المدارس النحوية

شوقي ضيف

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: حين أعارتني جامعة القاهرة في العام الدراسي 1965-1966 لشقيقتها الجامعة الأردنية, حاضرتُ طلاب قسم اللغة العربية بها في تاريخ المدارس النحوية. ولما رجعت إلى المكتبة العربية الحديثة لم أجد فيها كتابا يُغنِي في هذا الموضوع غناء محمودا، وقد مضيت أحاضر الطلاب فيه محاولا -بقدر جهدي- أن أبلغ حاجتهم بترتيب مقدماته وتوفير الأسباب المعينة على صحة نتائجه، حتى استقامت لي هذه الصورة لمدارسنا النحوية على مرّ التاريخ. ولعل هذه أول مرة تُبحَث فيها المدارس النحوية بحثا جامعا، وهو بحث يرسم في إجمالٍ الجهود الخصبة لكل مدرسة, وكل شخصية نابهة فيها. وكان طبيعيا أن أبدأ بالمدرسة البصرية؛ لأنها هي التي وضعت أصول نحونا وقواعده ومكنت له من هذه الحياة المتصلة التي لا يزال يحياها إلى اليوم، وكل مدرسة سواها فإنما هي فرع لها وثمرة تالية من ثمارها. وقد تقدمت البحث فيها بتصحيح خطأ شاع وذاع قديما وحديثا، وهو ما ينسب إلى أبي الأسود الدؤلي وتلاميذه من وضع بعض مبادئ النحو، وهي إنما بدأت توضع مع الجيل التالي عند ابن أبي إسحاق الحضرمي. وأوضحت الأسباب التي جعلت عقل البصرة أدق وأعمق من عقل الكوفة وأكثر استعدادا لتسجيل ظواهر النحو العربي ووضع قواعده وقوانينه. وقد ذهبت إلى أن الخليل بن أحمد الفراهيدي هو المؤسس الحقيقي لمدرسة البصرة النحوية ولعلم النحو العربي بمعناه الدقيق، وصورت في تضاعيف ذلك إقامته لصرح النحو بكل ما يتصل به من نظرية العوامل والمعمولات, وبكل ما يسنده من سماع وتعليل وقياس سديد، مع بيان ما امتاز به من علم بأسرار العربية

وتذوق لخصائصها التركيبية. وخلفه على تراثه تلميذه سيبويه الذي تمثل آراءه النحوية تمثلا غريبا رائعا، نافذا منها إلى ما لا يكاد يحصى من الآراء, فإذا هو يسوي من ذلك "الكتاب" آيته الكبرى، وقد بلغ من إعجاب الأسلاف به أن سموه "قرآن النحو" وكأنما أحسوا فيه ضربا من الإعجاز، لا لتسجيله فيه أصول النحو وقواعده تسجيلا تاما فحسب، بل أيضا لأنه لم يكد يترك ظاهرة من ظواهر التعبير العربي إلا أتقنها, فقها وعلما وتحليلا. وحمل "الكتاب" عن سيبويه تلميذه الأخفش الأوسط، وأقرأه تلاميذ بصريين في مقدمتهم المازني, وتلاميذ كوفيين في مقدمتهم الكسائي، وكان لهِجا بالاعتراض على سيبويه والخليل، مما جعله ينفذ إلى كثير من الآراء، وخاصة أنه كان يفسح للغات الشاذة، هو بذلك يعد الإمام الحقيقي للكسائي وغيره من أئمة المدرسة الكوفية. وكان يعنى بالدفاع عن القراءات المشتملة على بعض الشذوذ والاحتجاج لها بأشعار العرب الفصحاء. وقد بينت في مواطن أخرى أن الفراء إمام المدرسة الكوفية بعد الكسائي, هو أول من تعرض للقراءات الشاذة بالإنكار العنيف، وتابعه في ذلك المازني وتلميذه المبرد آخر أئمة المدرسة البصرية النابهين. وأخذت أبحث في نشاط المدرسة الكوفية، ولاحظت أنه بدأ متأخرا عند الكسائي، وقد استطاع هو وتلميذه الفراء أن يستحدثا في الكوفة مدرسة نحوية تستقل بطوابع خاصة من حيث الاتساع في الرواية، ومن حيث بسط القياس وقبضه، ومن حيث وضع بعض المصطلحات الجديدة، ومن حيث رسم العوامل والمعمولات. وتوسع الفراء خاصة في تخطئة بعض العرب وإنكار بعض القراءات الشاذة، وكان ينفذ أحيانا إلى أحكام لا تسندها الشواهد والأمثلة، وهو يعد بحق إمام الكوفيين، فثعلب وغير ثعلب إنما كانوا شارحين لآرائه ومفسرين. ومضيت أبحث في المدرسة البغدادية وكانت قد ترامت عليها ظلال خدع كثيرة, وخاصة أن عَلَمَيها الفذين: أبا علي الفارسي وابن جني, كثيرا ما يَكْنيان عن البصريين في مصنفاتهما باسم "أصحابنا" مما جعل كثرة المعاصرين تظن

أنهما بصريان حقا، وهما إنما يصوران بذلك نزوعهما الشديد تلقاء البصريين، أما بعد ذلك فإنهما ينهجان النهج القويم للمدرسة البغدادية القائم على الانتخاب من آراء المدرستين البصرية والكوفية، مع فتح الأبواب للاجتهاد والخلوص إلى الآراء المبتكرة. وقد تداول هذه المدرسة جيلان: جيل أول كانت تغلب عليه النزعة الكوفية، وهو الذي يدور في كتابات ابن جني باسم البغداديين، من أمثال ابن كيسان، ثم جيل ثانٍ خَلَفَ هذا الجيل كانت تغلب عليه النزعة البصرية على نحو ما يلقانا عند الزجاجي, ثم أبي علي الفارسي, وابن جني مؤصل علم التصريف وواضع قوانينه الكلية. وانتقلت أبحث في المدرسة الأندلسية، متتبعا نشاطها النحوي طوال العصور المتعاقبة، ولاحظت استظهار نحاتها منذ القرن الخامس الهجري لآراء أئمة النحو السابقين من بصريين وكوفيين وبغداديين، مع الاجتهاد الواسع في الفروع ومع وفرة الاستنباطات وكثرة التعليلات والاحتجاجات. ولا نكاد ننتقل من جيل إلى جيل حتى تلقانا مجموعة من الأئمة، وكل إمام منهم يثير من الخواطر والآراء ما لم يسبقه إليه سابق من النحاة المجلين، حتى لنرى ابن مضاء القرطبي يريد أن يصوغ النحو صياغة جديدة تخلو من نظرية العوامل والمعمولات المذكورة والمقدرة ومن العلل والأقيسة المعقدة. وأكبر أئمتهم -على الإطلاق- ابن مالك, وقد رسمت في إجمالٍ آراءه ومنهجه، وعرضت لخالفيه من نحاة الأندلس وخاصة أبا حيان. وبحثت أخيرا في المدرسة المصرية، ملاحظا أنها كانت في أول نشأتها شديدة الاقتداء بالمدرسة البصرية، ثم أخذت تمزج -منذ القرن الرابع الهجري- بين آراء البصريين والكوفيين، وضمت سريعا إلى تلك الآراء آراء البغداديين، غير أنها لم تونق ولم تزدهر إلا منذ العصر الأيوبي، وسرعان ما تكامل ازدهارها في العصر المملوكي بما أتاحه لها ابن هشام من مَلَكاَته العقلية النادرة ومن إحاطته بآراء النحاة السالفين له, على اختلاف مدارسهم وأعصارهم وبلدانهم، ومن قدرته البارعة في مناقشة تلك الآراء، مع ما امتاز به من طرافة التحليل والاستنباط

وجمال العَرْض والأداء. وظلت الدراسات النحوية ناشطة بعده في مصر حتى العصر الحديث. ولم أتابع البحث في الجهود الخصبة التي بُذلت في عصرنا لتجديد النحو وتيسيره؛ لأنه إنما قصد بها إلى غايات تربوية في تعليم الناشئة، وهي حرية بكتاب مستقل. والله أسأل أن يلهمني السداد والإخلاص في الفكر والقول والعمل، وهو حسبي ونعم الوكيل. القاهرة في أول يناير سنة 1968م. شوقي ضيف

القسم الأول: المدرسة البصرية

القسم الأول: المدرسة البصرية الفصل الأول: البصرة واضعة النحو 1- أسباب وضع النحو: يمكن أن نرد أسباب وضع النحو العربي إلى بواعث مختلفة، منها الديني ومنها غير الديني، أما البواعث الدينية فترجع إلى الحرص الشديد على أداء نصوص الذكر الحكيم أداء فصيحا سليما إلى أبعد حدود السلامة والفصاحة، وخاصة بعد أن أخذ اللحن يشيع على الألسنة، وكان قد أخذ في الظهور منذ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد روى بعض الرواة أنه سمع رجلا يلحن في كلامه فقال: "أرشدوا أخاكم؛ فإنه قد ضل" 1, ورووا أن أحد ولاة عمر بن الخطاب كتب إليه كتابا به بعض اللحن، فكتب إليه عمر: "أَنْ قَنِّعْ كاتبك سوطا"2. غير أن اللحن في صدر الإسلام كان لا يزال قليلا بل نادرا، وكلما تقدمنا منحدرين مع الزمن اتسع شيوعه على الألسنة، وخاصة بعد تعرب الشعوب المغلوبة التي كانت تحتفظ ألسنتها بكثير من عاداتها اللغوية، مما فسح للتحريف في عربيتهم التي كانوا ينطقون بها، كما فسح اللحن وشيوعه. ونفس نازلة العرب في الأمصار الإسلامية أخذت سلائقهم تضعف لبعدهم عن ينابيع اللغة الفصيحة، حتى عند بلغائهم وخطبائهم المفوهين، ويكفي أن نضرب مثلا لذلك ما يروى عن الحجاج من أنه سأل يحيى بن يعمر هل يلحن في بعض نطقه؟ وسؤاله ذاته يدل على ما استقر في نفسه من أن اللحن أصبح بلاء عاما، وصارحه يحيى بأنه

_ 1 كنز العمال 1/ 151. 2 الخصائص لابن جني "طبعة دار الكتب المصرية" 2/ 8.

يلحن في حرف من القرآن الكريم, إذ كان يقرأ قوله عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله تعالى: {أَحَبَّ} بضم أحبّ, والوجه أن تقرأ بالنصب خبرا لكان لا بالرفع1. وإذا كان الحجاج وهو في الذروة من الخطابة والبيان والفصاحة والبلاغة يلحن في حرف من القرآن، فمَنْ وراءه من العرب نازلة المدن الذين لا يرقون إلى منزلته البيانية كان لحنهم أكثر. وازداد اللحن فشوّا وانتشارا على ألسنة أبنائهم الذين لم ينشئوا في البادية مثلهم ولا تغذوا من ينابيعها الفصيحة، إنما نشئوا في الحاضرة واختلطوا بالأعاجم اختلاطا أدخل الضيم والوهن على ألسنتهم وفصاحتهم على نحو ما هو معروف عن الوليد بن عبد الملك وكثرة ما كان يجري على لسانه من لحن2. وكان كثيرون من أبناء العرب وُلدوا لأمهات أجنبيات أو أعجميات، فكانوا يتأثرون بهن في نطقهن لبعض الحروف وفي تعبيرهن ببعض الأساليب الأعجمية3. وكل ذلك جعل الحاجة تمس في وضوح إلى وضع رسوم يعرف بها الصواب من الخطأ في الكلام؛ خشية دخول اللحن وشيوعه في تلاوة آيات الذكر الحكيم. وانضمت إلى ذلك بواعث أخرى، بعضها قومي عربي، يرجع إلى أن العرب يعتزون بلغتهم اعتزازا شديدا، وهو اعتزاز جعلهم يخشون عليها من الفساد حين امتزجوا بالأعاجم، مما جعلهم يحرصون على رسم أوضاعها؛ خوفا عليها من الفناء والذوبان في اللغات الأعجمية. وبجانب ذلك كانت هناك بواعث اجتماعية ترجع إلى أن الشعوب المستعربة أحست الحاجة الشديدة لمن يرسم لها أوضاع العربية في إعرابها وتصريفها حتى تتمثّلها تمثلا مستقيما، وتتقن النطق بأساليبها نطقا سليما. وكل ذلك معناه أن بواعث متشابكة دفعت دفعا إلى التفكير في وضع النحو، ولا بد أن نضيف إلى ذلك رقيّ العقل العربي ونمو طاقته الذهنية نموا أعده للنهوض برصد الظواهر اللغوية وتسجيل الرسوم النحوية تسجيلا تطّرد فيه القواعد وتنتظم الأقيسة انتظاما يهيئ لنشوء علم النحو ووضع قوانينه الجامعة المشتقة من

_ 1 طبقات النحويين واللغويين للزبيدي "طبعة الخانجي" ص22. وانظر البيان والتبيين "طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" 2/ 218. 2 البيان والتبيين 2/ 204, وانظر عيون الأخبار لابن قتيبة 2/ 158، 167. 3 البيان والتبيين 1/ 72، 2/ 210.

الاستقصاء الدقيق للعبارات والتراكيب الفصيحة, ومن المعرفة التامة بخواصها وأوضاعها الإعرابية.

صنيع أبي الأسود الدؤلي وتلاميذه

2- صنيع أبي الأسود 1 الدؤلي وتلاميذه: لما كانت العلوم في الأمم لا تظهر فجأة، بل تأخذ في الظهور رويدا رويدا حتى تستوي على سوقها، كان ذلك مدعاة في كثير من الأمر لأن تغمض نشأة بعض العلوم, وأن يختلط على الناس واضعوها المبكرون. وهذا نفسه ما حدث فيمن نسبت إليهم الخطوات الأولى في وضع النحو العربي، وفي ذلك يقول السيرافي: اختلف الناس في أول من رسم النحو، فقال قائلون: أبو الأسود الدؤلي، وقيل: هو نصر2 بن عاصم، وقيل: بل هو عبد الرحمن3 بن هرمز، وأكثر الناس على أنه أبو الأسود الدؤلي4. وتضطرب الروايات في وضع أبي الأسود للنحو، فمنها ما يجعل ذلك من عمله وحده، ومنها ما يصعد به إلى علي بن أبي طالب، إذ يروون عن أبي الأسود نفسه أنه دخل عليه وهو بالعراق, فرآه مطرقا مفكرا، فسأله فيم يفكر؟ فقال له: سمعت ببلدكم لحنا، فأردت أن أصنع كتابا في أصول العربية، وأتاه بعد أيام فألقى إليه

_ 1 انظر في ترجمة أبي الأسود المتوفى سنة 69 للهجرة الشعر والشعراء لابن قتيبة "طبع دار المعارف" ص707, ومراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي "طبع مكتبة نهضة مصر" ص6, وأخبار النحويين البصريين للسيرافي "طبع بيروت" ص13, وطبقات النحويين واللغويين للزبيدي "طبعة الخانجي" ص13, وأسد الغابة 3/ 69, والإصابة 2/ 232, والأغاني "طبع دار الكتب المصرية" 12/ 297, ونزهة الألباء لابن الأنباري "طبع دار نهضة مصر بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم" ص6, ومعجم الأدباء "طبعة فريد رفاعي" 12/ 34, وإنباه الرواة للقفطي "طبعة دار الكتب المصرية" 1/ 13 وما به من مراجع. 2 انظر في ترجمة نصر المتوفى سنة 89 الزبيدي ص21, والسيرافي ص20, وابن الأنباري ص14, وأبا الطيب اللغوي ص13, ومعجم الأدباء 19/ 224, والقفطي 3/ 343, وما به من مراجع. 3 راجع في ترجمة ابن هرمز المتوفى بالإسكندرية سنة 117 طبقات ابن سعد 5/ 209, والزبيدي ص19, والسيرافي ص21, وابن الأنباري ص15, وإنباه الرواة للقفطي 2/ 172 وما به من مراجع. 4 السيرافي ص13.

صحيفة فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم. الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل" ثم قال له: "اعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر". وتمضي هذه الرواية فتذكر أن أبا الأسود جمع لعلي أشياء وعرضها عليه، كان منها حروف النصب: إن وأن وليت ولعل وكأن، ولم يذكر أبو الأسود: لكن، فقال له علي: لم تركتها؟ فقال: لم أحسبها منها، فقال: بل هي منها، فزدها فيها1. ولهذه الرواية صور أخرى2 تلتقي بها. ويقول القفطي المتوفى سنة 646 للهجرة: "رأيت بمصر في زمن الطلب بأيدي الورّاقين جزءا فيه أبواب من النحو يُجمعون على أنها مقدمة علي بن أبي طالب التي أخذها عنه أبو الأسود الدؤلي"3. فالمسألة لم تقف عند سطور أو بعض أبواب نحوية تذكر مجملة، بل اتسعت لتصبح مقدمة أو رسالة صنّفها علي بن أبي طالب، وكأنه لم يكن مشغولا حين ذهب إلى العراق والكوفة بإعداد الجيوش لحرب معاوية, ولا كان مشغولا بحروب الخوارج، إنما كان مشغولا بالنحو ووضع رسومه وأصوله وفصوله. وطبائع الأشياء تنفي أن يكون قد وضع ذلك، ونفس الرواية السالفة وما أشبهها من الروايات تحمل في تضاعيفها ما يقطع بانتحالها لما يجري فيها من تعريفات وتقسيمات منطقية لا يعقل أن تصدر عن علي بن أبي طالب أو عن أحد من معاصريه، ولعل الشيعة هم الذين نحلوه هذا الوضع القديم للنحو الذي لا يتفق في شيء وأولية هذا العلم ونشأته الأولى. وقد تقف الروايات في الواضع الأول للنحو عند أبي الأسود، غير أنها تعود فتضطرب في السبب الذي جعله يرسمه وفي حاكم البصرة موطنه الذي بعثه على هذا الرسم والأبواب الأولى التي رسمها فيه. فمن قائل: إنه سمع قارئا يقرأ الآية الكريمة:

_ 1 القفطي 1/ 4. 2 انظر ترجمة أبي الأسود في ابن الأنباري ص6 وما بعدها, ومعجم الأدباء لياقوت 14/ 49. وعند ابن الأنباري أن أبا الأسود كان كلما وضع بابا من أبواب النحو, عرضه على إمامه علي بن أبي طالب. 3 القفطي 1/ 5.

{أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} بكسر اللام في رسوله، فقال: ما ظننت أمر الناس يصل إلى هذا واستأذن زياد بن أبيه والي البصرة "45-53هـ", وقيل: بل استأذن ابنه عبيد الله واليها من بعده "55-64هـ" في أن يضع للناس رسم العربية. وقيل: بل وفد على زياد، فقال له: إني أرى العرب قد خالطت الأعاجم وتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاما يعرفون -أو يقيمون- به كلامهم. وقيل: بل إن رجلا لحن أمام زياد أو أمام ابنه عبيد الله، فطلب زياد أو ابنه منه أن يرسم للناس العربية. وقيل: إنه رسمها حين سمع ابنته تقول: ما أحسنُ السماء وهي لا تريد الاستفهام وإنما تريد التعجب، فقال لها قولي: "ما أحسنَ السماءَ". وفي رواية أنه شكا فساد لسانها لابن أبي طالب، فوضع له بعض أبواب النحو وقال له: انحُ هذا النحو، ومن أجل ذلك سمي العلم باسم النحو. ويقول بعض الرواة: إنه وضع أبواب التعجب والفاعل والمفعول به وغير ذلك من الأبواب، ويقول آخرون: إنه وضع أبواب التعجب والاستفهام والعطف والنعت وإن وأخواتها. وقد يكون ذلك من صنع الشيعة، وكأنهم رأوا أن يضيفوا النحو إلى شيعي قديم، فارتفع به بعضهم إلى علي بن أبي طالب، ووقف به آخرون عند أبي الأسود صاحبه الذي كان يتشيع له، ويظهر أن نحلهم إياه وضع النحو قديم، إذ نجد ابن النديم يقول: إنه رأى عند بعض الوراقين أربعة أوراق عن أبي الأسود كتبها يحيى1 بن يعمر المتوفى سنة 129 للهجرة وفيها كلام في الفاعل والمفعول2. وأقدم من ذلك ما جاء عند ابن سلام إذ يقول: "كان أول من أسس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي، وإنما قال ذلك حين اضطرب لسان العرب وغلبت السليقة وكان سراة الناس يلحنون، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم"3. وقد يُشرك بعض الرواة معه في هذا الصنيع تلميذيه نصر بن عاصم

_ 1 انظر في ترجمة ابن يعمر أبا الطيب اللغوي ص25, والزبيدي ص22, وابن الأنباري ص16, والسيرافي ص22, والبيان والتبيين 1/ 377, ومعجم الأدباء 20/ 42, وبغية الوعاة للسيوطي "طبع مطبعة السعادة" ص417. 2 الفهرست لابن النديم "النشرة الثانية للمكتبة التجارية" ص66. 3 طبقات فحول الشعراء لابن سلام "طبع دار المعارف" ص12.

وابن هرمز، إذ يقول الزبيدي: "أول من أصّل النحو وأعمل فكره فيه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدولي ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز، فوضعوا للنحو أبوابا وأصلوا له أصولا، فذكروا عوامل الرفع والنصب والخفض والجزم, ووضعوا باب الفاعل والمفعول والتعجب والمضاف"1. وكل ذلك من عبث الرواة الوضاعين المتزيدين، وهو عبث جاء من أن أبا الأسود نسب إليه حقا أنه وضع العربية, فظن بعض الرواة أنه وضع النحو، وهو إنما وضع أول نقط يحرر حركات أواخر الكلمات في القرآن الكريم بأمر من زياد بن أبيه أو ابنه عبيد الله, وقد اتخذ لذلك كاتبا فطنا حاذقا من بني عبد القيس، وقال له: إذا رأيتني قد فتحت شفتي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، وإن ضممت شفتي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت شفتي فاجعل النقطة من تحت الحرف، فإن أتبعت شيئا من ذلك غنة "تنوينا" فاجعل مكان النقطة نقطتين. وابتدأ أبو الأسود المصحف حتى أتى على آخره، بينما كان الكاتب يضع النقط بصبغ يخالف لونه لون المداد الذي كتبت به الآيات2. وكان هذا الصنيع الخطير الذي سمي باسم رسم العربية سببا في أن يختلط الأمر فيما بعد على الرواة, فتظن طائفة منهم أن أبا الأسود رسم النحو وشيئا من أبوابه، وهو إنما رسم إعراب القرآن الكريم عن طريق نقط أواخر الكلمات فيه. وحمل هذا الصنيع عن أبي الأسود تلاميذه من قراء الذكر الحكيم, وفي مقدمتهم نصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز ويحيى ين يعمر وعنبسة3 الفيل وميمون4 الأقرن، فكل هؤلاء "نقطوا المصحف وأُخذ عنهم النقط وحُفظ وضُبط وقُيِّد وعُمل به واتُّبع فيه سنتهم واقتُدي فيه بمذاهبهم"5 وأضافوا إلى ذلك عملا جليلا هو اتخاذ نقط جديد للحروف المعجمة في المصاحف تمييزا لها

_ 1 الزبيدي ص2. 2 راجع كتاب المحكم في نقط المصاحف للداني "طبع دمشق" ص3 وما بعدها, والقفطي 1/ 5. 3 انظر في ترجمة عنبسة أبا الطيب اللغوي ص11, والزبيدي ص24, والسيرافي ص23, وابن الأنباري ص12, ومعجم الأدباء 16/ 133, وإنباه الرواة 2/ 381, وبغية الوعاة ص368. 4 راجع في ترجمة ميمون أبا الطيب اللغوي ص11, والزبيدي ص24, والسيرافي ص22, ومعجم الأدباء 19/ 209, وإنباه الرواة 3/ 337, وبغية الوعاة ص401. 5 المحكم في نقط المصاحف ص6.

من الحروف المهملة، فقد ذكر الرواة أن الحجاج في ولايته على العرق "74-95هـ" أمر نصر بن عاصم أو يحيى بن يعمر بإعجام حروف المصحف لتمييز الحروف بعضها من بعض1. ويروى أن ابن عاصم كان أول من عشَّر المصاحف وخمَّسها، وبعبارة أخرى: كان أول من قسم آيات المصحف أقساما. وكل من ذكرناهم من تلاميذ أبي الأسود كانوا من قراء الذكر الحكيم، وكان يؤخذ عنهم النقطان جميعا؛ نقط الإعراب ونقط الإعجام. وكان ذلك عملا خطيرا حقا، فقد أحاطوا لفظ القرآن الكريم بسياج يمنع اللحن فيه، مما جعل بعض القدماء يظن أنهم وضعوا قواعد الإعراب أو أطرافا منها، وهم إنما رسموا في دقة نقط الإعراب لا قواعده، كما رسموا نقط الحروف المعجمة من مثل الباء التاء والثاء والنون.

_ 1 التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري ص10.

البصرة تضع النحو

3- البصرة تضع النحو: رأينا البصرة تضع على يد أبي الأسود الدؤلي نقط الإعراب، وقد مضى الناس يأخذونه عن تلاميذه. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن ذلك كان باعثا لهم ولمعاصريهم على التساؤل عن أسباب هذا الإعراب, وتفسير ظواهره مما هيأ لبعض أنظار نحوية بسيطة. وكان طبيعيا بعد أن رسموا نقط الإعجام أن يضعوا له هذا الاسم وأن يضعوا لنقط أبي الأسود اسم نقط الإعراب تمييزا لهما بعضهما عن بعض، كما كان طبيعيا أيضا أن يطلقوا على علامات النقط الخاصة بالإعراب أسماء تفرق بينها، وقد اشتقوها من كلماته لكاتبه "فتحت شفتي وضممتهما وكسرتهما" فسموه على التوالي نقط الفتحة ونقط الضمة ونقط الكسرة. ولا بد أنهم لاحظوا اختلافا في إعراب الأسماء حسب مواضعها من الكلام،

فهي إذا ابتدأ بها المتكلم في العبارة لزمها الرفع إلا إذا تقدمتها إن وأخواتها، وإذا تلت فعلا كانت إما مرفوعة وإما منصوبة. ولا يبعد أن يكونوا قد وضعوا لذلك "مصطلحات المبتدأ والفاعل والمفعول"، ولا يبعد أيضا أن يكونوا لاحظوا اختلافا في كلمات اللغة وأن منها ما يقبل الحركات الثلاث: الضمة والكسرة والفتحة، وهو الأسماء المعربة، وأن منها ما يلزم حركة واحدة وقد يلزم السكون، وسموا الأولى معربة والثانية مبنية. كل ذلك من الممكن وقوعه، ولكن ليس بين أيدينا ما يثبته إثباتا قاطعا سوى ما تمدنا به طبائع الأشياء، فالأصل في كل علم أن تبدأ فيه نظرات متناثرة هنا وهناك، ثم يتاح له من يصوغ هذه النظرات صياغة علمية تقوم على اتخاذ القواعد وما يطوى فيها من أقيسة وعلل. وأول نحوي بصري حقيقي نجد عنده طلائع ذلك هو ابن أبي إسحاق الحضرمي المتوفى سنة 117 للهجرة، وهو ليس من تلاميذ أبي الأسود، ولكنه من القراء، ومن الملاحظ أن جميع نحاة البصرة الذين خلفوه يسلكون في القراء، فتلميذاه عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء وتلميذا عيسى: الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب كل هؤلاء من القراء. ويكثر سيبويه في كتابه من التعرض للقراءات، وكأن ما كان بينها من خلافات في الإعراب هو الذي أضرم الرغبة في نفوس قراء البصرة كي يضعوا النحو وقواعده وأصوله، حتى يتبين القارئ مواقع الكلم في آي الذكر الحكيم من الإعراب المضبوط الدقيق. ومعروف أنه لكي يصاغ علم صياغة دقيقة لا بد له من اطراد قواعده, وأن تقوم على الاستقراء الدقيق، وأن يكفل لها التعليل وأن تصبح كل قاعدة أصلا مضبوطا تقاس عليه الجزئيات قياسا دقيقا. وكل ذلك نهض به ابن أبي إسحاق وتلاميذه البصريون، أما من حيث الاطراد في القواعد فقد تشددوا فيه تشددا جعلهم يطرحون الشاذ ولا يعولون عليه في قليل أو كثير، وكلما اصطدموا به خطئوه أو أولوه. وأما من حيث الاستقراء فقد اشترطوا صحة المادة التي يشتقون منها قواعدهم، ومن أجل ذلك رحلوا إلى أعماق نجد وبوادي الحجاز وتهامة يجمعون تلك المادة من ينابيعها الصافية التي لم تفسدها الحضارة، وبعبارة أخرى: رحلوا إلى القبائل المتبدية المحتفظة بملكة اللغة وسليقتها الصحيحة، وهي قبائل تميم وقيس وأسد

وطيئ وهذيل وبعض عشائر كنانة1. وأضافوا إلى هذا الينبوع الأساسي ينبوعا بدويا زحف إلى بلدتهم من بوادي نجد، وهو نفر من الأعراب الكاتبين قدم إلى البصرة واحترف تعليم شبابها الفصحى السليمة وأشعارها وأخبار أهلها. وفي الفهرست لابن النديم ثبت طويل بأسماء هؤلاء المعلمين2 من الإعراب الذين وثَّقهم علماء البصرة وأخذوا عنهم كثيرا من المادة اللغوية والنحوية سجلوها في مصنفاتهم. وكان القرآن الكريم وقراءاته مددا لا ينضب لقواعدهم، وتوقف نفر منهم إزاء أحرف قليلة في القراءات لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وجدوها لا تطرد مع قواعدهم، بينما تطرد معها قراءات أخرى آثروها، وتوسع في وصف ذلك بعض المعاصرين، فقالوا: إنهم كانوا يردون بعض القراءات ويضعفونها، كأن ذلك كان ظاهرة عامة عند نحاة البصرة مع أنه لا يوجد في كتاب سيبويه نصوص صريحة مختلفة تشهد لهذه التهمة الكبيرة. وسنرى الأخفش الأوسط يسبق الكوفيين المتأخرين إلى التمسك بشواذ القراءات والاستدلال عليها من كلام العرب وأشعارهم. وفي الحق, إن بصريي القرن الثالث هم الذين طعنوا في بعض القراءات، وهي أمثلة قليلة لا يصح أن تتخذ منها ظاهرة ولا خاصة عامة، وقد كانوا يصفونها بالشذوذ ويؤولونها ما وجدوا إلى التأويل سبيلا. وكانوا لا يحتجون بالحديث النبوي ولا يتخذونه إماما لشواهدهم وأمثلتهم؛ لأنه روي بالمعنى إذ لم يكتب ولم يدون إلا في المائة الثانية للهجرة، ودخلت في روايته كثرة من الأعاجم، فكان طبيعيا أن لا يحتجوا بلفظه وما يجري فيه من إعراب، وتبعهم نحاة الكوفة، وفي ذلك يقول أبو حيان: إن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمرو والخليل بن أحمد وسيبويه من أئمة البصريين والكسائي والفراء وعلي بن المبارك الأحمر وهشام الضرير من أئمة الكوفيين لم يحتجوا بالحديث، وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين3. وأما من حيث القياس والتعليل فقد توسعوا فيهما, إذ طلبوا لكل قاعدة علة, ولم يكتفوا بالعلة التي هي مدار الحكم فقد التمسوا

_ 1 المزهر للسيوطي "طبعة الحلبي" 1/ 211. 2 الفهرست ص71 وما بعدها. 3 الاقتراح للسيوطي "طبعة حيدر آباد" ص71, والهمع 1/ 105.

عِلَلا وراءها. وقانون القياس عام، وظلاله مهيمنة على كل القواعد إلى أقصى حد، بحيث يصبح ما يخرج عليها شاذا، وبحيث تفتح الأبواب على مصاريعها ليقاس على القاعدة ما لم يسمع عن العرب ويحمل عليها حملا، فهي المعيار المحكم السديد. وعلى هذه الشاكلة شادت البصرة صرح النحو ورفعت أركانه، بينما كانت الكوفة مشغولة عن ذلك كله، على الأقل حتى منتصف القرن الثاني للهجرة، بقراءات الذكر الحكيم ورواية الشعر والأخبار, وقلما نظرت في قواعد النحو إلا ما سقط إلى بعض أساتذتها من نحاة البصرة إذ كانوا يتتلمذون لهم ويختلفون إلى مجالس محاضراتهم وإملاءاتهم. وكان القدماء يعرفون ذلك معرفة دقيقة, فنصوا عليه بعبارات مختلفة، من ذلك قول ابن سلام: "وكان لأهل البصرة في العربية قدمة, وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية"1, ويصرح ابن النديم في هذا المجال تصريحا أكثر وضوحا إذ يقول في حديثه عن نحاة الكوفة والبصرة: "إنما قدمنا البصريين أولا؛ لأن علم العربية عنهم أخذ"2. وحاول بعض المستشرقين أن يصلوا بين نشوء النحو في البصرة والنحو السرياني واليوناني الهندي, غير أنه لا يمكن إثبات شيء من ذلك إثباتا علميا وخاصة أن النحو العربي يدور على نظرية العامل وهي لا توجد في أي نحو أجنبي، وكل ما يمكن أن يقال: إنه ربما عرف نحاة البصرة الأولون أن لبعض اللغات الأجنبية نحوا، فحاولوا أن يضعوا نحوا للعربية راجعين في ذلك إلى ملكاتهم العقلية التي كانت قد رقيت رقيا بعيدا بتأثير ما وقفوا عليه من الثقافات الأجنبية، وخاصة الفلسفة اليونانية وما يتصل بها من المنطق، مما دعم عقولهم دعما قويا، وجعلها مستعدة لأن تستنبط قواعد النحو وعلله وأقيسته. ويظهر أنه كُفل للبصرة من الصلة بهذه الثقافات في القرن الثاني للهجرة ما لم يكفل للكوفة، فقد كانت مرفأ تجاريا للعراق على خليج العرب. فنزلتها

_ 1 ابن سلام ص12. 2 الفهرست ص102.

عناصر أجنبية كثيرة أعدت في سرعة لوصلها بثقافاتها المختلفة، وأيضا فإنها كانت أقرب من الكوفة إلى مدرسة جُنْدَيْسابور الفارسية التي كانت تدرس فيها الثقافات اليونانية والفارسية والهندية، مما جعل جداول من تلك الثقافات تصب فيها؛ ولذلك كان طبيعيا أن نجد بها أقدم المترجمين، ونقصد ماسرجويه الذي عهد إليه عمر بن عبد العزيز بترجمة كتيب في الطب، ولا نلبث أن نلتقي بابن المقفع الذي نشأ بها وتوفي سنة 143 للهجرة وكان يتقن الفارسية، ويحذق العربية فترجم إليها أروع ما في الفارسية من كنوز تاريخية وأدبية، كما ترجم كليلة ودمنة الهندية منها، وكذلك منطق أرسططاليس. وبذلك نفهم السر في أن عقل البصرة كان أدق وأعمق من عقل الكوفة وكان أكثر استعدادا لوضع العلوم، إذ سبقتها إلى الاتصال بالثقافات الأجنبية وبالفكر اليوناني وما وضعه أرسططاليس من المنطق وحدوده وأقيسته. ويمكن أن نلاحظ آثار ذلك في نشاط المباحث الدينية في البلدتين، فقد عُنيت الكوفة بالفقه بينما عُنيت البصرة بعلم الكلام، وحقا أشاع أبو حنيفة في الفقه القياس والرأي أو الاجتهاد، ولكن من يرجع إلى كتب الفقه الحنفي حتى في العصور المتأخرة يلاحظ أنه ينقصها دائما شيء من التعميم والتعريف ووضع القواعد الكلية, فباب البيع مثلا يفتح، ولا يصاغ له تعريف محدد، ولا تذكر له أركان وشروط، وإنما مسائل متناثرة يتوالى بعضها في إثر بعض. وهكذا دائما في الفقه الحنفي يغلب أن يفتح الباب على فروع دون أصول عقلية تضم شعبها الكثيرة. بينما علم الكلام يناقش مسائل كلية، وهي مسائل ميتافيزيقية، والمسألة تثار في ضوء تفكير فلسفي معقد، مما يدل على صلة المتكلمين العميقة بالفلسفة اليونانية، حتى لنرى الجاحظ يقول: "لا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام, متمكنا في الصناعة, يصلح للرياسة حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة"1. فعقل كل من البلدتين كان مختلفا: عقل مصبوغ بالصبغة الفلسفية المنطقية،

_ 1 الحيوان "طبعة الحلبي" 2/ 134.

وعقل لا يرتفع إلى هذه المنزلة إلا في حدود ضيقة؛ لذلك كان طبيعيا أن لا يصاغ الفقه الحنفي الكوفي صياغة علمية دقيقة، بينما يصاغ النحو في أدق صورة علمية ممكنة على نحو ما سنرى في كتاب سيبويه، وهي صياغة لم تستطع العصور التالية أن تضيف إليها إلا بعض تعريفات وبعض تسميات، أما الأصول وأما القواعد والضوابط والأسس فإنها ظلت قائمة كالأطواد الراسخة.

أوائل النحاة

4- أوائل النحاة: يعد ابن أبي إسحاق الحضرمي أول النحاة البصريين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ويتبعه في هذه الأولية المبكرة جيل من تلاميذه في مقدمتهم عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب. وتذكر كتب طبقات النحاة طائفة ممن عنوا بالعربية من معاصري تلاميذه، لعل أشهرهم حماد1 بن سلمة بن دينار البصري، وكانت رواية الحديث تغلب عليه، غير أنه كان عالما بالنحو، ويروى أن يونس بن حبيب تتلمذ عليه وكذلك سيبويه، ولم ترو له كتب النحو أنظارا نحوية، ولذلك ينبغي أن نخرجه من دائرة النحاة الحقيقيين، ومثله معاصره الأخفش الأكبر2 شيخ يونس وسيبويه جميعا، وكانت تغلب عليه رواية اللغة وليست له في النحو آراء موروثة، وقد أكثر سيبويه من الرواية اللغوية عنه في كتابه. أما الأربعة الأولون فتتردد أسماؤهم عند النحاة وتتردد لهم آراء تجعلهم خليقين بالوقوف قليلا عندهم، ونبدأ بابن أبي إسحاق الذي يعد بحق أستاذ المدرسة البصرية.

_ 1 انظر ترجمة حماد في الزبيدي ص47, ونزهة الألباء ص40, ومعجم الأدباء 10/ 254, والسيرافي ص42, وإنباه الرواة 1/ 329, وتذكرة الحفاظ 1/ 189, وطبقات القراء لابن الجزري 1/ 258, وبغية الوعاة ص240. 2 انظر ترجمته في الزبيدي ص35, ونزهة الألباء ص43, وإنباه الرواة 2/ 157.

ابن 1 أبي إسحاق: هو عبد الله بن أبي إسحاق مولى آل الحضرمي المتوفى سنة 117 للهجرة, وفيه يقول ابن سلام: "كان أول من بَعَجَ "فتق" النحو ومد القياس وشرح العلل". وبذلك يجعله الواضع الأول لعلم النحو، إذ يجعله أول من اشتق قواعده وأول من طرد فيها القياس، بحيث يحمل ما لم يسمع عن العرب على ما سمع عنهم، ويقول أبو الطيب اللغوي: "فرع عبد الله بن أبي إسحاق النحو وقام وتكلم في الهمز، حتى عُمل فيه كتاب مما أملاه". ويروى أن يونس بن حبيب سأله عن كلمة "السويق"، وهو الناعم من دقيق الحنطة، هل ينطقها أحد من العرب "الصويق" بالصاد؟ فأجابه: نعم قبيلة عمرو بن تميم تقولها، ثم قال له: وما تريد إلى هذا؟ عليك بباب من النحو يطرد وينقاس. وهو لم يُعْنَ بالقياس على قواعد النحو فحسب، بل عُني أيضا بالتعليل للقواعد تعليلا يمكِّن لها في ذهن تلاميذه. وجعله تمسكه الشديد بتلك القواعد المعللة والقياس عليها قياسا دقيقا بحيث لا يصح الخروج عليها, يخطئ كل من ينحرف في تعبيره عنها، وكان لذلك كثير التعرض للفرزدق لما كان يورد في أشعاره من بعض الشواذ النحوية، ويذكر الرواة أنه حين سمعه ينشد قوله في مديحه لبعض بني مروان: وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجرفُ2 اعترضه؛ لرفعه قافية البيت وكان حقها النصب لأنها معطوفة -كما يتبادر- على كلمة "مسحتا" المنصوبة، أو بعبارة أدق: لأن القياس النحوي يحتم ذلك ويوجبه. ويظهر أن الفرزدق قصد إلى الاستئناف حتى لا يحدث في البيت إقواء يخالف به حركة الروي في القصيدة. وسمعه مرة يصف رحلته إلى الشام في

_ 1 راجع ترجمة ابن أبي إسحاق في أبي الطيب اللغوي ص12, والزبيدي ص25, والسيرافي ص25, وطبقات فحول الشعراء لابن سلام ص14, ونزهة الألباء ص18, وإنباه الرواة 2/ 104, وطبقات القراء لابن الجزري 1/ 410, وتهذيب التهذيب 5/ 148, وخزانة الأدب للبغدادي 1/ 115, وبغية الوعاة ص282. 2 مسحت ومجرف: مستأصل.

قصيدة مدح بها يزيد بن عبد الملك على هذا النمط: مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور1 على عمائمنا يلقى، وأرحلنا ... على زواحف تزجى، مخها رِير2 فقال له: أسأت, إنما هو "مخها رير" مشيرا بذلك إلى قياس النحو في هذا التعبير؛ لأنه يتألف من مبتدأ وخبر. وما زال ينحي على الفرزدق باللائمة حتى جعل الشطر: على زواحف نزجيها محاسير وكانت مراجعته المستمرة له تغضبه، فهجاه بقصيدة يقول في تضاعيفها هذا البيت: فلو كان عبد الله مولى هجرته ... ولكن عبد الله مولى مواليا3 وما كاد يسمعه منه حتى قال له: "أخطأت أخطأت، إنما هو مولى موالٍ" يريد أنه أخطأ في إجرائه كلمة موال المضافة مجرى الممنوع من الصرف، إذ جرها بالفتحة وكان ينبغي أن يصرفها قياسا على ما نطق به العرب في مثل جوار وغواش, إذ يحذفون الياء منونين في الجر والرفع4. وواضح من كل هذه المحاورات بينه وبين الفرزدق مدى احتكامه للقياس وما ينبغي للقاعدة من الاطراد، بحيث لا يجوز للشاعر مهما كان فصيحا أن يخرج عليها. وكان لا يرى بأسا في أن يخالف أحيانا جمهور القراء في بعض قراءاتهم لآي الذكر الحكيم تمسكا بالقياس النحوي، ومن ذلك أنه كان يخالفهم في قراءة آية المائدة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فقد كانوا يقرءون: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} بالرفع على الابتداء، بينما الخبر فعل أمر، وجعله ذلك يقرؤهما بالنصب5 على المفعولية. وواضح أنه فتح لنحاة البصرة من بعده تلاميذه وغير تلاميذه بمراجعاته للفرزدق أن يخطئوا الشعراء الفصحاء لا من الإسلاميين مثل الفرزدق فحسب،

_ 1 الشمال: الريح. الحاصب: الريح التي تحمل الحصباء. 2 الزواحف: الإبل العجفاء التي أعيت فجرت خفافها. تزجى: تساق. رير: ذائب. 3 كان ابن أبي إسحاق مولى آل الحضرمي, وكانوا بدورهم موالي لبني عبد شمس القرشيين. 4 الكتاب لسيبويه "طبعة بولاق" 2/ 58, وانظر خزانة الأدب 1/ 115. 5 شواذ القراءات لابن خالويه ص32.

بل أيضا من الجاهليين على نحو ما سنرى عند تلميذه عيسى بن عمر. ولم يؤثر عنه كتاب في النحو، وكأنه كان يكتفي بمحاضراته وإملاءاته على تلاميذه، وكل ما أثر عنه كتاب في الهمز كما أسلفنا، ويبدو أنه عالج فيه مسألة رسمها حين توصل وحين تقطع وحين تسهل وحين تدخل على همزة أخرى وحين تتصل بحروف العلة، مما يتصل بالدقة في كتابة الذكر الحكيم, إذ كان من القراء النابهين في موطنه. عيسى 1 بن عمر الثقفي: بصري من موالي آل خالد بن الوليد، نزل في ثقيف فنُسب إليها، وهو أهم تلاميذ ابن أبي إسحاق، وقد مضى على هديه يطرد القياس ويعمّمه، ومن أقيسته ما حكاه سيبويه عنه من أنه كان يقيس النصب في كلمة "يا مطرا" في قول الأحوص: سلام الله يا مطرا عليها ... وليس عليك يا مطر السلام على النصب في كلمة "يا رجلا" وكأنه يجعل مطرا في تنوينها ونصبها كالنكرة غير المقصودة2. وكان مثل ابن أبي إسحاق يطعن على العرب الفصحاء إذا خالفوا القياس، وكان يصعد في هذا الطعن حتى العصر الجاهلي، من ذلك تخطئته النابغة في قوله: فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع3 إذ جعل القافية مرفوعة، وحقها أن تنصب على الحال؛ لأن المبتدأ قبلها

_ 1 انظر في ترجمة عيسى أبا الطيب اللغوي ص21, والزبيدي ص35, والسيرافي ص31, والفهرست ص68, ونزهة الألباء ص21, ومعجم الأدباء 16/ 146, وابن الجزري 1/ 613, وإنباه الرواة 2/ 374, ومرآة الجنان لليافعي 1/ 307, وشذرات الذهب لابن العماد 1/ 224, وبغية الوعاة ص270. 2 كتاب سيبويه 1/ 313, وانظر الموشح للمرزباني ص41. 3 ساورتني: واثبتني. ضئيلة: دقيقة، ويريد أفعوانا. الرقش: الأفاعي التي تختلط في جلدها نقط سوداء وبيضاء. ناقع: قاتل.

تقدمه الخبر وهو الجار والمجرور، وكأنه النابغة ألغاهما لتقدمهما وجعل ناقعا الخبر1. ومن أقيسته في القراءات أنه كان يقرأ الآية الكريمة: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} بنصب كلمة الطير، وكان يقول هو على النداء كما تقول: "يا زيد والحارث" ولما لم يكن القائل: "ويا الحارث" نصب الكلمة، لأن يا لا تدخل في النداء على المعرف بالألف واللام. ويروى أنه كان يخالف جمهور القراء في قراءة الآية الكريمة: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} إذ كان يقرؤها بنصب أطهر على الحال وجعل هن ضمير فصل. ويبدو أنه كان يلفظ في تقدير العومل المحذوفة، ومن ذلك ما رواه سيبويه عنه من أنه كان يلفظ قولهم:"ادخلوا الأول فالأول" برفع الكلمتين الأخيرتين على تقدير أنهما مرفوعتان بفعل مضارع محذوف تقديره: "ليدخل"2. وكأنه لقن تلميذه الخليل والنحاة من بعده فكرة تقدير العوامل المحذوفة التي عمومها في كثير من العبارات. ووضع أصلا مهما يدل على دقة حسه اللغوي هو اختيار النصب في الألفاظ التي جاءت عن العرب في بعض العبارات مرفوعة ومنصوبة3، وكأنه أحس في وضوح أن العرب تنزع إلى النصب أكثر مما تنزع إلى الرفع لخفته، فجعل النصب فوق الرفع وعده الأساس. وليس ذلك كل ما تحقق للنحو عنده من رقي، فقد خطا به خطوة كبيرة، إذ ألف فيه رسائل ومصنفات مختلفة، اشتهر منها لعصره مصنفان مهمان هما: "الجامع" و"الإكمال" وكأنه جمع مسائل النحو وقواعده في أولهما ثم رأى إكمال تلك القواعد والمسائل في الكتاب الثاني. وقد أقام قواعده في الجامع على الأكثر في كلام العرب وسمي ما شذ عن ذلك لغات، ويقال إن سيبويه لما أحضره ليقرأه على الخليل أنشد تنويها به وبالإكمال: بطل النحو جميعا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر ذاك إكمال وهذا جامع ... فيهما للناس شمس وقمر وزعم بعض القدماء أن الجامع هو أصل كتاب سيبويه زاد فيه وحشاه بأقوال الخليل، ولم يصل إلينا الكتاب للنناقش هذا الزعم ونتبين صحته أو فساده.

_ 1 كتاب سيبويه 1/ 261. 2 الكتاب 1/ 199. 3 ابن سلام ص18؟

وواضح مما قدمنا أن عيسى ين عمر هو الذي مكَّن للنحو وقواعده التي اعتمدها تلميذه الخليل ومن تلاه من البصريين سواء في محاضراته وإملاءاته أو في مصنفاته. وقد توفي سنة 149 للهجرة, تاركا للخليل جهوده النحوية كي يتم صرح النحو, ويكمل تشييده. أبو عمرو 1 بن العلاء: اسمه كنيته، وفي بعض الروايات اسمه: زبان بن العلاء المازني التميمي، ولد سنة 70 للهجرة بمكة ونشأ وعاش بالبصرة حتى توفي بها سنة 154 للهجرة، وقد تتلمذ لابن أبي إسحاق على نحو ما تتلمذ عيسى بن عمر، غير أن عيسى قصر عنايته أو كاد على النحو، أما أبو عمرو فعني بإقراء الناس القرآن في المسجد الجامع بالبصرة، وهو أحد قرائه السبعة المشهورين، كما عني بلغات العرب وغريبها وأشعارها وأيامها ووقائعها، وفي ذلك يقول الجاحظ عنه: "كان أعلم الناس بالغريب والعربية وبالقرآن والشعر وبأيام العرب وأيام الناس". فهو إلى أن يكون من اللغويين والقراء أقرب منه إلى أن يكون من النحاة، غير أنه نُقلت عنه بعض أنظار نحوية، جعلتنا نسلكه بين أوائلهم، خاصة أن ابن جني يقول: كان ممن نظروا في النحو والتصريف وتدربوا وقاسوا2. ولكن لم يكن هذا هو الجانب الذي شغله، ولعل ذلك هو السبب في أن سيبويه لم يرو عنه ولا عن تلاميذه شيئا مهما له في النحو ومسائله، إنما روى عنه بعض الشواهد اللغوية, ولم يأخذها عنه مباشرة, إنما أخذها عن تلميذه يونس بن حبيب، وكأنه لم يلقه ولم يجلس إليه. وفي أخباره ما يدل على أنه كان يأخذ بالاطراد في القواعد ويتشدد في القياس, فقد قال له بعض معاصريه: "أخبرني عما وضعتَ مما سميته عربية أيدخل فيها كلام العرب كله؟ فقال: لا، فقال له: كيف تصنع فيما خالفتك

_ 1 انظر في ترجمة أبي عمرو أبا الطيب اللغوي ص13, والزبيدي ص28, والسيرافي ص28, ونزهة الألباء ص24, ومعجم الأدباء 11/ 156, والفهرست ص48, وابن الجزري 1/ 288, والأنساب الورقة 555, وتهذيب التهذيب 12/ 178, ومرآة الجنان 1/ 325, وشذرات الذهب 1/ 237, وبغية الوعاة ص367. 2 الخصائص 1/ 249.

فيه العرب وهم حجة؟ قال: أعمل على الأكثر، وأسمي ما خالفني لغات". ورُويت له في كتب النحاة بعض آراء نحوية قليلة، من ذلك أنه كان يرى أن المنصوب في قولهم: "حبذا محمدٌ رجلًا" تمييز لا حال1. وكان يترك صرف سبأ في قوله تعالى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} وكأنه جعله اسما للقبيلة2. والحق أنه لم يكن نحويا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، إنما كان لغويا وراويا ثقة من رواة الشعر القديم، إذ كان قد سمع عن العرب وأكثر من السماع. يونس 3 بن حبيب: من موالي بني ضَبَّة، وقد لحق ابن أبي إسحاق وروى عنه، إذ وُلد سنة 94 للهجرة، وعاش طويلا، إذ توفي سنة 182, ويظهر أنه اختلف إلى حلقات عيسى بن عمر، وقد لزم أبا عمرو بن العلاء، ورحل إلى البادية وسمع عن العرب كثيرا، مما جعله راويا كبيرا من رواة اللغة والغريب، ولعل ذلك ما جعله يصنف كتابا في اللغات. وكانت حلقته في البصرة تغص بالطلاب، وفي مقدمتهم أبو عبيدة اللغوي وسيبويه، واسمه يتردد في كتابه، ولكن غالبا في شواهد اللغة لا في الآراء النحوية، فسيبويه -على ما يبدو- لم يكن يعجب بتلك الآراء، وكان الخليل قد استولى عليه، فلم يكد يترك فيه بقية لغيره وخاصة في قواعد النحو وأقيسته، وبذلك غدا يونس في نحوه وما وضعه من أقيسة أمة وحده، وتنبه إلى ذلك القدماء، فقالوا: "كانت ليونس مذاهب وأقيسة تفرد بها". ونحن نسوق طائفة من آرائه التي تخالف آراء سيبويه وأستاذه الخليل، من ذلك أن الخليل كان يرى أن الزائد في مثل قطّع هو الحرف الأول، وكان يونس يرى أنه الحرف الثاني4. وكان

_ 1 المغني لابن هشام "طبعة دار الفكر بدمشق" ص515, وكان يذهب إلى أن بني تميم تهمل ليس مع إلا حملا على ما, كقولهم: ليس الطيب إلا المسك بالرفع "همع الهوامع" 1/ 115. 2 الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري "طبعة أوروبا" ص207. 3 انظر في ترجمة يونس أبا الطيب اللغوي ص21, والسيرافي ص33, وابن الأنباري ص49, ومعجم الأدباء 20/ 64, وابن الجزري 2/ 406, وشذرات الذهب 1/ 301, وبغية الوعاة ص426. 4 الخصائص 2/ 61.

الخليل يرى أن مفعول ننزع محذوف في الآية الكريمة: {لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} والتقدير: لننزعن الفريق الذين يقال فيهم: أيهم أشد، وقال يونس: جملة "أيهم أشد" هي المفعول1. وكان الخليل وسيبويه يريان أن تصغير قبائل: قُبَيْئل، وكان يونس يرى أن تصغيرها: قُبَيِّل2. وكان سيبويه لا يرد المحذوف في التصغير, فمثل يضع تصغر على يُضَيْع، بينما كان يرده يونس فيقول في تصغير يضع: يُوَيْضع3. وكان يذهب إلى أن تاء أخت وبنت ليست للتأنيث؛ لأن ما قبلها ساكن صحيح, ولأنها لا تبدل في الوقف هاء4، كما كان يذهب إلى أن الشاعر في قوله: إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نزل أراد: أو أنتم تنزلون، فعطف الجملة الاسمية على الجملة الشرطية، وكان الخليل وسيبويه يذهبان إلى أن ذلك من باب العطف على التوهم5. وعلى هذا النحو وقع يونس بعيدا عن تطور نظرية النحو على شاكلة ما انتهت إليه في الكتاب عند سيبويه، والنحاة الذين يوضعون بحق في تطورها هم ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر، ثم الخليل بن أحمد وسيبويه على نحو ما سيتضح ذلك عما قليل.

_ 1 المغني ص82. 2 المنصف شرح تصريف المازني, لابن جني 2/ 85. 3 الخصائص 3/ 71. 4 شرح التصريح على التوضيح "طبعة عيسى الحلبي" وبهامشه حاشية الشيخ يس العليمي 1/ 74. 5 الكتاب 1/ 429, والمغني ص773.

الفصل الثاني: الخليل

الفصل الثاني: الخليل 1- نشاطه العقلي والعلمي: هو الخليل1 بن أحمد الفراهيدي البصري، عربي من أزدعمان، ولد سنة مائة للهجرة، وتوفي سنة مائة وخمس وسبعين، ومنشؤه ومرباه وحياته في البصرة، وقد أخذ يختلف منذ نعومة أظفاره إلى حلقات المحدثين والفقهاء وعلماء اللغة والنحو، وأكبّ إكبابا على حلقات أستاذيه عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء، كما أكب على ما نُقل من علوم الشعوب المستعربة، وخاصة العلوم الرياضية، وكان صديقا لابن المقفع مواطنه، فقرأ كل ما ترجمه وخاصة منطق أرسططاليس، كما قرأ ما ترجمه غيره من علم الإيقاع الموسيقي عند اليونان، وحذق هذا العلم حذقا جعله يؤلف فيه كتابا كان الأصل الذي اعتمد عليه إسحاق الموصلي في تأليف كتابه الذي صنفه في النغم واللحون. وكان عقل الخليل من العقول الخصبة النادرة، فهو لا يلم بعلم حتى يلتهمه التهاما، بل حتى يستوعبه ويتمثله وينفذ منه إلى ما يفتح به أبوابه الموصده، وحقا ما قاله ابن المقفع فيه من أن عقله كان أكثر من علمه، وهو عقل جعله يتصل بكل علم ويحوز لنفسه منه كل ما يبتغي من ثراء في التفكير ودقة في الاستنباط،

_ 1 انظر في ترجمة الخليل أبا الطيب اللغوي ص27, والزبيدي ص43, والسيرافي ص38, ونزهة الألباء ص45, والأنساب للسمعاني الورقة 421, ومعجم الأدباء 11/ 72, ومقدمة تهذيب اللغة للأزهري, وابن خلكان في الخليل, وإنباه الرواة 1/ 341, وتهذيب الأسماء واللغات 1/ 177, وتهذيب التهذيب 3/ 163, وطبقات القراء لابن الجزري 1/ 275, وسرح العيون لابن نباتة "طبعة دار الفكر العربي" ص268, ومرآة الجنان 1/ 362, وشذرات الذهب 1/ 275, وروضات الجنات ص272, وبغية الوعاة ص243.

دقة تذهل كل من يقف على وضعه لعروض الشعر ورفعه لصرح النحو ورسمه المنهج الذي ألف عليه معجم العين أول معجم في العربية. ولما أدركته الشهرة لم يستغلها لنفسه وتحقيق ما حققه بعض معاصريه من الثراء العريض، بل مضى مزدريا للشهرة وما قد يطوى فيها من مجد مادي، مكتفيا بكفاف العيش، وفي ذلك يقول النضر بن شميل أحد تلاميذه: "أقام الخليل في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلس, وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال". وعلى هذا النحو كان يزدري الخليل متاع الحياة الدنيا الذي كان الناس يشغفون به من حوله، ومتاع واحد هو الذي كان يلتمسه ويسعى إليه ويلح في السعي، هو المتاع العقلي الذي جعله يتكلف الجهد العنيف الممضّ في فتح أبواب العلوم اللغوية التي طال على العلماء من قبله ومن حوله قَرْعها دون أن تنفتح لهم، حتى إذا مستها عصاه السحرية انفتحت أغلاقها وفارقتها طلاسمها، وذلت له وانقادت. وأول ما يلاحظ من ذلك اكتشافه علم العروض اكتشافا ليس له سابقة ولا تدانيه لاحقة، إذ استطاع أن يرسمه بكل أوزانه وحدوده وتفاعيله وتفاريعه، غير مبق لمن جاءوا بعده شيئا يضيفونه إليه. وهو يحمل في تضاعيفه ما يشهد بتمثله تمثلا رائعا للنغم وعلم الإيقاع ومواضعه, كما يحمل ما يشهد بإتقانه لنظريات العلوم الرياضية في عصره علما وفقها وتحليلا، وخاصة نظريتي المعادلات، والتباديل والتوافيق، فقد اشتق له تفاعيل خاصة، وأدارها في دوائر كدوائر المهندسين مستخدما إشارات من النقط والحلقات تصور ما يجري في التفعيلات من زحافات، كما تفسح لأجزائها في التقدم والتأخر، بحيث تجمع الأوزان العروضية التي عرفها العرب وما لا يحصى من أوزان جديدة لم يعرفوها ولا ألفوها، مما أتاح للعباسيين أن ينظموا على أوزان جديدة أهملها أسلافهم, ولم يودعوا فيها شيئا من منظوماتهم. ولم يستغل الخليل نظرية التباديل والتوافيق الرياضية في وضعه علم العروض فحسب، فقد استغلها أيضا في وضع منهج قويم لمعجم العين المشهور، إذ بناه على تقليب كل الصيغ الأصلية، بحيث تندرج فيه مع كل كلمة الكلمات الأخرى التي تجمع حروفها, وتختلف في ترتيبها بتقديم بعض منها على بعض،

فكتب مثلا يوضع معها: كبت، وتكب، وتبك، وبكت، وبتك. وبذلك حصر في المعجم جميع الكلمات التي يمكن أن تقع في العربية، مميزا دائما بين ما استعملته العرب منها وما أهملته ولم تنطق به، على نحو ما ميز في العروض بين الأوزان المستعملة والأخرى المهملة. ورأى أن يكون ترتيب الكلمات في المعجم على مخارج الحروف ومواقعها من الجهاز الصوتي وهو الحلق واللسان والفم والشفتان، بادئا بحرف العين وبه سماه. وهو صنيع يلتقي فيه بصنيع الهنود في ترتيبهم لحروف لغتهم السنسكريتية وربما عرف ذلك من بعض نازلتهم في موطنه، وهي في معجمه مرتبة على هذا النحو1: العين، الحاء، الهاء، الخاء، الغين، القاف، الكاف، الجيم، الشين، الضاد، الصاد، السين، الزاي، الطاء، الدال، التاء، الظاء، الذال، الثاء، الراء، اللام، النون، الفاء، الباء، الميم، الياء، الواو، الألف. وهو ترتيب أساسه كما ذكرنا آنفا مخارج الحروف ومدارجها، وهي عنده سبعة عشر مخرجا موزعة على الجوف والحلق وأول الفم ومناطق اللسان وحافته وطرفه والثنايا والشفة السفلى والشفتين. واتهم القدماء مادة هذا المعجم وقالوا: إنها ليست من عمله، وإنما هي من عمل تلميذه الليث بن رافع باسطين في ذلك أدلة قوية2، غير أنهم اتفقوا على أنه هو الذي رسم منهجه له، لما لاحظوه من التقاء منهجه بمنهج علم العروض الذي رسمه، وقيام المنهجين جميعا على أساس نظرية التباديل والتوافيق الرياضية. ويظهر أنه عرف المباحث الصوتية عند الهنود وكانت قد نمت عندهم نموا واسعا3، وأضاف على ضوئها مادة صوتية غزيرة, نقل منها تلميذه سيبويه في كتابه نقولا كثيرة، كما نقلت منها الكتب المتأخرة، وهي ترد إلى ثلاثة جوانب، أولها ذوق أصوات الحروف عن طريق فتح الفم بألف مهموزة يليها الحرف المذاق ساكنا، فيقال في الباء: أبْ وفي التاء: أتْ وهلم جرا4. وبذلك يتضح صوت الحرف بالوقوف عليه ساكنا والمكث عنده قليلا، بخلاف ما

_ 1 انظر ذلك في مقدمة لسان العرب. 2 المزهر للسيوطي "طبعة الحلبي" 1/ 77 وما بعدها. 3 راجع التطور النحوي للغة العربية لبرجشتراسر ص5. 4 مقدمة لسان العرب.

لو وُصِل بحرف بعده, فإننا حينئذ لا نتمكن من إشباع الصوت، إذ نتهيأ للنطق بصوت الحرف التالي له. وثاني هذه الجوانب وصف الأجراس الصوتية للحروف من همس وجهر وشدة ورخاوة واستعلاء واستفال، مما يتناثر في صحف كتاب سيبويه، وجعله ذلك يقف عند أصوات الحركات وما يداخلها من إمالة وروم وإشمام. والإمالة معروفة، والروم حركة مختلسة ضعيفة، أما الإشمام فهو أن تذيق الحرف الضمة أو الكسرة بحيث لا تكاد تُسمَع وإنما تُرَى في حركة الشفة، فهو أقل من الروم همسا وخفة. وأما الجانب الثالث فهو ما يحدث للصوت في بنية الكلمة من تغير يفضي إلى القلب أو الحذف أو الإعلال أو الإبدال أو الإدغام، وقد عرض على هذا الجانب مادة اللغة عرضا تدافعت سيوله وأمواجه تدافعا عند سيبويه. وجعله عمق نظره في هذه الجوانب الصوتية وخاصة الجانب الثاني, يحاول أن يصوغ شكل الأصوات صياغة دقيقة، مما جعله يدخل على النقط أو الإعجام علامات للروم والإشمام والتشديد والهمزة المتصلة والمنقطعة1، واخترع علامات الضبط التي لا نزال نستعملها إلى اليوم, إذ أخذ من حروف المد صورها مصغرة للدلالة عليها، فالضمة واو صغيرة في أعلى الحرف لئلا تلتبس بالواو المكتوبة، والكسرة ياء متصلة تحت الحرف، والفتحة ألف مبطوحة فوقه2. وكان له في النقط والشكل كتاب اتخذه الأسلاف إمامهم مددا متطاولة من الزمن. وما زال يوالي هذا النشاط العقلي والعلمي حتى توفي سنة 175 للهجرة.

_ 1 المحكم في نقط المصاحف للداني ص6. 2 الداني ص7.

إقامته صرح النحو والتصريف

2- إقامته صرح النحو والتصريف: كان عقل الخليل عقلا فذا، كلما مس شيئا نظمه واستنبط قوانينه ودقائقه، وقد سلط هذا العقل على قوانين العربية في النحو والتصريف. فإذا هو يكتشفها اكتشافا دقيقا، وحقا لم يترك فيها كتابا جامعا، إنما ترك، إن

صح ما ذكره المترجمون له، كتابات فرعية كرسالة له في معنى الحروف, وثانية في جملة آلات الإعراب، وثالثة في العوامل, ويظن القفطي أنها منتحلة عليه، ورابعة لعلها من عمل غيره إذ تسمى "شرح صرف الخليل". ولكنه إذا كان لم يترك في النحو والتصريف كتابا كبيرا مأثورا يضم فروعهما وشعبهما الكثيرة, فإن تلميذه سيبويه سجل في كتابه كثيرا من بحوثه النحوية والصرفية، حتى كأنه كان موكلا بأن لا يترك له رأيا مهما يتصل بقواعد العِلْمين ومسائلهما إلا دوّنه حتى قال القدماء: إن كتابه من تصنيفه وتصنيف أستاذه الخليل وعبروا عن ذلك عبارات مختلفة من مثل قول ثعلب: "الأصول والمسائل في الكتاب للخليل", ويقول أبو الطيب اللغوي: "عقد سيبويه كتابه بلفظه ولفظ الخليل", ويقول السيرافي: "عامة الحكاية في كتاب سيبويه عن الخليل أستاذه، وكل ما قاله سيبويه, سألته أو قال من غير أن يذكر قائله فهو الخليل". وكل من يقرأ الكتاب يحس في وضوح بما قاله ثعلب من أن الأصول وأمهات المسائل النحوية والصرفية من عمل الخليل، وكأنه بالقياس إلى سيبويه كان الكنز الذي لا ينفد. وحقا سبقت الخليل في النحو والتصريف خطوات مهمة، وخاصة عند ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر، ولكن من الحق أيضا أنه هو الذي رفع قواعدهما وأركانهما وشاد صرحهما وبناءهما الضخم، بما رسم من مصطلحاتهما وضبط من قواعدهما، وبما شعب من فروعهما، يهتدي في ذلك ببصيرته النافذة التي أتاحت له وضع علم العروض وضعا تاما بحيث لم تستطع الأجيال التالية أن تضيف إلى صنيعه شيئا. وبالمثل تناول علمي النحو والتصريف ساذجين من أسلافه، وما زال بهما حتى استويا في صورتهما التي ثبتت على الزمن، ونستطيع أن نقول في إجمال: إن جمهور ما يصوره سيبويه في كتابه من أصول النحو والتصريف وقواعدهما إنما هو من صنيع أستاذه. ولا ينكر أحد ما لسيبويه من إكمال في العلمين وتتميم، ولكن المهم أن واضع تخطيطيهما وراسم لوحتيهما إنما هو الخليل، يتضح ذلك في محاوراته التي لا تكاد تنتهي مع تلميذه والتي تدور فيها مصطلحات النحو والصرف وأبوابهما، من مثل المبتدأ والخبر وكان وإن وأخواتهما والأفعال اللازمة والمتعدية إلى مفعول به واحد أو مفعولين أو مفاعيل، والفاعل

والمفاعيل على اختلاف صورها والحال والتمييز والتوابع والنداء والندبة والاستغاثة والترخيم والممنوع من الصرف، وتصريف الأفعال والمقصور والممدود, والمهموز والمضمرات, والمذكر والمؤنث, والمعرب والمبني. وهو الذي سمى علامات الإعراب في الأسماء باسم الرفع والنصب والخفض, وسمى حركات المبنيات باسم الضم والفتح والكسر, أما سكونها فسماه الوقف، وسمى الكسرة غير المنونة في مثل: مررت بعبد الله باسم الجر، كما سمى السكون الذي يقع في أواخر الأفعال المضارعة المجزومة باسم الجزم1، وكان يرى أن الألف والياء والواو في التثنية وجمع المذكر السالم هي نفس حروف الإعراب2، كما كان يرى أن أسماء الأفعال مبنية ولا محل لها من الإعراب، مثلها في ذلك مثل ضمير الفصل3. وأدته بحوثه الواسعة في بنية الكلمة وما لحروفها من أصالة وزيادة إلى أن يقسم الكلمات إلى مجردة ومزيدة، ملاحظا أن المجردة لا تزيد على خمسة ولا تقل عن ثلاثة4. ووضع للأبنية المجردة والمزيدة الميزان الصرفي المشهور، وهو شديد الصلة بميزان تفاعيله في العروض مما يؤكد أنه هو واضعه، وقد اتخذ فيه من تفعيلة الصيغة الثلاثية المجردة أصلا هو "فعل" وأضاف إليها لاما في وزن الرباعي المجرد مثل جعفر فوزنه فعلل, ولامين في وزن الخماسي المجرد مثل سفرجل فوزنه فعلَّل، أما الكلمات المزيدة فلاحظ أن حروف الزيادة فيها عشرة، وتجمعها حروف كلمة "سألتمونيها", وقد رأى أن تنطق في الميزان بلفظها؛ ليمتاز الأصلي من المزيد، فمثلا: أكرم وزنها أفعل, وتفضّل وزنها تفعّل, واقتطف وزنها افتعل, وانكسر وزنها انفعل, واستغفر وزنها استفعل، ومثلا: إكرام وزنها إفعال, واقتطاف وزنها افتعال, وانكسار وزنها انفعال, واستغفار وزنها استفعال, ومصباح وزنها مفعال. وإليه يرجع الفضل في وضع قوانين الإعلال والقلب، ويكفي أن نذكر لذلك ثلاثة أمثلة، أما أولها فصيغة اسم المفعول من الفعل الأجوف مثل مقول ومبيع, فقد كان يرى

_ 1 مفاتيح العلوم للخوارزمي "طبعة القاهرة 1930" ص30, وانظر شرح ابن يعيش على المفصل للزمخشري "طبع القاهرة" 1/ 72. 2 الإيضاح في علل النحو للزجاجي "طبعة القاهرة" ص130، 141, والإنصاف لابن الأنباري ص13, وكتابه أسرار العربية "طبع دمشق" ص51. 3 المغني لابن هشام "طبعة دار الفكر بدمشق" ص550. 4 الجزء المطبوع من كتاب العين ص3.

أن واو مفعول الزائدة هي المحذوفة من الصيغتين؛ لأن الزائد أولى بالإعلال من الأصلي، وبذلك يكون وزن الكلمتين عنده "مَفْعُل" و"مَفْعِل", بينما يذهب بعض النحاة الذين خلفوه إلى أن عين صيغة اسم المفعول هي المحذوفة، وأن وزنهما لذلك: "مَفول"1. والمثال الثاني صيغة اسم الفاعل من الفعل الأجوف المهموز مثل جاءٍ من جاءَ، وكان يرى أنه حدث في الصيغة قلب، إذ قدمت ياء لفظة جائي على الهمزة، وذلك أن اسم الفاعل من الفعل الأجوف الثلاثي تقلب عينه همزة مثل سائل، فلو لم تقدم الياء لأدى ذلك إلى انقلابها همزة وأن تجتمع همزتان في كلمة واحدة وهو شيء تكرهه العرب في لغتها، ومن أجل ذلك قدر حدوث قلب في الصيغة، فأصبحت "جايئ": "جائي"، وأعدها ذلك لأن تعل إعلال كلمة قاضٍ، فأصبحت "جاءٍ" ودعم رأيه في هذا الإعلال والقلب بقياس كلمة جاءٍ على كلمة شاكٍ في قول طريف بن تميم العنبري: فتعرفوني أنني أنا ذاكم ... شاك سلاحي في الحوادث معلم فإنه قدم الكاف على الهمزة في الصيغة الأصلية لكلمة "شاك", إذ أصلها: "شائك", فأصبحت "شاكئ" ثم أعلها فأصبحت "شاكٍ" ووزنها إذن "فالع" لا فاعل2. أما المثال الثالث فكلمة "أشياء" فإنها جاءت عن العرب ممنوعة من الصرف مع أنها جمع شيء, وصيغة جمعها وهي أفعال لا تمنع من الصرف، ومن أجل ذلك ذهب الخليل إلى أنه حدث فيها قلب، وأنها ليست على وزن أفعال كما يتبادر، فقد جُمعت "شَيْئاء" على وزن فعلاء الممنوع من الصرف مثل خضراء بعلة ألف التأنيث الممدودة، والكلمة إذن اسم جمع لا جمع، وحدث فيها قلب مكاني, إذ قدمت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة على فائها، وبذلك أصبح وزنها "لفعاء" لا فعلاء وظلت ممنوعة من الصرف. واستدل الخليل على رأيه بأن الكلمة تجمع على "أشاوى" كما

_ 1 الخصائص 2/ 66, والمنصف شرح تصريف المازني لابن جني "طبعة مطبعة مصطفى الحلبي" 1/ 287, والأشباه والنظائر للسيوطي "طبعة حيدر آباد" 1/ 40. 2 المنصف 2/ 52, وانظر الكتاب 2/ 129، 378.

تجمع صحراء على صحارى، وأصلها عنده "أشايا", فأبدلت الياء واوا1. وعلى هذا النحو من التحليل للقلب والإعلال في هذه الأمثلة, كان الخليل يحلل تحليلا واسعا عبارات اللغة، كما كان يحلل أدواتها وصيغها اللفظية تحليلا جعله يلتفت فيها إلى النحت, وأن من الممكن أن تكون الكلمة استُخلصت من كلمتين، من ذلك اسم الفعل "هلمّ" فإنه ذهب إلى أنه مركب من "ها" للتنبيه وفعل "لُمّ" أي: لُمَّ بنا، ثم كثر استعمال الصيغة فحذفت الألف من "ها" تخفيفا؛ لأن اللام بعدها وإن كانت متحركة فإنها في حكم الساكنة، وكأنها حذفت لالتقاء الساكنين فصارت "هلم"2. ومن ذلك تحليله للفظة "مهما" الشرطية, فقد كان يرى أن أصلها "ما" ثم دخلت عليها "ما" التي تدخل على أخواتها الشرطيات مثل أينما، واستُقبح التكرار في "ما ما" فأبدلت الألف الأولى هاء؛ لأنها من مخرجها، وحسن اللفظ بها3. ومن ذلك "لن" الناصبة للمضارع، فأصلها عنده: "لا أن", فحُذفت الهمزة تخفيفا لكثرة دوران الصيغة في الكلام على نحو حذفها في مثل: "خذ وكل ومر وسل" ثم حذفت الألف لسكونها وسكون النون بعدها، أو بعبارة أخرى: حذفت لالتقاء الساكنين4. ومن ذلك تحليله لكلمة "ليس" فأصلها عنده: لا أيس، فطرحت الهمزة وألصقت اللام بالياء5, ومن ذلك كلمة إذن فأصلها عنده إذ أن6. وكان يمتاز بحس لغوي دقيق جعله يفقه أسرار العربية ودقائقها في العبارات والألفاظ فقها لعل أحدا من معاصريه لم يبلغه، ويتوقف سيبويه مرارا لينقل عنه مثل "إن هذه العبارة أو هذه الظاهرة تكرهها العرب" أو "إن هذه الصيغة جيدة في لسانهم، أو إنهم يميلون إلى هذا الأداء رغبة في التخفيف". ومن أروع الجوانب التي يتضح فيها ذوقه اللغوي المرهف أحاديثه الكثيرة التي نقلها عنه سيبويه في الإدغام والإعلال ومواضع قلب الواو ياء والياء واوا. ومما يصور مدى حسه اللغوي الحاد ملاحظته حكاية العرب لصوت الجندب بقولهم: "صَرَّ" وحكايتهم لصوت

_ 1 الكتاب 2/ 379, والمنصف 2/ 94. 2 الخصائص 3/ 35. 3 الكتاب 1/ 433. 4 الكتاب 1/ 407, والخصائص 3/ 151. 5 انظر مادة ليس في لسان العرب. 6 همع الهوامع للسيوطي "طبعة الخانجي" 2/ 6.

البازي بقولهم: "صرصر", فقد قال: إنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدا فقالوا: صَرَّ, بينما توهموا في صوت البازي تقطيعا، فقالوا: "صرصر"1. وسنرى فيما يلي أمثلة كثيرة تصور حسه اللغوي المصفى, وملكاته العقلية التي لا يكاد يفوتها شيء.

_ 1 الخصائص 2/ 152.

العوامل والمعمولات

3- العوامل والمعمولات: كل من يقرأ كتاب سيبويه يرى رأي العين أن الخليل هو الذي ثبت أصول نظرية العوامل, ومد فروعها وأحكمها إحكاما بحيث أخذت صورتها التي ثبتت على مر العصور, فقد أرسى قواعدها العامة ذاهبا إلى أنه لا بد مع كل رفع لكلمة أو نصب أو خفض أو جزم من عامل يعمل في الأسماء والأفعال المعربة ومثلهما الأسماء المبنية. والعامل عادة لفظي مثل المبتدأ وعمله في الخبر الرفع، والفعل وعمله في الفاعل الرفع وفي المفعولات النصب. وقد يكون العامل معنويا على نحو ما نص تلميذه سيبويه من باب المبتدأ إذ جعله معمولا للابتداء. ومن العوامل أدوات وحروف، منها ما يجزم الفعل وهو لم وإِنْ وأخواتهما, ومنها ما ينصبه أو ينصب بعده وهو أن ولن وبابهما. ومنها ما ينصب ما بعده ويرفعه كالفعل وهو إنّ وأنّ ولكن وكأن وليت ولعل، يقول سيبويه: "زعم الخليل أن هذه الحروف عملت عملين: الرفع والنصب كما عملت كان الرفع والنصب حين قلت: كان أخاك زيد، إلا أنه ليس لك أن تقول: "كأن أخوك عبدَ الله" تريد: كأن عبد الله أخوك؛ لأنها لا تتصرف تصرف الأفعال ولا يضمر فيها المرفوع كما يضمر في كان، ومن ثم فرقوا بينهما كما فرقوا بين ليس وما, فلم يجروها مجراها. ولكن قيل: هي بمنزلة الأفعال فيما بعدها وليست بأفعال"1. وقال: إذا دخلت ما على إنّ هي وأخواتها كُفَّت عن العمل أو ألغي عملها ما عدا ليت؛ فإنه يجوز معها الإلغاء والعمل إذا وليتها ما2. وفي ذلك ما يؤكد أنه صاحب فكرة الإلغاء والإعمال في العوامل لا في باب إن وحده، بل أيضا في باب ظن وأخواتها وغيره من الأبواب. وهو الذي فتح مباحث حروف الجر الزائدة التي تعمل عملا لفظيا فيما بعدها،

_ 1 الكتاب 1/ 280. 2 الكتاب 1/ 282 وما بعدها.

بينما ينبغي ملاحظة موقعه من الإعراب بالنسبة للعوامل التي تطلبه, يقول في قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} : إنما هو كفى الله بالرفع ولكنك لما أدخلت الباء عملت1. وكان يذهب إلى أن "إن" الجازمة تجزم جواب الشرط كما تجزم فعله, وكان يقول: إنها هي أم الباب الخاص بأدوات الجزاء الجازمة؛ لأنها لا تخرج عن بابها, بينما غيرها يفارق الباب مثل "من" فهي تأتي شرطية وتأتي استفهامية مثلا. ومعروف أن جواب الشرط إما أن يكون فعلا، وإذن لا يحتاج إلى رابط يربطه بما قبله، وإما أن يكون جملة اسمية وحينئذ لا بد له من الفاء، ولاحظ أن إذا الفجائية قد تسد مسدها في الربط على شاكلة قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} 2. وعرض سيبويه لما انجزم بالأمر في مثل: "ائتني آتك" وبالنهي في مثل: "لا تفعل يكن خيرا لك" وبالاستفهام في مثل: "ألا تأتيني أحدثْك" وبالتمني في مثل: "ألا ماء أشربْه" وبالعرض في مثل: "ألا تنزل تصب خيرا" ثم نقل عن الخليل أن كل هذه الصيغ فيها معنى إن الشرطية؛ لأن القائل إذا قال: "ائتني آتك" فإن معنى كلامه إن يكن منك إتيان آتك، وهكذا الصيغ التالية. وجعل من ذلك قوله عز وجل: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} , فلما انقضت الآية قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ} بجزم المضارع3. وهو صاحب فكرة تأويل المضارع المنصوب بأن مضمرة أو ظاهرة وإعرابه حسب مواقعه من العوامل، فمثل: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} تقديره: وأمرنا للإسلام4. والعوامل عنده تعمل ظاهرة ومحذوفة، وكثيرا ما يحذف المبتدأ العامل في الخبر؛ طلبا للإيجاز. ويكثر سيبويه من توجيه الخليل لبعض المرفوعات على أن مبتدأها محذوف، مثل: مررت به المسكين أي: هو المسكين، ومثل إنه -المسكين- أحمق، أي: هو المسكين أيضا5. ومواضع حذف الفعل الناصب

_ 1 الكتاب 1/ 48. 2 الكتاب 1/ 435. 3 الكتاب 1/ 449. 4 المغني لابن هشام ص238. 5 الكتاب 1/ 255.

للمفعول كثيرة، منها ما يجوز فيه الحذف والإضمار لقيام القرينة، ومنه عنده قول الشاعر: ألا رجلا جزاه الله خيرا ... يدل على محصلة تبيت1 إذ جعل تقديره: ألا ترونني رجلا هذه صفته، فحذف الفعل مدلولا عليه بالمعنى2. وقد يحذف وجوبا على نحو ما هو معروف في التحذير والاختصاص ويجعل من مواضعه المدح كما في الاختصاص، وكذلك الذم، إذ نراه يعرض للآية الكريمة: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فقد جاءت كلمة {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} بالنصب، ولو كانت معطوفة على ما قبلها لكان حقها الرفع، ويقول الخليل: إنها منصوبة بفعل محذوف قصدا للثناء والتعظيم, كأنه قيل: اذكر أهل ذاك واذكر المقيمين، ويقول: وهذا شبيه بقولهم "أي: في الاختصاص": إنا بني فلان نفعل كذا؛ لأنهم لا يريدون أن يخبروا من لا يدري بأنهم من بني فلان وإنما يذكرون ذلك افتخارا، ويعلق على قول أمية بن أبي عائذ: ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثا مراضيع مثل السعالى فيقول: إنه نصب شعثا بإضمار فعل لا يصح إظهاره؛ لأن ما قبله دل عليه، فوجب حذفه على ما يجري عليه تعبيرهم في الذم والمدح3. ويقف بإزاء الآية الكريمة: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} ويقول: إن خيرا مفعول به لفعل محذوف وجوبا لجريان التعبير مجرى المثل، كأنه قيل: ائتوا خيرا لكم، ويستطرد لقول القائل: "انتهِ يا فلان أمرا قاصدا", ويقولون: إن أمرا مفعول به لفعل محذوف على تقدير: وأت أمرا قاصدا4. وعلى نحو ما يُحذف الفعل مع المفعول, يحذف مع المصادر كثيرا مثل: مرحبا وأهلا, كأنه بدل من: رحبت بلادك وأهلت، وحين مثل بذلك قال: إنه بمنزلة رجل رأيته سدّد سهما فقلت: القرطاس أي: أصبت القرطاس5.

_ 1 محصلة هنا: تحصل الخير لصاحبها. 2 الكتاب 1/ 359. 3 الكتاب 1/ 249 وما بعدها. 4 الكتاب 1/ 143. 5 الكتاب 1/ 148.

يريد: أن حذف الفعل مع المصادر أو المفاعيل المطلقة كحذفه مع المفعول به. وكان يذهب إلى أن مثل حَنَانيك ولبيك وسعديك مفعولات مطلقة لفعل محذوف، وقد صيغت على التثنية قصدا للتكثير، فمعنى حنانيك مثلا: تحنُّنا بعد تحنن1. وعلى نحو ما يحذف الفعل, تحذف أن المصدرية بعد اللام الداخلة على المضارع المنصوب هي أخواتها: حتى وأو والواو والفاء. وكان يطرد ذلك في إذن خلافا لجمهور النحاة بعده وفي مقدمتهم تلميذه سيبويه، إذ قالوا: إنها تنصب المضارع أحيانا بنفسها مثل أن ولن، وليست بمنزلة اللام وحتى2. وتحذف حروف الجر أحيانا وهي تحذف قياسا مع أنّ وأنْ وصلتهما في مثل قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وقولك: "أرغب أن أراك" فالتقدير: شهد الله بأنه، وأرغب في أن أراك أو عن أن أراك. وكان الخليل يذهب إلى أنهما وصلتهما منصوبان على تقدير نزع الخافض3. وسأله سيبويه عن قوله جل ذكره: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} فقال: إنما هو على حذف اللام كأنه قال: ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون، وأن وصلتها منصوبان على نزع الخافض4. وعلى نحو ما تحذف العوامل تحذف المعمولات، فالخبر قد يحذف، ويكثر حذف المفعول به إذا قامت قرينة كآيات سورة الضحى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} . ومما يطرد فيه الحذف ضمير الشأن إذا كان اسما لإن وكأن ولكن وأن، قال سيبويه: "روى الخليل أن ناسا يقولون: إن بك زيدٌ مأخوذ، وقال: هذا على قوله: إنه بك زيد مأخوذ, وشبهه بما يجوز في الشعر نحو قول ابن صريم اليشكري: ويوما توافينا بوجه مقسم5 ... كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم وقول الآخر: ووجه مشرق النحر ... كأن ثدياه حقان

_ 1 الكتاب 1/ 174. 2 الكتاب 1/ 412. 3 المغني ص580. 4 الكتاب 1/ 464. 5 مقسم: جميل القسمات. تعطو إلى: تتناول. السلم: شجر.

لأنه لا يحسن ههنا إلا الإضمار، قال الخليل: وهذا يشبه قول من قال، وهو الفرزدق: فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكني زنجي عظيم المشافر وجوز الخليل في البيت أن يقال: ولكن زنجيا عظيم المشافر بالنصب، على أن يكون خبر لكن محذوفا وتقديره: لا يعرف قرابتي، وشبه ذلك بحذف الخبر في قوله عز وجل: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أي: طاعة وقول معروف أمثل ... وأما قول الأعشى: في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أنْ هالك كل من يحفى وينتعل فإن هذا على إضمار الهاء"1. وكان يذهب إلى أن الحذف في بيت الأخطل: ولقد أبيت من الفتاة بمنزل ... فأبيت لا حرج ولا محروم ليس على إضمار أنا مع المرفوعين في الشطر الثاني, أي: أنا لا حرج ولا محروم, وإنما هو على سبيل الحكاية, أي: فأبيت بمنزلة الذي يقال له: لا حرج ولا محروم2. ومما خرّجه على الحكاية أيضا قولهم: "اضرب أيهم أفضل" بضم أي, كأنهم قالوا: اضرب الذي يقال له: أيهم أفضل3، وبذلك يكون المفعول به محذوفا. وكان يذهب إلى أن المضاف قد يحذف ويقوم المضاف إليه مقامه، وجعل من ذلك قولهم: "له صوت صوت الحمار", فقد قال: إن كلمة صوت الحمار صفة لصوت بتقدير "مثل" أي: إنها حُذفت وأقيم المضاف إليه مقامها، وأصل التعبير: "له صوت مثل صوت الحمار"4. ومما يتصل بالعوامل والمعمولات كثرة تحليله للعبارات, وكثرة تخريجه لها إذا اصطدمت بالقواعد, وكثرة إدلائه بوجوه مختلفة من الإعراب في لفظة واحدة،

_ 1 الكتاب 1/ 281 وما بعدها. 2 الكتاب 1/ 259, وواضح أنه جعل الجار والمجرور محذوفين هما وما يتبعهما. 3 الكتاب 1/ 399. 4 الكتاب 1/ 181.

فمن تحليله للعبارات تحليله لصيغة التعجب في مثل: "ما أحسن عبد الله", فقد ذكر أنه بمنزلة قولك: شيء أحسن عبد الله ودخل ما معنى التعجب، ويقول: إنه تمثيل ولم يتكلم العرب به1، ومن ثم قال النحاة: إن ما نكرة تامة بمعنى شيء وأعربوها مبتدأ، والجملة بعدها خبر. ومن ذلك قولهم: "هذا القول لا قولك" بنصب "قولك", فقد جعلها مفعولا مطلقا على الرغم من أنها مضافة وقابل بينها وبين قولهم في الاستفهام: "أجِدَّك لا تفعل كذا وكذا" يقول: كأنه قال: "أحقا لا تفعل كذا وكذا" وأصله من الجد، كأنه قال: "أجِدَّا" ويقول: إن عبارة جدك لا تتصرف ولا تفارق الإضافة، إذ هي في حكم الأمثال، مثلها: "لا قولك", فإنهم لو قالوا: "هذا القول لا قولا" لم يكن في هذا بيان؛ لأنه ليس كل قول باطلا، ومن أجل ذلك كان لا بد أن يحققوا القول عن طريق الإضافة إلى المخاطب2. ومن ذلك تحليله للفظة "اللهم" في النداء، فقد كان يقول: إن الميم في آخرها بدل من يا3 ولذلك لا يجمع بينهما. وكان لا يبارَى في تحليله للأدوات المبهمة وبيان اختلاف معانيها باختلاف مواقعها من الكلام، من ذلك ما قاله سيبويه من أنه سأله عن قول العرب: "أما إنه ذاهب وأما أنه منطلق" بكسر إن وفتحها في العبارتين، فقال: إذا قال القائل: "أما أنه منطلق" بالفتح فقد جعله كقولهم: "حقا أنه منطلق" ومعروف أن حقا مفعول مطلق وأنه منطلق فاعل مؤول. وقال الخليل: أما إذا قال القائل: "أما إنه منطلق" بالكسر فإنه بمنزلة قولهم: "ألا إنه منطلق"4. وكان يسعفه في مثل هذا التحليل معرفته الواسعة بلغات العرب وحسه الدقيق في معرفة مواقع الكلام، من ذلك أن سيبويه سأله عن قوله عز وجل: "وما يشعركم إِنَّهَا إذا جاءت لا يؤمنون" في قراءة من قرأ "إنها" بالكسر، فقال: ما منعها أن تكون كقولك: "ما يدريك أنه لا يفعل" فقال الخليل: لا يحسن ذلك في هذا الموضع، إنما قال عز وجل: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} ثم ابتدأ فأوجب، فقال: "إِنَّهَا إذا جاءت لا يؤمنون" ولو قال: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا} بالفتح كان ذلك عذرا لهم. ولكن بعض القراء قرأها بالفتح، وذكر له

_ 1 الكتاب 1/ 37. 2 الكتاب 1/ 189. 3 الكتاب 1/ 310. 4 الكتاب 1/ 462.

ذلك تلميذه، فقال: إنها حينئذ تكون بمعنى لعلها، إذ يستعمل بعض العرب أن المفتوحة بمعنى لعل، فيقولون: "ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا" أي: لعلك1. وكان كلما اصطدم مثال أو تعبير بقاعدة نحوية استظهرها حاول أن يجد له تأويلا، ولعل خير ما يصور ذلك "الحال", فقد وضع له قاعدة التنكير المعروفة، فلا بد أن يكون نكرة، ولا يصح أن يكون معرفا بالألف واللام ولا مضافا، فلا يقال: كلمته المستبشر تريد: كلمته مستبشرا، ولا يقال: كلمتهم مستبشريهم تريد كلمتهم مستبشرين. ولكن جاءت عبارات على لسان العرب معرفة ومضافة وموضعها حال، من ذلك: "أرسلها العِراك" أي: معتركة، و"مررت بهم الجمَّاء الغفير" أي: جما غفيرا. وخرَّج ذلك الخليل على أن العرب تكلمت بهذين الحرفين وما يماثلهما على نية طرح الألف واللام، وكأنهم قالوا في المثل الأخير: "مررت بهم قاطبة, ومررت بهم طُرًّا" أي: جميعًا. ومن ذلك: "مررت به وحده ومررت بهم وحدهم" وما جاء في لغة أهل الحجاز من قولهم: "مررت بهم ثلاثتهم وأربعتهم وكذلك إلى العشرة", و"مررت بهم قَضَّهم بقضيضهم". وخرج الخليل المثلين الأولين على معنى التفرد، فكأن القائل قال: "مررت به أو بهم منفردا ومنفردين". أما المثال الثالث فكأنه قال: "مررت بهم انقضاضا". وشبه مجيء الحال على هذا النحو بمجيء المصدر أو المفعول المطلق مضافا في مثل: سبحان الله ولبيك2. وكان يستظهر القاعدة المعروفة في النعت وهو أنه يتبع المنعوت في التعريف والتنكير حتما، ولكن جاء عن العرب: "ما يحسن بالرجل خيرٍ منك أن يفعل ذلك" و"ما يحسن برجل مثلِك أن يفعل ذلك" و"مررت برجل غيرِك خيرٍ منك" وخرج الخليل المثال الأول على أن كلمة الرجل وإن كانت معرفة في الظاهر, فإنها نكرة في الحقيقة، إذ أريد بالرجل إلى الجنس، وكأن الألف واللام فيه ملغاتان؛ ولذلك نعت بالنكرة، أما المثالان الثاني والثالث فقد خرجهما على أن لفظتي مثلك وغيرك وإن كانتا مضافتين، نكرتان في واقع الأمر، إذ لا تفيدهما الإضافة تعريفا3.

_ 1 الكتاب 1/ 462. 2 الكتاب 1/ 187 وما بعدها. 3 الكتاب 1/ 224.

ولعله أول من فتح في الإعراب ما يمكن أن نسميه بالاحتمالات، إذ نراه يعرض في كثير من الأمثلة وجوها مختلفة لإعرابها، وتتضح آثار ذلك في مواضع من الكتاب، على نحو ما يلقانا في باب النعت، إذا كان في تعظيم أو مدح أو ذم، فقد كان يجيز فيه الإتباع لسابقه، والقطع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مفعولا به لفعل محذوف1، ونقل عنه سيبويه في قولهم: "هذا رجلُ صدق معروف صلاحه" أنه يجوز في كلمة "معروف" أن تكون نعتا لرجل، وأن تكون حالا منصوبة كأن كلمة رجل نالها شيء من التعريف بإضافتها إلى صدق، وجوز أن تكون خبرا مقدما لكلمة "صلاحه"2. ومن يقرأ توابع المنادى في سيبويه يلاحظ توا أنه هو الذي ردَّد الرفع والنصب في بعض أمثلة هذه التوابع كالنعت مثلا, فقد جوز فيه أن يقال: "يا زيد الطويلُ والطويلَ" بالضم والنصب، أي: حملا على ظاهر المنادى أو على محله. وكذلك الشأن في التوكيد مثل: "يا تميم أجمعون أو أجمعين"، ونكتفي بهذه القطعة من كلام سيبويه: قال الخليل: "إذا قلت: يا هذا وأنت تريد أن تقف عليه ثم تؤكده باسم يكون عطفا عليه, فأنت فيه بالخيار؛ إن شئت نصبت وإن شئت رفعت, وذلك قولك: يا هذا زيدٌ, وإن شئت قلت: زيدا، يصير كقولك: يا تميم أجمعون وأجمعين، وكذلك يا هذان: زيد وعمرو، وإن شئت قلت: زيدا وعمرا، فتُجري ما يكون عطفا "أي: تابعا" على الاسم مجرى ما يكون وصفا، نحو قولك: يا زيد الطويلُ ويا زيد الطويلَ"3. وعلى هذا النحو, كان الخليل يُكثر من الاحتمالات في وجوه الإعراب للصيغ والألفاظ والعبارات كما كان يكثر من التأويل والتخريج حين يصطدم ببعض القواعد التي يستظهرها، وهو في تضاعيف ذلك يحلّل الألفاظ والكلام تحليلا يعينه على ما يريد من توجيه الإعراب ومن التأويل والتفسير، ومن طريف تفسيراته ما ذكره سيبويه من أنه سأله عن قوله جل وعز: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} , فإن ظاهر العبارة أن غير الله منصوبة بتأمروني، وفي ذلك فساد

_ 1 انظر الكتاب 1/ 248 وما بعدها. 2 الكتاب 1/ 263. 3 الكتاب 1/ 307.

واضح في المعنى، فأجابه بأن "غير" منصوبة بأعبد، وتأمروني غير عامل فيها، كقولك: هو يقول: ذاك بلغني، فبلغني لغو، وكذلك تأمروني، وكأنه قال: فيما تأمروني1. وسأله سيبويه عن قول الأعشى: إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نزل لماذا رفع "أو تنزلون" وهي معطوفة على فعل مجزوم، فقال: كأنه توهم أنه قال في أول البيت: أتركبون فرفع، بالضبط كما جاء عند زهير من قوله: بدا لي أني لست مدركَ ما مضى ... ولا سابقٍ شيئًا إذا كان جائيا فقد عطف "سابق" بالجر على مدرك المنصوبة، كأنه توهم أن "مدرك" مجرورة؛ لأنه يكثر أن يأتي خبر ليس مجرورا بباء زائدة2. وحمل على هذا الباب وقوع الفعل المجزوم في الآية الكريمة: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} فإن معنى لولا أخرتني فأصدق، وإن أخرتني أصدق، واحد3؛ ولذلك عطف الفعل بالجزم وكأنما سبقته أداة جازمة.

_ 1 الكتاب 1/ 452. 2 الكتاب 1/ 429. 3 الكتاب 1/ 452.

السماع والتعليل والقياس

4- السماع والتعليل والقياس: اعتمد الخليل في تأصيله لقواعد النحو وإقامة بنيانه على السماع والتعليل والقياس، والسماع عنده إنما يعني نبعين كبيرين؛ نبع النقل عن القراء للذكر الحكيم وكان هو نفسه من قرائه وحَمَلته، ونبع الأخذ عن أفواه العرب الخلص الذين يوثق بفصاحتهم، ومن أجل ذلك رحل إلى مواطنهم في الجزيرة يحدثهم ويشافههم ويأخذ عنهم الشعر واللغة، ويروى أن الكسائي سأله وقد بهره كثرة ما يحفظ: من أين أخذت علمك هذا؟ فأجابه: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة1.

_ 1 إنباه الرواة 2/ 258.

وهذان النبعان وحدهما هما اللذان يدوران على لسانه فيما نقله عنه تلميذه سيبويه، ويظهر أنه هو الذي ثبّت فكرة عدم الاستشهاد بالحديث النبوي؛ لأن كثيرين من حملته كانوا من الأعاجم، وهم لا يوثق بهم في الفصاحة، واللحن يدخل على ألسنتهم. ونستطيع أن نعرف مدى المادة اللغوية والشعرية التي كان يحملها في صدره برجوعنا إلى كتاب سيبويه، فإن أكثر النقول فيه ترد إليه، ولا نجد سيبويه يُسَجِّل له قاعدة نحوية أو حكما نحويا إلا ويروي معهما سيلا من عبارات العرب وأشعارهم ينقله عن لسانه، وكأننا بإزاء منجم ضخم لا يزال يسيل بكلام العرب وأمثالهم وأبياتهم الشعرية. وكل بيت ومَثَل وكلمة إنما يراد به أن يكون دليلا على ما يستنبطه من أصول النحو وقواعده، فكل حكم نحوي وكل أصل لا يلقى إلقاء، وإنما يلقى ومعه برهانه من كلام العرب الموثوق به وأشعارهم. فالشواهد عند الخليل هي مدار القاعدة النحوية، وهي إنما تستنبط من الأمثلة الكثيرة، إذ لا بد لها من الاطراد على ألسنة العرب، فإن جاء ما يخالف القاعدة المستنبطة المحكمة كان شاذا، ولا بأس بأن يبحث له الخليل عن تأويل على نحو ما مر بنا آنفا. وليست المسألة عنده مسألة سماع وشواهد فحسب، فقد جعله استقراؤه للغة العرب تستقر في نفسه سليقتهم استقرارا مكنه من ضبط القواعد النحوية والصرفية ضبطا يبهر كل من يقرأ مراجعات سيبويه له، ويكفي أن نضرب لذلك مثلين، أما الأول فملاحظته أن إن الشرطية إذا وليها مضارع مجزوم لم يحسن دخول لام اليمين في الجواب، فلا يقال: إن تأتني لأكرمنك؛ لأن اللام تعوق إنْ عن العمل وقد ظهر عملها في فعل الشرط. أما إذا كان فعل الشرط التالي لها ماضيا, فإن عملها لا يكون حينئذ ظاهرا فيه؛ ولذلك يجوز دخول لام اليمين على جوابها، فيقال: إن أتيتني لأكرمنك. ويعلق الخليل على ذلك بشواهد من القرآن الكريم والشعر، من مثل الآية: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} بخلاف قوله جل وعز: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ؛ لأن إن عملت في فعل الشرط فوجب عملها في الجواب، ويستدل أيضا بقول زهير:

وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم فقد توقف عملها في الجواب؛ لأن فعل الشرط ماضٍ1. والمثل الثاني منع العلم من الصرف إذا كان على وزن فعلان مثلثة الفاء والنون فيه زائدة مثل: عثمان وغطفان، يقول سيبويه: "وسألته عن رجل يسمى دِهْقان فقال: إن سميته من التدهقن فهو مصروف ... وإن جعلته من الدَّهْق لم تصرفه ... وسألته عن رجل يسمى مُرَّانا فقال: أصرفه؛ لأن المران إنما سمي للينه فهو فُعَّال كما يسمى الحماض لحموضته وإنما المرانة اللين. وسألته عن رجل يسمى فَيْنانا فقال: مصروف لأنه فيعال، وإنما يريد أن يقول: لشعره فنون كأفنان الشجر. وسألته عن ديوان فقال بمنزلة قيراط؛ لأنه من دَوَّنت. وسألته عن رمان فقال: لا أصرفه وأحمله على الأكثر, إذ لم يكن له معنى يعرف. وسألته عن سعدان والمرجان فقال: لا أشك في أن هذه النون زائدة؛ لأنه ليس في الكلام مثل فعلال إلا مضعفا"2.وواضح أنه يعتمد في أحكامه على محفوظاته في اللغة، وهي محفوظات كانت تعينه على معرفته الدقيقة بأصول الألفاظ واشتقاقاتها واستقرائه لمثيلاتها، وكأن اللغة أسلمت له قيادها كي يحكم آراءه ويضبط ما يشاء من قواعد الصرف والنحو جميعا. وكان يسند دائما ما يستنبطه من القواعد والأحكام بالعلل التي تصور دقته في فقه الأسرار اللغوية والتركيبية التي استقرت في دخائل العرب من قديم، وفي ذلك يقول الزبيدي: إنه "استنبط من علل النحو ما لم يستنبطه أحد وما لم يسبقه إلى مثله سابق" ولفت كثرة ما يورده في النحو من علل بعض معاصريه, فسأله: أعن العرب أخذت هذه العلل أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: "إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها وعرفت مواقع كلامها وقام في عقولها علله, وإن لم ينقل ذلك عنها، واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه, فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمست، وإن تكن هناك علة له "أخرى" فمثلي في ذلك مثل رجل

_ 1 الكتاب 1/ 436. 2 الكتاب 2/ 11.

حكيم دخل دارا محكمة البناء عجيبة النظام والأقسام, وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال: إنما فعل هذا هكذا؛ لعلة كذا وكذا ... وجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة إلا أن ذلك مما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك، فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هي أليق مما ذكرته للمعلول, فليأت بها"1. ونحن نسوق طائفة من تعليلاته التي تأخذ شكل سيول متلاحقة في كتاب سيبويه والكتب النحوية المختلفة، من ذلك أنه كان يذهب إلى أن الإعراب أصل في الأسماء, وأن البناء أصل في الأفعال والحروف, وأن الطرفين لا يخرجان عن هذا الأصل إلا لعلة، أما الأسماء فإنها تبنى حين تعترضها علة شَبَهها بالحرف، ويعرب الفعل حين يشبه الاسم على نحو ما أُعرب المضارع لشَبَهه باسم الفاعل من حيث الحركات والسكون مثل أخرج ومخرج وأكتب وكاتب، وقد ظلت الحروف مبنية لأن شيئا منها لا يشبه الاسم2. ويعلل لعدم دخول الألف واللام على المنادى، إذ لا يصح أن يقال: "يا الحارث" مثلا، بل لا بد أن يقال: "يا أيها الحارث" بتوسط أي، يقول: إن الألف واللام إنما منعهما أن يدخلا في النداء من قبل أن كل اسم في النداء مرفوع معرفة وذلك أن المتكلم إذا قال: "يا رجل" فمعناه كمعنى: "يا أيها الرجل" وصارت معرفة؛ لأنك أشرت إليه وقصدت قصده واكتفيت بهذا عن الألف واللام وصار كالأسماء التي هي للإشارة نحو هذا وما أشبه ذلك, وصار معرفة بغير ألف ولام؛ لأنك إنما قصدت قصد شيء بعينه، وصار هذا بدلا في النداء من الألف واللام واستغني به عنهما كما استغنيت بقولك: "اضرب" عن "لتضرب", وكما صار المجرور "بالكسرة" بدلا من التنوين "أي: في حالة الإضافة", وكما صارت الكاف في رأيتك بدلا من رأيت إياك. وإنما يدخلون الألف واللام ليعرفوك شيئا بعينه

_ 1 الإيضاح في علل النحو للزجاجي ص65. 2 الزجاجي ص77.

قد رأيته أو سمعت به، فإذا قصدوا قصد الشيء بعينه دون غيره وعنوه لم يجعلوه واحدا من أمة, فقد استغنوا عن الألف واللام فمن ثم لم يدخلوهما في هذا "أي: في اسم الإشارة" ولا في النداء، ومما يدلك على أن: يا رجل معرفة, قولك: يا لكاع, تريد: يا لكعاء فصار هذا اسما ... كما صارت حذام ورقاش اسما للمرأة1. ويتوقف سيبويه في حديثه عن الندبة في مثل: وا زيداه ويا زيداه لينقل عن الخليل أنه لا يصح فيها أن يندب المنكر مثل رجل والمبهم مثل من وهذا مع تعليله لذلك, يقول: "وقال الخليل: إنما قبح وا رجلاه ويا رجلاه؛ لأنك أبهمت. ألا ترى أنك لو قلت: وا هذاه كان قبيحا؛ لأنك إذا ندبت فإنما ينبغي لك أن تتفجع بأعرف الأسماء وأن تخص فلا تبهم؛ لأن الندبة على البيان "أي: بيان الشخص أو الشيء المندوب؛ تفجعا عليه وحزنا" ... وإنما كرهوا ذلك أنه تفاحش عندهم ... أن يتفجعوا على غير معروف "يريد في مثل: وا رجلاه", فكذلك تفاحش عندهم في المبهم "يريد في مثل وا هذاه" لإبهامه؛ لأنك إذا ندبت تخبر أنك قد وقعت في عظيم وأصابك جسيم من الأمر فلا ينبغي لك أن تبهم، وكذلك "وا مَنْ في الداراه" في القبح؛ "لأن من مبهمة" وزعم أنه لا يستقبح: "وا من حفر زمزماه"؛ لأن هذا معروف بعينه، كأن التبيين في الندبة عذر للتفجع، فعلى هذا جرت الندبة في كلام العرب"2. وكان الخليل لا يجيز العطف على الضمير المرفوع مستترا أو ظاهرا متصلا، فلا يقال: "أفعل وعبد الله" ولا "فعلت وعبد الله", بل لا بد في ذلك من توكيد الضمير أو الإتيان بفاصل مثل: "كنتم أنتم وأصحابكم" و"يكتبونه ومن معهم" و"ما كتبنا ولا زملاؤنا". يقول سيبويه: "وزعم الخليل أن هذا إنما قبح من قبل أن هذا الإضمار يبنى عليه الفعل، فاستقبحوا أن يشرك المظهر مضمرا يغير الفعل عن حاله إذا بعد منه، وإنما حسنت شركته المنصوب "في مثل كلمته ومحمدا"؛ لأنه لا يغير فيه الفعل عن حاله التي كان عليها قبل أن يضمر "أي: إن الضمير المنصوب ليس كالجزء من الفعل بخلاف ضمير الرفع", فأشبه المظهر وصار منفصلا عندهم بمنزلة المظهر إذ كان الفعل لا يتغير عن حاله قبل أن تضمر فيه، وأما فعلت فإنهم قد غيروه عن حاله في الإظهار، وأسكنت فيه اللام، فكرهوا أن يشرك

_ 1 الكتاب 1/ 310. 2 الكتاب 1/ 324.

المظهر مضمرا يبنى له الفعل غير بنائه في الإظهار حتى صار "أي: ضمير الرفع" كأنه شيء في كلمة لا يفارقها كألف أعطيت، فإن نعتّه "يريد أكّدته" حسُن أن يشركه المظهر، وذلك قولك: "ذهبتَ أنت وزيد", وقال الله عز وجل: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} و {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وذلك أنك لما وصفته "يريد: أكدته" حسن الكلام حيث طولته ووكدته. فأنت وأخواتها تقوي المضمر وتصير عوضا من السكون والتغيير ومن ترك العلامة في مثل: ضربَ، وقال الله عز وجل: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا} حسن لمكان لا "يريد: لوجود فاصل". ويمضي سيبويه فيقول: إنه لا يجوز العطف على المضمر المجرور إلا بإعادة الخافض، فلا يجوز: مررت به ومحمد، بل لا بد من أن يقال: مررت به وبمحمد، وعلل لذلك بأن الضمير شبيه بالتنوين؛ لذلك لا يجوز العطف عليه حتى لو أُكِّد، فلا يجوز: مررت به هو ومحمد، وكأن اتصال الضمير المجرور بجارّه أشد من اتصال الفاعل المضمر بفعله. وعقب سيبويه على ذلك بأن هذا قول الخليل1. وقد جعلته هذه الدقة في التعليل يتنبه تنبها واسعا إلى مواقع الكلم في العبارات واستعمالاتها الدقيقة، ونضرب مثلا لذلك تفرقته الدقيقة بين قولك: "هو زيد معروفا" و"هذا عبد الله منطلقا" فمعروفا ومنطلقا كلاهما حال، ولكن الحال الأولى مؤكدة، ولا يأتي وراء هو في الصيغة الأولى إلا مثل هذه الحال المؤكدة مثل "هو الحق بينا ومعلوما" ومن أجل ذلك لا يصح أن تقول: "هو زيد منطلقا"؛ لأن الانطلاق لا يؤكد هوية الشخص وماهيته، فلا يصلح لأن يكون مؤكدا، كما تصلح الصفة العامة التي تفيد مدحا أو تهديدا وما إلى ذلك2. وعلى نحو ما تسيل علل الخليل وتعليلاته في كتاب سيبويه تسيل أقيسته، ولا نغلو إذا قلنا: إنها كانت أهم مادة شاد بها بناء النحو الوطيد، ومما يصور قوتها عنده ودقتها حواره مع تلميذه، في رفع المنادى إذا كان مفردا ونصبه إذا كان مضافا أو نكرة غير مقصودة, وجواز نصب نعت المنادى المفرد ورفعه وتحتم النصب لنعت المنادى المضاف، وهو يجري على هذا النمط3:

_ 1 الكتاب 1/ 389. 2 الكتاب 1/ 256 وما بعدها. 3 الكتاب 1/ 303.

"زعم الخليل أنهم نصبوا المضاف نحو: يا عبدَ الله ويا أخانا والنكرة حين قالوا: يا رجلا صالحا حين طال الكلام كما نصبوا: هو قبلك وهو بعدك. ورفعوا المفرد كما رفعوا: قبل وبعد وموضعهما واحد، وذلك قولك: يا زيد ويا عمرو, وتركوا التنوين في المفرد كما تركوه في قبل. قلت: أرأيت قولهم: يا زيدُ الطويلَ, علام نصبوا الطويل؟ قال: نصب لأنه صفة لمنصوب، وقال: وإن شئت كان نصبا على أعني. فقلت: أرأيت الرفع على أي شيء هو, إذا قال: يا زيدُ الطويلُ؟ قال: هو صفة لمرفوع. قلت: ألستَ قد زعمتَ أن هذا المرفوع في موضع نصب؟ فلِمَ لا يكون كقوله: لقيته أمسِ الأحدث؟ قال: من قِبَل أن كل اسم مفرد في النداء مرفوع أبدا وليس كل اسم في موضع أمس يكون مجرورا، فلما اطرد الرفع في كل مفرد في النداء صار عندهم بمنزلة ما يرتفع بالابتداء أو بالفعل، فجعلوا وصفه إذا كان مفردا بمنزلته. قلت: أفرأيت قول العرب كلهم: أزيدُ أخا ورقاء إن كنت ثائرا ... فقد عرضت أحناء حمق فخاصم؟ لأي شيء لم يجز فيه الرفع كما جاز في الطويل "يريد عبارة: يا زيد الطويل السابقة" قال: لأن المنادى إذا وُصف بالمضاف فهو بمنزلته إذا كان في موضعه، ولو جاز هذا لقلت: يا أخونا، تريد أن تجعله في موضع المفرد، وهذا لحن، فالمضاف إذا وُصف به المنادى فهو بمنزلته إذا ناديته؛ لأنه وصف لمنادى في موضع نصب، كما انتصب حيث كان منادى؛ لأنه في موضع نصب ولم يكن فيه ما كان في "كلمة" الطويل لطوله. وقال الخليل: كأنهم لما أضافوا ردوه إلى الأصل كقولك: إن أمسك قد مضى". والقطعة زاخرة بالأقيسة القائمة على علة المشابهة، فالمنادى يشبه "قبل وبعد" ويأخذ لذلك حكمهما، فهو إذا كان مفردا رُفع وحُرم التنوين مثل قبل وبعد اللتين تبنيان على الضم في حال إفرادهما، وإذا طال إما بالإضافة أو لأنه نكرة غير مقصودة موصوفة نُصب كما تنصب قبل وبعد حين تضافان, فيقال: قبلك وبعدك. وإذا نُعت المنادى المفرد بمفرد, جاز في النعت النصب لأن محل هذا

المنادى المضموم لفظا النصب، ولك أن تقول: إنه نعت مقطوع بتقدير أعني. ويجوز في هذا النعت الرفع باعتبار لفظ المنادى، وساغ ذلك لاطراد الرفع في المنادى المفرد اطراده في المبتدأ والفاعل. أما إذا وُصف المنادى المفرد بنعت مضاف, فإنه يتحتم فيه النصب ولا يجوز الرفع؛ لأنه بمنزلته لو كان منادى، والمنادى المضاف حقه النصب، فلا يجوز فيه إلا اعتبار المحل المنصوب. ويلاحظ الخليل ملاحظة دقيقة في كلمة أمس, فإن أصلها النصب، وهي تبنى على الكسر إذا كانت مفردة، فإذا أضيفت رُدَّت إلى أصلها من النصب الذي يجري في الظروف. وكان يبني القياس على الكثرة المطردة من كلام العرب، مع نصه دائما على ما يخالفه، ومحاولته في أكثر الأحيان أن يجد له تأويلا، من ذلك أنه كان يرى أن القياس في عطف المعرف بالألف واللام على المنادى المرفوع أن يكون مرفوعا؛ لأنه لو كان هو المنادى لتقدمته أي, مثل: يا أيها الحارث ورُفع معها صفة لها؛ لأنها مبهمة يلزمها التفسير، فصارت هي والحارث بمنزلة اسم واحد كأنك قلت: يا حارث1، وبذلك يكون القياس في مثل: يا زيدُ والحارثُ الضم، يقول سيبويه: "قال الخليل: من قال: يا زيد والنضرَ فنصب, فإنما نصب لأن هذا كان من المواضع التي يُرَدّ فيها الشيء إلى أصله "أي: إذا كان المعطوف مضافا" فأما العرب فأكثر ما رأيناهم يقولون: يا زيد والنضرُ، وقرأ الأعرج: "يا جبال أوبي معه وَالطَّيْرُ" فرفع، ويقولون: يا عمرو والحارث، وقال الخليل: هو القياس كأنه قال: ويا حارث"2. ومعروف أن الفعل لا يدخله التصغير، ولكن جاء عن العرب في فعل التعجب: "ما أُمَيْلحه" يقول سيبويه: "وسألته عن قول العرب: ما أميلحه، فقال: لم يكن ينبغي أن يكون في القياس لأن الفعل لا يحقر وإنما تحقر الأسماء؛ لأنها توصف بما يعظم ويهون، والأفعال لا توصف، فكرهوا أن تكون الأفعال كالأسماء لمخالفتها إياها في أشياء كثيرة، ولكنهم حقروا هذا اللفظ, وإنما يعنون الذي تصفه بالمِلْح، كأنك قلت: مُلَيِّح, شبهوه بالشيء الذي تلفظ به وأنت تعني شيئا آخر نحو قولك: يطؤهم الطريق

_ 1 الكتاب 1/ 306. 2 الكتاب 1/ 305.

وصِيدَ عليه يومان، ونحو هذا كثير في الكلام. وليس شيء من الفعل ولا شيء مما سمي به الفعل يحقَّر إلا هذا وحده"1. ووجه المغايرة في قولهم: "يطؤهم الطريق" أن أصلها: يطؤهم أهل الطريق أي: إن بيوتهم على الطريق فمن جاز فيه رآهم، وأصل "صيد عليه يومان": صيد الصيد في يومين، فحذف "الصيد" وأقيم "يومين" مقامه. وعلى هذا النحو كان يسجل القياس والشاذ عليه، محاولا دائما أن يجد مخرجا لما شذ على الأقيسة، بل كثيرا ما كان يستمد من ذهنه الخصب قياسا له، من ذلك جمع وجوه مع ذكر شخصين، يقول سيبويه: "سألت الخليل عن "قولهم": ما أحسن وجوههما، فقال: لأن الاثنين جميع، وهذا بمنزلة قول الاثنين: نحن فعلنا"2. وواضح أنه قاس جمع الوجوه مع أنهما لاثنين على الضمير الذي يأتي للاثنين والجماعة. ومن ذلك ما رواه ابن جني من أنه سُئل عمن يقولون من العرب: "مررت بأخواك وضربت أخواك" معاملين الأسماء المثناة معاملة الأسماء المقصورة، فقال: هؤلاء قولهم على قياس الذين قالوا في ييئس: ياءس، أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها، وقال: ومثله قول العرب من أهل الحجاز: "يا تزن وهم يا تعدون، فروا من يوتزن ويوتعدون"3. ومعنى ذلك أنه قاس النطق بالألف في المثنى في موضعي الجر والنصب بالياء على لغة من يبدلون الياء ألفا في بعض المواضع وكذلك من يبدلون الواو ألفا؛ لغرض الخفة والسهولة، وقد أخرج القياس مخرج التعليل. ومر بنا أنه في المنهج الذي رسم به العروض والمنهج الذي وضعه لمعجم العين, لاحظ في الأول النص على الأوزان المهملة كما لاحظ في الثاني النص على الكلمات غير المستعملة التي لم تجر على لسان العرب، وهذا نفسه يلاحَظ في بنائه للنحو وأقيسته فقد كان ينص على الشاذ كما أسلفنا آنفا، وكان ينص على المهمل من أساليب العرب، مما لا يدخل في أقيسة لغتهم، ومر بنا أنه كان ينكر مثل: "هو زيد منطلقًا" ويحمل كتاب سيبويه عنه مادة واسعة من مثل هذا الأسلوب الذي لم يسمع عمن يوثق بعربيتهم، وهي مادة غزيرة, ولكن يكفي أن نمثل لها، فمن ذلك

_ 1 الكتاب 2/ 135. 2 الكتاب 1/ 241. 3 الخصائص 2/ 14, والمنصف 1/ 203.

أن نراه يعرض للمندوب الموصوف في مثل "وا زيدُ الشاعرُ" فيقول: إنه لا يصح أن يقال: الشاعراه؛ لأن الشاعر ليس بمنادى، ولو جاز ذلك لجاز أن تقول: "وا زيدا أنت الفارس البطلاه"؛ لأن هذا غير نداء كما أن ذاك غير نداء, يقول: "وليس هذا مثل: وا أمير المؤمنيناه" ولا مثل: "وا عبدَ قيساه"؛ لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد منفرد، والمضاف إليه هو تمام الاسم، ولذلك تلحقه ألف الندبة وهاؤها1. ومن ذلك نصه على أن كلمة أُخَر وحدها هي التي تمنع من الصرف للوصفية والعدل دون أخواتها مثل الطُّوَل والوُسَط والكبر والصغر؛ لأنهن لا يكن صفة إلا وفيهن الألف واللام، بخلاف أخر فإنها تجيء صفة بدونهما، ونراه ينص على أنه لا يقال: نسوة صُغر ولا هؤلاء نسوة وسط ولا تقول: هؤلاء قوم أصاغر، فكل ذلك لم يأت في اللغة، أما أخر فقد خالفت هذا الأصل وجاءت صفة للمنكر غير مقترنة بالألف واللام، ومن ثم تركوا صرفها2، ومن أجل ذلك قال النحاة بعده: إنها منعت من الصرف؛ لأنها معدولة عن الآخر ذات الألف واللام. وفي رأينا أن الخليل وتلميذه سيبويه هما اللذان فتحا باب التمارين غير العملية على مصاريعه، حيث نرى سيبويه يتوقف في كتابه مرارا ليسأله أستاذه عن تطبيق قاعدة في مثال لم يأت عن العرب. وعمم النحاة ذلك فيما بعد واتسعوا فيه إظهارا لمهارتهم وقد يكون بعض ذلك لمحاولة تدريب ناشئة النحاة على الدقة في التطبيق، فمن ذلك ما ذكره سيبويه من أنه سأل الخليل عن رجل سمي "أولو" من قوله عز وجل: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} أو سمي "ذوو" من قولهم: ذوو عزة، وكيف يجري إعرابهما حسب مواقع الكلام، فقال: أقول: "هذا ذَوُون، وهذا أُولون" لأني لم أضف "أي: لم أتبعهما المضاف إليه" وإنما ذهبت النون في الإضافة3. ومعروف أن كلمة قاضٍ تنون مصروفة هي وما على مثالها، ويقول سيبويه: "وسألته عن رجل يسمى "يرمي أو أرمي" فقال: أنونه؛ لأنه إذا صار اسما فهو بمنزلة قاضٍ إذا كان اسم امرأة"4 وكأن مجيئه

_ 1 الكتاب 1/ 323. 2 الكتاب 2/ 14. 3 الكتاب 2/ 42. 4 الكتاب 2/ 58.

دالا على أنثى أو علما عليها لا يمنع تنوينه ولا صرفه. ويكثر سيبويه كثرة مفرطة من نقل مثل هذه التمارين عن أستاذه في علم الصرف، ويكفي أن نضرب مثلا لذلك، يقول: "وسألته: كيف ينبغي له أن يقول: أفعلتُ في القياس من اليوم على من قال: أطولت وأجودت، فقال: أيمت, فتقلب الواو ههنا "ياء" كما قلبتها في أيام، وكذلك تقلبها في كل موضع تصح فيه ياء أيقنت، فإذا قلت: أُفْعِل ويُفْعِل ومُفْعَل قلت: أووِم، ويووَم، ومُووَم؛ لأن الياء لا يلزمها أن تكون بعدها ياء كفعَّلت من بعت، وقد تقع وحدها، فكما أجريت فيعلِت وفوْعلت مجرى بيطرت وصومعت كذلك جرى هذا مجرى أيقنت. وإذا قلت: أفعل من اليوم قلت: أيَّم كما قلت: أيام، فإذا كسرت على الجمع همزت فقلت: أيائم؛ لأنها اعتلت ههنا كما اعتلت في سيد، والياء قد تستثقل مع الواو"1. وواضح من كل ما قدمنا أن الخليل يعد بحق واضع النحو العربي في صورته المركبة، سواء من حيث عوامله ومعمولاته الظاهرة والمقدرة, أو من حيث ما يجري فيه من شواهد ومن علل وأقيسة، ونص على العبارات المهملة والأخرى الشاذة وإحداث ما سرى فيه من تمارين غير عملية يقصد بها إلى التمرين والتدريب، ومد ذلك في علم الصرف والفقه بأبنية الكَلِم واشتقاقاتها وتصريفاتها وصورها الممدودة والمقصورة والممالة والمصغرة والمنسوبة وما يداخلها من قلب وإعلال.

_ 1 الكتاب 2/ 376.

الفصل الثالث: سيبويه

الفصل الثالث: سيبويه 1- نشاطه العلمي: اشتهر بلقبه سيبويه1، وهو لقب أعجمي يدل على أصله الفارسي، واسمه: عمرو بن عثمان بن قنبر، من موالي بني الحارث بن كعب، ولد بقرية من قرى شيراز تسمى البيضاء، وفيها أو في شيراز تلقن دروسه الأولى، وطمحت نفسه للاستزادة من الثقافة الدينية، فقدم البصرة وهو لا يزال غلاما ناشئا، والتحق بحلقات الفقهاء والمحدثين، ولزم حلقة حماد بن سلمة بن دينار المحدث المشهور حينئذ، وحدث أن لفته إلى أنه يلحن في نطقه ببعض الأحاديث النبوية، فصمّم على التزود أكبر زاد بشئون اللغة والنحو، ولزم حلقات النحويين واللغويين وفي مقدمتهم عيسى بن عمر والأخفش الكبير ويونس بن حبيب، واختص بالخليل بن أحمد، وأخذ منه كل ما عنده في الدراسات النحوية والصرفية، مستمليا ومدونا، واتبع في ذلك طريقتين: طريقة الاستملاء العادية، وطريقة السؤال والاستفسار، مع كتابة كل إجابة وكل رأي يدلى به وكل شاهد يرويه عن العرب، وبذلك احتفظ بكل نظراته النحوية والصرفية.

_ 1 انظر ترجمة سيبويه في مراتب النحويين ص65, والسيرافي ص48, والزبيدي ص66, ومجالس العلماء للزجاجي ص8، 154, ومقدمة تهذيب اللغة للأزهري، والفهرست لابن النديم ص82, ونزهة الألباء ص60, وتاريخ بغداد 12/ 195, ومعجم الأدباء 16/ 114, وابن خلكان في عمرو، وإنباه الرواة 2/ 346, وروضات الجنات ص502, وتاج العروس 1/ 305, وبغية الوعاة ص366, وطبقات القراء لابن الجزري 1/ 602, ومرآة الجنان 1/ 348, وشذرات الذهب 1/ 252, وخزانة الأدب للبغدادي 1/ 8، 1/ 179, والنجوم الزاهرة 2/ 99, وكتاب سيبويه إمام النحاة لعلي النجدي ناصف "طبع مطبعة لجنة البيان العربي بالقاهرة".

ولم تذكر كتب التراجم أنه رحل إلى البادية في طلب اللغة والسماع عن العرب ومشافهتهم، غير أن ما يتردد في كتابه من مثل قوله: "سمعنا بعض العرب يقول", و"سمعنا العرب تنشد هذا الشعر", و"سمعنا من العرب", وهو "كثير في جميع لغات العرب", و"عربي كثير", و"عربي جيد", و"قد سمعناهم", و"قال قوم من العرب ترضى عربيتهم", و"سمعنا من العرب من يوثق بعربيته" يدل -في رأينا- على أنه رحل إلى بوادي نجد والحجاز مثل أستاذه الخليل. والكتاب يفيض بسيول من أقوال العرب وأشعارهم، لا يرويها عن شيوخه، وهي بدورها تؤكد، بل تحتِّم, أنه رحل إلى ينابيع اللغة والنحو يستمد منها مادة وعتادا فصيحا صحيحا بشاراته في النطق وهيئاته. ولما توفي الخليل خلفه -على ما يظهر- في حلقته، إذ نجد كتب طبقات النحاة تنص على طائفة من تلاميذه مثل الأخفش الأوسط وقطرب، وأكبّ حينئذ على تصنيف الكتاب، وسرعان ما أخذ نجمه يتألق لا في البصرة دار النحو فحسب، بل أيضا في بغداد، ورحل إليها طامحا إلى الشهرة في حاضرة الدولة، وحدث أن التقى بالكسائي مقرئ الكوفة ومؤدب الأمين بن الرشيد، وكان ذلك في دار يحيى البرمكي، وقيل: بل في دار الرشيد، ويقال: إنه لقيه قبل الكسائي بعض أصحابه: الأحمر وهشام والفراء ليوهنوا منه. ولم يلبث صاحبهم أن تعرض له بالسؤال في المسألة الزنبورية، إذ قال له: كيف تقول: "قد كنت أظن أن العقرب أشدُّ لسعةً من الزنبور, فإذا هو هي أو فإذا هو إياها؟ " فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب. قال الكسائي: لحنت، العرب ترفع ذلك كله وتنصبه. فدفع سيبويه قوله، وطال بينهما الجدال، وكان بالباب نفر من عرب الحطمة النازلين ببغداد، ممن ليسوا في درجة عالية من الفصاحة، فطلب الكسائي سؤالهم، ولما سُئلوا تابعوه في رأيه. فانكسر سيبويه كما يقول الرواة، وإن كنا نتهم قولهم؛ لأن الحق كان في جانبه؛ لما يقتضيه القياس في هذا الموضع، ولأنه يطرد الرفع فيه في آي الذكر الحكيم من مثل: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} , {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} , {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} , وكأنها هي وما بعدها مبتدأ وخبر. أما النصب فيكون على الحالية

وتوجيهه ضعيف. وكان سيبويه ونحاة البصرة يهدرون ما يجري على لسان عرب الحُطَمة لما دخل على سلائقهم من ضعف بسبب إقامتهم في الحاضرة، بل لقد كانوا يهدرون ما جاء على ألسنة بعض البدو من لغات شاذة لا تجري مع القياس المستنبط من كثرة ما يدور على ألسنة الفصحاء كالجر بلعل والجزم بلن. ولا بد أن سيبويه شرح ذلك في حواره ومناظرته مع الكسائي، وإن كان الرواة للحادثة لم يدونوه. ويقال: إن يحيى البرمكي أجازه بعشرة آلاف درهم. ويظهر أنه لم تطب له الإقامة ببغداد فولى وجهه نحو موطنه، غير أن الموت عاجله في شيراز، وقيل: في همذان أو ساوة، واختلف الرواة في تاريخ وفاته، والأرجح أنه توفي سنة 180 للهجرة.

الكتاب

الكتاب: من المؤكد أن سيبويه بدأ تأليف الكتاب بعد وفاة الخليل، إذ نراه في بعض المواضع يعقب على ذكره لاسمه بكلمة "رحمه الله". وقد حمله عنه تلميذه الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة، وأذاعه في الناس باسم "الكتاب" عَلَما اختص به هذا المصنَّف وحده دون بقية المصنفات في عصره، بحيث كان يقال في البصرة: "قرأ فلان الكتاب" فيُعلم أنه كتاب سيبويه دون شك. وظل هذا الاسم خاصا به، دلالة على روعة تأليفه وإحكامه. ونرى كثيرين من النحاة وغيرهم ينوهون به تنويها عظيما، من ذلك قول أبي عثمان المازني تلميذ الأخفش: "من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحْيِ", ويقول الجاحظ: "أردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك "الزيات وزير المعتصم" ففكرت في شيء أهديه إليه، فلم أجد شيئا أشرف من كتاب سيبويه، وقلت له: أردت أن أهدي إليك شيئا، ففكرت، فإذا كل شيء عندك، فلم أر أشرف من هذا الكتاب، وقد اشتريته من ميراث الفراء، فقال ابن عبد الملك: والله ما أهديت إلي شيئا أحب إلي منه". ويقول أبو الطيب

اللغوي فيه وفي كتابه: "هو أعلم الناس بالنحو بعد الخليل، وألف كتابه الذي سماه الناس قرآن النحو". ويقول السيرافي: "وعمل كتابه الذي لم يسبقه إلى مثله أحد قبله، ولم يلحق به من بعده". ويقول المبرد: "لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه". ويقول صاعد بن أحمد الأندلسي: "لا أعرف كتابا أُلِّف في علم من العلوم قديمها وحديثها، واشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب؛ أحدها المجسطي لبطليموس في علم هيئة الأفلاك، والثاني كتاب أرسططاليس في علم المنطق، والثالث كتاب سيبويه البصري النحوي، فإن كل واحد من هذه لم يشذّ عنه من أصول فنه شيء إلا ما لا خطر له". ولعل أول ما يلاحظ على الكتاب أن سيبويه لم يضع له اسما يفرده به، وربما أعجلته وفاته عن تسميته كما أعجلته عن وضع مقدمة بين يديه وخاتمة ينتهي بها، فنحن نفاجأ في أول سطر فيه بهذا العنوان: "هذا باب علم ما الكلم من العربية" وفيه تحدث عن أقسام الكلمة, وأنها اسم وفعل وحرف. ونمضي معه إلى نهاية الكتاب، فنجد الحديث ينقطع عند بيان حذف بعض العرب لحروف في بعض الأبنية تخفيفا على اللسان، ومثَّل لذلك فيما مثَّل بقول بعضهم: "عَلْماءِ بنو فلان" بحذف اللام في على أي: على الماء بنو فلان. ونحس كأنه كانت لا تزال في نفسه بقية يريد أن يضيفها إلى الكتاب. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إنه لم يأخذ الفرصة الكافية كي ينقح الكتاب ويخرجه إخراجا نهائيا. وربما كان هذا هو السبب الحقيقي في أننا نجد عنده أحيانا شيئا من الاستطراد كأن يتحدث في بعض أبواب النحو عن مسائل صرفية، وكأن يتعرض لبعض صيغ ليست من الباب كتعرضه لبعض صيغ الحال في حديثه عن النعت، وقد يتحدث عن باب في موضعين على نحو ما صنع بجموع التكسير في الجزء الثاني من الكتاب. وينبغي أن لا نظن من ذلك أن الكتاب لم يُكْفَل له منهج سديد في التصنيف, فقد نسَّق سيبويه أبوابه وأحكمها إحكاما دقيقا، وخاصة إذا عرفنا أنه أول كتاب جامع في قواعد النحو والصرف. وقد جعله في قسمين كبيرين، أما

القسم الأول فخصّه بالنحو ومباحثه، وكاد لا يترك في هذه المباحث جانبا إلا استقصاه من جميع أطرافه في الجزء الأول من الكتاب وأوائل الجزء الثاني، حتى إذا فرغ من هذه المباحث انتقل يبسط في دقة القسم الثاني وما يخوض فيه من المباحث الصرفية, محيطا بكل تفاصيلها إحاطة تامة, واصلا لها بمادة صوتية واسعة من مثل الحديث عن الإمالة والوقف والروم والإشمام والإشباع وما إلى ذلك. وقد تحول ما ذكره من قواعد النحو والصرف إلى ما يشبه نجوما قطبية ثابتة, ظل النحاة بعده إلى اليوم يهتدون بأضوائها في مباحثهم ومصنفاتهم. ويمكن أن نقول بصفة عامة: إن الكثرة من المصطلحات النحوية والصرفية التي لا تزال شائعة على كل لسان في عصرنا, كان لكتابه الفضل الأول في إشاعتها وإذاعتها طوال العصور، وكأنه لم يترك للنحاة من بعده إلا ما لا خطر له، كما قال صاعد آنفا، كأن يميزوا بعض المصطلحات أو يضيفوا مصطلحات جديدة لغرض الدقة في التوضيح، فمن ذلك أنه عرض لأبواب التوابع عرضا واسعا، وجرت على لسانه كلمات النعت والبدل والتوكيد والعطف ويريد به عطف البيان، ولكنها جميعا يتداخل بعضها في بعض، بحيث يسميها أحيانا صفة, وقد يسمي عطف البيان نعتا1، وجعل التوكيد قسمين: قسما مكررا وقسما غير مكرر2، وسماهما خالفوه التوكيد اللفظي والتوكيد المعنوي. وكان يسمي عطف النسق الشركة وحروفه مثل الواو حروف الإشراك3. وقد لا يضع الاصطلاح الخاص المميز كأن نجده يقول: "هذا باب نظائر ضربته ضربة, ورميته رمية"4, وسمى النحاة الباب بعده "اسم المرة". ويقول: "هذا باب ما عالجت به"5, وسماه النحاة بعده "اسم الآلة" مثل المقص. ويقول: "هذا باب اشتقاقك الأسماء لمواضع بنات الثلاثة التي ليست فيها زيادة من لفظها"6 مثل مجلس، وسمى النحاة بعده ذلك "باسم المكان المشتق". ومن مصطلحاته التي تركها الصرفيون مصطلح البيان والتبيين7, وقد سموه باسم "فك

_ 1 المغني ص631, وانظر الكتاب 1/ 223, 306، 393 وفي مواضع مختلفة. 2 الكتاب 1/ 315. 3 الكتاب 1/ 209، 247. 4 الكتاب 2/ 246. 5 الكتاب 2/ 249. 6 الكتاب 2/ 246. 7 الكتاب 2/ 407.

الإدغام". ويقول: "هذا باب الفاعلَين والمفعولين اللذين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به وما كان نحو ذلك"1 مثل: كلمت وكلمني محمد, وسمى النحاة هذا الباب باسم "باب التنازع". ويقول: "هذا باب ما يكون فيه الاسم مبنيا على الفعل قُدِّم أو أُخِّر, وما يكون الفعل فيه مبنيا على الاسم"2, وسمى النحاة الباب باسم "باب الاشتغال". ومن ذلك عنوانه في أول الكتاب: "هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية"3 وهو ما سماه النحاة بعده باسم "أنواع الإعراب والبناء". وتلقانا في مواطن مختلفة من الكتاب ظلال من الغموض والإبهام، وقد يرجع ذلك في الكثير الأكثر إلى أن سيبويه كان يضع قوانين النحو والصرف وضعا مفصلا متشعبا لأول مرة، فطبيعي أن يتصعب عليه التعبير أحيانا وأن يداخله من حين إلى حين شيء من الإبهام والالتواء. وكثيرا ما يوجز في موضع يفتقر إلى شيء من البسط، ويصور ذلك من بعض الوجوه أن نجده يتحدث عن الحذف في الكلام وما قد يجري فيه حذف الفعل، ويمثل لذلك بقولهم: "حينئذ الآن" على تقدير: حينئذ اسمع الآن، كما يمثل بمثال ثانٍ هو قولهم: "ما أغفله عنك شيئا" وظل النحاة حتى عصر المبرد لا يدرون معنى العبارة, ولا يعرفون بالتالي موضع حذف الفعل حتى جاء الزجاج، فقال: إن العبارة تعليق على كلام تقدم، كأن قائلا قال: "زيد ليس بغافل عني", فأجابه صاحبه: "ما أغفله عنك, شيئا" على تقدير: انظر شيئا، يريد أن يقول له: تفقَّدْ أمرك ودع الشك عنك4، وبذلك فُهمت العبارة واتضحت بعد أن كانت عند من سبقه من النحاة كأنها لغز من الألغاز. وهذا الغموض في جوانب من الكتاب كان سببا في أن يتناوله كثيرون من النحاة بالشرح والتفسير والتعليق وفي مقدمتهم تلميذه الأخفش وأصحابه من مثل الجَرْمي والمازني، وكلما تقدمنا مع الزمن تكاثرت شروحه وتفسيراته والتعليقات عليه، ومن أشهرها شرح السيرافي وشرح الرماني. وعُنُوا عناية واسعة بشرح شواهده

_ 1 الكتاب 1/ 37. 2 الكتاب 1/ 41. 3 الكتاب 1/ 2. 4 الكتاب 1/ 279.

الشعرية ونسبة المجهول منها إلى من نظموه من العرب، وكان أول من عُنِيَ بذلك الجرمي، وفي ذلك يقول: "نظرت في كتاب سيبويه، فإذا منه ألف وخمسون بيتا، فأما الألف فقد عرفت أسماء قائليها فأثبتّها، وأما الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها"1. وعني بعده كثيرون بشرح هذه الشواهد وفي مقدمتهم المبرد والزجاج والسيرافي. وكان سيبويه من الثقة بحيث لم يطعن أحد في شيء مما أنشده من الأشعار المجهولة القائل ولا تعلق عليه باتهام أو إنكار، وفي ذلك يقول صاحب الخزانة: "الشاهد المجهول ... إن صدر من ثقة يعتمد عليه قُبل وإلا فلا؛ ولهذا كانت أبيات سيبويه أصح الشواهد، اعتمد عليها خلف بعد سلف، مع أن فيها أبياتا عديدة جُهل قائلوها وما عِيب بها ناقلوها"2.

_ 1 خزانة الأدب للبغدادي 1/ 178. 2 البغدادي 1/ 8.

التعريفات والعوامل والمعمولات

3- التعريفات والعوامل والمعمولات: يغلب على سيبويه أن يعنى في توضيح الباب الذي يتحدث عنه بذكر أمثلته التي تكشفه، يقول مثلا في باب التنازع بعد ذكر عنوانه السالف: "وهو قولك: ضربت وضربني زيد، وضربني وضربت زيدا؛ تحمل الاسم على الفعل الذي يليه, فالعامل في اللفظ أحد الفعلين, وأما في المعنى فقد يعلم أن الأول قد وقع, إلا أنه لا يعمل في اسم واحد رفع ونصب، وإنما كان الذي يليه أولى لقرب جواره". ويقول في باب الإمالة: "هذا باب ما تُمَال فيه الألفات، فالألف تمال إذا كان بعدها حرف مكسور، وذلك قولك: عابد وعالم ومساجد ومفاتيح وعذافر وهابيل"1. والكثرة الغالبة في أبواب الكتاب تجري على هذا النحو من تصويرها عن طريق التمثيل وذكر الشواهد، وقد يعمد إلى ذكر الأقسام المنطوي عليها الباب، كقوله في فاتحة كتابه: "الكلم: اسم وفعل وحرف, جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل", وقوله مقسما المنادى إلى منصوب ومرفوع: "هذا باب النداء، اعلم أن النداء كل اسم مضاف فيه فهو نصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره،

_ 1 الكتاب 2/ 259.

والمفرد رفع وهو في موضع اسم منصوب"1. وقوله في باب التصغير مصورا له في أمثلته أو صيغه: "هذا باب التصغير، اعلم أن التصغير إنما هو في الكلام على ثلاثة أمثلة؛ على فُعَيل وفُعَيعِل وفُعَيْعِيل"2, ثم يذكر الأمثلة مثل جبيل وجعيفر ومصيبيح. وكأنه في كل ذلك آثر المنهج التحليلي الذي يعنى في تصوير الموضوع ببيان أقسامه وتفريعاته مباشرة. وقد يعمد إلى المنهج العقلي المجرد, فيحاول أن يحد بعض ما يتحدث عنه من أبواب عن طريق التعريف الكلي الجامع، من ذلك تعريفه للفعل في السطور الأولى من الكتاب إذ يقول: "وأما الفعل فأمثلة أُخذت من لفظ أحداث "مصادر" الأسماء وبُنيت لما مضى ولما يكون ولم يقع وما هو كائن لم ينقطع", وهو تعريف دقيق إذ جمع فيه بين دلالة الفعل على الحدث أي: المصدر ودلالته على الزمان الماضي والمستقبل والحاضر، وبذلك شمل التعريف أقسام الفعل الثلاثة: الماضي والأمر والمضارع. وتضمن التعريف مسألة دقيقة طال الجدل بعده فيها بين خالفيه من البصريين وبين الكوفيين، وهي مسألة أيهما هو الأصل: المصدر أو الفعل؟ أو بعبارة أخرى: أيهما اشتُق من صاحبه؟ وواضح من قول سيبويه: "أما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء" أن المصدر -في رأيه- هو الأصل, وأن الفعل مشتق منه. ورأى الكوفيون أن الفعل هو الأصل واشتق منه المصدر. ومن تعريفاته الجامعة تعريفه للمبتدأ بأنه "كل اسم ابتدئ به ليبنى عليه الكلام" ويعرف الترخيم بأنه "حذف أواخر الأسماء المفردة تخفيفا" ويقول: إنه لا يكون إلا في النداء. وكأنه هو الذي وضع في النحو فكرة التعريف للأبواب تعريفا جامعا يجمع قضاياها وجزئياتها المختلفة، وإن كان لم يتسع بذلك كما اتسع النحاة بعده. وتتداخل نظرية العوامل في كل أبواب الكتاب وفصوله النحوية، بل لا نغلو إذا قلنا: إنها دائما الأساس الذي يبني عليه حديثه في مباحث النحو، وهي تلقانا منذ السطور الأولى في الكتاب، فقد عقب على حديثه عن مجاري أواخر الكلم الثمانية، أو بعبارة أخرى: عن أنواع الإعراب والبناء للكلمات بقوله: "وإنما

_ 1 الكتاب 1/ 303. 2 الكتاب 2/ 105.

ذكرت لك ثمانية مجارٍ؛ لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة، لما يحدث فيه العامل وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه، وبين ما يبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل التي لكل عامل منها ضرب من اللفظ في الحرف, وذلك الحرف حرف الإعراب". فالعامل هو الذي يحدث الإعراب وعلاماته من الرفع والنصب والجر والسكون. وقد مضى يوزع الأبواب باعتبار العوامل، وبدأ بالفعل، ووزع الأبواب الأولى على لزومه وتعديه إلى مفعول واحد ومفعولين وثلاثة مفاعيل. ثم تحدث عما يعمل عمله من أسماء الفاعل والمفعول والمصادر, ونراه في الفعل المتعدي إلى مفعول واحد لا يقف عند المفعول به، بل يضيف إلى ذلك عمله في المصادر, أو بعبارة أخرى: المفاعيل المطلقة مثل ذهب الذهابَ الشديد وقعد القُرْفُصاء ورجع القهقرى، كما يضيف عمله في المفعول فيه, أو بعبارة أدق: في ظرفي الزمان والمكان1. ويذكر عمله في المجرور عن طريق الجار2، ويلاحظ هنا أن حرف الجر الأصلي قد يحذف، وينصب المجرور على نزع الخافض مثل: نُبئت زيدا يقول كذا, أي: عن زيد. ويفرق بين مثل هذا الحرف المنوي تقديره وحرف الجر الزائد, فإنه إذا حذف من مثل: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أصبح لفظ الجلالة فاعلا، ولم تقدر باء محذوفة. ويعرض لصيغ المبني للمجهول إذا كان متعديا لمفعولين، ويقول: إن أولهما هو الذي ينوب عن الفاعل، مثل كسي عبد الله الثوب3. ويتحدث عن عمل الفعل في الحال مفرقا بينه وبين المفعول4، إذ الحال صفة للفاعل أو المفعول. ويقف عند كان وأخواتها: صار وما دام وليس وما كان نحوهن من الفعل، ويقول: إن المنصوب بعدها ليس مفعولا، وإنما هو خبر لها، وهي بذلك أفعال ناقصة، وقد تأتي تامة فتكتفي بفاعل كغيرها من الأفعال مثل كان الأمر أي: وقع, وأصبح محمد أي: دخل في الصباح، ويقول: إن ليس لا تأتي إلا ناقصة5. ويتحدث عن عمل ما النافية عند الحجازيين عمل ليس مثل: "ما هذا بشرًا" ويذكر لات

_ 1 الكتاب 1/ 15. 2 الكتاب 1/ 17, ويسمي سيبويه هنا حرف الجر باسم حرف الإضافة. 3 الكتاب 1/ 19. 4 الكتاب 1/ 20. 5 انظر في هذا كله الكتاب 1/ 21.

وأنها تعمل أيضا عمل ليس، غير أنها لا تعمل إلا في الحين مع إضمار مرفوعها، وقد يرفع ما بعدها مع إضمار خبرها، ولكن الأول هو الذائع الشائع كما في الذكر الحكيم: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} في قراءة الجمهور بنصب {حِينَ مَنَاصٍ} 1. ويمنع هنا أن تعطف جملة على معمولين لعاملين مختلفين، فلا يقال مثلا: "ما زيد بمنطلقٍ ولا قائمٍ عمرو" بجر قائم عطفا على منطلق ورفع عمرو عطفا على زيد2, وهي صورة بينة الفساد. ويفتح بابا لبحث صورة التنازع المعروفة في مثل "قام ومضى المحمدون". وهنا تصل نظرية الفعل العامل الذروة، إذ يرفض سيبويه مثل هذا التعبير، ويحتم إعمال الفعل الثاني في كلمة "المحمدون" لقربه، ويضمر في الأول بحيث يقال: "قاموا ومضى المحمدون" حتى لا يكون الفاعل الواحد فاعلا لفعلين، فيجتمع بذلك مؤثران على أثر واحد. وكأنما العوامل النحوية تدخل في المؤثرات الحقيقية، وهو بعد في تصور خطر العامل النحوي، وقد جره كما جر النحاة بعده إلى أن يرفضوا الصورة الأولى التي جاءت فعلا عن العرب، ويضعوا مكانها هذه الصورة المقترحة3. ويعقد بابا يصور فيه عمل اسم الفاعل واسم المفعول عمل الفعل، ويتحدث عن عمل صيغ المبالغة وأنها في ذلك تشاكل اسم الفاعل، وهي صيغ فَعُول ومِفْعَال وفَعَّال وفَعِل وفَعِيل4، ويقول: إن مفعولها قد يتقدم عليها كما يتقدم على اسم الفاعل والفعل، وقد يفصل بينه وبينها الظرف والجار والمجرور. ثم يتحدث عن المصادر, وأنها تعمل عمل أفعالها مثل: "ضربًا زيدًا" أي: اضرب زيدا5. ويفرد بابا لبيان الإعمال والإلغاء للأفعال في باب ظن وأخواتها، أما الإعمال فيتحتم إذا تقدم الفعل في مثل: "ظننت محمدا منطلقا"، وأما الإلغاء فيجوز إذا تأخر الفعل عن مفعوليه أو توسط مثل: "محمدا منطلقا ظننت"، و"محمدا ظننت منطلقا"، ويجوز الرفع في المفعولين على أنهما مبتدأ وخبر، وحينئذ يلغى عمل ظن6. وينص على أن الفعل يعمل في البدل كما يعمل في المبدل منه مثل:

_ 1 الكتاب 1/ 29 وما بعدها. 2 هامش الكتاب 1/ 31. 3 راجع كتاب الرّدّ على النحاة لابن مضاء القرطبي "طبع دار الفكر العربي" ص27. 4 الكتاب 1/ 57. 5 الكتاب 1/ 59. 6 الكتاب 1/ 61.

رأيت قومك أكثرهم، ويشبِّه عمله فيه بعمله في التوكيد مثل: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} 1. ويفتح فصلا لاسم الفاعل الذي يجري مجرى المضارع ويعمل عمله؛ لدلالته على الاستقبال مثل: "هذا ضارب زيدا غدا" فمعناه وعمله مثل: "هذا يضرب زيدا غدا"، ويذكر أن اسم الفاعل قد يضاف إلى ما بعده، وحينئذ تحذف نونه إذا كان مثنى أو مجموعا مثل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} ويشير هنا إلى أنه قد يفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والجار والمجرور في الشعر2. ويتحدث عن اسم الفاعل المعرف بالألف واللام وأن ما بعده ينصب مثل: "هذا الضارب زيدًا", وقد يضاف مثل: هذا الضاربُ الرجلِ, بكسر الرجل وجره بالإضافة، وكأن الألف واللام فيه على نية الانفصال3. ويعقد بابا للمصادر التي تعمل عمل المضارع وتؤدي معناه مثل: عجبت من ضربٍ زيدٌ عمرًا4. ويتحدث عن عمل الصفة المشبهة وأفعل التفضيل ويجعل المنصوب بعدهما في مثل: محمد حسن وجها و {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} مشبها بالمفعول به5. ويفرد بابا لتعليق ظن وأخواتها عن العمل؛ إما لكون المفعول الأول اسم استفهام أو لأن المفعولين دخلت عليهما أداة الاستفهام أو لام الابتداء مثل: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} ومثل: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} 6. ويعقد بابا لأسماء الفعل الدالة على الأمر والنهي مثل: "هلمَّ ورُوَيْدا" ويتبعها بأسماء الفعل المحولة عن أسماء المكان والزمان والجار والمجرور مثل: "مكانك وبعدك" إذا حذرت المخاطب شيئا خلفه, ومثل "عندك" بمعنى قف, و"وراءك" بمعنى تأخر, و"إليك" بمعنى تنحَّ. ويقول: إنها لا تتصرف تصرف الأفعال وكذلك لا تتصرف تصرف الأسماء فتكون مبتدأ أو فاعلا، وحكمها في العمل كحكم أفعالها فمثل "رويد" بمعنى أمهل تتعدى فيقال: رويد زيدا، بخلاف "صه" بمعنى اسكت. ويقول أيضا: إن الكاف في مثل رويدك زيدا حرف خطاب، وهي مجرورة في مثل: هلم لك7. ويذهب

_ 1 الكتاب 1/ 75. 2 الكتاب 1/ 82-91. 3 الكتاب 1/ 93 وما بعدها. 4 الكتاب 1/ 97. 5 الكتاب 1/ 99 وما بعدها. 6 الكتاب 1/ 120. 7 الكتاب 1/ 123.

إلى أن الفعل يعمل في المفعول معه بواسطة الواو مثل استوى الماءُ والخشبةَ1، أما المفعول له فيعمل فيه الفعل مباشرة مثل: فعلت ذاك حِذارَ الشر2. وعنده أن العامل في الجر المضاف أو حرف الجر الذي يصل به الفعل أو يوصله إليه3. أما العامل في المبتدأ فالابتداء، وهو العامل المعنوي الوحيد الذي أثبته سيبويه4. ويعمل المبتدأ فيما بعده عمل الفعل، أي: إنه هو العامل في الخبر وكل ما يكون بعده5 من مثل الحال. ويفتح فصولا لإن وأخواتها, ذاكرا أنها عملت فيما بعدها النصب والرفع تشبها بالفعل، وكأنها بمنزلة كان للزوم المبتدأ والخبر لها، مما جعلها تعمل عمل كان معكوسا6. ويتابع الخليل في الوقوف عند دخول ما عليها وجواز إلغاء عملها ويقول: إن إنّ حين تخفف تلغى وتدخلها اللام الفارقة بينها وبين إن العاملة مثل: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} . ويذكر أن بعض العرب يُعملها وهي مخففة فيقول: "إنْ عمرا لمنطلق"7. ويقف عند صور التمييز مثل: "ما في السماء موضع كفٍّ سحابًا" و"لله دره رجلا", ورجلا في مثل: "نعم رجلا عبد الله" وعنده أن نعم وبئس فعلان وأن التمييز يعمل فيه ما قبله8. وليست يا هي العاملة في النداء والندبة وما إليهما, وإنما العامل الفعل المحذوف, إذ التقدير في مثل: يا عبد الله, أدعو عبد الله9، وكأن المنادى عنده بمنزلة المفعول به. وتعمل لا النافية للجنس عمل إنّ ويحذف التنوين من اسمها فيكون مبنيا على الفتح10. ويتحدث عن الاستثناء وأدواته، ويفهم من كلامه أن إلا هي العاملة في المستثنى بعدها، وقد يحمل كلامه على أنها توصِّل الفعل السابق للعمل فيما بعدها مثل واو المعية في باب المفعول معه11. وعنده أن عدا في الاستثناء فعل دائما، أما حاشا فحرف يجر ما بعده دائما12. وكان يذهب إلى أن لولا إذا وليها ضمير مثل لولاك, كانت حرف جر وما بعدها

_ 1 الكتاب 1/ 150. 2 الكتاب 1/ 185. 3 الكتاب 1/ 209. 4 الكتاب 1/ 278. 5 الكتاب 1/ 260. 6 الكتاب 1/ 279 وما بعدها. 7 الكتاب 1/ 283. 8 الكتاب 1/ 198 وما بعدها. 9 الكتاب 1/ 303. 10 الكتاب 1/ 345. 11 الكتاب 1/ 359 وما بعدها. 12 الكتاب 1/ 377.

مجرور بها1. ويتحدث عن نواصب المضارع وجوازمه2، وكان يرى أن إذن تنصب المضارع بنفسها لا بأن مضمرة كما ذهب الخليل3. ويتحدث عن أدوات الشرط وجزمها للفعلين ويفيض في صور الجزم ورفع الجواب أحيانا4، ويتحدث عن جزم المضارع في جواب الأمر والنهي، ويعود إلى إنّ وأنْ ومواضعهما في الاستعمال. وكان يرى أن أما في مثل: أما زيد فذاهب, تفيد التوكيد والشرط وأن الجار والمجرور والظرف إذا ولياها في مثل: "أما في الدار فإن زيدا جالس", و"أما اليوم فإني ذاهب" عملت فيهما لما فيها من معنى الفعل، ومنع أن يكون العامل فيهما خبر إن؛ لأن معموله لا يتقدم بحال عليها5. والعوامل تعمل مذكورة ومحذوفة، ويكثر حذف الفعل وبقاء عمله، مما جعل سيبويه يفرد لذلك صحفا كثيرة، حاول فيها أن يستقصي صور حذفه استقصاء دقيقا، وهداه ذلك منذ بادئ الأمر إلى اكتشاف باب الاشتغال الذي يُشغَل فيه الفعل أو شبهه بضمير أو بملابسه عن العمل في الاسم مثل: "زيدا كلمته وزيدا مررت به وزيدا قرأت كتابه". وقد جعل زيدا في ذلك كله مفعولا به لفعل محذوف يفسره الفعل المذكور. ومضى يستقصي صور الباب موزعا الكلام فيها على ما يجب نصبه وما يختار فيه النصب وما يستوي فيه النصب والرفع وما يختار فيه الرفع وما يجب رفعه، أما وجوب النصب فبعد حروف التحضيض وحرف الشرط؛ لأنه لا يليها جميعا إلا الأفعال، لذلك يجب نصب ما بعدها على أنه مفعول لفعل محذوف مثل: "هلا زيدًا كلمته"، و"إن زيدًا كلمته كلمك"6. ويختار النصب مع النهي والأمر, أما قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فالخبر فيه مبني على الإضمار؛ لأن الأصل في خبر المبتدأ أن يكون خبريا لا طلبيا؛ ولذلك لم يجعل سيبويه فعل الأمر خبرا عن السارق، بل جعل الخبر محذوفا تقديره: في الفرائض أو فيما فرض عليكم7. ويختار النصب أيضا إذا تلا الاسمُ همزةَ الاستفهام8

_ 1 الكتاب 1/ 388. 2 الكتاب 1/ 407. 3 الكتاب 1/ 412. 4 الكتاب 1/ 431. 5 المغني ص59 وما بعدها. 6 الكتاب 1/ 51، 67. 7 الكتاب 1/ 71. 8 الكتاب 1/ 47 وما بعدها.

أو ما ولا النافيتين1 مثل: "أزيدا لقيته", و"ما زيدا كلمته", وكذلك إذا عُطفت الجملة التي فيها الاسم الذي شُغل عنه الفعل على جملة فعلية مثل: "ضربت زيدا، وعمرا أكرمته", ومنه قوله جل وعز: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 2. ويستوي النصب والرفع إذا عطفت جملة الاشتغال على جملة مصدَّرة بمبتدأ وخبرها فعل أو جملة فعلية مثل: "زيد أكرمته، وعبد الله لقيته", فعبد الله يرفع إن عطفت جملته على جملة المبتدأ والخبر وينصب إن عطفت على جملة الخبر لتناسب المعطوف والمعطوف عليه في الوجهين3. ويُختار الرفع إذا تلا الاسم جملة خبرية موجبة مثل: "زيد لقيته"؛ لأننا لا نحتاج حينئذ إلى تقدير فعل محذوف4، غير أن النصب جائز, ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} , وكذلك إذا فُصل بين حرف الاستفهام والاسم المشغول عنه الفعل بفاصل مثل: "أأنت عبدُ الله ضربته"5. ويجب الرفع إذا توسط بين الاسم المشغول عنه الفعل وبين الفعل أداة شرط أو استفهام مثل: "زيد إن تكرمه يكرمك" و"زيد كم مرةً لقيته" و"عمرو هل رأيته", وكذلك إذا كان الفعل في موضع الصفة مثل: "ما شيء حميته بمستباح"؛ لأن جملة "حميته" صفة لشيء و"بمستباح" خبرها. ومما يجب رفعه أيضا أن يكون الفعل معه صلة لموصول مثل: "زيد الذي رأيته سأل عنك", وكذلك إن أبدلت منه أو وكدته مثل: "زيد أن تكرمه خير من أن تهينه" لأن ما بعد أن الناصبة للفعل يعد من صلتها6. والرفع في كل ذلك إنما هو على الابتداء. وقال سيبويه: إن الاشتغال يكون في الأفعال الناقصة على نحو ما يكون في الأفعال التامة مثل: "أعبد الله كنت مثله، وزيدا لست مثله"7. وذكر أن اسم الفاعل والمفعول وأسماء المبالغة تجري في هذا الباب مجرى الأفعال مثل: "أزيدا أنت ضاربه" و"أزيدا أنت ضرَّابه"8. وحتَّم الرفع في مثل: "زيد أنت الضاربه"؛ لأن الألف واللام بمعنى

_ 1 الكتاب 1/ 72. 2 الكتاب 1/ 46. 3 الكتاب 1/ 47. 4 الكتاب 1/ 42. 5 الكتاب 1/ 54. 6 الكتاب 1/ 65 وانظر 45. 7 الكتاب 1/ 52. 8 الكتاب 1/ 55 وما بعدها.

الذي، فضاربه من صلتها، فحكمها مع الاسم الذي شُغلت عنه حكم الفعل السالف في الصلة؛ ولذلك يجب الرفع1 على الابتداء. ولم نعرض لكل صور الاشتغال عند سيبويه, إنما عرضنا لصوره المشهورة، وكأنما نثر كنانة اللغة بين يديه وجمع منها كل ما أراد من صور لا في هذا الباب وحده، بل أيضا في كل الأبواب التي يحذف معها الفعل. وقد استكمل صور حذفه مع المفعول به فيما وراء باب الاشتغال، من ذلك تصويره لحذفه في باب التحذير مثل: الأسدَ الأسدَ2، وإياك، وإياك والأسدَ3، وفي باب الاختصاص مثل: "إنا معشرَ العرب كرامٌ" وهو على تقدير: أعني4. ويصور حذفه جوازا, إذا قامت قرينة مثل "مكةَ" لمن رأيته قاصدا الحج أي: تريد مكة5. ويعرض لكثير من الصور السماعية التي يحذف فيها وجوبا مثل: "هذا ولا زعماتِك" أي: ولا أتوهم زعماتك6، ومن ذلك قول العرب في بعض أمثالهم: "كليهما وتمرا" أي: أعطني كليهما وتمرا7، وقول الله جل وعز: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} أي: ائتوا خيرا لكم8، وقولهم: "مرحبا وأهلا وسهلا" أي: أدركت مرحبا وأصبت أهلا ونزلت سهلا9, وقولهم: "امرأً ونفسه"10 أي: دع امرأ ونفسه، وقولهم: "ما لك وزيدا" أي: وتناولك زيدا11، وقولهم: "تربا وجندلا" أي: ألزمك الله أو أطعمك12. وقد أكثر سيبويه من عقد الأبواب التي تصور حذف الفعل مع المفعول المطلق جوازا ووجوبا، وهو إنما يجب إذا جاء بدلا من فعله كقولهم في الدعاء له: "سقيا ورعيا" أي: سقاك الله ورعاك13, و"هنيئا" أي: لتهنأ14, وقولهم في الدعاء عليه: "ويلك وويحك"15، وقولهم: "حمدا وشكرا"16، وقولهم: "سبحان الله ومعاذ الله

_ 1 الكتاب 1/ 66. 2 الكتاب 1/ 128. 3 الكتاب 1/ 138. 4 الكتاب 1/ 327. 5 الكتاب 1/ 129. 6 الكتاب 1/ 141. 7 الكتاب 1/ 142. 8 الكتاب 1/ 143. 9 الكتاب 1/ 149. 10 الكتاب 1/ 150. 11 الكتاب 1/ 155. 12 الكتاب 1/ 158. 13 الكتاب 1/ 157. 14 الكتاب 1/ 159. 15 الكتاب 1/ 160. 16 الكتاب 1/ 160.

وعَمْرَك الله"1. ومما اطرد فيه حذف الفعل قولهم: "ما أنت إلا سيرا", و"ما أنت إلا السيرَ" بالنصب, و"ما أنت إلا السيرَ السير"2، وزعم سيبويه أنهم استخدموا في هذا الباب صفات مثل أقائما وقد قعد الناس3 وأتميميا مرة وقيسيا أخرى أي: أتتحول تميميا مرة وقيسيا أخرى4. ومما حذف معه الفعل المصادر المثناة مثل: لبيك وسعديك5، وحقا في قولهم: "هذا عبد الله حقا"6 وعُرْفا في قولهم: "علي ألف درهم عرفا"7. ويحذف الفعل مع قطع النعت ونصبه في مثل: "الحمد لله الحميدَ" بالنصب8، كما يحذف في باب النداء على نحو ما ذكرنا ذلك آنفا. وليس الفعل التام وحده الذي يحذف، فكان الناقصة تحذف في مواضع منها قولهم: "الناس مجزيُّون بأعمالهم, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر" أي: إن كان الجزاء خيرا فخير، وإن كان شرا فشر. وأجاز أن يقال: إن خير فخير, أي: إن كان في أعمالهم خير, فالذي يجزون به خير, هكذا قدر العبارة9. ومن مواضع حذف كان قولهم: كيف أنت وزيدا وما أنت وزيدا, على تقدير: كيف تكون أنت وزيدا وما كنت وزيدا10، وإنما قدر كان في المثالين ليسبق المفعول معه فعل يعمل فيه النصب. ومن تلك "المواضع قولهم: "أما أنت منطلقا انطلقت معك"، على تقدير: أَنْ كنت منطلقا انطلقت11، فحذفت كان وانفصل اسمها وعوض عنهما بلفظة ما. ومما يطرد معه حذف العامل, الجار والمجرور إذا كانا في موضع الحال أو الصفة أو الخبر، إذ يقدرهما متعلقين بفعل استقر محذوفا، فإذا قلت: "في الدار زيد" كان ذلك على تقدير: استقر في الدار زيد12, ومثلهما الظرف. ويطرد مع لام التعليل التي ينصب بعدها المضارع وأخواتها مثل أو والواو والفاء حذف أن الناصبة له، والخليل كما مر بنا هو الذي نبه على هذا الحذف. وتضمر رُبَّ

_ 1 الكتاب 1/ 162. 2 الكتاب 1/ 168. 3 الكتاب 1/ 171. 4 الكتاب 1/ 172. 5 الكتاب 1/ 174. 6 الكتاب 1/ 189. 7 الكتاب 1/ 190. 8 الكتاب 1/ 248. 9 الكتاب 1/ 130 وما بعدها. 10 الكتاب 1/ 152 وما بعدها. 11 الكتاب 1/ 148. 12 الكتاب 1/ 260.

بعد الواو في مثل قول القائل: "وبلدةٍ ليس بها أنيس"1. ويحذف المضاف ويظل عمله أو أثره كقولهم: "ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة", فبيضاء في موضع جر على تقدير إضمار كل، كأنك قلت: ولا كل بيضاء شحمة، ومن ذلك قول أبي داود: أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونارٍ توقَّد بالليل نارا فقد أراد: وكل نار، ومن هنا قال: إن لفظة نار مجرورة بكل أخرى مقدرة وليست معطوفة على امرئ، حتى لا تكون الجملة الثانية في البيت والمثل السالف معطوفة على عاملين مختلفين، فتكون شحمة معطوفة على "تمرة", و"نارا" معطوفة على "امرأ"2. ويكثر حذف المبتدأ العامل في الخبر ما دامت هناك قرينة تدل عليه. وهو يضع في تضاعيف كلامه قاعدة عامة لعمل العوامل مضمرة، إذ يقول: "إذا عملت العرب شيئا مضمرا لم يخرج عن عمله مظهرا في الجر والنصب والرفع"3, ويمثل للرفع بحذف المبتدأ في قولك: "الهلال" تريد: هذا الهلال. ومما يصح أن يدخل في حذف المبتدأ قول الله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} على تقدير: أمري طاعة وقول معروف4، وقول العرب: "الناس مجزيون بأعمالهم, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر" فقد قدر -كما مر بنا آنفا- في لفظة خير المرفوعة ومثلها شر المرفوعة أن يكونا خبرين لمبتدأين محذوفين على تقدير: فالذي يجزون به خير، وكذلك فالذي يجزون به شر5. ومن حذف المبتدأ قولك: "إنْ جزعٌ وإن إجمالُ صبر" أي: فإما أمري جزع وإما أمري إجمال صبر6، وقولهم في الخطاب: "مصاحب معان ومبرور مأجور" على تقدير: أنت مصاحب معان وأنت مبرور مأجور7. وواضح من هذا التقدير أن سيبويه لم يكن يعدد الخبر، بل يجعل لكل خبر مبتدأ خاصا به. ومن حذف المبتدأ أيضا قول الله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ} على تقدير: الأمر صبر جميل، ومثله قول بعض العرب: "من أنت

_ 1 الكتاب 1/ 133. 2 الكتاب 1/ 33. 3 الكتاب 1/ 54. 4 الكتاب 1/ 71. 5 الكتاب 1/ 131. 6 الكتاب 1/ 135. 7 الكتاب 1/ 137.

زيد" أي: "من أنت كلامك زيد"، فتركوا إظهار الرافع1، يريد: إظهار المبتدأ، وقول الله جل وعز: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} أي: ذاك بلاغ2. ومما يطرد فيه حذف المبتدأ النعت المقطوع لمدح أو ذم أو ترحم مثل: مررت بمحمد الفاضلُ أو اللئيم أو المسكين3. وكذلك أي الموصولة إذا أُضيفت وحُذف عائدها, أو بعبارة أخرى: المبتدأ بعدها مثل: {لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} على تقدير: هو أشد4. وعلى نحو ما اتسع سيبويه في الحديث عن حذف العوامل على هدي ما قاله أستاذه الخليل في ذلك, اتسع في الحديث عن حذف المعمولات، فمن ذلك الخبر بعد مرفوع لولا في مثل: "لولا عبدُ الله للقِيتُك"، ويفهم من كلامه فيها أن جوابها أغنى عن الخبر5. وكذلك الخبر بعد لو في مثل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} فقد جعل أن وما بعدها في محل رفع بالابتداء، وقال: إن المبتدأ هنا لا يحتاج إلى خبر لاشتمال صلة لولا على المسند إليه والمسند6. ويحذف الخبر في مثل: "كلُّ رجل وضيعتُه", و"أنت وشأنك" أي: مقرونان7, وهو يحذف جوازا كلما وجدت قرينة، وجعل من ذلك {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} في أحد توجيهيه، إذ قال: من الممكن أن يكون الخبر هو المحذوف على تقدير: طاعة وقول معروف أمثل8، وكان الخليل يقول بذلك كما مر بنا في غير هذا الموضع. ومن مواضع حذفه قولهم: "ما أنت إلا سيرا" أي: تسير سيرا، وخرَّج عليه كما أسلفنا الآية الكريمة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أي: فيما فرض عليكم حتى لا يكون الخبر طلبيا9. ويحذف خبر إنّ مثل: إنّ ولدا أي: إن لنا ولدا، وخبر ليت مثل: "يا ليت أيام الصبا رواجعا"، أي: يا ليت لنا, وكذلك خبر لا النافية للجنس، وجعل منه: "ألا ماء باردا" أي: لنا10، وكذلك خبر لا العاملة عمل ليس مثل:

_ 1 الكتاب 1/ 162. 2 الكتاب 1/ 191. 3 الكتاب 1/ 252 وما بعدها. 4 الكتاب 1/ 398 وما بعدها. 5 الكتاب 1/ 279. 6 المغني ص298. 7 الكتاب 1/ 151. 8 الكتاب 1/ 71. 9 انظر الكتاب 1/ 72. 10 انظر في الأمثلة المذكورة الكتاب 1/ 284.

من صَدَّ عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح1 وتابع الخليل في أن اسم إن وأخواتها إذا كان ضمير شأن حذف كثيرا، وسبق أن صورنا ذلك في حديثنا عن الخليل. ولاحظ أن اسم "كان وليس" المضمر يكثر حذفه وعقد لذلك بابا2 مثل: "كان الناس صنفان: صالح وطالح"، و"ليس كل وقت تلقى صاحبك" وجعل إضمار اسمهما واجبا في باب الاستثناء مثل: جاء القوم لا يكون محمدا، وليس محمدا3. ويحذف المفعول به ضرورة في مثل: "زيد رأيت", وقياسا في باب ظن حين يلغى الفعل كما مر بنا في غير هذا الموضع. ويحذف التمييز في مثل: كم صمت؟ أي: كم يوما، وكثيرا ما يحذف عائد الصلة، وحتى المؤكد قد يحذف عنده وعند أستاذه الخليل، يقول: "سألته عن: مررت بزيد وأتاني أخوه أنفسهما" ما موضع أنفسهما؟ فقال: الرفع على تقدير: هما صاحباي أنفسهما، ويجوز النصب على تقدير: أعنيهما أنفسهما4, ويحذف البدل في مثل: ظننت ذاك، فقد جعل ذاك مفعولا مطلقا على تقدير: ظننت ذاك الظن5. ويحذف المضاف ويحل المضاف إليه محله في مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهل القرية. ويخيل لمن يتابع سيبويه أن ليس في اللغة معمول لا يحذف، وحتى الجملة تحذف، ويطرد ذلك إذا اجتمع الجزاء والقَسَم في مثل: لئن فعلت ذلك لأكافئنك, فقد حذف جواب إن لدلالة جواب القسم عليه6. وكان يقدر جواب الشرط محذوفا في مثل: إن قام زيد أقوم, ويقول: إن الفعل المضارع مؤخر في هذا المثال من تقديم, وإن الأصل: أقوم إن قام زيد، وحذف الجواب لدلالة أقوم عليه7. وأكثر سيبويه من تحليله للعبارات حتى تتّجه مع ما يراه لألفاظها من إعراب، من ذلك أن نراه يعرب المصدر حالا إذا اتجه ذلك في مثل: "ذهب به مشيا" أي: ماشيا، واشترط لذلك أن لا تدخله الألف واللام إلا ما جاء سماعا مثل: أرسلها

_ 1 الكتاب 1/ 354. 2 الكتاب 1/ 35. 3 الكتاب 1/ 376. 4 الكتاب 1/ 247. 5 الكتاب 1/ 18. 6 الكتاب 1/ 444. 7 الكتاب 1/ 436.

العراك أي: معتركة1، ويمثل له في موضع آخر بقولهم: "لقيته فجاءة ومفاجأة وعِيانا", و"كلمته مشافهة وأتيته ركضا وعدْوا ومشيا", و"أخذت ذلك عنه سمعا وسماعا", ثم يقول: "وليس كل مصدر وإن كان في القياس مثل ما مضى من هذا الباب يُوضَع هذا الموضع؛ لأن المصدر ههنا في موضع فاعل إذا كان حالا، ألا ترى أنه لا يحسن: أتانا سُرْعة, ولا أتانا رُجْلة" إذ المصدر في المثالين ليس في موضع فاعل2. وجعله إحساسه الدقيق بأن الحال يقع فيها الفعل, أو بعبارة أخرى: تقيد بزمنه، فإنك إذا قلت: جاء محمد ضاحكا، كانت "ضاحكا" صفة له مقيدة بالفعل وزمنه، وجعله ذلك يقول: إنها حال مفعول فيها3، وكأنها تقع بين النعت وظرف الزمان. وهذا نفسه هو الذي لفته إلى أن يقول: إن واو الجملة الحالية في مثل: "جاء زيد والشمس طالعة" قيد بمعنى إذ, أي: إنها تدل على الزمان4. ومن تحليلاته الطريفة في باب الحال وقد تصوره مفعولا فيه, ما عرض له في الباب الذي عنونه بقوله: "هذا باب ما ينتصب من الأسماء التي ليست بصفة ولا مصادر؛ لأنه حال يقع فيه الأمر فينتصب؛ لأنه مفعول فيه", يقول5: "وذلك قولك: كلمته فاهُ إلى فِيّ, وبايعته يدا بيد, كأنه قال: كلمته مشافهة وبايعته نقدا، أي: كلمته في هذه الحال. وبعض العرب يقول: كلمته فوه إلى في كأنه يقول: كلمته وفوه إلى في, أي: كلمته وهذه حاله، فالرفع على قوله: كلمته وهذه حاله، والنصب على قوله: كلمته في هذه الحال فانتصب؛ لأنه حال وقع فيه الفعل، وأما يدا بيد فليس فيه إلا النصب؛ لأنه لا يحسن أن يقول: بايعته ويد بيد, ولم يرد أن يخبر أنه بايعه ويده في يده، ولكنه أراد أن يقول: بايعته بالتعجيل ولا يبالي أقريبا كان أم بعيدا. وإذا قال: كلمته فوه إلى في, فإنما يريد أن يخبر عن قربه منه وأنه شافهه ولم يكن بينهما أحد. ومثله من المصادر في أن تلزمه الإضافة وما بعده مما يجوز فيه الابتداء ويكون حالا, قولهم: رجع فلان عَوْدَه على بدئه, وانثنى فلان عوده على بدئه كأنه قال: انثنى عودا على بدء. ولا يستعمل في الكلام: رجع

_ 1 الكتاب 1/ 118. 2 الكتاب 1/ 186. 3 الكتاب 1/ 194, وانظر 1/ 260. 4 المغني ص398. 5 الكتاب 1/ 195 وما بعدها.

عودا على بدء، ولكنه مُثِّل به. ومن رفع فوه إلى في, أجاز الرفع في قوله: رجع فلان عوده على بدئه. ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه الفعل, قولك: بعت الشاء شاة ودرهما، وقامرته درهما في درهم، وبعته داري ذراعا بدرهم، وبعت البر قَفِيزين بدرهم، وأخذت زكاة ماله درهما لكل أربعين درهما، وبينت له حسابه بابا بابا، وتصدقت بمالي درهما درهما. واعلم أن هذه الأشياء لا ينفرد منها شيء دون ما بعده؛ وذلك أنه لا يجوز أن تقول: كلمته فاه حتى تقول: إلى في؛ لأنك إنما تريد مشافهة، والمشافهة لا تكون إلا من اثنين، فإنما يصح المعنى إذا قلت: إلى في. ولا يجوز أن تقول: بايعته يدا؛ لأنك إنما تريد أن تقول: أخذ مني وأعطاني، فإنما يصح المعنى "بيد" لأنهما عملان. ولا يجوز أن تقول: انثنى عوده؛ لأنك لا تريد أنه لم يقطع ذهابه حتى وصله برجوع، وإنما أردت أنه رجع في حافرته أي: نقض مجيئه برجوع. وقد يكون أن ينقطع مجيئه ثم يرجع، فيقول: رجعت عودي على بدئي, أي: رجعت كما جئت، والمجيء موصول به الرجوع، فهو بدء والرجوع عود. ولا يجوز أن تقول: بعت داري ذراعا وأنت تريد بدرهم، فيرى المخاطب أن الدار كلها ذراع. ولا يجوز أن تقول: بعت شائي شاة شاة وأنت تريد بدرهم, فيرى المخاطب أنك بعتها الأول فالأول على الولاء. ولا يجوز أن تقول: بينت له حسابه بابا, فيرى المخاطب أنك إنما جعلت له حسابه بابا واحدا غير مفسر. ولا يجوز: تصدقت بمالي درهما فيرى المخاطب أنك تصدقت بدرهم واحد. وكذلك هذا وما أشبهه". وواضح ما يحمله هذا التحليل من دقة الحس ودقة الفقه بأساليب العربية واستعمالاتها ودلالاتها، ومن هنا كان كتاب سيبويه لا يعلم العربية وقواعدها فحسب, بل يعلم أيضا أساليبها ودقائقها التعبيرية. وعلى نحو ما نراه في هذه الفقرة يتوقف في الكتاب مرارا لينص على ما لم يستعمله العرب ولا جرى على ألسنتهم. ودائما تلقانا في الكتاب مثل هذه التحليلات الرائعة، فهو لا يسجل القواعد فقط، وإنما يفكر في العبارات ويلاحظ ويتأمل ويستنبط خواصها ومعانيها بحسه الدقيق المرهف، ويكفي أن نقف عند أمثلة أخرى من باب فاء

السببية التي ينصب بعدها المضارع، وقد يأتي مرفوعا، يقول1: "اعلم أن ما ينتصب في باب الفاء قد ينتصب على غير معنى واحد، وكل ذلك على إضمار أن، إلا أن المعاني مختلفة، كما أن "يعلم الله" يرتفع كما يرتفع: يذهب زيد، و"علم الله" ينتصب كما ينتصب: ذهب زيد، وفيهما معنى اليمين ... يقول: ما تأتيني فتحدثَني، فالنصب على وجهين من المعاني, أحدهما: ما تأتيني فكيف تحدثني أي: لو أتيتني لحدثتني، وأما الآخر: فما تأتيني أبدا إلا لم تحدثني، أي: منك إتيان كثير ولا حديث منك، وإن شئت أشركت بين الأول والآخر فدخل الآخر فيما دخل فيه الأول، فتقول: ما تأتيني فتحدثني "بالرفع" كأنك قلت: ما تأتيني وما تحدثني، ومثل النصب قوله عز وجل: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} , ومثل الرفع قوله عز وجل: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ, وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} , وإن شئت رفعت "تحدثني" على وجه آخر, كأنك قلت: فأنت تحدثنا، ومثل ذلك قول بعض الحارثيين: غير أنا لم تأتنا بيقين ... فنرجي ونكثر التأميلا كأنه قال: فنحن نرجي، فهذا في موضع مبني على المبتدأ "المحذوف" ... وتقول: حسبته شتمني فأثبَ عليه، إذا لم يكن الوثوب واقعا، ومعناه: أن لو شتمني لوثبت عليه. وإن كان الوثوب قد وقع فليس إلا الرفع؛ لأن هذا بمنزلة قوله: ألست قد فعلت فأفعلُ". ويدخل في هذا التحليل للعبارات وفرة الاحتمالات في إعرابها، من ذلك: "دخلوا الأولَ فالأولَ" جعله حالا مثل: دخلوا واحدا فواحدا، وجوز أن يقال: دخلوا الأولُ فالأول بالرفع, على أن الأول بدل من الضمير2. ومن ذلك قولك: "إن زيدا منطلق العاقلَ اللبيب" فقد جوز فيه النصب نعتا لزيد، كما جوز الرفع على وجهين: أن يكون العاقل بدلا من الضمير العائد على زيد في منطلق، أو يكون خبرا لمبتدأ محذوف، وكأنه جواب على سؤال مقدر، كأنه قيل: من هو؟ فأجيب بأنه العاقل اللبيب3. ومن ذلك نعت اسم لا النافية للجنس

_ 1 الكتاب 1/ 419 وما بعدها. 2 الكتاب 1/ 198. 3 الكتاب 1/ 286.

مثل: لا رجل ظريفَ عندك، فقد جوز في النعت أن يكون مبنيا على الفتح غير منون مثل الاسم، وقال: لأنهم جعلوا الموصوف والوصف بمنزلة اسم واحد، وجوز أن يكون منصوبا منونا أي: لا رجل ظريفًا عندك، يقول: كأنهم جعلوا الاسم ولا بمنزلة اسم واحد1. وهدتْه هذه التحليلات وما يماثلها إلى تبين حروف الجر الزائدة، وكلما التقى بها في تعبير نص عليها، من ذلك "من" الزائدة مع الاستفهام والنفي في المبتدأ أو الفاعل مثل: هل من طعام؟ أي: هل طعام؟ وما من طعام أي: وما طعام، ومثل: ما أتاني من رجل أي: ما أتاني رجل2. ومن ذلك الباء الزائدة في حسبك مثل قولهم: بحسبك قولُ السوء، يقول: كأنهم قالوا: حسبُك قول السوء3. وكما تدخل الباء على حسبك, تدخل على المبتدأ بعدها إن قدرت خبرا مقدما مثل: مررت برجل حسبك به من رجل، فبه هنا بمنزلة هو في رأيه ورأى أستاذه الخليل4. ومن توجيهاته الطريفة أنه كان يقول: إن الواو في لغة "أكلوني البراغيث" حرف دال على الجماعة, كما أن التاء في قالتْ حرف دال على التأنيث5. وكان يذهب مع أستاذه الخليل إلى أن كان قد تأتي زائدة, أي: ملغاة في مثل قول الشاعر: فكيف إذا رأيت ديار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام فقد زادت تبيينا لمعنى المضي6. وكان يرى كذلك أنه تزاد أنْ توكيدا للقسم بين اليمين وفعل القسم وما بعدهما مثل: والله أنْ لو فعلتَ لفعلتُ، وأقسم أن لو جئتَ لجئتُ7. وكان يسمي حروف الجر حروف الإضافة؛ لأنها تضيف معاني الأفعال إلى الأسماء8، وعنده أن "إما" المكسورة المشددة مركبة من إنْ وما9، وأن التنوين في جوار وغواش عوض عن الياء المحذوفة10.

_ 1 الكتاب 1/ 351. 2 الكتاب 1/ 279. 3 الكتاب 1/ 353. 4 الكتاب 1/ 230. 5 الكتاب 1/ 236. 6 الكتاب 1/ 289. 7 الكتاب 1/ 455. 8 الكتاب 1/ 209. 9 المغني ص61. 10 الكتاب 2/ 57, وانظر تعليق السيرافي في الهامش.

وعلى هذا النحو لا تزال سيول من التحليلات حتى للحركات والحروف, تلقانا عند سيبويه. وفي كل مكان نراه يتوقف ليوجه النصب والرفع في تعبير جاءت كلمةٌ فيه على لسان العرب مرفوعة ومنصوبة، أو جاءت مرفوعة فحسب أو منصوبة.

السماع والتعليل والقياس

4- السماع والتعليل والقياس: يجري سيبويه في السماع على الأساس الذي وضعته مدرسته، كما رأينا عند ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر والخليل, وهو النقل عن القراء وعلماء اللغة الموثقين والعرب الذين يوثق بفصاحتهم، واستن بمدرسته في قلة الاستشهاد بالحديث النبوي؛ لأنه رُوي بالمعنى لا باللفظ، ودخل في روايته كثيرون من الأعاجم الذين لا يؤمنون على اللحن. ويقول ابن الجزري: إنه أخذ القراءة عن أبي عمرو بن العلاء، ويظهر -إن صح ذلك- أنه لم يأخذها عنه مباشرة، إنما أخذها عن بعض تلاميذه، إذ نراه في الكتاب لا يذكر له مسألة إلا من طريق الرواية عن بعض هؤلاء التلاميذ, وخاصة يونس بن حبيب، مما يدل على أنه لم يلقه. ونظن ظنا أنه حمل قراءة الذكر الحكيم عن هارون1 بن موسى النحوي الذي يتردد ذكره في الكتاب مع بعض القراءات التي يرويها، وكذلك عن أستاذه الخليل وغيره من أئمة القراءات في البصرة لعصره مثل يعقوب بن إسحاق الحضرمي وهو أحد أئمة القراءات العشر. وكان سيبويه يقول: "القراءة لا تخالف لأنها السنة"؛ ولذلك قلما يذكر القراءة التي تخالف القياس, بل عادة لا يعرض لها، ومما وقف عنده الآية الكريمة: {كُنْ فَيَكُونُ} وكان ابن عامر يقرأ "يكونَ" بالنصب، وهو بذلك يخالف القياس؛ لأن المضارع لا ينصب بعد الفاء مع الأمر، على نحو ما يقرر ذلك سيبويه، إلا إذا كان جوابا له، ولم يرد الله في رأيه أنه يقول للشيء كن فيكون، وإنما أراد أنه يقول للشيء كن فحسب، ثم أخبر أنه يكون، ومعنى ذلك

_ 1 انظر ترجمته في نزهة الألباء، ص32, ومعجم الأدباء 19/ 263, وإنباه الرواة 3/ 361, وتاريخ بغداد 14/ 3, وطبقات القراء 2/ 348, وبغية الوعاة ص406.

أن قوله: "فيكون" كلاما مستقلا لا مترتبا على الأمر. ومن هنا نرى سيبويه يذكر في الآية قراءة الجمهور بالرفع، ولا يعرض لقراءة ابن عامر1. ومن ذلك أن نراه لا يعرض لقراءة حمزة: "تساءلون به والأرحامِ" بخفض الأرحام وعطفها على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض, مع أنه يقرر أنه لا يصح أن يقال: مررت بك وزيد، بل لا بد من أن يقال: مررت بك وبزيد, أي: إنه لا بد في العطف على الضمير المجرور من إعادة حرف الجر2. ويتردد في الكتاب سماعه عن علماء اللغة الموثقين في موطنه, وفي مقدمتهم أستاذه الخليل، وله في الكتاب القدح المعلّى، ويليه يونس بن حبيب، وقد نقل عنه أكثر من مائتي مرة3، ثم الأخفش الكبير ومجموع نقوله عنه سبعة وأربعون نقلا، ثم أبو عمرو بن العلاء، وقد روى عنه أربعا وأربعين رواية، ثم عيسى بن عمر، ومجموع نقوله عنه اثنتان وعشرون مرة، ثم ابن أبي إسحاق وقد نقل عنه أربع مرات, وهو لا ينقل عنه ولا عن أبي عمرو بن العلاء مباشرة. ويروي السيرافي عن أبي زيد أنه كان يقول: كلما قال سيبويه: "وأخبرني الثقة فأنا أخبرته" وتكررت الرواية في الكتاب عن هذا الثقة تسع مرات. ونقل أيضا عن الكوفيين بعض وجوه من القراءات لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. وذكرنا آنفا أنه دخل بوادي نجد والحجاز, وأنه قيد كثيرا عن العرب، ويطفح الكتاب بما قيده عنهم شعرا ونثرا. وكان موقفه من العرب دائما أن يسجل الصورة الشائعة على ألسنتهم في التعبير معتمدا عليها في تقرير قواعده. ولم يكن يسجلها وحدها، بل كان يسجل دائما ما جاء شذوذا على ألسنتهم، وهو ينعته تارة بالضعف وتارة بالشذوذ أو القبح أو الغلط، يقصد بذلك إلى أنه يخالف القياس الذي ينبغي اتباعه، من ذلك قوله: "واعلم أن ناسا من العرب يغلطون, فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون وإنك وزيد ذاهبان"4, وهو بذلك يقرر أن توكيد اسم إن والمعطوف عليه ينبغي أن يكونا جميعا منصوبين؛ لأنهما يتبعان منصوبا،

_ 1 الكتاب 1/ 423. 2 الكتاب 1/ 391, وانظر 1/ 397, وكذلك 2/ 170 في تحقيق همزة نبي مقارنا بكتاب النشر 1/ 215، 406 ورد في 2/ 412 إدغام الراء في اللام في مثل قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} مقارنا بكتاب النشر 2/ 237. 3 انظر في عدّ هذا النقل عن يونس وغيره من التالين, كتاب سيبويه لعلي النجدي ناصف ص89 وما بعدها. 4 الكتاب 1/ 290.

ومعروف أن الفاء لا يُنصَب المضارع بعدها إلا إذا كانت -كما قرر هو نفسه- جوابا لأمر أو نهي أو تمن أو استفهام أو نفي أو عرض أو تحضيض أو دعاء، فإن نصب معها في كلام ولم يكن جوابا لأحد هذه الثمانية كان ذلك شذوذا وضعفا إن جاء عن العرب في بعض أشعارهم، يقول: "وقد يجوز النصب في الواجب في اضطرار الشعر ... فمما نُصب في الشعر اضطرارا قول الشاعر: سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا وقال الأعشى, وأنشدناه يونس: ثمت لا تجزونني عند ذاكم ... ولكن سيجزيني الإله فيعقبا وهو ضعيف في الكلام"1. ويقول في باب التصغير: "من العرب من يقول في ناب: نويب، فيجئ بالواو لأن هذه الألف مبدلة من الواو أكثر، وهو غلط منهم"2. وأساس الغلط عنده أن ما ثانيه حرف علة مقلوب عن الياء أو الواو يرد إلى أصله في التصغير، فناب تصغر على نُيَيب وباب على بويب. ولذا كان يرى أن نويبا غلط وأنه ينبغي أن تكون نُيَيبا. ويشير إلى العلة في إجراء هؤلاء العرب نابا على مثال باب، إذ الألف الزائدة في التصغير إذا كانت ثانية في اللفظة تقلب واوا، ولما كان ذلك يجري في كثير من الكلمات مثل كاتب وكويتب وشاعر وشويعر, ظنوا أن من حقهم أن يقلبوا ألف ناب في التصغير واوا. وعلى هذا النحو كان سيبويه يعرض سماعه على المقاييس النحوي، أو بعبارة أدق: كان يتخذ هذه المقاييس مما دار على ألسنة العرب كثيرا، وما خالفه ينحى عليه بكلمات تدل على مخالفته للذائع المشهور الذي استنبطت منه القواعد، وينعته بالغلط, يريد أن يثبت عليهم التوهم فيه. وتكثر التعليلات في كتاب سيبويه كثرة مفرطة، سواء للقواعد المطردة أو للأمثلة الشاذة، يقول في فواتح كتابه: "وليس شيء يضطرون "العرب" إليه, إلا وهم يحاولون به وجها", فهو لا يعلل فقط لما كثر في ألسنتهم واستُنبطت على أساسه القواعد، بل يعلل أيضا لما يخرج على تلك القواعد، وكأنما لا يوجد أسلوب ولا توجد قاعدة بدون علة. ونحن لا نكاد نمضي في قراءته حتى

_ 1 الكتاب 1/ 423. 2 الكتاب 2/ 127.

نجده يعلل لعدم جزم الأسماء، يقول: "وليس في الأسماء جزم لتمكنها وللحاق التنوين، فإذا ذهب التنوين لم يجمعوا على الاسم ذهابه وذهاب الحركة"1. وواضح أنه لا يعلل لواقع الاسم فحسب، بل يعلل أيضا لما لا يجري في واقعه، مما جرى في الأفعال من بعض وجوه الإعراب. وبذلك وسَّع التعليل فشمل ما هو واقع وما لم يقع، في الأسماء وفي الأفعال جميعا، إذ لا يلبث أن يقف عند إعراب المضارع، وأنه يرفع، وينصب مع أدوات النصب، ويجزم مع أدوات الجزم، ويلاحظ أنه لا يجر، ويحاول التعليل لذلك فيقول: "وليس في الأفعال المضارعة جر, كما أنه ليس في الأسماء جزم؛ لأن المجرور داخل في المضاف إليه معاقب للتنوين، وليس ذلك في هذه الأفعال"2. ونراه يعلل لإعراب المضارع وتسميته باسمه بأنه يضارع أو يشابه اسم الفاعل في معناه ووقوعه موقعه, فإنك تقول: إن عبد الله ليفعل كما تقول: إن عبد الله لفاعل فيما تريد من المعنى. وأيضا فإنك تلحق به لام الابتداء، كما ألحقتها باسم الفاعل في نفس العبارتين المذكورتين، وهي لا تدخل إلا على الأسماء ويمتنع دخولها على الأفعال الماضية. وبهذا كله استحق المضارع أن يعرب, وأن يدخل على آخره الرفع والنصب والجزم3. ونحس كأنه يستشعر أنه كان الواجب أن يكون آخر الماضي ساكنا، وكأن الأصل في الأفعال أن تكون ساكنة الآخر، ولا يلبث أن يعلل لفتح آخره بأن فيه بعض المضارعة؛ ولذلك كان يقع موقع اسم الفاعل والمضارع جميعا، إذ تقول: "هذا رجل ضرب محمدا" كما تقول: هذا رجل ضارب محمدا، وتقول: إن فعلَ فعلتُ كما تقول: إن يفعل أفعل. ولذلك فارق الماضي السكون إلى الفتح، ولم يعرب إعرابا كاملا مثل المضارع؛ لأن مضارعته ناقصة، إذ لا تدخل عليه لام الابتداء4. ومعنى ذلك أن الأفعال ثلاثة أقسام: قسم منها ضارع الاسم مضارعة تامة فأعرب، وهو الفعل المضارع، وقسم ضارعها أو شابهها مشابهة ناقصة، فبني على الفتح وهو الماضي، وقسم ثالث بقي على أصله من السكون وهو فعل الأمر. ويلاحظ أن النون في الأسماء المثناة والمجموعة ليست عَلَم الإعراب،

_ 1 الكتاب 1/ 3. 2 الكتاب 1/ 3. 3 الكتاب 1/ 3, وانظر في تعليله لرفعه 1/ 409. 4 الكتاب 1/ 3.

بل علمه حروف اللين قبلها وهي: الألف والياء في المثنى والواو والياء في جمع المذكر السالم، أما النون فحرف يقابله تنوين الاسم المفرد؛ ولذلك كانت تحذف مثله في حالة الإضافة. ويقارن بين هذه النون وبين أختها في الأفعال الخمسة: يفعلان وتفعلان، ويفعلون وتفعلون، وتفعلين، ويقول: إن نون هذه الأفعال علم الرفع، أما حروف اللين قبلها فضمائر وليست علما للإعراب, كما هو الشأن في الأسماء المثناة والمجموعة، ويشرح ذلك شرحا معللا وافيا, قائلا1: "واعلم أن التثنية إذا لحقت الأفعال المضارعة علامة للفاعلَين, لحقها ألف ونون ولم تكن الألف حرف الإعراب؛ لأنك لم ترد أن تثني يفعل هذا البناء، فتضم إليه يفعلا آخر، ولكنك إنما ألحقته هذا علامة للفاعلين. ولم تكن "يفعل" منونة ولا تلزمها الحركة لأنه يدركها الجزم والسكون، فيكون الأول حرف الإعراب والآخر كالتنوين. فلما كان حال يفعل في الواحد غير حال الاسم، وفي التثنية لم يكن بمنزلته, فجعلوا إعرابه في الرفع ثبات النون؛ لتكون له في التثنية علامة الرفع كما كان في الواحد إذ مُنع حرف الإعراب "يريد الضم", وجعلوا النون مكسورة كحالها في الاسم، ولم يجعلوها حرف إعراب "أي: حرفا يظهر عليه الإعراب" إذ كانت متحركة لا تثبت في الجزم. ولم يكونوا ليحذفوا الألف لأنها علامة الإضمار والتثنية في قول من قال: أكلوني البراغيث, وبمنزلة التاء في قلت وقالت، فأثبتوها في الرفع وحذفوها في الجزم، كما حذفوا الحركة في الواحد. ووافق النصبُ الجزمَ في الحذف، كما وافق النصب الجر في الأسماء؛ لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، وليس للأسماء في الجزم نصيب، كما أنه ليس للفعل في الجر نصيب، وذلك قولك: هما يفعلان، ولن يفعلا, ولم يفعلا. وكذلك إذا لحقت الأفعال علامة للجمع لحقتها زائدتان، إلا أن الأولى واو مضموم ما قبلها لئلا يكون الجمع كالتثنية، ونونها مفتوحة بمنزلتها في الأسماء، كما فعلت ذلك في التثنية؛ لأنهما وقعتا في التثنية والجمع ههنا كما أنهما في الأسماء كذلك، وهو قولك: هم يفعلون ولم يفعلوا ولن يفعلوا. وكذلك إذا ألحقت التأنيث في المخاطبة, إلا أن الأولى ياء وتفتح النون لأن الزيادة

_ 1 الكتاب 1/ 5.

التي قبلها بمنزلة الزيادة التي في الجمع، وهي تكون في الأسماء في الجر والنصب، وذلك قولك: أنت تفعلين، ولم تفعلي, ولن تفعلي". ويمضي سيبويه، فيعلل لدخول التنوين على الأسماء المتمكنة دون الأفعال المضارعة, فضلا عن غيرها من الأفعال، بسبب خفته وثقلها، يقول: "واعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض، فالأفعال أثقل من الأسماء؛ لأن الأسماء هي الأول "يريد ما ذهب إليه من أن المصادر أصل الأفعال؛ ولذلك كانت الأسماء تتقدم الأفعال في الرتبة" وهي أشد تمكنا، فمن ثم لم يلحقها "أي: الأفعال" تنوين ولحقها الجزم والسكون، وإنما هي من الأسماء "أي: إنها مشتقة من المصادر" ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم "أي: إنه تابع له، إذ لا يوجد فعل بدون فاعل" وإلا لم يكن كلاما، والاسم قد يستغني عن الفعل تقول: الله إلهنا، وعبد الله أخونا"1. ويلاحظ أن الاسم إذا أشبه المضارع في بنائه منعوه من التنوين والجر، فيجر بالفتحة، ويقول: "واعلم أن ما ضارع الفعل المضارع من الأسماء في الكلام, ووافقه في البناء أجري لفظه مجرى ما يستثقلون ومنعوه ما يكون لما يستخفون "أي: من الأسماء المتمكنة" فيكون في موضع الجر مفتوحا، استثقلوه حيث قارب الفعل في الكلام ووافقه في البناء وذلك نحو: أبيض وأسود وأحمر وأصفر، فهذا بناء أذهب وأعلم"2. ويقول: إن الاسم يجر بالفتحة أيضا إذا نقل عن المضارع مثل يشكر علما على شخص. ويجعل التنوين مطردا في كل ما هو أشد تمكنا، ولذلك كان أكثر الكلام ينون إذا كان منكرا، وكذلك ينون المفرد ولا ينون الجمع الذي لا يكون له مثال في المفرد مثل مصابيح. وأيضا ينون الاسم المذكر؛ لأنه أخف عليهم من المؤنث؛ ولذلك حرموه التنوين، ويقول: جميع ما لا ينصرف إذا أُدخل عليه الألف واللام أو أُضيف انجرّ؛ لأنها أسماء أدخل عليها ما يدخل على المنصرف، وأدخل فيها المجرور كما يدخل في المنصرف ... وجميع ما يُترَك صرفه "تنوينه" مضارَع به الفعل؛ لأنه إنما فعل به ذلك لأنه ليس له تمكن غيره، كما أن الفعل ليس له تمكن الاسم3.

_ 1 الكتاب 1/ 6. 2 الكتاب 1/ 6. 3 الكتاب 1/ 7.

وكل هذه التعليلات في الصفحات الأولى من الكتاب، إذ لم نتجاوز حتى الآن الصفحة السابعة فيه، وبذلك ثبّت سيبويه جذور التعليل في النحو والصرف ومدها في جميع قواعدهما ومسائلهما، فليس هناك شيء لا يعلل، بل لكل شيء علته يمسك بها في يمينه. وتنتشر هذه التعليلات في أكثر صفحات الكتاب، ويكفي أن نذكر منها أطرافا، فمن ذلك تعليله لاختصاص الاستفهام بالأفعال وأن الأصل فيها أن تدخل عليها لا على الأسماء لمشابهتها حروف الجزاء أو الشرط، ولأن جوابها يجزم أحيانا كما يجزم الأمر، وأدوات الشرط إنما يليها دائما الأفعال، يقول: "وحروف الاستفهام كذلك بُنيت للفعل إلا أنهم قد توسعوا فيها فابتدءوا بعدها الأسماء، والأصل غير ذلك, ألا ترى أنهم يقولون: هل زيد منطلق؟ وهل زيد في الدار؟ وكيف زيد آخذ؟ فإن قلت: كيف زيدا رأيت؟ وهل زيد يذهب؟ قبُح "لأنه ينبغي تقديم الفعل متى كان موجودا مع أداة الاستفهام" ولم يجز إلا في شعر؛ لأنه لما اجتمع الفعل والاسم حملوه على الأصل ... وإنما فعلوا هذا بالاستفهام لأنه كالأمر في أنه غير واجب, أنه يريد به من المخاطب أمرا لم يستقر عند السائل, ألا ترى أن جوابه جزم "أي: كما يكون جواب الأمر حين يستخدم حرف جزاء وشرطه"؛ فلهذا اختير النصب وكرهوا تقديم الاسم "أي: في مثل: هل زيدا أنت؟ " لأنها حروف ضارعت بما بعدها ما بعد حروف الجزاء، وجوابها كجوابه ... إذا قلت: أين عبدَ الله آته"1 أي: كما تقول: ائتني آتك. ومن أجل ذلك كله اختار في باب الاشتغال كما مر بنا نصب الاسم المشغول عنه بعد أدوات الاستفهام، حتى يكون بعدها فعل في التقدير. ويعلل لقصور الصفة المشبهة عن اسم الفاعل في قوة العمل بأنها ليست في معنى الفعل المضارع, لا في زمنه ولا في بنائه، إذ تدل على الثبوت، وهي لا تقابله في الحركات والسكنات مثل اسم الفاعل؛ ولذلك استحسن أن يكون ما بعدها معرفا باللام والألف, ومضافا إليها مثل: محمد حسن الوجه، حتى يبعد شبهها عن اسم الفاعل2 الذي يجري مجرى المضارع في العمل. ويعلل لحذف التاء كثيرا في ترخيم المنادى بأنها تنقلب هاء في الوقف؛ ولذلك كان حذفها أولى، وأيضا فإن المنادي بمثل: "يا ضباعا" بدلا من: يا ضباعة

_ 1 الكتاب 1/ 51. 2 الكتاب 1/ 99.

عادة يمد صوته، وكأنما جعلوا المدة التي تلحق المنادى المرخم بدلا منها1. ويعلل لجزم المضارع في جواب الأمر والنهي والاستفهام والتمني والعرض بأنهم جعلوه معلقا بما سبقه غير مستغن عنه، بالضبط كما يكون الشرط، فقولك: ائتني آتك هو كقولك: إن تأتني آتك، ولذلك جزموه كما جزموا جواب الشرط، وكأن هناك شرطا مقدرا2. ويعلل لحذف الفعل في التحذير مع العطف أو كما يسميه هنا التثنية بقوله: "يقول: رأسك والحائط وهو يحذره، كأنه قال: اتق رأسك والحائط، وإنما حذفوا الفعل في هذه الأشياء حين ثنوا؛ لكثرتها في كلامهم واستغناء بما يرون من الحال, وبما جرى من الذكر"3. وعلى نحو ما يتسع سيبويه بالتعليل في النحو يتسع به في الصرف، وخاصة في باب القلب والإعلال، يقول في "أيْنق" جمع ناقة: كان القياس فيها أن تجمع على: أنوق، وإما أن يكونوا قدموا الواو على النون وأبدلوها ياء؛ وبذلك حدث فيها قلب وإعلال، وزنتها على هذا التحول: "أعفل", وإما أن يكونوا قد حذفوا الواو من "أنوق" وجعلوا الياء عوضا لها، وزنتها على هذا الأساس "أيفل"4, ويذهب في لفظة "اطمأنّ" إلى أن أصلها: "طأمن" وحدث بها قلب, أو بعبارة أخرى: تقديم الميم على الهمزة5. ويقول: إن قياس مصدر فعّل المضاعف الفِعّال، ولكن العرب عدلت عن ذلك البناء إلى التفعيل مثل: قطّع تقطيعا، ويعلل لذلك بقوله: "جعلوا التاء التي في أوله بدلا من العين الزائدة في فعّلت، وجعلوا الياء بمنزلة ألف الإفعال "مصدر أفعل مثل إكرام" فغيروا أوله كما غيروا آخره"6. وطبيعي أن يكثر القياس في كتاب سيبويه كثرة مفرطة؛ لأنه الأساس الذي يقوم عليه وضع القواعد النحوية والصرفية واطرادها، وهو يعتمد عنده في أكثر الأمر على الشائع في الاستعمال على ألسنة العرب، كما يقوم على المشابهة بين استعمالاتهم في الأبنية والعبارات المختلفة، فمن ذلك أن نراه يقيس حذف العائد في النعت على حذفه في الصلة, متمثلا بقول جرير:

_ 1 الكتاب 1/ 331. 2 الكتاب 1/ 449. 3 الكتاب 1/ 138. 4 الكتاب 2/ 129. 5 الكتاب 2/ 130، 380. 6 الكتاب 2/ 243.

أبحت حمى تهامة بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح يريد الهاء "أي: حميته", وقول الحارث بن كلدة: فما أدري أغيرهم تناء ... وطول العهد أم مال أصابوا يريد: أصابوه ... يقول: "كما لم يكن النصب "أي: الضمير المنصوب" فيما أتممت به الاسم يعني الصلة" ويقول: إن حذفه في الصلة أحسن لأن الموصول والصلة بمنزلة اسم واحد فكرهوا طولها، أما في الصفة فحذفه حسن ولكنه لا يبلغ في الحسن مبلغ حذفه في الصلة؛ ولذلك جعل الحذف في الصلة الأصل وقاس عليه الحذف في الصفة، وضعف حذف العائد في الخبر؛ لأن الخبر غير المخبر عنه، وليس معه كشيء واحد، كما هو الحال في الصلة والصفة1. ويقيس اسم الفاعل واسم المفعول وصيغ المبالغة على الفعل المضارع في العمل، ويرتب على ذلك أنه يجوز في المعمولات معها من التقديم والتأخير والإظهار والإضمار ما يجوز مع الفعل2. ويضع قاعدة عامة للحال أنه دائما يأتي نكرة، ويرتب على ذلك أن المصدر إذا كان حالا منع القياس دخول الألف واللام عليه، فلا يقال: ذهب زيد المشيَ بالنصب على الحال، وإنما يقال: ذهب زيد ماشيًا3، ونص على ما جاء من ذلك شذوذا عن العرب مثل: أرسلها العِرَاك، وقد أوله أستاذه الخليل على أن العرب تكلمت بمثل هذا الحال المعرف على نية طرح الألف واللام4. ويقيس عمل إن وأخواتها على عمل الفعل المتعدي، غير أن المنصوب معها يتقدم على المرفوع، دلالة على أنها ليست أصلا في عمل الرفع والنصب5. ونراه يقف عند استعمال ما النافية استعمال ليس في رفع اسمها ونصب خبرها في مثل: "ما زيد منطلقا" ثم يعقب بلغة تميم فيها وأنها لا تعملها، يقول: "وأما بنو تميم فيجرونها مجرى أما وهل، وهو القياس لأنها ليست بفعل، وليس ما كليس، ولا يكون فيها إضمار, أما أهل الحجاز فيشبهونها بليس، إذ كان معناها كمعناها"6.

_ 1 الكتاب 1/ 45. 2 الكتاب 1/ 55 وما بعدها. 3 الكتاب 1/ 118. 4 الكتاب 1/ 188. 5 الكتاب 1/ 279، 300. 6 الكتاب 1/ 28.

وكأنه يرى نقصا في قياس الحجازيين لها على ليس, إذ لا يكفي أن تكون بمعناها، بل لا بد لما يعمل الرفع والنصب متواليين أن يكون فعلا يصح الإضمار فيه. ويقيس حذف الجزء الثاني من أربعة عشر ومعد يكرب في الترخيم على حذفه في النسب، ويقول: بل هو الأجدر أن يحذف في الترخيم، إذ يحذف فيه ما لا يحذف في النسب، فإنك تنسب إلى جعفر: جعفري، وإذا رخمته، حذفت الياء والراء فقلت: يا جعف1. ويقيس في باب الاشتغال حروف الاستفهام على حروف الجزاء، ويقيس عليها حروف النفي. وجعل الأمر والنهي في هذا الباب يضارعان حروف الجزاء أيضا، مع أنهما لا يكونان إلا بفعل2. ويقيس المصدر على الفعل في عمله ومعناه3، كما يقيس على المصدر ما جرى من الأسماء والصفات مجراه مثل جندلا، وهنيئا مريئا4. ويقيس المكان المختص على المكان غير المختص في نصبه سماعا مثل: هو مني منزلةَ الشغاف ومناطَ الثريا5. ويقيس البدل على التوكيد في إعرابه إعراب متبوعه6. ويقيس التمييز بعد نعم في مثل: نعم رجلا عبد الله على قولك: حسبك به رجلا عبد الله، سواء في عمل ما قبله فيه أو في المعنى؛ لأنهما جميعا ثناء في استيجابهما المنزلة الرفيعة، ولأنهم إنما بدءوا فيهما بالإضمار على شريطة التفسير، وقد جمع بين: حسبك به رجلا, وويحه رجلا, ولله دره رجلا، فجميعها يوضح التمييز فيها جهة التعجب، وقاس على ويحه رجلا قولهم: "رُبَّه رجلا", فكل هذه العبارات تفسير لإضمار سابق7. والصرف عنده كله أقيسة، وقد أظهر في حصر أبنية الأفعال والأسماء المجردة والمزيدة وما يقابلها من التفاعيل ذكاء منقطع النظير, وخاصة أبنية الأسماء، إذ أورد لها ثلاثمائة مثال "تفعيلة" وثمانية8. وهو في كل مثال يبحث عن نظائره في اللغة، فإن لم يجد لكلمة مثالا أو تفعيلة ردّها إلى مثال آخر قاسها عليه، من ذلك كلمة عِزْويت أي: قصير، فإنه لم يجد لها في اللغة نظيرا في صيغتها،

_ 1 الكتاب 1/ 342. 2 الكتاب 1/ 72. 3 الكتاب 1/ 97. 4 الكتاب 1/ 158، 159. 5 الكتاب 1/ 205. 6 الكتاب 1/ 79. 7 الكتاب 1/ 299 وما بعدها. 8 المزهر للسيوطي "طبعة عيسى البابي الحلبي" 2/ 4.

فأبى أن يضع لها مثالا على وزنها، وهو فِعْوِيل، وحملها أو بعبارة أخرى: قاسها على "فِعْلِيت" لوجود النظير في هذا المثال، وهو عفريت ونفريت1. وأساس ذلك عنده أن القاعدة لا توضع لمثال واحد شاذ، وإنما توضع لأمثلة كثيرة، وإذا وُجد مثال شاذ حُمل على غيره ودخل في قياسه. وإذا نطقوا كلمة على صيغتين وكانت إحداهما مقيسة والثانية شاذة, نص على ذلك في وضوح مؤثرا لبناء المقيسة على الشاذة، من ذلك كلمة ثور، فقد جمعها العرب على ثِوَرة جمعا قياسيا، كما تقول في كوز: كِوَزة وعود: عودة وزوج: زوجة, وجمعوها أيضا على ثِيَرة جمعا شاذا، يقول: "وقد قالوا: ثِوَرة وثِيَرة قلبوها حيث كانت بعد كسرة، واستثقلوا ذلك، كما استثقلوا أن تثبت في دِيَم، وهذا ليس بمطرد يعني: ثِيَرة"2. وعنده أن جمع صائم صُوَّم لأنه واوي الأصل، ويقول: إنه سمع من العرب من يقول في جمعها: صُيَّم بالياء حملا لها وقياسا على عِصِيّ3. ويقول: إنهم يجمعون حَلْقة على حَلَق شذوذا, محدثين فيها هذا النقص وتغيير حركة اللام كما صنعوا في النسب، إذ نسبوا ثقيفا قائلين: ثقفيّا بحذف الياء وفتح القاف، والقياس فيها عنده ثقيفي4. ويقيس جمع مثل بازل وبُزُل وشارف شرف على جمع مثل صبور وصُبُر وغفور وغفر، وجعل علة القياس أن كلا من المثالين على أربعة أحرف, وبه حرف زائد هو الواو في مثل صبور والألف في مثل بازل5. ويقول: إن القياس في جمع مثل مضروب: مضروبون, غير أنهم قد قالوا: مكسور ومكاسير وملعون وملاعين ومشئوم ومشائيم, شبّهوا هذه الألفاظ أو بعبارة أخرى: قاسوها على ما يكون من الأسماء على هذا الوزن مثل: بهلول وبهاليل6. ويقول: إنهم قاسوا المصدر من سَخِط اللازم على المصدر من غضب المتعدي، فجعلوه سَخَطًا7. ودائما يتشدد سيبويه في القياس، وقد يفضي به تشدده إلى أن يرفض القياس على بعض

_ 1 الكتاب 2/ 348. 2 الكتاب 2/ 369. 3 الكتاب 2/ 370. 4 الكتاب 2/ 183, وقابل بـ 2/ 69. 5 الكتاب 2/ 206. 6 الكتاب 2/ 210. 7 الكتاب 2/ 215.

ما جاء عن العرب كثيرا، ومن خير ما يوضح ذلك عنده النسبة إلى فَعِيل وفُعَيْل مثل ثَقِيف وهُذَيْل، فقد كثر عن العرب في هذين المثالين أن يصوغوهما على فَعَلِيّ وفُعَلِيّ فتقول: ثقفي وهذلي، ونحوهما: قُرَشي. ولم يرتض سيبويه أن يكون ذلك قياسا مطردا، إذ رأى أن حق مثل هذه الألفاظ إقرار الياء في النسب، كقولهم في حنيف: حنيفي، وبذلك منع أن يقاس على ما ورد عن العرب من ذلك، وإن كثر على ألسنتهم، فمثل سعيد ينبغي أن تكون النسبة إليه: سعيديا، وكأنه اتخذ من المثال النادر وهو حنيف أصلا للقياس، ورفض الكثير المستعمل لأن قياسه في رأيه ضعيف1. وإذا كنا لاحظنا عند الخليل أنه فتح باب التمارين على قوانين النحو والصرف وقواعدهما، فإن سيبويه قد توسع في فتحه بكلتا يديه سعة شديدة, فإذا هو يصوغ في كل جانب من كتابه أمثلة توضح تلك القواعد والمقاييس، وحقا لا يتسع بذلك في النحو كما اتسع به في الصرف، فقد كان يسير في النحو بحذاء ما سمعه عن العرب وشيوخه وما ثقفه من قراءات الذكر الحكيم، وقلما عمد إلى وضع الأمثلة. أما في الصرف, فقد اتسع في ذلك اتساعا كبيرا، فمن ذلك أن نراه في الممنوع من الصرف يعرض أبنية كثيرة لم تُسمع عن العرب، يقول مثلا: "وإن سميت رجلا ضربوا, فيمن قال: أكلوني البراغيث "أي: من يعامل الواو معاملة تاء التأنيث" قلت: "هذا ضربونَ قد أقبل" تلحق النون كما تلحقها في أولي لو سميت بها رجلا من قوله عز وجل: {أُولِي أَجْنِحَةٍ} , ومن قال: هذا مسلمون في اسم رجل قال: هذا ضربون ورأيت ضربين، وكذلك يضربون في هذا القول. فإن جعلت النون حرف الإعراب فيمن قال: هذا مسلمين "علما على شخص" قلت: هذا ضربين قد جاء"2. وتكثر مثل هذه الأبنية المظنونة أو المقترحة في الصرف، حتى لنراه يعقد لها أحيانا فصولا برمتها، ومن خير ما يصور ذلك عنده "باب ما قيس من المعتل من بنات الياء والواو ولم يجئ في الكلام إلا نظيره من غير المعتل"3, ويأخذ في عرض ذلك عرضا يطول حتى يشغل أكثر من أربع

_ 1 الكتاب 2/ 69 وما بعدها. 2 الكتاب 2/ 8. 3 الكتاب 2/ 392.

صفحات طويلة، وكلها في صيغ من بنات أفكاره, يحاول أن يقيسها على صيغ معروفة. وعلى هذا النسق "باب ما قِيس من المضاعف الذي عينه ولامه من موضع واحد, ولم يجئ في الكلام إلا نظيره من غيره" ويستهله على هذا النحو: "تقول في فُعَل من رددت: رُدَد، كما أخرجت فِعَلا على الأصل؛ لأنه لا يكون فعلا، وتقول في فَعَلَان: رَدَدَان, وفُعَلَان: رُدَدَان يجري المصدر في هذا مجراه لو لم يكن بعده زيادة, ألا تراهم قالوا: خُشَشَاء، وتقول في فَعُلان: رَدّان, وفَعِلان: رَدّان أجريتهما على مجراهما وهما على ثلاثة أحرف ليس بعدها شيء كما فعلت ذلك بفعُل وفعِل، وتقول في فَعَلُول من رددت: رددود, وفَعَلِيل ردديد كما فعلت ذلك بفَعلان"1. وعلى هذا النحو لا يحيط سيبويه بأبنية اللغة وشاراتها النحوية فحسب، بل يمد بحثه فيهما إلى كل مظنون في التعبير وكل صيغة ممكنة، مع دعم كلامه بالأقيسة والعلل دعما لا يعلم به النحو والصرف فحسب، بل يعلم به أيضا العقل، ويرهف الحس اللغوي عند قارئه، إذ لا يزال يعرض عليه دقائق التعبير وخصائص الأبنية عرض من أتقنها علما وفقها وتحليلا. ويدل على ذلك من بعض الوجوه وقوفه عند المصادر التي جاءت على وزن فَعلان، إذ نراه يحس فيها دلالة على الاضطراب والحركة في أحداثها لتوالي الحركات في بنائها، يقول: "ومن المصادر التي جاءت على مثال واحد حين تقاربت المعاني, قولك: النَّزوان والنقزان والقَفَزان، وإنما هذه الأشياء في زعزعة البدن واهتزازه في ارتفاع، ومثله العسلان والرتكان ... ومثل هذا الغليان؛ لأنه زعزعة وتحرك، ومثل ذلك: اللهبان ... والوهجان لأنه تحرك الحر وثئوره، فإنما هو بمنزلة الغليان"2. وبهذا الحس المرهف وما سنده من ملكات عقلية باهرة رسم سيبويه أصول العربية وصاغ لها قوانينها الإعرابية والصرفية، وفيه يقول ابن جني: "لما كان النحويون بالعرب لاحقين وعلى سَمْتهم آخذين وبألفاظهم متحلِّين ولمعانيهم وقُصُودهم آمِّين, جاز لصاحب هذا العلم "سيبويه" الذي جمع شَعَاعه3،

_ 1 الكتاب 2/ 402. 2 الكتاب 2/ 218. 3 شعاعه: متفرقه.

وشَرَع أوضاعه، ورسم أشكاله، ورسم أَغْفاله1, وخلج أشطانه2، وبعج3 أحضانه, وزم شوارده، وأفاء4 فَوارده أن يرى فيه نحوا مما رأوا ويحذوه على أمثلتهم التي حذوا، لا سيما والقياس إليه مصغ، وله قابل، وعنه غير متثاقل"5.

_ 1 أغفاله: جمع غفل, وهو ما لا سمة له. 2 خلج: جذب، أشطانه: جمع شطن, وهو الحبل الطويل. 3 بعج: فتق. 4 أفاء الفوارد: رجع الشوارد. 5 الخصائص 1/ 308.

الفصل الرابع: الأخفش الأوسط وتلاميذه

الفصل الرابع: الأخفش الأوسط وتلاميذه 1- الأخفش 1 الأوسط: هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة، فارسي الأصل مثل سيبويه، وقد لزمه وتتلمذ له، وأخذ عنه كل ما عنده، وهو الذي روى عنه كتابه، بل كان الطريق الوحيدة إليه، إذ لا يعرف أحد سواه قرأه على سيبويه أو قرأه سيبويه عليه، ويروى عنه أنه كان يقول: "كنت أسأل سيبويه عما أشكل عليَّ منه, فإن تصعَّب الشيء منه قرأته عليه". وقد جلس بعده للطلاب يمليه ويشرحه ويبينه، وعنه أخذه تلاميذه البصريون من مثل الجرمي والمازني، وأخذه عنه علماء الكوفة وعلى رأسهم إمامهم الكسائي. ولما رأى اهتمام تلاميذه الكوفيين جميعا بالمسائل المتفرقة في النحو والصرف, صنع لهم كتاب المسائل الكبير، وله وراءه كتب أخرى سقطت من يد الزمن مثل كتاب الأوسط في النحو وكتاب المقاييس وكتاب الاشتقاق وكتاب المسائل الصغير. وكان يعنى بشرح الأشعار، وله فيها كتاب معاني الشعر، ويقال: إنه أول من أملى غريب كل بيت من الشعر تحته. وله في العروض والقوافي كتاب نوه به القدماء، ويقال: إنه زاد فيه على الخليل بحر المتدارك أو الخبب، ويظهر أنه إنما زاد اسمه فقط إذ نجد للخليل أشعارا على وزنه2. ويقول الجاحظ: إنه كان ينشر في مصنفاته ضربا من

_ 1 انظر في ترجمة الأخفش, أبا الطيب اللغوي ص68, والسيرافي ص50, والزبيدي ص74, والفهرست لابن النديم ص83, ونزهة الألباء ص133, ومعجم الأدباء 11/ 224, وروضات الجنات ص313, وابن خلكان في سعيد, وإنباه الرواه 2/ 36 وما به من مراجع, ومرآة الجنان 2/ 61, وشذرات الذهب 2/ 36, وبغية الوعاة ص258. 2 إنباه الرواة 1/ 342.

الغموض والعسر، حتى يلتمس منه الناس تفسيرها رغبة في التكسب بها1. وقد ترك البصرة إلى بغداد بأخرة من عمره. وما زال الطلاب يقبلون من كل حدب على دروسه وإملاءاته حتى توفي سنة 211 للهجرة. وهو أكبر أئمة النحو البصريين بعد سيبويه، وفي رأينا أنه هو الذي فتح أبواب الخلاف عليه، بل هو الذي أعد لتنشأ، فيما بعد، مدرسة الكوفة ثم المدارس المتأخرة المختلفة، فإنه كان عالما بلغات العرب، وكان ثاقب الذهن حاد الذكاء، فخالف أستاذه سيبويه في كثير من المسائل، وحمل ذلك عنه الكوفيون، ومضوا يتسعون فيه، فتكونت مدرستهم. ولا بد أن نلاحظ منذ الآن أن خلافاته وخلافات المدارس التالية، وكذلك خلافات البصريين التالين له، إنما هي خلافات في بعض الفروع، فإن النحو وأصوله وقواعده الأساسية تكونت نهائيا على يد سيبويه وأستاذه الخليل، وكأنهما لم يتركا للأجيال التالية سوى خلافات فرعية تتسع وتضيق حسب المدارس, وحسب النحاة. ويبدو أن الأخفش عني بالحدود والتعريفات أكثر مما عني أستاذه سيبويه. ومن التعريفات التي روتها له كتب النحاة تعريفه الاسم, وكان سيبويه اكتفى بالتمثيل له قائلا: "والاسم رجل وفرس وحائط"2 أما هو فقال: "الاسم: ما جاز فيه نفعني وضربني" يريد أنه ما جاز أن يُخبَر عنه3. وعلى نحو ما عني بالتعريفات عني بالتعليلات، حتى تعليل ما لم يقع في اللغة، من ذلك تعليل امتناع الفعل المضارع من الخفض، وكان سيبويه يعلل لذلك بأن المجرور داخل في المضاف إليه, وأنه يعاقب التنوين, والمضارع لا ينون. ونرى الأخفش يتخذ من هذا التعليل موقفين: موقفا يشرحه فيه قائلا: "لا يدخل الأفعال الجر؛ لأنه لا يضاف إلى الفعل، والخفض لا يكون إلا بالإضافة، ولو أضيف إلى الفعل، والفعل لا يخلو من فاعل، وجب أن يقوم الفعل وفاعله مقام التنوين؛ لأن المضاف إليه يقوم مقام التنوين، وهو زيادة في المضاف كما أن التنوين زيادة. فلم يجز أن تقيم الفعل والفاعل مقام التنوين؛ لأن الاسم لا يحتمل زيادتين،

_ 1 الحيوان للجاحظ 1/ 91. 2 الكتاب 1/ 2. 3 الإيضاح في علل النحو للزجاجي ص49.

ولم يبلغ من قلة التنوين -وهو واحد- أن يقوما مقامه، كما لم يحتمل الاسم الألف واللام مع التنوين"1. والموقف الثاني هو محاولة الإدلاء بعلة جديدة, إذ يقول: "لم يدخل الأفعال جر؛ لأنها أدلة، وليست الأدلة بالشيء الذي تدل عليه. وأما زيد وعمرو وأشباه ذلك فهو الشيء بعينه، وإنما يضاف إلى الشيء بعينه لا إلى ما يدل عليه، وليس يكون جر في شيء من الكلام إلا بالإضافة"2. وهو يريد أن الفعل دليل على الفاعل والمفعول والحدث. والإضافة إنما تكون إلى هذه الأشياء لا إلى ما دل عليها مما يصور حركات الفاعلين. ويعلل لإضافة اسم الزمان إلى الفعل بقوله: "إنما أُضيفت أسماء الزمان إلى الأفعال؛ لأن الأزمنة كلها ظروف للأفعال والمصادر، والظروف أضعف الأسماء, فقووها بالإضافة إلى الأفعال"3. وقلنا آنفا: إنه هو الذي فتح للكوفيين أبواب الخلاف على سيبويه وأستاذه الخليل بما بسط من وجوهه، وقد تابعوه في كثير من هذه الوجوه بحيث يمكن أن يقال بحق: إنه الأستاذ الحقيقي للمدرسة الكوفية، لا لأن إمامها الكسائي والفراء تتلمذا له فحسب، بل أيضا لأنهما تابعاه في كثير من آرائه التي حاول بها نقض طائفة من آراء سيبويه والخليل، وقد مضيا هما وغيرهما من أعلام النحاة في الكوفة يتخذون من آرائه قَبَسا للاهتداء به فيما نفذوا إليه من آراء أعدت لقيام المدرسة الكوفية. وحسبنا أن نعرض مجموعة من آرائه التي وافقه فيها الكسائي والفراء والكوفيون لتتضح صحة ما نزعمه من أنه الإمام الحقيقي لهم ولمدرستهم. أما الكسائي فنراه يرى رأيه في أنه يجوز تأكيد عائد الصلة المحذوف والعطف عليه مثل: جاء الذي ضربت نفسَه أي: ضربته نفسه، ومثل: جاءني الذي كلمت وعمرا، أي: كلمته وعمرا4. وكان يذهب مذهبه في أن من الجارة تزاد في الإيجاب مثل: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} ، {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} , {يَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} , {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}

_ 1 الزجاجي ص110. 2 الزجاجي ص109. 3 الزجاجي ص114. 4 همع الهوامع للسيوطي "طبعة الخانجي" 1/ 91.

{نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 1. وتابعه في إعمال إنّ إذا دخلتها ما الكافة جوازا مثل: إنما زيدا قائم2، وفي أن من معاني لعل التعليل كما في الآية الكريمة: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 3, وفي أن لولا قد تأتي بمعنى هلا كما في آية الذكر الحكيم: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} 4, وفي أن كلمة "فيه" حذفت من قوله عز وجل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} 5.وكان يذهب مذهبه في أن الحال السادة مسد الخبر في مثل: "كلامي محمدا مسيئا" قد تأتي فعلا مثل: "رأي الناس محمدا يعطي الكثير"6. ومضى في إثره يجيز في مثل ثالث ثلاثة أن تكون ثالث منونة وثلاثة منصوبة أي: متمم ثلاثة7. وتابعه الفراء في كثير من الآراء؛ من ذلك تأخير الخبر إذا كان المبتدأ مبدوءا بأنَّ المفتوحة مثل "أن العلم نور قول مشهور" قاسه الأخفش على مجيئه مؤخرا مع أن المصدرية في مثل: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 8. ومن ذلك جواز ترخيم الاسم الثلاثي وكان يمنع ذلك سيبويه، فلا تقول في نداء الثلاثي مثل "حكم": يا حك بالترخيم، وخالفه الأخفش9. ومن ذلك جواز دخول لام الابتداء على نعم وبئس في مثل: "إن محمدا لنعم الرجل"10. ومن ذلك أن إلا الاستثنائية قد تأتي عاطفة بمعنى الواو ومنزلتها في التشريك لفظا ومعنى، وجعلا منه قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} , {لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} أي: ولا الذين ظلموا ولا من ظلم. وتأول الجمهور "إلا" في الآيتين على الاستثناء المنقطع11. وتابع الفراءُ الأخفشَ أيضا في أنه يجوز العطف على معمولي عاملين مختلفين، في مثل:

_ 1 المغني لابن هشام ص360. 2 شرح الرضي على الكافية "طبعة الأستانة" 2/ 324, وانظر شرح ابن عقيل على الألفية "نشرة محيي الدين عبد الحميد" 1/ 319. 3 المغني ص319. 4 المغني ص305. 5 المغني ص682. 6 الهمع 1/ 106. 7 الهمع 2/ 151. 8 الهمع 1/ 103. 9 الهمع 1/ 183, والرضي على الكافية 1/ 136. 10 الهمع 1/ 140. 11 المغني ص76.

"في الدار زيد والحجرة عمرو" بعطف الحجرة على الدار وعمرو على زيد1. وذهب مذهبه في أن المنادى المفرد العلم المرفوع إذا أُكِّد بمضاف جاز فيه النصب والرفع, إذ حكي عن بعض العرب: يا تميم كلُّكم, بالرفع2. ومما تابعه فيه أن حاشا في الاستثناء لا تكون جارّة فقط كما ذهب سيبويه، بل قد تكون فعلا متعديا جامدا3، وفاعلها حينئذ في رأي الأخفش ضمير مستكن فيها واجب الإضمار عائد على البعض المفهوم من الكلام, فمثل: قام القوم حاشا زيدا, تقديره: حاشا هو أي: بعضهم زيدا. وتبع الفراء الأخفش في أن عامل الرفع في المضارع هو تجرده من النواصب والجوازم4. وتنص كتب النحو كثيرا على أن الكوفيين تابعوا الأخفش في هذا الرأي أو ذاك، ومما تابعوه فيه أن اسم الموصول قد يُحذف إذا عُلم، كقول حسان: أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء إذ كان يقدر: ومن يمدحه5. وكان يجيز -وتابعه الكوفيون- في المبتدأ إذا كان اسم فاعل أن يغني فاعله عن الخبر بدون اعتماد على استفهام أو نفي، مثل: قائم الزيدان6، وكذلك إذا كان اسم الفاعل اسما لإن, مثل: إن قائما الزيدان7. وكان سيبويه لا يجيز إلغاء ظن وأخواتها إذا تلاها المفعولان، وجوز ذلك الأخفش وتابعه الكوفيون، مستدلين جميعا بقول بعض الشعراء: إني رأيت ملاك الشيمة الأدب وقول آخر: وما إخال لدينا منك تنويل8 وتبعه الكوفيون في أنه يجوز إقامة غير المفعول به من الظرف والجار والمجرور نائب فاعل مع وجوده في الجملة؛ لمجيء ذلك في قراءة أبي جعفر: "ليُجْزَى قومًا بما كانوا يكسبون", فقد نُصبت قوما وهي مفعول، وجُعل الجار والمجرور نائبًا للفاعل، إذ الفعل مبني للمجهول9. ومما تابعوه فيه أن إذا الفجائية في مثل: "خرجت, فإذا محمدٌ بالباب" حرف10, وأن الظرف يرفع الاسم إذا تقدم عليه مثل

_ 1 المغني ص539. 2 الهمع 2/ 142. 3 المغني 1/ 130, والهمع 1/ 223. 4 الهمع 1/ 164. 5 المغني ص692, والهمع 1/ 88. 6 الهمع 1/ 94. 7 الهمع 1/ 136. 8 الهمع 1/ 153. 9 الهمع 1/ 162. 10 المغني ص92, والهمع 1/ 207.

"أمامك زيد"1, وهما عند سيبويه خبر مقدم وزيد مبتدأ مؤخر. وتبعوه في أن الفعل الماضي يصح أن يأتي حالا بدون تقدم قد والواو عليه، وكان يستدل بالآية الكريمة: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} , ومثلها {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} 2. ومما ذهبوا مذهبه فيه أن المرفوع بعد إن الشرطية وإذا في مثل {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} لا يعرب فاعلا لفعل محذوف كما ذهب سيبويه، وإنما يعرب مبتدأ3. وجوزوا مثله توكيد النكرة إذا كانت محدودة مثل: صمت شهرا جميعه4. وكان سيبويه يذهب إلى أن المصدر في مثل: أتيته ركضا, حال مؤولة بالمشتق أي: راكضا، وذهب الأخفش -وتبعه الكوفيون- إلى إعراب المصدر في مثل هذا الموضع مفعولا مطلقا، وكان يجعله معمولا لفعل مقدر من لفظه، وذلك الفعل هو الحال، فتقدير المثال الآنف: أتيته أركض ركضا5. وكانوا يجوزون مثله ترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر6 وكذلك مد المقصور7. وهذه أطراف مما نجده منثورا في كتب النحو من متابعة الكوفيين والكسائي والفراء للأخفش في آرائه النحوية، فإذا قلنا: إنه يعد بحق الإمام الأول للمدرسة الكوفية لم نكن مبعدين ولا مغالين، وحتى ما اشتهرت به هذه المدرسة من قياسها على الشاذ أحيانا نجده واضحا في كثير من هذه الآراء التي أسلفناها. وأيضا ما اشتهر به جمهور هذه المدرسة من الاعتداد بالقراءات الشاذة على مقاييس سيبويه نجد أساسه عند الأخفش، فقد أخذ، كما مر بنا، بقراءة أبي جعفر: "ليُجْزَى قومًا بما كانوا يكسبون" مشتقا منها قاعدة جواز إقامة غير المفعول به مع وجوده نائب فاعل, مخالفا بذلك أستاذه8. ومر بنا أن سيبويه لم يكن يجيز العطف على الضمير

_ 1 الإنصاف لابن الأنباري "طبع أوروبا" المسألة رقم 6, وأسرار العربية لنفس المؤلف "طبعة دمشق" ص71، 295, والرضي على الكافية 1/ 84. 2 الإنصاف: المسألة رقم 32, والهمع 1/ 247. 3 الخصائص لابن جني 1/ 105, والمغني ص643. 4 الهمع 2/ 124. 5 الهمع 1/ 238. 6 الإنصاف المسألة رقم 70, والهمع 1/ 37. 7 الإنصاف ص316. 8 الهمع 1/ 162, وابن يعيش 3/ 22.

المخفوض بدون إعادة الخافض، ومن أجل ذلك ضعَّف البصريون المتأخرون قراءة حمزة الآية الكريمة: "واتقوا الله الذي تساءلون به وَالْأَرْحَامِ" بالجر عطفا على الضمير المجرور بالياء، وأبى الأخفش -وتبعه جمهور الكوفيين- قاعدة سيبويه المذكورة، وجوز مثل هذا العطف، مستشهدا بقراءة حمزة للآية السالفة1. وقال سيبويه: لا يُفصَل بين المضاف والمضاف إليه إلا بالظرف وخص ذلك بالشعر، ومن هنا ضعّف بعض البصريين قراءة ابن عامر قوله تعالى: "وكذلك زُيِّنَ لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شركائهم" بنصب أولادهم وخفض شركائهم، وهو فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به لقتل، وجوز ذلك الأخفش -وتبعه الكوفيون- منشدا قول بعض الشعراء: فزججتها بمزجة ... زجّ القلوصَ أبي مزاده2 فقد فصل الشاعر بين زج وأبي مزاده بكلمة القلوص، وهي مفعول به لزج3. ولعل من الغريب أن نجد بعض المعاصرين يكثرون من أن الكوفيين كانوا يختلفون مع البصريين في قبول بعض القراءات الشاذة وتوجيهها، بانين آراءهم في ذلك على هاتين الآيتين غالبا، وها هو الأخفش البصري يقبلهما، بل هو في رأينا الذي دفع الكوفيين إلى اتخاذ القراءات مصدرا للقواعد، مهما كانت شاذة. وبذلك لا يكون هناك شيء يتميز به النحو الكوفي من النحو البصري إلا نجد أصوله عند الأخفش، لا من حيث قبول القراءات الشاذة على مقاييس سيبويه والخليل فحسب, بل أيضا من حيث قبول بعض الأشعار الشاذة واتخاذها أصلا للقياس. ونحن نعرض في إجمال لطائفة من آرائه الكثيرة التي خالف فيها سيبويه والخليل إمامي البصرة، فمن ذلك أنهما كانا يريان أن إعراب المثنى والجمع المذكر السالم إنما هو بحركات مقدرة في الألف والواو والياء، أي: إنها نابت عن حركات الرفع والنصب والجر، أما هو فكان يذهب إلى أن حروف اللين هذه دلائل

_ 1 الهمع 2/ 139. 2 زججتها: طعنتها. القلوص: الناقة. 3 شرح ابن يعيش على المفصل للزمخشري 3/ 22.

الإعراب لا حروف الإعراب1. وكان سيبويه والخليل يريان أن إعراب الأفعال الخمسة: يكتبان وتكتبان ويكتبون وتكتبون وتكتبين, إنما هو بالنون التالية لحرف اللين, أو بعبارة أخرى: لضمائر التثنية والجماعة والمخاطبة، أما هو فكان يرى أن إعرابها بحركات مقدرة على ما قبل تلك الضمائر2. وهو أيضا رأي غير دقيق؛ لأن نون تلك الأفعال تسقط في حالتي النصب والجزم، ومن هنا كانت علما للرفع في المضارع. وكان سيبويه والخليل يذهبان إلى أن الأسماء الخمسة: أباك وأخواتها معربة بحركات مقدرة في حروف اللين: الواو والألف والياء، أما هو فكان يرى أنها معربة بحركات مقدرة على ما قبل تلك الحروف, تمشيا مع رأييه السالفين في إعراب المثنى والجمع والأفعال الخمسة3. ومعروف أن ضمائر التثنية والجمع والمخاطبة التي تلحق بالأفعال الخمسة وكذلك ضمير النسوة في مثل: قلن, تعرب فواعل في رأي سيبويه والخليل، وكان الأخفش يذهب إلى أنها جميعا حروف والفاعل مستتر، وكأنما الذي دفعه إلى ذلك لغة أكلوني البراغيث، فقد رأى سيبويه يرتضي في أحد توجيهيه لتلك اللغة أن الضمير في أكلوني وما يماثلها حرف كالتاء المؤنثة في قالتْ، وجعلها في التوجيه الثاني الفاعل والمرفوع بعدها بدلا منها4. وكان سيبويه يذهب إلى أن المحذوف في الأفعال الخمسة في مثل أتَعِداني هو نون الرفع، أما هو فكان يرى أن المحذوف نون الوقاية لأنها لا تدل على إعراب، فهي أولى بالحذف5. وكان يذهب سيبويه إلى أن العامل في النعت هو العامل في المنعوت، وذهب الأخفش إلى أن العامل في النعت المنعوت نفسه, إذ يعرب بإعرابه6. وذهب سيبويه إلى أن المضاف هو عامل الخفض في المضاف إليه، وقال الأخفش: بل العامل فيه الإضافة المعنوية7. وكان سيبويه يرى أن عامل المفعول معه في مثل: "استوى الماء والخشبة" الفعل الذي قبله بتوسط الواو، وذهب الأخفش إلى أنه منصوب انتصاب الظرف؛ لأن أصل

_ 1 الرضي 1/ 26, وقابل بالهمع 1/ 47, والإنصاف ص13, وأسرار العربية ص51, والزجاجي ص130، 141. 2 الهمع 1/ 51. 3 الهمع 1/ 39. 4 المغني ص404، 413، والهمع 1/ 57. 5 الهمع 1/ 52. 6 أسرار العربية ص66. 7 الهمع 2/ 46.

هذا التعبير وما يماثله: استوى الماء مع الخشبة, فلما حذفت "مع" وكانت منتصبة على الظرفية أقيمت الواو مقامها وانتصب ما بعدها انتصاب "مع" التي وقعت الواو موقعها، إذ لا يصح انتصاب الحروف، كما انتصب ما بعد إلا الواقعة موقع غير في الاستثناء في مثل: قام القوم إلا زيدا، وكأنما كان الأصل: قام القوم غير زيد1. وكان سيبويه يذهب إلى أن العامل في الخبر هو المبتدأ, وذهب الأخفش إلى أن العامل فيه هو العامل في المبتدأ وهو الابتداء2. وكان سيبويه يرى -وتبعه الجمهور- أن جمع المؤنث السالم في حالة النصب معرب بالكسرة نيابة عن الفتحة, وأن الممنوع من الصرف في حالة الجر معرب بالفتحة نيابة عن الكسرة، وذهب الأخفش إلى أنهما جميعا في الحالتين مبنيان3. ولا توجد علة واضحة لهذا البناء! وذهب سيبويه إلى أنه إذا ولي "لولا" ضمير متصل مثل: لولاي ولولاك ولولاه كانت جارة، وذهب الأخفش -وتبعه الفراء- إلى أن الضمير في هذه الأمثلة مبتدأ مرفوع، وكل ما في الأمر أن العرب أنابت فيها الضمير المخفوض عن الضمير المرفوع, أي: إنهم أنابوا مثل لولاك عن: لولا أنت. واستدل بأنهم أنابوا علامة الرفع عن علامة الجر في مثل: "ما أنا كأنت". وذهب الأخفش في قول ثانٍ إلى أن الضمائر في لولاي ولولاك ولولاه حروف حضور وخطاب وغيبة4. وكان سيبويه لا يجيز دخول الواو على خبر كان وأخواتها إذا كان جملة، وكان الأخفش يجيز ذلك مثل: كان محمد ولا حُمْق عنده وليس شيء إلا وفيه نقص، وكان ينشد منه قول الشاعر: ليس شيء إلا وفيه إذا ما ... قابلته عين البصير اعتبار وقول الآخر: ما كان من بشر إلا ومَيْتته ... محتومة لكن الآجال تختلف

_ 1 سر صناعة الإعراب لابن جني "طبعة الحلبي بالقاهرة" 1/ 144, والإنصاف ص110, والرضي على الكافية 1/ 195, والهمع 1/ 220. 2 الهمع 1/ 94. 3 الهمع 1/ 19. 4 الخصائص 2/ 189، وابن يعيش 3/ 122, والمغني ص303.

وأوَّل الجمهور ذلك على حذف الخبر1. وكان سيبويه لا يجيز زيادة الواو في الكلام، وكان الأخفش يجيز ذلك وتبعه فيه الكوفيون، وكان يمثل لرأيه بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ، {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ} , وأول الجمهور مثل ذلك على أن الواو عاطفة وجواب إذا ولما محذوف2. وكان سيبويه يذهب إلى أن ما في مثل: "ما أحسن السماء" وغيرها من صيغ التعجب نكرة تامة مبتدأ والجملة الفعلية بعدها خبر، وذهب الأخفش مذهبين في توجيه "ما"؛ أولهما: أنها اسم موصول وما بعدها صلة لا محل لها من الإعراب، والثاني: أنها نكرة موصوفة والجملة بعدها في موضع رفع نعت لها، وعليهما خبر المبتدأ محذوف تقديره: شيء عظيم ونحوه3. ولم يكن سيبويه يجوِّز زيادة الباء في الخبر الموجب مثل: زيد بقائم أي: زيد قائم, وجوَّز ذلك الأخفش مستدلا بقوله تعالى: "وجزاء سَيِّئَةٍ بمثلها", وعند الجمهور أن الخبر محذوف تقديره: واقع4. وكان سيبويه -كما قدمنا- يرى أن لات تعمل عمل ليس, ويليها إما الاسم مرفوعا وإما الخبر منصوبا, وهو دائما الحين مثل: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} ومع الرفع يكون الخبر محذوفا ومع النصب يكون اسمها محذوفا، وذهب الأخفش إلى أنها غير عاملة، وقال: إذا تلاها مرفوع أُعرب مبتدأ والخبر محذوف، وإذا تلاها منصوب أُعرب مفعولا به على تقدير فعل محذوف، وقدره في الآية الكريمة: ولات أرى حِينَ مَنَاصٍ5. وذهب سيبويه إلى أن عسى في مثل: "عساي وعساك وعساه" أُجريت مجرى لعل في نصب الاسم ورفع الخبر كما أجريت لعل مجراها في جواز اقتران خبرها بأنْ في مثل: لعل محمدا أن يقوم، وذهب الأخفش إلى أن عسى في الأمثلة المذكورة لا تزال عاملة عمل كاد وأخواتها، أي: إنه لا يزال يليها اسمها المرفوع، وكل ما في الأمر أنه استُعير ضمير النصب لضمير الرفع، كما استُعير له ضمير الجر في لولاي ولولاه6. وكان سيبويه يرى أن كيف ظرف دائما, فموضعها عنده النصب، وكان الأخفش يرى أنها ليست ظرفا، وإنما هي

_ 1 الهمع 1/ 116. 2 المغني ص400، والهمع 2/ 130. 3 المغني ص329. 4 الهمع 1/ 127. 5 المغني ص281، والهمع 1/ 126. 6 المغني ص164, وابن يعيش 3/ 122.

اسم كبقية الأسماء المبنية، فهي في موضع رفع في مثل: كيف زيد؟ وفي موضع نصب في مثل: كيف كنت؟ 1. وذهب سيبويه إلى أن كلمة "فاه إلى في" في قولهم: "كلمته فاه إلى في" حال بمعنى مشافهةً، وذهب الأخفش إلى أن الكلمة منصوبة على نزع الخافض وأصلها: كلمته من فاه إلى في, فحذفت من2. وكان سيبويه يذهب إلى أن كي المنصوب بعدها المضارع تنصبه بنفسها، فهي بمنزلة أن المصدرية معنى وعملا، وذهب الأخفش إلى أنها حرف جر دائما وأن المضارع بعدها منصوب بأنْ مقدرة, بدليل ظهورها بعدها في قول الشاعر: فقالت أكلَّ الناس أصبحتَ مانحا ... لسانك كيما أن تغر وتخدعا3 وكان سيبويه يرى أن مثل: دخلتُ الدارَ والمسجدَ منصوب على الظرفية؛ تشبيها للمكان المختص وهو الدار والمسجد بالمكان غير المختص، وذهب الأخفش إلى أن الفعل هنا ليس لازما وإنما هو متعد بنفسه، والدار مفعول به4. وكان يعد "لا سيما" من أدوات الاستثناء، والجمهور على أن سي اسم لا النافية للجنس، وما بعدها في مثل: "لا سيما زيد" إما مجرور بإضافتها إليه واعتبار ما زائدة، وإما مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وما موصولة بمعنى الذي والتقدير: لا سي الذي هو زيد، وإما منصوب على التمييز5. وكان يجيز تقديم الحال على الجملة المكونة من ظرف أو جار ومجرور ومبتدأ مثل: قائما في الدار زيد6. وجوز توكيد متعاطفين إذا اتحد معنى عامليهما وإن اختلفا لفظا مثل: انطلق عمرو وذهب زيد كلاهما7. وكان يعرب الجملة التالية لإلا في مثل: "ما مررت بأحد إلا محمد خير منه" نعتا، وهي عند الجمهور حال من أحد8، وذهب إلى أن المنصوب بعد حبذا في "مثل: حبذا محمد رجلا" حال لا تمييز9. وكان سيبويه يعرب "أي" في: يا أيها الناس, منادى مبنيا على الضم والناس صفة،

_ 1 المغني ص226. 2 المغني ص593. 3 المغني ص199, والهمع 2/ 5. 4 الهمع 1/ 200. 5 الهمع 1/ 234. 6 الهمع 1/ 243. 7 الهمع 2/ 124. 8 المغني ص477. 9 المغني ص515.

وذهب الأخفش بعيدا، إذ أعرب "أي" اسم موصول وجعل الناس خبرا لمبتدأ محذوف، والجملة صلة، والتقدير: يا من هم الناس1. وكان يذهب إلى أن مذ ومنذ في مثل: مذ يومُ الخميس برفع يوم ومنذ يومان, ظرفان وهما خبران لما بعدهما, والجمهور على أنهما مبتدآن وما بعدهما خبر2. وكان يرى أن ضمة غيرُ في مثل "ليس غيرُ" ليست ضمة بناء، وإنما هي ضمة إعراب، وكان يعربها اسم ليس والخبر محذوف3. ومن المؤكد أن كثيرا من الصور النحوية في التعبيرات والصيغ أثارها الأخفش لأول مرة، ونضرب لذلك مثلا ما ذهب إليه النحاة من أن الأفعال المؤثرة إذا وقعت من الفاعل بنفسه لم يجز أن تتعدى إلى ضميره، فلا يقال: كلمتُني أي: كلمت نفسي, ولا كلمتَك أي: كلمت أنت نفسك. وإنما لم يجز ذلك؛ لأن هذه الأفعال المتعدية إنما تقع على غير المتكلم, وأما أفعال الإنسان بنفسه فالأصل أن لا تتعدى مثل: قام وذهب وخرج وانطلق. واستثنى النحاة من هذه القاعدة باب ظن والفعلين: فقد وعدم، إذ جاء عن العرب: ظننتني وفقدتني وعدمتني، واستثنى النحاة أيضا الفعل ضرب، تقول: ما ضربني إلا أنا. وهذا الاستثناء جعل الأخفش يثير صورتين من التعبير في باب الاشتغال؛ لبيان حق المشغول عنه من النصب والرفع، وهما: "أزيدا لم يضربه إلا هو", و"أزيد لم يضرب إلا إياه" وحاول أن يضع قاعدة عامة بها ننصب ونرفع، وهي أننا نحمل المشغول عنه على الضمير الذي يمكن أن نستغني عنه بذكره، أما في المثال الأول فإننا لو جعلنا زيدا مكان الهاء في قولك: "أزيد لم يضربه إلا هو" استقام الكلام؛ لأن ضمير الفاعل ضمير منفصل، فكأننا قلنا: "أزيدا لم يضربه إلا عمرو" ولو حملناه على الضمير المتصل فرفعناه؛ صار تقدير العبارة: "أزيد لم يضربه" وهي عبارة فاسدة. وبالمثل "أزيد لم يضرب إلا إياه" ينبغي رفع زيد حملا على ضميره الذي في يضرب؛ لأننا إذا قلنا: "ألم يضرب زيد إلا إياه" استقام الكلام، ولو نصبنا زيدا حملا على إياه، فقلنا: "أزيدا لم يضرب إلا إياه" ثم حذفنا

_ 1 المغني ص470. 2 المغني ص373. 3 المغني ص170.

الضمير الذي حملنا زيدا عليه وصار التقدير: "أزيدا لم يضرب"؛ اضطرب الكلام ولم يحصل المراد منه1. وتحليل الأخفش لهاتين العبارتين هو الذي ألهم ابن مضاء أن يضع قاعدة عامة لباب الاشتغال تريح الناشئة من معرفة الأحكام المعقدة في نصب المشغول عنه ورفعه، وهي تتلخص في أن الاسم المتقدم إذا عاد عليه ضمير منصوب أو ضمير متصل بمنصوب كان حقه النصب, وإن عاد عليه ضمير مرفوع أو متصل بمرفوع كان حقه الرفع2. ونستطيع أن نلاحظ من كل ما تقدم أن عقل الأخفش كان عقلا خصبا أمدّه بما لا يكاد يحصى من الآراء الجديدة التي خالف فيها ما سجله سيبويه في كتابه، وقد فسح للقياس على الأشعار الشاذة التي لا تطرد مع قوانين أستاذه النحوية، كما فسح للقراءات واحتج بها مهما خالفت قواعد النحو القياسية عند سيبويه. وعلى نحو ما كان يخالف سيبويه في كثير من مسائل النحو, كان يخالفه في كثير من مسائل الصرف. من ذلك أن الجمهور كان يمنع اشتقاق صيغة التعجب من غير الفعل الثلاثي، وجوّزها الأخفش من كل فعل مزيد مثل: ما أتقنه وما أخطأه، كما جوزها من العاهات، وتبعه في ذلك الكسائي مثل: ما أعوره3. والقياس في جمع مثل فرزدق حذف الرابع فيقال: فرازق، وكان الأخفش -وتبعه الكوفيون- يجيز حذف الحرف الثالث، فيقال في فرزدق: فرادق4. وكان سيبويه يذهب في نسب فَعُولة مثل حمولة إلى حذف التاء والواو فيقال: حَمُلِيّ، وذهب الأخفش إلى أن النسب إليه على لفظه فيقال: حمولي، لما سمع عن العرب من نسبتهم إلى أزد شنوءة: شنوئي5. وكان سيبويه ينسب إلى مثل بنت بنوي كالنسب إلى مذكرها وهو ابن، وكان الأخفش يحذف التاء ويبقي ما قبلها على سكونه وما قبل الساكن على حركته، فيقول في بنت: "بِنْوي" بكسر الباء وسكون النون6. وكان سيبويه ينسب إلى شاه: شاهي بإبقاء الألف

_ 1 انظر شرح السيرافي على سيبويه "مخطوطة دار الكتب المصرية" المجلد الأول, الورقة 426 وما بعدها. 2 راجع كتاب الرد على النحاة لابن مضاء القرطبي "نشر دار الفكر العربي" ص30. 3 الهمع 2/ 166. 4 الهمع 2/ 181. 5 الهمع 2/ 195. 6 الهمع 2/ 197.

المبدلة في شاه، وكان الأخفش يرد الألف إلى أصلها الواوي فيقول: "شَوْهيّ"1. وكان الأخفش يخالفه أيضا في وزن بعض الكلمات المزيدة، من ذلك أن سيبويه كان يذهب إلى أن وزن هِجْرَع "الطويل" وهِبْلَع "الأكول" فِعْلَل، وذهب الأخفش إلى أن وزنهما هِفْعَل بزيادة الهاء فيهما قائلا: إن الأولى مشتقة من الجَرَع أي: المكان السهل, والثانية مشتقة من البَلْع2. وبالمثل كان يخالفه هو وجمهور البصريين في مسائل من الإبدال والقلب والحذف، من ذلك بناء أُإِم، فالجمهور يبنيها "أيم"، بقلب الهمزة الثانية ياء لمناسبة حركتها، ومذهبه إبدالها واوا لمناسبة حركة ما قبلها فتقول: أوِم, وكان دائما يبدل الهمزة المكسورة بعد ضم واوا والمضمومة بعد الكسرة ياء3. ومر بنا أن الخليل وسيبويه كانا يريان أن واو اسم المفعول في مثل: مقول ومبيع هي المحذوفة، فوزن الكلمتين عندهما مَفْعُل ومَفْعِل، وكان الأخفش يذهب إلى أن عين الصيغة هي المحذوفة، فوزن الكلمتين عنده مَفُول4. وكان الخليل وسيبويه يذهبان إلى أن الهاء في مثل إقامة وإرادة من أقمت وأردت عوض عن ألف إفعال الزائدة، إذ المصدر منها أصله: إقوامة وقُلبت الواو ألفا، وذهب الأخفش إلى أن الهاء عوض من عين إفعال، فالمحذوف في صيغة إفعالة مثل إرادة عينها، بينما كان يرى سيبويه والخليل أن العين بقيت وقلبت ألفا وحذفت الألف الزائدة؛ لأن الزائد هو الأولى بالحذف5. وكان الخليل -وتبعه سيبويه- يرى أن وزن أشياء لَفْعاء كما مر بنا؛ ولذلك منعت من الصرف، وذهب الأخفش إلى أن كلمة شيء جمعت على أشيئاء كأفعلاء, ثم خففت فصارت أشياء على وزن أفْعاء6. وعلى هذا النحو كان الأخفش كثير الخلاف لسيبويه والقواعد النحوية

_ 1 الهمع 2/ 196. 2 المنصف شرح تصريف المازني لابن جني "طبع القاهرة" 1/ 26, والرضي على الشافية 2/ 385, وانظر الكتاب 2/ 335. 3 الهمع 2/ 220. 4 الخصائص 2/ 305، 3/ 74, والمنصف 1/ 287, والمغني ص686, والأشباه والنظائر للسيوطي 1/ 40. 5 الخصائص 2/ 305, والمنصف 1/ 293, والمغني ص686، والأشباه والنظائر للسيوطي 1/ 40، 119. 6 المنصف 2/ 94 وما بعدها, والإنصاف ص342.

والصرفية المبثوثة في كتابه، وهو خلاف بناه كما قلنا آنفا على خصب ملكاته, وسعة معرفته بلغات العرب وقراءات الذكر الحكيم وقدرته على النفوذ في حقائق اللغة التفصيلية إلى كثير من الآراء الطريفة، حتى ليصبح إمام الخلاف في النحو والصرف ومسائلهما, وحتى ليعد في قوة إلى ظهور لا المدرسة الكوفية وحدها، بل جميع المدارس التالية.

قطرب

2- قُطْرب 1: هو محمد بن المستنير، بصري المولد والمربى، وقد أقبل مبكرا على دراسة اللغة والنحو، ولزم سيبويه، ويقال: إنه هو الذي سماه قطربا, إذ كان يبكر للأخذ عنه، حتى كان سيبويه كلما خرج من داره سحرا رآه ببابه فقال له يوما مداعبا: "ما أنت إلا قطرب ليل" فثبتت الكلمة عليه ولصقت به، والقطرب: دويبة تدب ولا تفتر. وليس بين أيدينا ما يدل دلالة قاطعة على أنه تتلمذ للأخفش، غير ما يروى من أنه أخذ عن جماعة من العلماء البصريين، ونظن ظنا أنه أخذ عن الأخفش؛ لأنه كما قدمنا كان الطريق إلى كتاب سيبويه بعده، وعنه حمله العلماء، وطبيعي أن يحمله عنه قطرب فيمن حملوه، ما دام قد عني بالنحو والتقدم فيه، بل لقد اتخذه حرفة وأداة لتكسبه في تعليم أبناء الطبقة الممتازة ببغداد. وذاعت شهرته في ذلك فاتخذه الرشيد مؤدبا لابنه الأمين، وقربه منه أبو دلف العجلي أحد قواد الرشيد والمأمون النابهين واتخذه مؤدبا لأولاده، وظل يعنى بتأديبهم إلى وفاته سنة 206 للهجرة. وله في النحو والصرف كتب مختلفة، منها: كتاب العلل في النحو وكتاب الاشتقاق في

_ 1 انظر في ترجمة قطرب: أبا الطيب اللغوي ص67, والسيرافي ص49, والزبيدي ص106, والفهرست ص84, ونزهة الألباء ص91, ومعجم الأدباء 19/ 52, وابن خلكان في محمد, وتهذيب اللغة للأزهري 1/ 14, وتاريخ بغداد 3/ 298, وإنباه الرواة 3/ 219, وشذرات الذهب 2/ 15, ومرآة الجنان 2/ 300, ولسان الميزان لابن حجر 5/ 378, وبغية الوعاة ص104.

التصريف، وصنَّف بجانب ذلك كتبا متعددة في اللغة مثل: كتاب الأضداد وكتاب خَلْق الفرس وكتاب خلق الإنسان وكتاب المثلث وهو مطبوع، وكتاب ما خالف فيه الإنسان البهيمة. وكانت له عناية بالذكر الحكيم والحديث النبوي، فألف كتابا في إعراب القرآن، وكتابا في غريب الحديث. وكتابه "الرد على الملحدين في تشابه القرآن" يدل على صلته بالمعتزلة, والمباحث الكلامية. ولم يصلنا كتاب قطرب في العلل النحوية، غير أن الكتب المتأخرة احتفظت ببعض آرائه فيه، من ذلك تعليله لدخول الإعراب في الكلام، وقد مضى يعارض فيه ما ارتآه سيبويه وغيره من النحاة من أنه دخل الكلام في العربية لبيان الفارق بين المعاني التي يريدها المتكلمون للكلمات, إذ تكون فاعلة ومفعولة ومضافة أو مضافا إليها، يقول1: "ولم يعرب الكلام للدلالة على المعاني والفرق بين بعضها وبعض؛ لأنا نجد في كلامهم أسماء متفقة في الإعراب مختلفة المعاني, وأسماء مختلفة في الإعراب متفقة المعاني، فمما اتفق إعرابه واختلف معناه قولك: إن زيدا أخوك، ولعل زيدا أخوك، وكأن زيدا أخوك، اتفق إعرابه واختلف معناه. ومما اختلف إعرابه واتفق معناه قولك: ما زيد قائما "أي: في لغة الحجازيين", وما زيد قائم "أي: في لغة بني تميم" اختلف إعرابه واتفق معناه. ومثله: ما رأيته منذ يومين ومنذ يومان, ولا مالَ عندك ولا مالٌ عندك، وما في الدار أحد إلا زيد وما في الدار أحد إلا زيدا. ومثله: إن القوم كلَّهم ذاهبون وإن القوم كلُّهم ذاهبون، ومثله: {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} و"إن الأمر كلُّه لله" قرئ بالوجهين جميعا، ومثله: ليس زيد بجبان ولا بخيل، وليس زيد بجبان ولا بخيلا. ومثل هذا كثير جدا مما اتفق إعرابه واختلف معناه، ومما اختلف إعرابه واتفق معناه. فلو كان الإعراب إنما دخل الكلام للفرق بين المعاني لوجب أن يكون لكل معنى إعراب يدل عليه لا يزول إلا بزواله. وإنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم في حال الوقف يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون

_ 1 الزجاجي ص70.

أيضا لكان يلزمه الإسكان في الوقف والوصل وكانوا يبطئون عند الإدراج، فلما وصلوا وأمكنهم التحريك جعلوا التحريك معاقبا للإسكان ليعتدل الكلام، ألا تراهم بنوا كلامهم على متحرك وساكن ومتحركين وساكن، ولم يجمعوا بين ساكنين في حشو الكلمة ولا في حشو بيت ولا بين أربعة أحرف متحركة؛ لأنهم في اجتماع الساكنين يبطئون وفي كثرة الحروف المتحركة يستعجلون وتذهب المهلة في كلامهم، فجعلوا الحركة عقب الإسكان. وقيل له: فهلا لزموا حركة واحدة؟ فقال: لو فعلوا ذلك لضيقوا على أنفسهم، فأرادوا الاتساع في الحركات وأن لا يحظروا على المتكلم الكلام إلا بحركة واحدة". وعلى نحو ما علَّل لاختلاف حركات الإعراب بالاتساع في الكلام, علَّل لظاهرة الترادف في اللغة بنفس العلة، إذ يقول: "إنما أوقعت العرب اللفظتين على المعنى الواحد؛ ليدلوا على اتساعهم في كلامهم، كما زاحفوا في أجزاء الشعر ليدلوا على أن الكلام واسع عندهم, وأن مذاهبه لا تضيق عليهم عند الخطاب والإطالة والإطناب"1. ولم يكن يعنى بالخلاف على سيبويه والخليل في آرائهما النحوية والصرفية عناية الأخفش، ومع ذلك نجد له طائفة من الآراء خالفهما فيها معا, أو خالف أستاذه سيبويه وحده، أو خالف الأخفش. ومن هذه الآراء ما كان يذهب إليه من أن حركات الإعراب المسماة بالرفع والنصب والجر والجزم هي نفسها حركات البناء المسماة بالضم والفتح والكسر والوقف أو السكون، ولا بأس من إطلاق كل منها على مقابلها في الحالتين، فيقال للرفع في الكلمات المعربة الضم، ويقال للضم في الكلمات المبنية الرفع، وهلم جرا2. ومر بنا أن الخليل وسيبويه كانا يريان أن إعراب المثنى والجمع المذكر إنما هو بحركات مقدرة في الألف والواو والياء، وأن الأخفش كان يرى أن إعرابهما بحركات مقدرة فيما قبل الألف والواو والياء, أي: على الدال في مثل الزيدان والزيدين والزيدون والزيدين، وذهب قطرب إلى أن إعرابهما بنفس هذه الحروف، إذ مثلها مثل حركات

_ 1 المزهر 1/ 400. 2 الهمع 1/ 20.

الإعراب في مفردها تتغير بتغير مواقع الكلمات وعواملها في العبارات1. ومر بنا أيضا أن سيبويه كان يرى أن الأسماء الخمسة: أباك وأخواتها, معربة بحركات مقدرة في حروف الواو والألف والياء, رفعا ونصبا وجرا. وكان الأخفش يرى أنها معربة بحركات مقدرة على ما قبل الواو والألف والياء أسوة برأيه في المثنى والجمع، وذهب قطرب كما ذهب في الجمع والمثنى، إلى أن هذه الأحرف نفسها هي الإعراب، وكأنها نابت فيها عن الحركات2. ولقطرب وراء ذلك آراء فرعية، تتداولها كتب النحاة، منها أن واو العطف تفيد الترتيب؛ لأن الترتيب في اللفظ، إذا قلت مثلا: جاء زيد وعمرو، يستدعي سببا، وهو الترتيب في المجيء3. وكان يذهب إلى أنه قد تأتي إن بمعنى قد, مستدلا بقوله تعالى: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} 4. وذهب في إعراب لا جرم في قوله جل وعز: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} إلى أن لا رد لما قبلها، أي: ليس الأمر كما وصفوا, ثم ابتدئ ما بعده، وجرم فعل لا اسم، ومعناه وجب، وما بعده فاعل5.

_ 1 الإنصاف ص13, وأسرار العربية ص51, والهمع 1/ 47. 2 الهمع 1/ 38. 3 المغني ص392, والهمع 2/ 129. 4 المغني ص22. 5 المغني ص263.

أبو عمر الجرمي

3- أبو عمر 1 الجَرْميّ: هو صالح بن إسحاق، مولده ومنشؤه بالبصرة، وقد دأب منذ صغره على الاختلاف إلى حلقات علماء البصرة من النحاة واللغويين، ويقال: إنه لم يلق

_ 1 راجع ترجمته في أبي الطيب اللغوي ص75, والسيرافي ص72, والزبيدي ص76, ونزهة الألباء ص143, والأنساب للسمعاني الورقة 128, وتاريخ بغداد 9/ 313, والفهرست ص90, ومعجم الأدباء 12/ 5, وإنباه الرواه 2/ 80, وطبقات القراء لابن الجزري 1/ 332, وشذرات الذهب 2/ 57, ومرآة الجنان لليافعي 2/ 90, وخزانة الأدب للبغدادي 1/ 178, وبغية الوعاة ص268.

سيبويه، غير أنه لزم الأخفش وأخذ عنه كل ما عنده. ويزعم بعض الرواة أنه هو وزميله المازني خشيا بعد وفاة سيبويه وحمل الأخفش لكتابه أن يدعيه لنفسه، وكان الجرمي موسرا، فعرض عليه شيئا من المال ليقرأ هو وصاحبه عليه الكتاب، وأجابه إلى طلبه، فأخذا الكتاب عنه وأشاعاه في الناس. ويقول المبرد: عليه قرأتْ جماعة النحاة. ويذكر أنه قدم أصبهان مع فيض بن محمد عند منصرفه من الحج، فأعطاه يوم مقدمه عشرين ألف درهم، وكان يعطيه كل سنة اثني عشر ألفا. ونزل بغداد في أوائل العقد الأول من القرن الثاني للهجرة، واختلف إليه الطلاب يحاضرهم في كتاب سيبويه ويملي عليهم بعض مصنفاته، وظل بها إلى وفاته سنة 225 للهجرة. وله في النحو والصرف كتب مختلفة، من أهمها: كتاب المختصر في النحو وكتاب الأبنية، وصنف في العروض. وعني بكتاب سيبويه، فألف في غريبه كتابا، وألف في شواهده الشعرية كتابا آخر نسب فيه الشواهد التي فاتت سيبويه نسبتها في الكتاب إلى أصحابها ما عدا خمسين شاهدا لم يقف على قائليها. وكان علماء النحو في عصره وبعد عصره يتداولون كتبه، وشرحوا كتابه المختصر مرارا. وكان الجرمي لَسِنا, قوي الحجة، عالي الصوت في مناظرته؛ ولذلك سمي النباج أي: شديد الصياح، ويقال: إنه تعرض للأصمعي فسأله: كيف تصغر مختارا؟ فقال الأصمعي: مُخَيْتير، فقال له الجرمي: أخطأت، إنما هو مخيِّر؛ لأن التاء فيه زائدة. وحين نزل بغداد, ناظر الفراء مناظرة دوت شهرتها في الأوساط النحوية، وكان موضوعها ما يراه سيبويه من أن العامل في المبتدأ هو الابتداء وما يراه الفراء وغيره من الكوفيين من أن العامل في المبتدأ هو الخبر، والمناظرة مروية على هذه الصورة1: "اجتمع أبو عمر الجرمي وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، فقال الفراء للجرمي: أخبرني عن قولهم: زيد منطلق لِمَ رفعوا زيدا؟ فقال له الجرمي: بالابتداء،

_ 1 راجع في هذه المناظرة نزهة الألباء ص145, وهامش إنباه الرواة 2/ 83.

فقال له الفراء: وما معنى الابتداء؟ فقال الجرمي: تعريته من العوامل اللفظية، قال له الفراء: فأظهرْه، فقال: هذا معنى لا يظهر، يريد أنه عامل معنوي، قال له الفراء: فمثِّلْه، قال الجرمي: لا يتمثل، قال الفراء: ما رأيت كاليوم عاملا لا يظهر ولا يتمثل. فقال الجرمي: أخبرني عن قولهم: زيد ضربته, بم رفعتم زيدا؟ قال الفراء: بالهاء العائدة على زيد؛ "لأن الخبر عنده إذا لم يكن اسما رفع المبتدأ الضمير المتصل بالفعل". فقال الجرمي: الهاء اسم, فكيف يرفع الاسم؟ فقال الفراء: نحن لا نبالي من هذا, فإنا نجعل كل واحد من المبتدأ والخبر عاملا في صاحبه في نحو: زيد منطلق. فقال له الجرمي: يجوز أن يكون كذلك في: زيد منطلق؛ لأن كل واحد من الاسمين مرفوع في نفسه، فجاز أن يرفع الآخر، وأما الهاء في ضربته فهي في محل نصب, فكيف ترفع الاسم؟ "يريد أن فاقد الشيء لا يعطيه لغيره". فقال الفراء: لم نرفعه به وإنما رفعناه بالعائد "أي: الضمير بصفته عائدا عليه لا بصفته منصوبا". فقال له الجرمي: وما العائد؟ فقال الفراء: معنى، فقال الجرمي: أظهره, فقال: لا يظهر، فقال له: مثله، فقال: لا يتمثل. فقال له الجرمي: لقد وقعتَ فيما فررت منه". وبذلك أسكته. والجرمي يريد أن الفراء انتهى بعامل المبتدأ في مثل: زيد ضربته, إلى أنه عامل معنوي، وغاية ما هنالك أنه تارة يجعله لفظيا في مثل: زيد منطلق وتارة يجعله معنويا كما في المثال الآنف، وبذلك يلتقي برأي سيبويه القائل بأن العامل معنوي دائما، ومن هنا أفحم الفراء وألزمه الحجة. وتدور في الكتب النحوية طائفة من آراء الجرمي تدل على دقة فكره وغوصه على المعاني، من ذلك أنه كان يذهب إلى أن إعراب المثنى والجمع المذكر ليس لفظيا وإنما هو معنوي ببقاء الألف في المثنى والواو في الجمع رفعا وانقلابهما إلى الياء نصبا وجرا، وبذلك أنكر الإعراب الظاهر عند سيبويه والمقدر عند الأخفش على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع1. وذهب المذهب نفسه في

_ 1 الإنصاف ص13, وأسرار العربية ص52, والزجاجي ص141, والهمع 1/ 48.

إعراب الأسماء الخمسة، إذ قال: إن إعرابها إنما هو بالتغير والانقلاب من الواو إلى الألف والياء في حالتي النصب والجر, وبعدم هذا الانقلاب في حالة الرفع1. وسيبويه والجمهور على أن اسم لا النافية للجنس إذا كان مفردا رُكب معها وبُني على الفتح مثل: لا رجلَ، وذهب الجرمي إلى أنه معرب وحذف منه التنوين تخفيفا2. وكان يرى أن المفعول لأجله لا يكون إلا نكرة، وإذا جاء مضافا كانت الإضافة على نية الانفصال, فمثل ادخاره في قول بعض الشعراء: وأغفر عوراء الكريم ادخاره تقديرها: ادخارا له3، وكذلك إذا جاءت معه أداة التعريف مثل قول أحد الشعراء: لا أقعد الجبن عن الهيجاء كانت زائدة أي: جبنا4. وكان يذهب إلى أن الفاء العاطفة لا تفيد ترتيبا في المطر والأماكن, مستدلا على ذلك بقول امرئ القيس في مطلع معلقته: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل5 وكان سيبويه يذهب إلى أن الفعل المضارع بعد أو ينتصب بأنْ مضمرة، وذهب الجرمي إلى أنه ينتصب بأو نفسها6. وكذلك كان يمنع تقدير أن مع المضارع المنصوب بعد فاء السببية وواو المعية، على نحو ما ذهب إلى ذلك سيبويه، قائلا: إنهما تنصبان المضارع بأنفسهما دون حاجة إلى تقدير7. ولعل في ذلك ما يدل على أنه كان يأبى التعقيد في النحو وكثرة التقديرات، ومما يؤكد ذلك عنده أنه كان يمنع التنازع في الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين أو ثلاثة، ذاهبا إلى أنه ينبغي أن يقتصر في الباب على السماع والقياس عليه دون الإتيان بصور معقدة لم يرد لها مثيل عن العرب8، فإن في ذلك تكلفا وإيغالا في تمرينات لا تفيد في تعلم العربية، وإن كان النحاة لم يستمعوا إلى رأيه فقد مضوا يطبقون الباب في ظن وأخواتها وأعلم وأخواتها، مما كان سببا في أن يحمل عليهم ابن مضاء في كتابه الرد على النحاة، حملة شعواء.

_ 1 الهمع 1/ 39. 2 الهمع 1/ 146. 3 أسرار العربية ص188. 4 الهمع 1/ 194. 5 الهمع 2/ 131. 6 الهمع 2/ 10. 7 الإنصاف ص229, 230. 8 الهمع 2/ 111.

وللجرمي بجانب ذلك بعض آراء صرفية خالف فيها سيبويه، منها أن سيبويه كان يرى أن وزن "كلتا" فِعْلَى مثل ذِفْرَى، وذهب الجرمي إلى أن التاء فيها زائدة وأن وزنها لذلك فِعْتَل1. وكان سيبويه يذهب كما أسلفنا، إلى أن كلمة اطمأن مقلوبة عن طأمن، وذهب الجرمي إلى العكس وأن كلمة طأمن هي المقلوبة عن طمأن2. ولعل في كل ما قدمنا ما يدل على دقة عقله وسعة ذهنه.

_ 1 الخصائص 1/ 203, وسر صناعة الإعراب 1/ 168. 2 الخصائص 2/ 74, والمنصف 2/ 104.

أبو عثمان المازني

4- أبو عثمان 1 المازني: هو بكر بن محمد بن بقية من بني مازن الشيبانيين، من أهل البصرة، بها مولده ومرباه، وأكب منذ صباه على حلقات النحاة واللغويين البصريين كما أكب على حلقات المتكلمين، ولزم الأخفش، وأخذ عنه كتاب سيبويه، حتى إذا توفي هو والجرمي أصبح عَلَم البصرة المفرد في النحو والتصريف. ويقال: إنه ورد بغداد في عهد المعتصم وأخذ عنه كثيرون، وعاد إلى موطنه، وحدث أن جارية بصرية بِيعت للواثق, فغنته يوما: أظليم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام إليكم ظلم فرد بعض الحاضرين -وهو التوزي العالم اللغوي المعروف- عليها نصبها رجلا، وظن أنه خبر إن، وإنما هو مفعول به للمصدر "مصابكم" أي: إصابتكم، وظلم في آخر البيت خبر إن. فقالت الجارية: لا أقبل هذا ولا أغيره، وقد قرأته بهذه الصورة على أعلم الناس بالبصرة أبي عثمان المازني، فأمر الواثق بإحضاره،

_ 1 انظر في ترجمة المازني: أبا الطيب اللغوي ص77, والسيرافي ص74, والزبيدي ص92, ونزهة الألباء ص182, وتاريخ بغداد 7/ 93, والأنساب الورقة 500, وابن خلكان في بكر, ومعجم الأدباء 7/ 107, وإنباه الرواة 1/ 246, والفهرست ص90, وطبقات القراء لابن الجزري 1/ 179, وشذرات الذهب 2/ 113, وبغية الوعاة ص202.

فلما دخل عليه "بسر من رأى" أمر بإحضار التوزي وكان قد قال، كما أسلفنا آنفا: إن رجلا خبر إن. فقال له المازني: كيف تقول: "إن ضربك زيدا ظلم"؟ فقال التوزي: حسبي، وأدرك خطأه. وانصرف المازني إلى البصرة وكتب الواثق إلى عاملها أن يرسم له مائة دينار كل شهر. واتصلت أسباب المازني بعد الواثق بالمتوكل، ونال جوائزه. ويُجْمع القدماء على أنه كان أعظم النحاة في عصره، وقد عاش يدرس لطلابه كتاب سيبويه، وصنَّف حوله تعليقات وشروحا، منها: تفاسير كتاب سيبويه والديباج في جوامع كتاب سيبويه. وألف في علل النحو كتابا، وخص التصريف بكتاب شرحه ابن جني سماه المنصف، وقد طبع بالقاهرة. ومن مصنفاته كتاب ما يَلحن فيه العامة وكتاب الألف واللام وكتاب العروض وكتاب القوافي. واختُلف في سنة وفاته, والراجح أنها كانت سنة 249 للهجرة. وكان المازني فطنا ذكيا ومناظرا ألمعيا، وعقد له الواثق والمتوكل مناظرات بينه وبين علماء عصره, ظهر فيها فضله وخصب عقله وقوة ذهنه وملكاته، مما جعله يُفحم مناظريه دائما بالحجج القاطعة، ويقال: إن الواثق جمع بينه وبين جماعة من نحاة الكوفة، فبادرهم سائلا: ما تقولون في قول الله تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} ؟ لِمَ لَمْ يقل بغية وهي صفة لمؤنث؟ فأجابوا إجابات غير مرضية، ولما عيوا ولما عيوا بالإجابة قال: لو كانت "بغي" على تقدير فعيل بمعنى فاعلة, للحقتها الهاء مثل كريمة وظريفة, ولو كانت بمعنى مفعولة منعت الهاء مثل امرأة قتيل وكف خضيب, غير أن "بغي" ليست على وزن فعيل، وإنما هي على وزن فَعُول، والهاء لا تلحقه إذا كان وصفا لمؤنث مثل: امرأة شكور، وأصل بغي: بغوي, قُلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، فصارت ياء ثقيلة مثل سيد وميت، وطلب إليه المتوكل أن يتناقش مع ابن السكيت في مسألة، فسأله المازني: ما وزن "نكتل" الواردة في سورة يوسف؟ فأجاب ابن السكيت: وزنها نفعل، وراجعه فقال: نفتعل، ولما رأى المازني خطأه البين قال له: إن أصلها: نكتال من كال، وحذفت العين أو الألف لسكون الجزم، فأصبحت: نكتل على ون نفتل. وله آراء طريفة كثيرة يتناقلها النحاة، نسوق منها رأيه الذي استضاء فيه بأستاذه الأخفش، إذ كان يذهب مثله إلى أن ألف الاثنين في قاما, وواو الجماعة

في قاموا ليستا فاعلين, وإنما هما علامتان دالتان على الفاعل المستتر، تؤذنان بالتثنية والجمع1. وذهب مثل أستاذه نفس المذهب في الألف والواو والياء في المثنى وجمع المذكر السالم, إذ كان يرى أن هذه الحروف ليست حروف الإعراب, إنما هي دالة عليه2. وكان يذهب مذهب أستاذه في إذا الفجائية وأنها حرف، غير أنه كان يضيف أن الفاء قبلها في مثل: "خرجت, فإذا محمد بالباب" زائدة، بينما كان يرى الزيادي معاصره أنها دخلت على حد دخولها في جواب الشرط، ورأي المازني أكثر دقة؛ لأن إذا والفاء جميعا تقعان في جواب الشرط، وتغني كل منهما عن الأخرى، مثل: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} وإذا كان الموضع يشبه موضع جواب الشرط -كما قال الزيادي- فالأحرى أن تكون الفاء زائدة؛ لأن إذا تغني عنها3. وكان مثل زميله الجرمي يجيز تقديم التمييز على عامله في مثل: تصبب زيد عرقا؛ لمجيئه في قول الشاعر: وما كاد نفسا بالفراق تطيب4 إذ قدم الشاعر نفسا على تطيب. وكان سيبويه يحتم الرفع في مثل الرجل التالي لأي في النداء في قولك: يا أيها الرجل؛ لأن كلمة الرجل هي المقصودة بالنداء, وإنما جاءت أي واسطة بينها وبين حرف النداء؛ لأنها معرفة بالألف واللام، وذهب المازني إلى أنه يجوز فيها النصب كما جاز في نعت المنادى المفرد في مثل: يا زيد الظريف5. وكان ينكر النكرة غير المقصودة في النداء في مثل: يا رجلا خذ بيدي, يقولها الأعمى6. ومن آرائه أن كلمة "مثل ما" في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} إنما هي اسم واحد بُنيت فيه مثل على الفتح, وهي مع ما في موضع رفع نعت لحق وهما مضافان إلى أن وما بعدها7. وكان يذهب إلى أن بعض أسماء الأفعال

_ 1 انظر المغني 2/ 244، 305، 370، 373، 404، 410, وانظر ص413 حيث ينص ابن هشام على أنه كان يرى أن ياء المخاطبة في: تقومين وقومي حرف تأنيث والفاعل مستتر, وكذلك كان يرى أن نون النسوة في مثل: قمن حرف تأنيث والفاعل مستكن أو مستتر. وانظر الرضي على الكافية 2/ 8. 2 الزجاجي ص130، 141, والرضي على الكافية 1/ 26، 2/ 8. 3 الخصائص 3/ 320, وسر صناعة الإعراب 1/ 262 وما بعدها, والمغني ص180. 4 أسرار العربية ص196, والهمع 1/ 252. 5 أسرار العربية ص229. 6 الهمع 1/ 173. 7 الخصائص 2/ 182.

منصوبة بأفعال مضمرة، على أنها مفعولات مطلقة، فهيهات وشتان مثلا مفعولان مطلقان لفعل محذوف والتقدير: بَعُدَ، وكأن معناهما: بُعْدًا1. وذهب إلى وجوب بناء جمع المؤنث السالم على الفتح مع لا النافية للجنس مثل: لا مطيعاتَ لك بفتح التاء2. وكان يرى أن الواو والياء والألف في الأسماء الخمسة: أبيك وأخواتها, نشأت عن إشباع الحركات السابقة لها، وإذن فإعرابها إنما هو بتلك الحركات، فمثل: جاء أبوك, تعرب أبوك فاعلا مرفوعا بالضمة الظاهرة والواو إشباع3، وهو رأي طريف. وكان يذهب إلى أن المضارع حين يجزم لا يكون معربا، بل يكون مبنيا، إذ إعرابه قائم -كما قال سيبويه- على وقوعه موقع الاسم، ولما كان الاسم يمتنع وقوعه في موضع جزمه فقد ذهبت عنه علة الإعراب وعاد إلى الأصل في الفعل وهو البناء، فهو في نحو: لم تقم وإن تقم أقم مثل الأمر, مبني على السكون لا مجزوم4. وكان سيبويه يذهب إلى أن مثل إياك وإياه "إيا" فيه ضمير والكاف والهاء وما يماثلها لواحق، وكان المازني يذهب مذهب الخليل في أن إيا اسم مضمر والكاف والهاء ضمائر مضافة إليها5. واختلف النحاة في أل في مثل أفلح المتقي ربه, فمنهم من جعلها اسم موصول، وذهب الأخفش إلى أنها حرف تعريف، أما المازني فقال: إنها موصول حرفي، ويضعف رأيه أنها لا تؤول بمصدر6. وعناية المازني بالنحو ومسائله لا تقاس في شيء إلى عنايته بالتصريف، وقد ألف فيه كتابا وَسَمه بهذا الاسم، شرحه ابن جني كما أسلفنا، وهو كتاب نفيس جمع فيه موضوعات التصريف المتناثرة في كتاب سيبويه, ونظَّمها لأول مرة وصاغها صياغة علمية متقنة إلى أبعد حدود الإتقان، ونراه يقول بعد إيراده كثيرا من أمثلة "أبنية" الأسماء والأفعال المجردة والمزيدة: "إنما كتبتُ لك في صدر هذا الكتاب هذه الأمثلة "الأبنية"؛ لتعلم كيف مذاهب العرب فيما بنت

_ 1 الهمع 1/ 17. 2 الخصائص 3/ 305, والهمع 1/ 146. 3 الإنصاف ص6, والهمع 1/ 38. 4 الزجاجي ص94, والإنصاف ص250، وأسرار العربية ص337. 5 الهمع 1/ 61. 6 الهمع 1/ 84.

من الأسماء والأفعال، فإذا سُئلت عن مسألة فانظر هل بنتِ العرب على مثالها, فإن كانت بنت فابْنِ مثل ما بنت ... وسأصنع لك من كل شيء من هذا الباب رسما تقيس عليه ما كان مثله"1. ودائما يقول: "ما قِيس على كلام العرب, فهو من كلام العرب"2. وفي رأينا أنه هو الذي فتح باب التمارين غير العملية في الصرف على مصاريعه، كأن يقال: ابن من ضرب على مثال جعفر، فيقال: ضَرْبَب، أو ابن منها على مثال قِمَطْر فيقال: ضِرَبّ3، أو ابن منها على مثال سفرجل فيقال: ضربَّب، وتقول من علم على نفس الوزن: علمَّم, ومن ظرف: ظرفَّف4. وكان يتشدد في الأخذ بالقياس ويرد ما لا يطرد معه من لغة العرب, ومن بعض القراءات للذكر الحكيم، ومن خير ما يصور ذلك عنده ردّه لقراءة نافع معايشَ بالهمز في قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} فقد كان يقرأ معايش ومعائش بالهمز، والقياس فيها الياء. ونراه يعرض لتلك القراءة على هدي ما أثاره فيها الفراء, على نحو ما سنصور ذلك في الفصل الخاص به، يقول: "فأما قراءة من قرأ من أهل المدينة معائش بالهمز فهي خطأ, فلا يلتفت إليها، وإنما أخذت عن نافع بن أبي نعيم ولم يكن يدري ما العربية "علم النحو" وله أحرف يقرؤها لحنا نحوا من هذا، وقد قالت العرب: مصائب، فهمزوا وهو غلط ... وكأنهم توهموا أن مصيبة على مثال فعيلة، فهمزوها حين جمعوها كما همزوا جمع سفينة سفائن، وإنما مصيبة مُفْعلة من أصاب يصيب وأصلها مُصْوِبة، فألقوا حركة الواو على الصاد، فانكسرت الصاد وبعدها واو ساكنة، فأبدلت ياء للكسرة قبلها، وأكثر العرب يقول: مصاوب, فيجيء بها على القياس"5. وإنما منع أن تجمع معيشة على معائش بالهمز؛ لأن حرف اللين عين الكلمة إذ هي من عاش، وحرف اللين إنما يقلب همزة إذا كان مزيدا على حروف الكلمة مثل رسالة ورسائل, وعجوز

_ 1 المنصف 1/ 95. 2 الخصائص 1/ 357. 3 المنصف 1/ 173. 4 المنصف 1/ 175. 5 المنصف 1/ 307.

وعجائز, وصحيفة وصحائف. وخالف سيبويه في كثير من مسائل التصريف عن بصيرة إذ كان يقول: "إذا قال العالم قولا متقدما, فللمتعلم الاقتداء به والانتصار له والاحتجاج لخلافه إن وجد إلى ذلك سبيلا"1. ونحن نعرض بعض خلافاته مع سيبويه وأستاذه الخليل. من ذلك أن الخليل كان يرى أن وزن دُلامص أي: الأملس البراق على مثال فُعامل بزيادة الميم على حروفها الأصلية لقول العرب: دليص ودِلاص، وذهب المازني إلى أن وزنها فعالل أي: إن الميم أصلية في بنائها، وزكَّى ابن جني رأي الخليل لمجيء دليص بمعناها عن العرب2. وكان الخليل يرى أن خطايا وما يماثلها قُلبت لامها في مفردها وهي الهمزة في خطيئة موضع الياء، إذ كانت في أصل جمعها: خطايئ؛ فقلبت الهمزة في موضع الياء، فصارت خطائي، فأبدلت الكسرة فتحة وأعلت الياء فقلبت ألفا, وقلبت الهمزة التي تطرفت ياء فصارت خطايا على وزن فَعالى. وذهب المازني إلى أن خطايا وما يشاكلها مثل رزايا على وزن فعائل؛ لأنك تهمز ياءها في المفرد حين تجمعها كما تهمز ياء قبيلة وسفينة فتقول: قبائل وسفائن، كذلك تقول: خطائئ بهمزتين، وتقلب الثانية ياء فتصير خطائي، ثم تبدل مكان الياء ألفا فتصبح خطاءا، والهمزة قريبة المخرج من الألف، فكأنك جمعت بين ثلاث ألفات، مما جعلهم يبدلون الهمزة ياء، وبذلك صارت خطايا3. وذهب الخليل إلى أن حذف عين الفعل "استحيا" بحيث أصبح استحى إنما هو لالتقاء الساكنين في مثل استحييتُ، ورأى المازني أنها لو حذفت لهذه العلة لوجب رجوعها حين تحرك اللام بالضمة ويزول سكونها، فتصبح يستحيُّ، وفي رأيه أن عين استحيا إنما حذفت تخفيفا لكثرة الاستعمال4. وكان سيبويه يرى أن صيغة فعلَّل الخماسية لا تكون إلا صفة، وذهب المازني إلى أنها تكون صفة واسما5. وذهب سيبويه إلى أن كلمة {أَشُدَّهُ} في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} جمع شدة كنعمة وأنعم، وذهب المازني إلى أنها اسم جمع لا واحد له6. وكان سيبويه يرى أن لا يرد المحذوف

_ 1 الخصائص 1/ 197. 2 المنصف 1/ 151. 3 المنصف 2/ 54-57. 4 المنصف 2/ 201. 5 المنصف 1/ 30, وقابل بالكتاب 2/ 341. 6 الخصائص 1/ 86.

في بناء الكلمة حين تتحول إلى صيغة التصغير، فتصغير مثل هار، وهو البئر، ويضع اسم رجل هو: هُوَيْر ويُضَيْع، وكان المازني يرى أن يُرَدّ المحذوف، فيقال: هويئر ويويضع؛ لأن أصل هار هائر وخففت، وأصل يضع يوضع من وضع وحذفت الواو1. وكان يشترط في المصغر كله أن يكون على مثال الأسماء، ومن أجل ذلك كان يمنع من تصغير انفعال وافتعال، فلم يجز -كما أجاز سيبويه- في انطلاق "نُطَيْليق", ولا في افتقار "فتيقير"؛ لأنه ليس لهما مثال في الأسماء، بل كان يحذف بعض حروفهما حتى يصير إلى مثال الأسماء, فيقول في تصغيرهما: طليق وفقير. وكذلك كان لا يجيز في المثالين جمعهما جمع تكسير على نطاليق وفتاقير، كما ذهب إلى ذلك سيبويه، بل كان يجمعهما على طلائق وفقائر بحذف الألف والنون والتاء2. وكان سيبويه يرى قياس اسم التفضيل من صيغة الفعل الماضي المصوغ على أفعل مثل أكرم، فيقال: هو أكرم من زيد، وذهب المازني إلى منع القياس في ذلك حتى لا تلتبس صيغة اسم التفضيل المشتقة من الفعل الثلاثي بصيغته من الفعل الرباعي، فأكرم عنده تفضيلا مشتقة من كرم، أما التفضيل من أكرم فتطبق عليه طريقة الفعل المزيد، إذ يؤتى بمصدره ويسبقه تفضيل من مثل كثر، فيقال: أكثر إكراما3. وكان يذهب إلى أن القياس في الإلحاق إنما يطرد في لام الكلمة مثل قعدد ومهدد، أما الإلحاق في وسط الكلمة مثل إلحاق الواو في جوهر وجدول والياء في بيطر, فشاذ لا يقاس عليه4. ولعل فيما قدمت ما يوضح إمامة المازني وخاصة في علم التصريف، وبدون ريب هو الذي نظم قواعده ومسائله، وهو الذي فصله عن النحو الذي كان مخلوطا به في كتاب سيبويه، وأقامه علما مستقلا بأبنيته وأقيسته وتمارينه الكثيرة التي ذلل بها شوارده، ويسرها للباحثين من بعده أمثال أبي علي الفارسي وابن جني، وكأنما سخرت له اللغة ليستتم صنيع الخليل وسيبويه في صياغة قواعد التصريف

_ 1 الخصائص 3/ 71. 2 الهمع 2/ 181، 187. 3 المفصل للزمخشري "الطبعة الأولى بالقاهرة" ص235. 4 الخصائص 1/ 225، 357, والمنصف 1/ 41.

صياغة تُبنَى على الضبط الدقيق، وسلامة التطبيق. وعلى نحو ما كان إماما في التصريف, كان إماما في النحو حتى ليقول المبرد: لم يكن بعد سيبويه أعلم بالنحو من أبي عثمان المازني1. والمبرد أشهر تلاميذه وأنبه نحاة البصرة من بعده. ولعل القارئ لاحظ أننا أسقطنا في حديثنا عن نحاة النصف الأول من القرن الثالث الهجري التَّوَّزي وأبا حاتم والزيادي والرياشي؛ لأن اهتمامهم إنما انصب على رواية اللغة والشعر أكثر من انصبابه على النحو؛ ولذلك قلما صادفتنا لهم آراء نحوية، فهم بأن يكونوا لغويين أشبه منهم بأن يكونوا نحويين. وهذا نفسه يلاحظ في تلاميذ الخليل سوى سيبويه ممن ذكرتهم كتب تراجم النحاة مثل: النضر بن شُمَيْل ومؤرَّج بن عمرو السدوسي وعلي بن نصر الجهضمي والليث بن نصر بن سيار، فقد كانوا لغويين، وقلما عُنُوا بمسائل النحو ومشاكله.

_ 1 إنباه الرواة 1/ 248.

الفصل الخامس: المبرد وأصحابه

الفصل الخامس: المبرّد وأصحابه 1- المبرد 1: هو محمد بن يزيد الأزدي, إمام نحاة البصرة لعصره، وُلد بها سنة 210 للهجرة، وقيل: سنة 207، وقيل: بل سنة 195 وأكبَّ منذ نشأته على التزود من اللغة على أعلام عصره البصريين، وشُغف بالنحو والتصريف, فلزم أبا عمر الجرمي يقرأ عليه كتاب سيبويه، حتى إذا توفي لزم أبا عثمان المازني، وتصدر حلقته يقرأ عليه الكتاب والطلاب يسمعون قراءته. وبلغ من إعجاب المازني بفطنته أن لقبه بالمبرِّد -بكسر الراء- لحسن تثبته وتأتيه في العلل، وحوَّر الكوفيون اللقب إلى المبرَّد -بفتح الراء- عنتا له وسوء قصد. ويلمع اسمه وتطير شهرته، فيستدعيه المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان إلى "سر من رأى" سنة 246 ليفتي الفتوى الصحيحة في بعض المسائل اللغوية والنحوية، ويجزلا له في العطاء، حتى إذا توفيا سنة 247 كتب محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب شرطة بغداد يحث في إشخاصه إليه، ويقدم إلى بغداد ويلقي بها عصاه، ويجري عليه محمد بن عبد الله راتبا حتى إذا توفي تابع أخوه عبيد الله الذي خلفه على شرطة بغداد إجراء الرواتب عليه. وقد مضى يحاضر الطلاب ببغداد في النحو

_ 1 انظر في ترجمة المبرد: أبا الطيب اللغوي ص83, والسيرافي ص96, والزبيدي ص108, والفهرست ص93, والأنساب للسمعاني الورقة 116, ونزهة الألباء ص217, وتاريخ بغداد 3/ 380, وابن خلكان في محمد بن يزيد, ومعجم الأدباء 19/ 111, ومعجم الشعراء للمرزباني ص449, وطبقات القراء 2/ 280, وإنباه الرواة 3/ 241, واللباب في الأنساب 1/ 197, ولسان الميزان 5/ 430, وشذرات الذهب 2/ 190, ومرآة الجنان 2/ 210, وبغية الوعاة ص116, والمزهر 2/ 427, والمبرد: حياته وآثاره لمحمد عبد الخالق عضيمة "نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة".

واللغة، وسرعان ما اصطدم بثعلب زعيم مدرسة الكوفة لعصره، وكثرت بينهما المناظرات، وكتب له فيها دائما التفوق على صاحبه؛ لقدرته على الجدل وإصابته للحجة وحسن بيانه، مما جعل كثيرين من تلاميذ ثعلب يتحولون إلى حَلْقته، يتقدمهم ختنه أبو علي الدينوري. وما زال مفزع طلاب اللغة والنحو ببغداد, حتى توفي سنة 285 وقيل: سنة 286. والمبرد يعد -بحق- آخر أئمة المدرسة البصرية المهمين، وقد ذكره ابن جني فقال: "يعد جِيلا في العلم، وإليه أفضت مقالات أصحابنا "يريد البصريين", وهو الذي نقلها وقرّرها وأجرى الفروع والعلل والمقاييس عليها"1. ويقول الأزهري في مقدمة معجمه "تهذيب اللغة": "كان أعلم الناس بمذاهب البصريين في النحو ومقاييسه". وله مصنفات كثيرة، طبع منها نسب عدنان وقحطان، وما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد، وكتاب الفاضل وكتاب الكامل وهما نصوص أدبية عني بشرح ما فيها من لغة، وقد يعرض لبعض مسائل نحوية. ويُنشَر له الآن بالقاهرة كتاب المقتضب في النحو. وله وراء ذلك كتب نفيسة سقطت من يد الزمن، من أهمها: كتاب الاشتقاق وكتاب معاني القرآن وكتاب التصريف وكتاب المدخل إلى سيبويه وكتاب شرح شواهد الكتاب وكتاب معنى كتاب الأوسط للأخفش وكتاب إعراب القرآن. وكتب في شبابه كتابا سماه الرد على سيبويه أو مسائل الغلط، وفيه حاول أن يظهر مقدرته في تخطئة إمام النحاة، جامعا ملاحظات الأخفش وغيره في هذا الصدد، وكان يقول بعد أن تقدمت به السن: "إن هذا كتاب كنا عملناه في أوان الشبيبة والحداثة" معتذرا بذلك عنه. ويقول ابن جني: "أما ما تعقب به أبو العباس المبرد محمد بن يزيد كتاب سيبويه في المواضع التي سماها مسائل الغلط, فقلما يلزم صاحب الكتاب إلا الشيء النزر، وهو أيضا مع قلته من كلام غير أبي العباس"2. ورد ابن ولاد المصري على ما أورده من هذه المسائل في كتاب سماه الانتصار لسيبويه، ومنه مخطوطة بدار الكتب المصرية.

_ 1 سر صناعة الإعراب 1/ 130. 2 الخصائص 3/ 287.

وإذا أخذنا نبحث في الأصول التي كان يرجع إليها المبرد في نثر آرائه النحوية والصرفية, وجدناها نفس الأصول التي اعتمد عليها أئمة مدرسته من قبله، فهو يعنى بالتعريف وبالعوامل والمعمولات وبالسماع والتعليل والقياس. أما التعريف, فإنه يسوقه في فاتحة كل باب من أبواب كتابه المقتضب، من ذلك حده للاسم في أوله وبيان العلامة التي تدل عليه، يقول: "الاسم ما كان واقعا على معنى نحو: رجل وفرس وزيد وعمرو وما أشبه ذلك، ويعتبر الاسم بواحده، وكل ما دخل عليه حرف من حروف الخفض فهو اسم، فإن امتنع من ذلك فليس باسم". ونجد له بعض آراء متناثرة في العوامل؛ من ذلك أنه ذهب في أحد رأيين له في نصب المستثنى في مثل: "قام القوم إلا زيدًا" إلى أن "إلا" هي عاملة النصب فيه، وذهب في الرأي الثاني إلى أن العامل فعل أستثني المفهوم من الكلام، وكان سيبويه يرى أنه معمول للفعل السابق له المتعدي إليه بواسطة إلا1. وكان يذهب إلى أن العامل في النعت وفي عطف البيان وفي التوكيد هو العامل في متبوع كل منها، إذ ينصبّ على تابعه انصبابا2. وكان سيبويه يذهب إلى أن الواو التي يجرّ بعدها المبتدأ المنكر في مثل: وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله ... عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي إنما هي واو عطف، والمبتدأ المنكر بعدها مثل "ليل" في البيت مجرور برب المحذوفة، ومن هنا سميت هذه الواو واو رُبَّ. وذهب المبرد إلى أنها ليست عاطفة، بل هي حرف جر، واحتج بأن الشعراء يفتتحون بها أحيانا قصائدهم كقول رؤبة في مطلع إحدى قصائده: وقاتمِ الأعماق خاوي المخترق3 مما يؤكد أنها غير عاطفة، إذ لا يسبقها أحيانا شيء يمكن أن تعطف عليه4. وكان يرى أن كان الناقصة وأخواتها لا تدل على الحدث، وإنما تدل على الزمان

_ 1 الإنصاف ص118, وسر صناعة الإعراب 1/ 146, والهمع 1/ 224. 2 الهمع طبعة الدكتور عبد العال سالم 5/ 166, والنص مضطرب في الطبعة القديمة التي أرجع إليها 2/ 115. 3 قاتم صفة لفلاة، والأعماق: أطرافها. 4 المغني ص400.

فقط1، وكان يسمي اسمها فاعلا وخبرها مفعولا به، ولعله كان يريد بذلك التشبيه متأثرا بصنيع سيبويه نفسه، كما أسلفنا، في تحليل عبارتها2. ومر بنا أن سيبويه كان يطلق على الحال اسم المفعول فيه، إذ إن قولك: جاء زيد ضاحكًا أي: في حالة الضحك، فهي مرتبطة بزمن الفعل مما يجعلها شبيهة بالمفعول فيه، ومن هنا أطلق عليها المبرد اسم المفعول فيه، وكأنها تنصب عنده نصب الظروف، إذ الفعل يقع فيها على نحو ما يقع المجيء في المثال السالف في وقت الضحك، بالضبط كما تقول: جاء زيد اليوم، فالمجيء واقع في اليوم، وبذلك كانت تشبه ظرف الزمان3. وكان سيبويه لا يجيز في "حتى الجارة" أن تعمل في مضمر، وأجاز ذلك المبرد محتجا بمثل قول الشاعر: أتت حَتَّاك تقصد كل فج ... ترجي منك أنْها لا تخيب وذهب جمهور البصريين إلى أن ذلك ضرورة ولا يقاس عليه4. وكان سيبويه يذهب إلى أنه إذا ولي كلمة "لو" أن المفتوحة الهمزة المشددة النون مثل: "لو أنك قمت" أعربت أن وما بعدها في تأويل مصدر مبتدأ مثل تالي لولا، في نحو: "لولا زيد لجئت"، ومثله أيضا في أن الخبر محذوف لا يجوز إظهاره، وذهب المبرد مع الكوفيين إلى أنه فاعل بفعل مقدر تقديره: ثبت5. ومر بنا أن سيبويه كان يذهب في مثل عساك وعساه وقول الشاعر: فقلت عساها نار كأس وعلها برفع نار إلى أن عمل عسى عُكس فنصبت اسمها ورفعت خبرها حملا على لعل، بينما كان يذهب الأخفش إلى أنها لا تزال في المثال ببابها ترفع الاسم وتنصب الخبر، وكل ما في الأمر أنه تجوِّز في الضمير، فجُعل مكان ضمير الرفع ضمير النصب ومحله محل رفع نيابة عن الضمير المرفوع الذي كان ينبغي أن يحل محله، كما ناب ضمير الجر عن ضمير الرفع في لولاك ولولاه, وفي مثل: أنا كأنت. وذهب المبرد إلى أن الإسناد أو بعبارة أدق: الإعراب قُلب، فجعل المخبر عنه خبرا والخبر مخبرا عنه6. وكان سيبويه يذهب إلى أن المفعول معه لا ينصبه العامل المعنوي،

_ 1 الهمع 1/ 112. 2 الهمع 1/ 111. 3 المبرد: حياته وآثاره ص117. 4 المغني ص131. 5 المغني ص299, والهمع 1/ 138. 6 المغني ص165, والهمع 1/ 132.

وإنما ينصبه عامل لفظى؛ ولذلك قدر في صيغتيه المسموعتين: "ما أنت وزيدا", و"كيف أنت وزيدا؟ " أنهما على تقدير: "ما كنت وزيدا" و"كيف تكون وزيدا؟ " وذهب المبرد إلى أنه يجوز في العبارتين تقدير كان التامة ماضية أو مستقبلة، أي: لا داعي للتقيد في المثال الأول بكان الماضية, وفي المثال الثاني بتكون المستقبلة. ورد ابن ولاد على المبرد فقال: إنه لا يجوز إلا ما قدره سيبويه؛ لأن ما في المثال الأول دخلها معنى التحقير والإنكار، فهو إنما يقال لمن أنكر على شخص مخالطة زيد أو ملابسته، ولا يُنكَر إلا ما ثبت واستقر، أما ما لم يثبت ولم يستقر فليس محلا لإنكار، وأما كيف فعلى بابها من الاستفهام، والمعنى: كيف تكون إذا وقعت ملابستك لزيد في المستقبل؟ 1. وعلى نحو ما تكثر آراؤه في العوامل المحذوفة والمضمرة والملفوظة, تكثر آراؤه في المعمولات، من ذلك أن الأخفش كان يجوِّز في "غير" في مثل: "أخذت عشرة كتب ليس غير" الرفع والنصب مع حذف التنوين لانتظار المضاف إليه، أي: إنه كان يرى أنها معربة وليست مبنية، وعلى الرفع يكون خبر ليس محذوفا وعلى النصب يكون اسمها مضمرا، أي: ليس المأخوذ غير ذلك في المثال المذكور. وأبى المبرد إلا رفع غير على أن رفعها ضمة بناء لا إعراب، وأن غير شبهت بقبل وبعد، وعلى هذا يحتمل أن تكون اسما لليس أو خبرا لها، أي: على حذف الخبر أو على إضمار الاسم في ليس2. وكان الأخفش يذهب -كما مر بنا- إلى أن مذ ومنذ حين يليهما اسم مرفوع مثل: مذ يومُ الخميس ومنذ يومان, يكونان ظرفين مخبرا بهما عما بعدهما، وذهب المبرد إلى أنهما في المثالين المذكورين مبتدآن وما بعدهما خبر، ومعناهما الأمد إن كان الزمان حاضرا أو معدودا, وأول المدة إن كان ماضيا3. وكان جمهور البصريين يذهب قبله إلى أن اسم لا النافية للجنس إذا كان مثنى أو جمع مذكر رُكب معها وبُني كما بُني مفردها، وذهب المبرد إلى أن اسمها حينئذ يكون معربا؛ لأنه لم يعهد فيهما التركيب مع شيء آخر، وقال: إنه لا يوجد في كلام العرب مثنى وجمع مبنيان، ونُقض

_ 1 الهمع 1/ 221. 2 المغني ص171, والهمع 1/ 210. 3 المغني ص373.

قوله بأنهما يُبْنَيان في النداء1. ومر بنا أن سيبويه ذهب إلى أن فاعل خلا وعدا إذا نصبا ما بعدهما في الاستثناء؛ ضمير مستكن في الفعل لا يبرز، عائد على البعض المفهوم من الكلام؛ ولذلك لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث لأنه عائد على مفرد مذكر، والتقدير في مثل: قام القوم خلا زيدا: خلا هو أي: بعضهم زيدا، وذهب المبرد إلى أنه عائد على "من" المفهوم من معنى الكلام المتقدم، فإذا قلت: قام القوم, علم المخاطب وحصل في نفسه أن زيدا بعض من قام، فإذا قلت: عدا زيدا كان التقدير: عدا هو أي: عدا من قام زيدا2. وكان سيبويه يذهب إلى أنه لا يجوز الجمع بين فاعل نعم وبئس وتمييزه، فلا يقال: نعم الرجل رجلا محمد، وذهب المبرد إلى جواز ذلك؛ لوروده في أشعار العرب مثل: تزود مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادا وقول آخر: نعم الفتاة فتاة هند لو بذلت ... رد التحية نطقا أو بإيماء وقيل: إن زادا في البيت الأول إنما هي معمولة لتزود في أول البيت، وهي إما مفعول مطلق إن أريد بها التزود، وإما مفعول به إن أريد بها الشيء الذي يتزوده من أعمال البر. وقيل: إن فتاة في البيت الثاني حال مؤكدة3, ورأي المبرد أدق وأصح. ومر بنا أن سيبويه كان يعرب ركضا في مثل: جاء ركضا حالا مؤولا بالمشتق، فتأويله راكضا، وكان الأخفش يعربه مفعولا مطلقا لفعل محذوف من صيغته أي: جاء يركض ركضا، أما المبرد فكان يعربه مفعولا مطلقا دالا على نوع الفعل أي: دون حاجة إلى تقدير فعل عامل فيه كما ذهب الأخفش4. وكان سيبويه يرى أن إذما الشرطية حرف مثل إن، أما هو فكان يراها ظرفا مثل إذ وإذا5. وذهب الأخفش -كما قدمنا في غير هذا الموضع- إلى أن إذا الفجائية حرف، وذهب المبرد إلى أنها ظرف مكان، وتكون خبرا

_ 1 الهمع 1/ 146. 2 الهمع 1/ 62. 3 المغني ص516, والهمع 1/ 86. 4 الهمع 1/ 238. 5 المغني ص92.

مقدما في مثل: خرجتُ فإذا محمد، وفي "مثل: خرجت فإذا محمد جالس" تكون منصوبة بجالس1.وقد ذكرنا أن ما بعدها مبتدأ في رأي الأخفش خبره محذوف. وكان سيبويه يعرب حقا في مثل: "أحقا إنك ذاهب" مفعولا فيه منصوبا على الظرفية، وهو خبر مقدم وأن وما بعدها مؤولان بمصدر مبتدأ، فالتقدير: أفي الحق ذهابك، وكان المبرد يعرب حقا مفعولا مطلقا حُذف فعله أي: حق حقا، وأن وصلتها فاعل2. وكان سيبويه يذهب إلى أن "ما" حين تدخل على قَلّ ونحوها مثل كثر وطال تكفّها عن العمل، ولا يليها حينئذ إلا الفعل مثل: قلما يكتب، فأما قول المرار: صددتِ فأطولتِ الصدود وقَلَّما ... وصالٌ على طول الصدود يدوم فقال فيه: إنما دخلت على اسم ضرورة وهو فاعل لفعل محذوف مفسَّر والتقدير: يدوم، وذهب المبرد إلى أن ما في "قلما" زائدة وهي لا تكفها عن العمل، فوصال فاعل لقلما3. وكان يذهب إلى جواز دخول لام الابتداء على خبر إن ومعموله إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا، مثل: إن زيدا لبك لواثق، وإنك لبحمد الله لناجح4، والتكلف واضح في مثل هذا الأسلوب. وكان الجمهور لا يجوز دخول لام الابتداء على خبر أن المفتوحة الهمزة وجوزه المبرد معتمدا على ما جاء في بعض القراءات للآية الكريمة: "أَلا أَنَّهُمْ ليأكلون" بفتح الهمزة، وخرَّج الجمهور ذلك على الزيادة أو على شذوذ القراءة5. وكان لا يجيز ترخيم النكرة غير المقصودة مثل: شجرة ونخلة، أما إن كانت مقصودة فلا بأس من ترخيمها في رأيه كقول بعض الشعراء: يا ناق سيري عَنَقا فسيحا6 ومر بنا أن الخليل كان يرى أن الميم في لفظ الجلالة "اللهم" عوض عن ياء النداء، وكان يذهب هو وسيبويه إلى أن {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في قوله جل وعز: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} على نداء آخر أي: يا فاطر السموات والأرض، وذهب المبرد

_ 1 المغني ص92. 2 المغني ص56. 3 المغني ص339 وما بعدها. 4 الهمع 1/ 139. 5 الهمع 1/ 140. 6 الهمع 1/ 182.

إلى جواز وصف اللهم بمرفوع على اللفظ أو بمنصوب على المحل, وجعل "فاطر" نعتا للفظ الجلالة1. وكان سيبويه يذهب إلى أن الخبر إذا كان مصدرا مكررا أو محصورا نُصب على تقدير أنه مفعول مطلق لفعل محذوف هو الخبر، فمثل: "أنت سيرا سيرا", و"ما أنت إلا سيرا" تقديرهما: أنت تسير سيرا سيرا, وما أنت إلا تسير سيرا. وجوَّز المبرد في الصورتين الرفع على الخبرية، فتقول: أنت سيرٌ سيرٌ, وما أنت إلا سير2. ومر بنا أن أبا عمر الجرمي كان يمنع إجراء التنازع في الأفعال المتعدية إلى مفعولين أو ثلاثة؛ لعدم مجيء ذلك عن العرب، ولأنه يؤدي إلى صور معقدة، ونجد المبرد يفتح لهذه الصور فصولا في كتابه المقتضب, عارضا طائفة شديدة التعقيد منها مثل: أعطيت وأعطانيه زيدا درهما, وظننت وظننيه زيدا شاخصا3, وكان سيبويه يفضل نصب المضارع حين يعطف على اسم صريح، كقول من قالت: لَلُبْس عباءة وتقر عيني ... أحب إليَّ من لبس الشفوف والفعل في هذه الحالة منصوب بأن مضمرة ويجوز فيه الرفع4. وعرض سيبويه في باب الاشتغال هذه الصورة: "أأنت عبد الله ضربته؟ " واختار فيها رفع عبد الله؛ لأنه فُصل بين الاستفهام وعبد الله بلفظة أنت، وجوز النصب. واختار المبرد مع الأخفش في هذا المثال النصب؛ لأن همزة الاستفهام يحسن أن يليها فعل، وهو مسلط على أنت وعلى عبد الله معا؛ لذلك يحسن في رأيهما نصب عبد الله5.

_ 1 الهمع 1/ 178. 2 الهمع 1/ 193. 3 انظر كتاب الرد على النحاة لابن مضاء القرطبي "طبع دار الفكر العربي" ص112, وقابل بالمجلد الثالث من المقتضب المخطوط بجامعة القاهرة الورقة 48، 49. 4 انظر في ذلك الكتاب 1/ 426, والمقتضب، المجلد الثاني، الورقة 154, والرد على النحاة ص150. 5 راجع الكتاب 1/ 54, والرد على النحاة ص128, والهمع 2/ 113.

وكان المبرد يُعْنَى بالسماع عناية شديدة، ومضى في إثر أستاذه المازني لا يرتضي بعض القراءات الشاذة، ما دامت لا تطرد مع قواعده النحوية. وتشدد مثل سالفيه في قبول الرواية عن العرب، وكان يطعن في رواية بعض الأشعار المأثورة ما دامت لا تستقيم مع مقاييسه، حتى لو وردت عند سيبويه، فقد استشهد على تسكين المضارع في الضرورة الشعرية بقول امرئ القيس1: فاليوم أشربْ غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل وقال المبرد: ليست هذه هي الرواية الصحيحة للبيت, إنما روايته الصحيحة في مطلعه هي: "فاليوم فاشرب", وإذن يكون سكون الفعل طبيعيا؛ لأنه فعل أمر، ويقول ابن جني معنفا له: "اعتراض أبي العباس في هذا الموضع إنما هو رد للرواية وتحكم على السماع بالشهوة مجردة من النصفة، ونفسه ظلم لا من جعله خصمه"2. وروى سيبويه والأخفش عن العرب قولهم: لولاك ولولاه، كما أسلفنا، ورفض المبرد روايتهما وما جاء عن بعض الشعراء من مثل: "لولاك هذا العام لم أحجج"، محتجا بمثل قوله تعالى: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أي: إنه كان يحتم أن يليها الضمير مرفوعا3. وكان يحاول دائما أن يسند آراءه بالعلل، فلا بد لكل رأي من علة تبرره، وكان يتسع في ذلك سعة جعلته يعممه فيما لا حاجة للنطق به، من ذلك تعليله لمجيء الإعراب في آخر الكلم دون أوائلها وأواسطها، يقول: "لم يجعل الإعراب أولا؛ لأن الأول تلزمه الحركة ضرورة للابتداء؛ لأنه لا يُبتدأ إلا بمتحرك، ولا يوقف إلا على ساكن, فلما كانت الحركة تلزمه لم تدخل عليه حركة الإعراب؛ لأن الحركتين لا تجتمعان في حرف واحد. ولما فات وقوعه أولا لم يمكن أن يجعل وسطا؛ لأن أوساط الأسماء مختلفة لأنها تكون ثلاثية ورباعية وخماسية وسباعية، فأوساطها مختلفة، فلما فات ذلك جُعل آخرا بعد كمال الاسم ببنائه وحركاته"4. وكان يعلل تسكين الفعل في مثل ضربْنَ

_ 1 الكتاب 2/ 297. 2 الخصائص 1/ 72, والخزانة 2/ 279، 3/ 530. 3 الإنصاف ص285, والمغني ص302, وانظر تقريرات السيرافي على طبعة بولاق من كتاب سيبويه 1/ 388. 4 الزجاجي ص76.

ويضربْن بأنه لو لم يسكن لاجتمع أربعة متحركات، إذ الفعل والفاعل كالشيء الواحد. وفي الوقت نفسه علل لتحرك نون النسوة المتصلة بالفعل بأنها لو لم تحرك لاجتمع ساكنان، وكأن سكون ما قبلها سبب حركتها1. وعلل لبناء "الآن" على الفتح بمصاحبة أداة التعريف لها دائما، مع أنها في أخواتها من الظروف قد توجد, وقد لا توجد, أي: إنها لا تلزمها هذا اللزوم في "الآن" مما جعلها تبنى بسبب ذلك2. وكان يجمع مثل: مقعنسس على قعاسس معتلا بأن السين أشبه بالحرف الأصلي في الكلمة لأنها من قعس؛ فلذلك كان ينبغي أن تظل, لا أن تحذف وتذكر الميم على نحو ما صنع سيبويه, إذ جمعها على مقاعس3. وكان سيبويه يصغر إبراهيم وإسماعيل على: بُرَيْهيم وسميعيل، وصغرهما المبرد على أُبيريه وأسيميع؛ لأن الهمزة أصلية وليست زائدة؛ لأنها لا تزيد أولا إلا وبعدها أربعة أحرف، أما الميم فإنها تحذف لأنها آخر الكلمة، وآخر الكلمة يحذف كثيرا في الخماسي حين يصغَّر كتصغير سفرجل على سفيريج4. وكان يعلل لوقف العرب على الكلمات ونقل حركتها إلى ما قبلها، إذ يقولون: قام عَمُرْ, بنقل حركة الراء إلى ميم عمرو السابقة لها, كما يقولون: مررت ببكر بكسر الكاف والوقوف على الراء، بأن ذلك للدلالة على الحركة المحذوفة في آخر الكلمة5. وكان يحتكم دائما إلى القياس ولكنه لم يكن يقدمه على السماع عن العرب، بحيث يرفض ما ورد على ألسنتهم أو قل على أكثر ألسنتهم، فقد كان يرد ما يخالف الكثرة الكثيرة الدائرة في أفواههم، ولكن حين لا توجد هذه الكثرة كان يفسح للقياس، وكذلك كان يفسح له حين يشيع استعمال بين العرب. وليس معنى ذلك أنه كان يقيس على الشاذ والنادر، إنما كان يقيس على ما سُمع كثيرا قائلا: "إذا جعلت النوادر والشواذ غرضك, واعتمدت عليها في مقاييسك كثرت زلاتك"6. فمن ذلك أن العرب كثر على لسانهم استعمال صيغة فعَّال, مستغنين بها عن ياء النسب كخبَّاز وبزاز وقزاز وسقاء وبناء وزجاج وبقال

_ 1 ابن مضاء ص59. 2 الإنصاف ص213. 3 الهمع 2/ 181. 4 الهمع 2/ 192. 5 الهمع 2/ 208. 6 الأشباه والنظائر للسيوطي 3/ 49.

وخيّاط ونجّار ولبّان، وكذلك استعمال صيغة فاعل كحائك وشاعر أي: ذي شعر وفارس أي: ذي فرس وطاعم أي: ذي طعام. وقال سيبويه: إن الصيغتين في النسب موقوفتان على السماع، ولا يقاس عليهما شيء وإن كان قد كثر في كلامهم فلا يقال لصاحب البر: برّار ولا لصاحب الشعير: شعّار ولا لصاحب الدقيق: دقّاق ولا لصاحب الفاكهة: فكّاه. وقاس المبرد الصيغتين جميعا محتجا بأن ذلك في كلام العرب أكثر من أن يحصى أو يستقصى1. ومر بنا أنه جاء عن العرب كثيرا في النسبة إلى فَعِيل وفُعَيْل حذف الياء مثل: ثقيف وثقفي, وقريش وقرشي, وهذيل وهذلي، وعلى الرغم من كثرة ذلك قال سيبويه: إن هذا الصنيع لا يقاس عليه؛ إذ القياس في رأيه أن تثبت الياء في الصيغتين، فيقال: ثقيفي وهذيلي، وقاسه المرد لأنه هو الذي كثر عن العرب2. والقياس في فَعيلة في النسب أن تحذف الياء، فيقال في النسبة إلى بني حنيفة: حنفي, وإلى بني ربيعة: ربعي. وقال سيبويه: إن حكم فَعولة في النسب حكم فَعِيلة، فتسقط الواو منها كما سقطت الياء في أختها، فيقال في بني شَنُوءة: شنئي، وخالفه المبرد، فقال: بل ينسب إليها على لفظها فيقال: شئوني؛ لأن الياء إنما حُذفت في فعيلة تخفيفا بسبب كثرة الياء والكسرات فيها إذا أُبقيت على لفظها، فقيل مثلا في حنيفة: حنيفي، وقال: مما يدل على ذلك دلالة واضحة أنهم نسبوا إلى علي: "علوي" فحذفوا ياء وقلبوا الثانية واوا خشية الثقل في النطق، وهو ما لا يوجد في فعولة وموزوناتها، ويوضح ذلك أيضا أن العرب حين نسبت إلى مثل نَمِر المكسور العين فتحوها فقالوا: نَمَري بفتح الميم، ولكنهم لما نسبوا إلى مثل سَمُرة بضم الميم أي: شجرة لم يغيروا حركة الحرف الثاني. وعلى نحو ما خالفت الكسرة الضمة في نمر وسمرة, كذلك ينبغي أن تخالف الواو في فعولة الياء في فعيلة، فلا تحذف؛ لفقدان علة الحذف، وهي استثقالهم اجتماع المتجانسات, أو بعبارة أخرى: الكسرات والياءات3. وفيما قدمنا ما يدل على أن المبرد لم يكن يقدم القياس على السماع، فالأساس

_ 1 الهمع 2/ 198. 2 الهمع 2/ 195. 3 ابن يعيش 5/ 146 وما بعدها.

عنده السماع أولا؛ إذ القياس إنما يستمد منه, ويعتمد عليه، من ذلك أن القياس في صيغة مفعول أن تحذف واوها إذا كانت مشتقة من فعل أجوف مثل مقول، ولكن سُمع عن بني تميم كثيرا إثبات الواو في الصيغة, مثل مقوول ومصوون, فجعل المبرد ذلك قياسا مطردا، فيقال: مبيوع على نحو ما يشيع في العامية المصرية1. ونراه دقيقا في استنباط القاعدة المقيسة، يشهد لذلك حكمه باطراد القياس في باب المفعول معه في كل صيغة يكون فيها ما قبل الواو سببا في تاليها مثل: جاء الشتاء وملابس الصوف، فالشتاء سبب في استخدام ملابس الصوف؛ ولذلك تنصب الملابس مفعولا معه، ولا تعطف2. وكان يعنى كثيرا بقياس الشبه على نحو ما يلقانا عنده في منع تقدم خبر ليس الناقصة الجامدة عليها, قياسا على فعل التعجب, وأنه لا يصح تقدم معموله عليه، وكذلك الأفعال الجامدة: عسى وبئس ونعم، فكلها لا تتقدمها معمولاتها لعدم تصرفها3. وتدل كتابات المبرد المختلفة على أنه كان دقيق الحس اللغوي دقة شديدة، فأودع كتبه ومصنفاته كثيرا من الملاحظات اللغوية والتعبيرية التي تدل على رهافة حسه، من ذلك أنه كان يرى أن عبارة: "عبد الله قائم" تستخدم في موطن لا تستخدم فيه عبارتا: "إن عبد الله قائم" و"إن عبد الله لقائم" فالعبارة الأولى تعبر عن مجرد الإخبار بقيام عبد الله، بينما العبارة الثانية تستخدم للإجابة عن سؤال سائل تأكيدا له، أما العبارة الثالثة فتستخدم في خطاب من ينكر قيام زيد ويبالغ في إنكاره، ومن أجل ذلك تؤكد له العبارة بمؤكِّدين4. وسئل عن الفرق بين العبارتين: "ضربت زيدا"، و"زيد ضربته" فقال: إنك إذا قلت: ضربت زيدا، فإنما أردت أن تخبر عن نفسك وتثبت أين وقع فعلك، وإذا قلت: زيد ضربته, فإنما أردت أن تخبر عن زيد. وإذا كنا ميزنا في تلاميذ الأخفش وسيبويه وأصحابهما بين من عني منهم باللغة, وبين من عني منهم بالنحو والتصريف, فكذلك الشأن في تلاميذ المبرد، وممن اشتهروا منهم في المباحث اللغوية أبو بكر بن دُرَيْد، واشتهر

_ 1 الهمع 2/ 224. 2 الهمع 1/ 219. 3 الخصائص 1/ 188, والإنصاف ص73, والهمع 1/ 117. 4 دلائل الإعجاز للجرجاني "طبع مطبعة السعادة" ص221.

ابن دُرُسْتويه بالمباحث الصرفية، بينما اشتهر بالمباحث النحوية الأخفش الصغير علي بن سليمان المتوفى سنة 315, ومحمد بن علي المعروف باسم مَبْرمان المتوفى سنة 326، وأشهر منهما في تلك المباحث الزجاج وأبو بكر بن السراج اللذان انتهت إليهما الرياسة في النحو البصري والإمامة فيه بعد المبرد، ونبغ من تلاميذ ابن السراج السيرافي، وبه تنتهي المدرسة البصرية، ولعل من الخير أن نخص كل واحد من هؤلاء الثلاثة الأخيرين بطرف من الحديث.

الزجاج

2- الزجاج 1: هو أبو إسحاق إبراهيم بن السَّرِيّ بن سهل، وكان في حداثته يخرط الزجاج فنُسب إليه، ورغب في درس النحو، فلزم المبرد وكان يعلم مجانا، فجعل له على نفسه درهما كل يوم أجرة على تعليمه، وظل يؤديه إليه طوال حياته. وحسن رأي المبرد فيه، حتى كان من يريد أن يقرأ عليه شيئا من كتاب سيبويه, أو غيره يأمره بأن يعرض على الزجاج أولا ما يريد قراءته. والتمس منه بعض ذوي الوجاهة معلما لأولادهم، فأسماه لهم، ولم يلبث عبيد الله بن سليمان وزير الخليفة المعتضد أن طلب منه معلما لابنه القاسم، فقدمه إليه، ولما وزر القاسم بعد أبيه اتخذه كاتبا له فأقبلت الدنيا عليه، وأصبح من جلساء الخلفاء ومن تجرى عليهم رواتبهم. وظل في عيشة رخية حتى توفي سنة 310 للهجرة. وله مصنفات مختلفة منها: كتاب شرح أبيات سيبويه ومختصر في النحو وكتاب الاشتقاق وكتاب ما ينصرف وما لا ينصرف وكتاب فعلت وأفعلت وكتاب معاني القرآن وكتاب القوافي وكتاب في العروض.

_ 1 انظر في ترجمة الزجاج: السيرافي ص108, ونزهة الألباء ص244, وابن خلكان في إبراهيم, وتاريخ بغداد 6/ 89, والأنساب الورقة 272, ومقدمة تهذيب اللغة للأزهري, والفهرست ص96, والزبيدي ص121, ومعجم الأدباء 1/ 130, وإنباه الرواة 1/ 159, واللباب 1/ 397, وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 170, وشذرات الذهب 2/ 259, وبغية الوعاة ص179.

وله آراء مختلفة تدور في كتب النحو، منها ما يتصل بالعوامل, ومنها ما يتصل بالتعليل، ومنها ما يتصل ببعض الأدوات، ومنها ما يتصل ببعض مسائل نحوية صرفية. فأما ما يتصل بالعوامل فمنها أنه كان يرى أن الفعل المضارع لا يدل على الحال والاستقبال كما ذهب إلى ذلك سيبويه وجمهور النحاة، إنما يدل على الاستقبال فقط؛ لأن اللحظة الحالية التي ننطق فيها بكلمة يكتب بمجرد أن ننطق بها تصبح ماضية1. وكان يجوِّز عمل لعل وكأن إذا اتصلت بهما ما الزائدة في مثل: لعلما محمدا قادم وكأنما محمدا شاعر2. وكان الخليل وسيبويه يذهبان إلى أن كأن مركبة من الكاف وأن، وزعم الزجاج أن الكاف فيها جارة غير زائدة، أي: بالإضافة، فقال: إنها اسم بمنزلة مثل، وقدرها مبتدأ محذوف الخبر وما بعدها في تقدير مصدر مضاف إليها، فمثل كأن محمدا أخوك تقديره عنده: مثل أخوة محمد إياك موجودة. وهو بعد واضح في التقدير3. وكان سيبويه يذهب إلى أن ناصب المفعول له الفعل السابق له؛ لأنه علة لمضمونه ولذلك كان الأصل أن يجر باللام مثل قمت للأدب، فتحذف اللام وأداة التعريف ويقال: قمت أدبا، وذهب الزجاج إلى أنه صورة من صور المفعول المطلق لبيان النوع، كأنك قلت في المثال السابق: تأدبت بالقيام، فالتأديب مجمل والقيام بيان له، كأنك قلت: تأدبت بالقيام أدبا، ومن هنا قال: إن المفعول له مفعول مطلق منتصب بفعل مضمر من لفظه جُعل عوضا منه؛ ولذلك لا يظهر4. وكان الجمهور يذهب إلى أن عامل المفعول معه الفعل أو معناه بتوسط الواو، وذهب الأخفش كما مر بنا إلى أنه منصوب على الظرفية، وذهب الزجاج إلى أنه منصوب بفعل مضمر بعد الواو، فمثل: "استيقظ وطلوع الفجر" وتقديره عنده: استيقظ ولابس طلوع الفجر، وما أشبه ذلك؛ لأن الفعل في رأيه يعمل في المفعول وبينهما الواو5، وكأنما فاته أنه يعمل في المعطوف وبينهما الواو في مثل: أقبل محمد وعلي. ومعروف أن تمييز كم الاستفهامية يجوز

_ 1 الهمع 1/ 7. 2 الهمع 1/ 143. 3 المغني ص209, والهمع 1/ 133, 134. 4 الرضي على الكافية 1/ 175, والهمع 1/ 195. 5 الرضي على الكافية 1/ 178, والإنصاف ص110, وأسرار العربية ص183, والهمع 1/ 220.

جره إذا سبقها حرف جر مثل: "على كم معلم درست؟ "، وذهب الجمهور إلى أن التمييز مجرور حينئذ بمن مقدرة حُذفت تخفيفا، اتفق في ذلك سيبويه والبصريون والكوفيون، وذهب الزجاج إلى أنه مجرور بالإضافة إلى كم, فهي العاملة فيه، لا من المضمرة1. وكان يعنى بالتعليل سواء في المسائل النظرية أو العملية، من ذلك استدلاله على صحة مذهب أصحابه البصريين في أن المصدر هو الأصل وأن الفعل مشتق منه، يقول: "لو كان المصدر بعد انفعل وكان مأخوذا منه, لوجب أن يكون لكل مصدر فعل قد أُخذ منه لا محيص عن ذلك ولا مهرب منه، فلما رأينا في كلام العرب مصادر كثيرة لا أفعال لها ألبتة مثل العبودية والرجولية والبنوة والأمومة والأموَّة "من الأمة" وما أشبه ذلك مما يطول تعداده من المصادر التي لم تؤخذ من الأفعال، ورأينا في كلامها أيضا مصادر جارية على غير ألفاظ أفعالها نحو الكرامة والعطاء "يقصد أسماء المصادر" وما أشبه ذلك, علمنا أنه ليست الأفعال أصولا للمصادر، إذ كانت المصادر توجد بغير أفعال، وعلمنا أن المصادر هي الأصول، فمنها ما أخذ منه فعل، ومنها ما لم يؤخذ منه فعل، وهذا بيِّن واضح"2. وكان يعلل لرفع الفاعل ونصب المفعول بقوله: "إنما فُعل ذلك للفرق بينهما، ثم سأله نفسه فقال: فإن قيل: فهل عُكست الحال فكانت فرقا أيضا؟ قيل: الذي فعلوه أحزم، وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد، وقد يكون له مفعولات كثيرة، فرفع الفاعل لقلته ونصب المفعول لكثرته، وذلك ليقل في كلامهم ما يستثقلون ويكثر في كلامهم ما يستخفون"3. وكان يعلل لعدم استخدام العرب صيغة "ما زال زيد إلا قائما" بأنها نفي للنفي يفضي إلى الإيجاب، فامتنعوا من ذلك4. وكان المبرد يذهب، كما مر بنا، في تعليل بناء الآن باقترانها دائما بأداة التعريف دون أخواتها، وذهب الزجاج إلى أنها بُنيت لتضمنها معنى الإشارة؛ لأن معناها هذا الوقت5. وكان الجمهور يذهب إلى أن المثنى في مثل الزيدان والزيدين معرب، وذهب الزجاج إلى أنه

_ 1 الهمع 1/ 254. 2 الزجاجي ص58. 3 الخصائص 1/ 49، والمنصف 1/ 190. 4 الخصائص 3/ 241. 5 الهمع 1/ 207.

مبني لتضمنه معنى الحرف، وهو العاطف، إذ أصل قام الزيدان: قام زيد وزيد، وكأنه بُني لنفس العلة التي بنيت لها الأعداد المركبة مثل ثلاثة عشر1. وكان يخالف جمهور البصريين في مسائل نحوية وصرفية كثيرة، من ذلك أن الجمهور كان يرى أن نون المثنى والجمع عوض عن التنوين في المفرد، وذهب الزجاج إلى أنها عوض عن حركة الإعراب في المفرد2. وذهب جمهور البصريين إلى أن "هو وهي" أصلان، فالضمير في كل منهما مجموع الحرفين، وذهب الزجاج إلى أن الضمير فيهما الهاء فقط والواو والياء زائدتان لحذفهما في مثل هما وهم وهن، وحذفهما أيضا في المفرد في بعض لغات الأعراب كقول بعضهم: "دار لسعدى إذِ هـ من هواكا"3, وذهب الجمهور إلى أن أيمن في مثل: أيمنُ الله مرفوعة بالابتداء وخبرها محذوف، وذهب الزجاج إلى أنها حرف جر وقَسَم4. ومر بنا أن الأخفش كان يرى أن إذا الفجائية حرف، ورأى المبرد أنها ظرف مكان، وذهب الزجاج إلى أنها ظرف زمان؛ ولذلك منع أن تكون خبرا لما بعدها في مثل: "خرجت فإذا محمد"، بل الخبر محذوف؛ لأن الزمان لا يخبر به عن الجثة5. وذهب الجمهور إلى أن جواب لو حين يكون جملة اسمية مثل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} محذوف وتقديره: لأثيبوا، أما {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} فجواب قسم تقديره: والله لمثوبة, وقال الزجاج: بل الجملة جواب لو واللام الداخلة عليها ليست لام قسم, إنما هي اللام التي تدخل عادة في جواب لو6. وكان الجمهور قبله يعرب الرجل في مثل: مررت بهذا الرجل نعتا؛ لمجيء ذلك على لسان سيبويه, وكأنهم لم يلاحظوا ما سبق أن قلناه من أنه قد يسمي التوكيد وعطف البيان صفة، وتنبه لذلك الزجاج، فأعرب الرجل في المثال المذكور عطف بيان لا نعتا7. ومر بنا أن المازني كان يذهب إلى أن الفاء في مثل: "خرجت فإذا محمد" زائدة، وذهب الزجاج إلى أنها للسببية المحضة8. وكان الجمهور يمنع تقديم المستثنى على فعله، فلا يقال: "إلا زيدا قام القوم", وجوز ذلك الزجاج

_ 1 الهمع 1/ 19. 2 الهمع 1/ 48. 3 الهمع 1/ 61. 4 المغني ص105, والهمع 2/ 40. 5 المغني ص92 وما بعدها. والهمع 1/ 207. 6 الهمع 2/ 66. 7 المغني ص631. 8 المغني ص180.

مستدلا بقول بعض الشعراء: خلا الله لا أرجو سواك وإنما ... أعد عيالي شعبة من عيالكا1 وارتضى في مسوغات الجملة الخبرية التي لا تحتوي على ضمير المبتدأ أن يضمر في الشرط التالي لها مثل: "زيد يقوم عمرو إن قام"2. وجوز أن تدخل لام الابتداء بعد إن على الخبر ومعموله التالي له سواء أكان مفعولا أم ظرفا أم جارا ومجرورا مثل: "إن محمدا القائم لفي الدار", و"إن محمدا القارئ للكتاب"3، والتكلف في مثل ذلك واضح. وذهب الجمهور إلى أن وزن سلسل فعلل، وذهب الزجاج إلى أنها هي وما يماثلها كنحو كبكب على وزن فعفل4، وإذ كان يرى أن كل لفظتين اتفقتا في أكثر الحروف لا بد أن تكون إحداهما مشتقة من الأخرى، فمثلا: سلسل مشتقة من سل, وحثحث من حث, ورقرق من رق5. وكان الجمهور يرى أن وزن اتخذت افَّعلت بتكرار التاء، وذهب الزجاج إلى أن أصلها: اوتخذت فقُلبت الواو تاء. وكان الجمهور يذهب إلى أن الهمزة في مصائب من الشاذ الذي لا يقاس عليه، وأن القياس فيها: مصاوب؛ لأن الواو أصلية فلا تقلب همزة، إنما تقلب في مثل: صحيفة وصحائف وحَمُولة وحمائل وقَلُوص وقلائص، مما حرف المد فيه زائد على الحروف الأصلية، وذهب الزجاج إلى تصحيح مثل ذلك وأن الواو أبدلت همزة6، وكأنه كان يرتضي أن تجمع معيشة على معائش، مخالفا بذلك سيبويه، كما أسلفنا، وجمهور البصريين من بعده.

_ 1 الهمع 1/ 226. 2 الهمع 1/ 98. 3 الهمع 1/ 139. 4 الخصائص 2/ 52. 5 الهمع 2/ 212. 6 المنصف 1/ 230.

ابن السراج

3- ابن السراج 1: هو أبو بكر محمد بن السري، كان من أحدث تلاميذ المبرد سنا مع ذكائه وحدّة ذهنه، وعكف على دروس أستاذه، متزودا بكل ما عنده من أزواد نحوية ولغوية. وعُني بجانب ذلك بدراسة المنطق والموسيقى، وتحول بعد موت المبرد إلى حلقات الزجاج يعبّ منها وينهل، ثم استقل عنه بحلقة كان يؤمّها كثيرون في مقدمتهم السيرافي، وأبو علي الفارسي وعليه قرأ كتاب سيبويه. وكان يُعنَى عناية واسعة بعلل النحو ومقاييسه، وفيهما صنّف كتاب الأصول الكبير، انتزعه من كتاب سيبويه وأضاف إليه إضافات بارعة، ويقال: إنه جعله تقاسيم على طريقة المناطقة. ولم يكتف فيه بآراء سيبويه، فقد ضم إليه كثيرا من آراء الأخفش الأوسط والكوفيين موازنا ومقارنا. وقال له أحد تلاميذه وهو يلقي بعض فصول هذا الكتاب: إنه أحسن من كتاب المقتضب للمبرد أستاذه، فبادره بقوله: لا تقل هذا؛ فإنما استفدنا ما استفدناه من صاحب المقتضب، وأنشد: ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدِّم وكان يحسن نظم الشعر وإنشاد المأثور منه في الأوقات والمواقف المناسبة، وكانت فيه دقة حس ورقة شعور، ويقال: إنه جاءه يوما بُني صغير له، فأظهر من العطف عليه ما جعل بعض جلسائه يسأله: أتحبه أيها الشيخ؟ فقال متمثلا: أحبه حب الشحيح ماله ... قد كان ذاق الفقر ثم ناله وله وراء كتاب الأصول مصنفات نحوية مختلفة, منها كتاب مجمل الأصول

_ 1 انظر في ترجمة ابن السراج: السيرافي ص108, والزبيدي ص122, والفهرست ص98, ونزهة الألباء ص249, وتاريخ بغداد 5/ 319, والأنساب الورقة 205, ومعجم الأدباء 18/ 197, وإنباه الرواة 3/ 145, وابن خلكان, وشذرات الذهب 2/ 273, واللباب 1/ 547, ومرآة الجنان 2/ 270, وبغية الوعاة ص44.

وكتاب الاشتقاق وشرح سيبويه وكتاب احتجاج الفراء. وما زال يفيد طلابه بعلمه الغزير, حتى توفي سنة 316 للهجرة. وكتابه الأصول الكبير لم يُنشر حتى اليوم، غير أن المصنفات النحوية التي جاءت بعده احتفظت منه بنصوص ترينا من بعض الوجوه طريقته1، من ذلك ما ذكره عنه ابن جني من أنه فتح في هذا الكتاب بابا لما سماه العلة وعلة العلة، ومثّل فيه برفع الفاعل، قال: فإذا سُئلنا عن علة رفعه قلنا: إنه ارتفع بفعله، فإذا قيل: ولم صار الفاعل مرفوعا؟ فهذا سؤال عن علة العلة. ونحس كأنه استلهم تعليل الزجاج لاشتقاق الأفعال من المصادر, وأن المصادر هي الأصل والأفعال فروع منها، إذ يقول: "لو كانت المصادر مأخوذة من الأفعال جارية عليها, لوجب أن لا تختلف كما لا تختلف أسماء الفاعلين والمفعولين الجارية على أفعال نحو: ضارب ومضروب وشاتم ومشتوم ومكرِم ومكرَم وما أشبه ذلك مما لا ينكسر, ورأينا المصادر مختلفها أكثر مما جاء منها على الفعل كقولنا: شرب شُرْبا وشَربا ومَشْربا وشرابا, وعدل عن الحق عدلا وعدولا, وما أشبه ذلك, فعلمنا أنها غير جارية على الأفعال وأن الأفعال ليست بأصولها"2. ويعلل لاختلاف صيغ الأفعال باختلاف أزمنتها بقوله: "كان حكم الأفعال أن تأتي كلها بلفظ واحد؛ لأنها لمعنى واحد، غير أنه لما كان الغرض في صناعتها أن تفيد أزمنتها خولف بين مُثُلها "أبنيتها"؛ ليكون ذلك دليلا على المراد منها، فإن أُمن اللبس فيها جاز أن يقع بعضها موقع بعض، وذلك مع حرف الشرط نحو: إن قمت جلست؛ لأن الشرط معلوم أنه لا يصح إلا مع الاستقبال, وكذلك: لم يقم أمس، وجب لدخول لم ما لولا هي لم يجز، ولأن المضارع أسبق في الرتبة من الماضي، فإذا نفي الأصل كان الفرع أشد انتفاء. وكذلك أيضا حديث الشرط في نحو: إن قمتَ قمتُ, جئتَ بلفظ الماضي الواجب تحقيقا للأمر وتثبيتا له، أي: إن هذا وعد موفى به لا محالة، كما أن الماضي واجب ثابت لا محالة"3.

_ 1 في الأشباه والنظائر للسيوطي مادة وفيرة من هذا الكتاب. 2 الزجاجي ص59. 3 الخصائص 3/ 331.

ويوضح تعليله لمجيء الماضي بدل المضارع في الشرط بصورة أكثر وضوحا من الصورة السالفة، إذ يقول: "وقوله: إن قمتَ قمتُ يجيء بلفظ الماضي والمعنى معنى المضارع، وذلك أنه أراد الاحتياط للمعنى، فجاء بمعنى المضارع المشكوك في وقوعه بلفظ الماضي المقطوع بكونه حتى كأن هذا قد وقع واستقر، لا أنه متوقَّع مترقَّب"1. وكان يقول: إن العامل في الفعل من الحروف ينبغي أن يختص بدخوله عليه من أجل عمله فيه. وعلل عدم عمل السين في المضارع في مثل: سيقوم بأنها كالجزء منه؛ لأنها حرف واحد لا يستقل بنفسه، وألحق بها سوف. وكان يشبه الأداة الجازمة للمضارع بالدواء, والحركة في الفعل بالفضلة التي يخرجها الدواء, وكما أن الدواء إذا أصاب فضلة حذفها وإن لم يصادف فضلة أخذ من نفس الجسم, فكذلك الجازم إذا دخل على الفعل إن وجد حركة أخذها وإلا أخذ من نفس الفعل، وسهُل حذف حرف العلة لسكونه؛ لأنه بالسكون يضعف فيصير في حكم الحركة، فكما أن الحركة تُحْذَف فكذلك حروف مثل: يغزو ويرمي ويخشى2. وكان يعنى بالقياس عناية شديدة جعلته يهاجم من يعتدّون بالشواذ والنوادر، داعيا إلى إسقاطها حتى لا يحدث اضطراب في المقاييس النحوية والصرفية، وفي ذلك يقول: "اعلم أنه ربما شذّ شيء من بابه، فينبغي أن تعلم أن القياس إذا اطرد في جميع الباب لم يُعنَ بالحرف الذي يشذ عنه. وهذا مستعمل في جميع العلوم، ولو اعتُرض بالشاذ على القياس المطرد لبطل أكثر الصناعات والعلوم، فمتى سمعت حرفا مخالفا لا شك في خلافه لهذه الأصول فاعلم أنه شَذَّ، فإن كان سُمع ممن تُرضَى عربيته فلا بد أن يكون قد حاول به مذهبا أو نحا نحوا من الوجوه أو استهواه أمر غلطه. وليس البيت الشاذ والكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجة على الأصل المجمع عليه في كلام ولا نحو ولا فقه، وإنما يركن إلى هذا ضَعَفَة أهل النحو "يريد الكوفيين" ومن لا حجة معه. وتأويل هذا وما أشبهه في الإعراب كتأويل ضعفة أصحاب الحديث وأتباع القُصَّاص في

_ 1 الخصائص 3/ 105. 2 أسرار العربية ص323.

الفقه"1. وفي هذا ما يدل على نفاذ بصيرته، إذ تنبه إلى أن الأساس في كل قاعدة علمية أن تطرد، وأن يحكم على كل ما يخالفها بالشذوذ، لا أن يُتخذ قاعدة مستقلة كما يصنع ذلك الكوفيون, فإن ذلك من شأنه أن يعطل القواعد النحوية والصرفية ويصيبها بالشلل لمجرد وجود بيت شاذ عليها أو كلام محفوظ بأسانيد ضعيفة. وكأنه كان يرى أنه يكفي أن ينص على شذوذه، وأن لا يحاول أحد تأويله أو تخريجه كما كان يصنع أساتذته البصريون، ويشبه صنيعهم بصنيع القصاص وضعفة أصحاب الحديث في تصحيح ما يقوم كذبه, أو على الأقل شذوذه بالقياس إلى القواعد الفقهية المقررة. وله آراء نحوية وصرفية كثيرة تداولتها كتب النحو التي جاءت بعده، منها أنه كان لا يرى ما يراه الجمهور من أن الظرف والجار والمجرور إذا وقعا خبرا أو حالا أو نعتا يتعلقان بمحذوف تقديره: مستقر أو استقر، إذ كان يذهب إلى أنهما قسم مستقل بنفسه يقابل الجملتين الاسمية والفعلية2. وكان جمهور البصريين يذهب إلى أن "ليس" فعل ناقص لاتصالها بالضمائر مثل: ليست ولستما ولسن، وذهب ابن السراج إلى أنها حرف لأنها لا تتصرف، أي: لا يأتي منها المضارع والأمر3. ومثلها عسى، كان يرى أنها حرف لعدم تصرفها كليس، بينما كان يرى الجمهور أنها فعل لاتصالها بالضمائر مثل عساك وعساه4. وكان يصحح جواز تقديم خبر كان ولو كان جملة, وكذلك توسطه بينها وبين اسمها، وكان الجمهور يمنع ذلك، غير أن ابن السراج كان يحتج بتقدم المعمول للخبر في قوله تعالى: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} , {وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} , وكان يقول: تقديم المعمول يؤذن بتقدم العامل5. وكان يجوز حذف مفعولي ظن وأخواتها ولو لم يكن هناك دليل على حذفهما، محتجا بقوله جل وعز: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} أي: يعلم وقوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} 6. وكان الجمهور يرى تعليق ظن وأخواتها عن العمل إذا تقدم المفعولين أداة استفهام أو ما وإن النافيتان

_ 1 المزهر 1/ 232. 2 الهمع 1/ 99. 3 المغني ص325, والهمع 1/ 10. 4 المغني ص162, والهمع 1/ 10. 5 الهمع 1/ 118. 6 الهمع 1/ 152.

أو لام الابتداء, وأضاف ابن السراج لا النافية في مثل: ظننت لا يقوم زيد1. ولم يكن الجمهور يصحح استعمال لا مكان ليس في مثل قولهم: قرأت كتابا ليس غير، بينما ذهب ابن السراج إلى أنها تستخدم مثلها في هذا الموضع, فيقال: قرأت كتابا لا غير، أي: إنه لم يكن يشترط في غير المبنية على الضم أن تكون تالية لليس وحدها دون لا2. وكان الجمهور يعرب مثل القرفصاء في قولهم: قعد القرفصاء مفعولا مطلقا، أما هو فكان يعربه صفة لموصوف محذوف هو المفعول المطلق، وتقديره: عنده قعد القعدة القرفصاء3. وذهب الجمهور إلى أن لما في مثل: "لما جاءني أكرمته" حرف وجود لوجود، بينما ذهب ابن السراج إلى أنها ظرف بمعنى حين4. ومر بنا أن الأخفش كان يجوز العطف على العائد المنصوب المحذوف وتوكيده والبدل منه، مثل: جاءني الذي ضربت وعمرا, ولقيت الذي كلمت نفسه، وكان ابن السراج يمنع ذلك منعا باتا5. وزاد على ما ذكره سيبويه من أبنية الأسماء وصيغها اثنين وعشرين بناء6، ونوه القدماء طويلا بكتابه الذي صنفه في الاشتقاق، وفيه يقول السيوطي: "هو أصح ما وُضع في هذا الفن من علوم اللسان", وكان يقول: "من اشتق اللفظ الأعجمي المعرب من العربي, كان كمن ادعى أن الطير من الحوت"7.

_ 1 الهمع 1/ 154. 2 الهمع 1/ 210. 3 أسرار العربية ص176. 4 المغني ص310. 5 الهمع 1/ 91. 6 المزهر 2/ 4. 7 المزهر 1/ 287.

السيرافي

4- السيرافي 1: هو أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان، وُلد بسيراف سنة 280 للهجرة، وكان أبوه مجوسيا يسمى بهزاد، فأسلم وتسمى باسم عبد الله. ويظهر أنه دفع ابنه إلى التعلم منذ نعومة أظفاره، ولم يلبث التلميذ الناشئ أن أكبّ على دروس اللغة والدراسات الدينية ببلدته، ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى خرج إلى عمان وتفقه على شيوخها، ثم تحول عنها إلى بغداد، فدرس اللغة على ابن دريد والنحو على ابن السراج والقراءات علي أبي بكر بن مجاهد، وتعمق في الفقه تعمقا جعله يُختار لتولي منصب القضاء في الجانب الشرقي لبغداد، ولم يلبث أن ولي قضاء الجانبين: الشرقي والغربي جميعا، وهو في أثناء ذلك يتولى تدريس الفقه الحنفي للطلاب بمسجد الرصافة نحو خمسين عاما. وبلغ من إجلال الناس له أن كانوا يخاطبونه بإمام المسلمين وشيخ الإسلام. وبجانب ذلك كان يعنى بالنحو ويفزع إليه الطلاب في تفسير عويصه وحل مشاكله ومستغلقاته. وكان يعتنق الاعتزال مما جعله شديد الصلة بالمنطق والمباحث الفلسفية، وهي صلة سلّحته بقوة الحجة وسلامة البرهان، مما أضرم فيه نار الجدل، وجعله يظفر دائما بمناظريه. ومناظرته التي أفحم فيها متى بن يونس مشهورة، وكان موضوعها النحو والمنطق أيهما أدق في معرفة صحيح الكلام من سقيمه وسديده من مدخوله، وكان يدافع فيها عن لنحو، وأغصه بريقه. وكان يشغف شغفا شديدا بكتاب سيبويه، فألف عليه شرحه المطول الذي لم يطبع إلى اليوم، وهو يضم فيه آراء مخالفيه من البصريين والكوفيين جميعا،

_ 1 انظر في ترجمة السيرافي: تاريخ بغداد 7/ 341, ونزهة الألباء ص307, ومعجم الأدباء 8/ 145, ومعجم البلدان في سيراف وابن خلكان في الحسن, والفهرست ص99, واللباب 1/ 586, والجواهر المضية في طبقات الحنفية 1/ 196, وإنباه الرواة 1/ 313, وشذرات الذهب 3/ 65, ومرآة الجنان 2/ 390, والنجوم الزاهرة 4/ 133, وبغية الوعاة ص221. وسيراف من بلاد فارس على ساحل البحر مما يلي كرمان.

متوقفا دائما للرد على الأخيرين. وألف مصنفا في شرح شواهد سيبويه ومصنفا ثانيا سماه المدخل إلى الكتاب. وترجم لنحاة البصرة في كتابه "أخبار النحاة البصريين". ومن مصنفاته كتاب ألفات الوصل والقطع وكتاب شرح مقصورة ابن دريد وكتاب الإقناع في النحو لم يتمه وكتاب صناعة الشعر والبلاغة وكتاب جزيرة العرب. وما زال يوالي نشاطه في التأليف والتصنيف, حتى توفي سنة 368 للهجرة. وتوجد من شرحه للكتاب نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية، كتبها عبد اللطيف البغدادي العالم الفيلسوف المعروف. وهو لا يتخذ في هذا الشرح منهجا ثابتا، إذ تارة يتقدم كلام سيبويه بموجز يوضحه، وتاره يبدأ بكلام سيبويه ويأخذ في شرحه وتوضيحه، وإذا كان كلام سيبويه واضحا لم يتعرض لشرحه، ومن أجل ذلك قد يترك فقرات وصفحات في الكتاب دون شرح وتفسير؛ لأنها في رأيه لا تحتاج تفسيرا ولا شرحا. وقد بذل جهدا خصبا في شرح كل ما غمُض أو استغلق في الكتاب. وهو يسوق شرحه في لغة بيّنة واضحة، ويفيض في الشرح عارضا بالتفصيل آراء من خلفوا سيبويه من نحاة البصرة والكوفة، وكثيرا ما يستخدم مع الأولين كلمة: قال أصحابنا، معلنا بصريته, ودائما يقف معهم مناصرا لهم ضد الكوفيين. واستقر في نفسه إلى أقصى حد أن سيبويه هو الإمام المتبوع وأن كتابه هو العَلم المنصوب، مما جعله يتصدى في مواطن كثيرة للرد على مخالفيه من الكوفيين، ومن البصريين أمثال الأخفش والمبرد. ومر بنا أن المبرد صنف كتابا في شبابه حاول فيه أن يتعقب سيبويه فيما سماه مسائل الغلط, وأن ابن ولاد تصدى له في كتابه "الانتصار" يرد عليه. وكثيرا ما نرى السيرافي يذكر تغليط المبرد لسيبويه، ويعمد إلى نقضه، وقد يقول في أثناء ذلك: وذكر الراد عليه، ويسوق رد ابن ولَّاد دون ذكر اسمه. وهو يخالف نحاة البصرة من أمثال المبرد في قبوله للقراءات الشاذة دون تغليطها على نحو ما صنع ذلك الأخفش من قبله. وقد اتسع السيرافي في كثرة ما أضافه من شواهد في شرحه للكتاب، كما

اتسع في بيان وجوه الإعراب الممكنة لها ولما يسوقه سيبويه من شواهد، وأيضا لبعض ما يجري في كلام سيبويه من ألفاظ، وتبدو الصورة الأخيرة واضحة منذ الخطوات الأولى في الشرح, إذ يقف عند لفظة "ما" في أول عنوان بالكتاب وهو "هذا باب علم ما الكلم من العربية" ويذكر لها خمسة عشر وجها من وجوه الإعراب. ونراه دائما يرد كل اعتراض يوجه إلى سيبويه في عباراته، فمن ذلك قوله في أوائل كتابه: "هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية" وهي عنده ثمانية مجارٍ, ويقصد بالمجاري حركات أواخر الكلم، واعترض عليه بعض المتعقبين بأن الحركات تجري والمجاري لا تجري وإنما يُجْرَى فيهن، وأجاب السيرافي على هذا الاعتراض بجوابين؛ أولهما: أن أواخر الكلم تنتقل من حركة إلى حركة، فجعل سيبويه كل حركة مجرى لذلك وجمعها على مجارٍ، وثانيهما: أن مجرى في معنى جرى، فهو مصدر والمصادر قد تجمع. ولا يلبث السيرافي أن يورد اعتراض المازني على سيبويه، لعده حركات البناء، وهي الفتح والكسر والضم والوقف أو السكون, مجاري؛ لأن الحركات في أواخر المبنيات كالحركات في أوائلها، والجري إنما يكون لما يحدث في شيء مرة ثم يزول عنه، والمبني لا يزول عن بنائه، فكان ينبغي أن يقتصر سيبويه على أربعة مجارٍ، وهي حركات الإعراب من الرفع والنصب والجر والجزم ويترك الأربعة الأخرى الخاصة بالبناء. وأجاب السيرافي على هذا الاعتراض بأن أواخر الكلم هي مواضع التغيير، ومن هنا يجوز إطلاق كلمة "مجاري" على حركات البناء، وإن كان بعضا لازما1. وكان السيرافي يتوسع في التعليل توسعا أسعفه فيه عقله الجدلي الخصب، فليس هنا شيء علله النحاة إلا وتذكر عللهم فيه، وتضاف إليها علل جديدة، وما لم يعللوه حاول جاهدا أن يجد له علة أو عللا تسنده, من ذلك أن نراه يعلل لعدم جر المضارع كما جر الاسم بسبع علل2، ويقف عند نصب جمع المذكر السالم بالياء دون الألف، ويذكر لذلك أربع علل، كما يذكر لعدم نصبه بالواو أربع علل أخرى، وأيضا فإنه يذكر لاختيار الألف دون الواو في

_ 1 شرح السيرافي على كتاب سيبويه "مخطوطة دار الكتب المصرية" المجلد الأول الورقة 14 وما بعدها. 2 السيرافي، المجلد الأول الورقة 28.

رفع المثنى ثلاث علل1. وتتكاثر أمثال هذه العلل الميتافيزيقية في كل جوانب الشرح. وينبغي أن نعرف أن وقوفه مع سيبويه لم يمنعه من مخالفته أحيانا والأخذ بآراء غيره أو برأي من عنده، من ذلك أنه كان يرد رأي سيبويه في أن كيف ظرف، ويذهب مذهب الأخفش في أنها اسم غير ظرف2. وكان سيبويه والخليل يريان أن الجزم في مثل: "ائتني أكرمْك" بنفس الطلب لتضمنه معنى إن الشرطية، وذهب السيرافي إلى أن المضارع مجزوم بالطلب لنيابته مناب الجازم الذي هو الشرط المقدر كما أن النصب بضربا في قولك: "ضربا زيدا" لنيابته عن اضربْ, لا لتضمنه معناه3. ومر بنا أن الخليل وتابعه سيبويه، كان يرى أن الجزم في فعل أكن في قوله تعالى: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} للعطف على معنى {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي} أي: إن أخرتني، وكان السيرافي يذهب إلى أن "أكن" معطوفة على محل {فَأَصَّدَّقَ} 4. وكان سيبويه يذهب إلى أن خفض خَرِب في قولهم: "هذا جُحر ضَبٍّ خربٍ" للجوار؛ لأن الكلمة نعت للجحر وجرت بملاحظة ما يجاورها، وقال السيرافي: بل هي نعت لضب، حذفت بقيته، إذ أصل العبارة: هذا جحر ضب خرب الجحر منه، ثم حذف الضمير في "منه" للعلم به، وحول الإسناد إلى ضمير الضب، وخفض الجحر, كما تقول: مررت برجل حسن الوجه، بالإضافة، والأصل "حسنٍ الوجهُ منه" ثم أُتي بضمير الجحر مكانه لتقدم ذكره فاستتر5, وهو تأويل فيه تكلف بيّن. وكان يذهب إلى أن كان الزائدة في مثل: "ما كان أحسن زيدا" تامة وفاعلها المصدر الدالة عليه أي: كان الكون6. وكان يمنع -خلافا للمبرد- دخول لام الابتداء بعد إن على معمول خبرها ما دامت قد دخلت على الخبر نفسه7. وكان يجعل لفظة الشر في مثل: "إياك والشر" معطوفة على إياك, لا معمولة لفعل

_ 1 السيرافي، المجلد الأول الورقة 130 وما بعدها. 2 المغني ص226, والهمع 1/ 214. 3 المغني ص249. 4 المغني ص529. 5 المغني ص761. 6 الهمع 1/ 120. 7 الهمع 1/ 139.

مضمر على تقدير من قدّر عبارتها: إياك باعدْ من الشر واحذر الشر1. ولم يكن يجيز في "غير" المبنية على الضم أن يقال بجانب "ليس غير" في مثل: "قرأت كتابا ليس غير" لم يكن غير2. وكان يجيز دخول لام الابتداء على السين في مثل "لسأقوم" كما تقول: لسوف أقوم3. وقد أكثر من تخريجاته لوجوه الإعراب في الصيغ والعبارات، من ذلك نصب {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} في الآية الكريمة: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وكان الخليل كما قدمنا يجعلها منصوبة على المدح بتقدير: واذكر "المقيمين الصلاة", وجوز السيرافي أن تكون مجرورة بالعطف على ما, فيكون معناه "يؤمنون بما أنزل إليك" وبالمقيمين الصلاة أي: بمذاهبهم وبدينهم4. وواضح أنه تخريج بعيد. وكان الخليل وسيبويه يذهبان إلى أن ليت إذا اتصلت بها "ما" جاز عملها وإلغاؤها، وإلغاؤها أحسن كقول بعض الشعراء: قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد وواضح أن الشاعر ألغى ليت وجعل هذا مبتدأ ولنا خبرا. وجوز السيرافي أن تكون ما اسما موصولا بمنزلة الذي، وهذا الحمام خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: ألا ليت الذي هو هذا الحمام لنا5، وهو تخريج بعيد. وكان المبرد يعرب: "من لي إلا أبوك صديقا" من مبتدأ وأبوك خبره وصديقا حال، وجوز السيرافي أن تكون من مبتدأ ولي خبره وأبوك بدلا من مَنْ6، وهو أيضا تخريج بعيد. على أن كثرة تخريجاته لوجوه الإعراب جعلته يدلي بطائفة من الآراء الطريفة، من ذلك أنه كان يرى أن عبارة "مذ يومان" في قولك: "ما رأيته مذ يومان" في موضع الحال7، وكان يرى أن جملة أفعال الاستثناء مثل ليس ولا يكون وخلا وعدا في موضع نصب حال، وجوز فيها أن تكون مستأنفة8. وكان يقول: إن

_ 1 الهمع 1/ 169. 2 الهمع 1/ 232. 3 الهمع 2/ 72. 4 تقريرات السيرافي على كتاب سيبويه "طبعة بولاق" 1/ 249. 5 نفس المصدر 1/ 283 وما بعدها. 6 نفس المصدر 1/ 372. 7 المغني ص431. 8 المغني ص432.

ما في مثل "ما خلا" مصدرية، وتقدير الحال في كل هذه الأفعال حين تقول: قام القوم ليس زيدا أو ما خلا زيدا ونحوهما هو: خالين عن زيد1. وبالسيرافي تنتهي مدرسة البصرة، وتصل إلى غايتها من تأصيل القواعد ومد الفروع المتشابكة, وكانت تقابلها منذ الكسائي وما ألهمه به الأخفش من الخلاف على سيبويه مدرسة الكوفة. ومن الحق أن مدرسة البصرة هي التي شادت، كما أسلفنا، بناء النحو الشاهق، وقد تسلمت منها مدرسة الكوفة، ثم المدرسة البغدادية وما خلفها من المدرستين الأندلسية والمصرية هذا البناء كاملا، ومضت كل مدرسة تحاول أن تدخل على هذا البناء من الإضافات ما يتيح لها أن تكون ذات منهج جديد.

_ 1 المغني ص772.

القسم الثاني: المدرسة الكوفية

القسم الثاني: المدرسة الكوفية الفصل الأول: نشأة النحو الكوفي وطوابعه 1- النشأة: تركت الكوفة للبصرة وضع نقط الإعراب في الذكر الحكيم ووضع نقط الإعجام، والأنظار النحوية والصرفية الأولى التي تبلورت عند ابن أبي إسحاق والتي أقام عليها قانوني القياس والتعليل، إذ كانت في شغل عن كل ذلك بالفقه ووضع أصوله ومقاييسه وفتاواه وبالقراءات وروايتها رواية دقيقة، مما جعلها تحظى بمذهب فقهي هو مذهب أبي حنيفة وبثلاثة من القراء السبعة الذين شاعت قراءاهم في العالم العربي، وهم: عاصم وحمزة والكسائي. وعُنيت بجانب ذلك عناية واسعة برواية الأشعار القديمة وصنعة دواوين الشعر، وإن كانت لم تعن بالتحري والتثبت فيما جمعت من أشعار، حتى ليقول أبو الطيب اللغوي: "الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة, ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بيّن في دواوينهم"1. وعادة تذكر كتب التراجم أولية للنحو الكوفي مجسدة في أبي جعفر الرواسي ومعاذ الهراء. أما الرواسي فيقول مترجموه2: إنه أخذ النحو عن عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء، وعاد إلى الكوفة فتتلمذ عليه الكسائي، وألف لتلاميذه كتابا في النحو سماه "الفيصل"3. وكان يزعم أن كل ما في كتاب سيبويه من قوله: "وقال الكوفي" إنما يعنيه، غير أن الكتاب يخلو خلوا تاما من هذه

_ 1 مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي ص74. 2 انظر في ترجمته: الزبيدي ص135, والفهرست ص102, ونزهة الألباء ص54, ومراتب النحويين ص24. 3 انظر رأي الكسائي فيه, وأنه كان مختصرا قليل القيمة في مجالس العلماء للزجاجي "طبع الكويت" ص266, وانظر ص269.

الكلمة وإن كان قد ذكر أهل الكوفة مع بعض القراءات في ثلاثة مواضع1. ومن المؤكد أنه لم يدل في النحو بآراء ذات قيمة، بدليل أن اسمه لم يدر في كتب النحاة التالية لعصره، وفيه يقول أبو حاتم: "كان بالكوفة نحوي يقال له: أبو جعفر الرواسي، وهو مطروح العلم ليس بشيء"2. وكان يعاصره معاذ3 الهراء المتوفى سنة تسعين ومائة، ويظهر أنه اختلف مثل سالفه إلى نحاة البصرة، فتلقن عنهم النحو والصرف، ثم رجع إلى الكوفة، وقعد للإملاء، وأخذ عنه فيمن أخذوا الفراء، وكل ما أثر عنه أنه كان يعرض لبعض مسائل التصريف, وأنه سأل يوما بعض مناظريه: "كيف تقول من "تؤزهم أزا": يا فاعل افعل؟ وصلْها بيا فاعل افعل من "إذا الموءودة سئلت""4. وبنى السيوطي على هذا الخبر أنه واضع علم الصرف، والخبر لا يسنده كتاب وضعه في هذا العلم، وهو لا يعدو معرفته بالتصريف، وكتاب سيبويه زاخر به وبما لا يكاد يحصى من أمثلته وأبنيته، ومنه خلصها المازني ووضع فيها كتابه "التصريف". ومما يؤكد وهم السيوطي فيما ادعاه أنه ليس لمعاذ في كتب التصريف آراء تنسب إليه ذات قيمة، وكأن علمه بالصرف مثل علم الرواسي في النحو كان علما محدودا لا غناء فيه ولا شيء يميزه من علم البصرة. إنما يبدأ النحو الكوفي بدءا حقيقيا بالكسائي وتلميذه الفراء. فهما اللذان رسما صورة هذا النحو ووضعا أسسه وأصوله، وأعداه بحذقهما وفطنتهما لتكون له خواصه التي يستقل بها عن النحو البصري، مرتبين لمقدماته، ومدققين في قواعده، ومتخذين له الأسباب التي ترفع بنيانه.

_ 1 كتاب سيبويه للنجدي ص97. 2 مراتب النحويين ص24. 3 انظر في ترجمته: الزبيدي ص135, والفهرست ص102, ونزهة الألباء ص52, وإنباه الرواة 3/ 288 وما به من مراجع. 4 في الزبيدي جواب المسألة المذكورة: يا آز أزّ بفتح الزاي في الفعل، وإن شئت ضممت الزاي أو كسرتها وقلت: أو زُزْ، فالفتح لأنه أخف الحركات, والكسر لأنه أحق بالتقاء الساكنين، والضم للإتباع. وكذلك في الموءودة تقول: يا وائد إدْ، بكسر الهمزة وسكون الدال مثل: يا واعد عد بكسر العين في الفعل وسكون الدال.

النحو الكوفي يشكل مدرسة مستقلة

2- النحو الكوفي يشكل مدرسة مستقلة: أجمع القدماء على أن نحو الكوفيين يشكل مذهبا مستقلا, أو كما نقول بلغة العصر مدرسة مستقلة سواء منهم أصحاب كتب الطبقات والتراجم مثل ابن النديم في كتابه الفهرست والزبيدي في كتابه طبقات النحويين واللغويين أو أصحاب كتب المباحث النحوية، إذ نراهم دائما يعرضون في المسائل المختلفة وجهتي النظر المتقابلتين في المدرستين: الكوفية والبصرية. وقد أفرد أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري مجلدا ضخما عرض فيه الخلاف بين المدرستين في إحدى وعشرين ومائة مسألة، وهو إنما عرض أهم ما اختلفتا فيه من مسائل في رأيه, ووراءها مسائل أخرى كثيرة مبثوثة في الكتب النحوية لم ير التوسع بذكرها. ونعجب أن نرى "فايل" ناشر هذا الكتاب لأول مرة, يزعم في مقدمته له أن الكوفة لم تؤسس لنفسها مدرسة نحوية خاصة وأن خلافات نحاتها وخاصة الكسائي والفراء مع الخليل وسيبويه إنما هو امتداد لما سمعاه من أستاذهما البصري يونس بن حبيب الذي نص القدماء على أن له قياسا في النحو خاصا به ومذاهب ينفرد بها. واستدل على ذلك بأن جميع المواضع التي ذكر ابن الأنباري اسمه فيها بكتابه يذكر معه فيها الكوفيين متابعين له في آرائه، وهي لا تعدو أربعة آراء! واستدل أيضا بأن الزمخشري قرن به الكوفيين في خمس مسائل بكتابه المفصل. وهو استدلال واضح الضعف، إذا قسنا ما وقف فيه الكوفيون معه إلى ما وقفوه مع الخليل وسيبويه، فالكتب النحوية إنما تذكر خلافهم لهما ولا تذكر مواضع اتفاقهم معهما، وهي أكثر من أن يحاط بها. ونفس سيبويه نقل عن يونس في كتابه نحو مائتي رواية تتخللها آراؤه التي كان يتفرد بها دونه ودون أستاذه الخليل. والحق أننا إذا أردنا أن نبحث بين البصريين عن موجِّه للكسائي والفراء في إنشاء المذهب الكوفي مَثَل توا أمامنا الأخفش الأوسط الذي روى عنه الكسائي

إمام الكوفة الأول كتاب سيبويه، فهو الذي فتح له وللفراء أبواب الخلاف مع سيبويه والخليل على مصاريعها، وبذلك أعدهما للخلاف عليهما وتنمية هذا الخلاف بحيث نفذا إلى مذهبهما النحوي الجديد. وإذا كان فايل لاحظ أن بعض الكتب النحوية ذكرت اتفاق يونس والكوفيين في مسائل لا تعدو أصابع اليد الواحدة, فقد مر بنا في ترجمة الأخفش اتفاق الكسائي والفراء والكوفيين معه في نحو ثلاثين مسألة. وليس ذلك فحسب، فإنه هو أيضا الذي ألهم -كما مر بنا- الكوفيين المتأخرين الاعتداد بالقراءات الشاذة للذكر الحكيم، مما يجعله بحق الموجه الحقيقي للكوفيين في إحداث مدرستهم سواء من حيث أخذها بالقراءات الشاذة, أو من حيث التوسع في الرواية والاعتماد على الشواذ في مخالفة سيبويه وأستاذه الخليل. أما ما زعمه فايل من أن الكوفة لم تكن لها مدرسة نحوية خاصة, فقد بنى زعمه فيه على كثرة الخلافات بين أئمتها على نحو ما سيلقانا بين الكسائي وتلميذه الفراء، وكأنها لا تؤلف جبهة علمية موحدة، إنما كل ما هناك اتجاه للخلاف على البصرة تمادوا فيه. وهو دليل منقوض، فقد كان نحاة الكوفة يكونون جبهة طالما تناظر أفرادها مع أفراد جبهة البصرة، وأكثر ابن جني وغيره من ذكر آرائها، بل لقد أفرد لها العلماء المصنفات على نحو ما مر بنا آنفا عند أبي البركات بن الأنباري في كتابه الإنصاف. على أن فايل نفسه يعود فيثبت للفراء مذهبا في النحو خالف به الكسائي ومعاصريه، وليس هذا المذهب إلا مذهب المدرسة الكوفية التي أنكرها، تكامل تشكله عنده. أما أنه خالف أستاذه الكسائي في بعض المسائل فهذا من حقه، على نحو ما خالف سيبويه أستاذه الخليل، وعلى نحو ما خالفهما معا تلميذهما الأخفش في كثير من المسائل، وهم جميعا أئمة المدرسة البصرية. وسنرى في غير هذا الموضع أن الفراء يقوم في الكوفة مقام سيبويه في البصرة، فهو الذي أعطى المدرسة الكوفية تشكلها النهائي إلا بعض إضافات زادها الكوفيون بعده وفي مقدمتهم ثعلب. وغلا بعض المعاصرين في كتاب له عن الفراء فأخرجه من المدرسة الكوفية, وجعله إمام المدرسة البغدادية التي تكونت بعده بنحو مائة عام, والتي أقامت

مذهبها النحوي على عُمُد الانتخاب من آراء المدرستين الكوفية والبصرية. وإنما أوقعه في ذلك أنه رأى الفراء يتأثر بالمدرسة البصرية في بعض آرائه ومنازعه1، كأن يعمد أحيانا في الإعراب إلى تقدير العوامل المحذوفة، أو يرفض بعض اللغات الشاذة، أو يأخذ بالقياس وضبط القواعد، أو يخطئ شاعرا في تعبير. وكل ما رواه من ذلك ليس فيه شيء انتخبه الفراء من آراء المدرسة البصرية وأقوال أئمتها النحويين، وإنما هو فيه يدلي بآرائه الخاصة. وأبعد في الغلو فقال: إنه تأثر بالبصريين في تخطئة بعض القراءات متورطا في ذلك مع بعض الباحثين، ورأينا في ترجمة الأخفش كيف كان يوجه القراءات التي لا تجري على مقاييس مدرسته، وليس في كتاب سيبويه تخطئة واحدة لقراءة من القراءات مع كثرة ما استشهد به منها, وقد صرح بقبولها جميعا مهما كانت شاذة على مقاييسه، إذ قال: إن "القراءة لا تخالف؛ لأنها سنة"2. ويظهر أن الكسائي هو الذي بدأ تخطئة القراء, إذ نرى الفراء يتوقف في كتابه معاني القرآن مرارا ليقول: إن الكسائي كان لا يجيز القراءة بهذا الحرف أو ذاك، يقول تعليقا على قراءة يكون بالرفع والنصب في قوله تعالى في سورة النحل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} , وقول جل وعز في سورة يس: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فَيَكُونَ": بالنصب "لأنها مردودة "أي: معطوفة" على فعل قد نُصب بأن، وأكثر القراء على رفعهما، والرفع صواب، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله "في سورة النحل": إذا أردنا أن نقول له كن، فقد تم الكلام، ثم قال: فيكون ما أراد الله. وإنه لأحب الوجهين إلي، وإن كان الكسائي لا يجيز الرفع فيهما ويذهب إلى النسق "أي: العطف على الفعل المنصوب بأن""3. وكأن الفراء هنا يخطئ أستاذه ويصحح القراءة، وسنرى في ترجمته أنه أنكر عدة قراءات. ومن هنا كنا نؤمن بأنه هو وأستاذه اللذان فتحا للبصريين التالين لهما تخطئة بعض القراءات من أمثال

_ 1 كتاب أبي زكريا الفراء ومذهبه في النحو واللغة ص377 وما بعدها. 2 ابن الجزري 1/ 603. 3 معاني القرآن للفراء "طبعة دار الكتب المصرية" 1/ 75.

المازني والمبرد والزجاج، بينما أغلق الكوفيون الذين خلفوهما هذا الباب، بل لقد مضوا يتوسعون في الاحتجاج بالقراءات الشاذة مقتدين بالأخفش. ولعل في ذلك ما يسقط التهمة التي اتهم بها بعض المعاصرين نحاة البصرة عامة، إذ زعموا أنهم كانوا يطعنون على القراءات، كما زعموا أن الكوفيين عامة كانوا يقبلونها ويحتجون بها. وسنرى أن الفراء الكوفي هو الذي بدأ بقوة تخطئة القراء. وينبغي أن نعرف أن حروفا معدودة هي التي وقف عندها الكسائي والفراء ومن تلاهما من البصريين بحيث يكون من الإسراف أن يقال: إنهم كانوا يخطِّئون القراء، إنما الذي ينبغي أن يقال: إنهم وقفوا عند بعض حروف في قراءات القرآن الكريم، رغبة منهم في التحري الدقيق للفظ الذكر الحكيم ونطقه. على كل حال ليس الفراء بصريا ولا بغداديا، إنما هو كوفي، بل إن المدرسة الكوفية في النحو لم يتم تشكلها إلا به وبآرائه ومقاييسه وما اعتمده من تفسير لبعض الظواهر اللغوية وما وضعه من مصطلحات نحوية خالف بها مصطلحات البصريين، مما يجعله الإمام الحقيقي لهذه المدرسة. وحقا سبقه فيها أستاذه الكسائي، ولكن لم يكن له دقة عقله وغور ذهنه، بحيث يرسي قواعد المدرسة ويرفع أركانها. وإذا أخذنا نحقق هذه القواعد والأركان وجدنا ثلاثة طوابع كبيرة تشيع فيها هي: طابع الاتساع في الرواية، بحيث تفتح جميع الدروب والمسالك للأشعار واللغات الشاذة، وطابع الاتساع في القياس بحيث يقاس على الشاذ والنادر دون تقيد بندرته وشذوذه، ثم طابع المخالفة في بعض المصطلحات النحوية وما يتصل بها من العوامل. وينبغي أن يستقر في الأذهان أن المدرسة الكوفية لا تباين المدرسة البصرية في الأركان العامة للنحو، فقد بنت نحوها على ما أحكمته البصرة من تلك الأركان، التي ظلت إلى اليوم راسخة في النحو العربي، غير أنها مع اعتمادها لتلك الأركان استطاعت أن تشق لنفسها مذهبا نحويا جديدا، له طوابعه وله أسسه ومبادئه. وإذن فمن الخطأ أن يرى معاصرٌ الكسائيَّ أو الفراء يتأثر بالنحو البصري، فيظن أنهما ليسا كوفيين وأنهما مقدمة المذهب البغدادي أو المدرسة البغدادية، فإن هذا التأثر عندهما وعند جميع أئمة الكوفة شيء طبيعي، ومعروف أن

الكسائي تتلمذ للخليل بن أحمد وأنه قرأ كتاب سيبويه على الأخفش، وقد رحل الفراء إلى البصرة وتتلمذ على يونس بن حبيب وأكب على كتاب سيبويه يقرؤه ويدرسه، كما أكب عليه جميع أئمة الكوفة من بعده. ومعنى ذلك أن الصلة بين المدرسة الكوفية والمدرسة البصرية في النحو ظلت قائمة على مدار الزمن, وأن من الطبيعي أن نجد دائما عند نحاة الكوفة تأثرات مختلفة بالمذهب البصري، ولكنهم مع ذلك استطاعوا أن يتبينوا شخصياتهم إزاءه، وأن ينفذوا إلى مذهب مستقل بهم، له طوابعه وخصائصه التي تفرده عن المذهب البصري إفرادا متميزا واضحا.

الاتساع في الرواية والقياس

3- الاتساع في الرواية والقياس: لعل أهم ما يميز المدرسة الكوفية من المدرسة البصرية اتساعها في رواية الأشعار وعبارات اللغة عن جميع العرب بدويهم وحضريهم، بينما كانت المدرسة البصرية تتشدد تشددا جعل أئمتها لا يثبتون في كتبهم النحوية إلا ما سمعوه من العرب الفصحاء الذين سلمت فصاحتهم من شوائب التحضر وآفاته، وهم سكان بوادي نجد والحجاز وتهامة من "قيس وتميم وأسد, فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخذ ومعظمه وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم، وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم"1. وليس معنى ذلك أن أئمة الكوفة لم يكونوا يرحلون إلى هذه القبائل الفصيحة، فقد كانوا يكثرون من الرحلة إليها، على نحو ما يحدثنا الرواة عن الكسائي، فقد قالوا: إنه خرج إلى نجد وتهامة والحجاز "ورجع وقد أنفذ خمس عشرة قنينة حبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ"2. ولكن معناه أن الكوفيين وفي

_ 1 المزهر للسيوطي "طبعة الحلبي" 1/ 211. 2 إنباه الرواة 2/ 258.

مقدمتهم إمامهم الكسائي كانوا لا يكتفون بما يأخذون عن فصحاء الأعراب، إذ كانوا يأخذون عمن سكن من العرب في حواضر العراق، وكثير منهم كان البصريون لا يأخذون عنهم ولا عن قبائلهم المقيمة في مواطنها الأصلية مثل تغلب وبكر؛ لمخالطتهما الفرس ومثل عبد القيس النازلة في البحرين لمخالطتها الفرس والهند1. وقد حمل البصريون على الكوفيين حملات شعواء حين وجدوهم يتسعون في الرواية على هذه الشاكلة، وخصوا الكسائي بكثير من هذه الحملات، قائلين: "إنه كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز، من الخطأ واللحن وشعر غير أهل الفصاحة والضرورات، فيجعل ذلك أصلا، ويقيس عليه حتى أفسد النحو"2. وقالوا: إنه لقي عشيرة من بني عبد القيس تسمى الحطمة كانت نازلة ببغداد، فأخذ عنها كثيرا من الخطأ واللحن3، مما اتضح أثره في مناظرته المشهورة لسيبويه، فإن سيبويه تمسك فيها بما سمعه عن العرب الفصحاء في مثل: "قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور, فإذا هو هي" حتى إذا قال الكسائي: إنه يجوز "فإذا هو إياها" أنكر ذلك إنكارا شديدا. وسرعان ما استعان عليه الكسائي بأعراب عشيرة الحطمة، فأيدوه, وتأييدهم لا قيمة له في رأي سيبويه ومدرسته؛ لأنهم ليسوا من الفصحاء المتبدين في قيعان نجد وتهامة والحجاز، ممن يؤخذ عن لسانهم النحو واللغة. وكان ذلك بدءا لخلاف واسع بين المدرستين، فالبصرة تتشدد في فصاحة العربي الذي تأخذ عنه اللغة والشعر، والكوفة تتساهل، فتأخذ عن الأعراب الذين قطنوا حواضر العراق، مما جعل بعض البصريين يفخر على الكوفيين بقوله: "نحن نأخذ اللغة عن حرشة "أكلة" الضباب وأكلة اليرابيع "أي: البدو الخلص", وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز4 وباعة الكواميخ5 "أي: عرب المدن"". ولم تقف المسألة عند حد الاتساع في الرواية، بل امتدت إلى الاتساع

_ 1 المزهر 1/ 212. 2 معجم الأدباء 13/ 183. 3 معجم الأدباء 13/ 182, وإنباه الرواة 2/ 274. 4 الشواريز: جمع شيراز، وهو اللبن الرائب المصفى. 5 الكواميخ: جمع كامخ, وهو مخلل يشهي الطعام.

في القياس وضبط القواعد النحوية، ذلك أن البصريين اشترطوا في الشواهد المستمد منها القياس أن تكون جارية على ألسنة العرب الفصحاء, وأن تكون كثيرة بحيث تمثل اللهجة الفصحى, وبحيث يمكن أن تُستنتج منها القاعدة المطردة. وبذلك أحكموا قواعد النحو وضبطوها ضبطا دقيقا، بحيث أصبحت علما واضح المعالم بيِّن الحدود والفصول. وجعلهم ذلك يرفضون ما شذ على قواعدهم ومقاييسهم لسبب طبيعي، وهو ما ينبغي للقواعد في العلوم من اطرادها وبسط سلطانها على الجزئيات المختلفة المندرجة فيها. ولم يقفوا عند حد الرفض أحيانا، إذ وصفوا بعض ما شذ على قواعدهم مما جرى على ألسنة بعض العرب بأنه غلط ولحن، وهم لا يقصدون اتهامهم بذلك حسب المدلول الظاهر للكلمتين، إنما يقصدون أنه شاذ على القياس الموضوع وخارج عليه فلا يلتفت إليه. وتوقف كثير من المعاصرين الذين يخوضون في المباحث النحوية عند هذين اللفظين, وحاولوا الرد على البصريين غير متنبهين لمدلول الكلمتين عندهم ومقصدهم منهما. وكل من يعرف كيف توضع القواعد في العلوم يدرك دقة البصريين في وضعهم لقواعد النحو والتمكين لما ينبغي لها من صحة وسلامة وسداد، بحيث يطرد سلطانها وينبسط على جميع الألسنة، وبحيث تصبح هي المتحكمة إزاء جميع العيون وتجاه جميع الأسماع، وبحيث لا يفسدها شذوذ قد يندّ على بعض الأفواه. وقد وقف الكوفيون من هذا البناء العلمي المحكم موقفا يدل على نقص فهمهم لما ينبغي للقواعد العلمية من سلامة واطراد، إذ اعتدوا بأقوال وأشعار المتحضرين من العرب، كما اعتدوا بالأشعار والأقوال الشاذة التي سمعوها على ألسنة الفصحاء، مما خرج على قواعد البصريين وأقيستهم ومما نعتوه بالخطأ والغلط. ولم يكتفوا بذلك, فقد حاولوا أن يقيسوا عليها وقاسوا كثيرا، مما أحدث اختلاطا وتشويشا في نحوهم، لما أدخلوه على القواعد الكلية العامة من قواعد فرعية قد تنقضها نقضا، مع ما يئول إليه ذلك من خلل في القواعد وخلل في الأذهان، بحيث لا تستطيع فهم ذلك إلا بأن يُعكَس عليها مرارا وتكرارا؛ لاختلاط القواعد وتضاربها، وأحس ذلك القدماء في وضوح فقالوا: "لو سمع الكوفيون بيتا واحدا

فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا, وبوبوا عليه"1 وقالوا: "عادة الكوفيين إذا سمعوا لفظا في شعر, أو نادر كلام جعلوه بابا أو فصلا"2. ولعلنا بذلك نستطيع أن نفهم السر في أن نحو المدرسة البصرية هو الذي ظل مسيطرا على المدارس النحوية التالية, وعلى جميع الأجيال العربية التي جاءت من بعدهم؛ لأن قواعدهم هي القواعد المطردة مع الفصحى، ونقصد الكثير فيها الذي استُخرجت منه تلك القواعد استخراجا مصفى مروقا أروع ما يكون الترويق والتصفية. على أنه ينبغي أن نعرف أن المدرسة البصرية حين نحّت الشواذ عن قواعدها لم تحذفها ولم تسقطها، بل أثبتتها، أو على الأقل أثبتت جمهورها، نافذة في كثير منها إلى تأويلها، حتى تنحي عن قواعدها ما قد يتبادر إلى بعض الأذهان من أن خللا يشوبها، وحتى لا يغمض الوجه الصحيح في النطق على أوساط المتعلمين، إذ قد يظنون الشاذ صحيحا مستقيما، فينطقون به ويتركون المطرد في لغة العرب الفصيحة وتصاريف عباراتهم وألفاظهم. ومن هنا يتضح خطر قواعدهم بالقياس إلى ما زاده الكوفيون من قواعد استنبطوها من الشواذ النادرة، إذ إن ذلك يعرض الألسنة للبلبلة، لما يعترضها من تلك القواعد التي قد تخنق القواعد العامة. وقد ينجذب إليها بعض من لم يفقه الفرق بين القاعدة الدائرة على كثرة الأفواه, بل على كثيرها الأكثر, والقاعدة التي لم يرد منها إلا شاهد واحد، مما قد يئول إلى اضطراب شديد في الألسنة. وكأنما غاب غور هذا العمل وما أُرسي به من علم النحو على بعض المعاصرين, فإذا هو يطعن على البصريين لذلك الموقف بينما يحمد للكوفيين موقفهم, مطريا لهم, زاعما أنهم كانوا أدق من البصريين في فقه طبيعة العربية والإحساس بدقائقها التي لا تخضع دائما لمنطق العقل. وهو كلام لا يقوله إلا من لا يعرف كيف توضع القواعد في العلوم, وأنه ينبغي أن يرفع عنها كل ما يعترضها من اضطراب، بحيث تبسط سلطانها على جميع العناصر والجزئيات بسطا تاما كاملا. وما

_ 1 الاقتراح للسيوطي "طبعة حيدر آباد" ص84. 2 همع الهوامع 1/ 45.

أعرف كتابا يعلم دقة الحس اللغوي على نحو ما يعلمها كتاب سيبويه، بحيث لا أغلو إذا قلت: إنه يلقن قارئه سليقة العربية, والحس بها حسا دقيقا مرهفا, والشعور بها شعورا رقيقا حادا. ونحن نخلص من ذلك كله إلى أن المدرسة الكوفية توسعت في الرواية وفي القياس توسعا جعل البصرة أصح قياسا منها؛ لأنها لم تقس على الشواذ النادرة في العربية وطلبت في قواعدها الاطراد والعموم والشمول، كما جعلها أكثر تحريا منها للرواية عن الأعراب وأكثر تثبتا؛ لأنها لم ترو إلا عمن خلصت عربيتهم من شوائب التحضر، ولم تفسد طبائعهم بل ظلت مصفاة منقاة، ولا فسدت ألسنتهم، بل ظلت تجري على عرق العروبة الأصيل وإرثها القديم. والحق أن المدرسة البصرية كانت أدق حسا من المدرسة الكوفية في الفقه بدقائق العربية وأسرارها, فقد تعمقت ظواهرها وقواعدها النحوية والصرفية تعمقا أتاح لها أن تضع نحوها وضعا سديدا قويما، بل لقد بلغ من تعمقها أن أخذت تصحح ما ندَّ عن بعض الشعراء عن طريق التأويل والتخريج والتحليل الدقيق البصير، لا على أسس عقلية فحسب، بل أيضا على أسس سليقية، مما سال في فِطَر عباقرتها من أمثال الخليل واضع العروض, وسيبويه مشرع النحو وصائغ قواعده وقوانينه. ويكفي أن نرجع إلى الكتاب ونقرأ فيه تحليلات هذين العَلَمين البصريين؛ لنرى كيف تمثلا العربية تمثلا رائعا، وكيف كانا يتذوقان صياغاتها تذوقا بارعا. والكتاب يزخر بملاحظاتهما التي لا تقف عند الإحاطة بالخصائص اللغوية والنحوية، بل تمتد أيضا إلى الخصائص البيانية والأدبية مع ما يتناثر في أثناء ذلك من خواطر ما كانت لترد لهما على بال, لو لم يكونا قد استوعبا طبيعة اللغة وأتقنا العلم بجواهرها وأعراضها وخفاياها وظواهرها إتقانا يبلغ حد الكمال. وكل من يحاول أن يرفع أحدا من معاصريهما عليهما في البصر بالعربية وتذوقها والحس بها يكون مجانبا للصواب، بل متورطا في خطأ عظيم. وينبغي أن نعرف أن الكوفيين لم يقفوا بقياسهم عند ما سمعوه ممن فسدت سلائقهم من أعراب المدن, أو ما شذ على ألسنة بعض أعراب البدو،

فقد استخدموا القياس أحيانا بدون استناد إلى أي سماع، ونضرب لذلك مثلا قياسهم العطف بلكن في الإيجاب على العطف ببل في مثل: "قام زيد بل عمرو", فقد طبقوا ذلك على لكن وأجازوا: "قام زيد لكن عمرو" بدون أي سماع عن العرب، يجيز لهم هذا القياس1. وربما كان من أهم ما يدل على أنهم كانوا يرفضون السماع أحيانا؛ وبالتالي يرفضون ما يُبنى عليه من قواعد وأحكام, أنهم رفضوا الاعتداد بما رواه سيبويه في الكتاب من إعمال أسماء المبالغة في أقوال العرب الفصحاء وأشعارهم، فقد روى قولهم في الاختيار: "أما العسلَ فأنا شرَّاب" بنصب العسل مفعولا به لشراب، كما روى طائفة من الأشعار، عملت فيها صيغ: فعول ومفعال وفعيل وفعل، وعلى الرغم من ذلك كان الكسائي والفراء ينكران عمل هذه الأسماء محتجين هم وأصحابهم بأنها فرع عن أسماء الأفعال, وأسماء الأفعال فرع عن الفعل المضارع؛ ولذلك ضعف عملها2. ومما رفضوا فيه السماع لا سماع أبيات قد تكون شاذة، بل سماع إحدى القراءات إعمال إن المخففة من الثقيلة النصب، فقد زعموا أن الثقيلة إنما عملت لشبهها بالفعل الماضي في بنائها على ثلاثة أحرف وأنها مبنية على الفتح مثله، فإذا خففت زال شبهها به فوجب أن يبطل عملها، ولم يلتفتوا لاحتجاج البصريين عليهم بقراءة نافع وابن كثير، وهي من القراءات السبع: "وإِنْ كُلًّا لما ليوفينَّهم ربُّك أعمالهم"3. وكأنما حجبهم التعليل المنطقي الخالص، سواء في هذه المسألة أو في سابقتها، عن منطق اللغة وتصاريف عباراتها الفصيحة السليمة. وفي هذا ونحوه ما يردّ أقوى رد على من يزعمون أن الكوفيين كانوا أكثر بصرا بروح اللغة وأدق حسا, وأنهم لم يخضعوا -مثل البصريين- للمنطق والفلسفة، فقد كانوا يخضعون بدورهم لهما، بل ربما زادوا عنهم خضوعا أحيانا على نحو ما تصور ذلك المسألتان السالفتان. ومعروف أن الفراء، وهو الواضع الحقيقي للنحو الكوفي، كان معتزليا ومتكلما متفلسفا، بل قال المترجمون له: إنه كان

_ 1 المغني ص324, والهمع 2/ 137. 2 مجالس ثعلب ص150، 236, وانظر الكتاب 1/ 56. 3 الإنصاف: المسألة رقم 24.

يتفلسف في تصانيفه ويصطنع فيها ألفاظ الفلاسفة. ومن يرجع إلى كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين, يجد فيه عتادا غزيرا من الحجج المنطقية العقلية التي أدلى بها الكوفيون في حوارهم وجدالهم الواسع مع البصريين, مما ينقض الزعم السالف نقضا. ومعنى ذلك أنه ينبغي أن نحذر مبالغات المتشيعين للكوفيين حين يزعمون أنهم كانوا يبنون قياسهم دائما على السماع، فقد كانوا يجافونه أحيانا ويضربون عنه صفحا, مهتدين بالمنطق العقلي الخالص. ومن يرجع إلى كتاب سيبويه يجده مع ما يمتلئ به من حجج منطقية رائعة لا يدلي بقياس ولا قاعدة نحوية عامة دون سماع من أفواه الفصحاء الخلص, وما يخوضون فيه من الشعر والكلام.

المصطلحات وما يتصل بها من العوامل والمعمولات

4- المصطلحات, وما يتصل بها من العوامل والمعمولات: لعل مما يدل أكبر الدلالة على أن الكوفيين كانوا يقصدون قصدا إلى أن تكون لهم في النحو مدرسة يستقلون بها, أنهم على الرغم من تلمذة أئمتهم الأولين على أيدي البصريين وعكوفهم جميعا على كتاب سيبويه ينهلون منه ويعلون, حاولوا جاهدين أن يميزوا نحوهم بمصطلحات تغاير مصطلحات البصريين والنفوذ إلى آراء خاصة بهم في بعض العوامل والمعمولات. ونحن نعرض لأهم مصطلحاتهم التي تداولوها على ألسنتهم وسُجلت في تصانيفهم وتصانيف من خلفوهم من النحاة، فمن ذلك اصطلاح "الخلاف" وهو عامل معنوي كانوا يجعلونه علة النصب في الظرف إذا وقع خبرا في مثل "محمد أمامك"1, بينما كان البصريون يجعلون الظرف متعلقا بمحذوف خبر للمبتدأ السابق له. ومن ذلك اصطلاح الصرف جعله الفراء علة لنصب المفعول معه. مثل "جاء محمد وطلوعَ الشمس" بينما ذهب جمهور البصريين إلى أنه

_ 1 الإنصاف: المسألة رقم 29, والهمع 1/ 98, والرضي 1/ 83, وابن يعيش 1/ 91.

منصوب بالفعل الذي قبله بتوسط الواو1، كما جعله علة نصب المضارع بعد واو المعية وفاء السببية وأو في مثل: "لأستسهلن الصعب أو أدركَ المنى", و"ما تأتينا فنتحدثَ معك", و"لا تنهَ عن خلق وتأتيَ مثله" بينما ذهب جمهور البصريين إلى أن المضارع بعد هذه الحروف منصوب بأن مضمرة وجوبا2. ومن ذلك اصطلاح التقريب، وقد اختصوا به اسم الإشارة "هذا" في مثل: "هذا زيد قائمًا" وجعلوه من أخوات كان أي: إنه يليه اسم وخبر منصوب3، بينما يعرب البصريون قائما حالا ويجعلون ما قبلها مبتدأ وخبرا. ومن ذلك اصطلاح الفعل الدائم ويقصدون به اسم الفاعل، وهو يقابل عندهم الفعل الماضي والفعل المستقبل الشامل لفعلي المضارع والأمر في اصطلاح البصريين. وكأنما دفعهم إلى ذلك أنهم وجدوه يعمل عمل الفعل كما وجدوا الأخفش الأوسط يجيز عمله معرفا بالألف واللام، وغير معرف بدون أي شرط من الشروط التي اشترطها جمهور البصريين، وهي: اعتماده على نفي أو استفهام أو أن يكون نعتا أو خبرا أو حالا, فنفذوا من ذلك إلى أنه فعل وسموه فعلا دائما4. ومن ذلك اصطلاح المكني والكناية ويقصدون به الضمير5. وكانوا يصطلحون على تسمية ضمير الشأن باسم المجهول في مثل: "إنه اليوم حار"6, وتسمية ضمير الفصل باسم العماد في مثل: محمد هو الشاعر7. وكانوا لا يطلقون كلمة المفعول إلا على المفعول به، أما بقية المفاعيل، وهي: المفعول فيه والمفعول المطلق والمفعول لأجله والمفعول معه, فكانوا يسمونها أشباه مفاعيل8، وسموا الظرف "الصفة والمحل"9 والبدل "الترجمة"10 والتمييز

_ 1 انظر معاني القرآن للفراء 1/ 34, ونسب النحاة إلى الفراء أنه كان يقول بأن المفعول معه منصوب على الخلاف، انظر الرضي 2/ 224. 2 هكذا في معاني القرآن 1/ 34، 235، وفي الرضي أن الفراء كان يقول هنا أيضا بالنصب على الخلاف. 3 مجالس ثعلب ص53, ومعاني القرآن للفراء 1/ 12, والهمع 1/ 113. 4 مجالس ثعلب ص456، 463، والأشباه والنظائر 3/ 29. 5 ثعلب ص332, وابن يعيش 3/ 84. 6 ابن يعيش 3/ 114. 7 ابن يعيش 3/ 110, والرضي على الكافية 2/ 24. 8 الهمع 1/ 165. 9 معاني القرآن 1/ 2، 119، 375, ومجالس ثعلب ص80. 10 المجالس ص25.

"التفسير"1. وسموا لا النافية للجنس في مثل: "لا رجل في الدار" باسم "لا التبرئة", والصفة في مثل: "محمد الشاعر أقدم" باسم النعت2, وكان يطلقه سيبويه كما مر في ترجمته على عطف البيان، وأخذ المتأخرون باسمهم كما أخذوا بتسميتهم للعطف بالحروف "عطف النسق"3. وسموا حروف النفي باسم حروف الجحد4 أي: الإنكار، كما سموا حروف الزيادة مثل إن في قولك: "ما إنْ أحد رأيته" باسم حروف الصلة والحشو5. وسموا المصروف والممنوع من الصرف باسم "ما يجري وما لا يجري"6. وسموا لام الابتداء في مثل: "لمحمد شاعر" لام القسم زاعمين أن الجملة جواب لقسم مقدر7. وواضح أن هذه المصطلحات ظلت لا تسود في النحو العربي، إذا نحن استثنينا اصطلاح النعت وعطف النسق؛ لأن نظامه الذي وضعه البصريون هو الذي عم بين العلماء والناس في جميع الأمصار والأعصار، وهو لم يعم عفوا، إنما عم لدقته المنطقية، وكأن عقول البصريين كانت أكثر خضوعا وإذعانا لسلطان المنطق، ومناهجه الصارمة، لما قدمنا في غير هذا الموضع من صلة البصرة المبكرة بالدراسات المنطقية والفلسفية، وما هي إلا أن يكب بعض عباقرتها على النحو فإذا هم يصوغونه صياغة نهائية، ملائمين بين قواعده ومقاييسه ملاءمة دقيقة إلى أبعد حدود الدقة، ملاءمة تخلو من أي عوج أو نقص أو انحراف، وكأنما كان بأيديهم قسطاس مستقيم وضع كل قاعدة نحوية في موضعها بحيث لا تجور قاعدة على قاعدة. وارجع إلى مصطلح الخلاف الذي وضعه الكوفيون فستراه يشتمل على صياغات متباعدة، وأين الظرف الواقع خبرا من المفعول معه ومن الفعل المضارع المنصوب بعد فاء السببية مثلا؟ ومثل هذا الاصطلاح في اضطرابه اصطلاح التقريب الذي أدخلوا به اسم الإشارة في كان وأخواتها التي تتصرف تصرف الأفعال. وليست بقية المصطلحات بأكثر من محاولات لمخالفة

_ 1 المجالس ص492, وسمى الفراء المفعول لأجله تفسيرا. انظر معاني القرآن 1/ 17. 2 الهمع 2/ 116. 3 الهمع 2/ 128. 4 المجالس ص422. 5 ابن يعيش 8/ 128, والأشباه والنظائر 1/ 209. 6 المجالس ص155. 7 الإنصاف: المسألة رقم 58.

مدرسة البصرة في بعض مصطلحاتها؛ ولذلك رفضها نحاة العصور التالية فيما عدا اصطلاح النعت وعطف النسق كما قدمنا، على أن كلمتي العطف والنعت دارتا عند سيبويه في حديثه عن التوابع في الكتاب. والحق أنها مصطلحات أُريد بها أو على الأقل بأكثرها إلى مجرد الخلاف على مدرسة البصرة، ومما يدل على ذلك أوضح الدلالة موقف هؤلاء النحاة من ألقاب الإعراب والبناء التي وضعتها المدرسة البصرية، إذ ميزت بين حركات أواخر الكلمات المعربة والمبنية، فجعلت الرفع والنصب والجر والجزم للمعربة، وجعلت الضم والفتح والكسر والوقف أو السكون للمبنية، وفكر الكوفيون طويلا: هل يمكن أن يضعوا لهذه الألقاب أسماء جديدة؟ حتى إذا أعياهم ذلك لجئوا إلى قلبها، فجعلوا ألقاب الإعراب للمبني من الكلمات وألقاب البناء للمعرب1، وطبعا تلقَّى النحاة من حولهم ومن بعدهم ذلك بالرفض الباتّ؛ لأنه لا تدعو إليه حاجة، ولأنه يئول إلى إفساد ما بأيديهم من كتب النحو البصري الذي اتخذوه إمامهم، بل كان أيضا إماما للكوفيين وعلما مرفوعا، يهتدون به ويستمدون منه مَدَدا لا ينضب معينه. وعلى نحو ما حاولوا الخلاف على المدرسة البصرية في بعض مصطلحاتها النحوية, حاولوا الخلاف عليها في جوانب من العوامل والمعمولات، من ذلك إعراب المبتدأ والخبر، فقد ذهب البصريون إلى أن العامل في المبتدأ الرفع هو الابتداء، أما الخبر فذهب جمهورهم إلى أنه مرفوع بالمبتدأ، وقال قوم منهم: إنه مرفوع بالابتداء، مثله في ذلك مثل المبتدأ. وذهب الكوفيون إلى أن المبتدأ يرفع الخبر، والخبر يرفع المبتدأ، فهما مترافعان2. وهو رأي واضح الضعف؛ لأنه ينتهي بالكوفيين إلى الدور المحال، كما يئول إلى أن يرتفع المبتدأ بشيء يجري على اللسان قبل النطق به. وقد لا يكون الخبر اسما مرفوعا بل يكون فعلا في مثل: "محمد كلمته" وقد ذهبوا في هذه العبارة إلى أن رافع المبتدأ هو الضمير المنصوب العائد على المبتدأ والمتصل بالفعل، وهو إبعاد في تقدير العامل في المبتدأ، بل هو تكلف شديد، ومر بنا في ترجمة الجرمي مناظرته مع الفراء في مثل هذا

_ 1 الرضي على الكافية 1/ 21، 2/ 3, وابن يعيش 1/ 72. 2 الإنصاف: المسألة رقم 5, والهمع 1/ 94, والرضي 1/ 78, وابن يعيش 1/ 84.

التعبير, وكيف أسكته وأفحمه. ومن ذلك إعراب الفعل المضارع المرفوع؛ فقد ذهب سيبويه وجمهور البصريين إلى أنه ارتفع بوقوعه موقع الاسم, فإن كلمة يقوم في مثل: "زيد يقوم" تقع موقع قائم، وذهب الأخفش إلى أنه مرفوع لتعريه من العوامل اللفظية. واضطرب الكوفيون في علة إعرابه والعامل فيه، فذهب الكسائي إلى أنه يرتفع بحروف المضارعة، فأقوم مثلا مرفوع بالهمزة، وواضح أنه يجعل جزءا من أجزاء الفعل عاملا فيه وكأن الشيء يعمل في نفسه. ولم يرتض هذا الرأي الفراء، فاختار رأي الأخفش ولكنه حاول التغيير والتحريف والتبديل فيه، فقال: إنه مرفوع بتجرده من النواصب والجوازم، وواضح أنه نفس رأي الأخفش بصيغة جديدة، ولعل ذلك ما جعل ثعلبا يذهب إلى أنه مرفوع بالمضارعة, محاولا بذلك النفوذ إلى رأي جديد1. ومن ذلك إعراب الفعلين المضارعين المجزومين في الجملة الشرطية مثل: "من يقم أقم معه", فقد ذهب الخليل وجمهور البصريين إلى أن أداة الشرط هي التي تعمل في فعل الشرط الجزم، وهما معا يعملانه في الجزاء. وذهب الأخفش في الجزاء إلى أنه مجزوم بفعل الشرط وحده. بينما ذهب الكوفيون إلى أن الجزاء مجزوم بالجوار، أي: لجواره فعل الشرط المجزوم2، وفاتهم أن فعل الشرط قد يكون ماضيا, ولا يتضح فيه الجزم إلا تقديرا. وكانوا يذهبون إلى أن "إن وأخواتها" تعمل النصب في اسمها فقط، أما الخبر فإنها لا تعمل فيه شيئا، بل هو باقٍ على رفعه قبل دخولها، بينما ذهب البصريون إلى أنه مرفوع بها، مثله مثل اسمها3 طردا للباب على وتيرة واحدة, وهو أدخل في القياس وإحكام القواعد. وكان البصريون وجمهور الكوفيين يرون أن رافع الفاعل هو الفعل، وذهب

_ 1 الهمع 1/ 164, وانظر الإنصاف: المسألة رقم 74, والرضي 2/ 215, وابن يعيش 7/ 12. 2 الرضي على الكافية 2/ 254, والهمع 2/ 61, والإنصاف: المسألة رقم 84. 3 ابن يعيش 1/ 102, والرضي 2/ 346, والهمع 1/ 134.

هشام الضرير من الأخيرين إلى أن رافعه العامل فيه هو الإسناد لا الفعل، وكأنه نفذ إلى هذا الرأي حين رأى الكسائي يقول: إن رافعه كونه داخلا في وصف فعله1. وكان الفراء يذهب في مثل: "قام وقعد علي" إلى أن عليا فاعل للفعلين جميعا، فهما يعملان فيه معا2، وذهب الكسائي إلى أن الفاعل حذف مع أحد الفعلين، فعلي فاعل لقام وقعد حُذف فاعلها. ويتضح ذلك أكثر في باب التنازع، فقد كان يرى أن كلمني في مثل "كلمني وكلمت محمدا" محذوف معها الفاعل لا مضمر3. والبصريون يضمرون الفاعل في الفعل الأول ويرفضون رأي الفراء؛ لأنه يترتب على ذلك إخلال بالقاعدة النحوية العامة التي تجعل لكل فاعل فعلا، مما قد يُحدث تشويشا في أذهان المتعلمين؛ لعدم اطراد القاعدة، وكذلك يرفضون رأي الكسائي لذلك, ولأن الأخذ برأيه يئول إلى اعتبار الفاعل محذوفا في مثل: زيد قام، وهو ما لا يقول به نحوي. ونضرب بعض الأمثلة التي تصور مدى بعد الكوفيين في التأويل, والتقدير شغفا بالخلاف على المدرسة البصرية، أما المثال الأول فهو الاستثناء بإلا في مثل: قام القوم إلا محمدا, فقد كان جمهور البصريين وفي مقدمتهم سيبويه يرون أن ناصب المستثنى هو الفعل قبله بواسطة إلا. وذهب قوم منهم إلى أنه "إلا" نفسها. وذهب الكسائي إلى أنه منصوب بإنّ مقدرة بعد إلا محذوفة الخبر، فتقدير "قام القوم إلا محمدا" عنده: "قام القوم إلا أن محمدا لم يقم". ولا يخفى ما في هذا التقدير من تمحل بعيد. وذهب الفراء إلى أن إلا مركبة من إن ولا، وحذفت من إن النون الثانية تخفيفا، وأدغمت الأولى في لام "لا" بعد شيء من التقديم والتأخير, إذ زعم أن أصل العبارة: "قام القوم إن محمدا لا قام" وهو تمحل أشد من تمحل أستاذه. ويظهر فساده في الاستثناء المفرغ في مثل: ما قام إلا محمد، فإن كلمة محمد مرفوعة بعد إلا وليست منصوبة4. والمثال الثاني المنادى في مثل: "يا محمد", فقد ذهب جمهور البصريين إلى أنه مبني على الضم في محل نصب،

_ 1 الهمع 1/ 159. 2 الهمع 2/ 109, والرضي 1/ 71. 3 الرضي على الكافية 1/ 87, والمغني ص673, وابن يعيش 1/ 77. 4 الرضي 1/ 207, وابن يعيش 2/ 76.

وناصبه فعل مقدر تقديره: أدعو, وحذف الفعل حذفا لازما لكثرة الاستعمال ولدلالة حرف النداء عليه. وذهب المبرد إلى أنه منصوب بيا لسدّها مسد الفعل. وذهب الكسائي إلى أنه مرفوع لتجرده من العوامل اللفظية، وفاته أنه مسبوق بيا، وأنه غير منون. أما الفراء فذهب مذهبا بعيدا، إذ زعم أن أصل "يا زيد" مثلا: يا زيدًا، ثم اكتُفي بيا وحُذفت الألف الملحقة به، فبني على الضم. وهو بعد واضح في التقدير1. والمثال الثالث كلمة حتى حين تجر ما بعدها من الأسماء مثل: "قرأت الكتاب حتى الصحيفة الأخيرة منه", فقد جعلها البصريون حرفا جارا بنفسه، وأبى الكسائي إلا أن يجعل ما بعدها مجرورا لا بها وإنما بإلى الجارة مضمرة2، دون حاجة إلى هذا الإضمار والتقدير، إلا تصور أن الأصل فيها أن يليها الأفعال! والمثال الرابع "لولا" في مثل: "لولا محمد لجئت", فإن البصريين يعربون الاسم المرفوع بعدها مبتدأ رافعه الابتداء وخبره محذوف، وذهب الفراء إلى أن لولا هي التي عملت الرفع فيه وأنها نابت مناب فعل محذوف تقديره: يمتنع3، وليس في حروفها ولا في مادتها ما يشير إلى هذا الفعل، وكأنه أوجد بين الحروف أداة تعمل الرفع في الأسماء، وهو إبعاد واضح في التقدير. وعلى هذه الشاكلة كان الكوفيون يحاولون النفوذ إلى آراء جديدة في العوامل والمعمولات، كما كانوا يحاولون النفوذ إلى بعض المصطلحات التي يخالفون بها ما اصطلح عليه البصريون، حتى يفترق نحوهم على الأقل بعض الافتراق من نحو البصرة. وبذلك كله وبما سنفصل فيه الحديث عند أعلامهم, استطاعوا أن يكوِّنوا لهم مدرسة نحوية مستقلة، لا ترقى حقا إلى منزلة المدرسة البصرية، ولكنها على كل حال مدرسة بينة المعالم, واضحة القَسَمَات والملامح.

_ 1 الرضي 1/ 129. 2 ابن يعيش 1/ 77, والرضي 2/ 241، والإنصاف: المسألة رقم 83. 3 ابن يعيش 1/ 95.

الفصل الثاني: الكسائي وتلاميذه

الفصل الثاني: الكسائي وتلاميذه 1- نشاطه العلمي: هو علي1 بن حمزة، من أصل فارسي، وُلد بالكوفة في سنة تسع عشرة ومائة للهجرة، ونشأ بها، وأكب منذ نشأته على حلقات القراء مثل سليمان بن أرقم راوي2 قراءة الحسن البصري، وأبي بكر شعبة بن عياش راوي3 قراءة عاصم بن أبي النجود إمام قراء الكوفة في الجيل السابق للكسائي، وسفيان بن عيينة راوي4 قراءة عبد الله بن كثير إمام قراء مكة. ولزم حلقة حمزة بن حبيب الزيات المتوفى سنة 156 للهجرة إمام قراء الكوفيين لعصره، حتى حذق قراءته، ويقال: إنه لقب بلقبه الكسائي في مجالسه؛ لأنه كان يلبس كساء أسود ثمينا، ويقال: بل لقب بذلك لأنه أحرم في كساء. وكان فطنا ذكيا، فرأى أنه لن يبرع في قراءة الذكر الحكيم إلا إذا عرف إعرابه، فاختلف إلى حلقات أبي جعفر الرواسي وإلى كتابه الفيصل ولم يجد عنده ما يريد، فرحل إلى البادية رحلته الأولى5، ثم عاد إلى الكوفة, وكأنه رأى أنه لن يحسن العربية إلا إذا استمع إلى معلميها بالبصرة فرحل إليهم، وأخذ ينتقل بين حلقات عيسى

_ 1 انظر في ترجمة الكسائي: أبا الطيب اللغوي ص74, والزبيدي ص138, والفهرست ص103. ونزهة الألباء ص67، 75, وتاريخ بغداد 11/ 403, والأنساب الورقة 482, ومقدمة تهذيب اللغة للأزهري, ومعجم الأدباء 13/ 168, وإنباه الرواة 2/ 256, واللباب في الأنساب 3/ 40, وتاريخ ابن كثير 11/ 201, وطبقات القراء لابن الجزري 1/ 535, ومرآة الجنان 1/ 421, وشذرات الذهب 1/ 321, وروضات الجنات ص471, والنجوم الزاهرة 2/ 130, وبغية الوعاة ص336. 2 ابن الجزري 1/ 312. 3 ابن الجزري 1/ 325. 4 ابن الجزري 1/ 308. 5 مجالس العلماء للزجاجي "طبع الكويت" ص266.

ابن عمر المتوفى سنة 149 للهجرة وأبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب. وعكف على حلقة الخليل بن أحمد، وراعته روايته لأشعار العرب وأقوالهم، فسأله يوما عن ينابيع هذه الرواية، فقال له: إنها من ملابسة أهل البوادي في نجد والحجاز وتهامة، فمضى إليهم في رحلة ثانية، ومعه خمس عشرة قنينة حبر، وظل يكتب ما يسمعه من أفواههم ويدونه في صحفه، حتى أنفد كل ما حمله من حبر. ورجع إلى مسقط رأسه، وقد بُسط له لسانه وذُلِّل له منطقه واستقامت فصاحته وعربيته، وأخذ يستغل ذلك استغلالا حسنا في قراءته للذكر الحكيم بقراءة أستاذه حمزة الذي كان قد لبى نداء ربه. فكان يتلو القرآن على الناس من أوله إلى آخره، والناس من حوله يسمعون ويكتبون مصاحفهم. وذاعت شهرته فطلبه المهدي ليتخذه مؤدبا لابنه هارون الرشيد، حتى إذا ولي الخلافة بعد أبيه اتخذه مؤدبا لابنيه الأمين والمأمون. وظل مدة يقرئ الناس في بغداد بقراءة حمزة، ثم اختار لنفسه قراءة، صارت إحدى القراءات السبع المتواترة، وأقرأ بها خلقا كثيرا. وكان يجلس بالمسجد الجامع على مقعد مرتفع، والناس من حوله يكتبون المصاحف بقراءته وينقطونها ويضبطونها ويرسمون مقاطع الآيات ومبادئها. وكان الرشيد يجله ويوقره ويفسح له في مجالسه، وكثيرا ما كان يتخذه إمامه في صلواته ورفيقه في غزواته ومقامه بالرقة. ويظهر أنه لم يكفه حينئذ ما أخذه من اللغة وشواردها عن البدو الخلص في الجزيرة العربية, فقد مضى يكثر من سماعه عن أعراب الحطمة، وهم عشيرة من بني عبد القيس نزلت بغداد، وأقامت بها، وكأنه لم يكن يجد بأسا في الأخذ عن هؤلاء الأعراب، بينما كان البصريون لا يروون اللغة عن أمثالهم من العرب المتحضرين الذين يمكن أن يكون قد دخل الفساد على ألسنتهم، وسرعان ما ظهر أثر ذلك في مناظرته1 لسيبويه حين قدم بغداد على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع، فقد سبقه إليه تلاميذه: الفراء والأحمر وهشام بن معاوية الضرير ومحمد بن سعدان، وسأله الأحمر عن مسائل، وكلما أجابه بجواب قال له: أخطأتَ يا بصرى. ووافى الكسائي ومعه طائفة من عرب الحطمة،

_ 1 انظر المناظرة في الزبيدي ص68 وما بعدها.

فلما جلس قال له: كيف تقول: "خرجت, فإذا زيد قائم"؟ فنطق بها سيبويه، فقال له الكسائي: أيجوز: "فإذا زيد قائما"؟ فقال سيبويه: لا؛ لأن العرب الفصحاء الذين أخذ عنهم هو وأستاذه الخليل لا ينطقون مثل "قائما" في هذا المثال ونحوه إلا مرفوعة، وفي القرآن الكريم: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ} , {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ} أي: على أن ما بعد إذا في هذه الأمثلة مبتدأ وخبر مرفوعان. وأظهر الكسائي تعجبه من رفضه لنصب كلمة "قائم", وقال: فلنرجع إلى من يحضرنا من العرب، وكانوا من عرب الحطمة كما ذكرنا، وسألهم: كيف تقولون: "قد كنت أحسب أن العقرب أشد لسعة من الزنبور, فإذا الزنبور إياها"؟ فقال نفر منهم: "فإذا الزنبور هي", وقال آخرون: "فإذا الزنبور إياها". ويبالغ رواة هذه المناظرة، فيقولون: إن سيبويه حصر وأفحم، وفي رأينا أنه لم يفحم ولم يحصر، لأنه كان لا يعتد بما قد يفد على ألسنة مثل هؤلاء العرب المتحضرين، مما يخالف استخدام الفصحاء ويشذ على القياس المبني على استعمالهم وما يدور في ألسنتهم. والمهم أن هذه المناظرة أرست أصلا من أصول المدرسة الكوفية، وهو الأخذ باللغات الشاذة المخالفة للأقيسة البصرية من جهة وللشائع المتداول على أفواه العرب من جهة ثانية. ومن المؤكد أن هذه المناظرة أقنعت الكسائي بأن ما بيده من النحو وقوعده قليل وأنه ينبغي أن يتزود من نحاة البصرة وعلمهم الغزير، وتصادف أن توفي سيبويه عقب المناظرة، غير أنه علم أن الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة حمل كتابه النفيس عنه، وأنه يمليه على الطلاب ويدرسه لهم، وأنه إليه انتهى علم البصرة بالنحو، ولم تُعْيه الأسباب في الاتصال به ورواية الكتاب عنه. ووجده يكثر من الخلاف على صاحبه وعلى الخليل مستضيئا بمعرفته الواسعة بلغات العرب، فاستقر في نفسه أن يتابعه في هذا الاتجاه، وبذلك أعده الأخفش إعدادا حسنا لكي ينمي رغبته الملحة في مخالفة النحو البصري مخالفة تقوم على الاتساع في الرواية والقياس، بل لقد نفذ إلى تأسيس مدرسة نحوية جديدة، يعينه في ذلك تلاميذه وخاصة الفراء. والحق أن الأخفش لم يبعث هذا الاتجاه في نفسه لأول مرة، فقد كان

اتجاها قديما في صدره منذ قعوده للقراءة والتعليم في الكوفة، ورأينا آثاره في مناظرته مع سيبويه، ولكنا نؤمن بأن الأخفش هو الذي دفعه دفعا في هذا الاتجاه، ولم يدفعه وحده، بل دفع معه تلاميذه ومن خلفوهم على المدرسة الكوفية. ونرى الكسائي ينشط لا في تأليف كتب تتصل بالقرآن الكريم وقراءاته ومعانيه فحسب، بل يؤلف أيضا في النحو كتابين هما مختصر النحو وكتاب الحدود في النحو. وألف في أغلاط العامة كتابا سماه "ما تلحن فيه العوام" وهو مطبوع. وما زال يوالي هذا النشاط العلمي حتى خرج مع الرشيد في مسيره إلى خراسان سنة 189 للهجرة واعتل علة شديدة لم يلبث أن توفي منها بقرية رنبويه بالقرب من الري، وتوفي معه الفقيه المشهور محمد بن الحسن الشيباني، فحزن الرشيد عليهما حزنا شديدا، وقال: "دفنا الفقه والنحو بالري".

تأسيسه للمدرسة الكوفية

2- تأسيسه للمدرسة الكوفية: لا ريب في أن الكسائي يعد إمام مدرسة الكوفة، فهو الذي وضع رسومها ووطّأ منهجها، وفيه يقول أبو الطيب اللغوي: "كان عالم أهل الكوفة وإمامهم، إليه ينتهون بعلمهم، وعليه يعولون في روايتهم" وينبغي أن لا نلتفت إلى ما يقوله أبو حاتم بدافع العصبية للبصرة, إذ يزعم أنه "لم يكن لجميع الكوفيين عالم بالقرآن ولا كلام العرب، ولولا أن الكسائي دنا من الخلفاء فرفعوا من ذكره لم يكن شيئا، وعلمه مختلط بلا حجج ولا علل إلا حكايات عن الأعراب مطروحة؛ لأنه كان يلقنهم ما يريد، وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن وهو قدوتهم وإليه يرجعون". وكأن أبا حاتم نقض بنهاية كلامه طعنه في الكسائي، وهو قد طعنه في خُلقه وأنه كان يلقن الأعراب ما يريد من نحو شاذ، وهو طعن لا يعبأ به، إذ كان معروفا بالثقة والأمانة والصدق فيما يروى، وعنه حمل معاصروه ومن تلاهم إحدى القراءات السبع الوثيقة، أما أن علمه ليس منظما، وأنه يفتقر إلى الحجج والعلل فقد يكون ذلك صحيحا إذا قسناه إلى

سيبويه، ولكن من المؤكد أنه تلقن عنه وعن الخليل وعيسى بن عمر معرفة العلل والأقيسة، بل لقد كان يؤمن بأن النحو إنما هو ضروب من القياس وما يطوى فيه من علل وحجج تشده, وتقيم أَوَده، حتى ليقول: إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كل أمر ينتفع وحقا إنه توسع في القياس، فلم يقف به عند المستعمل الشائع على الألسنة ولا عند أعراب البدو, بل مده ليشمل ما ينطق به العرب المتحضرون ممن يمكن أن يكون قد دخل اللحن على ألسنتهم في رأي البصريين، ولعله من أجل ذلك ألف كتابه في لحن العوام؛ ليدل على أنه كان يفرق بين لغات العرب وبين هذا اللحن. وأهم من ذلك أنه مد النحو ليشمل الشاذ النادر من تلك اللغات مما لم يكن سيبويه والخليل يحفلان به، ولا يريان له قدرا، لسبب طبيعي تحدثنا عنه في الفصل الماضي، وهو أنهما كانا يريدان أن يضعا في صورة حازمة صارمة قوانين النحو، بحيث لا يعتريها الاضطراب والخلل، وبحيث تطرد ولا تتأرجح بين موازين مختلفة. وأكبر الظن أن الذي دفع الكسائي إلى هذا الموقف من نحوهما, وأن يفسح في العربية للغات الشاذة النادرة أنه كان -كما عرفنا- من القراء للذكر الحكيم، وكانت تجري في قراءاته حروف تشذ على قواعد النحو البصري، فخشي أن يظن بهذه الحروف أنها غير جائزة, وأنها لا تجري على العربية السليمة، وربما خشي اندثارها، وهي جميعا مروية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- غير أن منها ما هو متواتر وهو القراءات السبع, ومنها ما هو غير متواتر، وهو ما وراءها من قراءات، وجميعها صحيح، وينبغي أن نتوسع في قواعد النحو والصرف حتى تشمله. ومر بنا أن سيبويه والخليل جميعا لم يوهنا من قراءة، بل قال سيبويه: إن القراءة سنة، يريد أنه لا يصح التعرض لها بتصويب أو تخطئة، وكأنما تنبه الأخفش للقضية، فوجه -كما لاحظنا في ترجمته- ما اصطدم من بعض القراءات بقواعد مدرسته، وهو اصطدام في الظاهر؛ لأن سيبويه احتفظ في كتابه بمادة وفيرة من الأشعار والأقوال الشاذة على مقاييسه، يريد أن ينص على أنها جرت على ألسنة بعض الأعراب الفصحاء ولكنها لا تجري على القواعد

الكلية العامة للنحو، كما تصوره هو وأستاذه، أو بعبارة أدق: يريد أن يبعدها عن ألسنة الناس، حتى تستقيم لألسنتهم عربيتهم في أفصح هيئة ممكنة. غير أن الكسائي -فيما يظهر لنا- رأى أن يعاد النظر في هذا التأصيل العام لقواعد النحو, وأن يفسح فيها للقراءات واللغات الشاذة، وبذلك خرج إلى صورة جديدة من النحو، صورة لا تتفق والمناهج الدقيقة في وضع العلوم التي تقتضي في قواعدها الاطراد والتعميم والشمول، ولكنها على كل حال فتحت الأبواب لا للاحتفاظ بالحروف الشاذة في قراءات الذكر الحكيم, فهذه كانت ستحتفظ بها الأجيال العربية لتعلقها بالدين الحنيف، وإنما للاحتفاظ بشواذ اللغات واللهجات وصونها وحمايتها من الضياع. ولا أظننا في حاجة إلى أن نبدئ ونعيد في أن البصريين عُنوا بهذه الشواذ وتسجيلها، ولكنها عناية من باب آخر، إذ أرادوا أن يوضحوا الهجنة في استخدامها وأن يحصنوا قواعدهم وألسنة الناس منها, وبذلك تعاون الطرفان المتعارضان على إثباتها، مع اختلاف الغاية. ونبدأ بما وقف عنده الكسائي من بعض حروف في القراءات، فمن ذلك الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فقد لاحظ أن كلمة {وَالصَّابِئُونَ} عطفت بالرفع على اسم إن المنصوب قبل تمام الخبر، وهو {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فوضع قاعدة عامة: أنه يجوز العطف على موضع إن واسمها، وموضعهما الابتداء وهو مرفوع، قبل مجيء الخبر، فيقال: إن محمدا وعلي مسافران. ومنع ذلك البصريون، وأجابوا عن الآية جوابين: أحدهما: أن خبر إن محذوف تقديره: مأجورون أو آمنون أو فرحون، والصابئون مبتدأ وما بعده خبره، واستشهدوا لذلك بقول بعض الشعراء: خليليَّ هل طِب فإني وأنتما ... وإن لم تبوحا بالهوى دنفان أي: فإني دنف كما تدل على ذلك بقية العبارة. والجواب الثاني: أن الخبر المذكور في الآية خبر إن، أما {وَالصَّابِئُونَ} فخبرها محذوف، تقديره: كذلك، واستشهدوا لهذا الجواب بقول ضابئ بن الحارث البرجمي:

فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب فغريب خبر إن بدليل دخول لام التوكيد عليه وخبر "قيار" محذوف تقديره: كذلك. وكأنما أحس الفراء تلميذ الكسائي أن البصريين مصيبون في موقفهم لعدم جريان ذلك على ألسنة العرب، فرأى أن يتوقف عند نص الآية وأن يخصص القاعدة بما يماثلها، فقال: إنه لا يجوز ذلك إلا فيما لم يظهر فيه عمل إن، وهو الاسم المبني مثل {الَّذِينَ} في الآية, وضمير المتكلم في بيت ضابئ1. ومن ذلك الآية الكريمة: "إن الذين تدعون من دون الله عِبَادًا أمثالكم" في قراءة سعيد بن جبير بنصب كلمة "عبادا" مما جعل الكسائي يضع قاعدة عامة، وهي أنّ إِن النافية إذا دخلت على الجملة الاسمية عملت عمل ليس، فرفعت الاسم ونصبت الخبر. وهي -في رأي سيبويه- لا تعمل بل تهمل دائما، وكأن قراءة سعيد بن جبير في رأيه شاذة فذة لا يصح أن تتخذ منها قاعدة. ولعل من الطريف أن نعرف أن الفراء كان يتابع سيبويه في رأيه، بينما كان يتابع المبرد البصري الكسائي فيما ارتآه من عملها2. وفي ذلك ما يشهد بأن مدار الاختلاف بين المدرستين الكوفية والبصرية وأئمتهما لم يكن يراد به إلى المناقضة، وإنما كان يراد به إلى تبين وجه الصواب في إخلاص؛ ولذلك كثر بينهم الالتقاء في الآراء وأن يتابع الكوفي البصريين والبصري الكوفيين، وكأنهم جميعا أغصان من دوحة واحدة. ومن ذلك الآية الكريمة: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} فقد لاحظ أن اسم الفاعل {بَاسِطٌ} مع أنه بمعنى الماضي في الآية؛ لأنه يحكي قصة أهل الكهف، عمل النصب في كلمة {ذِرَاعَيْهِ} ، فوضع قاعدة عامة، هي أنه يعمل النصب بمعنى الماضي وبمعنى الحال والاستقبال، بينما كان يمنع البصريون عمله النصب فيما بعده على المفعولية وهو بمعنى الماضي، وتأولوا {بَاسِطٌ} في الآية على حكاية الحال الماضية،

_ 1 الإنصاف: المسألة رقم 23, والمغني ص527, والهمع 2/ 144, وأسرار العربية ص152. 2 ابن يعيش 8/ 113, والرضي 1/ 249, والمغني ص19, والهمع 1/ 124.

بدليل حكايتها بالمضارع في الفعل السابق: {وَنُقَلِّبُهُمْ} وكأن التقدير: وكلبهم يبسط ذراعيه. غير أن الكسائي تمسك بالآية واتخذ منها قاعدة كلية مجوزا مثل: "زيد معطٍ عمرا أمس درهما" وتابعه في ذلك تلميذه هشام, بينما ظل الفراء مع جمهور البصريين لا يجيز إعمال اسم الفاعل في المفعول به إذا كان بمعنى الماضي1. ومن ذلك الآية الكريمة: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} فقد رأى المضارع فيها محذوف النون، فقال: إنها حُذفت على تقدير لام الأمر، واتخذ من ذلك قاعدة عامة، هي حذف لام الأمر من المضارع بشرط تقدم "قل" عليه كما في الآية، بينما كان البصريون يرون أن الفعل المضارع مجزوم في جواب الأمر مثله في نحو: "ائتني أكرمْك"2. وعلى نحو ما كان يتخذ من بعض الحروف في القراءات قواعد يخالف فيها سيبويه والخليل, كان يصنع ذلك تلقاء الأقوال والأشعار الخارجة على مقاييسهما، بل لقد وجد فيها مادة أوسع وأغزر، فمن ذلك أنه رأى بعض العرب يقول: "لا عبدَ الله في الدار" بإعمال لا عمل إن ونصب عبد الله، ومعنى العبارة: أن أحدا من الناس لا يوجد في الدار؛ لاستعمال عبد الله هنا في أي رجل كان، غير أنه قاس على عبد الله بقية الأعلام, منتهيا إلى قاعدة عامة، هي أن لا النافية للجنس يجوز أن يليها العَلَم فيقال: "لا زيدَ في الدار". وواضح ما في قياسه من خطأ؛ ولذلك رفض تلميذه الفراء قاعدته؛ لأن لا النافية للجنس تتطلب أن يكون اسمها نكرة أو كالنكرة حتى تفيد النفي العام الشامل كما لاحظ البصريون. ولعل في ذلك ما يلفت إلى أن الكسائي كانت تفلت منه أحيانا العلة السديدة التي توجب القاعدة النحوية، وكأنه لم يكن يَسْبر الشواهد التي يشتق منها أحكامه النحوية دائما سبرا دقيقا3. ومن ذلك أن البصريين منعوا تقديم المستثنى في أول الكلام, موجبا كان أو

_ 1 المغني ص770، والهمع للسيوطي 2/ 95. 2 المغني ص248, وانظر الكتاب 1/ 452. 3 الهمع 1/ 145.

منفيا، فلا يقال: "إلا زيدا قام القوم", ولا: "إلا زيدا ما أكل أحد طعاما", ولا: "ما -إلا زيدا- قام القوم" وسمع الكسائي: خلا الله لا أرجو سواك وإنما ... أعد عيالي شعبة من عيالكا فلم يلتفت إلى أن ذلك ضرورة شعرية دفعت الشاعر إلى المخالفة المنطقية لترتيب الكلام، فسوغه لا في "خلا" وحدها بل أيضا مع "إلا"، بحجة أنها الأصل في الباب وخلا فرع لها، والأصل أولى بما يجوز في الفرع، وبذلك وضع قاعدة عامة هي جواز تقديم المستثنى في أول الكلام سواء أكان موجبا أم منفيا1. ورأي الأخفش يجيز تأخير المعمول للفعل إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا وتقدم المستثنى عليه لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} فقد تأخر الجار والمجرور {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} وتقدم المستثنى {إِلَّا رِجَالًا} ووقع له في بعض الشعر: فما زادني إلا غراما كلامُها بتوسط المستثنى بين الفعل والفاعل، فوضع قاعدة عامة خالف بها جمهور البصريين، وهي أنه يجوز تقديم المستثنى على المعمول للفعل مرفوعا كان أو منصوبا أو مجرورا2. وذهب سيبويه والبصريون وجمهور الكوفيين إلى أن "خلا" إذا تقدمتها ما المصدرية تعين نصب المستثنى بعدها، وجوز الكسائي فيه الجر على أن تكون ما زائدة فتقول: "قام القوم ما خلا محمدا بالنصب" وما خلا محمدٍ بالجر. وعلق ابن هشام على ذلك في المغني بأن القياس يمنع ذلك؛ لأن "ما" لا تزاد قبل الجار والمجرور، إنما تزاد بعد حرف الجر مثل: {عَمَّا قَلِيلٍ} {فَبِمَا رَحْمَةٍ} وقال: إن احتج بالسماع فهو من الشذوذ الذي لا يصح القياس عليه3. وربما كان أغرب ما ذهب إليه الكسائي من أحكام في باب الاستثناء, أنه جوز في مثل: "ما قام إلا محمدٌ" نصب محمد على الاستثناء، مستدلا بقول بعض الشعراء: لم يبق إلا المجدَ والقصائدا ... غيرَك يابن الأكرمين والدا بنصب المجد وغيرك. ورد عليه جمهور النحاة بأن غيرك هي الفاعل وفتحتها

_ 1 الإنصاف: المسألة رقم 36, والهمع 1/ 226. 2 الهمع 1/ 230. 3 المغني ص142, وانظر الهمع 1/ 233.

ليست فتحة إعراب, وإنما هي فتحة بناء لإضافتها إلى مبني. وقد اندفع في هذا الحكم تمشيا مع قاعدته التي أشرنا إليها في الفصل الماضي، وهي أنه قد يحذف الفاعل مع الفعل، وكأنه لم يلاحظ في مثل: "ما قام إلا محمد" ما لاحظه البصريون وجمهور الكوفيين من أن الفاعل مذكور بعد إلا, وأن الاستثناء مفرغ. وربما كان أشد في الغرابة أنه أعرب لفظة محمد في حالة الرفع بدلا من الفاعل المحذوف1. وجوز النحاة في التمييز توسطه بين الفعل ومرفوعه مثل: "طاب نفسا محمد", أما تقدمه على معموله مثل: "نفسا طاب محمد" فمنعه سيبويه وجمهور البصريين وجوزه الكسائي وتبعه في ذلك المازني والمبرد؛ لوروده على لسان بعض الشعراء في قوله: أتهجر سلمى بالفراق حبيبها ... وما كان نفسا بالفراق تطيب واحتج البصريون بأن ذلك لم يرد في نثر، وإنما جاء على لسان الشاعر ضرورة، ولا يحتج بالضرورة لأنها تبيح ما لا يباح2. وكان سيبويه يذهب هو وجمهور البصريين إلى أن "حيث" تلزم الإضافة إلى جملة اسمية أو فعلية, وأنه لا يجوز إضافتها إلى المفرد، وذهب الكسائي إلى جواز ذلك، بل جعله قياسيا لقول بعض الشعراء: ونطعنهم تحت الحبا بعد ضربهم ... ببيض المواضي حيث ليّ العمائم3 وقول آخر: أما ترى حيث سهيلٍ طالعا ... نجما يضيء كالشهاب لامعا والبصريون يجعلون ذلك من النادر الذي لا يصح أن يتخذ منه القياس والأحكام النحوية الكلية العامة4.

_ 1 الهمع 1/ 223. 2 الإنصاف: المسألة رقم20, والهمع 1/ 252, وابن يعيش 2/ 73. 3 تحت الحبا: في أوساطهم. 4 المغني ص141, والهمع 1/ 212.

وله في نواصب المضارع أحكام كثيرة لا تسندها الشواهد ولا القياس، من ذلك أن سيبويه كان لا يجوز الفصل بين "لن" والفعل المضارع المنصوب بعدها، وتابعه في ذلك البصريون وهشام، وخالفه الكسائي، فجوز الفصل بين لن والفعل بالقسم وبمعموله، فتقول: "لن والله أقرأ الكتاب", و"لن الكتاب أقرأ", وأحس الفراء ما في المثال الأخير من النبوّ، فلم يوافقه إلا على الفصل بالقسم، غير أنه عاد فجوز الفصل بكلمة أظن مسيغا أن يقال: "لن أظن أزورك" بالنصب، وكذلك بالشرط مثل: "لن -إن تزرني- أزورك" وهما صيغتان نابيتان وليس هناك ما يؤيدهما من الشواهد1. ومن هذا الباب أن البصريين وهشاما ومن تابعه من الكوفيين كانوا لا يجيزون الفصل بين كي ومعمولها إلا بما ولا الزائدتين، مثل: "جئت كيما أتعلم" و {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} وجوز الكسائي الفصل بينها وبين الفعل بمعموله مطلقا. وأغرب من ذلك أنه جوز أن يتقدم عليها المعمول للفعل مثل: "جئت الرياضةَ كي أتعلم"2. ومن ذلك أن جمهور البصريين كان يجيز الفصل بين إذن ومعمولها بلا النافية وبالقسم؛ لورود ذلك في الاختيار وفي الشعر مثل: إذن والله نرميَهم بحرب وتوسع الكسائي -وتبعه هشام- فجوز الفصل بمعمول الفعل مطلقا مثل: "إذن صاحبك أكرم" ويبقي الكسائي لإذن عملها، ويلغيه هشام رافعا للمضارع. وكان سيبويه والبصريون يشترطون لنصبها المضارع أن تكون في صدر العبارة، وسمع الكسائي بعض الرجاز يقول: لا تتركنِّي فيهم شطيرا ... إني إذن أهلك أو أطيرا3 فذهب إلى إلغاء هذا الشرط بعد إنّ، وقاس عليها كان، تقول: "كان عبد الله إذن يكرمك" وتوقف تلميذه الفراء، فوافقه في إنّ وخالفه في كان، رافضًا ما ارتآه أستاذه من هذا القياس4. وواضح مما قدمنا أن الكسائي كان يتوسع أحيانا في القياس, وأنه كان يدلي

_ 1 الهمع 2/ 4. 2 الهمع 1/ 88، 2/ 6. 3 شطيرا: غريبا. 4 معاني القرآن للفراء 1/ 274, والهمع 1/ 7، والمغني ص16 حيث ذكر ابن هشام أن البصريين يتأولون البيت على أن خبر إن محذوف, تقديره: إني لا أقدر على ذلك, واستأنف الشاعر ما بعده.

أحيانا بأحكام دون شواهد تسندها من اللغة ومما جرى في الندرة على ألسنة بعض العرب. ومما نسوقه أيضا من توسعه في القياس حكمه بأن صلة الموصول يجوز أن تكون طلبية، محتجا بقول الفرزدق: وإني لراج نظرة قبل التي ... لعلي وإن شطّت نواها أزورُها والصلة في البيت -إن صحت- إنشائية لا طلبية، وقد تأول البيتَ البصريون بأحد توجيهين؛ إما أن الصلة محذوفة على إضمار القول، أي: "قبل التي أقول: لعلي" أو على أن الصلة هي جملة "أزورها" في آخر البيت وخبر لعل محذوف تقديره: "لعلي أفعل ذلك". وإنما منع البصريون أن تكون الصلة إنشائية؛ لأنها معرفة للموصول، فلا بد من تقدمها عليه وأن تكون معهودة مما يستلزم خبريتها، وما خالف ذلك ينبغي تأويله. ولسلامة هذا المنطق في استعمال العرب للموصول والصلة توقف تلميذه هشام، فلم يرتض أن تكون الصلة طلبية، بحيث يفسح لمثل: "الذي كلمْه أو لا تخاطبْه محمد" كما ذهب الكسائي، وارتضى فقط طبقا للبيت السالف أن تكون إنشائية مصدرة بلعل، وقاس عليها ليت وعسى، فيقال: "الذي -ليته يأتي أو عساه أن يأتي- زيد"1. وتدور للكسائي في كتب النحو وراء ذلك آراء كثيرة لا تسندها الشواهد، فمن ذلك أنه كان يجيز الفصل بين فعل الشرط وأداته بمعموله مثل: "من زيدا يكرمْ أكرمه", والفصل أيضا بعطف وتوكيد، ومنع ذلك الفراء لعدم وروده في السماع2. وكان يجوز تقديم معمول فعل الشرط والجواب على الأداة مثل: "خيرا إن تفعل تكرم" و"خيرا إن أتيتني تُصِبْ" ومنع ذلك أيضا الفراء، إذ لا يؤيده شيء من السماع عن العرب3. ومن ذلك أنه جوّز في المصدر الواقع مبتدأ وخبره حال سدت مسده مثل: "قراءتي الكتاب نافعةً" بنصب نافعة, أن ينعت، فيقال مثلا: "قراءتي الكتابَ الدقيقة نافعة" ومنع ذلك الجمهور؛ لأنه لم يرد فيه سماع4. ومن ذلك أن البصريين كانوا يوجبون

_ 1 الهمع 1/ 85, وانظر المغني ص647. 2 الهمع 2/ 59. 3 الهمع 2/ 61, وانظر الرضي 1/ 150، 2/ 236. 4 الهمع 1/ 107.

في إنّ الكسر حين تقع جوابا لقسم مثل: "والله إن محمدا مسافر" لكثرة ذلك في السماع عن العرب، وخالفهم الكسائي، فجوز الكسر والفتح واختار فتحها مع ندرته في السماع1. ومن ذلك أنه جوز العطف بالرفع على المفعول الأول لظن إذا كان المفعول الثاني فعلا، فيقال: "أظن محمدا وعلي سافرا" ولم يسند ذلك بأي سماع أو أي شاهد عن العرب، ولعل ذلك ما جعل الفراء تلميذه يقف في صفوف البصريين منكرا هذا الحكم الغريب2. ومن ذلك أنه كان يجيز في الاختيار تقديم الحال على صاحبها مثل: "زيد طالعةً الشمس" وهو حكم لا يتفق ومنطق التعبير وسياقه3. وربما كان أغرب ما انتهى إليه هو وتلميذه الفراء من حكم لا يسنده أي سماع, ولا أي شاهد ما ذهبا إليه من بناء فعلي "كان وجعل" للمجهول, فيقال: "كين قائم وكين يقام وجُعل يُفعل" بنيابة الخبر عن الاسم مع الفعلين الناقصين، إذ يريدان "جعل" التي تدخل في أفعال المقاربة, وهي صياغات غريبة؛ ولذلك أنكرها الرضي في شرحه على الكافية إنكارا شديدا4. ولعل في ذلك وأمثاله مما نجده عند الكسائي ونحاة الكوفة ما يدل أكبر الدلالة على خطأ من يحاولون رفع المدرسة الكوفية فوق المدرسة البصرية في الحس اللغوي وتبين روح اللغة, زاعمين أنهم لم يكونوا يتعدون الرواية والسماع وهم قد تعدوهما كثيرا، كما تعدوا حدود القياس السديد. وقد حاولوا -جاهدين- أن يخالفوا سيبويه وغيره من نحاة البصرة في كثير من وجوه الإعراب والتقدير في العبارات، مما جرهم في كثير من الأمر إلى صور مختلفة من التعقيد والبعد في التأويل، فمن ذلك إعراب الأسماء الخمسة: "أبوك وأخواتها", فقد كان سيبويه وجمهور البصريين يرون أنها معربة بحركات مقدرة في الحروف, أي: في الواو رفعا والألف نصبا والياء جرا، وذهب الأخفش إلى أنها معربة بحركات مقدرة على ما قبل تلك الحروف، بينما ذهب الكسائي -وتبعه الفراء- إلى أنها معربة من مكانين بالحروف والحركات السابقة لها معا، غير ملتفتين إلى أن علامات الإعراب إما أن تكون

_ 1 الهمع 1/ 137. 2 الهمع 2/ 145. 3 الهمع 1/ 242. 4 الرضي على الكافية 1/ 74, والهمع 1/ 164.

بالحركات كما في المفردات, وإما أن تكون بالحروف كما في المثنى وأنه كان ينبغي لذلك أن يختارا إعرابا لها, إما بالحروف كما ذهب سيبويه، وإما بالحركات كما ذهب الأخفش1. ومن ذلك أن سيبويه والبصريين كانوا يعربون ضمير الفصل في مثل: "محمد هو الشاعر" على أنه لا محل له من الإعراب، وذهب الكسائي إلى أن محله محل ما بعده رفعا أو نصبا كالمثال السابق, ومثل: "كان محمد هو المسافر" وكأنما تنبه الفراء إلى ما في هذا الرأي من خلل، إذ تعرب "هو" بتاليها قبل النطق به، فذهب إلى أن إعرابها هو إعراب ما قبلها، ففي مثل: "كان محمد هو المسافر" محلها الرفع, وفي مثل: "إن محمدا هو المسافر" محلها النصب، بينما محلها الرفع في تقدير الكسائي. وكل ذلك أعفانا منه سيبويه والبصريون؛ لأنه لا يترتب عليه شيء في النطق فضلا عن البعد في تقدير المحل المزعوم2. ومن ذلك إعراب صيغة الاشتغال في مثل: "الكتابَ قرته" بنصب الكتاب, فإن سيبويه والبصريين يجعلون الكتاب وما يماثله مفعولا به لفعل يفسره المذكور، وذهب الكسائي إلى أنه مفعول للفعل التالي والضمير المتصل به ملغى، ورده البصريون بأن الفعل قد يكون لازما مثل: "الكتابَ نظرت فيه" فلا يصح تعديه المفعول السابق. وكأنما أحسّ الفراء ما في رأي أستاذه من خلل لا من هذه الناحية, ولكن من ناحية إلغاء الضمير، فقال: إن الفعل عامل في الضمير والمفعول المتقدم معا، ورُد بتعدي الفعل اللازم وأن الفعل المتعدي لواحد يصبح متعديا لمفعولين في مثل: "الكتابَ قرأته" وهو نقض للقواعد المقررة في لزوم الأفعال وتعديها إلى واحد أو أكثر3. ولعل في كل ما قدمنا ما يصور إمامة الكسائي لمدرسة الكوفة النحوية والأسس التي وضعها لقيامها، وهي أسس تقوم على الاتساع في الرواية والقياس والنفوذ إلى أحكام وآراء لم تقع في خاطر البصريين، سواء سندتها الشواهد أو لم تسندها، مع كل ما يمكن من مخالفتهم في توجيه الإعراب في الصيغ والعبارات.

_ 1 الهمع 1/ 38. 2 الهمع 1/ 68. 3 الهمع 2/ 114.

تلاميذ الكسائي

3- تلاميذ الكسائي: كان الكسائي متعدد الجوانب، إذ كان من أئمة القراء واللغويين والنحاة؛ ولذلك كثر تلاميذه وتعددوا حسب الجوانب التي كان يتقنها ويحاضر فيها ويملي، فمنهم من أخذ عنه القراءات واللغة، ولعل أشهرهم أبو عبيد القاسم1 بن سلام، وقد جمع من إملاءاته كثيرا في كتابه "معاني القرآن" وصور قراءاته في كتابه عن القراءات. وكانت له عناية شديدة باللغة ورواية غريبها على نحو ما هو معروف في كتابه الغريب المصنف. وتذكر له كتب النحو أنه كان يذكر أن بين العرب قوما ينصبون بإن وأخواتها الاسم والخبر جميعا، كقول بعض الشعراء: إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن ... خطاك خِفافا إن حراسنا أسدا والجمهور يتأولون ذلك ومثله على الحال, وأن الخبر محذوف2. ومنهم من شدا عنه اللغة والشعر وأطرافا من النحو، وهم جماعة من المؤدبين، لعل أشهرهم علي3 بن المبارك الأحمر مؤدب الأمين، وكان يحفظ كثيرا من القصائد وأبيات الغريب، وروى السيوطي أنه كان يزعم -مع الفراء- أن ما قد تكون أداة استثناء، بدليل قول بعض العرب: "كل شيء مَهَهٌ "سهل" ما النساءَ وذكرَهن" أي: إلا النساء وذكرهن. وتأوله النحاة بأن فعل الاستثناء بعد ما حذف، والتقدير: ما خلا أو ما عدا النساء وذكرهن4. وممن قرأ عليه اللغة والنحو وقراءة حمزة محمد5 بن سعدان الضرير وكان

_ 1 انظر في ترجمة القاسم بن سلام: الزبيدي ص217, ونزهة الألباء ص136, وأبا الطيب اللغوي ص93, والفهرست ص112, ومعجم الأدباء 16/ 254, وتاريخ بغداد 12/ 403, وطبقات الشافعية 1/ 270, وطبقات القراء 2/ 16, وتهذيب التهذيب 8/ 315, وإنباه الرواة 3/ 12, وبغية الوعاة ص376. 2 همع الهوامع 1/ 134. 3 راجع ترجمته في الزبيدي ص147, وأبي الطيب اللغوي ص89, وتاريخ بغداد 12/ 104, ونزهة الألباء ص97, ومعجم الأدباء 13/ 5, وإنباه الرواة 2/ 313, وبغية الوعاة ص334. 4 الهمع 1/ 233. 5 انظر في ترجمته الزبيدي ص153, والفهرست ص110, وتاريخ بغداد 5/ 324, ونزهة الألباء ص144, ومعجم الأدباء 18/ 201, وطبقات القراء 2/ 143, وبغية الوعاة ص45.

له كتاب كبير في القراءات، وألف في النحو مختصرا، وكان يجوِّز نداء الجنس المعرف بالألف واللام المشبه به مثل: "يا الأسد" أي: يا مثل الأسد1. ومعروف أن الجمهور لا يجيز ذلك إلا مع أي, تقول: "يا أيها الأسد" ولا يجوز: "يا الأسد" ألبتة. وممن غلبت عليه اللغة من تلاميذه علي2 بن حازم اللحياني، وكان يتصدر للإملاء في زمن الفراء، واشتهر بكتاب في اللغة يسمى "النوادر". ودارت في كتب النحو له روايتان شاذتان شذوذا شديدا, أما الأولى فروايته أن من العرب من يجزم بأن الناصبة للمضارع، إذ ذكر أن بعض بني صباح من ضبة أنشده قول امرئ القيس: إذا ما غدونا قال ولدان أهلنا ... تعالوا إلى أن يأتِنا الصيد نحطب وقول بعض الرجاز: أحاذر أن تعلمْ بها فتردها ... فتتركها ثقلا علي كما هيا ويروى البيت الأول: "إلى أن يأتي الصيد" وإذن تسقط رواية اللحياني، أما البيت الثاني فقال ابن هشام: فيه نظر؛ لأن الراجز عطف على الفعل المسكن أفعالا منصوبة مما يدل على أنه مسكن للضرورة لا مجزوم3. وأما الرواية الثانية فما ذكره من أنه سمع بعض العرب ينصب بلم الجازمة مثل لن تماما كقول بعض رجازهم: في أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يُقْدَرَ أم يوم قدر وكقراءة بعض القراء شذوذا: "أَلَمْ نَشْرَحَ لك صدرك" بفتح الحاء. وخرّج ذلك بعض النحاة على أن الأصل: "لم يُقْدرَنْ" و"أَلَمْ نَشْرَحن" ثم حُذفت نون التوكيد الخفيفة وبقيت الفتحة دليلا عليها4. وهي على كل حال صيغ شاذة لا يعوَّل عليها في القواعد المطردة. على كل حال, ليس بين من سميناهم من تلاميذ الكسائي من يمكن أن يقال

_ 1 الهمع 1/ 174. 2 راجع في ترجمته: الزبيدي ص147, وأبا الطيب اللغوي ص89, ونزهة الألباء ص176, ومقدمة تهذيب اللغة للأزهري, ومعجم الأدباء 14/ 106, وإنباه الرواة 2/ 255, وبغية الوعاة ص346. 3 المغني ص27. 4 المغني ص307.

عنه: إنه نمَّى النحو الكوفي، وكأن هؤلاء التلاميذ تركوا هذه المهمة لعَلَمين هما الفراء، وسنفرد له فصلا خاصا، وهشام بن معاوية الضرير، وحري أن نخصه بكلمة مستقلة.

هشام بن معاوية الضرير

4- هشام 1 بن معاوية الضرير: هو أنبه تلاميذ الكسائي بعد الفراء، ويظهر أنه كان يتصدر للتدريس والإملاء على الطلاب كما كان يؤدب بعض أبناء الأثرياء وذوي الجاه، ففي أخباره أن الرخجي كان يجري عليه في كل شهر عشرة دنانير، وأن إسحاق بن إبراهيم بن مصعب القائم على شرطة بغداد في عهد المأمون لزمه وقرأ النحو عليه. وما زال مشغولا بالتأديب والتعليم حتى توفي سنة 209 للهجرة. ونراه يعنى بالتصنيف في النحو، فيؤلف فيه ثلاثة كتب هي: الحدود والمختصر والقياس. ويقول مترجموه: "له في النحو مقالة تعزى إليه". ومن يرجع إلى كتب النحاة يجد له آراء كثيرة تدور فيها، وهي لا تفصله عن مدرسته الكوفية، بل تجعله منميا لها، باعثا على نشاطها. وهو فيها تارة يتفق مع أستاذه، وتارة يعدل في آرائه، وكثيرا ما ينفرد بآراء يختص بها وحده. فمما اتفق فيه مع أستاذه القول بأن الفاعل قد يحذف على نحو ما يلقانا في باب التنازع في مثل: "قام وقعد علي" ففي رأيهما أن لفظة علي فاعل للفعل الثاني وأن الفعل الأول حذف فاعله، حتى لا يكون هناك إضمار قبل ذكر الفاعل. ويتضح ذلك أكثر في حالتي التثنية والجمع، فمذهب سيبويه فيهما أن يقال في التثنية: "ضرباني وضربت الزيدَينِ", وفي الجمع: "ضربوني وضربت الزيدِينَ" أما في مذهب الكسائي وهشام, فيقال في التثنية: "ضربني وضربت الزيدَين" وفي الجمع:

_ 1 انظر في ترجمة هشام: الفهرست ص110، ومعجم الأدباء 19/ 292, ونزهة الألباء ص164, وابن خلكان, وإنباه الرواة 3/ 364, ونكت الهميان للصفدي ص305، وبغية الوعاة للسيوطي ص409.

"ضربني وضربت الزيدِين" فتوحَّد الفعل الأول معهما؛ لخلوه من الضمير1. ومما اتفقا فيه أيضا إعمال اسم الفاعل الذي بمعنى الماضي في المفعول به مثل: "علي ناظمٌ قصيدتَهُ أمس"2. واتفقا في أن الفعل اللازم إذا بني للمجهول مثل "مُرَّ بِهِ" كان نائب الفاعل ليس الجار والمجرور كما يذهب جمهور النحاة، وإنما ضمير المجهول؛ لأنه يعود إما على المصدر أو الوقت أو المكان، مما يعمل فيه الفعل عادة3. وكذلك اتفقا في أن الماضي المجرد من قَدِ الواقعة جملته خبرا لإن يصح دخول لام الابتداء عليه مثل: "إن محمدا لقام" على إضمار قد، ومنع ذلك الجمهور4. وذهب الأخفش إلى أن صيغة التعجب تصاغ من العاهات فيقال: "ما أعوره", وقاس على ذلك الكسائي -وتبعه هشام- صياغته من الألوان مثل: "ما أحمره", و"ما أبيضه", و"ما أسوده", و"ما أخضره"5. ومما وافق فيه أستاذه مع شيء من التعديل تقدم المفعول به على المبتدأ في مثل: "زيدا أخوه ضارب", و"زيدا أخوه ضرب", فقد كان الكسائي يجيز الصورة الأولى ولا يجيز الصورة الثانية، وأجازهما معا هشام6. وكان يجيز مع أستاذه الفصل بين إذن والمضارع المنصوب بها بمعموله مطلقا، غير أن الكسائي كان يرجح النصب، أما هو فكان يرجح الرفع7. وصورنا فيما أسلفنا خلافه مع أستاذه في وقوع الجملة الطلبية صلة، وقد خالفه في طائفة من الآراء، فمن ذلك ذهاب الكسائي -كما مر بنا- إلى أن الأسماء الخمسة معربة من مكانين بالحركات والحروف معا، بينما ذهب هشام إلى أن الأحرف: الواو والألف والياء هي الإعراب, وأنها نابت عن الحركات8. ومر بنا أن الكسائي كان يجوز الفصل بين لن والمضارع الناصبة له بالقسم ومعمول الفعل مطلقا، وخالفه في ذلك هشام آخذا بوجهة نظر البصريين9. وكان الكسائي يرى رفع لفظة اليوم في مثل: "اليومُ الأحد" وجوز هشام في كلمة "اليوم" النصب على الظرفية؛ لأنها

_ 1 الهمع 1/ 109, وابن يعيش 1/ 77، والمغني ص673. 2 المغني ص770. 3 الهمع 1/ 164. 4 المغني ص202. 5 الهمع 2/ 166. 6 الهمع 1/ 102. 7 المغني ص16. 8 الهمع 1/ 38. 9 الهمع 2/ 4.

حينئذ بمعنى الآن1. وله آراء كثيرة انفرد بها ودارت في كتب النحاة، من ذلك أنه كان يرى -كما مر بنا في غير هذا الموضع- أن عامل الرفع في الفاعل هو الإسناد أي: إسناد الفعل له، وذهب إلى أن العامل في المفعول به هو الفاعل، فمثل: قرأت الكتاب, العامل في الكتاب النصب هو التاء. وزعم في مثل: "ظننت زيدا قائما" أن التاء نصبت زيدا، أما "قائما" فنصبها الظن2. وكان يذهب إلى أن المعتل حين يُجمع جمع مؤنث سالما مثل عِدة وعِدات وثُبَة وثبات ينصب بالفتحة مستدلا على ذلك بحكايته عن العرب "سمعت لغاتَهم" بالنصب3, وجاء عن العرب: "كلمته فاه إلى فيَّ" ومر بنا أن سيبويه كان يعرب كلمة "فاه إلى في" حالا على تقدير: مشافهة، وأعربها الأخفش منصوبة بتقدير "من" أي: على نزع الخافض، وأعربها الكوفيون مفعولا به على تقدير: "جاعلا فاه إلى في". وذهب الجمهور إلى أنه لا يقاس على هذا التركيب, فلا يقال: "كلمته وجهه إلى وجهي, ولا عينه إلى عيني", وذهب هشام إلى القياس عليه، فأجاز مثل: "ماشيته قدمه إلى قدمي، وجاوزته بيته إلى بيتي، وناضلته قوسه عن قوسي" ونحو ذلك4. وكان يذهب مذهب قطرب في أن واو العطف تفيد الترتيب في مثل: قام زيد وعمرو5. ومعروف أن الجمهور كان يعرب: "لا أبالك" على أن أبا اسم مضاف إلى الضمير المجرور باللام, واللام زائدة لا اعتداد بها, والخبر محذوف. وذهب هشام في إعرابها إلى أن الجار والمجرور صفة لأب والخبر محذوف6. وكان يجيز أن يقال: "زيد وحده" لسماع ذلك عن العرب، وكان يعرب "وحده" على أنه منصوب انتصاب الظرف مثل عنده، وزعم في مثل "جاء زيد وحده" أن وحده ليست حالا كما ذهب سيبويه مؤولا لها بكلمة "منفردا", إنما هي منصوبة على الظرفية7. وذهب إلى أن الفاء العاطفة قد تستعمل بمعنى إلى, مستدلا بقول امرئ القيس:

_ 1 الرضي على الكافية 1/ 383. 2 الإنصاف: المسألة رقم11, والهمع 1/ 165. 3 الهمع 1/ 22. 4 الهمع 1/ 237, والرضي على الكافية 1/ 186. 5 المغني ص392, والهمع 2/ 129. 6 الهمع 1/ 145. 7 الهمع 1/ 240.

قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل وهو إبعاد في الفهم والتقدير1. وعلى شاكلته ذهابه إلى أن كيف قد تأتي حرف عطف، وأنشد على ذلك قول بعض الشعراء: إذا قل مال المرء لانت قناته ... وهان على الأدنى فكيفَ الأباعد وهو خطأ واضح لاقترانها -كما قال ابن هشام- بالفاء، وقد خرجها على مضاف محذوف، تقديره: فيكف حال الأباعد. ويمكن أن يكون جر الأباعد ضرورة شعرية, وأن البيت من قصيدة مكسورة الدال2. وله من هذا القبيل آراء يغرب فيها إغرابا بعيدا، من ذلك أنه كان يذهب إلى أن الفاعل ونائب الفاعل قد يكونان جملة مثل: "يعجبني تقوم", والجمهور يؤول ما قد يظن فيه ذلك من صور الكلام3. وكان يذهب في مثل: "مؤدبني" إلى أن النون فيها تنوين لا نون، حتى يفسح لإعمال اسم الفاعل في الياء النصب، ورد ذلك ابن هشام بأنها لو كانت تنوينا لما دخلت على اسم الفاعل الألف واللام في مثل: "الموافيني" من قول الشاعر: وليس الموافيني ليُرْفَدَ4 خائبا5 ومن ذلك أن البصريين وجمهور النحاة كانوا لا يجيزون الجمع بين الفاعل والمفعول في نعت واحد، فلا يقال: "ضرب زيد عمرا الظريفان" وجوز ذلك هشام مع اختيار الرفع6. وكان يذهب إلى أن الواو العاطفة للجمل تغني غناء الضمير في الربط بين المبتدأ وخبره, فيقال مثلا: "زيد جاءت هند وأكرمها" ومنع ذلك الجمهور؛ لأنه لم يرد به سماع, ولأن الواو إنما تكون للجمع في المفردات لا في الجمل بدليل جواز "هذان: قائم وقاعد" دون: "هذان يقوم ويقعد"7. ولعل في كل ما أسلفنا ما يوضح نشاط هشام في درس النحو على ضوء الأشعة التي سالت من آراء الكسائي وأصوله التي وضعها لنحاة الكوفة من بعده، وقد مضى في إثره يُكثر من الاتساع في الرواية والقياس والخلاف على البصريين والنفوذ إلى آراء جديدة، يداخلها كثير من البعد والإغراب.

_ 1 الرضي 2/ 340. 2 المغني ص227، والهمع 2/ 138. 3 المغني ص448، 478. 4 يرفد: يعطى. 5 المغني ص381، 716. 6 الرضي 1/ 290. 7 المغني ص55، والهمع 1/ 98.

الفصل الثالث: الفراء

الفصل الثالث: الفراء 1- نشاطه العلمي: هو يحيى1 بن زياد بن عبد الله، من أصل فارسي من الديلم، ولد بالكوفة سنة 144 للهجرة، ونشأ بها، وأخذ يكبّ منذ نشأته على حلقات المحدثين والقراء أمثال أبي بكر بن عياش وسفيان بن عيينة، واختلف إلى حلقات الفقهاء ورواة الأشعار والأخبار والأيام. وأكثر من الاختلاف إلى حلقة أبي جعفر الرواسي وكأنه لم يجد عنده كل ما يريد من علم العربية، مما جعله يرحل إلى البصرة ويتتلمذ على يونس بن حبيب ويحمل كثيرا عنه مما كان يرويه من لغات الأعراب وأشعارهم. ونظن ظنا أنه اختلف حينئذ إلى حلقات المعتزلة التي كانت مهوى قلوب الشباب والمثقفين والأدباء في البصرة، وأنه تلقن حينئذ مبادئ الاعتزال، وظل مؤمنا بها حفيا، مما جعل مترجميه يقولون: إنه كان متكلما يميل إلى الاعتزال، وآثار اعتزاله واضحة في كتابه معاني القرآن, إذ نراه فيه يتوقف مرارا للرد على الجبرية. ولعل صلته بالاعتزال والمعتزلة هي التي دفعته إلى قراءة كتب الفلسفة والطب والنجوم، فقد كان المعتزلة يحرصون على قراءة هذه الكتب حتى ليقول الجاحظ كما مر بنا: "لا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام, متمكنا في الصناعة حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة، والعالم عندنا "يريد المعتزلة" هو الذي يجمعهما".

_ 1 انظر في ترجمة الفراء: الزبيدي ص143، وأبا الطيب اللغوي ص86، والفهرست ص104، ومقدمة تهذيب اللغة للأزهري, ونزهة الألباء ص98، وتاريخ بغداد 14/ 149، وابن خلكان في يحيى, والأنساب للسمعاني الورقة 420، ومعجم الأدباء 20/ 9, وطبقات الحفاظ 1/ 341, وطبقات القراء 2/ 371، وتهذيب التهذيب 11/ 212, وشذرات الذهب 2/ 19، ومرآة الجنان 2/ 38، وبغية الوعاة ص411.

ومعنى ذلك كله أن الفراء عُني منذ نشأته في الكوفة والبصرة بالوقوف على ثقافات عصره الدينية والعربية والكلامية والفلسفية والعلمية، ويشهد بذلك معاصروه، فيقول ثمامة بن أشرس وقد جلس إليه بأخرة من حياته: "جلست إليه، ففاتشته عن اللغة، فوجدته بحرا، وفاتشته عن النحو، فوجدته نسيج وحده، وعن الفقه فوجدته رجلا فقيها عارفا باختلاف القوم، وبالنجوم ماهرا، وبالطب خبيرا، وبأيام العرب وأخبارها وأشعارها حاذقا". ويصفه مترجموه بالتفلسف في تصانيفه, وأنه كان يستعمل فيها ألفاظ الفلسفة. وقد تعمقه ميل شديد لإتقان العربية، والعناية بالقرآن الكريم وقراءاته وتفسيره, وعاد إلى مسقط رأسه بعد أن حمل من ذلك أزوادا كثيرة. وكانت شهرة مواطنه الكسائي قد أخذت تدوي في بلدته، فرحل إلى بغداد، ولزمه منذ عصر المهدي1، وأخذ كل ما عنده. ويظهر أن أستاذه عرَّف الرشيد به، إذ نراه يحضر مجالسه. ومضى يفرغ للنحو واللغة والقرآن، حتى إذا وجد أستاذه يطلب كتاب سيبويه ويمليه عليه الأخفش انقض على هذا الكتاب يلتهمه التهاما، ويلتهم معه كتابات الأخفش في النحو، ومن طريف ما يروى عنه أنه مات وتحت رأسه الكتاب، وكأنه لم يكن يفارقه. وأكبر الظن أن هذه النسخة للكتاب التي وُجدت تحت رأسه هي نفسها النسخة التي أهداها الجاحظ إلى ابن الزيات وزير المعتصم والواثق، إذ ذكر الرواة أنه أهداه كتاب سيبويه بخط الفراء وعرض الكسائي ومقابلته، فتقبله قبولا حسنا، شاكرا مثنيا2. وقد مضى في إثر أستاذه يكثر من الرواية عن الأعراب الذين نزلوا بغداد، غير ملتفت لطعن البصريين فيهم وفي أمثالهم ممن اختلطوا بأهل الحضر. وتدور في كتابه معاني القرآن روايات كثيرة عن جماعة, منهم في مقدمتها: أبو دثار الفقعسي وأبو زياد الكلابي وأبو ثروان وأبو الجراح العقيلي، فقد وجد عندهم مادة وفيرة من الشعر واللغة. ونظن ظنا أنه تصدر للمحاضرة والإملاء على الطلاب في مسجد كان بجوار

_ 1 مجالس العلماء للزجاجي، ص269. 2 إنباه الرواة 2/ 351.

منزله، وأستاذه الكسائي لا يزال على قيد الحياة. وإنما يدفعنا إلى هذا الظن أننا لا نجد أحاديث عنه تدل على كثرة مخالطته للقصر في عصر الرشيد والأمين ورجال دولتهما، وكأنما وجد في الحياة العلمية الخالصة عالمه الذي شغف به وملك قلبه وفؤاده ملكا صرفه عن العالم الخارجي وكل ما كان يجري فيه. وقد مضى ينفق أيامه في مراجعة كتاب سيبويه وتسجيل ملاحظاته عليه, كما مضى يحاول التصنيف لطلابه في اللغة والنحو والدراسات المتصلة بالقرآن الكريم، وكثرت تصانيفه، من مثل كتاب لغات القرآن وكتاب المصادر في القرآن وكتاب الجمع والتثنية في القرآن وكتاب اختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام في المصاحف وكتاب الوقف والابتداء في القرآن, ومثل كتاب آلة الكتاب وكتاب الفاخر وكتاب النوادر وكتاب مشكل اللغة وكتاب الأيام والليالي والشهور وكتاب الواو وكتاب يافع ويافعة وكتاب المقصور والممدود وكتاب فعل وأفعل وكتاب في النحو سماه الكتاب الكبير. ويظل في هذه الحياة العلمية الخصبة حتى سنة 202 للهجرة، ويحدث أن يكتب إليه عمر بن بكير الراوية الأخباري النسابة، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل في أثناء نيابته عن المأمون ببغداد حين كان لا يزال بمرو قبل تحوله منها إلى عاصمته: بأن الحسن بن سهل يسأله عن الشيء بعد الشيء من القرآن الكريم فلا يحضره فيه جواب، والتمس منه أن يكتب للناس كتابا، يرجع معهم إليه، وكأنه أثار في نفسه عزيمة كان قد اعتزمها في تصنيف كتاب جامع في القرآن، وسرعان ما عقد للناس مجالس أملى فيها كتابه الرائع "معاني القرآن" وامتدت هذه المجالس من رمضان في السنة المذكورة حتى شهور من سنة 204 للهجرة، وهو فيه لا يفسر الذكر الحكيم بالطريقة المعروفة، وإنما يتخير من الآيات على ترتيب السور ما يُدير حوله مباحثه اللغوية والنحوية. وبذلك يحل مشكلها ويوضح غامضها، مدليا دائما بآرائه النحوية، ومعبرا بما اختاره للنحو من مصطلحات جديدة، ناثرا من حين إلى حين آراء أستاذه الكسائي, وآراء النحويين البصريين. ويقدم المأمون بغداد، ويعقد للعلماء من كل صنف مجالس بحضرته

يتحاورون فيها ويتناقشون، ولا يكاد يترك له مستشاروه من مثل ثمامة بن أشرس المعتزلي عالما إلا ويشخصونه إلى مجالسه، ويطلب ثمامة الفراء، ويلقاه، ويعجب به وبثقافته -كما مر بنا- إعجابا شديدا، ويقدمه إلى المأمون، فيحظى بإعجابه. وربما أعجبهما فيه بالإضافة إلى علمه الغزير باللغة والنحو والقرآن اعتزاله، إذ كان المأمون يعتنق الاعتزال مثل مستشاره ثمامة, ولم يلبث أن اختاره مؤدبا لابنيه. وبعثه على تأليف كتاب يجمع أصول النحو، ويقال: إنه أفرد له حجرة في الدار ووكل به من يقومون بكل حاجاته، وصير له جماعة من الوراقين ليملي عليهم الكتاب. ويقال: إنه ظل يمليه ويصنف فصوله ومواده في سنتين، وهو كتاب الحدود، وفي فهرست ابن النديم تعريف دقيق بما تشمل الحدود فيه من فصول النحو وعَتَاده. وفي هذه الأثناء نراه يتصل بطاهر بن الحسين قائد المأمون المشهور الذي قضى له قضاء مبرما على أخيه الأمين. وكان يعنى بابنه عبد الله وبفصاحته، ويظهر أنه لحظ عليه بعض اللحن والخطأ في كلامه أو في بعض كتابته، فطلب إلى الفراء أن يكتب له كتابا يقفه فيه على اللحن المتفشي على ألسنة العوام، فصنف كتابه البهاء أو البهي فيما تلحن فيه العامة. وصنف لعبد الله كتابا ثانيا هو كتابه "المذكر والمؤنث" وهو مطبوع. وما زال يتابع هذا الجهد العلمي المثمر حتى لبى نداء ربه في طريقه إلى مكة سنة 207 للهجرة.

وضعه النهائي للنحو الكوفي ومصطلحاته

2- وضعه النهائي للنحو الكوفي ومصطلحاته: رأينا الكسائي يرسم منهج النحو الكوفي على أسس ثلاثة هي: الاتساع في الرواية بحيث تفتح الأبواب على مصاريعها لرواية الأشعار والأقوال والقراءات الشاذة، والاتساع في القياس بحيث يعتد في قواعد النحو بالشاذ والقليل النادر، والاتساع في مخالفة البصريين اتساعا قد يئول إلى مد القواعد وبسطها بآراء لا تسندها الشواهد اللغوية، بل قد يئول أحيانا إلى رفض المسموع

الشائع على نحو موقفه وموقف الفراء من إعمال أسماء المبالغة على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع. وقد مضى الفراء -في أثر أستاذه- يتسع بهذه الجوانب، وكان عقله أدق وأخصب من عقل الكسائي، إذ كان مثقفا -كما أسلفنا- ثقافة كلامية فلسفية، فكانت قدرته على الاستنباط والتحليل والتركيب واستخراج القواعد والأقيسة والاحتيال للآراء وترتيب مقدماتها لا تُقْرَن إليها قدرة أستاذه، وقد تحول بها إلى تنظيم واسع لما تركه من أسس بانيا عليه من اجتهاده ما أعطى النحو الكوفي صورته النهائية، وهي صورة تقوم على الخلاف مع نحاة البصرة في كثير من الأصول، مع النفوذ إلى وضع مصطلحات جديدة والخلاف مع الخليل وسيبويه في تحليل بعض الكلمات والأدوات وفي كثير من العوامل والمعمولات، ومع مد القياس وبسطه ليشمل كثيرا من اللغات، والإبقاء مع ذلك على فكرة الشذوذ ومخالفة القياس حتى في القراءات. أما الأصول, فقد خالف البصريين فيها في أربع مسائل أساسية، أما المسألة الأولى فعدم تفرقته بين ألقاب الإعراب والبناء، على نحو ما مر بنا في حديثنا عن مدرسة الكوفة، وكان حريا به أن يفصل بينهما كما فصلت مدرسة البصرة؛ تمييزا للألقاب التي يتبعها التنوين من الأخرى التي لا يتبعها. والمسألة الثانية هي أن المصدر مشتق من الفعل، لا كما ذهب إليه البصريون من أن المصدر هو الأصل والفعل مشتق منه، وكان يؤيد رأيه هو والكوفيون بأن المصدر يصح بصحة الفعل ويعتل باعتلاله، فتقول: قِوام من قاوم وقيام من قام، وأن الفعل يعمل فيه النصب، تقول: كتب كتابة، وأنه يؤكده كالمثال المذكور، والمؤكد يتلو ما يؤكده، وأيضا فإنه توجد أفعال لا مصادر لها مثل نعم وبئس وليس، إلى غير ذلك من حجج تحاور معهم فيها البصريون طويلا, مؤيدين رأيهم ببراهين كثيرة1. والمسألة الثالثة هي إعراب الأفعال، وأنه أصل فيها كالأسماء لا أنه أصل في الأسماء

_ 1 الإنصاف: المسألة رقم 28, وانظر الإيضاح في علل النحو للزجاجي ص56، 62.

فرع في الأفعال، وكان سيبويه والبصريون يذهبون إلى الرأي الثاني؛ لأن الاسم تتعاوره معانٍ مختلفة، هي الفاعلية والمفعولية والإضافة, ولولا الإعراب ما استبانت هذه المعاني في صيغة الاسم ولوقع اللبس، بخلاف الفعل فإن اختلاف صيغه في التركيب يؤمن من اللبس فيه. وذهب الفراء إلى أن الإعراب أصل في الأفعال كالأسماء، واحتج بأنها هي الأخرى تختلف معانيها الزمنية، فقد تدل على الحال، وقد تدل على الاستقبال، وقد تدل على المضي، ومعروف أن المضارع قد يدل على الاستمرار في مثل "يشعر", إذ تقوم مقام شاعر، وفي هذه الحالة يصبح المضارع مثل الاسم الذي يلزم المسمى ولا يزايله1. والمسألة الرابعة مسألة الأفعال وأقسامها، أما البصريون فيقسمون الفعل القسمة المعروفة إلى: ماض ومضارع وأمر، وأما الفراء وتبعه الكوفيون، فقسمه إلى: ماض ومضارع ودائم، وهو لا يريد بالدائم فعل الأمر، وإنما يريد اسم الفاعل كما مر بنا في فصل المدرسة الكوفية2. أما فعل الأمر فمقتطع عنده من المضارع المجزوم بلام الأمر، يقول: "العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجَه لكثرة الأمر خاصة في كلامهم، فحذفوا اللام كما حذفوا التاء من الفعل "المضارع في مثل: لتضربْ" وأنت تعلم أن الجازم أو الناصب لا يقعان إلا على الفعل الذي أوله الياء والتاء والنون والألف. فلما حذفت التاء ذهبتَ باللام، وأحدثتَ الألف في قولك: اضرب وافرح؛ لأن الضاد ساكنة، فلم يستقم أن يُستأنف بحرف ساكن فأدخلوا ألفا خفيفة "يريد ألف الوصل" يقع بها الابتداء، كما قال: {ادَّارَكُوا} و {اثَّاقَلْتُمْ} . وكان الكسائي يعيب قولهم: "فلتفرحوا"؛ لأنه وجده قليلا فجعله عيبا، وهو الأصل "يريد أصل الأمر" ولقد سمعت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في بعض المشاهد: "لتأخذوا مصافَّكم"، يريد به: خذوا مصافكم3. وبذلك يكون الأمر عنده

_ 1 الزجاجي ص80، والرضي على الكافية 1/ 19، والهمع 1/ 15. 2 انظر معاني القرآن 1/ 165، حيث يقرن الفعل الماضي بالدائم ويريد اسم الفاعل, وقارن بصفحة 33. 3 معاني القرآن 1/ 469.

مجزوم الآخر لا مبنيا، فهو معرب إعراب أصله المقتطع منه1. وعلى ضوء ما هو معروف عند المعتزلة من أن المسلم الفاسق في منزلة وسطى بين المؤمن والكافر, ذهب إلى أن "كِلا" التي يضعها الخليل والبصريون في باب الأسماء ليست اسما ولا فعلا, بل هي في مرتبة متوسطة بينهما، واحتج لذلك بأنها لا تنفرد أي: إنه ليس لها مفرد، وأنها كالفعل الماضي المعتل الآخر المنقلبة ألفه عن ياء، إذا وليها اسم ظاهر لزمتها الألف، وإذا وليها ضمير قُلبت ياء فتقول: رأيت كلا الرجلين ورأيت كليهما، كما تقول: قضى الحق وقضيته2. وأكثر من التبديل والتغيير في المصطلحات النحوية التي وضعها الخليل وسيبويه، وأضاف إليها بعض المصطلحات الجديدة، ونحن نعرض ذلك عنده من كلامه ومن كتب النحاة، وأول ما نعرض اصطلاح التقريب ويريد به اسم الإشارة حين يليه الخبر وحال منصوبة في مثل: "هذا زيد شاعرا", و"هذا الأسد مخوفا", فإنه لم يكن يعرب الجملة على هذا النحو الذي ذكرناه، أو بعبارة أخرى: على نحو ما كان يعربها سيبويه، بل كان يجعل اسم الإشارة كأنه مشبه لكان إذ يليه -مثلها- مرفوع ومنصوب، ويقول: إن المنصوب ينصب بخلوه من العامل، كما نصب خبر كان، أي: لعدم وجود رافع له يرفعه3، ولعل ذلك ما جعل بعض خالفيه من الكوفيين يجعل هذا من أخوات كان، وما وراءها اسمها وخبرها، أما "هذا" فيعرب تقريبا4. وما نتقدم في قراءة كتابه "معاني القرآن" كثيرا حتى نجده يتحدث عن مصطلح ثانٍ له وضعه, هو مصطلح الصرف, ويقصد به النصب في بابين هما: باب الفعل المضارع المنصوب بعد الواو والفاء وأو، وباب المفعول معه، إذ يصرف المضارع والمفعول معه عما قبله، فلا تكون الواو فيهما عاطفة، بل تكون واو صرف

_ 1 الهمع 1/ 9, وقد يعبر عن الجزم بالبناء لما ذكرناه عنده من قلب ألقاب الإعراب والبناء. 2 طبقات النحويين واللغويين للزبيدي، ص145. 3 معاني القرآن 1/ 12 وما بعدها. 4 الهمع 1/ 113.

لهما عما قبلهما، ومثلها الفاء وأو، ويشرح ذلك مع الواو1 وأو, فيقول: الصرف "أن تأتي بالواو معطوفة على كلام في أوله حادثة, لا تستقيم إعادتها على ما عُطف عليها ... كقول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله ... عار عليك إذا فعلتَ عظيم ألا ترى أنه لا يجوز إعادة لا في "تأتي مثله"؛ فلذلك سمي صرفا, إذ كان معطوفا ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي قبله. ومثله من الأسماء التي نصبتها العرب وهي معطوفة على مرفوع قولهم: "لو تُركت والأسدَ لأكلك" و"لو خُلِّيتَ ورأيَك لضللتَ" ... والعرب تقول: "لستُ لأبي إن لم أقتلك, أو تذهبَ نفسي" ويقولون: "والله لأضربنَّك أو تسبقَنِّي في الأرض" فهذا مردود "معطوف" على أول الكلام ومعناه الصرف؛ لأنه لا يجوز على الثاني إعادة الجزم بلم, ولا إعادة اليمين على والله لتسبقني، وتجد ذلك إذا امتحنتَ الكلام"2. ويقول في موضع ثانٍ: "الصرف: أن يجتمع الفعلان بالواو أو ثم أو الفاء أو أو, وفي أولهما جحد "نفي" أو استفهام, ثم ترى ذلك الجحد أو الاستفهام ممتنعا أن يُكر في العطف, فذلك الصرف"3. ونرى هذا الاصطلاح عند الفراء يقرن باصطلاح آخر ينسب إليه أيضا هو الخلاف، إذ يقول الرضي: إن الأفعال المضارعة تنصب بعد الواو والفاء وأو عند الفراء على الخلاف، ويشرح رأيه فيقول: "أي: إن المعطوف بها صار مخالفا للمعطوف عليه في المعنى، فخالفه في الإعراب كما انتصب الاسم الذي بعد الواو في المفعول معه لما خالف ما قبله، وإنما حصل التخالف ههنا بينهما؛ لأنه طرأ على الفاء معنى السببية وعلى الواو معنى الجمعية وعلى أو معنى النهاية والاستثناء"4. ولعله كان يتداول الاصطلاحين في كتاباته، ومن هنا كنا

_ 1 معروف أن الواو والفاء الناصبتين للمضارع لا تنصبانه إلا بعد نفي أو طلب، وتسميان عند البصريين واو المعية وفاء السببية، وأو لا تنصب المضارع إلا إذا كان معناها إلى أو إلا, وثلاثتها لا تنصبه عند البصريين مباشرة، وإنما تنصبه بأن مضمرة وجوبا. 2 معاني القرآن 1/ 34. 3 معاني القرآن 2/ 235. 4 الرضي على الكافية 2/ 224, وانظر ابن يعيش 2/ 49، والهمع 1/ 220.

نظن أنه هو أيضا الذي ذهب إلى أن الظرف الواقع خبرا في مثل: "محمد عندك" منصوب على الخلاف1. وتتردد في كتاب معاني القرآن تسمية الفعل المتعدي باسم الفعل الواقع، كما تتردد "أوقعتَ عليه الفعل" بدلا من "عديت إليه الفعل"2, ويسمي الفعل المبني للمجهول باسم "الذي لم يُسم فاعله"3 كما يسمي الضمير المكني والكناية4. وكان يصطلح على تسمية ضميري الشأن والفصل باسم العماد في مثل: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} أي: الحال والشأن أن الإخراج محرم عليكم5. وفي مثل: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} يقول: "في {الْحَقَّ} النصب والرفع إن جعلت هو اسما رفعت الحق بها وإن جعلتها عمادا بمنزلة الصلة "أي الحشو" نصبت الحق، وكذلك فافعل في أخوات كان وظن وأخواتها كما قال الله تبارك وتعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} تنصب {الْحَقَّ} ؛ لأن رأيت من أخوات ظننت"6. واصطلح على تسمية النفي باسم الجحد، كما مر آنفا في بعض حديثه، ويقول: "وُضعت بلى لكل إقرار في أوله جحد "أي: نفي" ووضعت نعم للاستفهام الذي لا جحد فيه، فبلى بمنزلة نعم إلا أنها لا تكون إلا لما في أوله جحد"7. وسمى لا النافية للجنس باسم التبرئة، يقول تعليقا على قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} : "القراء على نصب ذلك كله بالتبرئة"8. وكان يسمي حرف الجر الصفة، يقول تعليقا على قوله عز وجل: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} : "يريد: فلا جناح عليهما في أن يتراجعا و {أَنْ} في موضع نصب إذا نُزعت الصفة"9. وواضح أنه يقصد بالصفة حرف الجر

_ 1 الإنصاف: المسألة رقم 29, وابن يعيش 1/ 91، والرضي 1/ 83. 2 معاني القرآن 1/ 21، 40، 121. 3 معاني القرآن 1/ 301. 4 معاني القرآن 1/ 5، 19. 5 معاني القرآن 1/ 51. 6 معاني القرآن 1/ 409، وانظر الجزء الثاني "طبع الدار المصرية للتأليف والترجمة" ص212، 228، 287، 352. 7 معاني القرآن 1/ 52. 8 معاني القرآن 1/ 120. 9 معاني القرآن 1/ 148.

"في". وقد سمى حروف الزيادة حشوا ولغوا وصلة1 كما أطلق على الظرف اسم المحل2. وكان يسمي الاسم المنصرف والآخر الممنوع من الصرف على التوالي: ما يجرى وما لا يجرى, أو المجرى وغير المجرى، وعبر مرارا بالإجراء عن الصرف3. وكان يسمي التمييز مفسِّرا، يقول تعليقا على قوله سبحانه: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا} : "نُصب الذهب لأنه مفسِّر، لا يأتي مثله إلا نكرة، فخرج نصبه كنصب قولك: عندي عشرون درهما، ولك خيرهما كبشا، ومثل قوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} . وإنما ينصب على خروجه من المقدار الذي تراه قد ذُكر قبله، مثل ملء الأرض أو عَدْل ذلك، فالعدل مقدار معروف، وملء الأرض مقدار معروف، فانصبْ ما أتاك على هذا المثال ما أُضيف إلى شيء له قدر، كقولك: عندي قدر قفيز4 دقيقا، وقدر حَمْلَة تبنا، وقدر رطلين عسلا. فهذه مقادير معروفة يخرج الذي بعدها مفسِّرا؛ لأنك ترى التفسير خارجا من الوصف يدل على جنس المقدار من أي شيء هو، كما أنك إذا قلت: عندي عشرون، فقد أخبرت عن عدد مجهول قد تم خبره، وجُهل جنسه، وبقي تفسيره، فصار هذا مفسرا عنه؛ فلذلك نُصب"5. وسمى المفعول لأجله في بعض المواضع تفسيرا, يقول تعليقا على الآية الكريمة: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} : "نصب {حَذَرَ} على غير وقوع من الفعل عليه، لم يرد يجعلونها حذرا، إنما هو كقولك: أعطيتك خوفا وفرقا، فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل الخوف، فنصبه على التفسير ليس بالفعل "أي: ليس مفعولا به" كقوله عز وجل: {يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} , وكقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} "6. وأكثر من تسمية البدل تكريرا وتبيينا وتفسيرا وترجمة7، وكأنه بكل ذلك

_ 1 معاني القرآن 1/ 58، 176، 245. 2 معاني القرآن 1/ 28، 119. 3 معاني القرآن 1/ 42، 428, وانظر 2/ 19، 2/ 175. 4 مكيال للحبوب. 5 معاني القرآن 1/ 225. 6 معاني القرآن 1/ 17. 7 معاني القرآن 1/ 7، 51، 56، 192، 320، 348، وانظر 2/ 58، 69، 138، 178، 273، 360.

كان يريد أن يشرح معناه. ويستخدم كلمة الإتباع كثيرا للدلالة على أن الكلمة من التوابع ومثلها كلمة الرد1، وهو أول من اصطلح على تسمية العطف بالحروف: الواو وأخواتها باسم عطف النسق2, وكذلك هو أول من اصطلح على تسمية النعت باسمه3, وكان سيبويه والبصريون يسمونه الصفة. وحاول، بجانب هذه المصطلحات الجديدة التي أراد بها أن يسوي لنحو بلدته صورة متميزة، أن يخالف الخليل وسيبويه في تفسيرهما وتحليلهما لكثير من الألفاظ والأدوات، فمن ذلك: "اللهم" إذ كان الخليل يرى أنها لزمتها الميم المشددة عوضا عن "يا" التي كان ينبغي أن تتقدمها؛ ولذلك لا تجتمعان. وذهب الفراء إلى أنها اختزال من كلمة "يا ألله أُمَّنا بخير" حدث ذلك فيها لكثرة دورانها على لسانهم4, وهو تخريج بعيد. ومن ذلك "هلم" كان الخليل يرى أنها مركبة من ها التنبيهية وفعل لُمَّ، ولكثرة استعمالها حذفت الألف من ها وأصبحت كأنها كلمة واحدة. وكان الفراء يرى أن أصلها: "هل أم" من فعل أم أي: قصد، فخففت الهمزة، بأن ألقيت حركتها على اللام وحذفت، فصارت "هلم"5. وتخريج الخليل أقرب؛ لأنها تخلو من معاني الاستفهام. ومن ذلك "إياك" ولواحقها كان الخليل يذهب إلى أن إيا اسم مضمر مبهم أضيف إلى الضمير لتخصيصه وذهب غيره من البصريين إلى أن "إيا" ضمير والكاف وأخواتها حروف تبين حال الضمير من التكلم والخطاب والغيبة، بينما ذهب الفراء إلى أن "إيا" حرف زيد دعامة، ولواحقه هي الضمائر التي تكون في موضع نصب حسب مواقعها6. ومن ذلك "لن" كان الخليل يرى أن أصلها: "لا أن"؛ فحذفت الهمزة تخفيفا والألف لالتقاء الساكنين، وكأنه وصلها بأن حتى يعلل لنصبها المضارع، وذهب الفراء إلى أن أصلها "لا" وأُبدلت الألف نونا فيها

_ 1 معاني القرآن 1/ 17، 70، 82، وانظر 2/ 97. 2 معاني القرآن 1/ 44، 72، وانظر 2/ 70. 3 معاني القرآن 1/ 112، 198، 277، وانظر 2/ 145، 250, 364، 366. 4 معاني القرآن 1/ 203، وابن يعيش 2/ 16، وانظر الكتاب 1/ 310. 5 معاني القرآن 1/ 203، وابن يعيش 4/ 42، والهمع 2/ 106. 6 الهمع 1/ 61.

على نحو ما أبدلت ميما في "لم"1. ومن ذلك "لكن" ذهب البصريون إلى أنها بسيطة، وذهب الفراء إلى أن أصلها "أن" زِيدت عليها لام وكاف، وطُرحت الهمزة للتخفيف، كما زيدت عليها اللام والهاء في بعض اللغات، فأصبحت "لَهِنَّك"2. ومن ذلك" كم" ذهب البصريون إلى أنها بسيطة موضوعة للعدد، بينما ذهب الفراء إلى أنها مركبة من الكاف وما، وكثرت في كلامهم، فحذفت الألف تخفيفا، وسكنت الميم3. ومن ذلك "أنت" ولواحقها كان الخليل يعد "أن" الضمير والتاء وتوابعها حروف تدل على الخطاب، وكان الفراء يذهب إلى أن "أنت" بسيطة وليست مركبة4. ومن ذلك "هو" كان يذهب فيها إلى أن الهاء هي الضمير والواو صلة، وكذلك "هي" الهاء الضمير والياء صلة، بدليل سقوطهما جميعا في التثنية تقول: هما وقد ألحقوا بالهاء حينئذ ميما؛ ليقوا بالميم فتحة الألف5. ومن ذلك "ويحك وويلك" ذهب البصريون إلى أنهما مؤلفان من ويح وويل، بدليل مجيئهما هكذا في الكلام، وذهب الفراء إلى أن أصلهما "وي" ووُصلا بحاء مرة وبلام مرة مع إضافة كاف الخطاب6. ومن ذلك "مذ ومنذ" ذهب البصريون إلى أنهما بسيطتان ومنذ هي الأصل، وذهب الفراء إلى أنهما مركبتان وأن أصلهما "من ذو" أي: من الجارة وذو الطائية التي تأتي بمعنى الذي، وكأنك حين تقول: "ما رأيته مذ يومان" إنما تقول: "ما رأيته من الزمان الذي هو يومان"7. وبنفس التفسير فسر "ماذا" في قولك: "ماذا صنعت؟ " فجعلها مركبة من ما الاستفهامية وذا الطائية8. ومن طرائف تفسيره, تحليله لكلمة "الآن" فقد ذهب إلى أن أصلها "أوان" حذفت منها الألف الوسطى وغُيِّرت واوها إلى الألف وأدخلت عليها الألف واللام. ويعقب

_ 1 المغني ص314، والرضي على الكافية 1/ 218، وابن يعيش 8/ 113، والهمع 2/ 3. 2 معاني القرآن 1/ 465، وانظر المغني ص322. 3 معاني القرآن 1/ 466, وانظر الإنصاف: المسألة رقم 40. 4 الرضي على الكافية 2/ 10، وانظر الكتاب 2/ 67. 5 مجالس العلماء للزجاجي "طبع الكويت" ص137. 6 ابن يعيش 1/ 121. 7 ابن يعيش 8/ 46. 8 معاني القرآن 1/ 138.

على هذا التفسير بقوله: "وإن شئت جعلت الآن أصلها من قولك: آن لك أن تفعل، أدخلت عليها الألف واللام ثم تركتها على مذهب فَعَل "أي: على أصلها الفعلي", فأتاها النصب من نصب فَعَل، وهو وجه جيد"1. وكان يذهب إلى أن أصل "الذي" ذا المشار بها وكذلك أصل "التي" تي المشار بها2. ومر بنا في ترجمة الخليل توجيهه لمنع الصرف في أشياء, وأنه حدث فيها قلب أتاح لها منع الصرف، إذ وزنها لفعاء لا أفعال كما قد يتبادر، وذهب بعض النحويين إلى أن جمعها أفعال غير أنها أشبهت فعلاء مثل حمراء, فمنعوها من الصرف توهما، وذهب الفراء إلى أنها جمعت على أفعلاء مثل بيِّن وأبيناء، فأصبحت أشيئاء، وحذفت الهمزة من وسطها لكثرتها في الاستعمال، فأصبحت أشياء3. ومن آرائه الطريفة أن أصل "بلى" التي يُجاب بها في النفي في مثل: أليس معك الكتاب؟ فيقال: بلى للدلالة على الرجوع عن النفي، يقول: أصلها: بل العاطفة في مثل: ما قام زيد بل عمرو، إذ بل تدل في هذا التعبير على الرجوع عن النفي، بالضبط مثل بلى في جواب الاستفهام عن النفي، وكل ما في الأمر أنهم زادوا عليها ألفا حتى تصلح للوقوف عليها4. ومر بنا في ترجمة الكسائي تفسيره لإلا الاستثنائية. وعلى هذه الشاكلة كان الفراء يحاول -بكل جهده- أن يضع تفسيرا جديدا لبعض الكلمات والأدوات, كما كان يحاول جاهدا أيضا أن يضع في النحو مصطلحات جديدة، مستعينا في ذلك كله بعقله المتفلسف الخصب. وما زال يلح في ذلك حتى استطاع حقا أن يكون للكوفة مدرسة مستقلة في النحو، لا كل الاستقلال، فهي لا تزال تعتمد على ما وضعت البصرة من أسس، ولكنها في الوقت نفسه تحاول التميّز والتفرّد وأن تكون لها شخصيتها المستقلة، وقد أتيح لها ذلك على يد الفراء لا من حيث ما قدمنا من تحليل بعض الأدوات والكلمات وجلب مصطلحات مبتكرة فحسب، بل أيضا من حيث النفوذ إلى

_ 1 معاني القرآن 1/ 467 وما بعدها. 2 الهمع 1/ 82. 3 معاني القرآن 1/ 321. 4 معاني القرآن 1/ 53.

آراء كثيرة في العوامل والمعمولات ومد السماع والقياس حينا وقبضهما حينا آخر، وبذلك كله استوت للنحو الكوفي صورة مختلفة عن صورة النحو البصري اختلافا واضحا.

العوامل والمعمولات

3- العوامل والمعمولات: أخذ الفراء يردد النظر في العوامل والمعمولات التي فرضها البصريون على النحو وقواعده، وتحول ذلك عنده إلى ما يشبه سباقا بينه وبينهم، وأحيانا يلتقي بهم وبخاصة بالأخفش على نحو ما مر بنا في ترجمته، وأحيانا يفترق، ويهمنا أن نقف عند مواضع افتراقه؛ لأنها هي التي تفرق النحو الكوفي، كما تصوره، من النحو البصري. ونقف أولا عند العوامل، ومر بنا أنه كان يرى ما رآه الأخفش من أن العامل في رفع المضارع هو تجرده من العوامل، أو كما قال: هو تجرده من الناصب والجازم. وكان البصريون يذهبون إلى أن العامل في المفعول به هو الفعل السابق له أو ما يشبهه من مصدر واسم فاعل، وكان الكسائي يذهب إلى أن العامل فيه هو خروجه عن وصف الفعل. وذهب الفراء إلى أن العامل فيه هو الفعل والفاعل معا، وبذلك عدَّد العامل فيه1، كما عدَّده في مثل: "قام وقعد محمد" إذ جعل لفظة محمد في مثل هذا التعبير فاعلا للفعلين معا، على نحو ما أسلفنا في غير هذا الموضع. وعدده أيضا في مثل: "يا تيمَ تيمَ عدي" إذ جعل كلمتي "تيم" مضافتين معا إلى عدي. وقد يكون هذا الرأي أوجه من رأي سيبويه, إذ ذهب إلى أن "تيم" الأولى هي المضافة إلى عدي والثانية مقحمة بين المضاف والمضاف إليه، والأصل "يا تيم عدي تيمه", فحُذف الضمير من تيم الثانية وأقحمت. وذهب المبرد إلى أن "تيم" الثانية مضافة إلى عدي مقدرة، أي: إنها

_ 1 الرضي 1/ 18، 116, والهمع 1/ 165.

على نية الإضافة إلى مقدر مثل المضاف إليه1. وكان يذهب إلى أن "كان" يليها فاعل مرفوع وحال منصوب، وقد يسمي اسمها شبه فاعل وخبرها شبه حال، وقد يقول: إن الخبر نُصب بخلوه من العامل2. وذهب إلى أن حاشا الاستثنائية في مثل: "جاء القوم حاشا زيدٍ" فعل لا فاعل له، وزيد مجرورة بلام مقدرة، والأصل "حاشا لزيد" وحذفت اللام لكثرة الاستعمال، وكان سيبويه يذهب إلى أنها دائما حرف جر. وجمع المبرد بين الرأيين، فقال: إنها تكون حرف جر كما ذهب سيبويه، وقد تكون فعلا ينصب ما بعده بدليل تصرفه إذ يقال: حاش وأحاشي3. وكان البصريون وأستاذه الكسائي يذهبون إلى أن نعم وبئس فعلان ماضيان لا يتصرفان، وخالفهما ذاهبا إلى أنهما اسمان مبتدآن لعدم تصرفهما ولدخول حرف الجر عليهما في بعض كلام العرب وأشعارهم, كقول أعرابي بُشِّر بمولودة: "والله ما هي بنعم المولودة"4. وذهب الكسائي مع البصريين إلى أن صيغة التعجب في مثل: "ما أكرم محمدا" فعل ماضٍ، وذهب الفراء إلى أنها اسم مبني خبر لما الاستفهامية، فما ليست تعجبية بمعنى شيء وإنما هي استفهامية، واحتج لاسمية صيغة التعجب بأنه قد يدخلها التصغير في مثل قول الشاعر: يا ما أميلح غزلانا شدن لنا والتصغير إنما يدخل في الأسماء لا في الأفعال5. وذهب -كما مر بنا في غير هذا الموضع- إلى أن لولا في مثل: "لولا السفر لزرتك" هي التي تعمل الرفع في كلمة السفر أو بعبارة أخرى: في تاليها، فكلمة السفر مرفوعة بها، وكان الكسائي يذهب إلى أن المرفوع بعدها فاعل لفعل مقدر، وذهب سيبويه إلى أنه مبتدأ محذوف الخبر6. وكان يذهب إلى أن

_ 1 الهمع 1/ 177. 2 معاني القرآن 1/ 13، وانظر الرضي 1/ 74، والهمع 1/ 111، 151. 3 ابن يعيش 2/ 84، والإنصاف: المسألة رقم 37، والهمع 1/ 223. 4 في معاني القرآن 1/ 268: بئس ونعم دلالة على مدح أو ذم, لم يرد منهما مذهب الفعل مثل: قاما وقعدا، وانظر 2/ 141 حيث ينص على اسميتهما, وابن يعيش 7/ 127، والإنصاف: المسألة رقم 14. 5 ابن يعيش 7/ 143، والإنصاف: المسألة رقم 15. 6 معاني القرآن 1/ 404، وابن يعيش 3/ 118، والرضي 1/ 93، 2/ 118، والإنصاف: المسألة رقم 10.

"حتى" تنصب المضارع بنفسها لا بأن مضمرة وجوبا كما ذهب البصريون1. وذهب إلى أن "ليت" كما ترفع الخبر قد تنصبه مع نصب الاسم كقول بعض الشعراء: يا ليت أيام الصبا رواجعا وزعم أن ليت حينئذ تجري مجرى "أتمنى", وأول ذلك الجمهور على أن الخبر محذوف و"رواجعا" حال، وأوله الكسائي على حذف كان مقدرة قبل الخبر, أي: "يا ليت أيام الصبا كانت رواجع"2. وكان يذهب إلى أن "ما لك، وما بالك، وما شأنك" تنصب الاسم الذي يليها معرفة ونكرة, كما تنصب كان وأظن لأنها نواقص في المعنى وإن ظننت أنهن تامات، فتقول: "ما لك الناظرَ في أمرنا" و"ما لك ناظرا في أمرنا"، وكذلك أختاها. وبذلك وجّه الإعراب في قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} , وقوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} وكأنه جعل كل هذه الحروف أفعالا ناقصة، بل لقد صرح بذلك في تضاعيف كلامه3. وإذا تركنا العوامل إلى المعمولات لقيتنا له آراء كثيرة وخاصة حين يعمد إلى التقدير والتخريج، من ذلك أنه كان يذهب مذهب الأخفش في أن المرفوع بعد إذا وإن الشرطية في مثل: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} , و {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} , و {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} مبتدأ وليس فاعلا لفعل محذوف كما ذهب إلى ذلك سيبويه وجمهور البصريين4. وكان يجعل الاسم المنصوب في باب الاشتغال في مثل: "محمدا لقيته" منصوبا بالهاء التي عادت عليه من الفعل، بينما ذهب الكسائي إلى أن الضمير ملغى، وذهب البصريون إلى أن "محمدا" في المثال مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور5. وذكرنا أنه كان يذهب في مثل: قام وقعد محمد, إلى أن محمدا فاعل للفعلين جميعا، بينما كان يذهب الكسائي إلى أن الفعل الأول فاعله محذوف ولا فاعل له، وذهب البصريون إلى أن محمدا

_ 1 معاني القرآن 1/ 134 وما بعدها, وانظر الهمع 2/ 8. 2 ابن يعيش 8/ 84, والرضي 2/ 322, والمغني ص316، والهمع 1 134. 3 معاني القرآن 1/ 281. 4 الرضي 1/ 162، وانظر ابن يعيش 9/ 10، والمغني ص643. 5 الرضي 1/ 148، والإنصاف المسألة رقم 12، والهمع 2/ 114، وانظر معاني القرآن 2/ 207.

فاعل للفعل الثاني، أما الفعل الأول ففاعله مضمر مستتر فيه1. ومر بنا في ترجمة الفراء أنه كان يذهب إلى أن المنادى مبني على الضم، فليس محله النصب كما ذهب إلى ذلك سيبويه وجمهور البصريين، وليس مرفوعا معربا كما ذهب إلى ذلك أستاذه الكسائي2. ومر بنا أيضا أنه خالفه في أنه لا يصح العطف على اسم إن بالرفع إلا إذا كان اسمها غير واضح الإعراب كأن يكون مبنيا على نحو ما في الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ويوضح ذلك قائلا، رادا على أستاذه: "عطف {وَالصَّابِئُونَ} على {الَّذِينَ} ، و {الَّذِينَ} حرف على جهة واحدة في رفعه وخفضه "أي: إنه مبني لا يتغير آخره" فلما كان إعرابه واحدا وكان نصب إنّ نصبا ضعيفا، وضعفه أنه يقع على الاسم ولا يقع على خبره؛ "لأن الخبر عنده مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخول إن، وهو المبتدأ الذي أصبح اسمها" جاز رفع الصابئين، ولا أستحب أن أقول: إن عبد الله وزيدٌ قائمان لتبين الإعراب في عبد الله، وقد كان الكسائي يجيزه لضعف إن، وقد أنشدونا هذا البيت رفعا ونصبا: فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب وليس هذا بحجة للكسائي في إجازته: إن عمرا وزيد قائمان؛ لأن قيارا قد عُطف على اسم مكني عنه "يريد الضمير" والمكني لا إعراب له, فسهل ذلك كما سهل في {الَّذِينَ} إذ عطفت عليه {وَالصَّابِئُونَ} ... وأنشدني بعضهم: وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما حَيِينا في شقاق وقال الآخر: يا ليتني وأنت يا لميس ... ببلد ليس به أنيس3 وكان يخالف أستاذه أيضا في إعراب الضمير المتصل بأسماء الأفعال في مثل "مكانك" بمعنى قف, و"عندك ولديك ودونك" بمعنى خذ, و"وراءك"

_ 1 الرضي 1/ 70 وما بعدها, والمغني ص542، والهمع 2/ 109. 2 الرضي 1/ 129، والإنصاف المسألة رقم 45. 3 معاني القرآن 1/ 310, وانظر المغني ص527، والهمع 2/ 144.

بمعنى تأخر, و"أمامك" بمعنى تقدم, و"عليك" بمعنى الزم, فقد كان الكسائي يذهب إلى أنه مفعول به ومحله النصب، وذهب جمهور البصريين إلى أنه مجرور بالإضافة، بينما ذهب الفراء إلى أنه مرفوع على الفاعلية؛ لأنه قد يليها منصوب مثل: "عليك زيدا"1. ومر بنا أنه كان يوافق أستاذه في أن الأسماء الخمسة تعرب من مكانين، فإذا قلت: "هذا أبوك" كانت علامة الرفع في كلمة "أبوك" الواو والضمة التي قبلها, وإذا قلت: "رأيت أباك" كانت علامة النصب الألف والفتحة التي قبلها، وإذا قلت: مررت بأبيك, كانت علامة الجر الياء والكسرة التي قبلها2. وذهب سيبويه والبصريون إلى أن تمييز "كم" الخبرية مجرور دائما وإن جاء منصوبا شذوذا، وتمييز "كم" الاستفهامية منصوب دائما إلا إذا جُرت مثل: "بكم درهم اشتريت هذا الكتاب؟ "، وذهب الفراء إلى أنه يجوز في تمييزها جميعا النصب والجر بمن مضمرة3، وقد علق على كم التكثيرية في الآية الكريمة: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} ملاحظا أن ما يليها قد يأتي مجرورا ومنصوبا ومرفوعا, يقول: "من ذلك قول العرب: كم رجلٍ كريم قد رأيت! وكم جيشا جرارا قد هزمت! وأنشدوا قول الشاعر: كم عمةً لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت عليَّ عشاري4 رفعا ونصبا وخفضا، فمن نصب قال: كان أصل كم الاستفهام وما بعدها من النكرة مفسر "مميز" كتفسير العدد، فتركناها في الخبر على جهتها وما كانت عليه في الاستفهام, فنصبنا ما بعد كم من النكرات كما تقول: عندي كذا وكذا درهما. ومن خفض قال: طالت صحبة مِن للنكرة في كم، فلما حذفناها أعملنا إرادتها فخفضنا، كما قالت العرب: إذا قيل لأحدهم: كيف أصبحت؟ قال: خيرٍ عافاك الله، فخفض، يريد: بخير، وأما من رفع فأعمل الفعل الآخر ونوى تقديم الفعل, كأنه قال: كم قد أتاني رجل كريم"5.

_ 1 الرضي 2/ 65، والهمع 2/ 106، وانظر معاني القرآن 1/ 323 حيث صرح بأنه لا يجوز أن يتقدم منصوبها عليها, فلا يقال: زيدا عليك مخالفا بذلك أستاذه، وقارن بالهمع 2/ 105. 2 الهمع 1/ 38، وابن يعيش 1/ 52. 3 المغني ص202، والهمع 1/ 254. 4 فدعاء: معوجة رسغ اليد من كثرة الحلب، والعشار: جمع عشراء وهي الناقة الحامل في شهرها العاشر. 5 معاني القرآن 1/ 168.

وكأنه كان يجوِّز الرفع مع كم التكثيرية على هذا الوجه الذي خرج به الرفع في البيت. ويبدو أنه لم يكن يأخذ بفكرة التقدير في الجار والمجرور والظرف حين يقعان خبرا أو نائب فاعل أو صفة أو حالا، فقد كان البصريون يقدرون أنهما متعلقان بمحذوف تقديره: استقر أو مستقر، أما هو فقد مر بنا أنه كان يعرب الظرف حين يقع مبتدأ في مثل: "محمد عندك" خبرا منصوبا بالخلاف, وطبيعي أن يمد ذلك في مواضعه الأخرى. أما الجار والمجرور فكان يجعل الجار هو الخبر في مثل: الكتاب لك كما كان يجعله في محل نصب في مثل: مر زيد بعمرو، ومن هنا جعله نائب الفاعل مع الفعل اللازم حين يُبنَى للمجهول مثل: "مُر بعمرو"1. ولعله من أجل ذلك كان يسميه الصفة على نحو ما مر بنا آنفا. وبذلك نفهم إعرابه مثل: "كل رجل وصنعته" فقد كان سيبويه والبصريون يقدرون الخبر محذوفا تقديره: مقترنان، وكان يذهب إلى أن الخبر لم يحذف، وإنما أغنت عنه الواو فكأنها هي الخبر، وبذلك تكون هي الرافعة للمبتدأ، إذ هو وخبره يترافعان, أو بعبارة أخرى: كلاهما يرفع صاحبه، يقول تعليقا على قول بعض الشعراء: هلا التقدمُ والقلوبُ صِحاحُ بم رُفع التقدم "أي: المبتدأ"؟ قلت: بمعنى الواو في قوله: "والقلوب صحاح", كأنه قال: "العظة القلوب فارغة" و"الرطب والحر شديد"2, ومعنى ذلك كله أن الحروف عنده كانت تعرب إعراب الأسماء حين تطلبها العوامل. وكان يذهب إلى أن الفاء العاطفة لا تفيد الترتيب أحيانا كقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} 3 وفي الوقت نفسه ذهب إلى أن الواو العاطفة قد تفيد الترتيب4، مما جعل ابن هشام يعمم عنده قائلا: "وقال الفراء: إن الفاء لا تفيد الترتيب مطلقا، وهذا مع قوله: إن الواو تفيد الترتيب غريب"5. وكان سيبويه والبصريون يرون أن "أو" لا تأتي للإضراب بمعنى بل إلا إذا تقدمها نفي أو نهي، وذهب الفراء إلى أنها تأتي للإضراب مطلقا دون شرط, محتجا بقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى

_ 1 الهمع 1/ 163. 2 معاني القرآن 1/ 198، وانظر الرضي 1/ 97، والهمع 1/ 105. 3 معاني القرآن 1/ 372. 4 المغني ص392، والهمع 2/ 129. 5 المغني ص173.

مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} , ويقول بعض الشعراء: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح1 وذهب جمهور البصريين إلى أن الذي تكون دائما اسما موصولا، بينما ذهب الفراء مع يونس إلى أنها قد تكون موصولا حرفيا أو حرفا موصولا، يريد أنها تكون مصدرية مثل ما المصدرية، يقول تعليقا على الآية الكريمة: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} : "إن شئت جعلت الذي على معنى "ما" تريد: "تماما على ما أحسن موسى", فيكون المعنى: تماما على إحسانه", وتلا ذلك بتوجيه أنه يجوز أن تكون اسما موصولا سواء قرئت "أحسن" بالنصب على أنها فعل والعائد محذوف، أو فرئت بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: "الذي هو أحسن"2. وكان البصريون يذهبون إلى أن لو تكون شرطية دائما، وقدروا في مثل قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} أن جوابها محذوف يدل عليه ما قبلها، والتقدير: يود أحدهم التعمير لو يعمر ألف سنة لسره ذلك, وهو تكلف واضح في التقدير. وذهب الفراء إلى أنها تأتي شرطية، وقد تأتي حرفا مصدريا، مثل أن المصدرية تماما، فتؤول مع ما بعدها بمصدر يعرب حسب العوامل، ويقع ذلك غالبا بعد وَدّ ويَودّ مثل "يود لو رآك" أي: يود رؤيتك، وقد تأتي بدونهما كقول الأعشى: وربما فات قوما جُنّ أمرهم ... من التأني وكان الحزم لو عجلوا3 وكان سيبويه يذهب إلى أن العامل في كلمة اليوم من مثل: "أما اليوم, فإني ذاهب" هو أما؛ لما فيها من معنى الفعل، وذهب الفراء إلى أن العامل خبر إن4. وكان البصريون يعربون "غير" في الاستثناء إعراب ما بعد إلا، وذهب الفراء إلى أنها مبنية في الاستثناء لقيامها مقام إلا5. ومن يرجع إلى توجيهه للإعراب في الآيات القرآنية, يرى نفسه أمام ذهن

_ 1 معاني القرآن 1/ 72، وانظر 2/ 393. 2 معاني القرآن 1/ 365، والهمع 1/ 83. 3 معاني القرآن 1/ 175، والمغني ص293 وما بعدها، والهمع 1/ 81. 4 المغني ص60. 5 الرضي 1/ 226.

سيال بالخواطر التي تَفِد عليه من كل صوب، من ذلك توجيهه لإعراب "أي" في قراءة من رفعها في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} ومعروف أن قراءتها بالنصب واضحة، إذ تكون مفعولا للفعل ننزعن، أما بالرفع فذهب الخليل إلى أنها استفهامية ومفعول الفعل محذوف، والتقدير: لننزعن الفريق الذين يقال فيهم: أيهم أشد. وقال يونس: بل المفعول جملة {أَيُّهُمْ} والفعل معلق عنها كما يعلق في باب ظن حين تدخل هي وأخواتها على جملة استفهامية، وذهب سيبويه إلى أنها أي الموصولة مبنية على الضم وحذف صدر صلتها، والتقدير: لننزعن الذي هو أشد. وقال الكسائي والأخفش: {مِنْ} في الآية زائدة, و {كُلِّ شِيعَةٍ} هي المفعول به، وجملة أي مستأنفة. ثم جاء الفراء فعرض فيها ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن يكون الفعل واقعا على موضع {مِنْ} تمشيا مع رأيه في أن الحروف تعرب حسب العوامل التي تطلبها، وكأن {مِنْ} هي مفعول ننزع، ويمثل لذلك بقولهم: "قد قتلنا من كل قوم" و"أصبنا من كل طعام"، ثم تستأنف بعد ذلك جملة: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} بتقدير فعل محذوف عامل فيها هو ننظر أي: ننظر أيهم أشد على الرحمن عتيا. والوجه الثاني: أن يكون تقدير الآية: ثم لننزعن من الذين تشايعوا على هذا، ينظرون بالتشايع أيهم أشد على الرحمن عتيا، فتكون أي في صلة التشايع. والوجه الثالث: أن يكون التقدير: ثم لننزعن من كل شيعة بالنداء، أي: لننادين أيهم أشد على الرحمن عتيا1. ومن ذلك تعليقه على الآية الكريمة: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فقد وقف بإزاء {أَنْ} في قوله تعالى: {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ} , ملاحظا أنها تفيد الجزاء مثل إن، ومن هنا كانا يتعاوران الموضع الواحد في الكلام، ويفرق بينهما في الاستعمال على هذا النحو: "إذا كان الجزاء لم يقع عليه شيء قبله, وكان ينوى بأن الاستقبال كسرتَها وجزمت بها فقلت: أكرمك إنْ تأتني، فإن كانت ماضية قلت: أكرمك

_ 1 معاني القرآن 1/ 47، وانظر مجالس العلماء للزجاجي ص301، والمغني ص81.

أنْ تأتيني، وأبين من ذلك أن تقول: أكرك أنْ أتيتني، كذلك قول الشاعر: أتجزع أن بان الخليط المودع ... وحبل الصفا من عزة المتقطع يريد: أتجزع بأن أو لأن كان ذلك، ولو أراد الاستقبال ومحض الجزاء لكسر إن وجزم بها كقول الله جل ثناؤه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا} 1. ومن ذلك الآية الكريمة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} فقد قال: إنه يصح دخول أن في قوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ} , ولكنها لما حُذفت رُفع الفعل، ثم وقف بإزاء قراءة: "لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ", وقال: إنها مجزومة بالنهي وليست جوابا لأخذ الميثاق الذي يدل على الاستحلاف كأنها جواب ليمين كما ذهب إلى ذلك بعض النحاة؛ لأن الأمر لا يكون جوابا لليمين. وجوز في القراءة الأولى أن يكون الأصل النهي وأخرج الفعل {لا تَعْبُدُونَ} مخرج الخبر، ويؤيده أن بعده {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} . وكان الكسائي يذهب في قراءة: "لا تَعْبُدُوا" إلى أن أصلها: بأن لا تعبدوا، فحذف الجار وأن، وهو تقدير بعيد، ونسب ابن هشام ذلك أيضا إلى الفراء، ولم يذكره في تعليقه على الآية2. ومن ذلك مخالفته أستاذه في إعراب {خَيْرًا} من قوله تعالى: {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} , فقد كان الكسائي يذهب إلى أن {خَيْرًا} منصوبة على إضمار يكن، وذهب الفراء إلى أنها مفعول مطلق، إذ التقدير: آمنوا إيمانا خيرا لكم, فهي صفة للمصدر المحذوف، ورد على الكسائي بأن كلامه يبطله القياس لأنك تقول: اتق الله تكن محسنا، ولا يجوز أن تقول: اتق الله محسنا وأنت تضمر تكن، ولا يصلح أن تقول: انصرنا أخانا وأنت تريد: تكن أخانا3. ومعروف أن {أَرَأَيْتَكُمْ} في مثل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} بمعنى أخبروني، وكان سيبويه يعرب التاء فيها فاعلا والكاف حرف خطاب. وقال الكسائي: بل الكاف مفعول به. وقال الفراء: إن العرب تطابق في هذا التعبير

_ 1 معاني القرآن 1/ 58، 178-181، وانظر الرضي على الكافية 1/ 53. 2 معاني القرآن 1/ 53، وانظر المغني ص452. 3 معاني القرآن 1/ 295.

بين الكاف والمخاطب، فتقول للواحد: أرأيتكَ بفتح الكاف, وللواحدة: أرأيتكِ, وتقول للرجال: أرأيتكم, وللنسوة: أرأيتكن. ومن هنا ذهب إلى أن التاء حرف خطاب، والكاف هي الفاعل لأنها تطابق المسند إليه. ويضعف رأيه أنه قد يستغنى عنها في التعبير, فيقال: أرأيت وأن الكاف لم تقع قط في موضع رفع1. وعلى هذا النحو كان لا يزال يلح في تحليل صيغ الذكر الحكيم ومواضع كلمه في الإعراب على ذهنه, مستخرجا منه فيضا من الآراء، مخالفا البصريين وسيبويه، وقد يخالف أستاذه، وهو في كل ذلك إنما يريد أن يشكل النحو الكوفي في صيغته النهائية، بحيث تستقر قواعده، ويستقر توجيهه للصيغ العربية، وتستقر مصطلحاته, وتستقر فيه العوامل والمعمولات متخذة كل ما يمكن من أوضاع جديدة.

_ 1 معاني القرآن 1/ 333، وانظر مجالس ثعلب "طبع دار المعارف" ص372، والمغني ص198، والهمع 1/ 77.

بسط السماع والقياس وقبضهما حتى في القراءات

4- بسط السماع والقياس, وقبضهما حتى في القراءات: كان الفراء يتوسع مثل أستاذه الكسائي في الرواية عن الأعراب المتحضرين، وإن كنا نلاحظ أنه إنما كان يتتبع فصحاءهم، ممن سميناهم في غير هذا الموضع، أمثال أبي ثروان وأبي الجراح. وتدل كثرة ما رواه عن العرب وقبائلهم أنه كانت له رحلة واسعة إلى الجزيرة، إذ يكثر في كتابه معاني القرآن أن يقول: "وسمعت العرب تقول" أو يقول: "أنشدني بعض بني أسد أو بعض بني كلاب أو بعض بني ربيعة أو بعض بني عامر أو بعض بني حنيفة" إلى غير ذلك من قبائل كثيرة, وأكثر أيضا من الرواية عن المفضل الضبي. أما الكسائي فله الحظ الأوفر من الأشعار التي استشهد بها في معاني القرآن. وقلما يذكر اسم الشاعر الجاهلي والإسلامي الذي ينشد من شعره؛ اكتفاء بأن ذلك كان معروفا متداولا بين

علماء اللغة والنحو في عصره. وكثيرا ما يتوارد مع سيبويه فيما ينشد من أشعار، مما يدل على أنه كان يضع كتابه نصب عينه وبصره1. وقد مضى مثل النحاة البصريين وأستاذه الكسائي لا يستشهد بالحديث النبوي في كتابه "معاني القرآن"، إلا ما جاء عرضا وعفوا2 بحيث لا يصح التعميم عنده, وأن يقال: إنه كان يستشهد به، فقد كانوا يصطلحون على أن روايته بالمعنى وأنه رواه أعاجم غير ثقات في العربية. أما القراءات فهي محور الكتاب، وقد أدار عليها توجيهاته لها من أساليب العرب، متحدثا عن لغاتهم التي تجري مع القياس, والتي تشذ عنه في رأيه، مما جعله يرد بعضها أحيانا، كما رد بعض القراءات. وليس معنى ذلك أنه لم يكن يتوسع في السماع من العرب، بل لقد كان يتوسع فيه إلى أقصى حد أمكنه، ملتمسا منه القياس، وخاصة إذا اتفق ذلك مع بعض آي الذكر الحكيم وبعض قراءاته. وقد يمد القياس إلى أحكام لم ترد في القرآن ولا على ألسنة العرب, ونضرب بعض الأمثلة لما بسط فيه القياس, معتمدا على القرآن وقراءاته وأشعار الشعراء. فمن ذلك أنه جوز إذا اجتمع شرط وقسم وتقدم القسم أن يكون الجواب للشرط، والبصريون يوجبون أن يكون الجواب للأول، ويتضح الخلاف في مثل: "لئن قمت أقوم معك", فالبصريون يحتِّمون أن تكون أقوم جوابا للقسم لوجود اللام الموطئة المؤذنة به وبذلك تكون مرفوعة، ويجوز الفراء أن تكون جوابا للشرط، فيقال: "لئن قمت أقم معك" بجزم المضارع في الجواب، واحتج لذلك بقول الأعشى: لئن منيت بنا عن غب معركة ... لا تلفنا من دماء القوم ننتفل3 والبصريون يؤولون مثل ذلك بأن اللام زائدة4. وقد وقف بإزاء الآية الكريمة:

_ 1 انظر على سبيل المثال: الجزء الأول من معاني القرآن ص34، 67، 91، 121، 127, 128، 139، 140، 162، 177، 186، 187, وقارن بكتاب سيبويه على الترتيب 1/ 424, 427، 2/ 304، 1/ 352، 240, 239، 36، 44، 152، 53، 22، 25. 2 معاني القرآن 1/ 266، 469. 3 منيت: بليت. عن غب: بعد عاقبة. ننتفل: ننتصل. 4 معاني القرآن 1/ 68، والمغني ص261.

{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} وقال: إن الواو معناها السقوط, أي: زائدة في جواب إذا متابعا في ذلك الأخفش, ومثَّل لسقوطها في الجواب بآية الصافات: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ} فإن ناديناه هي الجواب في رأيه، وكذلك بقوله تعالى في سورة الزمر: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} مستدلا بآية مماثلة في نفس السورة, إذ حذفت فيها من نفس العبارة الواو، وتمثل بقول بعض الشعراء: حتى إذا قملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا1 وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم العاجز الخب2 فإن "قلبتم" وهي الجواب زادت في أولها الواو. والبصريون يؤولون مثل ذلك بأن الجواب محذوف، والواو عاطفة الجملة المذكورة معها عليه3. وجوز في الآية الكريمة: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} أن يكون كل من الحرفين: اللام ومن وُضع في مكان صاحبه، على طريقة القلب المكاني، وقال: إن ذلك طريقة معروفة للعرب في تعبيرهم، واستشهد له بقول بعض الشعراء: إن سراجا لكريم مفخره ... تحلى به العين إذا ما تجهره قائلا: "العين لا تحلى, إنما يحلى بها سراج؛ لأنك تقول: حليتَ بعيني، ولا تقول: حليت عيني بك إلا في الشعر"4. ووقف بإزاء قراءة الآية: "فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لَا تَخَفْ دركا ولا تخشى" ملاحظا أن الفعل الأخير في هذه القراءة: "ولا تخشى" معطوف على فعل مجزوم وأثبتت فيه الألف، ووجه ذلك بأنه قد يكون مستأنفا وقد يكون في موضع جزم وإن كانت فيه الياء, واحتج بأن العرب قد تصنع ذلك، موردا قول بعض بني عبس: ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد5

_ 1 قملت: كثرت. بطونكم: عشائركم. 2 المجن: الترس، وقلب ظهر المجن: كناية عن المعاداة. والخب: الغادر. 3 معاني القرآن 1/ 238، والمغني ص400. 4 معاني القرآن 1/ 131. 5 اللبون: الناقة غزيرة اللبن.

فأثبتت الياء في "يأتيك" وهي في موضع جزم، وأورد في ذلك أيضا قول بعض الشعراء: هجوت زبان ثم جئت معتذرا ... من سب زبان لم تهجو ولم تدع إذ أثبت الواو في "تهجو" مع وجود لم الجازمة1. وكان البصريون لا يجيزون أن تقع اللام المؤكدة في خبر لكن على نحو ما تقع في خبر إن، وجوز ذلك الفراء محتجا بقول بعض الشعراء: ولكنني من حبها لكميد واحتج البصريون بأن ذلك شاذ لا يعول عليه2. واشترط البصريون لمجيء كان زائدة أن تكون بلفظ الماضي, وأن تتوسط بين مسند ومسند إليه مثل: "ما كان أجملَ هذا المنظر"، وجوز الفراء زيادتها بلفظ المضارع لقول بعض الشعراء: أنت تكون ماجد نبيل وجوز أيضا زيادتها في آخر الكلام قياسا على إلغاء ظن آخره، فتقول: "زيد مسافر كان" كما تقول: "زيد مسافر ظننت" ومنع ذلك البصريون لعدم وروده في السماع3. ومر بنا في الفصل الخاص بالكسائي وتلاميذه أنه كان يُعْمل إن النافية عمل ليس لسماع ذلك عن بعض العرب, ولقراءة سعيد بن جبير: "إن الذين تدعون من دون الله عبادًا أمثالكم" بتخفيف النون في إن ونصب عبادا ومنع ذلك الفراء محتجا بأنها من الحروف التي لا تختص، فالقياس فيها أن لا تعمل، وكأنه بذلك قدم القياس على السماع4. وعلى نحو ما نرى في المثالين الآنفين كان تارة يبسط ظل القياس وتارة يقبضه, غير ملتفت إلى السماع. ومما بسطه فيه دون شاهد يسنده إضافة اسم الفاعل المحلى بالألف واللام إلى العلم قياسا على جواز إضافته إلى المعرف بالألف واللام، فتقول: الضارب زيدٍ كما تقول: الضارب الرجل5. ومما قبضه فيه مع عدم أخذه بالسماع مجيء مرفوعين بعد كان، وجوز ذلك الجمهور على أن في كان ضمير

_ 1 معاني القرآن 1/ 161. 2 معاني القرآن 1/ 465، والإنصاف المسألة رقم 25. 3 الهمع 1/ 120. 4 الهمع 1/ 124. 5 الرضي على الكافية 1/ 259.

شأن محذوفا هو اسمها والجملة خبرها لمجيء ذلك كثيرا على لسان الشعراء, كقول بعضهم: إذا مت كان الناس صنفان شامت ... وآخر مثن بالذي كنت أصنع1 وقد يقف لينص على أن العرب قد يغلطون، يقول تعليقا على قراءة الحسن البصري آية يونس: "وَلَا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ" في مكان القراءة المشهورة: {وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} بعد أن صحح قراءته: "وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز، فيهمزون غير المهموز، سمعتُ امرأة من طيئ تقول: رثأت "أي: رثيت" زوجي بأبيات، ويقولون: لبَّأت "أي: لبيت" بالحج, وحلأت "أي: حليت" السويق، فيغلطون؛ لأن حلأت قد يقال في دفع العطاش من الإبل، ولبأت: ذهب إلى اللبأ "اللبن عقب الولادة" الذي يؤكل، ورثأت زوجي: ذهبت إلى رَثِيئة اللبن, وذلك إذا حلبت الحليب على الرائب"2. ولعلنا بكل ما قدمنا نكون قد عرفنا موقف الفراء من كلام بعض العرب، فهو قد يخطئهم. وقد يرد بعض ما سمعه منهم مؤمنا بأنه شاذ لا يقاس عليه ولا يصح طرده في العربية. وإذن فما يتردد في بعض الكتابات من أن البصرة كان تخطئ العرب بينما كانت الكوفة تقبل كل ما يروى عنهم، حتى لربما بنت على الشاهد الواحد قاعدة غير صحيحة. وهي حقا قد تتوسع في القياس على نحو ما رأينا عند الفراء أحيانا من بنائه قاعدة دخول اللام على خبر كأن لشاهد واحد سمعه. ولكن ليس معنى ذلك أنها كانت تصنع ذلك بكل شاهد، بل لقد كانت تتكاثر الشواهد أحيانا، وترفض القاعدة والقياس على نحو ما رفض الفراء إمامها الحقيقي إعمال إن النافية. وأدخل من ذلك في الغلط على الكوفة ونحاتها ما تحدثنا عنه في الفصل الخاص بنشأة نحوها مما يقال عنها من أنها تعتد بالقراءات، بينما كانت البصرة كثيرا ما تعدل عن هذا الاعتداد، وقد أوضحنا هناك خطأ هذا القول وأن سيبويه والخليل جميعا لم يردّا قراءة من القراءات وأن الأخفش احتج في غير موضع لبعض القراءات التي يظن أنها خارجة على

_ 1 الهمع 1/ 111. 2 معاني القرآن 1/ 459.

قياس النحو البصري، وصورنا ذلك من بعض الوجوه في حديثنا عنه، وأشرنا إلى أن الكسائي كان يرد بعض القراءات ولا يجوِّزها, وأن البصريين الذين خطئوا بعض القراءات إنما اقتدوا في ذلك بالفراء. ومن يرجع إلى كتابه "معاني القرآن" يجد الآيات التي خطئوا القراء فيها قد سبقهم إلى تخطئة جمهورها الأكبر، فهو الذي فتح لهم هذا الباب على مصاريعه. ونحن نسوق بعض ما قرأناه له من ذلك في الجزأين المطبوعين من الكتاب، ولا بد أن وراءه فيما لم ينشر منه مادة أخرى من هذه التخطئة. وأول ما يلقانا به أنه سقطت في بعض المصاحف ألف الوصل والقطع من كلمة {الْأَيْكَةِ} فكتبوها هكذا: "لَيْكَة" يقول: والقراء يقرءونها على التمام أي: {الْأَيْكَةِ} 1. وكأنه بذلك ينكر قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر: "لَيْكَة" بفتح اللام وسكون الياء, وفتح التاء في آية الشعراء: "كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةَ الْمُرْسَلِينَ"2 وهم من أصحاب القراءات السبع المتواترة. ولا يلبث أن يقف عند قراءة حمزة بن حبيب الزيات، أستاذ الكسائي وأحد أصحاب هذه القراءات، للآية الكريمة: {إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فقد قرأها "يُخَافَا" بالبناء للمجهول، وأثبت ذلك الفراء قائلا: "ولا يعجبني ذلك" واستشكل عليه بأنه يترتب على قراءته أن يكون الخوف قد وقع على ضمير الاثنين وعلى {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وكأن الفعل ليس له نائب فاعل واحد بل له نائبان، والنحويون يوجهون ذلك بأن عبارة {أَلاَّ يُقِيمَا} بدل اشتمال من ألف الاثنين3. ووقف بإزاء قراءة عاصم -وهو من أصحاب القراءات السبع المتواترة- لكلمة "يُؤَدِّهْ" بسكون الهاء في قوله تعالى: {إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} وقال: إذا كان قد ظن هو ومن شاكله من القراء أن الجزم في الهاء، وإنما هو فيما قبل الهاء، فهذا وإن كان توهما، خطأ. وكان حريا به أن لا يذكر هذا التوهم والخطأ؛ لأنه عاد فقال موجها للقراءة بأن من العرب من يجزم الهاء، أو بعبارة

_ 1 معاني القرآن 1/ 88، 2/ 91. 2 انظر تفسير أبي حيان المسمى باسم البحر المحيط 7/ 37. 3 معاني القرآن 1/ 145، وانظر البحر المحيط 2/ 197.

أخرى: يسكنها، إذا تحرك ما قبلها فيقول: ضربته ضربا شديدا، وكان ينبغي أن يحمل القراءة على هذه اللغة مباشرة دون تشكيك فيمن قرءوا بها, وأنهم ربما توهموا خطأ أن الجزم على الهاء لا على ما قبلها1. وقرأ القراء: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} برفع {ثَمُودُ} ونصبها، ووجه سيبويه النصب على أن أما أشبهت الفعل فثمود منصوبة بها، أما الرفع فعلى أنها مبتدأ. ورد الفراء قراءة النصب قائلا: "وجه الكلام في ثمود الرفع؛ لأن أما تحسن في الاسم ولا تكون في الفعل"2. وكان حسبه أن يقول: قراءة الرفع أفصح. ووقف بإزاء الآية الكريمة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} وقال: نصب الأرحام يريد: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ثم ذكر قراءة إبراهيم النخعي لها -وكان يتابعه في ذلك حمزة- بالجر عطفا على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، وقال: "في ذلك قبح؛ لأن العرب لا ترد "لا تعطف" مخفوضا على مخفوض, وقد كنيى عنه "أي: أضمر كالهاء في به" ... وإنما يجوز هذا في الشعر لضيقه"4. وقد حمل صاحب الإنصاف البصريين مسئولية تضعيف هذه القراءة4, مع أن الفراء -كما رأينا- هو أول من ضعفها، وتبعه في ذلك المبرد5، فحمل ذلك النحاة على البصريين عامة، ومر بنا في ترجمة الأخفش أنه كان يصحح هذه القراءة مستمدا منها الحكم بجواز العطف على الضمير المخفوض بدون إعادة الخافض. وعرض الفراء لقراءة "وعَبُدَ الطاغوت" بضم الباء، وقال: إن تكن فيه لغة مثل حَذِر بكسر الذال وحَذُر بضمها فهو وجه، وإلا فإنه أراد قول الشاعر: أبني لبينى إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد وهذا "أي: تحريك الحرف المتوسط بالضم" في الشعر يجوز لضرورة القوافي، فأما في القراءة فلا6. وأنكر قراءة ابن عامر مقرئ أهل الشام للآية الكريمة: "وكذلك زُيِّنَ لكثير من المشركين قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ" بالفصل بين قتل

_ 1 انظر معاني القرآن 1/ 223، وراجح 2/ 75. 2 معاني القرآن 1/ 241. 3 معاني القرآن 1/ 252. 4 الإنصاف: المسألة رقم 65. 5 ابن يعيش 3/ 78. 6 معاني القرآن 1/ 314.

وشركائهم بكلمة أولادهم, أو بعبارة أخرى: بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به. والنحاة لا يجوزون هذا الفصل بينهما إلا بالظرف والجار والمجرور، ومن هنا استشكل الفراء على القراءة، وحاول أن يجد لجر شركائهم وجها، فقال: "وفي بعض مصاحف أهل الشام: شركائهم بالياء, فإن تكن مثبتة عن "القراء" الأولين فينبغي أن يقرأ "زُيِّن" وتكون الشركاء هم الأولاد لأنهم منهم في النسب والميراث" يريد بذلك أن تقرأ كلمة "أولادهم" بالجر مضافة إلى قتل, وبذلك تكون كلمة "شركائهم" بدلا منها أو صفة. وكان الأخفش كما قدمنا في ترجمته يصحح هذه القراءة ويحتج لها بقول بعضهم فاصلا بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول: فزججتها بمزجة ... زجَّ القلوصَ أبي مزاده فقال رادا عليه في عنف: "وليس قول من قال: إنما أرادوا مثل قول الشاعر "وأنشد البيت" بشيء وهذا مما كان يقوله نحويو أهل الحجاز ولم نجد مثله في العربية"1. وقال في موضع آخر: الصواب في البيت: فزججتها متمكنا ... زج القلوصِ أبو مزاده2 ووهم صاحب الإنصاف، فحمّل البصريين مسئولية رفض هذه القراءة3، ولا نعلم بصريا معاصرا للفراء ولا سابقا له رفضها، بل لقد صححها الأخفش البصري معاصره كما قدمنا، واحتج لها من الشعر. ومر بنا في ترجمة المازني أنه كان يرى أن تجمع معيشة على معايش بالياء؛ لأن حرف اللين فيها عين الكلمة وليس حرفا زائدا مثل ياء صحيفة التي تجمع على صحائف، وأنه لذلك أنكر قراءة نافع: "معائش" بالهمزة في قوله تعالى: "ولقد مكناكُمْ فِي الأرْضِ وَجعلنَا لَكم فِيهَا مَعَائِشَ قَلِيلا مَا تشكرون". وهو في هذا الإنكار إنما كان يتابع الفراء فقد ذكر الآية ثم قال بعقبها: "معايش لا تهمز؛ لأنها -يعني الواحدة- مَفْعِلة، فالياء من الفعل، فلذلك لم تهمز، إنما يهمز من

_ 1 معاني القرآن 1/ 357. 2 معاني القرآن 2/ 81. 3 الإنصاف: المسألة رقم 60.

هذا ما كانت الياء فيه زائدة مثل: مدينة ومدائن وقبيلة وقبائل". وهو بذلك يعد أول من أنكر قراءة نافع لمعايش مهموزة، وإن قال العرب: ربما همزت هذا وشبهه يتوهمون أنه على وزن فعيلة لشبهها بها في وزن اللفظ وعدة الحروف على نحو ما صنعوا في جمعهم لمصيبة على مصائب1. ووقف بإزاء الآية الكريمة: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كفروا سبقوا إِنهم لا يعجزون" وقال: إن القراء قرءوها "تحسبن" بالتاء وقرأها حمزة: {يَحْسَبَنَّ} بالياء ولم يلبث أن ضعف قراءته قائلا: "ما أُحبها لشذوذها"2. وعلق على الآية الكريمة: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} بقوله: "وقد قرأها الحسن البصري: "وَشُرَكَاؤُكُمْ" بالرفع، وإنما الشركاء ههنا آلهتهم, كأنه أراد: أجمعوا أنتم وشركاؤكم، ولست أشتهيه لخلافه للكتاب "يريد: كتابة المصحف" ولأن المعنى فيه ضعيف؛ لأن الآلهة لا تعمل ولا تجمع"3. وتلا قوله جل وعز: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ثم قال قوله: {يَعْقُوبَ} يرفع وينصب أي: يجوز فيه الوجهان، ولم يلبث أن قال: إن حمزة كان يقرأ الكلمة بالخفض, يريد: ومن وراء إسحاق بيعقوب ولا يجوز الخفض إلا بإظهار الباء، وبذلك رد قراءته للكلمة مجرورة على نية إعادة الباء4. ووقف بإزاء الآية الكريمة: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} وذكر قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب ومن تبعهما مثل حمزة: "بِمُصْرِخِيِّ" بخفض الياء، وقال: "لعلها من وهم القراء طبقة يحيى, فإنه قل من سلم منهم من الوهم. ولعله ظن أن الباء في كلمة "بِمُصْرِخِيِّ" خافضة للحرف كله والياء من المتكلم خارجة من ذلك"5. وتلا آية سورة الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} وقال: "جاء عن الحسن: "الشياطونَ" وكأنه من غلط الشيخ ظن أنه بمنزلة المسلمين والمسلمون"6, أي: إنه جمع تكسير لا جمع مذكر سالم؛ ولذلك لا يجوز فيه: "الشياطون" بالواو. وهذه الحروف التي ردها الفراء إنما هي فيما نُشر من كتابه معاني القرآن،

_ 1 معاني القرآن 1/ 373. 2 معاني القرآن 1/ 414. 3 معاني القرآن 1/ 473. 4 معاني القرآن 2/ 22. 5 معاني القرآن 2/ 75, وقد عاد في نفس الموضع يثبت أن بعض العرب قد يخفض ياء المتكلم في الجار والمجرور في مثل كلمة "فيِّ". 6 معاني القرآن 2/ 285.

وقد بقي منه نحو جزء لم ينشر، وأغلب الظن أنه ضمنه حروفا أخرى ردها على القراء منكرا لها, أو مقبحا, أو مضعفا. ولا نعلم بصريا جاء بعده ورد مثل هذا القدر من القراءات، بل لقد كان المازني والمبرد وأضرابهما ممن توقفوا بإزاء بعض القراءات متابعين له, مقتدين به. وبذلك يسقط جل ما نسبه صاحب الإنصاف إلى البصريين دون الكوفيين من إنكار بعض القراءات. وينبغي أن نعرف أن الفراء ومن تابعه من البصريين لم يكونوا يقصدون إلى الطعن على القراء من حيث هو، إنما كانوا يتثبتون ويتوقفون في مواضع التوقف حين يُعييهم أن يجدوا للقراءة الشاذة على عامة القراء ما يسندها من كلام العرب. وقد تمسكوا تمسكا شديدا بصورة كتابة المصحف، ولم يدلوا برأي يخالفها بوجه من الوجوه. ونرى الفراء نفسه يتوقف بإزاء الآية: "فما أتانِ الله" ويقول: إنه لم يثبت الياء في "أتاني" لأنها محذوفة من الكتاب. ويذكر أن بعض القراء كان يستجيز زيادة الياء والواو المحذوفتين في مثل الآية السابقة ومثل: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ} فيثبت الياء في "أتاني" والواو في "يدعو" وليست في المصحف، ويقول: إنه لا يأخذ بذلك، بل يتقيد بالمصحف وكتابته المأثورة ما دام لذلك وجه من كلام العرب، وما دام هو الذي قرأ به القراء، ولا يلبث أن يقول: "كان أبو عمرو يقرأ: "إن هذين لساحران" أي: بدلا من القراءة العامة: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} ولست أجترئ على ذلك وقرأ: "فأصَّدق وأكونَ" "أي: بدلا من القراءة العامة: {وَأَكُنْ} " فزاد واوا في الكتاب ولست أستحب ذلك"1. ولعل في هذا ما يشهد شهادة قاطعة بأنه وأمثاله ممن كانوا يردون بعض القراءات التي لا تعدو حروفا معدودة لم يكن دافعهم إلى ذلك الطعن والتنقص، إنما كان دافعهم الرغبة الشديدة في التحري والتثبت.

_ 1 معاني القرآن 2/ 193.

الفصل الرابع: ثعلب وأصحابه

الفصل الرابع: ثعلب وأصحابه 1- ثعلب: هو أبو العباس أحمد1 بن يحيى، كان أبوه من موالي بني شيبان، ويغلب أن يكون فارسي الأصل، ولد ببغداد سنة 200 للهجرة، وألحقه أبوه منذ نعومة أظفاره بكتاب تعلم فيه الكتابة، وحفظ القرآن الكريم وشدا بعض الأشعار، وما كاد يخطو على عتبة سنته التاسعة حتى أخذ يختلف إلى حلقات العلماء، وخاصة علماء اللغة والعربية، حتى إذا اشتد عوده أخذ نفسه بجهد صارم في التزود باللغة والنحو، أما النحو فلزم فيه حلقات تلامذة الفراء: أبي عبد الله الطوال ومحمد بن قادم وسلمة بن عاصم، وعكف على حلقة الأخير حيث كان يملي على الطلاب كتب الفراء، وكان يؤديها أداء بارعا. وعليه ابتدأ النظر في حدود الفراء، وهو في السادسة عشرة من عمره، وما إن بلغ الخامسة والعشرين حتى كان قد حفظ كل ما للفراء من كتب. وأما اللغة فلزم فيها حلقات ابن الأعرابي بضع عشرة سنة. ولم يلحق الأصمعي وأبا عبيدة وأبا زيد، وإنما لحق تلاميذهم، وأخذ عنهم مادة علمهم اللغوي، أما الأصمعي فأخذ كتبه عن تلميذه أبي نصر أحمد بن حاتم، وأخذ كتب أبي عبيدة عن تلميذه الأثرم وكتب أبي زيد عن تلميذه ابن نجدة، كما أخذ كتب أبي عمرو الشيباني عن ابنه عمرو.

_ 1 انظر في ترجمة ثعلب: أبا الطيب اللغوي ص95، والزبيدي ص155، وتاريخ بغداد 5/ 204. ونزهة الألباء ص228، ومعجم الأدباء 5/ 102، وإنباه الرواة 1/ 138، وابن خلكان, وطبقات القراء لابن الجزري 1/ 148, وتذكرة الحفاظ 2/ 214, وطبقات الحنابلة لأبي يعلى 1/ 83، والفهرست ص116, وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 275، وشذرات الذهب 2/ 207، ومرآة الجنان 2/ 219، والنجوم الزاهرة 3/ 133، وبغية الوعاة ص172.

ورأى أن يضم إلى ذلك زادا من القراءات والحديث النبوي والفقه والشعر والأخبار، ووجد عند أستاذه سلمة عتادا من قراءات القراء، وصله بما ثقفه من حلقات القراء الآخرين وما قرأه عند الفراء، مما أتاح له أن يصنف في القراءات كتابا، وأن يكون صاحب قراءة يحملها عنه بعض تلاميذه, وفي مقدمتهم أبو بكر بن مجاهد. واختلف إلى حلقات المحدثين، وخاصة عبيد الله بن عمر القواريري، وفي بعض الروايات عنه أنه سمع منه مائة ألف حديث. وطبيعي أن يختلف إلى حلقات أحمد بن حنبل أكبر المحدثين والفقهاء في عصره، ويظهر أنه حمل عنه مذهبه الفقهي، إذ نجد أصحاب كتب التراجم للحنابلة تسلكه بينهم. وثقف كثيرا عن رواة الأخبار والأشعار، وفي مقدمتهم عمر بن شبة ومحمد بن سلام الجمحي صاحب كتاب طبقات فحول الشعراء، والزبير بن بكار الراوية الأخباري. وبجانب هذه المادة الغزيرة التي رواها شفاها نجده يعكف على قراءة كتاب سيبويه وكتب الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة. وتتردد قراءته للكتاب في ترجمته ويقال: إنه لم يقرأه على العلماء وإنما قرأه بنفسه، وفي أخباره أنه طلب من أبي حاتم السجستاني أن ينسخ له كتاب المسائل للأخفش فلبى طلبه. وفي محاورة بينه وبين الرياشي لسنة 230 للهجرة ما يدل دلالة واضحة أنه كان قد حذق النحو الكوفي والبصري جميعا. ويقول ياقوت: إنه كان متبحرا في مذهب البصريين غير أنه لم يكن مستخرجا للقياس ولا طالبا له. وقد بدأ تصنيف الكتب وسنه لا تتجاوز الثالثة والعشرين، وسرعان ما أخذ يلقي محاضراته على الطلاب، وهو في الخامسة والعشرين، وظل أكثر من ستين عاما يملي عليهم، وهم يقصدونه من كل صوب؛ لما أتقنه من المعرفة بالغريب ورواية الشعر ومعرفة النحو على مذهب الكوفيين، بل لقد أصبح إمام هذا النحو وعَلَمه المفرد في عصره. وكان طوال حياته في بحبوحة من العيش، إذ أخذ يرعاه بعض ذوي الجاه والثراء -كما حدث عن نفسه- منذ سنة 223 للهجرة، وممن تولاه برعايته محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب شرطة بغداد, وقد اتخذه مؤدبا لابنه طاهر، وظل

يرعاه إلى أن توفي، ولم يلبث الموفق أخو الخليفة المعتمد الذي كان يطلق يده في أموال الدولة يدبرها حسب مشيئته أن جعل له راتبا سَنِيا. وكان ثعلب مقترا على نفسه مما جعله يتوفى لسنة 291 عن ثروة كبيرة. وقد صنف مؤلفات كثيرة في النحو واللغة والقراءات والأمثال، سقط معظمها من يد الزمن، ولم يصلنا منها إلا كتابه "المجالس" وهو كتاب نفيس لما يشتمل عليه من النحو واللغة والأخبار ومعاني القرآن والأشعار الغريبة والشاذة والأمثال والأقوال المأثورة، وكتابه الفصيح وقد طُبع مع شرح للهروي وهو كتاب أراد به تقويم ألسنة المبتدئين على نحو ما أراد الفراء بكتابه "البهاء فيما تلحن فيه العامة". ويقول ابن خلكان: إنه ليس فيه زيادات على كتاب الفراء إلا أشياء يسيرة، ثم كتابه قواعد الشعر وهو رسالة قصيرة يقسم الشعر فيها إلى: أمر ونهي وخبر واستخبار، ويتحدث حديثا قصيرا عن أغراضه ويسلك بينها التشبيه، وعن بعض ما يجري فيه من الصور البيانية والبديعية. ويقول القدماء: إنه صنع طائفة من دواوين الشعراء الجاهليين والإسلاميين بينهم الأعشى والنابغتان وطفيل والطرماح، وقد نشرت له دار الكتب المصرية شرحه لديوان زهير الشاعر الجاهلي المشهور. وإذا أخذنا نستعرض مجالسه وما نسبته كتب النحو له من آراء, وجدناه مطبقا تطبيقا واسعا لآراء الفراء والكسائي وما نهجاه لمدرستهما من أصول وما دار على لسانيهما من مصطلحات وما أخذا به أنفسهما من السماع عن العرب والتوسع في روايته, واستمداد الآراء النحوية منه. ونبدأ باستعراض المصطلحات الكوفية عنده، فمن ذلك التقريب، وهو اسم الإشارة حين يليه مرفوع ومنصوب، فقد كانوا يشبهونه بكان الناقصة، ومعروف أنهم كانوا يعربون خبرها حالا كما مر بنا عند الفراء. ونرى ثعلبا يقول: "هذا تكون مثالا "وهي التي لا يليها مرفوع ومنصوب" وتكون تقريبا، فإذا كانت مثالا قلت: هذا زيد ... وإذا قلت: هذا كزيد قائما فهو حال, كأنك قلت: هذا زيد قائما ولكنك قد قرَّبته,

والتقريب مثل كان"1 ويقول في موضع آخر من مجالسه: "تقول: هذا الخليفة قائما، والخليفة قائم، فتدخل "هذا" وتخرجه فيكون المعنى واحدا، وكلما رأيت إدخال "هذا" وإخراجه واحدا فهو تقريب مثل قولهم: من كان من الناس سعيدا فهذا الصياد شقيا، وهو قولك: فالصياد شقي، فتسقط هذا وهو بمعناه"2. وواضح أنه يشير بذلك إلى أن دخول اسم الإشارة على عبارة "الصياد شقي" يشبه تماما دخول كان. وكان يسمي اسم الفاعل بالفعل الدائم، يقول: "ولا تجيء عسى إلا مع مستقبل, ولا تجيء مع ماض ولا دائم ولا صفة"3. ويقول ابن كيسان: قال لي ثعلب: "كيف تقول: مررت برجل قائم أبوه؟ فأجبته بخفض قائم ورفع الأب، فقال لي: بأي شيء ترفعه؟ فقلت: بقائم، فقال: أوليس هو عندكم "يشير إلى أنه بصري المنزع" اسما, وتعيبوننا بتسميته فعلا دائما؟ "4 وكأنه يريد أن يذكر علة تسميتهم له بفعل دائم، إذ يعمل في الأسماء كما تعمل الأفعال. وكان يصطلح على تسمية الضمير باسم المكنى والكناية، يقول: "الأعداد لا يكنى عنها ثانية فلا أقول: عندي الخمسة الدراهم والستتها, وأقول: عندي الحسن الوجه الجميله فأكني عنه"5. وكان يتوسع مثل الفراء فيطلق اسم العماد لا على ضمير الفصل في مثل: محمد هو الشاعر, وإن محمدا هو الكاتب, بل أيضا على ضمير الشأن، في مثل: "إنه قام زيد" و"إنه قامت هند"6. وأكثر في مجالسه من تسمية النفي باسم الجحد، من مثل قوله: "كل استفهام يكون معه الجحد يجاب المتكلم به ببلى ولا، وكل استفهام لا جحد معه فالجواب فيه نعم، وإنما كُره أن يجاب ما فيه جحد بنعم لئلا يكون إقرارا بالجحد من المتكلم"7, وهو يريد أن يقول: إنك تجيب على مثل: أمعك كتاب؟ بنعم أي:

_ 1 مجالس ثعلب ص52 وما بعدها. 2 المجالس ص54. 3 المجالس ص456، وانظر ص463. 4 مجالس العلماء للزجاجي ص318. 5 المجالس ص332. 6 المجالس ص661، وقد اعتذر الكسائي في روايته عن العرب: "فإذا هو إياها" بأن هو عماد وإذا كوجدت مع أحد مفعوليه كأنه قال: فوجدته هو إياها. انظر الرضي 2/ 106. 7 المجالس ص542.

إنه معك، وأنت حينئذ تقر بطرح الاستفهام وحده، وتجيب على مثل: أليس معك كتاب؟ ببلى, أي: إنه معك كتاب وكأنها خُصصت للرجوع عن الجحد، ولو أنك قلت: نعم في هذه الحالة لكان معنى ذلك أنه ليس معك كتاب؛ لأن نعم تفيد الإقرار في الجواب بما بعد الاستفهام وبعده الجحود, وهو عكس الجواب, وقد سمى لا النافية للجنس باسم التبرئة مرارا1. وكان يكثر من تسمية الجر باسم الخفض مقتديا بالفراء، وكان يطلق الخفض أيضا على الكسر الذي يقع في آخر الأفعال المجزومة عندما تتحرك لالتقاء الساكنين في مثل: لم يذهب الرجل2. ودارت على لسانه كلمتا ما يجري, وما لا يجري في مقابل كلمتي مصروف, وممنوع من الصرف3. وتوسع في اصطلاح الصفة الذي مر بنا عند الفراء, فقد كان يطلقها على الظرف، وكان يسميه الفراء المحل بينما كان يجعل الصفة خاصة بالجار والمجرور، أما ثعلب فكان يطلقها عليهما، يقول في تعليقه على الآية الكريمة: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} : "وقعت الصفة في موضع الفعل"4 يريد: وقع الجار والمجرور متقدما على الخبر, ويقول: "وإذا أفردوا الصفة رفع "مثل": زيد خلف، وزيد قدام، وزيد فوق"5 وكلها ظروف. وكان يسمي التمييز باسم التفسير6، وسمى البدل ترجمة، يقول تعليقا على الآية الكريمة: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} : " {يَوْمَئِذٍ} مرافع "خبر" {فَذَلِكَ} ، و {يَوْمٌ عَسِيرٌ} ترجمة {يَوْمَئِذٍ} "7, وسمى الصفة نعتا8. ولعل في هذا كله ما يصور مدى استخدامه للمصطلحات التي وضعها الفراء، وإن كنا نلاحظ أنه لم يأخذ بوجهة نظره في أن المضارع المنصوب بعد الواو والفاء وأو نُصب بالصرف أو الخلاف، فقد كان يذهب إلى أنها جميعا تنصب المضارع لدلالتها على شرط؛ لأن معنى مثل: "هلا تزورني فأحدثك": إن تزرني أحدثك، فلما نابت عن

_ 1 المجالس ص158، 422. 2 المجالس ص621. 3 المجالس ص155. 4 المجالس ص539. 5 المجالس ص80. 6 المجالس ص492. 7 المجالس ص25. 8 مجالس العلماء للزجاجي ص110.

الشرط ضارعت كي، فلزمت المستقبل وعملت عملها1. وواضح ما في هذا الرأي من ضعف في التعليل، وعقله من هذه الناحية لم يكن مثل عقل الفراء والكسائي، فقد كان يهبط عنهما درجات، ويتضح ذلك في كثير من آرائه وتعليلاته، كرأيه في أن المضارع مرفوع بنفس المضارعة2 وكأنه مرفوع بنفسه. ومر أن سيبويه كان يذهب إلى أن الألف والواو والياء في المثنى وجمع المذكر السالم هي حروف الإعراب نابت عن حركات الرفع والنصب والجر, وأن الأخفش ذهب إلى أن إعرابهما إنما هو بحركات مقدرة على ما قبل هذه الحروف، وذهب الجرمي إلى أن انقلاب الألف في المثنى والواو في الجمع ياء مع النصب والجر هو الإعراب, أما ثعلب فذهب إلى أن الألف في المثنى بدل من ضمتي زيد وزيد, وأن الواو بدل من الضمات الثلاث في زيد وزيد وزيد وهو توجيه بعيد. ولاحظ الزجاجي ما فيه من بعد، فقال معترضا عليه: "يلزم ثعلبا أن يقال له: كيف صارت الألف بدلا من ضمتين وليست الضمة من حيز الألف ولا تجانسها؟ وإذا كانت الواو في الزيدون بدلا من ثلاث ضمات، فكيف يجمع إذا جمع مائة نفس؟ هل تصير عنده بدلا من مائة ضمة؟ وكذلك إلى ما زاد"3. وكان الكسائي والفراء وهشام يقولون: "الاسم أخف من الفعل؛ لأن الاسم يستتر في الفعل، والفعل لا يستتر في الاسم" وحاول أن يأتي بعلة أخرى لهذه الخفة، فقال: "الأسماء أخف من الأفعال؛ لأن الأسماء جوامد لا تتصرف والأفعال تتصرف, فهي أثقل منها"4. ومعروف أن من الأسماء ما يتصرف وهو المشتقات، ونفس التعليل ليس متجها؛ لأن المعقول أن يكون المتصرف أخف، ولذلك تصرف وتحرك في صور مختلفة. وكان القدماء يلاحظون هذا الجانب فيه وأن تعليلاته ضعيفة، مع تمثله الواسع للنحو الكوفي, ومع روايته الضخمة للغة وشوارد صيغها وألفاظها، فقالوا عنه: إنه كان يقول: "قال الفراء: وقال الكسائي: فإذا سُئل عن الحجة والحقيقة لم يأت بشيء"5.

_ 1 الهمع 2/ 14. 2 الهمع 1/ 164. 3 الإيضاح في علل النحو للزجاجي ص141. 4 الزجاجي ص101. 5 إنباه الرواة 1/ 144.

غير أن ضعف الحجة عند ثعلب ينبغي أن لا يستر عنا قيمته الحقيقية في تاريخ النحو الكوفي، فقد شهد له القدماء بأنه كان من معرفته ومعرفة آراء إماميه الكسائي والفراء على ما ليس عليه أحد لا من معاصريه ولا ممن خلفهم، وقد مضى في إثرهما يستخدم المصطلحات التي جرت على ألسنتهما، واضعا السماع نصب عينه، فهو الحجة القاطعة والبرهان الناصع على القاعدة النحوية، ونراه يعتد -اعتدادهما- بأشعار وأقوال الفصحاء المتحضرين, مضيفا إلى ذلك مادة لا تكاد تنفد من أشعار الجاهليين والإسلاميين والبدو المعاصرين، ومستعينا بما رواه الكسائي والفراء في كتبهما من تلك المادة, وقد ظل أحقابا متطاولة يدرسها لطلابه، وكأنهما كانا علمين منصوبين أمامه، لا بآرائهما النحوية فقط بل أيضا بكل ما أنشداه من نوادر الأشعار. ووجدهما لا يعتمدان على الحديث النبوي في النحو واللغة، فتبعهما في ذلك، كما تبعهما في الاستشهاد بالقراءات، ولكنه لم يتوقف عند حروف منها على نحو ما توقف الشيخان، وكأنه كان يجد في ذلك حرجا، ولعل ذلك ما جعله يقول: "إذا اختلف الإعرابان في القراءات لم أفضل إعرابا على إعراب، فإذا خرجت إلى كلام الناس فضلت الأقوى"1. ومر بنا أن الفراء كان ينكر قراءة ابن عامر: "وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتل أولادَهم شركائهم" بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول وأنكر معها البيت الذي استشهد به الأخفش واتهمه، أما ثعلب فوثقه وأنشده في مجالسه2، وبذلك وجه الكوفيين إلى اعتماد مثل ذلك في تصاريف العبارات3. وقد أخذ نفسه بدعم آراء الكسائي والفراء, مستشهدا بما استشهدا به من أشعار ومضيفا إليها عَتَادا جديدا، خاصة إذا تناولت مسألة من المسائل التي اختلفا فيها مع البصريين، من ذلك ما كان يجيزه الكسائي من حذف لام الأمر في المضارع وبقاء جزمه مع تقدم قُلْ، وجعل من ذلك قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} أي: ليقيموها، وكان المبرد يذهب إلى أنه لا يصح حذف

_ 1 الإتقان في علوم القرآن للسيوطي "طبعة الحلبي" 1/ 83. 2 المجالس ص152. 3 الإنصاف، المسألة رقم 60.

هذه اللام حتى في الشعر، مخالفا في ذلك الكسائي وسيبويه1 والفراء، ونرى ثعلبا يستشهد لذلك ببيتين استشهد بهما من قبله الفراء، وهما قول أحد الشعراء: فلا تستطلْ مني بقائي ومدتي ... ولكن يكنْ للخير فيك نصيب بجزم يكنْ، وقول الآخر: فقلت ادعي وأدعُ فإن أندى ... لصوت أن ينادي داعيان بجزم أدعُ وحذف حرف العلة2. ومن ذلك أن الكسائي والفراء جعلا من نواصب المضارع "كما" بشرط أن لا يُفصَل بينها وبينه بفاصل، ونرى ثعلبا يستشهد على إعمالها بقول عمر بن أبي ربيعة: وطرفك إما جئتنا فاحفظنَّه ... كما يحسبوا أن الهوى حيث تصرف بينما يستشهد على إلغائها؛ لوجود فاصل بينها وبين الفعل بقول عدي بن زيد: اسمع حديثا كما يومًا تحدثُه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا وقد عقب على البيتين بقوله: "زعم أصحابنا أن "كما" تنصب، فإذا حِيل بينها رفعت"3. والبصريون يذهبون إلى أن "كما" في بيت ابن أبي ربيعة أصلها: "كيما" فحُذفت الياء ضرورة، وقالوا في البيت رواية ثانية هي: "لكي يحسبوا"4. وكان الكسائي يذهب إلى عمل أن النصب في المضارع مع حذفها، وخرّج على ذلك حذف النون من المضارع في قراءة من قرأ الآية: "وإذ أخذنا ميثَاق بني إسْرائِيل لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّه" بحذف النون في "لا تعبدوا" وقال: أصلها بأن لا تعبدوا، حذفت الباء وأن5. وقد حكى ثعلب ذلك عن العرب في مثل قولهم: "خذ اللص قبل يأخذَكَ" بنصب المضارع، واستشهد له بقول طرفة:

_ 1 انظر الكتاب 1/ 408. 2 راجع المجالس ص524, ومعاني القرآن 1/ 159، وانظر 1/ 136، والمغني ص248. 3 المجالس ص154. 4 الإنصاف: المسألة رقم 81. 5 المغني ص452.

ألا أيهذا الزاجري أحضرَ الوغى ... وأن أشهدَ اللذات هل أنت مخلدي؟ بنصب أحضر وحذف أن، وإن كان جعل ذلك شاذا وقال: إن القياس الرفع1. وقد تابع غيره من الكوفيين الكسائي وجعلوا ذلك قياسا مطردا2. وكان الفراء يذهب إلى أنه يجوز في أن الناصبة للمضارع أن لا تعمل فيه النصب وأن يرفع بعدها على أن تكون مخففة من أنّ الثقيلة، وبذلك وجه قراءة: "وحسبوا أن لا تكونُ فتنة" برفع تكون، وقول الشاعر: إذا مت فادفنِّي إلى جنب كَرْمة ... تروِّي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفننِّي في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقُها برفع أذوقها3. وتبعه ثعلب في أنها حينئذ لا تعمل النصب، بل اتسع بذلك وقال: إنها تهمل أحيانا ولا تكون مخففة من الثقيلة، بل تكون مثل ما المصدرية التي تؤول مع الفعل بمصدر دون أن تعمل فيه، ومثل لذلك بقول بعض الشعراء: أن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلامَ وأن لا تخبرا أحدا4 وكان الكسائي والفراء يذهبان -كما أسلفنا- إلى أن أسماء المبالغة مثل فَعّال وفَعُول لا تعمل النصب فيما بعدها لضعفها, مخالفين بذلك سيبويه والبصريين، ويقول ثعلب: ""أنت زيدًا ضروبٌ" يأباه أصحابنا لأنه لا يتصرف، ومثله مضراب وضرّاب أيضا وأهل البصرة يجيزونه"5. وذهب الكسائي والفراء جميعا إلى جواز إبطال عمل إنّ إذا بعد عنها اسمها، ونرى ثعلبا ينشد قول بدوية: فليت ابن جَوَّابٍ من الناس حظنا ... وأن لنا في النار بَعْدُ خلود ويقول بعقبه: وأن لنا في النار بعد خلود رفع على الاستئناف، وحكى

_ 1 المجالس ص383. 2 الإنصاف: المسألة رقم 77. 3 معاني القرآن 1/ 146، وانظر 1/ 213. 4 المجالس ص39, وانظر الخصائص لابن جني, طبع دار الكتب المصرية 1/ 390. 5 المجالس ص236، وانظر ص150.

الكسائي والفراء جميعا: "إن فيك زيد راغب" وقالا: بطلت إنّ لما تباعدت"1. وكان الكسائي يذهب إلى أن إلا في مثل: "ما قام القوم إلا زيد" برفع زيد حرف عطف، وكأن زيدا في حقيقته فاعل لقام، وكأن إلا بمنزلة لا العاطفة في أن ما بعدها مخالف لما قبلها مثل: قام محمد لا علي. وقد توقف الفراء بإزاء قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ، وقال: "إن بعض النحويين "يريد الكسائي" ذهب إلى أن "إلا في هذا الموضع بمنزلة الواو كأنه قال: لئلا يكون للناس عليكم حجة ولا للذين ظلموا، وهذا صواب في التفسير خطأ في العربية, إنما تكون إلا بمنزلة الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها فهنالك تصير بمنزلة الواو كقولك: لي على فلان ألف إلا عشرة إلا مائة، تريد إلا الثانية أن ترجع على الألف، كأنك أغفلت المائة فاستدركتها؛ فقلت: اللهم إلا مائة، فالمعنى: له عليّ ألف ومائة، وأن تقول: ذهب الناس إلا أخاك، اللهم إلا أباك، فتستثني الثاني، تريد: إلا أباك وإلا أخاك"2. وعرض ثعلب رأي الفراء والكسائي دون أن يفضل أحد الرأيين، يقول: ومن التشبيه أيضا أن توضع ألا في موضع واو العطف كما في هذا البيت: أتيت بعبد الله في القد موثقا ... فألا سعيدًا ذا الخيانة والغدر فقد اتفق الكسائي والفراء في نصب "سعيدا" أنه مفعول لفعل محذوف مثل أتيت، ثم اختلفا في جره فاستحسنه الكسائي وضعفه الفراء، قال ثعلب: "ومن خفض "يريد الكسائي" شبه ألا بالنسق والفراء يستقبحه ويجيزه فيعطف "سعيدا" على عبد الله في أول الكلام. ولعل وجه قبح العطف عند الفراء أنه قد فُصل بين المعطوف والمعطوف عليه"3. ويصرح الرضي بأن ثعلبا لم يكن يجيز أن تعرب "زيد" في مثل: "ما قام القوم إلا زيد" بدلا كما يعربها البصريون, إذ كان يأخذ برأي الكسائي في أنها في مثل هذا التعبير حرف عطف مثل لا4.

_ 1 المجالس ص80, وانظر رده على المازني ص329. 2 معاني القرآن 1/ 89 وقارن بصفحة 166, حيث جعل ما بعد إلا في مثل: ما ذهب الناس إلا زيد, مرفوعا على الإتباع أو كما يقول البصريون: على البدل من الناس. 3 المجالس ص74، وانظر معاني القرآن 1/ 196. 4 الرضي على الكافية 1/ 214، والإنصاف: المسألة رقم 35.

ونراه يقف في صف الكسائي ضد الفراء في جواز حذف الفعل مع الوقت حين يكون قريبا، يقول: "وحكى الكسائي: نزلنا المنزل الذي البارحة والمنزل الذي اليوم والمنزل الذي أمس، فيقولون في كل وقت شاهدوه من قرب ويحذفون الفعل معه، كأنهم يقولون: نزلنا المنزل الذي نزلنا أمس، والذي نزلناه اليوم، اكتفوا بالوقت من الفعل, إذ كان الوقت يدل على الفعل، وهو قريب، ولا يقولون: الذي يوم الخميس ولا الذي يوم الجمعة، وكذا يقولون: لا كاليوم رجلا "بتقدير: لقينا رجلا" ولا كالعشية رجلا ولا كالساعة رجلا، فيحذفون مع الأوقات التي هم فيها، وأباه الفراء مع العلم وهو جائز ... وكل ما كان فيه الوقت فجائز أن يحذف الفعل معه؛ لأن الوقت القريب يدل على فعل لقربه" ومَثَّل ثعلب لذلك من الشعر بقول جرير: يا صاحبيّ دنا الصباح فسيرا ... لا كالعشية زائرا ومزورا أي: لا أرى كالعشية زائرا ومزورا1. على أن وقوف ثعلب مع الكسائي في هذه المسألة لا يعني أنه لم يكن يعتمد على الفراء كل الاعتماد، فقد رأيناه يستظهر جملة المصطلحات النحوية التي وضعها لنحاة الكوفة. ولا أبالغ إذا قلت: إن ثعلبا لم يترك بيتا شاذا في معاني القرآن للفراء إلا أنشده في كتبه، ونفس مجالسه تغص بالأبيات التي اقتبسها من هذا الكتاب. وهو يبدو في كثير من كتاباته كأنه شارح لما أجمله الفراء من آراء نحوية، ونضرب لذلك مثلا: أننا نجد الفراء في الآية الكريمة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} يدلي برأيين: أن تكون {مَاذَا} كلمة واحدة بمعنى: أي شيء وهي لذلك تكون مفعولا به لـ {يُنْفِقُونَ} ؛ لأن اسم الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إذ له الصدارة وإنما يعمل فيه ما بعده، أو تكون ذا بمعنى الذي, أي: ما الذي ينفقون؟ وإذن تكون خبرا لما و {يُنْفِقُونَ} صلتها، ويسند هذا الرأي بأن العرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذي، فيقولون: "ومن ذا يقول ذاك؟ " في معنى "من الذي يقول ذاك؟ ". ثم يقف عند {قُلِ الْعَفْوَ} فيقول: "وجه الكلام فيه النصب،

_ 1 المجالس ص321 وما بعدها.

يريد: قل ينفقون العفو"1. وكأنه أبطل أن تكون "ماذا" مبتدأ وخبرا؛ لأنه على تقدير معناها: "ما الذي ينفقون؟ " تكون الإجابة: الذي ينفقون العفو، وتكون العفو خبرا لمبتدأ محذوف. ويوضح ذلك ثعلب، فيقول: "وإنما اختار الفراء النصب؛ لأن معنى ماذا عندنا "أي: عند الكوفيين" حرف "أي: لفظ" واحد كثر في الكلام، فكأنه قال: ما ينفقون؟ فلذلك اختير النصب، ومن جعل ذا بمعنى الذي رفع"2. ودائما نحس أنه يجري على ما أنهجه الفراء؛ ولذلك كان اسمه يتردد في مجالسه متخذا منه أدلته على ما يذهب إليه من آراء، من ذلك أن سيبويه والبصريين كانوا يذهبون إلى أن "أي" تكون دائما وصلة لنداء ما فيه أل مثل: يا أيها الرجل، ورد ثعلب عليهم هذا الرأي مستدلا بما قاله الفراء من أن "الدليل على أنه ليس كما قالوا أنه يقال: "يا أيهذا أقبلْ" فيسقط الثاني "أي: ما فيه أل مثل الرجل" الذي زُعم أنه وصف لازم"3. وكان الفراء يذهب -كما مر بنا في الفصل السابق- إلى أن نعم وبئس اسمان, مخالفا بذلك البصريين والكسائي، وتبعه ثعلب محتجا بما نقل عن العرب من دخول حرف الخفض عليها، إذ بُشِّر أعرابي بمولودة فقال: والله ما هي بنعم المولودة، يقول ثعلب: فأدخلوا على نعم وبئس حرف الخفض، ودخول حرف الخفض يدل على أنهما اسمان؛ لأن حروف الخفض لا تدخل إلا على الأسماء4. وقد يذهب ثعلب إلى بعض الآراء التي يظن أنها من اجتهاده، وهي في الواقع مستمدة من كلام الفراء، من ذلك ما يتردد في كتب النحاة من أنه كان يقول بأن اللام الناصبة للمضارع إنما تنصبه لقيامها مقام أن الناصبة له، أو بعبارة أخرى: لنيابتها عن أن5، بينما كان الفراء يذهب إلى أن اللام تنصب المضارع بنفسها لا بأن مضمرة كما ذهب البصريون، وثعلب في الواقع إنما استمد رأيه من قول الفراء, تعليقا على قوله تعالى: {يُرِيدُ

_ 1 معاني القرآن ص138. 2 اللسان 19/ 307. 3 المجالس ص52، وراجع الكتاب 1/ 306. 4 الإنصاف: المسألة رقم 14. 5 المغني ص231، والهمع 2/ 7، وابن يعيش 8/ 20، حيث نص على أن حتّى عنده أيضا تعمل لنيابتها عن أن.

اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ، وقال في موضع آخر: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} والعرب تجعل اللام على معنى كي في موضع أن في: أردت وأمرت، فتقول: أردت أن تذهب وأردت لتذهب, وأمرتك أن تقوم وأمرتك لتقوم"1. وقال في موضع آخر تعقيبا على قوله عز شأنه: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى} : "هو في معنى: ما كان هذا القرآن ليفترى, ومثله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أي: ما كان ينبغي لهم أن ينفروا"2. وليس معنى ذلك أنه لم يكن يعدو آراء الفراء والكسائي وما فهمه من كتاباتهما، فقد كان يجتهد أحيانا. ومر بنا أنه لم يكن يأخذ برأي الفراء في أن المضارع يُنصَب بعد واو المعية وفاء السببية وأو التي بمعنى حتى أو إلى على الصرف، إنما ينصب لما يداخل هذه الحروف من معنى الشرط، وكأنه لم يكن يعجب بفكرة الصرف التي كان يذهب إليها الفراء, وكذلك لم يكن يعجب بفكرته في أن الظرف حين يقع خبرا في مثل: محمد عندك منصوب على الخلاف، وأراد أن يتوسط بينه وبين البصريين الذين يذهبون إلى أن مثل عندك السالفة ينصب بفعل مقدر، تقديره: استقر، أو بتقدير اسم فاعل تقديره: مستقر، فذهب إلى أن مثل عندك ينصب بفعل مقدر ولكنه غير مطلوب، فقد اكتُفي بالظرف عنه، فبقي منصوبا على ما كان عليه من الفعل3. ومن اجتهاداته إضافته على أخوات كاد فعلي نشب4 وقام5، بينما ذهب إلى أن عسى حرف وليست فعلا6، وكان يذهب إلى أن لفظة الاسم مشتقة من الوسم؛ ولذلك كان يقول: "الاسم سمة توضع على الشيء يعرف بها" وذهب البصريون إلى أنه مشتق من السمو7. وربما اختار بعض آراء البصريين وآثرها على بعض آراء مدرسته، فقد كان يذهب مذهبهم في أن إذن يجوز إلغاؤها ورفع المضارع بعدها مع اجتماع الشروط الموجبة للنصب8، وكان يقف مع البصريين في تجويزهم

_ 1 معاني القرآن 1/ 261. 2 معاني القرآن 1/ 464. 3 الإنصاف: المسألة رقم 29. 4 المجالس ص212، 417. 5 الهمع 1/ 128. 6 المغني ص162. 7 الإنصاف: المسألة الأولى. 8 الهمع 2/ 7.

مثل: "ما طعامَك أكل إلا زيد" بينما كان الكسائي يمنع مثل هذا التعبير؛ لتقدم المفعول به، بينما الفاعل محذوف، إذ كان لا يعرب "زيد" فاعلا كما يعربه البصريون؛ ولذلك كان يأبى مثل هذه الصيغة1. ولعل في كل ما قدمنا ما يوضح منزلة ثعلب في النحو الكوفي، فقد مضى يطبقه ويصدر عنه في كل ملاحظاته النحوية إلا أشياء طفيفة أداه إليها اجتهاده, وكأنما كان يحمل راية هذا النحو في عصره، مستقصيا استقصاء دقيقا لكل ما قاله إماماه: الكسائي والفراء وكل ما أنشداه من أشعار مع الدفاع الشديد عنهما أمام البصريين دفاعا أساسه الاحتكام إلى السماع والرواية والإحاطة بالشاذ والنادر من اللغة وتصاريفها على ألسنة العرب.

_ 1 الإنصاف: المسألة رقم 21.

أصحاب ثعلب

2- أصحاب ثعلب: اشتهر من تلاميذ ثعلب كثيرون, في مقدمتهم أبو موسى سليمان بن محمد المعروف بالحامض1، وهو المقدَّم من أصحابه إذ جلس مجلسه بعد موته، وكان يتعصب على البصريين، وصب عنايته على قراءته للناس كتب أستاذه ثعلب كما كان يقرأ كتب الفراء وخاصة كتابه "الإدغام" وألّف مختصرا في النحو، وما زال يوالي التدريس حتى توفي سنة 305 للهجرة. ومن أصحاب ثعلب غلامه أبو عمر الزاهد محمد3 بن عبد الواحد، وكان حافظا مكثرا من اللغة وفيها ألف كتابه "الياقوت", وظل يزيد في نسخته حتى

_ 1 انظر في ترجمة أبي موسى الحامض: الزبيدي ص170, ونزهة الألباء ص141, والفهرست ص79، وتاريخ بغداد 9/ 61, ومعجم الأدباء 11/ 253, والأنساب الورقة 152، وإنباه الرواة 2/ 21، وبغية الوعاة ص262. 3 راجع في ترجمة أبي عمر غلام ثعلب: نزهة الألباء ص276، وتاريخ بغداد 2/ 356، والفهرست ص76، ومعجم الأدباء 18/ 226, والأنساب للسمعاني الورقة 413، وتذكرة الحفاظ 3/ 84، وإنباه الرواة 3/ 171، واللباب في الأنساب 2/ 183، وبغية الوعاة ص69.

كانت آخر عَرْضاته له سنة 331 للهجرة، وله وراءه مصنفات لغوية كثيرة منها: شرح كتاب أستاذه "الفصيح", وكتاب فائت معجم العين, وكتاب فائت الجمهرة والرد على ابن دريد، وقد توفي سنة 345 للهجرة. ولا يقل عن هذين الصاحبين أو التلميذين تأثرا بثعلب واقتداء بمباحثه تلميذه أبو بكر محمد بن الحسن المقرئ النحوي العطار المعروف باسم ابن مِقْسم1، وكان يعنى بدراسة النحو الكوفي وله فيه بعض المصنفات غير أنه ركز نشاطه في القراءات, فألف فيها كتبا ومصنفات مختلفة، منها كتاب السبعة الكبير, وقد تأخرت وفاته حتى سنة 354 للهجرة. وكل هؤلاء التلاميذ لا تدور لهم آراء في كتب النحو، وكأنما كانوا امتدادا لمباحث ثعلب اللغوية، وقد اتسع بها ابن مقسم في الاحتجاج للقراءات السبع وكان يقصر عليها نشاطه، وربما كان أنبه تلاميذ ثعلب في المباحث النحوية أبو بكر بن الأنباري؛ ولذلك نخصه بكلمة مفردة. أبو بكر بن الأنباري: هو أبو بكر محمد2 بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري، وُلد سنة 271 للهجرة، وأكب منذ نشأته على حلقات العلماء في عصره، وخاصة حلقة ثعلب، وكانت له حافظة قوية، حتى قالوا: إنه كان يحفظ من شواهد القرآن ثلاثمائة ألف بيت. وصنف كتبا كثيرة في علوم القرآن وغريب الحديث والمشكل والوقف والابتداء، كما صنف في اللغة والنحو كتاب الأضداد وهو منشور، وكتاب المقصور والممدود، وكتاب المذكر والمؤنث، وكتابي الكافي والموضح في النحو.

_ 1 انظر في ترجمة ابن مقسم: الفهرست ص33, وتاريخ بغداد 2/ 206، ونزهة الألباء ص288، ومعجم الأدباء 18/ 150, وإنباه الرواة 3/ 100, وطبقات القراء لابن الجزري 2/ 123, وميزان الاعتدال للذهبي 2/ 166، وبغية الوعاة ص36. 2 راجع في ترجمة أبي بكر بن الأنباري: الزبيدي ص171، والفهرست ص75, ونزهة الألباء ص264, ومعجم الأدباء 18/ 306, وإنباه الرواة 3/ 201، وطبقات القراء 2/ 330، وتاريخ بغداد 3/ 181، والأنساب الورقة 49، وابن خلكان 1/ 502، وشذرات الذهب 2/ 315، ومرآة الجنان 2/ 294، والنجوم الزاهرة 3/ 269، وروضات الجنات ص608، وبغية الوعاة ص91.

ونراه يعنى بتعليم الناشئة صور أساليب العربية في بعض أقاصيص كان يرويها. وصنع عدة دواوين قديمة، في مقدمتها ديوان الأعشى والنابغة وزهير والراعي. ومن أهم آثاره شرحه للمفضليات، وهو منشور، ويكتظّ بمعارفه الواسعة في اللغة والأشعار وأيام العرب. ولم يمتد عمره طويلا، فقد توفي سنة 328 للهجرة. ومن يرجع إلى كتاب الإيضاح في علل النحو للزجاجي لا يشك في أنه كان أحد من دعموا النحو الكوفي بالعلل المنطقية, دعما لم يتوافر لأستاذه ثعلب، وكأنما كان عقله أكثر منطقية وأقدر على التعليل والبرهنة والإدلاء بالحجج البينة، على نحو ما يتضح في تعليله لاشتقاق المصدر من الفعل، إذ يقول: "الدليل على أن المصادر بعد الأفعال, وأنها مأخوذة منها أن المصادر تكون توكيدا للأفعال كقولك: ضرب زيد ضربا وخرج خروجا وقعد قعودا وما أشبه ذلك، ولا خلاف في أن المصادر ههنا توكيد للأفعال، والتوكيد تابع للمؤكَّد ثانٍ بعده، والمؤكَّد سابق له، فدل ذلك على أن المصدر تابع للفعل مأخوذ منه وأن الفعل هو الأصل الذي أُخذ منه"1. ونرى الزجاجي يذكره في مواضع مختلفة حين يتحدث عن علل الكوفيين2، مما يجعلنا نؤمن بأنه كان في مقدمة من توسعوا فيها وحاولوا إحكامها إحكاما دقيقا. ولأبي بكر بن الأنباري آراء مختلفة تدور في كتب النحاة، من ذلك أنه كان يذهب إلى أن "إلى" قد ترد اسما, فيقال: "انصرفت من إليك" كما يقال: "غدوت من عليك3. وكان يجعل من معاني "كأن" الشك مثل: "كأنك بالشتاء مقبل" أي: أظنه مقبلا4. وذهب إلى أن "بين الظرفية" قد تقع شرطية إذا جاءت في أول الكلام مثل: "بينما أنصفتني ظلمتني"5. ومعروف أن "كلا" تضاف دائما إلى اثنين أو إلى ضمير الاثنين مثل: كلا محمد وعلي وكلاهما، وذهب ابن الأنباري إلى جواز إضافتها إلى المفرد بشرط تكرارها، فتقول: "كلاي

_ 1 الإيضاح في علل النحو للزجاجي ص60 وما بعدها. 2 الزجاجي ص79، 80، 132. 3 المغني لابن هشام ص157. 4 المغني ص209. 5 همع الهوامع 1/ 211.

وكلاك محسنان"1. وكان يجيز في تابع المنادى العَلَم إذا كان مضافا الرفع، فتقول: يا زيدُ ذُو المعرفةِ, ويا محمد أبو عمرو, ويا تميم كلُّكم بالرفع، والجمهور لا يجيز سوى النصب2.

_ 1 المغني ص223. 2 الرضي على الكافية 1/ 137.

كوفيون متأخرون

3- كوفيون متأخرون: لم تنحسر ظلال المدرسة الكوفية بعد أبي بكر بن الأنباري، فقد ظلت تنقبض، وتمتد في الحين بعد الحين. وكان مما هيأ لامتدادها أحيانا أن المدرسة البغدادية التي خلفتها عُني الأولون منها لا بالمزج بين آرائها والآراء الكوفية فحسب، بل أيضا بتوجيه آرائها وفتق العلل التي تؤيدها على نحو ما سنرى في غير هذا الموضع. وظل الخالفون لهذه المدرسة يستظهرون تلك الآراء، ويجلبون منها إلى مصنفاتهم بعض دررها. وكان من أهم ما أتاح لهذه المدرسة أن تعيش في ذاكرة الأجيال التالية, أن المتنبي أكبر شعراء العربية عني -كما صورنا ذلك في كتاب: الفن ومذاهبه في الشعر العربي- بالتصنع للغات الشاذة في التراكيب، مما جره في شعره إلى الاحتذاء على أكثر ما روته المدرسة الكوفية منها، حتى ليقول ابن يعيش: إنه "كان يميل كثيرا إلى مذهب الكوفيين"1, ويكفي أن نذكر هنا بعض أمثلة تصور تشيعه لهم، من ذلك الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وكان البصريون يمنعون ذلك منعا باتا2، يقول: حملتُ إليه من ثنائي حديقة سقاها الحِجَى سَقْيَ الرياضَ السحائبِ فقد فصل بين السقي والسحائب بالمفعول به للسقي وهو الرياض. ومثال ثانٍ هو استخدامه التفضيل في الألوان مثل قوله في الشيب: ابعد بعدت بياضا لا بياض له ... لأنت أسودُ في عيني من الظُّلَم

_ 1 ابن يعيش 2/ 16. 2 انظر الإنصاف: المسألة رقم 60.

فقد قال: إن الشيب "أسود" من الظلم، والبصريون لا يجيزون ذلك بينما يجيزه الكوفيون1. ولا يتسع المقام لعرض مثل هذه الشذوذات الكوفية عنده، وشعره يزخر بها، حتى لكأنما رأى أن يكون ديوانه معرضا واسعا لها. ويلقانا في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري أبو الحسين أحمد2 بن فارس المتوفى سنة 395 للهجرة, وفيه يقول القفطي: "طريقته في النحو طريقة الكوفيين" غير أن أكثر عنايته إنما صبها على المباحث اللغوية, ومن أشهر كتبه: معجم مقاييس اللغة وهو منشور، وفيه يرد معاني مفردات المادة اللغوية إلى معنى واحد. وقد جمع كثيرا من المسائل اللغوية في كتابه الصاحبي الذي صنفه للصاحب بن عباد وزير البويهيين بالري. ويقول مترجموه: إن له مصنفا في النحو سماه المقدمة، ومصنفا آخر باسم "اختلاف النحويين", وأكبر الظن أنه ناقش فيه كثيرا من المسائل النحوية التي اختلف فيها البصريون والكوفيون, موردا على الأولين كثيرا من الحجج والبراهين التي تؤيد رأي الأخيرين، ويقول القفطي: إنه كان كثير الحجاج والجدال، مما يؤكد أنه أسهم بقوة في احتجاجات الكوفيين. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن آخر النحاة الذين استظهروا آراء المدرسة الكوفية في مصنفاتهم ابن آجروم3 الصنهاجي المغربي صاحب المتن المشهور باسم الآجرومية، وفيه نراه يذهب إلى أن السكون في فعل الأمر سكون جزم لا سكون بناء، بالضبط كما كان يذهب الكوفيون. وذهب مذهبهم في عده "كيفما" بين أدوات الشرط الجازمة. وجعل -مثلهم- حتى وأو والفاء والواو تنصب المضارع مباشرة دون تقدير أن المصدرية كما ذهب إلى ذلك الخليل والبصريون, وتابع الكوفيين أيضا في بعض المصطلحات مثل النعت وعطف النسق. وسنرى المدرسة البغدادية منذ أبي علي الفارسي تمزج بين النحويْنِ البصري

_ 1 الإنصاف: المسألة رقم 16. 2 انظر في ترجمة ابن فارس: نزهة الألباء ص320, ومعجم الأدباء 4/ 80، والفهرست ص80, واليتيمة 3/ 365، وإنباه الرواة 1/ 93, ومقدمة مقاييس اللغة "طبع دار المعارف", وبغية الوعاة ص153. 3 راجع في ترجمة ابن آجروم: بغية الوعاة ص102، وجذوة الاقتباس "طبع فاس" ص138.

والكوفي مؤثرة في الجملة آراء البصريين، واحتذتها في ذلك مدرسة الأندلسيين ومدرسة المصريين وكذلك احتذاها في هذا النهج كبار النحاة التالين في الشام والعراق وإيران من أمثال الزمخشري وابن يعيش. وهيأ ذلك لأن تظل آراء المدرسة الكوفية حية نابضة في كتب النحاة المتأخرين.

القسم الثالث: مدارس مختلفة

القسم الثالث: مدارس مختلفة الفصل الأول: المدرسة البغدادية 1- نشوء المدرسة البغدادية: اتبع نحاة بغداد في القرن الرابع الهجري نهجا جديدا في دراساتهم ومصنفاتهم النحوية يقوم على الانتخاب من آراء المدرستين البصرية والكوفية جميعا، وكان من أهم ما هيأ لهذا الاتجاه الجديد أن أوائل هؤلاء النحاة تتلمذوا للمبرد وثعلب، وبذلك نشأ جيل من النحاة يحمل آراء مدرستيهما ويعنى بالتعمق في مصنفات أصحابهما والنفوذ من خلال ذلك إلى كثير من الآراء النحوية الجديدة. وكان من هذا الجيل من يغلب عليه الميل إلى الآراء الكوفية ومن يغلب عليه الميل إلى الآراء البصرية، فاضطرب كُتَّاب التراجم والطبقات إزاءه، فمنهم من حاول تصنيف أفراده في المدرستين الكوفية والبصرية على نحو ما صنع الزبيدي في طبقاته, ومنهم من أفردهم بمدرسة مستقلة كما صنع ابن النديم في الفهرست، وإن كان قد أدخل فيهم نفرا ليس لهم نشاط نحوي مذكور مثل ابن قتيبة, وأبي حنيفة الدينوري. وحاول بعض الباحثين المعاصرين أن ينفي وجود المدرسة البغدادية، معتمدا على من ينظمون أفرادها في البصريين والكوفيين, وأن علمين من أعلام جيلها الثاني ينسبان أنفسهما في البصريين، وهما أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جني، إذ يعبران في تصانيفهما عنهم كثيرا بكلمة أصحابنا1، وينتصران في أغلب الأمر للآراء البصرية وكثيرا ما يطلق ابن جني على الكوفيين اسم البغداديين2، وكأنهم مدرسة واحدة.

_ 1 انظر: أبو علي الفارسي لعبد الفتاح شلبي "طبع مطبعة نهضة مصر" ص106، والخصائص لابن جني "طبعة دار الكتب المصرية سنة 1952" 1/ 137, وسر صناعة الإعراب "طبعة الحلبي" 1/ 267. 2 الخصائص 1/ 18 وقارن بـ 1/ 199.

ولا يكفي أن ينسب ابن جني وأبو علي الفارسي أنفسهما في البصريين، لنعدهما حقا منهم، فإنهما اتبعا في مصنفاتهما المذهب البغدادي الانتخابي، وإن كانت قد غلبت عليهما النزعة البصرية، وهي لا تخرجهما عن دوائر الاتجاه البغدادي القائم على الانتخاب من آراء البصريين والكوفيين. وعلى غرارهما الزجاجي آخر الجيل الأول من البغداديين. أما إطلاق ابن جني اسم البغداديين على الكوفيين أحيانا, فيرجع إلى أن جمهور الجيل الأول من البغداديين كانت تغلب عليه النزعة الكوفية، فسماهم الكوفيين تارة، وتارة سماهم البغداديين، وأهمهم ثلاثة: ابن كيسان المتوفى سنة 299 للهجرة, وابن شُقَيْر1 المتوفى سنة 315, وابن الخياط2 المتوفى سنة 320, وفيهم يقول الزجاجي: "من علماء الكوفيين الذين أخذت عنهم: أبو الحسن بن كيسان وأبو بكر بن شقير وأبو بكر بن الخياط؛ لأن هؤلاء قدوة أعلام في علم الكوفيين، وكان أول اعتمادهم عليه، ثم درسوا علم البصريين بعد ذلك فجمعوا بين العلمين"3.ويصرح الزجاجي في موضع آخر بأن هؤلاء الأعلام ومعهم ابن الأنباري الكوفي الخالص, هم الذين ينقل عنهم احتجاجات الكوفيين لآرائهم، فهم الذين ضبطوا هذه الاحتجاجات ووثقوها وأحكموها، يقول في كتابه الإيضاح بعد أن أورد جملة وجوه الاحتجاج لآراء الكوفيين التي سردها في الكتاب سردا: "وإنما نذكر هذه الأجوبة عن الكوفيين على حسب ما سمعنا مما يحتج به عنهم من ينصر مذهبهم من المتأخرين وعلى حسب ما في كتبهم إلا أن العبارة عن ذلك بغير ألفاظهم والمعنى واحد؛ لأنا لو تكلفنا حكاية ألفاظهم بأعيانها لكان في نقل ذلك مشقة علينا من غير زيادة في الفائدة، بل لعل أكثر ألفاظهم لا يفهمها من لم ينظر في كتبهم، وكثير من ألفاظهم قد هذبها من نحكي

_ 1 راجع في ترجمة ابن شقير: السيرافي ص109 حيث سلكه في البصريين, وكذلك الزبيدي ص128, وانظر تاريخ بغداد 4/ 89, ونزهة الألباء ص251, ومعجم الأدباء لياقوت 3/ 11, وإنباه الرواة 1/ 34, وبغية الوعاة ص130. 2 انظر في ترجمته: طبقات الزبيدي ص128, ونزهة الألباء ص247, ومعجم الأدباء 17/ 141, وإنباه الرواة 3/ 54, وبغية الوعاة ص19. 3 الإيضاح في علل النحو للزجاجي ص79.

عنه مذهب الكوفيين مثل ابن كيسان وابن شقير وابن الخياط وابن الأنباري، فنحن إنما نحكي علل الكوفيين على ألفاظ هؤلاء ومن جرى مجراهم، مع أنه لا زيادة في المعنى عليهم ولا بخس حظ يجب لهم"1. ومعنى ذلك أن ابن كيسان وابن شقير وابن الخياط الذين جمعوا بين علمي البصرة والكوفة كما يقول الزجاجي, هم الذين اشتقوا احتجاجات الكوفيين في جملتها، وهم الذين انتزعوا مقاييسها وعللها، مع ما أمدهم به الكوفيون من الكسائي إلى ابن الأنباري. وكان تثقفهم بالنحو البصري وما بُسط فيه من العلل والمقاييس ووجوه الاحتجاج مادة صاغوا منها عملهم. وبذلك تتضح لنا صحة ما رواه صاحب الإنصاف من احتجاجات الكوفيين بإزاء احتجاجات البصريين, فإن من يبحث عن هذه الاحتجاجات فيما وصلنا من كتابات الفراء وثعلب قلما يجد لها أصلا عندهما، مما قد يدعو إلى الشك في صحتها وأنها قد تكون من عمل بصريين متأخرين كما ظن ذلك فايل في مقدمته للإنصاف، وهو ظن واهم، إنما هي من عمل أوائل البغداديين ممن سميناهم وأمثالهم، ممن حاولوا -كما لاحظ الزجاجي- الاحتجاج للآراء الكوفية والاحتيال لها والتلطف في بيانها. وهم أنفسهم الذين يطلق عليهم ابن جني تارة اسم الكوفيين مدمجا فيهم سابقيهم من أمثال الكسائي والفراء، وتارة يطلق عليهم اسم البغداديين، يقصدهم وحدهم دون من تقدموهم من الكوفيين، وهو الاسم الصحيح الذي يتطابق مع ما أكدته كتب التراجم من خلطهم بين آراء المدرستين الكوفية والبصرية. وكان يعاصرهم من يخلط بين آراء المدرستين نازعا نزعة بصرية قوية، على نحو ما يلقانا عند الزجاجي، وخلفه أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جني، وكانا أشد منه نزوعا إلى آراء المدرسة البصرية، ولعلهما من أجل ذلك كانا ينسبان أنفسهما إلى تلك المدرسة، مما جعل الأمر يغم على بعض المعاصرين، فيضيفهما إلى البصريين2، وهما -كما سنرى عما قليل- بغداديان، يقفان غالبا مع

_ 1 الزجاجي ص131. 2 انظر مقدمة الشيخ محمد علي النجار لكتاب الخصائص ص44.

البصريين وقد يقفان مع الكوفيين حسب ما يقتضيه اجتهادهما، وقد يخالفانهما جميعا حسب ما صح عندهما من الرأي الصائب. وتلك هي المنازِع العامة للمدرسة البغدادية، وكأنما اتجهت اتجاهين: اتجاها مبكرا عند ابن كيسان وابن شقير وابن الخياط نزع فيه أصحابه إلى آراء المدرسة الكوفية وأكثروا من الاحتجاج لها، مع فتح الأبواب لكثير من آراء المدرسة البصرية، وأيضا مع فتح باب الاجتهاد لبعض الآراء الجديدة، واتجاها مقابلا عند الزجاجي ثم عند أبي علي الفارسي وابن جني، نزع فيه أصحابه إلى آراء المدرسة البصرية وهو الاتجاه الذي ساد فيما بعد لا في مدرسة بغداد وحدها، بل في جميع البيئات التي عُنيت بدراسة النحو. ولعل من الخير أن نقف وقفة قصيرة عند أهم من مثلوا المنزعين في نشأة تلك المدرسة، وهما: ابن كيسان والزجاجي، ثم نتلوهما بالحديث عن أبي علي الفارسي وابن جني ومن جاء في إثرهما من نحاة إيران والعراق والشام ممن استضاءوا بمنهجهما النحوي في نشاطهم العلمي. ابن كيسان 1: هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان، وسلكه بروكلمان وبعض كتاب التراجم في المدرسة البصرية، وهو يعد أول أئمة المدرسة البغدادية، فقد توفي سنة 299 للهجرة، وكان قد أخذ عن المبرد وثعلب وأتقن مذهبي البصريين والكوفيين في النحو، وكان أبو بكر بن مجاهد إمام القراء في عصره يقول: هو أنحى من ثعلب والمبرد، وصنف كتبا كثيرة منها: كتاب اختلاف البصريين والكوفيين, وكتاب الكافي في النحو, وكتاب التصاريف، وكتاب المختار في علل النحو في ثلاث مجلدات, وقد أشار إليه الزجاجي في الإيضاح، ولعله هو الذي عُني فيه بوضع احتجاجاته لآراء المدرسة الكوفية.

_ 1 انظر في ترجمة ابن كيسان: الزبيدي ص170, والسيرافي ص108, ومراتب النحويين ص140, ونزهة الألباء ص235، وتاريخ بغداد 1/ 335, ومعجم الأدباء 17/ 137, وإنباه الرواة 3/ 57, ومرآة الجنان 2/ 236، وشذرات الذهب 2/ 232, وبغية الوعاة ص8.

وفي كلام الزجاجي عنه ما يدل على أنه كان يعنى بحدود النحو، فقد نقل عنه حد الاسم بقوله: "الأسماء: ما أبانت عن الأشخاص وتضمنت معانيها نحو: رجل وفرس", ثم قال: "ولابن كيسان في كتبه حدود للاسم غير هذا هي من جنس حدود النحويين، وحدّه في الكتاب المختار بمثل الحد الذي ذكرناه من كلام المنطقيين"1 يريد: حدهم له بقولهم: "الاسم: صوت موضوع دالّ باتفاق على معنى غير مقرون بزمان"2. ولعل في ذلك ما يدل على أن ابن كيسان كان يأخذ نفسه بثقافة منطقية عميقة، ويقول مترجموه: إنه كان يمتاز بحدة خاطره وبعد غوصه وغرائب قياساته، ويضربون مثلا لذلك أنه سئل عن قراءة آية سورة طه: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} ما وجهها من الإعراب؟ فقال: نجعلها مبنية "أي: تلزم الألف في حالتي النصب والجر" فسئل عن علة بنائها فقال: لأن المفرد منها مبني وهو هذا, وكذلك الجمع هؤلاء مبني، فنجعلها مبنية مثلهما. ويقول مترجموه أيضا: إنه مزج النحوين: البصري والكوفي، فأخذ من كل واحد منهما ما غلب على ظنه صحته، واطرد له قياسه، وترك التعصب لأحد الفريقين على الآخر. وتدور له في كتب النحو آراء كثيرة، منها ما وافق فيه البصريين ومنها ما وافق فيه الكوفيين ومنها ما وصل إليه باجتهاده وبعد غوره، فمما وافق فيه البصريين ذهابهم إلى أن الناصب للمضارع بعد لام التعليل أن مضمرة مثل: جئت لأكرمك، وإنما قدروا بعدها أن لأنها قد تظهر في مثل قولك: جئت لأن أكرمك. ومع ارتضائه هذا الرأي البصري أضاف إليه أنه يجوز أن يكون الناصب بعد لام التعليل كي محذوفة لمجيئها أيضا في مثل قولك: جئت لكي أكرمك، ومعروف أن الكوفيين يذهبون إلى أن لام التعليل تنصب المضارع بنفسها دون حاجة إلى تقدير أن كما ذهب البصريون3. وكان يذهب مذهب المبرد وابن السراج تلميذه في أن العامل في التابع من النعت والتأكيد وعطف البيان هو العامل في المتبوع ينصبّ عليهما انصبابة واحدة، وكان الخليل وسيبويه والأخفش يذهبون إلى أن العامل فيها جميعا هو التبعية4. وكان يرى رأي الزجاج في أن الضمير

_ 1 الزجاجي ص50. 2 انظر الزجاجي ص48. 3 المغني ص231, والهمع 2/ 16. 4 الهمع 2/ 115.

من "هو وهي" الهاء فقط والواو والياء زائدتان لحذفهما في المثنى والجمع، بينما كان يرى بقية البصريين أن هو وهي جميعا أصلان1. وكان يتابع يونس في أن "إما" في مثل قولك: جاء إما زيد وإما عمرو ليست عاطفة، وإنما العطف بالواو التي قبلها2. ومما كان يوافق فيه الكوفيين جواز تقديم خبر "ما زال" عليها، فتقول: قائما ما زال زيد، بينما كان البصريون لا يجيزون مثل هذا التعبير3. وكان يوافقهم في أن "إيا" عماد في "إياك وإياي وإياه وأخواتها" والضمير ما يتلوها، بينما ذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمازني إلى أن الاسم المضمر هو "إيا" وما بعده حرف يدل على أحوال المرجوع إليه من الخطاب والتكلم والغيبة4. ووافقهم في أن الاسم المؤنث علما لرجل مثل طلحة يجوز أن يجمع جمع مذكر سالما فيقال: طلحون، وكان الكوفيون يوجبون سكون عينه، بينما جوز فتحها قياسا على الجمع بالألف والتاء، إذ يقال: طلحات بفتح اللام وكان البصريون لا يجيزون جمع هذا العلم إلا جمع مؤنث سالما5. ومما وافقهم فيه جواز التوكيد بأكتع وأبصع وأبتع دون ذكر لكلمة جميع، فيقال: جاءوا أكتعون، واشترط البصريون سبق كلمة أجمع لها فلا يقال عندهم إلا: "جاءوا أجمعون أكتعون"، واستدل ابن كيسان والكوفيون بسماع مثل قول بعض الشعراء: تحملني الذلفاء حولا أكتعا6 وكان يذهب مذهبهم في أن مثل ثلاث ورباع ممنوع من الصرف للعلمية والعدل، بينما ذهب البصريون إلى أن المانع الوصفية والعدل، بدليل وقوعه حالا في مثل: جاءني القوم مثنى7. ومنع الفراء الفصل بين اسم إن وخبرها في مثل: "إن زيدا لأظن قائم, وإن زيدا لغير شك قائم, وإن زيدا لئن شاء الله قائم", واحتج لذلك ابن كيسان بقوله: إنما امتنع ذلك؛ لأنه كلام معترض به من إخبارك عن نفسك كيف وصفت الخبر عن زيد شكا كان عندك أو يقينا،

_ 1 ابن يعيش 3/ 97، والهمع 1/ 61. 2 الهمع 2/ 135. 3 ابن يعيش 7/ 113. 4 الرضي على الكافية 2/ 9. 5 الرضي 2/ 168. 6 الهمع 2/ 123. 7 الرضي 1/ 36.

والتوكيد إنما هو لخبر زيد لا لخبرك عن نفسك؛ لأن "إن" لا تتعلق بخبرك وهي متجاوزة إلى الخبر1. ولابن كيسان بجانب ذلك آراء اجتهادية كثيرة انفرد بها، فمن ذلك أنه كان يجوِّز تذكير الفعل مع المبتدأ المؤنث المجازي مثل: "الشمس طلع" لمجيء ذلك على لسان الشعراء في مثل: ولا أرض أبقل إبقالها كما جوز تذكير الفعل مع الفاعل المؤنث الحقيقي بدون فاصل لقول بعض الشعراء: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما واستدل أيضا بأن سيبويه حكى عن بعض العرب: "قال فلانة"2. وكان يعتل بأن الحال سدت مسد الخبر في مثل: "كتابتي الشعر قائما" لشبهها بالظرف فكأنما قيل: كتابتي الشعر في حال قيام3. وذهب الجمهور إلى أن أمس بُنيت لتضمنها معنى لام التعريف، بينما ذهب ابن كيسان إلى أن علة بنائها تضمنها معنى الفعل الماضي، وأُعربت "غد" لأنها في معنى الفعل المستقبل وهو معرب4. وكان يذهب إلى جواز تقدم الحال على صاحبها المجرور, مستدلا بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} بينما كان سيبويه وكثير من البصريين يمنعون ذلك5. وذهب الجمهور في مثل: ما قام زيد ولكن عمرو إلى أن الواو هي العاطفة ولكن حرف ابتداء، بينما ذهب ابن كيسان إلى أن لكن هي العاطفة والواو زائدة6. ومنع الجمهور جمع مثل أحمر جمع مذكر سالما وكذلك جمع حمراء جمع مؤنث سالما ومثلهما سكران وسكرى، وجوز ذلك ابن كيسان، فيقال في رأيه: أحمرون وحمراوات وسكرانون وسكرايات7. ولعل في كل ما قدمنا ما يدل على براعة ابن كيسان وكيف ابتدأ المدرسة البغدادية، فهو يعكف على آراء الكوفيين والبصريين دارسا فاحصا، منتخبا لنفسه طائفة من الآراء البصرية وأخرى من الآراء الكوفية ومشتقا لنفسه آراء جديدة مبتكرة.

_ 1 الهمع 1/ 140. 2 المغني ص731، والهمع 2/ 171. 3 الهمع 1/ 106. 4 الهمع 1/ 208. 5 الرضي 1/ 89. 6 المغني ص324، والهمع 2/ 138. 7 الرضي 2/ 169.

الزجاجي1: هو أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق، من أهل الصيمرة الواقعة بين ديار الجبل وديار خوزستان، نشأ بنهاوند جنوبي همذان، وانتقل إلى بغداد ينهل من حلقات العلماء، ولزم الزجاج البصري وقرأ عليه النحو، ومنه لزمه لقبه الزجاجي. ورحل إلى الشام فأقام بحلب مدة، ثم تركها إلى دمشق واتخذها دار مقام له، وأكب على تصانيفه فيها وإملاءاته للطلاب، وحدث أن خرج إلى طبرية، فمات بها سنة 337 للهجرة، وقيل: بل سنة 340. وقد خلّف مصنفات كثيرة نشر منها أماليه الوسطى مع تعليقات للشنقيطي وهي تزخر باللغة والأخبار ومجالس العلماء, وهي تحكي محاورات لطائفة كبيرة منهم أكثرها في مسائل لغوية ونحوية. ونشر له أيضا كتاب الإيضاح في علل النحو، وكتاب الجمل وهو مختصر في قواعد النحو نال شهرة مدوية في العصور الوسطى، إذ عكف عليه العلماء بالدرس والشرح حتى قالوا: إن شروحه زادت عن مائة وعشرين شرحا. وقد استقصى في كتابه الإيضاح علل النحو البصري والكوفي، ونص كما مر بنا آنفا على أن الذين حرروا العلل الكوفية هم ابن الأنباري وأوائل البغداديين: ابن كيسان وابن شقير وابن الخياط، وأضاف أن له في ذلك نصيبا إذ قال: "وأكثر ما أذكره من احتجاجات الكوفيين إنما أعبر عنه بألفاظ البصريين"2 فهم الذين نهجوا التعبير عن العلل وذللوه ومهدوه. وكان أكثر علم الكوفيين عند الكسائي وثعلب بدون علل، حتى جاء ابن كيسان وخالِفوه، فاستعاروا من البصريين لغتهم وطريقتهم في الاحتجاج وغمسوا فيهما النحو الكوفي. ومن يقرأ الكتاب يرى الفلسفة والمنطق وعلم الكلام والفقه, أو بعبارة أدق: عللها جميعا

_ 1 انظر في ترجمة الزجاجي: الزبيدي ص129، ونزهة الألباء ص306, والأنساب للسمعاني الورقة 272، وإنباه الرواة 2/ 160، وشذرات الذهب 2/ 357، ومرآة الجنان 2/ 332، وابن خلكان 1/ 389، والنجوم الزاهرة 3/ 302، وبغية الوعاة ص297. 2 الإيضاح في علل النحو للزجاجي ص80.

تمس جوانب التعليل والاحتجاج فيه. وهو يستهله بالحديث عن تقسيم سيبويه الكلام إلى: اسم وفعل وحرف, محتجا لصحة هذا التقسيم. وما يلبث أن يتحدث عن حدود الاسم والفعل والحرف، ويلتمس عند المناطقة تعريفهم للحد، ويقف بإزاء اختلاف النحاة في حدودهم، ويقول: إنه ليس اختلاف تضاد بل هو كاختلاف الفلاسفة في حدهم للفلسفة، ويقابل بين تعريف المناطقة للاسم وتعريف النحاة، بادئا بسيبويه ثم الأخفش ثم ابن كيسان ثم المبرد, ويرتضي تعريفه ناقضا ما يرد عليه من بعض الاعتراضات, وكذلك يصنع بحد الفعل وحد الحرف. ثم يقف عند اختلاف البصريين والكوفيين في المصدر والفعل: أيهما مأخوذ من صاحبه؟ ويفيض في بيان احتجاجات كل فريق، محاولا إضعاف الحجج الكوفية. ويفتح فصلا لدراسة العلل النحوية ويقسمها إلى: تعليمية مثل نصب "زيدا" في قولنا: "إن زيدا قائم" وتعليل ذلك بأنه اسم إن، وقياسية مثل التعليل لعمل إن النصب والرفع في معموليها بالفعل المتعدي لواحد، وجدلية مثل التعليل لتقدم منصوبها على مرفوعها مخالفة بذلك الفعل الذي شبهت أو قيست في عملها به. ويستظهر هنا قاعدة فقهية أصولية، فقد قيست إن على الفعل الذي تقدم مفعوله على فاعله وهو فرع للفعل الذي يتقدم عادة فاعله على مفعوله، والأصل المعروف في الفقه أن يقاس على الأصول لا على الفروع. ويتلو ذلك بفصول عن الإعراب والكلام: أيهما أسبق؟ ولم دخل الإعراب في الكلام؟ وهل الإعراب حركة أو حرف؟ وهل هو أصل في الأسماء والأفعال جميعا، أو هو أصل في الأسماء فرع في الأفعال المضارعة؟ وهل حقا نشأت الأسماء قبل الأفعال وتبعتها الحروف؟ وأي الأفعال أسبق في التقدم؟ وما حقيقة المضارع؟ وما الفرق بين النحو واللغة؟ وما معنى الرفع والنصب والجر؟ وما علة دخول التنوين في الكلام؟ ولماذا ثقل الفعل وخف الاسم؟ وما علة امتناع الأسماء من الجزم؟ وما علة امتناع الأفعال من الخفض؟ وما معنى التثنية والجمع؟ وهل الألف والياء والواو فيهما إعراب أو حروف إعراب؟ وكل مسألة يرى فيها جدالا أو حجاجا بين البصرين والكوفيين يوردها مفصلا القول فيها، وقد يضيف من عنده وجوها من العلل والأقيسة، وهي جميعا تغمس

في اصطلاحات المناطقة والمتفلسفة والمتكلمين وأصحاب علم الأصول. ونحس في وضوح أنه يقف مع البصريين مناضلا مدافعا، مما يؤكد نزعة بصرية قوية في مباحثه وكأنه كان استهلالا لانصراف البغداديين عن النزعة الكوفية إلى النزعة البصرية التي سادت بعده إلا قليلا. وكتاب الجمل أفرده لقواعد النحو والصرف، وحظي بشهرة مدوية لدقته ووضوح عبارته واستيعابه لدقائق النحو البصري التي يحتاجها الناشئة, وقد ألحق به فصلا عن الخط والإملاء, وهو فيه بعامة يتبع نظام النحو البصري؛ لأنه فعلا النظام السديد الذي أحكم بناؤه، ومع ذلك نراه يستعير من الكوفيين بعض مصطلحاتهم، فقد سمى -متابعا لهم- نائب الفاعل باسم ما لم يسم فاعله، وسمى الصفة النعت والشركة عطف النسق. وإذا أخذنا نتعقب آراءه التي تدور في كتب النحاة وجدناه يتابع البصريين غالبا، وقد يتابع الكوفيين على نحو ذهابه مذهبهم في أن كأن إذا كان خبرها اسما جامدا كانت للتشبيه مثل: كأن زيدا أسد، وإذا كان مشتقا كانت للشك بمنزلة ظننت وتوهمت مثل: كأن زيدا قائم، وقد تأتي للتحقيق مثل قول الحارث بن خالد المخزومي: فأصبح بطن مكة مقشعرا ... كأن الأرض ليس بها هشام وكان البصريون يذهبون إلى أنها للتشبيه دائما ولا معنى لها سواه1. وكان يكثر من التوقف بإزاء آراء الكوفيين والبصريين جميعا, محاولا استنباط رأي جديد، من ذلك أن سيبويه كان يذهب إلى أن سوى ظرف مكان دائما، وذهب الكوفيون إلى أنها ظرف متمكن يستعمل ظرفا كثيرا وغير ظرف قليلا، أما هو فذهب إلى أنها ليست ظرفا ألبتة وأنها تقع فاعلا في مثل: جاء سواك, ومفعولا به في مثل: رأيت سواك، وبدلا أو استثناء في مثل: ما جاءني أحد سواك أي: إنه يجوز فيها حينئذ الرفع على البدلية والنصب على الاستثناء2. وكان جمهور البصريين يذهب إلى أنه إذا وُصلت إن وأخواتها بما بطل عملها ما عدا ليت،

_ 1 المغني ص209، والهمع 1/ 133. 2 المغني ص151، والهمع 1/ 202.

فيجوِّز فيها الإعمال والإهمال، وأضاف إليها الزجاج لعل وكأن، أما الزجاجي فعمم الإلغاء والإعمال حينئذ لما حكي عن بعض العرب من قولهم: إنما زيدا قائم1. وهو هنا يصدر عن منهج الكوفيين إذا سمعوا لفظا شاذا, قاسوا عليه وعمموا الحكم. ولعل في كل ما قدمنا ما يصور بغدادية الزجاجي, على الرغم من أنه كان يسلك نفسه في البصريين2، فقد كان يحيط بآراء المدرستين ووجوه اعتلالاتها واحتجاجاتها على خصائصها، ومع الوفاء بحقوقها، وكان حين يجد الحجة الكوفية تنقصها الدقة المنطقية الشائعة في حجج البصريين لا يزال يداويها ويصلحها حتى تسبك في الصورة البصرية. ومضى في تصانيفه وآرائه النحوية يتوقف بإزاء كثير من المصطلحات والآراء البصرية مختارا لنفسه ما يقابلها عند الكوفيين، وكثيرا ما نفذ إلى آراء جديدة.

_ 1 الهمع 1/ 144. 2 الأشباه والنظائر للسيوطي "طبعة حيدر آباد" 2/ 146.

أبو علي الفارسي

2- أبو علي 1 الفارسي: هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي أبا، أما أمه فعربية سدوسية من سدوس شيبان، ولد لها بفسا من أرض فارس بالقرب من شيراز حوالي سنة 288 للهجرة. وكان فطنا ذكيا فأكب على التعلم منذ نعومة أظفاره، وما تقبل سنة 307 حتى يرحل إلى بغداد، ويعكف على حلقات البصريين مثل ابن السراج والأخفش الصغير والزجاج وابن دريد ونفطويه ومبرمان، كما يعكف على حلقات البغداديين الأولين وخاصة حلقة ابن الخياط، وأكب على حلقة أبي بكر بن

_ 1 انظر في ترجمة أبي علي: الفهرست ص64، والزبيدي ص130, وتاريخ بغداد 7/ 275، ونزهة الألباء ص315, وإنباه الرواة 1/ 273، وطبقات القراء لابن الجزري 1/ 206, ومعجم البلدان 6/ 376, ولسان الميزان 2/ 195، وشذرات الذهب 3/ 88, والنجوم الزاهرة 4/ 151, والمزهر "طبعة الحلبي" 2/ 487، 606, وبغية الوعاة ص216, وأبو علي الفارسي لعبد الفتاح شلبي, طبعة مكتبة نهضة مصر ومطبعتها.

مجاهد تلميذ ثعلب وشيخ القراء في عصره. ولم يخالط الكوفيين والبغداديين والبصريين في حلقات من استظهروا مذاهبهم فحسب، فقد مضى يخالط سابقيهم في كتاباتهم متمثلا ما كتبه سيبويه وغير سيبويه من مصنفات مختلفة. ويظهر أنه اتسع بثقافته، فشملت كتابات المتكلمين، إذ يقول مترجموه: إنه كان يعتنق مذهب المعتزلة، والاعتزال من قديم يجر إلى قراءة المنطق والفلسفة، وأغلب الظن أنه كان شيعيا؛ لغلبة التشيع حينئذ على أهل العراق وفارس. ونظن ظنا أنه قعد للتدريس والإملاء في مساجد بغداد مبكرا، وكان فيه حب للرحلة، فتنقل يملي ويدرس للطلاب في "عسكر مكرم" وبعض مدن الموصل، ويدخل حلب في سنة 341 ومعه تلميذه ابن جني الذي شُغف به حبا، ويتحول إلى بعض مدن الشام، ويعود إلى بغداد سنة 346 وتطير شهرته، فيستدعيه إلى شيراز عضد الدولة البويهي، ويأخذ عنه هو وبعض أفراد أسرته، ويفتخر عضد الدولة بذلك حتى ليقول: إنه غلامه. ويظل عنده، حتى إذا دخلت بغداد في حوزته عاد إليها ثانية وظل بها إلى وفاته سنة 377 للهجرة. واتبع عادة هي أن ينسب إملاءاته في كل بلدة إليها، وهي نسبة تعين رحلاته وأماكن دراساته، فمن ذلك المسائل العسكرية نسبة إلى عسكر مكرم، والمسائل القصرية نسبة إلى "قصر ابن هبيرة" بنواحي الكوفة، والمسائل الحلبية، والمسائل الدمشقية, والمسائل البصرية, والمسائل البغدادية, والمسائل الكرمانية نسبة إلى كرمان في إيران, والمسائل الشيرازية. ومن مصنفاته: الإيضاح والتكملة والعوامل المائة والمقصور والممدود، ومن أهمها كتاب الحجة في القراءات السبع، وفيه يحتج لكل قراءة من تلك القراءات من اللغة والشعر, ناثرا آراء النحاة البصريين والكوفيين، منتصرا تارة للأولين وتارة للأخيرين مع نزعة قوية فيه إلى الأخذ بالآراء البصرية مما جعل الزبيدي في طبقاته وابن النديم في فهرسته يسلكانه في البصريين، ويقول أبو حيان فيه: "أبو علي أشد تفردا بالكتاب "كتاب سيبويه" وأشد إكبابا عليه وأبعد من كل ما عداه من علم الكوفيين"1. وسنرى أنه كان ممن خلط بين آراء المدرستين في

_ 1 الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان "طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر" 1/ 131.

وضوح. وهو بذلك بغدادي ينتخب من المدرستين ما يراه أولى بالاتباع، وإن غلب عليه النزوع إلى المذهب البصري؛ لأنه كان المذهب الذي حُرِّرت أصوله وفروعه وعلله. وكان عقل أبي علي من الخصب بحيث ملأ نفس ابن جني تلميذه، حين ألم بالموصل، من جميع أقطارها، وهو يكثر من ذكر آرائه في كتابه الخصائص وغيره، حتى ليبدو كأنه كان كنزا سائلا بمسائل اللغة والنحو وما يجري فيها من ضبط الأصول وضبط الأقيسة والعلل، وقد استضاء به في كثير من الأصول الكلية التي حررها في كتابه الخصائص، فمن ذلك "السلب" يقول: "نبهنا أبو علي -رحمه الله- من هذا الموضع على ما أذكره وأبسطه؛ لتتعجب من حسن الصنعة فيه"1. ويأخذ في بيان أن الأصل في الفعل الإثبات مثل: قام فهي لإثبات القيام، ثم يقول: إنهم قد استعملوا ألفاظا في السلب ابتداء مثل مادة "عجم" فهي للإبهام، ولتوضيح ذلك يعرضها في استعمالاتها المختلفة، ثم يبين أنهم قد يدخلون الهمزة على الفعل لإفادة السلب مثل: أشكيت الرجل, إذا زُلت له عما يشكوه، وقد يضعفون ثانيه لنفس الغاية مثل: مرضت الرجل أي: داويته من مرضه، وقد يأتي السلب بدون زيادة. ويفيض ابن جني نقلا عن أستاذه في أمثلة كثيرة. ونراه ينقل عنه في باب تعارض القياس والسماع أمثلة خالف فيها العرب القياس, مبينا أن ما استقر على لسانهم هو الأساس2. وبالمثل ينقل عنه في باب الاستحسان وهو ما تكون علته ضعيفة غير مستحكمة مثل قولهم: رجل غديان والقياس: غدوان لأنه من قولهم: عدوت3. ومن ذلك باب نقض المراتب إذا عرض عارض كتقديم المفعول به على الفاعل4. ومن ذلك باب تلاقي اللغة، يقول: "هذا موضع لم أسمع فيه لأحد شيئا إلا لأبي علي رحمه الله"5, ويذكر مما جاء على لسانه منه: أجمع وجمعاء وأكتع وكتعاء وأخواتهما, فإن هذه الصيغة لا تأتي إلا صفة، بينما هي في تلك الأمثلة معارف.

_ 1 الخصائص لابن جني "طبعة دار الكتب المصرية" 3/ 75. 2 الخصائص 1/ 135. 3 الخصائص 1/ 143. 4 الخصائص 1/ 293 وما بعدها. 5 الخصائص 1/ 321.

ومن ذلك باب ما قِيس على كلام العرب فإنه يصبح من كلامهم1، وباب الامتناع من تركيب ما يخرج عن السماع2. ومما نقله عنه باب الاشتقاق الأكبر، يقول: "هذا موضع لم يسمه أحد من أصحابنا غير أن أبا علي -رحمه الله- كان يستعين به ويخلد إليه"3, ويريد به "أن تأخذ أصلا من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحدا، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه، وإن تباعد شيء من ذلك عنه رُد بلطف الصنعة والتأويل إليه ... نحو: ك ل م، ك م ل، م ل ك، م ك ل، ل ك م، ل م ك". ومن ذلك باب مشابهة معاني الإعراب معاني الشعر، إذ يقول: "نبهنا أبو علي -رحمه الله- من هذا الموضع على أغراض حسنة"4. ويقول في باب تعليق الأعلام على المعاني دون الأعيان: "هذا باب من العربية, غريب الحديث أراناه أبو علي"5. وقد بنى باب محل حركات الإعراب من الحروف على كلام لأبي علي6، واكتفى في حديثه عن الحرف المبتدأ به أيمكن أن يكون ساكنا على توجيه أستاذه؟ 7, ويقول في باب إضافة الاسم إلى المسمى والمسمى إلى الاسم: "هذا موضع كان يعتاده أبو علي -رحمه الله- كثيرا ويألفه ويأنق له ويرتاح لسماعه"8. ويعقد بابا للاكتفاء بالسبب دون المسبب وبالمسبب من السبب قائلا: "هذا موضع من العربية شريف لطيف وواسع لمتأمله كثير، وكان أبو علي -رحمه الله- يستحسنه ويعنى به"9. ومن ذلك قوله في فاتحة باب نقض الأصول وإنشاء أصول غيرها: "رأيت أبا علي -رحمه الله- معتمدا هذا الفصل من العربية, ملما به, دائم التطرق له والفزع فيما يحدث إليه"10. ويقول في باب تجاذب المعاني والإعراب: "هذا موضع كان أبو علي -رحمه الله- يعتاده، ويلم كثيرا به، ويبعث على المراجعة له، وإلطاف النظر فيه"11.

_ 1 الخصائص 1/ 357. 2 الخصائص 2/ 17. 3 الخصائص 2/ 133. 4 الخصائص 2/ 168. 5 الخصائص 2/ 197. 6 الخصائص 2/ 321. 7 الخصائص 2/ 329. 8 الخصائص 3/ 24. 9 الخصائص 3/ 173. 10 الخصائص 3/ 227. 11 الخصائص 3/ 255.

ولعلنا لا نغلو إذا قلنا بعد ذلك: إن أكثر الأصول التي اعتمدها ابن جني في كتابه الخصائص إنما استمدها من إملاءات أبي علي أستاذه وملاحظاته. وإذا رجعنا إلى آرائه النحوية وجدناه في طائفة منها ينصر الخليل وسيبويه، وغيرهما من البصريين، وفي طائفة أخرى ينتصر للكوفيين، ويكفي أن ندل على ذلك ببعض الأمثلة، فمما انتصر فيه للخليل أن لا النافية قد تأتي زائدة كما في قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} 1. وانتصر له ولسيبويه في تحليل {وَيْكَأَنَّهُ} في قوله جل شأنه: {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} إذ كانا يذهبان إلى أن "ويْ" مفصولة بمعنى أعجب, وذهب الأخفش إلى أنها موصولة بالكاف, أي: "ويك أنه لا يفلح الكافرون" وويك عنده بمعنى أعجب، وعلق أن وما بعدها بما في ويك من معنى الفعل. ووقف أبو علي مع الخليل وسيبويه مؤكدا أن "كأن" قد تأتي كالزائدة، وأنشد في ذلك بيت عمر بن أبي ربيعة: كأنني حين أمسي لا تكلمني ... ذو بغية يشتهي ما ليس موجودا أي: أنا كذلك2. وكان سيبويه يذهب إلى أن "إذ ما" حرف شرط مثل إن، وذهب المبرد وابن السراج -وتابعهما أبو علي- إلى أنها ظرف مثل إذ3. وقد أجاز مع الأخفش والكوفيين ترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر4. وعلى نحو ما كان ينتخب لنفسه من الآراء البصرية كان ينتخب من الآراء الكوفية ما صح في قياسه، من ذلك أنه كان يقف مع الكوفيين في إعمال الفعل الأول في باب التنازع, مستدلا بقول امرئ القيس: ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال5 وكان يتابعهم في إعمال إِنِ النافية عمل ليس لما رووا عن بعض أهل العالية في نجد من قولهم: "إن أحدٌ خيرا من أحد إلا بالعافية"6. وتابعهم في أن

_ 1 المغني ص278. 2 الخصائص 3/ 170. 3 المغني ص92. 4 ابن يعيش على المفصل 1/ 68. 5 المغني ص563. 6 همع الهوامع 1/ 124.

عطف البيان ومتبوعه قد يكونان نكرتين، وقد استدلوا بمثل قوله جل شأنه: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وقوله: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} وكان البصريون يؤولون مثل ذلك على أنه بدل ذاهبين إلى أن عطف البيان ينبغي أن يكون دائما معرفة1. وذهب البصريون إلى أن لو شرطية دائما، بينما ذهب الفراء -وتابعه أبو علي- إلى أنها قد تكون حرفا مصدريا بمنزلة أنْ إلا أنها لا تنصب، وأكثر وقوع ذلك بعد ود ويود مثل: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ} و {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} وقال البصريون: إنها في مثل ذلك شرطية وإن مفعول {يَوَدُّ} وجواب {لَوْ} محذوف، والتقدير: يود أحدهم التعمير لو يعمر ألف سنة لسره ذلك. ويقول ابن هشام: لا خفاء بما في هذا التقدير من التكلف2. وكان يجيز -مثل الكوفيين- إعمال الضمير العائد على المصدر في الظرف مثل: "قيامك أمسِ حسن وهو اليوم قبيح" فهو عنده تعمل في اليوم عمل المصدر العائدة عليه3. وتابعهم في أن "أو" تأتي للإضراب مطلقا بدون اشتراط تقدم نفي أو نهي كما اشترط سيبويه، محتجا بقول جرير: ماذا ترى في عيال قد برمت بهم ... لم أُحْصِ عدتهم إلا بعداد؟ كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية ... لولا رجاؤك قد قتلت أولادي4 ومما تابعهم فيه أن الباء الجارَّة قد تأتي بمعنى التبعيض مثل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} , وقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} 5. وكان سيبويه يذهب إلى أن خلا إذا تقدمتها ما كانت فعلا، وذهب الكسائي وتبعه أبو علي الفارسي، إلى أنها قد تكون حرف جر وما زائدة6. وليس كل ما يشكِّل بغدادية أبي علي أنه كان ينتخب لنفسه من المذهبين

_ 1 الهمع 2/ 121. 2 المغني ص294. 3 الخصائص 2/ 19, وانظر الهامش. 4 المغني ص67. 5 المغني ص111. 6 المغني ص142, ومما تابع فيه الكوفيين أن من حروف النصب للمضارع كما بمعنى كيما "الهمع 2/ 6, والمغني ص193" ومر بنا أن الكسائي كان يرى في مثل: قام وقعد محمد أن فاعل الفعل الأول محذوف ولا فاعل، وقد استضاء بذلك الفارسي فذهب إلى أن قلما في مثل: قلما ينظر محمد لا فاعل لها, وكأن الفعل أجري مجرى حرف النفي, ومثلها كان المزيدة في مثل: أنت تكون ماجد نبيل "المغني ص750، والهمع 1/ 120".

الكوفي والبصري، بل يشكلها أيضا أنه كان يجتهد وينفرد بآراء لم يسبق إليها، من ذلك أن سيبويه وجمهور البصريين كانوا يذهبون إلى أن العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف عليه, فمثل: كلمت محمدا وعليا انتصب محمد وعلي جميعا بكلمت. وذهب ابن السراج إلى أن حرف العطف هو العامل، أما أبو علي فرأى أن العامل في المعطوف فعل محذوف بعد أداة العطف؛ لأن الأصل في مثل: كلمت محمد وعليا: كلمت محمدا وكلمت عليا، فحُذف الفعل بعد الواو لدلالة الأول عليه، بدليل أنه يجوز إظهاره1. وكان سيبويه يذهب إلى أن ناصب المنادى فعل محذوف تقديره: أنادي أو أدعو، وذهب المبرد إلى أن ناصبه حرف النداء يا وأخواتها لنيابتها عن الفعل، وذهب أبو علي الفارسي إلى أن أدوات النداء ليست حروفا وإنما هي أسماء أفعال2، وأن المنادى مشبه بالمفعول به3. ومر بنا في غير هذا الموضع اختلاف النحاة في إعراب الأسماء الخمسة، فقد كان سيبويه يرى أنها معربة بحركات مقدرة في الحروف، وقال الكوفيون: إنها معربة بالحركات على ما قبل حروف العلة، ووافقهم المازني إلا أنه قال: إن تلك الحروف ناشئة عن إشباع الحركات، وقال قطرب من البصريين وهشام من الكوفيين: إن حروف العلة نابت عن الحركات، وقال الجرمي: انقلاب تلك الحروف هو الإعراب، وذهب أبو علي الفارسي إلى أنها حروف إعراب دالة عليه4. وكان سيبويه والجمهور يذهبون إلى أن الأفعال الخمسة ترفع بالنون وتنصب وتجزم بحذفها، وقال الأخفش: هي معربة بحركات مقدرة على ما قبل الألف في مثل يكتبان, والواو في مثل يكتبون, والياء في مثل تكتبين، وقيل: إعراب هذه الأفعال بالألف والواو والنون، وقال أبو علي: هي معربة ولا يوجد بها حرف إعراب، لا النون لأنها تسقط في النصب من الجزم ولا الألف والواو والياء لأنها ليست في آخرها، ولأنها ضمائر متصلة بها5. وكان سيبويه يذهب إلى أن "حتى" يتعين نصب المضارع بعدها إذا وليت فعلا غير موجب مثل: "ما سرت حتى أدخل

_ 1 ابن يعيش 8/ 89, والرضي 1/ 119. 2 ابن يعيش 1/ 127, والرضي 1/ 129. 3 الهمع 1/ 171. 4 الرضي 1/ 24. 5 الهمع 1/ 51.

المدينة" وجوز الفارسي الرفع بعدها في جميع الأحوال بدون استثناء1. وذهب البصريون إلى أن الخبر إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا تعلق بفعل أو اسم فاعل محذوف هو الخبر، ومر بنا أن الكوفيين كانوا يرون أن الظرف في مثل: محمد عندك, منصوب بالخلاف، وذهب أبو علي الفارسي مستضيئا برأي ابن السراج الذي مر بنا إلى أن الجار والمجرور والظرف هما الخبر -وليس هناك عامل محذوف- معلقان به2. وكان الجمهور يمنع العطف على محل المجرور في مثل: مررت بزيد وعمرو فلا يقال: عمرا بالنصب، وأجاز ذلك الفارسي3. ومنع الجمهور إتباع فاعل نعم وبئس بالنعت مثل: لنعم الفتى المدعو للحرب علي، وأجازه الفارسي4. وكان سيبويه يذهب إلى أن ما في مثل: غسلته غسلا نِعِمَّا معرفة بمعنى الشيء, فهي فاعل لنعم، وذهب الفارسي إلى أنها نكرة تامة بمعنى شيء وأنها تمييز لفاعل نعم المستتر5، وكان يذهب إلى أن "مَنْ" أيضا في باب نعم نكرة تامة تمييز لفاعل نعم المستتر مثل: "نعم من هو في سر وإعلان" ولم يوافقه أحد من النحاة في هذا الرأي، إذ يجمعون على أنها موصولة فاعل لنعم6. وذهب سيبويه والجمهور إلى أن أمّا في قول بعض الشعراء: أبا خراشة أَمَّا أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع مركبة من أن المصدرية وما المزيدة والأصل: لأن كنت، فحُذف الجار وكان للاختصار فانفصل الضمير لحذف ما يتصل به وزِيدت ما عوضا عن كان، وأدغمت النون في الميم للتقارب، وبذلك يكون المرفوع بعدها اسما لكان المحذوفة والمنصوب خبرها، وذهب أبو علي إلى أن ما الزائدة هي الرافعة الناصبة لكونها عوضا من الفعل فنابت منابه7. ولم يثبت النحاة ما الزمانية وأثبتها أبو علي مستدلا بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أي: استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم8. وكان سيبويه والجمهور يذهبون إلى أن الدار والمسجد في مثل: دخلت الدار والمسجد منصوبان على الظرفية، وهذب الأخفش -كما مر بنا- إلى أنهما

_ 1 الهمع 2/ 9. 2 الهمع 1/ 99. 3 الخصائص 2/ 353، والهمع 2/ 141. 4 الهمع 2/ 85. 5 المغني ص328, والهمع 1/ 250. 6 المغني ص488، والهمع 1/ 92. 7 المغني ص 489، والهمع 1/ 122. 8 المغني ص335.

مفعولان به، وتوسط الفارسي ذاهبا إلى أن "في" حُذفت، فنُصبا على المفعولية اتساعا وتجوزا1. وذهب الجمهور إلى أن "غير" محمولة في الاستثناء على ما بعد إلا فحكمها حكمه، وذهب الفارسي إلى أنها منصوبة على الحال في مثل: جاء القوم غيرَ علي2. والجمهور يذهب إلى أن لا في مثل: "لا سيما محمد" نافية للجنس وسي اسمها بمعنى مثل وما زائدة والخبر محذوف، وذهب الأخفش إلى أن ما خبر لا وذهب أبو علي في كتابه "الهيتيات" نسبة إلى هيت بلدة بالعراق إلى أن لا في مثل: قام القوم لا سيما محمد, مهملة وسي حال أي: قاموا غير مماثلين لزيد في القيام3. وذهب الجمهور في مثل: لا أبا لك ولا أخا لك إلى أن أبا اسم لا النافية للجنس واللام في لك زائدة وأبا مضاف إلى الكاف ومثلها أخا والخبر محذوف، وذهب هشام من الكوفيين وابن كيسان من البغداديين إلى أن أبا وأخا غير مضافين ولكنهما عُوملا معاملة المضاف في الإعراب، ولك في موضع الصفة لهما والخبر محذوف، بينما ذهب الفارسي إلى أن أبا وأخا في العبارتين جاءتا على لغة القصر وإلزام الأب والأخ الألف، ولك هي الخبر4. وكان سيبويه والجمهور يذهبون إلى أن لام الاستغاثة في مثل: "يا لزيد" متعلقة بفعل أنادي المحذوف في النداء، وذهب أبو علي إلى أنها متعلقة بيا5. وذهب سيبويه والجمهور إلى أن اللام الداخلة على الخبر مع إن المهملة في مثل: إنْ محمد لقائم "وإن كانت لكبيرة" هي لام الابتداء، وذهب أبو علي إلى أنها ليست لام الابتداء وإنما هي لام فارقة بين إن المؤكدة وإن النافية، وكان يحتج بدخولها على الماضي في مثل: "إن زيد لقام" وعلى منصوب الفعل المؤخر في مثل: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} وكلاهما لا يجوز دخول اللام عليه مع إن المشددة6. وكان أبو علي يسند آراءه دائما بالأدلة التي اصطلح عليها النحاة البصريون والكوفيون، وهي السماع والقياس والتعليل ومواد السماع عنده هي نفسها المواد المستخدمة قديما من القرآن وقراءاته والشعر ورواياته، وقد يتمثل بالحديث النبوي

_ 1 الهمع 1/ 200. 2 المغني ص171, والهمع 1/ 231. 3 المغني ص347. 4 الخصائص 1/ 338، والهمع 1/ 145. 5 المغني ص589، والهمع 1/ 180. 6 المغني ص256.

أحيانا، لا لغرض استنباط القواعد وإنما للاستئناس. ويتعجب ابن جني كثيرا من مهارته في القياس حتى ليقول: "ما كان أقوى قياسه ... فكأنه كان مخلوقا له"1. ويروي عنه أنه كان يقول: "أخطئ في خمسين مسألة في اللغة ولا أخطئ في واحدة من القياس"2, ويدل دلالة واضحة على اتساعه في القياس ما قاله عنه ابن جني في الإلحاق، إذ ذكر أنه قال: "لو شاء شاعر أو ساجع أو متسع أن يبني بإلحاق اللام اسما وفعلا وصفة لجاز له, ولكان ذلك من كلام العرب، وذلك نحو قولك: خَرْجَج أكرمُ من دخلل، وضرببَ زيدٌ عمرا، ومررت برجل ضربب وكرمم ونحو ذلك. قال ابن جني: فقلت له: أفتُرتجل اللغة ارتجالا؟ قال: ليس بارتجال، ولكنه مقيس على كلامهم، فهو إذن من كلامهم"3. وعلى نحو ما يتعجب ابن جني من سداد أقيسته, يتعجب من قدرته على التعليل وكثرة ما كان يدلي به من تعليلات في مسائل النحو والتصريف حتى ليقول: "أحسب أن أبا علي قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا"4. ويكفي أن نذكر مثالين من تعليلاته, أولهما: أن سيبويه كان يذهب إلى أن حركة الإعراب حادثة بعد الحروف النهائية في الكلمات، وذهب أبو علي إلى أنهما حدثتا معا مستدلا بأن النون الساكنة مخرجها من الأنف ومخرج النون المتحركة من الفم، ولو كانت الحركة حادثة بعد الحرف لوجب أن تكون النون المتحركة أيضا من الأنف5. والتعليل الثاني ما رواه ابن جني من أنه سأله عن رد سيبويه كثيرا من أحكام التصغير إلى أحكام جمع التكسير وحمله إياها عليها، فقال: سُرَيْحين في تصغير سرحان لقولهم: سراحين, وعُثَيْمين في تصغير عثمان لقولهم: عثامين، فقال أبو علي: "إنما حُمل التحقير في هذا على التكسير من حيث كان التكسير بعيدا عن رتبة الآحاد، فاعتد ما يعرض فيه لاعتداده

_ 1 الخصائص 1/ 277. 2 الخصائص 2/ 88. 3 الخصائص 1/ 358، وما بعدها. 4 الخصائص 1/ 208. 5 الخصائص 2/ 321 وما بعدها.

بمعناه، والمحقَّر هو للمكبر، والتحقير فيه جارٍ مجرى الصفة فكأنْ لم يحدث بالتحقير أمر يحمل عليه غيره كما حدث بالتكسير حكم يحمل عليه الإفراد"، ويعلق ابن جني على هذا التعليل بقوله: "هذا معقد معناه، وما أحسنه وأعلاه"1. وواضح أن تعليلاته لم تكن تقف عند آرائه، بل كانت تمتد إلى آراء سيبويه وغيره من النحاة السابقين.

_ 1 الخصائص 1/ 354.

ابن جني

3- ابن جني 1: هو أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، كان أبوه مولى روميا، وربما كان اسمه جني تعريبا لكلمة gennaius اليونانية، وقد ولد له ابنه عثمان حوالي سنة 320 للهجرة، ويبدو أنه رأى فيه مخايل ذكاء فدفعه إلى التعلم، ولم يلبث أن منح عنايته لعلوم اللغة، فأكب على دروس أحمد بن محمد الموصلي النحوي مواطنه. وأغلب الظن أنه نزل بغداد مبكرا، ففي تصانيفه ترداد لذكر بعض تلاميذ المبرد مثل محمد بن سلمة وبعض تلاميذ ثعلب مثل ابن مقسم، غير أنه سرعان ما عاد إلى الموصل، وأخذ يدرس للطلاب في مسجدها، وهو في أثناء ذلك يتعرض للأعراب الفصحاء ويأخذ عنهم مثل أبي عبد الله الشجري الذي يتردد ذكره في الخصائص. وحدث أن مر بحلقته في سنة 337 للهجرة أبو علي الفارسي إمام النحاة في عصره، فأعجبه ذكاؤه، وتعجب من قعوده للدرس والإملاء قبل نضجه، فقال له: لقد أصبحت زبيبا وأنت حِصْرِم، وكأنما دلعت هذه الكلمة نارا في قلبه، ليستكمل أداته، ولم يجد خيرا من ملازمة هذا الإمام الفذ، فلزمه أربعين سنة متنقلا معه في رحلاته، مشغوفا بآرائه, مبهورا بفطنته

_ 1 انظر في ترجمة ابن جني: نزهة الألباء ص332، ويتيمة الدهر 1/ 89، ودمية القصر ص297، وتاريخ بغداد 11/ 311، ومعجم الأدباء 12/ 81، وإنباه الرواة 2/ 335, ومرآة الجنان 2/ 445, وابن خلكان 1/ 313, وشذرات الذهب 3/ 140, وروضات الجنات ص466، وبغية الوعاة ص322.

ودقة أقيسته وتعليلاته، ومن يقرؤه في كتبه المطبوعة وخاصة الخصائص يحس أن مادة علمه مستمدة من أستاذه، وكأنه كان قلما في يده يسجل كل خواطره ولفتاته النحوية والصرفية، وهي لفتات وخواطر اندفع ينميها ويضيف إليها من عقله الخصب النادر ما جعله يتقن ظواهر التصريف والنحو علما وفقها وتأويلا وتحليلا، بل ما جعله يرث إمامة أستاذه، بل لعله بذَّه وخاصة في وضع أصول التصريف على نحو ما يتضح في الخصائص. وأتاحت له رفقته بأبي علي أن يتعرف في بلاط سيف الدولة على المتنبي وأن تنعقد بينهما صداقة رفيعة، فيشرح ديوانه، حتى إذا توفي رثاه رثاء رائعا احتفظ به القفطي في إنباه الرواة. وأتاحت له تلك الرفقة أيضا أن يحظى برعاية البويهيين وأن تعلو مكانته عندهم. وقد خلف أستاذه في التدريس ببغداد حين لبى نداء ربه، وظل يوالي التصنيف والتأليف، حتى توفي سنة 392 للهجرة. وهو ممن أكثروا من التصنيف حتى بلغت مصنفاته نحو الخمسين، وبينها مصنفات وَقَفَها على تسجيل كلام أستاذه الفارسي مثل: "اللمع وذي القدّ وتأييد تذكرة أبي علي". وله مصنفات مختلفة حول المتنبي تفسيرا لشعره ودفاعا عنه أمام خصومه. ومن أهم مصنفاته كتاب "المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها", وقد نشر منه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة الجزء الأول. والقسط الأكبر من نشاط ابن جني إنما كان في علم التصريف، ودفعته رغبته في التعمق فيه إلى أن يقرأ على أستاذه الفارسي كتاب التصريف للمازني الذي كان يعد أنفس ما أُلف في هذا العلم حتى عصره، وعمد إلى شرحه في كتابه المنصف الذي نشرته الإدارة العامة للثقافة بالقاهرة في ثلاثة أجزاء، وفيه يناقش مادته مناقشة واسعة، مضيفا ما لا يحصى من ملاحظاته الطريفة كملاحظته أن الأفعال قد تُشتق من أسماء الأعيان, وقوله: إننا إذا اشتققنا فعلا من سفرجل قلنا: سفرج يُسفرج سفرجة، فهو مسفرج1، ومثل ملاحظته أن الأفعال

_ 1 المنصف: شرح كتاب التصريف للمازني 1/ 33.

قد تُشتق من الحروف كاشتقاق قوَّف من القاف وكوَّف من الكاف ودول من الدال، فيقال: "قوَّفت قافا وكوفت كافا ودولت دالا"1. ونُشر لابن جني أيضا في القاهرة الجزء الأول من سر صناعة الإعراب، وهو دراسة صوتية واسعة لحروف المعجم ومخارجها وصفاتها، وما يحدث في صوت الكلمة من إعلال وإبدال وإدغام ونقل وحذف، وما يجري في حروفها من تلاؤم يؤدي إلى جمال الجرس. وطبع له كتاب التصريف الملوكي، وهو كتاب يتناول هذا العلم بمعناه الدقيق، فيتحدث عن المجرد والمزيد والإبدال والتغيير بالحركة والسكون والحذف والإعلال، مع تدريبات صرفية كثيرة. وأهم كتبه في هذا العلم الخصائص الذي حاول فيه محاولة رائعة هي وضع القوانين الكلية للتصريف، وحقا إنه أفاد في كثرة هذه القوانين من ملاحظات أستاذه الفارسي على نحو ما مر بنا منذ قليل، ولكن من الحق أيضا أنه أضاف إليها من ملاحظاته واستقصاءاته للأمثلة اللغوية وحسه الدقيق بأبنية اللغة وتصاريفها ما شخَّصها وجسَّمها تمام التجسيم, وقد مضى يستخلص قوانين كلية أخرى لم يقف عندها أستاذه، وبذلك استطاع أن يضع للتصريف أصولا على المذهب الذي سبقه إليه علماء الكلام والفقه في وضع أصولهم، وهي أصول يصدق منها جانب كبير على النحو ومسائله وقضاياه العامة كالإعراب والبناء وعلله، وقد ذهب إلى أنها أقرب من علل الفقهاء إلى علل المتكلمين، إذ تتعرض لمسائل ميتافيزيقية في طبيعة العرب وسلائقهم. وأفاض في بيان العلل النحوية, منكرا تقسيم ابن السراج وتلميذه الزجاجي لها إلى علل أولى وثوانٍ وثوالث, ذاهبا إلى أن العلل الأخيرة تتميم للعلل الأولى، وليس هناك علة للعلة ولا علة لعلة العلة2. ويعرض في تفصيل للاطراد والشذوذ في التصريف والنحو كما يعرض لعوامل الإعراب في الكلم, وأن النحاة قسموها إلى معنوي مثل الابتداء, ولفظي مثل عمل المبتدأ في الخبر، ويقول: إن العامل الحقيقي في إعراب الكلم إنما هو المتكلم3، ويتحدث عن تعارض السماع والقياس أحيانا قائلا: "اعلم أنك إذا أدَّاك القياس إلى شيء ما، ثم سمعت

_ 1 المنصف 2/ 154. 2 الخصائص 1/ 173. 3 الخصائص 1/ 109 وما بعدها.

العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره, فدَعْ ما كنت عليه إلى ما هم عليه"1. ويطبق قاعدة الاستحسان في الفقه الحنفي على بعض الأبنية. ونحس أثر المباحث الفقهية حين يتحدث عن حمل الفرع على الأصل والعكس2, والحمل على الظاهر3، وغلبة الفروع على الأصول4, واختلاف اللغات وكلها حجة على نحو ما يختلف الفقهاء5، ويعود مرارا إلى مراجعة الأصول والفروع6 ويتحدث عن تركيب المذاهب وعن وجوب الجائز. ويستعير من المتكلمين حديثهم عن السبب والمسبب7 والمستحيل8. ولعل في ذلك كله ما يدل في وضوح على أنه تأثر في وضع أصول التصريف والنحو بأصول الفقهاء والمتكلمين جميعا. ويرد ابن جني في الخصائص وغيره حديثه عن البصريين باسم أصحابنا كما مر بنا في غير هذا الموضع، وكثيرا ما يضعهم مقابل البغداديين9، وكأنما ينزع نفسه منهم نزعا، وقد أسلفنا أنه يريد بالبغداديين أوائلهم ممن كانوا ينزعون إلى الكوفة مثل ابن كيسان، وهم حقا من ذوق غير ذوقه ومن هوى غير هواه، فهو بغدادي من طراز آخر، طراز أستاذه أبي علي الفارسي والزجاجي، طراز كان ينزع إلى البصريين، وهو الطراز الذي عم وساد منذ النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وكان هو وأستاذه من أهم الأسباب في شيوعه، إذ كانا ينتخبان من المذهبين البصري والكوفي مع نزعة شديدة إلى البصريين، ومع الفسحة وفتح الأبواب على مصاريعها للاجتهاد ومخالفة البصريين والكوفيين بقدر ما يؤديهما النظر وتسعفهما الحجة. ونستطيع أن نرجع إلى الآراء المنثورة لابن جني في كتاباته المنشورة وفي المراجع النحوية، فسنراه يطبق هذا المنهج تطبيقا دقيقا، إذ كان يوافق البصريين في

_ 1 الخصائص 1/ 125. 2 الخصائص 1/ 111، وانظر 1/ 208 حيث يصرح بأنه يستضيء بأبي حنيفة في حديثه عن الدور والوقوف منه على أول رتبة. 3 الخصائص 1/ 251. 4 الخصائص 1/ 300. 5 الخصائص 2/ 10. 6 الخصائص 2/ 342 وما بعدها. 7 الخصائص 3/ 173. 8 الخصائص 3/ 328. 9 الخصائص 1/ 137.

مسائل كثيرة، من ذلك أن يأخذ برأيهم في أن المصدر أصل والفعل مشتق منه1, وأن المبتدأ رافعه الابتداء2، وأن ناصب المفعول به الفعل السابق له3، وأن المضارع منصوب بعد حتى بأن مضمرة وجوبا4، وكذلك بعد أو وفاء السببية وواو المعية5، وأن العامل في باب التنازع هو الفعل الثاني6، وأن نعم وبئس فعلان، وكذلك فعل التعجب7، وأن المفعول معه منصوب بالفعل مع توسط واو المعية8، وأن الاسم المرفوع بعد إذا الشرطية في مثل: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فاعل لفعل محذوف، وكذلك بعد همزة الاستفهام في مثل: أزيد قام؟ 9, وأن علة بناء الاسم شبهه بالحرف أو تضمنه معناه10، وأن الإعراب أصل في الأسماء فرع في الأفعال, وإنما أعرب المضارع لشبهه باسم الفاعل11. وبجانب ذلك كان يأخذ بوجهة النظر الكوفية في مسائل مختلفة، من ذلك إعمال إِنِ النافية عمل ليس, متابعا في ذلك أستاذه الفارسي والكوفيين، كما مر بنا منذ قليل، وإن لاحظ أن إعمالها يشوبه غير قليل من الضعف، يقول تعليقا على قراءة سعيد بن جبير الآية الكريمة: "إِنِ الذين تدعون من دون الله عِبَادًا أَمْثَالكُمْ": "ينبغي أن تكون إِنْ هذه بمنزلة ما، فكأنه قال: ما الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم، فأعمل إنْ إعمال ما "العاملة عمل ليس" وفيه ضعف؛ لأن إن هذه لم تختص بنفي الحاضر اختصاص ما به، فتجري مجرى ليس في العمل"12. وكان الكسائي -كما مر بنا في غير هذا الموضع- يجيز وجود الفعل بدون فاعل، على نحو ما أجاز ذلك في مثل: قام وقعد عمرو، إذ ذهب إلى أن عمرا فاعل قعد، وقام لا فاعل لها، وتبعه أبو علي الفارسي يحتم ذلك في قلّ حين تتصل بها ما، ويقول ابن جني: "إن "قلما يقوم زيد" دخلت فيه ما على قلّ كافة لها عن عملها، ومثله: كثر ما وطالما"13. وكان يتابع أستاذه والكوفيين في أن أو تأتي

_ 1 الخصائص 1/ 113، 119, وانظر المنصف 1/ 65. 2 الخصائص 1/ 166. 3 الخصائص 1/ 102. 4 الخصائص 3/ 260. 5 الخصائص 1/ 263 وما بعدها. 6 الخصائص 2/ 209. 7 المنصف 1/ 241. 8 سر صناعة الإعراب 1/ 144. 9 الخصائص 2/ 380. 10 الخصائص 1/ 179. 11 الخصائص 1/ 63. 12 المحتسب 1/ 270. 13 الخصائص 1/ 167، 168.

للإضراب مطلقا1. كما تابعهما في إعمال المصدر مضمرا في الظرف مثل: "قيامك أمسِ حسن، وهو اليوم قبيح" فأعمل هو العائد على القيام في اليوم2. وتابع الكوفيين في أن {حَاشَ} في مثل: {حَاشَ لِلَّهِ} فعل، بينما ذهب الجمهور إلى أنها اسم مرادف للبراءة من كذا3. وكان يتابع الكسائي وأستاذه أبا علي في أن خلا حين تتقدمها ما في مثل: قام القوم ما خلا زيدا ليس من الضروري أن تكون فعلا حتما، فقد يجوز الجر بها على تقدير ما زائدة4. وتابع الكوفيين في جواز: "ضرب غلامُه محمدا" لمجيء ذلك في النظم كثيرا مثل: جزى ربُّه عني عدي بن حاتم وكان الجمهور يمنع ذلك لعود الضمير المتصل بالفاعل على متأخر لفظا ورتبة5. وكان يقف مع الكوفيين في أن حذف خبر إنّ إنما يحسن إذا كان اسمها نكرة، يقول تعليقا على قول الأعشى: إنَّ محلا وإن مرتحَلا ... وإن في السفر إذ مضى مهلا أراد: إن لنا محلا وإن لنا مرتحلا، فحذف الخبر، والكوفيون لا يجيزون حذف خبر إن إلا إذا كان اسمها نكرة؛ ولهذا وجه حسن عندنا، وإن كان أصحابنا "البصريون" يجيزونه مع المعرفة6. ومر بنا في ترجمة الفراء أنه كان يضعف قراءة ابن عامر: "وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شركائهم" بالفصل بين المضاف وهو قتل, والمضاف إليه وهو شركائهم بالمفعول به, وأنه أنكر البيت الذي أنشده الأخفش دعما لذلك، وهو قول بعض الشعراء في وصف ناقته: فزججتها بمزجة ... زجَّ القلوصَ أبي مزاده وقد خالفه في ذلك جمهور الكوفيين مجوزين الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به7، وانتصر لهم ابن جني محتجا بقدرة الشاعر على أن يقول: زجَّ القلوصِ أبو مزاده، ويعلق على ذلك بقوله: "في هذا البيت عندي دليل على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم, وأنه في نفوسهم أقوى من إضافته إلى

_ 1 المغني ص67. 2 الخصائص 2/ 19. 3 المغني ص130. 4 المغني ص142. 5 الخصائص 1/ 294, والهمع 1/ 66. 6 المحتسب 1/ 349. 7 الهمع 2/ 52.

المفعول ... ومن ذلك قراءة ابن عامر: "وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتل أولادَهم شركائهم""1. ووقف في "المحتسب" مرارا إزاء تحريك ما فيه حرف حلقي مثل جَهْرة وجَهَرة بتحريك الهاء قائلا: إن الكوفيين والبغداديين -ويقصد أوائلهم النازعين منزعهم- يجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه، أي: إنهم يجعلونه قياسا مطردا، بينما يقتصر البصريون على ما سمع منه سالكين له في باب اللغات، ونراه ينتصر للكوفيين والبغداديين جميعا، يقول في التعليق على قراءة {جَهْرَةً} في الآية رقم 55 من سورة البقرة بفتح الهاء: "مذهب أصحابنا في كل شيء من هذا النحو مما فيه حرف حلقي ساكن بعد حرف مفتوح أنه لا يحرك إلا على أنه لغة فيه ... ومذهب الكوفيين أنه يحرك الثاني لكونه حرفا حلقيا، فيجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه كالبحْر والبحَر والصخْر والصخَر، وما أرى القول من بعدُ إلا معهم والحق فيه إلا في أيديهم، وذلك أنني سمعت عامة عقيل تقول ذلك ولا تقف فيه، سائغا غير مستكره"2. ويعلق على قراءة محمد بن السميفع {قَرْحٌ} بفتح الراء في الآية رقم 140 من سورة آل عمران قائلا: "ظاهر هذا الأمر أن يكون فيه لغتان: قرْح وقرَح كالحلب والحلب والطرد والطرد.. ثم لا أبعد من بعد أن تكون الحاء لكونها حرفا حلقيا يُفتح ما قبلها كما تفتح نفسها فيما كان ساكنا من حروف الحلق نحو قولهم في: الصخْر الصخَر والنعل والنعل، ولعمري إن هذا عند أصحابنا "يريد البصريين" ليس أمرا راجعا إلى حرف الحلق، لكنها لغات. وأنا أرى في هذا رأي البغداديين في أن حرف الحلق يؤثر هنا من الفتح أثرا معتدا معتمدا، فلقد رأيت كثيرا من عقيل لا أحصيهم يحرك من ذلك ما لا يتحرك أبدا لولا حرف الحلق ... وهذا ما لا توقف في أنه أمر راجع إلى حرف الحلق لأن الكلمة بُنيت عليه ألبتة.. ولا قرابة بيني وبين البصريين ولكنها بيني وبين الحق، والحمد لله"3.

_ 1 الخصائص 2/ 406 وما بعدها. 2 المحتسب 1/ 84. 3 المحتسب 1/ 166.

ولعل في ذلك ما يدل دلالة واضحة على أنه كان ينزع غالبا إلى البصريين لكن لا عن حمية ولا عن عصبية، وإنما عن طول النظر والتبصر تبصرا كان يدفعه في كثير من الأحيان إلى الوقوف في صف الكوفيين وأوائل البغداديين حين يجد السداد في جانبهم. وهو ما يؤكد بغداديته وأنه كان يقيم مذهبه النحوي والصرفي على الانتخاب من المذهبين البصري والكوفي وما انبثق عنهما من المذهب البغدادي عند أوائل البغداديين، وعند أستاذه أبي علي الفارسي وقد تبعه في كثير من آرائه الاجتهادية، من ذلك أن الظرف والجار والمجرور هما الخبر في مثل: محمد عندك ومحمد في الدار وليسا متعلقين بمحذوف هو الخبر1. وكان يجوز مثله العطف على محل المجرور بالنصب في مثل: مررت بزيد وعمرو، فيقال: مررت بزيد وعمرا2، كما كان يجوز مثله إتباع فاعل نعم وبئس بالنعت مثل: نعم الفتى المدعو بالليل علي3. وجوز متابعا له تقديم خبر كان ومعموله عليها مستدلين بقوله تعالى: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} فقد تقدمت كان {إِيَّاكُمْ} معمول {يَعْبُدُونَ} ، وما يجوز وقوع المعمول فيه يجوز وقوع العامل4. وجوز مثله أن تكون لك في قولهم: "لا أبا لك" و"لا أخا لك" خبر لا، و"أبا وأخا" اسمي "لا" مقصورين تامين على لغة من يقول: هذا أبا ورأيت أبا ومررت بأبا5. وكان يذهب مثله إلى أن اللام الداخلة على خبر إِنِ المهملة في مثل: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} ليست لام الابتداء كما زعم سيبويه، وإنما هي لام فارقة بين إن المؤكدة والنافية6. وذهب مذهبه في أنه لا يصح تأكيد العائد المحذوف في مثل: "الذي رأيت نفسه زيد" على أن تكون نفسه تأكيدا للضمير المحذوف في رأيت على تقدير: رأيته7. وكان يتابعه في أن اللام في مثل: "يا لزيد" متعلقة بيا8، وأن أما في قول بعض الشعراء: أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع

_ 1 الهمع 1/ 99. 2 الخصائص 2/ 353, والهمع 2/ 141. 3 الهمع 2/ 85. 4 المحتسب 1/ 321. 5 الخصائص 1/ 338 وما بعدها. 6 المغني ص256, والمحتسب 1/ 91. 7 الخصائص 1/ 287, والمغني ص673. 8 المغني ص489، والهمع 1/ 180.

هي عاملة الرفع والنصب فيما يتلوها1. وجعله ذلك يضع قاعدة عامة كانت مصدر خلاف بينه وبين أستاذه في بعض المسائل، وهي أن ما ينوب عن شيء يعمل عمله، فما في أما المكونة من أن المصدرية وما الزائدة عملت لنيابتها مناب كان الرفع والنصب فيما تلاها. وينبغي طرد ذلك في الصور المماثلة، فمن ذلك أن أستاذه -كما مر بنا- كان يذهب إلى أن العامل في المعطوف في مثل: جاء محمد وعلي عامل مقدر من جنس العامل في المعطوف عليه، وذهب ابن جني إلى أن حرف العطف نفسه هو العامل لنيابته مناب العامل المحذوف2. ومن ذلك أدوات النداء, فقد كان أبو علي الفارسي يذهب إلى أنها أسماء أفعال عملت في المنادى، وذهب ابن جني إلى أنها حروف تعمل فيه لنيابتها مناب الأفعال3. ولابن جني آراء اجتهادية مختلفة انفرد بها عن أستاذه والمدرستين البصرية والكوفية، فمن ذلك أنه كان يجيز تقديم المفعول معه على المعمول قبله، فيقال: جاء وثيابَ الصوف البردُ4. وكان يذهب إلى أن العامل في الخبر هو الابتداء والمبتدأ معا، وبذلك سوغ تقدمه على المبتدأ في مثل: شاعر محمد؛ لأنه إنما تقدم على أحد عاملي الرفع فيه وهو المبتدأ5. وذهب إلى أن إلا تأتي زائدة مستدلا بقول ذي الرمة في وصف النوق: حراجيج ما تنفك إلا مناخة ... على الخسف أو نرمي بها بلدا قَفْرا6 وكان الجمهور يذهب إلى أن لا العاملة عمل ليس لا تعمل إلا في النكرات, وذهب إلى أنها تعمل أيضا في المعارف لقول النابغة: وحلت سواد القلب لا أنا باغيًا ... سواها ولا عن حبها متراخيا7 ومعروف أن الأسباب المانعة للاسم من الصرف هي العلمية والعدل وزيادة الألف والنون والوصفية ووزن الفعل والتأنيث وموازنة جمعي مفاعل ومفاعيل والعجمة

_ 1 الخصائص 2/ 381 والمغني ص61. 2 الخصائص 2/ 387. 3 الخصائص 2/ 277. 4 الخصائص 2/ 383. 5 الخصائص 2/ 385. 6 المغني ص76, والحراجيج: النوق الضخمة، والخسف: الذل. 7 المغني ص264 وما بعدها.

والتركيب المزجي. وكان الجمهور يذهب إلى أنها تنقسم إلى معنوية هي العلمية والوصفية، ولفظية وهي البقية. وذهب ابن جني إلى أنها جميعا معنوية ما عدا وزن الفعل في مثل: أحمد ويزيد1. وذهب الجمهور إلى أن اللام تزيد في جواب لو ولولا ولوما مثل: "لو جئت لأكرمتك" و"لولاك لأسرعت"، وذهب ابن جني إلى أنها ليست واقعة في جواب هذه الأدوات، بل هي لام جواب قسم مقدر2. ومر بنا رأي أستاذه أن ما قد تكون ظرفية زمانية، وأشرك ابن جني معها في ذلك أَنْ بفتح الهمزة، مستشهدا بقول بعض الشعراء: وتالله ما إن شهلة أم واحد ... بأوجد مني أن يهان صغيرها3 وكان سيبويه يذهب إلى أن كلمة خرب في قولهم: "هذا جحر ضب خرب" مجرورة على الجوار لضب؛ لأنه كان ينبغي أن ترفع، إذ هي صفة لجحر. وقال ابن جني: بل هي مجرورة على الأصل، إذ أصل التعبير: "هذا جحر ضب خرب جُحْره" فحُذف المضاف وأُنيب المضاف إليه في "جحره" وهو الضمير، فارتفع واستتر في خرب، فهو صفة لجحر على تقدير حذف المضاف، وهو تأويل بعيد4. ومن طريف ما هدته إليه بصيرته النافذة أن الأصل في ظهور اللغات إنما هو اشتقاق كلماتها من الأصوات المسموعة، يقول في فواتح كتابه الخصائص: "ذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدويّ الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشَحيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونَزيب "صوت" الظبي ونحو ذلك، ثم وُلدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل"5. وقد مضى في الخصائص يثبت ذلك من حين لآخر كقوله عن الأفعال: إنه كثُر اشتقاقها من الأصوات الجارية مجرى الحروف مثل "هاهيت" من قولهم في زجر الإبل: هاها، و"عاعيت" في زجر الغنم من قولهم: عاعا, و"حأحأت" في زجر الكبش من قولهم: حاحا، و"شأشأت" في

_ 1 الخصائص 1/ 109. 2 المغني ص259. 3 المغني ص338, والشهلة: العجوز، وأوجد: أكثر وجدا. 4 الخصائص 1/ 192. 5 الخصائص 1/ 46 وما بعدها.

زجر الحمار من قولهم: شأشأ. ويقول: هذا كثير في الزجر، وقد صنفت فيه كتابا1. ويذكر في موضع آخر أن العرب قد تسمي الأشياء بأصواتها كالخازِ بازِ "الذباب" لصوته، والبط لصوته، والواق للصرد "طائر فوق العصفور" لصوته، وغاق للغراب لصوته، والشيب لصوت مشافر الإبل2. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إنه هو الذي عمل على تثبيت قانوني الاشتقاق الأكبر والتضمين، ومر بنا أنه كان يريد بالأول التقاليب الستة للأصل الثلاثي لأي كلمة, وبيان أنه يجمعها هي ومشتقاتها معنى واحد، وحقا سبقه الخليل -كما مر بنا في ترجمته- إلى بناء معجم العين على تقليب الأصل الثلاثي للكلمة في صوره الست، ولكنه لم يفكر في أنها هي واشتقاقاتها يمكن أن يجمعها معنى واحد. وقد اعترف في فاتحة حديثه عنه بأن الفارسي كان يستعين به، ولكنه لم يحاول تسميته ولا تأصيله وتطبيقه، إنما هو الذي نهض بذلك، فهو الذي سماه، وهو الذي جسمه في أمثلة مختلفة، منها "ك ل م" وتقليباتها ومشتقاتها وقد رجعها إلى معنى القوة والشدة، ورجع "ق ول" وتقليباتها ومشتقاتها إلى معنى الإسراع والخفة، كما رجع تقليب "ج ب ر" إلى معنى الشدة والقوة، ومثلها مشتقاتها، ورجع تقليب "ق س و" ومشتقاتها إلى معنى القوة والاجتماع، كما رجع تقليب "س ل م" ومشتقاتها إلى معنى الإصحاب والملاينة3, وتوقف في كتابه المحتسب ليطبق ذلك على "حجر" وتقليبها ومشتقاتها مبينا أنها تعود جميعا إلى الشدة والضيق والاجتماع4, وأوضح أيضا أن "ج د ل" وتقليباتها ومشتقاتها تعود إلى القوة5. وعلى نحو ما عُني بالاشتقاق الأكبر وتطبيقاته على بعض الأبنية، عُني بالتضمين، وهو أن تشرب لفظا معنى لفظ وإذا كان فعلا أو مصدرا أُعطي حكمه، فعُدي بما يعدى إليه. وحقا لاحظ ذلك سيبويه والكسائي في بعض الأمثلة بشهادته، كما لاحظه أبو علي الفارسي6، ولكنه هو الذي كشفه وأوضحه في أمثلة كثيرة من مثل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} يقول: الرفث يتعدى

_ 1 الخصائص 2/ 40. 2 الخصائص 2/ 165, وانظر 3/ 231. 3 انظر الخصائص 2/ 133 وما بعدها. 4 المحتسب 1/ 231. 5 المحتسب 1/ 321. 6 انظر الخصائص 2/ 311، 389.

بالباء غير أنه ضُمِّن في الآية معنى الإفضاء؛ ولذلك يتعدى بإلى كما يتعدى بها الإفضاء، ومثل {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي: مع الله؛ لأنه في معنى من يضاف في نصرتي إلى الله، ومثل: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} وُضعت إلى موضع في؛ لأن ما قبلها في معنى: أدعوك وأرشدك1. وابن جني يسند كلامه دائما بقراءات القرآن والسماع عن العرب، وقد يستشهد بالحديث النبوي، ولكن لا للاستنباط ووضع القواعد وإنما للائتناس2. وكان مثل أستاذه يعنى بالقياس عناية شديدة حتى ليمكن أن يقال: إن كتابه الخصائص إنما هو مجموعة كبيرة من الأقيسة السديدة، وبلغ من عنايته بالقياس أن كان يقول: "إن مسألة واحدة من القياس أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عيون الناس"3. وقد عقد في جزئه الأول فصلا طويلا لبيان أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم وإن لم ينطقوا به. واتسع في ثنايا مصنفاته في صور التدريب على الأقيسة، ومن يرجع إلى كتابه المنصف في شرح تصريف المازني يجده يختمه بنحو ستين صحيفة في تمارين صرفية أبنيتها كلها من صنعه. ودائما يدعم آراءه وآراء سابقيه من النحاة بالحجج البينة والأدلة الناصعة، ووصف بعض أدلته بأنها كالأدلة الهندسية في الوضوح والبيان4.

_ 1 الخصائص 2/ 308 وما بعدها. 2 الخصائص 1/ 33. 3 الخصائص 2/ 88. 4 الخصائص 1/ 60.

بغداديون متأخرون

4- بغداديون متأخرون: كان ظهور الإمامين النحويين الكبيرين أبي علي الفارسي وتلميذه ابن جني, إيذانا بأن تنزع المدرسة البغدادية نزعة بصرية قوية, وأن يسود اتجاهها في الانتخاب من آراء المدرستين البصرية والكوفية والاجتهاد في استنباط آراء جديدة، وأن يتأثر بهما النحاة النابهون الذين خلفوهما في العراق والشام وإيران، ويتخذوا

نفس المنهج الذي أصَّلَاه، فلا بد من تمثُّل الآراء البصرية والكوفية وآراء البغداديين الأولين الذين كانوا ينزعون نزعة كوفية، ولا بد من تمثل آراء أبي علي وابن جني، وهو تمثل جعلهم يعكفون على مصنفات جميع أئمة النحو المتقدمين وخاصة مصنفات أبي علي وابن جني، مما جعلهم يسيرون في نفس الطريق الذي نهجاه وذللاه، ولن نستطيع استقصاءهم؛ ولذلك سنكتفي بالحديث عن أعلامهم حديثا موجزا يتفق وغايتنا من صنع هذا الكتاب، وفي رأينا أن أنبههم وأوسعهم شهرة الزمخشري وابن الشجري وأبو البركات الأنباري وأبو البقاء العكبري وابن يعيش والرضي الإسترابادي، وسنخص الزمخشري بكلمة أكثر تفصيلا. وابن الشجري1 كان نقيب الطالبيين بالكرخ في بغداد، ولد سنة 450 وتوفي سنة 542 للهجرة، وهو أحد أئمة النحاة، ويقال: إنه لم يكن أنحى منه في عصره، وإنه ظل يدرس النحو لطلابه نحو سبعين عاما، وفي أخباره ما يدل على أنه موصول النسب العلمي فيه بأبي علي الفارسي، فقد أخذه عن ابن طباطبا، وأخذه ابن طباطبا عن علي بن عيسى الربعي تلميذ أبي علي. ويذكر ابن خلكان من تصانيفه شرح كتابي ابن جني: اللمع والتصريف. وطبع له بحيدر آباد أماليه في النحو واللغة والأدب، وهو فيها يُكثر من ذكر كتب أبي علي مثل الإيضاح والتذكرة والحجة في علل القراءات السبع, ناقلا عنها آراءه. ونراه منذ فاتحة أماليه معجبا بالبصريين على شاكلة الفارسي وابن جني وهو إعجاب جعله يقول في حجج الكوفيين: "ولنحاة الكوفيين في أكثر كلامهم تهاويل فارغة من الحقيقة"2. ومن آرائه التي خالف فيها جمهور النحاة, ذهابه إلى أن لو الشرطية تجزم المضارع حين تدخل عليه لقول بعض الشعراء: لو يَشَأْ طار به ذو ميعة ... لاحق الآطال نهد ذو خصل3 ورُد بأن ذلك ضرورة شعرية, أو لعل الشاعر خفف نهاية الفعل يشأ, ونطقه

_ 1 انظر في ترجمة ابن الشجري: نزهة الألباء ص404، ومعجم الأدباء 19/ 282, وإنباه الرواة 3/ 356، وابن خلكان 2/ 183، وبغية الوعاة ص407. 2 أمالي ابن الشجري 2/ 129، 147. 3 ذو ميعة: نشيط، لاحق الآطال: ضامر الجنبين، نهد: جسيم، ذو خصل: طويل الشعر.

بألف مقصورة1. وذهب إلى أن "إذ" في مثل: "فبينما العسرُ إذ دارت مياسيرُ" زائدة، وكان سيبويه يذهب إلى أنها بعد بينا وبينما نفس إذ الفجائية، وقد اختلف النحاة فيها: هل هي حرف أو ظرف؟ 2. ويظهر أنه كانت تنقصه الدقة، فقد تعقبه ابن هشام في عدة مواضع من كتابه المغني مغلطا له3، ومثبتا عليه عدم التحري في نقل آراء الفارسي وسيبويه والأخفش والكسائي4. وأبو البركات5 بن الأنباري بغدادي، ولد سنة 513 وتوفي سنة 577 للهجرة، وهو تلميذ ابن الشجري، وبذلك يتصل نسبه النحوي بأبي علي الفارسي، ويظهر أنه كان يعكف على مصنفاته، ويدرسها لتلاميذه في المدرسة النظامية، إذ نجد بين مؤلفاته كتاب حواشي الإيضاح، وهو من أهم مصنفات الفارسي. وتوفر على دراسة وجوه الخلاف بين البصريين والكوفيين في مسائل النحو، وصنف في ذلك كتابين هما: الإنصاف الذي نشره فايل لأول مرة وكتابه أسرار العربية المنشور بدمشق، ولاحظ فايل أنه ينزع في أولهما نزعة بصرية واضحة، وهي نزعة استمدها من أبي علي الفارسي ومنهجه الذي وصفناه. وقد وقف مع البصريين في جمهور المسائل التي أحصاها، ورجح -كما لاحظ فايل- مذهب الكوفيين في سبع مسائل هي: العاشرة والثامنة عشرة والسادسة والعشرون والسبعون والسابعة والتسعون والواحدة والسادسة بعد المائة. وبذلك يصبح بغداديا على شاكلة أبي علي، فهو يجري في جمهور آرائه مع البصريين، ويفتح الأبواب لاختيار بعض آراء الكوفيين. وله في علم الجدل النحوي مصنف غير منشور، ومصنف آخر في أصول النحو سماه لُمَع الأدلة، منشور بدمشق، فصَّل القول فيه في النقل والقياس والعلة، ونُشر معه مصنف له باسم الإغراب في جدل الإعراب، وهو يدور على أسئلة في الإعراب وأجوبة مسندة بالأدلة, وكتابه نزهة الألباء في تراجم النحاة معروف.

_ 1 المغني ص300، 779, والهمع 2/ 64. 2 المغني ص88. 3 انظر المغني ص41، 62، 338. 4 المغني ص181، 682. 5 انظر في ترجمة أبي البركات بن الأنباري: إنباه الرواة 2/ 169، وابن خلكان 1/ 279, وطبقات الشافعية للسبكي 4/ 248, وشذرات الذهب 4/ 258, وبغية الوعاة ص301.

وأبو البقاء1 العكبري النحوي الضرير، بغدادي مثل سالفيه، ولد سنة 538 وتوفي سنة 616 للهجرة، وصلته بالشيخين أبي علي الفارسي وابن جني تتضح في شرحه لإيضاح الأول ولمع الثاني، وأيضا في مصنفاته: "الإفصاح عن معاني أبيات الإيضاح" و"تلخيص أبيات الشعر لأبي علي" و"تلخيص التنبيه لابن جني" و"المنتخب من كتاب المحتسب". وله مؤلفات مختلفة في النحو وعلله ومسائل الخلاف فيه. وكان يعنى بقراءات الذكر الحكيم ونُشر له في مصر كتاب إعراب القرآن والقراءات في جزأين، وهو من صفحاته بل سطوره الأولى يجري في إعراب الألفاظ على المذهب البصري فالمبتدأ مرفوع بالابتداء وهلم جرا، ويتوقف مرارا ليرد على الكوفيين بعض وجوههم في الإعراب، وإذا رجعنا إلى آرائه المنثورة في كتب النحو وجدناه يتبع الفارسي في كثير منها، فقد كان يرى رأيه ورأي الفراء قبله في أن "لو" تأتي مصدرية غير عاملة في مثل: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} ويشهد لهم قراءة بعضهم: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُوا} بحذف نون الفعل الأخير؛ لعطفه بالنصب على {لَوْ تُدْهِنُ} وكأنها في مكان: أن تدهن2. ورأى رأي الفارسي أيضا في أن ما قد تأتي زمانية على نحو إتيانها في الآية الكريمة: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أي: استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم3. وتابعه في إعراب ذلك في قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} صفة للباس، والمشهور أنها بدل أو بيان4. وكان يختار لنفسه أحيانا من آراء الكوفيين، فقد كان يمنع مثل ثعلب أن تكون منذا مركبة تركيب ماذا بحيث يمكن إعرابها في مثل: "منذا لقيت" مفعولا به، وهي عندهما مبتدأ وخبر، وذا اسم موصول، ولقيت صلته، وكان يعلل لذلك بأن ما أكثر إبهاما من أختها مَنْ، فحسن أن تُجعل مع غيرها كشيء واحد، ولأن التركيب خلاف الأصل5. وهو بذلك بغدادي من مدرسة أبي علي الفارسي، التي كانت تعول على الاختيار والانتخاب من آراء النحاة السابقين، ومن ثم كان الدكتور مصطفى جواد محقا حين اتهم نسبة شرح ديوان المتنبي المطبوع

_ 1 انظر في ترجمة أبي البقاء العكبري: إنباه الرواة 2/ 116، وابن خلكان 1/ 266، ونكت الهميان ص178، وشذرات الذهب 5/ 67، وبغية الوعاة ص281. 2 المغني ص294. 3 المغني ص335. 4 المغني ص553. 5 المغني ص364.

باسم التبيان في شرح الديوان إليه؛ لما يردد شارحه فيه من أنه كوفي وعلى مذهب الكوفيين1. ويعيش2 بن علي بن يعيش موصلي الأصل حلبي الدار والمولد، وكان مولده سنة 556 وأقبل على تعلم العربية منذ نعومة أظفاره، ورحل إلى بغداد ودمشق يتلقى عن الشيوخ، وعاد إلى حلب فتصدر الإقراء بها إلى أن توفي سنة 643 للهجرة. وصلته بالمدرسة البغدادية تتضح في شرحه كتاب التصريف الملوكي لابن جني. وأهم مصنفاته النحوية شرحه على مفصل الزمخشري، وهو مطبوع بالقاهرة في عشرة مجلدات, صنَّفه -كما يقول في مقدمته- في سن السبعين، وهو أشبه بدائرة معارف لآراء النحاة من بصريين وكوفيين وبغداديين، حتى كأنه لم يترك مصنفا لعَلَم من أعلامهم إلا استوعبه وتمثل كل ما فيه من آراء تمثلا منقطع القرين. ويلقانا منذ الصفحات الأولى منتصرا للبصريين، فقد انتصر لرأيهم في أن الاسم مشتق من السموّ لا من السمة كما قال الكوفيون3، ولا يلبث أن نراه يعرض آراء سيبويه والأخفش والجرمي والمازني والكوفيين في إعراب الأسماء الخمسة، ويوهن في صراحة آراء الكوفيين والمازني والجرمي زاعما أنه خُولف في هذه الأسماء القياس بحذف لاماتها في حال إفرادها؛ لأنك إذا قلت: أخ, فأصله: أخو وأب فأصله: أبو، والذي يدل على ذلك قولهم في التثنية: أبوان وأخوان ... وكان مقتضى القياس أن تقلب الواو فيها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، إلا أنهم حذفوها تخفيفا4. ويعرض لرأي سيبويه والكسائي في التنازع وما ذهب إليه الأول من أن في ضربني في مثل: ضربني وضرب زيدا, فاعلا مضمرا دل عليه مفعول ضربت، وما ذهب إليه الكسائي من أن ضربني لا فاعل لها، بل فاعلها محذوف، ويعلق على ذلك بأن رأي سيبويه هو الصحيح ويحتج له5. وينتصر لرأي البصريين في

_ 1 انظر مقال مصطفى جواد في الجزأين الأول والثاني من المجلد الثاني والعشرين من مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق. 2 راجع في ترجمة ابن يعيش: ابن خلكان 2/ 341, وشذرات الذهب 5/ 228، وبغية الوعاة ص419. 3 ابن يعيش على المفصل 1/ 23. 4 ابن يعيش 1/ 52. 5 ابن يعيش 1/ 77.

أن عامل المبتدأ هو الابتداء لا الخبر كما قال الكوفيون1. ويهاجم رأي الكوفيين القائل بأن عندك في مثل: محمد عندك, منصوب بالخلاف2، ويضعف رأيهم في أن الاسم الواقع بعد لولا يرتفع بها لنيابتها عن الفعل3، كما يضعف رأيهم في أنّ إنّ وأخواتها لا تعمل الرفع في الخبر وإنما هو مرفوع على حاله قبل دخول إن وصواحبها4. وعلى هذا النحو لا يزال ابن يعيش يضعف آراء الكوفيين ويقوي آراء البصريين، ويلقانا من حين إلى حين استحسانه لبعض آراء الكوفيين كاستحسانه تخريجهم لقراءة: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} على أن إن نافية واللام بمعنى إلا، والتقدير: ما هذان إلا ساحران، يقول: وهو تقدير حسن5. وجوز رأي الكسائي في أن "حيث" قد تضاف إلى المفرد وقال: إنها لغة كقول بعضهم: "حيث ليّ العمائم"6. وذهب مع الفراء والزمخشري إلى أن لو تأتي للتمني وحينئذ تكون مصدرية مثل أن7, وكان يجوز مع الكوفيين صرف ما لا ينصرف في ضرورة الشعر8, وكان يستحسن رأي أبي علي الفارسي في أن المعطوف في مثل: قام محمد وعمر معمول لفعل محذوف من جنس الفعل الأول9، وكذلك رأيه في أن اللام الداخلة أو اللازمة مع إن الملغاة فارقة بينها وبين إن النافية10. واحتج لرأيه في أن إما في مثل: جاء إما علي وإما عمر ليست عاطفة11. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إنه كان أكثر البغداديين المتأخرين انتصارا وحماسة للبصريين. والرضي12 الإسترابادي هو نجم الدين محمد بن الحسن، مولده ومرباه في إستراباد من أعمال طبرستان، وليس بين أيدينا أخبار واضحة عن حياته،

_ 1 ابن يعيش 1/ 84 وما بعدها. 2 ابن يعيش 1/ 91, وقد قرر هنا مثل ابن جني والفارسي أن الظرف هو الخبر نفسه لا المتعلق المحذوف. 3 ابن يعيش 1/ 69. 4 ابن يعيش 1/ 102. 5 ابن يعيش 3/ 29. 6 ابن يعيش 4/ 90 وما بعدها. 7 ابن يعيش 9/ 11. 8 الأشباه والنظائر للسيوطي "طبعة حيدر آباد" 2/ 33, وقابل شرحه على المفصل 1/ 68 وما بعدها. 9 ابن يعيش 8/ 89. 10 ابن يعيش 8/ 71, وانظر المغني ص256. 11 ابن يعيش 8/ 103. 12 انظر في الرضي: شذرات الذهب 5/ 395، وخزانة الأدب للبغدادي 1/ 12، وبغية الوعاة ص248.

واختلف الرواة في تاريخ وفاته، ويغلب أن يكون حوالي سنة 686 للهجرة، واشتهر له شرحه على الكافية في النحو لابن الحاجب، وشرحه على مقدمته الصرفية المسماة بالشافية، وانتهاجه نهج البغداديين واضح منذ الصفحات الأولى في شرحه على الكافية، إذ نراه يقف تارة مع الكوفيين وتارة مع البصريين، وكثيرا ما يختار ما انفرد به بعض أعلامهما، وقد يختار بعض آراء البغداديين. ونحن لا نصل إلى الصفحة الثامنة عشرة من الجزء الأول في شرحه للكافية حتى نراه يذكر رأي البصريين في أن عامل الرفع في المبتدأ هو الابتداء، ويضعفه مؤثِرا عليه مذهب الكسائي والفراء في أن عامل الرفع فيه هو الخبر، إذ كل منهما صار عمدة بصاحبه. ويذكر رأي البصريين في أن عامل النصب في المفعول هو الفعل، ويضعفه مصوبا رأي الفراء في أن عامل النصب فيه هو الفعل والفاعل معًا، إذ إسناد أحدهما إلى الآخر هو السبب في كون المفعول فضلة فيكونان السبب في علامة الفضلة وهي النصب1. ويعرض لما نُسب إلى الخليل من أن أصل المرفوعات الفاعل، والمبتدأ فرع عنه وما نسب إلى سيبويه من أن أصلها المبتدأ والفاعل فرع عنه، ويختار رأي الأخفش وابن السراج القائل بأن المبتدأ والفاعل جميعًا أصلان في الرفع وليس أحدهما محمولا على الآخر ولا فرعا عنه. ويمد ذلك في المفعول به وما قيل من أن بقية المفعولات محمولة عليه، فجميعها هي الأخرى أصول وليست فروعا للمفعول به2. وما يلبث أن يذكر المذاهب التي مرت بنا لسيبويه والكوفيين والمازني والجرمي والفارسي في إعراب الأسماء الخمسة، ويضعف الأربعة الأولى منها منتصرا للفارسي3. ونمضي معه فنراه يرجح رأي البصريين في باب التنازع واختيارهم لإعمال الفعل الثاني4، وكذلك رأيهم في أن ما بعد لولا في مثل: لولا محمد لجئت مبتدأ5، وأن الخبر محذوف في مثل: "كل عامل وعمله"6، وأن العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف عليه بواسطة حرف العطف7. وعلى هذا النحو لا يزال

_ 1 انظر شرح الرضي على الكافية "طبعة إستانبول" 1/ 21. 2 الرضي على الكافية 1/ 20. 3 الرضي على الكافية 1/ 119. 4 الرضي على الكافية 1/ 70 وما بعدها. 5 الرضي على الكافية 1/ 93. 6 الرضي على الكافية 1/ 97. 7 الرضي على الكافية 1/ 277.

الرضي يقارن بين آراء النحاة من البصريين والكوفيين والبغداديين, مختارا لنفسه منها ما تتضح علله، وكثيرا ما يضم إلى مختاره عللا جديدة، وقد ينفرد ببعض الآراء على نحو ما مر بنا آنفا من ذهابه إلى أن كل مرفوع أصل بنفسه, وكذلك كل منصوب. الزمخشري 1: هو محمود بن عمر، وُلد سنة 467 بزمخشر قرية من قرى خوارزم، فنُسب إليها، وبها كان منشؤه ومرباه، وقد أقبل منذ نعومة أظفاره على العلوم اللغوية والدينية، ورحل في سبيل طلب العلم إلى بخارى وإلى بغداد، وجاور بمكة حقبة طويلة، نشط فيها لتصنيف تفسيره للقرآن المسمى بالكشاف ودرس حينئذ كتاب سيبويه على أحد علماء الأندلس النابهين على نحو ما سنعرف في حديثنا عن نحاة الأندلس، وتكاثرت تصانيفه منذ هذا الحين. وعاد إلى موطنه، وشهرته قد ملأت الآفاق، والطلاب يَفِدون عليه من كل صوب وحدب يأخذون عنه معجبين مُكْبرين، حتى اختاره الله لجواره في سنة 538 للهجرة. وهو يسلك في المعتزلة وفي علماء التفسير الأفذاذ وأئمة اللغة والنحو، ومعجمه "أساس البلاغة" مشهور. ومن مصنفاته الفائق في غريب الحديث، وصنف في اللغة والأدب والعروض والنحو مصنفات مختلفة، ومن أشهر مصنفاته النحوية النموذج والمفصل, وعنيبصنع حاشية له، وشرحه ابن يعيش شرحا ضافيا على نحو ما قدمنا. وقد جعله في أقسام أربعة: قسم للأسماء تحدث فيه عن المرفوعات والمنصوبات والمجرورات والنسب والتصغير والمشتقات، وقسم للأفعال وضروبها وأنواعها المختلفة، وقسم للحروف وأصنافها من حروف عطف وغير حروف عطف، وقسم للمشترك أراد به الإمالة والزيادة والوقف والإبدال والإعلال والإدغام.

_ 1 انظر في ترجمة الزمخشري: الأنساب للسمعاني الورقة 277, ومعجم الأدباء 19/ 126، ومعجم البلدان في مادة زمخشر, وإنباه الرواة 3/ 265، واللباب في الأنساب 2/ 506, وابن خلكان 2/ 81، وأزهار الرياض 3/ 282, وشذرات الذهب 4/ 118, ونزهة الألباء ص 391، وطبقات المفسرين للسيوطي ص41، والبغية ص388.

وإذا أخذنا نتعقب آراءه وجدناه يمثل الطراز البغدادي الذي رأيناه عند أبي علي الفارسي وابن جني، فهو في جمهور آرائه يتفق ونحاة البصرة الذين نهجوا علم النحو ووطئوا الطريق إلى شعبه الكثيرة، ومن حين إلى حين يأخذ بآراء الكوفيين أو بآراء أبي علي أو ابن جني، وقد ينفرد بآراء خاصة به لم يسبقه آحد من النحاة إليها. ويكفي أن نرجع إلى المفصل فسنراه يضع كتاب سيبويه نصب عينيه، حتى ليصبح ملخصا له أحيانا على نحو ما يلقانا في باب المفعول المطلق وصوره الكثيرة، وغالبا ما يتابعه في آرائه النحوية، ونضرب لذلك بعض الأمثلة من القسم الأول من كتابه ومن صُحُفه الأولى التي شرحها ابن يعيش، فمن ذلك متابعته له في أن الفعل الثاني هو العامل في باب التنازع1 وأن مثل: "هل زيد قام؟ " تعرب فيه زيد فاعلا لفعل محذوف يفسره المذكور لا مبتدأ كما ذهب الكوفيون2، وكذلك متلوّ إن الشرطية في مثل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} 3. واختار رأيه في أن متلو لولا في مثل: "لولا علي لسافرت" مبتدأ خبره محذوف4, وفي أن خبر إن وأخواتها مرفوع بها لا بما كان مرتفعا به قبل دخول إن كما زعم الكوفيون5، وفي أن الناصب للمنادى ما ينوب عنه حرف النداء وهو الفعل مثل: أريد وأدعو6. وجعله تشرب روحه للمذهب البصري يعبر عن البصريين كما عبر عنهم أبو علي الفارسي وابن جني باسم أصحابه، فهو في أغلب أحواله إما أن ينزع عن قوسهم جميعا، وإما أن ينزع عن قوس بعضهم كأخذه برأي الخليل في أن الفاعل أصل المرفوعات والمبتدأ محمول عليه، وكان سيبويه -كما أسلفنا منذ قليل- يذهب إلى العكس7، وكأخذه برأي الأخفش في أن الكاف تأتي في النثر كثيرا مرادفة لمثل، فتعرب إعرابها وتخرج عن حرفيتها، وبذلك جوزا أن تعرب في مثل: "زيد كالأسد" خبرا لزيد مضافا للأسد8، وكأخذه برأي المبرد في أن لفظ "الآن" مبني؛ لأنه استعمل من أول وضعه بالألف واللام، ولم يستعمل نكرة9، وكأخذه

_ 1 انظر ابن يعيش على المفصل 1 /77. 2 ابن يعيش على المفصل 1/ 81. 3 ابن يعيش على المفصل 1/ 82. 4 ابن يعيش على المفصل 1/ 95. 5 ابن يعيش على المفصل 1/ 101. 6 ابن يعيش على المفصل 1/ 127. 7 ابن يعيش على المفصل 1/ 71، وقابل بالهمع 1/ 93. 8 ابن يعيش على المفصل 8/ 42. 9 ابن يعيش 4/ 103.

برأي الزجاج في أن مثل: "أكرمْ بزيد" أمر على حقيقته لكل أحد أن يصف زيدا بالكرم والباء زائدة، وكان سيبويه يذهب إلى أن الفعل في مثل هذه الصيغة ماضٍ أخرج بلفظ الأمر والباء زائدة مثلها في {كَفَى بِاللَّهِ} 1. وعلى شاكلة أضرابه من البغداديين كان يختار رأي الكوفيين أحيانا في بعض المسائل، من ذلك أنه زاد معهم في الأفعال المتعدية إلى ثلاثة مفاعيل فعل حدَّث كقول الحارث بن حلزة اليشكري: إن منعتم ما تسألون فمن حُـ ... ـدِّثْتموه له علينا العلاء2 ومما اختاره من مذهبهم جواز أن يكون البدل والمبدل منه نكرة كما قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} , وقوله: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} 3. واختار -على غرارهم- أن تكون جملة البسملة متعلقة بفعل محذوف تقديره: أقرأ لا باسم كما ذهب البصريون4. واختار مثلهم أن تكون أن وما بعدها في مثل: "لو أنك جئت" فاعلا لفعل محذوف تقديره: ثبت؛ لأن لو تتطلب أن يتلوها فعل5. ومما وافق فيه أبا علي الفارسي أن ما في مثل: "نعما محمد" نكرة تامة منصوبة على التمييز6، وأن الجملة تنقسم إلى اسمية وفعلية وشرطية وظرفية. واعترض ابن يعيش على هذا التقسيم؛ لأن الجملة الشرطية ترد إلى الفعلية لأنها تتألف من فعل الشرط وفعل الجواب، وكذلك الظرفية لأنها تقدر متعلقة بفعل7. ومما وافق الفارسي فيه أن الباء إنما تزاد مع ما الحجازية العاملة ولا تزاد مع ما التميمية المهملة، فمثل: ما محمد بقائم يتحتم أن تكون ما فيها حجازية8. ووافق ابن جني في مجيء أنْ ظرفية على غرار ما الزمانية مثل: "جئتك أن تصلي العصر" أي: زمن صلاة العصر، وخرج الزمخشري على هذا المعنى قول جل شأنه: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} أي: وقت أن آتاه9. ووافقه أيضا في أن الجملة تبدل من المفرد، كما جاء في قول بعض الشعراء:

_ 1 ابن يعيش 7/ 147. 2 ابن يعيش 7/ 65. 3 ابن يعيش 3/ 68, والمغني ص508، والهمع 2/ 121. 4 المغني ص423 وما بعدها. 5 ابن يعيش 1/ 81, والمغني ص299، والهمع 1/ 138. 6 ابن يعيش 7/ 134، وانظر المغني ص328، والهمع 1/ 250. 7 ابن يعيش 1/ 88. 8 المغني ص619. 9 المغني ص756، والهمع 1/ 82.

إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيانِ فكيف يلتقيان بدل من حاجة وأخرى, كأنه قال: أشكو هاتين الحاجتين تعذر التقائهما1. وللزمخشري بجانب اختياراته من المذاهب البغدادية والكوفية والبصرية آراء كثيرة ينفرد بها، من ذلك ذهابه إلى أن "إذ" قد تقع مبتدأ، وخرَّج على ذلك قراءة بعضهم آية آل عمران: "لَقَدْ مَنِّ الله على الْمؤمنِين إذ بعث فيهِم رَسولا" أي: وقت بعثه فيهم رسولا2، وأن أما في مثل: "أما زيد فذاهب" تعطي الكلام فضل تأكيد3، وأن واو العطف قد تفيد الإباحة في مثل: جالس محمدا وعليا4، وأن رافع الخبر هو الابتداء فقط، وكان ابن جني كما أسلفنا يرى أن رافعه الابتداء والمبتدأ5، وأنه قد يلي إلا نعت لما قبلها مفرد مثل: "ما مررت برجل إلا شجاعٍ" وجملة مثل: ما مررت بأحد إلا زيد خير منه6، وجعل الجملة بعد إلا في مثل قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} صفة لقرية، وقال: إن الواو للصوق الصفة، وجعلها غيره واو الحال7. وفرق بين التعدية بالهمزة والتضعيف، فجعل التضعيف يفيد التكرار. فمثل نزّل تفيد تكرار النزول بخلاف أنزل8. وجوز أن يكون الفاعل جملة، وبذلك خرج آية السجدة: "أوَلم يَهْدِ لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون" فجعل جملة كم وما بعدها فاعل الفعل المجزوم "يهد", ورأى ابن هشام أن الفاعل مستتر راجع إلى الله سبحانه وتعالى9. وذهب إلى أن "لن" تفيد تأكيد النفي، بل تأبيده مثل: لن أجبن10. وكان سيبويه والجمهور يذهبون إلى أن همزة الاستفهام إذا جاءت في جملة معطوفة بالواو أو الفاء أو ثم تأخرت حروف العطف بعدها لما لها من الصدارة مثل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} , {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} وذهب الزمخشري إلى أن

_ 1 الهمع 2/ 128. 2 المغني ص85. 3 المغني ص59. 4 المغني ص67، 396. 5 ابن يعيش 1/ 83، 85, والرضي على الكافية 1/ 87. 6 ابن يعيش 2/ 93، والهمع 1/ 230. 7 المغني ص483. 8 المغني ص578, والهمع 2/ 82. 9 المغني ص652. 10 ابن يعيش 8/ 111, والمغني ص314.

الهمزة في مكانها الأصلي, غير أن العطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف، فيقول: التقدير في الآية الأولى: أمكثوا فلم يسيروا في الأرض؟ وفي الآية الثانية: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر صفحا؟ 1.

_ 1 المغني ص9.

الفصل الثاني: المدرسة الأندلسية

الفصل الثاني: المدرسة الأندلسية 1- النشاط النحوي في الأندلس: لا نكاد نمضي في عصر بني أمية بالأندلس "138-422هـ" حتى تنشأ طبقة كبيرة من المؤدبين الذين كانوا يعلمون الشباب في قرطبة وغيرها من الحواضر الأندلسية مبادئ العربية عن طريق مدارسة النصوص والأشعار، ويدفعهم إلى ذلك حفاظهم على القرآن الكريم وسلامة لغته وتلاوته، وبذلك كان أكثرهم من قُرَّاء الذكر الحكيم، وكان كثير منهم يرحلون إلى المشرق فيتلقون هذه القراءات، ويعودون إلى موطنهم فيرسمونها للناس بجميع شاراتها كما يرسمون لهم العربية بمقوماتها اللغوية. ومن أجل ذلك لا نعجب إذا وجدنا مشهوري هؤلاء المؤدبين يُعنون بالتأليف في القراءات يتقدمهم أبو موسى الهواري، وهو كما يقول الزبيدي: "أول من جَمَعَ الفقه في الدين وعلم العرب بالأندلس، رحل في أول إمارة عبد الرحمن الداخل "138-172هـ" فلقي مالكا ونظراءه من الأئمة ولقي الأصمعي وأبا زيد ونظراءهما، وداخل الأعراب في محالّها، وله كتاب في القراءات"1. وكان يعاصره الغازي بن قيس الذي احترف تأديب الناشئة بقرطبة، وقد رحل مثله إلى المشرق وأخذ عن مالك الفقه وعن نافع بن أبي نعيم مقرئ أهل المدينة قراءته للذكر الحكيم، وأقرأ بها في قرطبة، ولقي الأصمعي ونظراءه2. وأول نحاة الأندلس بالمعنى الدقيق لكلمة نحوي, جودي3 بن عثمان المَوْروري

_ 1 الزبيدي ص275. 2 الزبيدي ص276. 3 الزبيدي ص278، ومعجم الأدباء 7/ 213، وإنباه الرواة 1/ 271, وبغية الوعاة ص213.

الذي رحل إلى المشرق وتتلمذ للكسائي والفراء، وهو أول من أدخل إلى موطنه كتب الكوفيين، وأول من صنف به في النحو، وما زال يدرسه لطلابه حتى توفي سنة 198 للهجرة. وكان يعاصره أبو عبد الله1 محمد بن عبد الله الذي رحل مثله إلى المشرق، وأخذ عن عثمان بن سعيد المصري المعروف باسم وَرْش قراءته، وأدخلها إلى الأندلس، وكان بصيرا بالعربية. ويتكاثر هؤلاء القراء والمؤدبون في القرن الثالث الهجري، ويتميز من بينهم عبد الملك2 بن حبيب السلمي المتوفى سنة 238 للهجرة، وكان إماما في الفقه والحديث والنحو واللغة، وبين مصنفاته كتاب في إعراب القرآن. ويعنى في نفس القرن مفرج3 بن مالك النحوي بوضع شرح على كتاب الكسائي، كما يعنى معاصره أبو بكر4 بن خاطب النحوي المكفوف بوضع كتاب في النحو كانت له شهرة في موطنه. ويذكر الزبيدي كثيرين كانوا يعنون بالشعر القديم والعباسي وشرحه للطلاب. ويبدو أن الأندلس تأخرت في عنايتها بالنحو البصري, وأنها صبَّت عنايتها أولا على النحو الكوفي مقتدية بنحويِّها الأول جودي بن عثمان، حتى إذا أصبحنا في أواخر القرن الثالث الهجري وجدنا الأفُشْنيق5 محمد بن موسى بن هاشم المتوفى سنة 307 يرحل إلى المشرق ويلقى بمصر أبا جعفر الدينوري، ويأخذ عنه كتاب سيبويه رواية ويقرؤه بقرطبة لطلابه. ويأخذ غير نحوي في مدارسة الكتاب مثل أحمد6 بن يوسف بن حجاج المتوفى سنة 336, وكان يضع دائما كتاب سيبويه بين يديه ولا يَنِي عن مطالعته في حال فراغه وشغله وصحته وسقمه.

_ 1 الزبيدي ص293, وبغية الوعاة ص63. 2 انظر في ترجمته: الزبيدي ص282، وابن الفرضي 1/ 225، والحميدي في الجذوة ص362, والمغرب في حلى المغرب "طبع دار المعارف" 2/ 69، وابن فرحون ص154, وإنباه الرواة 2/ 206، وبغية الوعاة ص312. 3 الزبيدي ص297، وبغية الوعاة ص396. 4 الزبيدي ص297، والبغية ص202. 5 الزبيدي ص305، وابن الفرضي 1/ 329، وإنباه الرواة 3/ 216، وبغية الوعاة ص108. 6 الزبيدي ص324، وبغية الوعاة ص175.

ولا يلبث محمد1 بن يحيى المهلبي الرباحي الجياني المتوفى سنة 353 للهجرة أن يفتتح عصر الاهتمام البالغ في موطنه بكتاب سيبويه، وكان قد ثقف الفلسفة والمنطق والكلام، ورحل إلى المشرق فلقي بمصر نحويها النابه أبا جعفر بن النحاس، وأخذ عنه كتاب سيبويه رواية، وعاد إلى قرطبة يفرغ له ولقراءته على الطلاب، شارحا له ومفسرا تفسيرا مبينا، تسعفه دقة نظره ومنطقه وقدرته على الاستنباط وتحليل العبارات والغوص على العلل. ولم يكن يكتفي بقراءته لطلابه، فقد كان يعقد لهم مجلسا في كل جمعة للمناظرة في مسائلة، ويقول الزبيدي في بيان مكانته في تاريخ النحو بالأندلس: "لم يكن عند مؤدبي العربية ولا عند غيرهم ممن عُني بالنحو كبير علم "بالعربية" حتى ورد محمد بن يحيى عليهم، وذلك أن المؤدبين إنما كانوا يعانون إقامة الصناعة في تلقين تلاميذهم العوامل وما شاكلها وتقريب المعاني لهم في ذلك. ولم يأخذوا أنفسهم بعلم دقائق العربية وغوامضها والاعتلال لمسائلها، ثم كانوا لا ينظرون في إمالة ولا إدغام ولا تصريف ولا أبنية، ولا يجيبون في شيء منها، حتى نهج لهم سبيل النظر وأعلمهم بما عليه أهل هذا الشأن في المشرق من استقصاء الفن بوجوهه واستيفائه على حدوده, وأنهم بذلك استحقوا الرياسة". ويقول القفطي: "لما ورد محمد بن يحيى "على قرطبة" أخذ في التدقيق والاستنباط والاعتراض والجواب وطرد الفروع إلى الأصول، فاستفاد منه المعلمون طريقه، واعتمدوا ما سنَّه من ذلك". وكان يعاصره في قرطبة أبو علي2 القالي البغدادي الذي نزل الأندلس في سنة 330 للهجرة لعهد عبد الرحمن الناصر وقاد فيها نهضة لغوية ونحوية خصبة، كان معوَّله فيها على قراءة ذخائر اللغة والشعر والنحو التي حملها معه من المشرق، وكان مما حمله كتاب سيبويه أخذه عن ابن درستويه عن المبرد، وكان يجنح إلى المذهب البصري وينافح عنه مناظرا مجادلا.

_ 1 الزبيدي ص335، وابن الفرضي 1/ 364، وبغية الملتمس للضبي ص134، وإنباه الرواة 3/ 229، وبغية الوعاة ص113. 2 ابن الفرضي 1/ 65، والزبيدي ص202، وبغية الملتمس ص216، وفهرست ابن خير في مواضع متفرقة, والصلة لابن بشكوال رقم 4، 289، 1376، والتكملة لابن الأبار رقم 362، ومعجم الأدباء 7/ 25, والأنساب الورقة 439, وإنباه الرواة 1/ 204, وشذرات الذهب 3/ 18, ومرآة الجنان 2/ 359, وبغية الوعاة ص198.

وخلفه هو والرباحي جيل من تلاميذهما, مضى يعكف على مدارسة كتاب سيبويه وكتب غيره من البصريين والكوفيين، من أهمهم: أبو بكر1 بن القوطية المتوفى سنة 367 للهجرة تلميذ القالي وصاحب كتاب الأفعال وتصاريفها المنشور في ليدن، ومحمد2 بن الحسن الزبيدي المتوفى سنة 379 تلميذ القالي أيضا ومؤلف كتاب طبقات النحويين واللغويين الذي يتردد ذكره في هوامش هذا الكتاب، وله مصنف في النحو سماه "الواضح", وأبو عبد الله3 محمد بن عاصم العاصمي المتوفى سنة 382 تلميذ الرباحي وحامل روايته لكتاب سيبويه وكان لا يقل عن أصحاب المبرد بصرا بالعربية ودقائقها الخفية, وأحمد4 بن أبان المتوفى سنة 382، وله شرحان على كتابي الكسائي والأخفش. ولعل في ذكر الكسائي ما يدل على أن الأندلس ظلت تعنى بالنحو الكوفي بجانب عنايتها بالنحو البصري. ومن هذا الجيل هارون5 بن موسى القرطبي النحوي المتوفى سنة 401, وله تصنيف في تفسير عيون كتاب سيبويه. ويلقانا في أوائل عصر ملوك الطوائف نحاة مختلفون، من أشهرهم ابن الإفليلي6 المتوفى سنة 441, وكان متصدرا بقرطبة لإقراء الطلاب، وكان يُقرئهم فيما يقرئ كتاب سيبويه، رواية عن العاصمي تلميذ الرباحي. وأشهر منه وأنبه ابن سِيده7 الضرير

_ 1 ابن الفرضي 1/ 370, وبغية الملتمس ص102, وابن خلكان 1/ 512، والديباج المذهب ص282, ومعجم الأدباء 18/ 273، وإنباه الرواة 3/ 178, وبغية الوعاة ص84. 2 ابن الفرضي 1/ 383، والجذوة للحميدي ص43، ومطمح الأنفس لابن خاقان ص53، ويتيمة الدهر 2/ 61، ومعجم الأدباء 18/ 179، وابن خلكان 1/ 514، والمغرب 1/ 250، وبغية الوعاة ص34. 3 ابن الفرضي 2/ 76، وبغية الملتمس 107، وإنباه الرواة 3/ 197، وبغية الوعاة ص50. 4 بغية الملتمس 159, والصلة 7, ومعجم الأدباء 2/ 203, وإنباه الرواة 1/ 30، وبغية الوعاة 126. 5 الصلة لابن بشكوال 2/ 595، وإنباه الرواة 3/ 362، وبغية الوعاة ص406. 6 الصلة 1/ 93، والذخيرة لابن بسام "طبع جامعة القاهرة" المجلد الأول من القسم الأول ص240, وبغية الملتمس ص99، والمغرب 1/ 72، ومعجم الأدباء 3/ 4، وإنباه الرواة 1/ 183، وابن خلكان 1/ 12, وبغية الوعاة ص186. 7 جذوة المقتبس للحميدي ص293، والمطمح لابن خاقان ص60, وبغية الملتمس ص405, والصلة ص410، ومعجم الأدباء 12/ 231، والمغرب 2/ 259، وابن فرحون ص204، وبغية الوعاة ص327.

المتوفى سنة 448 "ولم يكن في زمانه أعلم منه بالنحو واللغة والأشعار وأيام العرب وما يتعلق بها". وله أكبر معجم مؤلف حسب المعاني هو المخصَّص المطبوع بالقاهرة في سبعة عشر مجلدا، وقد صبغ مباحثه فيه بصبغة نحوية وصرفية واسعة، ويعلن ذلك في أوائله، إذ يقول: "ومن طريف ما أودعته إياه بغاية الاستقصاء ونهاية الاستقراء وإجادة التعبير والتأنق في محاسن التحبير, الممدود والمقصور والتأنيث والتذكير وما يجيء من الأسماء والأفعال على بناءين وثلاثة فصاعدا, وما يُبْدَل من حروف الجر بعضها مكان بعض". وتعنى الجامعة العربية الآن بنشر معجمه المسمى بالمحكم المرتب حسب مخارج الحروف على طريقة معجم العين للخليل، وهو في نحو عشرين مجلدا، ويصرح في فواتحه بما أضاف إليه من مواد نحوية كثيرة، يقول: "أما ما نثرت عليه من كتب النحويين المتأخرين المتضمنة لتعليل اللغة, فكتب أبي علي الفارسي: الحلبيات والبغداديات والأهوازيات والتذكرة والحجة والأغفال والإيضاح ... وكتب أبي الفتح عثمان بن جني كالمُعرب والتمام وشرحه لشعر المتنبي والخصائص وسر الصناعة والتعاقب والمحتسب". وفي ذلك الدلالة البينة على أننا لا نصل إلى ابن سيده حتى ينغمس نحاة الأندلس في النحو البغدادي بجانب انغماسهم في النحو البصري والكوفي، ويكون ذلك إيذانا بأن تتضح شخصيتهم في النحو ودراساته، فقد تعمقوا في مصنفاته على مر العصور وتعمقوا في اتجاهاته.

في اتجاه المدرسة البغدادية وكثرة التعليلات والآراء

2- في اتجاه المدرسة البغدادية, وكثرة التعليلات والآراء: أخذت دراسة النحو تزدهر في الأندلس منذ عصر ملوك الطوائف، فإذا نُحاتها يخالطون جميع النحاة السابقين من بصريين وكوفيين وبغداديين، وإذا هم ينتهجون نهج الأخيرين من الاختيار من آراء نحاة الكوفة والبصرة، ويضيفون إلى ذلك اختيارات من آراء البغداديين وخاصة أبا علي الفارسي وابن جني. ولا

يكتفون بذلك، بل يسيرون في اتجاههم من كثرة التعليلات والنفوذ إلى بعض الآراء الجديدة، وبذلك يتيحون لمنهج البغداديين ضروبا من الخصب والنماء. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن الأعلم1 الشنتمري المتوفى سنة 476 للهجرة هو أول من نهج لنحاة الأندلس في قوة هذا الاتجاه، فقد كان لا يكتفي في الأحكام النحوية بالعلل الأولى التي يدور عليها الحكم مثل أن كل مبتدأ مرفوع، بل كان يطلب علة ثانية لمثل هذا الحكم يوضح بها لماذا رُفع المبتدأ ولم ينصب، يقول ابن مضاء: "وكان الأعلم -رحمه الله- على بصره بالنحو, مولعا بهذه العلل الثواني، ويرى أنه إذا استنبط منها شيئا فقد ظفر بطائل"2. وكان ما يزال يختار لنفسه من آراء البصريين والكوفيين والبغداديين، من ذلك اختياره رأي السيرافي البصري في أن "مِنْ" تأتي مرادفة لربما إذا اتصلت بما، وبذلك خرّجا عبارة سيبويه في الكتاب: "واعلم أنهم مما يحذفون كذا"3. ومن ذلك اختياره رأي الفراء إمام الكوفة في أن الفاء قد تزاد في الخبر إذا كان أمرا أو نهيا فقط مثل: "زيد فكلمْه" و"زيد فلا تكلمْه"4. وكان يخِّرج ما ذهب إليه الكسائي من أن العرب تقول: "فإذا هو إياها" في مثل العبارة: "كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور, فإذا هو هي" على أن إياها مفعول مطلق، والأصل: فإذا هو يلسع لسعتها، ثم حذف الفعل كما تقول: "ما زيد إلا شُرْبَ الإبل" ثم حذف المضاف5, وواضح ما في ذلك من تقدير بعيد. وكان بعض النحاة يذهب إلى أن رَحْمانا في مثل: "تبارك رحمانا" تمييز، وذهب الأعلم إلى أنه عَلَم منصوب بإضمار أخص، وصوب رأيه ابن هشام6. وكان يذهب إلى أن الاستئناف مع الفاء العاطفة قد يكون على معنى السببية، فينتفي الثاني لانتفاء الأول، وبذلك خرّج قراءة السبعة: {لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} فالفاء فاء الاستئناف والفعل وراءها منفي لا مثبت7. وكان سيبويه -وتبعه المبرد وابن السراج وهشام

_ 1 الصلة رقم 1391، ونفح الطيب "طبعة أوروبا" 2/ 471, ومعجم الأدباء 20/ 61, وابن خلكان 2/ 465، وبغية الوعاة ص422. 2 الرد على النحاة لابن مضاء "طبع دار الفكر العربي" ص160. 3 المغني ص357. 4 المغني ص179. 5 المغني ص96. 6 المغني ص514. 7 المغني ص534.

من الكوفيين- يمنع العطف على معمولي عاملين مثل: "في الدار زيد والحجرةِ عمرو", و"في الدار زيد وعمرو الحجرةِ" بعطف الحجرة على الدار بالجر وعمرو على زيد بالرفع. وأجاز ذلك الأخفش والكسائي والفراء والزجاج من البصريين. وفصَّل القاعدة الأعلم، فقال: إن ولي المخفوض حرف العطف كالمثال الأول جاز؛ لمجيئه في السماع، ولأن المتعاطفات تعادلت فيه، وإلا امتنع كما في المثال الثاني1. ونرى الأعلم يشرح كتاب الجمل للزجاجي البغدادي، وروايته للدواوين الستة الجاهلية: دواوين امرئ القيس, وزهير، والنابغة، وعلقمة، وطرفة، وعنترة مسندة إلى الأصمعي مشهورة. وأهم من ذلك أنه روى كتاب سيبويه عن ابن الإفليلي، وأقرأه لطلابه مبصرا لهم بدقائقه، مذللا صعابه، محللا مشاكله تحليلا واسعا. ويتوافر الأندلسيون من حوله ومن بعده على هذا الكتاب حتى يشتهر في العالم العربي أن بيئة عربية لا تبلغ بيئة الأندلس في تحرير نصه وكشف غوامضه، مما جعل الزمخشري يرحل في شبيبته من خوارزم إلى مكة لقراءته على نحوي أندلسي كان مجاورا بها هو عبد2 الله بن طلحة المتوفى سنة 518 للهجرة. وكان يعاصره ثلاثة من أعلام النحاة الأندلسيين عاشوا جميعا في عصر المرابطين، وهم: أبو محمد بن السيد, وابن الباذش, وابن الطَّرَاوة. أما ابن3 السيد فهو عبد الله بن محمد بن السيد البطليوس النحوي المتوفى سنة 521, كان يقرئ الطلاب في قرطبة ثم في بلنسية النحو، وعُني بكتاب الجمل للزجاجي، فكتب كتابا في إصلاح الخلل الواقع فيه بسبب إيجازه الشديد وآخر في شرح أبياته. وصنف في النحو كتابا سماه "المسائل والأجوبة"4. وتدور له في كتب النحاة آراء مختلفة، منها ما يتابع فيه سيبويه مثل أن ما إذا

_ 1 المغني ص539. 2 تفسير البحر المحيط لأبي حيان 4/ 372، وانظر في ترجمة عبد الله بن طلحة: بغية الوعاة ص284. 3 راجع في ترجمة ابن السيد: الصلة 1/ 287، وأزهار الرياض للمقري 3/ 101, وإنباه الرواة 2/ 141، وقلائد العقيان لابن خاقان ص93، وطبقات القراء لابن الجزري 1/ 449، والديباج المذهب ص140, وشذرات الذهب 4/ 64، وبغية الوعاة ص288. 4 انظر في كتاب الأشباه والنظائر 3/ 73، بعض مسائل منه.

اتصلت بقلّ كفَّتْها عن العمل ولا تدخل حينئذ إلا على جملة فعلية، أما ظهور الفاعل بعدها في بعض الأشعار فضرورة1. ومنها ما يتابع فيه الكوفيين مثل أن "كأنّ" لا تفيد التشبيه إلا إذا كان خبرها جامدا مثل: كأن محمدا أسد2. وكان يتابع الكسائي في أن زيدا في مثل: "أنا زيد ضربته" يجوز فيها الرفع والنصب على الاشتغال3. وتابع ابن جني في أن الرجل في مثل: "مرت بهذا الرجل" عطف بيان لا نعت4. ومما انفرد به عن سابقيه من النحاة أن "حتى" لا تعطف المفردات فقط بل تعطف أيضا الجمل مثل: "سَرَيْت حتى تكلُّ المطايا" برفع تكل5. ومن آرائه الدقيقة أن "ما" تقع صفة للتعظيم كقولهم: "لأمر ما يسود من يسود" أي: لأمر عظيم, ومنه: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ} 6. وكان يكثر من التخريجات في الإعراب، من ذلك ذهابه إلى أن ما بعد إلا في مثل: "ما قام إلا زيدا إلا عمرا إلا خالدا أحد" يجوز فيه أربعة أوجه: النصب على الاستثناء كما نص عليه النحويون، والنصب على الحال، وجعل الأول حالا وما يليه استثناء، والعكس7. وخطّأ من يعرب {أَنِ} في قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} مصدرية وهي وما بعدها عطف بيان من الضمير في {بِهِ} ؛ لأن الضمير لا ينعت ولا يعطف عليه عطف بيان، إنما هي في الآية تفسيرية للقول على تأويله بالأمر8. وابن9 الباذش هو علي بن أحمد بن خلف الأنصاري الغرناطي المتوفى سنة 528هـ, كان ذا معرفة واسعة بعلم العربية، وصنف شروحا على كتب مختلفة للبصريين والبغداديين مثل كتاب سيبويه وكتاب المقتضب للمبرد وأصول ابن السراج وجمل الزجاجي وإيضاح الفارسي. ومما ذهب فيه مذهب سيبويه أنه

_ 1 المغني ص339. 2 المغني ص209. 3 الهمع 2/ 113. 4 المغني ص631. 5 المغني ص136. 6 الهمع 1/ 92. 7 الهمع 1/ 228. 8 المغني ص30، 636. 9 انظر في ترجمة ابن الباذش: بغية الملتمس ص406، وإنباه الرواة 2/ 227، والديباج المذهب ص205، وطبقات القراء لابن الجزري 1/ 518, وبغية الوعاة ص326.

لا يجوز حذف المفاعيل الثلاثة في باب أعلم لغير دليل1. وكان يذهب مذهب السيرافي البصري في أن "غير" في مثل: "قام القوم غير علي" منصوبة على التشبيه بظرف المكان2. وذهب مذهب أبي علي الفارسي في أن ناصب المفعول معه في مثل: "قمت وطلوعَ الشمس" هو الفعل معدى إليه بواسطة الواو3. وكان يأخذ برأي ابن جني في أن "إذ" في مثل: "فبينما العسر إذ دارت مياسيرُ" ظرف عامله الفعل التالي له، وعامل بينما محذوف يفسره الفعل المذكور4. وذهب كثير من النحاة إلى أن المخصوص في مثل: "نعم الرجل محمد" يجوز أن يكون خبرا ومبتدؤه محذوف، وحتم أن يكون المخصوص مبتدأ وما قبله خبرا، ويقول ابن هشام: إنه ظاهر قول سيبويه5. ومما خالف فيه سابقيه من النحاة ذهابه إلى أن لام المستغاث لأجله في مثل: "يا لزيد لعمرو" متعلقة باسم محذوف تقديره: مدعوًّا لعمرو، وكان ابن جني يذهب إلى أنها متعلقة مع مجرورها بيا6. وكان يذهب إلى أن المضارع في مثل: "الهندان هما تفعلان" يجوز فيه التذكير والتأنيث, أو بعبارة أخرى: أن يبدأ بالتاء أو الياء حملا على اللفظ أو المعنى7. أما ابن8 الطراوة فهو سليمان بن محمد بن الطراوة, المتوفى سنة 528هـ, وهو نحوي مدينة المرية وتلميذ الأعلم الشنتمري، كان علما في العربية لعصره وتجوَّل في مدن الأندلس معلما يقبل عليه الطلاب من كل فج، ومن مصنفاته في النحو المقدمات على كتاب سيبويه. ويبدو أنه كان يقابله كثيرا على كتب الكوفيين والبغداديين منحازا إليهما، أو بعبارة أدق: متوسعا في الاختيار من آرائهما. ومما اختاره من مذهب الكوفيين أن المعرفة أصل والنكرة فرع، وكان سيبويه والجمهور يذهبون إلى العكس9. وذهب البصريون إلى أنه إذا تصدرت في الجملة ظن وأخواتها لا يجوز إلغاء عملها بدون موجب للإلغاء، وجوز ذلك الكوفيون والأخفش

_ 1 الهمع 1/ 158. 2 المغني ص171، والهمع 1/ 231. 3 الهمع 1/ 224. 4 الهمع 1/ 205. 5 المغني ص667. 6 المغني ص242. 7 الهمع 2/ 171. 8 انظر في ترجمة ابن الطراوة: بغية الملتمس ص290، والتكملة لابن الأبار ص704, وكتابه التحفة رقم 4, والمغرب 2/ 208, وبغية الوعاة ص263. 9 الهمع 1/ 55.

وتابعهم ابن الطراوة, إلا أن الإعمال عنده أحسن، واستدلوا بمثل قول القائل: وما إخال لدينا منك تنويل1 واشترط البصريون تنكير التمييز وذهب الكوفيون وتابعهم ابن الطراوة إلى أنه يجوز أن يكون معرفة؛ لمجيء ذلك في الشعر والنثر، مثل: "وطبتَ النفسَ يا قيس بن عمرو" وقول العرب: سفه زيد نفسه2. وذهب البصريون إلى أن "رب" حرف تقليل، وذهب الكوفيون وتابعهم ابن الطراوة، إلى أنها اسم مبني؛ لأنها في التقليل مثل "كم" في التكثير وهي اسم بالإجماع3. ومما اختاره من آراء الفارسي أن أبا في قولهم "لا أبا لك" مفردة جاءت على لغة القصر والمجرور باللام هو الخبر4، وأن "على" التي ذهب الجمهور إلى أنها حرف جر هي اسم معرب؛ لأنه لا يظهر فيها علامة البناء من شبه الحرف، إذ لا حرف في معناها5. وعلى ضوء من فكرة التضمين التي أطال ابن جني القول فيها وجّه مجيء استغفر متعدية إلى مفعول واحد في قولك: "استغفرت الله من الذنب" لتضمنها معنى استتبت6. وله آراء مختلفة تفرد بها مخالفا النحاة، من ذلك أن ضمير الشأن في مثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و"إنه محمد مسافر" حرف وليس اسما7، وأن أيا في مثل قوله جل شأنه: {لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} مبنية لاقتطاعها عن الإضافة، و"هم أشد" مبتدأ وخبر، والنحاة يجمعون على أن أيا إذا اقتُطعت عن الإضافة أُعربت8. ومما خالف فيه النحاة أن قعودا في مثل "قعد قعودا" ليست مفعولا مطلقا، وإنما هي مفعول به لفعل محذوف لا يجوز إظهاره9، وأن جواب لولا في مثل: "لولا علي لسافرت" هو خبر المبتدأ التالي لها10. وكان يذهب إلى أن عسى ليست من النواسخ11. ويكثر في عصر الموحدين النحاة الذين عُنُوا بشرح كتاب سيبويه

_ 1 الهمع 1/ 153. 2 الهمع 1/ 252, وقابل بالرضي على الكافية 1/ 205. 3 الهمع 2/ 25, وقابل بالرضي على الكافية 2/ 307. 4 الهمع 1/ 145. 5 الهمع 2/ 29. 6 المغني ص577. 7 الهمع 1/ 67, وقارن بالرضي على الكافية 2/ 25. 8 المغني ص82. 9 الهمع 1/ 187. 10 المغني ص303. 11 الأشباه والنظائر 3/ 6.

وإقرائه للطلاب وفكّ معميّاته مثل ابن1 الرماك المتوفى سنة 541 لأول عهد الموحدين بالأندلس، وهو تلميذ ابن الطراوة، ومثل الأقليشي2 المتوفى سنة 550 تلميذ أبي محمد بن السيد، ومثل جابر3 الإشبيلي الحضرمي المتوفى سنة 596 تلميذ ابن الرماك، وتلميذه أبي بكر محمد4 بن طلحة المتوفى سنة 618 وكان يميل إلى آراء ابن الطراوة ويحتجّ لها. وأنبه من هؤلاء أبو بكر بن طاهر وأبو القاسم السهيلي والجزولي وابن خروف، ولا نمضي في القرن السابع الهجري طويلا حتى يظهر عمر بن محمد الشلوبين, وابن هشام الخضراوي. وابن5 طاهر هو محمد بن أحمد بن طاهر المتوفى في عشر الثمانين وخمسمائة، وهو تلميذ ابن الرماك، اشتهر بتدريسه لكتاب سيبويه، وله عليه حواشٍ اعتمدها تلميذه ابن خروف في شرحه للكتاب، وله أيضا تعليق على كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي. وله اختيارات مختلفة من مذاهب النحاة السابقين، من ذلك اختياره رأي سيبويه وابن الباذش في أنه لا يجوز حذف أحد مفاعيل أعلم بدون دليل6، واختار رأي السيرافي والأعلم الشنتمري في أن "مما" قد تأتي مرادفة لربما7، وكذلك رأي السيرافي في أنه يجوز أن يعمل الفعل في مصدرين: مؤكد ومبين مثل: "ضربت ضربتين ضربا شديدا"8. وكان الكوفيون يذهبون إلى أنه لا تقدير مع الظرف في مثل: "محمد عندك" وأنه منصوب على الخلاف بينما قدره البصريون متعلقا بفعل أو اسم محذوف، وذهب ابن طاهر إلى أنه لا تقدير فيه إلا أنه جعل ناصبه المبتدأ لا المتعلق المحذوف9. وكان يذهب مذهب أبي علي الفارسي في أن نون المثنى وجمع المذكر السالم عوض عن التنوين والحركة في المفرد10،

_ 1 انظر فيه البغية للسيوطي ص301. 2 انظر فيه إنباه الرواة 1/ 136، وبغية الوعاة ص171. 3 انظره في البغية للسيوطي ص211. 4 راجعه في البغية ص49, والمغرب 1/ 253, والتكملة لابن الأبار ص319. وروى السيوطي في الأشباه والنظائر أنه كان يذهب إلى أن المضارع المتصل بنون النسوة باقٍ على إعرابه وليس مبنيا وهو في الواقع يتابع السهيلي في ذلك. انظر شرح التصريح على التوضيح 1/ 56. 5 انظر في ترجمته بغية الوعاة ص12. 6 الهمع 1/ 158. 7 المغني ص357. 8 الهمع 1/ 188. 9 المغني ص484. 10 الهمع 1/ 48.

وكذلك في أنه إذا اجتمع معرفتان في باب كان فأيتهما شئت جعلتها الاسم والثانية الخبر1. ومما انفرد به أن الشر في مثل: "إياك والشرَّ" منصوب بفعل محذوف تقديره: احذر الشر2، وأنه إذا أضيفت "ويح" لزمت النصب، وإذا أفردت في مثل: "ويح له" جاز فيها الرفع والنصب مع قوة الأول وضعف الثاني؛ لأنها مصدر لا فعل له3. أما السهيلي4 فهو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الضرير صاحب كتاب الروض الأنف في شرح السيرة النبوية المتوفى سنة 581 للهجرة، وهو تلميذ ابن الطراوة وابن طاهر. وكان بارعا في العربية والتفسير وعلم الكلام. ومن كتبه المتصلة بالدراسات النحوية كتابه "نتائج الفكر" واشتهر بأنه صاحب استنباطات دقيقة, وأنه كان يشغف بالعلل النحوية واختراعها على شاكلة الأعلم الشنتمري حتى ليقول ابن مضاء: إنه كان يولع بها ويخترعها ويعتقد ذلك كمالا في الصنعة وبَصَرا بها5. وتدور له في كتب النحو اختيارات مختلفة من مذاهب البصريين والكوفيين والبغداديين، من ذلك أنه كان يرى رأي المبرد في أن التعدية بالباء الجارة تخالف التعدية بالهمزة، فإذا قلت: "ذهبت بزيد" كنت مصاحبا له في الذهاب بخلاف قولك: "أذهبت زيدا" معديا للفعل ذهب بالهمزة6. وكان يذهب مذهب ابن درستويه البصري في أن نائب الفاعل في مثل: "مر بزيد" ليس الجار والمجرور وإنما هو ضمير مستتر عائد على المصدر المفهوم من الفعل والتقدير "مر هو" أي: المرور7. وكان يذهب مذهب الكسائي وهشام في أن فاعل الفعل الأول في مثل: "ضربني وضربت زيدا" محذوف8, وكان ينكر مع الفراء أن تأتي الحال مؤكدة وأنها في مثل: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} مبنية لا مؤكدة9. ومما ذهب

_ 1 الهمع 1/ 118. 2 الهمع 1/ 169. 3 الهمع 1/ 189. 4 انظر في ترجمة السهيلي: بغية الملتمس ص354, وابن خلكان 1/ 280, والمغرب 1/ 448, وابن فرحون ص150, وإنباه الرواة 2/ 162, وطبقات القراء 1/ 371, وشذرات الذهب 4/ 271, وبغية الوعاة ص298, ومرآة الجنان 3/ 422. 5 الرد على النحاة لابن مضاء ص160. 6 المغني ص107, والهمع 2/ 82. 7 الهمع 1/ 163. 8 المغني ص673. 9 الهمع 1/ 245.

فيه مذهب الكوفيين أن إِنَّ وأخواتها لا تعمل في الخبر، بل هو باقٍ على رفعه قبل دخولها عليه، وكان يحتج لذلك بأنها أضعف من الأفعال فلا تعمل عملها1. وكأن يأخذ برأي الكوفيين والبغداديين جميعا في أن النكرة لا يجوز أن تبدل من المعرفة إلا إذا وُصفت مثل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} محتجا بأنها إن لم توصف لم تُفِد أي فائدة مثل: "مررت بزيد برجل"2. ومن آرائه التي كان يتابع فيها سيبويه أن "أَنَّ" المفتوحة وما بعدها لا تؤول بمصدر وإنما تؤول بالحديث بخلاف أن الناصبة للمضارع فإنها تؤول معه بمصدر3. وكان ينكر أن مفعولي ظن وأخواتها أصلهما مبتدأ وخبر4، وكان يذهب إلى أن مهما قد تأتي حرفا كقول زهير: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفَى على الناس تعلم مستدلا بأنها في البيت لا محل لها لأن "تكن" معها اسمها وخبرها5. وذهب إلى أن "لا" العاطفة إنما تقع بين متعاندين مثل: "جاء رجل لا امرأة"، بخلاف: "جاء رجل لا زيد" لصدق اسم الرجل عليه6، كما ذهب إلى أن الاستفهام التقريري في مثل: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} خبر موجب7. وكان يرى أنه يحسن عطف الاسم على الفعل مثل: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} ويقبح العكس أي: عطف الفعل على الاسم8, وذهب إلى أن لا الناهية في مثل: لا تضربْ هي النافية والفعل مجزوم بلام مقدرة9، وهو تكلف واضح، كما ذهب إلى أن أصل "الذي" ذو بمعنى صاحب، يقول السيوطي: "قدر لذلك تقديرات في غاية التعسف والتكلف"10. وعيسى11 الجزولي المتوفى سنة 607, مغربي من قبيلة جزولة البربرية، حج

_ 1 الهمع 1/ 134. 2 الهمع 2/ 127. 3 المغني ص39, والهمع 1/ 137. 4 الهمع 1/ 151. 5 المغني ص367. 6 الهمع 2/ 137. 7 المغني ص121. 8 الهمع 2/ 140. 9 المغني ص274. 10 الهمع 1/ 82. 11 انظر في ترجمة الجزولي: إنباه الرواة 2/ 378, وابن خلكان 1/ 394, وشذرات الذهب 5/ 26, وبغية الوعاة ص369.

فلزم ابن بري نحوي مصر وعاد فنزل الأندلس وتصدَّر للإقراء بالمرية وغيرها من مدن الأندلس وتتلمذ عليه هناك جماعة منهم الشلوبين. وله المقدمة المشهورة في النحو وهي حواشٍ على كتاب الجمل للزجاجي أفادها من مباحث كانت تثار في مجلس أستاذه ابن بري، ومن أجل ذلك كان لا ينسبها إلى نفسه. وكان يذهب مع ابن السراج البصري إلى أنه لا يجوز تقدم المفعول به على الفاعل إذا حصل لبس مثل: "كلم موسى عيسى"1. وذهب مع أبي علي الفارسي وابن طاهر إلى أن نون المثنى والجمع المذكر عوض عن الحركة والتنوين في المفرد2. وكان يرى أنه يجب أن يتحول المفعول الأول إلى نائب فاعل ولا تصح نيابة المفعول الثاني3، كما كان يرى أنه يصح حذف نون الوقاية في من وعن، فيقال: "منِي وعنِي" بالتخفيف4. أما ابن5 خروف فهو علي بن يوسف بن خروف القرطبي المتوفى سنة 609 للهجرة، كان إماما في العربية, أخذ النحو عن ابن طاهر وأقرأه في موطنه، ورحل عنه إلى المغرب، وأخذ يطوف في البلدان العربية حتى ألقى عصاه بحلب. واشتهر بمناظراته في العربية مع السهيلي، وبشرحه لكتاب سيبويه وكتاب الجمل للزجاجي. وله اختيارات كثيرة وخاصة من مذاهب البصريين. من ذلك أنه كان يذهب إلى أن "ما" تأتي معرفة تامة ونقله عن سيبويه، وبذلك كان يجعلها فاعلا لنعم في مثل: "دققته دقا نِعمَّا" والتقدير: نعم الدق6. وكان يذهب مذهب سيبويه وأستاذه ابن طاهر وابن الباذش في أنه لا يجوز حذف أحد مفاعيل أعلم وأرى بدون دليل7. وذهب مذهب سيبويه والمبرد في أن نباتا في مثل: "أنبت الزرع نباتا" منصوب بفعل المصدر الجاري عليه وهو نبت مضمرا والفعل الظاهر دليل عليه8. وكان يذهب مذهب المبرد في أن لام المستغاث زائدة بدليل صحة إسقاطها فتقول: "يا لزيد لعمرو" و"يا زيد لعمرو"9.

_ 1 الهمع 1/ 161. 2 الهمع 1/ 48. 3 الهمع 1/ 162. 4 الهمع 1/ 64. 5 انظر في ترجمة ابن خروف: التكملة لابن الأبار ص676, ومعجم الأدباء 15/ 75، وابن خلكان, وفوات الوفيات 2/ 79، والمغرب 1/ 131، وبغية الوعاة ص354. 6 المغني ص328, والهمع 1/ 92. 7 الهمع 1/ 158. 8 الهمع 1/ 187. 9 المغني ص240.

وذهب مذهب السيرافي في أن "كان" إذا بُنيت للمجهول حُذف اسمها وخبرها وأُقيم مقام مرفوعها ضمير مصدرها1، واختار رأيه في أن "ماذا" في مثل: "انظر ماذا صنعت؟ " اسم موصول بمعنى الذي2. وتبع الكوفيين وأستاذه ابن طاهر في أن ناصب الظرف في مثل: "زيد عندك" هو المبتدأ لا عامل محذوف3. وكان يذهب إلى أن "أما" التي بمعنى حقا في مثل: "أما أنه شاعر" حرف4، وجوز أن تكون الجملة التعجبية صلة للموصول مثل: "جاء الذي ما أكرمه"5. وكان يرى أن عامل الحال في الجملة الاسمية المبتدأ نحو: "هو علي شاعرا"6 وأن موضع ما خلا في مثل: "قام القوم ما خلا محمدا" نصب على الاستثناء مثل غير7، وأنه يجوز في "لا سيما زيد" أن تكون ما نكرة موصوفة، وزيد خبرا لمبتدأ محذوف والجملة صفة8 لها، كما يجوز في التمييز التالي لكأين في مثل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ} أن يكون منصوبا أو مجرورا بمن كما في الآية أو بغيرها9. أما الشلوبين10 فهو عمر بن محمد المكنى بأبي علي المتوفى سنة 645 للهجرة, تلميذ السهيلي والجزولي. كان إمام عصره في العربية غير مدافع، أقرأ نحو ستين سنة، وبرع في تلاميذه جِلَّة من النحاة، وله تعليق على كتاب سيبويه وشرحان على الجزولية ومصنف في النحو سماه التوطئة. وهو مثل أسلافه تارة يقف مع سيبويه والبصريين وتارة يقف مع النحاة الآخرين من موطنه وغير موطنه. ونراه يحتجّ لرأي سيبويه في أن النكرة أصل والمعرفة فرع قائلا: إنه نظر إلى حال الوجود إذ الأجناس هي الأُوَل ثم الأنواع11، أو بعبارة أخرى: النكرات تكون أولا ثم تكون المعارف. وكان يأخذ برأي الرماني في أن خبر المبتدأ بعد لولا إذا كان

_ 1 الهمع 1/ 164. 2 المغني ص33. 3 المغني ص484. 4 المغني ص56. 5 الهمع 1/ 86. 6 الهمع 1/ 245. 7 المغني ص142. 8 الهمع 1/ 234. 9 الهمع 1/ 155. 10 انظر في ترجمة الشلوبين: المغرب 2/ 129, وإنباه الرواة 2/ 332, والتكملة لابن الأبار ص 658, وابن خلكان 1/ 382, وابن فرحون في الديباج ص185, وشذرات الذهب 5/ 232, وبغية الوعاة ص364. 11 الهمع 1/ 55.

كونا عاما حذف، وإذا كان كونا خاصا وجب ذكره كما جاء في الأثر: "لولا قومكِ حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة"1. وكان يذهب مذهب يونس في أن ما بعد إلا في مثل: "محمد إلا قائم" يجوز فيه النصب مطلقا2. واختار رأي الأعلم الشنتمري في أن إياها في مثل: "فإذا هو إياها" مفعول مطلق على نحو ما مر بنا من توجيه الشنتمري3، كما اختار رأي ابن خروف في أن "ما خلا" الاستثنائية موضعها نصب على الاستثناء لا حال كما ذهب السيرافي4. وله آراء كثيرة انفرد بها، من ذلك أن إذ في مثل: "فبينما العسر إذ دارت مياسير" ظرف زمان وعاملها محذوف يدل عليه الكلام5. وكان يذهب إلى أن عيونا في مثل: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} ليست تمييزا، وإنما هي حال6. وذهب إلى أن "لو" لا تفيد الامتناع بوجه7، وأن مثل ميل وفرسخ ليس ظرفا مبهما لأن المبهم ما ليست له حدود محصورة8. وكان يرى أن الجملة المفسرة محلها محل الجملة التي تفسرها؛ لأنها عطف بيان منها أو بدل9، كما كان يرى أن أصل ليس وما لنفي الحال ما لم يكن الخبر مخصوصا بزمان, فإنهما يكونان حينئذ بحسبه من المضي والحال والاستقبال مثل: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} , {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 10. وابن11 هشام الخضراوي هو أبو عبد الله محمد بن يحيى الخزرجي الأندلسي المتوفى بتونس سنة 646 تلميذ ابن خروف، كان إماما مقدما في العربية عاكفا على تعليمها. وله شرح على إيضاح الفارسي وشرح على أبياته، وصنف فصل المقال في أبنية الأفعال، كما صنف النقض على الممتع لابن عصفور. وله آراء نحوية مختلفة في المغني والهمع يتفق في طائفة منها مع البصريين أو الكوفيين أو سابقيه

_ 1 المغني ص302. 2 الهمع 1/ 123. 3 المغني ص96. 4 المغني ص772. 5 المغني ص88, والهمع 1/ 205. 6 الهمع 1/ 251. 7 المغني ص283، والهمع 1/ 65. 8 الهمع 1/ 199، وانظر في تعليلات له طريفة الأشباه والنظائر 1/ 53، 259. 9 المغني ص450، والهمع 1/ 248. 10 الهمع 1/ 115. 11 انظر في ترجمة الخضراوي: بغية الوعاة ص115.

من الأندلسيين وفي طائفة أخرى يستقل عنهم جميعا، فمن ذلك استظهاره أن تكون "حتى" الناصبة للمضارع مرادفة أحيانا لإلا، أخذا من قول سيبويه في تفسير "والله لا أفعل إلا أن تفعل": المعنى: حتى أن تفعل1. ومن ذلك موافقته الكوفيين في تثنية المركب المزجي مثل بعلبك وجمعه2. وكان يتفق مع الشلوبين في أن "لو" الشرطية لا تدل على امتناع الشرط ولا امتناع الجواب، إنما تدل على التعليق في الماضي كما دلت "إن" على التعليق في المستقبل3. وكان يذهب إلى أن لو التي للتمني في مثل: "لو تأتيني فتحدثني" ليست شرطية، وإنما هي قسم برأسها ولا تحتاج إلى جواب كجواب الشرط، ولكن قد يؤتى لها بجواب منصوب كجواب ليت4. وذهب إلى أن "حتى العاطفة" يتحتم أن يكون معطوفها ظاهرا لا مضمرا كما أن ذلك شرط مجرورها5. وكان يرى أن ما في "لا سيما" زائدة لازمة لا تحذف ألبتة6. وحري بنا الآن أن نخص نحويين كبيرين هما ابن مضاء وابن عصفور بكلمتين أكثر تفصيلا. ابن 7 مضاء: هو أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن مضاء اللخمي القرطبي المتوفى سنة 592 للهجرة، أخذ عن ابن الرماك كتاب سيبويه، وكان حجة في الفقه الظاهري والحديث النبوي، فولاه الموحدون قضاء فاس، ثم ولوه قضاء الجماعة، وكان طبيعيا أن يحمل حملتهم على أصحاب المذاهب الفقهية: المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية لما ملئوا به كتبهم من فروع، بل لقد تحولوا بحملتهم إلى ما يشبه ثورة عنيفة. فإذا هم يأمرون بإحراق كثير من تلك الكتب وحمل الناس في دولتهم بالمغرب والأندلس على المذهب الظاهري الذي يرفض

_ 1 المغني ص134. 2 الهمع 1/ 42. 3 المغني ص283, والهمع 2/ 65. 4 المغني ص295. 5 المغني ص135. 6 الهمع 1/ 234. 7 انظر في ترجمة ابن مضاء: الديباج المذهب لابن فرحون ص47, والتكملة لابن الأبار رقم 234، وبغية الملتمس للضبي ص192، وروضات الجنات ص82, وبغية الوعاة ص139.

القياس وما يتصل به من علل ويكتفي بالظاهر من القرآن والحديث. وقد استلهم ابن مضاء هذه الثورة لا في حملة على الفقه والفقهاء، وإنما في حملة على النحو والنحاة من حوله، إذ وجد مادة العربية تتضخم بتقديرات وتأويلات وتعليلات وأقيسة وشعب وفروع وآراء لا حصر لها ولا غناء حقيقيا في تتبعها أو على الأقل في تتبع الكثير منها، فمضى يهاجمها في ثلاثة كتب، هي: "المشرق في النحو" و"تنزيه القرآن عما لا يليق بالبيان" وكتاب "الرد على النحاة" وهو -وحده- الذي بقي من آثاره. وفيه1 يهاجم نظرية العامل التي عقّدت النحو وأكثرت فيه من التقديرات والمباحث التي لا طائل وراءها في رأيه، والمتكلم في الحقيقة كما لاحظ ابن جني2 هو الذي يعمل الرفع والنصب والجر في الكلام. ويفصّل القول فيما أدخلته هذه النظرية على النحو من عقد التقديرات على نحو ما هو معروف في العوامل المحذوفة مما يبعد الصيغ عن وجهها الطبيعي، ويدفع إلى تمحلات لا داعي لها كتقدير أن الظرف والجار والمجرور إذا وقعا أخبارا أو صلات أو أحوالا يتعلقان بعامل محذوف ولا حذف هنا ولا عامل -في رأيه- ولا عمل. ولا يلبث أن ينكر أن يكون في قام من قولك: "زيد قام" ضمير مستتر فاعل فهي فعل ولا فاعل له، كما لاحظ ذلك من قبله الكسائي في مثل "كلمني وكلمت محمدا", فقد ذهب كما مر بنا في غير هذا الموضع إلى أن فاعل كلمني محذوف ولا فاعل لها، غير أن ابن مضاء يتسع بذلك كما في المثال السابق. ويذهب إلى أن ضمائر التثنية والجمع في مثل: "قاما وقاموا وقمن ويقومون" ليست ضمائر, بل هي علامات تدل على التثنية والجمع، وهو في ذلك يستضيء برأي الأخفش الذي عرضنا له فيما أسلفنا من الحديث. ولكي يوضح فساد نظرية العامل وأنها دفعت النحاة أحيانا إلى رفض بعض أساليب العرب ووضع أساليب مكانها لا يعرفها العرب الجاهليون والإسلاميون, دَرَسَ باب التنازع دراسة مفصلة موضحا ما جلبه فيه النحاة من صيغ معقدة عسرة لم ينطق بها العرب ولا وقعت في أوهامهم، واستضاء في ذلك بما مر بنا عند الجرمي من منعه التنازع في الأفعال التي تتعدى

_ 1 انظر في تحليل هذا الكتاب وصلته بالمذهب الظاهري دراستنا له في مدخله, وهو مطبوع بدار الفكر العربي في القاهرة. 2 انظر الخصائص 1/ 109 وما بعدها.

إلى مفعولين أو ثلاثة، لما في ذلك من تكلف لصيغ لم تأت عن العرب. وبنفس الصورة درس باب الاشتغال مستلهما في بيان أحكام النصب والرفع فيه تحليل الأخفش لبعض صيغه على نحو ما مر بنا في حديثنا عنه. وكذلك درس باب فاء السببية وواو المعية اللتين ينصب بعدهما المضارع مصورا تعسف النحاة في التأويل والتقدير، ومستلهما رأي الجرمي الذي أنكر إضمار أن معهما كما استلهم مذهبه الظاهري الذي يرفض ما وراء ظاهر النصوص من تقديرات وتأويلات. ويتسع في استلهام هذا المذهب، فإذا هو يهاجم -مستضيئا بابن جني في إنكاره علة العلة1- العلل الثواني والثوالث، كالتعليل لعمل إن النصب والرفع، ولماذا لم تنصب الثاني وترفع الأول كالفعل، مما ليس فيه نفع ولا فائدة في ضبط الألسنة، كما يهاجم الأقيسة النحوية وما حُشد منها في جميع أبواب النحو، مما يبعد تصوره ويصعب فهمه ولا يفيد في النطق السليم بالعربية أي فائدة في رأيه. وبالمثل يهاجم القياس ملاحظا تارة ضعفه وتارة فساده، كما يهاجم التمارين غير العملية مما عرضنا له عند سيبويه والخليل كقول النحاة: "ابْنِ من البيع على مثال فُعْل" ذاهبين إلى أنه يصح أن يقال: بوع أو بيع قياسا على مثل موقن في قلب الياء واوا أو على مثل بيض وغيد بقلب الضمة كسرة. وكل ذلك -في رأيه- فضول ينبغي أن يبرَّأ منها النحو ويخلَّص تخليصا، حتى لا يكون فيه عسر ولا صعوبة. ابن 2 عصفور: هو أبو الحسن علي بن مؤمن بن محمد بن علي بن عصفور الحضرمي الإشبيلي المتوفى سنة 663 للهجرة, حامل لواء العربية في زمانه بالأندلس، وهو تلميذ الشلوبين، تصدر لإقراء النحو بعدة بلاد في موطنه. وله في النحو والتصريف مصنفات مختلفة، منها المقرَّب والممتع في التصريف ومختصر المحتسب لابن جني، وكان له ثلاثة شروح على الجمل للزجاجي. وله آراء كثيرة تدور في

_ 1 الخصائص 1/ 173 وما بعدها. 2 انظر في ترجمة ابن عصفور: بغية الوعاة ص357.

كتب النحاة، منها ما يقف فيه مع سيبويه والبصريين, ومنها ما يقف فيه مع الكوفيين أو البغداديين، ومنها ما يستقل به. فمما يقف فيه مع الأولين أنه كان يرى رأي سيبويه في أن لام المستغاث في مثل: "يا لزيد" متعلقة بفعل النداء المحذوف لا بيا كما ذهب إلى ذلك ابن جني ولا زائدة كما ذهب إلى ذلك المبرد1. وكذلك كان يختار رأيه في أن ما بعد لولا مبتدأ لا فاعل بإضمار فعل كما ذهب الكسائي2. وكان يذهب مذهب الأخفش في أن "إن" يجوز فيها الكسر والفتح إذا تلت مذ ومنذ مثل: "ما رحلت إلى هذا البلد مذ أو منذ أن الله خلقني"3, وكذلك في أنه يجوز نصب زيد على الاشتغال بعد إذا الفجائية في مثل: "خرجت فإذا زيد قد كلمه عمرو"4. وكان يرى رأي الزجاج في أن إذا الفجائية ظرف زمان5. واختار رأي الجرمي والمازني في أن إعراب المثنى والجمع المذكر السالم ببقاء الألف والواو رفعا وانقلابهما ياء نصبا وجرا6. واختار رأي ابن السراج في أنه يجوز حذف مفعولي ظن دون قرينة وكذلك أخواتها, مستدلا بمثل قوله عز شأنه: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} أي: يعلم، وقوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} 7. واختار رأي السيرافي أن الحائط في مثل: "رأسَك والحائط" معطوفة على رأسك لا منصوبة بفعل آخر مضمر كما ذهب ابن طاهر وابن خروف8. وكان يرى رأي أبي علي الفارسي في أن الفعل لا ينصب أكثر من حال واحدة لصاحب واحد, فلا يصح عندهما: "نظرت إلى محمد جالسا قارئا"9. واختار رأي الكوفيين في عد "هَبْ" من أخوات ظن10, وفي أنه تجوز الحكاية لكلام المتكلم لا بعد قال فقط, بل أيضا بعد كل فعل يلتقي بها في معناها كناديت ودعوت مثل: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} 11. واختار رأي ابن السيد السالف في

_ 1 المغني ص240 وما بعدها. 2 الأشباه والنظائر للسيوطي 1/ 187، وانظر في تعليلات له مختلفة 1/ 262، 275. 3 الهمع 1/ 138. 4 المغني ص191. 5 المغني ص91. 6 الهمع 1/ 148. 7 الهمع 1/ 152. 8 الهمع 1/ 169. 9 الهمع 1/ 244. 10 الهمع 1/ 145. 11 الهمع 1/ 157.

"ما" وأنها تقع صفة للتعظيم مثل: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ} 1. وله وراء ذلك آراء انفرد بها كثيرة، منها أنَ أَنْ تأتي مفسرة بعد صريح القول مثل: "قلت لهم أَنْ أنصتوا"2 كما تأتي لربط الجواب بالقسم في مثل: أما والله أَنْ لو كنت حرا ... وما بالحر أنت ولا العتيق3 وكان يرى اختيار المصدر نائبا للفاعل إذا اجتمع مع الظرف أو المجرور, مستدلا بمثل قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} 4 كما كان يرى لزوم "من" مع كأين مثل {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ} فلا يصح مثل: "وكأين رجلا أقدم" كما نص على ذلك سيبويه5. وكان يرى أنه لا يصح الاستثناء في العدد فلا يقال: "له علي ألف إلا خمسين" معتلا بأن أسماء العدد نصوص, فلا يجوز أن ترد إلا على ما وُضعت له6. وذهب إلى أن "لكن" في مثل: "ما قام زيد ولكن عمرو" هي العاطفة والواو زائدة لازمة7 كما ذهب إلى أن جملة "ما خلا" ونظائرها في الاستثناء مستأنفة، وليست حالا كما ذهب السيرافي، ولا منصوبة على الاستثناء كما ذهب ابن خروف8. وجوز أن يكون المحذوف في مثل "عمرك" و"أيمن الله" المبتدأ لا الخبر9 كما جوز الفصل بالظرف بين "إذن" ومنصوبها مثل "إذن غدا أكرمَك"10. وكان يرى أن "ماذا" في مثل: "انظر ماذا صنعت" لا يصح أن تكون مفعولا لانظر كما ذهب السيرافي وابن خروف والفارسي لأن الاستفهام له الصدر، إنما "ما" اسم استفهام مبتدأ و"ذا" اسم موصول خبر وجملة صنعت صلة11. ورأى أن {عُيُونًا} في مثل: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} تمييز لا حال12. وكان يذهب إلى أن القسم إذا أجيب بماض متصرف مثبت فإن كان قريبا من الحال جيء باللام وقد معا مثل: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} وإن كان بعيدا جيء باللام

_ 1 الهمع 1/ 92. 2 المغني ص31 وما بعدها. 3 المغني ص32. 4 الهمع 1/ 163. 5 المغني ص203. 6 الهمع 1/ 228. 7 المغني ص324. 8 الهمع 1/ 249. 9 المغني ص684. 10 الهمع 2/ 7. 11 المغني ص333. 12 الهمع 1/ 251.

وحدها1. وكان يذهب إلى أن الكاف والياء المتصلتين بكأن في مثل: "كأني وكأنك بالدنيا لم تكن" زائدتان وكافتان لكأن عن العمل والباء زائدة في المبتدأ2. وقد يبعد في رأيه كقوله بأن الفاء في {فَانْفَجَرَتْ} في قوله جل وعز شأنه: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} هي الفاء الداخلة على ضرب المحذوفة وأن فاء {فَانْفَجَرَتْ} حذفت ليكون على المحذوف دليل ببقاء بعضه. وليس هذا الرأي بشيء كما قال ابن هشام؛ لأن لفظ الفاءين واحد فكيف يحصل الدليل؟ 3. وكان يختار مع كثيرين من موطنه أن "غير" منصوبة في الاستثناء انتصاب التالي لإلا، لا انتصاب الحال كما ذهب إلى ذلك أبو علي الفارسي4.

_ 1 المغني ص188. 2 المغني ص210. 3 المغني ص696 وما بعدها. 4 المغني ص171.

ابن مالك

3- ابن 1 مالك: هو جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني المتوفى بدمشق سنة 672 للهجرة, إمام النحاة واللغويين لعصره, أخذ العربية عن غير عالم في موطنه، واستمع إلى الشلوبين، ورحل إلى المشرق حوالي سنة 630, ولقي ابن الحاجب وأخذ عنه واستقر بحلب، وفيها تتلمذ لابن يعيش، وتصدر بها مدة للإقراء, ثم تركها إلى دمشق، واستوطنها متوليا بها مشيخة المدرسة العادلية حيث المجمع العلمي العربي الآن. وكان أمة لا في الاطلاع على كتب النحاة وآرائهم فقط بل أيضا في اللغة وأشعار العرب التي يُستشهَد بها في النحو، وكذلك

_ 1 انظر في ترجمة ابن مالك: طبقات الشافعية للسبكي 5/ 28، 257، وفوات الوفيات 2/ 227, وطبقات القراء لابن الجزري 2/ 180, والسلوك للمقريزي 1/ 613, ونفح الطيب "طبعة القاهرة 1302هـ" 1/ 427, والنجوم الزاهرة 7/ 243, وشذرات الذهب 5/ 339, وبغية الوعاة ص53, وشرح الخضري على ابن عقيل "الطبعة الثانية بالمطبعة الأزهرية" 1/ 7.

كان أمة في القراءات، ورواية الحديث النبوي. وجعله ذلك يكثر من الاستشهاد بالقرآن في مصنفاته، فإن لم يكن فيه الشاهد عدل إلى الحديث، فإن لم يجد فيه ما يريده من الشواهد عدل إلى أشعار العرب. وهو يعد أول من استكثر من رواية الحديث في النحو، وحقا كان يستشهد به من قبله في مصنفاتهما ابن خروف والسهيلي، بل كان يستشهد به أحيانا أبو علي الفارسي وابن جني وابن بري المصري، ولكنه هو الذي توسع في الاستشهاد به. وكان نظم الشعر سهلا عليه، مما جعله يخلف فيه منظومات مختلفة في النحو والصرف، منها ألفيته المشهورة، وهي في ألف بيت، والكافية الشافية، وهي في ثلاثة آلاف بيت، ومنها المؤصل في نظم المفصل للزمخشري، وتحفة المودود في المقصور والممدود، وخلف مصنفات كثيرة في العربية، منها شرح الكافية، والتسهيل وشرحه، وشرح الجزولية، وإعراب مشكل صحيح البخاري، وعمدة الحافظ وعدة اللافظ وشرحه، وإيجاز التعريف في علم التصريف، والمقدمة الأسدية صنّفها لابنه تقي الدين الأسد، والفوائد في النحو. وقد بلغت مصنفاته نحو ثلاثين مصنفا بين منظوم ومنثور. ولابن مالك اختيارات كثيرة من مذاهب البصريين والكوفيين والبغداديين وسابقيه من الأندلسيين غير آراء اجتهادية ينفرد بها، فمما اختاره من مذاهب البصريين ما ذهب إليه سيبويه من أن نون الرفع مع المضارع المجموع هي المحذوفة في مثل: {تَأْمُرُونِّي} 1 وكذلك ما ذهب إليه سيبويه من أن الفعل عسى في قولك: "عسيت أن تفعل" مضمن معنى قاربت، وبذلك يكون محل "أن تفعل" النصب على المفعولية2. وكان يرى رأي يونس في أن إما الثانية في مثل: "قام إما زيد وإما عمرو" غير عاطفة، إنما العاطف الواو السابقة لها3, وكذلك في أن "الذي" قد تأتي حرفا مصدريا مثل {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} أي: كخوضهم4. وكان يذهب مذهب المبرد في أنه يجوز دخول لام الابتداء على معمول الخبر المقدم عليه إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا مثل: "إن محمدًا لبك واثق" وجوزا

_ 1 المغني ص685, وانظر في اجتماع نون الوقاية مع نون الإناث الهمع 1/ 65. 2 المغني ص25 وما بعدها. 3 المغني ص62. 4 الهمع 1/ 83, والمغني ص602 وما بعدها.

معا: "إن محمدا لبك لواثق" بدخول اللام على الخبر ومعموله جميعا1. وكذلك اختار رأي المبرد في أن إذا الفجائية ظرف مكان2. وأكثر من اختيار آراء الأخفش، من ذلك مسألتان في باب كان وأخواتها، أما أولاهما فدخول الواو على أخبارها إذا كانت جملة تشبيها لها بالجملة الحالية, مستدلين بقول بعض الشعراء: وكانوا أناسا ينفحون فأصبحوا ... وأكثر ما يعطونه النظر الشزر وذهب الجمهور إلى أن "أصبحوا" في البيت تامة والجملة حالية. وأما المسألة الثانية فدخول الواو على خبر ليس وكان المنفية إذا كان جملة وتاليا لإلا, كقول أحد الشعراء: ليس شيء إلا وفيه إذا ما ... قابلته عين البصير اعتبار وقول آخر: ما كان من بشر إلا وميتته ... محتومة لكنِ الآجالُ تختلف وأنكر ذلك الجمهور ذاهبين إلى أن الخبر حذف ضرورة أو أن الواو زائدة3. وكان يأخذ برأي الأخفش في أن "من" الجارة تأتي زائدة مطلقا، وخرج عليها قوله جل شأنه: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} 4, وأخذ برأيه في أن اسم عسى أخت كاد قد يأتي بصورة المنصوب المتصل مثل: عساني وعساك وعساه وهو في محل رفع نيابة عن المرفوع الذي حل محله5، وأيضا أخذ برأيه في أن الحال لا تجيء من المضاف إليه إلا إذا كان جزءا من المضاف أو مثل جزئه على شاكلة قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} , وقوله: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} لأنه لو استُغني عن المضاف وقيل: ونزعنا ما فيهم إخوانا, واتبع إبراهيم حنيفا لاطرد السياق والكلام6. ومر بنا في غير هذا الموضع أن الكوفيين تابعوا الأخفش في مسائل كثيرة، ونرى ابن مالك يتابعهم في الأخذ

_ 1 الهمع 1/ 139. 2 المغني ص92. 3 الهمع 1/ 116. 4 المغني ص361. 5 الهمع 1/ 132. 6 الهمع 1/ 240.

برأيه في غير مسألة، من ذلك حذف الموصول الاسمي، كقول حسان: أَمَنْ يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء على تقدير: ومن يمدحه1. ومن ذلك جواز منع الاسم من الصرف في ضرورة الشعر2, وجواز إقامة غير المفعول به من الظرف والجار والمجرور والمصدر نائب فاعل مع وجوده كما جاء في قراءة أبي جعفر: "ليُجزَى قومًا بما كانوا يكسبون"3, ومجيء إذ الظرفية مفعولا به مثل: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا} وبدلا منه مثل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} والجمهور لا يثبتون ذلك4، ومجيء أو العاطفة بمعنى الواو أي: لمطلق الجمع مثل: "لنفسي تُقَاها أو عليها فُُجُورها" أي: وعليها، ومثل قول جرير في عبد الملك بن مروان: جاء الخلافة أو كانت له قدرا وقال ابن مالك: من أحسن شواهده الحديث: "اسكنْ حراءُ، فما عليك إلا نبي أو صدِّيق أو شهيد" 5. وفي كثير من المسائل التي ينفرد بها الكوفيون نراه يختار رأيهم، من ذلك ما ذهبوا إليه من أن مذ ومنذ، إذا وليهما اسم مرفوع مثل: "ما رأيته مذ أو منذ شهران"، ظرفان مضافان لجملة حذف فعلها وبقي فاعلها والأصل: مذ كان شهران، وكان المبرد وابن السراج والفارسي يذهبون إلى أنهما مبتدآن وما بعدهما خبر، وذهب الأخفش والزجاج والزجاجي إلى أنهما ظرفان مخبر بهما عما بعدهما6. ومن ذلك اختياره رأيهم في جواز أن يوضع المفرد والمثنى والجمع موضع الآخر مثل قول امرئ القيس: "بها العينان تنهلّ" أي: تنهلان، وقولهم: "لبيك" أي: تلبية مكررة, وقولهم: "شابت مفارقه" وليس للشخص سوى مفرق واحد، ومثل: عظيم المناكب وغليظ الحواجب والوجنات7. واختار رأيهم في أنه إذا وقع بعد الجار والمجرور مرفوع وتقدمهما نفى أو استفهام أو موصوف أو موصول أو

_ 1 المغني ص692. 2 الهمع 1/ 37. 3 الهمع 1/ 162. 4 الهمع 1/ 204. 5 الهمع 2/ 134. 6 المغني ص373. 7 الهمع 1/ 50.

صاحب خبر أو حال كان فاعلا للجار والمجرور لنيابتهما عن الفعل المقدر باستقرار في مثل: "ما في الدار أحد"1. ومما أخذ برأيهم فيه دخول الفاء على الخبر إذا كان أمرا مثل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وأوّل ذلك جمهور2 البصريين مع حذف الخبر، والتقدير: مما يتلى عليكم أي حكم ذلك. واختار رأيهم في أن إياه في مثل: رأيته إياه توكيد لا بدل3، وأن "هب" من أخوات ظن4, وأن عسى فعل ناقص في مثل: "عسى محمد أن يقوم" وجملة أن يقوم بدل اشتمال سد مسد الجزأين كما في: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} 5، وأنه يجوز بناء الظروف المبهمة مثل حين وزمن ومدة ووقت إذا أضيفت إلى الجمل الاسمية لمجيء ذلك كثيرا في الشعر مثل: كريم على حين الكرام قليل6 كما يجوز نصب المضارع مع فاء السببية في جواب الرجاء بدليل ورود ذلك في القرآن الكريم مثل: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} , ومثل: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} في قراءة من نصب فيهما7. وكان يتابع الكسائي ومن أخذ برأيه من البصريين أمثال المازني والمبرد في جواز تقديم التمييز على عامله لوروده في قول بعض الشعراء: وما كاد نفسًا بالفراق تطيب غير أنه اشترط أن يكون الفعل متصرفا, فلا يقال في التعجب: "ما رجلا أحسن زيدا"8. واستضاء برأيه في أن الفاعل محذوف مع الفعل الأول في صورة التنازع: كلمني وكلمت زيدا، فذهب إلى أن المرفوع محذوف مع أفعال الاستثناء "ليس ولا يكون وما خلا" وهو كلمة بعض مضافة إلى ضمير من تقدم في مثل: "قام القوم ليس زيدا"9. وكان يذهب مذهب الفراء في أن "دام" أخت كان لا تتصرف10, وأن لو مصدرية في مثل: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} ومثل: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} 11. واختار آراء البغداديين في كثير من المسائل، من ذلك رأي الزجاجي في أن

_ 1 المغني ص494. 2 الهمع 1/ 109. 3 المغني ص508. 4 الهمع 1/ 149. 5 المغني ص163. 6 الهمع 1/ 218. 7 الهمع 2/ 12. 8 المغني ص515، والهمع 1/ 252. 9 المغني ص654. 10 الهمع 1/ 114. 11 المغني ص294.

"سوى" مثل غير في المعنى والتصرف فتكون فاعلا في مثل: جاءني سواك، ومفعولا في مثل: رأيت سواك, وبدلا أو منصوبة على الاستثناء في مثل: ما جاءني أحد سواك، وكان سيبويه والجمهور يذهبون إلى أنها ظرف مكان ملازم للنصب1. وذهب مذهب الفارسي في أن "غير الاستثنائية" في مثل: قام القوم غير زيد منصوبة على الحالية2، وأن ما تأتي زمانية كما في قوله عز شأنه: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أي: استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم3، وأن من معاني الباء الجارة التبعيض مثل: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} 4. وكان يأخذ برأي ابن جني في أنه لا سبب لبناء الاسم سوى شبهه بالحرف5، وأن "إلا" قد تأتي زائدة، وحمل عليه قول أحد الشعراء: أرى الدهر إلا مَنْجَنُونا بأهله ... وما صاحب الحاجات إلا معذبا6 واختار رأيه في أن الجملة قد تبدل من المفرد، وخرج عليه قوله تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ ... الآية} قائلا: {إِنَّ رَبَّكَ} وما بعدها بدل من {مَا} وصلتها7. وكان أحيانا يأخذ برأي أسلافه من الأندلسيين، من ذلك أخذه برأي ابن السيد في منع أن يكون عطف البيان تابعا لمضمر8، وبرأي ابن الطراوة في أن هذا العطف لا يكون بلفظ الأول، وتخريج مثل: "وترى كل أمة جَاثِيَةً كُلَّ أمة تُدْعَى إلى كتابها" على البدلية9. وكان يرى رأي الشلوبين ومن سبقه مثل الرماني في أن خبر المبتدأ بعد لولا إذا كان كونا عاما كالوجود والحصول وجب حذفه مثل: "لولا علي لسافرت", أما إذا كان كونا مقيدا مثل السفر ونحوه وجب ذكره كقولك: "لولا علي مسافر لزرتك"10. وكان يذهب مذهب ابن عصفور في

_ 1 المغني ص151. 2 المغني ص171. 3 المغني ص335. 4 المغني ص111. 5 الهمع 1/ 16. 6 المغني ص76، والمنجنون: الدولاب الذي يستقى عليه. 7 الهمع 2/ 128. 8 المغني ص636. 9 المغني ص509. 10 المغني ص302.

أن {عُيُونًا} في مثل: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} تمييز لا حال كما ذهب الشلوبين1، وفي أن {كَأَيِّنْ} كما تأتي للتكثير في مثل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} تأتي للاستفهام كما جاء في قول أبيّ بن كعب لعبد الله بن مسعود: "كأيِّنْ تقرأ سورة الأحزاب آية؟ فقال: ثلاثا وسبعين"2. ولابن مالك وراء هذه الاختيارات من مذاهب النحاة السابقين آراء كثيرة ينفرد بها، من ذلك أنه كان يرى أن علامات الإعراب جزء من ماهية الكلمات المعربة، بينما كان يرى الجمهور أنها زائدة عليها3، وكان يرى أن "ذان وتان واللذان واللتان" مثناة حقيقة، وأنها لذلك معربة لا مبنية4. وذهب إلى أن قراءة {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} إنما هي على لغة بلحارث بن كعب في إجراء المثنى بالألف دائما5. وجوز تثنية اسم الجمع والجمع المكسر مستدلا بمثل: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} ، {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} 6 كما جوز حذف عائد الموصول قياسا على حذفه في الخبر، وجعل منه {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} أي: به7، وجوز الإخبار عن اسم عين بظرف الزمان بشرط الفائدة مثل: الليلة الهلالَ والبلح شهرين8. وكان يذهب إلى أن "أم" المنقطعة تعطف المفردات مثل "بل" مستدلا بقول بعض العرب: "إن هناك لإبلا أم شاء"9، وأن "حرى" في مثل: "حرى أن يفعل" من أخوات كاد10، وأن "أو" العاطفة تأتي للتقسيم مثل "الكلمة: اسم أو فعل أو حرف"11, وأن "من" الداخلة على "عن" في قولك: "قعدت من عن يمينه" زائدة12، وأن الفاء تدخل في جواب لما مثل: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} وذهب الجمهور في الآية إلى أن الجواب محذوف, أي: انقسموا قسمين فمنهم مقتصد13. وكان يرى أن "إذ" قد تقع للاستقبال مستدلا بقوله جل

_ 1 الهمع 1/ 251. 2 المغني ص203. 3 الهمع 1/ 15. 4 الهمع 1/ 42. 5 المغني ص37. 6 الهمع 1/ 42. 7 الهمع 1/ 90. 8 الهمع 1/ 99. 9 المغني ص46، والهمع 2/ 133. 10 الهمع 1/ 128. 11 المغني ص68، 396. 12 المغني ص160. 13 المغني ص180.

شأنه: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} 1, وأن إلى قد تأتي بمعنى في مثل: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 2 , وأن من معاني "عن" الاستعانة مثل: "رميت عن القوس"3، وأن زيدا في قولك: "بحسبك زيد" مبتدأ مؤخر4، وأن على تأتي بمعنى مع مثل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} 5, وأن الكاف تأتي للتعليل مثل: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} 6, وأن ذا زائدة في مثل: "ماذا صنعت؟ "7, وأن مثل: "بادئ بدْء" و"أيادي سبأ" حالات مبنية8. وكان يمنع إبدال المضمر من الظاهر ويعرب "إياه" في مثل: "رأيت زيدا إياه" توكيدا لا بدلا9. وذهب إلى أن الجملة الحالية قد تخلو من الواو والضمير معا مثل: "رأيت القمح القدح بدرهمين" أي: منه10. وكان يرى أن "مثل" إذا كانت مضافة إلى معرفة وحذفت جاز في المعرفة أن تكون صفة نحو: "مررت برجل زهير", وحالا نحو: "هذا زيد زهيرا"11, وكان يذهب إلى أن لكن في مثل: "ما قام زيد ولكن عمرو" غير عاطفة، والواو عاطفة لجملة حُذف بعضها على جملة صُرِّح بجميعها، والتقدير: ولكن قام عمرو12. وكان الجمهور يذهب في مثل قول شاعر: وزججن الحواجب والعيونا وقول آخر: علفتها تبنا وماء باردا إلى أنه من عطف الجمل بإضمار فعل مناسب مثل: كحلن في الشطر الأول وسقيتها في الشطر الثاني، وذهب ابن مالك إلى أنه من عطف المفردات لما يجمع بين العامل المذكور والمحذوف من معنى مشترك هو التحسين في الأول والطعام في الثاني13. وكان الجمهور يرى أن رفع المضارع بعد لم الجازمة في قول بعض الشعراء: لولا فوارس من نعم وأسرتهم ... يوم الصليفاء لم يوفون بالجار14

_ 1 الهمع 1/ 204. 2 المغني ص79. 3 المغني ص159. 4 المغني ص117. 5 الهمع 2/ 28. 6 المغني ص344. 7 المغني ص334. 8 الهمع 1/ 249. 9 الهمع 2/ 128. 10 الهمع 1/ 226. 11 المغني ص97. 12 المغني ص324, والهمع 2/ 37. 13 الهمع 2/ 130. 14 نعم: اسم قبيلة, يوم الصليفاء: أحد أيام العرب.

ضرورة، وذهب ابن مالك إلى أنه لغة1، وذكر أن المضارع قد يجزم بعد لعل عند سقوط فاء السببية، مستدلا بقول أحد الشعراء: لعل التفاتا منك نحوي مقدر ... يمل بك من بعد القساوة للرحم2 وهو دائما على هذا النحو يذكر الشاذ ولا يقيس عليه كما يصنع الكوفيون, ولا يعمد إلى تأويله كما يصنع البصريون كثيرا. وكان رائده دائما السماع, فهو لا يدلي بحكم دون سماع يسنده. وكان عقله دقيقا ولم يستغله في تمثل آراء السالفين من النحاة واستنباط الآراء الجديدة فحسب، بل استغله أيضا في تحرير مباحث النحو وأبوابه ومصطلحاته وتذليل مشاكله وصعابه.

_ 1 المغني ص307. 2 المغني ص167. والرحم: الرحمة.

أندلسيون متأخرون

4- أندلسيون متأخرون: ظلت الأندلس تتابع نشاطها النحوي في القرن السابع الهجري، على الرغم من الخطوب التي تتابعت عليها، إذ ما زال الإسبانيون المغيرون من الشمال يقتطعون منها مدينة إثر مدينة، حتى لم يعد للعرب إلا رُقْعة ضيقة هي إمارة غرناطة التي ظلت صامدة لهم نحو قرنين ونصف. وظل يضطرم بها -وخاصة في الحقب الأولى- غير قليل من النشاط النحوي، ثم لم تلبث أن توقفت آلته الكبيرة بسبب هجرة النحاة إلى المغرب والمشرق, واضطراب شئون هذه الإمارة الصغيرة. ويلقانا في القرن السابع الهجري كثيرون من تلامذة الشلوبين، ونكتفي بالحديث عن أهمهم، وهم: ابن الحاج وابن الضائع وابن أبي الربيع، أما ابن الحاج1 فهو أبو العباس أحمد بن محمد الأزدي المتوفى سنة 651 وقد اشتهر بشروحه على كتاب سيبويه وإيضاح الفارسي وكتاب سر الصناعة لابن جني، وإيراداته على كتاب المقرَّب لابن عصفور, ومنها نقده عليه ما ذكره من مجيء "لو" للتعليق

_ 1 انظر في ترجمته: بغية الوعاة ص156.

في المستقبل، قال: ولهذا لا تقول: "لو يقوم زيد فعمرو منطلق" كما تقول ذلك مع إن الشرطية1. وكان يحتج لرأي المبرد في أن "كان" حرف وليست فعلا قائلا: إنها لا تدل على حَدَث بل دخلت على اسمها وخبرها لتفيد معنى المضي في الخبر2. وكان يذهب إلى أن اسم الإشارة لا ينوب عن الرابط لجملته الخبرية إلا إذا كان المبتدأ اسما موصولا أو موصوفا والإشارة للبعيد، مثل {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} 3. وكان لا يشترط تقدم الفاعل على المفعول في حالة اللبس مثل: "ضرب موسى عيسى" ذاهبا إلى أن الذي التزم فاعلية الأول إنما هو بعض المتأخرين غير ملتفتين إلى أن الإلباس واقع في العربية بدليل أسماء الأجناس والمشتركات4. وابن5 الضائع هو أبو الحسن علي بن محمد الكتامي الأبدي المتوفى سنة 680، وفيه يقول السيوطي: "له في مشكلات كتاب سيبويه عجائب.. أملى على إيضاح الفارسي، ورد اعتراضات ابن الطراوة عليه واعتراضاته على سيبويه ... ورد على ابن عصفور معظم اختياراته. وله شرح الجمل وشرح كتاب سيبويه جمع فيه بين شرحي السيرافي وابن خروف باختصار". ونراه يرد على ابن عصفور ما ذهب إليه من أن لام المستغاث لأجله في مثل: "يا لزيد لعمرو" متعلقة بفعل محذوف تقديره: أدعوك لعمرو حتى لا تتعلق بالفعل النائبة عنه يا؛ لأنه مسلط على المستغاث باللام، والعامل الواحد في رأيه لا يصل بحرف واحد مرتين. وأجاب ابن الضائع بأنهما مختلفتان معنى، ولذلك يصح اتصاله بهما، كما في نحو: "وهبت لك دينارا لترضى"6. ورد على ابن عصفور أيضا في ذهابه إلى أن تثنية الضمير "بهما" في قوله عز شأنه: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} شاذة، قائلا: إن {أَوْ} في الآية للتنويع, وحكمها حكم الواو في وجوب المطابقة7.

_ 1 المغني ص290. 2 همع 1/ 10. 3 المغني ص553. 4 المغني ص662 وما بعدها. 5 راجع في ترجمته: بغية الوعاة ص354, وقارن بصفحة 426. 6 المغني ص242. 7 المغني ص435.

ومما وافقه فيه أن لام المستغاث في مثل: "يا لزيد" متعلقة بفعل النداء المحذوف, مثلها مثل لام المستغاث لأجله في رأيه1. وكان يوافق السهيلي في وجوب التعاند في معطوفي لا مثل: جاءني رجل لا امرأة2. ووافق ابن هشام الخضراوي في أن لو التي للتمني في مثل: "لو تأتيني فتحدثني" لا تحتاج إلى جواب كجواب لو الشرطية3. واختار رأي أستاذه الشلوبين في أن إلا في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} بمعنى غير, التي يُرَاد بها البدل والعِوَض4. وابن5 أبي الربيع هو عبيد الله بن أحمد الأموي الإشبيلي المتوفى سنة 688, هاجر من إشبيلية حين استولى عليها الإسبان إلى سبتة، وأقرأ بها النحو دهره، وله شرح على سيبويه وشرح على إيضاح الفارسي وشرح على الجمل للزجاجي في عشر مجلدات. وكان يذهب إلى أن "ليت" إذا اقترنت بما جاز دخولها على الأفعال، فيقال: "ليتما قام زيد"6, ورتب على ذلك أن مثل: "ليتما زيدا أكلمه" "زيدا" فيه منصوب على الاشتغال، والجمهور يجعل زيدا اسما لليت؛ لأن ما لا تلغي عملها7. وذهب إلى أن {عُيُونًا} في: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} بدل من الأرض8، كما ذهب إلى أن "لكن" مقترنة بالواو تعطف الجمل بعضها على بعض مثل: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} 9. وممن يلقانا من تلاميذ ابن عصفور الصفار10 وهو قاسم بن علي، وله شرح على سيبويه يرد فيه كثيرا على الشلوبين، وكان يذهب إلى جواز عطف الخبر على الإنشاء والعكس مستدلا بمثل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} عطفا على قوله عز شأنه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ

_ 1 المغني ص241. 2 الهمع 2/ 137. 3 المغني ص295، والهمع 2/ 66. 4 المغني ص74, وانظر بعض ضوابطه وتعليلاته في الأشباه والنظائر للسيوطي 2/ 80، 242. 5 انظره في البغية ص319. 6 المغني ص316. 7 المغني ص646. 8 الهمع 1/ 251. 9 المغني ص324, وانظر له بعض اختيارات وآراء فرعية في الهمع 1/ 224، 225، 228، 234, وكذلك في الأشباه والنظائر 1/ 206، 247، 262. 10 راجع ترجمته في: بغية الوعاة ص378.

الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 1. ونلتقي في نهاية القرن السابع الهجري بأبي جعفر2 أحمد بن إبراهيم بن الزبير المتوفى سنة 710, يقول السيوطي: "وبه أبقى الله ما بأيدي الطلبة في الأندلس من العربية" وله تصنيف على كتاب سيبويه. وبه تخرج أكبر نحوي ظهر في الأندلس بعد ابن مالك، وهو أبو حيان, وبه نختم حديثنا عن نشاط النحو في هذا الفردوس العربي المفقود. أبو حيان 3: هو أثير الدين محمد بن يوسف الغرناطي الأندلسي المتوفى 745 تلميذ أبي جعفر بن الزبير وابن الضائع في النحو. وأكب بجانب ذلك على التفسير والحديث والقراءات والتاريخ، حتى أتقن ذلك كله وبرع فيه. وقد رحل عن موطنه شابا، متنقلا في شمال إفريقية، إلى أن ألقى عصا ترحاله بالقاهرة سنة 679 ولزم بهاء الدين بن النحاس تلميذ ابن مالك وأخذ عنه كتبه. وتنقل في بلاد عدة في الشام والسودان والحجاز، وعُهد إليه بتدريس النحو في جامع الحاكم بالقاهرة سنة 704 كما عهد إليه بتدريس التفسير في قبة السلطان المنصور سنة 710 وتولى منصب الإقراء بجامع الأقمر الفاطمي. وكان يقول: خير الكتب النحوية المتقدمة كتاب سيبويه, وأحسن ما وضعه المتأخرون كتاب التسهيل لابن مالك وكتاب الممتع في التصريف لابن عصفور. وقد تخرج به جيل من النحاة المصريين أمثال ابن عقيل وابن أم قاسم، وكان يعنى في دروسه بكتب النحاة الثلاثة السالفين، ويتضح ذلك مما أملاه عليها من شروح وفي مقدمتها كتاب سيبويه، وكتاب الممتع في التصريف، وكتاب المقرب في النحو لابن عصفور. وله ثلاثة

_ 1 المغني ص535، وانظر له بعض توجيهات وآراء في ص59، 538، 600 وفي الهمع 1/ 40، 2/ 133. 2 انظر ترجمته في: بغية الوعاة ص126، وراجع تعليلا له في الأشباه والنظائر 1/ 268. 3 انظر في ترجمة أبي حيان: بغية الوعاة ص121, وطبقات الشافعية للسبكي 6/ 31, وطبقات القراء 2/ 285, والدرر الكامنة لابن حجر 4/ 302، ونكت الهميان ص280, وفوات الوفيات 2/ 352, وشذرات الذهب 6/ 145, ونفح الطيب "طبعة دوزي" 1/ 823, والنجوم الزاهرة 10/ 112, والبدر الطالع للشوكاني 2/ 289، وتاريخ الفكر الأندلسي ترجمة حسين مؤنس ص187.

شروح على التسهيل لابن مالك مطولة ومختصرة، ومنهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك. وله وراء ذلك مصنفات في النحو مستقلة, أهمها: الارتشاف وهو في ستة مجلدات، ومختصره وهو في مجلدين، ويقول السيوطي في البغية: "لم يؤلَّف في العربية أعظم من هذين الكتابين ولا أجمع ولا أحصى للخلاف, وعليهما اعتمدت في كتابي جمع الجوامع". وكان ظاهري المذهب، وانتقل بأخرة إلى مذهب الشافعي، وظل المذهب الظاهري عالقا بنفسه حتى ليروى عنه أنه كان يقول: "محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من عَلِقَ بذهنه". وقد وصل تعلقه بمذهب الظاهر بينه وبين ابن مضاء، وحقا لم يدعُ إلى إلغاء نظرية العامل في النحو، ولكنه دعا مرارا وتكرارا إلى إلغاء ما يتعلق به النحاة من كثرة التعليل للظواهر اللغوية والنحوية وجلب التمارين غير العملية، ونقل السيوطي في الهمع تعرضه لذلك في غير موضع، وأول ما يلقانا في هذا الجانب تعليقه على خلاف البصريين والكوفيين في الإعراب, وهل هو أصل في الأسماء فرع في الأفعال, أو لا؟ فقد قال: "هذا من الخلاف الذي ليس فيه كبير منفعة"1. وعلق على تعليلهم لامتناع الجر من الفعل والجزم من الاسم ولحوق تاء التأنيث الساكنة للماضي دون أخويه بأن تعليل أمثال ذلك من الوضعيات ينبغي أن يمنع لأنه يؤدي إلى تسلسل السؤال، يقول: إنما يسأل عما كان يجب قياسا فامتنع2. ويعرض لاختلافهم في معنى الصرف ويقول: إنه "خلاف لا طائل تحته"3 كما يعرض لتعليلهم ضم التاء في مثل: "كلمت" للمتكلم وفتحها للمخاطب وكسرها للمخاطبة، يقول: "هذه التعاليل لا يحتاج إليها؛ لأنها تعليل وضعيات، والوضعيات لا تعلل"4. ويقف بإزاء تعليلاتهم لتسكين الماضي وعدم فتحه حين يسند إلى التاء والنون ونا، قائلا: "الأولى الإضراب عن هذه التعاليل"5 كما يقف عند اختلافهم في همزة أل التعريفية وهل هي همزة قطع أو وصل قائلا: "وهذا الخلاف

_ 1 الهمع 1/ 15. 2 الهمع 1/ 21. 3 الهمع 1/ 24. 4 الهمع 1/ 56. 5 الهمع 1/ 57.

لا يجدي شيئا ولا ينبغي أن يُتشاغَل به"1. ويعقب على وجوه الخلاف السبعة في رافع المضارع بقوله: "لا فائدة لهذا الخلاف؛ لأنه لا ينشأ عنه حكم تطبيقي" كما يعقب على اختلاف البصريين والكوفيين في أيهما -الفعل أو المصدر- أصل الاشتقاق قائلا: "هذا الخلاف لا يجدي كبير منفعة"2. ومرت بنا دعوة ابن مضاء إلى إلغاء القياس مستضيئا بإلغاء المذهب الظاهري له، وقد مضى أبو حيان في إثره يقدم السماع على القياس وخاصة إذا تعارضا، على نحو ما يتضح في بعض القراءات المخالفة للقياس من مثل العطف على الضمير المتصل المجرور بدون إعادة الخافض، والفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول3. وكان يعارض الكوفيين ومن يتابعهم أحيانا مثل ابن مالك في القياس على الشاذ والنادر قائلا: إن ذلك يفضي إلى التباس الدلالات وصور التعبير4. ونقل عنه السيوطي تقيده بالسماع وعدم القياس عليه في مواضع مختلفة من الهمع5. ومع اهتمامه بالسماع كان يخالف ابن مالك في الاعتماد على الحديث في الاستشهاد؛ لأنه روي بالمعنى، ورواه أعاجم كثيرون يفشو اللحن على ألسنتهم6. ودائما نراه يتعبَّد لسيبويه وجمهور البصريين، مما جعله يقف في صف مقابل لابن مالك وما انتهجه لنفسه من متابعة الكوفيين كثيرا في آرائهم على نحو ما مر بنا آنفا. وليس معنى ذلك أنه رفض جميع آراء الكوفيين، فقد كان يختار من حين إلى حين بعض آرائهم، من ذلك ما ذهبوا إليه، وتابعهم فيه ابن جني، من أن عامل الرفع في المبتدأ الخبر وعامل الرفع في الخبر المبتدأ فهما مترافعان7، وكذلك

_ 1 الهمع 1/ 79. 2 الهمع 1/ 186، وانظر 2/ 61. 3 انظر البحر المحيط 8/ 42، 4/ 229، وراجع 2/ 499، وكان يقول: ما قرئ به في السبعة لا يرد, ولا يوصف بضعف ولا بقلة "همع 2/ 55" وقال في قراءة الحسن البصري "وما تنزلت به الشياطون": إن ذلك تشبيه لزيادتي التكسير في الشياطين بزيادتي الجمع السالم, فنقلت من الإعراب بالحركات إلى الإعراب بالحروف على جهة التوهم, كما صنعوا في همز مصائب ومعائش. انظر الهمع 1/ 47. 4 الهمع 1/ 50. 5 انظر الهمع 1/ 47، 51، 87، 143، 2/ 8، 17، 49، 76، 79، 102، 118. 6 كان يتابع في ذلك أستاذه ابن الضائع، انظر الهمع 1/ 105. 7 الهمع 1/ 94 وما بعدها.

ما ذهبوا إليه مع الأخفش من أن الفعل الماضي يقع حالا بدون "قد" بدون تقدير لها كما جاء في الذكر الحكيم: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} 1. وجعله تفسيره للقرآن الكريم في كتابه "المحيط" يتعقب الزمخشري كثيرا، من ذلك قراءة الآية: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} بتنوين {كَلَّا} على أنها مصدر من الكل بمعنى الإعياء أو الثقل, أي: "حملوا كَلًّا", وجوز الزمخشري أن تكون {كَلَّا} في القراءة هي نفسها حرف الردع ونُون كما نونت "سلاسلا" في آية: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} ورد ذلك أبو حيان قائلا: إن ذلك إنما صح في "سلاسلا"؛ لأنه اسم أصله التنوين فرُجع به إلى أصله للتناسب، أو على لغة من يصرف ما لا ينصرف2. ومن ذلك توجيه الزمخشري لقراءة المضارع بالغيبة في قوله تعالى: {وَلَا يحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} والقراءة المشهورة: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} فقد جعل التقدير في القراءة الأولى: ولا يحسبنهم، والذين فاعل. وتصدى له أبو حيان قائلا: إن ذلك يستلزم عود الضمير على المؤخر، وكأنه فاته أن هذا المؤخر مقدم في الرتبة3. وكان يأخذ برأي الأعلم الشنتمري في أن الإعراب معنوي لا لفظي4، ونصر ابن الطراوة في أن بناء "سحر" لتضمنها معنى حرف التعريف مثل أمس5، وكذلك نصر السهيلي في أنه لا بد من تعاند معطوفي لا مثل: "جاءني رجل لا امرأة"6. وكان ابن الباذش يجوز في مثل: "الهندان هما يفعلان" تذكير المضارع، فيقال: "يفعلان" حملا على لفظ هما، ورد أبو حيان رأيه في جواز تذكير المضارع؛ لأن الأصل رد الأشياء إلى أصولها, وأيضا لأن السماع بالتاء في مثل قول عمر بن أبي ربيعة: "لعلهما أن تبغيا لك حاجة"7. وكان ابن عصفور وتلميذه ابن الضائع يذهبان إلى أن "كلما" في مثل: "كلما استدعيتك فإن زرتني فعبدي حر" مرفوعة بالابتداء وأن جملتي الشرط والجواب خبر، ودفع قولهما أبو حيان بأنه لم تأت "كلما" في الذكر الحكيم

_ 1 الهمع 1/ 247. 2 المغني ص208. 3 المغني ص546, وانظر في ردود أخرى على الزمخشري المغني ص39، 446. 4 الهمع 1/ 14. 5 الهمع 1/ 28. 6 الهمع 2/ 137. 7 الهمع 2/ 171.

إلا منصوبة مثل: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} وكذلك هي في الأشعار1. وأكثر من كان يتصدى له أبو حيان ويخالفه في آرائه ابنُ مالك، فمن ذلك أنه كان يضعِّف رأيه في أن الإعراب جزء من ماهية الكلمة, ذاهبا مع الجمهور إلى أنه زائد على ماهيتها2. وذهب ابن مالك إلى أن الفعل الماضي قد يدل على الاستقبال في مواضع، هي: بعد همزة التسوية مثل: "سواء علي أسافرت أم لم تسافر" وبعد أداة التحضيض مثل: "هلا ذاكرت"، وبعد كلما مثل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ} وبعد حيث مثل: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} , وبعد الصلة مثل: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} , وإذا وقع صفة لنكرة عامة كحديث: "نَضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها, فأداها كما سمعها" أي: يسمع. وأنكر أبو حيان هذه الدلالة للماضي، وقال: الذي نذهب إليه فيها جميعا الحمل على المضي لإبقاء اللفظ على موضعه، أما معنى الاستقبال فقد جاء من خارج, أو بعبارة أخرى: من قرينة خارجية3. وكان ابن مالك يذهب إلى أن الباء قد تزاد مع الحال, مستدلا بقول أحد الشعراء: فما رجعت بخائبة ركاب ... حكيم بن المسيب منتهاها وقول آخر: كائنْ دعيت إلى بأساء داهمة ... فما انبعثت بمزءُود ولا وَكِل وخالفه أبو حيان، وخرّج البيتين على أن التقدير: بحاجة خائبة وبشخص مزءود أي: مذعور، ويريد بالمزءود نفسه على حد قولهم: "رأيت به أسدا"4. وكان ان مالك يجوز حذف الضمير العائد في الصلة إذا تعين الحرف, قياسا على الجملة الخبرية كقولك: "الذي سرت يوم الجمعة" أي: فيه. ورد ذلك أبو حيان قائلا: إنه لا ينبغي أن تقاس الصلة على جملة الخبر, ولا أن يُذهب إلى ذلك إلا بسماع ثابت عن العرب5. وكان ابن مالك يذهب إلى أن حذف نون يكون

_ 1 المغني ص222 وما بعدها. 2 الهمع 1/ 15. 3 الهمع 1/ 9. 4 المغني ص117 وما بعدها. 5 الهمع 1/ 90.

المجزومة في قولهم: "لم يَكُ" للتخفيف، ورد أبو حيان هذا التعليل ذاهبا إلى أن العلة هي كثرة الاستعمال مع شبه النون بحروف العلة1. وذهب ابن مالك إلى أن "كل" قد تأتي توكيدا مع إضافتها إلى اسم ظاهر حال محل الضمير مثل: كم قد ذكرتكِ لو أجزى بذكركم ... يا أشبه الناس كل الناس بالقمر وخالفه أبو حيان ذاهبا إلى أن "كل الناس" في البيت نعت لا توكيد2. ومر بنا أن ابن مالك كان يجوز -تبعا للأخفش- مجيء الحال مع المضاف إليه بشرط أن يكون المضاف جزءا منه أو مثل جزئه نحو: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} , ورد ذلك أبو حيان وقال: إن {إِخْوَانًا} منصوبة على المدح و {حَنِيفًا} حال من {مِلَّةَ} أو من الضمير في اتبع, محتجا بأن العامل في الحال هو العامل في صاحبها وعامل المضاف إليه اللام المقدرة أو الإضافة, وكلاهما لا يصلح أن يعمل في الحال3. ومر بنا أيضا أن ابن مالك كان يجوز -تبعا لابن جني والزمخشري- أن تبدل الجملة من المفرد كقول بعض الشعراء: إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيانِ فكيف يلتقيان في رأيهم بدل من حاجة وأخرى، كأن الشاعر قال: أشكو هاتين الحاجتين تعذر التقائهما، وقال ابن مالك: ومنه: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ ... } فإن وما بعدها بدل من {مَا} وصلتها. ورد ذلك أبو حيان قائلا: إن البدلين جميعا استئناف4. وله وراء ما قدمنا اجتهادات وتخريجات وآراء مختلفة ينفرد بها، من ذلك أنه كان يذهب إلى أن "أن المصدرية" لا توصل بالأمر، وأن "أن" الموصولة به في بعض العبارات مثل: "كتبت إليه أن قُمْ" تفسيرية، أما ما حكاه سيبويه من قولهم: "كتبت إليه بأن قم" فالباء فيه زائدة5. وكان يذهب إلى أن اللام في مثل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} هي لام الابتداء مفيدة لمعنى التوكيد, ويجوز أن يكون قبلها قسم مقدر أو لا يكون6. وكان ينكر مجيء "ما" نكرة

_ 1 الهمع 1/ 122. 2 المغني ص212. 3 الهمع 1/ 240. 4 الهمع 2/ 128. 5 المغني ص26 وما بعدها. 6 المغني ص252.

موصوفة، أما قولهم: "مررت بما معجبٍ لك" فما فيه زائدة1. وكان سيبويه يذهب إلى أن قول بعض العرب: "ما أنت وزيدًا؟ " و"كيف أنت وزيدًا؟ " على تقدير كان محذوفة, أي: ما كنت وزيدا؟ وكيف تكون وزيدا؟ وذهب الفارسي وغيره من النحاة إلى أن كان المقدرة تامة، وذهب أبو حيان إلى أنها الناقصة، فما خبرها وكذلك كيف2. ومعروف أن الجملة الموصوف بها يربطها دائما بموصوفها ضمير إما مذكور, وإما مقدر مثل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} على تقدير: فيه محذوفة أربع مرات، وذهب أبو حيان مذهبا بعيدا قائلا: إن الأولى أن لا يقدر في الآية ضمير بل يقدر أن الأصل: واتقوا يوما يوم لا تجزى بإبدال يوم الثانية من يوم الأولى، ثم حذف المضاف، وهو تخريج ظاهر التكلف3. واختلف البصريون والكوفيون في ألفاظ العدد المعدولة على وزن فُعَال ومَفْعَل، فوقف بها البصريون عند أُحَاد ومَوْحَد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع وخماس ومخمس وعشار وعشر؛ لمجيئها سماعا, وقاس عليها الكوفيون: سداس ومسدس وسباع ومسبع وثمان ومثمن وتساع ومتسع، وقال أبو حيان: الصحيح أن البناءين مسموعان من واحد إلى عشرة على نحو ما حكى ذلك أبو عمرو الشيباني وغيره4. وكان جمهور النحاة يجيز ترخيم العلم المركب تركيب مزج مطلقا ومنع أكثر الكوفيين ترخيم ما آخره "ويه" مثل سيبويه، وذهب أبو حيان إلى أنه لا يجوز ترخيم هذا العلم بحال5, وكان جمهور النحاة يذهب إلى أن المنصوب في مثل: أنت الرجل علما أو أدبا أو حلما, وأنت زهير شعرا, وأنت حاتم جودا, ويوسف حسنا حال، وذهب أبو حيان إلى أنه تمييز6. وذهب الجمهور إلى أن "نعم" في مثل: "نعم, هذه أطلالهم" للتذكير، بينما ذهب أبو حيان إلى أنها تصديق لما بعدها وقُدمت، قال: والتقديم أولى من ادعاء معنى لم يثبت لها7.

_ 1 المغني ص627. 2 الهمع 1/ 221. 3 المغني ص557. 4 الهمع 1/ 26. 5 الهمع 1/ 182. 6 الهمع 1/ 238. 7 الهمع 2/ 77.

الفصل الثالث: المدرسة المصرية

الفصل الثالث: المدرسة المصرية 1- النشاط النحوي في مصر: كان طبيعيا أن تنشط دراسات النحو في مصر مبكرة مع العناية بضبط القرآن الكريم وقراءاته، مما دفع إلى نشوء طبقة من المؤدِّبين على غرار ما حدث بالأندلس، كانوا يعلِّمون الشباب في الفسطاط والإسكندرية مبادئ العربية حتى يحسنوا تلاوة الذكر الحكيم، وأسهم في ذلك معهم غير عالم ممن كانت تجذبهم مصر إليها, ومن أقدمهم عبد الرحمن1 بن هرمز تلميذ أبي الأسود الدؤلي المتوفى بالإسكندرية سنة 117 للهجرة، وقد عرضنا له في أوائل حديثنا عن نشوء مدرسة البصرة، وقلنا: إنه ممن أذاع نَقْط الإعراب ونَقْط الإعجام في المصحف، وإنه كان من جِلَّة القراء، وكان قد أخذ القراءة عن عبد الله بن العباس وأبي هريرة, وعنه أخذها نافع بن أبي نعيم مقرئ أهل المدينة وأحد القراء السبعة المشهورين. ومن أنبه القراء الذين خلفوه بمصر وأشهرهم ورش: عثمان2 بن سعيد القبطي الأصل المتوفى في سنة 197 للهجرة، رحل إلى المدينة وأخذ عن نافع قراءته سنة 155 ثم عاد إلى الفسطاط، فانتهت إليه رياسة الإقراء بالديار المصرية، وكان ماهرا في العربية، وحمل عنه قراءته كثيرون أذاعوها لا في مصر وحدها، بل أيضا في الأندلس وفي المغرب, ولا تزال شائعة به إلى اليوم. وأول نحوي حمل بمصر راية النحو بمعناه الدقيق وَلَّاد3 بن محمد التميمي

_ 1 انظر في ترجمة ابن هرمز المراجع التي ذكرناها في حديثنا عن وضع البصرة للنحو. 2 راجع في ترجمة ورش: معجم الأدباء 12/ 116, وطبقات القراء 1/ 52. 3 انظر في ترجمة ولاد: طبقات الزبيدي ص233, وإنباه الرواة 3/ 354, وبغية الوعاة ص405.

البصري الأصل الناشئ بالفسطاط، وقد رحل إلى العراق، فلقي الخليل بن أحمد وأخذ عنه ولازمه، وسمع منه الكثير، وعاد إلى مصر ومعه كتبه التي استفادها في العربية من إملاءات الخليل، وأخذ يحاضر فيها الطلاب، ويقول الزبيدي: "إنه لم يكن بمصر كبير شيء من كتب النحو واللغة قبله". وكان يعاصره أبو الحسن1 الأعز الذي تتلمذ على الكسائي. وبذلك اتصلت الدراسات النحوية بمصر في زمن مبكر بإمامي المدرستين الكوفية والبصرية. وتلت هذه الطبقة طبقة ثانية لمع فيها اسم الدِّينَوري أحمد2 بن جعفر الذي رحل من موطنه دينور إلى البصرة في طلب النحو، فأخذ عن المازني وحمل عنه كتاب سيبويه، ودخل إلى بغداد فأصهر إلى ثعلب، غير أنه كان يترك حلقته إلى حلقة المبرد، ثم قدم مصر واستقر بها يعلِّم النحو، وصنف لطلابه المصريين كتابا سماه "المهذب" ذكر في صدره اختلاف الكوفيين والبصريين، غير أنه لما أمعن فيه عوَّل على مذهب البصريين وخاصة على كتابات الأخفش الأوسط، وصنف في ضمائر القرآن مصنفا نوّه به القدماء, وقد توفي سنة 289 للهجرة. وكان يعاصره محمد3 بن ولاد بن محمد التميمي المتوفى سنة 298, وقد عكف مثل أبيه ولاد على دراسة العربية وبدأ بأخذ كل ما عند الدينوري ومعاصريه من النحاة المصريين أمثال محمود4 بن حسان، ثم رحل إلى بغداد، وقرأ كتاب سيبويه على المبرد. وعاد إلى موطنه فتصدر لإقراء النحو وصنف فيه كتابا سماه "المنمَّق" حمله عنه المصريون، وانتقلت نسخته من كتاب سيبويه إلى ابنه أبي العباس.

_ 1 انظر الزبيدي ص233. 2 راجع في ترجمة الدينوري: الزبيدي ص234, وإنباه الرواة 1/ 33, ومعجم الأدباء 2/ 239, وبغية الوعاة ص130, وشذرات الذهب 2/ 190. 3 انظر في ترجمة محمد بن ولاد: الزبيدي ص236, وتاريخ بغداد 3/ 332, ومعجم الأدباء 19/ 105, وإنباه الرواة 3/ 224, وبغية الوعاة للسيوطي ص112. 4 انظره في إنباه الرواة 3/ 264.

ونزل في سنة 287 بمصر نحوي بصري من تلاميذ المبرد هو علي1 بن سليمان الأخفش الصغير وظل بها حتى سنة 300 للهجرة يعلم النحو واللغة، وله تصانيف مختلفة فيهما، من أهمها شرحه على كتاب سيبويه، وكان يتعصب للمبرد والبصريين في تصانيفه. وما نكاد نمضي في القرن الرابع الهجري لعصر الدولة الإخشيدية حتى تظهر طائفة من النحاة النابهين, في مقدمتهم كُراع النمل وأبو العباس أحمد بن ولاد. وكراع2 النمل هو علي بن الحسن الهُنائي الأزدي، عاش حتى سنة 320 وقد رحل إلى بغداد، وأخذ عن النحويين البصريين والكوفيين. وكان يمزج في مصنفاته بين آرائهما وكان إلى آراء البصريين أميل، وصنف في اللغة كتبا مختلفة، من أهمها "المنضد" ويقال: إنه لقب بكراع النمل لقصره. وأنبه منه وأشهر أبو العباس3 أحمد بن محمد بن ولاد المتوفى سنة 332 للهجرة. وَرِثَ العناية بالنحو والإكباب على درسه عن أبيه وجده السالفين، وإليه صارت نسخة أبيه من كتاب سيبويه التي أخذها عن المبرد كما أسلفنا، وقد رحل إلى العراق وتتلمذ للزجاج البصري، وكان يعجب به لذكائه وبصره بمسائل النحو وقدرته على الاستنباط. وعاد إلى موطنه وظل يفيد الطلاب ويصنف في اللغة والنحو إلى وفاته. وعنه أخذ المنذر بن سعيد قاضي قضاة الأندلس معجم "العين" المنسوب للخليل. ويقال: إن بعض أمراء مصر جَمَعَ بينه وبين أبي جعفر النحاس للمناظرة، فقال له النحاس: كيف تبني مثال "افْعَلَوْت" من رميت؟ فقال أبو العباس: "ارْمَيَيْت" فخطأه النحاس قائلا: ليس في كلام العرب افعلوت ولا افْعَلَيْت. فقال أبو العباس: إنما سألتني أن أمثل

_ 1 راجع ترجمته في: الزبيدي ص125, ونزهة الألباء ص248, وإنباه الرواة 2/ 276, وتاريخ بغداد 12/ 433، ومعجم الأدباء 13/ 2461، وابن خلكان 1/ 332, وبغية الوعاة ص338, واللباب 1/ 26، وشذرات الذهب 2/ 270. 2 انظر ترجمته في: إنباه الرواة 2/ 240, ومعجم الأدباء 13/ 12، وبغية الوعاة ص333. 3 راجع في ترجمة أبي العباس بن ولاد: الزبيدي ص238, وإنباه الرواة 1/ 99, ومعجم الأدباء 4/ 201, ومرآة الجنان 2/ 311، وبغية الوعاة ص169.

لك بناء ففعلت. قال الزبيدي: "وأحسن أبو العباس في قياسه حين قلب الواو ياء؛ لأن الواو تنقلب في المضارعة ياء؛ ولذلك تقول: ارمييت ولا تقول: ارميوت ... وتبع أبو العباس سُنَّة الأخفش سعيد بن مسعدة, فإنه كان يبني من الأمثلة ما لا مثال له"1. ومن مصنفاته المطبوعة كتاب المقصور والممدود على حروف المعجم, وهو كتاب نفيس في بابه. وله كتاب "الانتصار لسيبويه من المبرد" ومنه مخطوطة بدار الكتب المصرية, وفيه يتعقب المبرد في كتابه الذي تتبع به كلام سيبويه وسماه "مسائل الغلط" وكان قد كتبه في حداثته مما جعله يعتذر منه2. وقد نقض عليه ابن ولاد كل ما أورده على الإمام النحوي الكبير، وفي كتاب الرد على النحاة لابن مضاء بعض أمثلة من نقضه3. وله آراء نحوية مختلفة، كان يتابع فيها أحيانا الكوفيين على الرغم من إعجابه الشديد بسيبويه وأئمة البصريين، من ذلك تجويزهم أن يجري المقصور مثل مصطفى في جمعه جمعا سالما مجرى المنقوص، فيضم فيه ما قبل الواو في مثل: مصطفُون ويكسر ما قبل الياء في مثل: مصطفِين وقاضين، وكان يقول: إن ذلك لغة لبعض العرب4. وكان يجوز مع أستاذه الزجاج أن تدخل لام الابتداء على معمول الخبر المقدم إذا كان مفعولا به مثل: "إن زيدا لطعامَك آكل"5. وكان يذهب -وتبعه أبو علي الفارسي- إلى أن نون المثنى والجمع السالم عوض عن الحركة والتنوين في المفرد معا6. وذهب -وتبعه ابن مالك- إلى أن "من" مع اسم التفضيل في مثل: "زيد أفضل من عمرو" للمجاوزة لا الابتداء كما ذهب سيبويه، كأنه قيل: جاوز زيد عمرا في الفضل7. وكان سيبويه يذهب إلى أن قولهم: "لاهِ أبوك" أصله: لله أبوك؛ فحذفت لام الجر، ولام التعريف، وبنيت لاه لتضمنها لها مع

_ 1 انظر مناظرة ابن ولاد مع أبي جعفر النحاس في مسائل أخرى في كتاب الأشباه والنظائر 3/ 136-157. 2 الخصائص لابن جني 1/ 206. 3 انظر ص128 وما بعدها. 4 الهمع 1/ 46. 5 الهمع 1/ 139. 6 الهمع 1/ 48. 7 الهمع 1/ 36.

حذفها كما بُنيت أمس لتضمنها معنى لام التعريف. وذهب ابن ولاد إلى أن أصل "لاهِ أبوك": آلله أبوك, حذفت الهمزة النائبة عن واو القسم وقالوا: للهِي وخففت الألف1. وكان يذهب إلى أن صيغة المبالغة "فَعِيل" تعمل عمل اسم الفاعل, فتنصب المفعول به مثل: شِرِّيب الماءَ2.

_ 1 الهمع 2/ 37. 2 الهمع 2/ 97.

في اتجاه المدرسة البغدادية

2- في اتجاه المدرسة البغدادية: رأينا النابهين من النحاة المصريين يرحلون إلى البصرة وبغداد طوال الفرنين الثاني والثالث وأوائل القرن الرابع للهجرة، وكانت المدرسة البصرية وأساتذتها غالبا وجهتهم في بغداد، وخير من يصور ذلك أبو العباس بن ولاد تلميذ الزجاج صاحب المبرد، وبلغ من بصريته أن عني بتأليف كتاب الانتصار لسيبويه، وكأنه يؤمن بأن غلطا لا يمكن أن يعلق بقلمه. وفي نفس هذه الحقبة كانت قد أخذت تظهر مدرسة بغداد ممثلة في أئمتها الأولين من أمثال ابن كيسان وابن شُقَير وابن الخياط الذين كانوا ينزعون في أول حياتهم نزعة كوفية، ثم مزجوا بين النحوين الكوفي والبصري مع استمرار ميلهم الواضح لنحو الكوفيين. وإذا كان أبو العباس بن ولاد لم يلتفت إلى هذه النزعة النحوية الجديدة, فإن رفيقه ومواطنه أبا جعفر النحاس لم يقع بعيدا عنها، وقد اختلف مثله إلى أصحاب المبرد وفي مقدمتهم الزجاج. ولكن يظهر أنه اختلف أيضا إلى أصحاب ثعلب، بل ينص القدماء على أنه كان يختلف إلى ابن الأنباري، ولا نشك أنه اختلف أيضا إلى حلقات ابن كيسان وابن شقير وأضرابهما من أوائل البغداديين لما سنرى عنده عما قليل من مزج بين آراء البصريين والكوفيين. وبذلك يلتحم نحو المدرسة المصرية بنحو المدرسة البغدادية مع نشأتها المبكرة. وأبو1 جعفر النحاس هو أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي المتوفى سنة

_ 1 انظر في ترجمة النحاس: الزبيدي ص239, والأنساب للسمعاني الورقة 555, ونزهة الألباء ص291, وإنباه الرواة 1/ 17, ومعجم الأدباء 4/ 224, وابن خلكان 1/ 29, وشذرات الذهب 2/ 346، ومرآة الجنان 2/ 311, وبغية الوعاة ص157.

338 للهجرة, أكب على النحو ودراساته في موطنه، ثم رحل إلى العراق، فسمع الزجاج وغيره من أصحاب المبرد مثل ابن السراج، كما سمع أصحاب ثعلب وأوائل البغداديين. وعاد إلى موطنه يدرس كتاب سيبويه لطلابه، وطارت شهرته، فرحل إليه الطلاب من الأندلس وفي مقدمتهم -كما مر بنا في غير هذا الموضع- محمد بن يحيى الرباحي الذي حمل عنه كتاب سيبويه رواية، ودرسه لطلابه بقرطبة. وظل نحاة الأندلس من بعده يتوارثون رواية نسخته المضبوطة الوثيقة, مثيرين لكنوز الكتاب ومفسرين معلقين. وبذلك كان للنحاس فضل بث دراسة كتاب سيبويه في الأندلس وما رافقها هناك من نهضة الدراسات النحوية. ومما عني به "تفسير أبيات سيبويه" ويقال: إنه لم يُسبق إلى مثله، وكل من جاء بعده استمد منه. وفي بعض المراجع أن له كتاب "شرح سيبويه" مما يدل على أنه كان له على الكتاب شرح مفرد يذلله ويحل مشاكله. وعني بالقرآن الكريم، فكتب فيه كتبا مفيدة، منها كتاب معاني القرآن وكتاب إعراب القرآن، وهما كتابان قَيِّمان, ويقال: إنهما أغنيا عما صُنف قبلهما في معناهما. وله شروح على بعض دواوين الشعر والمعلقات والمفضليات. وصنف في النحو كتاب الكافي وهو مفقود, ومختصرا أسماه كتاب التفاحة في النحو نشره كوركيس عواد ببغداد، كما صنف كتابا في الاشتقاق. ويلفتنا بين مصنفاته التي روتها له كتب التراجم كتاب "المقنع في اختلاف البصريين والكوفيين" مما يدل دلالة واضحة على أنه عني باستيعاب آراء المدرستين عناية جعلته يخصهما بالتأليف. ومن يرجع إلى مختصره الذي سماه كتاب التفاحة في النحو والذي يقع في ست عشرة صحيفة, يجده يمزج في وضوح بين آراء البصريين والكوفيين، فهو في الصورة العامة للكتيب وعرض مسائله بصري، وهو في بعض آرائه وبعض المصطلحات كوفي، وقد يختار رأيا لقطرب أو للأخفش مخالفا جمهور البصريين. ومن أول ما يلقانا في الكتيب مخالفا لهم فيه, ذهابه إلى أن الأسماء الخمسة: أباك وأخواتها معربة بحروف العلة نفسها, متفقا في ذلك مع قطرب وهشام من الكوفيين والزجاجي

من البغداديين1. ولا يلبث أن يذهب إلى أن المثنى والجمع السالم يرفعان بالألف والواو وينصبان ويجران بالياء, لا نيابة عن حركات مقدرة، وهو رأي الكوفيين وقطرب والزجاج أستاذه والزجاجي2. وذهب مع الكوفيين إلى أن فعل الأمر معرب مجزوم لا مبني كما ذهب البصريون3. واختار رأيهم في أن حتى ولام الجحود ولام كي وواو المعية -ويسميها واو الظرف- وأو وفاء السببية تنصب جميعها المضارع بدون تقدير أن4. واستظهر غير مصطلح من مصطلحات الفراء والكوفيين، من ذلك تسمية النفي بالجحد5 وتسمية نائب الفاعل باسم المفعول الذي لم يسم فاعله6، وتسمية الصفة بالنعت7، وتسمية التمييز بالتفسير8. وكان يذهب مع الكسائي إلى أن "ذو وذوو" لا تضافان إلى الضمير خلافا للجمهور لما جاء عن العرب في النثر من مثل قولهم: "إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه"9. وذهب مع الأخفش إلى أن المضاف إليه مجرور بالإضافة لا بالمضاف كما ذهب سيبويه10. كما ذهب أيضا معه إلى أن "لا سيما" من أدوات الاستثناء، وأن ما بعدها في مثل: "لا سيما زيد" مرفوع أو مجرور11. وجعل -مع ابن السراج- لا النافية من أدوات التعليق مع ظن وأخواتها مثل: "ظننت لا يقوم زيد"12. وكان يذهب إلى أن "مع" الساكنة العين في لغة ربيعة حرف13. ولعل في ذلك كله ما يدل على أن مصر أخرجت نحويا بغدادي النزعة في

_ 1 كتاب التفاحة في النحو ص15, وقارن بالهمع 1/ 38. 2 كتاب التفاحة ص15, والهمع 1/ 47. 3 كتاب التفاحة ص16, والهمع 1/ 15. 4 كتاب التفاحة ص19, وقارن بالهمع 2/ 7، 8، 14، 17. 5 كتاب التفاحة ص20, وقارن بمعاني القرآن للفراء 1/ 52. 6 كتاب التفاحة ص21, وانظر معاني القرآن 1/ 301. 7 كتاب التفاحة ص22, وقارن بمعاني القرآن 1/ 112، 198، 277، 2/ 145. 8 كتاب التفاحة ص24, وانظر معاني القرآن 1/ 225. 9 الهمع 2/ 50. 10 كتاب التفاحة ص18, وانظر الهمع 2/ 46. 11 كتاب التفاحة ص25 وما بعدها, وقارن بالهمع 1/ 234. 12 الهمع 1/ 154. 13 المغني ص370, والهمع 1/ 217.

وقت مبكر، فهو يمزج بين النحو البصري والكوفي، وهو ينفذ إلى آراء جديدة. ومن أهم تلاميذه أبو بكر1 الإدفوي المتوفى في العصر الفاطمي سنة 388 للهجرة، وهو منسوب إلى مدينة إدفو بصعيد مصر، وكان يروي عن أستاذه النحاس كل تصانيفه في النحو والقرآن، وعني بالتفسير فصنف فيه كتابا في مائة مجلد سماه "الاستغناء في تفسير القرآن" جمع فيه من علوم العربية ما لم يجتمع بغيره، ويظهر أن ضخامة الكتاب حالت من قديم دون الانتفاع به ومعرفة ما نثره فيه الإدفوي من آراء في العربية. وأنبه تلامذة الإدفوي الحَوْفي، وهو علي2 بن إبراهيم المتوفى سنة 430 للهجرة، قرأ على الإدفوي وأخذ عنه وأكثر، وتصدر لإقراء النحو، وصنف فيه مصنفا كبيرا استوفى فيه العلل والأصول وصنف مصنفات أصغر منه اشتغل بها المصريون. وصنف في إعراب القرآن كتابا في عشرة مجلدات كان علماء موطنه يتنافسون في تحصيله، وصنف أيضا في تفسير القرآن وعلومه. ونرى ابن هشام يعرض لإعراب "ذلك" في قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} ويقول: إنها بدل أو عطف بيان, ويقول: جوز الفارسي كونها صفة، ورد ذلك الحوفي بأن الصفة لا تكون أعرف من الموصوف3. وفي ذلك ما يشهد بأن الحوفي كان مطلعا على كتاب الحجة لأبي علي الفارسي، وأكبر الظن أنه اطلع على كتاباته الأخرى وكأن نحاة مصر في العصر الفاطمي من أمثال الحوفي كانوا يعنون بمعرفة آراء المدرسة البغدادية وأعلامها النابهين من أمثال الفارسي. وقد توقف ابن هشام مرارا في كتابه المغني بإزاء توجيهات الحوفي الإعرابية لبعض آي الذكر الحكيم، وأكبر الظن أنه نقلها جميعا عن كتابه الذي صنفه في إعراب القرآن، وهو تارة يرتضي توجيهه وتارة يرفضه، فمن ذلك استحسانه ما ذهب إليه في الآية الكريمة:

_ 1 انظر في ترجمة الإدفوي: إنباه الرواة 3/ 186, وطبقات القراء 2/ 198, وطبقات المفسرين للسيوطي ص38, وشذرات الذهب 3/ 130, وبغية الوعاة ص81. 2 راجع في ترجمة الحوفي: معجم الأدباء 12/ 221, وإنباه الرواة 2/ 219, والأنساب للسمعاني الورقة 181, وابن خلكان 1/ 332, واللباب في الأنساب 1/ 239, وشذرات الذهب 3/ 247, وبغية الوعاة ص325. 3 المغني ص553.

{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} من أن {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ} مبتدأ وخبره محذوف تقديره: لهم1. ومن ذلك رفضه ما ذهب إليه الحوفي مع الفراء من أن جملة {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} معطوفة على ما قبلها بتقدير أن الأصل: ولأنفسهم ثم حذف المضاف، وقال ابن هشام: إن هذا تكلف والواو في الآية للاستئناف2. وقد أنكر رأيه في أن الباء لها متعلق في قوله جل شأنه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ؛ لأنها حرف جر زائد، وحروف الزيادة لا متعلق لها3. ورد ابن هشام رأيه في قوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أن جواب الشرط هو {إِنَّ ذَلِكَ} وما بعدها لأنها اسمية وهي لا تكون جوابا للشرط في النثر بدون فاء، إنما يختص ذلك بالشعر، أما الآية فجواب الشرط فيها محذوف4. وارتضى رأيه في أن خبر الذين في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} محذوف دلت عليه الجملة وتقديره: مأجورون5. وأنكر قوله: إن الباء من قوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} متعلقة بناظرة لأنها جارة لما الاستفهامية والاستفهام له الصدر6، كما أنكر ما ذهب إليه في الآية: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} من أن {سَيَهْدِينِ} جملة حالية، إنما هي اعتراضية7. ورد إعرابه لقوله جل شأنه: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أن {ظُلُمَاتٌ} مبتدأ, و {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} خبر، قائلا: الصواب أن {ظُلُمَاتٌ} خبر لمبتدأ محذوف8. وتلك هي كل مراجعات ابن هشام في كتابه "المغني" للحوفي في كتابه إعراب القرآن، وكأنه لم يجد وراءها ما يرده أو ينكره، مما يشهد للقفطي في قوله عنه: إنه كان عالما بالنحو, قَيِّما بعلل العربية أتم قيام. وكان يعاصره الذاكر9 النحوي المصري تلميذ ابن جني المتوفى سنة 440 للهجرة, وكان يتصدر بمصر لإقراء العربية، وله تعليقات مفيدة في النحو، وهو إشارة

_ 1 المغني ص437. 2 المغني ص443. 3 المغني ص492، والهمع 2/ 108. 4 المغني ص552. 5 المغني ص554. 6 المغني ص597. 7 المغني ص 444. 8 المغني ص638. 9 انظر فيه إنباه الرواة 2/ 8.

واضحة إلى أن كتب ابن جني عُرفت على الأقل منذ عصره بمصر. ويلقانا في عصر المستنصر الفاطمي نحوي كبير هو ابن1 بابشاذ طاهر بن أحمد المتوفى سنة 469 للهجرة، وقد رحل إلى بغداد وأخذ عن نحاتها وعلمائها، وبذلك اتصل مباشرة بنحو البغداديين، وعاد إلى موطنه فتصدّر للإقراء بجامع عمرو بن العاص مع إشرافه على تحرير الكتب الصادرة عن ديوان الإنشاء الفاطمي إلى الأطراف، وله في النحو تصانيف سارت -كما يقول القفطي- مسير الشمس، منها "المقدمة" في النحو وشرحها, وشرح الجمل للزجاجي أحد أئمة النحو البغدادي. وكانت له تعليقة كبيرة في النحو كتبها في غرفة بجامع عمرو انقطع فيها بأخرة للعبادة والنسك، ويقال: إنها كانت في نحو خمسة عشر مجلدا، وإنها ظلت تنتقل من تلميذ إلى تلميذ حتى نهاية القرن السادس، وكانوا يسمونها "تعليق الغرفة". ومن مصنفاته "شرح الأصول" لابن السراج وكتاب المحتسب بناه على عشرة أشياء: الاسم والفعل والحرف، والرفع والنصب والجر والجزم، والعامل والتابع والخط، وله عليه شروح، واختصره ابن عصفور. وتدور لابن بابشاذ في كتب النحو آراء مختلفة يتفق في طائفة منها مع الكوفيين والبغداديين والبصريين، مما يدل دلالة واضحة أنه كان يمزج بين كل تلك المذاهب، فمن ذلك أن البصريين كانوا يمنعون عمل إذن النصب في المضارع وهي مفصولة عنه بأي معمول له، وأجاز ذلك الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين, وتوسط ابن بابشاذ بين الطرفين المتعارضين فجوّز الفصل بالنداء والدعاء مثل: إذن يا زيد أحسنَ إليك وإذن -يغفر الله لك- يدخلَكَ الجنة2. وكان يجيز -مع الكوفيين والأخفش- ترخيم الاسم الثلاثي المحرك الوسط مثل: حَكَم فيقال: يا حك3. وكان يرى رأي ابن درستويه البصري القائل بأن المبتدأ في مثل: "ضربي العبد مسيئًا" لا خبر له4. وذهب مع الفارسي والسيرافي إلى أن عامل المستثنى

_ 1 راجع في ترجمة ابن بابشاذ: نزهة الألباء ص361, ومعجم الأدباء 12/ 17، وإنباه الرواة 2/ 95، وابن خلكان 1/ 235، وشذرات الذهب 3/ 333, ومرآة الجنان 3/ 98، وبغية الوعاة ص272. 2 الهمع 2/ 7، والمغني ص16. 3 الهمع 1/ 182. 4 الرضي على الكافية 1/ 94.

ما قبل إلا معدى إليه بواسطتها1. واختار رأي الأخفش والفارسي في أن سمع قد تلحق بعلم فتنصب مفعولين مثل: "سمعت محمدا يتكلم"2. وكان يرى أن لام التعريف العهدية خاصة بالأعيان بينما الجنسية خاصة بالأذهان3. وكان يذهب إلى أن الكاف في أسماء الأفعال مثل "إليك" و"رويدك" و"مكانك" حرف خطاب وليست اسما مجرورا مع الحروف ومضافا إليه مع الظروف كما ذهب البصريون ولا فاعلا كما زعم الفراء ولا مفعولا كما زعم الكسائي4. وتصدر لإقراء النحو بعده تلميذه محمد5 بن بركات المتوفى سنة 520 للهجرة، ويذكر السيوطي في ترجمته أن من أساتذته أيضا محمد6 بن مسعود الغزني المعروف بالزكي والعلاء بن أبي الفتح عثمان بن جني، أما الأول فاشتهر بكتاب له في النحو سماه البديع، يقول ابن هشام عنه: إنه كتاب خالف فيه أقوال النحويين في أمور كثيرة، ويذكر قولا من أقواله هو أن "الذي وأن المصدرية يتقارضان، فتقع الذي مصدرية كقول جميل: أتقرح أكباد المحبين كالذي ... أرى كبدي من حب بثنة يقرح وتقع أن بمعنى الذي كقولهم: "زيد أعقل من أن يكذب، أي: من الذي يكذب"7. وأما العلاء فقد كان يروي كتب أبيه ابن جني. ومعنى ذلك أن ابن بركات تزوّد من كتابات ابن جني كما تزود من كتاب البديع لمحمد بن مسعود، وأيضا تزود من أستاذه ابن بابشاذ وخاصة من "تعليقة الغرفة" التي ورثها عنه. وكانت له تصانيف في النحو سقطت من يد الزمن. واستوطن مصر لسنة خمسمائة كبير نحاة صقلية ولغوييها علي8 بن جعفر

_ 1 الهمع 1/ 224. 2 الهمع 1/ 150. 3 الهمع 1/ 79. 4 الرضي على الكافية 2/ 65، والهمع 2/ 106. 5 انظر في ترجمة ابن بركات: معجم الأدباء 18/ 39، وإنباه الرواة 3/ 78, وشذرات الذهب 4/ 62, ومرآة الجنان 3/ 225، وبغية الوعاة ص24. 6 انظره في البغية ص105. 7 المغني ص602. 8 انظر ترجمته في: معجم الأدباء 12/ 279, وابن خلكان 1/ 339، وشذرات الذهب 4/ 45, ومرآة الجنان 2/ 212, وإنباه الرواة 2/ 236، والبغية ص331.

السعدي المعروف بابن القَطِّاع، وتصدر فيها لإقراء اللغة والنحو، ومن تصانيفه: كتاب تهذيب أفعال ابن القوطية وأبنية الأسماء وحواشٍ على الصحاح للجوهري، وما زال مقيما على الإفادة والتصنيف حتى توفي سنة 515 للهجرة. وأكبر نحاة مصر لأواخر العصر الفاطمي ابن بري1 المصري المولد والمنشأ المقدسي الأصل، وقد لحق الدولة الأيوبية وامتدت به حياته حتى سنة 582 للهجرة. وهو تلميذ ابن بركات وغيره من المصريين والقادمين على مصر من الأندلس وخاصة محمد2 بن عبد الملك الشنتريني الذي قرأ عليه كتاب سيبويه، وكان للأندلسيين -كما مر بنا- عناية به منذ نقل لهم الرباحي صورة من نسخة النحاس المضبوطة الوثيقة، وتوفروا عليها بالدرس والشرح والتفسير. وعلى نحو ما كان ابن بري قيما بالنحو كان قيما باللغة وشواهدها، وكان إليه التصفح في ديوان الإنشاء الفاطمي: وظيفة أستاذه ابن بركات وابن بابشاذ من قبلهما. وتصدر لإقراء النحو واللغة بجامع عمرو، وطارت شهرته في الآفاق فقصده الطلاب من كل فج، وممن قصده وقرأ عليه كما أسلفنا عيسى الجزولي نحوي المغرب والأندلس، وقد ذكرنا أنه لما قرأ عليه كتاب الجمل للزجاجي أُثيرت مسائل جمعها في مقدمته المعروفة بالجزولية، وكان لا يسيغ أن يقول: هي من تصنيفي؛ لأنها من نتائج خواطر ابن بري وتلاميذه، وقد عني بها النحاة وشرحوها مرارا. واشتهر له في اللغة حواشيه على صحاح الجوهري وكانت في ستة مجلدات، وهي أحد المصادر الخمسة التي ألف منها ابن منظور معجمه الكبير لسان العرب كما يقول في مقدمته، واسمه يتردد فيه ترددا واسعا. ومن مصنفاته: جواب المسائل العشر التي استشكلها أبو نزار الحسن بن صافي النحوي3 وأغاليط الفقهاء وحواش على درة الغواص في أوهام الخواص للحريري، وقد راجعه في أن التعبير بكلمة "صباحَ مساءٍ" على الإضافة يراد به الصباح وحده, بخلاف "صباحَ مساءَ" على التركيب، فإن ذلك يعنيهما معا،

_ 1 راجع في ترجمة ابن بري: معجم الأدباء 12/ 56, وإنباه الرواة 2/ 110, وابن خلكان 1/ 268, وشذرات الذهب 4/ 273, ومرآة الجنان 3/ 424, وبغية الوعاة ص278, وطبقات الشافعية للسبكي 4/ 233. 2 انظره في بغية الوعاة ص68. 3 أوردها السيوطي في كتاب الأشباه والنظائر 3/ 171.

وقال: إن هذا الفرق لم يقل به أحد, وإن السيرافي صرح بأن قولهم: يأتينا صباحَ مساءٍ وصباحَ مساءَ وصباحًا ومساءً معناهن واحد1. وكان يذهب إلى أن لولا تفيد التعليل في مثل: "لولا إحسانك لما شكرتك" وأن العرب لذلك جروا بها المضمر في مثل لولاي2، وهو بذلك يتفق مع سيبويه كما مر بنا في أنها حين يليها المضمر تكون جارة. وذهب مذهب الكوفيين والأخفش في أن إذا الفجائية حرف وليست ظرفا3، كما ذهب مذهب أبي علي الفارسي في أن "ما" قد تأتي زمانية في مثل: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أي: استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم4. ومعروف أن الفعل قد يأتي للمطاوعة، وهي أن يدل أحد الفعلين على تأثير ويدل الآخر على قبول فاعله لذلك التأثير مثل: علّمته فتعلّم، وهو حينئذ يتعدى إلى واحد كما في المثال، وذهب ابن بري إلى أنه قد يتعدى لاثنين نحو: "استخبرت الخبر فأخبرني الخبر", ومثل: "استعطيته كتابا فأعطاني كتابا", وقال ابن هشام: ما ذكره ابن بري ليس من باب المطاوعة وإنما هو من باب الطلب والإجابة5. وكان يعاصره عثمان6 بن عيسى البَلَطِي الموصلي نحوي دمشق المتوفى سنة 599 للهجرة، ولما ملك صلاح الدين مصر انتقل إليها فرتب له جاريا لإقراء النحو بجامعها، وكان يتعمق في دراسته ودراسة العَرُوض، ومن مصنفاته "النَّبْر" في العربية والعروض الكبير والعروض الصغير، ويقول السيوطي: إنه كان يخلط بين مذهبي الكوفة والبصرة. ومن نحاة مصر في العصر الأيوبي سليمان7 بن بنين الدقيقي تلميذ ابن بري المتوفى سنة 614 للهجرة، وله مصنفات كثيرة في النحو واللغة والأدب، منها: شرح على سيبويه سماه "لباب الألباب في شرح الكتاب", وكتاب الوضَّاح في شرح أبيات الإيضاح لأبي علي الفارسي، وكتاب إغراب العمل في شرح أبيات الجمل للزجاجي، وكتاب اتفاق المباني وافتراق المعاني في اللغة.

_ 1 الهمع 1/ 197. 2 الأشباه والنظائر للسيوطي 1/ 277. 3 الرضي على الكافية 1/ 93، وانظر المغني ص92. 4 المغني ص335. 5 المغني ص574، 575. 6 انظر ترجمة البلطي في: معجم الأدباء 12/ 141, وإنباه الرواة 2/ 344, وبغية الوعاة ص323. 7 انظره في بغية الوعاة ص261.

ونزل مصر يحيى1 بن معطي المغربي المتوفى سنة 628 قرأ على الجزولي، ثم رحل إلى دمشق وأقرأ النحو بها مدة، ثم تركها إلى القاهرة واستقر بها وتصدر بالجامع العتيق لإقراء الطلاب النحو، وله مصنفات مختلفة منها ألفية في النحو كألفية ابن مالك، ومنها العقود والقوانين في النحو، ومنها الفصول وحواشٍ على أصول ابن السراج وشرح على الجمل. وكان يذهب إلى أن ما النافية قد تحذف في جواب القسم2، وكان يرى أنه إذا اجتمع مع الفعل المبني للمجهول مصدر وظرف وجار ومجرور كان الجار والمجرور هما نائب الفاعل لا الظرف ولا المصدر، بينما كان يرى البصريون أن لك الخيار في إقامة أي الثلاثة نائبا للفاعل3. وذهب إلى أن "أبا ويا وهيا" للمنادى البعيد وأي والهمزة للمنادى القريب4. وكان يرى رأي الزمخشري وأستاذه الجزولي في أن علل البناء خمس: شبه الحرف، وتضمن معناه، والوقوع موقع المبني، ومناسبة المبني، والإضافة إلى المبني5. ومما ذكره في كتابه الفصول أن أسماء الإشارة بنيت لشبهها بالحروف ولم يذكر ذلك غيره6, وذكر في الفصول أيضا أن "دام" لا يجوز تقديم خبرها على اسمها7. وكان يعاصره ابن الرماح8 علي بن عبد الصمد المتوفى سنة 633 للهجرة، وقد تصدر لإقراء النحو وقراءات الذكر الحكيم، وله مجموع في النحو يتردد ذكره في الأشباه والنظائر للسيوطي، مع بعض ملاحظاته وآرائه، من ذلك قوله: إن العَلَم قد يَرِد معرفا بالألف واللام كالأجناس وذلك في باب نعم وبئس، إذ تقول مثلا: نعم العمر عمر بن الخطاب9, وكان يقول: إن أم المتصلة تفترق عن أم المنقطعة من سبعة أوجه، ومما ذكره من هذه الأوجه أنها لا تقع إلا بعد استفهام

_ 1 راجع ترجمته في: معجم الأدباء 20/ 35, وشذرات الذهب 5/ 129, وبغية الوعاة ص416. 2 انظر المغني ص710 وقد تابعه في ذلك ابن مالك, وقابل بالأشباه والنظائر 2/ 58. 3 الهمع 1/ 163. 4 الأشباه والنظائر 1/ 304. 5 الأشباه والنظائر 2/ 24. 6 الأشباه والنظائر 3/ 4. 7 الأشباه والنظائر 3/ 5, وانظر التصريح على التوضيح للشيخ خالد الأزهري "طبع عيسى البابي الحلبي" 1/ 187. 8 انظره في البغية ص341. 9 الأشباه والنظائر 2/ 40.

وما بعدها معطوف على ما قبلها، وتقتضي المعادلة، مثل: أضربت عليا أم نهرته؟ 1. ومن نحاة العصر الأيوبي النابهين علي2 بن محمد بن عبد الصمد السخاوي المتوفى سنة 643 للهجرة، وله شرحان على كتاب المفصل للزمخشري، وشرح على أحاجيه النحويه. واسمه يدور في كتاب الأشباه والنظائر. وله ملاحظ وآراء دقيقة كثيرة، من ذلك قوله: إن باب فعيلة تحذف منه التاء والياء في النسب مثل: حنيفة وحنفي, وكأنه لما تطرق إليه تغيير بحذف التاء حذفت معها الياء بينما فعيل مثل تميم لا يحذف منه في النسب شيء3. وكان يقول: لا يدخل على المقسم به المضمر غير الباء4، وشبه الحال بالمفعول به في مجيئها بعد الفاعل، وبالظرف في انقضاء مدتها مع فعلها، وبالصفة، وبالتمييز في تنكيرها وبالخبر في فائدتها5, وكان يقول: حتى الجارة تختلف عن "إلى" في أنه لا يليها مضمر مثلها وأن فيها معنى الاستثناء وأنها لا تقع خبرا بخلاف إلى في مثل: "والأمر إليك"6. واحتفظ السيوطي له بأجوبته عن عشر مسائل نحوية ولغوية أثارها أبو نزار الحسن بن صافي النحوي، وهي تدل على سعة معارفه النحوية7. وكان يعاصره ابن الحاجب وسنخصه بكلمة أكثر طولا. وتنشط الدراسات النحوية في عصر المماليك، بل تزدهر وتثمر ثمارا رائعة، ومن النحاة النابهين حينئذ بهاء الدين8 بن النحاس الحلبي الأصل المتوفى سنة 698 للهجرة، دخل مصر وأخذ عن شيوخها، ثم جلس لإفادة الطلاب، ولم يلبث أن أصبح شيخ الديار المصرية في علم العربية. وعليه تتلمذ أبو حيان حين نزوله مصر، وله مصنفات مختلفة من أهمها: شرح على المقرب لابن عصفور, وكان يرى أن فائدة العدل في مثل لفظة عمر الاختصار, فهي أخصر من عامر9.

_ 1 الأشباه والنظائر 2/ 214. 2 انظر ترجمته في: إنباه الرواة 2/ 311، وابن خلكان 1/ 345, وطبقات القراء 1/ 568، وطبقات الشافعية 5/ 26, ومعجم الأدباء 1/ 65, وبغية الوعاة ص349. 3 الأشباه والنظائر 1/ 137. 4 الأشباه والنظائر 1/ 228. 5 الأشباه والنظائر 2/ 190. 6 الأشباه والنظائر 2/ 192. 7 انظر الأشباه والنظائر 3/ 158. 8 انظر ترجمته في بغية الوعاة ص6. 9 الأشباه والنظائر 1/ 31.

وأجمع النحاة أن مضافا إليه محذوف في مثل: "قطع الله يَدَ ورجلَ من قالها", واختلفوا من أي الكلمتين حُذف من يد أو رجل، واختار رأي سيبويه القائل بأن المضاف إليه المحذوف مع رجل لا يد1. وكان يقول: لا يثنى "بعض" ولا يجمع حملا على "كل" لأنه نقيض، وحكم النقيض أن يجري على نقيضه2. وكان يختار مذهب سيبويه في أن عسى في مثل "عساي وعساك" خرجت عن بابها وعملت عمل لعل3. وكان يقول: لا يضاف من ظروف المكان سوى حيث4. وكان الجمهور يذهب إلى أن الحرف معناه في غيره, وذهب إلى أنه يدل على معنى في نفسه5. وكان يرى رأي ابن عصفور في العطف على محل الجملة في التعليق بالنصب, مستدلين بقول كثير: وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا موجعات القلب حتى تولت بعطف كلمة موجعات على جملة "ما البكا"6. وكان يقول: إنما كُسرت النون في المثنى لسكونها وسكون الألف قبلها7! وله تعليلات مختلفة ساق منها السيوطي أطرافا8. وكان يذهب مع أستاذه ابن مالك إلى جواز مجيء المبتدأ مؤخرا نكرة مع جملة سابقة له مثل: "قصدك غلامه رجلٌ"9 والأولى أن تكون رجل فاعلا مؤخرا. ونص على أن "لو ما" مثل لولا تماما يحذف بعدها الخبر ويذكر الجواب مثل: "لوما محمدٌ ما جئت"10. وربما كان أنبه تلاميذ أبي حيان, ابن11 أم قاسم الحسن بن قاسم المتوفى سنة 749 للهجرة, وأم قاسم جدته لأبيه, نُسب إليها. وله شرح على المفصل للزمخشري وثانٍ على التسهيل وثالث على الألفية لابن مالك. وتحتفظ كتب النحو له بآراء مختلفة، من ذلك أنه كان يرى أن المحذوف في "إنا وأنا ولكنا" النون

_ 1 الأشباه والنظائر 1/ 42. 2 الأشباه والنظائر 1/ 196. 3 نفس المصدر 1/ 229. 4 الأشباه والنظائر 2/ 88. 5 الهمع 1/ 4, والأشباه والنظائر 3/ 2. 6 المغني ص467. 7 الأشباه والنظائر 1/ 196. 8 انظر الأشباه والنظائر 1/ 242، 1/ 262، 1/ 270، 2/ 88. 9 الهمع 1/ 101. 10 الهمع 1/ 105. 11 انظره في البغية ص226.

الأولى لا الثانية لأنها اسم، والحروف أولى بالحذف من الاسم1. وكان يتصدى لأستاذه أبي حيان كثيرا، وخاصة حين يعارض ابن مالك، ونراه يحكي عبارته حينئذ بصيغة قيل2، ومما عارضه فيه منحازا لابن مالك أن حرًى من أخوات كاد وليست اسما منونا بمعنى حقيق3. وقد أنكر رأيه في جواز حذف العائد المتصل بليت في مثل: "جاء الذي ليته زيد"4, وأكبر الظن أنه آن أن نفرد حديثا أكثر تفصيلا لأهم نحوي مصري ظهر في القرن السابع الهجري, وهو ابن الحاجب. ابن 5 الحاجب: هو جمال الدين عثمان بن عمر بن أبي بكر المتوفى سنة 646 للهجرة، ولد في "إسنا" بصعيد مصر سنة 570 ونشأ بالقاهرة، وأكب على الدرس والتحصيل حتى أصبح عَلَما في الفقه على مذهب مالك وفي الأصول والنحو. وكان أبوه حاجبا للأمير عز الدين موسك الصلاحي, فغلبت عليه النسبة إلى وظيفته. ورحل إلى دمشق، وأقبل الطلاب يفيدون من علمه الغزير هناك، ثم عاد إلى القاهرة فدرّس النحو بالمدرسة الفاضلية، ثم نزل الإسكندرية ولم تطل إقامته بها، إذ سرعان ما لبى نداء ربه. وله مصنفات كثيرة في الفقه المالكي والأصول والعروض، ولكن شهرته طبقت الخافقين بما صنفه في النحو، وأهم مصنفاته فيه الكافية وهي مطبوعة مرارا بشرح الرضي الإسترابادي وغيره، وشرح له الرضي أيضا الشافية، وهي في فن التصريف وشرحه مطبوع. وفي دار الكتب المصرية مخطوطة من أماليه النحوية في أكثر من ستمائة وخمسين صحيفة. ولابن الحاجب آراء كثيرة اتفق فيها مع بعض النحاة وأخرى خالف فيها جمهورهم،

_ 1 الهمع 1/ 64. 2 الهمع 1/ 72. 3 الهمع 1/ 128 وما بعدها. 4 الهمع 1/ 90. 5 انظر في ترجمة ابن الحاجب: الديباج لابن فرحون ص372, وطبقات القراء للجزري 1/ 508، وشذرات الذهب 5/ 234, وطبقات القراء للذهبي 2/ 201، وذيل الروضتين ص160، 182, وتاريخ ابن كثير 13/ 176، وبغية الوعاة ص323.

من ذلك ذهابه -مع الجمهور- إلى أن الإعراب لفظي لا معنوي1. وكان يرى أن الأسماء "قبل تركيبها في صيغ وعبارات" مبنية2, وأن "ذان وتان" الإشاريتين وُضعتا للمثنى وليستا مثنيين حقيقيين، ومعنى ذلك أن ذان صيغة وضعت للرفع وذين صيغة أخرى وضعت للنصب والجر3، ومثلها تان. وذهب جمهور النحاة إلى أن مثل "غلامي" مبني لإضافته إلى مبني، وخالفهم ابن الحاجب فعدّه معربا مقدرا إعرابه بدليل إعراب نحو: "غلامه وغلامك"4. وذكر النحاة أن من مسوِّغات الابتداء بالنكرة أن يسبقها استفهام مثل: "أتلميذٌ في الفَصْل؟ " وقصر ابن الحاجب ذلك على همزة الاستفهام المعادلة بأم مثل: "أرجلٌ في الدار أم امرأة؟ "5 واضطرب النحاة بإزاء قول الحكمي: غيرُ مأسوفٍ على زمن ... ينقضي بالهم والحزن فقال بعضهم: غير مبتدأ لا خبر له، وقال ابن جني, وتبعه ابن الحاجب: إن "غير" خبر مقدم محذوف مبتدؤه، إذ الأصل: زمن ينقضي بالهم والحزن غير مأسوف عليه، ثم قدمت غير وما بعدها، ثم حذف زمن -وهو المبتدأ- دون صفته، فعاد الضمير المجرور بعلى على غير مذكور فأتى بالاسم الظاهر مكانه6, ومما اتفق فيه مع أبي علي الفارسي جواز تذكير الفعل مع فاعله إذا كان جمع مؤنث سالما، فتقول: قال الزينبات وقالت7. وكان يذهب -مع الزمخشري- إلى أن لام الابتداء هي التي تكون مع المبتدأ وحده في مثل: "لزيد قائم" ولقائم زيد، أما ما سوى ذلك فسمى اللام فيه لاما مؤكدة مثل: "إن محمدا لقائم"8. وكان يذهب معه ومع الكوفيين في الفاعل السادّ مسد الخبر مع الوصف, أن يكون اسما ظاهرا

_ 1 الرضي على الكافية 1/ 15, وانظر الهمع 1/ 14. 2 الرضي على الكافية 1/ 14، 2/ 2. 3 الرضي 2/ 29، والمغني ص38، والهمع 1/ 42. 4 الرضي 1/ 30. 5 الرضي 1/ 79 وما بعدها, والمغني ص522. 6 المغني ص172. 7 الرضي 1/ 158, وانظر حاشية الشيخ يس على شرح التصريح على التوضيح "طبعة عيسى البابي الحلبي" 1/ 280. 8 الرضي 2/ 314، 330، والمغني ص252.

مثل: أقائم الزيدان؟ لا ضميرا مثل: أقائم أنتما؟ 1. وكان يذهب مذهبه ومذهب الكوفيين في أنه لو تلت "لو" أن المؤكدة كانت هي وما بعدها فاعلا بفعل مقدر تقديره: ثبت2. وكان يذهب إلى أن "إلا" لا يوصف بها مثل غير إلا إذا كانت تالية لجمع منكر غير محصور مثل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ومثل: "ما جاءني أحد إلا زيد" بخلاف: "له علي عشرة إلا درهما" فإنه يتعين حينئذ أن تكون إلا حرف استثناء3. وكان يذهب في تخريج المسألة الزنبورية في رواية الكسائي: "فإذا هو إياها" مذهبا بعيدا، إذ يجعل كلمة إياها منصوبة على الحال من الضمير في الخبر المحذوف، والأصل: فإذا هو ثابت مثلها، ثم حُذف المضاف فانفصل الضمير وانتصب في اللفظ على الحال على سبيل النيابة، قال ابن هشام: وهو وجه غريب4. وكان يرى مع الزجاج أن المضاف إليه مجرور بتقدير حرف مثل: "اللام وفي ومن" لا بالمضاف كما ذهب سيبويه5. وكان يزعم أن من العرب من يصرف سراويل وأنكر ابن مالك ذلك عليه6. وكان يرى أن ما المصدرية قد تعمل عمل أختها أَنْ كما في الحديث: "كما تكونوا يولَّى عليكم" 7, ومما انفرد به ذهابه إلى أن المفعول المطلق قد يكون جملة، وجعل من ذلك مقول القول في مثل: "قال زيد: عمرو منطلق" وذهب إلى أن المفعولين الثاني والثالث لأنبأ في مثل: "أنبأت زيدا عمرا فاضلا" مفعول مطلق لأنهما نفس النبأ، يقول ابن هشام: "وهذا الذي قاله لم يقله أحد ولا يقتضيه النظر الصحيح8. وقد ذهب مع الزمخشري إلى أن {السَّمَاوَاتِ} في قوله عز شأنه: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ} مفعول مطلق لا مفعول به9. وكان ابن الحاجب دقيق النظر، فخاض في تعليلات كثيرة مستنبطا منها

_ 1 الرضي 1/ 77, وشرح التصريح على التوضيح 1/ 157، والمغني ص615. 2 الرضي 2/ 363، والهمع 1/ 138، وانظر المغني ص563 وموافقته الكوفيين في باب التنازع. 3 الرضي 1/ 225. 4 المغني ص97. 5 الرضي 1/ 225, والهمع 2/ 46. 6 أوضح المسالك لابن هشام "بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد" طبع القاهرة 3/ 142. 7 المغني ص779. 8 المغني ص737، وانظر ص489. 9 شرح التصريح 1/ 79.

ما لا يكاد يقف به عند حد، من ذلك تعليله بناء الاسم بشَبَهه للحرف من وجه واحد ومنعه من الصرف بشَبَهه للفعل من وجهين، يقول: لأن الشبه بالحرف يبعده عن الاسمية ويعقد صلة بينه وبين ما لا يجانسه، بينما الشبه بالفعل قريب؛ ولذلك لا بد من تعدد وجهه حتى يبتعد الاسم عن بابه، ويقول: إن صلة الحرف بالاسم كصلة الجماد بالإنسان, بينما صلة الفعل بالاسم كصلة الإنسان بالحيوان1. ويتساءل: لِمَ حُذف الموصوف وأُقيمت الصفة مقامه ولم يُفعل ذلك في الموصول؟ ويجيب بأن الصفة تدل على الذات التي دل عليها الموصوف بنفسها باعتبار التعريف والتنكير؛ لأنها تابعة للموصوف في ذلك، والموصول لا ينفك عن جعل الجملة التي معه في معنى اسم معرف، فلو حذف لكانت الجملة نكرة فيختل المعنى2.

_ 1 الأشباه والنظائر 2/ 232. 2 الأشباه والنظائر 2/ 245.

ابن هشام

3- ابن 1 هشام: هو جمال الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري، وُلد بالقاهرة سنة 708 للهجرة وبها توفي سنة 761, وقد طارت شهرته في العربية منذ حياته، فأقبل عليه الطلاب من كل فج يفيدون من علمه ومباحثه النحوية الدقيقة واستنباطاته الرائعة. ويقال: إنه لم يقرأ على أبي حيان سوى ديوان زهير، وكأنه ثمرة العلماء المصريين من أساتذته، وقد تحول يتعمق مذاهب النحاة، وتمثلها تمثلا غريبا نادرا، وهي مبثوثة في مصنفاته مع مناقشتها وبيان الضعيف منها والسديد، مع إثارته ما لا يحصى من الخواطر والآراء في كل ما يناقشه وكل ما يعرضه. وبلغ الإعجاب به لدى بعض معاصريه حدا

_ 1 راجع في ترجمة ابن هشام: الدرر الكامنة لابن حجر 7/ 308, وشذرات الذهب 6/ 191, وبغية الوعاة ص293، والمنهج الأحمد للعليمي ص255.

جعلهم يقولون: إنه أنحى من سيبويه! وخلّف في العربية مصنفات كثيرة، من أهمها: كتاب "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" وقد اختطّ له منهجا لم يسبق إليه، إذ لم يُقمه على أبواب النحو المعروفة، بل قسمه قسمين كبيرين؛ قسما أفرده للحروف والأدوات التي تشبه مفاتيح البيان في لغتنا، ومضى يوضّح وظائفها وطرق استخدامها مع عرض جميع الآراء المتصلة بها عرضا باهرا. أما القسم الثاني فتحدث فيه عن أحكام الجملة وأقسامها المتنوعة وأحكام الظرف والجار والمجرور وخصائص الأبواب النحوية وصور العبارات الغريبة, مع ما لا يكاد ينفد من ملاحظات وقواعد كلية تجسم أسرار العربية، وقد طبع هذا الكتاب مرارا، وطبع معه شرحان أو حاشيتان للأمير والدسوقي. ومن مصنفاته: "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" وهو مطبوع مرارا، وشرحه الشيخ خالد الأزهري باسم "التصريح على التوضيح" وكتب عليه حاشية الشيخ يس العليمي الحمصي، والحاشية والشرح مطبوعان معه. ولابن هشام بجانب هذين المصنفين شذور الذهب في معرفة كلام العرب، وهو مطبوع مرارا ومثله "قطر الندا وبل الصدا" و"الإعراب عن قواعد الإعراب". وله وراء ذلك مصنفات نحوية كثيرة لا تزال مخطوطة ومحفوظة على رفوف المكتبات المختلفة. وهو يمتاز فيها جميعا بوضوح عبارته مع الأداء الدقيق إلى أبعد حدود الدقة, مسهبا مطنبا أو موجزا مجملا. ومنهجه في النحو هو منهج المدرسة البغدادية، فهو يوازن بين آراء البصريين والكوفيين ومن تلاهما من النحاة في أقطار العالم العربي، مختارا لنفسه منها ما يتمشّى مع مقاييسه مظهرا قدرة فائقة في التوجيه والتعليل والتخريج، وكثيرا ما يشتق لنفسه رأيا جديدا لم يسبق إليه، وخاصة في توجيهاته الإعرابية على نحو ما يتضح لقارئ كتابه المغني. وهو في أغلب اختياراته يقف مع البصريين، من ذلك اختياره رأي سيبويه في أن المبتدأ مرفوع بالابتداء وأن الخبر مرفوع بالمبتدأ1، وأن كان وأخواتها

_ 1 شرح التصريح على التوضيح 1/ 158.

تعمل الرفع في اسمها والنصب في خبرها1، وأن المفعول به منصوب بالفعل2، وأن المضاف إليه مجرور بالمضاف لا بالإضافة ولا بمعنى اللام المحذوفة3، وقد لا نبالغ إذا قلنا: إنه كان يجل سيبويه إجلالا بعيدا، كما كان يجل جمهور البصريين، وفي كل جانب من كتاباته نراه متحمسا لهم مدافعا عن آرائهم، من ذلك أنه كان يذهب مذهب يونس بن حبيب في أن تاء أخت وبنت ليست للتأنيث4. وكان يرى رأي سيبويه وجمهور البصريين في أن المحذوف في مثل {تَأْمُرُونِّي} نون الرفع لا نون الوقاية5. وكان يرفض رأي الكوفيين القائل بأن أسماء الإشارة قد تحل محل أسماء الصلة، في مثل: "وهذا تحملين طليق" إذ يعرب الكوفيون هذا اسما موصولا بمعنى الذي6، كما رفض رأيهم متشيعا للبصريين في أن الوصف يسد معه الفاعل مسد الخبر إذا لم يتقدمه نفي أو استفهام في مثل: "خبيرٌ بنو لهب"7, وكان يحتم مع جمهور البصريين أن يكون الخبر مع الظرف والجار والمجرور محذوفا وتقديره: كائن أو مستقر, لا كان أو استقر8. وكان يختار رأي سيبويه في أن المرفوع بعد لولا في مثل: "لولا محمد لهلك العرب" مبتدأ مرفوع بالابتداء، يقول: "وليس المرفوع بعد لولا فاعلا بفعل محذوف ولا بلولا، خلافا لزاعمي ذلك"9 واختار رأيه في أن عسى في مثل عساك وعساه تجري مجرى لعل، ويوضح ذلك قائلا: إن في مثل هذا التعبير ثلاثة مذاهب: أحدها: أنها أجريت مجرى لعل في نصب الاسم ورفع الخبر كما أجريت لعل مجراها في اقتران خبرها بأن، قاله سيبويه، والثاني: أنها باقية على عملها عمل كان ولكن استعير ضمير النصب مكان ضمير الرفع، قاله الأخفش، ويورد ابن هشام عليه اعتراضين، كما يعترض على المذهب الثالث فيها، وهو مذهب المبرد وأبي علي الفارسي،

_ 1 التصريح 1/ 184. 2 التصريح 1/ 309. 3 التصريح 2/ 24. 4 التصريح 1/ 74. 5 المغني ص380، والتصريح 1/ 111. 6 التصريح 1/ 139. 7 التصريح 1/ 157. 8 التصريح 1/ 166, وانظر ابن يعيش 1/ 90. 9 المغني ص302, والتصريح 1/ 178، وانظر ابن يعيش 1/ 95، 3/ 118.

إذ ذهبا إلى أنها باقية على إعمالها عمل كان ولكن قلب الكلام فجعل المخبر عنه خبرا وبالعكس1, وواضح من اعتراضه على المذهبين الثاني والثالث أنه إنما يرتضي مذهب سيبويه. وكان يقف معه ضد الكسائي في أن زيدا في مثل: "هل زيدا رأيته؟ " منصوب على الاشتغال بفعل محذوف ولا يصح أن يكون مبتدأ2، وأن حيث لا تضاف إلى المفرد قياسا3، وأن اسم الفاعل لا يعمل إلا إذا كان بمعنى الحال والاستقبال, وقد تمسك الكسائي بإعماله وهو بمعنى الماضي في الآية الكريمة: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} وخرّج ذلك ابن هشام على حكاية الحال4. ومما خالف فيه الكسائي أيضا متشيعا لسيبويه وجمهور البصريين أن معمول اسم الفعل لا يصح أن يتقدم عليه5، وأن "إذن" الناصبة للمضارع لا بد أن تتصدر الجملة6، وأن المضارع ينصب بأن مضمرة وجوبا بعد اللام وأو وحتى والفاء والواو7. وكان يأخذ برأي سيبويه في أن "إذما" حرف شرط مثل إن الشرطية تماما خلافا للمبرد والفارسي القائلين بأنها ظرف زمان8، وكذلك أخذ برأيه في أنه لا يجوز أن يقال: "هذا لك وأباك" بنصب أباك مفعولا معه؛ لعدم تقدم فعل في الجملة أو شبهه خلافا للفارسي9. ومما كان يأخذ فيه برأي جمهور البصريين أن "زيد" في مثل: "إنْ زيد قام" فاعل لفعل محذوف لا مبتدأ خلافا للأخفش والكوفيين10، وأن الفاعل لا يصح أن يتقدم على فعله خلافا لأهل الكوفة11. وليس معنى ذلك أنه كان متعصبا لسيبويه وجمهور البصريين، وإنما معناه أنه كان يوافقهم في الكثرة الكثيرة من آرائهم النحوية، ولكن دون أن يوصد الأبواب أمام بعض آراء الكوفيين والبغداديين حين يراها جديرة بالاتباع، ومما كان يتابع فيه الكوفيين أن الفعل ماض ومضارع فقط وأن الأمر فرع من

_ 1 المغني ص164. 2 التصريح 1/ 297. 3 التصريح 2/ 39, والمغني ص141. 4 التصريح 2/ 66. 5 التصريح 2/ 200. 6 التصريح 2/ 234. 7 التصريح 2/ 235. 8 التصريح 2/ 247, وانظر المغني ص92. 9 التصريح 1/ 343. 10 التصريح 1/ 270. 11 التصريح 1/ 271.

المضارع المصحوب بلام الطلب في مثل: لتقم، حُذفت للتخفيف في مثل: قم واقعد وتبعها حرف المضارع، يقول: "وبقولهم أقول؛ لأن الأمر معنى حقه أن يؤدى بالحرف ولأنه أخو النهي ولم يدل عليه إلا بالحرف، ولأن الفعل إنما وضع لتقييد الحدث بالزمان المحصل وكونه أمرا أو خبرا خارج عن مقصوده"1. وكان سيبويه يذهب إلى أن "أبؤسا" في مثل: "عسى الغوير أبؤسا" خبر عسى، وذهب الكوفيون ومعهم ابن هشام إلى أن "أبؤسا" خبر لكان أو يكون محذوفة أي: يكون أبؤسا، والجملة خبر عسى2. وذهب سيبويه إلى أن "كيف" تكون دائما ظرفا, وذهب الكوفيون وتابعهم ابن هشام إلى أنها تكون ظرفا أحيانا وأحيانا اسما غير ظرف، بدليل أنه يبدل منها بالرفع فيقال: كيف أنت؟ أصحيح أم سقيم؟ ولا يبدل المرفوع من المنصوب3. وكان جمهور البصريين يمنع توكيد النكرة مطلقا وأجازه الأخفش والكوفيون إذا أفاد، وتابعهم ابن هشام، مصححا مثل: "اعتكفت أسبوعا كله"4. ومما أخذ فيه برأي الكوفيين إنكار أن التفسيرية, محتجا بأنه إذا قيل: "كتبت إليه أن قم" لم يكن قم نفس كتبت. ولهذا لو جئت بأي مكان أن في المثال لم تجده مقبولا في الطبع5. وكان يجوز مع الكوفيين منع صرف المنصرف في ضرورة الشعر6، وكذلك مد المقصور كقول بعض الشعراء: فلا فقر يدوم ولا غناء بمد كلمة غِنى7. وجوز أيضا مع الكوفيين عدا الفراء العطف على الضمير المتصل المخفوض بدون إعادة الخافض لقراءة حمزة وغيره: "تساءلون بِهِ وَالْأَرْحَامِ" بالخفض عطفا على الهاء المخفوضة بالباء8، كما جوز معهم الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول مستدلا بقراءة ابن عامر: "وكذلك زُيِّنَ لِكثِير من الْمشركينَ قَتْلُ أَوْلَادَهم شُرَكَائهم" بإضافة قتل إلى شركائهم, أو بعبارة أخرى: إضافة المصدر إلى فاعله مع الفصل بينهما بالمفعول به وهو كلمة "أولادَهم"9.

_ 1 المغني ص250, والتصريح 1/ 55. 2 المغني ص164، والتصريح 1/ 204. 3 المغني ص226، والهمع 1/ 202. 4 التصريح 2/ 124. 5 المغني ص29. 6 التصريح 2/ 228. 7 التصريح 2/ 293. 8 التصريح 2/ 150. 9 التصريح 2/ 57.

وكان يأخذ برأي الفراء في أن "لو" قد تكون حرفا مصدريا بمنزلة أن المصدرية, إلا أنها لا تنصب المضارع، ويكثر وقوعها حينئذ بعد ود ويود مثل: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ} و {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} وقد تقع بدونهما كقول قتيلة: ما كان ضرَّك لو مننت وربما ... مَنَّ الفتى وهو المغيظ المحنق ويعرض لرأي جمهور البصريين في أنها في هذه المواضع شرطية وأن جوابها محذوف، ويقول: "لا خفاء بما في ذلك من التكلف"1. وعلى نحو ما كان يختار ابن هشام لنفسه من المدرستين الكوفية والبصرية, كان يختار لنفسه أيضا من المدرستين البغدادية والأندلسية، ومما اختاره من آراء أبي علي الفارسي أن "حيث" قد تقع مفعولا به كما في قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 2 وأن قلما في مثل: "قلما يقوم زيد" لا تحتاج لفاعل؛ لأنها استُعملت استعمال ما النافية3، وأن "ما" قد تأتي زمانية، يقول: "وهذا ظاهر في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أي: استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم"4. ووافق ابن جني في أن الجملة قد تبدل من المفرد كقول بعض الشعراء: إلى الله أشكو بالمدينة حاجةً ... وبالشام أخرى كيف يلتقيانِ؟ على تقدير أن جملة الاستفهام: "كيف يلتقيان" بدل من كلمتي "حاجة وأخرى" أي: إلى الله أشكو حاجتين تعذر التقائهما5. وقد أكثر من مراجعة الزمخشري، ويكفي أن نذكر من ذلك ثلاثة أمثلة، أولها: رده ما ذهب إليه من أن "لن" تقتضي تأبيد النفي وتوكيده، يقول: "وكلاهما دعوى بلا دليل، ولو كانت للتأبيد لم يقيد منفيها باليوم في قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} ولكان ذكر الأبد في {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} تكرارا والأصل عدمه"6. وثاني الأمثلة: ما ذهب إليه الزمخشري في الواو من أنها قد تأتي للإباحة مثل أو، وذلك في تعليقه بتفسيره على آية البقرة: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ

_ 1 المغني ص293، والتصريح 2/ 254. 2 المغني ص140. 3 المغني ص750. 4 المغني ص335. 5 المغني ص475, والتصريح 2/ 162. 6 التصريح 2/ 229، والمغني ص314.

الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فقد ذكر عند الكلام على قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أن الواو تأتي للإباحة نحو: "جالس الحسن وابن سيرين", وأنه إنما جاء بتلك العبارة دفعا لتوهم إرادة الإباحة في قوله جل وعز: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} يقول ابن هشام: "وقلده في ذلك صاحب الإيضاح البياني ولا تعرف هذه المقالة لنحوي"1. والمثال الثالث: يتصل بعطف الزمخشري كلمات وعبارات متباعدة في الذكر الحكيم بعضها على بعض، إذ ذهب في قوله عز شأنه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} إلى أن {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} فيمن جر {مُسْتَقِرٌّ} عطف على {السَّاعَةُ} ، وهي في رأي ابن هشام مبتدأ حذف خبره. ومن ذلك ذهاب الزمخشري إلى أن الآية رقم 38 في سورة الذاريات: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} معطوفة على الآية رقم 20: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} , وفي رأي ابن هشام أنها معطوفة على كلمة {فِيهَا} في الآية السابقة لها رقم 37: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 2. وليس معنى ذلك أنه كان يعارض دائما آراء الزمخشري, فقد كان يرتضي بل يستحسن كثيرا من آرائه، من ذلك ما ذهب إليه من أن "أنما" بالفتح تفيد الحصر مثل "إنما" وقد اجتمعتا، كما يقول في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3. ويقف بإزاء إفادة أما التوكيد في مثل: "أما زيد فمنطلق" ويقول: قل من ذكره ولم أر من أحكم شرحه غير الزمخشري, فإنه قال: "فائدة: أما في الكلام أن تعطيه فضل توكيد تقول: زيد ذاهب, فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه لا محالة ذاهب وأنه بصدد الذهاب وأنه منه عزيمة قلت: أما زيد فذاهب؛ ولذلك قال سيبويه في تفسيره: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، وهذا التفسير مُدْل بفائدتين: بيان كونه توكيدا وأنه في معنى الشرط"4. وقد استصوب رأيه في أن "قد" تأتي للتوقع, وقد تأتي للتحقيق مثل: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ

_ 1 المغني ص66. 2 المغني ص605 وما بعدها. 3 المغني ص39. 4 المغني ص59.

عَلَيْهِ} إذ دخلت لتوكيد العلم1. وأكثر الأندلسيين دورانا في مصنفاته ابن عصفور وابن مالك وأبو حيان، ومما اختاره من آراء الأول أن "لَنْ" قد تأتي للدعاء، والحجة في ذلك قول الأعشى: لن تزالوا كذلكم ثم لا زلـ ... ـت لكم خالدا خلود الجبال2 وأن محل الجملة في التعليق النصب؛ ولذلك يعطف عليها بالنصب مثل: "عرفت من زيد وغير ذلك من الأمور" وكان ابن عصفور يستدل بقول كثير: وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا موجعاتِ القلب حتى تولت بنصب "موجعات" وعطفها على عبارة: "ما البكا" التي علق عنها فعل أدري3. أما ابن مالك فهو صاحبه الذي عني بشرح مصنفاته مثل التسهيل والألفية، ومن يقرؤه في "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" يجده يتابعه في جمهور آرائه، وقلما خالفه، وقد حكى آراءه أو قل كثيرا منها في كتابه "المغني" وتارة يوافقه وتارة يخالفه، ومما وافقه فيه أن إلى قد تأتي بمعنى في كما في الآية الكريمة: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 4, وأنه يمكن تخريج مسألة الزنبور: "فإذا هو إياها" على أن ضمير النصب استُعير في مكان ضمير الرفع، يقول: ويشهد له قراءة الحسن: "إياك تُعْبَدُ" ببناء الفعل للمفعول5، وأن حتى إذا عطفت على مجرور أُعيد الخافض فرقا بينها وبين الجارة مثل: مررت بالقوم حتى بزيد إلا إذا تعين كونها للعطف مثل: "عجبت من القوم حتى بنيهم". قال ابن هشام: وهو قيد حسن6، وأن "عن" الجارة قد تفيد الاستعانة مثل: "رميت عن القوس" أي: بالقوس7، ويقول: "عبارة ابن مالك في قد حسنة, فإنه قال: إنها تدخل على ماض متوقع، ولم يقل: إنها تفيد التوقع ... وهذا هو الحق"8, ويتابعه في أن كلا قد تأتي توكيدا لمعرفة مثل: "يا أشبه الناسِ كلِّ

_ 1 المغني ص188 وما بعدها. 2 المغني ص315. 3 المغني ص467, والتصريح 1/ 257. 4 المغني ص79. 5 المغني ص96. 6 المغني ص136. 7 المغني ص159. 8 المغني ص187.

الناس بالقمر" وأنها ليست حينئذ نعتا كما زعم أبو حيان1. وكان يعجب بقوله في كيف: "لم يقل أحد: إنها ظرف إذ ليست زمانا ولا مكانا، ولكنها لما كانت تفسَّر بقولك على أي حال؛ لكونها سؤالا عن الأحوال العامة سميت ظرفا؛ لأنها في تأويل الجار والمجرور، واسم الظرف يطلق عليهما مجازا"2, كما كان يعجب بقوله: إن لما ظرف بمعنى "إذ" لا بمعنى حين كما زعم الفارسي وابن جني3. أما أبو حيان, فإنه كاد أن لا يوافقه في شيء، وكان كما أسلفنا يكثر من الخلاف على ابن مالك، وكأنما جعل ابن هشام نصب عينيه أن ينقض كل ما أورده عليه4، وكذلك على الزمخشري5. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن أهم نحوي مصري تعقبه في آرائه هو ابن الحاجب، وكثيرا ما يثبت عليه السهو والوهم والتعسف6, وكثيرا ما يتوقف لنقض آرائه7. وكتابه "المغني" في الواقع موسوعة كبرى لعرض آراء النحاة السابقين له في مختلف الأصقاع العربية، وهو ليس عرضا فقط بل هو مناقشة واسعة لتلك الآراء وتبين الصحيح منها والفاسد، مع كثرة الاستنباطات ومع اشتقاق الآراء المبتكرة غير المسبوقة، ويكفي أن نضرب لذلك بعض الأمثلة كذهابه إلى أن "عشر" في قولنا: اثني عشر حالة محل النون في اثنين، وهي بذلك ليست مضافة إلى ما قبلها ولا محل لها من الإعراب8. ومن ذلك أن كان وأخواتها ما عدا ليس تدل على الحدث كما تدل على الزمان9، وأن الحال كما تأتي مؤكدة لعاملها في مثل: {وَلَّى مُدْبِرًا} تأتي مؤكدة لصاحبها مثل: "جاء القوم طرا", و {لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} 10. وأهم من الآراء المبتكرة وضعه للضوابط النحوية على نحو ما يتجلى في الأبواب الثاني والثالث والرابع والخامس من كتابه المغني، وقد بلغت حدا رائعا من

_ 1 المغني ص212. 2 المغني ص226. 3 المغني ص310. 4 انظر المغني ص117، 136، 212، 216. 5 انظر مثلا المغني ص32، 39، 208. 6 انظر المغني ص35، 299. 7 راجع المغني ص73، 103، 290، 514. 8 الهمع 1/ 14. 9 المغني ص488. 10 المغني ص518.

الدقة والسداد. ولا تقل عنها أهمية القواعد النحوية الكلية التي ضمنها الباب الثامن من هذا الكتاب، وهي مقتبسة في جملتها من قواعد علم الأصول، كقاعدة أن الشيء قد يعطى حكم ما أشبهه في معناه أو في لفظه أو فيهما. وقد عرضها في أربع وعشرين صورة جزئية1. ولعل في ذلك كله ما يصور من بعض الوجوه نشاط ابن هشام النحوي ومدى استيعابه لآراء النحاة السالفين, ومدى فطنته في استخلاص الآراء واستنباطها والحوار فيها كأدق ما يكون الحوار, مع النفوذ إلى القوانين النحوية الكلية العامة.

_ 1 المغني ص751.

نحاة متأخرون

4- نحاة متأخرون: أخذت الدراسات النحوية تنشط في مصر نشاطا واسعا منذ عصر ابن هشام، كما أخذ يتكاثر واضعو الشروح والحواشي على مصنفات ابن هشام وابن مالك، وأول من نلقاه منهم ابن1 عَقيل عبد الله بن عبد الرحمن المتوفى 769 للهجرة، وهو يعد في تلامذة أبي حيان. وكان يعنى بالقراءات والتفسير والأصول والفقه، واشتغل بالقضاء فترة، ودرس للطلاب في غير مسجد بالقاهرة، وله شرح على التسهيل لابن مالك وشرحه على الألفية ذائع مشهور، وعني به كثيرون فكتبوا عليه حواشي، ومن أشهرها حاشية الخضري، وهي مطبوعة معه مرارا. ويمتاز هذا الشرح بوضوح العبارة وسهولتها وقربها من أذهان الناشئة، وهو يصور فيه آراء النحاة وخاصة حين يخالفهم ابن مالك، ويتصدى لابنه بدر الدين حين يخالف أباه في شروحه على مصنفاته: التسهيل وغيره، مثبتا عليه السهو والخطأ2. ومر بنا أن ابن مالك كان يخالف البصريين وإمامهم سيبويه في آراء كثيرة، وقد

_ 1 انظر في ترجمة ابن عقيل: بغية الوعاة للسيوطي ص284, والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر رقم 2157, وشذرات الذهب 6/ 214. 2 انظر مثلا شرح ابن عقيل ومعه حاشية الخضري عليه "طبعة المطبعة الأزهرية سنة 1319هـ" 1/ 187 وما بعدها.

توقف ابن عقيل إزاء كثير من هذه الآراء, منحازا للبصريين وسيبويه، من ذلك ذهاب ابن مالك إلى أن الأسماء الخمسة مثل "أبوك" معربة بالحروف، بينما ذهب سيبويه إلى أنها معربة بحركات مقدرة على الواو والألف والياء، وبرأيه أخذ ابن عقيل ناعتا له بأنه هو الصحيح1. وكان ابن مالك يختار اتصال الضمير في مثل: كنته وخلتنيه، واختار سيبويه الانفصال، فتقول: كنت إياه وخلتني إياه، ويقول ابن عقيل: "مذهب سيبويه أرجح؛ لأنه هو الكثير في لسان العرب على ما حكاه سيبويه عنهم"2. ويعرض لآراء النحاة في رافع المبتدأ والخبر، ويختار رأي سيبويه وجمهور البصريين وما ذهبوا إليه من أن المبتدأ مرفوع بالابتداء وأن الخبر مرفوع بالمبتدأ، ويقول على هدي أستاذه أبي حيان: "وهذا الخلاف مما لا طائل فيه"3. ويذكر رأي ابن مالك في أن عائد الصلة في مثل: "جاء الذي كلمت أمس" بدل من كلمته, ومثل: "الذي أنا معطيك كتاب واحد" بدل من معطيكه، ولا يلبث أن يقول: "كلام المصنف يقتضي أنه كثير وليس كذلك, بل الكثير حذفه من الفعل، وأما الوصف فالحذف منه قليل"4. وعلى هذا النحو كثيرا ما يراجع ابن مالك. وكان كثيرا ما يقرن آراءه في الألفية بآرائه في التسهيل وغيره. وممن نلقاه في القرن الثامن الهجري ابن الصائغ5 محمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة 776 للهجرة، وقد ولي مدة قضاء العسكر وإفتاء دار العدل، ودرس للطلاب بالجامع الطولوني وغيره، وله في النحو مصنفات مختلفة، منها: التذكرة في عدة مجلدات وشرح على ألفية ابن مالك. ومما حكاه له السيوطي في الهمع من آراء, ذهابه إلى أنه يجوز خلو جملة الصلة من ضمير يعود على الموصول يربطها به إذا عُطف عليها بالفاء جملة مشتملة عليه مثل: "الذي يطير الذباب فيغصب زيد" لارتباطهما بالفاء وصيرورتهما جملة واحدة6. وكان يذهب في جملة "أبو من هو" في قولك: "عرفت زيدا أبو من هو" إلى أنها بدل اشتمال

_ 1 شرح ابن عقيل في الطبعة السالفة 1/ 36. 2 شرح ابن عقيل 1/ 58. 3 شرح ابن عقيل 1/ 91. 4 شرح ابن عقيل 1/ 82. 5 انظر في ترجمة ابن الصائغ: الدرر الكامنة رقم 1347, وبغية الوعاة ص65, وشذرات الذهب 6/ 248. 6 الهمع 1/ 86.

من زيد، بينما ذهب ابن عصفور إلى أنها بدل كل من كل1. وذهب إلى أن "عوض" بُنيت على الضم مع أنها غير مضافة إلى جملة؛ حملا على نقيضتها "قط"2. وكان يرى أن "زيتا" في مثل: "ادهنت زيتا" منصوبة على نزع الخافض بدليل قولك: "ادهنت بزيت", وأنه ينبغي أن يوقف على ما يماثل هذه الصيغة ويعرب تمييزا عند السماع مثل: "امتلأ الإناء ماءً" للزوم كلمة ماء التنكير ووجوب تأخيرها بإجماع3. ونمضي في القرن التاسع الهجري, فنلتقي بنحويين كثيرين، من أنبههم الدماميني4 محمد بن أبي بكر بن عمر الإسكندري المتوفى سنة 837 للهجرة، ناب في الحكم وتصدر بالجامع الأزهر لإقراء النحو، وأقرأ بالإسكندرية، ودخل اليمن سنة 820 وركب البحر إلى الهند، وظل بها إلى أن لبى نداء ربه. وله من التصانيف النحوية شرح على التسهيل لابن مالك, وشرح على مغني ابن هشام سماه "تحفة الغريب في حاشية مغني اللبيب" تحامل فيه تحاملا شديدا على ابن هشام، مما جعل الشمني الإسكندري المتوفى سنة 872 للهجرة يتعقبه في حاشيته على المغني وقد سماها "المنصف من الكلام على مغني ابن هشام", والحاشيتان جميعا مطبوعتان معا. ومن أمثلة تعقبه لابن هشام في مغنيه أنه ذهب في باب "أم" إلى أنها هي التي يتعين وقوعها بعد همزة التسوية لا "أو", فلا يقال: "سواء أكان كذا أو كذا" ولكن يقال: "سواء أكان كذا أم كذا" وكذلك "سواء كان كذا أم كذا" بدون همزة التسوية، ولاحظ الدماميني أن ذلك إنما يكون حين تتلو سواء الهمزة، وهي غير لازمة، فيجوز مجيء أو في مثل: "سواء عليَّ قمت أو قعدت", وفي قول الفقهاء: "سواء كان كذا أو كذا". وذكر ابن ابن هشام في باب "جَيْر" أنها حرف بمعنى نعم، لا اسم بمعنى حقا فتكون مصدرا, وراجعه الدماميني بأنها بمعنى حقا، وأنها بُنيت مثل ما التي بمعنى شيء، وعلة

_ 1 الهمع 1/ 155. 2 الأشباه والنظائر للسيوطي 1/ 196. 3 الأشباه والنظائر 2/ 83. 4 انظر في ترجمة الدماميني: بغية الوعاة ص27, والضوء اللامع للسخاوي ج7 رقم 445, والشذرات 7/ 181، والبدر الطالع للشوكاني 2/ 150.

بنائها موافقتها لجير الحرفية، ونقض عليه الشمني كلامه قائلا: إن ما إنما بنيت لمشابهتها الحرف في الوضع بخلاف جير, وأن من يقولون باسميتها لا يثبتون جير الحرفية. وعرض ابن هشام في باب "ما" إلى أنها تكون مصدرية زمانية, وأنها تدل على الزمان بالنيابة لا بذاتها مثل: {مَا دُمْتُ حَيًّا} أصله في تقريره: مدة دوامي حيا، واعترضه الدماميني وقال: إن "ما" لا تدل على الزمان أصلا لا بطريق الأصالة, ولا بطريق النيابة, وإنما يفهم الزمان في مثل الآية بقرينة. وكان يذهب إلى أن الإضافة في "يومئذ" ليست من إضافة أحد المترادفين للآخر، وإنما هي من إضافة الأعم للأخص مثل "شجرعنب"1 ومن غريب ما كان يذهب إليه أن جملة الصلة لها محل من الإعراب2. ومن نحاة النصف الثاني من القرن التاسع الهجري الكافيجي3 محمد بن سليمان الرومي المتوفى سنة 879 للهجرة، وُلد في بلاد الروم، ثم دخل الشام وبيت المقدس, واستقر في القاهرة ودرس في الشيخونية وغيرها، وكان لا يشق غباره في الفلسفة والمنطق والنحو، وأكثر تآليفه مختصرات وأجلها وأنفعها شرحه على قواعد الإعراب لابن هشام. ومما أحصى له السيوطي تلميذه من آراء أنه كان لا يسوِّغ الإخبار بجملة ندائية مثل: زيد يا أخاه, ولا مصدرة بلكن أو بل أو حتى4. وكان يرى أن {إِذًا} في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} ليست إذًا المعهودة وإنما هي إذًا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في "يومئذ"5. وكان يجوز خلافا لسيبويه العطف على معمولي عاملين مختلفين مطلقا مثل: "كان آكلا طعاما زيد وتمرا عمرو" ومثل

_ 1 شرح التصريح على التوضيح للشيخ خالد الأزهري, ومعه حاشية الشيخ يس "طبع المطبعة الأزهرية سنة 1325هـ" 1/ 35. 2 انظر حاشية الشيخ يس على شرح التصريح 1/ 142, ومن ملاحظاته الدقيقة أن كلا من الألف والتاء في جمع المؤنث السالم جاء للتأنيث والجماعة، أما الألف ففي مثل حبلى ورجال, وأما التاء ففي مثل فاطمة ومثل كمأة جمع كمء، انظر حاشية الشيخ يس على شرح التصريح 1/ 79. 3 راجع في ترجمة الكافيجي: الضوء اللامع ج7 رقم 655, وشذرات الذهب 7/ 326, وبغية الوعاة للسيوطي ص48. 4 الهمع 1/ 96. 5 الهمع 1/ 205.

"لا في الدار زيد, والحجرة عمرو" على الرغم من أن مثل ذلك لم يأتِ عن العرب، وكان يحتج لرأيه "بأن جزئيات الكلام إذا أفادت المعنى المقصود منها على وجه الاستقامة, لا يُحتاج إلى النقل والسماع, وإلا لزم توقف تراكيب العلماء في تصانيفهم عليه"1. ولمع حينئذ اسم الشيخ خالد2 الأزهري المتوفى سنة 905 للهجرة، وُلد بجرجا ونشأ بالقاهرة وأكب على علوم اللغة والنحو، ولازم الشمني وغيره، وأقرأ الطلاب في الأزهر فنُسب إليه، ومن مصنفاته النحوية "المقدمة الأزهرية في علم العربية" وشرح عليها وهما مطبوعان، وشرح على كتاب ابن هشام "الإعراب عن قواعد الإعراب" وشرح على الآجرومية وشرح على الألفية, وأهم شروحه "شرح التصريح على التوضيح" لابن مالك وهو مطبوع بمصر في مجلدين مرارا. ويقول في مقدمته: إنه مزج كلامه في شرحه بكلام ابن هشام, وإنه ذكر أوجه الخلاف في المسائل النحوية وعللها وما يطوى فيها من أدلة، وإنه أوضح ما شاب كلام ابن هشام أحيانا من تناقض وما خالف فيه ابن مالك مع النص دائما على ما انفرد به، وقد صورنا ذلك في حديثنا عن ابن هشام مثبتين كثيرا من المواضع التي نص فيها صاحب التصريح على آرائه. وهو عادة يفيض في بيان الخلاف وما يسنده من علل، كما أشرنا، ويكفي أن نمثل لذلك بمثال واحد هو تخفيف النون في قراءة نافع: "تأمرونِي وتحاجونِي" يقول: "الصحيح عند سيبويه أن المحذوف نون الرفع واختاره ابن مالك؛ لأن نون الرفع عُهد حذفها للجازم والناصب, ولتوالي الأمثال في نحو {لَتُبْلَوُنَّ} , ولأن نون الرفع نائبة عن الضمة والضمة تحذف تخفيفا كما في قراءة أبي عمرو نحو "يأمركُمْ" ... وقيل: المحذوف نون الوقاية لا نون الرفع, وجزم ابن هشام به في الشذور، وهو مذهب الأخفش والمبرد وأبي علي وابن جني وأكثر المتأخرين واستدلوا له بأوجه، أحدها: أن نون الوقاية حصل بها التكرار والاستثقال, فكانت أولى بالحذف، وثانيها: أن نون الرفع علامة الإعراب, فالمحافظة عليها أولى, وثالثها: أن نون الرفع لعامل، فلو حُذفت للزم وجود مؤثر بلا أثر

_ 1 الهمع 2/ 139. 2 انظر في ترجمة الشيخ خالد: الكواكب السائرة 1/ 188, والخطط الجديدة لعلي مبارك 10/ 53, وشذرات الذهب 8/ 26, والضوء اللامع ج3 رقم 661.

مع إمكانه"1. وكان يعاصره السيوطي، وسنخصه بكلمة أكثر تفصيلا، وربما كان أنبه نحوي أخرجته مصر في القرن العاشر الهجري الأشموني2: نور الدين علي بن محمد بن عيسى المتوفى سنة 929 للهجرة، أخذ عن الكافيجي وغيره من نحاة عصره في القاهرة، وكان عالما زاهدا متقشفا، يكب على النحو وتدريسه للطلاب. ومن أهم مصنفاته النحوية شرحه على الألفية الذي سماه "منهج السالك إلى ألفية ابن مالك" وقد تمثل فيه الشروح الكثيرة التي سبقته تمثلا منقطع النظير, كما تمثل كتابات النحاة المختلفين وتحول ذلك كله سيولا في شرحه. وعادة يعرض الآراء المختلفة وما يسندها من علل، وكثيرا ما يختار لنفسه الرأي الصحيح عنده مصرحا بذلك على نحو قوله في الإعرب: "في الاصطلاح فيه مذهبان, أحدهما: أنه لفظي واختاره الناظم ونسبه إلى المحققين وعرفه في التسهيل بقوله: ما جيء به لبيان مقتضى العامل من حركة أو حرف أو سكون أو حذف، والثاني: أنه معنوي والحركات دلائل عليه واختاره الأعلم وكثيرون، وهو ظاهر مذهب سيبويه، وعرفوه بأنه تغيير أواخر الكلم لاختلاف العوامل الداخلة عليها لفظا أو تقديرا. والمذهب الأول أقرب إلى الصواب؛ لأن المذهب الثاني يقتضي أن التغيير الأول "وهو الانتقال من الوقف إلى الرفع" ليس إعرابا؛ لأن العوامل لم تختلف بعد وليس كذلك"3. وواضح هنا استمداده تعريف الإعراب من التسهيل؛ مصنف ابن مالك المعروف, وهو يكثر في شرحه كله من الاستمداد منه: استمداد التعاريف وآراء النحاة وبراهينهم على تلك الآراء. وقد يناقش المصنف في بعض ما ذكره فيه على نحو مناقشته له في أن المضارع حين يتصل بنون الإناث يصبح مبنيا بلا خلاف، يقول: "وليس كما قال, فقد ذهب قوم منهم ابن درستويه وابن طلحة والسهيلي إلى أنه معرب بإعراب مقدر منع من ظهوره ما عرض فيه من الشبه بالفعل

_ 1 انظر شرح التصريح ومعه حاشية الشيخ يس 1/ 111. 2 انظر في ترجمة الأشموني: الضوء اللامع 6/ 5, وشذرات الذهب 8/ 165. 3 شرح الأشموني ومعه حاشية الصبان "طبع دار الكتب العربية الكبرى" 1/ 43.

الماضي"1. ويتوقف بإزاء اختيار المصنف للضمير المتصل في مثل: "كنته وخلتنيه", مخالفا بذلك سيبويه الذي كان يختار كما قدمنا الضمير المنفصل, فيقال: "كنت إياه وخلتني إياه"، قائلا: "وافق الناظم "للألفية" أي: ابن مالك في التسهيل سيبويه على اختيار الانفصال في باب خلتنيه؛ لأنه خبر مبتدأ في الأصل, وقد حجزه عن الفعل منصوب آخر بخلاف هاء كنته, فإنها خبر مبتدأ في الأصل ولكنه شبيه بهاء "ضربته" في أنه لم يحجزه إلا ضمير مرفوع، والمرفوع كجزء من الفعل. أما ما اختاره الناظم هنا فهو مختار الرماني وابن الطراوة"2. وعلى هذا النحو لا يزال يقابل آراء ابن مالك في الألفية على آرائه في التسهيل وآراء النحاة المختلفين من بصريين وكوفيين وبغداديين وأندلسيين ومصريين، وكثيرا ما يفصح عن رأيه مبينا وجهة نظره. وتظل الدراسات النحوية ناشطة في العصر العثماني، ويتكاثر الشراح وأصحاب الحواشي، ومن أشهرهم في القرن الحادي عشر الهجري الشنواني المتوفى سنة 1019 والدنوشري المتوفى سنة 1025 والشيخ يس صاحب حاشية التصريح على التوضيح المتوفى سنة 1061. ويلقانا في القرن الثاني عشر الهجري الحفني المتوفى سنة 1178 ومحمد الأمير وله حاشية على المغني مطبوعة فرغ من تأليفها -كما قال في خاتمتها- سنة 1188. ولعل أكثر أصحاب الحواشي والشروح في هذا العصر شهرةً الصبان3 محمد بن علي المتوفى سنة 1206 للهجرة، وله مصنفات مختلفة في المنطق والعروض والبلاغة، وأهم مصنفاته حاشية على شرح الأشموني، وقد طبعت مرارا، ونراه يقول في فاتحتها: إنه سيلخص فيها زبد ما كتبه على هذا الشرح أعلام النحو السابقون مع تنبيهه على كثير مما وقع لهم من أسقام الأفهام وأوهام الأذهان، ومع جلبه فرائد من بنات فكره، تقر بها عين الناظر. وربما كان أكثر من عارضهم في حاشيته أستاذه الحفني، وكانت له هو الآخر حاشية على الأشموني، ويكنى دائما عنه بكلمة "البعض"4. وهو يحمل مادة واسعة من خلافات النحاة يكمل

_ 1 الشرح المذكور 1/ 57. 2 شرح الأشموني 1/ 103. 3 راجع في ترجمة الصبان: تاريخ الجبرتي 2/ 227, والخطط التوفيقية 3/ 84. 4 انظر المقدمة 1/ 2 وقابل بـ 1/ 22، 43 وفي مواضع مختلفة.

بها ما ذكره الأشموني في شرحه، كما يحمل مادة واسعة من الاعتراضات والأجوبة. ونمضي إلى العصر الحديث، ويلقانا في فاتحته الشيخ محمد1 الدسوقي المتوفى سنة 1230هـ/ 1815م, وكان يتصدر للإقراء في الأزهر، وله حاشية مطولة على المغني لابن هشام، وهي مطبوعة بمصر مرارا، وتضم بين دفتيها عتاد الشروح والحواشي التي وضعت على المغني منذ ألّفه صاحبه، وتضم أيضا مباحث لغوية وأصولية مختلفة. وللشيخ حسن2 العطار المتوفى سنة 1250هـ/ 1834م حاشية مختصرة على شرح الأزهرية للشيخ خالد الأزهري طبعت بمصر مرارا. وربما كانت أهم الحواشي التي ألفت بمصر بعد ذلك حاشية الشيخ محمد الخضري الدمياطي على ابن عقيل وقد توفي سنة 1870م، وهي تمتاز بالوضوح وغزارة المادة وخاصة في بيان الخلافات النحوية وفي عرض آراء النحاة المتأخرين وخلاصة ما حشدوه في حواشيهم وشروحهم من اعتراضات وأجوبة وحجج وأدلة. ومنذ أن أُنشئت دار العلوم في القرن الماضي يعم بمصر اتجاه جديد في تصنيف النحو تصنيفا يقصد به إلى تيسيره على الناشئة، وتلك وجهة أخرى غير وجهات المدارس التي حاولنا تصويرها في هذا الكتاب، ولعل من الخير أن نعود إلى الوراء ثانية لنترجم ترجمة موجزة للسيوطي, ونعرف تعريفا مختصرا بكتبه وآرائه النحوية. السيوطي 3: هو جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد المتوفى سنة 911 للهجرة، عكف على الدرس والتحصيل منذ نعومة أظفاره، ولم يلبث أن أخذ في التأليف والتدريس للطلاب في المدرستين الشيخونية والبيبرسية. وهو أغزر العلماء المصريين

_ 1 انظر في ترجمة الدسوقي: تاريخ الجبرتي 4/ 231. 2 انظر في ترجمة العطار: تاريخ الجبرتي 4/ 233, والخطط التوفيقية 4/ 48, وتاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر لشيخو 1/ 51. 3 راجع في ترجمة السيوطي ترجمته لنفسه في حسن المحاضرة 1/ 188, والضوء اللامع ج4 رقم 203, والكواكب السائرة 1/ 226، والبدر الطالع 1/ 328, والنور السافر للعيدروسي ص54, وذيل الطبقات الكبرى للشعراني ص4.

في عصره تأليفا في جميع الميادين: في التفسير والحديث والفقه والتاريخ والتراجم واللغة والنحو. ومن أنفس كتبه اللغوية كتابه "المزهر في علوم اللغة" وهو يضم مباحث واسعة في فقه العربية. وله في النحو مصنفات مختلفة، منها شرحه لمغني ابن هشام وشرحه لشواهده، وكتاب الاقتراح في أصول النحو، ألفه كما يقول في مقدمته على هدي كتاب الخصائص لابن جني، وقد لخص فيه جميع ما يتعلق بتلك الأصول، ورجع أيضا إلى كتابي "لمع الأدلة" و"الإغراب في جدل الإعراب" لابن الأنباري، وأخذ من الأول لبابه وأدخله في ثنايا كتابه, وضم خلاصة الثاني إلى مباحثه في العلة. وهو يتناول في الكتاب السماع والإجماع والقياس والاستصحاب والأدلة والتعارض والترجيح بين مذهبي البصريين والكوفيين، ويتضح في الأبواب الأخيرة أثر استضاءته بعلم أصول الفقه. ومن مصنفاته في أصول النحو وقواعده الكلية كتاب الأشباه والنظائر المطبوع مثل سالفه بحيدر آباد في الهند، وهو في أربعة مجلدات، وفيه يطبق على العربية المنهج الذي اتخذه الفقهاء في مصنفاتهم للأشباه والنظائر في الفقه، ويصرح بذلك في مقدمته له. ونراه يستعرض أهم ما ألفه الفقهاء في هذا الموضوع, قائلا: إنه وضع كتابه في العربية على ضوء كتاب القاضي تاج الدين السبكي، ما عدا صدره فإنه استلهم فيه كتاب الزركشي، والكتابان جميعا في الأشباه والنظائر الفقهية. وكتاب السيوطي موزع على سبعة فنون: الأول: فن القواعد والأصول التي تُرَدّ إليها الجزئيات والفروع ... وهو -كما يقول- معظم الكتاب ومهمه، والثاني: فن الضوابط والاستثناءات والتقسيمات، والثالث: فن بناء المسائل بعضها على بعض، والفن الرابع: فن معرفة الجمع والفرق، والخامس: فن الألغاز والأحاجي والمطارحات، والسادس: فن المناظرات والمحاورات والفتاوى، والسابع: فن الأفراد والغرائب. وله في قواعد النحو والتصريف كتاب "همع الهوامع شرح جمع الجوامع" وهو موسوعة ضخمة لآراء النحاة في تلك القواعد من بصريين وكوفيين وبغداديين وأندلسيين ومصريين، ومع كل رأي حججه وأدلته، جمعها من نحو مائة مصنف، لعل أهمها ارتشاف الضرب لأبي حيان. وهو يتعقب فيه آراء النحاة حتى عصره،

مستقصيا لها استقصاء دقيقا، على نحو ما يتضح من ذكرنا له الدائم في هوامش هذا الكتاب. ومن حين لآخر تلقانا آراؤه النحوية، وهي في جمهورها اختيارات من آراء سابقيه، من ذلك أنه كان يختار -وفاقا لأبي حيان- أن الأسماء قبل تركيبها في العبارات لا مبنية ولا معربة؛ لعدم الموجب لكل منهما1. وجاء عن العرب "وجدني" في وجدنني مع نون الإناث، واختلف النحاة أي النونين المحذوفة: نون الوقاية أو نون الإناث، وقال سيبويه: نون الإناث واختار قوله ابن مالك، وقال المبرد وابن جني وأبو حيان: نون الوقاية؛ لأن الأول ضمير فاعل فلا تحذف، واختار السيوطي رأيهم2. وكان البصريون يمنعون تقديم الظرف والجار والمجرور المتعلقين بالصلة على الموصول، بينما كان الكوفيون -ومعهم السيوطي- يجيزون ذلك مطلقا3. وقد صوّب رأي أستاذه الكافيجي في إعراب "بحسبك درهم" إذ كان يرى أن "بحسبك" خبر مقدم و"درهم" مبتدأ مؤخر4. واختار رأي الكوفيين في أن المبتدأ والخبر مترافعان كل منهما يرفع صاحبه5. وفي باب كاد يقول: "زعم قوم أن نفي كاد إثبات للخبر وإثباتها نفي له، وشاع ذلك على الألسنة ... والتحقيق أنها كسائر الأفعال نفيها نفي وإثباتها إثبات, إلا أن معناها المقاربة لا وقوع الفعل, فنفيها نفي لمقاربة الفعل، ويلزم منه نفي الفعل ضرورة أن من لم يقارب الفعل لم يقع منه الفعل، وإثباتها إثبات لمقاربة الفعل ولا يلزم من مقاربته وقوعه، فقولك: كاد زيد يقوم معناه: قارب القيام ولم يقم, ومنه: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} أي: يقارب الإضاءة6. وكان الجمهور يذهب في مثل: "لا أبا لك" إلى أن أبا مضافة إلى المجرور باللام الزائدة, وذهب الفارسي -وتبعه السيوطي- إلى أن أبا مفردة جاءت على لغة القصر والمجرور باللام هو الخبر، يقول: "وإنما اخترت رأي أبي علي لسلامته من التأويل والزيادة والحذف, وكلها خلاف الأصل"7. ويقول في باب النداء: إن ابن مالك ذهب

_ 1 الهمع 1/ 19. 2 الهمع 1/ 65. 3 الهمع 1/ 88. 4 الهمع 1/ 93. 5 الهمع 1/ 95. 6 الهمع 1/ 132. 7 الهمع 1/ 145.

إلى أن النداء بالهمزة قليل, ويذكر أنه وقف على أكثر من ثلاثمائة شاهد لها, وأنه لذلك أفردها بتأليف خاص1. ويعرض الآراء المختلفة في سبب بناء "الآن" ويختار أنها معربة بالنصب على الظرفية2، كما يختار عدم بناء المضاف لبناء المضاف إليه في مثل يومئذ، متابعا في ذلك ابن مالك3، ويتابع الشلوبين في أن الجملة المفسرة تكون ذات محل أو غير ذات محل حسب ما تفسره4، كما يتابع الفارابي في أن رُبَّ تأتي للتقليل غالبا وللتكثير نادرا5. وعلى هذا النحو لا يزال السيوطي يختار لنفسه من مذاهب النحويين ما يتجه عنده تعليله وما يراه أكثر سدادا. وهو بذلك يجري في اتجاه مدرسته التي كان أفرادها من المصريين لا يزالون يتخيرون من الآراء النحوية ما تستقيم حججه وبراهينه.

_ 1 الهمع 1/ 173. 2 الهمع 1/ 208. 3 الهمع 1/ 218 وما بعدها. 4 الهمع 1/ 248. 5 الهمع 2/ 25.

خاتمة

خاتمة: هذا البحث موزع على ثلاثة أقسام، أما القسم الأول فخاص بمدرسة البصرة، وقد تحدثت فيه عن وضع البصرة للنحو، مصورا الأسباب التي دفعت إلى ذلك، وكيف أن جهود أبي الأسود الدؤلي وتلاميذه إنما تقف عند أول نقط يحرِّر حركات أواخر الكلمات في الذكر الحكيم, وكذلك عند أول نقط للحروف المعجمة في المصاحف؛ تمييزا لها من الحروف المهملة. وأول نحوي بصري بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة نجد عنده مقدمات واضحة لوضع قواعد النحو هو ابن أبي إسحاق الحضرمي، وخلفه تلاميذه البصريون يتقدمهم عيسى بن عمر، يتشددون في اطراد القواعد النحوية مع دعمها بالعلل والأقيسة، ومع الاستقراء الدقيق لقراءات القرآن الكريم مشتقين قواعدهم منها, ومما كان يجري على أفواه العرب الفصحاء في بوادي نجد والحجاز وتهامة. وكانت الكوفة حتى منتصف القرن الثاني الهجري مشغولة عن ذلك كله بترتيل القرآن ورواية الشعر والأخبار، ولم تكن قد بلغت من الرقي العقلي ما بلغته البصرة، مما أتاح لها وضع النحو وقواعده وأصوله وضعا نهائيا. وللخليل بن أحمد في ذلك القِدْح المعلَّى، فهو الذي أقام صرح النحو، وهو الذي شاد قواعده وأركانه بحيث لم يعد فيها أي أَمْت أو عوج أو انحراف, وهو الذي صاغ قوانين أبنيته واشتقاقاته وإعلالاته وإبدالاته، وهو الذي ضبط نظرية العوامل والمعمولات وبسط ظلالها على جميع الكلمات والعبارات وكل ما يتصل بها من تقديرات وتأويلات واحتمالات، وهو الذي أرسى قواعد السماع والتعليل والقياس، فلا بد أن يشتق كل قانون نحوي إما من استقراءات القراءات للذكر الحكيم, وإما من مشافهة البدو الخلص الذين لم تفسد سلائقهم ولا ألسنتهم، ولا بد لكل قانون من علة أو علل عقلية تسنده، ولا بد له من أن يقوم على القياس قياس, يجري على الكثرة المطردة من كلام العرب، ويتسع ليجري عليه كل ما ينشئ النحاة من صياغات

بقصد تمرين الناشئة. ويخلفه على هذه المادة النحوية العلمية الخصبة تلميذه سيبويه، ويعكف عليها محللا مستنبطا، وما يلبث أن يؤلف فيها "الكتاب" الذي أحاط فيه بأصول النحو وقواعده ودقائقه والذي لم يترك فيه ظاهرة من ظواهره إلا أتقنها علما وفقها وتحليلا، ولم يعن فيه عناية واسعة بالحدود والتعريفات، إنما عني بالتقسيمات والتفريعات، وكأنما كان يعنيه المنطق العملي بأكثر مما كان يعنيه المنطق النظري التجريدي. ولا نبالغ إذا قلنا: إنه هو الذي أعطى نظرية العوامل والمعمولات كل ما اتصفت به من حدة ومناهج صارمة في الحذف والتقدير. وكان لا يبارى في تحليل العبارات وبيان ما يداخلها من وفرة الاحتمالات الإعرابية. ووضع نصب عينيه استقراء كلام العرب الفصحاء والنقل عن القراء، بحيث لا يسجل شارة نحوية دون شاهد أو مثال، مع الإكثار من التعليلات لا للقواعد المطردة فحسب، بل أيضا للأمثلة الشاذة، ومع وصل ذلك كله دائما بالأقيسة المنطقية السديدة. وحمل الأخفش الأوسط تلميذه الكتاب عنه، وأخذ يقرئه تلاميذه من البصريين كما أقرأه الكسائي، وهو في تضاعيف ذلك يضيف مادة غزيرة من التعليلات، مع فتحه الأبواب للإدلاء بآراء نحوية جديدة. وبذلك أعد النحاة من بعده كي تكثر اجتهاداتهم، ولا شك في أنه هو الذي ألهم الكسائي إمام الكوفة أن ينفذ إلى مذهب نحوي مستقل يقابل مذهب المدرسة البصرية، يدل على ذلك أكبر الدلالة التقاؤه معه في كثير من الآراء النحوية، بل أيضا التقاؤه بعامة مع أئمة المدرسة الكوفية. وقد مضوا يتابعونه -باستثناء الفراء- في الاحتجاج للقراءات الشاذة بأقوال العرب, وما كانوا ينشدونه من أشعار. وفسح أيضا للأشعار النادرة الخارجة على مقاييس مدرسته، وخالف سيبويه والخليل في كثير من المسائل النحوية والصرفية، مع نثره لكثير من الآراء والمقترحات، مما يدل دلالة واضحة على خصب ملكاته. وأخذ عنه الكتاب قطرب والجرمي، ولهما في النحو آراء كثيرة تدل على بعد غورهما ودقتهما في التفكير والاستنباط. وأنبه منهما وأشهر المازني رفيق الجرمي ووارث حلقته، وله في النحو آراء طريفة، وهو الذي فصل التصريف عنه وصنف فيه مصنفات قيمة نظم فيها قواعده ومسائله، وجعله علما مستقلا بأبنيته وأقيسته وتمارينه. وخلفه تلميذه المبرد وهو آخر أئمة

المدرسة البصرية النابهين، وكان يكثر من التعليلات والأقيسة ونثر الآراء، كما كان ينكر بعض القراءات الشاذة مثل أستاذه المازني والفراء الكوفي من قبله. وربما كان أهم تلاميذه الزجاج وابن السراج، ولهما في المسائل النحوية خواطر ومقترحات كثيرة، وتلاهما السيرافي شارح كتاب سيبويه، وهو فيه يتسع في التعليلات والتأويلات والتخريجات، ويعد خاتمة نحاة البصرة المهمين. والقسم الثاني من الكتاب خاص بمدرسة الكوفة، وقد بدأت البحث فيها بالحديث عن نشأة النحو الكوفي وطوابعه، ونقضتُ ما يقال من أن نشاط الدراسات النحوية في الكوفة بدأ مبكرا عند الرواسي, وأن معاذا الهراء الكوفي معاصره وضع علم الصرف، إذ لا شك في أن القول بذلك إنما هو ضرب من الوهم والبعد في الخيال، والصحيح أن هذا النشاط إنما بدأ بدءا حقيقيا مع الكسائي وتلميذه الفراء. فهما اللذان رسما حدود النحو الكوفي وفصوله ووضعا أسسه وأصوله، بحيث أصبح للكوفة مدرسة نحوية تستقل بطوابع خاصة من حيث الاتساع في الرواية والقياس, ومن حيث وضع مصطلحات جديدة وما يجري معها من عوامل ومعمولات. وبتوضيح هذه الطوابع المستقلة نقضت ما زعمه فايل من أنه لم تكن للكوفة مدرسة نحوية خاصة، كما نقضت ما توهمه بعض المعاصرين من بغدادية الفراء لما في ذلك من مخالفة لطبائع الأشياء، إذ لم تكن المدرسة البغدادية قد نشأت حتى عصره، وأيضا فإنه هو الذي أعطى النحو الكوفي صيغته النهائية، ولولاه ما استقام هذا النحو ولا وضع منهاجه ولا صححت حدوده ولا فصلت مصطلحاته. وقد ثبَّت الكسائي أستاذه الأسس الأولى للمدرسة، وكان يكثر من الخلاف على سيبويه والخليل فاسحا في قواعده للغات الشاذة ولغات البدو من أهل الحاضرة كما فسح لبعض القراءات الشاذة، وكان أحيانا يتجاوز السماع محتكما إلى حسه اللغوي. ودائما نجده يلتمس مخالفة المدرسة البصرية في التوجيهات الإعرابية. وكان ينهج نهجه تلاميذه وخاصة هشاما الضرير، وألمعيّهم الفراء، وهو -كما أسلفنا آنفا- الذي رسخ أصول النحو الكوفي وفروعه, وصاغ مصطلحاته ورفعها علما منصوبا، مع ما نثره من الخواطر التي لا تكاد تحصى في تفسير بعض الأدوات وفي العوامل والمعمولات، وهو لا يبارَى في تحليله لآي الذكر الحكيم وتوجيهاته لما يجري فيها

من إعراب. ومع أنه كان يتسع -على هدي أستاذه- في بسط ظلال السماع والقياس على الصيغ والعبارات نجده يتوقف أحيانا, وخاصة إزاء بعض القراءات الشاذة، بل إنه ليصوغ توقفه أحيانا في صورة إنكار عنيف، وهو بذلك يعد الملهم الحقيقي للبصريين الذين جاءوا من بعده وحملوا على بعض القراءات من مثل المازني والمبرد، وهي حملات لم يكن يراد بها -كما ظن بعض المعاصرين- الطعن على قراء الذكر الحكيم، إنما كان يراد بها التثبّت الدقيق إزاء ما رُسم في المصاحف. وأهم خالفي الفراء في إمامة المدرسة الكوفية ثعلب، وهو يعد شارحا لآراء إمامي المدرسة: الفراء والكسائي أكثر منه مستنبطا للآراء النحوية الجديدة. ومن أنبه تلاميذه أبو بكر بن الأنباري، وكان حاذقا فطنا, فدعم النحو الكوفي بكثير من العلل القويمة السديدة. وظل هذا النحو حيا وظل علمه خفَّاقا حتى العصور المتأخرة، على نحو ما يلقانا في القرن الثامن الهجري عند ابن آجروم الصنهاجي المغربي. وأما القسم الثالث فيتناول ثلاث مدارس، أولها المدرسة البغدادية، وقد لاحظت أنه تداولها جيلان: أول، ثم ثانٍ، أما الجيل الأول فغلبت عليه النزعة الكوفية على نحو ما نجد عند ابن كيسان، وإلى هذا الجيل يرجع الفضل في دعم المدرسة الكوفية بالبراهين والأدلة والتعليلات البينة، مما ينقض زعم فايل من أن الاحتجاجات التي ساقها صاحب الإنصاف للكوفيين من عمل بصريين متأخرين، وهي من عمل البغداديين الأولين الذين نبهوا في النحو الكوفي، وصنفوا فيه محتالين له بالحجج والعلل، ثم درسوا النحو البصري، ومزجوا بين النحوين. وأما الجيل الثاني فكانت تغلب عليه النزعة البصرية على نحو ما يلقانا عند الزجاجي وأبي علي الفارسي وابن جني، ويكثر الأخيران من الحديث عن البصريين باسم "أصحابنا" مما جعل بعض المعاصرين أو قل: كثرتهم يظنون أنهما بصريان حقا، وهما بغداديان أصيلان، إذ كانا يمزجان -مثل الزجاجي وابن كيسان وأضرابهما- بين آراء المدرسة البصرية وآراء المدرسة الكوفية، نافذينِ مع ذلك إلى آراء جديدة كثيرة. وقد أوضحت هذه الأصول التي اعتنقها البغداديون عند ابن كيسان والزجاجي. وكان عقل أبي علي الفارسي خصبا إلى أبعد حد، وكأنه كان كنزا

سَيَّالًا. ونرى تلميذه ابن جني في كتابه الخصائص يعترف دائما بأنه هو الذي فتح له هذا الباب أو ذاك, فاكًّا لطلاسمه وألغازه ومثيرا لمشاكله ومسائله. وكان تارة ينتخب لنفسه من الآراء البصرية، وتارة ثانية ينتخب من الآراء الكوفية، وتارة ثالثة يجتهد وينفرد بآرائه، موثقا لها بالسماع والتعليل الرائق والقياس الثاقب. وعلى أقباس من هذا المنهج البغدادي للفارسي استضاء ابن جني في آرائه النحوية، فمرة يوافق البصريين ومرة يوافق الكوفيين، وقد يخالفهما جميعا كما يخالف البغداديين الأولين، وهو كذلك قد يوافق أستاذه وقد يخالفه حسب ما يرشده إليه اجتهاده. وربما كان أروع أعماله وضعه لأصول التصريف الكلية على نحو ما يرى القارئ في كتابه الخصائص. وقد استطاع هو وأستاذه بقوة شخصيتيهما أن يدفعا النحاة من بعدهما في اتجاههما، فقلما ظهر نحوي لم ينضوِ تحت لوائهما, مستظهرا لمنهجهما وما أخذا به أنفسهما من الاختيار الحر من آراء المدرستين البصرية والكوفية, وكذلك من آرائهما مع محاولة الاجتهاد والنفوذ إلى استنباط آراء جديدة على نحو ما يلقانا عند الزمخشري وابن الشجري وأبي البركات بن الأنباري وأبي البقاء العكبري وابن يعيش. وأخذت أبحث بعد ذلك في المدرسة الأندلسية، وحاولت أن أستبين خطواتها الأولى في اتصالها بالمدرستين الكوفية والبصرية، وكيف استقام لها منذ القرن الخامس الهجري تمثُّل المنهج البغدادي، مع الإكثار من التفريعات والتعليلات واستنباط الآراء، ولا يكاد يمر عصر أو تمر فترة دون أن يظهر هناك إمام نحوي كبير، بل مجموعة من الأئمة الكبار، وقد حاولت الإحاطة بهم وبآرائهم، بادئا بالأعلم الشنتمري، ومتحولا منه على الترتيب إلى ابن السيد البطليوسي وابن الباذش وابن الطراوة وابن الرماك وابن طاهر والسهيلي والجزولي وابن خروف والشلوبين وابن هشام الخضراوي. وعرضت في إيجاز ثورة ابن مضاء على النحو ومباحثه لتضخم ما شاع فيه بسبب نظرية العامل من تقديرات وتأويلات وأقيسة وتعليلات وتفريعات لا تكاد تنحصر، كما عرضت لابن عصفور واختياراته من آراء البصريين والكوفيين والبغداديين واجتهاداته المستقلة. وبسطت القول في ابن مالك واجتهاداته واختياراته, وكيف كان يذكر الشواذّ ولا يقيس عليها مثل الكوفيين، وأيضا لا يؤوِّلها

مثل البصريين، مع تذليله لمشاكل النحو وصعابه. وربما كان أبو حيان أهم من خلفوه من الأندلسيين، وهو شديد العصبية لسيبويه والبصريين، وكان يتأثر بابن مضاء، فدعا مرارا وتكرارا إلى عدم التعلق بالتعليلات، وخاصة في المسائل النظرية، وهاجم التمارين غير العملية، مما لم يَجْرِ على ألسنة العرب، وهو يكثر من الرد على ابن مالك، كما يكثر من اقتراح الآراء. وانتهيت إلى المدرسة المصرية، ورأيتها في أول نشأتها شديدة النزوع إلى المدرسة البصرية، حتى إذا كان القرن الرابع الهجري أخذت مسرعة تترسّم منهج المدرسة البغدادية وما شَرَعته من تصويب آراء المدرسة البصرية تارة وتصويب آراء المدرسة الكوفية تارة ثانية، مع تركهما تارة ثالثة والأخذ بآراء المدرسة البغدادية، ومع النفوذ إلى آراء اجتهادية تارة رابعة، على نحو ما يصور ذلك من بعض الوجوه أبو جعفر النحاس وخالفوه من مثل الحوفي وابن بابشاذ وابن بري. وتنشط هذه المدرسة نشاطا واسعا منذ العصر الأيوبي ويتكاثر أعلام النحاة فيها من مثل سليمان بن بنين وابن معطي وابن الرماح والسخاوي وبهاء الدين بن النحاس وابن أم قاسم. وقد فصّلت الحديث في ابن الحاجب وآرائه سواء ما اتفق فيه مع بعض النحاة من المدارس السابقة وما خالف فيه جمهورهم. وأنبه نحاة هذه المدرسة على الإطلاق ابن هشام وآيته الكبرى كتابه "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" وقد نهج في تأليفه نهجا ليس له سابقة ولا لاحقة، إذ قسمه إلى مبحثين كبيرين: مبحث في الأدوات ووظائفها وصور استخدامها، ومبحث في الجملة وقوانين النحو الكلية. ولم يكد يترك مسألة نحوية في هذا الكتاب, وفي كتابه التوضيح دون أن يحاول الإحاطة فيها بآراء النحاة مع مناقشتها مناقشة بارعة، ومع نَثْر كثير من الملاحظات والآراء الطريفة. ومنهجه بعامة هو منهج المدرسة البغدادية على نحو ما كان يتصوره أبو علي الفارسي وابن جني، ولعل ذلك هو الذي دفعه في أغلب اختياراته لوقوفه مع سيبويه وجمهور البصريين، مع فتحه الأبواب دائما للاختيار من آراء الكوفيين والبغداديين والأندلسيين. وظلت الدراسات النحوية بعده ناشطة في مصر، إذ يتكاثر فيها الشرّاح وأصحاب الحواشي والمصنفات النحوية المختلفة، على نحو ما يلقانا عند ابن عقيل شارح الألفية، وابن الصائغ صاحب التذكرة،

والدماميني شارح المغني، والكافيجي شارح قواعد الإعراب لابن هشام، والشيخ خالد الأزهري شارح التوضيح له أيضا، والأشموني شارح الألفية، والصبان وله حاشية على هذا الشرح. ويستمر نشاط هؤلاء الشرّاح في العصر الحديث على نحو ما يلقانا عند الدسوقي وله حاشية مطولة على المغني وعند الشيخ حسن العطار وله حاشية على شرح الأزهرية للشيخ خالد الأزهري، وعند الشيخ محمد الخضري، وله حاشية على شرح ابن عقيل السالف. ولا جدال في أن السيوطي ألمع نحاة مصر بعد ابن هشام، وله في النحو مصنفات مختلفة، منها ما يتناول أصوله مثل كتاب "الاقتراح" وكتاب "الأشباه والنظائر", ومنها ما يتناول قواعده مثل "همع الهوامع" وهو موسوعة جامعة لآراء النحاة في المدارس السالفة على مر الأجيال والعصور، ومن حين إلى حين ينتخب لنفسه من آرائهم ما يراه مصيبا، وقد يشتق لنفسه بعض الآراء الجديدة.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: صفحة 5-8 مقدمة 9-150 القسم الأول: المدرسة البصرية 11-29 الفصل الأول: البصرة واضعة النحو 11 1- أسباب وضع النحو 13 2- صنيع أبي الأسود الدؤلي وتلاميذه 17 3- البصرة تضع النحو 22 4- أوائل النحاة: ابن أبي إسحاق، عيسى بن عمر الثقفي أبو عمرو بن العلاء، يونس بن حبيب 30-56 الفصل الثاني: الخليل 30 1- نشاطه العقلي والعلمي 33 2- إقامته صرح النحو والتصريف 38 3- العوامل والمعمولات 46 4- السماع والتعليل والقياس 57-93 الفصل الثالث: سيبويه 57 1- نشاطه العلمي 59 2- الكتاب 63 3- التعريفات والعوامل والمعمولات 80 4- السماع والتعليل والقياس 94-122 الفصل الرابع: الأخفش الأوسط وتلاميذه 94 1- الأخفش الأوسط

108 2- قطرب 111 3- أبو عمر الجرمي 115 4- أبو عثمان المازني 123-150 الفصل الخامس: المبرد وأصحابه 123 1- المبرد 135 2- الزجاج 140 3- ابن السراج 145 4- السيرافي 151-242 القسم الثاني: المدرسة الكوفية 153-171 الفصل الأول: نشأة النحو الكوفي وطوابعه 153 1- النشأة 155 2- النحو الكوفي يشكل مدرسة مستقلة 159 3-الاتساع في الرواية والقياس 165 4- المصطلحات وما يتصل بها من العوامل والمعمولات 172-191 الفصل الثاني: الكسائي وتلاميذه 172 1- نشاطه العلمي 175 2- تأسيسه للمدرسة الكوفية 186 3- تلاميذ الكسائي 188 4- هشام بن معاوية الضرير 192-223 الفصل الثالث: الفراء 192 1- نشاطه العلمي 195 2- وضعه النهائي للنحو الكوفي ومصطلحاته 205 3- العوامل والمعمولات 214 4- بسط السماع والقياس وقبضهما حتى في القراءات

224-242 الفصل الرابع: ثعلب وأصحابه 224 1- ثعلب 237 2- أصحاب ثعلب: أبو بكر بن الأنباري 240 3- كوفيون متأخرون 243-365 القسم الثالث: مدارس مختلفة 245-287 الفصل الأول: المدرسة البغدادية 245 1- نشوء المدرسة البغدادية: ابن كيسان, الزجاجي 255 2- أبو علي الفارسي 265 3- ابن جني 276 4- بغداديون متأخرون: الزمخشري 288-326 الفصل الثاني: المدرسة الأندلسية 288 1- النشاط النحوي في الأندلس 292 2- في اتجاه المدرسة البغدادية وكثرة التعليلات والآراء: ابن مضاء، ابن عصفور 309 3- ابن مالك 317 4- أندلسيون متأخرون: أبو حيان 327-365 الفصل الثالث: المدرسة المصرية 327 1- النشاط النحوي في مصر 331 2- في اتجاه المدرسة البغدادية: ابن الحاجب 346 3- ابن هشام 355 4- نحاة متأخرون: السيوطي 366-372 خاتمة

§1/1