغر منها، هي ما يطلق عليها اسم الكلمات، مثل: "محمد" و"في" و"البيت" في الجملة السابقة، كما تتركب الكلمات هي أيضا من وحدات أصغر منها، هي ما يطلق عليه اسم: الأصوات، مثل ما نراه في كلمة "محمد" من صوت الميم، ثم صوت الضمة، ثم صوت الحاء، ثم صوت الفتحة، ثم صوت الميم، ثم صوت الفتحة، ثم صوت الدال، على الترتيب. وهذه الوحدات الأخيرة، هي موضوع "علم الأصوات" الذي يدرس الأصوات اللغوية، من ناحية وصف مخارجها، وكيفية حدوثها، وصفاتها المختلفة، التي يتميز بها صوت عن صوت، كما يدرس القوانين التي تخضع لها هذه الأصوات في تأثرها بعضها ببعض، عند تركبها في الكلمات أو الجمل. فالصوت الإنساني الحي، هو موضوع علم الأصوات اللغوية. ولم يكن هذا العلم وليد العصر الحاضر. فقد شغل اللغويون من قديم1، بالنظر في الأصوات اللغوية، غير أن ما وصلوا إليه قديما، لم يكن قائما على أساس علمي ثابت، ولهذا فإنه لا يبلغ من الدقة والإتقان والضبط، ما وصل إليه المحدثون من علماء اللغات.

_ 1 انظر تفصيل القول في الدراسات الصوتية الأولى، عند اليونان والرومان والهنود، في كتاب: علم اللغة للسعران 92-96.

وإذا نظرنا إلى جهود علماء العربية في هذا الشأن، نجد أن أصوات اللغة، كانت من الأمور، التي جذبت انتباه علماء العرب الأوائل، فعملوا في جهد لا يعرف الملل، على إتقان النطق بها، وعلى الأخص عندما انتشر الإسلام في بقاع الأرض المختلفة، وطرقت أسماع العرب أصوات اللغات الأخرى، فخشي العلماء أن تنحرف أصوات العربية، بتأثرها بأصوات تلك اللغات، فلم يكد القرن الثاني الهجري يبدأ، حتى قام بين علماء العرب، من يصف الأصوات العربية، معتمدا على التجربة باللسان والأذن، لا على المعامل والأجهزة؛ إذ لم تكن قد عرفت بعد، في ذلك العصر. واشتهر من بين العلماء في ذلك العصر الأول، الخليل بن أحمد الفراهيدي "توفي سنة 175هـ" الذي عني كثيرا بدراسة الأصوات، وموسيقى اللغة، وقد ساعده سمعه المرهف الحساس على التفوق في هذه الناحية، فوجه عنايته لأوزان الشعر وإيقاعه، واستخرج لنا بحور الشعر وقوافيه أو علم العروض، الذي لا يعدو أن يكون دراسة صوتية، لموسيقى الشعر، واتجه كذلك إلى الألحان والأنغام، وألف في الإيقاع والنغم. وأخيرا حين بدا له وضع معجم لألفاظ اللغة، رتبه على حسب مخارج الأصوات، وهذا المعجم هو كتاب: "العين". ومهما يكن القول في شأن هذا المعجم من أنه تضمن مسائل لغوية، نقدها علماء العربية، بعد ظهوره، وأنكروا نسبتها إلى الخليل، ونزهوه عن الوقوع في أمثالها، وذهب بعضهم لهذا إلى نفي نسبة هذا الكتاب إليه فالذي لا شك فيه أن الخليل، قد وضع هيكل هذا المعجم، ورسم منهجه ونظامه، وأن ما جاء فيه مما أنكره هؤلاء العلماء، إنما أقحم في ثناياه بعد الخليل. رأى الخليل بن أحمد، أن الترتيب المألوف لحروف الهجاء العربية، وهي: أب ت ث ج ح خ ... إلخ، إنما استمده النساخ والكتبة من

الترتيب السامي القديم، الذي اشتهر عند الأمم السامية القديمة، كالفينيقيين والعبريين، وهو ترتيب أبجدهوز ... إلخ، وأن النساخ قد وضعوا الرموز المتشابهة الصورة، بعضها بجوار بعض، ومن هنا جاء الترتيب الهجائي المألوف لنا. كما وجد الخليل أن هذا الترتيب الهجائي المألوف، ليس قائما على أساس علمي، فآثر أن يختار ترتيبا آخر، أساسه مخارج الأصوات، ورتب معجمه العين" على ذلك، فبدأ بأصوات الحلق، وجعلها أقساما، ثم أصوات أقصى الفم، ثم أوسط الفم، ثم أدنى الفم، ثم الشفتين، فجاء ترتيبه للأصوات اللغوية في العربية، على النحو التالي1: ع ح هـ خ غ/ ق ك/ ج ش ض/ ص س ز/ ط د ت/ ظ ذ ث/ ر ل ن/ ف ب م/ وا ي. وكان الخليل بن أحمد أسبق من ذاق الحروف، ليتعرف مخارجها، يقول عنه تلميذه الليث بن المظفر: "وإنما كان ذواقه إياها، أنه كان يفتح فاه بالألف، ثم يظهر الحرف، نحو: أب، أت، أح، أع، أغ، فوجد العين أدخل الحروف في الحلق، فجعلها أول الكتاب"2. وهذا معناه تجربة النطق بالصوت ساكنا، لئلا يختلط بغيره، ويلتبس على الناطق معرفة كيفية صدوره ومخرجه الدقيق. وهذه الطريقة تقرب مما يدعو إليه المحدثون، من علماء الأصوات. وجاء "سيبويه" تلميذ الخليل بن أحمد، فخصص للدراسة الصوتية فصولا، في كتابه، "الكتاب"، فذكر عدد الحروف العربية، ومخارجها،

_ 1 انظر كتاب العين للخليل بن أحمد 1/ 53، 1/ 65. 2 العين للخليل بن أحمد 1/ 52.

ومهموسها ومجهورها وأحوال مجهورها ومهموسها، واختلافها، وذلك في باب عقده للإدغام، وقال في آخره: "وإنما وصفت لك في حروف المعجم بهذه الصفات، لتعرف ما يحسن فيه الإدغام، وما يجوز فيه، وما لا يحسن فيه ذلك، وما تبدله استثقالا كما تدغم، وما تخفيه وهو بزنة المتحرك"1. وقد رتب سيبويه الأصوات العربية، حسب مخارجها على النحو التالي مخالفا في بعضه لترتيب الخليل: ء اهـ ع غ خ/ ق ك/ ج ش ي ض/ ل ر ن/ ط د ت/ ص ز س/ ظ ذ ث/ ف ب م و. وقد تأثر بكتاب سيبويه كل من جاء بعده من النحاة واللغويين، لا في آرائه النحوية فحسب، بل في آرائه الصوتية كذلك، فأخذوا يرددون كلامه في الأصوات دون أن يزيدوا عليه ما يستحق الذكر، فهذا ابن جني في القرن الرابع الهجري، يؤلف كتابا مستقلا في علم الأصوات هو: "سر صناعة الإعراب"، لا يكاد يخرج فيه عن كلام سيبويه، في تعداد المخارج، ووصف الحروف، فكثيرا ما يقتبس نص العبارات التي جاءت في كتاب سيوبه، ويقف عند حدودها. وهو في بداية كتابه، يلتمس لحدوث الأصوات وسيلة للإيضاح، لم يهتد إليها سيبويه من قبل؛ إذ يشبه ابن جني مجرى النفس في أثناء النطق بالمزمار، كما يشبه مدارج الحروف ومخارجها، بفتحات هذا المزمار، التي توضع عليها الأصابع، أو بوتر العود وأثر الأصابع، فيقول: "شبه بعضهم الحلق والفم بالناي، فإن الصوت يخرج فيه مستطيلا أملس ساذجا، كما

_ 1 كتاب سيبويه 2/ 406، 407

يجري الصوت في الألف غفلا بغير صنعة، فإذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة، وراوح بين أنامله، اختلفت الأصوات، وسمع لكل خرق منها صوت لا يشبه صاحبه، فكذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم، باعتماد على جهات مختلفة، كان سبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة. ونظير ذلك أيضا وتر، فإن الضارب إذا ضربه وهو مرسل، سمعت له صوتا، فإن حصر آخر الوتر ببعض أصابع يسراه، أدى صوتا آخر، فإن أدناها قليلا سمعت غير الاثنين، ثم كذلك كلما أدنى إصبعه من أول الوتر، تشكلت لك أصداء مختلفة ... فالوتر في هذا التمثيل كالحلق، والخفقة عليه بالمضراب، كأول الصوت من أقصى الحلق، وجريان الصوت فيه غفلا غير محصور، كجريان الصوت في الألف الساكنة، وما يعترضه من الضغط والحصر بالأصابع، كالذي يعرض للصوت في مخارج الحروف من المقاطع، واختلاف الأصوات هناك كاختلافها هنا، وإنما أردنا بهذا التمثيل الإصابة والتقريب"1. وجاء القرن الخامس الهجري، يحمل إلينا رسالة صغيرة في الأصوات العربية، للرئيس ابن سينا، فيلسوف الإسلام، واسمها: "أسباب حدوث الحروف"، وهي مقسمة على ستة فصول، الأول منها في سبب حدوث الصوت، ويقصد به صوت الإنسان وغيره، والثاني في سبب حدوث الحروف، ويقصد بالحروف الأصوات الإنسانية، والثالث في تشريح الحنجرة واللسان، والرابع في الأسباب الجزئية لحرف حرف من حروف العرب، والخامس في الحروف الشبيهة بهذه الحروف، وليست في لغة العرب، والسادس في أن هذه الحروف من أي الحركات غير النطقية قد تسمع. وحديث ابن سينا في هذه الرسالة، أشبه بحديث علماء وظائف الأعضاء،

_ 1 سر صناعة الإعراب 1/ 9.

فلا نكاد نلمح فيها أنه تأثر كغيره بكتاب سيبويه، فله مصطلحاته، وله وصفه الأصيل لكل صوت، مما جعله محل إعجاب وتقدير من بعض اللغويين المحدثين. وفي القرن السادس الهجري، يؤلف الزمخشري كتابه "المفصل" في النحو، ويخصص القسم الأخير منه للدراسة الصوتية، فيردد فيه كلام الخليل وسيبويه، دون زيادة تذكر. ولا نكاد نجد بعد هذا في كتب المتأخرين، ما يمكن أن يتسم بالأصالة في دراسة أصوات اللغة، سوى تلك المحاولة التي جاءت في كتاب السكاكي: "مفتاح العلوم" في أوائل القرن السابع الهجري، من رسم بدائي لأعضاء النطق. ورغم كثرة كتب القراءات في العصور المتأخرة، وعلاجها المسهب للقراءات السبع والعشر وغيرها، نرى أنها حين تعرض لأصوات اللغة، تكتفي ببضع صفحات، تصف فيها مخارج الحروف وصفاتها، في صورة مقتضبة مختصرة، لا تخلو من الغموض أو التحريف، في بعض الأحيان، كما أن عناية أصحابها قد وجهت كلها، إلى رواية القراءات وسندها، معتمدين على تلقين القراءات وضبطها، عن طريق التلقي الشفوي، جيلا بعد جيل، حتى انتهى الأمر إلى بضعة متون صغيرة، سميت "بعلم التجويد" يحفظها الطالب عن ظهر قلب، دون فهم لها في غالب الأحيان. وقد التزمت هذه المتون في غالب أحوالها، نصوص سيبويه وعباراته في شرح أصوات اللغة ووصفها. تلك هي الدراسات الصوتية عند قدامى العرب. أما الدراسات الصوتية عند علماء الغرب، فقد ظهرت بوادرها في الربع الأول من القرن

التاسع عشر الميلادي، حين أخذ العلماء هناك، يقارنون اللغات الهندأوربية بعضها ببعض1. أما المؤلفات الحديثة في علم الأصوات باللغة العربية، فمنها: 1- الباب الأول من كتاب "التطور النحوي" ص11-73 وهو عبارة عن سلسلة محاضرات، ألقاها المستشرق الألماني "برجشتراسر" باللغة العربية، على طلبة كلية الآداب، بالجامعة المصرية القديمة سنة 1929م. وهو يهتم فيها بالمقارنات السامية اهتماما بالغا. 2- "علم الأصوات عند سيبويه وعندنا" محاضرة للمستشرق الألماني: "شاده" ألقاها في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية في سنة 1931 باللغة العربية، ونشرت بصحيفة الجامعة المصرية سنة 1931م. وهذه المحاضرة خلاصة مؤلف باللغة الألمانية لهذا المستشرق. 3- "الأصوات اللغوية" للدكتور إبراهيم أنيس، وهو أول كتاب متكامل باللغة العربية عن الدراسات الصوتية على المنهج اللغوي الحديث. وقد صدرت أولى طبعاته في عام 1947م. 4- "منهج الأصوات" فصل من كتاب: "مناهج البحث في اللغة" ص59-70 للدكتور تمام حسان، وفيه اهتمام كبير بعلم الأصوات التجريبي. وقد ظهر سنة 1955م. 5- "الأصوات اللغوية" فصل من كتاب "فقه اللغة" لمحمد المبارك ص29-50 وهو عبارة عن دراسة تقليديه، تعتمد على ترديد أقوال

_ 1 انظر في ذلك مقالة الدكتور مراد كامل: "علم الأصوات، نشأته وتطوره" بمجلة مجمع اللغة العربية 16/ 57-79.

السابقين من اللغويين العرب. والكتاب مطبوع بدمشق سنة 1960م. 6- الباب الثاني من كتاب "علم اللغة" للدكتور محمود السعران ص91-220 وقد أفاد فيه مؤلفه من كثير من مؤلفات الغرب في الدراسات الصوتية. وقد ظهر الكتاب في عام 1962م. 7- مقالة بعنوان: "جهود علماء العرب في الدراسة الصوتية" للدكتور إبراهيم أنيس، بمجلة مجمع اللغة العربية "سنة 1963" 15/ 41-49. 8- "أصوات اللغة" للدكتور عبد الرحمن أيوب. صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1963م والثانية سنة 1968. وقد اعتمد فيه صاحبه اعتمادا كبيرا على كتاب "هفنر" Heffener "علم الأصوات العام" General Phoetics المطبوع في أمريكا سنة 1952م. 9- "دروس في علم أصوات اللغة العربية" لجان كانتينو ترجمه إلى العربية "صالح القرمادي" ونشره في تونس سنة 1966. 10- "الأصوات" للدكتور كمال محمد بشر، وهو القسم الثاني من كتابه: "صالح القرمادي" ونشره في تونس سنة 1966م. 11- مقالة بعنوان: "مشكلة الضاد العربية، وتراث الضاد والظاء" للدكتور رمضان عبد التواب، بمجلة المجمع العلمي العراقي "المجلد الحادي والعشرون" في سنة 1971م. 12- "دراسة الصوت اللغوي" للدكتور أحمد مختار عمر، نشر بالقاهرة سنة 1976م.

13- في علم الأصوات الفيزيقي "مدخل إلى التصوير الطيفي للكلام" لإرنست بولجرام، ترجمة الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح، القاهرة 1077م. 14- "دراسة السمع والكلام" للدكتور سعد عبد العزيز مصلوح، القاهرة 1980م. 15- "في البحث الصوتي عند العرب" للدكتور خليل إبراهيم العطية، بغداد 1983م. 16- "علم الأصوات" لبرثيل مالبرج، ترجمة الدكتور عبد الصبور شاهين، القاهرة 1985م.

كيف يحدث الصوت الإنساني

كيف يحدث الصوت الإنساني: ينبغي قبل أن نعرف الإجابة على هذا السؤال، أن نتعرف الجهاز النطقي عند الإنسان، وهو عبارة عن التجويف الفمي والأنفي، والحلق، والحنجرة، والقصبة الهوائية، والرئتين. وفي تسمية هذه الأعضاء كلها بالجهاز النطقي، إجحاف بوظائفها الحيوية الأخرى، إذا علمنا أن الشفتين تستخدمان لتلقي الطعام عند دخوله في الفم، كما تسخدمان صماما لمنع الطعام أن يخرج من الفم في أثناء المضغ، كما تستعملان في المص، بتضييق الفجوة بين منطقة الضغط الخفيف داخل الفم، والسائل الذي يراد امتصاصه وغير ذلك من الأغراض الأخرى. أما الأسنان والأضراس، فلتقطيع الطعام ومضغه، واللسان لتقليب الطعام في الفم وتذوقه. أما الأنف والتجويف الأنفي، فليسا إلا حجرة يتكيف فيها الهواء، قبل نزوله إلى الرئتين. أما الحلق فإنه ليس إلا ممرا للطعام والهواء كليهما. وينتهي الحلق بالحنجرة، وفيها الأوتار الصوتية التي تؤدي وظيفة الصمام للرئتين لحفظها، ولحبس الهواء فيهما عند الحاجة إليه. أما القصبة الهوائية، فإنها الطريق الذي يمر به الهواء الداخل للرئتين أو الخارج منهما. وأما الرئتان فإنهما لتنقية الدم الموجود بالجسم، بإعطائه الأوكسجين، وتخليصه من ثاني أكسيد الكربون، ثم توزيع هذا الدم الصالح، على أعضاء الجسم بواسطة القلب. وعلى ذلك "فالنطق في الواقع، ليس أكثر من وظيفة ثانوية، تؤديها هذه الأعضاء، إلى جانب قيامها بوظائفها الرئيسية، التي خلقت من أجلها، ولهذا فإن عجز الإنسان عن الكلام، لأصابته بالبكم، لا يعني على الإطلاق عجز أعضائه هذه عن القيام بوظائفها الأخرى، التي تحفظ على

صاحبها الحياة، فلسان الأخرس يقوم بجمع الوظائف التي يقوم بها لسان غير الأخرس، فيما عدا الكلام، بطبيعة الحال"1. ولكل هذا نرى أن الأعضاء، التي جرى الاصطلاح على تسميتها أعضاء النطق، لا تنحصر وظيفتها في إحداث الأصوات، بل إن لها وظائف حيوية أخرى، ويوجد لدى كل حيوان جهاز يماثل أو يقارب الجهاز النطقي لدى الإنسان، غير أن الإنسان استخدم ذكاءه على توالي الأيام والعصور، فاستطاع أن يكيف جهازه الصوتي في أوضاع مختلفة، مع إخراج الهواء من الرئتين، فأنتج بذلك أصواتا مختلفة المخارج والصفات، يتألف منها كلامه الإنساني. أما الحيوان فإنه قد يستخدم نقطة ما من هذا الجهاز الصوتي، فيخرج صوتا واحًدا متشابها، أو صوتين متواليين دائما. وفيما يلي صورة تقريبية "للجهاز النطقي" عند الإنسان:

_ 1 أصوات اللغة، للدكتور عبد الرحمن أيوب 40.

وإذا نظرنا إلى هذا الجهاز النطقي، نجد أنه يتكون من أجزاء ثابتة، وأخرى متحركة، فالأجزاء الثابتة فيه هي الأسنان العليا، واللثة، والغار وهو أجزء الصلب من سقف الحنك. ومن الأجزاء الثابتة كذلك: الجدار الخلفي للحلق، وما عدا ذلك من أجزاء الجهاز النطقي فمتحرك. وسنشرح فيما يلي كل جزء من أجزاء هذا الجهاز، مع بيان دوره في إحداث الصوت.

أما الشفتان: فتتحركان بحرية في كل اتجاه، وتتخذان أوضاعا مختلفة عند نطق الأصوات، ومن الممكن ملاحظة هذه الأوضاع، في يسر وسهولة؛ إذ يمكن أن تنطبق الشفتان، فلا تسمحان للهواء بالخروج مدة من الزمن، ثم تنفرجان، فيندفع الهواء محدثا صوتا انفجاريا، كما في نطق الباء وقد تستدير الشفتان، كما يحدث عند نطق الضمة مثلا. كما يمكن أيضا أن تنفرجا، كما في نطق الفتحة، إلى غير ذلك من الأوضاع والحركات. وتختلف عادات البشر في استغلال حركة الشفتين، والانتفاع بها، فمن الشعوب من تتميز عادات النطق لديهم بكثرة الحركة في الشفتين، ومنهم من يقتصد في ذلك. وأما الأسنان: فمن أعضاء النطق الثابتة في الجهاز النطقي، ولا سيما العليا منها، ولا تستغل في النطق إلا بمساعدة أحد الأعضاء المتحركة، كاللسان والشفة السفلى. وأما سقف الحنك: فهو الذي يتصل به اللسان، في أوضاعه المختلفة في الفم، ومع كل وضع من أوضاع اللسان، بالنسبة لجزء من أجزاء الحنك الأعلى، تتكون مخارج كثير من الأصوات. وينقسم سقف الحنك إلى أربعة أقسام، الأول: هو اللثة، أو أصول الأسنان العليا. والثاني: هو الغار، وهو الجزء الصلب من سقف الحنك،

وهو محدب ومحزز. والثالث: هو الطبق، وهو الجزء الرخو من سقف الحنك، وهو متحرك. والرابع: هو الملهاة، وهي جزء متحرك كذلك. وأما اللسان: فإنه أهم عضو في عملية النطق، وهو يحتوي على عدد كبير من العضلات. التي تمكنه من التحرك، والامتداد، والانكماش، والتلوي إلى أعلى أو إلى الخلف. وهذه السهولة في التحرك، مكنت اللسان من الاتصال بآية نقطة من الفم، فنتج عن تحركاته المختلفة، عدد كبير من الإمكانات الصوتية في الجهاز النطقي، ولا غرابة بعد هذا إذا كان اسمه يرادف كلمة "اللغة" عند كثير من الشعوب. وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} . وأما الحلق: فإنه الجزء الذي بين الحنجرة وأقصى الحنك، وهو عبارة عن تجويف في الخلف من اللسان، يحد به أماما، وبما يسمى الحائط الخلفي للحلق من الخلف. وهذا الحائط الخلفي، ليس إلا عظام العنق، مغطاة بما يكسوها من اللحم. وفي مقدمة الحلق، منطبقا على جذر اللسان، ما يسمى بلسان المزمار، وهو قطعة من اللحم، لا تتحرك ذاتيا، ولكن تتحرك بحركة اللسان، وتؤدي وظيفة صمام القصبة الهوائية، بسدها لئلا يؤذيها الطعام النازل إلى المريء من خلفها. ويبدو أنه لا دخل للسان في عملية النطق.

وأما الحنجرة: فإنها تقع في قمة القصبة الهوائية، وهي عبارة عن حجرة متسعة نوعا ما، ومكونة من ثلاثة غضاريف، الأول أو العلوي منها ناقص الاستدارة من الخلف، عريض بارز من الأمام، ويعرف الجزء البارز منه بتفاحة آدم. أما الغضروف الثاني فهو كامل الاستدارة. والثالث مكون من قطعتين موضوعتين فوق الغضروف الثاني من الخلف. وفي الحنجرة توجد الأوتار الصوتية، وهي في الواقع وتران اثنان، عبارة عن غشاءين كل واحد منهما نصف دائرة حين يمتد، فإذا امتد الوتران أغلقا فتحة الحنجرة، ومنعا الهواء الرئوي من المرور. وعلى ذلك فهما من أعضاء النطق المتحركة، ولهما القدرة على اتخاذ أوضاع متعددة، تؤثر في الأصوات الكلامية. وهذه الأوضاع ثلاثة، هي: وضع الارتخاء التام، ووضع الذبذبة، ووضع الامتداد وقفل مجرى الهواء تماما. أما الوضع الأول: فهو وضع التنفس العادي. وأما الوضع الثاني: فهو الذي ينتج نوعا معينا من الأصوات، يسمى بالأصوات المجهورة، وسنتحدث عنها فيما بعد. وأما الوضع الثالث، فهو الوضع الذي ينتج صوت الهمزة في اللغة العربية مثلا. وأخيرًا فإن الرئتين مخزن الهواء، تتحركان تمددا وانكماشا، بحسب حركة الحجاب الحاجز الموجود تحت الرئتين، أسفل الصدر. وهذا ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أنه يمكن قفل المجرى الأنفي مما يلي الحلق، برفع الطبق ولصقه بالحائط الخلفي للحلق. ويمكن فتحه كذلك، بإنزال الطبق في اتجاه مؤخرة اللسان.

تلك هي أعضاء النطق المختلفة، التي تهمنا في دراسة الصوت الإنساني وعلمية النطق. ونصل الآن إلى الإجابة عن السؤال السابق وهو: كيف يحدث الصوت الإنساني؟ فنقول: إن الهواء الخارج من الرئتين، إما أن يصادف مجراه مسدودا سدا تاما، عند أية نقطة في الجهاز النطقي ما بين الحنجرة والشفتين. وإما أن يصادف في طريقه تضييقا في المجرى، لا سدًّا فيه، بحيث يسمح هذا التضييق للهواء بالمرور، ولكن هذا الهواء يحتك بنقطة التضييق هذه. أي أن الكلام يحدث عادة، عند عملية الزفير، وذلك "بأن تعترض الأعضاء الصوتية ممر الهواء. وتقتضي عملية الكلام إطالة الزمن الذي تتم فيه عملية الزفير، بالنسبة لعملية الشهيق، حتى تصبح الفترة، التي يستغرقها الزفير من ثلاثة إلى عشرة أمثال فترة الشهيق. هذا في الكلام العادي أما عندما يسترسل المتكلم في حديث سريع طويل، فقد يصبح طول فترة الزفير ثلاثين مثلا، لطول فترة الشهيق، وكلنا يعرف بالمشاهدة، كيف تكون النسبة بينهما، عندما يحاول أحد المقرئين قراءة سورة قصيرة، أو أكثر، في نفس واحد. "ومع هذا، فإن عملية الزفير، التي يتم خلالها النطق ليست مجرد إخراج الهواء على نحو مناسب، ولكن الهواء في الواقع يخرج في دفعات، تتفق كل دفعة منها، مع إنتاج مقطع صوتي كامل. ويمكن تشبيه الرئتين عند الزفير، في أثناء الكلام بالبالونة التي تنتهي بزمارة، ينطلق الهواء منها، بحكم ضغط جسمها المطاط، فإذا ما فرض أن جعل الطفل الذي يلعب بها، يضغط على جدارها، ضغطات متوالية، لخروج الهواء منها على دفعات، لا توقف بين إحداها والأخرى، لسمعنا للزمارة صوتا شبيها بالصوت

المتقطع، بالرغم من عدم توقفه. وهذه العملية شبيهة كل الشبه بعملية إنتاج المقاطع في أثناء الكلام، لكل مقطع دفعة هوائية، تنتج من انقباضات متوالية، يقوم بها الحجاب الحاجز، فيؤثر الضغط على الهواء الخارج من الرئتين، دون أن يتوقف خروجه"1. وعلى هذا، يمكن تبعا لذلك، أن يحدث من أي جزء من أجزاء الجهاز الصوتي، من الناحية النظرية، صوت ما، وذلك إما بسد هذا الجزء سدا محكما، حتى لا يتسرب الهواء إلى الخارج، ثم نزيل هذا السد بسرعة، فينطلق الهواء بانفجار، وعندئذ نسمع صوتا معينا، وإما أن يضيق الجهاز النطقي، في إحدى نقطه، تضييقا يسمح بمرور الهواء مع الاحتكاك بهذا الجزء المضيق. وبهذا يمكن أن يخرج من كل جزء من أجزاء هذا الجهاز، عدد لا حصر له من الأصوات، بمساعدة حركة أجزائه المتحركة. غير أن الشعوب البشرية، قد اختلفت فيما بينها في استخدام إمكانات الجهاز النطقي، استخداما كاملا، وهذا هو السبب في أن اللغات الإنسانية، تتفق فيما بينها في بعض الأصوات، وتختلف في بعضها الآخر، وذلك تبعا لاختلافها في استخدام إمكانات الجهاز النطقي المتعددة، فالشعوب الهندأوربية مثلا، لم تستخدم كل إمكانات النطق في إخراج الأصوات من الحلق، ولذلك تخلو بعض لغاتهم من صوتي الخاء والعين، وذلك بعكس اللغة العربية ومعظم اللغات السامية مثلا.

_ 1 انظر: أصوات اللغة الدكتور عبد الرحمن أيوب 44.

وقد استخدمت العربية الفصحى، عشرة مخارج في الجهاز النطقي، هي بالترتيب: 1- الشفة: ويسمى الصوت الخارج منها شفويا. 2- الشفة مع الأسنان. ويسمى الصوت الخارج منهما شفويا أسنانيا. 3- الأسنان. ويسمى الصوت الخارج منها أسنانيا. 4- الأسنان مع اللثة. ويسمى الصوت الخارج منهما أسنانيا لثويا. 5- اللثة. ويسمى الصوت الخارج منها لثويا. 6- الغار. ويسمى الصوت الخارج منه غاريا. 7- الطبق. ويسمى الصوت الخارج منه طبقيا. 8- اللهاة. ويسمى الصوت الخارج منه لهويا. 9- الحلق. ويسمى الصوت الخارج منه حلقيا. 10- الحنجرة. ويسمى الصوت الخارج منها حنجريا. تلك هي مخارج الأصوات في العربية الفصحى، كما تدل عليها تجارب معامل الأصوات في وقتنا الحاضر. واللسان عامل مشترك في أكثر هذه المخارج؛ إذ يخرج طرفه بين الأسنان، أو يوضع عند الأسنان واللثة، أو عند اللثة وحدها، أو عند الغار، أو ترتفع مؤخرته عند الطبق أو اللهاة، فليكن ذلك مفهوما لدينا، وإن لم ننسب مخرجا من المخارج إليه. وبيننا وبين قدامى اللغويين من العرب، خلاف في عدد المخارج للأصوات العربية، وفي تحديد مخارج بعض الأصوات، فعندنا الآن أن:

1- الأصوات الشفوية هي: ب م و. 2- والشفوية الأسنانية هي: ف. 3- والأسنانية هي: ذ ظ ث. 4- والأسنانية اللثوية هي: د ض ت ط ز س ص. 5- واللثوية هي: ل ر ن. 6- والغارية هي: ش ج ي. 7- والطبقية هي: ك غ خ. 8- واللهوية هي: ع ح. 9- والحنجرية هي: الهمزة والهاء. هذا هو رأي المحدثين من علماء الأصوات، في مخارج أصوات العربية الفصحى، مؤسسا على نتائج التجارب الصوتية، في المعامل وغيرها. أما الخليل بن أحمد، فجعل المخارج ثمانية، يختلف موقع الأصوات العربية، في بعضها، عما عندنا الآن. كما أنه لم ينسب الياء والواو والألف والهمزة، إلى مخرج معين، وسماها هوائية، فقال: "فالعين والحاء والهاء والخاء والغين حلقية؛ لأن مبدأها من الحلق. والقاف والكاف لهويتان؛ لأن مبدأهما من اللهاة. والجيم والشين والضاد شجرية؛ لأن مبدأهما من شجر الفم، أي مفرج الفم. والصاد والسين والزاي أسلية؛ لأن مبدأها من أسلة اللسان، وهي مستدق طرف اللسان. والطاء والتاء والدال نطعية؛ لأن مبدأها من نطع الغار الأعلى. والظاء والذال والثاء لثوية؛ لأن مبدأها من اللثة. والراء واللام والنون ذلقية؛ لأن مبدأها من ذلق اللسان، وهو تحديد طرفيه كذلق

السنان. والفاء والباء والميم شفوية. وقال مرة: شفهية؛ لأن مبدأها من الشفة. والياء والواو والألف والهمزة هوائية في حيز واحد؛ لأنها هاوية في الهواء، لا يتعلق بها شيء"1. وأما سيبويه، فإنه يعد المخارج ستة عشر مخرجا، ويسود كلامه الغموض وعدم الوضوح، في كثير من الأحيان، حيث يقول: "ولحروف العربية ستة عشر مخرجا، فللحلق منها ثلاثة: 1- فأقصاها مخرجا الهمزة والهاء والألف "يقصد بذلك ألف المد" 2- ومن أوسط الحلق مخرج العين والحاء. 3- وأدناها مخرجا من الفم والغين والخاء. 4- ومن أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى مخرج القاف. 5- ومن أسفل من موضع القاف من اللسان قليلا، ومما يليه من الحنك الأعلى مخرج الكاف. 6- ومن وسط اللسان، بينه وبين وسط الحنك الأعلى مخرج الجيم والشين والياء. 7- ومن بين أول حافة اللسان وما يليه من الأضراس مخرج الضاد. 8- ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان، ما بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى، وما فوق الضاحك والناب والرباعية والثنية مخرج اللام. 9- ومن طرف اللسان بينه وبين ما فويق الثنايا مخرج النون. 10- ومن مخرج النون غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلا، لانحرافه إلى اللام، مخرج الراء. 11- ومما بين طرف اللسان وأصول الثنايا مخرج الطاء والدال والتاء. 12- ومما بين طرف اللسان وفويق الثنايا مخرج الزاي والسين والصاد. 13- ومما بين طرف اللسان، وأطراف الثنايا مخرج الظاء والذال والثاء. 14- ومن باطن الشفة السفلي وأطراف الثنايا العليا مخرج الفاء. 15- ومما بين الشفتين مخرج الباء والميم والواو. 16- ومن الخياشيم مخرج النون الخفيفة"2.

_ 1 العين للخليل بن أحمد 1/ 65. 2 كتاب سيبويه 2 405.

ويعلق المستشرق "شاده" Schaade على تقسيم سيبويه للمخارج ووصفها بقوله: "نشاهد غاية التفصيل مثلا في تقسيمه للأسنان، وقد قسمها إلى الثنايا والرباعيات والأنياب والأضراس. ويخالف هذا التدقيق معاملته للحلق، فإن سيبويه وإن قسمه إلى أقصى الحلق، وأوسط الحلق، وأدنى الحلق، لم يكن يعرف الحنجرة، ولا أجزاءها كالمزمار والأوتار الصوتية. وسبب هذا الاختلاف واضح، فإن الأسنان مكشوفة للرؤية، وأما الحنجرة وأجزاؤها وعملها، فتقتضي ملاحظتها إلى التشريح، وما أظن سيبويه يجترئ عليه، أو إلى بعض الآلات الفنية، كمنظار الحنجرة، أو الأشعة المجهولة، ولم يكن مثل هذه الآلات بين يديه، وكفى بذلك عذرا يعتذر به سيبويه، لعدم معرفته بالحنجرة وعملها. وإن ثبت أن الخلل المذكور في مدارك سيبويه منعه من أن يفهم بعض المسائل الصوتية، حق الفهم"1. وبعد أن عرفنا شيئا عن المخارج في العربية الفصحى، نعود إلى موضوعنا الأول، وهو كيفية حدوث الصوت مرة أخرى. لقد قلنا إنه في الإمكان أن يعوق تيار الهواء الخارج من الرئتين، عائق يمنعه من المرور، عند أي مخرج من هذه المخارج، ثم يزول هذا العائق بسرعة، وبهذا يندفع الهواء الخارج بانفجار شديد. وإما أن يضيق المجرى عند أي مخرج من هذه المخارج، ضيقا يسمح للهواء بالمرور مع الاحتكاك بمكان التضييق. ويسمى الصوت الخارج في الحالة الأولى "حالة وجود عائق" صوتا شديدا أو انفجاريا، وفي الحالة الثانية "حالة تضييق نقطة في المجرى" يسمى الصوت الخارج صوتا رخوا أو احتكاكيا.

_ 1 علم الأصوات عند سيبويه وعندنا ص5.

ويجعل "قندريس" لإنتاج الصوت الانفجاري ثلاث مراحل، فيقول: "ففي كل صامت انفجاري إذن ثلاث خطوات متميزة: الإغلاق أو الحبس، والإمساك الذي قد يكون طويل المدى أو قصيره، والفتح أو الانفجار. وعند إصدار صامت بسيط مثل التاء، فإن الانفجار يتبع الحبس مباشرة، والإمساك يضؤل إلى مدى لا يكاد يحس، وعلى العكس من ذلك، تظهر الخطوات الثلاث بوضوح، فيما يسمى بالصوامت المضعفة، وهي ليست إلا صوامت طويلة"1. وإذا كان الشرط في إنتاج الأصوات الشديدة الانفجارية هو سرعة زوال العائق، فإننا نجد بين أصوات العربية، صوتا لا يزول فيه العائق بسرعة، بل إن العضوين المتصلين، لا ينفصلان انفصالا سريعا، وإنما انفصالهما انفصال بطيء، وفي الانفصال البطيء مرحلة بين الانسداد المطلق والانفتاح المطلق، شبيهة إلى حد ما، بالتضييق الذي عرفنا أنه من مميزات الأصوات الرخوة الاحتكاكية، وهذه المرحلة تسمح للهواء أن يحتك بالعضوين المتباعدين ببطء احتكاكا شبيها بما يصاحب الأصوات الرخوة، ولذا فإن هذا الصوت يجمع بين الشدة والرخوة، بمعنى أنه يبدأ شديدا انفجاريا، وينتهي رخوا احتكاكيا، ولهذا نسميه بالصوت المزدوج، كما يسميه آخرون بالصوت المزجى أو الصوت المركب. وهو في اللغة العربية صوت الجيم في الفصحى. وفي اللغات الأخرى نظائر لهذا الصوت، مثال ذلك في الإنجليزية ch وفي الألمانية z "تس" وكذلك pf "بف". ويسمى الصوت المزودج عندهم باللاتينية: Affricata وبالفرنسية: affriquee وبالإنجليزية: affricate.

_ 1 انظر اللغة لفندريس 48.

ويجعل قندريس هذا النوع من الأصوات متوسطا بين الانفجاري والاحتكاكي، فيقول: "وتوجد سلسلة من الأصوات المتوسطة بين الانفجارية والاحتكاكية، وهي ما تسمى شبه الانفجارية، أو بعبارة أوضح: الانفجارية الاحتكاكية وتتميز بالإغلاق الذي لا يستمر إحكامه، وفيها كما في الانفجارية حبس، ولكن هذا الحبس تتبعه حركة خفيفة من الفتح، بحال يجعل الانفجاري ينتهي بالاحتكاكي، فالانفجاري الاحتكاكي هو انفجاري فاشل"1. كما يقول ماريوباي: "أما الأصوات المركبة affrcates فهي أصوات لا تنتج عن طريق تغيير المخرج، وإنما تعديل طريقة النطق، فإذا حدث أن كان الانغلاق المتلو بانطلاق، الموجود في نطق ال "t" إذا حدث أن كان هذا الانغلاق متبوعا بالصوت الاستمراري الاحتكاكي، فإن النتيجة ستكون ch الموجودة churh. ويحدث الشيء نفسه مع ال "d" إذا أتبعت بالصوت الاحتكاكي المجهور "s" في: messure حيث يكون الناتج صوت ال "J" الموجود في jet. ومن الممكن بالطريقة نفسها إنتاج أصوات مركبة مثل dz ts اللذين تمثلهما بعض الأبجديات "وبخاصة الألمانية والإيطالية" برمز واحد هو "z"، وذلك عن طريق الجمع بين أسناني انفجاري، وصفيري "sibilant" ضيق احتكاكي "sperant من غير تعديل في مخرج الصوت"2. هذا، ومن الممكن كذلك، أن يمر الهواء بمجراه دون احتكاك أو

_ 1 اللغة لفندريس 50. 2 أسس علم اللغة 84.

انحباس من أي نوع، إما لأن مجراه في الفم يتجنب المرور بنقطة السد أو التضييق، كما في صوت "اللام" أو لأن هذا التضييق غير ذي استقرار، كما في صوت "الراء" أو لأن الهواء لا يمر بالفم، وإنما يمر بالأنف، كما في صوتي "الميم" و"النون". وهذا النوع من الأصوات. نسميه بالأصوات المتوسطة؛ لأنها ليست بالشديدة ولا بالرخوة. وهذه الأصوات الأربعة تسمى عند علماء الغرب بالأصوات المائعة أو السائلة: Liquida. وهكذا نرى أن تغير شكل المخرج عند حدوث الصوت، ينتج لنا أربعة أنواع من الأصوات، وهي: 1- شديد= انفجاري. 2- رخو= احتكاكي. 3- متوسط= مائع= سائل. 4- مزدوج= مزجي= مركب. وهناك تقسيم آخر للأصوات، لا ينظر فيه إلى شكل المخرج، وإنما ينظر فيه إلى اهتزاز الأوتار الصوتية أو عدم اهتزازها، فالأصوات التي تهتز معها الأوتار الصوتية وتتذبذب، يسميها علماء الأصوات "بالأصوات المجهورة"، أما تلك التي لا تهتز معها الأوتار الصوتية، فتسمى عندهم بالأصوات المهموسة. ويذكر المحدثون من علماء الأصوات1، أنه لاختبار جهر الصوت، يمكن أن تجري إحدى التجارب الآتية:

_ 1 انظر الأصوات اللغوية للدكتور إبراهيم أنيس 23.

1- حين تضع الإصبع فوق تفاحة آدم، ثم تنطق بصوت من الأصوات وحده، مستقلا عن غيره من الأصوات، ولا يتأتى هذا إلا بأن نشكل الصوت موضع التجربة بذلك الرمز الذي يسمى السكون، مثل "ب". ويجب الاحتراز من الإتيان قبله بألف وصل، كما كان يفعل القدماء من علماء الأصوات؛ لأن الصوت حينئذ لا يتحقق فيه الاستقلال، الذي هو أساس التجربة الصحيحة. فإذا نطقنا بالصوت وحده، وكان من المجهورات، نشعر باهتزازات الوترين الصوتيين، شعورا لا يحتمل الشك. 2- وكذلك حين نضع أصابعنا في آذاننا، ثم ننطق بالصوت المجهور، وهو وحده مستقلا عن غيره، نحس برنة الصوت في رءوسنا. وفي ذلك يقول فندريس: "وإذا راعى الإنسان أن يسد أذنيه عند النطق، فإنه عندما يصل إلى المجهورة، يسمع الرنين الذي تنشره الذبذبات الحنجرية في تجاويف الرأس"1. 3- والتجربة الثالثة، هي أن يضع المرء كفه فوق جبهته في أثناء نطقه بالصوت، موضع الاختبار، فيحس برنين الصوت، وذلك الرنين هو أثر ذبذبة الوترين الصوتيين. وهناك أخيرا تقسيم ثالث للأصوات، ينظر إلى ارتفاع مؤخرة اللسان، أو انخفاضها عند نطق الصوت، ففي الحالة الأولى يسمى الصوت "مفخما" أو "مطبقا"؛ نظرا لارتفاع مؤخرة اللسان تجاه الطبق، وهو الجزء الرخو من سقف الحنك، وفي الحالة الثانية، يسمى الصوت "مرققا" أو "غير مطبق".

_ 1 اللغة لفندريس 51.

والأصوات المفخمة في اللغة العربية، هي: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء، لا غير، فهذه الأصوات وإن كان مخرج الثلاثة الأولى منها، من الأسنان واللثة، ومخرج الرابع من بين الأسنان، فإن مؤخرة اللسان تعمل معها كذلك، فالتفخيم أو الإطباق وصف لصوت لا ينطق في الطبق، وإنما ينطق من مكان آخر، وتصحبه ظاهرة عضلية في مؤخرة اللسان، وذلك على العكس مما سبق أن عرفناه في المخارج من الأصوات "الطبقية"، وهي التي مخرجها من الطبق. وقد أحسن الدكتور تمام حسان، حين فرق بين الإطباق والطبقية، على النحو التالي، فقال: "وليحذر القارئ من الخلط بين اصطلاحين، يختلفان أكبر اختلاف، وإن اتحدا في كثير مما يخلق صلة بينهما، ذلك هما: الطبقية أو النطق في مخرج الطبق Velar Articulation والإطباق أو ما يسمى في علم الأصوات Velarization فالطبقية ارتفاع مؤخرة اللسان، حتى يتصل بالطبق فيسد المجرى، أو يضيقه تضييقا، يؤدي إلى احتكاك الهواء بهما في نقطة التقائهما، أو يضيقه تضييقا، يؤدي إلى احتكاك الهواء بهما في نقطة التقائهما، فهي إذن حركة عضوية مقصودة لذاتها، يبقى طرف اللسان معها في وضع محايد. أما الإطباق فارتفاع مؤخرة اللسان في اتجاه الطبق، بحيث لا يتصل به، على حين يجري النطق في مخرج آخر غير الطبق، يغلب أن يكون طرف اللسان أحد الأعضاء العاملة فيه"1.

_ 1 مناهج البحث في اللغة 89.

تلك هي مخارج الأصوات وصفاتها المختلفة، عند المحدثين من علماء الأصوات، أما قدامى اللغويين من العرب، فإن التقسيمات عندهم متداخلة، والتعريفات ليست واضحة في كثير من الأحيان، فهم يرون مثلا أن الأصوات كلها تنشأ من أقصى الحلق، ويسمون ذلك المكان "المقطع" ثم يتحدد الصوت عن طريق حصره في مكان ما من الفم، ويسمون ذلك المكان "المعتمد"، قال ابن درستويه في شيء من ذلك: "وليست الألف من الحروف الحلقية، ولا لها معتمد في حلق ولا غيره؛ لأنها من الحروف الهاوية في الجوف وإنما مقطعها في أقصى الحلق، والحروف كلها مقطعها هناك؛ لأن الصوت كله إنما يخرج من الحلق، ثم يحصره المعتمد. فيصيره حرفا"1. وإذا كان سيبويه يقسم الأصوات إلى مجهورة ومهموسة، فإن تعريفه لها، يثير كثيرا من الشبه، التي لم تجد لها حلا معقولا حتى الآن، يقول2: "فالمجهورة حرف أشبع الاعتماد في موضعه، ومنع النفس أن يجري معه، حتى ينقضي الاعتماد عليه، ويجري الصوت، فهذه حال المجهورة في الحلق والفم، إلا أن النون والميم، قد يعتمد لهما في الفم والخياشيم، فتصير فيهما غنة. والدليل على ذلك أنك لو أمسكت بأنفك، ثم تكلمت بهما، لرأيت ذلك قد أخل بهما. وأما المهموس فحرف أُضعف الاعتماد في موضعه، حتى جرى النفس معه، وأنت تعرف ذلك إذا اعتبرت فرددت الحرف مع جري النفس. ولو أردت ذلك في المجهورة، لم تقدر عليه".

_ 1 شرح الفصيح لابن درستويه 1/ 108. 2 كتاب سيبويه 2/ 405.

وهكذا نجد أن تعريف سيبويه للمجهور والمهموس، لا يقوم أساسا على اهتزاز الأوتار الصوتية في الحنجرة، أو عدم اهتزازها، وإنما يقوم على جري النفس أو عدم جريه، وتلك الصفة من السمات الخاصة بشدة الصوت أو رخاوته. وكان من الممكن القول بأن سيبويه يقصد بالمجهور والمهموس ما نعنيه نحن بالشديد والرخو، لولا أن سيبويه قسم الأصوات بعد ذلك إلى شديد ورخو، وبين المراد بهما عنده. وعلى الرغم من ذلك فإن تعريفه للشديد يقرب جدا من تعريفه للمجهور. كما يقرب تعريفه للرخو من تعريفه للمهموس كذلك، يقول سيبويه: "ومن الحروف الشديد وهو الذي يمنع الصوت أن يجري فيه، وهو الهمزة والقاف والكاف والجيم والطاء والتاء والدال والباء، وذلك أنك لو قلت: الحج، ثم مددت صوتك لم يجر ذلك. ومنها الرخوة وهي: الهاء والحاء والغين والخاء والشين والصاد والضاد والزاي والسين والظاء والثاء والذال والفاء، وذلك إذا قلت: الطس وانقض، وأشباه ذلك، أجريت فيه الصوت إن شئت"1. فلا فرق بين المجهور والشديد في كلام سيبويه "ويبدو أن بين التقسيمين السابقين تداخلا والتباسا، وقد قالوا إن الفرق بينهما أن المجهور يمنع النفس، والشديد يمنع الصوت، ولكن هذا التفريق غير واضح وضوحا تاما"2. وليست التعريفات عند ابن جني في كتابه: "سر صناعة الإعراب" بأوضح منها عند سيبويه3.

_ 1 كتاب سيبويه 2/ 406. 2 فقه اللغة لمحمد المبارك 36. 3 انظر سر صناعة الإعراب 1/ 69، 70.

ومع ذلك فإن تعريف سيبويه لكل من الشديد والرخو، يلفت نظرنا إلى شيء، تنبه له علماء الغرب كذلك، وهو أن الأصوات الشديدة أصوات وقتية آنية Momentanlaute لا يمكن التغني بها وترديدها؛ لأنها تنتهي بمجرد زوال العائق وخروج الهواء. أما الأصوات الرخوة فإنها أصوات استمرارية متمادة Dauerlaute يمكن التغني بها، واستمرار نطقها بلا انقطاع، ما دام في الرئتين هواء.

الأصوات الصامتة والمتحركة

الأصوات الصامتة والمتحركة: تنقسم الأصوات الكلامية عموما إلى قسمين كبيرين هما: الأصوات الصامتة، وهي ما يطلق عليها بالإنجليزية: "Consonants" والأصوات المتحركة، أو أصوات العلة ويسميها الإنجليز "Vowels"، وتعرف الأخيرة بأنها الأصوات المجهورة التي يحدث في تكوينها، أن يندفع الهواء في مجرى مستمر خلال الحلق والفم، وخلال الأنف معهما أحيانا، دون أن يكون هناك عائق، يعترض مجرى الهواء اعتراضا تاما أو تضييق لمجرى الهواء، من شأنه أن يحدث احتكاكا مسموعا، والأصوات المتحركة في العربية الفصحى، ما سماه نحاة العرب بالحركات، وهي الفتحة والضمة والكسرة، وكذلك حروف المد واللين، كالألف في "قال"، والواو في "يدعو" والياء في "القاضي". وسوف نتحدث فيما بعد، عن كيفية حدوث الحركات بالتفصيل. وما لم يصدق عليه تعريف الأصوات المتحركة، هو الأصوات الصامتة التي نتناولها الآن بالوصف التفصيلي، لمخارجها وصفاتها، وبيان الخلاف بين القدماء والمحدثين في تحديدها. وسوف نتناولها في كلامنا، حسب ترتيبها في المخارج. 1- الأصوات الشفوية: وهي في العربية: الباء والميم والواو "في مثل: ولد". أما الباء فهي صوت شديد مجهور مرقق، يتم نطقه بضم الشفتين، ورفع الطبق، ليغلق ما بين الحلق والتجويف الأنفي، مع ذبذبة الأوتار الصوتية، فإذا بقيت كل الأوضاع المذكورة كما هي: فيما عدا الأوتار الصوتية، التي لا نجعلها تهتز،

ينتج عندنا صوت آخر مهموس، لا وجود له في اللغة العربية، ولكنه يوجد في اللغات الأوربية، وبعض اللغات السامية، وهو صوت "p" فهو النظير المهموس للباء العربية. أما الميم، فإنه صوت أنفي مجهور، ينطق بأن تنطبق الشفتان تماما، فيحبس خلفهما الهواء، ويخفض الطبق، ليتمكن الهواء من الخروج عن طريق الأنف، مع حدوث ذبذبة في الأوتار الصوتية، وبقاء اللسان في وضع محايد. وأما الواو، فإننا نعني بها هنا ضمن الأصوات الصامتة، الواو في مثل: "واحد" أو "ولد" ونحو ذلك. وهو صوت مجهور، بينه وبين صوت الضمة الخالصة "وهو من الأصوات المتحركة" فرق بسيط جدا، وسنعرف ذلك عند حديثنا على أصوات العلة. 2- الأصوات الشفوية الأسنانية: وليس منها في اللغة العربية، إلا صوت الفاء. وهو صوت رخو مهموس مرقق، ينطق بأن تتصل الشفه السفلى بالأسنان العليا، اتصالا يسمح للهواء أن يمر بينهما فيحتك بهما، مع رفع مؤخر الطبق، لسد التجويف الأنفي، وإهمال الأوتار الصوتية بجعلها لا تتذبذب. ونظير هذا الصوت المجهور، لا وجود له في اللغة العربية، وإنما يوجد في اللغات الأوربية، وهو صوت "v" في الإنجليزية وصوت "w" في الألمانية مثلا، فهذا الصوت يشبه الفاء العربية في كل شيء، إلا أنه يختلف عنها في أن الوترين الصوتيين يهتزان معه، ولذا فإنه صوت مجهور، في حين أن الفاء العربية صوت مهموس.

ونطق الفاء على هذا النحو، من الشفة والأسنان، ليس من طبيعة كل اللغات البشرية، "إذ ينطق اليابانيون صوت الفاء بطريقة تجعلها شفوية صرفة مهموسة احتكاكية، عن طريق إرسال الهواء من بين الشفتين شبه المفتوحتين، كما يحدث حينما نحاول إطفاء عود كبريت. أما الإسبانيون فينطقون ال "ف" بنفس الطريقة، مع تذبذب الوترين الصوتيين، ليحدث الجهر"1. 3- الأصوات الأسنانية: وهي: الثاء والذال والظاء. ولسنا ندري لماذا عد الخليل بن أحمد هذه الأصوات الثلاثة لثوية، وقال: "لأن مبدأها من اللثة"2، كما تابعه على ذلك بعض النحاة، كابن يعيش الذي يقول: "والظاء والذال والثاء من حيز واحد، وهو ما بين طرف اللسان وأصول الثنايا، وبعضها أرفع من بعض، وهي لثوية،؛ لأن مبدأها من اللثة"3، مع أن النطق المتواتر لها في العربية الفصحى، هو النطق الأسناني، وقد روى ذلك سيبويه فقال: "وما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا مخرج الظاء والذال والثاء"4. أما الثاء: فهو صوت رخو مهموس مرقق، ينطق بأن يوضع طرف اللسان بين أطراف الثنايا، بحيث يكون هناك منفذ ضيق للهواء، ويكون

_ 1 أسس علم اللغة لماريو باي 83. 2 العين للخليل بن أحمد 1/ 65. 3 شرح المفصل لابن يعيش 10/ 125. 4 كتاب سيبويه 2/ 405.

معظم جسم اللسان مستويا، ويرفع الطبق ليسد المجرى الأنفي، بأن يلتصق بالحائط الخلفي للحلق، ويتم ذلك كله، مع عدم وجود ذبذبة في الأوتار الصوتية. وليس هناك نظير مفخم لهذا الصوت في اللغة العربية. وقد غلط الدكتور السعران، حين قال عن صوت الظاء "إنه مطبق الثاء، أي أن بين هذا الصوت "الظاء" وبين الثاء، ما بين الصاد والسين"1. وصوت الثاء من الأصوات التي فقدت في اللهجة العامية، واستعيض عنه فيها بالتاء، نحو: ثقيل تقيل، أو السين في الكلمات الثقافية، نحو: ثابت سابت. وأما الذال: فهو نظير الثاء المجهور، أي أنه صوت رخو مجهور مرقق، يتم نطقه بنفس الطريقة، التي ينطق بها صوت الثاء، مع فارق واحد، هو أن الأوتار الصوتية تهتز عند نطق الذال، ولا تهتز عند نطق الثاء. وقد ضاع صوت الذال كذلك، في اللهجة العامية المصرية، وحل محله الدال، نحو: ذهب دهب، ذيل ديل، أو الزاي، نحو: ذكر زكر، ذل زل. وأما الظاء: فإنه نظير الذال المفخم، أي أنه صوت رخو مجهور مفخم، ينطق بنفس الطريقة، التي ينطق بها صوت الذال، مع فارق واحد، وهو أن مؤخرة اللسان ترتفع نحو الطبق مع الظاء، ولا ترتفع مع الذال. وسيبويه نفسه يقول: "ولولا الإطباق في الظاء لكانت ذالا"2.

_ 1 علم اللغة للدكتور محمود السعران 191. 2 كتاب سيبويه 2/ 406.

وقد فقدت الظاء من اللهجة العامية المصرية كذلك، وحل محلها الضاد، مثل: ظل ضل، أو الزاي المفخمة، نحو: ظلم زلم، وغير ذلك. 4- الأصوات الأسنانية اللثوية: يعد هذا المخرج أغنى المخارج بالأصوات في العربية، ففيه تنطق الأصوات التالية: الدال، والضاد، والتاء، والطاء، والزاي، والسين، والصاد. أما الدال: فإنها صوت شديد مجهور مرقق، ينطق بأن تلتصق مقدمة اللسان باللثة والأسنان العليا، التصاقا يمنع مرور الهواء ورفع الطبق، ليسد التجويف الأنفي، مع ذبذبة الأوتار الصوتية، وبقاء مؤخرة اللسان في وضع أفقي، ثم يزال السد بانخفاض مقدمة اللسان، فيندفع الهواء المحبوس إلى الخارج. وأما الضاد: فإنها حسب نطقنا لها الآن، تعد المقابل المفخم للدال، أي أنها صوت شديد مجهور مفخم، ينطق بنفس الطريقة، التي تنطق بها الدال، مع فارق واحد، هو ارتفاع مؤخرة اللسان نحو الطبق، في النطق بصوت الضاد. وعلى هذا فالضاد العربية هي المقابل المطبق للدال. وأما التاء: فهي نظير الدال المهموس، أي أنها صوت شديد مهموس مرقق، ينطق بنفس الطريقة، التي يتم بها نطق صوت الدال، مع فارق واحد، هو عدم إعمال الأوتار الصوتية في التاء، وتركها تهتز وتتذبذب مع صوت الدال. وأما الطاء: فهي كما ينطق بها اليوم، تقابل التاء في في الترقيق، والتفخيم، أي أنها صوت شديد مهموس مفخم، ولا فرق بينهما إلا في أن

مؤخرة اللسان، ترتفع نحو الطبق عند الطاء، ولا ترتفع نحوه في نطق التاء. وأما الزاي: فهو صوت رخو مجهور مرقق، يتم نطقه بوضع طرف اللسان في اتجاه الأسنان، ومقدمته مقابل اللثة العليا، مع رفع الطبق تجاه الحائط الخلفي للخلق، فيسد المجرى الأنفي، ويتم كل هذا مع وجود ذبذبة في الأوتار الصوتية. ونظير الزاي المفخم، لا وجود له في العربية الفصحى، وإن وجد في العامية، في ذلك الصوت الذي يحل محل الظاء العربية أحيانا، في مثل: ظلم زلم، ونحوه. وأما السين: فإنها نظير الزاي المهموس، وهذا معناه أنه صوت رخو مهموس مرقق، لا يفترق عن الزاي في نطقه، إلا في أن الأوتار الصوتية تهتز مع الزاي، ولا تهتز معه. وأما الصاد: فإنها نظير السين المفخم. وهذا معناه أنه صوت رخو مهموس مفخم، ينطق كما ينطق السين، مع فارق واحد، هو أن مؤخرة اللسان ترتفع معه ناحية الطبق. 5- الأصوات اللثوية: وهي اللام والراء والنون. أما اللام: فإنها صوت جانبي مجهور، ينطق بأن يتصل طرف اللسان باللثة ويرتفع الطبق، فيسد المجرى الأنفي، عن طريق اتصاله بالجدار الخلفي للحلق، هذا مع حدوث ذبذبة في الأوتار الصوتية. ومعنى أنه صوت جانبي، أن أحد جانبي اللسان، أو كليهما

يسمح للهواء الخارج من الرئتين بالمرور بينه وبين الأضراس، في الوقت الذي لا يمكنه فيه المرور من وسط الفم، لحيلولة طرف اللسان المتصل باللثة دون ذلك. والأصل في صوت اللام الترقيق، إلا أنه -كما يذكر علماء القراءات- يفخم في لفظ "الله" إذا لم يسبقه صوت من أصوات الكسرة، كما أنهم يجيزون تفخيمه، إذا تلاه صوت من أصوات الفتحة، وسبقه أحد الأصوات المطبقة، مثل: الصلاة، والطلاق، والظلام، والضلال. والفرق بين اللام المرققة والمفخمة، يوجد كما هو معروف، في وضع مؤخرة اللسان بالنسبة للاثنين؛ إذ إنها ترتفع ناحية الطبق، في حالة اللام المفخمة، وتنخفض إلى قاع الفم في حالة اللام المرققة، فالفرق بين نطق اللامين هو نفس الفرق بين صوتي السين والصاد. وإذا كان الخط العربي، لم يرمز لكل لام من اللامين برمز يختلف عن الآخر، فما ذلك إلا لأنها عبارة عن عائلة صوتية "فونيم" واحدة، لا يتعدد بتعدد أفرادها معنى الكلمة. وسنشرح نظرية "الفونيم" هذه فيما بعد. وأما الراء: فإنها صوت تكراري مجهور، يتم نطقه بأن يترك اللسان مسترخيا، في طريق الهواء الخارج من الرئتين، فيرفرف اللسان، ويضرب طرفه في اللثة ضربات متكررة. وهذا معنى وصف الراء بأنه صوت تكراري، هذا بالإضافة إلى حدوث ذبذبة في الأوتار الصوتية، عند نطق هذا الصوت. ويلاحظ أن الأطفال، في بداية نموهم اللغوي، لا يقدرون على نطق الراء، بسبب ضعف العضلات المحركة لمقدمة اللسان عندهم، وقصورها في

هذه السن المبكرة، عن إحداث الاهتزازات السريعة، المكررة لهذه المقدمة. غير أنه سرعان ما يتقن الطفل نطق الراء، بالتقليد وكثرة التمرين. وقد يصاب الطفل بلثغة في الراء، لسبب أو لآخر، فلا يقدر على نطقها طيلة حياته نطقا صحيحا. وقد عرف قدماء النحاة العرب، بعض الطرق البدائية للتغلب على لثغة الراء، فقد رووا لنا أن عبيد الله بن محمد بن جرو الأسدي النحوي العروضي "كان يلثغ بالراء غينا، فقال له أبو علي الفارسي: ضع ذبابة القلم تحت لسانك، لتدفعه بها، وأكثر مع ذلك ترديد اللفظ بالراء، ففعل، فاستقام له إخراج الراء في مخرجها"1. ويذكر القراء أن الراء ترقق، إذا كسرت، أو كانت ساكنة بعد كسر، مثل كلمة: رزق، ورجس، وحرمان. وذلك على العكس من: يرجون ويحرم. والفرق بين الراءين يشبه الفرق بين اللامين المرققة والمفخمة، فيما سبق تماما. أما النون: فهو صوت أنفي مجهور، يتم نطقه، بجعل طرف اللسان متصلا باللثة، مع خفض الطبق، ليفتح المجرى الأنفي، وإحداث ذبذبة في الأوتار الصوتية. ومعنى الأنفية في هذا الصوت، أن الهواء الخارج من الرئتين، يمر في التجويف الأنفي، محدثا مروره نوعا من الخفيف، وهي بهذا الوصف كالميم تماما، غير أن الفرق بينهما أن طرف اللسان مع النون يلتقي باللثة، فيمتنع مرور الهواء عن طريق الفم، بعكس الميم، فإن الذي يمنع مرور الهواء من الفم معهما، هما الشفتان.

_ 1 انظر: بغية الوعاة 2/ 127.

ويذكر الدكتور تمام حسان أمثلة لأنواع أخرى من صوت النون، تبعا لوقوعه قبل الأصوات الأخرى، فهناك نون أسنانية، وهي التي تقع قبل الذال، أو الثاء، أو الظاء في مثل: إن ذهب، وإن ثاب، وإن ظلم. وهناك نون أسنانية لثوية، وهي التي تقع قبل الأصوات الأسنانية اللثوية، التي وصفناها من قبل، مثل: إن دأب، وإن ضرب، وإن تبع، وإن طلب، وإن زرع، وإن سكت، وإن صلح. كما أن هناك نونا غارية، وهي التي تقع قبل الشين أو الجيم أو الياء، نحو: من شاء، ومن جاء، ومن يكن. وكذلك هناك نون طبقية تأتي قبل الكاف، في مثل: إن كان، ولكنها لا تأتي قبل الغين والخاء، وهما من أصوات الطبق أيضا، بل تنطق النون قبل هذين الصوتين في مخرجها الأصلي وهو اللثة، فيقال: إن غاب، وإن خاف. وهناك أخيرا نون لهوية، تأتي قبل صوت القاف في مثل: إن قال1. ونحب أن ننبه هنا، إلى أن هذه الأصوات جميعها للنون، ليست إلا مظاهر مختلفة "لفونيم" واحد. وسوف نشرح ذلك فيما بعد. 6- الأصوات الغارية: وهي في العربية الفصحى: الشين والجيم والياء. أما الشين فهي صوت رخو مهموس مرقق، ينطق برفع مقدمة اللسان تجاه الغار، ورفع الطبق ليسد المجرى الأنفي، بالتصاقه بالجدار الخلفي للحلق، ويتم ذلك كله، دون إحداث ذبذبات في الأوتار الصوتية، فإذا مر الهواء في الفراغ

_ 1 انظر مناهج البحث في اللغة 16، 17.

الضيق، بين مقدمة اللسان والغار. سبب نوعا من الاحتكاك والصفير، وهو صوت الشين. وليس في العربية نظير مجهور للشين، إلا أنها قد تجهر بتأثير الأصوات المجهورة، المجاورة لا، مثل الشين في كلمة: "مشغول". وهذه الشين المجهورة، توجد في نطق الشوام للجيم العربية. ونحن نميز هذه الشين المجهورة بالرمز "ج" ونطقها يماثل نطق الصوت الأخير في الكلمة "الفرنسية: "rouge"= روج. أما صوت الجيم: كما نسمعها الآن من مجيدي القراء، فإنها صوت مجهور يجمع بين الشدة والرخاوة، وهو ما سبق ن سميناه بالصوت المزودج. ويتم نطقه بأن يرتفع مقدم اللسان، في اتجاه الغار فيلتصق به، وبذلك يحجز وراءه الهواء الخارج من الرئتين، ثم لا يزول هذا الحاجز فجأة، كما في الأصوات الشديدة، وإنما يتم انفصال العضوين ببطء، فيترتب على ذلك أن يحتك الهواء الخارج بالعضوين المتباعدين، احتكاكا شبيها بالاحتكاك الذي نسمع صوته، مع الشين المجهورة "ج"؛ وعلى ذلك تعد هذه الجيم في الحقيقة: صوت دال مغور، يعقبه صوت شين مجهور. وهذه الجيم بهذا الوصف، لا وجود لها في اللهجات الحالية، إلا في لهجة من لهجات صعيد مصر، وبعض أماكن الجزيرة العربية. كما أصبحت كافا مجهورة تنطق من الطبق، مع إعمال الأوتار الصوتية في نطق القاهريين، أي أن مخرجها انتقل إلى الخلف. وهي في لهجة أهل سوريا، عبارة عن شين مجهورة، كما سبق أن ذكرنا. كما تطورت في نطق بعض أهالي الصعيد، إلى دال أسنانية لثوية، بانتقال مخرجها إلى الأمام. ويبدو أن بعض قبيلة تميم، كانوا ينطقون شينا مهموسة، بدلا من

الجيم، قال الجوهري: "وأشاءه لغة في أجاءه، أي ألجأه. وتميم تقول: شر ما يشيئك إلى مخة عرقوب، بمعنى: يجيئك، قال زهير بن ذؤيب العدوي: فيال تميم صابروا قد أشئتم ... إليه وكونوا كالمحربة البسل"1 كما يقول ابن جني: "قال الراجز: إذ ذاك إذ حبل الوصال مدمش أي: مدمج، فالشين، بدل من الجيم"2. وعد أبو بكر الزبيدي، هذه الظاهرة في الأندلس، من لحن العامة، فقال: "اشترت الدابة خطأ، والصواب: اجترت3". والظاهر أن صوت الجيم المزودج هذا، ليس أصليا في اللغة العربية القديمة، وإنما هو متطور عن جيم تشبه نطق المصريين لهذا الصوت. والدليل على ذلك مقارنة اللغات السامية الأخرى، كالعبرية والسريانية والحبشية، فصوت الجيم في هذه اللغات، صوت شديد يشبه نطق المصريين. ويقول المستشرق "إنو ليتمان" Enno Littmann "نعرف أن نطق هذا الحرف الأصلي، كان كما هو الآن في مصر، وكما كان ويكون في اللغات السامية الباقية. مثلا: كلمة: "جمل" في العبرية: gamal وفي السريانية: gamla وفي الحبشية: gamal. وتاريخ هذا النطق كما يأتي: في الابتداء تغير نطق: gim فصار: gim قبل حركة الكسرة فقط، ثم لفظت عند أهل الحجاز gim إذا

_ 1 الصحاح للجوهري "شيأ" 1/ 59. 2 سر صناعة الإعراب 1/ 215. 3 لحن العوام 303 وانظر أمثلة أخرى لنطق الجيم شينا في: الإبدال لأبي الطيب اللغوي 1/ 226-228 ولنطقها دالا فيه 2/ 216-219.

وقعت قبل كل الحركات، أي الفتحة والضمة والكسرة، وكان هذا النطق نطق القرشيين في زمان النبي "صلى الله عليه وسلم" فصار نطق القرآن الشريف"1. أما صوت الياء: فإننا نعني به هنا، ضمن الأصوات الصامتة، الياء التي في مثل: "يقول" و"ينصر" وما أشبه ذلك، وهو صوت مجهور، بينه وبين صوت الكسرة الخالصة "وهو من أصوات العلة أو الحركات" فرق يسير جدا. وسنعرف العلاقة بينهما بالتفصيل، عند حديثنا على أصوات العلة. 7- الأصوات الطبقية: وهي في العربية الفصحى: الكاف والغين والخاء. أما الكاف: فإنه صوت شديد مهموس مرقق، يتم نطقه برفع مؤخرة اللسان في اتجاه الطبق، وإلصاقه به، وإلصاق الطبق بالحائط الخلفي للحلق، ليسد المجرى الأنفي، مع إهمال الأوتار الصوتية وعدم اهتزازها. وليس في العربية الفصحى نظير مجهور لهذا الصوت، وإنما نظيره المجهور هو الجيم القاهرية، التي نرمز لها بالرمز: "كـ" المستعار من الخط الفارسي، لنفرق بينها وبين الجيم الفصيحة. وهذه الجيم القاهرية، نسمعها كذلك في بعض اللغات السامية، كالعبرية والسريانية والحبشية، فهو صوت سامي قديم، وهو لا يفترق عن الكاف في شيء، سوى أن الجيم القاهرية مجهورة والكاف مهموسة.

_ 1 بقايا اللهجات العربية في الأدب العربي، لإنو ليتمان، بحث في مجلة كلية الآداب، المجلد العاشر/ الجزء الأول والثاني سنة 1948م.

وأما الغين: فهو صوت رخو مجهور مرقق، يتم نطقه برفع مؤخرة اللسان، حتى يتصل بالطبق، اتصالا يسمح للهواء بالمرور، فيحتك باللسان والطبق، في نقطة تلاقيهما، وفي نفس الوقت يرتفع الطبق، ليسد المجرى الأنفي، مع حدوث ذبذبات في الأوتار الصوتية. وقد عد سيبويه وغيره من القدماء، صوت الغين من أصوات الحلق. ويقول في ذلك الدكتور تمام: "يستطيع الباحث أن يقف منهم أحد موقفين، ينبني كل منهما على طريقة فهمهم للاصطلاح "حلق"، فإذا كان مفهوم هذا الاصطلاح في أذهانهم مطابقا لما نفهمه الآن، فهم ولا شك مخطئون في القول بأن صوت الغين يخرج من الحلق. أما إذا كان فهمهم للاصطلاح، أوسع من فهمنا له، حتى ليشمل ما بين مؤخر اللسان والطبق، فلا داعي للقول بخطئهم"1. وأما الخاء: فإنها النظير المهموس للغين، وهذا معناه أنها صوت رخو مهموس مرقق، لا يفترق في طريقة نطقه عن الغين، إلا في أن الأوتار الصوتية، لا تهتز معه، وتهتز مع الغين. 8- الأصوات اللهوية: لا يوجد منها في الفصحة، إلا صوت القاف. وهو كما ينطق به مجيدو القراءات في مصر، صوت شديد مهموس، ينطق برفع مؤخر الطبق، حتى يلتصق بالجدار الخلفي للحلق، ليسد المجرى الأنفي، ورفع مؤخر اللسان حتى يتصل باللهاة والجدار الخلفي للحلق، مع عدم حدوث

_ 1 مناهج البحث في اللغة 101.

ذبذبة في الأوتار الصوتية، فينحبس الهواء ثم ينفجر بعد انفصال العضوين المتصلين. وعلى ذلك فلا فرق بين القاف والكاف، إلا في أن القاف أعمق قليلا في مخرجها. 9- الأصوات الحلقية: وهي في اللغة العربية: العين والحاء. أما العين فهي صوت رخو مجهور مرقق، يتم نطقه بتضييق الحلق عند لسان المزمار، ونتوء لسان المزمار إلى الخلف، حتى ليكاد يتصل بالحائط الخلفي للحلق، وفي الوقت نفسه يرتفع الطبق، ليسد المجرى الأنفي، وتهتز الأوتار الصوتية. وأما الحاء: فهي النظير المهموس للعين. وهذا معناه أنه صوت رخو مهموس مرقق، يفترق عن العين، في أن الأوتار الصوتية، لا تتذبذب معه، بخلافها مع العين. وقد فطن ابن جني إلى هذا الفرق بين الحاء والعين، فقال: "ولولا بحة في الحاء لكانت عينا ... ولأجل البحة التي في الحاء، ما يكررها الشارق في تنحنحه. وحُكي أن رجلا من العرب، بايع أن يشرب علبة لبن ولا يتنحنح، فشرب بعضه، فلما كظه الأمر قال: كبش أملح، فقيل له: ما هذا؟ تنحنحت! فقال: من تنحنح فلا أفلح، وكرر الحاء مستروحا إليها، لما فيها من البحة، التي يجري معها النفس وليست كالعين التي تحصر النفس"1.

_ 1 سر صناعة الإعراب 2/ 246.

الأصوات الحنجرية: وهي في اللغة العربية صوتا الهمزة والهاء. أما الهمزة فهي صوت شديد مهموس مرقق، ينطق بإغلاق الأوتار الصوتية إغلاقا تاما، يمنع مرور الهواء، فيحتبس خلفهما ثم تفتح فجأة، فينطلق الهواء متفجرا. ويأتي حكمنا بهمس هذا الصوت، من ناحية أن الأوتار الصوتية معه، تغلق تماما، فلا يحدث فيها ذلك الاهتزاز اللازم لصفة الجهر. ومع ذلك نجد سيبويه وغيره من القدماء، يعدون هذا الصوت مجهورا، وهو "أمر مستحيل استحالة مادية، ما دامت الأوتار الصوتية مقفلة في أثناء نطقه. ولكن هذا الصوت قد يأتي مسهلا، أي أن إقفال الأوتار الصوتية مقفلة في أثناء نطقه. ولكن هذا الصوت قد يأتي سهلا، أي أن إقفال الأوتار الصوتية ربما يكون تاما حين النطق به، بل قد يكون إقفاله تقريبيا. وفي حالة التسهيل هذه يحدث الجهر، ولكن المجهور حينئذ ليس وقفة حنجرية "همزة" بل تضيق حنجري أشبه بأصوات العلة منه بهذا الصوت"1. والهمزة عند الدكتور أنيس2، صوت لا هو بالمجهور ولا بالمهموس. وهذا الرأي عند الدكتور كمال بشر3 هو الرأي الراجح، إذ يقول: "والقول بأن الهمزة صوت لا بالمهموس ولا بالمجهور، هو الرأي الراجح؛ إذ إن وضع الأوتار الصوتية حال النطق بها، لا يسمح بالقول بوجود ما يسمى بالجهر، أو ما يسمى بالهمس".

_ 1 مناهج البحث في اللغة 97. 2 الأصوات اللغوية 83. 3 علم اللغة: الأصوات 143.

وهذا رأي غريب، لم يرض عنه جمهرة الدارسين للأصوات، يقول الدكتور أيوب: "يقرر الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه: الأصوات اللغوية، أن الهمزة صوت لا هو بالمجهور ولا هو بالمهموس. وبالرجوع لتعريف الدكتور أنيس للجهر والهمس في الكتاب نفسه، نجد أنه يصف الجهر بأنه صوت موسيقي، يحدث من اهتزاز الوترين الصوتيين، اهتزازا منظما. ويصف الصوت الهموس، بأنه الصوت الذي لا يهتز معه الوتران الصوتيان. ومعنى هذا أن الأوتار الصوتية، إما أن تتذبذب فيحدث الجهر، أو لا تتذبذب فيحدث الهمس، ولا ثالث لهاتين الإمكانيتين. ومن ثم فإن وصف الدكتور أنيس للهمزة، بأنها ليست مجهورة ولا مهموسة، وصف غير دقيق"1. وقد كانت "قريش" وأهل الحجاز لا يهمزون في كلامهم، وذلك على العكس من القبائل النجدية، كقبيلة "تميم"، فقد "قال أبو زيد": أهل الحجاز وهذيل، وأهل مكة والمدينة لا ينبرون. وقف عليها عيسى بن عمر، فقال: ما آخذ من قول تميم إلا بالنبر، وهم أصحاب النبر، وأهل الحجاز إذا اضطروا نبروا. قال: وقال أبو عمر الهذلي: قد توضيت، فلم يهمز وحولها ياء، وكذلك ما أشبه هذا من باب الهمز"2. والنبر هو الهمز في اصطلاح القدماء، قال ابن منظور: "والنبر همز الحرف. ولم تكن قريش تهمز في كلامها. ولما حج المهدي قدم الكسائي يصلي بالمدينة، فهمز فأنكر أهل المدينة عليه، وقالوا: تنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن؟! 3".

_ 1 أصوات اللغة 183 هامش 2. 2 انظر مقدمة لسان العرب لابن منظور 1/ 14. 3 لسان العرب "نبر" 7/ 40 وانظر الخبر في كلام عن الهمز كذلك في غريب الحديث لابن قتيبة 2/ 633.

كما قال الفراء: "وقوله: "تأكل منسأته"، همزها عاصم والأعمش، ولم يهمزها أهل الحجاز ولا الحسن، ولعلهم أرادوا لغة قريش، فإنهم يتركون الهمز"1. وقال ابن عبد البر في التمهيد: قول من قال: نزل القرآن بلغة قريش، معناه عندي: في الأغلب؛ لأن لغة غير قريش موجودة في جميع القرآن، من تحقيق الهمز ونحوه، وقريش لا تهمز2. وقال صاحب كتاب: المباني في نظم المعاني: "فأما الهمز، فإن من العرب من يستعمله، وهم تميم ومن يوافقها في ذلك، ومنهم من يقل استعمالهم له، وهم هذيل وأهل الحجاز"3. وهذا كله معناه أن لهجة الحجازيين الأصلية تسهيل الهمز. أما قول عيسى بن عمر الثقفي فيما تقدم: "فإذا اضطروا نبروا" فيمكن أن يكون معناه أن الحجازيين، إذا اصطنعوا اللغة المشتركة التي أخذت الهمز من تميم، فإنهم يحققون الهمز في هذه الحالة، كما يمكن أن يكون عيسى بن عمر، قد قصد بذلك الهمزة التي توجد في أول الكلمة، إذا كان الحجازيون يحققونها فعلا، ولم تكن قد تحولت كذلك في نطقهم إلى صوت من أصوات العلة، أو تضييق حنجري، شبيه بأصوات العلة. أما الهاء: فإنها صوت رخو مهموس مرقق، يتم نطقه بأن يحتك الهواء الخارج من الرئتين، بمنطقة الأوتار الصوتية دون أن تحدث ذبذبة لهذه

_ 1 معاني القرآن للفراء 2/ 356. 2 انظر: البرهان للزركشي 1/ 284. 3 انظر: مقدمتان في علوم القرآن 226.

الأوتار، ويرتفع الطبق ليسد المجرى الأنفي، ويتخذ الفم عند النطق بالهاء نفس الوضع، الذي يتخذه عند النطق بالحركات "وسنتحدث عن ذلك فيما بعد". ولولا هذا الحفيف الذي يحدث بمنطقة الأوتار الصوتية، لما سمع غير صوت الزفير العادي، كما أن انعدام الذبذبات هنا، هو الذي يميز الهاء عن الحركات. ويرى الدكتور تمام أن صوت الهاء مجهور "يتم النطق به بتضييق الأوتار الصوتية، إلى مرحلة في منتصف الطريق بين الهمس والجهر، حتى إذا مر هواء الرئتين بينهما، كان لاحتكاكه بهما أثر صوتي لا هو بالحس "يقصد جرس الصوت الذي يتردد صداه في حجرات الرنين في الجهاز النطقي، وهي حالة الجهر"، ولا هو بالنفس.. هذا الأثر الصوتي فيه بعض الذبذبة، وهو ما يجعلنا ننظر إلى هذ الصوت باعتباره مجهورا"1. كما يرى الدكتور أنيس أن "الهاء عادة صوت مهموس يجهر به في بعض الظروف اللغوية الخاصة"2. ويظهر أنه التبس عليهما صوت الهاء بصوت الحركات، في الأمثلة التي استنبطا منها هذا الحكم. والحركات مجهورة دائما، كما سنرى فيما بعد. وبوصفنا لصوت الهاء، ننتهي من وصف الأصوات الصامتة في العربية الفصحى. ويهمنا هنا أن نقول مع "ماريوباي" إن "عدد الأصوات التي يمكن لجهاز النطق الإنساني أن ينتجها، لم يمكن حصرها أو تقديرها على وجه الدقة حتى الآن. وهذا يرجع إلى أن أقل انحراف في المخرج، يمكن

_ 1 مناهج البحث في اللغة 103. 2 الأصوات اللغوية 82.

أن يعطي نتائج مختلفة، تدركها الأجهزة الحساسة، مثل السبكتروجراف أو مسجل تردد الموجات الصوتية، إن لم تدركها الأذن. وأيضا فإن كثيرا من الأصوات الإنسانية، التي لا تعد أصواتا كلامية في بعض اللغات، تعد بكل تأكيد أصواتا كلامية في بعضها الآخر"1. وفيما يلي جدول لمخارج الأصوات وصفاتها، على النحو الذي شرحناه:

_ 1 أسس علم اللغة 45.

بيننا وبين القدماء في وصف بعض الأصوات

بيننا وبين القدماء في وصف بعض الأصوات الضاد ... بيننا وبين القدماء في وصف بعض الأصوات: حين نطالع كتب القدماء من علماء العربية في وصف أصوات اللغة الفصحى، نجد خلافا بيننا وبينهم في وصف بعض هذه الأصوات. ويرجع ذلك في نظرنا إلى أحد أمرين، أولهما: أن نطق العربية الفصحى أصابه التطور فاختلف نطق بعض الأصوات في زماننا على مستوى النطق الفصيح، عنه في زمان أولئك القدماء، الذين وصفوا ما سمعوه، وأصابوا في هذا الوصف. والثاني أن يكون نطق الفصحى في زماننا، هو بعينه نطق العرب القدماء، لم يصبه تطور، ولم يحدث فيه تغيير، غير أن القدماء وهموا في وصف هذا النطق. ونحن نميل في الأعم الأغلب، إلى تصديق القدماء في أوصافهم، ونؤمن بالتطور اللغوي الذي أصاب بعض أصوات الفصحى، ولا نلجأ إلى تخطئة القدماء في وصفهم إلا إذا أعيتنا الحيل في القول بتطور هذا الصوت أو ذاك. وينحصر الخلاف بيننا وبين القدماء في وصف خمسة أصوات وهي: الضاد والطاء والجيم والقاف والعين. وفيما يلي تفصيل القول في ذلك: الضاد: عرفنا من قبل أن الضاد حسب نطقنا لها الآن، تعد المقابل المفخم للدال، أي أنها صوت شديد مجهور مفخم، ينطق بنفس الطريقة، التي تنطق بها الدال، مع فارق واحد، هو ارتفاع مؤخرة اللسان نحو الطبق، في النطق بصوت الضاد. وعلى هذا فالضاد العربية هي المقابل المطبق للدال.

غير أننا إذا نظرنا إلى وصف القدماء لها، من النحويين واللغويين وعلماء القراءات، عرفنا أن الضاد القديمة، تختلف عن الضاد التي ننطقها الآن، في أمرين جوهريين: أولهما: أن الضاد القديمة ليس مخرجها الأسنان واللثة، بل حافة اللسان أو جانبه. وثانيهما: أنها لم تكن انفجارية "شديدة"، بل كانت صوتا احتكاكيا "رخوا". فقد عدها الخليل بن أحمد، في حيز الجيم والشين، وهما من الأصوات الغارية، فقال وهو يذكر أحياز الحروف: "ثم الجيم والشين والضاد في حيز واحد"1. كما يقول سيبويه: "ومن بين أول حافة اللسان وما يليه من الأضراس مخرج الضاد"2. ويوضح ذلك "المبرد" فيقول: "الضاد ومخرجها من الشدق، فبعض الناس تجري له في الأيمن، وبعضهم تجري له في الأيسر"3. كما يقول ابن جني: "ومن أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، مخرج الضاد، إلا أنك إن شئت تكلفتها من الجانب الأيمن، وإن شئت من الجانب الأيسر"4. يتضح من هذه النصوص، الفرق الأول بين الضاد القديمة والضاد

_ 1 كتاب العين للخليل بن أحمد 1/ 64. 2 كتاب سيبويه 2/ 405. 3 المقتضب للمبرد 1/ 193. 4 سر صناعة الإعراب 1/ 52.

التي ننطقها الآن، وأنها كانت جانبية، وليست أسنانية لثوية. أما الفرق الثاني، وهو أنها لم تكن انفجارية، بل احتكاكية أو رخوة، فيتضح من قول سيبويه في تقسيم الحروف: "ومنها الرخوة وهي: الهاء والحاء والغين والخاء والشين والصاد والضاد والزاي والسين والظاء والثاء والذال والفاء"1. وقد عرفنا من قبل أن الضاد التي ننطقها اليوم في مصر، هي المقابل المطبق أو المفخم للدال، فالدال صوت ينطق بنفس الطريقة التي ينطق بها صوت الضاد، مع فارق واحد، وهو أن مؤخرة اللسان، ترتفع قليلا في اتجاه الطبق عند نطق الضاد، ولا يحدث مثل ذلك مع الدال. أما الضاد القديمة، فلا يقابلها شيء من الأصوات؛ إذ يقول سيبويه: "ولولا الإطباق ... لخرجت الضاد من الكلام؛ لأنه ليس شيء من موضعها غيرها"2. وعلى هذا فالضاد التي ننطقها اليوم، ليست هي الضاد القديمة، التي كانت عند العرب القدماء، وإنما هي تطور عنها. ولنسمع في هذه الضاد القديمة آراء بعض العلماء: يقول المستشرق "شاده" عن سيبويه إنه "عد من الرخوة حرفا خرج منها بعده، في كثير من اللهجات العربية، وهو الضاد، فإنها ليست الآن من الرخاوة إلا في لفظ من قال: ضرب مثلا، بضاد جانبية المخرج. وأما في النطق المعتاد في مصر، يعني بضاد مقدمة المخرج، فقد لحقت فيه الشديدة"3.

_ 1 كتاب سيبويه 2/ 406. 2 كتاب سيبويه 2/ 406. 3 علم الأصوات عند سيبويه وعندنا ص9.

ويقول المستشرق "برجشتراسر": "أما الضاد فهي الآن شديدة عند أكثر أهل المدن، وهي رخوة "عند القدماء" كما هي الآن عند أكثر البدو، ومع ذلك فليس لفظها البدوي الحاضر نفس لفظها العتيق؛ لأن مخرج الضاد "عند القدماء" من حافة اللسان. ومن القدماء من يقول: من جانبه الأيسر، ومنهم من يقول: من الأيمن، ومنهم من يقول: من كليهما، فمخرجها قريب من مخرج اللام من بعض الوجوه. والفرق بينهما هو أن الضاد من الحروف المطبقة كالصاد، وأنها من ذوات الدوي "الاحتكاك"، واللام غير مطبقة، صوتية محضة، فالضاد العتيقة حرف غريب جدا، غير موجود -حسبما أعرف- في لغة من اللغات إلا العربية، ولذلك كانوا يكنون عن العرب، بالناطقين بالضاد. ويغلب على ظني أن النطق العتيق للضاد، لا يوجد الآن عند أحد من العرب، غير أن للضاد نطقا قريبا منه جدا عند أهل حضرموت، وهو كاللام المطبقة. ويظهر أن الأندلسيين، كانوا ينطقون الضاد مثل ذلك، ولذلك استبدلها الإسبان بصوت "ld" في الكلمات العربية المستعارة في لغتهم، مثال ذلك أن كلمة: "القاضي" صارت في الإسبانية alcalde. ومما يدل أيضا على أن الضاد كانت في نطقها قريبة من اللام، أن الزمخشري ذكر في كتابه: "المفصل" أن بعض العرب، كانت تقول: "الطجع" بدل: "اضطجع". ونشأ نطق الضاد عند البدو، من نطقها العتيق بتغيير مخرجها من حافة اللسان إلى طرفه، ونطقها عند أهل المدن، نشأ من هذا النطق البدوي، يإعماد طرف اللسان على الفك الأعلى، بدل تقريبه منه فقط، فصار الحرف بذلك في نطقه شديدا، بعد أن كان رخوا"1.

_ 1 التطور النحوي 18.

ويبدو أن ما حدث للكلمة العربية ذات الضاد في الإسبانية، حدث مثله لتلك الكلمات في اللغة الإندونيسية، مثل قولهم: hail= حيض، lalalat= ضلالة، loha= ضحى1. ويرى "كانتينو" أن "النطق القديم كان "ظ ل"، أي ظاء ذات زائدة انحرافية، أي بتقريب طرف اللسان، من الثنايا كما في النطق بالظاء، وبأن يجري النفس لا من طرف اللسان فقط، بل من جانبيه أيضا2. كما يقول المستشرق "هنري فليش": "ولقد كان العرب يتباهون بنطقهم الخاص لصوت الضاد، وهو عبارة عن صوت مفخم، يحتمل أنه كان ظاء جانبية أي أنه كان يجمع الظاء واللام في ظاهرة واحدة. وقد اختفى هذا الصوت، فلم يعد يسمع في العالم العربي، وأصبح بصفة عامة إما صوتا انفجاريا، هو مطبق الدال، وإما صوتا أسنانيا هو الظاء"3. وأخيرا يرى الدكتور إبراهيم أنيس أنه "يستدل من وصف القدماء لهذا الصوت، على أن الضاد كما وصفها الخليل ومن نحوا نحوه، تخالف تلك الضاد التي ننطق بها الآن؛ إذ معها ينفصل العضوان المكونان للنطق انفصالا بطيئا نسبيا، ترتب عله أن حل محل الانفجار الفجائي انفجار بطيء، نلحظ معه مرحلة انتقال بين هذا النوع من الأصوات، وما يليه من صوت لين، فإذا نطق بالضاد القديمة، وقد وليتها فتحة مثلا، أحسسنا بمرحلة انتقال بين الصوتين، تميز فيها كل منهما تميزا كاملا هذا إلى أن

_ 1 انظر: Kamus Lengkap. 2 دروس في علم أصوات العربية 86. 3 العربية الفصحى 37

الضاد، كما وصفها القدماء، كانت تتكون بمرور الهواء بالحنجرة، فيحرك الوترين الصوتيين، ثم يتحذ مجراه في الحلق والفم، غير أن مجراه في الفم جانبي عن يسار الفم عند أكثر الرواة، أو عن يمينه عند بعضهم، أو من كلا الجانبين، كما يستفاد من كلام سيبويه ... والذي نستطيع تأكيده هنا، هو أن الضاد القديمة، قد أصابها بعض التطور، حتى صارت إلى ما نعهده لها من نطق في مصر ... ولا يزال العراقيون حتى الآن، وبعض البدو ينطقون بنوع من الضاد، يشبه إلى حد ما الظاء، كما يشبه إلى حد كبير ذلك الوصف، الذي روي لنا عن الضاد القديمة. والذين مارسوا التعليم في بلاد العراق يذكرون، كيف يخلط التلاميذ هناك بين الظاء والضاد. والضاد القديمة -كما أتخيلها- يمكن النطق بها، بأن يبدأ المرء بالضاد الحديثة، ثم ينتهي نطقه بالظاء، فهي إذن مرحلة وسطى، فيها شيء من شدة الضاد الحديثة، وشيء من رخاوة الظاء العربية، ولذلك كان يعدها القدماء من الأصوات الرخوة"1. هذه هي بعض الآراء التي قيلت في الضاد العربية القديمة. ويبدو من وصف القدماء لها، ومن تطورها في بعض اللهجات واللغات، أنها كانت لاما مطبقة، كما يقول "برجشتراسر"، كما يبدو أنها كان فيها بعض الشبه بالظاء والضاد، وإلا ما تطورت في اتجاه كل واحد من هذين الصوتين، في اللهجات العربية الحديثة. وأما ما ذهب إليه الدكتور كمال بشر، من احتمال أن يكون القدماء قد "وصفوا الضاد المولدة، لا الضاد العربية الأصلية"2، وترجيحه هذا

_ 1 الأصوات اللغوية، للدكتور إبراهيم أنيس 49. 2 علم اللغة العام: الأصوات 137.

الاحتمال بقوله: "ربما لكثرة استعمال هذا الصوت المولد، وشيوعه على الألسنة، عند قيام حركة التأليف اللغوي" فقد بنى مذهبه هذا على نص مصحف، في ترجمة المرحوم النجار لكتاب "العربية" للمستشرق "يوهان فك"، وهو: "كما يتعلق بهذا أيضا تغيير حرف الضاد. وهذا الصوت الذي هو في أصله، الحرف المطبق القسيم للدال، خاص بالعربية"1. هذا النص بهذه الصورة، يفهم منه أن الضاد في الأصل، هي النظير المفخم للدال، أي أنها حينئذ كما يقول الدكتور بشر "كانت تشبه ضادنا الحالية، أو هي هي". غير أن ترجمة النجار بها تصحيف في هذا الموضع للأسف، وصوابه كما في الأصل الألماني2: "الحرف المطبق القسيم للذال". وقد حدث مثل هذا التصحيف مرة أخرى، في تلك الترجمة: "كالدال المفخمة"3، وصوابه كما في الأصل الألماني4: "كالذال المفخمة". وإذا نظرنا إلى اللغات السامية، وجدنا أن الضاد العربية تقابل صادا في اللغة الأكادية والأوجاريتية والعبرية، فكلمة "أرض" في العربية، تقابل كلمة ersetu في الأكادية وكلمة ars في الأوجاريتية5، وكلمة eres في العبرية، كما تقابل الضاد عينا في السريانية مثل ara بمعنى "أرض"

_ 1 العربية ليوهان فك، بترجمة النجار 102/ 9. 2 Arabiya s 58 20 انظر ترجمتنا للعربية 111/ 9. 3 العربية، بترجمة النجار 103/ 2. 4 Arabiyss وانظر ترجمتنا 112/ 2. 5 أحيانا تقابل الضاد ظاء في الأوجاريتية كذلك. انظر كتاب: "جوردون" cH Gordon Ugarite Manuel p 23.

كذلك. ولم تبق ضادا إلا في العربية الشمالية، والعربية الجنوبية "السبئية والمعينية" والحبشية، مثل كلمة rd في العربية الجنوبية، بمعنى"أرض" كذلك1، وكلمة dahay بمعنى: "الشمس، الضحى" في الحبشية2. وتقول مارية هفنر": إن "هذه الضاد احتكاكية في الحبشية، ولا بد أنها كانت كذلك في العربية الجنوبية. والدليل على صحة ذلك، ورود بعض الكلمات، التي كتبت بالضاد في بعض النقوش، وبالزاي في بعضها الآخر، فلو كانت هذه الضاد انفجارية، لما التبست على الكاتب إطلاقا، فدلت كتابته إياها بصورة الزاي على أنها كانت احتكاكية"3. وإذا كانت الضاد بهذه الصورة، توجد في بعض اللغات السامية كما رأينا، كان من التجوز قول ابن جني: "واعلم أن الضاد للعرب خاصة، ولا يوجد في كلام العجم إلا في القليل"4. أما السر في إطلاق "لغة الضاد" على اللغة العربية، فإنه يكمن في أن هذه الضاد، كانت مشكلة عويصة بالنسبة لمن يريد أن يتعلم العربية من الأعاجم. ويقول الدكتور إبراهيم أنيس: "يظهر أن القديمة، كانت عصية النطق على أهالي الأقطار التي فتحها العرب، أو حتى على بعض

_ 1 انظر كتاب "موسكاتي" Moscati An lntroduction وكتاب "بروكلمان" C Brokeln Grondriss l 128. 2 انظر كتاب "بريتوريوس" Praetorius Athiop.Grammatik 3 انظر MHofner Altsudarabische Grammatik 18. 4 سر صناعة الإعراب 1/ 222.

القبائل العربية في شبه الجزيرة، مما يفسر تلك التسمية القديمة "لغة الضاد"، كما يظهر أن النطق القديم بالضاد، كان إحدى خصائص لهجة قريش"1. ويقول ابن الجزري: "والضاد انفرد بالاستطالة، وليس في الحروف ما يعسر على اللسان مثله، فإن ألسنة الناس فيه مختلفة، وقل من يحسنه، فمنهم من يخرجه ظاء، ومنهم من يمزجه بالذال، ومنهم من يجعله لاما مفخمة، ومنهم من يشمه الزاي. كل ذلك لا يجوز"2. وكل هذا الذي حكاه ابن الجزري، روت لنا كتب الإبدال طرفا منه، فمن أمثلة الضاد والظاء، ما حكاه أبو الطيب اللغوي من قوله: "الحضل والحظل: فساد يلحق أصول سعف النخل"3. ومن أمثلة الضاد والذال: "ما ينبض له عرق نبضا، وما ينبذ له عرق نبذا، وقد نبض العرق ينبض، ونبذ ينبذ إذا ضرب"4. ومن أمثلة الضاد واللام: "تقيض فلان أباه وتقيله، تقيضا، وتقيلا: إذا نزع إليه في الشبه"5. ومن أمثلة الضاد والزاي: "أنا على أوفاز، وعلى أوفاض، أي على عجلة"6.

_ 1 الأصوات اللغوية ص50 2 النشر في القراءات العشر 1/ 219 3 الإبدال لأبي الطيب 2/ 270 4 الإبدال لأبي الطيب 2/ 16 5 الإبدال لأبي الطيب 2/ 277 6 الإبدال لأبي الطيب 2/ 138

ويحدثنا اللغويون عما سموه "بالضاد الضعيفة"، وهو مظهر من مظاهر عدم تمكن بعض العرب القدماء، من نطق الضاد التي عرفنا وصفها من قبل، يقول ابن يعيش: "والضاد الضعيفة من لغة قوم اعتاصت عليهم، فربما أخرجوها طاء، وذلك أنهم يخرجونها من طرف اللسان وأطراف الثنايا، وربما راموا إخراجها من مخرجها، فلم يتأت لهم، فخرجت بين الضاد والظاء"1. وقد وصلت إلينا بعض الأخبار، التي تؤكد لنا أن الناس كانوا يخلطون الضاد بالظاء في بعض الأحيان، فقد روى أبو علي القالي أن رجلا "قال لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أيضحى بضبي؟ قال: وما عليك لو قلت: بظبي؟! قال: إنها لغة. قال: انقطع العتاب، ولا يضحى بشيء من الوحش"2. كم سجل الجاحظ مثل هذا الخلط بين الضاد والظاء فقال: "وزعم يزيد مولى ابن عون، قال: كان رجل بالبصرة له جارية تسمى ظمياء، فكان إذا دعاها، قال: يا ضمياء بالضاد، فقال ابن المقفع: قل: يا ظمياء! فناداها: يا ضمياء، فلما غير عليه ابن المقفع، مرتين أو ثلاثا، قال له: هي جاريتي أو جاريتك؟! "3. ويذهب المستشرق "برجشتراسر" إلى أن "نطق الظاء، كان قريبا من نطق الضاد، وكثيرا ما تطابقتا وتبادلتا، في تاريخ العربية. وأقدم مثال لذلك،

_ 1 شرح المفصل 10/ 127 وانظر كلاما غير مفهوم عن هذه الضاد الضعيفة، في كتاب سيبويه 2/ 404. 2 ذيل الأمالي والنوادر للقالي 143 وانظر الخبر برواية أخرى، في المزهر للسيوطي 1/ 562، 563. 3 البيان والتبيين 2/ 211.

مأخوذ من القرآن الكريم، وهو: "الضنين" في سورة التكوير 81/ 24، فقد قرأها كثيرون بالظاء مكان الضاد، التي رسمت بها في كل المصاحف. وممن قرأها بالظاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما قال مكي في كتاب الكشف"1. ومما لا شك فيه، أن العرب القدامى في البيئة القرشية، كانوا يفرقون بين الضاد والظاء، بدليل أن الكتابة العربية، التي شاعت أول ما شاعت في قريش، فرقت بين الصوتين في الصورة الموضوعة لكل واحد منهما. ويقول الدكتور إبراهيم أنيس: "لا يخالجنا الآن أدنى شك في أن العرب القدماء كانوا في نطقهم يميزون هذين الصوتين، تمييزا واضحا، ولكنهم فيما يبدو، كانوا فريقين: فريق يمثل الكثرة الغالبة، وهؤلاء هم الذين كانوا ينطقون بهما ذلك النطق، الذي وصفه سيبويه. أما الفريق الآخر، فكان يخلط بين الصورتين ... وهذا الخلط الذي وقع في بعض اللهجات المغمورة، إنما كان سببه أن هذين الصوتين -على حسب وصف سيبويه لهما- يشتركان في بعض النواحي الصوتية، أو بعبارة أخرى، كان وقعهما في الآذان متشابها. ولعل مما يستأنس به لهذا التشابه بين الصوتين في النطق القديم، وقوعهما في فاصلتين متواليتين من فواصل القرآن الكريم2، مثل ما جاء في قوله تعالى:

_ 1 التطور النحوي 11 وانظر الكشف لمكي 2/ 364 ويرى المفسرون أن المعنى مختلف على القراءتين، فهي بالضاد بمعنى: "بخيل"، وبالظاء بمعنى: "متهم". انظر الكشف في الموضع السابق، وتفسير القرطبي 19/ 242 وزينة الفضلاء 97. 2 يرى الدكتور إبراهيم أنيس، أن الانسجام الموسيقي بين فواصل كثير من الآيات القرآنية، يهدينا إلى النطق الأصلي لبعض أصوات اللغة وقت نزول القرآن. انظر مقاله: "على هدي الفواصل القرآنية" في مجموعة البحوث والمحاضرات لمجمع اللغة العربية "1961/ 1962" ص107-118.

{فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ، وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} 1. ولعل هذا الخلط بين صوتي الضاد والظاء، كان قد شاع في القرن الثالث الهجري، وكان هذا هو السر فيما ذهب إليه أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، اللغوي المشهور "المتوفى سنة 231هـ" من أنه يجوز عند العرب، أن يعاقبوا بين الضاد والظاء، فقد روى ابن خلكان2، أن ابن الأعرابي كان يقول: "جائز في كلام العرب أن يعاقبوا بين الضاد والظاء، فلا يخطئ من يجعل هذه في موضع هذه وينشد: إلى الله أشكو من خليل أوده ... ثلاث خصال كلها لي غائض بالضاد "بدل غائظ"، ويقول: هكذا سمعته من فصحاء العرب". ويزعم ابن جني أن ذلك ليس من باب المعاقبة، وإنما هي مادة أخرى، فيقول: "ويجوز عندي أن يكون غائض غير بدل. ولكنه من غاضه، أي نقصه، فيكون معناه: ينقصني ويتهضمني"3. والدليل على أن الخلط بين الضاد والظاء قديم في العربية، تلك المؤلفات الكثيرة، التي تعالج هذه المشكلة من قديم4. ولقد كانت محاولات بعض من ألف في هذا الموضوع من اللغويين العرب، منحصرة

_ 1 سورة فصلت 41/ 50، 51 وانظر: معنى القول المأثور لغة الضاد 118، 119. 2 وفيات الأعيان 3/ 433 وانظر كذلك: طبقات الزبيدي 215. 3 سر صناعة الإعراب 1/ 222. 4 انظر الإحصاء الذي علمناه لهذه المؤلفات في مقالتنا: "مشكلة الضاد العربية وتراث الضاد والظاء" في مجلة المجمع العلمي العراقي "المجلد 21 سنة 1971" ومقدمة زينة الفضلاء لابن الأنباري بتحقيقنا.

أحيانا في تنبيه الكتاب، حتى لا يخلطوا الضاد بالظاء في خطوطهم، متأثرين في ذلك بنطقهم، الذي كان من العسير إصلاحه. ونحن نرى أثر هذا الخلط بين الضاد والظاء، في بعض البلاد العربية، في أيامنا هذه، فقد سبق أن أوردنا ما حكاه الدكتور أنيس عن نطق العراقيين للضاد نطقا مشابها للظاء. وليس هذا الأمر خاصا بالعراقيين فحسب، بل إن أهل تونس يخلطون في أيامنا هذه بين الضاد والظاء، فينطقونهما قريبين من الظاء. وكان لنا زميل تونسي بجامعة ميونخ، يسألنا إن كانت هذه الكلمة أو تلك، تكتب بالظاء المشالة أو غير المشالة1؟ وهو يقصد بالمشألة، التي فوقها ألف، وهي الظاء المعروفة، وبغير المشالة: الخالية من هذه الألف في الخط، وهي الضاد المعروفة. أما الضاد القديمة، فقد عرفنا من قبل أن هناك نطقا يشبهه، عند أهل حضرموت، وهو كاللام المطبقة فيما ذكره المستشرق "برجشتراسر". ويضيف الدكتور خليل نامي إلى ذلك أن "هذا النطق موجود أيضا في لهجات منطقة ظفار كالمهرية والشحرية، كما هو موجود أيضا في منطقة دثينة، بجنوب بلاد العرب، وهو موجود أيضا في لهجات الجزيرة بالسودان"2.

_ 1 تعبير "الظاء المشالة" تعبير قديم، كما يطلق على الطاء كذلك انظر: شرح القاموس لابن الطيب الفاسي 1/ 112، 113. 2 انظر مقالة الدكتور خليل نامي: "حرف الضاد وكثرة مخارجه" في مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة "العدد الأول من المجلد 21" مايو 1959 ص62 وانظر كذلك: "دروس في علم أصوات العربية" لكانتينو 87.

الطاء

الطاء: عرفنا من قبل أن الطاء، كما ينطق بها اليوم، تقابل التاء في الترقيق والتفخيم، أي أنها صوت شديد مهموس مفخم، ولا فرق بينهما إلا في أن مؤخرة اللسان ترتفع تجاه الطبق عند نطق الطاء ولا ترتفع نحوه في نطق التاء. أما الطاء عند القدماء، فهي صوت شديد مجهور مفخم، عدها سيبويه من الأصوات المجهورة، كما قال عنها: "ولولا الإطباق لصارت الطاء دالا"1. أي أنها نظير الدال المفخم، عند سيبويه، في حين أنها في نطقنا اليوم، نظير التاء المفخم، كما سبق أن ذكرنا ذلك. وقد مال معظم المحدثين، من دارسي الأصوات اللغوية، إلى تصديق رواية القدماء، عن الطاء العربية القديمة، من أنها كانت صوتا مجهورا، يشبه الضاد الحديثة، التي تطورت فضاع منها الجهر، وأصبحت تلك الطاء الحديثة، التي لم يكن لها وجود أصلا في العربية القديمة، فيذكر برجشتراسر أن "الطاء مهموسة اليوم، مجهورة "عند القدماء" ونطق الطاء العتيق قد أنمحى وتلاشى تماما"2. أما "شاده" فيرى على العكس من ذلك أن نطق الطاء العتيق، يوجد في جنوب جزيرة العرب، فيقول: "سيبويه يعد من المجهورة الطاء والقاف، وفي لفظ عصرنا لا نصيب للأوتار الصوتية في إنتاجهما، ولكن ذلك لا يصح إلا عن لفظ المدارس "يقصد الفصحى الحالية". وأما اللهجات فتخالفها مخالفة شديدة، فإن سكان جنوب جزيرة العرب مثلا،

_ 1 كتاب سيبويه 2/ 406. 2 التطور النحوي 9.

يلفظون الطاء، كأنها ضاد المصريين، والقاف كأنها جيم المصريين بإطباق، فيقولون مثلا: "وجع فوجنا مضر" يعني: وقع فوقنا مطر، أو "قضعت ورجة" يعني: قطعت ورقة. ومثل ذلك يصح عن غير لهجة جنوب جزيرة العرب، من اللهجات العصرية"1. وأما الدكتور إبراهيم أنيس، فيعترف كذلك بالتطور الذي أصاب نطق هذا الصوت، فأبعده عن حالته القديمة، فيقول: "وقد أجمع الرواة في وصفهم للطاء القديمة، على أنها صوت مجهور، مما يحملنا على الاعتقاد بأن الطاء القديمة، تخالف التي ننطق بها الآن، على أن وصف الطاء في كتب الأقدمين، لا يمكن الباحث المدقق من تحديد كل صفات ذلك الصوت، ولا كيف كان ينطق به على وجه الدقة، غير أنه من الممكن أن نستنتج من وصفهم أنها كانت صوتا يشبه الضاد، التي نعرفها الآن. وهنا يتضح معنى قول ابن الجزري: إن المصريين ينطقون بالضاد المعجمة طاء مهملة. وليس من المحتمل أن يكون القدماء قد خلطوا في وصفهم بين صفتي الجهر والهمس، فيما يتعلق بهذا الصوت، ولكن الذي أرجحه أن صوت الطاء، كما وصفها القدماء كان يشبه الضاد الحديثة. ولعل الضاد القديمة كانت تشبه ما نسمعه الآن من العراقيين في نطقها. ثم تطور الصوتان فهمست الأولى، وأصبحت الطاء التي نعرفها الآن، كما اختلف مخرج الثانية وصفتها، فأصبحت تلك الضاد الحديثة. أي أن ما كان يسمى بالطاء، كان في الحقيقة ذلك الصوت الذي ننطق به الآن ونسميه ضادا، فلما همست أصبحت الطاء الحديثة، التي -فيما يظهر- لم تكن معروفة في

_ 1 علم الأصوات عند سيبويه وعندنا 13.

النطق العربي القديم، أما الضاد القديمة العصية النطق، فقد تطور مخرجها وصفتها، حتى أصبحت على الصورة التي نعهدها في مصر"1. أما الدكتور تمام حسان، فيرى أن الطاء القديمة كانت مهموسة، غير أنها كانت ذات نطق مهموز، وهذا هو ما أوقع اللغويين القدامى في الخطأ -في نظره- حين عدوا هذه الطاء مجهورة، فيقول: "أما الطاء التي وصفها لنا القراء القدماء فمجهورة على ما رأوا، وهذا يحتاج إلى قليل من المناقشة، ففي بعض اللهجات العامية المعاصرة، صوت من أصوات الطاء، يمكن وصفه بأنه مهموز، ولإيضاح ذلك نقول: إن طرف اللسان ومقدمته، يتصلان في نطقه بالثنايا واللثة وتعلو مؤخرة اللسان وتتراجع إلى الخلف في اتجاه الجدار الخلفي للحلق، ويقفل المجرى الأنفي للهواء الخارج من الرئتين، بخلق اتصال بين الطبق والجدار الخلفي للحلق. وفي نفس الوقت تقفل الأوتار الصوتية، فلا تسمح بمرور الهواء إلى خارج الرئتين، وبذلك تتكون منطقة في داخل الفم والحلق، يختلف ضغط الهواء فيها عنه في الرئتين وفي الخارج. وفجأة يتم انفصال الأعضاء المتحركة، التي وصفنا اتصالها في وقت ما، فيندفع هواء الرئتين إلى الخارج، ويندفع الهواء الخارجي إلى الداخل، فيحدثان بالتقائهما أثرا صوتيا، هو صوت الطاء، كالتي تنطق في بعض لهجات الصعيد مثلا. "ومعنى كون الطاء مهموزة هنا، أنه صحبها إقفال الأوتار الصوتية حين النطق، فأصبح عنصر الهمز جزءا لا يتجزأ من نطقها. هذه الطاء مهموسة قطعا؛ لأن إقفال الأوتار الصوتية لا يسمح بوجود الجهر ... ويرجح عندي أن الطاء العربية الفصحى القديمة، التي وصفها القراء كانت في صوتها وفي نطقها بهذا الوصف، ثم لغرابة صوتها على السمع، أخطأ النحاة والقراء، فجعلوها مجهورة في دراستهم، وجعلوا الدال مقابلا مرققا لها"2.

_ 1 الأصوات اللغوية 58. 2 مناهج البحث في اللغة 94.

الجيم

الجيم: سبق أن عرفنا أن الجيم كما نسمعها الآن من مجيدي القراء، صوت غاري مجهور يجمع بين الشدة والرخاوة، وهو ما سبق أن سميناه بالصوت المزدوج. أما سيبويه فقد عدها من الأصوات الشديدة، وإن كان قد وضعها بين الشين والياء في مخرج واحد، وتابعه على ذلك غيره من علماء الأصوات العرب1. ويبدو أن الازدواج في نطق بعض الأصوات العربية، لم يكن واضحا في تصور العلماء العرب، بدليل وهمهم في وصف ظاهرتي الكشكشة والكسكسة، في نطق بعض القبائل العربية للكاف المكسورة2.

_ 1 سيبويه 1/ 405، 406 وسر صناعة الإعراب 1/ 69 وانظر كذلك فقرة بعنوان: "قضية الجيم" للدكتور إبراهيم أنيس، في مقال له بعنوان: "على هدي الفواصل القرآنية" في مجموعة البحوث والمحاضرات بمجمع اللغة العربية "1961، 1962م". 2 انظر كتابنا: فصول في فقه العربية 140-150.

القاف

القاف: عرفنا من قبل أن القاف، كما ينطق بها مجيدو القراءات في مصر، صوت لهوي شديد مهموس. أما سيبويه ومن جاء بعده من النحويين والقراء، فإنهم يصفون القاف بأنها مجهورة، ونستنتج "من وصف القدماء لهذ الصوت أنه كان يشبه إلى حد كبير، تلك القاف المجهورة التي نسمعها الآن بين القبائل العربية في السودان، وجنوب العراق، فهم ينطقون بها نطقا يخالف نطقها في معظم اللهجات العربية الحديثة؛ إذ نسمعها منهم نوعا من الغين"1. ويقول "كانتينو": "وبما أن قسما كبيرا من الألسن الدارجة العربية، ينطق بقاف مجهورة، أمكننا الاعتقاد على سبيل الاحتمال والترجيح، بأن القاف كان بالفعل حرفا مجهورا في العربية القديمة. ويمكن أن يكون نطقه مهموسا في العربية الفصحى اليوم، ناتجا عن كونه أصبح مهموسا في اللهجات الحضرية المدنية؛ لأن أغلبية المثقفين اليوم، هم من أصل مدني"2. ويبدو أن القبائل العربية، لم تكن تنطق القاف بصورة موحدة، فها هو ابن دريد اللغوي يقول: "فأما بنو تميم، فإنهم يلحقون القاف بالكاف، فتغلظ جدا، فيقول: الكوم، يريدون: القوم، فتكون القاف بين الكاف والقاف. وهذه لغة معروفة في بني تميم قال الشاعر: وقد تطورت القاف في اللهجات العربية الحديثة، تطورا كبيرا، فهي في كلام مصر والشام همزة، كما تنطق غينا في بعض مستويات النطق في

_ 1 الأصوات اللغوية للدكتور إبراهيم أنيس 77. 2 دروس في علم أصوات العربية 107. 3 جمهرة اللغة 1/ 5 وعلق كرنكو في الهامش بقول: "معنى تغليظ القاف التلفظ بالكاف الفارسي ... وهذا الشعر لأبي الأسود الدؤلي، ويروى لحاتم الطائي ولغيره". وانظر النص كذلك في الصاحبي لابن فارس 36.

السودان وجنوبي العراق، وفي بعض الكلمات في مصر، مثل: يقدر يغدر. وتسمع جيما كالجيم القاهرية، في بعض البيئات بصعيد مصر، وبين كثير من قبائل البدو في الصحراء. وكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة للتطور، له أمثلته في العربية القديمة، فمن الأمثلة التي وردت بالقاف والهمزة، ما رواه أبو الطيب اللغوي، من قول العرب: قشبه وأشبه، أي لامه وعابه. والقوم زهاق مائة وزهاء مائة، أي قريب من مائة. والقفز والأفز، أي الوثب1. ومن الأمثلة التي وردت بالقاف والغين قولهم: غلام أقلف وأغلف، أي لم يختن. والقمز من الناس والغمز، أي الرذال ومن لا خير فيه. وقلقل في الأرض وغلغل، أي ذهب في الأرض2. ومن أمثلة القاف والجيم قولهم: بائقة وبائجة للداهية. وحبق وحبج، أي ضرط. وأحنق وأحنج، أي ضمر الفرس. وتلقفت البئر وتلجفت، أي أكل الماء جوانبها، وزلقت الموضع وزلجته، أي ملسته3. والملاحظ أن التطور الذي أصاب القاف هنا بأنواعه كان بتغيير مخرجها، وتطور الصوت بتغيير مخرجه يكون "بأحد طريقين: إما بانتقال المخرج إلى الوراء، أو إلى الأمام، باحثا الصوت في انتقاله، عن أقرب الأصوات شبها به، من الناحية الصوتية. فتعمق القاف في الحلق عند المصريين لا يصادف من أصوات الحلق، ما يشبه القاف إلا الهمزة، لوجود

_ 1 الإبدال لأبي الطيب 2/ 561، 562. 2 الإبدال لأبي الطيب 2/ 328، 329. 3 الإبدال لأبي الطيب 1/ 239-245.

صفة الشدة في كل منهما. فليس غريبا إذن أن تطورت القاف في لغة الكلام عندنا إلى الهمزة، فليس بين أصوات الحلق صوت شديد إلا الهمزة. أما الانتقال بمخرج القاف إلى الأمام، فنجد أن أقرب المخارج لها، هو مخرج الجيم القاهرية والكاف، فلا غرابة أن تتطور القاف إلى أحدهما. وقد رحج تطور القاف في لغة البدو، وبعض أهالي صعيد مصر، إلى الجيم القاهرية، أن القاف في الأصل صوت مجهور، فحين تتطور تنتقل إلى صوت مجهور أيضا، يشبهها صفة، لهذا اختارت القاف في تطورها الأمامي، الجيم دون الكاف؛ لأن كلا من القاف الأصلية، والجيم القاهرية، صوت شديد مجهور"1. هذا، ويلاحظ "كانتينو" أن اللهجات الحديثة، التي صار القاف القديم فيها حرفا مهموسا "أي القاف التي ننطقها اليوم، أو الكاف، أو الهمزة" هي لهجات حضرية2.

_ 1 الأصوات اللغوية للدكتور إبراهيم أنيس 79. 2 دروس في علم أصوات العربية 108.

العين

العين: عرفنا من قبل أن العين صوت حلقي رخو مجهور مرقق بحسب الوصف المؤسس على التجارب المعملية الصوتية في العصر الحديث. وقد عد سيبويه وغيره من القدماء1، صوت العين من الأصوات المتوسطة، "وربما كان ذلك، لعدم وضوح الاحتكاك في نطقه وضوحا سمعيا. ولكن الأصوات المتوسطة تشترك جميعها في خصائص، ليست موجودة في نطق العين، وأوضح هذه الخصائص، حرية مرور الهواء في المجرى الأنفي، أو المجرى الفمي، دون سد طريقه، أو عرقلة سيره، بالتضييق عند نقطة ما. وقد اتضح بصورة الأشعة، أن في نطق العين تضيقا كبيرا للحلق. وهذا ما يدعونا وما دعا غيرنا من المحدثين قبل ذلك، إلى اعتبار صوت العين رخوا لا متوسطا"2.

_ 1 سيبويه 1/ 406 وسر صناعة الإعراب 1/ 69. 2 مناهج البحث في اللغة 102.

نظرية الفونيم والكتابة

نظرية الفونيم والكتابة: من الملاحظ في دراسة أية لغة من اللغات، أن مجموعة من الأصوات، التي قد تختلف فيما بينها، من ناحية المخرج أو الصفة، ينظر إليها من ناحية الكتابة والمعنى المعجمي، كما لو كانت صوتا واحدًا، وذلك مثل صوت "النون" في اللغة العربية مثلا، فقد لاحظنا من قبل أن ما يسمى بصوت النون في لغتنا العربية يندرج تحته عدد من الأصوات، يختلف فيما بينه في المخرج إلى حد ما، فالنون الموجودة في كلمة: "نقول" مثلا، غيرها في "إن ثار" أو "إن ظهر" و"إن شرق" أو "إن قام" وغير ذلك. وهذه الأصوات المختلفة المخارج، نطلق عليها جميعا اسم "صوت النون". ومثال ذلك أيضا، أن السين في كلمة: "سماء" تختلف من ناحية الصفة، عنها في كلمة: "سطاء" مثلا، فهي في الثانية ذات قيمة تفخيمية، ليست في الأولى، ومع ذلك فإننا نسمي كل واحدة منهما سينا، ونرمز لهما في الكتابة برمز واحد، كما نرمز لأصوات النون المختلفة فيما مضى، برمز واحد في الكتابة كذلك. هذه الأصوات المختلفة، التي يعبر عنها في الكتابة برمز واحد، ولا تستخدم في اللغة للتفريق بين المعاني المختلفة، هي ما يطلق عليه الغربيون اسم: "فونيم1 Phoneme= وحدة صوتية/ عائلة صوتية. وفي إمكاننا نحن أن نطلق عليه اسم: "حرف" مقصودًا به الرمز الكتابي، ونعمل بذلك على التفريق بين الاصطلاحين: "صوت" و"حرف". فالصوت هو ذلك

_ 1 انظر لنظرية "الفونيم" أسس علم اللغة لما ريوباي 48، 87.

الذي نسمعه ونحسه، أما الحرف فهو ذلك الرمز الكتابي، الذي يتخذ وسيلة منظورة، للتعبير عن صوت معين، أو مجموعة من الأصوات لا يؤدي تبادلها في الكلمة، إلى اختلاف المعنى. فالفرق بين الصوت والحرف "هو فرق ما بين العمل والنظر، أو بين المثال والباب، أو بين أحد المفردات والقسم الذي يقع فيه، فالصوت عملية نطقية تدخل في تجارب الحواس، وعلى الأخص السمع والبصر، يؤديه الجهاز النطقي حركة، وتسمعه الأذن، وترى العين بعض حركات الجهاز النطقي حين أدائه. أما الحرف فهو عنوان مجموعة من الأصوات، يجمعها نسب معين، فهو فكرة عقلية لا عملية عضلية. وإذا كان الصوت مما يوجده المتكلم، فإن الحرف مما يوجده الباحث"1. ويقول "فندريس": "لسنا في حاجة إلى القول بأننا لا نستطيع إحصاء الأصوات في لغة ما، بعدد الحروف الموجودة في أبجديتها. فكل لغة فيها من الأصوات، أكثر مما في كتابتها من العلامات. تلك حال الفرنسية والإيطالية والإنجليزية والألمانية، ومع ذلك فإن عدد الأصوات في أية لغة، لا يكاد يتعدى الستين عادة، بل يمكن أن ينزل عن ذلك، نزولا محسوسا"2. وهذه التفرقة بين "الصوت" و"الحرف" على هذا النحو نتوصل بها إلى جعل "الحرف" مساويا للاصطلاح الغربي: "فونيم". أما القدماء من علماء العربية، فإنهم كانوا يستخدمون الكلمتين بمعنى واحد أحيانا، أو يفرقون بينهما تفرقة تختلف عما نعنيه نحن بهما هنا.

_ 1 انظر: اللغة بين الوصفية والمعيارية 130. 2 اللغة لفندريس 62.

فابن جني مثلا يفرق بينهما، فيقول: "اعلم أن الصوت عرض يخرج مع النفس مستطيلا متصلا، حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين، مقاطع تثنيه عن امتداده واستطالته فيسمى المقطع أينما عرض له حرفا. وتختلف أجراس الحروف، بحسب اختلاف مقاطعها، وإذا تفطنت لذلك وجدته على ما ذكرته لك، ألا ترى أنك تبتدئ الصوت من أقصى حلقك، ثم تبلغ به أي المقاطع شئت، فتجد له جرسا ما، فإن انتقلت عنه راجعا منه، أو متجاوزًا له، ثم قطعت، أحسست عند ذلك صدى غير الصدى الأول، وذلك نحو الكاف، فإنك إذا قطعت بها، سمعت هنا صدى ما، فإن رجعت إلى القاف سمعت غيره، وإن جزت إلى الجيم، سمعت غير ذينك الأولين"1. فابن جني يفهم الصوت هنا -فيما يبدو- على أنه صوت ذبذبة الأوتار الصوتية، وإن لم يصرح بذلك. أما الحرف فإنه يرادف في كلامه، ما سبق أن سميناه بمخرج الصوت، وذلك واضح من قوله بعد ذلك: "الحرف حد منقطع الصوت وغايته"2. ومثل هذ الفهم للصوت والحرف عن ابن جني، يوجد كذلك عند ابن سينا؛ إذ يقول: "والحرف هيئة للصوت عارضة له، يتميز بها عن صوت آخر مثله في الحدة والثقل تميزا في المسموع"3. وتصور "الفونيم" أو "الحرف" بالمعنى الذي قدمناه تصور حديث جدا في علم اللغة، وفي علم الأصوات اللغوية، وكان الذي دعا العلماء

_ 1 سر صناعة الإعراب 1/ 6. 2 سر صناعة الإعراب 1/ 16. 3 أسباب حدوث الحروف 6.

المحدثين للقول به، أنهم لاحظوا أن أصوات أي لغة من اللغات، لا حد لها في واقع الأمر، وأن ما نسميه صوتا واحدا، قد يتردد هو نفسه في كلمة من الكلمات، أكثر من مرة، ولكنه لا ينطق بنفس الصورة في كل مرة، فإننا إذا نطقنا كلمة مثل: "بَطَرَ"، فإننا نجد أن صوت الفتحة الأولى في هذه الكلمة، غير الفتحة الثانية، من الناحية الصوتية، وغير الفتحة الثالثة. ومع أن هذه الفتحات الثلاث متغايرة فيما بينها، فإن هذا التغاير لا يؤدي إلى تغير في وظيفة أي منها، فلا يكون للكلمة معنى معين إذا استخدمنا فيها فتحة من هذه الفتحات، ثم يتغير المعنى إذا غيرنا هذه الفتحة بفتحة أخرى. والوظيفة اللغوية هي التي تجعلنا نتغاضى عن أمثال هذه التنوعات، التي يقضي بها سياق صوتي معين، فنسوي بين الفتحات الثلاث، في كلمة: "بَطَرَ" مثلا، ونرى فيها شيئا واحدا، فإن هذه الفتحات -وهي مختلفة من حيث تكوينها- متطابقة من حيث الوظيفة اللغوية، التي تؤديها، فهي تنوعات أو أفراد لنفس "الفونيم"، فإن أي واحدة منها لو وضعت مكان واحدة أخرى في أي كلمة من الكلمات العربية، لم يتغير معناها. ويشرح الدكتور السعران هذه الفكرة بقوله: "إن النونات المختلفة صوتيا في اللغة العربية، لا تعارض أو لا تقابل بينها؛ لأننا لا نستطيع أن نغير معنى كلمة، بإحلال إحداها محل سواها، ولكن ثمة تقابل في العربية بين التاء والدال مثلا؛ لأننا نقول: "تاء" ثم نحل محل التاء دالا، ولا ندخل أي تغيير آخر على الكلمة فنقول: "داء" وهي من كلمات العربية، فالتاء فونيم والدال فونيم"1.

_ 1 علم اللغة 215.

وتقابل الأصوات، يختلف من لغة إلى أخرى في العدد والنوع، فالسين تقابل الزاي في اللغة العربية، من ناحية الهمس والجهر، وكل واحد منهما "فونيم" أو "حرف"؛ لأن معنى الكلمة يتغير بإحلال إحداها محل الأخرى فيها، مثل: "سار" و"زار". وهذا بعكس اللغة الألمانية مثلا، فإن "الفونيم" أو الحرف s فيها ينطق زايا، قبل الحركة، مثل: Sehen= يرى، وسينا بعد الحركة، مثل: bis= إلى، فصوت الزاي موجود في اللغة الألمانية، غير أنه ليس فونيما مستقلا، وإنما هو فرع من فونيم آخر؛ لأنه لا توجد كلمة ألمانية، يختلف فيها المعنى بإحلال السين محل الزاي، أو العكس، كما هي الحال في "سار" و"زار" في اللغة العربية. وفي اللغة العربية تتقابل السين والصاد، في الترقيق والتفخيم، فكل صوت منهما "فونيم". ومع أن صوت الصاد يوجد في اللغة الإنجليزية في مثل: Sun= شمس، فإنه لا يعد من فونيمات اللغة الإنجليزية؛ لأنه لا يستخدم فيها للتفريق بين المعاني، أي أنه ليس فيها كلمتان، لكل منهما معنى مستقل، وتطابق أصوات إحداهما أصوات الأخرى، إلا أنه يقابل السين في إحداهما الصاد في الأخرى كما هو الحال في اللغة العربية، في مثل: "سار" و"صار". فالسين العربية فونيم، أما صوت الصاد المسموع في الإنجليزية، فهو فرع من فونيم السين S. تلك هي نظرية "الفونيم"، وإذا تدبرناها عرفنا أن الكتابة وسيلة ناقصة، لتسجيل أصوات اللغة، فقد قامت الأبجديات المختلفة -على الأقل في أذهان واضعيها الأوائل- على أساس الرمز لكل "فونيم" برمز كتابي معين، يدل على جميع أفراد عائلة هذا الفونيم ولم تخصص هذه الأبجديات رموزا معينة، لفروع الفونيمات المتعددة. وهذه إحدى عيوب تسجيل اللغة

بالكتابة، فإن الأجنبي الذي يتعلم اللغة العربية بواسطة الكتاب، لا يستطيع أن يدرك فروع "فونيم" النون، في تلك اللغة مثلا، ولذلك فإنه سينطقها أو يحاول نطقها كلها بطريقة واحدة. وكذلك العربي الذي يتعلم الألمانية من الكتاب، لا شك أنه سيلغي كذلك الفروق الموجودة بين فروع عائلة السين، وستظهر في نطقه سينا، لا أثر فيها لصوت الزاي في أية كلمة من الكلمات. ويشرح لنا "ماربو باي" تضليل الكتابة، وعدم دلالتها على فروع الفونيم الواحد، في كثير من اللغات، فيقول: "الراء في معظم اللغات مكررة أو ترددية، نطقها في مقدمة اللسان، مع حدوث ذبذبة في الأوتار الصوتية. والصوت الممثل كتابة في الفرنسية ب "R" مجهور نتيجة ذبذبة اللهاة معه. وفي الإنجليزية الأمريكية، يتم إنتاجه غالبا بتقعير اللسان، والسماح لتيار الهواء بالمرور على امتداد حوافه. هذه التنوعات الثلاثة، لصوت تمثله الأبجديات الإملائية في كل اللغات برمز واحد، أوضح مثال على وجوب عدم الثقة في نظام الكتابة العادي، لتمثيل الصوت المنطوق. ولو أن أمريكيا أراد أن يتعلم الفرنسية عن طريق الصورة المكتوبة، فإنه ولا شك سينطق ما يراه ممثلا على شكل "R" تماما بنفس قيمته في الإنجليزية الأمريكية"1. وهكذا يؤدي اشتراك بعض الأمم، في استخدام أبجدية ذات أصل واحد للدلالة على أصواتها المختلفة إلى وقوع كثير من الأخطاء، عند تعلم أحد الأفراد لغة أمة من تلك الأمم الأخرى، عن طريق تلك الأبجدية لا غير. ومن أمثلة ذلك أن الحروف اللاتينية، تستعملها بلاد مختلفة من

_ 1 أسس علم اللغة 86، 87.

شعوب أوربا ذات اللغات المتعددة، كالإنجليز والفرنسيين والألمان وغيرهم. وقد عرفنا من قبل أن السين والزاي فرعان لفونيم واحد في اللغة الألمانية. وذلك على العكس من الإنجليزية، فكل واحد منهما فونيم مستقل فيها، ويرمز للأول بالرمز S والثاني بالرمز Z، وهذا الرمز الأخير في الألمانية، يدل على فونيم مختلف عن ذلك كل الاختلاف، هو الصوت المزدوج "تس" الذي سبق أن تحدثنا عنه، ولهذا فإننا نجد أن الألماني الذي لا يعرف الإنجليزية، ويقرأ كلمة إنجليزية فيها هذا الرمز Z، فإنه ينطقه: "تس". ومثل ذلك يحدث للإنجليزي الذي لا يعرف الألمانية، ويقرأ كلمة ألمانية فيها هذا الصوت Z، فإنه ينطقه زايا. وهذا هو السر، في أن من يعرف الإنجليزية من المصريين، ولا يعرف الألمانية، ينطق اسم المدينة الألمانية: Leipzig ليبزج، وصوابها: "ليبتسج". كما ينطقون اسم المستشرق الألماني: Goldziher جولدزيهر، وصوابه: "جولدتسيهر" ... وهكذا. ويقول "ماريو باي" في ذلك: "يحدث الخطأ بسبب وقوع المحلل اللغوي، تحت تأثير عاداته اللغوية الخاصة وإن محللا يتكلم اللغة الإنجليزية، ربما غررت به طبيعته، وجعلته يخلط الكاف والقاف العربيتين. ويضعها تحت فونيم واحد، مماثل للأصوات الطبقية، الموجودة في الإنجليزية في: kin و cool ولكن الاختلاف الدلالي بين كلمتي: كلب، وقلب العربيتين، كاف لإثبات خطئه. ومن ناحية أخرى فإن المحلل العربي، ربما ظن خطأ وجود خلاف فونيمي، بين الألوفونين الإنجليزيين للصوت المهموس الطبقي الانفجاري، اللذين يقع أحدهما قبل العلة الأمامية والآخر قبل العلة الخلفية "cool kill" فيتصور خطأ أنهما فونيمان اثنان، إلى أن يلاحظ اختفاء

الأساس في التقسيم الفونيمي، وهو تغير المعنى مع تغير الفونيم، ويعجز عن العثور على أي ثنائيات صغرى"1. ومن أجل هذا العيب في دلالة الكتابة على النطق الصحيح، حاول علماء الأصوات، وضع أبجديات صوتية، تمثل النطق تمثيلا صحيحا، وبذلوا في ذلك جهودا كبيرة، وتشعبت بهم السبل في ذلك. وأشهر تلك الأبجديات الصوتية، أبجدية "الجمعية الصوتية الدولية" التي كانت نتيجة لجهود كثير من علماء الأصوات المختلفين.

_ 1 أسس علم اللغة 124.

أصوات العلة "الحركات"

أصوات العلة "الحركات": تحدثنا فيما مضى، عن الأصوات الصامتة، فعرفنا مخارجها وصفاتها وكيفية حدوثها، وعرفنا الموجود منها في العربية الفصحى، وما أصابه التطور من هذه الأصوات. ونتحدث الآن عن أصوات العلة أو الحركات، وقد سبق لنا أن عرفناها من قبل، فقلنا: إنها هي الأصوات المجهورة، التي يحدث في تكوينها، أن يندفع الهواء في مجرى مستمر، خلال الحلق والفم، وخلال الأنف، معهما أحيانا، دون أن يكون هناك عائق يعترض مجرى الهواء اعتراضا تاما، أو تضييق لمجرى الهواء، من شأنه أن يحدث احتكاكا مسموعا. ويعرفها "دانيال جونز" بأنها "أصوات مجهورة يخرج الهواء عند النطق بها، على شكل مستمر من البلعوم والفم، دون أن يتعرض لتدخل الأعضاء الصوتية، تدخلا يمنع خروجه، أو يسبب فيه احتكاكا مسموعا"1. فأصوات العلة على هذا أصوات مجهورة كلها، بمعنى أن الأوتار الصوتية تهتز عند حدوث أي صوت منها، وإن كان الدكتور أيوب، يزعم أن هناك حركات مهموسة، فيقول: "اشترط جونز في تعريف الحركة أن تكون مجهورة. وسبب هذا الشرط، أن الحركة صوت لا تتدخل عند النطق به، أعضاء النطق العليا على الإطلاق، أو تتدخل تدخلا لا يحدث احتكاكا مسموعا. وعلى ذلك فلولا الجهر الذي هو تدخل الأوتار الصوتية، لمر الهواء

_ 1 انظر كتابه: D Jones An Outline 97.

من الرئتين إلى الخارج، دون تدخل يذكر، تماما كما يحدث عند الزفير. وقد قال بضرورة الجهر في الحركات، حتى تكون الحركة صوتا مسموعا، ولا تكون مجرد زفير. ولكن شرط جونز هذا لا مبرر له، فنحن في دراسة الأصوات دراسة وصفية نصف الواقع، فلو أن هناك حركة مهموسة، تقوم بوظيفة في الكلمة، فإنه يجب أن ندخلها في حسابنا، سواء أشبهت الزفير أو لم تشبهه. وفي اللهجة المصرية مثلا، يمكن مقارنة الكلمة: "سك" بمعنى أقفل، والكلمة: "مقاسك"، وسنلاحظ أن فتحة السين في: "مقاسك" مهموسة، بينما هي في: "سك" مجهورة، وما دام هذا الفرق واقعيا، فلا بد للواصف من اعتباره، والقول حينئذ بوجود فتحة مهموسة"1. وتتحدد أنواع الحركات، بحركة مقدمة اللسان نحو سقف الحنك، أو حركة مؤخرة اللسان نحو سقف الحنك كذلك، فإن كان اللسان مستويا في قاع الفم، مع انحراف قليل في أقصاه نحو أقصى الحنك، وتركت الهواء ينطلق من الرئتين، ويهز الأوتار اصوتية وهو مار بها، نتج عن ذلك صوت الفتحة "a" فإذا تركت مقدمة اللسان تصعد نحو وسط الحنك الأعلى بحيث يكون الفراغ بينهما كافيا لمرور الهواء، دون أن يحدث في مروره بهذا الوضع أي نحو من الاحتكاك والحفيف، وجعلت الأوتار الصوتية تهتز مع ذلك، نتج صوت الكسرة الخالصة "i"، ولو صعدت مقدمة اللسان أكثر من ذلك، نحو وسط الحنك، بحيث يحدث احتكاك للهواء المار بهذا الموضع، نتج عن ذلك صوت "الياء"، ولذلك يعد علماء الأصوات "الياء" صوتا شبيها بالحركة "Semivowel"، وذلك لأن وضع مقدمة اللسان مع "الياء" أقرب إلى سقف الحنك، من وضعها مع الكسرة، والفراغ بينهما أقل، بحيث يسمح

_ 1 أصوات اللغة 176.

للهواء المار بالاحتكاك، فيحدث الحفيف الذي يسمع مع صوت "الياء" ولا يسمع مع صوت الكسرة. وبين وضعي اللسان في صوتي الفتحة والكسرة، أو بمعنى آخر بين وضعه في قاع الفم، وارتفاع مقدمته نحو وسط الحنك بحيث تحدث الكسرة الخالصة أوضاع كثيرة، تحدث بسببها أنواع متعددة من الحركات، أبرزها في أذهاننا صوت الكسرة الممالة: "e". أما إذا ارتفع أقصى اللسان نحو سقف الحنك، بحيث لا يحدث للهواء المار بهذه المنطقة، أي نوع من الحفيف، مع حدوث ذبذبة في الأوتار الصوتية، فإن الصوت الذي ينتج عن ذلك هو صوت الضمة الخالصة: "u"، فإذا ارتفع أقصى اللسان نحو سقف الحنك، أكثر من هذا، بحيث يسمح للهواء الخارج بالاحتكاك، وإحداث نوع من الحفيف، نتج عن ذلك صوت: "الواو"، ولذلك يعد علماء الأصوات صوت "الواو" من الأصوات الشبيهة بالحركات "Semivowel" كذلك لأن الفرق بينه وبين الضمة الخالصة، في قرب أقصى اللسان من سقف الحنك مع الواو، أكثر منه مع الضمة. وبين وضع اللسان في صوت الفتحة، ووضعه في صوت الضمة، أو بعبارة أخرى بين وضع اللسان في قاع الفم وارتفاع مؤخرته نحو سقف الحنك، بحيث تحدث الضمة الخالصة، أوضاع كثيرة تحدث عنها حركات متعددة، أبرزها في أذهاننا صوت الضمة الممالة: "o". ولا شك أن الشفتين لهما أثر في إحداث كل حركة من هذه الحركات جميعها، لا يمكن إغفاله، فهما منفرجتان مع بعض هذه الحركات، ومستديرتان مع بعضها الآخر. وتختلف درجة الانفراج والاستدارة في صوت عن الآخر.

وفيما يلي تخطيط يبين وضع اللسان مع الحركات المختلفة: صورة سكانر ويطلق علماء الأصوات على صوت الفتحة اسم "صوت العلة المتسع"، كما يطلقون على صوتي الضمة والكسرة، اسم: "أصوات العلة الضيقة". وهذا التقسيم له أهميته فيما يصيب هذه الأصوات كلها من تطور أو تغيير؛ إذ إنه من الملاحظ أن ما يصيب الضمة يجري مثله في الغالب على صوت الكسرة؛ لأن كلا منهما من أصوات العلة الضيقة. وعلى ذلك ليست الضمة عدوة للكسرة، كما يتردد في بعض كتب العربية، بل هما من فصيلة واحدة، وذلك على العكس من صوت الفتحة، الذي يعد قسيما للضمة والكسرة، له ظواهره وأحكامه الخاصة. وقد فطن بعض علماء العربية، إلى علاقة القربى بين الكسرة والضمة من جهة، وبين ياء المد وواوه "وهما تطويل للكسرة والضمة" من جهة أخرى، قال ابن درستويه: "كل ما كان ماضيه من الأفعال الثلاثية، على فَعَلت، بفتح العين ولم يكن ثانيه ولا ثالثه من حروف اللين ولا حروف الحلق، فإنه يجوز في مستقبله: يفعُل، بضم العين، ويفعِل بكسرها، كقولنا: ضَرَبَ يَضْرِب، وشَكَرَ يَشْكُر. وليس أحدهما أولى به من الآخر، ولا فيه عند العرب إلا الاستحسان والاستخفاف. فمما جاء وقد استعمل فيه

الوجهان، وقولهم: ينفُر وينفِر، ويشتُم ويشتِم، فهذا يدلكم على جواز الوجهين فيه، وأنهما شيء واحد؛ لأن الضمة أخت الكسرة"1. وهكذا نرى القرابة بين الضمة والكسرة، هي السبب في جواز وقوع إحداهما مكان الأخرى، في عين المضارع، ولذلك كانت القبائل العربية القديمة، لا تثبت على حال واحدة، في ضبط عين المضارع بواحدة منهما "قال أبو زيد: طفت في عليا قيس وتميم مدة طويلة، أسأل عن هذا الباب صغيرهم وكبيرهم، لأعرف ما كان منه بالضم أولى، وما كان منه بالكسر أولى، فلم أعرف لذلك قياسا، وإنما يتكلم به كل امرئ منهم على ما يستحسن"2. وقد نص ابن جني صراحة على علاقة القربى، بين ياء المد وواوه، فقال: "إن بين الياء والواو قربا ونسبا، ليس بينهما وبين الألف، ألا تراها تثبت في الوقف، في المكان الذي تحذفان فيه، وذلك قولك: هذا زيد، ومررت بزيد، ثم تقول: ضربت زيدا، وتراهما تجتمعان في القصيدة الواحدة ردفين، في نحو قول امرئ القيس: قد أشهد الغارة الشعواء تحملني ... جرداء معروقة اللحيين سرحوب ثم قال فيها: كالدلو بتت عراها وهي مثقلة ... وخانها وذم منها وتكريب3

_ 1 تصحيح الفصيح لابن درستويه 105 وانظر المزهر 1/ 207. 2 تصحيح الفصيح لابن درستويه 110 وانظر المزهر 1/ 207. 3 سر صناعة الإعراب 1/ 23 وانظر ديوان امرئ القيس 225-227.

ولهذه العلاقة القوية بين هاتين الحركتين: الضمة والكسرة، تطورت كل واحدة منهما في الجعزية، وهي الحبشية القديمة إلى الكسرة الممالة "e"، مما يدل على أنهما كانتا في أذن الحبشي شيئا واحدا، أو كالشيء الواحد. والفرق بين الحركات القصيرة والطويلة، فرق في الكمية لا في الكيفية، بمعنى أن وضع اللسان في كليهما واحد، ولكن الزمن يقصر ويطول في كل صوت، فإذا قصر كل الصوت قصيرا وإذا طال كان الصوت طويلا. والذي يحدد الطول والقصر هنا، هو العرف اللغوي عند أصحاب اللغة. ويقول "كانتينو" في المدى الذي يستغرقه طول الحركة: "يطلق اسم حركات طويلة، على الحركات التي يمتد فيها إخراج النفس امتدادا، يصير معه مدى النطق بها، مساويا لمدى النطق بحركتين بسيطتين، وقد يتعدى ذلك"1. ولقد كانت هذه العلاقة بين الطويل والقصير، من الحركات، معروفة عند بعض القدماء، يقول الخوارزمي: "الرفع عند أصحاب المنطق من اليونانيين واو ناقصة، وكذلك الضم وأخواته. والكسر وأخواته عندهم ياء ناقصة. والفتح وأخواته عندهم ألف ناقصة. وإن شئت قلت: الواو الممدودة اللينة ضمة مشبعة، والياء الممدودة اللينة كسرة مشبعة، والألف الممدودة فتحة مشبعة. وعلى هذا القياس الروم والإشمام نسبتهما إلى هذه الحركات، كنسبة الحركات إلى حروف المد واللين، أعني الألف والواو والياء"2.

_ 1 دروس في علم أصوات العربية 145. 2 مفاتيح العلوم للخوارزمي 31.

وطول الحركة أو قصرها، ليس محدودا بزمن معين في أية لغة من اللغات، وإنما هو أمر نسبي مرهون بسرعة الأداء وبطئه "ومن الطبيعي أن يقل طول الأصوات عندما تزيد سرعة الأداء، وأن تزيد طول الأصوات القصيرة عندما تقل، ومع ذلك لا بد من الاحتفاظ بالفرق بين الأصوات الطويلة والقصيرة، مهما زادت السرعة أو قلت. وبهذا المعنى يمكن أن نقول: إن طول الصوت أمر نسبي، لا أمر مطلق فالصوت الطويل هو الذي يكون أطول من غيره في نفس اللغة، ولو كان هذا الصوت الطويل، ينطق أقصر منه أحيانا أخرى"1. وعلى ذلك فكل صوت من أصوات الحركة السابقة، يمكن أن يطول معه الزمن، فيصير طويلا، فإذا طال الزمن مع صوت الفتحة مثلا، نتج عنه ما يسمى بألف المد "a" وإذا طال مع الكسرة الخالصة، نتج عن ذلك ما يسمى بياء المد "i" وإذا طال مع الضمة الخالصة، نتج عنها ما يسمى بواو المد "u" وكذلك الحال مع الكسرة الممالة "e" والمة الممالة "o". وليس أمر الطول والقصر خاصا بالأصوات المتحركة وحدها، بل إن الصوامت تطول وتقصر كذلك، وإن ما نعرفه باسم الحرف المشدد، أو الصوت المضعف، ليس في الحقيقة صوتين من جنس واحد، الأول ساكن والثاني متحرك كما يقول نحاة العربية، وإنما هو في الواقع صوت واحد طويل، يساوي زمنه زمن صوتين اثنين. ولذلك يرى "ماريو باي" أن "اصطلاح الصامت المضعف double consonant" هو اصطلاح مضلل حقا؛ لأنه قد استعير من طريقة الكتابة،

_ 1 أصوات اللغة للدكتور أيوب 149.

ففي النطق، يمد الصوت الصامت، بتطويل مدة النطق به، إذا كان هذا المد ممكنا. ويكون هذا ممكنا إذا لم يكن الصوت الصامت انفجاريا وبما أن الانفجاري لا يمكن مده عند نقطة مخرجه، فإن ما يسمى تطويلا بالنسبة له، يكون عن طريق إطالة مدة قفل الطريق أمام الصوت قبل تفجيره"1. ويعرف "كانتينو" الحروف المضعفة بأنها "هي التي يمتد النطق بها، فيضاهي مداها مدى حرفين بسيطين تقريبا. وترسم هذه الحروف عادة في الأبجدية الأوربية بحرفين متتابعين "bb" أو "mm" وهكذا"2. وقد شرح "فندريس" فكرة الصوت المضعف، وأنه ليس إلا صامتا واحدا طويلا، فقال: "ففي كل صامت انفجاري ثلاث خطوات متميزة: الإغلاق أو الحبس، والإمساك الذي قد يكون طويل المدى أو قصيره، والفتح أو الانفجار عند إصدار صامت بسيط مثل التاء، فإن الانفجار يتبع الحبس مباشرة، والإمساك يضؤل إلى مدى لا يكاد يحس. "وعلى العكس من ذلك تظهر الخطوات الثلاث بوضوح، فيما يسمى بالصوامت المضعفة، وهي ليست إلا صوامت طويلة، كما أنها تنطق بقوة أشد مما في حالة القصيرة، فإذا تركنا مسألة الشدة جانبا، وجدنا أن مجموعة مثل "atta أَتَّ" تتميز عن المجموعة "ata أَتَ" بوجود مسافة بين الحبس والانفجار، يمكن للأذن أن تقدرها. ومن الخطأ أن يقال بأنه يوجد ساكنان في atta وساكن "صامت" واحد في ata، فالعناصر المحصورة بين الحركتين في كلتا المجموعتين واحدة: عنصر انحباسي، يتبعه عنصر انفجاري. ولكن بينما نجد

_ 1 أسس علم اللغة 146. 2 دروس في علم أصوات العربية 25.

العنصر الانحباسي في ata يتبعه العنصر الانفجاري مباشرة، نجده في atta ينفصل عنه بإمساك، يطيل مدى الإغلاق"1. ولم تكن هذه الفكرة خافية على بعض قدامى اللغويين العرب، فهذا ابن جني يقول: "الحرف لما كان مدغما، خفي فنبا السان عنه وعن الآخر بعد نبوة واحدة، فجريا لذلك مجرى الحرف الواحد"2. كما يقول أيضا: "إدغام الحرف في الحرف، أخف عليهم من إظهار الحرفين، ألا ترى أن اللسان ينبو عنهما معا نبوة واحدة"3. كما يقول صاحب مراح الأرواح: "الإدغام إلباث الحرف في مخرجه مقدار إلباث الحرفين"4، كما يقول أيضا: "المشدد زمانه أطول من زمان الحرف الواحد، وأقصر من زمان الحرفين"5. ولعل الذي دعا النحاة العرب، إلى اعتبار المشدد حرفين، أنه يقوم في اللغة أحيانا، بوظيفة صوتين، فقول العرب مثلا: "يذكر"، الذال الطويلة فيه تنوب مناب التاء والذال في: يتذكر.

_ 1 اللغة لفندريس 48. 2 الخصائص 1/ 92. 3 الخصائص 2/ 227 وانظر كذلك: المقتضب للمبرد 1/ 197. 4 مراح الأرواح 82. 5 مراح الأرواح 83.

هذا، وليست كل الأصوات الإنسانية على السواء في نسبة الوضوح السمعي، فبعضها أوضح من بعض. ويمكن أن تقسم إلى الأقسام التالية، متدرجة من الانخفاض إلى ارتفاع: 1- المهموسة الانفجارية، مثل: ت/ ك/ ب. 2- المهموسة الاحتكاكية، مثل: ش/ س/ ث/ ف. 3- المهموسة المزدوجة، مثل: تش. 4- المجهورة الانفجارية، مثل: ب/ د/ الجيم القاهرية. 5- المجهورة الاحتكاكية، مثل ف/ ذ/ ز/ الجيم الشامية. 6- المجهورة المزدوجة، مثل: الجيم الفصيحة. 7- الأصوات الأنفية، مثل: م/ ن. 8- الأصوات التكرارية والجانبية، مثل: ر/ ل. 9- الحركات الضيقة، مثل: الضمة والكسرة. 10- وأوضح الأصوات جميعا هي الحركات المتسعة كالفتحة المفخمة. ومعرفة ذلك كله يفيد في النواحي التطبيقية، ففي الحديث التليفوني، وفي التسجيل الإذاعي، لا يكاد المرء يميز الأصوات المهموسة الانفجارية، كالتاء والكاف، ولكنه عن طريق السياق أو المعنى العام يفترض وجودها. ويتم هذا الفرض دون شعور متعمد منه، أي أنه يعوض فقدانها في الحقيقة بوجودها في خياله. ولهذا يجدر بالمغنين ومؤلفي الأغاني، أن يتحاشوا مثل هذه الأصوات في أغانيهم، كلما أمكن ذلك، فهي أصوات لا تكاد تصلح للغناء، وهي في نفس الوقت معرضة للسقوط أو الاختفاء في التسجيل الصوتي1.

_ 1 انظر: اللغة بين القومية والعالمية 28، 29.

المقاطع الصوتية

المقاطع الصوتية: المقطع الصوتي، هو كمية من الأصوات، تحتوي على حركة واحدة، ويمكن الابتداء بها والوقوف عليها، من وجهة نظر اللغة موضوع الدراسة، ففي العربية الفصحى مثلا، لا يجوز الابتداء بحركة، ولذلك يبدأ كل مقطع فيها بصوت من الأصوات الصامتة. فالمقطع على هذا عبارة عن "قمة إسماع، غالبا ما تكون حركة، مضافا إليها أصواتا أخرى عادة -ولكن ليس حتما- تسبق القمة أو تلحقها، أو تسبقها وتلحقها، ففي: ah قمة الإسماع، كما هو واضح، هي: a وفي it هي: i. وفي do هي: o. وفي get هي: e"1. ويقول "كانتينو" في تحديده للمقطع الصوتي: "إن الفترة الفاصلة بين عمليتين من عمليات غلق جهاز التصويت، سواء أكان الغلق كاملا أو جزئيا، هي التي تمثل المقطع"2. وتنقسم المقاطع الصوتية عموما إلى قسمين: قصير وطويل، فالقصير هو ما بدأ بصوت صامت وجاءت بعده حركة قصيرة، ففي كلمة مثل: "كتب" مقاطع ثلاثة قصيرة "ka+ta+ba" والمقطع القصير بهذا المعنى لا يكون إلا مفتوحا، أي أنه يقبل الزيادة عليه، فإذا زاد عليه شيء، بأن طالت الحركة، أو أضيف إليه صامت آخر، لم يعد المقطع قصيرا، بل يتحول في هذه الحالة إلى مقطع طويل.

_ 1 أسس علم اللغة لماريوباي 96. 2 دروس في علم أصوات العربية 191.

فالمقطع الطويل إذن، هو ما بدأ بصامت ثم تلته حركة طويلة، مثل كلمة: "في" في اللغة العربية، وهو في هذه الحالة مفتوح؛ لأنه يقبل الزيادة عليه. أما المقطع الطويل المغلق، فهو ما بدأ بصامت تليه حركة ثم صامت آخر، مثل كلمة: "من" و"عن" وكذلك ما بدأ بصامت تليه حركة طويلة ثم صامت آخر، مثل كلمة: "باب" في الوقف. وهناك في العربية الفصحى إلى جانب ذلك، مقاطع زائدة في الطول، وهي ما بدأت بصامت، تليه حركة قصيرة، بعدها صامتان آخران متتابعان، مثل كلمة: "بنت" في الوقف. وخلاصة هذا القول، أن في العربية الفصحى، خمسة مقاطع هي: 1- مقطع قصير مفتوح= صامت+ حركة قصيرة. 2- مقطع طويل مفتوح= صامت+ حركة طويلة. 3- مقطع طويل مغلق بحركة قصيرة= صامت+ حركة قصيرة+ صامت. 4- مقطع طويل مغلق بحركة طويلة= صامت+ حركة طويلة+ صامت. 5- مقطع زائد في الطول= صامت+ حركة قصيرة+ صامت+ صامت. ودراسة نظام المقاطع في أية لغة من اللغات، مما يعين على معرفة الصيغ الجائزة فيها، كما يعين على معرفة موسيقى الشعر وموازينه.

النبر والتنغيم

النبر والتنغيم: حين يتحدث الإنسان بلغته، يميل في العادة إلى الضغط على مقطع خاص من كل كلمة، ليجعله بارزا أوضح في السمع مما عداه من مقاطع الكلمة. وهذا الضغط هو الذي يسميه المحدثون من اللغويين "بالنبر": "Accect" Stress. ويعرفه الدكتور تمام بأنه "وضوح نسبي لصوت أو مقطع، إذا قورن ببقية الأصوات والمقاطع في الكلام1. ويقول الدكتور بشر: "معنى هذا أن المقاطع تتفاوت فيما بينها في النطق قوة وضعفا، فالصوت أو المقطع المنبور، ينطق ببذل طاقة أكثر نسبيا، ويتطلب من أعضاء النطق مجهودا أشد. لاحظ الفرق مثلا في قوة النطق وضعفه، بين المقطع الأول في: "ضَرَبَ" والمقطعين الأخيرين "ضَ/ رَ/ بَ"، تجد "ضَ" ينطق بارتكاز أكبر من زميله في الكلمة نفسها"2. وقد اختلفت آراء العلماء، حول وجود النبر في العربية الفصحى، ومكانه في الكلمة، فبينما يقول بروكلمان: "في اللغة العربية القديمة، يدخل نوع من النبر، تغلب عليه الموسيقية، ويتوقف على كمية المقطع، فإنه يسير من مؤخرة الكلمة نحو مقدمتها، حتى يقابل مقطعا طويلا، فيقف عنده، فإذا لم يكن في الكلمة مقطع طويل، فإن النبر يقع على المقطع الأول منها"3 يرى برجشتراسر "أنه لا نص نستند عليه في إجابة مسألة،

_ 1 مناهج البحث في اللغة 160. 2 علم اللغة العام: الأصوات 210. 3 فقه اللغات السامية 45.

كيف كان حال العربية الفصيحة في هذا الشأن. ومما يتضح من اللغة نفسها، ومن وزن شعرها، أن الضغط لم يوجد فيها، أو لم يكد يوجد، وذلك أن اللغة الضاغطة، يكثر فيها حذف الحركات غير المضغوطة، وتقصيرها، وتضعيفها، ومد الحركات المضغوطة، وقد رأينا أن كل ذلك نادر في اللغة العربية. وإذا نظرنا إلى اللهجات العربية الدارجة، وجدنا فيها كلها -فيما أعرف- الضغط، وهو في بعضها قوي، وفي بعضها متوسط، غير أنها تتخالف في موضعه من الكلمة في كثير من الحالات، فمن المعلوم أن المصريين يضغطون في مثل: "مطبعة" المقطع الثاني، وغيرهم يضغطون الأول، فلو أن الضغط كان قويا في الزمان العتيق، لكانت اللهجات -على أغلب الاحتمال- حافظت على موضعه من الكلمة، ولم تنقله إلى مقطع آخر"1. هذا هو رأي "برجشتراسر". أما إنه ليس لدينا نص، نستند إليه في معرفة حالة النبر في العربية القديمة، فهذا صحيح، وأما إن العربية لم تكن تنبر، فإننا نشك في ذلك الذي قاله برجشتراسر، وهو يغفل في كلامه التطور اللغوي، وتأثير الشعوب المختلفة، التي غزتها العربية، بعاداتها القديمة في النبر، وأثر ذلك في اختلاف موضعه من الكلمة، كما يبدو لنا الآن، في تعدد طرق النبر في مثل كلمة: "مطبعة". أما الدكتور إبراهيم أنيس، فإنه يسلم بأنه "ليس لدينا من دليل يهدينا إلى موضع النبر في اللغة العربية، كما كان ينطق بها في العصور الإسلامية الأولى؛ إذ لم يتعرض له أحد من المؤلفين القدماء. أما كما ينطق بها قراء القرآن الآن في مصر، فلها قانون تخضع له، ولا تكاد تشذ عنه"2.

_ 1 التطور النحوي: 46. 2 الأصوات النحوية: 104.

وقد لخص الدكتور إبراهيم أنيس، مواضع النبر في الكلمة العربية فقال: "ينظر أولا إلى المقطع الأخير، فإن كان من النوعين الرابع والخامس، كان هو موضع النبر، وإلا نظر إلى المقطع الذي قبل الأخير، فإن كان من النوع الثاني أو الثالث، حكمنا بأنه موضع النبر، أما إذا كان من النوع الأول، نظر إلى ما قبله، فإن كان مثله، أي من النوع الأول أيضا، كان النبر على هذا المقطع الثالث، حين نعد من آخر الكلمة، ولا يكون النبر على المقطع الرابع حين نعد من الآخر، إلا في حالة واحدة، وهي أن تكون المقاطع الثلاثة التي قبل الأخير، من النوع الأول"1. فالنبر يقع على المقطع الأخير في مثل: "نستعين" و"ذاكرت"، وعلى المقطع قبل الأخير في مثل: "تعلم" و"يعادي" و"قاتل" و"يكتب"، كما يقع على المقطع الثالث من الآخر، في مثل: "كتب" و"اجتمع"، وعلى المقطع الرابع من الآخر، في مثل: "بلحة" و"سمكة". وعلى الرغم من أن قدامى اللغويين العرب، لم يدرسوا "النبر" بمعنى الضغط على بعض مقاطع الكلام، فإن بعضهم قد لاحظ أثره في تطويل بعض حركات الكلمة، ويسميه ابن جني: "مطل الحركات"، فيقول مثلا: "وحكى الفراء عنهم: أكلت لحما شاة، أراد: لحم شاة، فمطل الفتحة، فأنشأ عنها ألفا"2. كما يقول كذلك: "وكذلك الحركات عند التذكر يمطلن ... وذلك

_ 1 الأصوات اللغوية 106 وارجع إلى تقسيمنا السابق للمقاطع. 2 الخصائص 3/ 123.

قولهم عند التذكر مع الفتحة في قمت: قمتا، أي قمت يوم الجمعة ونحو ذلك. ومع الكسرة: أنتي، أي: أنتِ عاقلة ونحو ذلك. ومع الضمة: قمتو، في: قمت إلى زيد ونحو ذلك"1. أما التنغيم، فهو رفع الصوت وخفضه في أثناء الكلام، للدلالة على المعاني المختلفة للجملة الواحدة، كنطقنا لجملة مثل: "لا يا شيخ" للدلالة على النفي، أو التهكم، أو الاستفهام، وغير ذلك. وهو الذي يفرق بين الجمل الاستفهامية والخبرية، في مثل: "شفت أخوك" فإنك تلاحظ نغمة الصوت تختلف في نطقها للاستفهام، عنها في نطقها للإخبار. ولم يعالج أحد من القدماء شيئا من التنغيم، ولم يعرفوا كنهه. غير أننا لا نعدم عند بعضهم، الإشارة إلى بعض آثاره في الكلام، للدلالة على المعاني المختلفة، وكان ابن جني أحد الذين التفتوا إلى ذلك، حين يقول2: "وقد حذفت الصفة، ودلت الحال عليها، وذلك فيما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: سير عليه ليل، وهم يريدون: ليل طويل. وكأن هذا إنما حذفت فيه الصفة، لما دل من الحال على موضعها. وذلك أنك تحس في كلام القائل لذلك، من التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله: طويل، أو نحو ذلك. "وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته، وذلك أن تكون في مدح إنسان والثناء عليه، فتقول: كان والله رجلا! فتزيد في قوة اللفظ بـ"الله" هذه الكلمة، وتتمكن في تمطيط اللام، وإطالة الصوت بها وعليها، أي

_ 1 الخصائص 3/ 129. 2 الخصائص 2/ 307-371.

رجلا فاضلا، أو شجاعا، أو كريما، أو نحو ذلك. وكذلك تقول: سألناه فوجدناه إنسانا! وتمكن الصوت بإنسان، وتفخمه، فتستغني بذلك عن وصفه بقولك: إنسانا سمحا أو جوادا أو نحو ذلك. وكذلك إن ذممته ووصفته بالضيق قلت: سألناه وكان إنسانا! وتزوي وجهك وتقطبه، فيغني ذلك عن قولك: إنسانا لئيما، أو لحزا، أو مبخلا، أو نحو ذلك".

الفصل الثاني: نشأة اللغة الإنسانية

الفصل الثاني: نشأة اللغة الإنسانية مدخل ... الفصل الثاني: نشأة اللغة الإنسانية نحب أن نؤكد في بداية هذا الفصل، أن العلماء والمفكرين، لم يختلفوا في شيء من مسائل علم اللغة، كما اختلفوا حول موضوع نشأة اللغة. وقد تنوعت آراؤهم، واختلفت مذاهبهم، ومع ذلك لم يصلوا في بحثهم إلى نتائج يقينية، بل كان جل آرائهم يصطبغ بالصبغة الشخصية، ولم يتجاوز مرحلة الفرض المبني على الظن والحدس. وفي ذلك يقول "ماريوباي": "فيما يختص بنشأة اللغة وطبيعتها، لدينا مصادر تعتمد على الأساطير والحديث المنقول، والمناقشات الفلسفية، ولكن تنقصنا الحقائق العلمية في هذا الصدد"1. ومع ذلك نجد بعضهم، يحاول أن يعرض نظرياته في هذا الموضوع، ملبسا إياها ثوبا علميا، ومحاولا الدفاع عنها في صلابة وإصرار. غير أن بعض المعتدلين من علماء اللغة، سخروا حتى من مجرد التفكير في إدراج هذا الموضوع، ضمن بحوث علم اللغة. وقد قررت الجمعية اللغوية في باريس، عدم مناقشة هذا الموضوع نهائيا، أو قبول أي بحث فيه لعرضه في جلساتها، كما أن كثيرا من العلماء، ذوي الشهرة الذائعة، والقدم الثابتة في علم اللغة، أمثال: "بلومفيلد" Bloomfield و"فيرث" Forth لم يتعرضوا لدراسة هذا الموضوع بشكل علمي، أو بصورة تنبئ عن أهمية البحث فيه. وقد تناوله "فيرث" باختصار جدا، على سبيل أن الكلام فيه، نوع من الفلسفة اللغوية، التي قد يكون من المفيد إلمام طالب علم اللغة بها2. ولا بأس أن نلم هنا إلماما سريعا ببعض النظريات والآراء التي حاول بها العلماء تفسير نشأة اللغة الإنسانية3.

_ 1 لغات البشر 17. 2 انظر: قضايا لغوية، للدكتور كمال بشر 112. 3 انظر في ذلك: لغات البشر لماريوباي 17-24 وعلم اللغة للدكتور علي عبد الواحد وافي 74-97 واللغة لفندريس 29-42 ومقالة لمحمد حسين آل ياسين، بمجلة المورد "العدد الثالث من المجلد السابع" سنة 1978 وانظر كذلك: Rosenkranz Der Ursprung der Sprache Heidelberg 1961".

المذهب الأول

المذهب الأول: مذهب الوحي والإلهام، أو مذهب "التوقيف" كما يقول ابن فارس اللغوي1. ويتلخص هذا المذهب، في أن الله سبحانه وتعالى، لما خلق الأشياء، ألهم آدم عليه السلام، أن يضع لها أسماء فوضعها. ويستند أصحاب هذ المذهب، إلى أدلة نقلية مقتبسة من الكتب المقدسة، فاليهود والنصارى يستدلون بما ورد في التوراة من قولها: "وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية، وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم، ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية، فهو اسمها، فسمى آدم جميع البهائم، وطيور السماء وجميع حيوانات البرية"2. ويستدل أصحاب هذا المذهب، من علماء العرب، بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} 3 فكان ابن عباس يقول: "علمه الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارفها الناس، من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها"4. وقد اختار ابن فارس اللغوي، في كتابه "الصاحبي في فقه اللغة" هذا المذهب. أما ابن جني، فقد تصدى لشرحه والرد عليه، فقال: "وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها"5.

_ 1 الصاحبي لابن فارس 6. 2 سفر التكوين 2/ 19، 20. 3 سورة البقرة 2/ 31. 4 انظر: الصاحبي لابن فارس 6. 5 الخصائص 1/ 40، 41.

المذهب الثاني

المذهب الثاني: مذهب المواضعة والاصطلاح. وهذا المذهب ذكره ابن جني، فقال: "إن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة، وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا، فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء، فيضعوا لكل منها سمة، ولفظا يدل عليه، ويغني عن إحضاره أمام البصر. وطريقة ذلك أن يقبلوا مثلا على شخص، ويومئوا إليه قائلين: إنسان! فتصبح هذه الكلمة اسما له، وإن أرادوا سمة عينه أو يده أو رأسه أو قدمه، أشاروا إلى العضو وقالوا: يد، عين، رأس، قدم ... إلخ. ويسيرون على هذه الوتيرة، في أسماء بقية الأشياء، وفي الأفعال والحروف، وفي المعاني الكلية، والأمور المعنوية نفسها، وبذلك تنشأ اللغة العربية مثل، ثم يخطر بعد ذلك لجماعة منهم كلمة: "مرد" بدل إنسان، وكلمة: "سر" بدل رأس، وهكذا فتنشأ اللغة الفارسية"1. وليس هذا المذهب، أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي، بل إن ما يقرره ليتعارض مع النواميس العامة، التي تسير عليها النظم الاجتماعية، فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالا، ولا تخلق خلقا. بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها. هذا إلى أن التواضع على التسمية، يتوقف في كثير من مظاهره، على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون. فكيف نشأت هذه اللغة الصوتية إذن؟ وهكذا نرى أن ما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة، يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل.

_ 1 الخصائص 1/ 44.

المذهب الثالث

المذهب الثالث: مذهب المحاكاة. وخلاصته أن الإنسان سمى الأشياء، بأسماء مقتبسة من أصواتها، أو بعبارة أخرى أن تكون أصوات الكلمة، نتيجة تقليد مباشر لأصوات طبيعية صادرة عن الإنسان أو الحيوان أو الأشياء، وتسمى مثل هذه الكلمات عند علماء الغرب: Onomatopoeia. وقد عرض لهذا الرأي من علماء المسلمين ابن جني، فقال: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها، إنما هو من الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونغيق الغراب، وصهيل الفرس ... ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد"1. وقد ارتضى ابن جني هذا الرأي فقال معقبا عليه: "وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل". وأول من دافع عن هذا المذهب، من علماء الغرب بالتفصيل العالم الألماني "هردر" Harder في كتابه "بحوث في نشأة اللغة" Abhandlungen uber den Ursprung der Sprache الذي نشره سنة 1772م. ومما قد يؤيد هذه النظرية، ما نجده في بعض الأحيان، من اشتراك في بعض الأصوات، في الكلمات التي تحاكي الطبيعة في عدة لغات، فإن الكلمة التي تدل على الهمس، هي في العربية كما نعرف: "همس"، وفي

_ 1 الخصائص 1/ 46، 47.

غير أن اشتراك اللغات في الكلمات المحاكية للطبيعة، على هذا النحو، أمر نادر. ولو كانت هذه النظرية صحيحة، للاحظنا اشتراكا بين اللغات في الكلمات التي تحاكي الطبيعة؛ مثل: الشق، والدق، والقطع، والصهيل، والعواء، والمواء، وما إلى ذلك. ولقد سمعت الديك العربي في بلاد العرب، والديك الألماني في بلاد الألمان، يصيحان بطريقة واحدة دون أدنى فرق، غير أننا نحاكي صوت الديك فنقول: كوكوكو! ويقول الألمان "كيكيركي" kikeriki! ويرى بعض العلماء بناء على هذه النظرية، أن مناسبة اللفظ للمعنى مناسبة حتمية، بمعنى أن اللفظ يدل على معناه دلالة وجوب، لا انفكاك فيها. وممن نادي بهذا الرأي: "عباد بن سليمان الصيمري" من المعتزلة؛ فقد ذهب إلى أن بين اللفظ ومدلولة مناسبة طبيعية، حاملة للواضع على أن يضع هذه اللفظة أو تلك، بإزاء هذا المعنى أو ذاك، ويروون عن بعض من تابعه على رأيه هذا، أنه كان يقول: إنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها، فسئل عن معنى كلمة: "إذغاغ" وهي بالفارسية: الحجر -كما يقولون- فقال: أجد فيه يبسا شديدا، وأراه الحجر! 1

_ 1 انظر: المزهر للسيوطي 1/ 47.

وإننا نشك كثيرا في صحة هذه الرواية، وصدق نظرية الصيمري، فإنه لو صح ما قاله، لاهتدى كل إنسان إلى كل لغة على وجه الأرض. ويمتاز مذهب المحاكاة، بأنه يشرح لنا مبلغ تأثر الإنسان، في النطق بالألفاظ، بالبيئة التي تحيط به، غير أن أهم ما يؤخذ عليه، أنه يحصر أساس نشأة اللغة، في الملاحظة المبنية على الإحساس بما يحدث في البيئة، ويتجاهل الحاجة الطبيعية الماسة غلى التخاطب والتفاهم، والتعبير عما في النفس، تلك الحاجة التي هي من أهم الدوافع إلى نشأة اللغة الإنسانية، فإن الرغبة الذاتية في التعبير، والحاجة الماسة إلى التفاهم، كلاهما من أهم الدوافع، التي يجب أن يعتد بها في نشأة اللغة واضطرار الإنسان الأول للنطق بالألفاظ. هذا إلى أن هذا المذهب، لا يبين لنا كيف نشأت الكلمات الكثيرة، التي نجدها في اللغات المختلفة، ولا نرى فيها محاكاة لأصوات المسميات، ويتضح ذلك بوجه خاص في أسماء المعاني، كالعدل، والمروءة، والكرم، والشجاعة، وغير ذلك. وقد دعا هذا النقص، العلامة "هردر" المدافع الأول عن هذه النظرية، إلى العدول عنها في أخريات حياته، كما سخر منها "مكس موللر" Max Muller اللغوي الألماني المشهور. ومع ذلك فإن لأصحاب هذه النظرية، الفضل في أنها فتحت للباحثين، باب البحث الفلسفي في نشأة اللغة، كما أنها لا تبعد كثيرا في إرجاعها نشأة اللغة، في بعض الأحيان، إلى ملاحظة خاصة.

المذهب الرابع

المذهب الرابع: نظرية التنفيس عن النفس، وتتلخص في أن مرحلة الألفاظ، قد سبقتها مرحلة الأصوات الساذجة التلقائية الانبعاثية، التي صدرت عن الإنسان، للتعبير عن ألمه أو سروره أو رضاه أو نفوره، وما إلى ذلك من الأحاسيس المختلفة، فهذه الأصوات الساذجة، قد تطورت على مر الزمن، حتى صارت ألفاظا. ويشرح "فندريس" تصور أصحاب هذه النظرية، لكيفية نشأة اللغة، فيقول: "عند هذا السلف البعيد، الذي لم يكن مخه صالحا للتفكير، بدأت اللغة بصفة انفعالية محضة. ولعلها كانت في الأصل مجرد غناء، ينظم بوزنه حركة المشي، أو العمل اليدوي، أو صيحة كصيحة الحيوان، تعبر عن الألم، أو الفرح وتكشف عن خوف أو رغبة في الغذاء. بعد ذلك لعل الصيحة اعتبرت، بعد أن زودت بقيمة رمزية، كأنها إشارة قابلة لأن يكررها آخرون. ولعل الإنسان وقد وجد في متناول يده هذا المسلك المريح، قد استعمله للاتصال ببني جنسه، أو لإثارتهم إلى عمل ما أو لمنعهم منه ... هذا الفرض تبدو عليه مخايل الصدق، وإن لم يكن مما يمكن البرهان عليه"1. وتمتاز هذه النظرية عن سابقتها بأنها تعزو نشأة اللغة الإنسانية إلى أمر ذاتي، أي أنها تعتد بالشعور الوجداني الإنساني، وبالحاجة إلى التعبير عما يجيش بصدر الإنسان، من انفعالات وأحاسيس. أما النظرية السابقة، فترجع نشأة اللغة الإنسانية إلى ملاحظة خارجية موضوعية، أي ملاحظة مظاهر الطبيعة ومحاكاتها في ابتكار الأسماء الدالة عليها، ولذلك كانت هذه النظرية، خطوة أخرى في اتجاه آخر، نحو البحث عن حل للمشكلة، فإنها تشرح لنا منشأ بعض الكلمات، التي تعجز النظرية السابقة، عن شرح منشئها. ومع كل هذا فإنها نظرية ناقصة وغامضة. أما نقصها، فلأنها لا تبين منشأ الكلمات الكثيرة، التي لا يمكن ردها إلى أصوات انفعالية. وأما غموضها، فلأنها لا تشرح لنا السر في أن تلك الأصوات الساذجة الانفعالية، تحولت إلى ألفاظ أو أصوات مقطعية، فلهذين الأمرين انصرف عنها اللغويون، وسخر منها "مكس موللر" كذلك.

_ 1 اللغة لفندريس 38، 39.

المذهب الخامس

المذهب الخامس: نظرية الاستعداد الفطري. وهي النظرية التي أذاعها اللغوي الألماني: "مكس موللر"، ودعاها نظرية: "دنج دونج" Ding Dong. وخلاصتها أن الإنسان مزود بفطرته، بالقدرة على صوغ الألفاظ الكاملة، كما أنه مطبوع على الرغبة في التعبير عن أغراضه، بأية وسيلة من الوسائل، غير أن هذ القدرة على النطق بالألفاظ، لا تظهر آثارها إلا عند الحاجة، أو في الوقت المناسب. وحينما سمى "مكس موللر" نظريته هذه، بنظرية "دنج دونج" إنما كان يريد أن يشبه هذه القوة الفطرية، بلولب الساعة الملتف في باطنها، ويشبه حوادث الزمن ببندول الساعة، الذي يتحرك، فيخرج بتحركه القوة الكامنة في الساعة، التي ينطوي عليها اللولب، فالزمن ومقتضيات الأحوال، هي التي تخرج هذه المقدرة من حيز القوة إلى حيز الفعل. وكأن النفس البشرية مخزن ممتلئ بالألفاظ، ينفتح شيئا فشيئا بمفتاح الزمن ومقتضيات الحياة الواقعية. ولعل الذي دعا "مكس موللر" إلى وضع هذه النظرية، ملاحظة الأطفال، في حياتهم اليومية الحرة، التي تدل على أنهم تواقون إلى وضع أسماء للأشياء، التي يرونها ولا يعروفون لها أسماء، وأنهم يبتكرون أسماء لم يسمعوها من قبل، إرضاء لرغبتهم الفطرية في التكلم والتعبير عن أغراضهم، فاستنبط من ملاحظته هذه أن الإنسان مزود بتلك القوة، التي تنشأ عنها الألفاظ. وهذه النظرية لا تحل المشكلة، فإن لنا أن نسأل صاحبها: كيف ومتى زود الإنسان بهذه الذخيرة اللغوية؟ وكيف انطوت نفسه على تلك الألفاظ الكاملة؟ وإذا كان قد زود بفطرته بهذه الألفاظ، فلم اختلفت اللغات وتعددت اللهجات؟ فإننا نكاد نجزم بأن آثار القوى الفطرية لا بد أن تكون متحدة إلى حد ما. ثم كيف تسنى للإنسان أن يخرج تلك الألفاظ من مكانها، ويطلقها على المسميات المختلفة؟ فهذه النظرية، تنقل الباحث من مشكلة إلى مشكلات أعمق منها، وأشد غموضا ولبسا. وربما كان من أبرز عيوبها أنها تفترض ظهور الكلمة أو الكلمات الأولى لدى الإنسان، كاملة غير خاضعة لسنة التطور.

المذهب السادس

المذهب السادس: نظرية الملاحظة، صاحبها هو العالم الألماني: "جيجر" Geiger، فقد برهن هذا العالم على أن أقدم ما أمكنه الوصول إليه، من الأصوات اللغوية الأولى، يعبر عن أعمال أو إشارات إنسانية. ومن هذه الحقيقة، استنبط أن تلك الأعمال والإشارات، كانت لا محالة، هي التي لفتت نظر الإنسان الأول، وأثارت اهتمامه، وأنها كانت أول ما عرف الإنسان عن أخيه الإنسان الأول، وأثارت اهتمامه، وأنها كانت أول ما عرف الإنسان عن أخيه الإنسان، ولذا تمكنت من نفسه وحلت منها مكانا حصينا، فإن مشاهدة الإنسان لغيره، وهو متلبس بعمل من الأعمال الهامة، أو متأثر بحال انفعالية قاسية، أثارت أقصى اهتمامه، وجعلته يتأثر به تأثرا آليا، بطريق المحاكاة العكسية، فتظهر على وجهه علامات التأثر نفسها، البادية على وجه زميله. وقد حمله هذا الانتباه إلى العمل، وملاحظته أخاه وهو يعمل، على أن تصدر منه، إشارة تلقائية، أو صوت ساذج معبر عن هذه الملاحظة. وعلى مر الأيام، وبتكرار التجارب المتشابهة، تطورت الأصوات إلى كلمات، واستغني عن الإشارات كلها، أو بعضها على الأقل. وقد أقبل "جيجر" على كثير من الكلمات المستعملة في اللغات الأوربية، وأرجعها إلى أصول "إغريقية، سنسكريتية"، تدل على عمل من أعمال الإنسان، مثال ذلك: الأصل الإغريقي، الذي معناه: "الكشط" أو "السلخ"، اشتقت منه كلمات معانيها: الجلد والخشب والشجر. وهنا نرى العلاقة واضحة بين هذه الفروع وأصلها، فإن الجلد هو ما يسلخ، والخشب شجر كشط لحاؤه، والشجر ما يكشط ليؤخذ منه الخشب. وبالطريقة عينها انحدرت الكلمة الإنجليزية: Night بمعنى: "ليل" من أصل سنسكرتي هو: ang أو ungo بمعنى: "الصبغ باللون الأسود". ومما قد يؤيد هذا المذهب، أن جميع أسماء الآلات تقريبا، مشتقة من كلمات تدل على أعمال إنسانية. وإنك لترى هذه الحقيقة ماثلة في لغتنا العربية، فلدينا مثلا: المنشار، والمفتاح، والمقراض، والمقص، والمخرز، وكلها مشتقات من أصول يدل كل واحد منها، على عمل من أعمال الإنسانية الهامة. ومع أن وضع هذ النظرية، يعد خطوة أخرى في سبيل حل المشكلة، فإنها لم تستطع أن توضح لنا، بأسلوب مفهوم معقول، كيف وضعت تلك الأصول العامة الأولى، التي يقول صاحب النظرية، إنها تتعلق بأعمال الإنسان أو إشاراته، والتي يعدها الكلمات الأولى، التي اشتقت منها غيرها من الكلمات. على أنه من المتعذر، إرجاع جميع الكلمات التي تتكون منها اللغات كلها، إلى تلك الأصول العامة.

المذهب السابع

المذهب السابع: نظرية التطور اللغوي. وقد تأثر واضعو هذه النظرية، بنظرية التطور العام، التي أذاعها "دارون Darwin وحاول أن يبرهن على أثرها في جميع النواحي بعامة، وفي حياة الفرد والنوع الإنساني بخاصة. وقد أدت دراسة النمو اللغوي عند الطفل، إلى ادعاء أصحاب هذه النظرية، بأن هذا النمو يشبه تطور لغة النوع الإنساني. وهم يزعمون أن لغة الإنسان الأول، سلكت مراحل فطرية متعددة، متمشية مع مراحل نموه العقلي. وهذه المراحل هي: 1- مرحلة الأصوات الساذجة الانبعاثية، التي صدرت عن الإنسان في العصور الأولى، حين كانت أعضاء النطق لديه غير ناضجة، وميوله ورغباته غير محددة. وإننا نلاحظ نظير هذه المرحلة في الطفل، حين تصدر عنه في أول عهده بالنطق بعض أصوات مبهمة، لا يفهم منها في كثير من الأحيان، رغبة ولا غرض معين. 2- مرحلة الأصوات المكيفة المنبئة عن الأغراض والرغبات، المصحوبة بالإشارات المتنوعة، التي تساعد الأصوات، مساعدة فطرية، في الإبانة عن الأغراض. وقد ساعد على هذا التطور في الأصوات وتكيفها، نمو أعضاء النطق من جهة، ونمو الإحساس والشعور الذاتي لدى الإنسان من جهة أخرى. والأصوات المكيفة هي المتنوعة، لاختلافها في الشدة والرخاوة، والجهر والهمس، وغير ذلك. وتناظر هذه المرحلة في نمو الطفل اللغوي، تلك المرحلة التي يصل إليها في أواخر السنة الأولى من حياته، وذلك حين تصدر عنه أصوات مكيفة، مصحوبة بإشارات منبئة عن أغراضه. وفي هذه المرحلة من مراحل النمو اللغوي عند الإنسان لم يكن هناك فرق، بين أصوات الإنسان وأصوات

الحيوان، الدالة على شعوره بالخوف أو الحنين، أو النفور أو الرضا، أو القلق والاضطراب، وعلى شعوره بالحاجة إلى المعونة، فهو بهذه الأصوات يعبر عن شعوره، ويستغيث بغيره من بني جنسه. 3- مرحلة المقاطع. وفيها انتقلت لغة الإنسان من أصوات غير محددة المعالم، إلى أصوات محددة، في صورة مقاطع قصيرة، مستنبطة من أصوات الأشياء أو الظواهر الطبيعية، أو على الأقل متأثرة بها إلى حد بعيد. ويبدأ الطفل مرحلة تناظر هذه المرحلة، في الشهور الأولى من السنة الثانية، وذلك حين ينطق بمقاطع متكررة، يطلب بها ما يريد، أو يدل بها على أشياء معينة، متأثرا في ذلك بما يسمعه مما حوله من الحيوانات، أو ممن يرى في محيطه من الناس. ولا يزال يكرر هذه المقاطع، حتى تنطبع في نفسه، وتتكون منها لغته البدائية. وكثير من الأطفال يطلقون في هذه السن، كلمة: "هَوْ هَوْ" على الكلب، وكذلك "نَوْ نَوْ" على القط، ,"تِكْ تِكْ" على الساعة، وغير ذلك. 4- مرحلة الكلمات المكونة من المقاطع. وفي هذه المرحلة تتكون من المقاطع التي سبق الحديث عنها، الكلمات أو الأصول العامة، التي استعملها الإنسان الأول لقضاء حاجاته، والتعبير عن أغراضه ورغباته. ومن هذه الأصول الأولى اشتق الإنسان كثيرا من الفروع، وبالتأليف بين هذه الفروع وتلك الأصول، اكتمل تكوين اللغة الفطرية. وقد وصل الإنسان إلى هذه المرحلة، حين اكتمل عقله، ونضجت أعضاؤه الصوتية، واتسع نطاق حياته الاجتماعية، وكثرت رغباته، واشتدت حاجته إلى التفاهم مع غيره.

ويوازي هذه المرحلة عند الطفل، تلك المرحلة التي يستطيع فيها التكلم، كما يتكلم غيره ممن يحيطون به. ويتألف معجمه اللغوي من الكلمات الشائعة في بيئته، واللازمة للتعبير عن أغراضه. 5- مرحلة الوضع والاصطلاح. وهذه آخر مرحلة من مراحل النمو اللغوي. وهي وإن لم تكن مرحلة فطرية، فإنها تقوم على أساس فطري، ذلك هو حاجة الإنسان الملحة، إلى الاحتكاك ببيئته، والقبض على ناصيتها، ومسايرة اللغة التي يستخدمها لتفكيره وعقله، ومشاهداته التي يتسع نطاقها على مر الأيام، وكثرة التجارب، وتشعب دروب الحياة. وفي هذه المرحلة، وضعت المصطلحات العلمية، وابتكرت الأسماء الدالة على المسميات المستحدثة. ولا تزال اللغة تنمو باطراد، ولا يزال عدد مفرداتها يزداد، كلما أوغل الإنسان في التحضر، وازداد نموه الفكري ازديادا، لا يظهر أنه سيقف عند حد. ويوازي هذه المرحلة، مرحلة النمو اللغوي، عند الطفل، عندما يذهب إلى المدرسة، ويدرس العلوم والفنون، ويتعلم بعض المصطلحات العلمية والفنية المختلفة. هذا هو مذهب التطور اللغوي، في نشأة اللغة الإنسانية. ويمتاز بعدة أمور: الأول: أنه يخضع نشأة اللغة وتطورها، إلى سنة التطور العام، شأنها في ذلك شأن كل كائن حي، ينشأ صغيرا ساذجا، ثم ينمو شيئا فشيئا، بحكم طبيعته، والبيئة التي ينشأ فيها. وما اللغة إلا ظاهرة اجتماعية، تخضع لما تخضع له الظواهر الاجتماعية من عوامل التطور.

الثاني: أنه يشرح لنا السر في نمو اللغة، من حيث متنها وأساليبها. ويعزو ذلك إلى سلوك الإنسان مسلك التقدم والرقي، في جميع مقومات حياته الخاصة، وظروفه الاجتماعية، وإلى حاجته الماسة إلى تنمية لغته، لتساير حياته، ولتسعفه حين يريد التعبير عن أفكاره أو رغباته المتزايدة على الدوام. الثالث: أنه لا يمنع أن يكون هناك أكثر من عامل واحد في نشأة اللغة وتطورها، فمن الجائز، بل يكاد يكون من المحقق -في نظر أصحاب هذا المذهب- أن يكون الإنسان، قد تأثر في إصدار الأصوات الساذجة أو المكيفة، بما سمع من أصوات الحيوان، أو الظواهر الطبيعية، وأن بعض تلك الأصوات، كان تعبيرا تلقائيا عن الآمه ورغباته وانفعالاته وعواطفه. هذا إلى أن هذا المذهب، لا ينكر أثر الاشتقاق والوضع، في تنمية متن اللغة، وتوسيع نطاقها. تلك هي أشهر المذاهب، التي ابتكرت لتفسير نشأة اللغة الإنسانية. وهناك بعض المذاهب الأخرى، التي ضربنا صفحا عن ذكرها، لتفاهتها، أو لتضمنها فيما تقدم من المذاهب. ولكن.. هل وصلت هذه النظريات المختلفة، إلى حل واضح لهذا الموضوع الشائك، موضوع نشأة اللغة الإنسانية؟ بالطبع لا ... ! وإن هذا المذهب الأخير، على الرغم مما يبدو فيه من ثوب علمي، فإن فيه كذلك عيبا خطيرا، وهو أنه يتخذ الطفل أساسا، لتطبيق مراحل نمو اللغة عند الإنسان الأول، مع أن هناك فارقا مهما بين لغة الطفل، ولغة هذا الإنسان الأول، ذلك لأن الطفل يكتسب هذه اللغة من أبويه، والمحيطين به، وهم لا يملون من ترديد المقاطع التي يتفوه بها الطفل، ويصلحون له أخطاءه، حتى يصل إلى مرحلة النضج اللغوي، ولم يكن هذا أمر متيسرا

للإنسان الأول، الذي كان يسير على غير هدى في لغته، لا يجد أمامه من يردد مقاطعه وجمله، ليحاكيها ويصل بها إلى مراحل النضج والإحكام. وفي ذلك يقول "ماريو باي": كان من الطبيعي أن يلجأ الباحثون إلى دراسة تطور مهارة الكلام عند الطفل منذ مولده، إبان محاولتهم إلقاء الضوء على نشأة اللغة وتطورها. وعندما أجريت هذه التجارب على أطفال أسوياء، في ظروف طبيعية، انتهت -فيما يتعلق بنشأة اللغة وتطورها- إلى نتائج غير مقنعة، فكل ما دلت عليه هذه التجارب، هو أن الطفل يحاكي حديث الكبار في المجتمع الذي يعيش فيه. "ويحدثنا التاريخ عن ثلاثة رجال على الأقل، حاولوا أن يعزلوا الأطفال منذ مولدهم، حتى يثبتوا ما إذا كان الطفل يستطيع أن يتحدث بلغة، ليست في أصلها مبنية على محاكاة للكبار، فيروي "هيرودوت" أن الفرعون المصري "بسماتيك" قد أجرى هذه التجربة على طفلين، وأن أول كلمة نطقا بها، هي كلمة: "بيكوس" Bekos ومعناها: "خبز" باللغة الفريجية1. عندئذ ثبت للفرعون المصري، أن هذه اللغة، هي أصل اللغات في العالم. "وقام "فريدرك الثاني" في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، بتجربة مماثلة، ويقال إن الطفلين ماتا قبل أن يصل الباحثون إلى نتائج حاسمة. ويدعي "جيمس الرابع" ملك إسكتلندا "حوالي سنة 1500م" أن الأطفال الذين أجرى عليهم تجربته، قد استطاعوا أن يتحدثوا باللغة العبرية بطريقة مفهومة. ولما كانت الضوابط العلمية تنقص هذه التجارب

_ 1 فريجيا Phrygia دولة قديمة في آسيا الصغرى.

الثلاث، فلا يمكننا أن نصل إلى نتائج مقنعة على أساسها، خاصة فيما يتعلق بنشأة اللغات"1. وهكذا نرى أن موضوع نشأة اللغة، لا يزال الخوض فيه، من الأمور الفلسفية الميتافيزيقية، التي تخرج الباحث فيها، عن نطاق الحقائق العلمية، إلى البحث فيما وراء الطبيعة، وفي أمور لا نملك منها اليوم أية وثائق أو مستندات، والله أعلم.

_ 1 لغات البشر 19 وانظر اللغة لفندريس 34 ودلالة الألفاظ للدكتور إبراهيم أنيس 9-11 وانظر كذلك حديثا مطولا عن طفلتين من الهند، خطفتهما الذئاب وربتهما، في كتاب "البلاغة العصرية" لسلامة موسى 7-10.

الفصل الثالث: علم اللغة والمجتمع الإنساني

الفصل الثالث: علم اللغة والمجتمع الإنساني ليست اللغة بمعزل عن العلوم الأخرى، فلها "ارتباط وثيق بعلوم الطبيعة، فإن أصوات لغة الكلام، تنتج وتستقبل عن طريق أجهزة الجسم الإنساني. وتركيب هذه الأجهزة ووظائفها جزء من علم وظائف الأعضاء. وكذلك فإن انتقال الصوت على شكل موجات صوتية عبر الهواء، يدخل في اختصاص علم الطبيعة، وبخاصة ذلك الفرع، المعروف بعلم الصوت. ولكن اللغة، من ناحية أخرى، لها علاقة وثيقة بعلم الإنسان، وعلم الاجتماع، باعتبارها نتاج علاقة اجتماعية، ووسيلة نقل الثقافة، التي تعد من وجهة نظر علم الإنسان، مجموعة تقاليد الشعب، وأوجه استعمالاته للغته. وبالنظر إلى وظيفة اللغة، كتعبير عن الفكر، يمكن اعتبار اللغة جزءا من علم النفس"1. ونتناول في هذا الفصل، علاقة اللغة بالمجتمع الإنساني، وقد ذكرنا من قبل، أن اللغة نشاط اجتماعي، من حيث إنها استجابة ضرورية، لحاجة الاتصال بين الناس جميعا، ولهذا السبب يتصل علم اللغة اتصالا شديدا، بالعلوم الاجتماعية، وأصبحت بعض بحوثه تدرس في علم الاجتماع، فنشأ لذلك فرع منه يسمى: "علم الاجتماع اللغوي"، يحاول الكشف عن العلاقة بين اللغة والحياة الاجتماعية، وبين أثر تلك الحياة الاجتماعية في الظواهر اللغوية المختلفة.

_ 1 انظر: أسس علم اللغة لماريوباي 42.

وقد تنبه اللغويون إلى مثل هذه البحوث، بعد أن رأوا الدراسات، التي تقوم بها المدرسة الاجتماعية الفرنسية، التي أنشأها "دوركايم" Durkheim في أوائل القرن العشرين، وانضم إليها كثير من علماء اللغة في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وسويسرا والدانيمارك، وكثير من أساتذة الجامعات في أوربا وأمريكا. ومن العلماء من لم ينضم انضماما إيجابيا إلى هذه المدرسة غير أنهم تأثروا بعقلية "دوركايم" الجبارة، وبذلك أصبحت بحوث المدرسة الاجتماعية الفرنسية، أساسا للبحوث اللغوية في كثير من الأحيان؛ إذ طبقت نظريات علم الاجتماع العام على اللغة، وحاول الباحثون أن يبينوا لنا أثر المجتمع ونظمه وحضاراته المختلفة، على الظواهر اللغوية، باعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي أولا وقبل كل شيء، ولذلك كانت اللغة كائنا حيا كالإنسان سواء بسواء؛ لأنها ألصق الظواهر الاجتماعية به. ويقول فندريس: "في أحضان المجتمع تكونت اللغة، ووجدت يوم أحس الناس بالحاجة إلى التفاهم بينهم، وتنشأ من احتكاك بعض الأشخاص، الذين يملكون أعضاء الحواس، ويستعملون في علاقاتهم الوسائل التي وضعتها الطبيعة تحت تصرفاتهم، الإشارة إذا أعوزتهم الكلمة، والنظرة إذا لم تكف الإشارة"1. وهكذا يرى "فندريس" أن اللغة تنتج من اللاحتكاك الاجتماعي، ثم تصبح عاملا من أقوى العوامل، التي تربط أفراد المجتمع الإنساني، ويرى علماء الاجتماع أن الظواهر الاجتماعية لها قوة قاهرة آمرة، تفرض بها على أفراد

_ 1 اللغة لقندريس 35.

المجتمع، ألوانا من السلوك والتفكير والعواطف، وتحتم عليهم أن يصبوا سلوكهم وتفكيرهم وعواطفهم، في قوالب محددة مرسومة -على حد تعبيرهم. ويدل على وجود القهر في الظواهر الاجتماعية -عند علماء الاجتماع- أن الفرد إذا حاول الخروج على إحدى هذه الظواهر الاجتماعية، فإنه سرعان ما يشعر برد فعل مضاد من المجتمع الذي يعيش فيه؛ ذلك لأن المجتمع يشرف على سلوك أفراده. ويستطيع توقيع العقاب، على كل من تسول له نفسه الخروج عليه. وأهون صور هذا العقاب، هو التهكم الشديد، أو السخرية المرة. والأمثلة على وجود هذا القهر، أن المجتمع لا يسمح لنا مثلا أن نتحدث باللغة العربية لمن يفهمها، ولا أن نحدث العامة مثلا باللغة الفصحى، التي لا تسمو إليها مداركهم، فإن كل من يحاول الخروج على السلوك اللغوي لجماعته، يعد خارجا على الظواهر الاجتماعية نفسها. وقصة أبي علقمة الثقفي، الذي اشتهر باستعمال الغريب والوحشي من الألفاظ، في حواره مع طبيب جاءه يشكو إليه من مرض ألم به، خير مثال لهذه القضية، من تراثنا العربي، فقد "دخل أبو علقمة على أعين الطبيب، فقال له: أمتع الله بك! إني أكلت من لحوم هذه الجوازل، فطسئت طسأة، فأصابني وجع ما بين الوابلة إلى دأية العنق، فلم يزل يربو وينمي حتى خالط الخلب والشراسيف، فهل عندك دواء؟ فقال أعين: نعم، خذ خربقا وشلفقا وشبرقا، فزهرقه وزقزقه، واغسله بماء روث واشربه. فقال أبو علقمة: لم أفهم عنك! فقال أعين: أفهمتك كما أفهمتني"1.

_ 1 انظر عيون الأخبار 2/ 162.

ويروى أن الشيخ "حمزة فتح الله" رحمه الله، وكان مفتشا بالمدارس المصرية، قدم ذات يوم من رحلة تفتيشية له بمدارس الريف، وعندما وصل به القطار إلى محطة القاهرة نظر حوله، لعله يجد رجلا يحمله على حماره إلى بيته -أيام كانت الحمير هي الوسيلة الوحيدة للنقل- فبصر برجل يجر خلفه حمارا فناداه: "أيها المكاري! "، فقال الرجل: "نعم" فقال الشيخ حمزة: "إيتني بأتان جمزى! "، فظن الرجل أنه يتكلم لغة أجنبية، فقرب منه، وجعل يستطلع جلية ما يريد، حتى أخذ منه الجهد، ولم يحظ منه بطائل. وهنا حلت العقوبة بالشيخ حمزة؛ إذ تركه صاحب الحمار، وذهب لحال سبيله، وهرول الشيخ إلى بيته، وهو يقول: مشيناها خطى كتبت علينا ... ومن كتبت عليه خطى مشاها1 وهذا القهر الذي يفرضه المجتمع على أفراده، يختلف بالطبع شدة وضعفا، إلا أنه موجود دائما، حتى ولو لم نشعر به حين نستسلم له. ويرى علماء الاجتماع، أن ضروب السلوك والتفكير، لا توجد خارج شعور الفرد فحسب، بل تمتاز كذلك بقوة قاهرة آمرة، هي السبب في أنها تستطيع أن تفرض نفسها على الفرد، شاء أم أبى. حقا إن الإنسان ربما لا يشعر بهذا القهر، أو لا يكاد يشعر به، حين يستسلم له بمحض اختياره؛ لأن الشعور بالقهر في مثل هذه الحالة ليس مجديا، ولكن ذلك لا يحول دون أن يكون القهر من خصائص الظواهر الاجتماعية. ويهمنا هنا بالطبع اللغة، من بين الظواهر الاجتماعية، وهي أداة للتعبير عما يدور في المجتمع، فهي تسجل لنا في دقة ووضوح الصور المختلفة المتعددة الوجوه، لهذا المجتمع، من حضارة ونظم وعقائد، واتجاهات فكرية وثقافية، وعلمية وفنية واقتصادية وغير ذلك.

_ 1 انظر اللغة بين المعيارية والوصفية 65.

واللغة بدورها تتأثر بكل هذه الظواهر الاجتماعية، تأثرا كبيرا، فهي بدوية في المجتمع البدوي غير المتحضر، ولذلك نجدها فيه محدودة الألفاظ والتراكيب والخيال، ليست مرنة ولا تتسع لكثير من فنون القول. أما إذا كانت اللغة في مجتمع قد أخذ قسطا من الحضارة، فإننا نجدها متحضرة الألفاظ، مطردة القواعد، يسيرة في نطقها، خفيفة الوقع على السمع. واللغة في المجتمع البدائي كثيرة المفردات، فيما يتعلق بالأشياء المحسوسة، والأمور الجزئية، قليلة الألفاظ التي تدل على المعاني الكلية، فالرجل البدائي "قد توجد لديه كلمات خاصة للدلالة على المعاني الجزئية، كغسل نفسه، وغسل رأسه، وغسل شخص آخر، وغسل رأس شخص آخر، غسل وجهه، وغسل وجه شخص آخر ... إلخ، في حين أنه لا توجد لديه كلمة واحدة، للدلالة على العملية العامة البسيطة، وهي: مجرد الغسل"1. وكثيرا ما تخلو مدلولات الكلمات، في هذا المجتمع البدائي، من الدقة، ويكثر فيها اللبس والإبهام، وهي غالبا لا تعبر إلا عن ضرورات الحياة اليومية، ولذلك كانت جملها قصيرة، وروابطها قليلة. ولا يزال بعض هذه اللغات البدائية. يعتمد حتى الآن اعتمادا كبيرا، على الإشارات اليدوية والجسمية، لإعطاء المعنى المقصود، من الألفاظ التي ينطقونها، إلى درجة أن الأهالي يوقدون النيران ليلا، لكي يتمكنوا من فهم ما يقال؛ لأن الإشارات التي تصحب الكلام، تكمل الناقص من المفردات، وتحدد مدلول الكلمات.

_ 1 دور الكلمة في اللغة لأولمان 116.

ولا تزال في اللغات الراقية، بقايا هذه البدائية، في بعض الإشارات الجسمية الموضحة للمراد من الكلام، في بعض الأحيان. وهذا هو السر في غموض بعض كلمات الحديث التليفوني، أو أحاديث الظلام. وقد روى لنا ذلك "ابن جني" فقال: "وقال لي بعض مشايخنا رحمه الله: أنا لا أحسن أن أكلم إنسانا في الظلمة"1. كما يقول ابن جني أيضا: "وكذلك إن ذممت إنسانا، ووصفته بالضيق، قلت: سألناه وكان إنسانا! وتزوي وجهك وتقطبه، فيغني ذلك عن قولك: إنسانا لئيما أو لحزًا أو مبخلا أو نحو ذلك"2. وتعكس اللغة أثر التفاوت بين طبقات المجتمع. وفي ذلك يقول "ماريو باي": "من المسلم به أن اللغة تتغير، تبعا للطبقة التي تتحدث بها. وقد صرح بعض هواة اللغويات في بريطانيا، بأن هناك نوعين من اللغة، أحدهما وقف على الطبقة الراقية، ولا يمتد استعماله إلى الطبقة الدنيا، والآخر لا يستخدمه إلا أفراد الطبقة الدنيا. وهناك لغات تصل الفوارق الطبقية فيها إلى أبعد من ذلك، فهناك مثلا ثلاثة أنواع للغة "جاوا"، أحدها يتحدث به أهل الطبقة الدنيا ويسمى: نجوكو Ngoko والآخر تستخدمه الطبقة الراقية، ويسمى كراما Krama وثالث لتسهيل عملية التفاهم بين الطبقتين، ويسمى: ماديا Madya. ويتحدث أفراد الطبقة الراقية في بعض التمثيليات الهندية القديمة: اللغة السنسكريتية، على حين يتحدث أفراد الطبقة الدنيا: اللغة البراكريتية"3.

_ 1 الخصائص 1/ 247. 2 الخصائص 2/ 371. 3 لغات البشر 82، 83.

ولا شك أن التغير الاجتماعي، في بيئة من البيئات، يتبعه تغير في شيء من اللغة المستعملة في تلك البيئة. ويكفي أن نذكر بأن قيام ثورة 23 يولية في مصر، أدى إلى تغير في النظام الاجتماعي، تبعه اختفاء كلمات مثل: بك، وباشا، وصاحب العزة، وصاحب السعادة، وصاحب الدولة، وصاحب المعالي، وصاحب الرفعة، وصاحبة العصمة، والبرنس، وسمو الأمير، وصاحب الجلالة، والذات الملكية. كما شاعت ألفاظ مثل: ثورة التحرير، والعزة والكرامة، والتأميم، والاشتراكية، والتحول الاشتراكي، والمكاسب الاشتراكية، والتقدمية، والرجعية، والتطلع الطبقي، والصراع الحتمي، وتذويب الفوارق الطبقية، ونضال الجماهير، والنقاء الثوري، والقيادة الجماعية، والجماهير الكادحة، والعناصر الانتهازية، والمصير المشترك، والسلام القائم على العدل، وفك الاشتباك. وغير ذلك كثير. وكثيرا ما يؤدي التفاوت بين طبقات المجتمع، إلى نشوء لغات سرية عامية، هي بنوع خاص لغة الأشقياء والخارجين على القانون، ممن يعيشون في خوف دائم من سطوته؛ لأنهم يحيون حياة على هامش المجتمع. ويقول قندريس: "كان عندنا، حتى بداية القرن التاسع عشر، هيئة منظمة حقا للأشقياء، وكانت لها لغتها الخاصة المتفق عليها، والتي كان يعمل كل عضو من أعضاء الهيئة، على المحافظة عليها"1. ونحن نعرف عن هذه اللغة الخاصة في كل البلاد، غناها بالتعبيرات التي تشبع الغرائز المادية، والصفات المذمومة التي تنطوي على الجريمة، كالسرقة والزنا والسكر، وما إليها من أنواع الانحلال الخلقي، ففي لغة هذه

_ 1 اللغة لفندريس 316.

الطبقات من أهل فرنسا مثلا، نجد ثماني عشرة كلمة تعبر عن الأكل، وعشرين عن معاقرة الخمر، وعشرين أخرى للتعبير عن الخمر نفسها، وأربعين لفظا تعبر عن السكر. ولخشيتهم دائما من سطوة القانون، جعلوا للشرطي اثنتي عشرة كلمة، وللفرار منه خمسة عشر لفظا، كما سموا السجن معهدا ومدرسة، والبؤس فلسفة وسموا الحذاء البالي فيلسوفا. أما المال الذي يستحوذ على أفكارهم وقلوبهم، فقد وضعوا له ستين كلمة. والبغايا اللاتي يعشن معهم دائما، وضعوا لهن ثمانين كلمة، تعد كلها وابلا من السباب بأحط الألفاظ. أما السيدة الفاضلة، فليس لها كلمة واحدة في لغتهم. والرجل المستقيم، يعبرون عنه بالبساطة، ومعناها في عرفهم الغفلة والغباء. وكثيرا ما توجد في هذه اللغات العامية الخاصة نشاط وحيوية؛ إذ نجدها مليئة بالاصطلاحات المجازية والاستعارية المتجددة "فالاستعمال الاستعاري من الوسائل المحببة إلى العامية الخاصة"1. ويقول في ذلك ماريو باي: "الصوتيات وأصول الكلمات ملك مشاع لكل الطبقات الاجتماعية، على حين تظهر الاختلافات الطبقية، في اختيار المفردات اللغوية، وطريقة استعمالها"2. ولا يطلق اصطلاح "اللغات الخاصة" على هذه اللغات السرية فحسب، وليست كل ألفاظها فحشا، وليست كل تراكيبها تعبيرا عن الرذيلة والجريمة؛ إذ إنه "يوجد من العاميات الخاصة بقدر ما يوجد من جماعات متخصصة. والعاميات الخاصة تتميز بتنوعها الذي لا يحد، وأنها

_ 1 اللغة لفندريس 317. 2 لغات البشر 83.

في تغير دائم تبعا للظروف والأمكنة، فكل جماعة خاصة، وكل هيئة من أرباب المهن، لها عاميتها الخاصة، فهناك عامية التلاميذ الخاصة، وهي غير واحدة في كل المدارس، بل تختلف أحيانا باختلاف الفصول في المدرسة الواحدة. وهناك عامية الثكنات الخاصة، التي تختلف باختلاف الأسلحة، بل تختلف باختلاف الثكنات أيضا. وهناك عامية الخياطات الخاصة، وعامية الغسالات، وعامية عمال المناجم، وعامية البحارين"1. "فكل مجموعة إنسانية، مهما صغرت، لها لغتها الخاصة بها. فهناك في دائرة الأسرة والمكتب والمصنع ومطاعم الجنود، تتوالد الكلمات والعبارات والمعاني الهامشية والألغاز، وطرق التعبير الأخرى، التي تختص بهذه البيئات، والتي يصعب إدراكها على من لم ينتم إليها. وهذا هو الحال كذلك في المجموعات الكبرى، التي يربطها رباط المصالح المشتركة، كالمهنة، والحرفة، والتجارة، والانتماء إلى مختلف فروع العلم والفن والصحافة، والقوات المسلحة، والهيئات الأكاديمية والرياضية وغيرها. فلكل من هذه المجموعات ثروتها اللفظية الخاصة بها، وهي ثروة تعكس خصائص الموضوعات والمناقشات، التي يتناولها الأعضاء فيما بينهم، وتسهل اتصالهم بعضهم ببعض، ولكنها في الوقت نفسه، تزيد في الهوة التي تفصلهم عن غيرهم، ممن لا ينتمون إليهم. هذا الاتجاه نفسه موجود في اللهجات الطبقية الخاصة، كلهجات السوقة واللصوص. ويقوي هذا الاتجاه في هذه اللهجات النزعة إلى خلق مصطلحات صادقة التعبير، وحاوية لعناصر الفكاهة والدعابة، وكاشفة عن الروح البيئية الخاصة"2.

_ 1 اللغة لفندريس 315. 2 انظر: دور الكلمة في اللغة لأولمان 153.

وقد تتسرب بعض ألفاظ هذه العاميات، إلى اللغة الأدبية، حينما يستخدم أحد الكتاب أو الشعراء لفظه من ألفاظ العاميات الخاصة في كلامه، فيقابل بالإعراض واللوم من الغيورين على اللغة الأدبية. وقد حدث مثل ذلك في فرنسا نفسها، فلم يكن الاعتراف بهذ التراكيب العامية أمرا ميسورا؛ إذ نشبت معركة شديدة بين القدماء والمحدثين، بين من يرون أن اللغة الفرنسية الحقة، هي لغة كبار الكتاب والشعراء، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، هي لغة: موليير، وراسين، ولامرتين، وفولتير وغيرهم، وأن من الخطر الشديد أن ندنس هذه اللغة الأدبية الفصيحة، بلغة عامية مبتذلة وبين أولئك الذين كانوا ينظرون إلى اللغة على أنها كائن حي يتطور على مر الزمن. وقد اضطرت الأكاديمية الفرنسية أخيرا إلى الاعتراف بكثير من الألفاظ الفرنسية العامية، التي رد لها الأدباء والشعراء اعتبارها، فأدخلتها في معاجمها، وبذلك انتصر المحدثون، فأصبحنا نرى كثيرا من الألفاظ العامية، التي كانت مستعملة في القرن الثامن عشر، وقد صارت ضمن مواد معجم الأكاديمية الفرنسية الذي يعد في فرنسا، المعجم اللغوي الرسمي. وستصبح الكثرة الغالبة من الألفاظ والتراكيب المستعملة في القرن العشرين، بدورها ألفاظا وتراكيب رسمية يوما ما. هذه التفاعلات الشديدة بين المجتمع واللغة، قد وجد يوم تكونت المجتمعات البشرية، ويوم خلقت اللغات الإنسانية. وستظل هذه الصلة وثيقة دائما، فتنقل لنا اللغات، ما يدور في هذه المجتمعات من نظم مختلفة، وما يتصف به الأفراد في هذه المجتمعات، من علم وثقافة، ونظم اجتماعية مختلفة.

ومن البديهي أن لكل مجتمع طرقه في التفكير، ونظرته الخاصة إلى الحياة، فهناك مجتمع يتصف بصراحة شديدة مثلا، يراها مجتمع آخر خشنة جافة، لا تتلاءم وقواعد السلوك العامة، وعندئذ نجد فراقا واضحا في لغة كل مجتمع، من هذين المجتمعين، فلغة المجتمع الأول تعبر بصراحة مباشرة، عن الأمور المشينة والعورات، والأعمال التي لا ينبغي أن تذكر في عبارات مكشوفة. أما لغة المجتمع الثاني، فتتلمس دائما حسن الحيلة وأدب التعبير، مستعملة المجاز في الألفاظ، والكناية بدلا من صريح القول، وكلما شاع معنى لفظ واستهجن، استبدلت به سريعا لفظا آخر، ولو كان مستعارا من لغة أجنبية. والخلاصة أن علم اللغة أصبح يعد الآن، ضمن طائفة العلوم الاجتماعية، ويتصل اتصالا وثيقا بغيره من هذه العلوم، كالأديان، والتاريخ، والآداب، والسياسة، والاقتصاد وغيرها، وأن الظواهر اللغوية متأثرة تأثرا مباشرا بالظواهر الاجتماعية. وفي بعض الأحيان، لا تفهم الظواهر الأولى إلا بمساعدة الثانية، فنشأة اللغات، وتكونها، وانقسامها إلى أسر مختلفة، وانتشارها، وما يطرأ عليها في حياتها من قوة أو ضعف، وما تدخل فيه لغة من صراع مع غيرها، وانتصارها أو هزيمتها في هذا الصراع اللغوي، وما يستتبع هذا من تطورات في أصواتها، أو تغير في مدلولات ألفاظها، واستعارة الألفاظ وتبادلها بين اللغات، واخضاعها لقوانين الأصوات في اللغة المستعيرة، وغير ذلك كل هذه الظواهر التي ذكرناها وغيرها، لا يمكن أن تعرف على حقيقتها، إلا إذا ألقت عليها الظواهر الاجتماعية، ضوءا يكشف ما قد يخفى علينا من غزوات وحروب، وما يستتبع هذا من تغلب أمة على أخرى، ومن هجرات ترجع إلى طبيعة قاسية، أو أرض مجدبة، ومن انتشار

دين جديد ينتزع ما سبقه من ديانات، أو يعيش بجوارها متغلبا عليها، ومن حضارات تندثر وأخرى تنتشر، وما إلى ذلك من المظاهر المختلفة، للحياة البشرية الاجتماعية المعقدة.

الفصل الرابع: علم اللغة والنفس الإنسانية

الفصل الرابع: علم اللغة والنفس الإنسانية أدت بحوث علماء الاجتماع في اللغة، ومبالغتهم في الربط بين اللغة والمجتمع، وإنكارهم أن يكون لغير الظواهر الاجتماعية أثر في اللغة كل هذا أدى إلى هجوم بعض العلماء عليهم، ولا سيما علماء النفس، الذين كتبوا عن العلاقة بين اللغة والفكر. ويقول في ذلك "فون در جابلنتس" G von der Gabelentz: "الإنسان لا يستخدم اللغة، للتعبير عن شيء فحسب، بل للتعبير عن نفسه أيضا"1. ويذهب بعض العلماء إلى أن الألفاظ، ليست إلا رموزا تعبر عن المعاني الكامنة في النفس، وهي ضرورية للتقدم العقلي لأنها هي التي تثبت كل خطوة يخطوها الذهن البشري، وهم يشبهون ذلك بجيش يغزو بقعة من الأرض، وينتصر على أهلها، وينتشر في أرجائها، ولكنه لا يستطيع أن يملكها إلا حين ينشئ فوقها الحصون، التي يضع بها حاميته، وهم يرون أن الألفاظ حصون الفكر، وأنه لا وجود للفكر بدون اللغة، ولذلك يرى هؤلاء أن علماء النفس، لا علماء الاجتماع، هم الذين يستطيعون أن يبينوا لنا، كيف يظل المعنى حائرا في الذهن، حتى يستقر في الكلمة المناسبة، وحيئنذ يتحدد المراد منه، ويثبت ويتضح. ويذهب هؤلاء العلماء، إلى أن اللغة ضرورية للفكر، حتى في رحلات التفكير الشخصية، ويقولون إن الإنسان يفكر بينه وبين نفسه في

_ 1 انظر: اللغة لفندريس 183.

أثواب من اللغة، ويذهبون إلى أن "أحد لا يستطيع أن ينكر الأهمية العظمى للكلمات، في أي نوع من التفكير، حتى ذلك التفكير الذي يطلق عليه اسم "الكلام الداخلي" inner speech. ومما لا شك فيه أننا مررنا جميعا بالتجربة العامة للأحلام، وعرفنا أن أحلامنا تتبخر من أذهاننا بسرعة، إذا لم نبادر بتسجيلها في كلمات. وكثيرا ما يظل الإنسان عاجزا عن تحديد خطة البحث، الذي ينوي القيام به، أو الطريقة التي يسلكها في مناقشته إلى أن يوضحهما ويبلورهما، بوضعهما في تعبير لفظي. وقد برهنت تجارب التحليل النفسي، على أن مخاوف اللاشعور، سوف تنتهي تلقائيا إلى مجرد تخيلات، ويزول أثرها، فلا تكون عقدا، أو تسبب كبتا، في اللحظة التي تصاغ فيها هذه المخاوف في عبارات واضحة. فإذا جاوزنا ذلك إلى مستوى أعلى، وجدنا أن التفكير المجرد لا يمكن إدراكه، إذا لم يتحول المضمون الذهني الغامض المتميع، إلى شيء مادي، بطريق الصياغة اللفظية"1. ولكل هذا يرى هؤلاء أن علماء النفس هم الذين يفسرون لنا، كيف ينقل الإنسان فكره إلى غيره، متخذا وجهة نظر الآخرين، ملقيا من تفكيره المدركات الشخصية البحتة. مستبقيا المدركات العامة، التي يفهمها هو ويفهمها غيره. ونحن لا ننكر هنا أن تكون للنفس البشرية، أثر في الظواهر اللغوية، كما سبق أن قررنا أن العلاقة وثيقة، بين هذه الظواهر اللغوية والظواهر الاجتماعية. وقد لاحظ علماء النفس بحق، أن مسائل كثيرة من علمهم تساعد مساعدة جدية، على فهم الظواهر اللغوية، فالتذكر والاسترجاع،

_ 1 دور الكلمة في اللغة لأولمان 202.

والتخيل، وتداعي المعاني، والإدراك، والانتباه، والحالات الوجدانية المختلفة، وغير ذلك من مسائل علم النفس، هي التي تفسر لنا كيف يتعلم الطفل اللغة كلاما ثم كتابة، وكيف يصوغ الإنسان عباراته ويكون جمله، ليعبر عن أفكاره، وكيف يفهم السامع ما يسمع، ويدرك القارئ ما يقرأ، من تلك الرموز الكتابية. ولكي تدرك مقدار أثر الخبرات السابقة، في فهم الكلام لدى السامع، ضع أمامك ما تقول به الإحصاءات اللغوية، من أن "ما يحدث في الغالب خلال المكالمات التليفونية، هو وصول 50% فقط من المحتوى الصوتي، ولكن يحدث تعويض عن طريق معرفة السامع بالمحتوى الدلالي، وعن طريق استنتاجه شبه الطبيعي، المؤسس على خبراته وعاداته السابقة. ويلاحظ في مثل هذه الحالة، أنه إذا ورد ذكر كلمة غير مشهورة، كاسم أسرة مثلا، فإن الحديث يتوقف طلبا لنطق الاسم بوضوح أو تهجيه"1. ولكل ذلك، لا ينبغي أن ندخل في اعتبارنا الصورة التي تصاغ عليها الأفكار فحسب، بل كذلك العلاقات التي توجد بين هذه الأفكار وحساسية المتكلم. وعلى ذلك، فإن اللغة لا يصح أن تدرس على أنها أداة عقلية فحسب؛ لأن الإنسان كما يتكلم ليصوغ أفكاره، فإنه يتكلم ليؤثر في غيره من الناس، وليعبر عن أحساسه وشعوره وعواطفه، فهو يعبر باللغة عن

_ 1 انظر: أسس علم اللغة لماريوباي 91.

نفسه، كما يعبر عن آرائه. بل إنه يمكن القول بأن التعبير عن آية فكرة، لا يخلو مطلقا من لون عاطفي، إلا إذا استثنينا التفكير العلمي، أو اللغة العلمية، التي يجب أن تكون معبرة عن الفكرة المحضة، والحقيقة المجردة، الخالية من الانفعالات النفسية. ويدلل "فندريس" على ملازمة الانفعال للتعبير عن الأفكار، بقوله: "فمن النادر جدا -عندما تتسابق في ذهننا، ونحن بصدد التعبير عن فكرة ما، عدة عبارات مختلفة- أن تكون إحدى هذه العبارات عقلية محضة، وأن تعبر عن استدلال منطقي بحت، أو أن تصور حقيقة أو حادثا ما، في بساطته العارية من كل لباس، فإنني أرى حادثا يقع أمامي، فأصيح راثيا لحال صاحبه: "آه! المسكين! " وأقابل صديقا لم أكن أتوقع لقاءه، فأقول له: "أنت! هنا! "، فهذه الجمل ذات قيمة انفعالية، واضحة كل الوضوح، فإذا صيغت في لغة المنطق الجدلية، صارت: "أرثى لهذا المسكين" أو: "يدهشني أن أراك هنا". تخيل أني استعملت في الواقع هاتين الصورتين من صور الجملة، أفتظن أنهما أيضا يخلوان من كل قيمة انفعالية؟ قيمة تختلف بلا ريب عما في جملتي التعجب، اللتين قيلتا في تلهف، وإن كانت لا تقل عنها قرعا للذهن. بل قد يحس الإنسان فيهما، إما رغبة في استخراج المغزى الأدبي من الحادثة، وإما تفريعا للدهشة الناجمة من مقابلة صديق، وإما كبتا لحركة من الحساسية شديدة العنف، تحاول أن تنطلق من عقالها، ولكن محاولة التخلص من إظهار العاطفة، في هذه الحال، ليست إلا إظهارا للعاطفة"1.

_ 1 انظر: اللغة لفندريس 183.

ويذهب "فندريس" بعد هذا، إلى أنه لا تكاد توجد جملة -مهما كانت شائعة الاستعمال أو مبتذلة- تخلو من العناصر الانفعالية، فإنني إذا قلت "حامد يضرب عليا" بدا عليَّ أني أعبر بكل بساطة، عن علاقة بين شخصين، يجمع بينهما حدث الضرب. وهذا على الأقل كل ما يزودني به التحليل المنطقي المزعوم. ولكن الواقع أن مثل هذه الجملة، لا يمكن مطلقا أن تكون عبارة منطقية عن علاقة ما؛ إذ إني أضيف إليها دائما ألوانا انفعالية، فضرب حامد لعلي، لا يمكن أن يكون عديم الأثر بالنسبة إلي؛ إذ لو لم يكن له مساس بنفسي لما قلته. إذن فالجملة التي أنطق بها، ذات قيمة تختلف عن القيمة التي تكون لها، لو كنت قد قرأتها في كتاب من كتب التاريخ، يدور فيه الكلام عن ملك ما اسمه "حامد" وملك آخر اسمه "علي" لا يعنيني من أمرهما شيء. ذلك لأن القصص التاريخي موضوعي دائما. وهذا هو ما يجعل التلميذ الصغير، الذي يحفظ دروسه في التاريخ عن ظهر قلب، يقبل دون تقزز على تعدد الفظائع التي ارتكبها بنو البشر في تناحرهم بعضهم مع بعض، فهي لا تحركه لأنه يراها تقع في ماض سحيق، تباعده عنه سنون طوال، وإذن فهو يتسلى بها. وعلى العكس من ذلك، لا نستطيع أن نقرأ دون أن نحس بقشعريرة تسري في أجسامنا، خبرا لجريمة عادية وقعت أمام منزلنا، فإني في المثال المتقدم أراني لدى نطقي بالجملة، أحس في نفسي بعواطف مختلفة من الحنق، أو العقاب، أو التهديد، أو الغضب، أو الرضا، أو التشجيع أو القبول، أو الدهشة، وذلك تبعا لما إذا كان حامد وعلي ابني، أو طفلين غريبين عني، وتبعا لسنهما وقوتهما، وتبعا لميولي واتجاهاتي، وتبعا لظروف أخرى كثيرة، يمكن تصورها بسهولة.

هذه العواطف يمكن بطبيعة الحال، التعبير عنه بواسطة التنغيم، أو تغيير الصوت، أو سرعة الحديث، أو الشدة التي يركزها المتكلم على هذه الكلمة أو تلك، أو بالإشارة التي تصحب الكلام. فالجملة الواحدة، تحتمل عند النطق بها، مئات ومئات من وجوه الاختلاف، التي تقابل أشد ألوان العاطفة خفاء. والفنان الدرامي، الذي يقوم بدوره في المسرح، عليه أن يجد لكل جملة التعبير اللائق بها، والنغمة الحقة التي تناسبها، وذلك أوضح ما يلاحظ على مواهبه، فالجملة التي يقرؤها في صحيفة، تعد ميتة خالية من التعبير، ولكنه ينعشها بنطقه، وينفث فيها الحياة1. وإذن فمعرفة كلمات الجملة وتحليل عناصرها النحوية، ليس معناه استخراج كل مكنوناتها بل يبقى بعد ذلك تقدير قيمتها الانفعالية. ويذهب "فندريس" إلى أن تقدير هذه القيمة الانفعالية "واجب يفرض نفسه على العالم النفسي، الذي يدرس طبيعة العواطف، وبدرجة مساوية على الفنان، الذي يسعى إلى إبرازها على المسرح، وعلى العالم اللغوي، ولكن بدرجة أقل، فهذه العواطف لا تعني هذا الأخير، إلا عندما يعبر عنها بوسائل لغوية"2. كما يرى "فندريس" أن "الفرق الأساسي بين اللغة الانفعالية واللغة المنطقية، ينحصر في تكوين الجملة. وهذا الفرق ينبثق جليا، عندما نقارن اللغة المكتوبة، باللغة المتكلمة، فاللغة المكتوبة واللغة المتكلمة، تبتعدان في

_ 1 انظر: فصل "اللغة الانفعالية" في كتاب: علم النفس اللغوي 37، 38. 2 اللغة لفندريس 185.

الفرنسية، إحداهما عن الأخرى إلى حد أنه لا يتكلم إطلاقا كما يكتب، ولا يكتب كما يتكلم إلا نادرا. وفي كل حالة هناك اختلاف في ترتيب الكلمات، إلى جانب الاختلاف في المفردات؛ وذلك لأن الترتيب المنطقي، الذي تسلك فيه الكلمات، في الجملة المكتوبة، ينفصم دائما في الجملة المتكلمة، إن قليلا وإن كثيرا، فمن اللغة المكتوبة مثل هذه الجملة: "يجب المجيء سريعا" و"أما أنا فلا وقت عندي للتفكير في هذه المسألة" و"هذه الأم تكره طفلها"، ولكنها في اللغة المتكملة تتخذ صيغة مختلفة كل الاختلاف، فيقال مثلا: "تعال بالعجل! " و"الوقت، إيه دا يا أخي! هو أنا عندي وقت، أنا علشان أفكر في المسألة دي! " و"ابنها! دي هي بتكرهه، الأم دي! ". "ماذا يمكن أن يقال في جمل اللغة المكتوبة؟ تلك الجمل المنسقة، بما فيها من جمل تابعة، وحروف وصل، وأسماء موصولة، وكل ما تحتوي عليه من أدوات وأقسام! إننا لا نقول إطلاقا في اللغة المتكلمة: "بعد أن نخترق الغابة، ونصل إلى بيت الحارس الذي تعرفه، بجداره الذي تكسوه أغصان اللبلاب، سندور إلى اليسار، ونسير حتى نجد مكانا مناسبا، فنتغدى فيه فوق الأعشاب"، بل يقال: "حنخترق الغابة، وبعدين نمشي لحد البيت، إنت عارفه.. بيت الحارس.. إنت واخد بالك منو كويس.. البيت ده اللي جداره فارش عليه اللبلاب، وبعدين نحود ع الشمال ونشوف مكان لطيف.. ونتغدى هناك ع الحشيش"1. فالعناصر التي تسعى اللغة المكتوبة، في أن تسلكها في كل متماسك

_ 1 اللغة لفندريس 191، 192.

تبدو في اللغة المتكلمة، منفصلة منفصمة مقطعة الأوصال، بل إن الترتيب نفسه يختلف فيها عنه في الأولى كل الاختلاف؛ إذ ليس هنا ذلك الترتيب المنطقي، الذي تمليه قواعد النحو، بل ترتيب له منطقه أيضا، ولكنه منطق انفعالي قبل كل شيء، فيه ترص الأفكار، لا وفقا للقواعد الموضوعية، التي يفرضها التفكير المتصل، بل وفقا للأهمية الذاتية، التي يخلعها عليه المتكلم، أو التي يريد أن يوحي بها إلى سامعه. ويقول فندريس: "فكرة الجملة بالمعنى النحوي، تتلاشى في لغة الكلام، فإني عندما أقول: الرجل الذي تراه هنالك جالسا على الرمال، هو ذلك الذي قابلته بالأمس عند المحطة. أراني أستخدم طرائق اللغة المكتوبة، فلا أصوغ غير جملة واحدة، ولكني لو تكلمت لقلت: شايف كويس الراجل ده.. عندك هناك.. قاعد قدامك ع الرمل.. أهو ده.. أنا شفته إمبارح.. كان ع المحطة. فكم يوجد من الجمل هنا! "1. ومن أمثلة اللغة الانفعالية، في العربية الفصحى: قول العجاج الراجز: حتى إذا جن الظلام واختلط جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط إننا هنا لسنا في حاجة لتأويل النحاة، وادعائهم حذف الوصف، وأن الأصل: بمذق مقول فيه: هل رأيت الذئب قط، وأن الجملة الطلبية معمولة لهذا القول المقدر2، فما قصد العجاج إلى شيء من هذا!

_ 1 اللغة لفندريس 192. 2 انظر: خزانة الأدب 1/ 276 وشرح ابن عقيل للألفية 2/ 204.

ويقول "برجشتراسر" معلقا على قول من يقول: "أميران هلك القو! " في حالة غضب وهياج: "واستعماله شبه الجملة "الجملة ذات الطرف الواحد"، والاستغناء عن ربط الجمل بعضها ببعض، من خصائص مبادئ اللغات، ومن بقايا حالها الأولية البسيطة، ولو لم تهج نفس القائل، بل كان غافلا مطمئنا، يؤدي فكرا لا يمازجه شيء من الغضب أو مثله، لقال: إنا نجد للقوم أميرين، فنخاف أن نهلك -أو مثل ذلك. "والكلام الخاص بهيجان النفس جنسان: أحدهما متكون من كثير مما يتكلم به بين الناس في مساعيهم اليومية وتعاطيهم شئون الحياة، وخصوصا عند أقوام البلاد الجنوبية والسامية من بينها، فإنا نراها أكثر حدة وتحركا من شعوب الشمال، وإذا قرأنا الكتب، كدنا أن ننسى حقيقة موقف اللسان في حياة الإنسان، فإن الكتب مملوءة بالكلام الساكن المستوي. والجنس الثاني من الهيجان، هو إلهام الشعر، فنرى الشعر يميل إلى مثل ما يميل إليه الكلام الخاص بهيجان النفس، من ترك الربط، واستعمال أشباه الجمل، وغير ذلك"1. وخلاصة القول في هذا الفصل، أن النفس الإنسانية بما يعتورها من حالات الرضا والسرور، والغضب والنفور، والاستحسان والاشمئزاز، وغير ذلك، ينعكس أثرها على اللغة في تطورها وحياتها؛ إذ تقبل النفس ألفاظا فتحيا، وتعاف ألفاظا أخرى فتموت، ويؤدي النبر المعبر عن الرضا أو الغضب، إلى تغيير في النطق، فتطول بعض المقاطع الصوتية، وتقصر الأخرى وتتلاشى.

_ 1 التطور النحوي 83.

وهكذا نرى أن دراسة العلاقة بين نفسية الشعوب المختلفة ولغاتها، من واجبات اللغوي كذلك. ولا عجب بعد كل هذا، إذا نشأ في علم النفس فرع من فروعه يدرس اللغة، وأثر النفس الإنسانية على الظواهر اللغوية، وهو فرع: "علم النفس اللغوي".

الفصل الخامس: علم اللغة والجغرافيا اللغوية الأطلس اللغوي

الفصل الخامس: علم اللغة والجغرافيا اللغوية الأطلس اللغوي الأطلس اللغوي ... الفصل الخامس: علم اللغة والجغرافيا اللغوية الأطلس اللغوي: عرفنا من قبل، أن علم اللغة له صلة وثيقة بعلوم أخرى، فقد درسنا من قبل شيئا من علم الاجتماع اللغوي، وعلم النفس اللغوي، كما عرفنا أن عالم اللغة، لا بد له من الإلمام بعلم الفسيولوجيا، أو وظائف الأعضاء، وعلم التشريح، وعلم الطبيعة في دراسة الأصوات اللغوية، بأنواعها المختلفة. ونتحدث هنا عن صلة علم اللغة، بعلم آخر، هو "علم الجغرافيا"، فقد اقتبس علم اللغة، منذ أكثر من نصف قرن مضى، طرق علم الجغرافيا، ليضع حدودا لغوية للهجات المختلفة في خرائط تبين معالم كل لهجة، وتفرق بين لهجة وأخرى، ولا تختلف هذه الخرائط عن خرائط الجغرافيا، إلا في أن ما يدون عليها ظواهر لغوية، تطلع القارئ على أدق الفروق في الأصوات والمفردات، بين اللغات المختلفة، واللهجات المتباينة. وتطلعنا هذه الخرائط، على الاختلافات الصوتية، بين المناطق المختلفة، فقوم يجهرون أصواتا وقوم يهمسونها، وطائفة تنطق الفتحة صريحة، وأخرى تنطقها ممالة، ولهجة تنبر الكلمة في مقطعها الأول، وأخرى تنبر المقطع الأخير منها ... وهكذا. كما يبرز في هذه الخرائط الدرس الواسع للمفردات، من حيث البنية والمترادفات المختلفة للمعنى الواحد واختلاف الألفاظ باختلاف المناطق اللغوية، ومقدار انتشار الكلمات في الأقطار والأقاليم، وغير ذلك، مما يتيح لنا معرفة الواقع اللغوي للغة من اللغات، سواء أكانت لغات فصحى أم مشتركة أم خاصة، أم لهجات اجتماعية، أم إقليمية، أم عاميات خاصة

هذه الدراسة الجغرافية اللغوية، تعد من أحدث وسائل البحث في علم اللغة. ولها وظيفة ذات أثر بالغ في الدراسات اللغوية في العصر الحديث؛ لأنها تسجل الواقع اللغوي للغات أو اللهجات، على خرائط يجمعها آخر الأمر أطلس لغوي عام. وتختص كل خريطة بكلمة، أو بظاهرة صوتية معينة، يبدو فيها الاتفاق، أو الاختلاف بين المناطق اللغوية المتعددة. ومما لا شك فيه أن هناك تشابها بين لهجة إقليمية وأخرى، أو بين لهجتين اجتماعيتين أو بين عاميات خاصة، ما دامت هذه جميعا ترجع إلى أصل لغوي واحد. ولقد "كان إعداد الأطالس اللغوية، أسبق في الوجود من معظم الإنجازات الوصفية الحديثة. وهو يعتمد إلى حد كبير، على مفردات اللغة التي تعد في نظر الوصفيين، في الدرجة الثانية من الأهمية، ولكنه مع ذلك اتبع منهجا يمكن أن يوصف على الأقل بأنه وصفي، وبأنه خير مثل للعمل اللغوي تحت ظروف البيئة المعينة. وعلى الرغم من أن هذا العمل قد بدأ أساسا على يد اللغويين التاريخيين، لأغراض تاريخية في معظمها، فإنه قد وضع الأساس لنموذج الدراسة الوصفية العملية في مجال البحث اللغوي"1. وعلى الرغم من تقدم هذا الفرع من فروع الدراسة اللغوية في أوربا وأمريكا، فإنه لا يزال غض الإهاب في بلادنا. وليس لدينا في لغتنا العربية، إلا محاولة قام بها المستشرق الألماني: "برجشتراسر" G Bergstrasser لعلم أطلس لغوي لبلاد سوريا وفلسطين Sprachatlas von Syrien und Palastina نشره في ليبزج سنة 1915م. وسنتحدث عنه بالتفصيل بعد ذلك.

_ 1 انظر: أسس علم اللغة لماريوباي 131.

ولا شك في أن المسح الجغرافي للهجات العربية المختلفة، في البلاد العربية، له فوائد جليلة، أهمها: 1- دراسة هذه اللهجات لذاتها، دراسة علمية عميقة، لاكتشاف ما فيها من خصائص الصوت والبنية والدلالة والتركيب، ولمعرفة التغييرات المختلفة، التي تطرأ عليها من وقت لآخر. 2- إثراء الدراسات في العربية الفصحى نفسها؛ إذ يتيح لنا ذلك المسح الجغرافي، كتابة تاريخ هذه اللغة، في عصورها المختلفة، ويمدنا بوسائل علمية لمعرفة أقرب اللهجات العربية، صلة باللغة الفصحى، وأبعدها عنها. 3- يمدنا هذا المسح الجغرافي بالمعلومات اللازمة، لمعرفة مدى امتداد اللهجات العربية القديمة، في الوطن العربي، ويفسر لنا النصوص المبتورة عن هذه اللهجات، في تراثنا العربي. 4- يتيح لنا هذا العمل، فرص الدراسة المقارنة، لا بين اللهجات واللغة الفصحى فحسب، ولكن بين اللغات السامية المختلفة كذلك، ويقفنا على مصادر الكلمات الأجنبية هنا وهناك. وقد أبان الأستاذ "شتيجر" Steiger العالم اللغوي السويسري، الذي له بهذا الموضوع عناية خاصة، عن قيمة الأطلس اللغوي، وأهميته للغة العربية، بقوله في تقرير له: "وبالنسبة للغة العربية، نقول: إن القيام بعمل أطلس لغوي لها، سيحدث ثورة في كل الدراسات الخاصة بفقه اللغات السامية؛ لأنه سيكمل من غير شك، الدراسات التي تعتمد على النصوص القديمة، بكشفه عن التطورات المتعلقة باللهجات، وباللغات الشعبية العصرية. وسيكون لهذا الأطلس الفضل في إطلاعنا على تاريخ الأصوات،

والتغيرات التي أصابت اللغة العربية، في الأماكن المختلفة التي غزتها، وعن مدى انتشارها وتأثرها بالمراكز الثقافية، وتنوع مفرداتها، إلى غير ذلك من المكتشفات، التي لا يمكن أن تتم، إلا إذا جمعت هذه المواد. إنه سيكون عملا ثقافيا من الطراز الأول، وسيكون تحقيقه عنوان مجد وفخار في تاريخ الثقافة العالمية"1. ولا تنطوي دراسة اللهجات على فوائد لغوية فحسب، بل إنها تفيد المؤرخين وعلماء النفس والاجتماع، على حد سواء، ويمكن لذلك أن يستعان بالأطالس اللغوية، على هذه الدراسات التاريخية، والنفسية، والاجتماعية، على أساس أمتن وأشمل. وفي هذا يقول "يود" Jud وهو أستاذ سويسري متخصص في اللغات الرومانية وهي: الفرنسية والإسبانية والإيطالية: "من المستحيل أن يكتب تاريخ صحيح للشعب الفرنسي أو الإيطالي أو الإسباني، إلا إذا عرفت اللغات المحلية في تلك البلاد، ودرست دراسة عميقة. تلك حقيقة خطيرة، أصبحت مقررة معروفة"2.

_ 1 انظر: الأطلس اللغوي، للدكتور خليل عساكر 379. 2 انظر: الأطلس اللغوي، للدكتور خليل عساكر 380 وقد عمل "يود" أطلسا لغويا لإيطاليا وجنوب سويسرا مع "يابرج" Sprach - und Sachatlas ltaliens und der Sudschweiz 1928 1940.

طريقة عمل الأطلس اللغوي

طريقة عمل الأطلس اللغوي مدخل ... طريقة عمل الأطلس اللغوي 3: بدأت فكرة عمل الأطلس اللغوي، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. وكان رائدا هذا النوع من الدراسة، التي اعترف علماء اللغات بما لها من نفع في حل المشكلات اللغوية، هما: "قنكر" Wenker الألماني، و"جليرون" Gillieron الفرنسي. وقد قام كل واحد منهما بعمل أطلس لبلاده، ظهر أحدهما وهو الأطلس اللغوي لفرنسا بين عامي 1902-1910 وعنوانه: Atlas linguistique de la France ولم يتم حتى الآن نشر الأطلس الألماني، وإن نشر جزء كبير منه، فقد نشرت الدفعة الأولى منه، وكانت مكونة من ست خرائط في عام 1881م. ومنذ عام 1926م، أخذت طباعة الخرائط تتوالى، على نطاق ضيق، تحت إشراف "فريده" Wsede. وقد انتقلت فكرة عمل الأطالس اللغوية، إلى بعض البلاد الأخرى، كإيطاليا، وسويسرا، والسويد، والنرويج، والبرتغال، وإنجلترا، أي أنها شملت معظم بلاد أوربا، بل تعدتها إلى أمريكا، وبعض البلدان الشرقية. وفيما يلي وصف للطريقتين الألمانية والفرنسية، في عمل الأطالس اللغوية.

_ 1 انظر: الأطلس اللغوي، للدكتور خليل عساكر 381-384 ومناهج العمل في الأطالس اللغوية، للدكتور سعد مصلوح 109-112.

الطريقة الألمانية

1- الطريقة الألمانية: هذه الطريقة ابتكرها، وقام بتنفيذها "فنكر" Wenker وقد بدأ عمله بجمع الخصائص اللهجية، في مساحة ضيقة، هي مدينة "دوسلدورف" وما حولها، عام 1876م، ثم وسع ميدان البحث تدريجيا حتى شمل الإمبراطورية الألمانية كلها، في 49363 جهة، أي ما يقرب من خمسين ألف نقطة تسجيل. وتتلخص طريقته، في أنه ألف أربعين جملة، تمثل أهم ما يجري على ألسنة الناس، في حياتهم اليومية بألمانيا، وطبعها على شكل استمارة بها بيانات عن الراوي والمسجل اللغويين، والجهة التي سجلت فيها اللهجة. وبعد ذلك تأتي الجمل الأربعون على النحو التالي:

صحيفة أسئلة لغوية خاصة باللهجات الألمانية الجهة التي سمعت فيها اللهجة وسجلت: المركز: المقاطعة:

وقد أرسلت هذه الاستمارات، إلى الجهات المختلفة في ألمانيا، والتي بلغت حوالي خمسين ألف جهة، بصفة رسمية، وعلى نفقة الحكومة، أما المسجلون الذي سمعوا الهجات الألمانية من أفواه الرواة، ودونوها، فكانوا في معظم الأحوال من معلمي المدارس الأولية، نظرا لمعرفتهم بأحوال القرى، بسبب إقامتهم بها، واتصالهم بالناس اتصالا كبيرا، ثم لثقافتهم التي أهلتهم لتسجيل النطق، وتصويره كتابيا تصويرا قائما على أساس وإحساس لغويين لا بأس بهما، ولا غبار في معظم الحالات. وبعد أن تجمع الإجابات في المركز الرئيسي لعمل الأطلس يبدأ بعمل خريطة لكل كلمة على حدة، وذلك بأن تفرغ أولا صور اللفظ، وصيغه، ومترادفاته، على خرائط تفصيلية، تشتمل على بلاد الأقاليم جميعها، ثم تحدد عليها المناطق اللغوي المختلفة. وبعد هذا ترسم الخريطة العامة، على ضوء الخرائط التفصيلية، وتبين على هذه الخريطة العامة، الحدود النهائية للمناطق اللغوية، على وجه الإجمال.

الطريقة الفرنسية

2- الطريقة الفرنسية: سادت هذ الطريقة فترة طويلة، في عمل الأطالس اللغوية، وكيفيتها أن تعمل خريطة للإقليم، الذي يراد وضع أطلس لغوي له، وتنتخب منه قرى وبلاد، يلاحظ في كل منهما أن تمثل إلى حد كبير، البيئة اللغوية، التي توجد البلدة أو القرية فيها. وقد بلغ مجموع هذه البلاد في أطلس إيطالي، حوالي أربعمائة بلدة. ثم يؤلف كتاب خاص، يعرف بكتاب الأسئلة اللغوية، يحتوي على ألفي سؤال، أو على ألفين وخمسمائة. ويراعى في الأسئلة ما يلي: 1- أن تكون شاملة لأهم الأشياء، التي تشاهد في المدن والقرى على السواء. 2- أن تكون محتوية على أكثر الألفاظ شيوعا في الحياة اليومية. 3- ترتيب الأسئلة ترتيبا موضوعيا، بحيث يختص كل جزء من الأطلس بموضوع أو بعدة موضوعات. ومن أمثلة ذلك في الأطلس اللغوي لإيطاليا: أ- أسماء الأهل وذوي القربى، كالعم والخال والأخ والأخت وغيرهم. ب- أطوار العمر والميلاد والزواج والموت وما يتعلق به. ج- جسم الإنسان وصفاته من طول وقصر وبدانة ونحافة وغيرها. د- أسماء الصناعات والصناع. هـ- النقود والتجارة والأعداد. و الوقت وأقسامه، وظروف الزمان وظروف المكان. ز- الأرض والمعادن. ح- الأجرام السماوية والظواهر الجوية والأشجار والأزهار. ط- الملابس والأقمشة والغزل والنسج والحياكة والغسل ... إلخ وتأليف الكتاب الخاص بالأسئلة، من أهم الأشياء التي تراعى في هذا العمل. وبعد هذا تعمل منه طائفة من النسخ، تعطي للمسجلين اللغويين، الذين ينبغي أن يكونوا مدربين تدريبا كاملا من الناحية الصوتية، فيذهب المسجل إلى القرية أو المدينة، ويقضي بها أربعة أيام أو خمسة، يسأل في أثنائها بعض ثقاتها، عن جميع ما ورد في كتاب الأسئلة،

مستوضحا إياهم ما يحتاج إلى إيضاح، وواقفا منهم على التعبير الدقيق، والنطق الصحيح لكل ما يراد معرفته والإجابة عنه في الكتاب المذكور، مدونا الإجابات في الصفحات المقابلة للأسئلة. وعلى المسجل اللغوي، أن يصور بقدر الإمكان ما يراه غريبا غير مألوف، في البلاد التي يزورها، من مختلف أنواع الملابس: والأدوات المنزلية، والآلات الزراعية والصناعية، مسجلا أسماءها المختلفة؛ لأن كثيرا من هذه الأشياء، في تغير دائم، فمنها ما يرقى، ومنها ما يفنى تمام. أما الشخص الذي توجه إليه الأسئلة، وهو ما يطلق عليه اسم: "الراوي اللغوي"، فيجب أن تتوفر فيه الأمور التالية: 1- أن يكون من صميم أبناء البلدة التي يعيش فيها. 2- ألا يكون قد نزح عنها إلى بلاد غيرها، ثم عاد إليها، حتى لا تتأثر لهجته الخاصة، بمؤثرات خارجية، أو تختلط بلهجات أخرى. 3- أن يكون صريحا صادقا، مخلصا في الإجابة على ما يوجه إليه من أسئلة، لا يداور السائل، ولا يطوي عنه شيئا. 4- ألا يكون متأثرا بعوامل ثقافية، يكون لها دخل في تغيير لهجته. 5- أن يكون سليم مخارج الأصوات، تام القدرة على فهم السؤال والتعبير عن نفسه، وعلى إدراك المراد يقظ خبير فطن. بهذه الشروط، يستطيع مثل هذا الراوي اللغوي، أن يمثل بلدته أو قريته، تمثيلا لغويا، هو أدنى ما يكون إلى الصواب. وإذا تم ارتياد المدن والقرى المعينة على الخريطة التي وضعت أساسا للعمل، جمعت صيغ اللفظ ومرادفاته، في البلاد المختلفة، وأخذ في دراستها

وترتيبها، تمهيدا لوضعها في شكلها النهائي، وصورتها الأخيرة على الخريطة، ويكون ذلك بكتابة اللفظ مكان القرية أو البلدة، التي يجري اللفظ فيها على ألسنة أهلها. ويشرح "ماريوباي" طريقة عمل الأطلس اللغوي فيقول: "يرسل جامعو المادة اللغوية المطلوبة، إلى الأماكن المحلية، التي يقع عليها الاختيار من إقليم ما، رسمت حدوده، لعمل خرائط له، مع الاستعانة براوٍ، يمثل المتكلمين المحليين. "والغرض من ذلك، السير في الطريق السليم، للتزود بمجموعات الكلمات أو العبارات أو الجمل، أو حتى مدلولاتها، التي سبق إعداد مقابلاتها. وكلما كان الراوي اللغوي أقل ثقافة كان أفضل؛ لأن المتعلمين أو الأكثر تعلما في المنطقة، تتأثر لغتهم بمعلوماتهم، واحترام اللغة الأدبية الوطنية. "وفي حالة المسميات الممكن تصويرها، تستخدم الصور حتى لا يقع الراوي اللغوي، تحت تأثير صيغة الكلمة الموجودة في السؤال. وبعد ذلك فإن المادة اللغوية، التي ينطقها الراوي اللغوي، إما أن تكتب بالطريقة الصوتية، أو تسجل على جهاز تسجيل، أو تستخدم الطريقتان معا. وفي مرحلة المقابلة والمعارضة، فإن كل كلمة أو عبارة أو اصطلاح، يوضع على خريطة مستقلة كبيرة للمنطقة. ويحتوي الأطلس اللغوي لفرنسا -على سبيل المثال- على خريطة منفصلة كبيرة، لكلمة "حصان" كما تستعمل في لغة الكلام، في حوالي خمسمائة منطقة فرنسية مختلفة"1.

_ 1 أسس علم اللغة 132، 133.

الفرق بين الطريقتين

الفرق بين الطريقتين: تنحصر الفروق بين الطريقتين: الألمانية والفرنسية، في عمل الأطالس اللغوية، فيما يلي: 1- الطريقة الألمانية تمتاز بالشمول؛ لأنها لا تترك جهة إلا ذكرت رواية اللفظ فيها. 2- الطريقة الفرنسية أدق من الألمانية؛ لأن المسجلين اللغويين، قد دربوا التدريب الكافي في مسائل اللغويات والأصوات، وبذلك يعدون ثقة، فيما يدونون عن الرواة اللغويين. 3- الطريقة الفرنسية، طريقة مباشرة في الأسئلة، فليس هناك نموذج يمكن أن يؤثر على انطلاق الراوي على سجيته، بعكس الطريقة الألمانية؛ لأن جملها الأربعين، أسئلة بطريقة غير مباشرة، قد تؤثر على لغة الراوي، ولذلك كانت الطريقة الألمانية أقل دقة من الطريقة الفرنسية، في هذه النقطة كذلك. "وهناك واحد من أهم العيوب، التي تقلل من قيمة الأطلس اللغوي، وهو أنه لا يثبت على مر الزمن، ما دامت اللهجات المحلية تتغير، ربما بدرجة أسرع من اللغة الأدبية. ولهذا فإنه في بعض الأحيان، يعاد إجراء عملية المسح اللغوي بعد مرور سنوات عدة، ويصبح من الممكن حينئذ عمل مقارنة بين نتائج الأطلسين، وتكوين صورة شبه تاريخية، عن التغيرات المتشابكة في كلام مجتمع معين"1.

_ 1 أسس علم البلاغة 133.

محاولات "برجشتراسر" في هذا الميدان

محاولات "برجشتراسر" في هذا الميدان 1: برجشتراسر: مستشرق ألماني مشهور، ولد في عام 1886م ونال درجة الدكتوراه من جامعة ليبزج سنة 1911م، برسالته عن "استعمال حروف النفي في القرآن الكريم"، وحاضر في جامعات: ليبزج، وبرسلاو، وهيدلبرج، واستقر به المطاف أخيرا في ميونخ سنة 1926م، وانتخب عميدا لكلية الآداب بها سنة 1928م. وفي العام الدارسي 1929/ 1930م دعته كلية الآداب بالجامعة المصرية القديمة، لإلقاء محاضرات في النحو المقارن بعنوان: "التطور النحوي للغة العربية"، وقد طبعت في مصر سنة 1930م. ثم دعته الحكومة المصرية مرة ثانية، في العام الدراسي 1931/ 1932م ليلقي محاضرات في الجامعة عن: "نقد النصوص ونشر الكتب"، وقد طبعت في كتاب بالقاهرة سنة 1969م، في مركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية. وكان "برجشتراسر" يكره هتلر ودعوته إلى النازية، وتفضيله الحديد على الزبد، وإيثاره العلوم العملية على العلوم النظرية، وكان لا يرى مانعا من حمل بندقيته والخروج لمحاربته، فدفع هتلر إليه بمن يقتله. وكان برجشتراسر مغرما بتسلق الجبال، ففي إحدى المرات، حين كان يتسلق الجبال، ومعه طالب من طلبته؛ إذ تعلق الطالب بقدمه، فهوى حيث لقي حتفه، في أغسطس سنة 1932م. أما أطلسه اللغوي، الذي عمله لبلاد سوريا وفلسطين، فقد قام بعمل تسجيلاته كلها بنفسه، في عام 1914م، بعد أن حصل على إجازة

_ 1 انظر: الجغرافيا اللغوية وأطلس برجشتراسر، للدكتور رمضان عبد التواب.

من جامعة ليبزج، ليقضي شهورا في بلاد الشرق، فسافر إلى الآستانة، ومنها إلى سوريا، وفيها تنقل بين بلادها، باحثا وراء اختلاف اللهجات الدارجة بها، فمكث أولا في دمشق، ثم سافر إلى الجنوب في معان، ثم إلى حلب في الشمال، وفلسطين ولبنان. وكانت حصيلة هذه التسجيلات، أن وضع أطلسا لغويا لسوريا وفلسطين، هو عبارة عن 42 خريطة تفصيلية وواحدة إجمالية، مع شرح لغوي في كتاب مستقل، طبع في ليبزج سنة 1915م. وسنعرض فيما يلي لطريقة "برجشتراسر" في عمله هذا، كما بين هو ذلك في مقدمته لأطلسه؛ إذ ذكر أن بحث اللهجات العربية قبله، كان مقصورا على دراسة كل لهجة محلية دراسة مستقلة، وبين أن هذه الدراسات السابقة، تفتقر إلى التكملة عن طريق دراسة الفروق اللغوية، في مناطق كبيرة، باستخدام الجغرافيا اللغوية. وقد استخدم "برجشتراسر" الطريقة الألمانية، في عرض جمل معينة علي راوي اللهجة، غير أنه اختار جملا يتصل بعضها ببعض، في سياق قصة من القصص الشائعة في المنطقة، وعلل للسر في اختياره لتلك الطريقة، بأن المقارنة عن طريق قوائم الكلمات، لا يمكن معها درس الظواهر النحوية، التي تحتاج إلى التراكيب، فقال في المقدمة: "ويواجه تدبير المادة اللغوية القابلة للمقارنة، صعوبات كبيرة، بصرف النظر عن الصعوبات الأخرى، التي تعترض سبيل تسجيل اللهجات، فقد يكون من السهل عمل قوائم كلمات لموضوع ما، ولكن مثل هذه القوائم -كما هو معروف- لا تحتوي في الغالب إلا على أسماء وأعداد، وقد تحتوي على أفعال وصفات وحروف. غير أننا نفتقد هنا الأمر

الذي لا يزال كل شيء، بالنسبة لعرض اللهجة عرضا كاملا نوعا ما، وهذا الأمر هو التركيب، موضوع دراسة النحو، فإنه لا يمكن الحصول عليه بهذه الطريقة مطلقا، فيما عدا بعض التصريفات النحوية، التي قد يخرج بها المرء، بعد ساعات طويلة من الأسئلة. وهكذا لم تبق إلا طريقة واحدة، وهي تسجيل نص متكامل، أو على الأقل جمل متكاملة، غير أن مثل هذا النمط من السلوك في معالجة اللهجة، عن طريق النص الكامل، تصعب معه المقارنة الكاملة المطلوبة، فلم يبق إلا أن يقسم النص إلى جمل صغيرة، وينطق بها أمام الشخص الذي يمثل اللهجة "الراوي"، وهو يعيدها منطوقة بلهجته. وهذا أمر خطير بالطبع، ويحتاج إلى حذر شديد، للوثوق من أن الراوي يتحدث بلهجته حقا، ولا يحاول حسبما يستطيع أن يردد ما يسمعه من غيره، غير أنه لا يجوز لنا أن نبالغ في رفض الصيغ، التي تشبه نظائرها في نطق المسجل أمام الراوي. وقد حدث لي مرات كثيرة. أن الأهالي عندما كنت أسأل أحد البدو في حضورهم، كانوا يحاولون -حينما يفهمون ما أريد- أن يصححوا للبدوى، كل الصيغ الغريبة، التي ينطق بها على سجيته"1. وقد ذكر "برجشتراسر" الصعوبات التي قابلته في عمله، الذي تولاه بنفسه في منطقة واسعة، ومدة قصيرة نسبيا، فقال: "ومن القواعد المقررة، أنه لا يجوز الاعتقاد فيما يرويه العربي، عن لهجة لا يتحدثها هو بنفسه. وإلى جانب هذا، تأتي صعوبات أخرى، وعلى الأخص عندما يكون في المكان، الذي تبحث لهجته تعبيرات واصطلاحات أخرى، غير التي ألقاها المسجل

_ 1 انظر: Sprachatlas S2.

أمام الراوي، فإن المرء لا يحصل عليها عندئذ، إلا بطريق الصدفة، أو في حالة ما إذا كان راوي اللهجة شخصا ذكي الفؤاد. "وعلى العموم، تظهر الطريقة المبينة هنا، الفروق بين اللهجات، أقل مما هي عليه في الواقع، وإنه ليفترض دائما حتى الآن، أن الراوي قد أفلح عموما في فهم ما يريده المرء منه "وذلك عسير مع البدو خاصة"، وأنه ذكي بدرجة كافية، فقد اضطررت إلى قطع التسجيلات، في مرات كثيرة، عند أول حديث مباشر في النص الذي علمته؛ لأن الراوي لم يكرره على أنه حديث مباشر، بضميره المناسب. "وقد تضاعفت هذه الصعوبات، بسبب بعض الأمور الأخرى، وقبل كل شيء بسبب ضيق الوقت الذي أملكه؛ إذ اضطررت للقيام بتسجيلاتي كلها في 45 يوما، في منطقة ذات أبعاد هائلة. وهكذا أصبحت مراكز التسجيل أقل مما كنت أرغب، وفيما عدا ذلك كان لا بد أن يقصر النص المعد للتسجيل، وأن يصرف النظر في كثير من الحالات، عن فحص التسجيل ومراقبته، بسبب ضيق الوقت، وقد تسببت العجلة كذلك، في أنني لم أكن حذرا في انتقاء رواة اللهجة؛ إذ يجب أن يختاروا من بين الأفراد، الذين لم يتعرضوا لأي تأثير أجنبي"1. وقد بين "برجشتراسر" بعد ذلك، كيف اختار النص الذي عرضه على رواة اللهجة، فذكر أنه أخذ القصة المعروفة بقصة "الفلاح والثور والحمار والديك" في صيغتها الدمشقية، لكي تفهم في المنطقة كلها، من كتاب "أوستروب" Oestrup، غير أنه أعاد كتابتها مرة أخرى، حتى يبتعد

_ 1 انظر: Sprachatls S 2-4.

عن الصيغ الفصيحة فيها، ولكي يتأكد من عربيتها الدمشقية بعد هذا كله، عرضها على أحد الرواة من دمشق فأقرها. وفيما يلي جزء من هذه القصة: "1" كان فيه رجل فلاح "2" بيعرف كلام الحواوين "3" وعندو حمار وتور "4" التور يحرت الأرض "5" والحمار يركب عليه الفلاح "6" يوم من الأيام قال التور للحمار "7" أنا طول النهار باشتغل "8" وإنته بتقعد "9" ما بتعمل شي منوب "10" ياريتني متلك يوم واحد "11" إعطيني نصيحة إيشما كان "12" شو بدي أعمل "13" قاللو الحمار عندي نصيحة "14" قاللو فرجيني شو عند "15" قاللو الليلة لا تاكل عليقك "16" بيجي صاحبنا بيشوفك "17" بيظن أنك ضعيف "18" بيد شرك يومين تلاته "19" قاللو التور إيو الله هادا راي "20" رايح أعمل هيك". وفيما يلي أمثلة من دراسة "برجشتراسر" الجغرافية في النواحي المختلفة: ففي الناحية الصوتية مثلا: لاحظ "برجشتراسر" أن "الكاف" يختلف نطقها بين البدو والحضر، وأن الصوت "تش" لا يسود على العموم في الحضر، إلا في منطقة صغيرة، وعلى الأخص في تلك الجهات، التي تحول فيها البدو إلى مستوطنين في العصر الحديث، وأن المدن كلها تنطق بصوت الكاف، وأن السلط تنطن "تش" فيما عدا المتعلمين يها، فهم ينقطون بالكاف، وأن منطقة "عنيزة" في الشمال تنطق بصوت "تس" بدلا من الكاف، وأن في شمال منطقة "تش" الحضرية، يتأرجح النطق بين "تي - Ty" و"تش"، كما في منطقة "سولم" مثلا. وبالنسبة إلى الصيغ: لاحظ "برجشتراسر" مثلا أن الضمير "نحن" ينطق: "نحنا" بين الحضريين في الشمال، وعدد قليل جدا من البدو،

وينطق "إحنا" بين الحضريين في الجنوب، والبدو في الغرب وينطق: "حنا" بين البدو في الشرق، كما يذكر أن عددا قليلا من البدو ينطق به: "لحنا". وفي مجال المفردات: "يذكر "برجشتراسر" أن البدو يستخدمون في معنى: "الآن" مثلا: كلمة "هسع" أو هساع"، وكذلك الحضريون في شرقي الأردن. أما باقي الحضريين، فإنهم يستخدمون: "هلق" أو "هلأ" أو هلقت" أو "هلات" وما أشبه ذلك. وكذلك أيضا: "إسا" أو "هلقت" أو "هلئت". كما يذكر أن الحضر في الجنوب الغربي يقولون: "في عرضك" أو "بعرضك". أما البدو هناك فيقولون: "دخالك"، وباقي المناطق تقول: "دخيلك". هذه بعض أمثلة، لما في هذا الأطلس اللغوي من ملاحظات لغوية قيمة. ويلاحظ في هذا العمل أنه ككل دراسة جغرافية للغة -وصفي بحت، أي أنه يعني بالواقع اللغوي ويسجله، ولا يهمه البحث عن الأسباب والدواعي، التي قادت إليه، أو بمعنى آخر: لا يعني بأصول الظواهر اللغوية. وقد أشار "برجشتراسر" في خاتمة أطلسه إلى ذلك، فقال: "وهذا البحث يرمي إلى توضيح الصلات اللغوية الحاضرة بين سوريا وفلسطين. وأما بحث تطورها التاريخي، فهو عمل قائم بذاته ويحتاج في تنفيذه إلى النقل الواسع عن المراجع التاريخية. وعلى العكس من ذلك، لا تكمل البحوث التي تتعلق بلغة سوريا وفلسطين، ولا تلك التي تتعلق بفتح العرب لهذه المنطقة، إلا بمعرفة الصلات اللغوية الحاضرة، وإذا كان الفتح العربي لهذه المنطقة قد أدى إلى اندثار اللغة الآرامية، فإن هذا البحث يحتاج إلى تكملة من جانب

اللغة الآرامية، ممثلة في بحث تأثير الآرامية على العربية، وأثر العربية في اللهجات الآرامية الباقية، وهي لهجة "معلولة" من ضواحي دمشق"1. ويتحدث "أنطوان مييه" عن صعوبة تسجيل اللهجات، فيقول: "فإذا كان الأمر يتعلق بلغة محلية، نجد أن الأشخاص الذين يستخدمونها محرومون عادة من كل ثقافة لغوية لوصفها. أما الأجانب ففضلا عن أنهم يفهمونها فهما غير كامل، مع تفاوتهم في ذلك، فإنهم يجدون مشقة في تمييز الأشخاص الذين يتكلمونها على نحو عادي، بل إنهم عندما يعثرون على هؤلاء الأشخاص، لا يستطيعون بسهولة أن يأخذوا عنهم المعلومات اللازمة، وذلك لأن هؤلاء الأشخاص أنفسهم، لا يعون على وجه دقيق، الطريقة التي يتكلمون بها"2.

_ 1 انظر: Sprachatas S 53-54. 2 علم اللسان لأنطوان مييه 448، 449.

الفصل السادس: اللغة المشتركة واللهجات

الفصل السادس: اللغة المشتركة واللهجات من المسلم به عند اللغويين، أن معظم اللغات الأدبية في العالم، توجد بجانبها مجموعات من اللهجات المحلية، والاجتماعية، واللغات الخاصة. هذه اللغات وتلك اللهجات، تسير كلها جانبا إلى جنب، لا في الأقاليم وحدها، بل في داخل المدن الكبرى أيضا، ففي جميع العواصم الكبرى الراقية، نجد لغات الصالونات الأدبية، ولغات العلماء المثقفين وغيرهم، كما نجد لغات العمال والعاميات الخاصة، التي تتكلم في حواشي المدينة. وقد تختلف هذه اللغات بعضها عن بعض، إلى حد أنه قد يعرف الإنسان إحداها، دون أن يفهم الأخرى. على أنه من الملاحظ كذلك، أن الإنسان قلما يعيش محصورا في مجموعة اجتماعية واحدة، ولذلك كان من النادر أن تبقى إحدى اللغات، دون أن تنفذ إلى مجموعات اجتماعية مختلفة. ومن المشاهد أن كل فرد يحمل لغة مجموعته، ويؤثر بها على لغة المجموعة المجاورة، التي يدخل فيها، أو يتأثر بلغة هذه المجموعة. ولتقريب ذلك إلى الأذهان، يضرب لنا اللغويون1، مثلا بأخوين يعيشان معا، ولكنهما يمارسان مهنتين مختلفتين، كل واحد منهما يحتك في موقعه بمجموعات مختلفة، ويأخذ عن أفرادها اللغة بالضرورة، مع عادات التفكير والأعمال والآت المهنة، وبذلك ينشأ في كل يوم من الأخوين،

_ 1 انظر: اللغة لفندريس 307.

اختلاف لغوي يؤدي بهما إلى التحقق من اختلاف لغتيهما بعض الشيء إذا لم ير أحد أخاه زمنا طويلا. ولكن هذا الاختلاف يزول في كل مساء، بفضل عودة الصلة بينهما من جديد. إن هذين الأخوين يخضعن في الواقع لتيارين متعارضين يتبادلان التأثير عليهما، ومع أنهما لا ينفصل أحدهما عن الآخر، إلا بضع ساعات من النهار، فإنهما يجدان اللغة التي يتفاهمان بها، في حاجة دائمة إلى التطهير من عناصر التفرقة، التي تفد عليها من الخارج. وهذا الميلان المتعارضان، اللذان يوجهان اللغة في طريقين متباينين، هما: عامل "التفريق اللغوي"، وعامل "التوحيد اللغوي. فالتفريق يؤدي إلى انفصالات تزداد تعددا مع الزمن، وتكون النتيجة: تفتت اللغة تفتتا يزداد بازدياد استعمالها؛ إذ تضطرها إلى هذا التفتت مجاميع الأفراد، التي تترك وشأنها دون احتكاك بينها. غير أن هذا التفريق اللغوي، لا يصل إطلاقا إلى تمامه؛ لأن سببا حيويا يقف في طريقه، ويعمل دائما على مناهضته، ألا وهو عامل التوحيد، الذي يعيد التوازن اللغوي. ومن صراع هذين العاملين: عامل التفريق، وعامل التوحيد، تنتج أنواع اللغات المختلفة، لدى الشعب الواحد، من لغات خاصة، واجتماعية، ومحلية، ولهجات إقليمية، ولغة مشتركة. وتقوم اللغات المشتركة دائما، على أساس لغة موجودة تتخذ لغة مشتركة، من جانب أفراد وجماعات، تختلف لديهم صور التكلم1. والظروف التاريخية، هي التي تفسر لنا تغلب هذه اللغة، التي اتخذت

_ 1 انظر: اللغة لفندريس 328.

أساسا، وتعلل انتشارها في جميع مناطق التكلم المحلي المشتركة، فهي دائما لغة وسطى، تقوم بين لغات أولئك الذين يتكلمونها جميعا. هذه هي السمة الأساسية لكل لغة مشتركة، وإذا أتيح لها أن تنتشر في قطر من الأقطار، أو في دولة من الدول، أخذت العناصر المشتركة التي تدخل في تكوينها في الازدياد، ويؤدي ذلك بالضرورة إلى النزول بمستواها، كلما ازدادت انتشارا، وازدادت العناصر التي تستعيرها، من صور اللهجات المحلية. أما عوامل قيام هذه اللغات المشتركة، فترجع إلى التفوق السياسي، والديني، والاقتصادي، والأدبي، والاجتماعي، ونضرب على ذلك مثلا من اللغة العربية، فقد انقسمت اللغة العربية، منذ أقدم عصورها، إلى لهجات كثيرة، تختلف فيما بينها في كثير من الظواهر الصوتية والدلالية، كما تختلف في مفرداتها وقواعدها، تبعا للقبائل المختلفة، التي تتحد ظروفها الطبيعية والاجتماعية، أو تتباين هذه الظروف. ثم أتيحت لهذ الهجات العربية فرص كثيرة للاحتكاك، بسبب التجارة تارة، وتجاور القبائل تارة أخرى، وتنقلها في طلب الكلأ والمرعى، أو تجمعها في مواسم الحج، والمعاملات التجارية في الأسواق، واللقاء في الحروب الأهلية والغزوات وأيام العرب، وما إليها. وعندما اشتبكت هذه اللهجات في صراع لغوي، كان النصر فيها للغة مشتركة، استمدت أبرز خصائصها من لهجة قريش، التي طغت على سائر اللهجات الأخرى، فأصبحت لغة الأدب بشعره ونثره، ولغة الدين، ولغة السياسة والاقتصاد. أما العوامل التي ساعدت لغة قريش، على أن تتبوأ -دون غيرها- هذه المكانة، فإنها نفس العوامل التي تحدثنا عنها من قبل، فقريش كانت

تتمتع بمنزلة دينية خطيرة قبل الإسلام؛ لأن القرشيين كانوا جيران بيت الله الحرام وسدنته، كما كانت القبائل العربية، على اختلاف منازلها تحج إلى البيت، وتقدم القرابين إلى أصنامهم وأوثانهم المبثوثة حول الكعبة. وإلى جانب هذا العامل الديني، كان القرشيون يتمتعون بسلطان اقتصادي كبير؛ لأنهم كانوا من أمهر العناصر العربية، وأنشطها، وفي يدهم جزء كبير من تجارة الجزيرة العربية، ينتقلون في بقاعها، من سوريا شمالا إلى أقاصي اليمن جنوبا، فهم في الشتاء يرتحلون إلى اليمن، وفي الصيف يذهبون إلى الشام، ولا يكادون يستقرون في مكان، إلا بمقدار الزمن الذي يحدده لهم البيع والشراء. وقد أتاح لهم هذا النشاط التجاري ثراء كبيرا، ومن ملك المال واحتضن الدين. فقد تحقق له سلطان سياسي قوي، ولهذا كله كانت اللغة القرشية، أقوى اللغات أثرا في تكون اللغة العربية المشتركة، أو العربية الفصحى. وإذا كانت الأقاليم تختلف فيما بينها في لهجاتها، فإن طبقات الناس التي تعيش في داخل كل إقليم، تختلف هي أيضا في لغاتها، فإن الطبقة الغنية، ذات الجاه والنفوذ المادي والسيطرة السياسية، تخالف في كلامها دون شك، طبقات العمال والجنود والتجار والزراع، وغيرها من الطبقات الأخرى. كما أن الفارق بين الطبقات الاجتماعية، في الثقافة والتربية، والتفكير، ومستوى المعيشة، والعادات والتقاليد. كل هذا وغيره يترك أثرا كبيرا في لهجات هذه الطبقات الاجتماعية المتفاوتة، في طرق التعبير واستعمال المفردات، ودلالتها، وتكوين الجمل، وما إلى ذلك من الظواهر اللغوية المختلفة.

وهذه اللهجات الاجتماعية1، لا تتميز تميزا واضحا إلا في المدن الكبيرة، حيث يتكاثف السكان، ويزدحم الناس، وتنشط الحركات الاقتصادية، وتعدد المهن والحرف. وسواء أكانت اللهجات محلية أم اجتماعية، فإنها تمت بصلة وثيقة للغة المشتركة. وقد يكون كلا النوعين متشعبا عن اللغة الأصلية، يستمد منها أصول مفرداته وقواعده وتراكيبه، غير أن السبب الرئيسي لنشأة اللهجات المحلية، يرجع إلى اختلاف الأقاليم، وما يحيط بكل إقليم من ظروف، وخصائص تاريخية وجغرافية وسياسية، على حين أن السبب الأساسي لنشاة اللهجات الاجتماعية، يرجع إلى اختلاف الناس في الإقليم الواحد وما يكتنف كل طبقة من شئون، في شتى مظاهر الحياة.

_ 1 انظر: علم اللغة لعلي عبد الواحد وافي 173.

الفصل السابع: الصراع اللغوي "أسبابه ونتائجه"

الفصل السابع: الصراع اللغوي "أسبابه ونتائجه" أصبح من المسلم به عند اللغويين، أن احتكاك اللغات ضرورة تاريخية، وهذا الاحتكاك يؤدي إلى تداخلها إن قليلا وإن كثيرا، ويكادون يقطعون بأن التطور الدائم للغة من اللغات وهي في معزل عن كل احتكاك وتأثر خارجي، يعد أمر مثاليا، لا يكاد يتحقق؛ ذلك لأن الأثر البالغ، الذي يقع على إحدى اللغات من لغات مجاورة لها، كثيرا ما يلعب دورا هاما في التطور اللغوي، ويترتب عليه نتائج بعيدة المدى، إلى درجة أن بعض العلماء يذهبون إلى القول، بأنه لا توجد لغة متطورة لم تختلط بغيرها. على أن الاحتكاك بين لغتين متجاورتين، لا يحدث دائما على وتيرة واحدة، في كل الحالات؛ ذلك لأن قوة اللغات ليست واحدة، ومن ثم اختلفت قدرتها على المقاومة، فالألمانية والفرنسية مثلا، لغتان قويتان تستويان في القوة، وبينهما اختلافات لغوية كبيرة، فإذا ما تعرضتا للمنافسة والاحتكاك، كانت المنافسة بينهما، تكاد تكون محصورة في الميدان الاقتصادي وحده، ذلك أن الانتصار الذي تناله إحدى اللغتين، يكون في ميدان المعاملة، أي في صميم الحياة نفسها، فإذا أتيح للألمانية أن تطرد الفرنسية من بعض القرى السويسرية، أو أتيح للفرنسية أن تطرد الألمانية، كان معنى ذلك أن سكان تلك القرى، كانت بأيديهم أداتان متساويتان في الصلاحية والقوة، فاختاروا من بينهما أنفعهما لحاجات أعمالهم ولحياتهم اليومية، ويترتب على هذا الحدود اللغوية، بحسب الجهة التي تفد منها العلاقات الاقتصادية1.

_ 1 انظر: اللغة لفندريس 349، 350.

فالمصلحة العملية، هي وحدها الحكم في مثل هذه الحالات وهي التي تحكم لهذه اللغة أو لتلك. وقد تبقى اللغتان متجاورتين زمنا طويلا، وهما في حالة تعادل. وللموقف السياسي أهميته الكبرى كذلك، فإن بعض الشعوب يتمسك بهذه اللغة دون تلك ويرخي لها عمدا عنان التفشي، مدفوعة بعاطفة وطنية، أو محاولة نيل استقلالها، أو نفورا من دولة مجاورة لها. وهذا مشاهد في الأقطار البلقانية، وفي أيرلندة، حيث تتجه حركة وطنية إلى إحياء اللغة القديمة للبلاد، تخلصا من لغة أعدائهم الإنجليز. واللغة الفرنسية لم تنتشر يوما في "الألزاس"، بقدر ما كانت تتكلم زمن انضمام هذا الإقليم للإمبرطورية الألمانية، أما حينما كانت مقاطعة الألزاس جزءا من فرنسا، ولم تكن مضطرة إلى أن تتخذ لغة بعينها، فلم يكن لديها باعث قوي يحملها على ترك لهجاتها الجرمانية المحلية. وإلى جانب العوامل الاقتصادية والسياسية، هناك عامل عاطفي له أثره في المحافظة على سلامة الكثير من اللغات وبقائها، وهو عامل "الهيبة"1. وكثيرا ما يكون هذا العامل مستمدا من القيمة الذاتية للغة، فاليونانية مثلا، كانت تمثل ثقافة من أعرق الثقافات البشرية، ولذلك لم تستطع اللغة اللاتينية التغلب عليها، كما لم تستطع بعد ذلك اللغة التركية، مع أنها كانت لغة الفاتحين سياسيا وحربيا. وكذلك لم يتمكن الاحتلال التركي للشرق، خلال قرون عديدة، من القضاء على اللغة العربية، وإحلال التركية محلها؛ لأن التركية ليست بأية حال من الأحوال، من لغات الحضارات الكبيرة، بخلاف اليونانية والعربية.

_ 1 انظر كذلك: اللغة لفندريس 350.

هذه هي بعض أمثلة الصراع الذي يحدث بين لغتين كبيرتين. فما لون الصراع الذي ينشأ بين لغة مشتركة، تمثل مدنية منظمة تنظيما قويا، ومجموعة من اللهجات المحلية، لا وحدة لها، ولا تناسق بينها؟ تتمثل لنا هذه الحالة في موقف اللغتين: الفرنسية والبريتانية، وهي اللغة الأصلية لمقاطعة "البريتون" Bretagne في غربي فرنسا. فإن المنافسة في هذه الحالة، تدور حول انضمام دائم، لعدد كبير من عناصر إحدى اللغتين إلى الأخرى، حتى ينتهي الحال بأن تفقد إحداهما معالمها اللغوية؛ ذلك أن اللغة الفرنسية، توغلت في كل اللهجات البريتانية؛ لأنها لغة الحضارة التي تحمل معها تيارا جارفا من الكلمات الجديدة، التي تمثل أشياء وأفكارا وعادات جديدة، كما أن الدين والآداب الفرنسية، قد ملأت اللهجات البريتانية بالكلمات الفرنسية، عن طريق كتب العبادة والتهذيب، منذ أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وما زالت حتى الآن تطغى بمفرادتها؛ لأن تعليم اللغة الفرنسية في المدارس البريتانية، والخدمة العسكرية الإجبارية، وغيرها من العوامل الأخرى، قد جعلت غالبية أهل مقاطعة البريتون يتكلمون لغتين: البريتانية والفرنسية. وكان التوغل قبل ذلك، يقوم على نوع من التسرب غير المحسوس، فكانت البريتانية تتلقى عن غير شعور منها، عددا من الكلمات الفرنسية، أخد يزداد يوما بعد يوم، غير أن البريتانيين كانوا وقتذاك يتكلمون لغتهم وحدها، وإن دخلت فيها ألفاظ فرنسية؛ ذلك لأن الفوائد التي يمكن الحصول عليها من معرفة الفرنسية، تفوق كثيرا تلك التي يمكن الحصول عليها من معرفة البريتانية وحدها؛ لأن الفرنسية لغة برجوازية تستعمل دون سواها في مجمعات المدن، وتغري بنات الريف بالتحدث بها، كما تغريهن ثياب الطبقة الراقية بارتدائها، ولا يخفى أن عقلية الشعوب، تكاد تكون

متقاربة في مثل هذه الحالات من التقليد. يضاف إلى هذا كله أن البريتانيين أصبحوا مرتبطين ارتباطا وثيقا بالمجتمع البرجوازي، فمنهم طبقة الموظفين في كثير من الأعمال الحكومية والأهلية، ومقاطعتهم مزدحمة بالسائحين الفرنسيين والأجانب على السواء، مما جعل التحدث بالفرنسية، ميزة وضرورة في آن واحد؛ لأنها تيسر لهم موارد رزقهم، وتفتح الأبواب أمامهم، وتعينهم على التفاهم مع غيرهم1. وهكذا تغلبت الفرنسية على البريتانية، وأصبحت لغة مشتركة، بالنسبة للمقاطعة كلها، وإن كانت البريتانية، لا تزال متماسكة في بعض أرجاء المقاطعة، وبخاصة بين بعض الطوائف المعينة، مثل صيادي السردين وعمال الملاحات، وقاطعي الإردواز، وتجار الخيول، وغيرهم. من هذا العرض، نرى أن الصراع اللغوي، هو وحده الذي يقضي على لغة من اللغات، أو لهجة من اللهجات. ولا يمكن تحديد زمن هذا الصراع تحديدا تاما، إلا إذا نظرنا إلى الظروف، التي تحيط باللغة المقهورة، وإلى مقدار ما فيها من حيوية وقوة مقاومة. ويضع علماء اللغة لهذا الصراع مراحل، تظهر في كل مرحلة منها عوامل تساعد على انحلال اللغة المقهورة، وتؤدي إلى القضاء عليها: ففي المرحلة الأولى: تطغى مفردات اللغة المنتصرة، وتحل محل اللغة المقهورة شيئا فشيئا وتكثر هذه الكلمات أو تقل تبعا للمقاومة التي تبديها اللغة المهزومة، فاللغات البربرية لم تترك في اللغة العربية المنتصرة إلا كلمات قليلة، وكذلك الحال في لغة بلاد الجال، التي تغلبت عليها اللاتينية.

_ 1 انظر: اللغة لفندريس 354.

أما إذا كان الصراع بين اللغتين شديدا، وطول الأمد، فإن اللغة المقهورة، قد تحتفظ بمفردات كثيرة، تدخل في اللغة الغالبة. مثال ذلك: ما حدث بين لغة الإنجليز السكسون بإنجلتر، ولغة الفاتحين من الفرنسيين النورمانديين؛ إذ خرجت الإنجليزية المنتصرة في هذه الصراع، وقد فقدت ما يقرب من نصف مفرداتها الأصلية، واستبدلت به كلمات من اللغة النورماندية المغلوبة. وفي المرحلة الثانية: تتغير مخارج الأصوات، ويقترب النطق بها، من النطق بأصوات اللغة الجديدة شيئا فشيئا، حتى تصبح على صورة تطابق أو تقارب الصورة التي هي عليها في اللغة المنتصرة، وذلك بأن يتصرف المغلوب تصرف الغالب في النطق بالأصوات، فتتسرب بذلك أصوات اللغة الغالبة إلى اللغة المغلوبة، في طريقة نطقها، ونبرها، ومخارجها، فينطق أهل اللغة المغلوبة ألفاظهم الأصيلة، وما انتقل إلى لغتهم من كلمات دخيلة، متخذين نفس المخارج، ونفس الطريقة، التي يسير عليها النطق في اللغة الغالبة. وهذه المرحلة تعد أخطر مراحل الصراع اللغوي؛ إذ يزداد فيها انحلال اللغة المغلوبة، ويشتد قربها من اللغة الغالبة. وفي المرحلة الثالثة: تفرض اللغة المنتصرة قواعدها وقوانينها اللغوية الخاصة بالجمل والتراكيب، وبهذا تزول معالم اللغة المقهورة، وحينئذ تبدأ اللغة المنتصرة، في إحلال أخيلتها واستعاراتها، ومعانيها المجازية، محل الأخيلة والاستعارات والمعاني، للغة القديمة، التي تموت شيئا فشيئا. إلا أن النصر لا يتم للغة من اللغات، إلا بعد أمد طويل، قد يصل أحيانا إلى أكثر من أربعة قرون، فالرومان أخضعوا بلاد الجال في القرن الأول الميلادي، ولكن لم تتم الغلبة للغة اللاتينية، إلا في القرن الرابع.

وفي كل صراع لغوي، لا تتم هذه المراحل دفعة واحدة، ولا تختفي لهجة أو لغة، إلا وقد تركت بعض مفراداتها أو تراكيبها وقواعدها، أو أثرت بأي صورة من الصور، في معاني المفردات للغة الجديدة، وبخاصة إذا كانت اللغتان من فصيلة لغوية واحدة. والخلاصة أنه متى اجتمعت لغتان في صعيد واحد، فإنه لا مفر إطلاقا من أن تتأثر كل منهما بالأخرى، سواء في ذلك أتغلبت إحداهما على الأخرى، أم بقيت كل واحدة منهما بجوار أختها1. على أن هذا التأثر يختلف في كمه وكيفه، ونواحي ظهوره، ونتائجه، في حالة تغلب لغة على أخرى، عنه في حالة بقائهما معا، ذلك أننا نرى اللغة الغالبة، تستسيغ وتتمثل كل ما تأخذه من الأخرى المغلوبة، مهما كثر مقداره. وفي هذه الحالة يتحول المستعار إلى عناصر من نوع عناصرها هي، ويدخل فيها فتزداد به قوة وتجدد ونشاطا، دون أن تجعل له أي مجال للتأثر في بنيتها، أو تتيح له فعل أي تغيير في تكوينها الأصلي. أما اللغة المغلوبة، فإنها على العكس من ذلك، لا تستطيع إطلاقا أن تقضي على مقاومة ما تقذفها به اللغة الغالبة، من مفردات وقواعد وأساليب، ولا تكاد تسيغه، فتفقد وحدتها وطابعها، وبذلك تضعف بنيتها، ثم تزول شيئا فشيئا، وقد كان هذا مصير اللغات السامية، في صراعها مع العربية، في الأمصار المفتوحة، ومصير اللغة النورماندية المغلوبة، مع الإنجليزية الغالبة.

_ 1 انظر: علم اللغة لعلي عبد الواحد وافي 223.

أما إذا كتب للغتين البقاء، فإن كل لغة منهما، تعمد إلى ما تأخذه من الأخرى، وتضفي عليه من حيويتها، وتقضي على ما فيه من الآثار الهدامة، سواء أكانت هذه الآثار متعلقة بالأصوات، أم بالقواعد، أم بالبنية، أم بالأساليب. وعلى هذا تبقى كل منهما وتعيش بجوار أختها، لها طابعها الخاص، وشخصيتها القوية. ولقد كان هذا شأن العربية، مع اللغة التركية -كما عرفنا من قبل- ومع اللغة الفارسية، حين دخلا في صراع لغوي، بعد أن فتح العرب بلاد فارس، وشأن الألمانية والفرنسية في سويسرا، كما ذكرنا سابقا. ويضع اللغويون قواعد تنص على أن اللغة، لا تتغلب على لغة أخرى، إذا توفرت الأسس التالية: 1- أن تكون اللغة الغالبة، لغة شعب متحضر، أرقى من الشعب المغلوب، في حضارته وثقافته، وأقوى منه سلطانا وأوسع نفوذا. 2- أن تبقى غلبة الغالب زمانا كافيا، مع استمرار قوته، لتتمكن اللغة الغالبة من بسط نفوذها، ويتم لها نصر حقيقي. 3- أن تكون هناك جالية كبيرة العدد والنفوذ، تقيم بصفة دائمة في بلاد الشعوب التي غلبت لغتها، وتمتزج بأفراد هذا الشعب، ولا تعيش إطلاقا في عزلة عنه. 4- أن تكون اللغتان: الغالبة والمغلوبة، من شعبة لغوية واحدة، أو من شعبتين متجاورتين.

القسم الثاني: مناهج البحث اللغوي وتطبيقات المنهج المقارن

القسم الثاني: مناهج البحث اللغوي وتطبيقات المنهج المقارن الفصل الأول: المنهج المقارن بين مناهج البحث اللغوي مدخل ... القسم الثاني: مناهج البحث اللغوي وتطبيقات المنهج المقارن الفصل الأول: المنهج المقارن بين مناهج البحث اللغوي كان اكتشاف اللغة السنكسريتية "إحدى اللغات الهندوأوربية القديمة" في نهاية القرن الثامن عشر، نقطة تحول خطيرة في الدراسات اللغوية، فقد كان العلماء يهتمون قبل ذلك، بدراسة فقه اللغتني: اللاتينية واليونانية، ويبحثون في أصل اللغة عموما، ويقوّمون كل لغة بالنسبة إلى اللغات الأخرى، من جهات متعددة، كجمال الأسلوب، والثروة الكلامية، وضخامة التراث القديم، وما إلى ذلك. ومعظم هذه البحوث بحوث فيما وراء الطبيعة، كما أن الأحكام الذاتية لا الموضوعية تلعب دورا كبيرا فيها. وعندما حل القرن التاسع عشر، شهدت الدراسات اللغوية تطورا كبيرا. وكان من أهم ما أتى به هذا القرن، هو الاتجاه إلى الدراسة اللغوية التاريخية، بعد أن اكتشفت اللغة السنسكريتية وعرفت علاقتها باللاتينية والإغريقية وغيرهما. ومنذ ذلك الحين عرفت الدراسة اللغوية، ثلاثة مناهج هي: المنهج الوصفي، والمنهج التاريخي، والمنهج المقارن. أما المنهج الأول، فيكتفي بوصف أية لغة من اللغات عند شعب من الشعوب، أو لهجة من اللهجات، في وقت معين، أي أنه يبحث اللغة بحثا عرضيا لا طوليا، ويصف ما فيها من ظواهر لغوية مختلفة، ويسجل الواقع اللغوي، تسجيلا أمينا. بل إن "أنطوان مييه" "A. Meillet يذهب إلى أبعد

من هذا، حين يرى أن المنهج الوصفي "يعني بدراسة الاستعمال اللغوي في عمومه، عند شخص بعينه، في زمان بعينه، ومكان بعينه"1. فالمنهج الوصفي يقوم على أساس وصف اللغة أو اللهجة في مستوياتها المختلفة، أي في نواحي أصواتها، ومقاطعها، وأبنيتها، ودلالاتها، وتراكيبها، وألفاظها، أو في بعض هذه النواحي، ولا يتخطى مرحلة الوصف. والأطالس اللغوية مثال من أمثلة تطبيق هذا المنهج الوصفي على اللغات واللهجات، فهي لا تعرض علينا سوى الواقع اللغوي مصنفا، دون تدخل من الباحث بتفسير ظاهرة، أو تعليل لاتجاه لغوي، هنا أو هناك. وغالبا ما تنصب هذه الدراسة الوصفية، على اللغات واللهجات المعاصرة "وإن كان بعض العلماء، قد قاموا بمحاولات لدراسة اللغة، دراسة وصفية في زمن معين في الماضي"2، فأية دراسة صوتية أو صرفية أو تركيبية أو دلالية، لإحدى اللهجات القديمة أو الحديثة، تعد دراسة وصفية. وقد حقق علم اللغة الوصفي في القرن العشرين، نهضة كبرى، أدت إلى كثير من التطورات المهمة، في علم اللغة المعاصر، وكان القرن التاسع عشر حاملا لكثير من الإرهاصات، لهذا العلم الحديث. وكان من أكبر الباحثين، الذين أثروا في مجال الفصل بين الدراسات الوصفية والتاريخية، العالم السويسري: "فردينان دى سوسير" F de Saussure "1857-1913" الذي وضع حرج الأساس في الدراسات

_ 1 علم اللسان 453. 2 لغات البشر لماريوباي 73.

اللغوية البنيوية أو الوصفية، وأثار في كتابه: "محاضرات في علم اللغة العام" Cours de Linguistique generale الذي نشر بعد وفاته سنة 1916م، وجهة نظر جديدة "إذ اعتبر اللغويات الوصفية، لا تقل أهمية عن اللغويات التاريخية، كما حدد وظيفة كل منهج وحدوده"1. وقد شهد القرن العشرون مدارس لغوية وصفية متعددة، أهمها: 1- المدرسة اللغوية البنيوية: Structutal Linguistics 2- مدرسة النحو التوليدي التحويلي: Transformational - Generative Grammar 3- مدرسة القوالب: Tagmemec Analysis وفيما يلي نكشف النقاب عن خصائص كل مدرسة من هذه المدارس:

_ 1 لغات البشر 74.

المدرسة اللغوية البنيوية

1- المدرسة اللغوية البنيوية: يعد "دي سوسير" من العلماء الأوائل، الذين مهدوا الطريق لهذه المدرسة، في محاضراته بجماعة جنيف "1906-1911م" التي جمعها طلابه بعد وفاته سنة 1913م في كتابه المشهور: "محاضرات في علم اللغة العام" وأصدروه سنة 1916م بالفرنسية، ثم ترجمة Wade Baskin بعنوان: Course in general Linguistics في عام 1959م. وقد فرق "دي سوسير" بين ما يمكن أن يسمى باللسان La Langue وما يمكن أن يسمى بالكلام La Parole أما اللسان فيقصد به أنواع الأنظمة وأنماط الأبنية، التي تعود إليها منطوقات اللغة. أو هو بعبارة أخرى: نظام من المواضعات والإشارات، التي يشترك فيها جميع أفراد مجتمع لغوي معين، وتتيح لهم من ثمة الاتصال اللغوي فيما بينهم. وأما الكلام، فهو في رأي دي سوسير: كلام الفرد، أو المنطوقات الفعلية نفسها1. ويتصف اللسان بأنه اجتماعي، وجوهري، ومجرد، ومستقل عن الفرد، بعكس الكلام الذي يتوقف على الإرادة والذكاء عند الفرد2. وقد تمكن دي سوسير بذلك من تفسير طبيعة نظام اللغة، والتنوع الفردي للغة. وكان يعتقد أن اللسان -وهو نظام اللغة المقصود "التحتي"- هو الموضوع الصحيح للدراسات اللغوية؛ لأنه يشتمل على أنماط منتظمة، يرغب علماء اللغة البنيويون في اكتشافها ووصفها. كما بين "دي سوسير" أن كل لسان ينبغي أن يتم تصوره ووصفه على أنه نظام من العناصر المترابطة، على المستويات الدلالية والنحوية والصوتية، لا على أنه تراكم من كيانات قائمة بذاتها. وقد عبر عن نظريته تلك بقوله: "إن اللسان شكل لا مادة". وعلى هذا المدخل البنيوي للغة، يقوم صرح علم اللغة المعاصر بأسره، وهو الذي يسوغ دعوى "دي سوسير" باستقلال علم اللغة، ليصبح علما قائما بذاته3.

_ 1 انظر: De Saussure Cours 9 - 15. 2 الألسنية أحدث العلوم الإنسانية 108. 3 انظر: R H Robins A Short history 200-201.

وممن تأثر بنظرية دي سوسير: العالم "فرانز بوعز" Franz Boas الذي كان مهتما -وهو من علماء الأنثروبولوجيا- بالوصف المفصل للفونولوجيا، أي النظام الصوتي في لغة من اللغات، ثم ينتقل بالتالي إلى وصف المورفولوجيا أو النظام الصرفي فيها في مستوى الكلمة "Word" والعبارة "Phrase". وقد نادى "بوعز" بضرورة دراسة كل لغة على حدة، وفقا لأحوالها الخاصة. وقد أصبح رأيه هذا فيما بعد، أحد المعتقدات الأساسية في الدراسات الوصفية في أمريكا. وجاء بعد "بوعز" تلميذه: "إدوارد سابير" Edward Sapir الذي كان يؤمن بضرورة وصف كل لغة، وفقا لأحوالها الخاصة، كأستاذه ولكنه لم يكن مؤمنا بالفئات أو الوحدات اللغوية المتواضع عليها كأجزاء الكلام، بل كان يرى أن الوحدات الأساسية، كالاسم والفعل، والعمليات النحوية الأساسية، كترتيب الكلمات هي أمور قائمة في جميع اللغات التي يحتمل أن تكون لها عناصر كلية مشتركة، وذلك في المستويات الأساسية الكبيرة، التي تقوم عليها اللغات1. وكان تركيز "سابير" على العقل والفكر، موضع اهتمام علماء اللغة التحويليين. وجاء بعد "بلومفيلد" Leonard Bloomfield الذي أسهم في تطوير المدرسة اللغوية البنيوية، وتوضيح قوانينها، ووضع مناهجها الأساسية. وقد هيمن كتابه: "اللغة" Language الذي نشر سنة 1933م، على معظم الدراسات اللغوية، في السنوات الثلاثين التالية لصدوره. وكان "بلومفيلد" من أتباع السيكولوجية السلوكية في دراسة

_ 1 انظر: Sapir Language 144.

اللغة، مما جعله يرفض تركيز "سابير" على العقل، ويقصر عمله على مراقبة الظواهر الخارجية القابلة للقياس، والتي يمكن فيها تطبيق مبدأ "المثير" و"الاستجابة". كما اهتم بالقياس اللغوي، مع عدم الانصراف عن أخذ المعنى في الحسبان. وإن كان يقرر1 أن اعتبار المعاني يعد أضعف نقطة في دراسة الغة. وهو يعتقد أن وصف لغة من اللغات ينبغي أن يبدأ بالفونولوجيا. وقد حاول أتباعه أن يطبقوا هذا المبدأ نفسه في دراستهم للمورفولوجيا أو الصرف، ونظام الجملة، بل إنهم ذهبوا شوطا بعيدا حين حاولوا استبعاد المعنى من دائرة التحليلات اللغوية. وتتبع هذه المدرسة في تحليل الجملة منهجا مبنيا على أساس أنها مؤلفة من طبقات من مكونات الجملة، بعضها أكبر من بعض، إلى أن يتم تحليلها إلى عناصرها الأولية من الكلمات والمروفيمات. وفيما يلي مثال يبين بشكل مجرد، مختلف العلاقات القائمة بين العناصر المختلفة التي تكون الجملة:2

_ 1 انظر: Bloomfield Language 140. 2 انظر: الألسنية العربية لريمون طحان 2/ 53.

مدرسة النحو التوليدي التحويلي

2- مدرسة النحو التوليدي التحويلي: أدت الرغبة إلى تبني منهج عقلي في دراسة اللغة، إلى نشوء طريقة جديدة عند علماء اللغة الأمريكان، أطلقوا عليها اسم: "علم اللغة التحويلي" Transformational Linguistics وقد رفضت هذه المدرسة الجديدة كثيرا من الأسس التي ارتضتها المدرسة البنيوية، من النواحي التالية: 1- فمن حيث الموضوع، كانت المدرسة البنيوية تتخذ من النصوص اللغوية موضوعا لدراستها، على حين اتخذت المدرسة التحويلية من قدرة المتكلم على إنشاء الجمل التي لم يكن سمعها من قبل، موضوعا لها. 2- ومن حيث أسلوب الدراسة والتحليل، كان المدرسة البنيوية تعتمد على وسائل الاستكشاف، على حين يؤمن التوليديون بضرورة الحدس والتخمين، ثم إجراء الاختبار، لتقويم الفروض المتضاربة. 3- ومن حيث الهدف، كان البنيويون يحاولون بدراساتهم القيام بتصنيف عناصر اللغات المدروسة، على حين جعل التوليديون تعيين القواعد النحوية الكامنة وراء بناء الجملة هدفا لهم. وهذا يعني الكشف عن وجود عدد غير متناه من الجمل في أية لغة، وتوضيح أي نوع من سلاسل الكلمات تشكل جملا، وأيها لا يشكل جملا. وكذلك وصف البنية النحوية لكل جملة1. 4- وعلى حين كان البنيويون يرون أن لكل لغة بنيتها التي تتفرد بها، يرى التوليديون أن اللغات تتشابه على مستوى المقصود "العميق" من المعاني، ويحاولون الكشف عن هذه التشابهات الكلية.

_ 1 الألسنية: أحداث العلوم الإنسانية 127.

5- كان كثير من البنيويين يستبعدون المعنى من دراستهم للغة استبعادا كليا، ويهتمون بالشكل الخارجي للغة. ويرى "ديفيد كريستال" أن الكلام عن التحليل اللغوي بلا إشارة للمعنى، شبيه بمن يصف طريقة صنع السفن دون الإشارة إلى البحر1، ولذلك يعد التحويليون اعتبار المعنى في التحليل اللغوي، أمرا ضروريا في شرح العلاقة بين الجمل، التي تحمل نفس المعنى وتختلف في ظاهر تراكيبها. وعلى رأس علماء المدرسة التحويلية التوليدية في دراسة اللغة: "هاريس" Harris وتلميذه "تشومسكي" Chomsky. وقد كان لهما أكبر الأثر في نشوء علم اللغة التوليدي والتحويلي. أما "التوليدي" فهو علم يرى أن في وسع أية لغة أن تنتج ذلك العدد اللانهائي من الجمل التي ترد بالفعل في اللغة. وأما "التحويلي" فهو العلم الذي يدرس العلاقات القائمة بين مختلف عناصر الجملة، وكذلك العلاقات بين الجمل الممكنة في لغة ما2. ويعد "هاريس" الأب الحقيقي لعلم اللغة التحويلي، و"تشومسكي" الأب الحقيقي لعلم اللغة التوليدي. كما أدخل الأخير كثيرا من التعديلات على علم اللغة التحويلي عند "هاريس". وقد نشر "هاريس" بحوثه بين 1952 و1957م، وعرف التحويل بأنه عملية نحوية تغير ترتيب المكونات في داخل جملة ما، وبوسعها حذف عناصر أو إضافتها أو استبدالها3.

_ 1 انظر: أضواء على الدراسات، لنايف خرما 295 2 انظر: Micropaedia Vll 667-668. 3 انظر: Bornstein An lntroduction.

وقد ميز "هاريس" بين مجموعتين فرعيتين من الجمل النحوية الكلية، القائمة في لغة كالإنجليزية مثلا: 1- الجمل النواة Kernelsentences. 2- الجمل غير النواة Nonkernelsentence. ويمكن الفرق بين هاتين المجموعتين الفرعيتين، في أن الجمل غير النواة، يتم اشتقاقها من الجمل النواة، بواسطة قواعد تحويلية. مثال ذلك من العربية جملة مثل: "سَرَقَ اللصُّ البنكَ" فهي جملة نواة، يمكن أن تشتق منها جملة غير نواة، نحو: "سُرِقَ البنكُ". وتبدو العلاقة التحويلية بين هاتين الجملتين على النحو التالي: فعل متعد مبني للمعلوم+ مورفيم المعلوم+ اسم "1"+ اسم "2" فعل مبني للمجهول+ مورفيم المجهول+ اسم "2". فقد استبدل في أثناء عملية التحويل، مورفيم البناء للمجهول بمورفيم البناء للمعلوم، كما حذف الفاعل "الاسم رقم 1" من الجملة النواة، وتحول المفعول به "الاسم رقم 2" إلى نائب فاعل. وهكذا نرى التحويل هنا يقتضي الحذف والاستبدال، وإعادة ترتيب المكونات. أما "تشومسكي" فقد لاحظ، وهو يحضر للدكتوراه في جامعة بنسلفانيا، أن المنهج البنيوي الذي يتمتع بشيء من الجدوى، في دراسة الفونيمات والمورفيمات، لا يتوافق مع دراسة الجمل؛ لأن كل لغة بها عدد محدود من الفونيمات والمورفيمات، غير أن عدد الجمل في أية لغة واقعية، هو عدد غير متناه؛ إذ ليس هناك حد لعدد الجمل الجديدة، التي يمكن إنشاؤها، ولا تستطيع المدرسة البنيوية تفسير ذلك.

كما يرى "تشومسكي" أن المنهج البنيوي، غير قادر على شرح العلاقات التي يمكن أن تقوم بين مختلف الجمل، فقد تشترك جملتان في الشكل، على حين تختلفان اختلافا جذريا في المعنى، وذلك على نحو ما في الجملتين التاليتين: صراخ المجرم لم يؤثر في الناس عقاب المجرم لم يؤثر في الناس فالجملتان من حيث الشكل الخارجي، متشابهتان تماما، في علاقة المفردات بعضها ببعض، وكذلك في علاقة المسند إليه والمسند. ومع ذلك فالمعنيان يختلفان اختلافا جذريا. كما وجد "تشومسكي" أيضا، أن هناك بعض الجمل التي تحتمل معنيين مختلفين، ولا يميز الشكل الخارجي بنيهما، فجملة: "كان عقاب علي صارما" مثلا، لا يتضح معناها تماما خارج السياق؛ إذ لا ندري إن كان "علي" هو الذي عاقب إنسانا آخر، أم أن إنسانا آخر هو الذي عاقب عليا. كانت مثل هذه الجمل، التي يكتنفها اللبس من الوجهة التركيبية، هي التي أدت بتشومسكي إلى التأكيد بأن هذه الجمل معنى ظاهرا "سطحيا" Surface Stucture وهو الذي يقال فعلا، ومعنى مقصودا "عميقا" Deep Structure وهو الذي تكون العلاقات المعنوية فيه واضحة، وأن الذي ينظم العلاقة بين المعنى المقصود "العميق" والمعنى الظاهر "السطحي" هو تلك القوانين التي تطبق على الأولى، فتحولها إلى الثانية. وقد أطلق على هذه القوانين اسم "القوانين التحويلية" Transformational rules1.

_ 1 انظر: أضواء على الدراسات، لنايف خرما 117، 118.

وقد أفاد "تشومسكي" من تقسيم "دي سوسير" السابق للغة إلى: "لسان" Langue "وكلام" Parole وأطلق على النوع الأول: مصطلح "الكفاءة" Competence وعلى الثاني: مصطلح "الأداء" Performance. ويقصد بالكفاءة: ما يكون عند المتكلم باللغة -من أبنائها- من معرفة حدسية غير واعية، بالأصوات والمعاني والنحو. أما الأداء فهو عبارة عن الممارسة اللغوية الفعلية في الحياة اليومية، وربما لا تكون صورة صحيحة للكفاءة، لمخالفتها -في بعض الحالات- القواعد النحوية1. وقد ناقش كثير من اللغويين المحدثين "نظرية تشومسكي" في كثير من نواحيها. وعلى رأسهم المدرسة اللغوية الحديثة المعروفة "بمدرسة القوالب" Tagmemec analysis. ونتحدث عن جهود هذه المدرسة فيما يلي:

_ 1 انظر كتابي تشومسكي: Syntactic Structures Aspects of the theory of Syntasx.

مدرسة القوالب

3- مدرسة القوالب: تشارك هذه المدرسة "تشومسكي" وجهة نظره القائلة بوجود جانبين في دراسة اللغة، هما: جانب الكفاءة، وجانب الأداء، وترى هذه المدرسة أن مهمة علم القواعد في أسسه الأولية، تتمثل في إعطاء نموذج، أو لنقل صورة لجانب الكفاءة، وهو جانب غير واعٍ في معظمه، شأنه في ذلك شأن استعمال الناس للغة بالاعتماد على آثاره التي تتجلى في جانب الأداء، الذي تسهل ملاحظته ورصده. وترى هذه المدرسة أن التحليل اللغوي، يعني طائفة من الإجراءات لوصف اللغة. ويعتمد على وحدة نحوية أساسية، تسمى: "القالب" Tagmeme وترد هذه الوحدة ضمن مركب على هيئة سلسلة، وتقع ضمن مستويات معينة من المستويات النحوية. وقد قام بتطوير هذه النظرية ونظامها اللغوي: "كينيث بايك" Kenneth Pike واستخدامها معهد Summer للغويات1. ومصطلح "القالب" أو "الإطار" Tagmeme الذي تستخدمه هذه المدرسة، هو عبارة عن ارتباط بين موقع وظيفي "Functional Stat" وفئة من الوحدات "ltems" التي تشغل هذا الموقع، مؤلفه من وظيفة "Function" وشكل "Form". والمواقع الوظيفية، هي مواضع في أطر مركبات، تحدد الدور الذي تقوم به الأشكال اللغوية في المركب، بالقياس إلى غيرها من الأجزاء الموجودة في المركب نفسه. والوظائف عبارة عن ارتباطات نحوية، تحدد الدور الذي يقوم به الشكل في المركب، كالمسند إليه، والمسند، والمفعول به، والحال، والتمييز، وغير ذلك. وعلى الرغم من أن المواقع الوظيفية، ترد في العادة في مواضع ثابتة، فإنه لا مانع من وجود وحدات في كل لغة، قابلة للتنقل بحيث يمكنها أن تأتي في أكثر من موضع، ففي جملة مثل: "ضرب محمد عليا" ثلاثة مواقع هي:

_ 1 انظر: Robins Genersl Linguistics 287.

1- موقع المسند: وتشغله الكلمة الفعلية: "ضرب". 2- موقع المسند إليه: وتشغله الكلمة الاسمية: "محمد". 3- موقع المفعول به: وتشغله الكلمة الاسمية: "عليا". ويمكن أن يأتي الترتيب على نحو آخر، كأن ترتب هذه الجملة على النحو التالي: "ضرب عليا محمد". وهذا التغيير لا يعني تغييرا في المواقع الوظيفية، التي تحدد الدور الذي تقوم به الأشكال اللغوية في المركب، وإنما يعني تغييرا في مكان الموقع الوظيفي لا غير. والموقع الوظيفي الواحد، يمكن أن يشغله واحد من فئة الشاغلات "Fillers" وهذه الوحدات قابلة للتبادل فيما بينها في داخل الموقع. وينبغي أن تصنف هذه الشاغلات إلى أصناف شكلية في قائمة القالب. ومن أمثلة ذلك أن موقع المسند إليه، يمكن أن يشغله: ضمير، أو اسم علم، أو عبارة اسمية، أو تراكيب. وقد يكون أحد هذه الشاغلات، هو الفئة الشكلية النموذجية، من بين فئة الشاغلات التي تملأ الموقع. وهذا الترابط بين الموقع الوظيفي والفئة الشاغلة، هو في الحقيقة ترابط بين وظيفة وشكل. ويتجلى نظام التحليل القالبي، في أقصى درجة من الوضوح في عملية التسمية، حيث يسمى كل من الوظيفة والشكل، بأسماء مثل: "المسند إليه: اسم/ عبارة اسمية ... إلخ"، فتذكر قائمة الأشكال التي تملأ الموقع على يسار علامة النسبة ":" والوظيفة أو المعنى النحوي على يمينها1.

_ 1 Cook lntroduction to tagmemic analysis 15-17.

ونخلص من كل هذا إلى أن القوالب عبارة عن ارتباطات بين الشكل والوظيفة، توزع في مركبات اللغة، وتتنوع القوالب وفقا لمكوناتها، إلى الأنواع التالية: 1- قوالب إجبارية، أو قوالب اختيارية. 2- قوالب أساسية، أو قوالب ثانوية. 3- قوالب ثابتة المواضع، أو قوالب متحركة متنقلة. النوع الأول: القالب الإجباري عبارة عن قالب يرد في كل حالات ظهور البنية اللغوية المعينة، ويرمز له بالعلامة "+" للدلالة على وجوب وروده حيثما جاء المركب. أما القالب الاختياري فهو قالب يرد في بعض حالات ظهور البنية اللغوية، لا في جميعها، ويرمز له بالعلامة "+-" للدلالة على إمكان وروده، حيثما جاء المركب، وإن لم يكن ضروريا. النوع الثاني: القالب الأساسي هو قالب يتميز به المركب الذي يرد فيه، كالقوالب الموجودة في التركيب التالي: "البنت تزوجت خطيبها" أما القالب الثانوي "غير الأساسي/ التابع"، فهو قالب لا يتميز به المركب الذي يرد فيه، مثل: قالب الظرفية "بالأمس" في التركيب التالي: "البنت تزوجت خطيبها بالأمس". وليست كل القوالب الأساسية إجبارية، فقد يكون بعضها اختياريا، كقالب المفعول به في التركيب: "البنت تزوجت خطيبها"؛ إذ يمكن أن يستغنى عنه، فيقال: "البنت تزوجت". أم القالب الثانوي فهو اختياري دائما. وعلى ذلك يكون عندنا ثلاثة تصنيفات من قوالب النوعين، وهي: قالب أساسي إجباري، وقالب أساسي اختياري، وقالب ثانوي اختياري.

النوع الثالث: القالب الثابت، هو الذي يثبت موضعه بالنسبة لغيره في التركيب. وعلى العكس من ذلك لا يثبت القالب المتحرك في موضع معين بالنسبة لغيره. وهذا مثال لتحليل جملة مكونة من سلسلة من القوالب: العربة البطيئة المهمشة/ نقلت/ أثاث البيت/ عبر الصحراء/ يوم الخميس. الجملة= + مسند إليه: عبارة اسمية+ مسند: فعل متعد+ مفعول به: عبارة اسمية+_ مفعول فيه "ظرف مكان": عبارة ظرفية+_ مفعول فيه "ظرف زمان": عبارة ظرفية.

المستويات النحوية

المستويات النحوية: يجرى ترتيب المركبات القالبية، على هيئة طائفة من المستويات المحددة المعالم. وأكثر هذه المستويات شيوعا في الدراسات اللغوية المعاصرة، هي: مستويات "الكلمة" Word و"العبارة" Phrase و"التركيب" Clause و"الجملة" Sentence فضلا عن مستوى "المورفيم" Morpheme. فمستوى "الكلمة" هو ذلك المستوى من النحو، الذي نحلل عنده الكلمة إلى مورفيماتها المكونة لها. ومستوى "العبارة" هو ذلك المستوى من النحو، الذي نحلل عنده مجموعات الكلمات، ذات الأبنية المعينة -باستثناء التراكيب- إلى كلمات. ومستوى "التركيب" هو ذلك المستوى من النحو، الذي نحلل عنده التراكيب، إلى ما فيها من مسند ومسند إليه ومكملات.

ومستوى "الجملة" هو ذلك المستوى من النحو، الذي نحلل عنده جمل اللغة الصغرى والكبرى، إلى تراكيب مستقلة وغير مستقلة. أما المنهج التاريخي، فيدرس اللغة دراسة طولية، بمعنى أنه يتتبع الظاهرة اللغوية في عصور مختلفة، وأماكن متعددة ليرى ما أصابها من التطور، محاولا الوقوف على سر هذا التطور، وقوانينه المختلفة. ويمكننا لذلك، القول بأن عرض نحو أية لغة، يكتفى إن أراد الاقتصار على هذه اللغة بوصفها. غير أن تعليل الظواهر التي توجد في هذه اللغة، يظل أمر بالغ الصعوبة، إذا لم يعرف لهذه اللغة فترات تاريخية متباعدة، يمكن المقارنة بينها، ومعرفة صور التطور الناتجة عبر الأجيال الكثيرة. وعندئذ يمكن الكشف عن السر الذي يكمن وراء إحدى صور هذا التطور. ولنأخذ مثلا على هذا: اللغة العربية العامية، التي نتحدث بها اليوم في البلاد العربية، فإن وصف هذه اللغة من نواحيها المختلفة، أمر سهل ميسور؛ إذ يقال مثلا: إن الاستفهام يعبر عنه بنبر أحد أجزاء الجملة، وإن النفي يكون بالأداء: "مُِش" مثلا، وإن ترتيب الجملة فيها: فاعل+ فعل+ مفعول ... إلخ. ولكن معرفة سر وصول هذه النواحي المختلفة، من صوتية، وصرفية، وتركيبية، ودلالية، وغيرها، إلى ما وصلت إليه، كان من الممكن أن يظل لغزا، لولا معرفتنا بالعربية الفصحى. وكان من الممكن أن يزداد وضوح التطور وأسراره في هذه اللغة العامية، لو أننا توصلنا إلى معرفة حلقات التطور المختلفة، منذ الجاهلية حتى الآن.

فالمنهج التاريخي في الدرس اللغوي، عبارة عن تتبع أية ظاهرة لغوية في لغة ما، حتى أقدم عصورها، التي نملك منها وثائق ونصوصا لغوية، أي أنه عبارة عن بحث التطور اللغوي في لغة ما عبر القرون، فدراسة أصوات العربية الفصحى دراسة تاريخية، تبدأ من وصف القدماء لها من أمثال الخليل بن أحمد، وسيبويه، وتتبع تاريخها منذ ذلك الزمان، حتى العصر الحاضر، دراسة تدخل ضمن نطاق المنهج التاريخي. ومثل ذلك يقال عن تتبع الأبنية الصرفية، ودلالة المفردات، ونظام الجملة. وإذا كان علم اللغة الوصفي، يمكن أن يوصف بأنه علم ساكن static إذ فيه توصف اللغة بوجه عام، على الصورة التي توجد عليها، في نقطة زمنية معينة، فإن علم اللغة التاريخي "يتميز بفاعلية مستمرة dynamic، فهو يدرس اللغة من خلال تغيراتها المختلفة. وتغير اللغة عبر الزمان والمكان خاصة فطرية في داخل اللغة، وفي كل اللغات، كما أن التغير يحدث في كل الاتجاهات: النماذج الصوتية، والتراكيب الصرفية والنحوية، والمفردات. ولكن ليس على مستوى واحد، ولا طبقا لنظام معين ثابت. هذه التغيرات اللغوية تعتمد على مجموعة من العوامل التاريخية. وبينما يمكن دراسة هذه التغيرات دراسة وصفية، هي محض تعريف بأشكال التغيرات الحادثة، فإنه لا يمكن عزلها عن الأحداث التاريخية التي تصاحب وجودها. وإذا كانت الوظيفة الأولى لعلم اللغة الوصفي، هي أن يصف، ولعلم اللغة التاريخي هي أن يعرض التغيرات اللغوية، فمن الصعب كثيرا الفصل بين النوعين في مجال التطبيق العملي؛ وذلك لأن كل المصطلحات التي استعملت تحت العنوان الوصفي قابلة من الناحية العملية للاستعمال مع الفرع التاريخي"1.

_ 1 أسس علم اللغة لماريوباي 137.

"وعلى الرغم من أسبقية علم اللغة التاريخي، في ميدان البحث اللغوي، ومن التقدم المطرد، الذي أمكن تحقيقه خلال القرنين الماضيين، فما زالت هناك جهود ضخمة يمكن بذلها، حتى بالنسبة لتلك اللغات التي لاقت اهتماما كبيرا، فإن هناك اكتشافات ضخمة لكتابات مسجلة، ما تزال يتوصل إليها. ويجب كلما اكتشف شيء من ذلك، أن يعاد النظر في النتائج المقارنة السابقة التي كان بعضها فرضيا، ويدخل عليها من التعديلات ما هو ضروري، بعد الاستفادة من تلك الشواهد الجديدة ... وهنا نجد المنهجين: التاريخي والوصفي، يدخلان في شكل انسجامي تعاوني مثمر"1. "وليس المنهج المقارن إلا امتدادا للمنهج التاريخي، في أعماق الماضي السحيق، وينحصر في نقل منهج التفكير، الذي يطلق على العهود التاريخية، إلى عهود لا نملك منها أية وثيقة"2. ومع أن المنهج المقارن، يولي وجهه شطر الماضي السحيق، فإنه في الواقع لا يؤتي ثمرته، إلا في اتجاه عكسي؛ لأنه يوضح تفاصيل اللغات الثابتة بالوثائق. وأظهر نتيجة لنحو اللغات الهندوأوربية المقارن، تنحصر في تحديد صلات القرابة بين هذه اللغات، فكل اللغات الفارسية، واللغات السلافية، والجرمانية، والرومانية، والكلتية، إذا اعتبرت من الوجهة الزمنية، تبدو للعالم اللغوي، نتيجة لسلسلة متتابعة من التباين لحالة لغوية واحدة، سابقة عليها جميعا، وتسمى باللغة "الهندية الأوربية"3.

_ 1 أسس علم اللغة لماريوباي 176. 2 اللغة لفندريس 375. 3 انظر: لغات البشر لماريوباي 74.

"ويتضمن المنهج المقارن أساسا، وضع الصيغ المبكرة المؤكدة، المأخوذة من لغات يظن وجود صلة بينها جنبا إلى جنب، ليمكن إصدار حكم فيها بعد الفحص والمقارنة، بخصوص درجة الصلة بين عدة لغات، والشكل الذي يبدو أقرب صلة إلى اللغة الأم. "ولعل الباحث يكون آمنا، حين يقرر انتماء لغات متعددة إلى أصل مشترك، إذا وجد بينها تماثلا كافيا في تركيباتها النحوية، ومفرداتها الأساسية، وإذا لاحظ ازدياد قربها بعضها من بعض، كلما اتجهنا إلى الوراء"1. "ويقدم لنا النحو المقارن نظاما، تصنف فيه اللغات في أسرات تبعا لخصائصها، فبمقارنة الأصوات، والصيغ، تتجلى ضروب التجديد الخاصة بكل لغة، في مقابلة البقايا الباقية من حالة قديمة، وقد نجح اللغويون في أن يحددوا ما قبل تاريخ اللغات الهندوأوربية، ولكنهم لم يصلوا إلى معرفة من كانوا يتكلمونها، ولم يستطيعوا أن يحددوا أسلاف الإغريق أو الجرمان، أو اللاتين، أو الكلتيين، وإنما يعرفون فقط التغييرات التي مرت بها الجرمانية والإغريقية واللاتينية والكلتية، حتى وصلت إلى الحالة، التي تكشف عنها النصوص. أما الأسماء التي أطلقوها على اللغات، التي أعادوا بناءها فتحكمية، قد اتفقوا عليها مجرد اتفاق، فكلمة: الهندية الأوربية، إذا أخرجت من الاستعمال اللغوي، لم يبق لها أي معنى"2. ومنذ نشأة طريقة المقارنة بين اللغات -وهي أصلا طريقة تاريخية- وهي تحظى بمكانة مرموقة في علم اللغويات، كما صارت البحوث اللغوية

_ 1 أسس علم اللغة لماريوباي 168. 2 اللغة لفندريس 375.

التاريخية، وقفا على كبار العلماء والباحثين، على حين استمرت الطريقة الوصفية كما كانت من قبل، طريقة عملية ذات نفع عاجل، تعالج تعلم الناس اللغات الأجنبية، وتعرفهم بالطريقة الصحيحة لاستخدام لغاتهم1. هذا هو المنهج المقارن، وتلك هي حدوده، وقد تأثر به دارسو اللغات السامية، وقطعوا فيه شوطا ليس بالقصير. وإن من يلج ميدان الدراسة السامية المقارنة، يدرك على الفور مدى الصعوبة، التي تقابل الباحث، عندما يريد الرجوع بظاهرة ما في هذه اللغات إلى أصلها، ذلك لأن هذه اللغات السامية ليست حلقات متصلة في سلسلة لغوية واحدة، يمكن اعتبار إحداها أقدم اللغات، والثانية أحدث منها ... وهكذا، بل هي على العكس من ذلك، تعد خلفا للغة واحدة، هي ما اصطلح العلماء على تسميته "بالسامية الأم"، وهذه اللغة لا وجود لها الآن في صورة وثائق أو نقوش مكتوبة. ولذلك، فمن الممكن دراسة كل لغة من اللغات السامية على حدة، دراسة وصفية وتاريخية منتجة إلى أقصى حد، غير أن استنباط الأصول الأولى، للظواهر اللغوية المختلفة في هذه اللغات، أمر بالغ الصعوبة. وقد حاول العلماء استخدام الطرق العلمية، التي كشف عنها المنهج المقارن، وعلم اللغة الحديث، في الوصول إلى هذه الأصول الأولى، "لكن لا يجوز للمرء، أن يطلب الكثير في هذه الناحية، فإن سير تطور اللغات غامض في تفاصيله بالنسبة لنا غالبا، وذلك في المرحلة السابقة للمرحلة، التي وصلت إلينا منها وثائق لغوية"2.

_ 1 انظر: لغات البشر لماريوباي 74. 2 اللغات السامية لنولدكه 11.

لقد أدى اكتشاف اللغة السنسكريتية، في القرن الثامن عشر، إلى نشوء علم اللغة المقارن كما ذكرنا، وطمع علماء الساميات في تطبيق المنهج المقارن للغات الهندوأوربية، على مجموعة اللغات السامية، وحاولوا بالمقارنة الاهتداء إلى الأصول الأولى، وأطلقوا عليها اسم "اللغة السامية الأم". غير أنهم كانوا يدركون تماما، أن هذه اللغة الأم، لا تخرج عن كونها افتراضا قابلا للتعديل في أي وقت، طبقا لما تؤدي إليه بحوث المستقبل. ولقد كان "نولدكه" Noldeke على حق، عندما قال: "وإننا نريد أن نوجه سؤالا لمن يظن أن إعادة البناء الكامل للغة السامية الأولى، ولو بالتقريب، أمر ممكن. والسؤال هو: هل يستطيع أحسن العارفين باللهجات الرومانية كلها "الإيطالية والفرنسية والإسبانية" أن يعيد بناء الأصل القديم لهذه اللهجات، وهو اللغة اللاتينية، لو فرض أنها غير معروفة الآن؟ "1. ومع كل هذه الصعوبات، أثمرت الدراسات السامية المقارنة في القرن الماضي، والقرن الحالي، ثمرات عظيمة، وأصبحنا نقف في كثير من المسائل فيها، على أرض ليست هشة. والفضل في كل هذا للمستشرقين من علماء الغرب. ولم تكن اللغات السامية مجهولة تماما، بالنسبة للعرب، فقد فطن الخليل بن أحمد "المتوفى سنة 175هـ" إلى العلاقة بين الكنعانية والعربية، فقال: "وكنعان بن سام بن نوح، ينسب إليه الكنعانيون، وكانوا يتكلمون بلغة تضارع العربية"2.

_ 1 اللغات السامية 11. 2 العين للخليل بن أحمد 1/ 232.

كما عرف أبو عبيد القاسم بن سلام "المتوفى سنة 224هـ" اللغة السريانية، وأداة التعريف فيها وهي الفتحة الطويلة في أواخر كلماتها1. وكذلك أدرك ابن حزم الأندلسي "المتوفى سنة 456هـ" علاقة القربى بين العربية والعبرية والسريانية، فقال: "من تدبر العربية والعبرانية والسريانية، أيقن أن اختلافها، إنما هو من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان، ومجاورة الأمم وأنها لغة واحدة في الأصل"2. ويقول الإمام السهيلي "المتوفى سنة 581هـ": "وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي، أو يقاربه في اللفظ"3. كما عرف أبو حيان الأندلسي "المتوفى سنة 754هـ" اللغة الحبشية، وأدرك العلاقة بينها وبين العربية، وألف فيها تأليفا مستقلا، فقال: "وقد تكلمت على كيفية نسبة الحبش، في كتابنا المترجم عن هذه اللغة، المسمى: بجلاء الغبش عن لسان الحبش. وكثيرا ما تتوافق اللغتان: لغة العرب ولغة الحبش، في ألفاظ، وفي قواعد من التركيب نحوية، كحروف المضارعة، وتاء التأنيث، وهمزة التعدية"4. أما المستشرقون، فقد بدأت دراساتهم الأولى، في أحضان كليات اللاهوت، فأدركوا العلاقة بين العبرية والعربية والسريانية. وبدأت هولاندة في القرن الثامن عشر، على يد "شولتنس" Schultens بمقارنة العبرية بالعربية. وجاء بعده كل من: "إيفالد" Ewald، و"ألسهوزن" Olshausen فألفا في

_ 1 انظر: الزينة في الكلمات الإسلامية، لأبي حاتم الرازي 1/ 77. 2 الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/ 30. 3 التعريف والإعلام 11. 4 البحر المحيط 4/ 162.

اللغة العبرية، مستخدمين العربية في المقارنة، كما حاول مثل ذلك "نولدكه" Noldeke في الآرامية. وفي عام 1890م ألف "وليم رايت" W. Wright كتابه: "محاضرات في النحو المقارن للغات السامية" Lectures on the conparative Grammar of the Semetic Languages. كما ألف بعده بعام كل من: "لاجارد" Lagarde و"بارت" Barth: بحوث في أبنية الأسماء السامية" Untersuchungen uber die كما ألف "لند برج" LINDBERG "النحو المقارن للغات السامية" Grammatik Der semitischen sprachen vergleichende وألف "تسمّرن" Zimmern كتابه الذي سماه: "النحو المقارن للغات السامية" كذلك، ونشره في برلين سنة 1898م. وجاء بعد هؤلاء جميعا، عملاق هذا الفن، المستشرق "كارل بروكلمان" C Brockelmann فألف كتابه الضخم: "الأساس في النحو المقارن للغات السامية" Grundriss der vergleichenden Grammatik der semitischen Sprachen في جزأين، يضم الأول منهما دراسات، عن أصوات اللغات السامية وأبنية الأسماء والأفعال فيها، كما يختص الثاني بدراسة الجملة في اللغات السامية. وأكثر موضوعات هذا الجزء جديد، لم يسبق إليه مؤلفه. وقد نشر الجزء الأول في برلين سنة 1908م، ونشر الثاني فيها سنة 1913م. ولبروكلمان نفسه كتابان صغيران، يقتصران على موضوع الجزء الأول من "الأساس"، يسمى الأول: "فقه اللغات السامية" Semitische Sprachwissenschaft نشره في ليبزج سنة 1906م. وقد ترجمناه إلى العربية، ونشرناه في جامعة الرياض سنة 1977م. أما الكتاب الثاني، فيسمى: "مختصر النحو المقارن للغات السامية" Kurzgefasste vergleichende Grammatik der semitischen Spachen نشره في برلين سنة 1908م.

وكل من جاءه بعده عالة عليه، أمثال: "De lacy o Laery "أوليري" الذي نشر في سنة 1929م، كتابا بعنوان: "النحو المقارن للغات السامية" Comparative Grammar of the Semitic Languaes و"برجشتراسر" Bergstraller الذي ألف في عام 1928م، كتابا بعنوان: "المدخل إلى اللغات السامية" Einfuhrung in die sinitischen Sprachen كما ألقى في الجامعة المصرية القديمة، محاضرات عن التطور النحوي، مقارنا العربية باللغات السامية. وقد طبعت هذه المحاضرت تحت عنوان: "التطور النحوي للغة العربية" بالقاهرة سنة 1929م. وقد قمت أنا بتصحيح أوهامه والتعليق عليه، وطبع بالقاهرة 1981م. و"موسكاتي" S. Moscati، الذي نشر في روما سنة 1960م كتابا بالإيطالية، عنوانه: "محاضرات في اللغات السامية": Lezioni di linguistica Semitica ثم ترجمه بعد تنقيح إلى الإنجليزية، بالاشتراك مع: "أنطون شبيتالر" A. Spitaler و"إدوارد ألندورف" E. Ullendorf و"فولفرام فون سودن" W. von Soden ونشر تحت عنوان: "مقدمة في النحو المقارن للغات السامية" An lntroduction to the Comparative Grammar of the Semitec Languages في فيسبادن بألمانيا سنة 1964م. هذا إلى مئات المقالات، التي تعالج موضوعات مفردة في شتى المجلات العلمية، الأوروبية والأمريكية كل هذه المؤلفات تعالج اللغات السامية، وفق المنهج المقارن. ومع تقدم هذا العلم في الغرب، فإنه ما يزال -مع الأسف- جديدا غض الإهاب في الشرق، وسيمضي وقت طويل، قبل أن ينهض على قدم وساق؛ لأنه يتطلب معرفة كاملة بكل لغة من اللغات السامية، وهو أمر لما يتح إلا لقلة من الدارسين.

"ومقارنة قواعد اللغات السامية، يجب أن يبدأ حقا من العربية، على أن يراعى في التفاصيل، كل قريباتها الأخريات، ما دمن معروفات لنا. وهنا ربما تصلح اللغة العبرية، في إعادة بناء الأم الأولى المشتركة، أكثر من الحبشية. غير أن الآرامية والآشورية، وكذلك اللهجات التي نعرف القليل منها، أو اللهجات الحديثة كل ذلك يمكن أن يقدم مادة قيمة لمثل هذا العمل كذلك. "أما كيف وصلت تلك اللهجات الحديثة. ولا سيما الحية منها إلى شكلها الحالي، فإنه يمكن معرفة ذلك في دائرة واسعة نوعا ما. وهكذا نربح بذلك قياسات قيمة، لبحث تطور اللغات القديمة، غير أن الفحص الدقيق لتلك اللغات، يرغمنا على الاعتراف والحكم بأنه لا يمكن تفسير كثير من الظواهر المهمة في تلك اللغات القديمة. ويصدق بعض ذلك أيضا، على حالات يبدو لأول وهلة، أن تفسيرها سهل جدا. "وإذا ثبت الآن، اتفاق اللغات السامية في أصولها الأولى، من زمن بعيد - قبل أن يبرهن "بوب" Bopp علميا على وجود العلاقة بين اللغات الهندوأوربية فإن مسألة الوصول إلى قواعد مقارنة دقيقة في موضوعنا، بحيث تعطي نتائج ثابتة هذه المسألة ليست إلا واجبا صعبا، ولا بد أن يكون استمرارا لطريقة، أو نظام سابقين، فليس الأمر أمر خلق من العدم، وإنما هو استعمال للعناصر اللغوية القديمة، في شكل جديد. ومن النادر -كما يقول فندريس-1 أن تلجأ اللغة إلى صنع الكلمات من أساسها، بتركيب مجاميع الأصوات اللغوية بعضها مع بعض،

_ 1 اللغة: 292-294.

لأنه يعد عملا غير مفيد، فكل ما تعمله أنها قد تغير وضع العناصر الصوتية، في هذه الكلمة أو تلك. وهذه طريقة تشوه ولا تخلق، فالخلق أمر في غاية الندرة، "ومعناه خلق كلمة من الهواء والتكلم بها. ويتم ذلك عادة على يد بعض الأشخاص المشهورين، الذين يصادف ابتكارهم قبولا"1. وإذا ذكر لهذا الخلق بعض الأمثلة، فإنما تذكر على سبيل التندر، مثل كلمة: "gaz" غاز" التي اخترعت في القرن الثامن عشر، وكذلك rococo "نوع من الزخرفة". ومن ذلك أسماء بعض المستحضرات والسلع والآلات، مثل كلمة: "Kodak "كوداك"، فقد خرجت كما هي من دماغ مخترعها. ولكن مثل هذه الكلمات صعبة الصنع، فلا شيء أصعب من صنع كلمة، دون الاهتداء بوسائل الاشتقاق والتركيب المعتادة في اللغة، التي يتكلمها الصانع. ولئن صح ما قيل من أن كلمة: gaz فيها صدى كلمة: Geist بمعنى: "روح" كنا في هذه الحالة أمام تشويه، لكلمة موجودة بالفعل. أما الكلمات التي من قبيل: kodak وrococo فلا يجرؤ على ذلك إلا عالم فقيه تماما. "وأنا أشك مطلقا في أن الوقت قد حان لمثل ذلك العمل. ولكن قبل ذلك، يمكن القول بضرورة كثير من الأبحاث الصغيرة المتقنة. ومما يعوق البحث على وجه الخصوص، أن نصوص اللغات السامية، التي تحت يدنا، لا تعبر عن أصوات تلك اللغات تعبيرا كافيا، وأعتقد أن بحث الجملة بحثا مقارنا في اللغات السامية، أسهل من بحث الأصوات والصيغ فيها"2.

_ 1 أسس علم اللغة لماريوباي 156. 2 انظر: اللغات السامية لنولدكه 15، 16.

والمنهج المقارن، يستند كما يقول "أنطوان مييه"1 A. Meillet إلى بعض مبادئ أساسية، يجب أن تصاغ صريحة؛ وذلك لأن معظم الأخطاء التي ترتكب في علم اللغة، إنما تصدر عن استخدام وسائل النحو المقارن في حالات، لا يمكن أن تطبق فيها مبادئه. وأول تلك المبادئ: هو أن اللغات تصدر عن تغييرات عناصرها الموجودة، لا عن خلق جديد، فمن يريد أن يضع اسما لشيء جديد، يستعير عادة عناصر الكلمة من لغته أو من لغة أجنبية، وذلك كاللفظة الألمانية: Fernsprecher بمعنى: "تليفون"، فإنها مأخوذة من كلمة: Fern بمعنى: "بعيدا" وكلمة Sprecher بمعنى: "متحدث"، ومن ثم فإنه إذا ثبت أن بعض الكلمات، لا يمكن أن تعد مخلوقة من العدم على نحو ما، بحيث لا نجد لها أصلا اشتقاقيا، فإنه من المسلم به أن لكل طريقة خاصة للنطق، وكل نظام نحوي عام، قيمة تعبيرية لا تنكر، ذلك أنها كلمات أشبه بأسماء الأصوات، وتدخل في فصيلة من الكلمات، تعتبر اليوم ثابتة النظام والقواعد، فكلمة Kodak تصور لنا صورة، هي صورة سمعية، حتى كأننا نحس صوت المفتاح، الذي يفتح الآلة، لالتقاط الصورة ويغلقها، فهل أحس مخترع الكلمة هذه القيمة، وأراد أن يحاكيها؟ إن هذا لجائز، ولكنه غير ضروري، غير أن هناك دائما اتفاقا غير شعوري، يقوم بين الأصوات والأشياء، فالانطباع الذي تحدثه كلمة غير معروفة، يمكن أن يختلف من سامع إلى آخر، ولكن هناك انطباعا على كل حال، إن قليلا وإن كثيرا. وإنما يقاس الفرق بدرجة حساسية السامع أو خياله، أو مجرد حالته

_ 1 انظر: علم اللسان 455-462.

العصبية، فالذي يطلق عليه اسما مصنوعا من أوله إلى آخره، على شيء أيا كان، قد يكون مستهديا بتوافق نفسي، بين الأصوات والشيء نفسه. هذا إلى أن كلمة: "كوداك" متمشية، مع قواعد اللغة التصويرية، فالسواكن تحتوي على نفس الحركة الصوتية، والحركات فيها نفس الجرس، الذي لآلة التصوير. وهذه الكلمة تعد على درجة من حسن الصياغة، تجعلنا نتساءل عما إذا كان في الإمكان، صياغتها على غير ما هي عليه. ولعل القدرة على خلق الكلمات، ليست إلا نوعا من الخداع. وهذه النتيجة تؤدي بنا إلى القاعدة اللغوية الكبرى، التي تقول: إن اللغات تسير على تحوير العناصر الموجودة، لا على الخلق، وهذا هو أول مبادئ النحو المقارن. والمبدأ الثاني: هو أنه ليس ثمة بين الاصطلاح اللغوي، والشيء الذي وضع له هذا الاصطلاح، أية علاقة طبيعية، وإنما هي علاقة تقاليد. وهذا معناه أنه ليس هناك ارتباط طبيعي بين الاسم والمسمى، فالضمائر: "أنا" و"أنت"، و"هو" مثلا، ليس فيها شيء يدل بذاته، على أحد الأشخاص الثلاثة، وإنما تستعمل لأنه في جماعة بشرية ما، جرت التقاليد بأن تستعمل تلك الصيغ. ومن ثم نرى أكثر علماء اللغة حنكة، عاجزًا كغيره من الناس، أمام خطبة أو نص مكتوب بلغة مجهولة جهلا تاما. فكثير من "كلماتنا، رموز تقليدية. ونحن نكتسب معاني هذه الكلمات، في طفولتنا المبكرة، ولكن بطريق التعلم؛ إذ لا يوجد في اللفظ ما ينبئ عن المدلول. فبالإضافة إلى عدم وجود أية علاقة بين كلمة "منضدة" وما تدل عليه مثلا، هناك شيئان يعارضان افتراض وجود أية علاقة طبيعية بينهما مهما كانت هذه الصلة غامضة، الأول: يتمثل في تنوع الكلمات، واختلافها في اللغات المختلفة. والثاني: يتبلور في الحقائق

التاريخية، فلو كانت معاني الكلمات كامنة في أصواتها، لما أمكن أن تتغير هذه الكلمات في لفظها ومدلولها، تغيرا يستحيل ربطه بالوضع الأصلي لها"1. ويتضح من هذا كله وضوحا كاملا "أن القيمة التي يدل عليها الرمز، تتم بطريق التحكم والفرض، وأنه ليس هناك أي رابطة فطرية بين اللفظ ومدلوله. ولو صح الافتراض القائل بوجود علاقة فطرية بينهما، لكان حتما أن يتكلم الناس لغة واحدة، ولكن الأمر على غير ذلك، فكلمة: dog في اللغة الإنجليزية: يقابلها: chien الفرنسية، perro الإسبانية Hund الألمانية وinu اليابانية. "اللغة المتكلمة تعتمد إذن على الاصطلاح، والاتفاق الجماعي، مهما قل عدد أفراد الجماعة اللغوية. وهذا يضع اللغة حتما في قائمة الرموز، مثل عملة النقد الورقية، التي ترمز إلى قيمة شرائية معينة، وتعتمد في قيمتها على العرف والاتفاق بين أفراد المجتمع، لا على قيمتها الذاتية"2. والأشياء هي الأشياء، فلا يغير من حقيقتها التعبير عنها برموز لغوية مختلفة. وقد صدق "شكسبير" حين وضع على لسان "جولييت" هذه العبارة: "ماذا في اللفظ؟ إن ما نسميه: وردة، سوف يحتفظ برائحته الزكية، فيما لو سميناه باسم آخر"3. وتنتقل اللغات عموما بأحد طريقين:

_ 1 انظر: دور الكلمة في اللغة 70، 71. 2 انظر: أسس اللغة لماريوباي 41. 3 انظر: دور الكلمة في اللغة لأولمان 83.

الأول: باستعمال الأطفال لها في الحديث، إذ يتمثلون لغة ممحيطهم، أي لغة الهيئة الاجتماعية، التي ينتمون إليها. الثاني: بتعلم الفرد لغة أخرى، علاوة على لغته الأولى، فإنه يكون عرضة لأن يدخل في لغته الأصلية، بعض عناصر اللغة الثانية، وينتهي الأمر بمواطنيه، الذين يجهلون اللغة الثانية، إلى أن يستخدموا تلك العناصر في استعمالهم العادي. وإنه لمن المعترف به اليوم، أن الاستعارة تلعب دورا هاما في نمو اللغات، وهي ليست ظاهرة شاذة، بل عادية كثيرة الحدوث، مثلها مثل انتقال اللغات من الآباء إلى الأبناء. والمشكلة التي تعرض لمؤرخ اللغة، هي أنه ما دامت اللغات لا تخلق بل تغير، وما دامت العبارة اللغوية تقليدية، فإن من الواجب أن نميز في الاتفاقات، التي توجد بين لغتين أو أكثر، بين ما يعد منها نموا ذاتيا، وما يفترض قيام تقليد مشترك بين تلك اللغات، فمن الممكن أن يكون التوافق بين مفردات منعزلة، نتيجة للمصادفة البحتة، كما أنه من الممكن أن يكون ذلك نتيجة لاستعارة اللغتين من لغة واحدة. ولكن مجموعة الاتفافات في الصيغ النحوية، تدل على وحدة الأصل دلالة قاطعة. واللغات في الواقع دائمة التغير. والتغيرات تنتج أولا عن الطريقين اللذين تنتقل اللغات بواسطتها، ففي كل مرة يتعلم الأطفال الكلام، تختلف اللغة التي يثبتون عليها عن لغة محيطهم. وهذه الاختلافات على صغرها في كل مرة تتجمع بتعاقب الأجيال. ومن جهة أخرى تستعير اللغات عن غيرها، وتلك العاريات تتجمع هي الأخرى. وثمة تغييرات أخرى تنتج عن مجرد استخدام اللغة، فالعنصر اللغوي الذي يستعمل، يصبح استعماله أكثر سهولة على المتكلم، وأكثر إلفا، ومن ثم أقل دلالة، وأسرع تغيرا، والاستخدام يبلى، كما يقولون!

والمبادئ الأساسية في المنهج المقارن، منها كذلك، مبدأ مضمونه أن التغيير لا يحدث على نحو مشتت غير مطرد، بل يحدث وفقا لقواعد ثابتة، يمكن أن نصوغها في دقة، إذا تناولنا لغة ما في عصرين متتابعين من تاريخ تطورها، وأن التغير يحدث على نحو مستقل متميز، في كل عنصر من عناصر اللغة الثلاثة: الصوت، والصيغة، والدلالة. والقوانين الصوتية تعبر عن علاقة بين حالتين متتابعتين للغة واحدة، في وسط اجتماعي معين، فهو ليس قانونا عاما شبيها بقوانين علم الطبيعة أو الكيمياء. والقانون الصوتي يفترض تغيرا، ولكنه لا يبصرنا بسبب ذلك التغير. وإذا عرضنا للصيغ النحوية، في فترتين متتابعتين من تاريخ اللغة، نجد اتفاقات ومقابلات مطردة. أما المفردات فلكل كلمة منها حياتها المستقلة، فالتغييرات التي تصيب كلمة ما، خاصة بتلك الكلمة، فإن أصابت غيرها، لم يعد ذلك بعض الكلمات المشابهة لها في المعنى، أو في الصيغة.

الفصل الثاني: في أصوات اللغة

الفصل الثاني: في أصوات اللغة 1- الأصوات الشفوية:

أصوات الصفير والأصوات الإنسانية

2- أصوات الصفير والأصوات الإنسانية:

غير، وتطور إلى الشين في العربية الشمالية والحبشية والأكادية، وإلى السين في الآرامية والعبرية في عصورها المتأخرة [ويشبه ذلك في العربية المتأخرة، ما لو أدينا النطق العامي لزاي في كلمتين مختلفتي الأصل في النطق؛ مثل: ذنب وزينب] . أما الشين السامية القديمة، فقد بقيت كما هي السامية الشمالية "العبرية والآرامية والأكادية". أما السامية الجنوبية "العربية والحبشية"، فقد تحولت الشين فيها إلى سين. وقد نشأت شين جديدة من الثاء في كل من العبرية والأكادية. وقد تحدث "برجشتراسر" عن صوتي السين والشين؛ فقال: "وأما السين والشين، فكانتا في الأصل ثلاثة أحرف: سينا وشينا، وثالثا لا نعرف نطقه الأصلي تماما، وربما كان شينا جنبية، مخرجها من حافة اللسان، أو شجرية. أما الجنبية فتوجد في بعض اللهجات اليمانية الدارجة كالمهرية. أما الشجرية فتشبه حرف ice في اللغة الألمانية. "والنسبة بين هذه الأحرف الثالثة الأصلية، وبين الحرفين المذكورين في العربية، غريبة جدا؛ فإنا نجد السين بقى نطقها على ما كان عليه والشين الأصلية صارت سينا عربية.

الأصلية في بعض الكلمات، والشين في بعضها. والشين العربية نشأت من الشين الجنبية أو الشجرية1". هذا، ولم تبق أصوات ما بين الأسنان الثلاثة: الثاء والذال والظاء "وهي التي تتطلب إخراج اللسان بين الأسنان" إلا في العربية الشمالية والجنوبية: ونظرية السهولة والتيسير، واختصار الجهد العضلي، هي التي تفترض أصالة هذه الأصوات الثلاثة في السامية الأولى؛ لأن تعليل تطورها إلى غيرها، أسهل من تعليل تطورها من غيرها. وأمامنا اللهجات العربية الحديثة، تطورت فيها هذه الأصوات، إلى أصوات خلف الأسنان، كما حدث في اللغات السامية الأخرى تماما. حقا يوجد في العبرية والآرامية نطق الثاء والذال، غير أن ذلك فيهما فرع لفونيمي التاء والدال، في ظروف صوتية معينة، وهي أن يقع واحد منهما بعد حركة في مقطعه؛ فاختلاف النطق هنا لا يترتب عليه اختلاف المعنى. وهذا التطور حادث متأخر في العبرية والآرامية؛ إذ تخضع أصوات "بجد كيت" فيهما للسياق الصوتي، فهي انفجارية "كما هو الأصل فيها" إذا وقعت في أول الكلمة أو بعد سكون، فإذا وقعت بعد حركة تحولت إلى نطق احتكاكي: ف غ ذ خ ف ث

_ 1 التطور النحوي 24.

_ 1 فقه اللغات السامية 50. 2 انظر كذلك ما كتبه نولدكه عن هذه النقطة في كتاب: اللغات السامية 48-49. 3 انظر أمثلة أخرى لهذا النوع من المخالفة في الآرامية، في كتاب "رايت" w wright, Lectures

صوت الجيم

3- صوت الجيم:

_ 1 انظر: التطور اللغوي مظاهره وعلله وقوانينه 92-94.

الكاف والقاف

4- الكاف والقاف: هذان الصوتان من أصوات أقصى الحنك واللهاة، قد بقيا على الأصل فيهما في جميع اللغات السامية.

_

أصوات الحلق

5- أصوات الحلق: نطلق هذه التسمية هنا على: الهمزة والهاء، والعين والحاء، والغين والخاء، وهي تسمية اللغويين العرب القدامى، وإن كانوا يخصون الهمزة والهاء بأقصى الحلق، والعين والحاء بأوسطه، والغين والخاء بأدناه. غير أن الدراسات الصوتية الحديثة، أثبتت أن الهمزة والهاء يخرجان من الحنجرة، والغين والخاء من الطبق "وهو سقف الحنك الرخو"، وأن الذي يخرج من الحلق هو العين والحاء لا غير. أما الهمزة في العربية، فلم تكن اللهجات العربية القديمة على سواء في نطقها؛ إذ كانت البيئة البدوية "تميم وما جاورها" هي وحدها التي تحقق نطق الهمزة، أما البيئة الحجازية "قريش وما جاورها" فكانت تسهل الهمزة، أي تترك نطقها في غير أول الكلمة. وقد أخذت العربية الفصحى تحقيق الهمزة من تميم. قال أبو زيد الأنصاري: "أهل الحجاز وهذيل، وأهل مكة والمدينة، لا ينبرون، وقف عليها عيسى بن عمر، فقال: ما آخذ من قول تميم إلا بالنبر، وهم أصحاب النبر. وأهل الحجاز إذا اضطروا نبروا. وقال أبو عمر الهذلي: قد توضيت، فلم يهمز وحولها ياء، وكذلك ما أشبه هذا من باب الهمز"1. و"النبر" في الكلام السابق هو: الهمز" قال ابن منظور2: "والنبر همز الحرف، ولم تكن قريش تهمز في كلامها. ولما حج المهدي قدم الكسائي يصلي بالمدينة، فهمز، فأنكر أهل المدينة عليه، وقالوا: تنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن؟! ". وما حدث للهمزة في اللهجة الحجازية العربية، حدث مثله تماما في اللغتين: العبرية والآرامية؛ إذ تسقط فيهما الهمزة في غير أول الكلمة في

_ 1 انظر: مقدمة لسان العرب، لابن منظور 1/ 41. 2 لسان العرب "نبر" 7/ 40 وانظر الخبر في كلام عن الهمز كذلك في غريب الحديث لابن قتيبة 2/ 633 وانظر كذلك: فصول في فقه العربية 83.

الأصوات المائعة

6- الأصوات المائعة:

الفصل الثالث: أبنية الفعل

الفصل الثالث: أبنية الفعل 1- الوزن الأصلي "مجرد الثلاثي":

_ 1 Gesenius, Hebraische Grammatik 125. 2 فقه اللغات السامية لبروكلمان 45. 3 Brockelmann, Grundriss I 101.

وزن فعل

2- وزن فعل

وزن فاعل

3- وزن فاعل:

_ 1 سفر أيوب 9/ 15.

وزن السببية

4- وزن السببية:

_ 1 A. Bertsch, Hebraische Grammatik 50.

وزن المطاوعة بالتاء

5- وزن المطاوعة بالتاء:

_ 1 انظر تفصيل ذلك في كتابنا: لحن العامة والتطور اللغوي 331

المطاوعة البنون

المطاوعة البنون ... 6- المطاوعة بالنون:

المبني للمجهول

7- المبنى للمجهول:

_ 1 انظر: التطور النحوي لبرجشتراسر 141.

أبنية أخرى

8- أبنية أخرى:

الفصل الرابع: أدوات التعريف والتنكير

الفصل الرابع: أدوات التعريف والتنكير

_ 1 تاريخ الطبري 1/ 36. 2 تاريخ الطبري 2/ 46. 3 تاريخ الطبري 4/ 356. 4 وهي العبارة التي تحولت على ألسنة الناس اليوم، فصارت "عمنول". انظر كتابنا: لحن العامة والتطور اللغوي 136.

_ 1 C.Rabin, Ancient West-Arabian 35.

_ 1 التطور النحوي 143.

_ 1 انظر التفصيل في كتابنا: فصول في فقه العربية 128 - 130.

_ 1 فقه اللغات السامية 103.

_ 1 ديوان المتلمس ق 1/ 10 ص30. 2 الخصائص لابي جني 2/ وديوان المتلمس 30 - 31. 4 المنصف 1/ 69. 5 الخصائص 3/ 65. 6 الخصائص 3/ 240.

وينفي السهيلي ما شاع عند النحاة، من أن التنوين في الأسماء المعربة للتمكين، وإن كان يعده علامة الانفصال، فيقول: "التنوين علامة للانفصال، وإشعار بأن الاسم غير مضاف إلى ما بعده ولا متصل به، وليس دخول التنوين في الأسماء علامة للتمكن، كما ظنه قوم"1. ودخول التنوين "وهو للتنكير كما ذكرنا من قبل" في الأعلام العربية، مثل: "محمد" و"علي"، أمر صعب التفسير؛ لأن العلم معرفة، كما نعلم. غير أنه يمكن أن يكون في كل علم شيء من الشيوع، وإن كان أقل من شيوع النكرة؛ إذ كثيرون يسمون بمحمد وعلي وغيرهما، فالتنوين في الأعلام للدلالة على هذا الشيوع النسبي، ولذلك نراه يزول عندما يوصف العلم بكلمة: "ابن"؛ لأن الدائرة قد ضاقت بهذا الوصف، وأصبح العلم محددا غاية التحديد، ببيان النسب، ولذلك لا يدخله التنوين في هذه الحالة، فيقال مثلا: "محمد بن علي" وما أشبه ذلك. وقد أحس ابن جني بهذا التنكير النسبي في الأعلام، فقال: "التنوين دليل التنكير ... فإن قلت: فإذا كان الأمر كذلك، فما بالهم نونوا الأعلام، كزيد وبكر؟ قيل: جاز ذلك؛ لأنها ضارعت بألفاظها النكرات؛ إذ كان تعرفها معنويا لا لفظيا؛ لأنه لا لام تعريف فيها ولا إضافة"2. وليس حذف التنوين من العلم الموصوف بابن هنا، بسبب التقاء

_ 1 أمالي السهيلي 24. 2 الخصائص 3/ 240.

_ 1 الاقتراح السيوطي 52.

الفصل الخامس: التذكير والتأنيث

الفصل الخامس: التذكير والتأنيث

بين اللفظة والعلامة، للتوكيد وحرصا على البيان، فقالوا: كبش ونعجة، وبلد ومدينة"1. ومثل ذلك يلاحظ في اللغات الهندوأوربية كذلك، ففي الإنجليزية مثلا: son "ابن" في مقابل: daughter "ابنة"، وكذلك brother "أخ" في مقابل: sister "أخت". ومثل ذلك في الألمانية: Sohn "ابن" في مقابل: Tochter "ابنة" وكذلك Bruder "أخ" في مقابل:Schweser "أخت".. وهكذا. غير أن هناك أشياء لا صلة لها بالجنس الحقيقي على وجه الإطلاق، مثل الجمادات كالحجر والجبل، والمعاني كالعدل والكرم، وغير ذلك، فمثل هذه الأمور لا يلحظ فيها تذكير ولا تأنيث، بالمدلول الحقيقي الطبيعي لهاتين الكلمتين. وكان ذلك -فيما يبدو- هو السبب الذي جعل بعض اللغات تقسم الأسماء الموجودة فيها إلى ثلاثة أقسام: مذكر ومؤنث، وقسم ثالث هو ما يسمى في اللغات الهندوأوربية بالمحايد "Neuter"، وهو في الأصل ما ليس مذكرا ولا مؤنثا. ولكن اللغات البشرية، لم تسر كلها هذا الشوط على نمط واحد، فقد وزعت اللغات السامية مثلا، أسماء القسم الثالث، وهو المحايد، على القسمين الآخرين، وصارت الأسماء فيها إما مذكرة وإما مؤنثة. ويقول المستشرق "رايت" W. Wright: "اعتبر خيال الساميين النشيط كل الأشياء -حتى تلك التي لا حياة فيها- ذات حياة وشخصية"2.

_ 1 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي 1/ 31. 2 Lectures on the Comparative Grammar 131.

ومثل ذلك حدث في اللغة الفرنسية؛ إذ ليس في أسمائها إلا التذكير والتأنيث، "وكانت الإنجليزية في ذلك أوغل من الفرنسية، فقد كانت الإنجليزية القديمة، تميز في الأداة ثلاث صيغ مختلفة للأجناس الثلاثة المختلفة: thact seo , se بل كانت تحتوي على تصريف كامل للأداة، فيه أربع حالات مختلفة لكل فرع من فروع العدد، ولكنها ما لبثت أن بسطت هذا التصريف إذ إنها قالت أولا في حالة الرفع بتأثير القياس: theo the theat، ثم جمعت بين المذكر والمؤنث في صيغة واحدة the، وأخيرا أسقطت المبهم "ويقصد به المحايد"، فلم يبق لها في المفرد إلا صيغة واحدة، وفضلا عن ذلك كانت هذه الصيغة هي صيغة الجمع، ولما فقدت الأداة تصرفها، حرمت اللغة من التعبير عن الجنس؛ لأن الصفة من جهتها صارت مجردة من التصريف"1. وقد فطن بعض العلماء إلى أن التذكير والتأنيث في اللغة من خصائص الحيوان وأن إطلاقه على غير ذلك يكون على سبيل المجاز، فقال ابن رشد: "والتذكير والتأنيث في المعاني إنما يوجد في الحيوان، ثم قد يتجوز في ذلك في بعض الألسنة، فيعبر عن بعض الموجودات بالألفاظ، التي أشكالها أشكال مؤنثة، وعن بعضها بالتي أشكالها أشكال مذكرة. وفي بعض الألسنة ليس يلفى فيه المذكر والمؤنث شكل خاص، كمثل ما حكي أنه يوجد في لسان الفرس، وقد يوجد في بعض الألسنة أسماء هي وسط بين المذكر والمؤيث، على ما حكي أنه يوجد كذلك في اليونانية"2.

_ 1 انظر: اللغة لفندريس 130. 2 تلخيص الخطابة 569.

وقد أهملت بعض اللغات ناحية التذكير والتأنيث تماما، وقسمت الأسماء فيها إلى أسماء أحياء وأسماء جمادات، "ومثل ذلك مجموعة البانتو في جنوب إفريقيا، ففي هذه اللغات يراعي المتكلم في صيغ الأسماء التفرقة بين الجي والجماد"1. وكذلك "لغة الألجونكين algonquin تميز بين جنس حي وجنس غير حي"2. ويقول بروكمان: "وفي اللغات البدائية، ليس هناك نوعان فحسب من الجنس، كما في اللغات السامية ولا ثلاثة أنواع كما في اللغات الهندوأوربية، بل فيها غالبا أنواع كثيرة، يفترق بعضها عن بعض نحويا، وتتوزع فيها كل أشياء العالم المحسوس. ويرجع هذا التوزيع في الأساس، إلى تأملات لاهوتية، أو بتعبير أحسن تأملات خرافية، على قدر ما يبدو للرجل البدائي، أن العالم كله من الأحياء"3. وهذه التأملات الخرافية، التي يتحدث عنها بروكلمان، توجد كذلك في اللغات التي قسمت الأسماء فيها إلى مذكر ومؤنث؛ إذ إننا لا نجد في كثير من الأحيان صلة عقلية منطقية، بين الاسم وما يدل عليه من تذكير أو تأنيث. والدليل على فقدان هذه الصلة العقلية، أن من اللغات ما يعد بعض الكلمات مؤنثا، وهي مذكرة في لغات أخرى، والعكس بالعكس، فمثلا تعد اللغة العربية: "الخمر" و"السن" و"السوق" كلمات مؤنثة، في حين تعدها اللغة الألمانية مذكرة، فهي فيها كما يلي: der Markt der Zahn der Wein. كما تعد اللغة العربية أيضا: "الصدر" و"الأنف"

_ 1 من أسرار اللغة 91. 2 اللغة لفندريس 131. 3 فقه اللغات السامية 95.

و"اللسان" كلمات مذكرة، وهي على العكس، من ذلك مؤنثة في الألمانية، فهي فيها: die Zunge die Nase die die Brust. وحتى تلك اللغات التي تفرق بين المذكر والمؤنث والمحايد، كالألمانية، نلحظ فيها هي الأخرى، فقدان هذه الصلة العقلية المنطقية، فالحجر der Stein والمطر der Regen مذكران في الألمانية، مع أنه لا أثر فيهما للتذكير الحقيقي، وكان أولى بهما أن يكونا في قسم المحايد. وكذلك العالم die Welt والباب die Tur مؤنثان في الألمانية، ولا نرى فيهما أثرا من آثار التأنيث الحقيقي. وقد ترتب على فقدان هذه الصلة العقلية بين الاسم ومدلوله الجنسي، أن يهتز هذا المدلول في أذهان أصحاب اللغة أنفسهم، فهناك من يظن أن كلمة: "مستشفى" مثلا مؤنثة، مع أنها مذكرة، ويظهر أن تأنيثها قد جاء قياسا على الكلمة الأخرى: "إسبيتالية" المستعارة من اللغات الأوربية. وكذلك كلمة "السَّلْم" يظن كثير من الناس أنها مذكرة، وهي مؤنثة، كما جاء في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 8، 61] . وهذا هو السر في أن كثيرا من الكلمات التي تسمى بالمؤنثات السماعية في اللغة العربية -وهي التي تخلو من علامات التأنيث- قد روي لنا فيها التذكير كذلك. وينسب ذلك في بعض الأحيان، إلى مختلف القبائل العربية، نحو قول أبي زيد: "أهل تهامة يقولون: العُضُد والعُضْد، والعُجُز والعُجْز، ويؤنثونهما. وتميم تقول: العَجُز والعَضُد ويذكرون"1.

_ 1 انظر: الغريب المصنف 361/ 2.

_ 1 Brockelmann, Grundriss I 405. 2 سر صناعة الإعراب 1/ 165 وانظر كذلك: كتاب سيبويه 2/ 13؛ 2/ 82؛ 2/ 348 والخصائص 1/ 200 والاقتراح 82 وابن يعيش 10/ 39.

وهذه الفكرة الخاطئة هي إحدى نتائج الجهل باللغات السامية، يقول في ذلك برجشتراسر: "وذكر الزمخشري أن التاء في الأخت والبنت أبدلت من الواو، وذلك أنه ظن أن مادتهما: أخو وبنو، وأن التاء أصلية لام الفعل قامت مقام الواو، ونحن نعرف أن الأخ والابن من الأسماء القديمة جدا، التي مادتها مركبة من حرفين فقط، لا من ثلاثة أحرف، وأن التاء وإن لم تسبقها فتحة هي تاء التأنيث، فهي في غير اللغة العربية، وخصوصا في الأكادية والعبرية، كثيرا ما لا فتحة قبلها"1. وقد بقيت تاء التأنيث، كما هي في الآشورية والحبشية، في حالتي الوصل والوقف. أما في اللغة العربية، فإنه تقلب هاء في حالة الوقف، فيقال عند الوقف: كبيره وصغيره، ولحيه، وبقره. ونحن عندما نقول: إن التاء تقلب هاء، إنما ننظر إلى النتيجة النهائية، لا إلى التطور الصوتي، فإنه ليس ثمة علاقة صوتية بين التاء والهاء، وإنما تطور المسألة أن التاء سقطت حين الوقف على المؤنث، فبقي المقطع السابق عليها مفتوحا ذا حركة قصيرة. وهذا النوع من المقاطع، تكرهه العربية في أواخر الكلمات، فتتجنبه بإغلاق المقطع عن طريق امتداد النفس بهاء السكت. وهكذا يبدو الأمر كما لو أن تاء التأنيث قد قلبت هاء، على أن الحقيقة هي أن التاء قد سقطعت لعلة، وأن الهاء قد جاءت لعلة أخرى! فليس بينهما تبادل صوتي، كما ترى!. ولأن هذه التاء تقلب هاء في الوقف -كما ذكرنا- رسمت في الإملاء العربي على صورة الهاء، فإن كل كلمة تكتب في الخط العربي، كما ينطق بها

_ 1 التطور النحوي 51.

وقد انتقلت حالة الوقف إلى الوصل كذلك ي بعض اللهجات العربية القديمة؛ فقد روي لنا الفراء أن الوقف على هاء التأنيث في الوصل لغة

_ 1 شذ على هذه القاعدة بعض كلمات الخط الذي كتب به المصحف العثماني؛ مثل كلمة: يبنوم=ياابن أم، وكذلك بعض الكلمات المؤنثة؛ إذ كتبت بالتاء المفتوحة في بعض التراكيب الإضافية وبالهاء=التاء المربوطة في بعضها الآخر؛ مثل: "رحمة" التي كتبت: "رحمت" في: البقرة 2/ 218 والأعراف 7/ 56 وهود 11/ 73 ومريم 19/ 2 والروم 30/ 50 والزخرف 43/ 32 وكذلك: "نعمة" التي وردت في عشرة مواضع من القرآن بالتاء المفتوحة "نعمت" في تراكيب إضافية، كما أن: امرأة، ومعصية، وغيابة، ومرضاة، وفطرة، وابنة، وبقية، قد وردت في جميع تراكيبها الإضافية في القرآن بالتاء المفتوحة. أما الكلمات: سنة، وكلمة، ولعنة، وشجرة، وقرة وجنة، فقد وردت في القرآن بالتاء المفتوحة في بعض التراكيب الإضافية، وبالهاء في بعضها الآخر. 2 في رسالته "علم الخط" ضمن كتاب: التحفة البهية والطرفة الشهية 54 كما يقول السيوطي أيضا في الإتقان 2/ 166: "القاعدة العربية أن اللفظ يكتب بحروف هجائية مع مراعاة الابتداء به والوقوف عليه". ويقول ابن الحاجب "شرح الشافية 3/ 315": "والأصل في كل كلمة أن تكتب بصورة لفظها، بتقدير الابتداء بها والوقف عليها". 3 هذا كما يرى بروكلمان "Grundriss I 409". ويشك "موسكاتي" S. Moscati في صحة هذا الرأي؛ انظر كتابه: An introduction 85.

_ 1 معاني القرأن الكريم 1/ 388. 2 كتاب سيبويه 2/ 213. 3 المقتضب 1/ 63.

ويقول الشيخ بهاء الدين بن النحاس في التعليقة على المقرب: "أجمع النحاة على أن ما فيه تاء التأنيث، يكون في الوصل تاء وفي الوقف هاء، على اللغة الفصحى. واختلفوا أيهما بدل من الأخرى، فذهب البصريون إلى أن التاء هي الأصل، وأن الهاء بدل عنها. وذهب الكوفيون إلى عكس ذلك. واستدل البصريون بأن بعض العرب يقول التاء في الوصل والوقف، كقوله: الله نجاك بكفى مسلمت ولا كذلك الهاء، فعلمنا أن التاء هي الأصل، وأن الهاء بدل عنها، وبأن لنا موضعا، قد ثبتت فيه التاء للتأنيث بالإجماع، وهو في الفعل، نحو: "قامت" و"قعدت"، وليس لنا موضع قد ثبتت الهاء فيه، فالمصير إلى أن التاء هي الأصل أولى، لما يؤدي قولهم من تكثير الأصول. واستدلوا أيضا بأن التأنيث في الوصل الذي ليس بمحل التغيير "بالتاء"، والهاء إنما جاءت في الوقف، الذي هو محل التغيير، فالمصير إلى أن ما جاء في محل التغيير هو البدل، أولى من المصير إلى أن البدل ما ليس في محل التغيير"1. والأصل في دخول التاء على الأسماء في اللغة العربية، إنما هو تمييز المؤنث من الذكر. وقد ذكر الأشموني حالات أخرى، تدخل فيها التاء على الأسماء لغير التأنيث. ومن هذه الحالات:

_ 1 انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي 1/ 46 كما يقول ابن جني "المنصف 1/ 159": "ولمعترض أن يقول: ما تنكر أن تكون الهاء هي الأصل، وأن التاء في الوصل إنما هي بدل من الهاء في الوقف؟ فالجواب عن ذلك أن الوصل من المواضع التي تجري فيها الأشياء على أصولها، وأن الوقف من مواضع التغيير والبدل". وانظر كذلك: المنصف 1/ 161 وشرح ابن يعيش 5/ 89 وشرح الشافية 2/ 288.

1- تمييز الواحدة من الجنس؛ نحو: تمر وتمرة، ونخل ونخلة. 2- المبالغة؛ نحو رواية. 3- تأكيد المبالغة؛ نحو: علّامة ونسّابة. 4- معاقبة ياء مفاعيل؛ نحو: زنادقة. فإذا جيء بالياء لم يؤت بالتاء فيقال: زناديق. 5- الدلالة على النسب؛ نحو: أزرقي وأزارقة. 6- الدلالة على تعريب الأسماء المعجمة؛ نحو: كيلجة وكيالجة، وهو مقدار معروف من الكيل. 7- تكثير حروف الكلمة؛ نحو: قرية البلدة. 8- التعويض عن فاء الكلمة أو عينها أولامها؛ نحو: عِدَة، وإقامة، وسَنَة. 9- التعويض عن مدة تفعيل؛ نحو تزكية وتنمية. وأما العلامة الثالثة للتأنيث، وهي الألف المقصورة، فتوجد في اللغة العربية على الأخص، في صيغة: "فُعْلَي" مؤنث: "أفعل" الدال على

_ 1 شرح الأشموني على ألفية ابن مالك 4/ 97. 2 Brockelmann. Grundriss I 410.

وهاتان العلامتان الثانية والثالثة من علامات التأنيث، قد زالتا تقريبا من بعض اللهجات العربية الحديثة، وحلت محلها تاء التأنيث؛ فنحن نقول في: حمراء وبيضاء وصحراء وعمياء وميناء: حمره وبيضه وصحره وعميه ومينة، وكما نقول في: حُبلى وسَلمى وخُبَّازَى وعَدْوى وفَتْوى: حِبْله وسَلْمَه وخُبَّيزه وعَدْوَى وفَتْوَه. وقد حدث مثل ذلك في لهجة الأندلس العربية، في القرن الرابع الهجري؛ فقد ذكر أبو بكر الزبيدي في كتابه: "لحن العوام" أن الأندلسين كانوا يقولون في عصره: مِينَه وحَلْوَه ودِفَله وحُبَارَه، في: ميناء وحلواء ودِفْلَى وحُبارى. والسر في زوال هاتين العلامتين، وحلول العلامة الأولى، وهي التاء، محلهما، هو ميل اللغة إلى أن تسير في طريق السهولة والتيسير؛ فبدلا من أن

_ 1 Brockelmann, Grundriss I 410. 2 انظر كذلك: التطور النحوي لبرجشتراسر 115.

يكون للتأنيث ثلاث علامات، تصبح في اللغة علامة واحدة لكل أنواع المؤنث. ونلحظ مثل هذا في لغة الطفل، الذي يميل إلى أن يؤنث المؤنث بالتاء وحدها؛ لأنها هي العلامة الكثيرة الشيوع في لغة الكبار من حوله، فنراه يقول مثلا: "قلم أحمر وكراسه أحمره". وهو يحتاج إلى بعض الوقت، حتى يدرك أن هناك صيغا أخرى للتأنيث. ويرى بعض الباحثين المحدثين، أن الألف المقصورة والممدودة في العربية، تطور عن تاء التأنيث في السامية الأولى. والسبب في هذا ما رآه من تطور هذه التاء في العبرية والآرامية إلى ألف المد. والحقيقة أن وجود "الياء" فيما تبقى من أمثلة الألف المقصورة في العبرية والآرامية "التي عرضناها من قبل" يجعلنا نرى سلفا آخر للألف المقصورة، غير تاء التأنيث، هو "التاء". أي أننا نتصور أصل كلمة: "حُبْلَى" مثلا، على النحو التالي:

غير أن الفرق بين اللغتين أن العبرية، كتب خطها في أثناء المرحلة الوسطى، التي كانت تنطق فيها الهاء، على العكس من الآرامية، فقد كتب خطها في أثناء المرحلة الأخيرة، وكانت الهاء قد سقطت فيها من النطق. وما نراه في بعض نصوص المعاجم العربية، من ورد مثل: "خنفسة" و"خنفسا" و"خنفساء"1، لا يصح أن يكون ركاما لغويا، لظاهرة تطور تاء التأنيث إلى الألف المقصورة، كما قد يظن. بل هو على العكس، بداية لمرحلة جديدة من اندثار ألف التأنيث المقصورة والممدودة، وحلول التاء محلهما، وهي تلك المرحلة التي انتهت بمثل ما في كثير من اللهجات العربية المعاصرة، من ضياع هاتين العلامتين كما شرحنا ذلك من قبل. أي أن التطور سار في هذه الكلمة قديما على النحو التالي: خنفساء خنفسا خنفسة، كما حدث بعد ذلك في مثل: صحراء صحرا صحرة.. وغير ذلك. وفي اللغة العربية، تستغني عن علامة التأنيث مطلقا، تلك الصيغ التي تعبر عن الأحوال الخاصة بالمؤنث، والناتجة عن خصائص ذلك الجنس، مثل: حائض وعاقر وحامل وناهد ومعصر وكاعب وعانس وناشز. وتحتوي اللغات السامية فيما عدا ذلك على الكثير من الكلمات المؤنثة بلا علامة تأنيث، وهو ما يسمى بالمؤنثات السماعية، مثل: عين وأذن وعضد وكتف وذراع وقدم وكف وظفر وجناح وكبد وضلع وعقب ودلو وسوق وأرنب ونعل وضبع. وغير ذلك كثير في العربية2.

_ 1 انظر: القاموس المحيط "خنفس" "1/ 212. 2 حكي في بعض هذه الأمثلة التذكير كذلك. انظرها مع أمثلة أخرى في كتاب: "الإمتاع فيما يتوقف تأنيثه على السماع".

وقد حدث في بعض اللهجات العربية القديمة، مثل ذلك في بعض الكلمات؛ يقول الفراء: "والحال أنثى، وأهل الحجاز يذكرونها، وربما أدخلوا فيها الهاء2". ويسمى ابن خالويه ذلك تأكيد المؤنث؛ فيقول: "العرب تقول في تأكيد المؤنث، وإن لم يحسَّوا لَبْسًا: عَجُوزة وأتانة3". ومثل ذلك حدث في العامية المصرية، مع بعض المؤنثات السماعية؛ إذ يدخل عليها المصريون تاء التأنيث؛ فيقولون في. خمر وسِكّين وعقرب وكبِد وقِدْر مثلا: خمرة وسكينة وعقربة وكبدة وقدرة. كما فقدت بعض المؤنثات السماعية فكرة التأنيث في أذهان المصريين، وأصبحت تستخدم استخدام المذكر؛ مثل: ذراع وقدم وإصبع وظفر وسوق وضبع وأرنب. ولم يبق إلا القليل من هذه المؤنثات السماعية القديمة، الذي يرتبط في أذهاننا بفكرة التأنيث، مثل: رِجْل ويد وعين ونفس، وغير ذلك.

_ 1 انظر: فقه اللغات السامية لبروكلمان 95. 2 المذكر والمؤنث للفراء 93. 3 إعراب ثلاثين سورة 44.

الفصل السادس: إسناد الماضي إلى الضمائر

الفصل السادس: إسناد الماضي إلى الضمائر الغائب المفرد المذكر ... الفصل السادس: إسناد الماضي إلى الضمائر ليست اللواحق التي تتصل بالفعل الماضي، في اللغات السامية، للدلالة على جنس الفاعل وعدده، إلا بعض عناصر ضمائر الرفع المنفصلة في هذه اللغات، مع بعض التغييرات الطفيفة، التي تلحق شيئا منها في بعض الأحيان. وعلى هذا النحو يتصرف الفعل الماضي، في اللغات السامية، مع الضمائر المختلفة. وفيما يلي تفصيل القول في ذلك: 1- الغائب المفرد المذكر:

_ 1 انظر: Brockelmann, Grundriss I 570.

الجنوبية "السبئية والمعينية" التأكد من وجود هذه الفتحة؛ لأن خطها المسند، لا يظهر به سوى رموز الأصوات الصامتة1. وسقوط هذه الفتاحة القصيرة، من تلك اللغات، مرتبط بسقوط الحركات القصيرة، من أواخر كلمات هذه اللغات، ومن بينها حركات الإعراب. والسبب الرئيسي في هذه الظاهرة، فيما يبدو، هو شيوع الوقف بالسكون على أواخر الكلمات في اللغات السامية، كما هو معروف لنا في العربية الفصحى، في غالب الأحوال. ومن المعروف في التطور اللغوي، أن الظاهرة اللغوية، إذا كان لها وجهان، كان الاحتمال قائما في غلبة أحد الوجهين على الآخر، وهذا هو ما حدث هنا؛ فقد تغلبت حالة الوقف على حالة الوصل، فساد تسكين الأواخر وصلا ووقفا. وهو ما عبر عنه نحاة العربية بقولهم: "إجراء الوصل مجرى الوقف"2. والدليل على أصالة هذه الفتحة القصيرة، في آخر الماضي المسند للغائب المفرد، أنّا نراها مرة أخرى، في اللغات السامية الشمالية، قبل اتصال الفعل ببعض ضمائر النصب؛ ذلك لأن تلك الفتحة القصيرة، لن

_ 1 انظر: M. H?fner, Altsüdarabische Grammatik 67. 2 انظر: المفصل للزمخشري 342 والمنصف لابن جني 1/ 10 وإعراب القرآن المنسوب للزجاج 3/ 841.

ومثل ذلك حادث في الآرامية؛ إذ تظهر فيها الفتحة القصيرة في الأفعال المسندة إلى الغائب المذكر، قبل ضمائر النصب؛ وذلك مثل:

_ 1 انظر: Noldeke, Untersuchungen, ZDMG 38, 408. 2 سفر المزامير 118/ 13. 3 سفير صمويل الأول 7/ 12. 4 سفر إرميا 20/ 4. 5 سفر الأمثال 31/ 12. 6 انظر مثلا: سفير صمويل الأول 1/ 24.

_ 1 انظر: Brockelmann, Syrische Grammatik 144.

الغائبة المفردة المؤنثة

2- الغائبة المفردة المؤنثة:

_ 1 انظر ما سبق هنا في فصل: "التذكير والتأنيث". 2 وانظر أيضا: w. wright, Lectures 167.

_ 1 انظر: Gesenius, Hebraische Grammatik 127. وكذلك: O.htm'Leary, Comparative Grammar 242. وانظر أمثلة أخرى في: W. Wright, Lectures 167. 2 سفر التثنية 32/ 36.

جمع الغائبين

جمع الغائبين ... 3- جميع الغائبين:

_ 1 انظر: W. Wright, Lectures 168.

_ 1 انظر: Brockelmann, Syrische Grammatik 144. 2 انظر: Noldeke, Untersuchungen, ZDMG 38, 410. 3 اشتقاق أسماء الله للزجاجي 280. 4 وانظر أيضا: Gesenius, Hebraische Grammatik 128.

يراها "يراجشتراسر"1 صيغة مصنوعة، مقيسة على صيغة المضارع المسند للغائبين في الآرامية، وإن كان "رايت"2 يراها صيغة أقدم من غيرها، قياسا على نهاية جمع المذكر في الأسماء "una". أما تقصير الضمة الطويلة في العربية، في مثل قول الشاعر: فلو أن الأطبا كان حولي ... وكان مع الأطباء الأساة3 وقول الآخر: إذا ما شاء ضروا من أرادوا ... ولا يألو لهم أحد ضرارا4 فهو من ضرورة الشعر، وليس أمرا شائعا في اللغة، بدليل وروده جنبا إلى جنب، مع تطويل الضمة في البيت الثاني. وأما تلك الألف التي تكتب بعد الواو في العربية، في مثل: "قتلوا" و"كتبوا"، فهي ليست رمزا لصوت ما، وإنما هي للتفرقة بين واو الجماعة، وواو العطف، فيما يرى الأخفش5، فمثلا: "حضر وتكلم زيد" "لولا كتابة الألف بعد واو الجمع، لم يعلم أنه: حضروا تكلم زيد، بضم الراء وسكون الواو ومده، والواو للجمع، أو: حضر وتكلم زيد، بفتح الراء وفتح الواو، والواو للعطف. وإنما كتبت الواو فيما لا يلتبس؛ نحو: ضربوا؛ إذ واو العطف لا يتصل، لاطراد الباب6".

_ 1 Bergstrasser Hebraische Grmmatek 15. 2 W. Wright Lectures 168. 3 البيت بلا نسبة في خزانة الأدب 2/ 385 والعيني على هامش الخزانة 4/ 551 والحيوان للجاحظ 5/ 297 وأسرار العربية 317 وإيضاح الوقف 1/ 272 والأشباه والنظائر للسيوطي 3/ 280 ومعاني القرآن للفراء 1/ 91 ومجالس ثعلب 1/ 88 والإنصاف لابن الأنباري 235؛ 314؛ 448 وشرح شواهد الكشاف 54 وشرح ابن يعيش 7/ 5؛ 9/ 80 والدرر اللوامع 1/ 34. 4 البيت بلا نسبة في مغنى اللبيب 2/ 552 والإنصاف 235 ومعاني القرآن 1/ 91 وإيضاح الوقف 1/ 273 وشرح شواهد المغني 303 والدرر اللوامع 1/ 34. 5 أدب الكتاب للصولي 247 والأشباه والنظائر 2/ 139 ومقدمتان في علوم القرآن 161. 6 شرحان على مراح الأرواح 27.

جمع الغائبات

4- جمع الغائبات:

المخاطب المذكر

5- المخاطب المذكر:

_ 1 انظر: Brockelmann, Syrische Grammatik 144 وانظر كذلك: W. Wright Lectures 172.

_ 1 يرى "رايت" Lectures 171 على العكس من ذلك أن التاء والكاف في المخاطب أصلان قديمان في الساميات، بدليل وجود التاء في حالة الرفع، والكاف في حالتي النصب والجر. وقال بمثل ما نقول به الدكتور خليل نامي في: دراسات في اللغة العربية 50. 2 التطور النحوي، لبرجشتراسر 77. 3 انظر: التطور اللغوي مظاهر وعلله وقوانينه، للدكتور رمضان عبد التواب 68. 4 Dillmann, Grammatik der athiopischen Sprache 182.

وفي العربية والآرامية والعبرية، سار القياس في اتجاه آخر، فسادت التاء وحدها؛ إذ يقال في العربية مثلا: "قتلتُ/ قتلتَ/ قتلتِ"1. ولم يُرو لنا من صيغ الماضي للمخاطب والمتكلم، شيء في العربية الجنوبية2، ولذلك لا يجوز لنا القطع فيها بشيء، غير أن الهمداني روى لنا نقشا حميريا وجد على أحد القبور، وفيه: "أنا شمعة بنت مراثد كنك إذا وحمك"3 يعني: كنت إذا وحمت. كما روى لنا أبو حاتم السجستاني أنه "قال يماني مرة بلغته: سؤك به ظنا وأنابه عريف، يريد: عارف، وقلب التاء كافا"4. كما أن اللهجات اليمنية المعاصرة تنطق أحيانا بهذه الكاف لا في المفرد فحسب، بل في الجمع كذلك عن طريق القياس، فتقول مثلا: kulku "قلتُ" kulk "قلتَ" kulki "قلتِ" kulkum "قلتم" kulkin "قلتن"5. وقد روي لنا في العربية، شيء من هذا في القديم، فقد قال راجز في حمير: يابن الزبير طالما عصيكا وطالما عنيكنا إليكا

_ 1 انظر: فقه اللغات السامية لبروكلمان 118 والتطور النحوي 76. 1 انظر: M. Hofner Alsudarabische Gammatik. 3 الإكليل للهمداني 8/ 182. 4 فعلت وأفعلت لأبي حاتم 106 وانظر: الإبدال لأبي الطيب 1/ 142. 5 انظر: Prochazka The perfect tense ending "k" 439.

لنضربَن بسيفنا قَفَيْكا1 يعني: "عصيت" و"عنَّيتنا". وفي بدل البيت الثالث: لتُجْزَيَنَّ بالذي أتَيْكا2 وكان "سحيم" عبد بني الحسحاس، يرتضخ لكنة حبشية3: يروي عنه أنه "كان إذا أنشد شعرا جيدا، قال: أحْسَنْكَ والله! يريد: أحسنتَ4".

_ 1 الأبيات في خزانة الأدب 2/ 257 وشرح شواهد الشافية 4/ 425 والإبدال والمعاقبة 106 وأمالي الزجاجي 236 والصحاح "سين" 5/ 2141 ونوادر أبي زيد 105 وسر صناعة الإعراب 1/ 281 والممتع لابن عصفور 1/ 141 والتمام لابن جني 38 والعيني على هامش الخزانة 4/ 591 والأولان في المقرب لابن عصفور 2/ 182 ومغني اللبيب 1/ 153 والإبدال لأبي الطيب 1/ 141 2 الكامل لابن الأثير 4/ 23. 3 الكامل للمبرد 2/ 225. 4 انظر: سر صناعة الإعراب 1/ 281 والشعر والشعراء 1/ 408 والممتع لابن عصفور 1/ 241 والعيني على هامش الخزانة 4/ 519 والتمام لابن جني 38 ولكن النظر: العربية ليوهان فك 23.

المخاطبة المؤنثة

6- المخاطبة المؤنثة:

_ 1 انظر: W. Wright, lwctures 173. 2 سفر إرميا 2/ 20.

أما العربية الفصحى، فقد قصرت فيها الكسرة هنا، كما قصرت فتحة المخاطب المذكرة فيما سبق. غير أننا لا نعدم في الشعر والنثر القديم، أمثلة من الكسرة الطويلة، مع المخاطبة المؤنثة، كما في قول الشاعر: رَمَيْتيه فأقصدتِ ... وما أخْطَأتِ الرَّمْيَةْ4

_ 1 سفر صمويل الأول 19/ 17. 2 سفر إرميا 2/ 33. 3 سفر إرميا 31/ 20. 4 خزانة الأدب 2/ 401.

كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "أعصرتيه؟ " 1 ويروي سيبويه عن الخليل بن أحمد الفراهيدي، أن ناسا من العرب "يقولون: ضربتيه، فيلحقون الياء"2. وهذا أمر شائع جدا في اللهجات العربية الحديثة؛ إذ يقال مثلا: "كسرتيه" و"سمعتيه" وما أشبه ذلك.

_ 1 إعراب الحديث، للعكبري 48. 2 كتاب سيبويه 2/ 296.

جمع المخاطبين

7- جمع المخاطبين: الأصل في الماضي المسند إلى جمع المخاطبين أن يتصل باللاحقة "tumu" وهذه اللاحقة توجد كاملة في العربية الفصحى في الشعر، وقبل ضمائر النصب1، وكذلك قبل ألف الوصل2، فمثالها في الشعر قول جرير3: تراغيتم يوم الزبير كأنكم ... ضباع أصلت في مغار جعورها وقوله كذلك:4 تمنيتم أن تسلبوا القاع أهله ... كذلك المنى عرت جحيشا غرورها ومثالها قبل ضمير النصب قوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 24/ 16] وقوله عز وجل: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُون} [آل عمران: 3/ 143] وقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 60/ 10] .

_ 1 في شرح مراح الأرواح32: "فإن الضمائر مما يرد الأشياء إلى أصولها". 2 انظر كذلك: دروس في علم الأصوات، لكانتينو 190. 3 ديوان جرير 272. 4 ديوان جرير 295.

ومثالها قبل ألف الوصل قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 2/ 92] وقوله عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 4/ 84] وقوله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة: 56/ 71] .

_ 1 انظر: Praetorius, Aethiopische Grammatik 9. 2 انظر مثلا: سفر العدد 20/ 5.

جمع المخاطبات

8- جمع المخاطبات:

_ 1 وانظر كذلك: العربية الفصحى، لهنري فليش 165. 2 انظر: Gesenius, Hebraische Grammatik 182 وإن كان رايت "Lectures 174" يشك في هذه الكلمة. 3 سفر اموس 4/ 3.

المتكلم المفرد

9- المتكلم المفرد:

_ 1 Brokelmann, Grundriss I 573 ودراسات في فقه اللغة العربية 42. 2 يرى الدكتور محمد سالم الجرح -على العكس من ذلك- أن العنصر الجوهري لهذا الضمير، هو الكسرة الطويلة، وأن العبرية احتفظت بالأصل فيه! انظر مقالته: نظرة تحليلية، في مجلة مجمع اللغة العربية 22/ 62. 3 Brockelmann, Grundriss I 573.

وعلى ذلك تصبح العلاقة بين صيغتي الغائبة والمتكلم، في هذا النوع من الأفعال المعتلة الآخر، علاقةتقابل في الحركة التي تسبق التاء، فهي الفتحة في الغائبة، والكسرة الممالة في المتكلم، وقيس الفعل الصحيح في تصريفه على الفعل المعتل الآخر، على النحو التالي: غير أنه يبقى غامضا في تفسير أستاذنا شيتالر، سبب اختلاف سلوك الصوت المركب "ay" في حالة التكلم، عنه في حالتي المخاطب والمخاطبة!

_ 1 Zum Problem der Segolisierung im Aramaischen 194. 2 انظر: Brockelmann, Syrische Grammatik 139.

المتكلمون

10- المتكلمون:

_ 1 انظر: Brockelmann, Syrische Grammatik 145. 2 انظر: Brockelmann, Syrische Grammatik 145. وانظر كذلك: W. Wright, Lectures 177.

وفي العربية الجنوبية سادت لاحقة النصب والجر في المثنى، وهي الياء؛ فقيل فيها: ق ت ل ى "قتلا" في الغائبيْنِ، كما قيل: ق ت ل ت ى "قتلتا" في الغائبين1.

_ 1 انظر: M. Hofner, Altsuarabische Grammatik 67. وانظر كذلك: Brockelmann, Grundrissl 576.

_ 1 انظر: Von Soden, Grundriss 98 وانظر كذلك: S. Moscati, An Introduction 137 وانظر أيضا: O'Leary, Comparative Grammar 241 وفقه اللغات السامية لبروكلمان 122.

_ 1 انظر: Bergstrasser, Hebraische Grammatik ص 11.

الفصل السابع: الأفعال المعتلة

الفصل السابع: الأفعال المعتلة نعني بالأفعال المعتلة هنا، ما كان منها "أجوف"؛ مثل: قال، وباع، وخاف، وطال، أو "ناقصا"؛ مثل: دعا، وقضى، أو من نوع "اللفيف المقرون"؛ مثل: رَوَي، وهَوَى؛ فإن كل هذه الأفعال وما شابهها، بصورتها التي ذكرناها هنا، تعدّ آخر مرحلة من مراحل تطورها في اللغات السامية. وقد بقيت من هذه المرحلة، عدة أفعال في العربية؛ مثل: "عور" بمعنى: فقد إحدى عينيه، و"حَوِرَ"، والحَوَرَ: نقاء بياض العين واشتداد سوادها، "وهيف" بمعنى: "ضمر بطنه"، و"استحوذ" في مثل تعالى:

_ 1 Dillmann, Grammatik der athiopischen Sprache 163 - 165.

{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّه} [المجادلة: 58/ 19] ، و"استنوق الجمل"، وهو مثل عربي، يقال إن "طرفة بن العبد" هو أول من قاله، حين سمع "المتلمس" ينشد شعرا له، ويقول فيه: وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناج عليه الصيعرية مكدم والصيعرية: سمة للنوق، فجعلها المتلمس للجمل، وسمعه طرفة ينشد البيت فقال: استنوق الجمل، فضحك الناس، وسارت مثلا1. أما المرحلة الثانية في تطور هذه الأفعال المعتلة، فهي مرحلة التسكين، أو ضياع الحركة بعد الواو والياء للتخفيف، فيصبح الفعل على نحو: قول، وبيع، وخوف، وقضى، ورمى ... إلخ. وقد فطن العلامة "ابن جني" بحسه اللغوي، إلى ضرورة وجود هذه المرحلة في طريق تطور الأفعال المعتلة، فقال: "ومن ذلك قولهم: إن أصل قام: قوم، فأبدلوا الواو ألفا، وكذلك: باع، أصله: بيع، ثم أبدلت الياء ألفا، لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهو لعمري كذلك، إلا أنك لم تقلب واحدًا من الحرفين إلا بعد أن أسكنته استثقالا لحركته، فصار إلى: قوم وبيع"2. وقد بقيت هذه المرحلة عند قبيلة طيئ، فقد روي لنا عنها أنها تقول مثلا: "حبلى" و"أفعى" , "هدى" ما شابه ذلك في الوصل والوقف3. وأغلب الظن أن الراجز الذي قال:

_ 1 انظر: الصناعتين لأبي هلال العسكري 92. 2 الخصائص 2/ 417-472 وانظر كذلك: شرح مراح الأرواح 122 3 انظر: كتاب سيبويه 2/ 287 ومعاني القرآن للزجاج 1/ 87.

وفرج منك قريب قد أتى وزميله الذي قال: يمنعهن الله ممن طغى إنما كانا من شعراء هذه القبيلة كذلك1. ولعل هذه الظاهرة كانت شائعة عند قبيلة "هذيل" كذلك؛ لأنهم كانوا يضيفون المقصور إلى ياء المتكلم، في مثل: "هداي" و"هواي" وغيرهما، يقولون: هُدَىَّ "= هُدَيْ+ يَ"، وهَوَيَّ "= هَوَيْ+ يَ" وغير ذلك. وعلى لغتهم جاء قول أبي ذؤيب الهذلي: سبقوا هويَّ وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع2 كما أننا نلاحظ أن تسكين الوسط للتخفيف، روي لنا في العربية كثيرا، وقالوا عنه إنه "لغة بني بكر بن وائل، وأناس كثير من تميم"3، كما يروى عن قبيلة ربيعة كذلك4. ومن أمثلته قول القطامي: إذا هدرت شقاشقه ونشبت ... له الأظفار ترك له المدار5 وقول القطامي كذلك: ألم يخز التفرق جند كسرى ... ونفخوا في مدائنهم فطاروا6

_ 1 انظر: المنصف لابن جني 1/ 160 ومعاني القرآن للزجاج 1/ 87. 2 شرح ديوان الهذليين 1/ 7 وانظر: معاني القرآن للزجاج 1/ 87. 3 انظر: شرح شواهد الشافعية 4/ 15. 4 انظر: الصاهل والشاحج 440، 486، 666. 5 ديواه ق 29/ 57 ص86 وانظر البيت برواية أخرى في الصاهل والشاحج 440. 6 شرح شواهد الشافية 4/ 15 وفي ديوانه ق 29/ 39 ص83. "وأجلوا عن مدائنهم". وفي هامشة عن إحدى النسخ الخطية: "ونفخوا".

وقول الأخطل: وما كل مغبون ولو سلف صفقه ... براجع ما قد فاته برداد1 وقول الأخطل كذلك. فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل ... من الأدم دبرت صفحتاه وغاربه2 وقول الشاعر: وقالوا ترابي فقلت صدقتم ... أبي من تراب خلقه الله آدما3 وقول الآخر: فإن النبيذ الصرد إن شرب وحده على ... غير شيء أحرق الكبد جوعها4 وقول أبي خواش الهذلي: ولحم امرئ لم تطعم الطير مثله ... عشية أمسى لا يبين من البكم5 وقو ل الشاعر: ألا يا ليتها لدغت ... وأدعى كيم ذي أرقي6 وقول أبي النجم العجلي: لو عصر منها البان والمسك انعصر7

_ 1 ديوانه ص137 وشرح شواهد الشافية 4/ 18 ورسالة الغفران للمعري 312 والخصائص 3/ 338. 2 ديوانه ص217 والكامل للمبرد 3/ 177 والصاهل والشاحج 486 وإصلاح المنطق 36. 3 البيت في أمثال أبي عكرمة 128 مع مصادر أخرى في هامشه. 4 الصاهل والشاحج 440. 5 شرح ديوان الهذليين 3/ 1345 وشرح شواهد الشافية 4/ 18. 6 الصاهل والشاحج 486. 7 شرح شواهد الشافية 4/ 15 وإصلاح المنطق 36.

وقوله كذلك: حتى إذا ما رضي من كمالها1 وقول الراجز: رجم به الشيطان في هوائه2 وقول الآخر: قالت أراه دالفا قد دني له3 ومن أمثال العرب قولهم: "لم يحرم من فصد له"4. والمرحلة الثانية في تطور الأفعال المعتلة، هي تلك المرحلة التي تسمى في عرف اللغويين المحدثين: "انكماش الأصوات المركبة kontarktion der Diphthonge5 والأصوات المركبة في العربية هي: الواو والياء المسبوقتان بالفتحة، في مثل: "قول" و"بيت"، فإن الملاحظ في تطور اللغات، هو انعكاش هذه الأصوات، فتتحول الواو المفتوح ما قبلها إلى ضمة طويلة ممالة، كقولنا في اللهجة المصرية مثلا: som nom yom بدلا من: "يوم" و"نوم" و"صوم". وكذلك تنكمش الياء المفتوح ما قبلها، فتتحول إلى كسرة طويلة ممالة، كقولنا في اللهجة المصرية مثلا: zet وlel وbet بدلا من: "بيت" و"ليل" و"زيت" وغير ذلك.

_ 1 الصاهل والشاحج 666. 2 إعراب ثلاثين سورة لابن خالويه8. 3 التمام في تفسير أشعار هذيل 223 واللسان "دنا" 18/ 300. 4 انظر: كتاب الأمثال لمؤرج السدوسي 50 مع مصادر أخرى في هامشه. 5 انظر: Brockelmenn Syrische Grammmatik 32 ff.

_ 1 انظر: Praetorius, Aethiopische Grammatik 79. 2 انظر: التيسير في القراءات السبع 223. 3 معاني القرآن للزجاج 1/ 144. 4 انظر: التطور اللغوي مظاهره وعلله وقوانينه 51.

وقد حدث مثل ذلك في لغة طيء، في الأفعال المعتلة المكسورة العين في الماضي كذلك؛ مثل قولهم: "رضا" في: "رَضِى"، و"فَنَا" في: "فَنِىَ"، و"هُدِاَ" في: "هُدِىَ" وغير ذلك2. تلك هي مراحل تطور الأفعال المعتلة. وقد رأينا كيف خلّفت تلك المراحل ركاما لغويا، في العربية الفصحى، واللغات السامية، واللهجات العربية المختلفة. ومن كل ذلك نرى أن ما يقوله النحاة من أن "قال" مثلا، أصلها: "قَولَ" صحيح، بصرف النظر عن تعليلهم هذا، بتحرك الواو وانفتاح ما قبلها، وإن كان "ابن جني" مثلا، يزعم أن ذلك الأصل لم يوجد في العربية يوما ما؛ إذ عقد في "الخصائص" بابا سماه: "باب مراتب الأشياء وتنزيلها تقديرا وحكما، لا زمانا ووقتا" وقال فيه: "هذا الموضع كثير الإيهام لأكثر من يسمعه، لاحقيقة تحته؛ وذلك كقولنا: الأصل في قام: قوَم، وفي باع: بَيَعَ ... فهذا يوهم أن هذه الألفاظ وما كان نحوها -مما يدعي أن له أصلا يخالف ظاهر لفظه- قد كان مرة يقال، حتى إنهم كانوا

_ 1 انظر أيضا: Rabin, Ancient West- Arabian 160. 2 انظر: كتاب سيبويه 2/ 290 وخزانة الأدب 4/ 149.

يقولون في موضع قام زيد: قوم زيد، وكذلك: نوم جعفر، وطول محمد ... وليس الأمر كذلك، بل بضده، وذلك أنه لم يكن قط مع اللفظ به إلا على ما تراه وتسمعه. وإنما معنى قولنا إنه كان أصله كذا: أنه لو جاء مجيء الصحيح، ولم يعلل، لوجب أن يكون مجيئه على ما ذكرنا، فأما أن يكون استعمل وقتا من الزمان كذلك، ثم انصرف عنه فيما بعد إلى هذا اللفظ، فخطأ لا يعتقده أحد من أهل النظر"1. ويحاول ابن جني أن يؤكد فكرته تلك مرة أخرى في كتابه: "سر صناعة الإعراب"، غير أنه يعود فيعترف بأن الظاهرة اللغوية القديمة، قد تبقى منها أمثلة تعين على معرفة الأصل، وهو ما نسميه هنا: "الركام اللغوي"، يقول ابن جني: "فبهذا ونحوه استدل أهل التصريف على أصول الأشياء المغيرة، كما استدلوا بقوله عز اسمه: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَان} على أن أصل استقام: استقوم، وأصل استباع: استبيع، ولولا ما ظهر من هذا ونحوه، لما أقدموا على القضاء بأصول هذه الأشياء، ولما جاز ادعاؤهم إياها"2. وهكذا نرى ابن جني، لا يريد أن يعترف بوجود الأصل القديم، لهذه الظاهرة في الواقع اللغوي، غير أنه حين عثر على مثال من "الركام اللغوي"، وهو قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَان} ، اضطر إلى الاعتراف به.

_ 1 الخصائص 1/ 256. 2 سر صناعة الإعراب 1/ 194 كما يقول المبرد في المقتضب 2/ 97: "وقد يجيء في الباب الحرف والحرفان على أصولهما، وإن كان الاستعمال على غير ذلك، ليدل على أصل الباب".

الفصل الثامن: تطابق العدد في الجملة الفعلية

الفصل الثامن: تطابق العدد في الجملة الفعلية من المعروف في العربية الفصحى: أن الفعل يجب إفراده دائما، حتى وإن كان فاعله مثنى أو مجموعا، أي أنه لا تتصل به علامة تثنية ولا علامة جمع، للدلالة على تثنية الفاعل أو جمعه، فيقال مثلا: "قام الرجل" و"قام الرجلان" و"قام الرجال" بإفراد الفعل: "قام" دائما؛ إذ لا يقال في الفصحى مثلا: "قاما الرجلان" ولا "قاموا الرجال". وعلى هذا النحو، جاءت جمهرة الجمل الفعلية في القرآن الكريم، يقول الله تعالى مثلا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 3/ 146] ولم يقل قاتلوا معه. كما قال جل شأنه: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 3/ 122] ولم يقل: همتا طائفتان. تلك هي القاعدة المطردة في العربية الفصحى، شعرا ونثرا. أما قبيلة طيئ القديمة، فقد روي لنا عنها1 أنها كانت تلحق الفعل علامة تثنية للفاعل المثنى، وعلامة جمع للفاعل المجموع. وقد حكيت لنا هذا اللغة كذلك، عن قبيلة "بلحارث بن كعب"2 وقبيلة "أزد شنوءة"3، وهما من القبائل اليمنية، التي تمت إلى أصل قبيلة طيئ بصلة4.

_ 1 انظر: الجني الداني للمرادي 171 وشرح درة الغواص للخفاجي 152 وبصائر ذوي التمييز 5/ 149 وشرح التصريح 1/ 275، 2/ 110 وهمع الهوامع 1/ 160 والقاموس المحيط "الواو" 4/ 413 والنهاية لابن الأثير 3/ 297 والفائق للزمخشري 3/ 74. 2 انظر: بصائر ذوي التمييز 5/ 149 والقاموس المحيط "الواو" 4/ 313 ومغني اللبيب 2/ 365. 3 انظر: بصائر ذوي التمييز 5/ 149 وشرح التصريح 1/ 276 والقاموس المحيط "الواو" 4/ 413 ومغني اللبيب 2/ 365. 4 انظر: الاشتقاق لابن دريد 361.

وتعرف هذه الظاهرة عند النحاة العرب، بلغة: "أكلوني البراغيث". وقد عرفت عندهم بهذا الاسم؛ لأن سيبويه هو أول من مثل لها في كتابه، واختار هذا المثال؛ فقال: "في قول من قال: أكلوني البراغيث1"، كما قال في موضع آخر: "ومن قال: أكلوني البراغيث، قلت على حد قوله: مررت برجل أعورين أبواه2"، وإن كان قد ضرب لهذا الظاهرة أمثلة أخرى في ك تابه، فقال: "واعلم أن من العرب من يقول: ضربوني قومك، فكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجميع علامة، كما جعلوا للمؤنث علامةى، وهي قليلة3".

_ 1 كتاب سيبويه 1/ 5. 2 كتاب سيبويه 1/ 237. 3 كتاب سيبويه 1/ 236. 4 سفروث 1/ 5. 5 سفر المزامير 1/ 5 وانظر أمثلة أخرى في سفر تكوسن 2/ 1؛ 6/ 2؛ 8/ 2 وسفر الأمثال 5/ 10. 6 أحيقار 33/ 1 وانظر أمثلة أخرى في إنجيل متى 5/ 1 وإنجيل لوقا 1/ 23.

وقد تخلصت العربية الفصحى من هذه الظاهرة، رويدا رويدا، أخذا بمبدأ الاستغناء عن بعض العلامات، عند تكدسها للدلالة على الظاهرة الواحدة؛ فإن الذي كالن يدل على لاتثنية هنا، هو علامة التثنية في الفعل، ووضع الفاعل في صيغة المثنى، وكذكل كان يدل على الجمع علامته المتصلة بالفعل، ووضع الفاعل في صيغة الجمع. وإذا استغنى اللغة عن العلامات المتصلة بالفعل، لم تخسر الدلالة على التثنية والجمع، لوجود ما يدل عليهما في صيغة الفاعل نفسها؛ ولذلك قال سيبويه: "وإنما قالت العرب: قالت قومك، وقال أبواك؛ لأنهم اكتفوا بما أظهروا، عن أن يقولوا: قالا أبواك، وقالوا قومك، فحذفوا ذلك اكتفاء بما أظهروا3". وإذا كانت العربية الفصحى، قد تخلصت رويدا رويدا من هذه الظالهرة، فإن بقاياها ظلت حية، عند بعض القبائل العربية القديمة، كقبيلة "طيء" و"بلحارث بن كعب" و"أوذ شنوءة" كما ذكرنا من قبل.

_ 1 praetorius, Aethiopische Gtammatik, Chrestomathia 41. 2 Ptaetorius, Aethiopiche Gtammatik, Chrestomathia 42. 3 كتاب سيبويه 1/ 234.

وكذلك بقيت بعض آثارها في العربية القصحى، في القرآن الكريم والحديث الشريف، واحتفظ بها الكثير من أبيات الشعر العربي القديم. أما القرآن الكريم، فقد ورد فيه قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 5/ 71] وقوله عز وجل: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 21/ 3] . وقد أكثر النحويون، والمفسرون، وعلماء اللغة العرب، القول في تخريج هاتين الآيتين الكريمتين، فقد قال الإمام القرطبي، في تفسير الآية الأولى مثلا: " {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} أي عمي كثير منهم وصم، بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه السلام، فارتفع "كثير" على البدل من الواو، كما تقول: رأيت قومك ثلثيهم، وإن شئت كان على إضمار مبتدأ، أي العمي والصم كثير منهم. ويجوز أن يكون على لغة من قال: أكلوني البراغيث"1. كما قال في الآية الثانية: " {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، ثم بين من هم، فقال: الذين ظلموا، أي الذين أشركوا. فالذين ظلموا، بدل من الواو في: "أسروا" وهو عائد على الناس المتقدم ذكرهم. قال المبرد: وهو كقولك: إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله، فبنو بدل من الواو في: انطلقوا، وقيل: هو رفع على الذم، أي هم الذين ظلموا. وقيل: على حذف القول، أي: يقول الذين ظلموا. وقول رابع أن يكون منصوبا بمعنى: أعني الذين ظلموا. وأجاز الفراء أن يكون خفضا، بمعنى للناس الذين حسابهم. فهذه خمسة

_ 1 تفسير القرطبي 6/ 248.

أقوال. وأجاز الأخفش الرفع على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وهو حسن. وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، ومجازه: والذين ظلموا أسروا النجوى"1. تلك هي آراء المفسرين، والنحاة، واللغويين العرب، في هذه الظاهرة. وهم فيها مقلبون لكل الأوجه الممكنة في العربية، من التخريج والتأويل. ومما جاء في الحديث الشريف، قوله صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" 2، بدلا من: تتعاقب فيكم ملائكة، وإن كان بعض العلماء يرى في هذا الحديث، أنه مختصر من حديث طويل، وأن أصل الحديث: "إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار"3. وقد وردت هذه الظاهرة، في بعض أحاديث الصحابة والتابعين، كما في قول الحسن البصري، يصف طالب العلم: "قد أوكدتاه يداه وأعمدتاه رجلاه"4. أما أبيات الشعر القديم، التي وردت فيها هذه الظاهرة، فما أكثرها في دواوين الشعر العربي. ومن أمثلة ذلك قول عمرو بن ملقط الطائي، وهو

_ 1 تفسير الطبري 11/ 268 وانظر: معاني القرآن للفراء 1/ 316 وشرح التصريح 1/ 270-277. 2 انظر مغني اللبيب 2/ 365 والقاموس المحيط "الواو" 4/ 413 وبصائر ذوي التمييز 5/ 146. 3 انظر: شرح الأشموني على الألفية 2/ 48. 4 انظر: الفائق للزمخشري 3/ 73 والنهاية لابن الأثير 3/ 297 ولسان العرب "عمد" 4/ 296 وانظر أحاديث أخرى في: إعراب الحديث للعكبري 28، 39.

شاعر جاهلي: ألفيتا عيناكي عند القفا ... أولى فأولى لك ذا واقيه1 بدلا من: ألفيت عيناك. ومثله قول أمية بن أبي الصلت: يلومونني في اشتراء النخيـ ... ـل أهلي فكلهم يعذل2 بدلا من: يلومني أهلي. وكذلك قول أبي عبد الرحمن العتبي: رأين الغواني الشيب لاح بعارضي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر3 أي: رأت الغواني. كما يقول الفرزدق: ولكن ديافي أبوه أمه ... بحوران يعصران السليط أقاربه4 أي: يعصر أقاربه. ويقول عبيد الله بن قيس الرقيات: تولى قتال المارقين بنفسه ... وقد أسلماه مبعد وحميم5 أي: أسلمه مبعد وحميم. وكذلك يقول عروة بن الورد: دعيني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وإن كانا له نسب وخير6

_ 1 شرح شواهد المغني 113 وأمالي ابن الشجري 1/ 132 وشرح ديوان أبي تمام 3/ 10. 2 ديوانه ص16 والدرر اللوامع 1/ 142 وأمالي ابن الشجري 1/ 13 وشرح التصريح 1/ 276 وهمع الهوامع 1/ 160 وإعراب الحديث للعكبري 40 وفي شرح شواهد المغني 265: "عزاه السخاوي في المفصل إلى أحيحة بن الجلاح". 3 العيني على هامش الخزانة 2/ 473. 4 ديوانه ص50 وكتاب سيبويه 1/ 236 وأمالي ابن الشجري 1/ 133 وشرح ديوان أبي تمام 1/ 224 وإعراب الحديث للعكبري 29، 40 وشرح ابن يعيش 3/ 89 وهمع الهوامع 1/ 160. 5 ديوانه ق35/ 2 ص196 وأمالي ابن الشجري 1/ 131 وشرح التصريح 1/ 277 وهمع الهوامع 1/ 160. 6 ديوانه ص91 وشرح التصريح 1/ 277.

أي: كان له نسب وخير. ومثله قول مجنون ليلى: ولو أحدقوا بي الإنس والجن كلهم ... لكي يمنعوني أن أجيك لجيت1 أي: ولو أحدق الإنس والجن. ومثله قول الشاعر: نصروك قومي فاعتززت بنصرهم ... ولو أنهم خذلوك كنت ذليلا2 أي: نصرك قومي. ومثله أيضا قول الآخر: نسيا حاتم وأوس لدن فا ... ضت عطاياك يابن عبد العزيز3 أي: نسي حاتم وأوس. وغير ذلك كثير في الشعر العربي القديم. وقد استمرت هذه الظاهرة في أشعار المولدين من الطائيين وغيرهم. فها هو أبو تمام الطائي، يمتلئ ديوان شعره بالأبيات التي جاءت على هذه اللغة. مثل قوله: شجى في الحشا ترداده ليس يفتر به صمن آمالي وإني لمفطر وقد قال عنه أبو العلاء المعري في هذا الموضع4: "يبين في كلام الطائي أنه كان يختار إظهار علامة الجمع في الفعل، مثل قوله: صمن آمالي. ولو قال: صام آمالي، لاستقام الوزن. وقد جاء بمثل ذلك في غير هذا الموضع". ومن أمثلة ذلك في شعره أيضا: وغدا تبين كيف غب مدائحي ... إن ملن بي همي إلى بغداد5

_ 1 ديوانه ق58/ 4 ص74. 2 شواهد التوضيح لابن مالك 192. 3 شواهد التوضيح لابن مالك 192. 4 شرح الديوان للخطيب التبريزي 2/ 214. 5 شرح الديوان للخطيب التبريزي 2/ 131.

ومنها كذلك قوله: ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا ... هلكن إذن من جهلهن البهائم1 وقد جاءت بعض أمثلة هذه الظاهرة في شعر المتنبي أيضا. فمن ذلك قوله: ورمى وما رمتا يداه فصابني ... سهم يعذب والسهام تريح2 وقال كذلك: نفديك من سيل إذا سئل الندى ... هول إذا اختلطا دم ومسيح3 ويبدو أن هذه الظاهرة، كانت شائعة في عصر الحريري "المتوفى سنة 516هـ" الذي عدها من اللحن4، ورد عليه الشهاب الخفاجي، فقال: "وليس الأمر كما ذكره، فإن هذه لغة قوم من العرب، يجعلون الألف والواو حرفي علامة للتثنية والجمع، والاسم الظاهر فاعلا. وتعرف بين النحاة بلغة: أكلوني البراغيث؛ لأنه مثالها الذي اشتهرت به، وهي لغة طيئ، كما قاله الزمخشري. وقد وقع منها في الآيات، والأحاديث، وكلام الفصحاء ما لا يحصى"5. وقد بقيت هذه الظاهرة، شائعة في كثير من اللهجات العربية الحديثة، كقولنا مثلا: "ظلموني الناس" و"لاموني العوازل" و"زارونا الجيران" و"تنوصاحي لحد ما رجعوا العيال من بره". وهذا كله امتداد للأصل السامي واللهجات القديمة. والله أعلم.

_ 1 شرح الديوان للخطيب التبريزي 3/ 178 وانظر أمثلة أخرى في: 1/ 224، 2/ 128، 3/ 10/ 3/ 74 وغيرها. 2 ديوانه ص165 وانظر كذلك: أمالي ابن الشجري 1/ 13 3 ديوانه ص169 وانظر كذلك: أمالي ابن الشجري 1/ 13. 4 انظر: درة الغواص في أوهام الخواص 65 5 انظر: شرح درة الغواص، للشهاب الخفاجي 152

قائمة المصادر

قائمة المصادر: أولا: المصادر العربية 1- الإبدال، لأبي الطيب اللغوي، تحقيق الدكتور عز الدين التنوخي، دمشق 1960م. 2- الإبدال والمعاقبة والنظائر، للزجاجي، تحقيق عز الدين التنوخي، دمشق 1962م. 3- الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم الأندلسي "مطبعة الإمام بلا تاريخ". 4- أحيقار، حكيم من الشرق الأدنى القديم، لأنيس فريحة، بيروت 1962م. 5- أدب الكتاب، للصولي، تصحيح محمد بهجة الأثري، القاهرة 1341هـ. 6- أسباب حدوث الحروف، لابن سينا، القاهرة 1352هـ. 7- أسرار العربية، لابن الأنباري، تحقيق محمد بهجة البيطار، دمشق 1957م. 8- أسس علم اللغة، لماريوباي، ترجمة الدكتور عبد الحسين المبارك، النجف 1974م. 12- إصلاح المنطق، لابن السكيت، تحقيق أحمد شاكر وعبد السلام هارون، القاهرة 1956م. 13- أصوات اللغة، للدكتور عبد الرحمن أيوب، القاهرة 1968م. 14- أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة، للدكتور نايف خرما، الكويت 1979م. 15- الأطلس اللغوي، للدكتور خليل عساكر، مجلة مجمع اللغة العربية "المجلد السابع" القاهرة 1953م. 16- إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم، لابن خالويه، القاهرة 1941م. 17- إعراب الحديث النبوي، لأبي البقاء العكبري، تحقيق عبد الإله نبهان، دمشق 1977م. 18- إعراب القرآن المنسوب للزجاج، تحقيق إبراهيم الإبياري، القاهرة 1963-1965م. 19- الإكليل، للهمداني، تحقيق أنستاس الكرملي، بغدد 1931م. 20- الألسنية أحدث العلوم الإنسانية، مجلة الفكر العربي "العددان 8، 9" طرابلس "يناير/ آذار 1979م".

21- الألسنية العربية، للدكتور ريمون طحان، دار الكتاب اللبناني ببيروت 1972م. 22- أمالي الزجاجي، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1382هـ. 23- الأمالي، لابن الشجري، حيدر آباد الدكن بالهند 1349هـ. 24- الأمثال، لأبي عكرمة الضبي، تحقيق الدكتور رمضان عبد التواب، دمشق 1974م. 25- الأمثال، لأبي فيد مؤرج السدوسي، تحقيق الدكتور رمضان عبد التواب، القاهرة 1971م. 26- الإنصاف، لابن الأنباري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1953م. 27- إيضاح الوقف والابتداء، لأبي بكر بن الأنباري، تحقيق محيي الدين رمضان، دمشق 1971م. 28- البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، القاهرة 1328هـ. 29- البرهان في علوم القرآن للزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1957-1958م. 30- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادي، تحقيق الشيخ محمد علي النجار، القاهرة 1963-1973م. 31- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1964-1965. 32- البلاغة العصرية واللغة العربية، لسلامة موسى، القاهرة 1945م. 33- البيان والتبيين، لأبي عمرو الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1948-1950م. 34- تصحيح الفصيح، لابن درستويه، تحقيق عبد الله الجبوري، بغداد 1975م. 33- التطور اللغوي مظاهره وعلله وقوانينه، للدكتور رمضان عبد التواب، القاهرة 1981م. 36- التطور النحوي للغة العربية، لبرجشتراسر، أخرجه وصححه وعلق عليه الدكتور رمضان عبد التواب، القاهرة 1982م. 37- التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام، للسهيلي، القاهرة 1938م. 38- تفسير القرطبي= الجامع لأحكام القرآن، القاهرة 1967م. 39- التمام في تفسير هذيل، لابن جني، تحقيق أحمد ناجي القيسي، بغداد 1962م. 40- التيسير في القراءات السبع، لأبي عمرو الداني، إستانبول 1930م.

41- الجغرافيا اللغوية وأطلس برجشتراسر، للدكتور رمضان عبد التواب، مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء السابع والثلاثون، القاهرة 1976م. 42- جمهرة اللغة، لابن دريد الأزدي، تحقيق كرنكو، حيدر آباد الدكن بالهند 1344-1351هـ. 43- الجني الداني في حروف المعاني، للمرادي، تحقيق فخر الدين قباوة ومحمد نديم فاضل، حلب 1973م. 44- جهود علماء العرب في الدراسة الصوتية، للدكتور إبراهيم أنيس، مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء الخامس عشر، القاهرة 1963م. 45- حرف الضاد وكثرة مخارجه في اللغة العربية، للدكتور خليل نامي، مجلة الآداب بجامعة القاهرة "المجلد 21 العدد الأول" مايو 1959م. 46- الحيوان، لأبي عمرو الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1938-1945م. 47- خزانة الأدب، لعبد القادر البغدادي، بولاق 1299هـ. 48- الخصائص، لابن جني، تحقيق محمد علي النجار، القاهرة 1952-1956م. 49- دراسات في فقه اللغة العربية، للدكتور السيد يعقوب بكر، القاهرة 1969م. 50- دراسات في اللغة العربية، للدكتور خليل نامي، القاهرة 1974. 51- دراسة السمع والكلام، للدكتور أحمد مختار عمر، القاهرة 1980م. 52- دراسة الصوت اللغوي، للدكتور أحمد مختار عمر، القاهرة 1976م. 53- درة الغواص في أوهام الخواص، للحريري، مطبعة الجوائب بإستانبول 1299هـ. 54- الدرر اللوامع على همع الهوامع، للشنقيطي، القاهرة 1328هـ. 55- دروس في علم أصوات العربية، لجان كانتينو، ترجمة صالح القرمادي، تونس 1966م. 56- دلالة الألفاظ، للدكتور أنيس، القاهرة 1958م. 57- دور الكلمة في اللغة، تأليف ستيفان أولمان وترجمة الدكتور كمال بشر، القاهرة 1962م. 58- ديوان الأخطل، نشر أنطون صالحاني، بيروت 1891م. 59- ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1958م. 60- ديوان أمية بن أبي الصلت، تحقيق شولتهس، ليبزج 1911م. 61- ديوان جرير بن عطية الخطفي، نشر محمد إسماعيل الصاوي، 1353م 62- ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات، تحقيق الدكتور محمد يوسف نجم، بيروت 1958م.

63- ديوان عروة بن الورد، بشرح ابن السكيت، تحقيق عبد المعين الملولحي، دمشق 1966م. 64- ديوان القطامي، تحقيق بارت، ليدن 1902م. 65- ديوان المتنبي، وضع عبد الرحمن البرقوقي، القاهرة 1938م. 66- ديوان مجنون ليلى، تحقيق عبد الستار فراج، طبع دار مصر للطباعة بالقاهرة "بلا تاريخ". 67- رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري، تحقيق الدكتورة بنت الشاطي، القاهرة 1963م. 68- الزينة في الكلمات الإسلامية العربية، لأبي حاتم الرازي، تحقيق حسين الهمداني، القاهرة 1957م. 69- زينة الفضلاء في الفرق بين الضاد والظاء، تحقيق الدكتور رمضان عبد التواب، بيروت 1971م. 70- سر صناعة الإعراب، لابن جني، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، القاهرة 1954م. 71- شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، مطبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة "بلا تاريخ". 72- شرح التصريح، للشيخ خالد الأزهري، القاهرة 1325هـ. 73- شرح درة الغواص في أوهام الخواص، للشهاب الخفاجي، إستانبول 1299هـ. 74- شرج ديوان أبي تمام، للخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، القاهرة 1951 وما بعدها. 75- شرح ديوان الهذليين للسكري، تحقيق عبد الستار فراج، القاهرة 1965م. 76- شرح شواهد الشافية، لعبد القادر البغدادي، تحقيق محمد الزفزاف وآخرين، القاهرة 1356هـ. 77- شرح شواهد الكشاف، لمحب الدين أفندي، بولاق 1281هـ. 78- شرح شواهد المغني، لجلال الدين السيوطي، تصحيح الشنقيطي، القاهرة 1322هـ. 79- شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، تحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1945م. 80- شرح ابن يعيش للمفصل، القاهرة "بدون تاريخ". 81- شرح القاموس المحيط، لابن الطيب الفاسي، تحقيق علي حسين البواب، مخطوط بدار العلوم، القاهرة 1978م.

82- شرح مراح الأرواح، لديكنقوز، القاهرة 1937م. 83- الشعر والشعراء، لابن قتيبة، تحقيق أحمد شاكر، القاهرة 1966م. 84- شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح، لابن مالك النحوي، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة 1957م. 85- الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، لابن فارس اللغوي، تحقيق السيد أحمد صقر، القاهرة 1977م. 86- الصاهل والشاحج، لأبي العلاء المعري، تحقيق الدكتورة عائشة عبد الرحمن، القاهرة 1975م. 87- الصحاح، للجوهري= تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، القاهرة 1956م. 88- الصناعتين، لأبي هلال العسكري، تحقيق علي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1974م. 89- طبقات النحويين واللغويين، للزبيدي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1954م. 90- العربية، دراسات في اللغة واللهجات والأساليب، من عمل يوهان فك، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار، القاهرة 1951. 91- العربية، دراسات في اللغة واللهجات والأساليب. ليوهان فك، مع تعليقات شبيتالر، ترجمة الدكتور رمضان عبد التواب، القاهرة 1980م. 92- العربية الفصحى، للأب هنري فليش اليسوعي، ترجمة الدكتور عبد الصبور شاهين، بيروت 1966م. 93- علم الأصوات، نشأته وتطوره للدكتور مراد كامل، مجلة مجمع اللغة العربية "المجلد السادس عشر" القاهرة 1963م. 94- علم الأصوات عند سيبويه وعندنا، محاضرة للمستشرق الألماني "شاده"، صحيفة الجامعة المصرية، السنة الثانية 1931م, 95- علم اللسان، لأنطوان مييه، مع كاب النقد المنهجي عن العرب، للدكتور محمد مندور، القاهرة "بدون تاريخ". 96- علم اللغة، للدكتور علي عبد الواحد وافي، القاهرة 1962م. 97- علم اللغة، مقدمة للقارئ العربي، للدكتور محمود السعران، القاهرة 1962م. 98- علم اللغة العام: الأصوات، للدكتور كمال بشر، القاهرة 1970م.

99- علم النفس اللغوي، للدكتورة نوال محمد عطية، القاهرة 1975م. 100- عن مناهج العمل في الأطالس اللغوية، للدكتور سعد مصلوح، حوليات كلية دار العلوم "العدد الخامس" القاهرة 1976م. 101- العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق الدكتور عبد الله درويش، بغداد 1967م. 102- العيني= شرح الشواهد الكبرى، للعيني، على هامش خزانة الأدب، للبغدادي، بولاق 1299م. 103- عيون الأخبار، لابن قتيبة الدينوري، القاهرة 1928-1930م. 104- غريب الحديث، لابن قتيبة الدينوري، تحقيق عبد الله الجبوري، بغداد 1977م. 105- الفائق في غريب الحديث للزمخشري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1945-1948م. 106- فعلت وأفعلت، لأبي حاتم السجستاني، تحقيق الدكتور خليل إبراهيم العطية، بغداد 1979م. 107- فقه اللغة، لمحمد المبارك، دمشق 1960م. 108- فقه اللغات السامية، لبروكلمان، ترجمة الدكتور رمضان عبد التواب، مطبوعات جامعة الرياض 1977م. 109- في علم الأصوات الفيزيقي، لبولجرام، ترجمة سعد مصلوح، القاهرة 1977م. 110- القاموس المحيط، للفيروزآبادي، القاهرة 1913م. 111- قضايا لغوية، للدكتور كمال بشر، القاهرة 1963م. 112- الكامل في التاريخ، لابن الأثير، بيروت 1967م. 113- الكامل في اللغة والأدب للمبرد، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم والسيد شحاته، القاهرة 1956م. 114- الكتاب، لسيبويه، بولاق 1316-1317هـ. 115- الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، لمكي بن أبي طالب، تحقيق الدكتور محيي الدين رمضان، القاهرة 1974م. 116- لحن العوام، لأبي بكر الزبيدي، تحقيق الدكتور رمضان عبد التواب، القاهرة 1964م. 117- لسان العرب، لابن منظور الإفريقي، بولاق 1300-1307هـ. 118- لغات البشر، لماريوباي، ترجمة الدكتور صلاح العربي، القاهرة 1970م. 119- اللغات السامية، ليبودور نولدكه، ترجمة الدكتور رمضان عبد التواب، القاهرة 1963م.

120- اللغة، لفندريس، ترجمة عبد الحميد الدواخلي والدكتور محمد القصاص، القاهرة 1950م. 121- اللغة بين القومية والعالمية، للدكتور إبراهيم أنيس، القاهرة 1970م. 122- اللغة بين المعيارية والوصفية، للدكتور تمام حسان، القاهرة 1958م. 123- مجالس ثعلب، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1960م. 124- مراح الأرواح في علم الصرف، لابن مسعود، بشرح ديكنقوز وابن كمال باشا، القاهرة 1937م. 125- المزهر في علوم اللغة وأنواعها، للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وآخرين، القاهرة 1958م. 126- مشكلة الضاد العربية وتراث الضاد والظاء، للدكتور رمضان عبد التواب، مجلة المجمع العلمي العراقي "المجلد الحادي والعشرون" بغداد 1971م. 127- معاني القرآن وإعرابه، للزجاج، تحقيق عبد الجليل عبده شلبي، بيروت 1972م. 128- معاني القرآن، للفراء، تحقيق محمد علي النجار، القاهرة 1955-1972م. 129- معنى القول المأثور: لغة الضاد، للدكتور إبراهيم أنيس، البحوث والمحاضرات لمجمع اللغة العربية "الجزء العاشر" القاهرة 1966م. 130- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام المصري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة "بلا تاريخ". 131- مفاتيح العلوم، للخوارزمي، القاهرة 1342هـ. 132- المفصل، للزمخشري، القاهرة 1323هـ. 133- المقتضب، للمبرد، تحقيق الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة، القاهرة 1963-1968م. 134- المقتضب، للمبرد، تحقيق الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة، القاهرة 1963-1968م. 134- مقدمتان في علوم القرآن، نشر آرثر جفري، القاهرة 1954م. 135- المقرب، لابن عصفور، تحقيق أحمد عبد الستار الجواري وعبد الله الجبوري، بغداد 1971-1972م. 136- الممتع في التصريف، لابن عصفور، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة، حلب 1970م. 137- مناهج البحث في اللغة، للدكتور تمام حسان، القاهرة 1954م. 138- المنصف، لابن جني، شرح التصريف للمازني، تحقيق إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين، القاهرة 1954م. 139- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، نشر علي محمد الضباع، القاهرة "بلا تاريخ".

140- نظرة تحليلية مقارنة على الضمائر العربية، للدكتور محمد سالم الجرح، مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة "الجزء الثاني والعشرون" 1967م. 141- النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، تحقيق محمود الطناحي، القاهرة 1963-1965م. 142- النوادر في اللغة، لأبي زيد الأنصاري، نشر سعيد الشرتوني، بيروت 1894م. 143- همع الهوامع، شرح جمع الجوامع، للسيوطي، القاهرة 1327هـ. 144- وفيات الأعيان لابن خلكان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، بيروت 1968-1972.

ثانيا: المصادر الإفرنجية

ثانيا: المصادر الأفرنجية:

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: مقدمة 3 القسم الأول: المدخل إلى علم اللغة 5 تمهيد 7 مجالات علم اللغة 10 الفصل الأول: الدراسة الصوتية 10 مقدمة 13 كيف يحدث الصوت الإنساني 22 الأصوات الصامتة والمتحركة 42 بيننا وبين القدماء في وصف بعض الأصوات 62 نظرية الفونيم والكتابة 83 أصوات العلة "الحركات" 91 المقاطع الصوتية 101 النبر والتنغيم 103 الفصل الثاني: نشأة اللغة الإنسانية 109 المذهب الأول: مذهب الوحي والإلهام 110 المذهب الثاني: مذهب المواضعة والاصطلاح 111 المذهب الثالث: مذهب المحاكاة 112 المذهب الرابع: نظرية التنفيس عن النفس 114 المذهب الخامس: نظرية الاستعداد الفطري 116 المذهب السادس: نظرية الملاحظة 117 المذهب السابع: نظرية التطور اللغوي 119 الفصل الثالث: علم اللغة والمجتمع الإنساني 125 الفصل الرابع: علم اللغة والنفس الإنسانية 137 الفصل الخامس: علم اللغة والجغرافيا اللغوية 147 الأطلس اللغوي 147 طريقة عمل الأطلس اللغوي 150 محاولات "براجشتراسر" في هذا الميدان 158 الفصل السادس: اللغة المشتركة واللهجات 165

الفصل السابع: الصراع اللغوي، أسبابه ونتائجه 171 القسم الثاني: مناهج البحث اللغوي وتطبيقات المنهج المقارن 179 الفصل الأول: المنهج المقارن بين مناهج البحث اللغوي 181 الفصل الثاني: في أصوات اللغة 213 1- الأصوات الشفوية 213 2- أصوات الصفير والأصوات الأسنانية 215 3- صوت الجيم 221 4- الكاف والقاف 221 5- أصوات الحلق 222 6- الأصوات المائعة 226 الفصل الثالث: أبنية الفعل 229 1- الوزن الأصلي "مجرد الثلاثي" 229 2- وزن فعل 232 3- وزن فاعل 2324 4- وزن السببية 232 5- وزن المطاوعة بالتاء 234 6- المطاوعة بالنون 238 7- المبني للمجهول 238 8- أبنية أخرى 240 الفصل الرابع: أدوات التعريف والتنكير 241 الفصل الخامس: التذكير والتأنيث 251 الفصل السادس: إسناد الماضي إلى الضمائر 267 الفصل السابع: الأفعال المعتلة 291 الفصل الثامن: تطابق العدد في الجملة الفعلية 299 قائمة المصادر 309 أولا: المصادر العربية 309 ثانيا: المصادر الإفرنجية 317 فهرس الموضوعات 319

§1/1