المدائح النبوية حتى نهاية العصر الملوكي

محمود سالم محمد

المحتوى

المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى 5 المقدمة 9 الباب الأول: بواعث ازدهار المديح النبوي وانتشاره 15 الفصل الأول: الأسباب السياسية 19 الصراع الخارجي 19 الصراع الداخلي 20 الفصل الثاني: الأسباب الاجتماعية 23 المظالم والكوارث 23 المفاسد الاجتماعية 24 الفصل الثالث: الأسباب الدينية 26 مجادلة أهل الكتاب 27 مخالفة الشريعة 30 المظاهر الدينية 31 الجدل المذهبي 37 انتشار التصوف 39 الرؤيا 41 الباب الثاني: نشأة المدح النبوي وحدوده 45 الفصل الأول: نشأة المدح النبوي 47 القسم الأول- المديح والرثاء والمديح النبوي 47 القسم الثاني- المدح النبوي في حياة الرسول 57 القسم الثالث- في العصر الراشدي والأموي 75 القسم الرابع- في العصر العباسي 87

الموضوع الصفحة القسم الخامس- في العصر الفاطمي والأيوبي 106 الفصل الثاني: حدود المديح النبوي 125 القسم الثاني- مدح آل البيت 129 القسم الثالث- الشعر الصوفي 150 القسم الرابع- التشوق إلى المقدسات 171 القسم الخامس: المولد النبوي 185 الباب الثالث: المدحة النبوية 205 الفصل الأول: المضمون 209 القسم الأول- المدح بالقيم التقليدية 209 القسم الثاني- المدح الديني 218 محبته 219 فضائله 220 هديه 222 السيرة 226 المعجزات 230 تفضيله 242 الحقيقة المحمدية 247 الرسول والبشرية 254 التوسل به والصلاة عليه 259 آثار النبي الكريم 276 ذكر الآل والصحابة 278 القسم الثالث- مواضيع أخرى 280 الحديث عن المديح النبوي في قصائد المديح 285 القسم الرابع- المعاني 291

الموضوع الصفحة الفصل الثاني- الأسلوب 310 القسم الأول- الشكل الشعري 316 ذكر الأماكن 316 الغزل 320 الرحلة 324 وصف الطبيعة 325 الوعظ 327 الدعاء 329 المباشرة بالمدح 330 الانتقال 332 الرجز 334 المقطوعات 335 ضروب النظم 337 الأشكال المتميزة 349 القيود الشكلية 352 النظم 354 المعارضة 358 الوزن والقافية 362 القسم الثاني- الصياغة والأسلوب 377 النظم 383 التصنع 389 الألفاظ 397 القسم الثالث- الصنعة الفنية 406 الصنعة الخيالية 409 الصنعة اللفظية 419

الموضوع الصفحة الباب الرابع: أثر المدائح النبوية 427 الفصل الأول: أثر المدائح النبوية في المجتمع 429 القسم الأول- الأثر الاجتماعي 429 النصح والإرشاد 431 الاعتقاد بالمدائح النبوية 432 الجدل العقائدي 442 إظهار النزعة العربية 448 القسم الثاني- الأثر التعليمي للمدائح النبوية 458 القدوة والمثل 459 المعرفة 469 الفصل الثاني: أثر المدائح النبوية في الثقافة 473 القسم الأول- أثر المدائح النبوية في الشعر 473 أثره في الإبداع الشعري 474 أثره في قصائد الشعر الآخرى 477 الملاحم 487 القسم الثاني- البديع 506 القسم الثالث- التأليف 519 الخاتمة 527 المصادر والمراجع 545 المصادر المخطوطة 545 المصادر المطبوعة 546 المراجع 566 الفهارس 569 فهرس الآيات الكريمة 570 فهرس الأحاديث الشريفة 571 الفهرس التفصيلي العام 573

المقدمة

المقدمة حين بدأت الاطلاع على أدب العصر المملوكي، لاحظت ظواهر أدبية مختلفة، لا زالت بحاجة إلى الدرس الجاد والمتأني، ولا زالت تنتظر من يخرجها إلى النور بعد أن قبعت قرونا متطاولة في ظلام الإهمال الذي تعامل به الدارسون مع أدب العصر المملوكي بحجج مختلفة ومسوغات واهية. فقد أعرض معظم الباحثين عن دراسة أدب العصر، ورموه بالانحطاط والتقليد والجمود، ولم يقفوا عنده إلا وقفة عجلى لا تغني ولا تفيد، فاكتنفه الغموض في أذهان طلاب الأدب وشداته، لا يعرفون عنه غير الأحكام الجاهزة الظالمة التي اعتدنا إطلاقها عند الحديث عن أدب العصر المملوكي وما بعده. ولم تقتصر أوصاف الجمود والانحطاط على الأدب فقط، بل أطلقت على العصر كله، وجوانب الحياة فيه، ولا ندري ما مسوغات أصحاب هذه الأحكام، ولكنها بلا شك لم تأت نتيجة دراسة مستفيضة، وأبحاث جادة، وتقييم منصف، ويبدو أن إهمال أنشطة العصر المختلفة وظلمها، يرجع إلى أمور خارجة عن نطاق الأدب والثقافة، وتتعلق بقضايا أخرى تخص الدارسين أنفسهم، الذين تابعوا في دراستهم للأدب العربي ما جاء به المستشرقون، وهؤلاء لهم نظرتهم الخاصة إلى التاريخ العربي والأدب العربي، تختلف عن نظرتنا إليهما. والعصر المملوكي هو عصر إنهاء الوجود الصليبي من وطننا العربي، وعصر رد الاجتياح المغولي المدمر، وعصر توقيف الامتداد الأوروبي نحو الشرق، وأدبه يطفح بتمجيد الانتصارات العربية على الفرنجة الأوربيين، ويظهر ذلّهم حين أرادوا سلخ بلاد الشام عن الجسد العربي الإسلامي، والقضاء على الوجود العربي الإسلامي المستقل.

ومن التناقض الظاهر في أحكام هؤلاء الدارسين أنهم وسموا العصر المملوكي بأنه عصر انحطاط، وأن وسائل التعبير فيه عاجزة قاصرة، يفتقر إلى الأديب الكبير والشاعر العظيم، وإلى جانب ذلك ازدهر فن العمارة، واتسعت دائرة الفنون الزخرفية، وشهد ظهور الموسوعات الكبيرة، والمؤلفات العظيمة في حقول المعرفة المختلفة، ولا ندري كيف استقامت لهم هذه الأحكام المتناقضة. لكن سرعان ما تصدى الباحثون المخلصون للتراث العربي، والحريصون على إظهار حقائقه، لمثل هذه الآراء، فأشادوا بهذا العصر ذي الأثر العظيم، وبما أنجزته أمتنا خلاله في مناحي الحياة المختلفة. وقد تعود قلة الاهتمام بالعصر المملوكي وأدبه- كما قيل- إلى أن الباحثين توجهوا في دراساتهم إلى عصور الإسلام الأولى التي شهدت قيام الدولة العربية الإسلامية وفتوحاتها، وازدهار حضارتها، حتى إذا وصلوا إلى العصر المملوكي فترت همّتهم، واكتفوا بما أشيع حول هذا العصر من آراء، ورددوا ما أطلق عليه من أحكام. والذي أشيع عن الأدب المملوكي، أنه أدب الزينة الثقيلة والألاعيب اللفظية، وأنه خلا من الإبداع، وقد يكون في هذا شيء من الصحة، لكنه لا ينطبق على الأدب المملوكي كله، والشعر منه خاصة، ففيه ما هو جيد، وفيه ما هو غير ذلك، وهذه ميزة عصور الأدب جميعها، بل هي ميزة كل شاعر، وربما زادت نسبة الشعر الذي لم يرق للدارسين في هذا العصر عن غيرها في العصور السابقة، وكان هذا الشعر مقبولا عند أهله، وليس لنا أن نحاكمه بغير حكمهم، وليس لنا أن نهمله لأنه لم يجد قبولا في أنفسنا، فالناس كانوا يقبلون على شعر عصرهم ويستسيغونه، ويتذاكرونه وينفعلون به. إن الغبن الذي لحق بالأدب المملوكي، وسوء الحكم عليه، جعلني أبحث عن

صورة مشرقة من صور الأدب المملوكي، تترك لدى المطلع انطباعا مغايرا لما هو سائد عنه، فوقعت على المدائح النبوية، الفن الشعري الذي نما وتكامل في هذا العصر، فكان أبرز فنونه وأرقاها، وأكثرها تأثيرا في الحركة الشعرية وفي مجتمع ذلك الوقت، وهو الفن الذي استمر وجوده والإقبال عليه إلى أيامنا هذه. ولم يرزق هذا الفن إلى الآن من يدرسه دراسة جادة متأنية، تحيط بكل قضاياه، وتبرز أهميته وأثره، ومن التفت إليه كانت التفاتته عجلى، اقتصرت على الوصف والتعداد دون الدخول إلى جوهره، وبسط النظر في تركيبه، وبيان تطوره، وإذا غاص فيه، قصر ذلك على قصائد بعينها أو شاعر بعينه، فاحتاج الأمر إلى بسط القول فيه، وإيضاح معالمه في أذهان من سمعوا به أو قرؤوا شيئا منه، وفي أذهان من يهتزون طربا للمدائح النبوية المنشدة، ولمعانيها البديعة في أيامنا هذه. وربما تساءل بعض المطلعين حول صحة هذا الادعاء، فللدكتور (زكي مبارك) كتاب بعنوان (المدائح النبوية في الأدب العربي) ، وهو يظهر من عنوانه أنه أوسع وأشمل من عنوان البحث الذي اخترته، وهذا صحيح، فللدكتور مبارك فضل الريادة في هذا الباب، لكنه لم يكن يقصد التأليف في المدائح النبوية، ولم يتوسع في دراستها، وجاء كتابه أقرب إلى التعريف منه إلى الدراسة المستأنية، خلط فيه المديح النبوي مع الشعر الديني باتجاهاته المختلفة. فقد عرضه ضمن دراسة أخرى، ثم فصله عنها كما قال في مقدمة كتابه: «هذا كتاب لم يكن ظهوره في الحسبان، فهو في الأصل باب من كتاب قدمته إلى الجامعة المصرية عن (أثر التصوف في الأدب والأخلاق) ورأت اللجنة المؤلفة بدرسه أن الباب الخاص بالمدائح النبوية خليق بأن يظهر مستقلا عن الأصل بعض الاستقلال» «1» .

_ (1) مبارك، د. زكي: المدائح النبوية في الأدب العربي ص 8.

«ومن الخير أن أصارح القارئ بأن هذه الفصول نسخت نسخا من الكتاب الأصيل، فلم يحذف منها شيء، ولم يضف إليها شيء» «1» . ولم يكن فن المدائح النبوية لذلك العصر فنا طارئا على الأدب العربي، فقد عرف في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جزء من الشعر الديني، الذي يعد أقدم ألوان الشعر عند الأمم جميعها، فالتقاء الفن بالدين قديم ضارب في أعماق التاريخ، فقبل الأديان السماوية كانت الصلاة مقرونة بالرقص والترنّم بالأغاني تقربا للإله، وكانت العبادة ألوانا من الفنون إلى جانب النصوص التي كانت تتلى، والتي كانت تعد من الأدب الجميل، الذي يحتفل في إنشائه ليؤثر في سامعيه. وكان الدين وما يزال من المصادر الهامة التي تمد الأدباء بموضوعات أدبهم، وترقق مشاعرهم وأحاسيسهم وتوحي لهم بكثير من إبداعاتهم. ويلتقي الدين والأدب في هدفهما، وهو تقويم النفس الإنسانية والمجتمع الإنساني، وإشباع الحاجة الإنسانية إلى الخير والجمال، وقد خدم الأدب العقيدة منذ القدم، فسجل دعوتها، وبث شعائرها بين البشر، وشرح مضامينها، وشاركها في بث الفضائل في نفوس الناس، وترغيبهم بالأخلاق الحسنة وتنفيرهم من الرذائل. ومن هنا جاءت المدائح النبوية فنا أصيلا من فنون الشعر الديني، له خطره وله مكانته عند المسلمين فهو متعلق بصاحب الدين والمثل الإنساني الأعلى، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شخصية إنسانية فريدة، هي أعظم شخصيات التاريخ الإنساني، فكان لا بد للأدب من أن يغتني بالحديث عنها، وكان لا بد للأدب من أن يشيد بها وبفضائلها، ويقدم للناس فيضا من خصائص الإنسان الكامل، ليقتدوا بها، وتصفو نفوسهم بتملّيها، وشخصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استوجبت المدح من المسلمين وغيرهم لعظمتها وسموها.

_ (1) مبارك، د. زكي: المدائح النبوية في الأدب العربي ص 9.

نعم إن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حق الحمد أو المدح على الناس، وهو الذي أثنى عليه الله تعالى في كتابه العزيز، وهو الذي شجع الشعراء على أن يرتقوا بفنهم إلى آفاق إنسانية رحبة، ووجههم نحن الحق والخير بالقول والفعل، فقال: «إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة» «1» . ورمى إلى كعب بن زهير بردته حين مدحه، وكان إذا أنشد حسان شعره يشرق وجهه الكريم ويدعو له ويشجعه ويثيبه، وكذلك كان يفعل مع عبد الله بن رواحة وكعب ابن مالك. فكان المديح النبوي الفن الشعري الصادق الذي لا يخالطه رياء ولا يشوبه غرض، وكان المديح النبوي المضمون السامي لشعر انتشر انتشارا كبيرا بين الناس. لقد عرف المديح النبوي منذ بعثة رسول الله هاديا ونذيرا، ونظمه الشعراء من الصحابة وشعراء العصور اللاحقة، لكنه لم يصبح ظاهرة متفردة إلا بعد مدة طويلة من الزمن، ولم يستقر ويتكامل إلا في العصر المملوكي، أو قبيله بقليل؛ إذ أضحت له قواعده وأصوله، وتقاليده المعنوية والفنية. لقد كانت المدائح النبوية أرقى الفنون الشعرية في ذلك الوقت، وأكثرها سيرورة وتأثيرا، فجمعت بين الفن الرفيع والقبول العام، تذاكرها الناس على اختلاف مشاربهم وتباين ثقافاتهم، ورددوها وحفظوها. لذلك كله، استحق فن ذلك العصر، المدائح النّبوية، دراسة شاملة، تخلّصه من أي لبس يحيق به وبحقيقته، وتظهر تأثيره وجماله، وتبرز ماله من انتشار وفاعلية، ما زالت حية بيننا، وأظنها ستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

_ (1) الحديث صحّحه السيوطي في الجامع الصغير 1/ 331.

ولم أشأ أن أقيد نفسي بقيود شديدة من الزمان والمكان، فأشرت إلى فن المدح النبوي قبيل العصر المملوكي وبعده بقليل، وإلى ما جادت به قرائح الشعراء خارج حدود الدولة المملوكية في مشرق الوطن العربي ومغربه، لأن الأدب لا ينقسم ويتميز بانتهاء دولة وقيام دولة، ولأن الحدود لم تكن تمنع الانتقال والتواصل والتكامل، ولو اقتصرت على الحدود الزمانية والمكانية لدولة المماليك، لجاء البحث ناقصا مفتقرا إلى جوانب هامة من المدح النبوي، وإلى النظرة الشمولية إليه. وآمل أن تكون هذه الدراسة إضافة للدراسات التي توضح حقيقة الأدب المملوكي، وتخدم الأدب العربي ولغته الشريفة. فلم أقصد في هذا البحث إلا الحق وإيضاح إحدى ظواهر الأدب العربي، ولم أعمد إلى الإساءة لمذهب أو التشكيك في معتقد، فالصعوبات والإشكالات الفكرية تحيط بالموضوع، وتجعل التصرف به عسيرا، فالمواقف بنت زمنها وظروفها، وعرضها من مستلزمات البحث العلمي. د. محمود سالم محمد

الباب الأول بواعث ازدهار المديح النبوي وانتشاره

الباب الأول بواعث ازدهار المديح النبوي وانتشاره

بواعث ازدهار المديح النبوي وانتشاره اتسعت المدائح النبوية في العصر المملوكي اتساعا كبيرا، وانتشرت بين الأدباء والعلماء، يتنافسون في نظمها، ويذهبون بها كل مذهب، ويسارعون إلى إنشادها في المجالس الخاصة والمحافل العامة، وفي المناسبات الدينية المختلفة التي كثرت في هذا العصر كثرة مفرطة. وعدّ منشدو المدائح النبوية من أصحاب الشهرة، وصاروا يذكرون في كبار القوم، فابن إياس يقول في وفيات سنة (841 هـ) : «توفي ابن القرداح، المادح المنشد الواعظ، وكان فريد عصره في فن الموسيقا» «1» . ويقول في وفيات سنة (873 هـ) : «توفي الواعظ المادح المنشد عبد القادر بن محمد الوفائي، وكان ممن له ذكر وشهرة في فنه، وكان لا بأس به» «2» . وصار للمنشد صفات ومؤهلات، عليه أن يتحلى بها ويحصّلها، ذكرها السبكي، فقال: «وينبغي أن يذكر من الأشعار ما هو واضح اللفظ، صحيح المعنى، مشتملا على مدائح سيدنا ومولانا وحبيبنا محمد صلّى الله عليه وسلّم» «3» . وقد أولع الشعراء بفن المدائح النبوية في الأقطار العربية الإسلامية جميعها، وانشغلوا به، وقدموه ووضعوه في مقدمة فنون الشعر. وإذا كان ظهور المدائح النبوية ظهورا مستقلا ذا شأن قد تمّ في المرحلة السابقة

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور: 2/ 187. (2) المصدر نفسه: 3/ 37. (3) السبكي: معيد النعم 145.

للعصر المملوكي، إلا أن المديح النبوي قد اتسع ورسخ واتضحت معالمه في العصر المملوكي، وأضحت له تقاليده وأصوله، وظهر الشعراء الذين اشتهروا به وأجادوه، فشغلت المدائح النبوية قدرا كبيرا من دواوين الشعراء، ثم استقلت بدواوين خاصة بها. إن السيرورة التي رزقها فن المدائح النبوية، لم تتهيأ في العصر المملوكي لفن شعريّ آخر، فنكاد لا نجد شاعرا من هذا العصر لم تكن له مشاركة في هذا الفن الشعري، وبلغ من الانتشار والكثرة والاتساع حدا استعصى معه على الحصر، وأي نظرة على فهرس مخطوطات أية مكتبة تثبت ذلك، وتجعل المرء في عجب من مشاركة معظم الشعراء في هذا الفن، فكيف تهيأت لهم المشاركة بعد أن أفنى غيرهم أعمارهم في نظمه والتفنن فيه؟. وتميز قدر كبير من المدائح النبوية بطول لم نعهده في الشعر العربي، فتجاوز عدد أبياتها المئين، وذكرت قصائد مفرطة في الطول، يكاد المرء لا يصدق أن قصيدة عربية بلغت هذا العدد من الأبيات. ومما يدل على احتفال الشعراء بفن المديح النبوي، إطلاق أسماء مختلفة على القصائد النبوية، فهذه (البردة) ، وتلك (نهج البردة) ، وهذه اسمها (تفصيل البردة) ، وتلك (أمان الخائف) ، وأخرى اسمها (ذخر المعاد على وزن بانت سعاد) ، فقصائد البوصيري وعائشة الباعونية مثلا، كلها لها أسماء، واحدة اسمها (الغرر في مدح سيد البشر) ، وأخرى اسمها (الفتح المبين) ، وثالثة (فتوح الحق) ، وهكذا ... فما السبب وراء هذا الاتساع الكبير في فن المدائح النبوية؟ وما دواعي الإكثار منه؟ وما الغاية المتوخاة من وراء هذه الكثرة الكاثرة من المدائح؟. إن إمعان النظر في جوانب العصر المملوكي المختلفة، وفي المدائح التي قيلت فيه، يقودنا إلى بعض الأسباب الظاهرة التي دفعت الشعراء إلى الاتساع في نظم المدائح النبوية، نستطيع إرجاعها إلى أسباب سياسية وأسباب اجتماعية، وأسباب دينية، إضافة إلى الانسياق وراء التوجه العام والتقليد.

الفصل الأول الأسباب السياسية

الفصل الأول الأسباب السياسية الصراع الخارجي: كان وصول المماليك إلى الحكم في خضم اضطراب سياسي كبير، وأثناء تعرّض البلاد العربية الإسلامية إلى غزوات عاتية من الشرق والغرب. فلم تزل ممالك الصليبيين قائمة في بلاد الشام، وعادوا إلى التوسع مجددا، وجرّدوا حملة استهدفت مصر. وكانوا في الأندلس يقتطعون الناحية إثر الناحية، وسفنهم تعتدي على الثغور العربية، وهدفهم احتلال المنطقة العربية واستيطانها ونهب خيراتها. وفي هذه الحقبة بدأ الغزو المغولي للشرق العربي، فاجتاحوا العراق، وقضوا على الخلافة العباسية واحتلوا معظم بلاد الشام، وتقدموا نحو مصر ناشرين الذعر والدمار. فالتقى الخطر المغولي والخطر الصليبي لتهديد الوجود العربي الإسلامي، وأدرك العرب أن هذه الغزوات تريد اقتلاعهم من الوجود، فنهضوا بقيادة المماليك لدرء الخطر الداهم عن أنفسهم. وكان للشعراء مشاركة في حركة الجهاد العارمة لمواجهة الغزاة، فجاهد قسم منهم بنفسه وبشعره، وحث الناس على البذل والتضحية، وهاجم الغزاة وقلّل من شأنهم، ولجأ قسم آخر إلى الدين، يطلب الطمأنينة والمدد وكفّ شرّ الغزاة عن الأمة، ويدعو إلى الصلاح طريقا للخلاص من النكبات والويلات. وقد اتخذ الفرنجة الصليب شعارا لهم في غزوهم، وتستروا بالدين لإخفاء مطامعهم السياسية والاقتصادية، وهاجموا الإسلام، فدافع الشعراء عن الإسلام ومقدساته، وردّوا على الغزاة انتقاصهم من قدر الإسلام ونبيه، فمدحوا رسول الله

الصراع الداخلي:

صلّى الله عليه وسلّم، وجاءت مدائحهم النبوية دفاعا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإشادة بعظمته، ودعوة لنصرة الإسلام ومقاتلة أعدائه، وللجهاد في سبيل الله. وقدّمت القدوة والمثل من جهاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصحبه، وشجاعتهم وصبرهم ومجالدتهم، إضافة إلى التشفّع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطلب نصرته. الصراع الداخلي: إذا كانت قضايا السياسة الخارجية الناتجة عن علاقة العرب المسلمين بغيرهم- وهي علاقة قتال وحرب وغزو- قد دفعت الشعراء إلى مدح الرسول الكريم والتشفع به، وطلب مدده وعونه. فإن قضايا السياسة الداخلية قد تضافرت معها على تقوية هذا التوجه نحو المدح النبوي. فالمماليك استأثروا بالسلطة، ولم يتركوا منها لرعيتهم العرب إلا بقدر ما يحتاجون إليه، فتألّم العرب من ذلك لاعتقادهم بأنهم أحق من المماليك بالملك، فهم أصحاب البلاد، ومنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وإلى جانب ذلك كان كثير من سلاطين المماليك وأمرائهم مستبدّين، يأخذون المرء بأدنى جريرة أو دونها. ولذلك كان العرب الذين ابتعدوا قليلا عن القبضة المملوكية- أو (العربان) كما كان المؤرخون يطلقون عليهم- يثورون الثورة تلو الثورة، معبرين عن سخطهم على حكم غريب عنهم وعن بلادهم. وكان العرب يعبرون عن هذا الشعور بالتفافهم حول آل البيت، مازجين الشعور السياسي بالشعور الديني، فال البيت عرب وهم قريبون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصحاب حق بالسلطة، وهو ما صرّح به حصن الدين ثعلب بن يعقوب حين قاد ثورة كبيرة ضد المماليك بقوله «نحن أحقّ بالملك من المماليك» «1» .

_ (1) المقريزي: البيان والإعراب ص 10، و 37 ص.

ومنهم من عاد إلى فكرة السفياني المنتظر التي راجت أيام بني أمية في موازاة فكرة المهدي المنتظر، فظهر في بلاد الشام رجل ادّعى أنه السفياني المنتظر، ناصره الفقهاء والعربان، ونادى ببطلان حكم الترك «1» . أما الرمز العربي في السلطنة فهو الخلافة العباسية، التي أحياها المماليك عندما استقدموا أحد أبناء الخلفاء العباسيين، وبايعوه بالخلافة، ليعطوا لدولتهم الشرعية التي تفتقدها، وليأخذ كل سلطان شرعية حكمه منه، لكن الخليفة كان رمزا دينيا، ولم يكن له أي أثر محسوس في مجرى الأحداث إلا في أحيان قليلة. فالمماليك لم يحتفظوا بالخلافة العباسية إلا لإتمام إجراآت التقليد وتنصيب السلاطين، ولم يسمحوا للخليفة أن يقوم بأي عمل من أعمال السلطنة. وكان الشعراء الذين يعتزّون بعروبتهم، يغتنمون كل فرصة لإظهار شعورهم هذا، ولو كان ذلك في الغزل بالعربيات في عصر شهد تمجيد كل ما هو تركي حتى في الجمال النسائي. وظهر هذا الأمر في المدائح النبوية، فأكثر الشعراء العرب ذكر عروبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأشادوا في مدحه بالعرب، وعرّضوا بغيرهم، لأن الإشادة بالعرب في هذا العصر قد تثير نقمة الأتراك، أو توغر صدورهم، فهي تعبر عن موقف سياسي مناوئ للحكام الغرباء، ولكن إدراجها ضمن المدائح النبوية لا تتيح لمعترض اعتراضا، وتظهر أنها إشادة بأهل الرسول الكريم وقومه، فلا يجرؤ أحد على إنكار ذلك. ومدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم يذكّر العرب أن صاحب الأمة ومنشئها منهم، وأن الصحابة الذين حملوا رسالة الإسلام إلى العالم منهم، وأنهم من أمة عزيزة عريقة، عليهم أن يعيدوا أمجادها، وليعي المماليك أنهم أتباع نبي عربي، يحق لأهله الكرامة.

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور 2/ 7.

إن كثيرا من المدائح النبوية قد حملت في ثناياها إشارات هامة إلى الأوضاع السياسية التي كانت سائدة في العصر المملوكي، مثل الغزو الخارجي الذي هدّد وجود الدولة العربية الإسلامية، ومثل استئثار فئة قليلة بالحكم وحرمان الأكثرية العربية منه، وهذا يظهر أن الآراء والمشاعر السياسية كانت وراء نظم بعض المدائح النبوية، أو أنها اشتركت مع مشاعر أخرى، دفعت الشعراء إلى نظم المديح النبوي، واتخاذه وسيلة لحمل هذه المشاعر وإظهارها، لأنها تداخلت مع المشاعر الدينية في معرض الحديث عن رسول الله، وهذا يمنع الاعتراض عليها، أو عقاب من يظهرها بالإضافة إلى أن النبي الكريم عربي، أنشأ الأمة العربية، وجعل لها مكانة سامية بين الأمم، وحمّلها رسالة سماوية خالدة إلى العالم، ومدحه يذكّر الناس بهذه الحقائق ويعلي من شأن الأمة التي بعث منها. وكذلك الأمر في صراع الأمة العربية مع أعدائها، فإن هذا الصراع لبس لبوسا مغايرا لحقيقته، حين ادعى الغزاة أن عدوانهم على الأمة العربية دافعه الدين، فهاجموا الإسلام ونبيه، فكان الرد العربي الإسلامي في هذه الحال هو مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والإشادة به، فكانت مدائحه من هذه الناحية سلاحا سياسيا يجابه به العرب أعداءهم. وهكذا ظهر لنا بوضوح أن الدافع السياسي كان أحد الدوافع وراء نظم المدائح النبوية وانتشارها في هذا العصر.

الفصل الثاني الأسباب الاجتماعية

الفصل الثاني الأسباب الاجتماعية المظالم والكوارث: كان المجتمع المملوكي مجتمعا طبقيا، يسوده نظام الإقطاع العسكري، وكان المماليك على رأس الهرم الاجتماعي، ويشكلون الطبقة الحاكمة، التي تستأثر بثروة البلاد وبالوظائف الكبرى في الدولة، ولا تترك لسواها من أمور الدولة إلا بقدر ما تحتاج إليه ولا تجيده. وكان المماليك يؤلفون طبقة متميزة، سلطتهم مطلقة، لا يحدها إلا الشرع الإسلامي، وتجاوزوه أحيانا وخاصة عندما يكون السلطان وأمراؤه ممن لا تأخذهم في غيرهم رحمة ولا حرمة، ولذلك حفل تاريخهم بصور من المظالم، وإلى جانبها مظاهر العظمة التي أحاطوا أنفسهم بها، فبذخوا بذخا فاحشا وتركوا بقية الناس عرضة للفقر والجوع، وفريسة للأوبئة والكوارث. بيد أن ما اتصف به حكم بعضهم من ظلم واضطهاد، وتناقض بين الحاكم والمحكوم في الوضع الاجتماعي، لم يأتوا به جملة، بل كانت هذه المظاهر موجودة من قبل، ولم تكن عند المماليك جميعهم، ولم تجتمع كلها في وقت واحد فكان من سلاطين المماليك وأمرائهم الحريص على العدل، وعلى رفع الكرب والضيق عن الناس. وكانت العامة تعلن سخطها على المظالم، وتثور المرة تلو المرة، لترفعها عن كاهلها، وكان بعض العلماء يقولون كلمة الحق في وجه من يجور من المماليك، وينبهونهم على واجباتهم ومسؤولياتهم اتجاه من يحكمون، ويظهرون حكم الشرع فيما يتصرفون.

المفاسد الاجتماعية:

ولم يكن الشعراء بعيدين عن هذا الموقف، فكانوا يسجلون في شعرهم مشاعر السخط على مظاهر البؤس الذي يحكم حياة العامة، وإذا لم تسعف بعضهم الشجاعة الكافية للتصريح بما يجول في أنفسهم كانوا يعتمدون طريقة غير مباشرة، ويتجهون إلى الدين ومدح النبي الكريم، فيقدمون المثل الأعلى للعدل والرحمة بالناس، ويقارنون بين ما كان عليه المسلمون الأوائل، وبين ما آل إليه الأمر في عهدهم لعل حكامهم الذين يتمسّكون بالدين ويظلمونهم ينتبهون لذلك، فلا يستمرون فيما هم عليه، ولعل الناس تعي حقوقها، فتهب للمطالبة بها، وتضع حدا للأوضاع الخاطئة التي أضحت شيئا اعتاده الناس، فظنوه قدرا لا مفر منه. وقد شهد العصر المملوكي الكثير من الأزمات الخانقة، وحدثت كوارث طبيعية حصدت الناس حصدا بالإضافة إلى المجاعات المتكررة التي أوصلت الناس إلى أكل لحوم البشر، فكانوا عندما تلمّ بهم مصيبة من هذه المصائب يضجون بالدعاء إلى الله تعالى، ويستشفعون برسوله، ليرفع عنهم هذا الكرب. المفاسد الاجتماعية: عرف العصر المملوكي بعض صور اللهو والمجون، والمفاسد الاجتماعية، وخاصة في أعياد النصارى، حيث يجهر الناس باللهو وشرب الخمر، ففي عيد الشهيد «يخرج عامة أهل القاهرة ومصر على اختلاف طبقاتهم، وينصبون الخيام على شطوط النيل وفي الجزائر، ولا يبقى مغني ولا مغنية، ولا صاحب لهو ولا رب ملعوب، ولا بغي ولا مخنث ولا ماجن ولا خليع ولا فاتك ولا فاسق إلا ويخرج لهذا العيد، فيجتمع عالم عظيم جدا، لا يحصيهم إلا خالقهم، وتصرف أموال لا تنحصر، ويتجاهر هناك بما لا يحتمل من المعاصي والفسوق وتثور فتن، وتقتل أناس، ويباع الخمر ... » «1» .

_ (1) الخطط المقريزية: 1/ 110.

ووصل الأمر في عهد بعض السلاطين إلى حد ضمان الخمارات وأماكن الفسق، وحماية الفجور لقاء المال الذي يدفع إلى ضامن هذه الضروب من المفاسد، والذي يدفع قدرا معينا من المال للدولة. وكانت هذه المظاهر في مد وجزر، وفقا لظروف الدولة من حروب وسواها، وحسب شخصية السلطان الحاكم، فإذا كان السلطان محبّا للهو، مجاهرا به، جاهر الناس بالمعاصي، واشتدّ ولعهم باللهو، وإذا كان السلطان جادا، منصرفا عن الملذات المحرّمة، استتر طالبو اللذة الرخيصة، وهدمت أماكن المجون، التي تباح فيها المفاسد. وربما كان لاختلاط العناصر المختلفة، والأجناس المتباينة، أثر في انتشار مظاهر الفساد الاجتماعي، وظهور العادات الغريبة عن العرب والإسلام، وقد يكون إقبال الناس على اللهو والمجون من قبيل الهرب من قسوة الحياة، واشتداد الظلم والعسف، إلا أن هذه الحياة اللاهية لم ترق لكثير من الناس، وهاجمها رجال الدين، وعدوها أحد أسباب المصائب التي تحلّ بالأمة، وهذا ما جعل بعض الشعراء يضجّون بالدعاء إلى الله تعالى، ليخلّص المجتمع من هذه المفاسد، ويتوسلون برسوله مادحين مستشفعين ليذكّروا الناس بتعاليم الدين وحدوده، والحياة الإنسانية الحقة التي دعا إليها الإسلام، وطبقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليشيعوا الروح الدينية بين الناس، ليعدلوا عن هذه المفاسد، أو ليقاوموها. وقد نظم كثير من الشعراء القصائد الدينية، والمدائح النبوية منها خاصة، للتكفير عن مشاركتهم في اللهو والمجون بالفعل والقول، يطلبون فيها شفاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للخلاص من ذنوبهم، ويعلنون فيها توبتهم عمّا كانوا عليه، ويأملون الأجر والثواب والمغفرة من وراء مدحهم للنبي الكريم.

الفصل الثالث الأسباب الدينية

الفصل الثالث الأسباب الدينية إن المتتبع لأحوال الناس في القرنين السادس والسابع، يلاحظ بوضوح غلبة الروح الدينية على مجمل النشاط الإنساني في الأمصار العربية الإسلامية، ويظهر أن ما شهدته من اضطرابات عنيفة بسبب الغزو الخارجي من جهة، وبسبب النزاع السياسي الذي تستر بالعقيدة بين القوى المتصارعة على السلطة من جهة ثانية، كان وراء التمسك بالدين والحرص على شعائره، طلبا للراحة والطمأنينة حينا واتخاذه سلاحا في الصراع الداخلي والخارجي حينا آخر. فالغزو الفرنجي للأقطار العربية اتخذ الطابع الديني، وتستر بإنقاذ المقدسات المسيحية من أيدي المسلمين، لذلك عرف ذلك الغزو بالحروب الصليبية وعرف الغزاة بالصليبيين الذين لم يكتفوا بإظهار طمعهم بالأرض العربية وخيراتها، وإظهار عدائهم السياسي للعرب، بل أخذوا في مهاجمة الدين الإسلامي وصاحبه، وإنكار نبوته، وهذا ما دعا المسلمين إلى الرد عليهم، ومجادلتهم جدالا دينيا، كان له أثره في بعض المعتقدات الدينية، وفي الأدب والفكر. وكان يوجد قبيل العصر المملوكي دولتان، تتنافسان تنافسا سياسيا وعقائديا، هما الدولة العباسية والدولة الفاطمية، وقد وصلت آثار هذا التنافس إلى العصر المملوكي. ويضاف إلى ذلك أن تيار التصوف اشتد قوة واتساعا، وتعددت فرقه. فكان من نتائج ذلك كله ظهور فرق متباينة، وجدال ديني، أعطى نشاطا ملحوظا للحركة الدينية، تجلّت في إقبال الناس على علوم الدين، وكثرة التأليف فيها، وفي الأدب الديني الذي تجسد في الشعر الصوفي وإضغاء الصفة الدينية على الممدوح، وفي المدائح النبوية.

مجادلة أهل الكتاب:

وهكذا أخذ الشعور الديني ينمو ويشتد، ليتهيّأ الناس لصد الغزو الصليبي، فعمل الحكام على تغذية هذا الشعور بتقريب رجال الدين وتشجيعهم، ليتقرّبوا من العامة، فبنوا المساجد والمدارس والزوايا، وأحيوا الاحتفالات الدينية بأنفسهم. وظهر أثر هذا الشعور الديني على مجمل نشاطات الحياة في الدولة المملوكية، والدول التي سبقتها، ووصل إلى الأسماء والكنى والألقاب، فكانت مضافة إلى الدين أو منسوبة إليه. وهذا الشعور هو الذي هيّأ للأجناس المختلفة أن تحيا في مجتمع واحد، وأن تجاهد معا لدرء خطر الغزوات العاتية، وأن تواصل بناء الحضارة العربية الإسلامية وإثرائها. مجادلة أهل الكتاب: ظهر التوجه الديني في الأدب ظهورا كبيرا وعميقا، فكان ينشأ في سبيل الدين ويعكس المشاعر الدينية المتأججة، ويحمل آثار المناظرات والمجادلات التي كانت تحدث بين فرق المسلمين المختلفة من جهة، وبين المسلمين وأهل الكتاب من جهة أخرى، واشتدت هذه المناظرات خلال الحروب الصليبية إذ أخذ المسلمون يدافعون عن دينهم ونبيهم، ويثبتون له النبوة بدلائل مختلفة، فصنفوا في ذلك الكتب الكثيرة، واطلعوا على كتب النصارى واليهود، ليثبتوا ما يذهبون إليه، فشاع بينهم مثلا ما نسب إلى كعب الأحبار أنه قال: «تجد مكتوبا- يعني في التوراة- محمد رسول الله، عبد مختار، لا فظ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر.. مولده بمكة ومهاجره بطابة، وملكه بالشام» «1» .

_ (1) الديار بكري حسين: تاريخ الخميس ص 24.

وفي وصايا موسى عليه السلام لبني إسرائيل «سيأتيكم نبي من بني إخوتكم- أي أعمامكم فله صدّقوا ومنه فاسمعوا» «1» ومما ترجموا من الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: «إذا جاء الفارقليط، فهو يشهد لي، وأنتم تشهدون لي أيضا لكينونتكم معي من أوّل أمري. قوله الفارقليط، معناه الحكم السر، يعرف السر، والمراد به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «2» وأورد السيوطي في كتابه (الخصائص الكبرى) فيضا من مثل هذه الروايات، أيّد المحقق بعضها، وردّ بعضها الآخر، ومما أيّده ما ذهب إليه السيوطي من أن الأناجيل اشتملت «لا سيما إنجيل برنابا على بشارات صريحة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم» «3» . ومن ذلك أيضا ما جاء في التوراة: «طلع الرب من سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبل فاران، ومعلوم أن بريّة فاران هي الحجاز «4» . ومسألة الجدال بين المسلمين وأهل الكتاب قديمة العهد، وتعود إلى بداية العصر العباسي حين أخذ العرب المسلمون يترجمون كتب العلوم المختلفة، ويظهر أنّ جدالا قد وقع بين بعض رجال الدين المسلمين وأحبار النّصارى واليهود، وقد عكس هذا الجدال في كتاب (الدين والدولة في إثبات النبوة) حيث قال مؤلّفه (شهادات الحق، ومقاييس العبر متوافرة مجتمعة للنبي صلّى الله عليه وسلّم في عشرة معان، لم تجتمع إلّا للمسيح عليه السلام، منها.. ما كان عليه نسكه وعفته وصدقه ومحمود سنّته وشرائعه.. غلبته الأمم آية بيّنة بالضرورة والحجج التي لا تدفع.. الأنبياء عليهم السلام قد تنبّأت عليه قبل ظهوره بدهر طويل، ووصفت مبعثه وبلده ومسيرة وخضوع الأمم له، والملوك لأمته» «5» .

_ (1) الديار بكري حسين: تاريخ الخميس ص 25. (2) الديار بكري حسين: تاريخ الخميس ص 25. (3) السيوطي: الخصائص الكبرى ص 23. (4) المصدر نفسه ص 26. (5) الطبري، علي بن ربّن: كتاب الدين ص 16.

وقد ظهر هذا الجدال في الشعر، وخاصة عند البوصيري «1» الذي لم تخل نبوية له من مجادلة النصارى واليهود في عقائدهم، والمقارنة بينها وبين العقيدة الإسلامية ونظم ذلك في قصيدة طويلة، شرحها بنفسه، سمّاها (المخرج والمردود على النصارى واليهود) أبدى فيها معرفته الواسعة بالتوراة والإنجيل، ومطالعته لكتب النصارى واليهود، والتمعن فيها، ومنها قوله عمّا جاء فيهما من إشارات تدلّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تخبركم التوراة أن قد بشّرت ... قدما بأحمد أم بإسماعيلا طوبى لموسى حين بشّر باسمه ... ولسامع من فضله ما قيلا وجبال فاران الرّواسي إنّها ... نالت على الدّنيا به التّفضيلا إن يدعه الإنجيل فارقليطه ... فلقد دعاه قبل ذلك إيلا يأتي على اسم الله منه مبارك ... ما كان موعد بعثه ممطولا وكما شهدت له سيشهد لي إذا ... صار العليم بما أتيت جهولا والمنحمّنا لا تشكّوا إن أتى ... لكم فليس مجيئه مجهولا «2» ثم ينتقل ليثبت نبوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما يعتقده المسلمون بعد ما أثبت ذلك بما جاء في التوراة والإنجيل ليخلص إلى أن تخرّصات أهل الكتاب حول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليست عائدة إلى أمور دينية وإنما إلى أمور سياسية وأحقاد قديمة، إذ استطاع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينتصر عليهم، ويظهر انحرافهم عن حقيقة الشريعة السماوية، فقال: لم يجهلوه غير أنّ سيوفه ... أبقت حقودا عندهم وذحولا ما لي أجادل فيه كلّ أخي عمىّ ... كيما أقيم على النّهار دليلا

_ (1) البوصيري: محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي، أشهر شعراء المديح النبوي، كان متصوفا وشاعرا منطلق اللسان في عمال الدولة، تولى الحسبة، وتوفي سنة (696 هـ) ، ديوانه: ص 5. (2) ديوان البوصيري ص 182.

مخالفة الشريعة:

فالصليبيون كانوا دائمي الانتقاد للإسلام ومهاجمة نبيّه، لذلك ردّ المسلمون على ذلك بالدفاع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومدحه. مخالفة الشريعة: كان الشعور الديني في عهد المماليك متّقدا، تذكيه في بعض الأحيان الحوادث المخالفة للدين التي كانت تظهر على يدي المماليك وعمّال الدولة، إذ عدّ الناس المظاهر المخالفة للشريعة من أهم أسباب انكسار المسلمين في حروبهم مع أعدائهم، وأسباب النكبات والكوارث التي كانت تحل بهم، وكأنها عقوبة لهم على سكوتهم عن كل ما ينافي الشريعة، وقد قيل في ذلك: «فالحوادث المخالفة للدين، إذا حدثت في هذه الأمة، فهي داء، والقيام بالحق- كما جاء عن الله ورسوله- هو الشفاء «1» . فعندما ما يشعر الناس أن هناك ما يخالف الشريعة الإسلامية السمحة، عليهم أن يغيروا ذلك بكل استطاعتهم فإذا عجزوا عن ذلك، التفتوا إلى التشدد في تأدية الشعائر الدينية، وإلى الدعاء والاستغفار، حتى لا يلحقهم وزر ما يجري أمامهم. وقد استعرض السبكي بعض مظاهر مخالفة الشريعة على أيامه، وقارن بين أصحاب الأمر في زمانه، وما كان عليه أولو الأمر أيام رسول الله والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم-، ثم خلص من ذلك كله إلى النتيجة التالية: «ومصلحة الخلق فيما شرعه خالقهم، وهو أعلم بمصالحهم ومفاسدهم، وشريعة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم متكفلة بجميع مصالح الخلق في معاشهم ومعادهم، ولا يأتي الفساد إلا من الخروج عنها، ومن لزمها صلحت أيامه واطمأنت» «2» .

_ (1) الأسدي، محمد: التيسير والاعتبار ص 46. (2) السبكي: معيد النعم ص 51.

المظاهر الدينية:

ومن أمثلة الخروج على أحكام الشريعة، محاولة بعض المماليك التهرب من دفع الزكاة باستصدار فتوى من أحد القضاة الذين باعوا ذممهم من أجل المال والمنصب والجاه، فقال ابن العطار في ذلك: أمرت تركنا بمودع حكم ... حنفي لأجل منع الزّكاة ربّ خذهم فإنّهم إن أقاموا ... نخشى أن يأمروا بترك الصّلاة «1» ووصلت بعض الحوادث المخالفة للشريعة إلى حد الكفر الصريح، أو ما يقرب منه، فكان رجال الدين والعامة يضجّون منها، فيصل الأمر بمظهري ما يخالف الإسلام إلى القتل، ومن أمثلة ذلك، ضرب «عنق ابن سويرات بسبب أمور تنافي الشريعة» «2» . وقد ظهر «شخص أعجمي ادعى أنه يصعد إلى السماء، ويكلم الباري- عز وجل- في كل يوم، وأنه صرّفه في الكون فاعتقده جماعة كثيرة، وثبت أن في عقله خللا» «3» . هذه الأمور كلها دفعت الشعراء إلى مدح رسول الله، يتشفعون به من نقمة الله تعالى- على ما يغضبه، ويقدمون للناس المثل الأعلى في الأخلاق الطاهرة، والسيرة القويمة، ليقتدوا به، ويبتعدوا عن المفاسد ويتوقفوا عن مخالفة الشريعة. المظاهر الدينية: اهتم المماليك بالمظاهر الدينية التي تظهر تقاهم وتدينهم، واحتفلوا بالمناسبات الدينية والأعياد، ليتقربوا من الناس، ولظنهم أن ذلك يكفّر خطاياهم، فكانوا في كل

_ (1) ابن حجر: إنباء الغمر ص 223. ابن العطار هو: شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي. كان شاعرا جيدا وله تصانيف حسنة. توفي سنة (794 هـ) . ابن إياس: بدائع الزهور 2/ 1- 452. (2) ابن شاكر: فوات الوفيات: 1/ 245. (3) ابن إياس: بدائع الزهور: 2/ 28.

عام يظهرون اهتماما فائقا بمحمل الحج، ويحتفلون لذلك، ويدورون به في شوارع القاهرة قبل خروجه إلى مكة المكرمة، مملوآ بالأموال وكسوة الكعبة والإعانات لأهلها «1» ، فيضفون على الحج هالة من القداسة، ويثيرون شوق الناس إلى تأديته، ويحركون كوامن نفوس الشعراء الذين ينظمون قصائد التشوق للمقدسات، وقصائد مديح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل قول نجم الدين القحفازي «2» معبرا عن عواطفه الدينية حين رأى موكب الحج قادما من الحجاز: يا نياق الحجيج لا ذقت سهدا ... بعدها لا ولا تجشّمت وخدا لا فدينا سواك بالرّوح منّا ... أنت أولى من بات بالرّوح يفدى مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا ... بوجوه رأت معالم سعدى «3» ويظهر أن الحديث في هذا العصر حول زيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اتسع، وتباينت آراء رجال الدين حولها، فمنهم من جعلها قريبة من الفرض، ومنهم من جعلها سنّة محمودة، ومنهم من أنكر التوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند زيارته، وطالب بأن يتوجه الناس بالدعاء إلى الله- تعالى- مباشرة، لكن جميع المسلمين اتفقوا على تعظيم النبي الكريم وتبجيله، وتفضيله على الناس أجمعين، فقيل في ذلك: «اعلم أن زيارة قبره الشريف صلّى الله عليه وسلّم، والسفر إليه من أحسن وجوه تعظيمه المتّفق على مشروعيته، وهي مع ذلك من أكبر أنواع التوسل به صلّى الله عليه وسلّم إلى الله- تعالى- لقضاء الحاجات الدنيوية والآخروية» «4» . إلا أن منتقدي طريقة زيارة قبر رسول الله والتوسل به لم يرضوا عن ذلك، فألّف

_ (1) المقريزي: السلوك 1/ 1177. (2) نجم الدين القحفازي: علي بن داود بن يحيى، شيخ أهل دمشق في عصره، وخاصة في العربية، له النظم والنثر والكتابة الفائقة، درّس وخطب، وكان يعرف الأسطرلاب ويحل التقاويم، توفي سنة (744 هـ) . (3) ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 25. (4) النبهاني: شواهد الحق ص 30.

ابن تيمية كتابا في ذلك اسمه (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) ، أنكر فيه مخاطبة الأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم، وفي مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، وجعل ذلك نوعا من أنواع الشرك «1» . وعلى الرغم من ذلك حرص المسلمون على زيارة قبر النبي العطر، وطلب الشفاعة عنده، وظلوا دائمي الشوق إلى المعاهد النبوية، يبثونها لواعج نفوسهم، ويرسلون إليها التحيات، ويدعون لها بالسقيا. فزيارة رسول الله والتشوق إلى معاهده، استدعت من الشعراء أن يمدحوا رسول الله، وأن يعبروا عن حبهم له، وتعظيمهم لمقامه الكريم، ومنهم الصرصري «2» الذي أظهر هيامه بمعاهد المدينة المنورة، وأبدى رغبته العارمة في زيارة الروضة الشريفة، لينشد فيها مدحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ألا ليت شعري هل أزور قبابها ... فتحمد فيها العيس شدّي ورحلتي وأنشد في أكنافها متعرّضا ... لمن نظم مدحي فيه تاجي وحليتي «3» أما البرعي «4» فإنه يجعل من زيارة رسول الله مخرجا لمعاناته وثقل ذنوبه، ومجلبة للمغفرة، فيقول: ألوذ إلى ذاك الجناب فأحتمي ... بمن هو عند الكرب للكرب يفرج وأدعوه في الدّنيا فتقضى حوائجي ... وإنّي إليه في القيامة أحوج «5»

_ (1) ابن تيمية: قاعدة جليلة ص 18. (2) الصرصري: يحيى بن يوسف الأنصاري، فقيه أديب لغوي، كان حسان وقته في المديح النبوي. قتله التتار عند دخولهم بغداد سنة (656 هـ) ، وكان أعمى. ديوانه، ورقة 1. (3) ديوان الصرصري، ورقة 13. (4) البرعي: عبد الرحيم بن أحمد اليماني، شاعر متصوف، أفتى ودرّس، له ديوان شعر، ت (803 هـ) : ابن زيارة اليمني: ملحق البدر الطالع: ص 120. (5) ديوان البرعي ص 211.

وبالإضافة إلى الاهتمام بالحج، والاحتفال بمواكبه، فإن المماليك حرصوا على الاحتفالات الدينية المختلفة من الأعياد الدينية والمواسم المقدسة، إلى المولد النبوي الذي احتفل له المماليك احتفالا عظيما، يليق بصاحب المناسبة، وشاركوا به إلى جانب جميع فئات الشعب، مضفين عليه العظمة والفخامة، موسعين على الفقراء والمحتاجين، فتقام الولائم، ويقرأ القرآن الكريم، وتنشد قصائد المديح النبوي. فالمولد النبوي مناسبة هامة لنظم المدائح النبوية، فهي تذكّرهم بعظمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفضله على أمته، وتثير فيهم الاحتفالات الدينية مشاعر المحبة للنبي الكريم، فتنثال المدائح على ألسنتهم، فالشعراء كانوا يحضّرون القصائد لينشدوها في هذه المناسبة وكان يطلق على هذه المدائح النبوية اسم (مولدية) ، ومنها قصيدة لصفي الدين الحلي «1» ، يقول فيها: خمدت لفضل ولادك النّيران ... وانشقّ من فرح بك الإيوان فوضعت لله المهيمن ساجدا ... واستبشرت بظهورك الأكوان «2» يضاف إلى ذلك اهتمام الناس في عهد المماليك بكل ما يتعلق برسول الله بسبب، وتعلق المسلمين عامة منذ القدم بكل ما يمت لرسول الله بصلة، فابن جبير «3» يذكر في رحلته أنه «بني على موضع مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم مسجدا لم ير أحفل بناء منه، والموضع المقدس الذي سقط فيه صلّى الله عليه وسلّم ساعة الولادة السعيدة المباركة، التي جعلها الله رحمة للأمة أجمعين، محفوف بالفضة ... يفتح هذا الموضع المبارك، فيدخله الناس كافة متبركين

_ (1) صفي الدين الحلي: عبد العزيز بن سرايا بن نصر، شاعر مجيد، له ديوان شعر ومؤلفات، ت (810 هـ) . ديوان ص 8. (2) ديوان صفي الدين الحلي ص 79. (3) ابن جبير الكناني: محمد بن أحمد بن جبير الكناني البلنسي، عالم بالحديث، حج ورحل إلى المشرق مرتين، وتقدم في صناعة النظم والنثر، تزهد وتوفي سنة (614 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 40.

به، في شهر ربيع الأول، ويوم الاثنين منه.. وفي اليوم المذكور.. تفتح المواضع المقدسة كلها، وهو يوم مشهود بمكة دائما» «1» . وقد جدّ المسلمون في البحث والتقصي عن آثار رسول الله وتكريمها، فعندما عثر الملك الأشرف على النعل الشريف «بنى لأجله دار الحديث المجاورة للقلعة، وجعله فيها، يزار في عصر الاثنين والخميس» «2» . وكذلك فعل الوزير بهاء الدين علي بن حنا «3» ، حين عثر على بعض آثار رسول الله، واستخلصها بأموال طائلة، فإنه بنى لذلك «رباط الآثار.. وفيه قطعة خشب وحديد، يقال إنها من آثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي به إلى اليوم، يتبرك الناس بها، ويعتقدون النفع بها، وفيها قال الصلاح خليل بن إيبك الصفدي «4» : أكرم باثار النّبيّ محمّد ... من زاره استوفى السّرور مزاره يا عين دونك فانظري وتمتّعي ... إن لم تريه فهذه آثاره «5» فهذه الآثار ما فتئت تذكّر الناس برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبضرورة اتباع سنّته، وتشعرهم بعظمته على بساطة عيشه وآثاره، وتثير مشاعر الشعراء لتمجيده ومدحه. ومثل ذلك الظواهر الطبيعية التي لم يعتدها الناس كالزلازل والبراكين، فهي كانت وما تزال ترهب الإنسان، وتشعره بجلالة الخالق وقدرته، وتجبره على التوجه إليه

_ (1) رحلة ابن جبير ص 92. (2) اليونيني: ذيل مرآة الزمان 2/ 45. (3) بهاء الدين ابن حنا: علي بن محمد بن سليم المصري، وزير من أكابر رجال عصره حزما ورأيا، استوزره الظاهر وفوّض إليه الأمور، فقام بأعباء المملكة إلى أن توفي سنة (677 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات: 3/ 76. (4) الصفدي: خليل بن أيبك، أديب مؤرخ، شاعر ناثر، تولّى أعمالا كثيرة، ودرسّ وصنّف كثيرا، توفي سنة (764 هـ) ، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 11/ 19. (5) الخطط المقريزية: 4/ 295.

بالدعاء، وإلى الأنبياء وغيرهم بالتوسل، فحين ظهرت نار بالقرب من المدينة المنورة، ووقعت زلزلة عظيمة، و «طال أمر هذه النار على أهل المدينة، صار يودع بعضهم بعضا، وتابوا من ذنوبهم، وتصدقوا، ولزموا العبادة، حتى كشف الله عنهم هذه النار، وانجابت تلك الظلمة» «1» . فإن هذه الحادثة وأمثالها جعلت الناس يتشفعون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتوسلون به مادحين، ليرفع الله عنهم الكرب، ويقيهم هولها، وقد حدث بعد ذلك أن احترق المسجد النبوي، فكان احتراقه مناسبة هامة أفاض فيها الشعراء في مدح النبي الكريم، وتأويل سبب هذه النار. فكان كلّ ما يتعلق برسول الله بسبب، من آثار وحوادث، يثير عواطف الناس، ويستحث قرائح الشعراء على مدحه وتمجيده، والتشفع به. وقد شهد العصر المملوكي ظهور عدد من البدع الدينية، التي اتصف بعضها بالقبول واستمر، واتصف بعضها بالاستهجان، وكان لبعض هذه البدع علاقة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل التوسل بجاه النبي الكريم عقب صلاة الصبح، الذي أمر به القاضي الشافعي المؤذنين، ففعلوه «2» . ومثل التذكير يوم الجمعة على الماذن، الذي أمر به الناصر محمد بن قلاوون، لتستعد الناس للصلاة «3» وكذلك «أمر المحتسب أن يزاد بعد كل آذان، الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم كما يصنع ذلك في ليلة الجمعة بعد العشاء، فصنعوا ذلك إلا في المغرب لضيق وقتها بزعمهم» «4» .

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور 1/ 1- 298. (2) ابن حجر: إنباء الغمر: ص 305. (3) ابن إياس: بدائع الزهور 1/ 1- 483. (4) ابن حجر: إنباء الغمر: ص 455.

الجدل المذهبي:

وفي سنة (782 هـ) «رسم الأتابكي برقوق بأن يحدثوا في آذان العشاء عقيب الآذان (السلام عليك يا رسول الله) فاستمر ذلك من يومئذ» «1» . فهذه الزيادات في الآذان أو بعد الصلاة، تؤكد تعلق أهل العصر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتزيد من شيوع ذكره بينهم في كل أوقاتهم، وتدفع الشعراء إلى ذكره ومدحه. أما البدع السيئة التي انتشرت في هذا العصر فإنها تتمثل في ظواهر الشعوذة والتنجيم والتنبؤ بالمستقبل، والتي ترضي حاجة الناس الذين يعيشون حياة مضطربة وفي خوف دائم مما يمكن أن تأتي به الأيام، فإن المشعوذين كانوا يحتالون على الناس باسم الدين، وأدخلوا في أذهانهم أوهاما باطلة عن مقدرتهم الخارقة على استجلاء الغيب ومعرفة ما سيحدث. ووصل الأمر بهؤلاء المشعوذين إلى أن «ادّعى شخص فقير أنه محمد بن عبد الله، النّبي الأمي» «2» و «قبض على رجل ادّعى النبوة، وزعم أن حروف القرآن تنطق له، وأن الوحي يأتيه على لسان جبرائيل تارة، وعلى لسان ميكائيل تارة، وزعم أنه أنزل عليه قرآن يختص به فسجن ورجع عن قوله» «3» . وكانت هذه البدع تدفع الناس إلى الاستغفار من شرّها، وتجعلهم يتوسلون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لا تحلّ بهم جرائرها. الجدل المذهبي: وصل في هذا العصر الجدل الديني إلى أشده بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب من ناحية وبين الفرق الإسلامية المختلفة من ناحية ثانية، واحتدم بين الاتجاهات الدينية

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور 2/ 1- 265. (2) ابن حجر: إنباء الغمر: ص 224. (3) ابن إياس: بدائع الزهور 1/ 1- 249.

الإسلامية، التي تمثّلت في أصحاب المذاهب الأربعة من السنة، والمذاهب الشيعية المختلفة، والفرق الصوفية المتباينة. وكان من نتيجة هذا الجدل انشغال الناس بأمور العقيدة، وظهور آراء دينية جديدة، فيها شيء من الغرابة، وانقسام الناس بين المذاهب المختلفة، وتعصبهم لمذاهبهم، وتطرف بعض الفرق في آرائها، مستفيدة من الفلسفات الغريبة والأديان المختلفة. وقد دفع التطرف في آراء بعض الفرق علماء الدين إلى محاربة هذه الانحرافات في العقيدة، وحضوا أصحاب الأمر على التصدي لهؤلاء، فقال السبكي: «من واجب أولياء الأمور، دفع أهل البدع والأهواء، وكف شرهم عن المسلمين» «1» . وطالب الفقهاء بفرض عقوبات قاسية على من يتعرض للشريعة السمحة بسوء، «ومنها سفك دم من ينتقص جناب سيدنا ومولانا وحبيبنا محمد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، أو من يسبّه، فإن ذلك مرتد كافر، ذهب كثير من العلماء إلى أن توبته لا تقبل» «2» . فهذا الجدل الديني، جعل الشعراء يحصرون اهتمامهم برسول الله في المقام الأول، ويبثونه حبهم وإجلالهم، ويمدحونه بشعر غزير، يتغنّون فيه بشمائله الكريمة ويتشفعون به من ذنوبهم وسوء أحوال الأمة. والطريف في الجدل الديني آنذاك تباين آراء المسلمين حول وراثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالشيعة يرون أن أئمتهم ورثوا رسول الله وخلافته نصا وشرعا، لأنهم آل بيته وأقاربه، والمتصوفة ادعوا وراثتهم الولاية والطريقة عن رسول الله، ومنها استمدوا كراماتهم، وظل خلفاء بني العباس على اعتقادهم بوراثة رسول الله، فقد جاء في مبايعة الخليفة الحاكم بأمر الله: «إن أمير المؤمنين لما أكسبه الله من ميراث النبوة ما كان لجده وآتاه من خاتم الأنبياء ما امتد به أبوه سليمان وتصرف..» «3» .

_ (1) السبكي: معيد النعم ص 31. (2) المصدر نفسه ص 13. (3) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 199.

انتشار التصوف:

أما أهل السنة، فإنهم يرون أنهم ورثة رسول الله، لأنهم اتبعوا سنته، ولأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يورث غير حديثه فقال ابن الوزير «1» : العلم ميراث النّبيّ كذا أتى ... في النّصّ والعلماءهم ورّاثه فإذا أردت حقيقة تدري بها ... ورّاثه وعرفت ما ميراثه ما ورّث المختار غير حديثه ... فينا وذاك متاعه وأثاثه قلنا (الحديث) وراثة نبويّة ... ولكلّ محدث بدعة إحداثه «2» ولذلك ضج بعض شعراء المديح النبوي من هذا الجدل الديني، ومن هذا التباين بين المسلمين، فتوجهوا في مدائحهم النبوية إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يستنجدون به، ويطلبون شفاعته لتتخلص الأمة من الفرقة والخلاف، فتكون قادرة على مواجهة أعدائها. انتشار التصوف: من المظاهر الدينية التي سادت هذا العصر، وكان لها أثر كبير في انتشار المدائح النبوية واتساعها، ظاهرة التصوف الذي انتشرت طرقه انتشارا كبيرا، وتغلغت بين الناس، ونالت الاعتراف الرسمي من الدولة، فكان تعيين شيوخ الطرق يتم من قبل السلطان. وقد شجعت الصوفية إظهارا للتدين، وحثا على الجهاد. لذلك حرص المماليك مثل سابقيهم من الأيوبيين، على بناء التكايا والزوايا للمتصوفة وأهل العلم والفقراء والغرباء، لكن بعض هذه الزوايا تحول إلى مأوى للعجزة، الذين أصبحوا مضرب المثل

_ (1) ابن الوزير: محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى كان من كبار الحفاظ والعلماء المجتهدين اليمانيين ولد سنة (775 هـ) . القنوشي، صديق: التاج المكلل ص 340. (2) القنوشي، صديق: التاج المكلل ص 340.

وقد كان التصوف في مراحله الأولى تصوفا إسلاميا محضا، لا يخرج عمّا أتى به الإسلام، وعمّا عرف عن زهد الصحابة والتابعين، ثم أخذ المتصوفة يتسعون في مذهبهم، فأخذوا عن الشيعة بعض عقائدهم، وخاصة التنظيم الهرمي، وفكرة القطب أو الإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية، التي أخذ بها المتصوفة والفرق الإسماعيلية، وظل التصوف يتسع في العقيدة حتى خرج بها أحيانا عن حدود الدين، واستمد بعض الأفكار من الديانات السماوية وغيرها، والفلسفات القديمة، لذلك حاربها كثير من رجال الدين وردوا عليها، فتهكم الشعراء من معتقداتهم الغامضة، وطريقتهم المميزة في التعبير عنها، وقسا بعضهم في مهاجمتهم وانتقاد معتقدات الفرق المتطرفة منهم. وأصبحت أحوال الصوفية وأعمالهم وأقوالهم مدار حديث الشعراء، وأضحى التصوف أحد مكونات الثقافة في العصر، وخاصة ثقافة الشعراء، وكان للمتصوفة شعراؤهم الذين عبروا عن مذهبهم وأظهروا وجدهم في الذات الإلهية، وشوقهم إلى الصفاء والمقدسات، وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكان لائق في شعرهم، يمدحونه على طريقتهم، ويظهرون مكانته في عالمهم، فهم ينسبون أنفسهم إليه، ويدّعون وراثتهم لحقيقته، فقالوا: «الناس ثلاثة، عالم وعابد وعارف صوفي، وكلهم قد أخذوا من الوراثة النبوية ... العالم ورث أقواله ... والعابد ورث أفعاله ... والصوفي ورث الجميع» «1» . وبرز في المدائح النبوية شعراء متفوقون من المتصوفة، مثل البوصيري الذي عرف بأنه من أتباع الطريقة الشاذلية، فمدائحه النبوية تعبق بالنفحات الصوفية، وبعض مدائحه تبدو أنها نظمت لتنشد في حلقات الذكر مثل قصيدته التي مطلعها: يا ربّ صلّ على المختار من مضر ... والأنبيا وجميع الرّسل ما ذكروا «2»

_ (1) ابن البنا السر قسطي: الفتوحات الإلهية ص 99. (2) ديوان البوصيري ص 272.

الرؤيا:

ويظهر تأثر شعراء المدائح النبوية بالتصوف في قصائدهم وفي معانيهم، فتلاقى الشعر الصوفي مع المدائح النبوية في التوجه الديني وفي التشوق للمقدسات، وفي ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الرؤيا: شاع في العصر المملوكي أيضا رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام، أو أحد صحابته أو أحد الصالحين، فكثرت الروايات حول ذلك، يتحدث فيها الرائي عن حديث دار بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يأمره فيه النبي وينهاه، أو يعلمه بأمر سيقع، وغير ذلك مما يتعلق بالدين والمذاهب الدينية. ومن ذلك ما ذكر عن أحمد بن محمد الأخوي «1» الذي «جاور، ورام الانتقال قبل موته بأشهر، فرأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام، وقال له: أرغبت عن مجاورتي.. فالى على نفسه ألا يتحرك منها، فلم يلبث قليلا ومات، وكان يلقّب بمقبول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «2» . فهل بعد هذا اللقب من لقب؟ إن كل ما يعزى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان ذلك رؤيا في المنام، يلقى عند الناس قبولا وترحابا، فكم ستكون فرحة من أدّى فريضة الحج مع محمد بن بورسة البخاري «3» ، الذي «أراد الرجوع إلى بلاده، فذكر أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام، فقال له: إن الله قد قبل حج كل من حج في هذا العام، وأنت منهم» «4» .

_ (1) أحمد بن محمد الأخوي: حصّل علوما مختلفة من الفقه والحديث واللغة، وجال في بلاد المشرق، ثم حج وزار بلاد الشام وأقام في بغداد واستقر في المدينة يدرّس ويفتي ويصنف، توفي سنة (802 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 2/ 194. (2) السخاوي: الضوء اللامع 2/ 200. (3) محمد بن بورسة البخاري: نبيرة، تفقه وزهد، وحج وأقام بالمدينة ومات فيها سنة (823 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 7/ 207. (4) السخاوي: الضوء اللامع 7/ 207.

أيجد الإنسان راحة بعد الراحة التي يشعر بها من يوقن أنه من الفرقة الناجية، بعد أن يتحدث من يذهب مذهبه «أنه أخبر برؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام..، وأخبر بأنه من الفرقة الناجية» «1» . بل إن أحدهم قال عن أحد الصالحين: (رؤي النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام، وهو يأمر بالسلام عليه، قال: لأنه من أهل الجنة، أو قال: من سلّم عليه دخل الجنة..) «2» . فلماذا لا يبادر الناس إلى السلام على هذا الرجل الصالح، ويقدّرونه التقدير الذي يليق بمن يدخل السلام عليه الجنة؟. ولنتخيل كيف سيكون إقبال الناس على ورد من الأوراد حين يذكر أحدهم أنه «تلقن ذكرا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام» «3» . وهكذا كثرت الروايات عن رؤيا الناس في ذلك العصر للنبي الكريم في المنام، يأمرهم وينهاهم، وهم ينفذون، لأن الناس كانوا يعتقدون في مثل هذه الرؤيا، فقد روي أن امرأة صالحة «رأت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام، وهو يقول لها: قولي للنساء ينتهوا عن لبس الشاش، ثم إن تلك المرأة رأت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام مرة ثانية، فقال لها: قد نهيتكم عن لبس الشاش فلم تنتهوا» «4» . وقد علّل صاحب كتاب التيسير والاعتبار تأليفه لكتابه، الذي يبحث في أحوال عصره، ويظهر مفاسده ويقدم النصائح لتجاوز هذه المفاسد، برؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام، فقال: (ولما رأى العبد الأصغر الفقير في المنام سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد قلّده أمرا، يفهم من تأويله النصيحة للإسلام والمسلمين، وفهم من معنى

_ (1) السخاوي: الضوء اللامع 6/ 206. (2) المصدر نفسه: 6/ 288. (3) المصدر نفسه: 6/ 288. (4) ابن إياس: بدائع الزهور 2/ 362.

قوله عليه السلام، صحة الوعد بالنجاح والفلاح بإذن الله رب العالمين، فأقام العبد منتظرا ما رآه في المنام من وعد الصادق الأمين.. إلى أن ألهمه الله تعالى أن يكتب ما يفتح عليه من العلم المبرهن، الدال على النصيحة والتذكرة) «1» . فالكاتب قد يتعرض لنقمة أولياء الأمور، لكن تصريحه بأنه انصاع لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجعل أصحاب السلطان في حرج من أخذه بما يذكره في كتابه. وقد أذكت هذه الرؤيا المتكررة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الشوق إليه، والحب لذاته، وحرّكت قرائح الشعراء وألسنتهم لتمجيده ومدحه، علاوة على أن بعض روايات رؤيا النبي الكريم كانت لها علاقة مباشرة بالمديح النبوي، وكانت وراء قصائد عظيمة في المدح النبوي، مثل بردة البوصيري، واستمر شعراء المديح النبوي، يذكرون رؤياهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلاقة هذه الرؤيا بمدحهم له. وبذلك نرى أن ارتباط الناس في العصر المملوكي بالدين الإسلامي، وبروز المظاهر الدينية المتباينة المرتبطة بالأوضاع السياسية والاجتماعية، جعلت الأسباب الدينية من أهم الأسباب التي دفعت الشعراء إلى مدح رسول الله، والاتساع في هذا المدح اتساعا لا يقع تحت حصر، فاصطلحت الدوافع الدينية العامة في المجتمع، والدوافع الدينية الشخصية لكل شاعر على حفز الشعراء إلى الإكثار من المديح النبوي، ومشاركة الناس كافة في هذا الفن الشعري، وانفعالهم به.

_ (1) الأسدي: التيسير والاعتبار ص 34.

الباب الثاني نشأة المدح النبوي وحدوده

الباب الثاني نشأة المدح النبوي وحدوده

الفصل الأول نشأة المدح النبوي القسم الأول: المديح والرثاء والمديح النبوي: المدح فن عريق من فنون الشعر العربي، وأكثرها تناولا عند شعراء العربية، منذ عرف الشعر العربي على صورته المعروفة، فيه تبارى الشعراء وتفاضلوا، وفيه كان معاشهم. وقد وقف المهتمون بالشعر العربي قديما وحديثا مواقف متباينة من فن المديح، فمنهم من أشاد به لأنه يؤثر في حياة العرب، وينشر الفضائل العربية ويحبّذها، وينهى عن النقائص الذميمة، ويدعو إلى اجتنابها. ومنهم من انتقد المديح وهاجمه، لأنه يجعل الشعر مرتبطا بأولي الأمر، ولا يلتفت إلى عامة الناس، ولأنه يجانب الصدق في أوصاف الممدوح، ويجافي الحقيقة في أعماله، ويضفي على الممدوح فضائل لا يستحقها. والمدح وصف لأخلاق الممدوح، وإشادة بفضائله، وبيان لميزاته، وحمد لأفعاله، وقد ذهب به شعراء العربية كل مذهب للدواعي القوية التي تدفع إليه، فالشاعر المنقطع إلى الشعر، المتفرغ له لا يوجد أمامه سبيل للعيش إلا عطاء الموسرين، وهؤلاء لا يقدمونه إلى الشاعر لبراعته الفنية، ولكن جزاء مدحه لهم، فكان الشاعر مضطرا إلى مدح ذوي الجاه والسلطان وذوي المال والغنى. ولا يقتصر إقدام الشاعر على مدح رجل أو قوم رغبة في المال، بل قد يمدح خوفا من بطش أو اتقاء لشر، أو يمدح لسبب سياسي، فعندما يميل إلى مذهب سياسي، يشيد برجاله، ويظهر حسن مذهبهم، وقد يمدح لسبب ديني، كما هو معروف في مدح آل

البيت ومدح بعض رؤساء المذاهب الدينية، وربما مدح لإعجابه بالممدوح فقط، دون أن يطمح من وراء مدحه إلى مال أو جزاء. وهكذا تنوع المديح وتنوعت دواعيه، فأفرغ فيه الشعراء ما جادت به قرائحهم، وما جمعته عقولهم. وتلون بألوان مختلفة في كل عصر وفي كل بيئة، ووفق قدرات كل شاعر واستعداداته، ولم يكن تكرارا مملا على مر العصور، بالإضافة إلى أن قصيدة المدح كانت تجمّل بالغزل الرقيق، وبذكر الديار والأحبّة وبوصف الطبيعة، وبكثير من أحوال النفس الإنسانية في فرحها وترحها، وفي صفائها وتعقيدها، إلى جانب ما يودعها الشاعر من خلاصة تجاربه في الحياة، ونظرته إليها في قالب حكم ومواعظ. وقد جرت العادة في الجاهلية أن يتوجه الشعراء إلى الرجال البارزين بالمدح والثناء، وخاصة إذا كان الممدوح من رجال قبيلة الشاعر، وكان المدح يدور حول القيم الجاهلية التي اعتز بها العربي من شجاعة وكرم وطيب المحتد، وشرب الخمر، والمقدرة على الغزو والسلب والسبي إلى غير ذلك من القيم التي اقتضتها البيئة الجاهلية، وعندما بعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم اتجهت إليه أنظار العرب في الجزيرة العربية، وانقسموا اتجاه رسالته السماوية ما بين مؤيد لها ومؤمن بها، ومتنكر لها كافر بها، فالجاحد لهدي النبي الأمين هاجمه وأظهر الخوف على القيم الجاهلية التي تحفظ امتيازاته، والمصدق المؤمن توجه بالمدح إلى الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم. ومن هنا نشأ المدح النبوي، وافترق عن غيره من المدح لأنه مرتبط بذات النبي المصطفى والنبي صلّى الله عليه وسلّم يختلف عن غيره من البشر. فشخصية الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم العظيمة، شغلت العرب وبهرتهم، فاتجه الشعراء إليه بالمدح كما فعل الأعشى وغيره من شعراء الجاهلية، وكما فعل الشعراء المسلمون الذين آمنوا بدعوته، وانضووا تحت رايته. ومن ثم نشأ الجدل حول الشعر، والمدح منه خاصة، واختلف الناس في إباحة

الشعر وفي موقف الإسلام منه، وقد نقل عن الإمام الشافعي أنه قال: «إن إنشاء الشعر وإنشاده غير مذموم، والدليل عليه النص والمنقول» و «الشعر كلام حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، غير أنه كلام باق سائر، فذلك فضله على الكلام» «1» . فالرسول صلّى الله عليه وسلّم سمع الشعراء، وأجازهم على مدحهم، فكانت الخنساء تقدم على رسول الله و «كان يستنشدها، ويعجبه شعرها، وكانت تنشده، وهو يقول: هيه يا خناس، ويومئ بيده صلّى الله عليه وسلّم» «2» . وروي أن النبي الكريم «خرج علي كعب بن مالك «3» وهو في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينشد، فلما رآه كأنه انقبض، فقال: ما كنتم فيه؟ فقال كعب: كنت أنشد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فأنشد، فأنشد» «4» . فالنبي الأمين لم يكن يكره الشعر، ولم يكن يحارب المدح، لكنه كان يحارب فيه الكذب والتزيّد كما أوضح ذلك الأبشيهي في قوله: «أما قوله صلّى الله عليه وسلّم: (إذا رأيتم المادحين، فاحثوا في وجوههم التراب) . فقد قال العتبي «5» : هو المدح الباطل والكذب، وأما مدح الرجل بما فيه، فلا بأس به، وقد مدح أبو طالب والعباس وحسان وكعب وغيرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولما يبلغنا أنه حثا في وجه مادح ترابا وقد مدح هو صلّى الله عليه وسلّم المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم» «6» .

_ (1) العيد روسي: النور السافر ص 146 وكتاب الأمم للشافعي: 6/ 207. (2) العباسي: معاهد التنصيص 1/ 353. (3) كعب بن مالك بن عمرو الأنصاري: صحابي شاعر من شعراء النبي صلّى الله عليه وسلّم شهد أكثر الوقائع، له ديوان شعر مجموع. توفي نحو (50 هـ) . الصفدي: نكت الهميان ص 22. (4) الأصفهاني: الأغاني 16/ 232، وصحيح مسلم: 4/ 2297. (5) العتبي: محمد بن عبد الله بن عمرو الأموي، أديب كثير الأخبار، حسن الشعر، من أهل البصرة، له عدة تصانيف شعرية، توفي (228 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 2/ 65. (6) الأبشيهي: المستطرف 1/ 299 وصحيح مسلم، كتاب الشعر: 4/ 1766.

فموقف الإسلام من المديح مرتبط بالغاية من المديح وبصدقه، وليس بمبدأ المديح ذاته، ولذلك هجر الشعراء المسلمون من أغراض الشعر ومعانيه ما لا يتفق مع روح الإسلام وتعاليمه، وأبقوا على ما لا يتعارض مع الإسلام، وما يحث على الفضائل والعمل الصالح، ومن ذلك مدح الرسول الكريم وأصحابه. وقد أبقى الإسلام على الكثير من القيم الجاهلية، ونمّاها، وأكسبها دلالات جديدة تغاير دلالاتها في الجاهلية، فلم تبق الشجاعة والاستبسال في القتال من أجل التباهي والتفاخر والسلب والنهب وإنما أصبحت من أجل رفع كلمة الله، والاستشهاد في سبيله. ولم يبق الكرم للتفاخر وإظهار المقدرة، وإنما أضحى لمساعدة الإخوة في الدين، وللتعبير عن التضامن الاجتماعي، وهكذا. فمديح النبي الكريم في حياته، كان حبا به وإعجابا بشمائله، ونصرة لرسالته، وإن أعطى الرسول صلّى الله عليه وسلّم على مدحه، فإنه استن سنة في أمته. وظلت دوافع المديح النبوي هذه عند الشعراء بعد أن انتقل إلى جوار ربه، وزادت على ذلك، إذا ابتغى الشعراء الأجر والثواب عند الله تعالى، وطلبوا المغفرة والرحمة، وأرادوا أن يقدموا لعصورهم المثل الأعلى للإنسان الكامل، ليقتدوا به، ويتبعوا سنته الغراء، ولإصلاح أوضاع خاطئة في مجتمعاتهم، فظلت دوافع مديحهم له تختلف عن دوافع المديح لسائر الخلق، وخلص لهم الصدق وحرارة العاطفة التي يؤججها الإيمان والحب، ولا يشوبها الرياء وطلب النوال، وقد نصّ على ذلك شعراء المديح النبوي، فقال البرعي: إذا مدح المدّاح أرباب عصرهم ... مدحت الذي من نوره الكون يبهج وإن ذكروا ليلى ولبنى فإنّني ... بذكر الحبيب الطّيّب الذّكر ألهج «1»

_ (1) ديوان البرعي: ص 212.

وأكد شعراء المديح النبوي أنهم لا يطلبون من مديحهم إلا وجه الله تعالى، وأن مديحهم هذا قد رفعهم إلى مكانة سامية، فقال الطرائفي «1» : مديح رسول الله أشرف مدحة ... إلّا أنّه الهادي الشّفيع المعظّم «2» وقال أيضا: علوت مقاما بامتداحي لسيّدي ... وعلّقت آمالي بتلك المطامع «3» وقد مدح الشعراء الرسول المختار بإظهار صفاته الكريمة وشمائله الطيبة، ومكانته السامية، وأفعاله الميمونة، وكان حيا بينهم، لكن مدحه صلّى الله عليه وسلّم لم ينقطع بموته، فظل الشعراء يمدحونه إلى يومنا هذا، وكأنه حي يسمع ويجزي، ولم يسم هذا المديح رثاء أو ما يشابه الرثاء. والسبب في ذلك أن الأدباء خلطوا بين المديح والرثاء، فقالوا: إن الرثاء مدح للميت، ولم يفرق ابن رشيق بين المديح والرثاء إلا بالقرينة، فقال: «ليس بين الرثاء والمدح فرق، إلا أنه يخلط بالرثاء شيء يدل على أن المقصود به ميت، مثل- كان- أو- عدمنا به كيت وكيت- وما يشاكل هذا ليعلم أنه ميت» «4» . وهذا الفهم للمديح والرثاء يعني أن الرثاء فرع من المديح، وأنه تطور عنه، لكنه لا يقدّم تفسيرا للحرقة واللوعة والحزن، أو البكاء والنحيب، ولا يقتضي التفجع وإظهار الأسى.

_ (1) الطرائفي: جمال الدين عبد الكريم بن ضرغام، من أدباء النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، له ديوان (أبكار الأفكار في مدح النبي المختار) . سركيس: معجم المطبوعات العربية 7/ 1234. (2) الطرائفي: نفح الطيب في مدح الحبيب ص 50. (3) المصدر نفسه: ص 51. (4) ابن رشيق: العمدة 2/ 147.

وهناك فهم آخر للرثاء يذهب إلى أنه «تطور عن تعويذات كانت تقال للميت، وعلى قبره، حتى يطمئن في لحده، وبمر الزمن تطور الرثاء عندهم إلى تصوير حزنهم العميق إزاء ما أصابهم فيه الزمن في فقيدهم» «1» . وإذا وجدنا ضربا من الرثاء يشيد بفضائل الميت وصفاته، فهو إما أن يكون وليد حزن ولوعة، تحيل الماضي إلى حقيقة ماثلة أمام عين الشاعر.. وإما أن يكون ذلك الرثاء سردا لصفات الفقيد فقط، دون أن يلمس جانب الحزن واللوعة في نفس الشاعر، وهو بذلك قد يقترب من المديح، ولكنه يبتعد عن أصالة الرثاء الحقيقي «2» . وقد فصّل الدارسون في طبيعة الرثاء، وقسّموه إلى ثلاثة أقسام، هي الندب والتأبين والعزاء الذي هو الصبر، فالندب هو «بكاء الأهل والأقارب حين يعصف بهم الموت» «3» . والشاعر ينظم قصائد يبثها لوعة قلبه وحرقته على موت بعض أهله، العزيزين على قلبه، وربما ندب الشاعر غير أهله. إذا كانوا ينزلون منه منزلة النفس والأهل، ومن ذلك ندب فاطمة- رضي الله عنها- لأبيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقولها: اغبرّ آفاق السّماء وكوّرت ... شمس النّهار وأظلم العصران «4» وقول صفيّة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ندبه: عين جودي بدمعة تسكاب ... للنّبيّ المطهّر الأوّاب واندبي المصطفى فعمّي وخصّي ... بدموع غزيرة الأسراب

_ (1) السلطي، د. عبد الحفيظ: ديوان أمية بن أبي السلط ص 275. (2) المصدر نفسه: 258. (3) ضيف، شوقي: الرثاء ص 5. (4) ابن رشيق: العمدة 2/ 153.

عين من تندبين بعد نبيّ ... خصّه الله ربّنا بكتاب «1» أما التأبين فهو أدنى إلى الثناء منه إلى الحزن الخالص، وهو تصوير لخسارة الناس في كبير، «ومن هنا كان التأبين ضربا من التعاطف والتعاون الاجتماعي، فالشاعر فيه لا يعبّر عن حزنه هو، وإنما يعبّر عن حزن الجماعة، وما فقدته في هذا الفرد المهم من أفرادها، ولذلك يسجل فضائله ويلحّ في هذا التسجيل، وكأنه يريد أن يحفرها في ذاكرة التاريخ حفرا، حتى لا تنسى على مرّ الزمن» «2» ، ويقرب من هذا التحديد قول كعب بن زهير «3» في رثاء النبي الكريم: فجعنا بخير النّاس حيّا وميتا ... وأدناه من ربّ البريّة مقعدا وأفظعهم فقدا على كلّ مسلم ... وأعظمهم في النّاس كلّهم يدا لقد ورثت أخلاقه المجد والتّقى ... فلم تلقه إلّا رشيدا ومرشدا «4» وهكذا يظهر لنا أن الشعر الذي يقال في ميت يسمى رثاء، لكنه في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مديح. وكأن في ذلك ما دلّ على أنه موصول الحياة، لأن شريعته لا زالت حيّة، ويمكن أن يكون ما يقال في الميت مدحا إذا كان ذلك بعد الموت بزمن طويل، أما إذا قيل عقب الموت فهو رثاء، وإن التقت المعاني، وتشابهت، وكذلك الأمر في مضمون الشعر الذي يقال في الميت، فإذا غلب عليه التفجّع والأسى والبكاء يظل رثاء، وإن تطاول به الزمن، أما إذا كان ثناء محضا وإشادة خالصة، وذكرا للفضائل، فإنه يقرب من المديح ويكون في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مديحا لا غير.

_ (1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 329. (2) ضيف، شوقي: الرثاء ص 6. (3) كعب بن زهير بن أبي سلمى، شاعر مخضرم، أهدر النبي صلّى الله عليه وسلّم دمه فجاءه مستأمنا، ومدحه بلاميته المشهورة (بانت سعاد) ، فعفا النبي صلّى الله عليه وسلّم عنه وخلع عليه بردته، توفي سنة 26 هـ. ابن سلام: طبقات الشعراء ص 67. (4) ديوان كعب بن زهير ص 198.

فأسس التفريق بين الرثاء والمديح هي الزمن، وهو المدة التي تفصل وقت قول الشعر عن وقت الوفاة، والمضمون، وهو البكاء والندب في الرثاء، والثناء والحمد في المديح، والممدوح، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم امتاز عن باقي البشر، فامتاز الشعر الذي قيل فيه بعد وفاته عن غيره من الشعر الذي قيل في سواه. فالشعر الذي قاله الصحابة بعد وفاة الرسول الهادي رثاء له، وإن التقى في معانيه مع شعر قيل في زمن آخر، وهذا الشعر الذي نحن بصدد الحديث عنه هو مديح خالص. والسبب في هذا التداخل هو أن الناس اعتادت على تعريف التقريظ أنه «مدح الرجل حيا، والتأبين مدحه ميتا» «1» . فالتقى التقريظ والتأبين في أن كلا منهما مدح، ولذلك تشابه الأمر على بعض الأدباء، فلم يفرّقوا بين رثاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومدحه، ومنهم النبهاني «2» حين صنع مجموعته، فإنه قال: «افتتحت هذه المجموعة بنظم الصحابة فيه صلّى الله عليه وسلّم وقسمته إلى قسمين، الأول: المراثي، والثاني المديح» «3» . ومجموعته مقصورة على المدائح النبوية، ولذلك أدرج المراثي معها دون أن يفرق بينها أو ينبّه على ذلك. وقد لاحظ محقق ديوان كعب بن مالك أن «المسلك الذي اتبعه كعب في رثائه هو

_ (1) ابن السيد البطليوسي: الاقتضاب في شرح أدب الكتاب ص 158. (2) النبهاني: يوسف بن إسماعيل بن يوسف، شاعر أديب من رجال القضاء، ولد في فلسطين، وتعلم بالأزهر، وعمل في تحرير جريدة الجوانب في الأستانة، وتنقل في أعمال القضاء ببلاد الشام له تصانيف كثيرة في الحديث والفقه والأدب منها (المجموعة النبهانية في المدائح النبوية) . وله دواوين خاصة في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي سنة (1350 هـ) . الزركلي: الأعلام 8/ 218. (3) المجموعة النبهانية 3/ 32.

نقل ما كان يقوله في المديح من عالم الأحياء إلى عالم الأموات.. بالإضافة إلى ذلك، كان يظهر أثر فقد المرثي في الناس والمجتمع» «1» . والدليل على مسلك كعب هذا قوله: أيا عين فابكي بدمع ذرى ... لخير البريّة والمصطفى وبكّي الرّسول وحقّ البكا ... عليه لدى الحرب عند اللّقا على خير من حملت ناقة ... وأتقى البريّة عند التّقى على سيّد ماجد جحفل ... وخير الأنام وخير اللها «2» فهذه المعاني في مجملها معاني مديح، وقد رددّها شعراء المديح النبوي إلى يومنا هذا، ونلحظ هذا التوجه عند حسان بن ثابت أيضا في رثائه للرسول الكريم فهو يقول: نبّ المساكين أنّ الخير فارقهم ... مع النّبيّ تولّى عنهم سحرا من ذا الذي عنده رحلي وراحلتي ... ورزق أهلي إذا لم يؤنسوا المطرا كان الضّياء وكان النّور نتبعه ... بعد الإله وكان السّمع والبصرا «3» هذا النوع من الرثاء الذي يجمع بين الحزن لوفاة الرسول الكريم وبين الإشادة بفضائله الكريمة وأخلاقه السامية، وبيان أثره في الإنسانية، هو الذي جعل مفهومي المديح والرثاء يتداخلان، لكن رثاء الرسول الكريم لم يكن كله على هذه الصورة، فإننا نجد مقطوعات كثيرة لأهله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه اقتصرت على الرثاء الخالص، وصوّرت الحزن لوفاته، والبكاء عليه، ومن ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه-:

_ (1) ديوان كعب بن مالك ص 114. (2) المصدر نفسه: ص 173. (3) ديوان حسان بن ثابت ص 220.

لمّا رأيت نبيّنا متجندلا ... ضاقت عليّ بعرضهنّ الدّور وارتعت روعة مستهام واله ... والعظم منيّ واهن مكسور أعتيق ويحك إنّ حبّك قد ثوى ... وبقيت منفردا وأنت حسير «1» فرثاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند وفاته، شارك المديح في تكوين أساس لشعراء المدائح النبوية وعن هذا الأساس أخذوا الكثير من المعاني والأفكار، وعرفوا كيفية مخاطبة الرسول الكريم، أو الحديث عنه شعرا، كما استقوا كثيرا من الألفاظ والتعابير. ووفق هذه المقاييس سار شعراء المديح النبوي، وتحرروا من إشكال الرثاء والمديح، ولم يعد يدور في خلدهم أنهم يرثون، أو أن مديحهم للرسول الكريم به ما يميزه، فهم اطمأنوا إلى أنهم يمدحون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخاصة عند معرفتهم لبعض الأحاديث عن حياة الرسول الأمين وردّه السلام على من يسلم عليه «2» . والغريب أننا لا نعدم رثاء للرسول الكريم بعد مضي مدة طويلة على وفاته، بل وبعد قرون طويلة، استدعى التأليف الرثاء، ففي كتاب (سلوة الكئيب في وفاة الحبيب) نجد قصيدة في رثاء النبي الكريم منها: لله هذا الموت لم يبق ذا ... تقوى لتقواه ولا ذا اجترام ولو يحاشي أحدا في الورى ... حاشى نبيّ الله خير الأنام

_ (1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 320. (2) رويت عدة أحاديث مشكوك فيها حول حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قبره، منها «إن الله ملكا أعطاه سمع العباد، فليس من أحد يصلي عليّ إلا أبلغنيها» ، وأورد البيهقي في كتاب حياة الأنبياء: «إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلّون بين يدي الله عز وجل حتى ينفخ في الصور. ومنها: «أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبر بعد ثلاث» . السيوطي: اللآلي الموضوعة في الأحاديث الموضوعة: ص 147 و 148.

القسم الثاني - المدح النبوي في حياة الرسول:

لكنّه أنهله كأسه ... وهو حبيب الله خير الأنام فماجت الأرض بمن فوقها ... لموته وانهلّ صوب الغمام لله موت المصطفى إنّه ... رزء عظيم لا يضاهي العظام «1» وبذلك نجد أن المديح النبوي، هو في بدايته قسم من المديح العام الذي عرف في أدبنا العربي، ولكنه انفرد عنه، لأنه مخصّص لسيد البشر، ولأن الممدوح يفترق عن عامة الناس، ولأن كل ما يرد في المدحة النبوية يلتزم نهجا خاصا في التأدب والسمو، لا نجده في المدائح الآخرى. وافترق المديح النبوي عن الرثاء، بعد أن تطاول الزمن على وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعد أن اتجه الشعراء نحو الإشادة بفضائله الكريمة وشمائله العطرة، وأفعاله المباركة، دون التعرّض للحزن والأسى، وهما من خصائص الرثاء، وبعد أن استقر في أذهان الشعراء تواصل حياة النبي المصطفى، اتسع نطاق المديح النبوي طلبا للمغفرة والرحمة، وتحقيقا لأهداف مختلفة أرادها الشعراء من وراء تسابقهم إلى المديح النبوي. القسم الثاني- المدح النبوي في حياة الرسول: حين بعث النبي الهادي واجه مقاومة شديدة من المشركين، الذين كفروا برسالته السمحة وخافوا على مكانتهم، ونمط معيشتهم، التي دعا الإسلام إلى تغييرها وإلى مساواة جميع الخلق تحت رايته، فتصدوا له منذ البداية، وخاضوا مع المسلمين صراعا طويلا استخدموا فيه جميع أسلحتهم إلى أن فلّت، وإلى أن كتب الله للإسلام النصر المبين. وكان الشعر من أمضى أسلحتهم، لما له من فاعلية وتأثير في مجتمعهم.

_ (1) ابن ناصر الدين الدمشقي سلوة الكئيب ورقة 236.

وقد أظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الصبر والمصابرة ومن الجلد والأخلاق الكريمة ما جعله محط أنظار العرب جميعا، الذين آمنوا برسالته، والذين لم يؤمنوا، ومنحه الله تعالى من مواهبه ما بهر نفوس القوم وأخذ بعقولهم، فلم يختلف إثنان على تقدمته والإشادة بشخصه الكريم، واتجهت إليه قرائح الشعراء، مادحة مثنية، ولم يتح لشعراء المشركين الانتقاص من أخلاقه وقدره، وكل ما فعلوه هو مهاجمة دعوته من منطلق الخوف على الامتيازات والمكانة، والتعصب الأعمى لباطلهم الموروث. وكان الشعر يحتل في نفوس العرب محلا عظيما، وكان فنهم الأول، فهو عندهم أكثر من وسيلة إعلامية، إنه مستودع أفكارهم ومشاعرهم ومثلهم، فكان لا بد من أن يكون له في شأن الدعوة الإسلامية وجود وأثر. بيد أن الإسلام أراد للشعر العربي غير ما كان عليه، أراده أداة للبناء لا للهدم وأراده منسجما مع المجتمع الجديد الذي يدعو إليه، فأشيع لذلك أن الإسلام حارب الشعر، ونفرّ الناس منه، وهذا لا يسلم عند التدقيق، فالإسلام استبعد من الشعر ما يثير الضغائن والمفاسد، وما يجانب الحق، وأراد للشعراء أن يحترموا أنفسهم وفنهم، وهذا ما يظهر من الآية الكريمة التي هاجمت الشعراء الذين يزينون الباطل، ويفسدون الذمم والعقول وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. «1» . وهنالك أحاديث شريفة، تنتقص من الشعر الذي يحمل القيم الجاهلية ويدعو إليها، وقد مرّ معنا الحديث الذي يتعلق بالمادحين الكاذبين، وهنالك حديث آخر هو «لئن امتلاء جوف أحدكم قيحا، خير له من أن يمتلئ شعرا» «2» .

_ (1) سورة الشعراء، آية 224. (2) صحيح البخاري: 7/ 109، وصحيح مسلم: 4/ 1769.

إن موقف الإسلام من الشعر، ليس موقفا معاديا ومكرّها، إنه موقف التصحيح لمفهوم الشعر وأثره، والدليل على ذلك مواقف الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الشعر والشعراء، وهذا الشعر الذي مدح به، فقد كان يستنشد الصحابة الشعر، ويستعيد ما يستحسنه منه، ويبدي إعجابه ببعضه. فقد كان عصر البعثة، عصر صراع بين القيم الإنسانية التي جاء بها الإسلام، وبين القيم الجاهلية الفاسدة، لكن الإسلام أبقى على كثير من القيم الجاهلية، وأعطاها مفهوما جديدا، ودلالات أعمق، لأنه يريد بناء مجتمع جديد، وأمة جديدة، تختفي منها القيم التي تفكك المجتمع أو تفسده، أو تنتقص من إنسانية الإنسان، وكان بناء العقيدة الجديدة في داخل النفس والمجتمع يقتضي أن يصحح الشعر الذي يؤثر في النفس والمجتمع. ومما قيل عن الشعر في عصر البعثة، أنه ضعف ولان عما كان عليه في الجاهلية، لأنه التزم الصدق، فالشعر يعتمد على التخيّل الكاذب، فإذا دخل في باب الخير لان، وقد ظلت هذه الفكرة موضع أخذ ورد بين النقاد القدامى والمحدثين، فقد لاحظ المتتبعون للحركة الشعرية في عصر البعثة اضطراب الشعر وتردده بين مد وجزر، وإضراب بعض شعراء الجاهلية عن نظم الشعر في الإسلام، أو التقليل منه، واضطرار الشعراء إلى قول ما يتوافق مع الإسلام، وهذا ما جعل الشعر الذي وصل من عصر البعثة أقل من الشعر الجاهلي، وأقل من الشعر الأموي الذي عاد إلى الطبيعة الجاهلية، وخاصة إذا عرفنا أن الإسلام حرم الشعراء من دوافع الشعر التي تدفعهم إلى الإكثار والإجادة وعوّضهم بدوافع أسمى، لكن تمثّل القيم الجديدة والوضع الجديد يحتاج إلى زمن طويل، تقصّر عنه مدة البعثة الوجيزة، إضافة إلى أن المسلمين انشغلوا بحركة الجهاد ومقاومة المشركين، فلم يكن أمامهم متسع للوقوف طويلا عند الشعر وتجويده، وقد حرصوا في مدة إرساء الدعوة على الفعل أكثر من القول بالإضافة إلى وجود القرآن الكريم الذي أعجز العرب وألجمهم، وجعلهم مشدوهين أمام بلاغته، فاتجهوا إليه،

يتلونه ويحفظونه ويتملون بلاغته، ولا يجدون في أنفسهم المقدرة على مجاراته في البلاغة المعجزة والبيان المفحم، أو الانصراف إلى صنوف القول الآخرى. وتظل مسألة ضعف الشعر مسألة نسبية، تختلف من متتبع لهذا الشعر إلى آخر ولكن الصحيح مما وصلنا لا يؤيد هذه النظرة إلى شعر عصر البعثة. ومن هنا تأتي مسألة ثانية لا بد من الإشارة إليها، وهي وجود شك في شعر هذا العصر، نبّه عليه النقاد القدامى، وجعل منه النقاد المحدثون معركة نقدية كبيرة لها خطرها، وخاصة الدكتور طه حسين الذي أضاف الشعر الإسلامي إلى الشعر الجاهلي في الشك بصحته، فقال: «ولم تكن العواطف والمنافع الدينية أقل من العواطف والمنافع السياسية أثرا في تكلف الشعر ونحله» «1» . وقال: «فكان هذا النحل في بعض أطواره يقصد به إلى إثبات صحّة النبوة وصدق النبي» «2» وأضاف قائلا: «والغرض من هذا النحل- فيما نرجح- إنما هو إرضاء حاجات العامة الذين يريدون المعجزة في كل شيء» «3» . وقد شكك ابن هشام «4» مهذّب السيرة في بعض الشعر الذي ورد فيها، وأرجع ذلك إلى جهل ابن إسحاق «5» بالشعر، واعتذاره عن ذلك «6» ولهذا تحرّج كثير من الأدباء

_ (1) حسين طه: في الأدب الجاهلي ص 132. (2) المصدر نفسه: ص 133. (3) المصدر نفسه: ص 135. (4) ابن هشام: عبد الملك بن هشام البصري النحوي، صاحب المغازي ومهذب السيرة، كان أديبا أخباريا نسابه، سكن مصر وتوفي سنة 218 هـ، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب: 2/ 45. (5) ابن إسحاق: محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي صاحب السيرة، سمع الحديث وكان بحرا في العلم ذكيا حافظا أخباريا نسابة، واختلف العلماء في الثقة بحديثه وروايته، توفي سنة (151 هـ) ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب: 1/ 230. (6) قال ابن سلام في طبقات الشعراء (1/ 7) : «كان ممن أفسد الشعر وهجنه، وحمل كل غثاء منه، محمد بن إسحاق بن يسار.. وكان من علماء الناس بالسير.. وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أتينا به، فأحمله» .

قديما وحديثا من الخوض فيه، وخاصة شعر الصحابة وآل البيت، «لأن الشك يحوم حوله، وأن الأحداث التاريخية وملابسات أخرى أتاحت للخرافة أن تنسج خيوطها حول الصحابة، فحيكت شتى الأساطير.. وقد عظم على الناس أن يكون لهم ذلك البلاء في سبيل الله، ولا يكون لهم في ذلك شعر، فلفّق المتأخرون أشعارا ونسبوها إليهم» «1» . وأعطى طه حسين مثالا على الشعر المنحول، قصيدة الأعشى التي مدح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالأعشى كان مشركا، ولذلك شك الباحثون في شعره الذي يحمل معاني دينية إسلامية لا يعرفها الجاهليون، وخاصة حين يصل الأمر إلى التعابير القرآنية، وهذا مادعا طه حسين إلى القول: «هذه الدالية التي تروى للأعشى في مدح النبي منحولة، نحلها قاص ضعيف الحظ من الشعر، رديء النظم، مهلهل اللفظ، قليل المهارة في النحل ويكفي أن تقرأ هذه القصيدة لترى أنها أسخف ما يضاف إلى الأعشى وأنها، ولا سيما المدح فيها، إلى المتون أقرب منها إلى الشعر الجيد» «2» . والأعشى يقول في قصيدته: نبيّ يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا له صدقات ما تغبّ ونائل ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا أجدّك لم تسمع وصاة محمّد ... نبيّ الإله حين أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى ... ولا قيت بعد الموت من قد تزوّدا ندمت على أنّ لا تكون كمثله ... وإنّك لم ترصد لما كان أرصدا «3»

_ (1) الجبوري: شعر المخضرمين ص 511. (2) حسين طه: من تاريخ الأدب العربي 1/ 241. (3) ديوان الأعشى الكبير: ص 17.

فالوعظ ظاهر في هذه الأبيات، وفيها دعوة إلى التقى والعمل الصالح، والتزوّد لليوم الآخر، وأين الأعشى الجاهلي، شاعر الخمر، الذي ردّته قريش- كما روي- عن الوصول إلى النبي الهادي وأغرته بالمال، وحذرته من أن الإسلام يحرّم الخمر، الذي يعيش الشاعر من أجله وفي أجوائه، أين هو من الوعظ والتذكير باليوم الآخر. هذا التوجه الديني في قصيدة الأعشى هو الذي جعل ابن نباته «1» يلحق قصيدة الأعشى بالمدائح النبوية، ويسميها نبوية، فيقول عنه: «ومن محاسن شعره، قوله في القصيدة النبوية» «2» . ومن أمثلة ذلك أيضا ما قيل عن شعر أبي طالب، ومدحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد نصّ ابن سلام «3» على أن أبا طالب كان: «شاعرا جيد الكلام، أبرع ما قال قصيدته التي مدح فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم ... وقد زيد فيها وطوّلت.. وسألني الأصمعي «4» عنها، فقلت صحيحة جيدة، قال: أتدري أين منتهاها؟ قلت: لا» «5» . والقصيدة هي: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلّاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل

_ (1) ابن نباتة: محمد بن محمد الجذامي الفارقي، شاعر عصره وأحد الكتاب المترسلين العلماء بالأدب، تولّى كتابة السر، له عدة كتب وديوان شعر. توفي سنة (768 هـ) . الدرر الكامنة: 4/ 216. (2) ابن نباته: سرح العيون ص 417. (3) ابن سلام: محمد بن عبد الله الجمحي، إمام أهل البصرة في الأدب، من مؤلفاته: طبقات فحول الشعراء. الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 18/ 204. (4) الأصمعي: عبد الملك بن قريب بن علي الباهلي، راوية العرب وأحد أئمة العلم باللغة والشعر، اقتبس علوم البادية، وله مؤلفات كثيرة منها (الأضداد) و (الأصمعيات) توفي سنة (216) هـ ابن خلكان: وفيات الأعيان: 1/ 170. (5) ابن سلام: طبقات الفحول الشعراء ص 244.

وأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصّر عنها سورة المتطاول حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إليها ليس عنه بغافل «1» لاحظ الأصمعي في القصيدة متسعا للتّزيّد والإضافة، فالقصيدة تدعو إلى التساؤل، وخاصة حول دواعي هذا المدح، وأبو طالب حينذاك سيد قومه، ولم يكن صلّى الله عليه وسلّم قد عرف قدره حق المعرفة بين الناس، ولذلك فسر ابن أبي الحديد «2» هذا الأمر بقوله: «وإن سرا اختص به محمد صلّى الله عليه وسلّم حتى أقام أبا طالب- وحاله مع حاله- مقام المادح له، لسرّ عظيم وخاصيّة شريفة.. وهذا في باب المعجزات عند المنصف، أعظم من انشقاق القمر وانقلاب العصا» «3» . ومما يزيد من ظلال الشك التي تحيط شعر ذلك العصر، الشعر الذي نسب إلى الجن والذي كثرت رواياته كثرة مفرطة، حتى ألّفت فيها رسالة (هو اتف الجن) ، التي نقل مؤلفها عن المسعودي «4» قوله: «فأما الهواتف، فقد كانت كثرت في العرب، واتصلت بديارهم، وكان أكثرها أيام مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي أوّلية مبعثه، ومن حكم الهاتف أن يهتف بصوت مسموع وجسم غير مرئي» «5» . وقد جمع المؤلف في رسالته هذه ما هتفت به الجن، أو نطقت به الكهان، مبشرة بمبعث رسول الله، وبدأه بقوله:

_ (1) الحماسة البصرية: ص 118. (2) ابن أبي الحديد: عبد الحميد بن هبة الله بن محمد، عالم بالأدب، قدم في الدواوين السلطانية، من تصانيفه (شرح نهج البلاغة) . توفي سنة (656 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 280. (3) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 11/ 116. (4) المسعودي: علي بن الحسين بن علي، مؤرخ رحاله، أقام بمصر، من مؤلفاته (مروج الذهب) توفي سنة (346 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات: 3/ 12. (5) ابن سهل الخرائطي: رسالة هواتف الجن ص 134.

هذا كتاب هواتف الجنّان ... وعجيب ما يحكى عن الكهّان ممّا يبشرّ بالنّبيّ محمّد ... ويدلّ منه بواضح البرهان «1» ومن ذلك قصة سواد بن قارب ورئيّه الذي جاءه في النوم ثلاث مرات، يدعوه إلى الإسلام، ومما قاله له في المرّة الأولى: فارحل إلى الصّفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها وفي المرة الثانية: فارحل إلى الصّفوة من هاشم ... فليس قداماها كأذنابها وفي المرة الثالثة: فارحل إلى الصّفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها فلما وصل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر إليه وقال: هات يا سواد بن قارب «2» ، فقال: أتاني رئيّي بعد هدء ورقدة ... ولم أك فيما قد بلوت بكاذب وأشهد أنّ الله لا ربّ غيره ... وأنّك مأمون على كلّ غائب وأنّك أعلى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا بن الأكرمين الأطائب وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب قال: ففرح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فرحا شديدا «3» .

_ (1) ابن سهل الخرائطي: رسالة هواتف الجن ص 133. (2) سواد بن قارب الأزدي، كاهن شاعر في الجاهلية، صحابي في الإسلام، عاش إلى خلافة عمر ومات بالبصرة نحو (15 هـ) . ابن حجر: الإصابة 3/ 148. (3) الصفدي: الغيث المسجم 1/ 33.

ولم ينقطع الجن عن إخبار العرب عن أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد بعثته، ولم يقف عند دعوتهم إلى الإيمان به، بل ظل يعلمهم بأحواله أولا بأول، إلى أن توفاه الله تعالى، فإذا الهواتف تنعي إليهم الرسول الكريم، كما حدّث أبو ذؤيب «1» ، فقال: «بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليل، فاستشعرت حزنا، وبتّ بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، فظللت أقاسي طولها، حتى إذا قرب السحر أغفيت، فهتف بي هاتف، وهو يقول: خطب أجلّ أناخ بالإسلام ... بين النّخيل ومعقد الآطام قبض النّبيّ محمّد فعيوننا ... تذري الدّموع عليه بالتّسجام» «2» وهكذا حام الشك قديما وحديثا حول كثير من شعر زمن البعثة، ومن الشعر المتعلق بالنبي الكريم وهذا ما يجعل الباحث حذرا في التعامل مع هذا الشعر، حتى لا يخرج بنتائج مبنية على شواهد مشكوك بنسبتها إلى أصحابها وعصرها، فلا ينكر الشعر جملة، ولا يأخذه على عواهنه، وله فيما وثقه الرواة، واطمأنت إليه نفسه مادة جيدة دالة، تعصمه من أن يضل في هذا الكم الشعري الكبير الذي حملته كتب السيرة والتاريخ. فقصيدة من أشهر قصائد المديح النبوي وأوثقها، هي بردة كعب بن زهير، داخلها التزيد فلاحظ محقق شرحها (الزبدة) أن الشارح كان يشك في بعض أبيات البردة، و «أن شكه هذا جعله يهمل جزآ في ختام القصيدة المذكورة، وهو سبعة أبيات أضافها الشراح المتأخرون رغبة في التبرك والإكثار من الصلاة والسلام على الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم» «3» .

_ (1) أبو ذؤيب الهذلي: خويلد بن حرّث، شاعر فحل مخضرم، شارك في الغزو والفتوح، وعاش إلى أيام عثمان، مات بمصر نحو (27 هـ) . بعد عودته من فتح أفريقيا، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة وفاته، فأدركه وهو مسجى، وشهد دفنه، له ديوان شعر الأصفهاني: الأغاني 6/ 264. (2) العباسي: معاهد التنصيص 2/ 165. (3) الغزي: الزبدة في شرح البردة ص 4.

والملاحظ على الشعر الذي مدح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غلبة القيم التقليدية عليه، وقد يكون ذلك راجعا إلى أن الشعراء لم يفقهوا الدين الجديد، ولم تدخل في روعهم مفاهيمه، لذلك لم يظهر في شعرهم التأثر القوي به، وكانت النّبوة جديدة عليهم، لا يعرفون كيف يخاطبون صاحبها، فكان مديحهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مديحا تقليديا، وبالقيم الاجتماعية التي كانت سائدة في عصرهم، والتي يتمتع بها السيد في قومه، مثل الإشادة بالكرم في قول أحدهم: حباها رسول الله إذ نزلت به ... فأمكنها من نائل غير مفقد فأضحت بروض الخضر وهي حثيثة ... وقد أنجحت حاجاتها من محمّد «1» فهذا الشاعر وأمثاله كانوا يمدحون النبي الكريم بالقيم التي كانت موضع فخر في الجاهلية، وكأنهم يمدحون ملكا أو سيدا، وليس نبيا مرسلا. فمدّاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته، كانوا في مديحهم يتبعون تقاليدهم الفنية الجاهلية، فظلوا يعبرون، بالطريقة التي ألفوها، والتي نتجت عن طبيعة مجتمعهم، وتكوينهم الفكري والخلقي والفني، ولذلك نجد أثر الدين ضئيلا، لكنه أخذ بالازدياد مع تقدم الوقت، فإذا بالشعراء يمدحون النبي الأمين بمعان دينية إسلامية إلى جانب القيم الاجتماعية التقليدية، ولم يكتفوا بذكر اسمه أو صفته فقط، مثل قول أبي عزّة الجمحي «2» : ألا أبلغا عنّي النّبيّ محمّدا ... بأنّك حقّ والمليك حميد وأنت امرء تدعو إلى الرّشد والتّقى ... عليك من الله الكريم شهيد

_ (1) المرزباني: من الضائع من معجم الشعراء 113. (2) أبو عزة الجمحي: كان شاعرا مملقا ذا عيال، أسر يوم بدر مشركا فمنّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأطلقه على ألا يهاجم المسلمين بشعره، ثم أسر يوم أحد، فقتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ابن سلام: طبقات الشعراء ص 253.

وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة ... لها درجات سهلة وصعود فإنّك من حاربته لمحارب ... شقي ومن سالمته لسعيد «1» فالقيم الإسلامية أخذت تظهر في مخاطبة الرسول الكريم ومدحه، وخاصة عند الشعراء من الصحابة، الذين لم يقتصروا على ذكر صفاته الجليلة وأخلاقه العظيمة، بل تحدثوا عن هدايته، وأوردوا المعاني الدينية في مدحه، مثل قول عبد الله بن رواحة «2» : خلّوا بني الكفّار عن سبيله ... خلّوا فكلّ الخير في رسوله قد أنزل الرّحمن في تنزيله ... في صحف تتلى على رسوله بأنّ خير القتل في سبيله ... يا ربّ إنّي مؤمن بقيله أعرف حقّ الله في قبوله «3» حتى إذا تحدث عن الرسول الهادي مادحا، مزج القيم التقليدية بالقيم الدينية الجديدة في قوله: تحمله النّاقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلّى ليلة الظّلم وفي عطا فيه أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم «4» ويتقدم عبد الله بن رواحة في مدحه للرسول الكريم، فيفصّل في المعاني الدينية، ويتحدث عن يوم القيامة وعن الشفاعة، ويذكر غيره من الأنبياء، في قوله:

_ (1) ابن سلام: طبقات فحول الشعراء 253. (2) عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري: صحابي من الأمراء والشعراء، شهد كثيرا من الغزوات، واستخلفه النبي صلّى الله عليه وسلّم على المدينة في إحدى غزواته- استشهد في وقعة مؤتة سنة (8 هـ) . (3) ديوان عبد الله بن رواحة: 144. (4) المصدر نفسه: 138.

إنّي تفرّست فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أن ما خانني البصر أنت النّبيّ ومن يحرم شفاعته ... يوم الحساب فقد أزرى به القدر فثبّت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا «1» إن مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته جاء ما بين الإشادة بخصاله الكريمة، على عادة شعراء المدح آنذاك وبين الإشادة بهدايته ونبوّته، وكل شاعر مدحه حسب موقفه من الإسلام، فالشعراء الذين قصدوا الرسول الكريم مثل شعراء الرفود، ولم يكونوا يعرفون الكثير عن الإسلام والنبوة، ولكن تناهى إلى أسماعهم صفاته العظيمة وأعماله الميمونة، توجهوا إليه بالمدح على طريقتهم التي اعتادوها في مخاطبة ساداتهم، أما الشعراء المسلمون الذين صاحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتملّك الإيمان قلوبهم، وعرفوا مكانة الرسول الدينية، فإنهم مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما عرفوا عنه في دينهم السامي، ولذلك نجد من مدحه بالقيم الاجتماعية التقليدية فقط، ونجد من مدحه بالقيم الدينية فقط، ونجد من مزج بينها، فشاعر مثل مالك بن عوف «2» اليربوعي سمع عن الرسول الكريم ومكانته وصفاته وأعماله، فمدحه بذلك وبكرمه، وذكر مقدرة الرسول العظيمة على التنبّؤ بالغيب، بدهشة وبساطة، وهذا يظهر أنه حين قال هذا الشعر لم يكن على دراية بالإسلام وموقع الرسول فيه: ما إن رأيت ولا سمعت بواحد ... في النّاس كلّهم بمثل محمّد أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... وإذا يشأ يخبرك عمّا في غد ومنهم من وجد في النبي الكريم ما تحدثت عنه أخبار الأوائل والرسل السابقين عليهم السلام، وهذه أمور دينية محضة، مثل كليب بن أسد الحضرمي «3» الذي قال:

_ (1) ديوان عبد الله بن رواحة ص 144. (2) مالك بن عوف بن سعيد بن يربوع، صحابي، قاد هوازن لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم أسلم وشهد القادسية وفتح دمشق، كان شاعرا رفيع القدر في قومه، توفي نحو (20 هـ) . ابن حجر: الإصابة 6/ 31. (3) كليب بن أسد بن كليب الحضرمي، صحابي من شعراء حضرموت، مخضرم، مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم فمسح الرسول صلّى الله عليه وسلّم بيده وجهه، وكان ذلك من مفاخر ذريته. توفي نحو (43 هـ) . ابن حجر: الإصابة 5/ 312.

أنت النّبيّ الذي كنّا نخبّره ... وبشّرتنا به الأخبار والرّسل «1» ووصل الشعراء إلى الحديث الديني الخالص في مدحهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدخل إلى شعرهم أصول الدين ومفاهيمه، كما في قول الطّفيل بن عمرو بن طريف الدّوسي «2» : ألا أبلغ لديك بني لؤيّ ... على الشّنان والعضب المردّ بأنّ الله ربّ النّاس فرد ... تعالى جدّه عن كلّ ندّ وأنّ محمّدا عبد رسول ... دليل هدى وموضح كلّ رشد وأنّ الله جلّله بهاء ... وأعلى جدّه في كلّ جدّ «3» وتحدث الشعراء أيضا عن فضل النبي على الناس، إذ حمل إليهم الهداية والنور والرحمة وأنقذهم مما كانوا فيه من ضلالة وجهالة، فقال جهيش بن أويس النخعي «4» : ألا يا رسول الله أنت مصدّق ... فبوركت مهديّا وبوركت هاديا شرعت لنا دين الحنيفيّة بعد ما ... عبدنا كأمثال الحمير طواغيا «5» ومضى الصحابة الكرام، الذين آمنوا بربهم وبرسولهم، وجاهدوا في الله حقّ جهاده، ونصروا النبي الهادي بكل ما يملكون، في تسجيل ما يرونه في الرسول- النبي

_ (1) ابن حجر: الإصابة 3/ 306. (2) الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص الدوسي، صحابي أرسله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى أحد الأصنام فحرقه، شهد الفتح وقتل يوم اليمامة. ابن حجر: الإصابة 3/ 286. (3) ابن حجر: الإصابة 2/ 226. (4) جهيش أو جهيش بن أوس النخعي، قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع نفر من مذحج فأسلموا. ودعا له النبي صلّى الله عليه وسلّم ولقومه. ابن حجر: الإصابة 1/ 266. (5) ابن حجر: الإصابة 1/ 255.

والإنسان-، فتحدثوا عن مكانته الدينية، ومنزلته عند الله تعالى، وقد سمعوا القرآن الكريم يمدحه ويشيد به. ومن ذلك قول العباس «1» بن مرداس: نبيّ أتانا بعد عيسى بناطق ... من الحقّ فيه الفصل منه كذلكا أمين على الفرقان أوّل شافع ... وآخر مبعوث يجيب الملائكا «2» ووصل الأمر في التوجّه الديني عند مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الحديث عن الغيبيات، وعن كيفيّة خلق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأوّلية خلقه، وهو تصريح بالحقيقة المحمدية التي انتشرت عند مادحي الرسول الأعظم، وقد نسب هذا المدح إلى العباس- رضي الله عنه- عمّ النبي الكريم، وهو ينحو فيه منحى رمزيا، لا نعهده عند شعراء تلك المرحلة، ولا المرحلة التي أعقبتها، فقد قيل: (كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له عمه العباس: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفضض الله فاك، فأنشأ يقول: من قبلها طبت في الظّلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق ثمّ هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السّفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق تنقّل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق حتّى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النّطق «3» إن هذه القطعة على جانب كبير من الأهمية، وتكون قد سبقت زمنها، لأن مثل

_ (1) العباس بن مرداس بن أبي عامر السلمي، شاعر فارس، أمه الخنساء الشاعرة له ديوان شعر مجموع توفي نحو (18 هـ) . ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص 166. (2) الأصفهاني: الأغاني 14/ 305. (3) الصفدي: الغيث المسجم ص 275.

هذه الأفكار التي اعتقد بها المتصوفة وروّجوها، والتي شغلت المسلمين بفرقهم كافة، ظهرت إلى النور في وقت متأخر، بعد أن كثرت الفرق الدينية، وتلقحت أفكارها بأفكار غريبة عن الفكر العربي الإسلامي. فالمعاني الدينية في مدح النبي الأمين اقتضتها صفة الممدوح، ومن غير المعقول أن يظل ما مدح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالصا للمعاني التقليدية، وألا تشوبه القيم الدينية، وقد ظهر من الأمثلة السابقة أن تأثر الشعراء بالإسلام، وخاصة في مدح النبي الكريم، كان كبيرا جدا، وليس كما صوّره الباحثون وحتى الشعراء الذين هاجموا المسلمين أثناء الصراع بين المسلمين والمشركين، وأسلموا بعد فتح مكة، ومدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكفيرا عما فرط منهم، واعتذارا عما سبقت إليه ألسنتهم، ظهر في شعرهم التأثر بالإسلام لأن المدة كانت كافية ليعرف المسلمون وغيرهم الكثير عن الإسلام ونبيّه الكريم ومن ذلك قول عبد الله بن الزبعرى «1» : يا رسول المليك إنّ لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور آمن اللّحم والعظام لربّي ... ثمّ قلبي الشّهيد أنت النّذير إنّ ما جئتنا به حقّ صدق ... ساطع نوره مضيء منير أذهب الله ضلّة الجهل عنّا ... وأتانا الرّخاء والميسور «2» وهذا الأمر يظهر لدى الشعراء الذين اشتهروا في الجاهلية، وتكاملت عندهم التقاليد الفنية، وعرفوا القيم التي يمدحون بها أسياد قومهم، فإنهم مدحوا الرسول الكريم، وأشادوا بخصاله وفعاله على طريقتهم المعروفة، لكن ذلك لم يمنعهم من أن يكون مدحهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم متميزا عن مدح غيره وخاصة في النبوة فكان لا بد من أن

_ (1) عبد الله بن الزبعرى بن قيس السهمي القرشي، شاعر قريش في الجاهلية، كان شديدا على المسلمين إلى أن فتحت مكة، فهرب ثم عاد فأسلم واعتذر ومدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، الأصفهاني: الأغاني 15/ 179. (2) شعر ابن الزبعرى ص 36.

يذكر هؤلاء الشعراء ما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكانة سامية لا تدانيها مكانة، وكان لا بد من أن يظهر تأثرهم بالإسلام، وأن تجري المعاني الدينية في شعرهم الموجه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومن هؤلاء الشعراء كعب بن زهير، الذي أخذ عن أبيه أشهر شعراء الجاهلية فن الشعر، وكان قد قاله قبل البعثة، وبرع فيه، حتى إذا بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تردّد في تصديقه، ثم جاءه معتذرا مادحا، فقال فيه: أنبئت أنّ رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول إنّ الرّسول لسيف يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول «1» أما حسان بن ثابت، فهو شاعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نذر نفسه للدفاع عن الإسلام وعن النبي الأمين بشعره وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشجعه على ذلك. وشعره في الرسول المصطفى حافل بالمعاني الدينية، فهو قريب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي خضم الدعوة وتطوراتها، فكان لا بد أن يتأثر بالإسلام في شعره على الرغم من أنه قضى شطرا كبيرا من عمره في الجاهلية، وكان شاعرا مشهورا فيها، فإذا ما مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جنح في شعره نحو التقاليد الشعرية الثابتة في نفسه، والمترسبة في وعيه، انسياقا وراء ما جرت عليه العادة في المدح من ناحية، وليلائم بين ما كان يهاجم به المسلمون من شعر وبين ردّه عليه فلم يكن يغيظ المشركين ما يتمتع به الرسول الكريم من مكانه دينية- وهم ينكرونها- ولكن يوثر فيهم أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أكمل ما يكون عليه السيد في قومه من خلق وعمل، ولذلك ظل مدحه للرسول صلّى الله عليه وسلّم على هيئته الأولى، لكنه حفل بالمعاني الدينية وخاصة حين نعلم أن وراء مدحه للرسول صلّى الله عليه وسلّم دافعا دينيا جعله يضفي على الرسول صلّى الله عليه وسلّم صفات تسمو به عن مستوى سائر الناس، ولم تكن غايته من المديح إلا إرضاء شعوره الديني، والتعبير عن إعجابه بشخص النبي العظيم صلّى الله عليه وسلّم لذلك نجد في شعره كثيرا من

_ (1) ديوان كعب بن زهير ص 9.

المعاني الدينية الإسلامية، التي تبرز الرسول صلّى الله عليه وسلّم على صورته الحقيقية، صورة النبي الكريم الذي أرسل لهداية النّاس، فاقتبس من صفاته ما يؤكد ذلك، وقال: أعني الرّسول فإنّ الله فضّله ... على البريّة بالتّقوى وبالجود مبارك كضياء البدر صورته ... ما قال كان قضاء غير مردود «1» وإذا كان حسان قد مزج في شعره هذا بين القيم التقليدية التي عرفها مجتمعه، وأقرها الإسلام وهذّبها، وبين المعاني الدينية الجديدة التي جاء بها الإسلام، فإنه في شعر آخر، خلص في مدحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمفاهيم الدينية، وفصّل فيها، فذكر مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم الدينية، وصفاته وأثره في الناس، وتوجه إلى الله تعالى بالمناجاة والدعاء فقال: أغرّ عليه للنّبوّة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد وضمّ الإله اسم النّبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد وشقّ له من اسمه ليجلّه ... فذو العرّش محمود وهذا محمّد فأمسى سراجا مستنيرا وهاديا ... يلوح كما لاح الصّقيل المهنّد وأنذرنا نارا وبشّر جنّة ... وعلّمنا الإسلام فالله نحمد «2» إن هذا الشعر لا يمكن أن يوصف إلا بأنه شعر إسلامي خالص، فحسان يظهر أكثر من غيره تمثله للمفاهيم الإسلامية، إنه يظهر تأثره بالقرآن والتعبير القرآني، ويظهر أن مديحه للنبي الأمين كان من أجل فكر آمن به، وعقيدة التزم بمبادئها، لذلك جاء شعره هذا متأثرا- بقدر كبير- فيما جاء به الإسلام عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيما يختلف به عن غيره من البشر.

_ (1) ديوان حسان بن ثابت ص 134. (2) ديوان حسان بن ثابت ص 134.

إن المديح النبوي على عهد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم تنوع وتباينت دوافعه ومنطلقاته، فشعراء مدحوا الرسول الكريم، ولم يكونوا قد التقوه من قبل، ولم يعرفوا الكثير عن الإسلام، فمدحوه على طريقتهم المعروفة بينهم مدح سيد عظيم، ولم يتطرقوا إلى صفته الأولى، وهي الصفة الدينية والنبوة، ومثل هؤلاء الشعراء الذين سمعوا عنه صلّى الله عليه وسلّم فجاؤوا إليه يطلبون رفده، أو شعراء المسلمين الذين اتبعوا طريقتهم التقليدية في مدح العظماء، ليتلاءم مدحهم مع الشعر الذي يهاجم المسلمين والإسلام، ومع البيئة التي يودّون أن ينتشر شعرهم فيها، وهي الجزيرة العربية كلها، فلم يكونوا يريدون لشعرهم أن يبقى حبيسا في المدينة المنوّرة، ولا يتوجه لأهلها فقط، وإلّا لكان لمدحهم طابع آخر، هو الطابع الديني الإسلامي الذي برز عند الشعراء المسلمين، والذي اقتضته مكانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدينية، وصفاته وسلوكه وأعماله، فظهر في شعرهم الذي مدحوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تأثرهم بالإسلام ومفاهيمه، يمزجون بين المفاهيم الجديدة، وبين ما كانوا عليه من فن المديح، حتى إذا تشربت نفوسهم بتعاليم الإسلام الحنيف، واستقر في روعهم الإيمان به، وجدنا عندهم مديحا للنبي الكريم خالصا في توجهه الديني، وفي تأثره بالمعاني الدينية والتعبير القرآني. وهذا التردد في الاستجابة للمفاهيم الدينية وإظهارها في الشعر الذي مدح به النبي الأمين أمر طبيعي، فكل غرض فني، وكل طريقة أداء أدبية جديدة، تحتاج إلى وقت مناسب لتنضج وتستقر وتظهر في صورة ثابتة معروفة، لأن الإبداع الفني يمر في ثلاث مراحل هي الانفعال النفسي بالتجربة الجديدة، ثم استبطان هذا الانفعال داخل النفس، وتفاعله مع مكوّناتها، وبعد ذلك ترتد هذه التجربة إلى خارج النفس على هيئة إبداع فني. ولم تكن مدة البعثة كافية تماما لتتم هذه العملية في نفوس الشعراء جميعا.

القسم الثالث - في العصر الراشدي والأموي:

وقد وصل إلينا من مديح النبي الكريم على عهده، ما يثبت أن الشعراء قد تأثروا بشخصية الرسول العظيمة، كل واحد من موقعه، فظهر صلّى الله عليه وسلّم في شعرهم إنسانا كاملا، ونبيا كريما، ولم يكن يخطر ببالهم أنهم يرسون فنا جديدا من فنون الشعر العربي، سيكون له فيما بعد شأن أي شأن، ينشغل به النّاس، ويتبارون في إجادته. ومع ذلك فإنهم قدموا لمن جاء بعدهم طريقة مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإمكانية ذلك وكثيرا من المعاني والتعابير التي استخدمها الشعراء إلى يومنا هذا، وأصبحت بعض القصائد مثالا يحتذى في نظم المدح النبوي، كلامية كعب بن زهير وهمزية حسان بن ثابت. القسم الثالث- في العصر الراشدي والأموي: عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقع المسلمون في حيرة حول خلافته، ولم يكونوا يفكرون في ذلك، ولم يتهيؤوا له، فتباينت آراؤهم فيمن يستحق خلافه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو لم يوص لأحد، ولم يترك إشارات قاطعة حول خلافته، وترك الأمر شورى بين المسلمين، ولكن الصحابة الكرام سرعان ما حسموا هذه المسألة، وأنهوا هذه المشكلة التي أثيرت ثانية في القسم الأخير من خلافة عثمان- رضي الله عنه-، الذي استشهد في خضم المعترك السياسي آنذاك، هذا المعترك تحول في خلافة علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- إلى صراع دموي، انتهى بتسلم الأمويين للسلطة، وتحويل نظام الحكم من الشورى إلى الوراثة-، لكن الأمر لم يستتب لهم على الرغم من قوتهم، إذ تحولت الاتجاهات المتابينة في النظر إلى الخلافة، إلى أحزاب قوية، ظلت تقارع الأمويين حتى قوّضت دولتهم. ولمّا كان الصراع في جوهره صراعا حول الخلافة، والخلافة الإسلامية مركز ديني وسياسي في الآن ذاته فإن كل فرقة من الفرق المتصارعة، حاولت أن تجد لمطالبها

السياسية سندا دينيا يؤيد حقها في الخلافة وهكذا ظهر اسم الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وأقواله في أحاديث هذه الأحزاب، وفي شعر شعرائها. وقد منع هذا الصراع المحتدم بين العرب من جهة، وبينهم وبين أعدائهم الخارجين من جهة ثانية الشعراء من أن يطيلوا التفكير في فنهم، ويلتقطوا أنفاسهم للنظر في هذا الفن، وتجديد مضمونه وأسلوبه، لكن دواعي الشعر القديمة عادت إلى الظهور بعد أن توارت في حياة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وفي معظم مدة الخلافة الراشدية، فعاد الشعر قريبا مما كان عليه أيام الجاهلية. لكن هذا الأمر لم يمنع أن يسجل بعض الشعراء عواطفهم الدينية، ومحبتهم الخالصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحب الفضل في تكوين هذه الأمة المنقسمة حول خلافته، فهؤلاء الشعراء لم ينحازوا إلى فئة معينة، لذلك لم يكن مديحهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم منطلقا من وجهة نظر حزب معين، ولا انتصارا لمذهب سياسي. ومن ذلك قول النابغة الجعدي «1» الذي وفد على النبي الكريم، يذكر فضل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أمته، وعليه خاصة: حتى أتى أحمد الفرقان يقرؤه ... فينا وكنّا بغيب الأمر جهّالا فالحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتّى لبست من الإسلام سربالا يا ابن الحيا إنّني لولا إلاله وما ... قال الرّسول لقد أنسيتك الخالا «2» ولم يكن النابغة الجعدي في معزل عن الحركة التي تحيط به، فعبّر عن استيائه مما يراه بقوله:

_ (1) النابغة الجعدي: قيس بن عبد الله بن عدس الجعدي، شاعر مخضرم صحابي من المعمرين، شهد صفين مع علي، توفي نحو (50 هـ) . ابن سلام: طبقات فحول الشعراء 1/ 123. (2) شعر النابغة الجعدي ص 101.

فيا قبر النّبيّ وصاحبيه ... ألا يا غوثنا لو تسمعونا ألا صلّى إلهكم عليكم ... ولا صلّى على الأمراء فينا «1» والغريب أن نجد ما وصلنا من شعر قليل، يذكر فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يعود إلى التقاليد القديمة في مدحه، وهذا المدح يصح في غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولولا القرينة مثل ورود اسم النبي الكريم أو تصريح صاحب الكتاب الذي ذكر الشعر، أن هذه الأبيات أو تلك في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما عرفنا فيمن تقال، وكان من المفروض أن يتابع الشعراء ما بدأه متقدموهم في حياة النبي الأمين، ويسيروا به إلى الأمام، حين ظهرت الآثار الدينية في مدحهم للرسول الكريم، وحين أخذوا في معرفة الطريقة التي يخاطبون بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتي يمدحون بها نبيا يختلف عن باقي الناس ويفضلهم. فلولا تصريح صاحب الحماسة أو شارحها أن أبا دهبل الجمحي «2» يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الأبيات التالية، لما عرفنا فيمن تقال: إنّ البيوت معادن فنجاره ... ذهب وكلّ بيوته ضخم عقم النّساء فما يلدن شبيهه ... إنّ النّساء بمثله عقم متهلّل بنعم بلا متباعد ... سيّان منه الوفر والعدم نزر الكلام من الحياء تخاله ... ضمنا وليس بجسمه سقم «3» وبعد ذلك لم يرد مدح النبي الكريم إلا في معرض المساجلة والمفاخرة بالانتساب إليه، وفي الحجاج المشتد بين الأحزاب السياسية، الذي تنازع فيه المتخاصمون حول

_ (1) شعر النابغة الجعدي ص 210. (2) أبو دهبل الجمحي: وهب بن زمعة بن أسد القرشي، أحد الشعراء العشاق، له مدائح في معاوية وعبد الله بن الزبير، توفي نحو (63 هـ) . ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص 389. (3) شرح ديوان الحماسة: 4/ 75.

الأحقية في الخلافة وقد شهد العصر الأموي عودة الصراع القبلي، والنعرات القبلية، لأن الأمويين كانوا يستندون في حكمهم على مجموعة قبائل معينة، وكانت بعض القبائل تتعصّب للهاشميين وكانت قبائل أخرى تهوى هوى الخوارج، لذلك اشتدت المفاخرات بين القبائل وشعرائها، وأكبر هذه المفاخرات ما كان يجري بين العدنايين والقحطانيين، الفرعين الرئيسيين للقبائل العربية، فكان العدنانيون يفخرون بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم، وكان القحطانيون يفاخرون بنصرته. وهكذا كان الشعراء في عهد بني أمية يتفاخرون بانتسابهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهما ابتعد هذا النسب، مثلما فعل عثمان بن عتبة بن أبي سفيان، أمه بنت الزبير بن العوّام، في قوله: أبونا أبو سفيان أكرم به أبا ... وجدّي الزّبير ما أعفّ وأكرما حواري رسول الله يضرب دونه ... رؤوس الأعادي حاسرا وملأمّا «1» وكذلك فعل عثمان بن واقد الذي ينتسب إلى الخليفة الفاروق- رضي الله عنه- عند ما قال مفتخرا: جدّي وصاحبه فازا بفضلهما ... على البريّة لا جارا ولا ظلما هما ضجيعا رسول الله نافلة ... دون البريّة مجد عانق الكرما «2» فكل رجل وكل قبيلة عادوا إلى البحث عما يفخرون به، في زمن زاد فيه التفاخر بالأمجاد والأنساب، ولو كانت هذه الأمجاد جاهلية، فتباهوا بأيام قبائلهم وبغزواتها وسلبها ونهبها، فكيف لا يتباهى من ينتسب إلى صحابي، أو إلى قبيلة ناصرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان لها معه أثر؟

_ (1) المرزباني: معجم الشعراء ص 90. (2) المصدر نفسه: ص 93.

فقد قدم على عمر بن عبد العزيز رجل من ولد قتادة بن النعمان «1» ، وعند ما سأله الخليفة، ممن الرجل؟ قال: أنا ابن الذي سالت على الخدّ عينه ... فردّت بكفّ المصطفى أحسن الرّدّ فعادت كما كانت لأوّل أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما خدّ «2» فقتادة بن النعمان صحابي أصيب في عينه في إحدى الغزوات، وخرجت عينه من محجرها، فأعادها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وردّها، فكانت أحسن عينيه، وهذه إحدى معجزات الرسول العظيمة التي ردّدها شعراء المديح النبوي فيما بعد. ومثل هذا ما روي عن الصحابي معاوية بن ثور البكائي «3» ، الذي قدم إلى النبيّ الكريم ومعه ابن له يقال له بشرا، فقال: يا رسول الله، امسح وجه ابني هذا ففعل، وقد فخر ابن بشر محمد بذلك فيما بعد، فقال: وأبي الذي مسح النّبيّ برأسه ... ودعا له بالخير والبركات أعطاه أحمد إذ أتاه أعنزا ... عفرا ثواجل لسن باللّجبات بوركن من منح وبورك مانح ... وعليه منّي ما بقيت صلاتي «4» فإذا كان هذا حال من ينتسب إلى صحابي كريم، فكيف بمن ينتسب إلى الهاشميين، وهم آل الرسول وبنو عمه؟

_ (1) قتادة بن النعمان بن زيد الأنصاري: صحابي شجاع من الرماة المشهورين، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الذي ردّ له الرسول صلّى الله عليه وسلّم إحدى عينيه حين سقطت، توفي (23 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 1/ 34. (2) شرح الزرقاني: 2/، 23. (3) معاوية بن ثور بن عبادة البكائي: كتب له النبي كتابا ووهب له من صدقة عامة معونة، أعطى ماله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليضعه حيث يشاء. ابن حجر: الاصابة 6/ 110. (4) ابن حجر: الإصابة 3/ 430.

إن فخرهم ليشتد ويعلو على كل فخر، مثل قول الفضل بن العباس «1» بن عتبة بن أبي لهب يساجل الفرزدق: من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدّلو على عقد الكرب برسول الله وابني عمّه ... وبعبّاس بن عبد المطّلب «2» وقد نال علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- وأبناؤه، النصيب الأوفر من محبة الناس، وتشيعوا لهم ولحقهم في الخلافة، فأشادوا بفضائلهم، وفي مقدمتها قرابتهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن ذلك قول كثيّر عزّة في محمد «3» بن علي بن أبي طالب، ابن الحنفية: ومن ير هذا الشّيخ بالخيف من منى ... من النّاس يعلم أنّه غير ظالم سميّ النّبيّ المصطفى وابن عمّه ... وفكّاك أغلال ونفّاع غارم «4» ولم تقتصر المفاخرة على الانتساب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشكل أو باخر، كما فعل الشعراء السابقون، بل كثيرا ما قارن الشعراء بين عمل يقوم به أحد الأمراء أو القادة، وعمل قام به الرسول الأمين، يطلبون من وراء هذه المقارنة تعظيم العمل والقائم به، وإضفاء الشرعية عليه، مثلما فعل سراقة بن مرداس «5» في وصف انتصار المختار الثقفي على الأمويين في قوله:

_ (1) الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، شاعر معاصر للفرزدق، وله معه أخبار، مدح عبد الملك بن مروان، توفي سنة (95 هـ) . الأصفهاني: الأغاني 16/ 175. (2) ابن نباته: مطلع الفوائد ص 40. (3) ابن الحنفية: محمد بن علي أبي طالب، أحد الأبطال الأشداء في صدر الإسلام كان واسع العلم ورعا، دعا المختار الثقفي إلى إمامته، توفي سنة (81 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 1/ 88. (4) الأصفهاني: الأغاني 9/ 15. (5) سراقة بن مرداس بن أسماء البارقي، شاعر عراقي ممن قاتلوا المختار في الكوفة، وله شعر في هجائه وهجا الحجاج، وفرّ إلى الشام، كان ظريفا يقرّ به الأمراء وكان بينه وبين جرير مهاجاة، توفي نحو (79 هـ) . ابن منظور: تهذيب تاريخ دمشق 9/ 213.

نصرت على عدوّك كلّ يوم ... بكلّ كتيبة تنعي حسينا كنصر محمّد في يوم، بدر ... ويوم الشّعب إذ لاقى حنينا «1» وربما أراد الشاعر من المقارنة مهاجمة فئة معينة، مثل قول الكميت: وعطّلت الأحكام حتّى كأنّنا ... على ملّة غير التي نتنحّل كلام النّبيّين الهداة كلامنا ... وأفعال أهل الجاهليّة نفعل «2» وقد أخذ الحنين إلى الحجاز يطل علينا في شعر هذا العصر بعد أن انساح العرب في الأقطار المفتوحة لسبب أو لآخر، ولمّا طال بهم الأمد اشتد بهم الشوق إلى مرابع الصبا في الجزيرة العربية، وقد ذكر بعضهم في شعر الحنين هذا، مدينة الرسول المنورة وقبره الشريف، ومن ذلك قول أبي قطيفة «3» بن أبي معيط يتشوق إلى المدينة المنورة: ألا ليت شعري هل تغيّر بعدنا ... قباء وهل زال العقيق وحاجره وهل برحت بطحاء قبر محمّد ... أراهط غرّ من قريش تباكره لهم منتهى حبّي وصفو مودّتي ... ومحض الهوى منّي وللنّاس سائرة «4» وسنرى فيما بعد أن ذكر الأماكن المقدسة والتشوق إليها أضحى فنا شعريا خاصا، وصار من مستلزمات قصيدة المدح النبوي. وأهم ما يطالعنا في المديح النبوي في أثناء العصر الأموي، هو هاشميات الكميت ابن زيد الأسدي التي انتصر فيها لحقّ الهاشميين في الخلافة، ومدحهم فيها، واتسع في

_ (1) تاريخ الطبري: 6/ 54. (2) الكميت: القصائد الهاشميات ص 61. (3) أبو قطيفة: عمرو بن عقبة بن أبي معيط الأموي، شاعر رقيق نفاه عبد الله بن الزبير إلى الشام فأقام زمنا يحن إلى المدينة. توفي (70 هـ) . الأصفهاني: الأغاني 1/ 12. (4) الأصفهاني: الأغاني 1/ 28.

الإشادة بهم، فذكر فضائلهم، وأحقيتهم في الخلافة، وكان رائدا في هذا الباب، جعل من قصائده التي مدح بها بني هاشم مناظرات مثيرة في حقوق الهاشميين، لا تعتمد كما هو الحال في الشعر- على العاطفة والإقناع العاطفي، لكنها اعتمدت أولا على الإقناع العقلي. إن أول ما مدح به الهاشميين هو انتسابهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذا ما جعله يمدح الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، فإن ذكر النبي الأمين يدفع المرء دفعا إلى مدحه، فتذكّر هذه الشخصية العظيمة يجعل من يتمثّلها لا يملك إلا أن يشيد بها، وخاصة إذا كان مؤمنا مسلما، ومنتميا إلى هذه الأمة التي يرجع فضل تكوينها إليه صلّى الله عليه وسلّم، فالكميت مدح الهاشميين في إحدى قصائده، فلما وصل إلى انتسابهم إلى نبي الإنسانية قال: أسرة الصّادق الحديث أبي القا ... سم فرع القدامس القدّام خير حيّ وميّت من بني آ ... دم طرّا مامومهم والإمام أنقذ الله شلونا من شفيّ النّ ... نار به نعمة من المنعام طيّب الأصل طيّب العود في ال ... بنية والفرع يثربيّ تهامي صحيح أن الكميت لم ينشئ قصيدته هذه، ولا قصائده الآخرى من أجل مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وإنما كان مديحه للرسول الأمين مما استدعاه مدحه لآله، لكنه لا يمدح آل البيت لذواتهم فقط، وإنما يعلّل مدحه لهم بقرابتهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لذلك فصّل في هذا المدح كما نرى، فأشاد بذات النبي الكريم، وفضّله على كل البشر، وأشار إلى أثره في أمته، وفضله على الإنسانية، فجمع في مديحه بين المعاني الدينية والمعاني الاجتماعية التقليدية. ولم يخرج الكميت عن سنته هذه، فهو يمدح الهاشميين حتى إذا وصل إلى ذكر قرابتهم من الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أخذ يمدحه، ففي قصيدة ثانية جادل في حق الهاشميين في الخلافة وحقهم في إرث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال بعد ذلك:

بك اجتمعت أنسابنا بعد فرقة ... فنحن بنو الإسلام ندعى وننسب حياتك كانت مجدنا وسناءنا ... وموتك جذع للعرانين موعب فبوركت موّلودا وبوركت ناشئا ... وبوركت عند الشّيب إذ أنت أشيب وقد أعاد الكميت في هذه القصيدة ما كان ذكره في قصيدته السابقة، فجمع في مدحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين ما كان يمدح به السادة والعظماء وبين ما اختص به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه نبي مرسل من الله تعالى، وأظهر أثر الرسول الأمين في العرب وتوحيدهم تحت راية الإسلام، وأضاف إلى ذلك كله شيئا من الرثاء عند ما ذكر موت الرسول الكريم، وكأنه في رثائه بعد هذه المدة الطويلة يأسى لما حصل للمسلمين بعد وفاته، ولما حصل لآل النبي الكرام من تقتيل وتنكيل. وإذا كان الكميت في قصيدتيه السابقتين قد أفاض في مدح بني هاشم، ومن خلال ذلك، مدح الرسول الكريم فإن له قصيدة ثالثة أفاض فيها في مدح النبي الأمين، وكانت في معظمها مديحا له، فاقتربت بذلك من صورة المدحة النبوية التي تشكلت بعد ذلك عند مداح النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال فيها: إلى السّراج المنير أحمد لا ... يعدلني رغبة ولا رهب عنه إلى غيره ولو رفع الن ... ناس إليّ العيون وارتقبوا إليك يا خير من تضمّنت ال ... أرض وإن عاب قولي العيب لجّ بتفضيلك اللّسان ولو ... أكثر فيك الضّجاج واللّجب أنت المصطفى المهذّب المحض في الن ... نسبة إن نصّت قومك النّسب والسّابق الصّادق الموفّق وال ... خاتم للأنبياء إذ ذهبوا

والحاشر الآخر المصدّق لل ... أوّل فيما تناسخ الكتب يا صاحب الحوض يوم لا شرب لل ... وارد إلّا ما كان يضطرب نفسي فدت أعظاما تضمّنها ... قبرك فيه العفاف والحسب «1» لقد أعطى الكميت مديح النبي الأمين الكثير من حقه في قصيدته هذه، فأشاد بنسبه الطاهر منذ آدم، وحديثه عن هذا النسب أضحى أصلا لحديث شعراء المديح النبوي بعده، وكذلك الأمر في إدراج صفاته وأسمائه صلّى الله عليه وسلّم. ولم يقف في قصيدته هذه عند سرد صفات النبي الفريدة وأخلاقه، بل تطرق إلى شيء من السيرة، وناقش النصارى في نظرتهم إلى نبيهم، وتحدث عن يوم القيامة، وشفاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه، وكل هذه المعاني التقليدية والدينية أضحت من لوازم المدحة النبوية ومفرداتها عند جميع شعراء المديح النبوي في العصور اللاحقة. إن مدح الكميت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعد إضافة متميزة للمدح النبوي على طريق تطوره منذ بدايته في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحتى العصر المملوكي. لكن مدح الكميت للنبي الكريم الذي بلغ مبلغا رائعا، لم يتخلص من أسر التوجه الرئيسي للكميت، وهو مدح آل البيت، ولم يصبح لديه مدحا خالصا للنبي في قصائد خاصة. وقد أثارت بعض معانيه في مدح الرسول الأمين جدلا نقديا، تناول طريقة أداء هذه المعاني، وخاصة حين يتحدث عن اعتراض قوم على مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإضمار الكراهية للكميت نتيجة لذلك. بدأ الجاحظ هذا الجدل، فقال: «ومن غرائب الحمق، المذهب الذي ذهب إليه الكميت بن زيد في مديح النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول:

_ (1) الكميت: القصائد الهاشميات ص 51.

وقيل أفرطت، بل قصدت ولو ... عنّفني القائلون أو ثلبوا إليك يا خير من تضمّنت الأر ... ض ولو عاب قولي العيب لجّ بتفضيلك اللّسان ولو ... أكثر فيك اللّجاج واللّجب فمن رأى شاعرا مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس، حتى يزعم هو أن ناسا يعيبونه ويعنفونه» «1» . وأعاد الجاحظ كلامه في كتاب آخر، فقال: «ومن المديح الخطأ الذي لم أر قط أعجب منه، قول الكميت بن زيد، وهو يمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم ... فلو كان مديحه لبني أمية لجاز أن يعيبه بذلك بعض بني هاشم، ولو مدح به بعض بني هاشم لجاز أن يعترض عليه بعض بني أمية، أو لو مدح أبا بلال «2» الخارجي لجاز أن تعيبه العامة، أو لو مدح عمرو بن عبيد «3» لجاز أن يعيبه المخالف، أو لو مدح المهلب «4» لجاز أن يعيبه أصحاب الأحنف «5» ، أما مديح النبي صلّى الله عليه وسلّم فمن هذا الذي يسوؤه ذلك» «6» . وهذا ما جعل الشريف المرتضى يرد على انتقاد الجاحظ، ويحاول إيجاد مخرج

_ (1) الجاحظ: البيان والتبيين 2/ 239. (2) أبو بلال الخارجي: مرداس بن حدير بن عامر التميمي من عظاماء الشراة، شهد صفين مع علي وأنكر التحكيم وثار على بني أمية فقتلوه سنة (61 هـ) . ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/ 94. (3) عمرو بن عبيد بن باب التيمي بالولاء، شيخ المعتزلة في عصره ومفتيها، وأحد الزهاد والمشهورين، له رسائل وخطب في التفسير والرد على القدرية، توفي سنة (144 هـ) . ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 460. (4) المهلب بن أبي صفرة: ظالم بن سراق الأزدي، أمير بطاش جواد، ولي إمارة البصرة لمصعب بن الزبير وقاتل الأزارقة حتى ظفر بهم، وولاه عبد الملك خراسان فمات فيها سنة (830 هـ) . ابن حجر: الإصابة 6/ 216. (5) الأحنف بن قيس بن معاوية التميمي سيد تميم، وأحد العظماء الدهاة الفصحاء الفاتحين، وفد على عمر بن الخطاب وشهد فتوح خراسان، شهد صفين مع معاوية، يضرب به المثل في الحلم، توفي سنة (72 هـ) ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 1/ 78. (6) الجاحظ: الحيوان 5/ 169.

لمعاني الكميت، فقال: «ظاهر الخطاب للنبي عليه السلام، والمقصود أهل بيته عليهم السلام، لأن أحدا من المسلمين لا يمتنع من تفضيله عليه السلام والإطناب في وصف فضائله ومناقبه ولا يعنفّ في ذلك أحد، وإنما أراد الكميت، وإن أكثر في أهل بيته وذويه عليهم السلام الضجاج واللجب والتعنيف، فوّجه القول إليه والمراد منه» «1» . فالشريف المرتضى أوّل كلام الكميت على عادة المتأوّلة من الشيعة، وصرف مديحه للنبي الكريم إلى مديح آل بيته، وفي هذا تخريج لكلام الكميت، وإيضاح لمقاصده، وإخراجه من الخطأ، وفيه انتصار لآل البيت الذين ينتمي المرتضى إليهم. وتابعه في هذا التأويل صاحب كتاب تأويل مشكل القرآن، فقال: «فورّى عن ذكرهم به، وأراد بالعائبين بني أمية، وليس يجوز أن يكون هذا للنبي صلّى الله عليه وسلّم.. ومن ذا يساوى به ويفضل عليه «2» . «وإن الشعراء ليمدحون الرجل من أواسط الناس، فيفرطون ويفرّطون، فيغلون، وما يرفع الناس إليهم العيون، ولا يرتقبون، فكيف يلام هذا على الاقتصاد في مدح من الإفراط في مدحه غير تفريط، ولكنه أراد أهل بيته» «3» . وتابع المصنفون هذا الجدل، فمنهم من رأى رأي الجاحظ، ومنهم من أخذ بقول الشريف المرتضى، دون أن يضيفوا إلى هذا الجدل شيئا، فللجاحظ فضل السبق والتنبيه، وهو الحريص على سلامة أداء المعاني وبلاغتها، وربما كان الشريف المرتضى على صواب، وسواء قصد الكميت ما ذهب إليه الشريف المرتضى، أو أنه قصّر في التعبير فإن إثارة هذا الجدل لفت الأنظار إلى فن المديح، وإلى ضرورة الحرص في أداء معانيه. وأخذ الجاحظ على الكميت أيضا تقصيره، في قوله:

_ (1) أمالي المرتضى: 2/ 80. (2) ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن 271. (3) المصدر نفسه: ص 272.

القسم الرابع - في العصر العباسي:

وبورك قبر أنت فيه وبوركت ... به، وله أهل بذلك، يثرب لقد غيبّوا برّا وحزما ونائلا ... عشيّة واراه الصّفيح المنصّب فقال: «وهذا شعر يصلح في عامة الناس» «1» . ثم عاد وفصّل كلامه في موضع آخر، فقال: «فلو كان لم يمدحه عليه السلام إلا بهذه الأشعار التي لا تصلح في عامة العرب، لما كان ذلك بالمحمود، فكيف مع الذي حكينا قبل هذا» «2» . ومع وجود هذه الانتقادات البسيطة، التي لا تتجاوز طريقة أداء المعاني، فإن الكميت أعطى للمديح النبوي دفعة كبيرة في عصر توقّف أو كاد هذا اللون من الشعر، واستطاع أيضا أن يتسع في معاني المديح النبوي. ففي هذا العصر لم نجد قصائد خاصة في المديح النبوي، وكان المديح النبوي- في الغالب- مديحا غير مباشر، يأتي في أثناء قصائد التشيع، أو قصائد الفخر أو عند المقارنة، ولولا وجود الكميت، لما بقي من ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شعر العصر إلا ظلال قليلة، تكاد تكون انقطاعا لما كان عليه المديح النبوي في عصر البعثة النبوية. القسم الرابع- في العصر العباسي: أفاد العباسيون من الحركات المناوئة للأمويين، ومن الثورات المتواصلة عليهم، فوصلوا إلى السلطة في الدولة العربية الإسلامية، وبنوا حكمهم على أسس دينية وسياسية ووفق ما يلائم نظرات الفرق المختلفة إلى الخلافة، فقد قاد العلويون حركة المقاومة ضد الأمويين على أساس أنهم أحق الناس بالخلافة، لكنهم لم ينجحوا في

_ (1) الجاحظ: البيان والتبيين 2/ 240. (2) الجاحظ: الحيوان 5/ 171.

حركتهم، فاستغل العباسيون ذلك، ووصلوا إلى الخلافة، وأظهروا أنهم أعادوا الحق إلى أصحابه الهاشميين، فسكت أبناء عمومتهم العلويون على ذلك في بادئ الأمر، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن أبناء عمومتهم العباسيين يتنكرون لهم، فجددوا ثوراتهم للوصول إلى الخلافة. ولما كانت الخلافة في جوهرها خلافة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تولي أمور المسلمين، كان لا بد من أن يذكر الرسول الأمين في كل حديث عن الخلافة، وخاصة أن المختصمين حول الخلافة، ادعى كل منهم وراثته للنبي الكريم بطريق أو باخر. وكانت مسألة وراثة الخلافة قد ظهرت في وقت مبكر، لكن الحديث عنها اشتد في زمن بني العباس، الذين رأوا أنهم أحق الناس بوراثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه عند ما توفي صلّى الله عليه وسلّم كان عمه العباس على قيد الحياة، وهو الذي يستحق وراثته، في حين أن العلويين يذهبون إلى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلّف ابنته فاطمة، فهي التي ترثه، ويرثها من بعدها أولادها. وقد صال شعراء بني العباس وجالوا في الانتصار لا دعاآتهم، ومن ذلك قول ابن هرمة «1» : تراث محمّد لكم وكنتم ... أصول الحقّ إذ نفي الأصول «2» وقال مروان بن أبي السمط «3» موضحا مسألة وراثة الخلافة:

_ (1) ابن هرمة: إبراهيم بن علي بن سلمة القرشي شاعر غزل من سكان المدينة، مدح الوليد بن يزيد والمنصور العباسي، وانقطع إلى الطالبيين توفي سنة (176 هـ) . الأصفهاني: الأغاني 4/ 367. (2) تاريخ الطبري: 7/ 562. (3) مروان بن أبي السّمط: مروان بن يحيى بن مروان بن سليمان بن أبي حفصة، وال من الشعراء، كنيته أبو السمط، ويلقب غبار العسكر لبيت قاله، ويعرف بمروان الأصغر تمييزا له عن جده، سلك سبيل الطعن على آل علي بن أبي طالب، حسنت حاله مع المتوكل، ونادمه، فقلده اليمامة والبحرين توفي سنة (240 هـ) . ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/ 90.

لكم تراث محمّد ... وبعدلكم تنفى الظّلامه يرجو التّراث بنو البنا ... ت ومالهم فيها قلامه والصّهر ليس بوارث ... والبنت لا ترث الإمامه «1» وظل الشعراء يتقربون إلى بني العباس بهذه النغمة، لأن وراثة النبي الكريم تعطيهم مكانة سامية، وتعطي حكمهم شرعية، ظل الناس يعتقدون بها حتى نهاية الدولة المملوكية، وعلى الرغم من أن خلفاء بني العباس أصبحوا في الدور الثاني من دولتهم لا حول لهم ولا قوة، ولا يملكون من أمرهم شيئا، إلا أن جميع الذين تسلطوا على الخلافة لم يجرؤوا على إزالتها إلا بعد وقت طويل، وعلى يد بني عثمان الأتراك. فهذه العلاقة بين الخليفة والنبي الأمين. والتي هي علاقة قربى وإرث، جعلت ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محتما في مدح الخلفاء، الحريصين على إضفاء الصبغة الدينية على أنفسهم خاصة، لذلك مدح الخلفاء وغيرهم من الهاشميين بالانتساب إلى الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أو باتباع سنّته، أو بالتسمي باسمه. ومن ذلك قول مروان بن أبي حفصة «2» : أحيا أمير المؤمنين محمّد ... سنن النّبيّ حرامها وحلالها ملك تفرّع نبعة من هاشم ... مدّ الإله على الأنام ظلالها «3»

_ (1) تاريخ الطبري: 9/ 231. (2) مروان بن أبي حفصة: مروان بن سليمان بن يحيى، شاعر عالي الطبقة من موالي بني أمية أدرك دولة بني العباس ومدح المهدي والرشيد ومعن بن زائدة فجمع ثروة كبيرة كان يتقرب لبني العباس بهجاء العلوية توفي سنة (182 هـ) . ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص 481. (3) أمالي المرتضى: 3/ 291.

ومما مدح به خلفاء بني العباس في انتسابهم للرسول الأمين لبس بردته، كما قال علي بن المنجم «1» في المعتز: بدا لابسا برد النّبيّ محمّد ... بأحسن ممّا أقبل البدر طالعا سميّ النّبيّ وابن وارثه الذي ... به استشفعوا أكرم بذلك شافعا «2» ولم يقتصر الفخر بالانتساب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بني العباس، وهم قد أكّدوا هذه المسألة لدواعي سياسية لا تخفى على أحد بل شاركهم بذلك العلويون، وهم أول من أوضح هذا الانتساب وقالوا به، وأقاموا مطالبهم السياسية، ومذهبهم الديني على قرابتهم من الرسول الكريم، وهم أول من افتخر بذلك، وتابعوا فخرهم هذا في كل العصور، فهذا أحد الطالبيين يفخر على غيره من الهاشميين بقوله: هل كان يرتحل البراق أبوكم ... أو كان جبريل عليه ينزل أم من يقول الله إذ يختاره ... للوحي قم يا أيّها المتزمّل يبدا المؤذّن في الآذان بذكره ... من بعد ذكر الله ثمّ يهلّل «3» وديوان الشريف الرضي «4» حافل بمثل هذا الفخر بالانتساب إلى النبي الأمين وآل بيته الكرام، فهو يقول:

_ (1) ابن المنجم: علي بن هارون بن علي بن يحيى، راوية للشعر من ندماء الخلفاء، له عدة كتب منها (الرد على الخليل في العروض) توفي سنة (352 هـ) . الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 12/ 119. (2) الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 15/ 173. (3) المرزباني: معجم الشعراء ص 139. (4) الشريف الرضي: محمد بن الحسين بن موسى الحسيني، أشعر الطالبين، انتهت إليه نقابة الأشراف في حياة والده، له ديوان شعر. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 3/ 182.

جدّي النّبيّ وأمّي بنته وأبي ... وصيّه وجدودي خيرة الأمم «1» وقد مدح العلويون بهذه النسبة، وهذه الصّلة مع النبي الكريم مثلما مدح العباسيون، فقال السلامي «2» في مدح الشريف الرضي: الموسوي النّاصري أبوة ... وخؤولة علويّة الأنساب في حيث أرّثت النّبوة نارها ... فخبا لنور الحقّ كلّ شهاب «3» وظل العلويون والمتشيعون لهم يفخرون بالانتساب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم لم يمدحوا الرسول الكريم بقصائد مستقلة، وكل ما قالوه من إشادة به صلّى الله عليه وسلّم جاء في قصائد التشيع، التي تشيد باله، وقد أوجب هذا الموضوع ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والفخر بالانتساب إليه، دون أن يكون الهدف من إنشاء الشعر مدحه. ولو تابعوا ما وصل إليه الكميت أيام بني أمية، لوجدنا المديح النبوي في وقت مبكر، لكنهم لم يصلوا في مدح النبي الكريم في أثناء قصائدهم إلى القدر الذي وصل إليه الكميت. وقد ورد ذكر النبي الأمين في شعر هذا العصر الذي يتحدث عن العقيدة، فعند ما ينظم الشاعر تسبيحا لله تعالى وتعظيما، يذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مثل قول الحسن بن مظفر النيسابوري «4» :

_ (1) ديوان الشريف الرضي: 2/ 819. (2) السلامي: محمد بن عبد الله بن محمد المخزومي القرشي من أشهر أهل العراق في عصره، اتصل بالصاحب ابن عباد، فأكرمه، له ديوان شعر. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2/ 335. (3) الثعالبي: يتيمة الدهر 4/ 414. (4) الحسن بن مظفر النيسابوري: أديب نبيل، شاعر مصنف، كان مؤدب أهل خوارزم في عصره وشاعرهم ومقدمهم توفي سنة (442 هـ) . الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 9/ 191.

سبحان من ليس في السّماء ولا ... في الأرض ندّله وأشباه أحاط بالعالمين مقتدرا ... أشهد ألاإله إلّا هو وخاتم المرسلين سيّدنا ... أحمد ربّ السّماء سمّاه أشرقت الأرض بعد بعثته ... وحصحص الحقّ من محيّاه «1» وعند ما يريد الشاعر أن يؤكّد اعتقاده في ذات الله تعالى، ويردّ على المشبهة، لا يجد تأكيدا أكبر من القسم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ما فعله أبو حامد الشهرزوري «2» ، قاضي حلب، حين قال في التنزيه: أقسمت بالمبعوث من هاشم ... والشّافع المقبول يوم الجدال ما ربّنا جسم ولا صورة ... موّصوفة بالميل والاعتدال «3» ونجد مدحا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشعراء عن الحج، فقد كان الشوق يأخذ بألباب الناس وقلوبهم إلى رؤية الأماكن المقدسة التي عظمها الله تعالى والتي شهدت بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجهاده، ونزول الوحي عليه، وأخذ التعبير عن هذا الشوق يزداد شيئا فشيئا إلى أن أضحى غرضا فنيا قائما بذاته، وأصبح من مستلزمات المدحة النبوية. وكان الشاعر إذا أزمع الحج عبر عن شوقه إلى الديار المقدسة، وإلى زيارة قبر النبي الشريف، كما فعل ابن عبدوس الدهان «4» بقوله:

_ (1) الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 9/ 192. (2) أبو حامد الشهرزوري: محمد بن محمد بن عبد الله، قاضي الموصل ومن بيت مشهور فيها بالفضل والرياسة ولي قضاء حلب، وله شعر جيد وترسل حسن. توفي سنة (586 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/ 287. (3) العماد الأصفهاني: الخريدة، قسم شعراء الشام 2/ 335. (4) ابن عبدوس الدهان: إسماعيل بن محمد، تقدم في الأدب وبرع في علم اللغة، اختص بالأمير أبي الفضل الميكالي ومدحه بشعر غزير ثم زهد. الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 7/ 40.

أتيتك راجلا ووددت أنّي ... ملكت سواد عيني أمتطيه ومالي لا أسير على الماقي ... إلى قبر رسول الله فيه «1» وحين يصل الشاعر إلى الأماكن المقدسة يشعر بالارتياح، وعند ما يزور ضريح النبي الكريم ويركن إلى السكينة والاطمئنان، فتكون حاله حال أبي الخطاب الجبلي «2» في قوله: رويدك قد أصبحت جارا لأحمد ... وحسب امرء أن يستجير بجاره لأفضل من يغشى على بعد داره ... وأكرم من يعشى إلى ضوء ناره «3» لكننا لا نعدم في هذا العصر مدحا خالصا للنبي الكريم لا يشاركه فيه موضوع آخر، فالشاعر الذي لا يمدح خليفة، أو لا ينحاز إلى الشيعة، أو لا يرى رأي فرقة معينة، ولا يتحدث عن الحج أو عن العقيدة، وأراد ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن ذكره له يكون خالصا للمديح، فمهيار الديلمي «4» بعد إسلامه ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أمثل محمّد المصطفى ... إذا الحكم ولّيتموه لبيبا بعدل مكان يكون القسيم ... وفصل مكان يكون الخطيبا وثبت إذا الأصل خان الفروع ... وفضل إذا النّقص عاب الحسيبا وصدق بإقرار أعدائه ... إذا نافق الأولياء الكذوبا

_ (1) الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 7/ 41. (2) أبو خطاب الجبلي: محمد بن علي بن محمد، الشاعر، له معرفة بالعربية، مدحه أبو العلاء المعري، كان مفرطا في القصر، رافضيا، توفي سنة (439 هـ) . الصفدي: الوافي الوفيات 4/ 124. (3) الصفدي: الوافي بالوفيات 4/ 125. (4) مهيار الديلمي: مهيار بن مرزويه، شاعر كبير مجيد، كان مجوسيا فأسلم على يد الشريف الرضى وتشيّع. توفي سنة (428 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 3/ 242.

أبان لنا الله نهج السّبيل ... ببعثته وأرانا الغيوبا «1» فمهيار مدح النبي الأمين وفضّله على العالمين، وأنكر أن يكون له شبيه في الفضائل التقليدية، وزاد على ذلك بالإشارة إلى أثره في البشرية، وهدايتها إلى سواء السبيل، وهذه الهداية هي التي أكدها أبو العلاء المعري حين ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مادحا، فقال: دعاكم إلى خير الأمور محمّد ... وليس العوالي في القنا كالسّوافل حداكم تعظيم من خلق الضّحى ... وشهب الدّجى من طالعات وآفل وألزمكم ما ليس يعجز حمله ... أخا الضّعف من فرض له ونوافل وحثّ على تطهير جسم وملبس ... وعاقب في قذف النّساء الغوافل وحرّم خمرا خلت ألباب شربها ... من الطيش ألباب النّعام الجوافل فصلّى عليه الله ماذرّ شارق ... وما فتّ مسكا ذكره في المحافل «2» وإذا زاد المعري الصلاة على النبي في قطعته هذه، فإن ابن الدهان أظهر رغبته في السعي لزيارة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهما كانت الصعاب. زيادة على تأكيده معنى الهداية في قوله: أيا خير مبعوث إلى خير أمّة ... نصحت وبلّغت الرّسالة والوحيّا فلو كان في الإمكان سعي بمقلتي ... إليك رسول الله أفنيتها سعيا «3»

_ (1) ديوان مهيار الديلمي: 1/ ص 13. (2) المعري: اللزوميات ص 192. (3) الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 7/ 41.

ونجد في هذا العصر مقطعات تذهب هذا المذهب، وتعدّ من مصادر المدائح النبوية التي كثرت بعد ذلك واستوى خلقها، ومن ذلك مقطوعة يأخذ صاحبها بمعنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلاصة الشرف الإنساني، وأنه أفضل خلق الله، فيقول: للعرب الفضل على النّاس ... وخيرها أولاد إلياس والنّضر منظور إلى فضله ... ثم قريش عزّها راسي والسّادة الغرّ بنو هاشم ... خيارها في الجود والياس والمصطفى خير بني هاشم ... وخير مبعوث إلى النّاس أحمد ذو النّور الذي ضاق عن ... وصف علاه كلّ قرطاس فلم يزل يدعو إلى ربّه ... في لطف لان به القاسي حتّى غدا الشّيطان ذا رنّة ... من دولة الشّرك على ياس صلّى عليه الله أعداد ما ... أوجد من نفس وأنفاس وأصبح الدّين رفيع الذّرا ... ثابت أركان وتأساس «1» ويتضح من هذا الشعر أن الشاعر ينظم الحديث النبوي «أنا خيار من خيار من خيار» «2» وهذا المعنى انتشر بين مدّاح النبي الكريم، وقلما تخلو منه قصيدة نبوية، ثم أشار إلى ما أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أجله، وقيامه برسالته على أكمل وجه حين نقل النّاس من ظلام الجهالة إلى نور الهداية.

_ (1) البلوي: كتاب ألف با، 2/ 457. (2) ورد في هذا المعنى حديث في صحيح مسلم: ص 1312 «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريش من كنانة. واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» .

ومن الظواهر التي برزت في هذا العصر، تنامي حركة التصوف وتشعبها، وتطرف بعض المتصوفة، الذين أضافوا إلى حركة التصوف الإسلامية ما أخذوه عن الفلسفات الأجنبية المتباينة والأديان المختلفة. وقد تفاعلت حركة التصوف مع المذاهب الدينية الإسلامية، فأخذت عنها وأعطتها، وصاغت لنفسها طريقة للعبادة ونظريات دينية مختلفة حول الكون وعلاقته مع الخالق، وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم نصيب من نظريات المتصوفة الذين قالوا بالحقيقة المحمدية التي أضحت لازمة في قصائد المديح النبوي، وتحدثوا عن النبي الكريم حديثا لم يكن المسلمون قد تداولوه من قبل، أغرقوا فيه بالغيبيات ورفعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوق مراتب الخلق جميعا، وجعلوه مبدأ الوجود كله، والسابق إلى الوجود، وفي ذلك يقول الحلاج «1» : «أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر، وأقدم من القدم، سوى نور صاحب الكرم، همّته سبقت الهمم، وجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم» «2» . وقد أغنت حركة التصوف المديح النبوي، وحلّقت بمدّاح النبي الأمين في عوالم غيبية بعيدة، وخاصة في المرحلة الثانية التي اتسع فيها التصوف، ليصل تأثيره إلى معظم المثقفين وليصبح من نسيج ثقافة كل متعلم، ويخالط معتقد عامة الناس. وكثر في العصر العباسي التمثل بأحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الشعر، وخاصة عند الشعراء الذين يطلبون المثل ويلّحون عليه في شعرهم، فإنهم لم يجدوا في كل منحى من مناحي الحياة أعظم من شخصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك ضربوا به المثل حين أرادوا تقرير

_ (1) الحلاج: الحسين بن منصور الحلاج، فيلسوف زاهد، عدّ من الملحدين، فارسي الأصل، دخل بغداد وتجول في البلاد يدعوا إلى طريقته سرا، يظهر التشيع للملوك والتصوف للعامة، قال بمذهب الحلول، وعند ما اكتشف أمره قتل، له عدة كتب منها: (الطواسين) و (قرآن القرآن والفرقان) اختلف في عقيدته الباحثون، توفي سنة (309 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 2/ 253. (2) الحلاج: كتاب الطواسين ص 11.

معنى من المعاني، وتأكيد ما يذهبون إليه من وجهات نظر متباينة إزاء قضية من القضايا، فإذا ما أراد الشاعر أن يحتج لرأيه في مسألة خلل النظام الاجتماعي الذي يكرّم الناس لنسبهم لا لذواتهم، لا يجد حجة أفضل من الإشارة إلى أن النبي الكريم شرفت به آباؤه، ولم يشرف بهم، وهذا ما ذهب إليه ابن الرومي حين قال: فكم أب قد علا بابن ذرا شرف ... كما علا برسول الله عدنان «1» وقال أبو تمام: وكذلك قد ساد النّبيّ محمّد ... كلّ الأنام وكان آخر مرسل «2» وحين أراد أبو تمام أن يعتذر عن نفسه أو عن ممدوحه عند ما ركن إلى منافقين، يظهرون له الحب، ويضمرون الكراهية، ويعملون على إيذائه، ولم يستطع اكتشاف أمرهم، لم يجد ما يحتج به إلا ما حصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم مع المنافقين، فقال: هذا النّبيّ وكان صفوة ربّه ... من بين باد في الأنام وقار قد خصّ من أهل النّفّاق عصابة ... وهم أشدّ أذى من الكفّار حتّى استضاء بشعلة السّور التي ... رفعت له سجفا عن الأسرار «3» وأكثر ما تمثل به من أحوال النبي الكريم، التعزي عند فقد عزيز على النفس، عملا بقوله صلّى الله عليه وسلّم «من أصابته مصيبة، فليذكر مصيبته بي» «4» .

_ (1) الثعالبي: التمثيل والمحاضرة ص 21. (2) ديوان أبي تمام: ص 152. (3) الراغب الأصفهاني: محاضرات الأدباء 2/ 230. (4) ابن ناصر الدين الدمشقي: سلوة الكئيب، ورقة 52.

فأخذ الشعراء هذا المعنى، واستخدموه عند التعزية، وعند التفكّر في المصائب، ومن ذلك قول ديك الجن «1» : تأمّل إذا الأحزان فيك تكاثفت ... أعاش رسول الله أم ضمّه قبّر «2» إن العصر العباسي عصر طويل نسبيا، ولم تسر فيه الأمور رتيبة متشابهة، ولم تكن الظروف متماثلة، ولذلك كان لا بد من اختلاف الظواهر الأدبية وتطورها، وليس دمج الحقب العباسية في عصر واحد إلا لتسهيل الدراسة، فخصائص الأدب في صدر العصر العباسي تختلف عنها في نهايته، إذ إن القسم الثاني من زمن الدولة العباسية شهد سيطرة العناصر الأعجمية على الخلافة، وانقسام الدولة إلى ممالك لا تدين للخلافة العباسية إلا بالولاء الإسمي فقط، ولكن هذا لا يعني أن الحركة الثقافية قد انقسمت إلى حركات متباينة، ولا يعني أن الأدب العربي في هذا العصر قد اختلف بين دولة وأخرى، لأن الثقافة والأدب ظلّا على تواصلهما وتفاعلهما، وإن تلون الأدب بألوان خافتة، تظهر أثر القطر الذي كتب فيه، فقد بقي تطور الأدب العربي على خط واحد تقريبا في جميع الأقطار العربية الإسلامية وبقيت الظواهر الأدبية العامة مشتركة بينها، فلا يظهر فن أدبي في هذا القطر، حتى ينتشر بسرعة كبيرة في الأقطار العربية الإسلامية الآخرى، ولا تشيع طريقة فنية في قطر حتى يتلقفها الأدباء في بقية الأقطار، حتى يصعب على الباحث أن يقرر أوّلية هذا الفن أو ذاك، وهذه الطريقة أو تلك، ومن هذه الفنون فن المدائح النبوية، الذي يصعب معرفة أين ظهر متكاملا أول مرة، أفي مشرق الوطن العربي الإسلامي أم في مغربه، هذا إذا استثنينا عصر البعثة النبوية، وإني هنا سأتحدث عن

_ (1) ديك الجن: عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام الكلبي، شاعر مجيد فيه مجون، أصله من سلمية قرب حماه، لم يفارق بلاد الشام ولم ينتجع بشعره، له ديوان شعر، مولده ووفاته بحمص سنة (235 هـ) . ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 184. (2) الراغب الأصفهاني: محاضرات الأدباء 2/ 230.

المدائح النبوية في العصر العباسي في المشرق، وسأتحدث عنها في المغرب فيما بعد، ولن يكون حديثي مفصلا، وسأكتفي بالإشارة إلى أهم القضايا المتعلقة بالمديح النبوي إلى أن وصل إلى العصر المملوكي. ظهرت في الدور الثاني من العصر العباسي قصائد عدة في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بدأها الشعراء بمعارضة قصائد قيلت في مدح النبي الكريم في أثناء حياته، وخاصة قصيدة كعب بن زهير (البردة) ، ومن الذين عارضوا هذه القصيدة في هذا الدور، الشاعر العربي الأبيوردي «1» في قصيدة مطلعها: خاض الدّجى ورواق اللّيل مسدول ... برق كما اهتزّ ماضي الحد مصقول «2» ويبدو أن الشعراء كانوا متهيبين من مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم لا يدرون كيف يخاطبونه، وما هي معاني المديح التي تليق به، ولا يدرون كيف يبنون قصائد مديحه، خوفا من الخطأ والإساءة من حيث لا يدرون ولا يقصدون، فوجدوا أن أسلم طريقة لذلك هي معارضة قصائد مدح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته، ورضي عنها وكافأ عليها، ولهذا نجد الأبيوردي يبدأ قصيدته مثلما بدأها كعب بوصف الرحلة، وعلى طريقة كعب، لكنه لم يتابع كعبا بيتا بيتا، ولم يجاره في المطلع، ولم يتسع اتساعه في وصف الرحلة والغزل، فبعد أن شام البرق في مطلع قصيدته، وصف رحلته ببضعة أبيات، انتقل بعدها إلى الغزل ليتركه قائلا: صدّت ووقّرني شيبي فما أربي ... صهباء صرف ولا غيداء عطبول وحال دون نسيبي بالدّمى مدح ... تحبيرها برضا الرّحمن موصول

_ (1) الأبيوردي: محمد بن أحمد بن محمد القرشي الأموي، شاعر عالي الطبقة، مؤرخ عالم بالأدب، ولد في أبيورد بخراسان وكان يفخر بعروبته ويعتز بها، له كتاب (تاريخ أبيورد) و (المختلف والمؤتلف في الأنساب) مات مسموما سنة (507 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/ 18. (2) ديوان الأبيوردي: 1/ 97- رواق الليل: ظلمته.

أزيرها قرشيّا في أسرّته ... نور ومن راحتيه الخير مأمول تحكي شمائله في طيبها زهرا ... يفوح، والرّوض مرهوم ومشمول «1» هو الذي نعش الله العباد به ... ضخم الدّسيعة متبوع ومسؤول وهكذا مضى الشاعر في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جامعا بين القيم التقليدية التي سار عليها القوم في المدح، ومتخذا من كعب بن زهير قدوة له في ذلك، وبين المفاهيم الدينية التي ينفرد بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سائر الناس، ثم أكدأنه سيظل على سنته، وأنه سينصر دين الله تعالى بكل ما أوتي من قوة، فقال: يا خاتم الرّسل إن لم تخش بادرتي ... على أعاديك، غالتني إذا غول والنّصر باليد منّي واللّسان معا ... ومن لوى عنك جيدا فهو مخذول وساعدي- وهو لا يلوي به خور ... على القنا في اتّباع الحقّ- مفتول وكأن في نفس الشاعر شيئا مما يرى حوله، وقد اصطرع المسلمون فيما بينهم، واختلفوا في أمر عقيدتهم، وانقسموا إلى أحزاب وملل، وحاد قسم منهم عن الحق، فهو يعاهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجهاد إلى أن يعود الحق إلى مكانه. وقد أجاد الأبيوردي معارضة كعب، فأخذ روح القصيدة، ولم يتبع جزئياتها، فجاءت أصيلة مبدعة، تعبر عن نفسه، وتوضح مكنوناتها، ربط فيها بين حبه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين ما يستشعره اتجاه ما يجري في عصره، وإن ظلت في أسلوبها وصياغتها تضارع قصيدة كعب، وترتد إلى عصرها. وكان في مدحه للنبي الكريم متحفظا، فترسم معاني كعب التقليدية، وذكر فضل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الناس، وهدايته لهم، بعد أن كانوا في غيهم يعمهون.

_ (1) مرهوم: أصابته الرهمة، وهي المطرة الساكنة.

وعارض الزمخشري «1» قصيدة كعب أيضا وابتدأ مثل الأربيوردي بذكر البرق الذي يذكي الشوق، وتوقف عند أطلال المحبوبة، لكنه لم يتسع في وقوفه وغزله، واكتفى منهما بجلاء مشاعره الدينية التي يكنّها للأماكن المقدّسة، وانتقل بعدها إلى شيء من الحكمة الممزوجة بتوجهه الديني، فهو من المعتزلة الذين يعلون شأن العقل، ويطلبون إعماله في العقيدة لذلك نراه يقول في مقدمة قصيدته: والفعل أرضاه عند الله أعرفه ... وما تناكره الألباب مرذول والحقّ فالحقّ ما جاء الرّسول به ... سيف على هام أهل الشّرك مسلول الفضل فضل نبيّ من بني مضر ... إليه أفضل خلق الله مفضول محمّد إن تصف أدنى خصائصه ... فيا لها قصّة في شرحها طول «2» لقد جعل الزمخشري من الحديث المقتضب عن العقيدة مدخلا إلى مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمزج مزجا موفقا بين القيم التقليدية وبين القيم الدينية، وبعد أن أكّد أن الرسول فوق جميع البشر، وأنه لا يحاط بأدنى خصائصه، عاد ليؤكد نبوته صلّى الله عليه وسلّم ويأتي بشيء يسير من سيرته، وكأنه بذلك يردّ على من أخذ عليه اعتزاله، وأن المعتزلة يشكّون بنبوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هو الذي إن يخالج في نبوّته ... ريب فما القول بالتّوحيد مقبول هو الذي وعد الرّحمن ناصره ... نصرا عزيزا ووعد الله مفعول ملك الأكاسرة الممنوع غادره ... والتّاج منعقر والعرش مفلول

_ (1) الزمخشري: محمود بن عمر بن أحمد الخوارزمي، جار الله، من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والأدب، جاور بمكة وتنقل في البلاد، كان معتزليا، له كتب عدة منها «الكشاف» في تفسير القرآن «وأساس البلاغة» ، (توفي سنة 538 هـ) . ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/ 168. (2) المجموعة النبهانية 3/ 33.

ثم ينتقل بعد ذلك ليشيد بالصحابة رضوان الله عليهم، وبشجاعتهم ونصرتهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يفرّق بينهم أو يخصّ أحدهم بالفضل، وكأنه بذلك يقرر حقيقة من حقائق مذهبه، ويرد على الذين يفرّقون بين الصحابة الكرام في الفضل والتقدمة، فهو يحبهم جميعا، ويفرح لذكرهم، لذلك يقول: حفّته أشياع صدق كاللّيوث بهم ... دم الذين استضاموا الدّين مطلول إذا جرى ذكرهم رفّ القلوب له ... كما يرفّ الخزامى وهو مطلول وفي ختام قصيدته يظهر الزمخشري ما بنفسه، فيستشفع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤكدا أنه لم يخرج عن الدين ولم يقرب حراما، وأن قومه المعتزلة ما زالوا على تقواهم واتباع الحق بخلاف الفرق المضلله التي تناوئهم، فقال: يا خاتم الرّسل إنّ الطّول منك على ... راجي الشّفاعة يوم الحشر مأمول وطّاء أعقاب قوم ما لهم عمل ... في نصرة الدّين والإسلام مجهول لهم ضمائر للتّفكير قارعة ... وألسن كلّها بالذّكر مشغول موحّدون إلها أنت صفوته ... مصدّقوك فلا غالتهم غول إن زال عن رمي أغراض الهدى فرق ... تلهو مضلّلة قالت لهم زولوا فقوس قومي بالتّقوى موتّرة ... وسهمهم باتّباع الحقّ منصول وواضح من القصيدة أن الزمخشري تسلل بذكاء داخل المديح النبوي، ليدافع عن نفسه وعن مذهبه، وأنه اختار المديح النبوي ليعبر من خلاله عن مذهبه وآرائه، وليزيد في تأكيد ارتباطه برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإقراره بنبوته، وأن ما يذهب إليه المعتزلة من تعظيم شأن العقل وإعماله في العقيدة، لا يبعدهم عن الإسلام الصحيح، وعن مبادئه ومفاهيمه، لذلك لم يبق من معارضته لقصيدة كعب غير هيكل القصيدة، ووزنها

وقافيتها، أما المضمون، فإنه مغاير لما عند كعب، ولم يلتقيا إلا في مدح الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، كلّ على طريقته ووفق ما سمحت به ظروفه. وبذلك تقدم الزمخشري بالمدحة النبوية إلى الأمام حين ربط بينها وبين العصر، وحين جعل منها وسيلة لرفع ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتنبيه على قدر سنّته الغراء من ناحية، ولنشر ما يعتقده من آراء وأفكار من ناحية ثانية، وما كانت المعارضة إلا توطينا لنفسه على المديح النبوي، وللإفادة من وزن القصيدة وبعض ألفاظها وشهرتها. ويطالعنا في هذا العصر (البلوي) «1» مؤلف كتاب (ألف با) بقصيدة نبوية، أضرب فيها عن المقدمات، وباشر المدح، وقد أوضح في التقديم لها أن المديح النبوي قد ازداد على عهده، وأن ذلك حرّك في نفسه دواعي مجاراة مدّاح النبي، فنظم قصيدته هذه، وبيّن في بداية القصيدة أنه نظمها طلبا للأجر والثواب، لذلك فهي خالصة للمديح النبوي والتشفع بالنبي الأمين، لا يخالطها شيء آخر، بدأها قائلا: قد قلت قولا أبتغي أجره ... من ملك رحمته تطلب في القرشيّ الهاشميّ الذي ... يقصّر في مدحه المطنب محمّد المنتخب المصطفى ... من مثله أو منه من يقرب أرسله الله لنا رحمة ... والكفر في ظلمته يحطب فجمع الله به شملنا ... بعد شتات أمره معطب وأصبح النّاس به إخوة ... أبوهم الإسلام نعم الأب

_ (1) البلوي: يوسف بن محمد الأندلسي، عالم باللغة والأدب، تولى الخطابة بمالقة وزار مصر، كان أحد الزهاد المشهورين، بنى مسجدا بيده، ولم تفته غزوة في البر ولا في البحر، له كتاب (ألف با) . القنوشي: التاج المكلل 1/ 4 وكتابه ألف با 1/ 18.

ذاك أبو القاسم ماذا عسى ... يحصي لساني أو يدي تكتب والبحر لو كان مدادا وما ... في الأرض أقلام بها يكتب «1» لم نبلغ العشر ولا عشره ... من وصفه هيهات لا تعجبوا «2» وبعد أن مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتفضيله على الناس أجمعين، وذكر فضله على أمته، إذ هداها إلى سواء السبيل ووحدها، أكد أنه لا يستطيع أن يفي الرسول الأمين حقه، واستعار المعنى القرآني للتعبير عن هذا الموقف الذي تكرر عند مدّاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كافة، ثم انتقل إلى وصف اليوم الآخر، ومكانة النبي الكريم فيه، وشفاعته لأمته، فقال: فهو حبيب الله وهو الذي ... في جاهه تطمع يا مذنب وصاحب الحوض الرّواء الذي ... أمّته منه غدا تشرب ويميل بعض الميل إلى نظم الأحاديث والروايات عن موقف الرسل الكرام يوم القيامة، وتهيّبهم من الشفاعة للناس وتصدي الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم لهذه الشفاعة، فيقول: كلّ رسول منهم قائل ... نفسي نفسي عنقها يطلب وهو ينادي أمّتي أمّتي ... ربّي مالي غيرهم مطلب هذا إلى أشياء لم أحصها ... يعجز عنها اللّقن المسهب فمن يقل ما شاء فيه يقل ... حقّا وما أحسبه يكذب

_ (1) يشير إلى الآية الكريمة قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [سورة الكهف: 18/ 109] . (2) البلوي: كتاب ألف با ص 457 ج 1.

وقد انتشر نظم الروايات والأحاديث في المدائح النبوية، حتى جار على الشعر فيما بعد، وكذلك إباحة أن يقول الشعراء ما يشاؤون في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن كل ما يقولونه حق، فهذه المسألة أدخلت المديح النبوي في خضم الصراع العقائدي، وجعلت بعضهم يوغل في الغيبيات معتمدا على الأحاديث الضعيفة، والروايات المشكوك فيها، فذهب ذلك برونق المدحة النبوية وأخرجها في كثير من الأحيان من دائرة الشعر إلى دائرة النظم العلمي. أما شاعرنا فإن تباشير النظم عنده خفيفة لينة، لم تجر على الشعر، وقد اختتم قصيدته بالدعاء فقال: كلّ لساني وانتهت طاقتي ... ولم أصل بعض الذي أرغب فملت عن مدحته للدّعا ... عسى دعائي عنه لا يحجب فليس مثلي مادحا مثله ... لا لا ولا العير الذي يركب صلّى عليه الله من سيّد ... ما تطلع الشّمس وما تغرب وبذلك نرى أن المديح النبوي في العصر العباسي، بدأ من ذكر النبي الكريم في مدح الخلفاء، وإيجاد علاقة تربطهم به، ومن فخر العلويين بانتسابهم إليه صلّى الله عليه وسلّم، وظهر شيء من المديح النبوي في قصائد العقيدة، وفي حديث الشعراء عن الحج، ومع تقدم الزمن ظهرت مقطوعات خاصة خالصة لمدح النبي الأمين، إلى جانب ما تمثّل به الشعراء من أحواله- عليه السلام-. وجاء التصوف وتطوره ليعطي لشعراء المدائح النبوية آفاقا غيبية رحبة، يحلّقون فيها، ثم وجدنا قصائد كاملة، نظمت في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإن كانت في البداية معارضة لقصائد قيلت في الرسول على عهده، أقبل عليها وخلع على قائليها، لكن الشعراء سرعان ما نظموا مدائح نبوية خالصة، نظرت إلى كل ما تقدم، بيد أنها كانت مما سمحت به قرائح الشعراء أنفسهم.

القسم الخامس - في العصر الفاطمي والأيوبي:

وقد شهد العصر العباسي مراحل مختلفة من مراحل تطور المديح النبوي، وظهر فيه كثير من مفردات المدائح النبوية ولوازمها. القسم الخامس- في العصر الفاطمي والأيوبي: شهد هذا العصر اضطرابا كبيرا، إذ شكلت الدولة الفاطمية تحديا خطيرا للدولة العباسية، ونازعتها السيادة الدينية والسياسية على البلاد العربية الإسلامية، وانقسم الناس بين مؤيد لهذه الخلافة أو تلك، بالإضافة إلى انسلاخ قسم كبير من أجزاء الدولة الشرقية، وابتعادها عن العروبة شيئا فشيئا، وكثرة الدول المستقلة على أطراف الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه. ومن ثم بداية الغزو الأوروبي العاتي الذي استطاع أن يحتل باسم الدين مناطق كبيرة من الساحل الشامي وبرّه، وأن يستولي على مدينة القدس ويقطع طريق الحج، ويمضي في اعتداآته على العرب المسلمين، مهددا بالاستيلاء على المنطقة واستيطانها. ومن بين هذه الفوضى الشاملة، والعجز المستشري في الدولة الإسلامية، برز الزنكيون ليقودوا حركة الجهاد الواسعة ضد الصليبيين، والتي آتت أكلها بطرد الصليبيين من الوطن العربي فيما بعد، واستطاعوا تقليل الخلافات بين الممالك العربية الإسلامية، وتوحيد مصر والشام، لتكونا دولة قوية تقف بالمرصاد لكل معتد خارجي. وكان لهذه الأحداث العاصفة صدى في نفوس الناس، والشعراء منهم خاصة، فظهر في شعرهم أثرها واصطبغ بصبغتها، وخاصة ما عملت الدولة الفاطمية على نشره بين الناس، وما تركته حركة الجهاد في نفوسهم. فالدولة الفاطمية التي نسب خلفاؤها أنفسهم إلى علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- وادعت أنها الدولة الإسلامية الشرعية في عصرها، عملت على نشر عقيدتها عن طريق دعاة نشيطين، انبثوا في أنحاء البلاد العربية الإسلامية، وأحاطت خلفاءها

بهالة من القداسة، فشارك الشعراء في عملية الدعاية هذه، وحمل شعرهم العقيدة الفاطمية، وما تذهب إليه في الخلفاء. وقد أوسعت الحروب الصليبية بلاد الشام حرقا وقتلا وسلبا، وانتهكت الحرمات فيها باسم الدين، فكان لا بد من أن يدافع الشعراء عن دينهم، وعن صاحب هذا الدين، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذي هاجمه الفرنج وانتقصوا قدره. فذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء في الشعر الذي مدح به الخلفاء الفاطميون، لأنهم يرجعون بنسبهم إليه، وفي الشعر الذي قيل في الدفاع عن الدين الإسلامي ونبيّه، ففي هذا الشعر مدح مستفيض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بالإضافة إلى الشعر الذي خرج من بيئات المتصوفة، الذين اشتدت حركتهم واتسعت في هذا العصر، نتيجة للاضطرابات والحروب، فشعرهم ينبض بتمجيد الله تعالى وتسبيحه، وتعظيم مقدساته، لذلك كان للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم نصيب من شعرهم. أما ما مدح به الخلفاء الفاطميون، فإنه يظهر على جانب كبير من المبالغة والتطرف عند من لا يدين بشرعتهم، فهم رفعوا الخلفاء فوق مستوى البشر، ومدحوهم بما تمدح به الأنبياء، وأشركوهم في خصائص الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، فقد نقل عن مخطوط بعنوان (مجموعة أشعار إسماعيلية) شعر للخليفة الفاطمي العزيز بالله، يقول فيه: أنا ابن رسول الله غير مدافع ... تنقّلت في الأنوار من قبل آدم لي الشّرف العالي الذي خضعت له ... رقاب بني حوّاء من كلّ عالم «1» فإذا كان الخليفة يقول عن نفسه هذا القول، ويدعي أنه وجد قبل آدم، فماذا يقول الشعراء؟.

_ (1) يشير إلى الآية الكريمة قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ.

لقد ذهبوا إلى أن الخليفة الفاطمي زكّاه الله تعالى وبعثه ليقوم بأمر الناس، ولذلك يقول له ظافر الحداد «1» : ومدحك في كتاب الله نصّ ... وحسبك منه كاف أيّ كاف «2» فظافر الحداد مدح الخليفة الفاطمي بما يمدح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال فيه: صلّى الإله عليك يا ابن رسوله ... وهدى لطاعتك الورى لسبيله فيك استقرّ الحقّ واتّضح الهدى ... وأبان للثّقلين وجه دليله «3» لكن الشعراء لم يكونوا جميعا منساقين لمثل هذه المبالغات، وظلوا يمدحون الخلفاء الفاطميين بانتسابهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فابن حيوس «4» يمدح نقيب الطالبيين بقوله: خصّ الإله محمّدا من بينكم ... لا زال محروسا بأكرم آل وبراكم من طينة مسكيّة ... لمّا برى ذا الخلق من صلصال «5» صحيح أن ابن حيوس رفع الهاشميين فوق الناس جميعا، حتى جعل طينتهم تختلف عن طينة باقي البشر، لكنه لم يجعل الممدوح بمرتبة النبي بل جعل انتساب الطالبيين إلى النبي الأمين محط الفخر والمدح. والملاحظ أن الشعراء الفاطميين يجعلون للخلفاء وللطالبيين من الهاشميين صفة الهداية والشفاعة، فيتوسلون بهم إلى الله تعالى، ولم يصلوا على الرغم من كثرة ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شعرهم إلى إفراد مدحه في قصائد خاصة، واكتفوا بما يتيسر لهم أثناء

_ (1) ظافر الحداد: ظافر بن قاسم بن منصور الجذامي، شاعر من أهل الإسكندرية، كان حدادا، وله ديوان شعر، توفي سنة (529 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/ 91. (2) ديوان ظافر الحداد: ص 219. (3) المصدر نفسه: ص 254. (4) ابن حيوس: محمد بن سلطان بن محمد، شاعر الشام في عصره، كان أبوه من أمراء العرب، له ديوان شعر، توفي سنة (394 هـ) . ابن العماد الحنبلي شذرات الذهب 3/ 343. (5) ديوان ابن حيوس: ص 502.

مدح الفاطميين أو رثائهم، كما فعل طلائع بن رزيك «1» حين رثى العترة الطاهرة بقوله: لا تبك للجيرة السّارين في الظّعن ... ولا تعرّج على الأطلال والدّمن وتب إلى الله واستشفع بخيرته ... من خلقه، ذي الأيادي البيض والمنن محمّد خاتم الرّسل الذي سبقت ... به بشارة قسّ وابن ذي يزن وأنذر النّطقاء الصّادقون بما ... يكون من أمره والطّهر لم يكن الكامل الوصف في حلم وفي كرم ... والطّاهر الأصل من دان ومن درن ظلّ الإله ومفتاح النّجاة وينبو ... ع الحياة وغيث العارض الهتن فاجعله ذخرك في الدّارين معتصما ... له وبالمرتضى الهادي أبي الحسن «2» وهذا مدح نبوي خالص شدّد فيه على صدق نبوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى كماله، وأظهر ما يعتقده الفاطميون والمتصوفة في أن النبي الكريم هو أول المخلوقات، وأنه ينبوع الحياة وطلب التشفع به وبعلي بن أبي طالب، وهنا بدأ في رثاء آل البيت، فقد جعل مدح النبي الكريم من مقدمات قصيدته في رثاء علي وأولاده رضوان الله عليهم. وهذا الأمر فعله المؤيد «3» داعي الدعاة، إذ جعل من مديح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقدمة لمديح آل البيت، فقال:

_ (1) طلائع بن رزيك: وزير فاطمي، قدم فقيرا من العراق وترقى إلى أن ولي الوزارة، كان شجاعا حازما مدبرا أديبا شاعرا لا يترك غزو الفرنج في البر والبحر. توفي سنة (495 هـ) . ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/ 526. (2) ديوان طلائع بن رزيك: ص 146. (3) المؤيد في الدين داعي الدعاء: هبة الله بن موسى بن داود الشيرازي من زعماء الإسماعيلية وكتابها صار آمر الدعوة الفاطمية، كانت بينه وبين أبي العلاء المعري مراسلة، له عدة كتب منها المجالس المؤيدية والمرشد إلى الإسماعيلية وديوان شعر. المقريزي: السلوك 1/ 53.

وهذا رسول الله أفضل مرسل ... وليس يطيق النّاعتون له نعتا ومن هو خير الخلق أصلا ومحتدا ... وأكرمهم نفسا وأطهرهم نبتا أقام عمود الدّين والرّشد والهدى ... وحتّ سنام الكفر بالحقّ فانحتّا وأحمد بيت النّور، لا شكّ بابه ... أبو حسن (والبيت من بابه يؤتّى) «1» فالشعراء الفاطميون لم يفردوا مدح الرسول في قصائد خاصة، وجعلوا مدحهم له ممزوجا في قصائد مديح الفاطميين ورثائهم، ولوّنوا هذا المدح بعقائدهم، فظهرت في شعرهم صفات لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم تكن متداولة قبل ذلك. والظاهرة الدينية البارزة التي سادت في هذا العصر، وكان لها تأثير في المديح النبوي، هي ظاهرة اتساع التصوف، فالمتصوفة شكّلوا تصورا خاصا بهم للكون، كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكان متميز فيه، وبحثوا ماهية النبوة وعلاقتها بالولاية، فكان لهم في ذلك آراء شجاعة أثارت استهجان عامة الناس واستنكارهم، ومن هنا جاء ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما تركوه من مؤلفات في طريقتهم، وفيما نظموه من شعر في مذهبهم، وجاء ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عندهم أيضا حين جاروا الشيعة في ادعاء وراثة النبي الأمين فهم يرون أنفسهم الفئة الوحيدة التي يحق لها وراثة نبي الله، وبنوا على ذلك نظاما هرميا رأسه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وقاعدته المريدون، وبينهما تتدرج مراتب رجال الصوفية. وقد نص ابن عربي «2» على مبدأ الوراثة هذا في قوله: ورثت محمّدا فورثت كلّا ... ولو غيرا ورثت ورثت جزآ «3»

_ (1) ديوان المؤيد داعي الدعاء ص: 263. (2) محيي الدين بن عربي: محمد بن علي بن محمد الحاتمي، رأس المتصوفة وشاعرهم، جال في البلاد واستقر في دمشق، له مؤلفات كثيرة في التصوف، توفي سنة (638 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 435. (3) ابن عربي/ الديوان الأكبر: ص 186.

إلا أن المتصوفة مزجوا ذكرهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعقائدهم، وبرموزهم التي تستغلق على المطلع، والتي لا يعرف مدلولاتها إلا من تشبع بمبادئهم ورياضاتهم الروحية، فابن عربي يقول: يا أهل يثرب لا مقام لعارف ... ورث النّبيّ الهاشميّ محمّدا عمّ المقامات الجسام عروجه ... وبذاك أضحى في القيامة سيّدا صلّى عليه الله من رحموته ... ومن أجله الرّوح المطهّر أسجدا لأبيه آدم والحقائق نوّم ... عن قولنا وعن انشقاق قد هدى فجوامع الكلم التي أسماؤهما ... في آدم هي للمقرّب أحمدا «1» ويتضح من شعر ابن عربي أنه يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منطلق عالم الصوفية الغيبي، فالمتصوفة لا يتحدثون عنه إلا ضمن عالم الغيب الذي بنوه لأنفسهم، لذلك يتضح من شعرهم جانب، ويغمض جانب، وهم يدورون داخل نطاق الحقيقة المحمدية، لا يخرجون عنها، وحين بذكر ابن عربي الرسول الأمين مادحا يذكره ضمن قصائد تتحدث عن طريقته، أو ضمن مقطوعات صغيرة، بدأها واضحا، ثم استغرق في إبهام لا يحسن تفسيره إلا المتصوفة أنفسهم، وكأنه يعطي السامع أو القارئ ما يدل على الموضوع، ويسير به شيئا فشيئا إلى عالمه الخاص، ومن ذلك قوله: صلّى عليه الله من سيّد ... لولاه لم نعلم ولم نهتد قد قرن الله به ذكره ... في كلّ يوم، فاعتبر ترشد عشر خفيّات وعشر إذا ... أعلن بالتّاذين في المسجد فهذه عشرون مقرونة ... بأفضل الذّكر إلى الموعد «2»

_ (1) ابن عربي: الديوان الأكبر ص 79. (2) المصدر نفسه: ص 24.

وهذه طريقة معظم المتصوفة في مدح الرسول الكريم، ولنر كيف نظم ابن عربي الحديث الشريف «أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر» «1» ، فقال على لسان النبي: الله يعلم والدّلائل تشهد ... أنّي إمام العالمين محمّد لكن لنا وقت تراقب كونه ... فإذا أتى فالسّلك فيه مهنّد «2» إنهم لا يستطيعون أن يخرجوا عن عالمهم الغامض، الذي يشفّ أحيانا، فيزيد الشعر عذوبة ورقة وسموا، ويزيد فيستحيل الشعر إلى طلاسم ورموز، لا ندري لها فكاكا، وقد يتحدثون عن النبي الكريم فلا نعلم إلا بعد لأي، أو من سياق القصيدة. لذلك لا نجد عند كبار المتصوفة مدحا خالصا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم استغرقوا في عالمهم الغيبي وفي إظهار معتقدهم، وإذا خرجوا عن ذلك جاؤوا إلى قصائد الهيام والحب الإلهي برموز أشهرها الغزل المبطن، الذي ظاهره غزل في محبوبة، وباطنه غزل بالذات الإلهية وهيام بحبها وفناء فيها. وفي قصائد الغزل والهيام عند المتصوفة، يلفت النظر موضوع أضحى فيما بعد من لوازم المدحة النبوية وهو التشوق إلى الأماكن المقدسة والتغزل بالكعبة والحنين إلى البقاع التي شهدت بعثة النبي الكريم ونزول الوحي، ولذلك قلما تخلو قصيدة لمتصوف من ذكر المقدسات، وكأنهم قد استعاضوا بها عن ذكر المقدمات الطللية، وذكر المنازل والرحلة في الشعر العربي. فالتشوق إلى المقدسات الذي رأيناه عند الشريف الرضي، والذي كان حنينا إلى الحجاز، موطن آبائه وأجداده، والذي نظمه بعض الشعراء في حنينهم إلى قضاء فريضة الحج، وفي أثناء توجههم لأدائها، صار في هذا العصر فنا قائما بذاته، تنظم فيه القصائد

_ (1) صحيح مسلم ص 1382 ومسند الإمام أحمد: 1/ 161. (2) ابن عربي: الديوان الأكبر ص 23.

المستقلة، التي تذوب رقة وعذوبة، وتتقد شوقا وحنينا إلى البقاع التي رفع الله قدرها، وجعل زيارتها فرضا على كل مسلم، وفيها يفصح الشعراء عن مشاعرهم الدينية وعواطفهم السامية ويظهرون مقدرتهم الفنية، فلا توجد روايات وأحاديث، يضطرون إلى نظمها فيسيؤون إلى الرواء الشعري، ولا يوجد من يفرض عليهم هذا اللون من الشعر، ولا يتملّقون به أحدا، فجاء نظمهم لهذا الفن حرا، يضع فيه الشاعر كل ما أوتي من شفافية ومقدرة فنية، لذلك شارك فيه الشعراء على خلاف مذاهبهم ومشاربهم، وحتى الشعراء الفاطميون افتتحوا بعض قصائدهم في مدح الخلفاء بذكر المقدسات والتشوق إليها، مثل قول المؤيد داعي الدعاة في مطلع قصيدة: هلمّ إلى الأرض المقدّسة التي ... بساحتها سكّانها أمنوا الموتا إلى علم الإيمان والقبلة التي ... عليها بلا شكّ دللت ووجّهتا «1» وللشاعر الأجلّ «2» قصيدة في مدح الخليفة الناصر، بدأها على النحو التالي: حلفت بأعلام المحصّب من منى ... وما ضمّ من نسك حجون وأبطح وبالجمرات السّبع تلقي رماتها ... بإلقائها الأوزار عنها وتطرح وبالبدن تهدى كالهضاب توامكا ... تقلّد من أرسانها وتوشّح وقد أخذت منها الجنوب مصارعا ... وأذعن للجزّار نحر ومذبح وبالوفد ميلا في الرّجال كأنّما ... سقاهم سلاف الرّاح ساق مصبّح إذا قطعوا في طاعة الله صحصحا ... بدا لهم فاستأنفوا السّير صحصح «3»

_ (1) ديوان المؤيد داعي الدعاة: ص 292. (2) الأجلّ: أسعد بن إبراهيم بن حسن النشابي، ولد باربل وانتقل إلى الشام، وولي كتابة الإنشاء لصاحب إربل، وأنفذه رسولا إلى الخليفة المستنصر، فخدم في بغداد، توفي سنة (656 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 165. (3) ديوان شعر الأجل: ص 81.

فالأجلّ لم يكتف في تقديمه لمدح الخليفة بذكر الأماكن المقدسة والقسم بها، بل جمع إليها بعض مناسك الحج، ووصف الراحلين إلى الحجاز، فأظهر ما هم عليه من تقوى وسرور لتجشمهم عناء السفر في طاعة الله وفوزهم بأمانيهم، وكأنه بدأ بذكر الديار المقدسة وثنى بذكر الرحلة إليها، ليلائم بين مقدمته هذه التي تناسب مقام الممدوح الديني، وبين مقدمات المديح التقليدية التي تبدأ بذكر الديار وتثني بذكر الرحلة. إن انتشار ذكر الأماكن المقدسة وإظهار التشوق إليها، جعل شعراء ليس لهم أي توجه ديني يوردونه، وربما جاروا غيرهم من الشعراء المتصوفة، لظنهم أن تلك الطريقة في التعبير، تسترعي الانتباه أكثر من غيرها وتثير مشاعر الحنين عند المتلقين فيتمّ تجاوبهم العاطفي مع الشاعر. ومما شجع على انتشار المديح النبوي، واكتماله في هذا العصر، ظهور الاحتفالات بمولد النبي الكريم وما تحتاجه هذه الاحتفالات من شعر ينشد فيها، يمجّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صاحب هذه الذكرى، وينبه على قدره السامي. وكان الفاطميون يقيمون موالد متعددة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وغيرهم من آل البيت- رضوان الله عليهم-، وهذه الموالد ذكّرت الشعراء بما يجب عليهم اتجاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ويقال إن أول من احتفل بالمولد النبوي هو مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل وصهر صلاح الدين الأيوبي الذي توفي سنة (630 هـ) «1» . وفي هذه الأثناء انتشر الاحتفال بالمولد النبوي بين شرق البلاد العربية الإسلامية وغربها، وكان يحتفل به احتفالا صاخبا، يشارك فيه أصحاب الأمر وأعوانهم، والفقهاء والمتصوفة والوعاظ والقراء والمنشدون، وسيمر معنا عند الحديث عن المولد النبوي تفصيل هذه الاحتفالات وما ألّف في المولد وما نظم فيه.

_ (1) ابن الوردي: تتمة المختصر 2/ 235.

وكان للحروب الصليبية أثرها في ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا العصر، إذ إن الغزو الأوربي لمشرق الوطن العربي ومغربه كان باسم الدين، ويظهر أن الغزاة الذين اتخذوا الصليب شعارا لهم ولحملاتهم، انتقصوا من الإسلام ومن رسوله الكريم، مما دعا الشعراء إلى الدفاع عن الإسلام ونبيه، ومدحه، والإشادة بالقادة الذين يحرزون انتصارات على الصليبيين ومدحهم بأنهم نصروا الإسلام ونبيه، لذلك كثيرا ما نجد في مدائح القادة مثل قول ابن منير الطرابلسي «1» في مدح نور الدين الشهيد: ألبست دين محمّد يا نوره ... عزّا له فوق السّها أساد «2» واستمرت في هذا العصر طريقة الشعراء في التمثّل بأحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والدعوة إلى الاقتداء بسيرته الكريمة، والتأسّي بما جرى له، والمقارنة بين عمل حصل في هذا العصر وعمل حصل في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعمارة اليماني «3» يدعو الناس إلى الاعتبار برسول الله، والاقتداء بطريقته في التعامل مع المصائب، فيقول: ومن أراد التأسّي في مصيبته ... فللورى برسول الله معتبر «4» ويكثر ابن حيوس من مثل هذه الأمثال والمقارنات، فيقول في التأسي: لكم في رسول الله أعظم أسورة ... فلا تظهر الشّكوى ولا يتعب الفكر «5»

_ (1) ابن منير الطرابلسي: أحمد بن منير بن أحمد، شاعر مشهور من أهل طرابلس الشام، سكن دمشق ومدح السلطان الملك العادل محمود زنكي، كان هجّاء، حبس على الهجاء ونفي إلى حلب توفي سنة (548 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/ 146. (2) ديوان ابن منير الطرابلسي: ص 262- أساد: جمع وسادة. (3) عمارة اليماني: عمارة بن علي بن زيدان الحكمي، مؤرخ شاعر فقيه، أتى إلى الفاطميين فأحسنوا إليه فأقام عندهم ومدحهم ورثاهم عند ما دالت دولتهم، قتله صلاح الدين. من تصانيفه (أرض اليمن وتاريخها) و (النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية) وديوان شعر. عمارة: النكت العصرية ص 5. (4) الصفدي: تمام المتون ص 302. (5) ديوان ابن حيوس: ص 243.

ويقول في ممدوحه، وفيما أحرزه من عزّ لبني جلدته: بنيت للعجم المجد المبلّغهم ... مجدا بناه رسول الله للعرب «1» فكأن سيرة النبي الكريم وأحواله حضارة دائما في ذهن ابن حيوس وأمثاله، يلتقط منها ما يناسب موضوعه ليتمثل بها ويحتج لكلامه، وليس هناك أبلغ وأصدق من التمثل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أقواله وأفعاله. وقد ظهرت في هذا العصر مدائح نبوية متكاملة، عدت بداية فن المدائح النبوية، وإن كنا نجد مدائح نبوية سابقة لهذا العصر، لكنها كانت قليلة ومتباعدة، ولم تشكل ظاهرة أدبية، ولكنها في هذا العصر، وخاصة في المرحلة الأيوبية، كثرت، وأضحى المديح النبوي فنا أدبيا مستقلا بذاته، يشارك فيه معظم الشعراء. وقد تداخل العصر الأيوبي مع العصر المملوكي، لأن معظم الشعراء الذين نظموا في المديح النبوي عاشوا شطرا من حياتهم في دولة بني أيوب، وأمضوا الشطر الآخر في دولة المماليك، والظواهر الاجتماعية والأدبية لا تخضع في تقسيمها للتقسيم السياسي، وإن الأخذ في تقسيم عصور الأدب وتطوره حسب تعاقب الدول لا يهدف إلا لتسهيل الدراسة، ليس إلا. فإن أي تغير سياسي أو اجتماعي، لا يستجيب له الأدب إلا بعد مدة مناسبة من الزمن، فالأدباء يظلون على تقاليدهم الأدبية التي نشؤوا عليها، ويحتاج الجديد إلى وقت ليختمر في النفوس، وليتمثّله الأدباء ومن ثم ليرتد إلى خارج النفس على شكل إبداع أدبي. ولذلك نجد البدايات في قصائد المديح النبوي قصائد معارضة لقصائد مدح فيها النبي الأمين في حياته تهيّبا من الإقدام على مثل هذا العمل الجليل، وخوفا من الوقوع في الخطأ وقلّة الانتباه، وللتدرب على كيفية الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومخاطبته قبل

_ (1) ديوان ابن حيوس: ص 73.

أن يعبّر الشاعر تعبيرا ذاتيا محضا في الشكل والمضمون عما يكنه للرسول الكريم من مشاعر الحب والتقديس، ومن هذه القصائد قصيدة لابن الساعاتي «1» في معارضة قصيدة كعب بن زهير بدأها بقوله: جدّ الغرام وزاد القال والقيل ... وذو الصّبابة معذور ومعذول «2» وقد مزج في مقدمة قصيدته بين الغزل وذكر ديار المحبوبة، ووصف الرحلة، دون أن يفرق بينها، ففارق كعبا في ذلك مثلما فارقه في طبيعة الغزل وفي الأسلوب الذي نحا فيه منحى الصنعة التي تفشت في أيامه، حتى إذا استنفذ المقدمة التي بثّ فيها لواعجه وحنينه، أظهر ما بنفسه من حزن، لأن له أعداء ينتقصون منه، فيرد عليهم قائلا: يا حاسدا نال من فضلي بمنقصة ... عليك نفسك إنّ الجهل مفضول حسبي الثلاثة بالتّبريز شاهدة ... البيد واللّيل والعيس المراسيل وكيف أخمل في دنيا وآخرة ... ومنطقي ورسول الله مأمول وهكذا أنهى مقدمته بالرد على منتقصيه والفخر بنفسه، واتخذ هذا مدخلا إلى مديح النبي صلّى الله عليه وسلّم مدحا دينيا خالصا، لم يخلطه بالمعاني التقليدية التي درج الشعراء على مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها، والتي حفلت بها قصيدة كعب التي يعارضها ابن الساعاتي، فقال: هو البشير النّذير العدل شاهده ... وللشّهادة تجريح وتعديل لولاه لم تك شمس لا ولا قمر ... ولا الفرات وجاراها ولا النّيل

_ (1) ابن الساعاتي: علي بن محمد بن رستم، شاعر مشهور، خرساني الأصل، ولد ونشأ في دمشق، وكان أبوه يعمل الساعات فيها، تعاني الخدمة ومدح الملوك، وسكن مصر، له ديوان شعر. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 13. (2) ديوان ابن الساعاتي: ص 47.

ولم يجب آدم في حال دعوته ... نعم ولم يك قابيل وهابيل فسيّد الرّسل حقّا لا خفاء به ... وشافع في جميع النّاس مقبول بثّت نبوّته الأخبار إذ نطقت ... فحدّثت عنه توارة وإنجيل أضاء هديا وجنح الكفر معتكر ... ووجه حقّ وسرّ الشّكّ مسدول وقد أوجز ابن الساعاتي في مدحه القصير لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما فصّله غيره في قصائد طوال، فبدأ بذكر صفات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدينية، ثم تحدث عن مكانته عند ربه سبحانه وتعالى بالحقيقة المحمدية، وذهب إلى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو علّة الكون وسبب وجوده، وأنه سيد المرسلين والشافع في جميع الناس، وأن الكتب السماوية بشّرت بنبوته، وأنه هدى الناس ونقلهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور العلم والإيمان. ولا يفوتنا أن نذكر هنا النحوي الذي أكثر من نظم الشعر، وهو ملك النّحاة الحسن ابن صافي «1» ، الذي ترك ديوانا من الشعر فيه عدة قصائد من المديح النبوي، يقول في إحداها مازجا بين القيم التقليدية في المدح والقيم الدينية. لله أخلاق مطبوع على كرم ... ومن به شرّف العلياء والكرم أغرّ أبلج يسمو عن مساجلة ... إذا تذوكرت الأخلاق والشيّم يا من رأى الملأ الأعلى فراعهم ... وعاد وهو على الكونين يحتكم يا من له دانت الدّنيا وزخرفت الأخ ... رى ومن بعلاه يفخر النّسم علوت عن كلّ مدح يستفاض فما ال ... جلال إلّا الذي تنّحوه والعظم على علاك سلام الله متّصلا ... ما شئته والصّلوات تبتسم «2»

_ (1) ملك النحاة: الحسن بن صافي بن عبد الله بن نزار، ولد وتعلم ببغداد، واستوطن دمشق، كان أنحى أهل طبقته، له مؤلفات كثيرة في النحو وديوان شعر، توفي سنة (568 هـ) ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/ 92. (2) صدقي، أحمد: تهذيب تاريخ ابن عساكر 4/ 167.

وإذا كنّا قد تحدثنا عن مسيرة فن المديح النبوي في المشرق العربي، فهذا لا يعني أن المغرب العربي كان لا يعرف هذا الفن، ولم ينظمه شعراؤه، بل ربما سبق المغاربة المشارقة إلى هذا الفن، لأننا نجد عندهم قصائد كاملة في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، متقدمة زمنيا على ما نجده عند المشارقة، ولسنا هنا في معرض البحث عن أوّلية هذا الفن، ومن الذي بدأه، وفي أي قطر من الأقطار العربية الإسلامية ظهر بادئ ذي بدء، لأن هذا الأمر يظل تخمينا وعرضة للخطأ بسبب فقدان قسم كبير من الشعر العربي ودواوين الشعراء، وخاصة تلك التي ترجع إلى القرون الأولى من عمر الدولة العربية الإسلامية، ولا أظن أن فائدة كبيرة ترجى من معرفة أوّل من نظم المديح النبوي بعد عصر النبي الأمين، وفي أي مكان كان ظهور هذا الفن على الشكل الذي ساد بعد ذلك، وإنما نحاول ذلك تقريبا، من خلال استعراض التراث العربي في عصوره المتتابعة لنبيّن ملامح تطور هذا الفن إلى أن وصل إلى الدولة المملوكية. فنجد مثلا لابن حبيب، عبد الملك السلمي «1» ، الذي توفي سنة (238 هـ) قصيدة يذكر فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في معرض حديثه عن زيارته للمدينة المنورة، فيقول: لله درّ عصابة صاحبتها ... نحو المدينة تقطع الفلوات حتى أتينا القبر قبر محمّد ... خصّ الإله محمّدا بصلاة خير البريّة والنّبيّ المصطفى ... هادي الورى لطرائق الجنّات لمّا وقفت بقربه لسلامه ... جادت دموعي واكف العبرات صلّى الإله على النّبيّ المصطفى ... هادي البريّة كاشف الكربات «2»

_ (1) ابن حبيب: عبد الملك بن حبيب بن سليمان السّلمي القرطبي، عالم الأندلس وفقيهها في عصره، زار مصر، كان عالما بالتاريخ والأدب وفقه المالكية. توفي سنة (238 هـ) . (2) المقري: نفح الطيب 1/ 46.

والملاحظ أن في هذه القصيدة مدحا للنبي الكريم، فهو خير البرية وهاديها، وإن كان هذا المدح قد جاء في أثناء الإشادة بالمدينة المنورة ومعاهدها، وخاصة روضة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقبره وحجرته، فالشاعر لم يقصد أن ينظم قصيدة في مدح النبي الكريم، لكن رؤيته لمعاهد المدينة المنورة أثارت عواطفه الدينية، فتحدث عنها شعرا، وكان لا بد له من أن يذكر ساكن هذه المعاهد ومشرفها عليه الصلاة والسلام. وفي العصر الذي نستعرضه، نجد المديح النبوي منتشرا في المغرب العربي، وبأشكال مختلفة، منها القصائد العشرينيات التي يمدح بها الشاعر النبي الأمين، وتتألف كل قصيدة من عشرين بيتا، وعدد القصائد بعدد حروف الهجاء، مرتبة على ترتيبها، ومن هذه القصائد العشرينيات ديوان لأبي زيد الفزازي «1» ، روي عنه في المسجد الحرام سنة (624 هـ) . وقد خمّس الديوان كاملا أبو بكر محمد بن المهيب المغربي. وعند تجريد إحدى قصائد الديوان من التخميس، جاءت على النحو التالي: بيثرب نور للنّبوّة لا يخبو ... تشارك في إدراكه الطّرف والقلب بكلّ كتاب للنّبيّين نعته ... وقد مرّ ما قال النبيّون والكتب بشير نذير موثر متعطّف ... له الدّيمة الهطلاء والعطن الرّحب بواطنه نور ظواهره هدى ... فلا هديه يخفى ولا نوره يخبو بنى قبّة الإسلام فوق دعائم ... من الخمس في أفيائها العجم والعرب «2»

_ (1) أبو زيد الفزازي: عبد الرحمن بن يخلفتن، ولد بقرطبة، ثم سكن تلمسان، كان عالما بالحديث، كاتبا شاعرا مجودا، غلب عليه شعر الزهد والتصوف، توفي سنة (637 هـ) . المقري: نفح الطيب 4/ 468. (2) أبو زيد الفزازي: ديوان الوسائل المتقبلة ص 8.

فالشاعر جمع في قصائده كل ما يقال في المديح النبوي، وذهب في مدح النبي الكريم مذاهب عدة من الحديث عن إرهاصات النبوة إلى ذكر أوصافه وفضائله الدينية والدنيوية مرورا ببيان أثره في الناس وموقعه بين الرسل الكرام. إن الاهتمام بالشكل الشعري والبحث عن التميز من خلاله يعني أن المديح النبوي عند الشاعر قد وصل إلى مرتبة متقدمة وأن سابقيه قد أفاضوا القول فيه ولذلك لجأ إلى الشكل لعلّه يجد فيه ما يظهره بين غيره من الشعراء، فالمضمون عنده قد انتهى إلى ما لا مزيد عليه. ويظهر من قصائده أن القيود التي قيّد الشاعر نفسه بها قد كلّفته من الصنّعة شططا، وجعلته يقترب من النظم المجرد الذي يخلو من روح الشعر، فجاء مخمّس الديوان ليعطي لهذا الشعر شيئا من الحيوية مستفيدا من المعنى والوزن، مضيفا إلى المعنى مالديه من مشاعر وأفكار، أو ليكمل المعنى ويوضحه في الشعر الأصلي، ومن أمثلة ذلك تخميس القصيدة الهمزية الذي جاء على النحو التالي: له رتبة فوق السّماكين قد سمت ... وكفّ ندى تحكي السّحاب متى همت وآي هدى بالأمر والنّهي أحكمت ... إذا عدّدت للرّسل آي تقدّمت فاي رسول الله أجلى وأضوأ هو المصطفى المحبوب طبعا وقربة ... تقدّس ذاتا ثمّ قبرا وتربة أقول وأعنيه هوى ومحبّة ... أحبّ رسول الله شوقا وحسبة لعلّي غدا عن حوضه لا أحلأ «1» وبدا أن صاحب التخميس يحاول في عمله أن يضيف معاني جديدة إلى معاني القصيدة الأصلية، وأن يوجه المعنى أحيانا وجهات أخرى غير التي وضعت لها في

_ (1) أبو زيد الفزازي: ديوان الوسائل المتقبلة ص 2.

القصيدة، فقد تمثّل معاني القصيدة ودمجها فيما يريد قوله، فظهرت وكأنها من إنتاج قريحته في مجملها، وقد أعطى التخميس للقصيدة حركة، وكسر رتابة الوزن وأسر القافية الواحدة، فصارت أقرب إلى الإنشاد في مجالس الذكر. وفي هذا العصر ظهرت في المغرب، وفي وقت مبكر، قصيدة فريدة في بابها، هي القصيدة الشقراطيسية التي نظمها أبو محمد عبد الله بن زكريا الشقراطيسي «1» ، وهي قصيدة طويلة، نظم فيها الشاعر سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبدأها بقوله: الحمد لله منّا باعث الرّسل ... هدى بأحمد منّا أحمد السبّل خير البريّة من بدو ومن خضر ... وأكرم الخلق من حاف ومنتعل توراة موسى أتت عنه فصدّقها ... إنجيل عيسى بحقّ غير مفتعل «2» فالشاعر أضرب عن المقدمات، ودخل مباشرة في المديح، وأظهر منذ بداية القصيدة أنه يريد أن يقول ما يستطيع نظمه من سيرة الرسول الكريم، لذلك استحالت القصيدة إلى جمع للأخبار والروايات، وقسرها صاحبها على الدخول في قالب النظم، فظهر أثر ذلك واضحا منذ البداية. وشرع في نظم المعجزات نظما خالصا، لم يتدخل فيه، ولم يضف عليها مشاعره، حتى إذا حشد من المعجزات ما ارتاح إلى وجوده في قصيدته، التفت إلى السيرة وأحداثها، فنظم منها ما شاء، وبعد أن نظم السيرة، واكتفى بما نظم، التفت إلى صاحب السيرة العطرة، فشرع في مدحه قائلا: حجزت بالأمن أقطار الحجاز معا ... وملت بالخوف عن خيف وعن ملل

_ (1) الشقراطيسي: عبد الله بن زكريا الشقراطيسي، نسبة إلى شقراطيسية من بلاد الجريد بتونس. النويري: نهاية الأرب 18/ 347. (2) النويري: نهاية الأرب 18/ 347.

وأصبح الدّين قد حفّت جوانبه ... بعزّة النّصر واستعالى على الملل تعرّقت منه أعراق العراق ولم ... يترك من التّرك عظاما غير منتثل «1» لم يبق للفرس ليث غير مفترس ... ولا من الحبش حبش غير منجفل وما أن يفرغ من الإشادة بما حققه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من انتصارات، وبما حققه المسلمون من فتوحات حتى يتوجه إلى الرسول الكريم متشفعا فيقول: نحلتك الودّ عليّ إذ نحلتكه ... أحبى بفضلك منه أفضل النّحل ولولا هذه الخاتمة التي يظهر فيها الشاعر لما اختلفت القصيدة في شيء منها عن المتون العلمية، وعن المنظومات التعليمية، فليس للشعر في هذه القصيدة نصيب كبير، خاصة مع طغيان الصنعة الثقيلة عليها. وقد اقتدى كثير من الشعراء، والعلماء منهم خاصة، بهذه القصيدة فأصبحت مدائحهم في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منظومات تسرد سيرة الرسول الأمين ومعجزاته. وهكذا يظهر لنا بوضوح أن فن المديح النبوي قد تكامل في هذا العصر، وانتشر في جميع الأقطار العربية، وتعددت مذاهبه وطريقة تناوله، وافتن الشعراء في شكل القصيدة وأسلوبها. وقد بدأ هذا الفن على عهد الرسول الكريم، فمدحه الصحابة بقصائد أضحت مثالا يحتذى للشعراء فيما بعد، لكن المديح النبوي في حياة الرسول الأمين لا يدخل ضمن المدائح النبوية التي ضمّها هذا الفن، فهي قيلت في حياته، وهو موجود يسمع ويكافئ، فالعبرة في فن المديح النبوي أنه قيل بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم بزمن طويل، وهنا جاءت المفارقة في مديح الميت، وفي أسباب هذا المديح وأهدافه.

_ (1) منتثل: مستخرج.

وفي العصر الراشدي والأموي لا نقع على قصائد خاصة في المديح النبوي، وكان ذكر رسول الله يأتي في قصائد الفخر أو في معرض المقارنة، أو في قصائد التشيع، وخاصة عند الكميت بن زيد الأسدي. وظل ذلك ساريا على الدور الأول من العصر العباسي، وزاد لحرص الخلفاء على صفتهم الدينية، وعلى ارتباطهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم ظهرت مقطوعات خالصة للمدح النبوي، تبعتها قصائد كاملة، كانت في بدايتها معارضة لقصائد قيلت في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهد هذا العصر ظهور كثير من فنون القول التي أضحت بعد ذلك من أجزاء المدحة النبوية. أما في العصر الفاطمي والأيوبي، فقد تكاملت المدحة النبوية، ووصلت إلى العصر المملوكي على جانب كبير من النضج الفني، حيث استقر هذا الفن وشاع شيوعا كبيرا، وظهرت فيه القمم، والدواوين المنفردة الكثيرة، والشعراء الذين وقفوا حياتهم وفنهم على النظم فيه، والتفت إليه النقاد، يحاولون وضع قواعد ثابتة له.

الفصل الثاني حدود المديح النبوي

الفصل الثاني حدود المديح النبوي القسم الأول- الشعر التقليدي: قلنا إن الشعر الذي مدح به الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته، لا يعد من المديح النبوي الذي ندرسه، هو مديح نبوي لأنه قيل في النبي وأثاب عليه، لكنه لم يكن يقصد به أن يكون فنا شعريا مستقلا، وإنما مدح به الرسول قبل أن يتضح في أذهان معظم الشعراء مفهوم النبوة، فبقي مدحهم له في جله- مدحا تقليديا يقارب ما يمدح به سادة القوم وعظاماؤهم، فكان مدار المدح هو القيم التي تواضع الناس على تعظيمها وتقديرها في الجاهلية، والتي استمرت في الإسلام بمفاهيم جديدة ومنطلقات اجتماعية إنسانية، فجاء معظم هذا المدح يصحّ أن يقال في غير النبي، ولم يميّزه عن باقي الناس كما هو في الحقيقة. ومن ناحية ثانية فإن الشعر الذي مدح به النبي في زمن البعثة، وإن تطرق للمعاني الدينية، وتوجه إلى الرسول لكونه نبيا، فهو يفترق عن باقي المديح النبوي، لأنه قيل قبل أن ينتقل الرسول الكريم إلى جوار ربه، فلم تتم له المفارقة بين المديح والرثاء، وكانت دواعيه حية حاضرة، تختلف عن دواعي المديح النبوي الذي جاء بعد ذلك، والذي قصد به الشعراء النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته بقرون عدة، والذي أضحى فنا أدبيا قائما بذاته، له أصوله وقواعده. ويمكن أن يلحق بهذا الضرب من المديح النبوي شعر الشعراء الذين مدحو النبي بعد وفاته، والذين لم يتجاوزوا في مدحه ما تواضع عليه الناس في مدح السادة والقادة، فكانت جل معانيهم مما يقال في أي إنسان، وليست مما يختص به سيد الناس وهاديهم.

ولذلك كان لا بد من تميّز هذا اللون من المديح النبوي، والإشارة إليه، لنخلص بعد ذلك إلى المفهوم السائد في العصر المملوكي للمدحة النبوية، والذي جعلها تتميز عن غيرها من قصائد المديح. لقد مرّ معنا عند الحديث عن الشعر الذي مدح به الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته أمثلة كثيرة تذهب في مدح الرسول مذهبا تقليديا، لا نجد فيها أثر للدين الجديد، أو نجد أثرا باهتا لا يتعدى المفردات التي علقت بأذهان الشعراء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومما جاء به القرآن الكريم، وظل النهج الجاهلي هو السائد في أساليب الشعراء ومعانيهم، لأنهم ظلوا على تقاليدهم الفنية الجاهلية، ولم يسعفهم الوقت لتتم داخل نفوسهم عملية التغيير والانفعال بالوضع الجديد الذي خلقه الإسلام، لذلك لا نجد عندهم قصائد كثيرة توازي في سويتها الفنية ما كان عندهم قبل البعثة، فقد أدخلت عملية التغيير الارتباك والحيرة إلى نفوسهم فهم لا يدرون كيف يخاطبون النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس لهم عهد بمخاطبة الأنبياء، وليس بين أيديهم تراث من ذلك القبيل. وإذا كان لشعراء زمن البعثة ما يسوّغ لهم التقليدية في مدح رسول الله، فإن من جاء بعدهم، وعاش الإسلام منذ الصغر، وتشبّع بمبادئه، لا يوجد ما يسوّغ لهم التأكيد على القيم التقليدية في مدح الرسول الكريم، ففي العصر المملوكي الذي ذهب فيه الشعراء بالمدح النبوي كل مذهب، لم تختف القيم التقليدية من المدحة النبوية، وظل الشعراء يرددون في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما كان يمدحه به الشعراء المخضرمون في حياته، وقد خلطوا القيم التقليدية بالمفاهيم الدينية التي تشعبت على عهدهم وفق مذهب الشاعر الديني، وكانت نسبة المعاني التقليدية تقل وتكثر حسب ثقافة الشاعر وموقعه ومذهبه الديني، وتتفاوت من قصيدة إلى أخرى، تطغى القيم التقليدية أحيانا، فيستحيل المدح في معظمه تقليديا، لا يتعدى القيم الحياتية الدنيوية التي يمدح بها الشعراء السادة والعظماء، وتختفي أحيانا أخرى، فتكون الصبغة الدينية هي التي تصبغ المدحة كلها.

لذلك لا نعجب إن وجدنا مدحا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مثل قول الشهاب محمود «1» : زان عبد الله لا بل هاشما ... بل قريشا كلّها بل مضرا فلذا إن ذكروا الفخر به ... لم يطق غيرهم أن يفخرا «2» فجعل الرسول الأمين مبعث فخر للهاشميين والقرشيين ومضر كلها، وإذا صح ذلك لهم فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث للناس كافّة، ويحق لكل مؤمن به أن يفخر به وباتباع هديه وسنته. وحين يمزج الشاعر بين القيم التقليدية في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والقيم الدينية، فإنه يوازن بينها ويخضعها جميعا لغرض المديح، ويرقى بها إلى مقام الممدوح السامي، فلم تعد القيم التقليدية التي اصطلح الناس على المدح بها تحمل الدلالات نفسها حين يمدح بها شخص آخر غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لكن بعض الشعراء لم يستشعروا هذا الأمر، وكأنهم يؤدّون ما يجب اتجاه سيد البشر حين يحشدون الصفات حشدا، وحين يبالغون في المعاني التقليدية. والشعراء من قبلهم وصلوا في المبالغة إلى ما لا مزيد بعده في مدح ممدوحيهم. والعجب كله من شعراء عرفوا بالتصوف، فكانت قصائدهم نفحات روحية، واستغراقا وجدانيا في حب الله- عز وجل- وفي الهيام برسوله ومقدساته، ثم يأتون بعد ذلك في مدح الرسول بمثل ما مدحه به البرعي في قوله: مهذّب قرشيّ الأصل يشرف عن ... حام وسام وعن روم وأتراك

_ (1) الشهاب محمود بن سلمان بن فهد الحلبي: كان شيخ صناعة الإنشاء في عصره، وشاعرا مكثرا، له ديوان في المدائح النبوية وكتاب «حسن التوسل إلى صناعة الترسل» ، توفي سنة (725 هـ) . ابن حجر: الدرر الكامنة 5/ 92. (2) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 118.

جلالة ملئت جودا ومرحمة ... من ماجد لدم الطّاغين سفّاك غضبان تحت ظلال السّمر ممتلئا ... بأسا وعند عبوس الدّهر ضحّاك أغنى وأقنى وأحيا دين أمّته ... بصولة بثّها في كلّ معراك والحرب قامت على ساق به وسمت ... إذ قام منتقما من كلّ أفّاك فاتوا فأدركهم بالسّيف منتصرا ... فما يفيقون من فوت وإدراك «1» وحتى حين يمدح بعض الشعراء الرسول بمعان دينية، فإنهم يتبعون أسلوبا تقليديا، لا يوحي بمقصد الشاعر، فعبد الله بن أسعد اليافعي «2» ، مدح الرسول بقصيدة طلب فيها شفاعته لكنه عبر عن هذا الطلب بطريقة القوم في طلب العطاء، فقال: ألا يا رسول الله يا أكرم الورى ... ومن جوده خير النّوال ينيل ومن كفّه سيحون منها وجيحن ... ودجلة تجري والفرات ونيل مدحتك أرجو منك ما أنت أهله ... وأنت الذي في المكرمات أصيل فيا خير ممدوح أثب شرّ مادح ... عطا مانح منه الجزاء جزيل «3» إن مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقيم التقليدية لم ينقطع حتى يومنا هذا، فالشعراء لا زالوا يستحضرون سيرة الرسول الأمين ووصفه، فيشيدون بمناقبه ويثنون على خصاله الحميدة، ويفخرون بأفعاله المباركة، إلا أن هذا المدح ينطلق من منطلق ديني وإن كان التعبير عنه تعبيرا تقليديا، وخاصة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكّد على بشريته وإنسانيته، وضرب

_ (1) ديوان البرعي: ص 95. (2) عبد الله بن أسعد اليافعي: مؤرّخ متصوّف من شافعية اليمن. من كتبه (مرآة الجنان) ، توفي سنة (768 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 6/ 210. (3) ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 11/ 93.

القسم الثاني - مدح آل البيت:

للناس المثل الأعلى في كرم الأخلاق، وأقرّ من القيم العربية ما وافق روح الإسلام، وهذّبها وأعطاها مفهوما جديدا، فلا عجب حين يمدح الشعراء رسولهم الكريم بمثل هذه القيم، لأنها عنده تأخذ أبعادا جديدة، وتشع بالتقوى والقداسة، وهم يفعلون ذلك لرسوخ التقاليد الفنية في نفوسهم، ولأنهم يريدون ممن حولهم أن يقتدوا بالجانب الإنساني والأخلاقي من شخصية الرسول العظيمة ولتشيع محاسن الأخلاق بين الناس، والتي أكد رسول الله أنه جاء ليتمها «1» ، وأنه يريد للإنسانية خير الدنيا والآخرة، وأن الإسلام ليس دين عبادة فقط، بل هو دين عبادة ودين حياة. ولا يسعنا إلا أن نقر بروعة ما مدح به الرسول الكريم على هذه الطريقة، وخاصة ما مدح به في حياته وهو لا شك، لون من ألوان المديح النبوي، إلا أن تشابهه مع ما مدح به غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجعلنا نزحزحه قليلا عن بقية المدح النبوي، الذي أخذ صورة أخرى تقرب من هذا الشعر حينا، وتبتعد حينا آخر. ولم يكن شعراء زمن البعثة يرمون من وراء مديحهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون هذا المديح متميّزا، وفنا قائما بذاته، ولم يكن مديحهم مديحا دينيا محضا، وإن ظهرت فيه السمات الدينية، في حين أن المدائح النبوية هي شعر ديني خالص، امتزج بنفس الشاعر وبما انعكس من أحوال العصر عليها. القسم الثاني- مدح آل البيت: ظهر الانحياز لآل البيت والتحزب لهم في وقت مبكر من عمر الدولة العربية الإسلامية، ويمكن أن يعد الشيعة أول فئة سياسية دينية في الإسلام، قالوا بتفضيل آل البيت عامة وأبناء علي بن أبي طالب وفاطمة- رضي الله عنهم- خاصة، وبأحقيتهم في

_ (1) مسند ابن حنبل: 2/ 381.

الخلافة، لأنهم أقرب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولهم فضلهم وسبقهم إلى الإسلام، فعلي بن أبي طالب كفله الرسول الكريم، وتربّى في حجره، وآمن به وهو طفل، ورافق النبي الكريم في مراحل الدعوة كافة، وكانت له المواقف العظيمة في نصرة الإسلام ونبيه، وتزوج فاطمة ابنة رسول الله، وأنجب منها شابين، هما سبطا رسول الله، وكان على جانب عظيم من العلم والعقل والإيمان ومحاسن الأخلاق والشجاعة، فكان أهلا للخلافة، ولذلك فضّله قسم من المسلمين على غيره من الصحابة- رضوان الله عليهم-، وقدموه عليهم في أحقية الخلافة. وقد ورد في القرآن الكريم ما يشيد بذوي القربى، من ذلك قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 42/ 23] ، وقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33/ 33] . وإن ورد في صحيح البخاري تفسير للآية الأولى، يبعدها عن التشيع، فروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- «إلا المودة والقربى، قال: فقال سعيد بن جبير: قربى محمد صلّى الله عليه وسلّم، فقال: النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن بطن من قريش إلا وله فيه قرابة» «1» . ويضاف إلى ذلك ما يذهب إليه الشيعة من أن رسول الله أوصى بالخلافة بعده لعلي صراحة، ويوردون في ذلك حديث الغدير، والوصية الصفراء، وحديث أهل العباء، وغير ذلك من الأحاديث التي تنص على تفضيل علي وأهل بيته، وحقهم في إمامة المسلمين. ومعظم هذه الأحاديث لم ترد في كتب الحديث المعروفة، وإن جاءت بعض معانيها على نحو مختلف في غير كتب الصحاح، وما ورد في هذا الشأن في صحيح

_ (1) صحيح البخاري: 4/ 154.

مسلم ما رواه بسنده في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب، ومنه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون بن موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» «1» . وأورد حديثا آخر نصه هو: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: اللهم هؤلاء أهلي» «2» . وهذا الحديث هو الذي يدعونه حديث العباء، ويقولون إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحاطهم بعباءته، فسموا أهل العباء. وورد في الصحيح أيضا خطبة غدير خم، وفيها يقول الرسول الكريم: «أنا تارك فيكم ثقلين: أو لهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ... وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي» «3» . وجاء في مسند الإمام أحمد بعض الأحاديث التي تقترب من هذه الأحاديث، منها قول أحدهم «سمعت عليا وهو ينشد الناس: من شهد رسول الله يوم غدير خم، وهو يقول ما قال؟ فقام ثلاثة عشر رجلا، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله وهو يقول، من كنت مولاه، فعلي مولاه ... » وعقّب المحقق على هذا الحديث بقوله: «إسناده ضعيف» «4» . وجاء في المسند أيضا حديث عن علي يقول فيه: «والله إنه مما عهد إليّ رسول الله أنه لا يبغضني إلا منافق، ولا يحبني إلا مؤمن» «5» . وما يوردونه حول وصية رسول الله لعلي لا نجد لها في كتب الصحاح ما يؤيده، فقد جاء في صحيح مسلم، كتاب الوصية، الحديث التالي: ذكروا عند عائشة أن عليا كان

_ (1) صحيح مسلم: ص 1870. (2) المصدر نفسه: ص 1871. (3) صحيح مسلم: ص 1873. (4) مسند الإمام أحمد: 2/ 57. (5) المصدر نفسه: 2/ 57.

وصيا فقالت: «متى أوصى إليه؟ فقد كنت مسندته إلى صدري، فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري، وما شعرت أنه مات، فمتى أوصى إليه» «1» . وهكذا نشأ تيار يناصر أهل بيت رسول الله، ويتشدد في موالاتهم، تحول شيئا فشيئا إلى حزب سياسي ديني، فناوأ بني أمية وقاتلهم، وقاتل العباسيين، وظل ثائرا، يطالب بالخلافة، وخلال ذلك نشأ له تراث كبير من الفكر الديني، والأدب، تلوّن بألوان مختلفة، وتأثر بأفكار غريبة، وخاصة عند فرقه المتطرفة. فلا عجب إذا وجدنا شعرا يمدح به آل البيت على عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم يجمع به الشعراء مدحهم إلى مدحه، حتى إذا انتقل الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى جوار ربه، وتباينت آراء المسلمين في خلافته وانحاز بعضهم إلى علي- كرم الله وجهه- وجدنا مدح علي وآل رسول الله يزداد، ويظهر، مثل قول عامر بن واثلة، أبي الطفيل «2» (له صحبة وتشيع) : إنّ النّبيّ هو النّور الذي كشفت ... به عمايات باقينا وماضينا ورهطه عصمة في ديننا ولهم ... فضل علينا وحقّ واجب فينا «3» ويبدو أن مديح الرسول ومديح آله اقترنا كما يظهر في هذين البيتين، منذ وقت مبكر كما قلنا، وكما هو حاصل في صلاة المسلمين، فإذا كان المدح موجها للنبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر فيه آل البيت، فهو مدح نبوي، أما إذا كان موجها لآل البيت وذكر فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو يخرج عن إطار المديح النبوي، ومن هنا جاء التفريق بين مديح آل البيت ومديح النبي، على الرغم من أن بعض الباحثين لم يفرقوا بين هذين اللونين من المديح، وعدوا

_ (1) صحيح مسلم: ص 1257. (2) عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمر القرشي، أبو الطفيل، شاعر كنانة وأحد فرسانها، ومن ذوي الفضل والسيادة فيها، روى عن النبي عدة أحاديث، وحمل راية علي بن أبي طالب، وخرج على بني أمية مع المختار الثقفي، توفي سنة (100 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 1/ 118. (3) الأصفهاني: الأغاني 15/ 152.

مديح آل البيت من المديح النبوي، لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم علة تفضيلهم ومدحهم، بيد أن هذا الأمر يحتاج إلى نظر، لأن الشعراء الذين توجهوا إلى آل البيت بالمدح، لم يكن غرضهم مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما جاء ذكره في هذا المدح، لأن آل البيت ينتسبون إليه، ولأن غاية ما يمدحون به هو علاقتهم بسيد الوجود، ولذلك نجد الشيعة من الشعراء أقل الشعراء مدحا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكأنهم اكتفوا بمدح آله، وعدّوا ذكره فيه مكافئا لمدحه منفردا، ومن هنا جاء التباين بين هذا الشعر وبين المدائح النبوية. ولذلك لا يمكننا أن نعد القصائد التي مدح بها آل البيت من المديح النبوي، ففي الغالب تكون قصائد الشيعة دفاعا عن حق آل البيت في الخلافة، وتفضيلهم على من سواهم، وانتصارا لتوجه ديني، يضفي على آل البيت القداسة والصفات النبوية، بعد أن كان مدحهم في البداية لا يتعدى إظهار مشاعر الحب لهم، كما قال أبو الأسود الدؤلي «1» : أحبّ محمّدا حبّا شديدا ... وعبّاسا وحمزة والوصيّا فإن يك حبّهم رشدا أصبه ... وفيهم أسوة إن كان غيّا «2» وكان الصحابة والتابعون المتشيعون لعلي بن أبي طالب، يرون في نصرته نصرة لدين الله تعالى، ويرون في النهوض معه جهادا في سبيل الله، ويظهرون نحوه مشاعر الحب والإجلال، كما قال هاشم بن عتبة المرقال «3» ، يذكر نفورهم إلى علي عليه السلام:

_ (1) أبو الأسود الدؤلي: ظالم بن عمرو بن سفيان، من الفقهاء الأعيان، ولي إمارة البصرة لعلي بن أبي طالب، وشهد معه صفين. توفي سنة (69 هـ) . ياقوت: معجم الأدباء 6/ 473. (2) الأنباري، عبد الرحمن: نزهة الألبا ص 3. (3) هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، المرقال، صحابي خطيب فارس، شهد القادسية واليرموك، وكان مع علي في حروبه. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 1/ 101.

وسرنا إلى خير البريّة كلّها ... على علمنا أنّا إلى الله نرجع نوقّره في فضله ونجلّه ... وفي الله ما نرجو وما نتوقّع ونخصف أخفاف المطيّ على الوجا ... وفي الله ما نزجي وفي الله نوضع «1» وقد بيّن الشعراء أسباب التفافهم حول آل البيت، وأظهروا عواطفهم الدينية الممزوجة بتوجههم السياسي الذي يرمي إلى وصول آل البيت إلى الخلافة، والخلافة مقام ديني وسياسي في الوقت نفسه، وظل ذلك متداولا بين الشعراء الذين يميلون إلى التشيع أما الشعراء الذين لا يرون رأي الشيعة، فإنهم يمدحون آل البيت ويذكرون قرابتهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومكانتهم الرفيعة في الإسلام، مثل قول الفرزدق في زين العابدين: الله شرّفه قدما وعظّمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم من جدّه دان فضل الأنبياء له ... وفضل أمّته دانت له الأمم مشتقّة من رسول الله نبعته ... طابت مغارسه والخيم والشّيم من معشر حبّهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجى ومعتصم مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كلّ بدء ومختوم به الكلم «2» ومرّ معنا ما قاله الكميت في هاشمياته التي جادل فيها الأمويين في حق الهاشميين في الخلافة والتي أشاد فيها بال البيت، واتسع في ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اتساعا يسيرا. واستمر الشعراء في مدح آل النبي مدحا دينيا حينا ومدحا سياسيا حينا آخر، وقد نسب للإمام الشافعي شعر يشيد فيه بال البيت، وكأن الإمام الشافعي يردّ على من انتقص قدرهم، فيقول:

_ (1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/ 188. (2) ديوان الفرزدق: 2/ 180.

يا أهل بيت رسول الله حبّكم ... فرض من الله في القرآن أنزله كفاكم من عظيم القدر أنّكم ... من لم يصلّ عليكم لا صلاة له «1» وأوضح الإمام الشافعي موقفه الذي لا يفرق فيه بين الصحابة، ولا ينكر فضل أحدهم، فقال: إذا نحن فضّلنا عليّا فإنّنا ... روافض بالتّفضيل عند ذوي الجهل وفضل أبي بكر إذا ما ذكرته ... رميت بنصب عند ذكري للفضل فلا زلت ذا رفض ونصب كلاهما ... بحبّيهما حتى أوسّد بالرّمل «2» وهكذا أخذ الشعراء يمدحون آل النبي الكريم، ويذهبون في مدحهم كل مذهب، ويذكرون في مدحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يتسعون في ذكره ويقتصرون، وهم في معظم شعرهم يقصرون هذا الذكر على قرابة آله منه، وافتخارهم بالانتساب إليه، ومن ذلك مدح محمد بن حبيب الضبي «3» لعلي بن أبي طالب بقوله الذي اكتفى فيه بذكر وصية النبي لعلي فقط: وصيّ محمّد حقّا عليّ ... وقتّال الجبابر والقروم وخازن علمه وأبو بنيه ... ووارثه على رغم المليم شفاعته لمن والاه حتم ... إذا فرّ الحميم من الحميم ومن يعلق بحبل الله فيه ... فقد أخذ الأمان من الجحيم «4»

_ (1) ديوان الشافعي: ص 72. (2) ديوان الشافعي: ص 72. (3) ابن حبيب الضبي: محمد بن حبيب بن أمية، من موالي بني العباس، علامة بالأنساب والأخبار واللغة والشعر له عدة كتب منها (أمهات النبي) توفي سنة (265 هـ) . الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 6/ 473. (4) المرزباني: معجم الشعراء ص 419.

ويدخل في هذا الباب الرثاء الحار الذي رثى به شعراء الشيعة آل البيت، والذين استشهدوا منهم خاصة، على يد خصومهم السياسيين من الأمويين وغيرهم، مثل قول دعبل «1» في قصيدته المشهورة: مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات لآل رسول الله بالخيف من منى ... وبالرّكن والتّعريف والجمرات ديار عفاها جور كلّ منابذ ... ولم تعف للأيّام والسّنوات هم أهل ميراث النّبيّ إذا اعتزوا ... وهم خير قادات وخير حمات وإن فخروا يوما أتوا بمحمّد ... وجبريل والفرقان ذي السّورات «2» واستمر تيار التشيع في الشعر على هذا النحو، يبدأ الشعراء ويعيدون في الإشادة بال النبي، ويتوسلون بهم، ويتشفعون، يشمل مدحهم الهاشميين جميعا حينا، ويقتصرون على آل علي بن أبي طالب وذريته من فاطمة حينا آخر. وظاهر من كل ما تقدم أن مدح الرسول الكريم لم يكن هدف الشعراء الذين مدحوا آل البيت، وأن ذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم اقتضاه مقام المديح، وهو من لوازمه التي يقوم عليها، ولولاه لما كان مديح آل البيت والإشادة بهم والاعتقاد بمكانتهم الدينية. وصار التشيع من التيارات البارزة في الشعر العربي، اختص به الشعراء الذين يرون رأي الشيعة، وتأثر به الشعراء الذين لا يذهبون مذهبهم، ودخلت تعابير الإشادة بهم في كتب الأدب، ومعاجم المعاني فالثعالبي أفرد التعابير التي تقال في آل النبي بفصل

_ (1) دعبل بن علي بن رزين الخزاعي، شاعر هجاء متشيع، توفي سنة (246 هـ) . ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص 539. (2) ديوان دعبل: ص 78.

خاص، وهذا يؤكد أن هذه التعابير صارت شائعة، وأنها أضحت من عدة الأديب، فقال مثلا في كتابه (سحر البلاغة) تحت عنوان (ذكر الآل) : «وعلى آله الذين عظّمهم توقيرا، وطهّرهم تطهيرا، أعلام الإسلام، وأمان الإيمان.. الذين أذهب عنهم الأرجاس، وطهّرهم من الأدناس، وجعل مودتهم أجرا على الناس ... » «1» . وأورد أيضا في كتاب الممادح والأثنية ما يخص منها أبناء النبوة، فقال: «استقى عرقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة، وتهدلت أغصانه عن نبعة الإمامة» «2» . وظل الشعراء على عهد بني العباس يمدحون آل النبي بما تقدم، وظلوا على شيء من الاتزان في الحديث عنهم، لا يتعدون إظهار المحبة، والدعوة إلى تبجيلهم، وضرورة وصولهم إلى حقهم، ويهاجمون من يعاديهم مثل قول الصاحب بن عباد «3» : أحبّ النّبيّ وآل النّبيّ ... لأنّي ولدت على الفطرة إذا شكّ في ولد والد ... فايته البغض للعتره «4» لكن الغلو أخذ بالظهور عند شعراء الشيعة شيئا فشيئا، بعد أن أخذت الأفكار. الغريبة طريقها إلى الشيعة، والفرق المتطرفة منهم خاصة، فابن أبي الحديد يقول في قوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ إنه علي بن أبي طالب «5» . ويقول في النبي الكريم وعلي بن أبي طالب:

_ (1) الثعالبي: سحر البلاغة ص 12. (2) المصدر نفسه: ص 57. (3) الصاحب بن عباد، إسماعيل بن عباد بن العباس الطالباني، وزير غلب عليه الأدب، له تصانيف، توفي سنة (385 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 3/ 113. (4) ديوان الصاحب بن عباد: ص 77. (5) ابن أبي الحديد: القصائد السبع العلويات ص 120.

ولكنّ سرّ الله شطّر فيكما ... فكنت لتسطو ثم كان ليغفرا «والمعنى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم والأمير سرّان لله، فالنبي سرّ العفو، وعلي فيه سر الانتقام» «1» . ونسبوا إلى علي كرم الله وجهه معجزات عرفت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: «ردّت الشمس له مرتين، مرة بالمدينة عند حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومرة بالعراق بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم» . ووصلوا في الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى ما لا مزيد بعده، فقد عقب شارح القصائد السبع العلويات على قول ابن أبي الحديد: علّام أسرار الغيوب ومن له ... خلق الزّمان ودارت الأفلاك «2» «روى الخوارزمي بإسناده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله تعالى من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف سنة، فلما خلق الله آدم سلك ذلك النور في صلبه، ولم يزل الله تعالى ينقله من صلب إلى صلب حتى أقره في صلب عبد المطلب، ثم أخرجه من صلب عبد المطلب، وقسمه قسمين، قسما في صلب عبد الله، وقسما في صلب أبي طالب، فعليّ منّي وأنا منه» «3» . وهذا الحديث ورد في كتب الأحاديث الموضوعة «4» . فإلى هذا الحد أوصل غلاة الشيعة عليّا، وأحاطوا آله بهالة من القداسة، وخاطبوهم كما تخاطب الأنبياء، حتى إذا قامت الدولة الفاطمية، التي جعل خلفاؤها من أنفسهم أصحاب الحق الذين وصلوا إليه، وتبنّوا كل ما قيل عنهم منذ عهد الرسول

_ (1) ابن أبي الحديد: القصائد السبع العلويات ص 43. (2) المصدر نفسه: ص 52. (3) المصدر نفسه: ص 69. (4) السيوطي: اللآلي المصنوعة 1/ 166.

صلّى الله عليه وسلّم إلى عهدهم، وزادوا عليهم ببناء فلسفة تعطيهم القداسة المطلقة والعصمة، ولذلك يقول ابن أبي حصينة المعري «1» في مدح المستنصر الفاطمي: لولا بنو الزّهراء ما عرف التّقى ... فينا ولا تبع الهدى الأقوام يا آل أحمد ثبّتت أقدامكم ... وتزلزلت بعداكم الأقدام لستم وغيركم سواء، أنتم ... للدّين أرواح وهم أجسام يا آل طه حبّكم وولاؤكم ... فرض وإن عذل اللّحاة ولاموا «2» وقد أفرط الشعراء الفاطميون في مدح خلفائهم، وجاوزوا بذلك الحد، وخلعوا عليهم صفات النبوة وأشركوهم فيما ذهبوا إليه من سبق الرسول الكريم بالخلق على كل الخلائق، وجعله علة الكون، ومصدر فيض الموجودات، وبدؤوا ذلك بتشبيههم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في جلالته وهيبته، مثل قول الأجلّ في مدح المستنصر: جلالة هيبة هذا المقام ... تحيّر عالم علم الكلام كأنّ المناجي به قائما ... يناجي النّبي عليه السّلام «3» وثنّوا بإشراك آل البيت للرسول صلّى الله عليه وسلّم بالشفاعة، فتوسّلوا بحبهم للخلاص من الذنوب والعذاب، وفي ذلك يقول الأجلّ: معشر حبّهم وطاعتهم حص ... ن لنا من عذاب نار السّعير مدحهم في المعاد ذخري إذا أف ... لست من كلّ مقتنى مذخور «4»

_ (1) ابن أبي حصينة: الحسن بن عبد الله بن أحمد، شاعر من الأمراء، ولد ونشأ في معرة النعمان، وانقطع إلى دولة بني مرداس في حلب، فأوفدوه إلى الخليفة الفاطمي، فمدحه فمنحه الخليفة لقب الإمارة، له ديوان شعر توفي (457 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 332. (2) الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 10/ 91. (3) ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 165. (4) ديوان شعر الأجل ص 166.

وبعد ذلك لم نعد نجد فرقا بين ما مدح به المادحون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين ما مدح به شعراء الفاطميين خلفاءهم، فالمؤيد داعي الدعاة يمدح المستنصر بقصيدة، لولا القرينة لظننا أنه يمدح النبي الكريم بقوله: تزيّن مدح المادحين بذكره ... فعنه تبدّت مدحة وثناء إذا ما لواء الحمد زيّن أهله ... فأنت لمحمود اللّواء لواء تباهي بك الأرض السّماء حقيقة ... فأنت لمن فوق السّماء سماء «1» ثم دخل شعراء الفاطميين في غلوهم المستمد من العقيدة الفاطمية، وهذا الغلو هو ما قال به المتصوفة في النبي صلّى الله عليه وسلّم، وغيرهم، الذين يقولون بالحقيقة المحمدية، فالفاطميون هم أول من تجلى الله بهم واستجار بهم الأنبياء، وخدمتهم الملائكة، وفي ذلك يقول داعي الدعاة: هم الألى بهم تجلّى ربّنا ... لخلقه سبحانه عزّ وجل «2» ويظهر من شعر الفاطميين تأكيد على بيان مذهبهم، وجوانب عقيدتهم، فكان التفاتهم إلى مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم قليلا، ولولا ادعاء الفاطميين بالانتساب إليه ووراثته لما وجدنا عندهم هذه الالتفاتة العجلى، وحتى عند ما عادوا إلى الوراء، وتحدثوا عن علي ابن أبي طالب وفضائله وخلافته للرسول الكريم لم يزيدوا على ما ذكروه شيئا. فطلائع ابن رزيك الذي سرد في قصيدة له بعض أخبار علي، لم يزد في ذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما جاء به غيره، فقال: بال رسول الله ناجيت خالقي ... بصدق فينجي من نوب النّوائب وبوّاني منه أمانا موسّعا ... وقد كنت أخشى أن تسدّ مذاهبي

_ (1) ديوان المؤيد داعي الدعاة ص 236. (2) المصدر نفسه: ص 212.

فمنهم إمام الحقّ حيدرة الذي ... أبان غموض المشكلات الغرايب عليه ترى الإجماع لا شكّ واقعا ... ولم تره بعد النّبيّ لصاحب وزوّجه الرّحمن بالطّهر فاطما ... وقد ردّ عنها راغما كلّ خاطب «1» ويتأكد من ذلك كله أن شعراء الفاطميين قد أخذوا بالعقيدة الفاطمية، ولم يلتفتوا إلى ما سواها، فأفرغوا قدراتهم في جلائها، ومدح الخلفاء الفاطميين وآل البيت، وكان من الطبيعي أن يمدحوا مدار فخرهم وعلة تفضيلهم، وهو الرسول العظيم، لكنهم لم يفعلوا، وظل الأمر عندهم يرد عرضا دون قصد إليه. ويؤكد هذا الاتجاه طلائع بن رزيك الذي وصل إلى مرحلة نظم الروايات والأحاديث التي تؤكد وصية النبي لعلي بن أبي طالب، لكنه لم يخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدح ما خص به عليّا، فقال في إحدى قصائده: ويوم (خمّ) وقد قال النّبيّ له ... بين الحضور وشالت عضده يده من كنت مولى له هذا يكون له ... مولى، أتاني به أمر يؤكّده من كان يخذ له فالله يخذله ... أو كان يعضده فالله يعضده نادى بأعلى العلا جبريل ممتدحا ... هذا الوصيّ وهذا الطّهر أحمده وفي الفرات حديث إذ طغى فأتى ... كلّ إليه لخوف الهلك يقصده قالوا: أجرنا، فقام المرتضى فرحا ... بالفضل والله بالإفضال مفرده وقال للماء غض طوعا فبان لهم ... حصباؤه حين وافاه يهدّده «2»

_ (1) ديوان طلائع بن رزيك: ص 53. (2) المصدر نفسه: ص 73.

ويظهر أنه أراد بسرد هذه الروايات أن يثبت ما لعليّ من كرامة ومعجزات تشابه معجزات الأنبياء، ويؤكد وصول علي إلى مرتبة الأنبياء حين يجعل قصده مثل الحج، وحين يجعله علة قبول العبادات والطاعات، في قوله: فلولا أنت لم تقبل صلاتي ... ولولا أنت لم يقبل صيامي عسى أسقى بكأسك يوم حشري ... ويبرد حين أشربها أوامي «1» فأين ذكر رسول الله في هذا الشعر؟ لا نجده، لأن شعراء الفاطميين كدّوا أذهانهم للإحاطة بعقائدهم وغيبياتهم التي جعلت من الخلفاء تجسيدا للسر الإلهي أو للجوهر الفرد، كما قال عمارة اليمني حين ردّ على أحد الشعراء الذي ذمّ الدولة الفاطمية: والجوهر الفرد نور ليس يعرفه ... من البريّة إلّا كلّ من عرفا لولا تجسّمه فيهم لكان على ... ضعف البصائر للأبصار مختطفا «2» لذلك أظهر الشعراء عجزهم عن الإحاطة بفضائل الفاطميين، وهذا المعنى تناقله شعراء المدائح النبوية الذين وجدوا أنفسهم مقصرين في كل ما يقولونه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهذا عمارة اليمني يخاطب العاضد قائلا لا يبلغ البلغاء وصف مناقب ... أثنى على إحسانها التّنزيل شيم لكم غرّ أتى بمديحها ال ... فرقان والتّوراة والإنجيل سير نسخناها من السّور التي ... ما شانها نسخ ولا تبديل «3» ولم يكتف عمارة بقوله إن القرآن مدح الفاطميين، بل زاد على ذلك ورود مدحهم

_ (1) ديوان طلائع بن رزيك: ص 132. (2) اليمني عمارة: النكت العصرية ص 292. (3) المصدر نفسه: ص 306.

في التوراة والإنجيل، وهذا ما يذهب إليه المؤلفون في دلائل النبوة، وفي أن الكتب السماوية بشّرت بمبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ما ردّده شعراء المدائح النبوية بعد ذلك. لكن هذا التوجه لم يكن عند الشعراء الفاطميين جميعا، فكان بعضهم يؤكد في مدحه على التوجه السياسي والديني، ويشير إلى علاقتهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من مثل قول ظافر الحداد في الآمر: لأنت وارث ملك الأرض قاطبة ... ومدّعيه سواك الغاصب العادي وسوف تكمل ما استوجبت حوزته ... بمنزل الوحي لا أخبار آحاد بجند نصرك فرسان ملائكة ... لا ما يرى النّاس من خيل وأجناد بها أمدّ أباك الله في أحد ... وفي حنين وبدر أيّ إمداد فأنت للخلق روح ظاهر وبه ... يحيا ولو لاك أضحى رمّ أجساد «1» ويوضح هذا التوجه ابن سناء الملك «2» حين طلب الشفاعة من الخليفة الفاطمي، لكنه جعله واسطة بينه وبين صاحب الشفاعة، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا ابن النّبيّ عسى في البعث تبعث لي ... من عند جدّك عتقا لي من النّار «3» وقد تأثر الشعراء الذين لا يتشيّعون بهذا التوجّه في مدح آل البيت، وظلوا يذكرونهم بعد القضاء على الدولة الفاطمية، مثل قول البوصيري فيهم:

_ (1) ديوان ظافر الحداد: ص 112. (2) ابن سناء الملك: هبة الله بن جعفر، أديب مشهور كتب في ديوان الإنشاء وكان بارع الترسل والنظم، له كتاب (دار الطراز في الموشحات) وديوان شعر. توفي سنة (608 هـ) . (3) ديوان ابن سناء الملك ص: 510.

فقل لبني الزّهراء والقول قربة ... يكلّ لسان فيهم أو قصائد أحبّكم قلبي فأصبح منطقي ... يجادل عنكم حسبة ويجالد وهل حبّكم للنّاس إلّا عقيدة ... على أسّها في الله تبنى القواعد وإنّ اعتقادا خاليا من محبّة ... وودّ لكم آل النّبيّ لفاسد «1» وظل ذكر آل البيت في الشعر المملوكي سائرا، ومدحهم موجودا في المدائح النبوية وسواها، وخاصة حين يقصد الشاعر أحد الهاشميين مادحا، فإنه لا يجد مدحا لهم أكثر من انتسابهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وربما أضاف إلى ذلك ما تسرّب إليه من شعراء الدولة الفاطمية، أو ما كان يمدح به الهاشميون قبل عصره، فالجزار «2» الشاعر المملوكي مثلا، يقول في مدح الشريف تقي الدين بن ثعلب: ليت شعري أيقظة أم مناما ... نظرت مقلتاي هذا المقاما وقفتني ببيت من كانت الأم ... لاك قدما لبيته خدّاما ببني جعفر ابن عمّ رسول الل ... له أرجو من الخطوب اعتصاما طالما جاءهم من الله جبري ... ل فأهدى تحيّة وسلاما «3» واستمر الاحتفال بيوم عاشوراء يجدد ذكرى أليمة لكل المسلمين، وليس للشيعة منهم فقط، فكان هذا اليوم يعيد إلى أذهان الناس استشهاد الحسين- رضي الله عنه- وقتله مع آل بيته شر قتله، وهذا أمر مستنكر من المسلمين جميعا، بل إن قتل أي مسلم

_ (1) ديوان البوصيري: ص 108. (2) الجزار: يحيى بن عبد العظيم. شاعر وقته، كان في بداية أمره جزارا، وله مصنفات توفي سنة (679 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 4/ 277. (3) ابن سعيد: المغرب في حلى المغرب: ص 328.

فاضل أمر يستنكره المسلمون، فكيف بقتل الحسين، سبط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على هذه الصورة التي نقلتها كتب التاريخ، لذلك نجد الشعراء أمثال أبي الحسين الجزار يسارعون إلى التعبير عما يثيره هذا اليوم في النفس، فهو يقول: ويعود عاشوراء يذكّرني ... رزء الحسين فليت لم يعد أمّا وقد قتل الحسين به ... فأبو الحسين أحقّ بالكمد «1» ويقول أحد شعراء دمشق في هذا اليوم، وقد وقع به مطر غزير: يوم عاشوراء جادت بالحيا ... سحب تهطل بالدّمع الهمول عجبا حتى السّماوات بكت ... رزء مولاي الحسين ابن البتول «2» وإذا نظرنا إلى شعراء المديح النبوي، وجدنا أنهم لم ينسوا ذكر آل البيت في أشعارهم، يشركونهم في المديح مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لكن هذا المدح لم يكن مقصودا لذاته، وإنما يستدعيه مدح الرسول الكريم واستذكار سيرته أو عند ما يصلون على النبي. فإن الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على آله، ولهذا نجد البوصيري أشهر مدّاح النبي يقول في إحدى نبوياته: ريحانتاه على زهر الرّبا زهتا ... فما لقلبي وذكر البان والأثل ريحانتاه من الزّهراء فاطمة ... خير النّساء ومن صنو الإمام علي إذا امتدحت نسيبا من سلالته ... فهو النّسيب لمدحي سيّد الرّسل «3» ولا نعدم عند شعراء المديح النبوي قصائد خاصة يفردونها لمدح آل البيت، فإن

_ (1) الصفدي: تمام المتون ص 207. (2) ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 70. (3) ديوان البوصيري: ص 233.

محبة آل البيت في القلوب، والتعاطف معهم على أشده، لأنهم على فضلهم ومكانتهم، لم يقيض لهم أن يصلوا إلى حقهم، وظلوا زمنا طويلا عرضة للإضطهاد، فلم يبق لهم في عهد المماليك حول ولا قوة، فهل أقل من مدحهم والإشادة بهم، يقوله شاعر لإنصافهم، ويخفي وراء مدحهم نزعته العربية، فلا يعترضه معترض، ولا يأخذه الأتراك بقوله؟ ومن هؤلاء الشعراء الذين مدحوا آل البيت شاعر يدعي الأسنائي «1» ، نظم في مدحهم قصيدة اشتهرت في عصره، يقول فيها: يا أهيل الحيّ من نجد عسى ... تجبروا قلب أسير من جراح فهو لاح لأولي آل العبا ... معدن الإحسان طرّا والسّماح آل طه لو شرحنا فضلهم ... رجعت منّا صدور في انشراح جدّكم أشرف من داس الثّرى ... في مقام وغدو ورواح وأبوكم بعده خير الورى ... فارس الفرسان في يوم الكفاح «2» وأشهر من تشيع من شعراء المديح النبوي في العصر المملوكي هو صفي الدين الحلي، الذي نظم عدة قصائد في مدح علي بن أبي طالب وآل البيت، واعتمد في تفضيل علي على ما جاء من أحاديث وروايات تنص على تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له فقال فيه: فو الله ما اختار الإله محمّدا ... حبيبا، وبين العالمين له مثل

_ (1) الأسنائي: حسن بن منصور بن محمد، نشأ رئيسا فاضلا كاملا، ورفض العمل عند السلاطين رمي بالتشيع وتوفي سنة (706 هـ) . ابن حجر الدرر الكامنة: 2/ 46. (2) الأدفوي: الطالع السعيد ص 212.

كذلك ما اختار النّبيّ لنفسه ... عليّا وصيّا، وهو لا بنته بعل وصيّره دون الأنام أخا له ... وصنوا، وفيهم من له دونه فضل وشاهد عقل المرء حسن اختياره ... فما حال من يختاره الله والرّسل «1» وقد يشتد في مدحه، فيمدحه مثلما يمدح الأنبياء، ولولا أنه ذكر سابقا أن عليّا يأتي بعد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لظننا أنه يمدح النبي في قصيدته التي جارى فيها المدائح النبوية والتي قال فيها: جمعت في صفاتك الأضداد ... فلهذا عزّت لك الأنداد زاهد، حاكم، عليم، شجاع ... ناسك، فاتك، فقير، جواد شيم، ما جمعن في بشر قطّ ... ولا حاز مثّلهن العباد فلهذا تعمّقت فيك أقوام ... بأقوالهم، فزانوا وزادوا وغلت في صفات فضلك (ياسين) ... و (صاد) وآل سين وصاد ظهرت منك للورى معجزات ... فأقرّت بفضلك الحسّاد جلّ معناك أن يحيط به الشّع ... ر وتحصي صفاته النّقاد ذاك مدح الإله فيكم فإن فه ... ت بمدح فذاك قول معاد «2» وأوضح شاعر من القرن التاسع أسباب تعلق الناس بال البيت، فذهب إلى أن حبهم فرض من الله وأن الصلاة عليهم إتمام للصلاة، فقال: يا أهل بيت رسول الله حبّكم ... فرض من الله في القرآن أنزله

_ (1) ديوان صفي الدين الحلي: ص 89. (2) المصدر نفسه: ص 88.

كفاكم من عظيم القدر أنّكم ... من لم يصلّ عليكم لا صلاة له «1» أما الشعراء المغاربة، فإن ذكرهم لآل البيت، لا يتعدى ما قالوه في غيرهم من الصحابة، ونادرا ما يخصون آل البيت بحديث خاص في شعرهم، ومعظم ذكرهم لآل البيت يأتي في قصائد المديح النبوي، أو في القصائد التي يتشوقون فيها إلى الأماكن المقدسة، أو في الشعر الذي ينظمونه عند الوصول إلى المشاهد الحجازية، فحين وصل أحدهم إلى الحجاز، وزار معاهده، وقف على قبر حمزة سيد الشهداء- رضي الله عنه- فقال: يا سيّد الشّهداء بعد محمّد ... ورضيع ذي المجد المرفّع أحمد يا بن الأعزّة من خلاصة هاشم ... سرح المعالي والكرام المجّد يا من لعظم مصابه خصّ الأسى ... قلب الرّسول وعمّ كلّ موحّد جئناك يا عمّ الرّسول وصنوه ... قصد الزّيارة فاحتفل بالقصّد واسأل إلهك في اغتفار ذنوبنا ... شيم المزور قيامه بالعوّد «2» وحين يذكرون عليا، فإنهم يذكرونه ضمن الصحابة الكرام، ويشيدون بفضائله، مثلما يشيدون بفضائلهم، ولا ينسون صلته بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، لأن الصلة بالرسول الكريم هي مدار التفاضل بين المسلمين. ويظهر مما تقدم أن مدح آل البيت قديم، بدأ منذ كان رسول الله حيا، فكان يضاف مدحهم إلى مدحه، ثم استقل بعد ذلك، حيث انقسم المسلمون حول الخلافة، وتشيع قسم منهم لعلي بن أبي طالب وأبنائه من بعده.

_ (1) السخاوي: الضوء اللامع 7/ 151. (2) المقري: نفح الطيب 2/ 661.

وقد توجه إليهم الشعراء بالمدح والإشادة، يدافعون عن حقهم في الخلافة، ويظهرون صفاتهم ومزاياهم ويذكرون قرابتهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وحين يتعرضون لهذه الصلة مع الرسول الكريم، فإنهم يخصونه بشيء من المدح، لكن هذا المدح لم يكن مقصودا لذاته عند شعراء الشيعة، ولم تكن القصائد مبنية عليه، لذلك لا يعد مديح آل البيت من المديح النبوي، وإن التقى معه في ذكر النبي الكريم، فالأصل أن تكون القصيدة منظومة من أجل مديح النبي، وإن ذكر فيها آل البيت ومدحوا، أما إذا كانت في مدح آل البيت واستدعى الموضوع مدح الرسول الكريم، فإنها لا تكون من المديح النبوي. ولا شك في أن مديح آل البيت قد أثّر في المديح النبوي أو تأثر به، فشعراء الشيعة، والفاطميون منهم خاصة، أضفوا على آل البيت من الصفات العالية ما يليق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبنوا قصائدهم على غرار قصائد المديح النبوي، واستخدموا معاني المديح النبوي، ولولا القرائن التي تظهر المقصود بالمديح، لظن قارئ تلك القصائد أنها مدائح نبوية خالصة. ويظهر أن كثيرا من مبالغات مدّاح النبي، واستغراقاتهم في الغيبيات، جاءتهم من شعراء الشيعة، ومن مجاراتهم فيما قالوه في علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- وفي الخلفاء الفاطميين، فإنهم وجدوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحق بتلك الصفات من علي بن أبي طالب. ولذلك أضحت قصائد الشيعة في مدح أئمتهم أحد المؤثرات في قصائد المديح النبوي من حيث الشكل والمضمون على حد سواء. إن هذا التداخل بين المدح النبوي ومدح آل البيت، هو الذي دفع بعض الباحثين إلى إدراج مدح آل البيت ضمن المدح النبوي، أو إلى جعله لونا من ألوانه، لكن إمعان النظر في قصائد مدح آل البيت يظهر الفرق بين الفنين الشعريين، وإن تشابها في نواح عدة، فالفصل بينهما يعتمد على المقصود من المدح، وعلى الموضوع الذي تبنى عليه

القسم الثالث - الشعر الصوفي:

القصيدة، ولا بأس في أن يرد المدح النبوي في قصائد مدح آل البيت، أو أن يرد مدح آل البيت في قصائد المدح النبوي. والملاحظة الجديرة بالتوقف عندها، هي أن الشعراء الشيعة هم أقل فئات الشعراء مدحا للنبي في قصائد مستقلة، بل إن بعضهم مدح آل البيت دون أن يشير من قريب أو بعيد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. القسم الثالث- الشعر الصوفي: عرف العرب المسلمون التصوف منذ وقت مبكر، لكنه كان بسيطا نقيا مستمدا من سيرة الرسول الكريم وأحاديثه، ومن دعوة الإسلام إلى الإعراض عن زخارف الدنيا وبهرجها، وإلى إخلاص النية لله تعالى وتقواه في السر والعلن. وقد اتخذ بعض المسلمين الصحابة قدوة لهم في معيشتهم وسلوكهم، فكان تصوفهم إسلاميا خالصا، لا تشوبه شائبة، يقتصدون في مأكلهم ومشربهم، ويعرضون عن مغريات الدنيا وملذاتها، ويتشددون في إظهار تقوى الله، وفي تطبيق تعاليم الإسلام، لا يخرجون عنها قيد أنملة. بيد أن الفتوحات الإسلامية الواسعة، واختلاط العرب المسلمين بغيرهم من الشعوب ذات الحضارات المزدهرة، والأديان المختلفة، والفلسفات المتباينة، ترك أثره في مناحي الحياة في الدولة العربية الإسلامية وخاصة ما يتعلق منها بالفكر والثقافة، فدخلت آراء جديدة إلى فكر الفرق الإسلامية المتصارعة حول الخلافة وإلى فكر أولئك الذين نبذوا الصراع الدامي المحتدم، ونأوا بأنفسهم عنه، منقطعين إلى العبادة، وإلى التفكر بخلق الله وعظمته، وشاب زهدهم شيء من الأفكار التي انحدرت إليهم من المسيحية وأديان الفرس والهند وفلسفة اليونان «1» .

_ (1) فروخ، عمر: تاريخ الفكر العربي ص 473.

وظل تيار التصوف هذا يتنامي ويشتد مع مرور الزمن، وتتضح أبعاده، وتتشكل فلسفته الخاصة المعقدة ويتشعب إلى شعب كثيرة، وفرق متنوعة، أبقى بعضها على كثير من الأصل العربي الإسلامي، وتطرف بعضها، فجاء بأفكار جديدة على العرب وعلى روح الإسلام، مما جعل الناس ينظرون إليهم نظرتهم إلى الزنادقة الخارجين عن الإسلام، وجعل القائمين بالأمر يلاحقونهم، ويقتلون من يتشدد في مذهبه، ويرفض العدول عنه. وقد اتسع تيار التصوف اتساعا كبيرا في المرحلة السابقة للدولة المملوكية، وظل على اتساعه طول العصر المملوكي كله لأسباب كثيرة، منها الغزو الخارجي الذي كاد أن يعصف بالمسلمين، واضطراب الأوضاع بسبب ذلك، واصطلاح ذلك كله مع الكوارث الطبيعية والأوبئة على العرب المسلمين، مما جعل كثيرا منهم ينصرفون إلى التصوف، ويتخذه قسم آخر طريقا للهرب من الواقع الأليم، وطلبا للأمان الروحي. وكان للمتصوفة أثر كبير في الفكر والثقافة، وخاضوا معارك فكرية مع أهل السنة من ناحية، ومع الفلاسفة من ناحية ثانية، وأضحى كثير من أفكارهم وعباراتهم، وطريقتهم في التعبير من مستلزمات الأدباء، ومن الظواهر التي تتردد في أدب العصر المملوكي والعصر الذي سبقه. ومع ذلك لم يتفق الباحثون- على الرغم من ثراء التراث الصوفي- على تحديد مذهبهم، وبيان طريقتهم، لأن المتصوفة أنفسهم لم يظهروا كل ما عندهم، وأحاطوا فكرهم بالغموض، وعبّروا عنه بالرموز، فلا يستطيع الولوج إلى عالمهم إلا كل من قطع شوطا كبيرا في اتباع طريقتهم. لذلك ظل الباحثون حائرين في فهم رموزهم، بل لم يتفقوا على معنى محدد للتصوف، فمنهم من ذهب إلى أنه مشتق من الصوف، وهو اللباس الخشن للزاهدين المعرضين عن نعيم الدنيا، ومنهم من ذهب إلى أنه مشتق من تسمية أهل الصفة من فقراء المسلمين، الذين كان الرسول الكريم يجمعهم ويرعاهم،

ومنهم من يقول: إنه مشتق من الصفاء، أساس عقيدتهم القائمة على الصفاء الروحي في علاقتهم مع خالقهم. وحين رأى المتصوفة ما يتقوّل به الناس عليهم، انبرى بعضهم لتصحيح الفكرة الخاطئة عنهم، وأعادوا طريقتهم إلى أصولها الإسلامية، وأوضحوا أنها خلاصة العبادة المفروضة على المسلمين، وقالوا: «التصوف علم انقدح في قلوب الأولياء، حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة، وهو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة» «1» . فهم يؤكدون أنهم يعملون بروح الشريعة لا ظاهرها، ولذلك لا يقدّر من لا يرى رأيهم ما يفعلونه، وقد لا يفهم ما يقولونه، فيفسره تفسيرا بعيدا عن المقصود منه، ولهذا أوضح كتّابهم أن «طريق القوم مشيّدة بالكتاب والسنة، وأنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء، وبيان أنها لا تكون مذمومة إلا إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير» «2» . لكن ذلك كله لم يذهب الشكوك عن المتصوفة، وظل الفقهاء المتشددون يهاجمونهم، وينظرون إليهم بريبة، بسبب تصرفاتهم، وبسبب ما ينسبونه لأنفسهم من كرامات، مما جعل إحدى فرقهم وهي الملاماتية، تدعو إلى ستر كرامات الأولياء، وهذه الفرقة قامت طريقتها على لوم النفس وإساءة الظن بها لكشف خباياها، ولذلك داوى أتباعها ميل النفس إلى المعاصي بالإعراض عنها، وتأديبها بمخالفتها. وقد فرقت هذه الفرقة بين كرامة الولي ومعجزة النبي حتى لا يساء الظن بالمتصوفة، وذهبت إلى أن «الرسل مضطرون إلى الظهور بمعجزاتهم، لكي تتأيد بها دعواهم، ويتيسر بها سبيلهم إلى تبليغ رسالاتهم، أما الأولياء، فليسوا في حاجة إلى هذا التأييد.. ولهذا كان ظهور النبي بالمعجزة كمالا وظهور الولي بالكرامة نقصا» «3» .

_ (1) الشعراني: لواقح الأنوار 1/ 5. (2) المصدر نفسه: 1/ 4. (3) عفيفي، أبو العلاء: الملاماتية والصوفية ص 64.

وقد اختلفت مناحي انتقادات الناس للصوفية، فمنهم من انتقدهم في عقيدتهم، وعاب عليهم اتخاذ عقائد تباين الإسلام، أو تبدو غريبة عنه، مثل قولهم بالحلول ووحدة الوجود وغير ذلك من معتقداتهم ولذلك قال فيهم الطاهر الجزري «1» وهو من مدّاح البويهيين: أرى جيل التّصوّف شرّ جيل ... فقل لهم وأهون بالحلول أقال الله حين عشقتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي «2» فإلى جانب ما أخذه عليهم في عقيدتهم، هاجم طريقتهم في الحياة، فانتقد إقبالهم على الولائم وإفراطهم في الأكل، ورقصهم في مجالس الذكر، والذي اتّخذ وسيلة للتعبير عن انفعالاتهم الروحية، وطريقا للصفاء والاستغراق في الوجد. ومثل ذلك ما قاله فيهم يعقوب بن صابر المنجنيقي «3» ، الذي ساءه لباسهم القصير وميلهم إلى شرب العصير: قد لبسوا الصّوف لترك الصّفا ... مشايخ العصر لشرب العصير وقصّروا للعشق أثوابهم ... شرّ طويل تحت ذيل قصير «4» ويظهر أن طريقة المتصوفة في لبسهم وعاداتهم في الطعام والشراب، وانحراف بعضهم عن جادة الصواب تحت ستار التصوف، قد نبّهت الناس إلى ما ينطوي عليه التصوف، إذا ابتعد عن جوهره، من مخاطر على العقيدة والمجتمع، وخاصة حين يتخذ

_ (1) الطاهر الجزري: سدّاد بن إبراهيم، شاعر مدح المهلبي وزير معز الدولة، ومدح عضد الدولة، توفي حوالي (400 هـ) ، ابن شاكر: فوات الوفيات 2/ 163. (2) الصفدي: الوافي بالوفيات 15/ 124. (3) المنجنيقي: يعقوب بن صابر بن بركات: شاعر كان متفوقا في صناعة المنجنيق، مغرى بالسلاح وصناعته، وألّف في ذلك، توفي ببغداد سنة (626 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 120. (4) ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/ 120.

التصوف للحصول على الرزق دون عمل، وللتكاسل عن الكسب، والتواكل، لهذا نجد ابن تيمية ينظم على لسان المتصوفة أبياتا، يسخر فيها من تواكلهم ومجالس ذكرهم، فيقول: والله ما فقرنا اختيارا ... وإنّما فقرنا اضطرار جماعة كلّنا كسالى ... وأكلنا ماله عيار تسمع منّا إذا اجتمعنا ... حقيقة كلّها فشار «1» وتهكم جوبان القواس «2» من كلام الصوفية وأفكارهم حول الحلول ووحدة الوجود، فقال على لسان أحدهم: متّ في عشقي ومعشوقي أنا ... ففؤادي من فراقي في عنا غبت عنّي فمتى أجمعني ... أنا من وجدي منّي في فنا أيّها السّامع تدري ما الذي ... قلت والله ولا أدري أنا «3» وللصوفية أدب كثير، وشعر غزير، عبروا به عن أفكارهم ومشاعرهم، وأظهروا فيه وجدهم وانفعالاتهم، وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر في أدبهم، لأن له مكانة سامية في معتقدهم، فهم يصفونه بالقطب الأكبر لهم، ويذهبون إلى أن أولياءهم هم خلفاؤه، وحملة سنته، لهذا يحمدون الله الذي «أتبع الأنبياء عليهم السلام بالأولياء، يخلفونهم في سننهم، ويحملون أمتهم على طريقتهم وسمتهم» «4» .

_ (1) ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 80. (2) جوبان القواس: جوبان بن مسعود بن سعد الله الدنيسري، شاعر كان نادرة في الذكاء، له نظم جيد ولم يكن يعرف النحو، توفي في دمشق سنة (680 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 303. (3) ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 305. (4) السلمي: طبقات الصوفية ص 1.

لذلك ورد ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شعرهم، ومدحه بعضهم في قصائد تصوفهم، أو في قصائد خاصة، ومن هنا جاء التداخل بين الشعر الصوفي وشعر المديح النبوي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن طريقة المتصوفة في شعرهم، وفي غزلهم الرمزي قد انتقلت إلى قصائد المديح النبوي، وقد أكثروا في مطالع قصائدهم من الحنين إلى الأماكن المقدسة، وذكر المعاهد الحجازية وانتقل هذا الأمر أيضا إلى المدائح النبوية. فالعلاقة بين شعر التصوف والمديح النبوي علاقة وثيقة، وخاصة حين ينظم المتصوفة قصائد المديح النبوي ويطبعونها بطابعهم، لكن الفيصل بين المديح النبوي والشعر الصوفي، هو أن الشعر الصوفي الذي ذكر فيه الرسول الكريم لم يكن يقصد به مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولكن الموضوع فرض على الشاعر ذكره، ولذلك لا يعد هذا الشعر من المدائح النبوية، وكذلك إذا نظم شاعر قصيدة في مدح النبي وتطرق في قصيدته إلى بعض عقائد المتصوفة، أو اتخذ طريقتهم في التعبير، فإن هذا الشعر هو من المدائح النبوية، وإن عد من الشعر الصوفي على وجه من الوجوه. وقد اتخذ المتصوفة من الغزل والخمر وسيلة للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، واتخذوهما رمزا لعواطفهم ومواجدهم، ولذلك انتقل هذا الغزل الرمزي إلى شعر المديح النبوي، ويبدو أن أوائل المتصوفة كانوا يعبرون عن مشاعرهم بأبيات غزلية يحفظونها، يبقونها كما هي، أو يغيّرون فيها لتلائم ما يريدون إيصاله إلى سامعيهم، وأخذ من جاء بعدهم ينظم على غرار هذه الأبيات، إلى أن ثبتت طريقة للتعبير عن الوجد الإلهي عند المتصوفة، وكذلك الأمر في شعر الخمر. ومن هذا الغزل الرمزي، والحنين إلى المقدسات، قول الفائز ابن شاهنشاه بن أيوب الذي ترك الإمارة وصار صوفيا: إذا نفحت ريح المحصّب من نجد ... طربت لمسراها بما هاج من وجدي

فيالك من ريح إذا هبّ نفحها ... يزيد الذي في القلب من شدّة الوقد تخبّر أخبار الغرام عن الحمى ... وتسنده نقلا عن البارق النّجدي لها أسانيد المحبّة شاهد ... صحيح بما يرويه في الحبّ عن هند «1» فنحن نرى حبا ونرى وجدا، ونرى شوقا، ولكنّا لا نعرف لمن هذا الحب وهذا الشوق، وبمن هذا الوجد وقد اصطلح القوم على أن مثل هذا الشعر، هو مواجد إلهية، وحنين إلى الصفاء الإلهي، وإلا فبماذا نفسر قول ابن بهادر القرشي «2» ، الذي يطفح بالعاطفة الجياشة والحنين المتوقد: رأي عقلي ولبّي فيه حارا ... فأضرم في صميم القلب نارا وخلّاني أبيت اللّيل ملقى ... على الأعتاب أحسبه نهارا فيا لله من وجد تولّى ... على قلبي فأعدمه القرارا ومن حبّ تقادم فيه عهدي ... فأورثني عناء وانكسارا ألا يا لائمي دعني فإنّي ... رأيت الموت حجّا واعتمارا «3» ويظهر من ختام الأبيات أن غزل الشاعر وحنينه ليس موجها إلى حبيبة بعينها، وليس بقصد به إنسانة يعرفها الشاعر ويحبها، وإنما هو غزل غير متعين، ربما كان في الكعبة المشرفة، كما انتشر بعد ذلك بين الشعراء. ويبدو أن طريقة المتصوفة هذه في غزلهم، كانت تواجه شكوكا واستهجانا

_ (1) ابن الفوطي: تلخيص مجمع الآداب 3/ 28. (2) ابن بهادر: محمد بن محمد بن محمد، مؤرخ من فضلاء الشافعية، له كتاب (فتوح النصر في تاريخ ملوك مصر) ، توفي سنة (877 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 9/ 209. (3) ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 14/ 126.

عند الناس، وهذا ما حفز ابن عربي إلى شرح ديوانه (تراجم الأشواق) ، ليظهر الأسرار الإلهية التي أودعها غزله، حتى لا يساء فهمه، أو كما قال: «وشرحت ما نظمته بمكة المشرفة من الأبيات الغزلية في حال اعتماري في رجب وشعبان ورمضان، أشير بها إلى معارف ربانية وأنوار إلهية وأسرار روحانية وعلوم عقلية وتنبيهات شرعية، وجعلت العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب لتعشق النفوس بهذه العبارات، فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها» «1» . فابن عربي يرى أن استخدام الغزل في حمل أفكار المتصوفة ومشاعرهم، هو فقط لجلب انتباه الناس، وحثهم على مطالعته، لأن الغزل يستميل القلوب، وهذه هي الحجة التي سوغ فيها النقاد القدامى وجود الغزل في مقدمات قصائد المديح، وقد فعل ابن عربي ما وعد به، فأورد قصائده الغزلية، ثم شرحها شرحا مغايرا لظاهر ألفاظها، فحوّل معانيها من الغزل إلى التصوف على نحو لم يعهد من قبل، فكانت قصائده ذات عالمين، عالم غزلي ظاهري، وعالم صوفي باطني، وقد أوضح هذا الأمر بقصيدة قال فيها: كلّما أذكره من طلل ... أو ربوع أو مغان كلّما وكذا إن قلت أنجد لي ... قدر في شعرنا أو أتهما وكذا السّحب إن قلت بكت ... وكذا الدّهر إذا ما ابتسما أو أنادي بحداة يمّموا ... بانة الحاجر أو ورق الحمى أو بدور في خدور أفلت ... أو شموس أو نبات أنجما أو بروق أو رعود أو نقا ... أو جبال أو تلال أو رما

_ (1) ابن عربي: ترجمان الأشواق ص 10.

أو خليل أو رحيل أو ربى ... أو رياض أو غياض أو حمى أو نساء كاعبات نهّد ... طالعات كشموس أو دمى كلّما أذكره ممّا جرى ... ذكره أو مثله أن يفهما منه أسرار وأنوار جلت ... أو علت جاء بها ربّ السّما فاصرف الخاطر عن ظاهرها ... واطلب الباطن حتّى تعلما «1» وعلى هذا النحو سار شعر المتصوفة في رمزية، يتفاوت فيها الشعراء، منها ما يظهر للمطلع عند إمعان النظر فيها، ومنها ما لا يظهر إلا للراسخين في العلم، وقليل هم، وعلى هذا النهج كان ذكرهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومدحه، فلا تتضح معاني المديح إلا بصعوبة، ويلفها الغموض، ويحجبها الرمز، وتجنح في معظمها إلى الغيبيات، مثل قول ابن عربي: دثّروني زمّلوني قول من ... خصّه الرّحمن بالعلم الحسن حين جلّى الرّوح بالأفق له ... وهو في غار حراء قد سجن نفسه فيه لأمر جاءه ... في غيابات الفؤاد المستكن لتجلّ قام في خاطره ... صورة مجموعة من كلّ فن كلّما أحضره في خلدي ... حنّ قلبي لتجلّيه وأنّ فلذا يقلقني سهده ... ولذا أزهد في دندن دن «2» والملاحظ أن قصيدة ابن عربي هذه في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استغرقت الحديث عن لحظة

_ (1) ابن عربي: ترجمان الأشواق ص 10. (2) ابن عربي: الفتوحات الملكية 3/ 46.

البعثة، ونزول الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأول مرة، ووصف ما جرى له من وراء ذلك، وهذا هو الجانب الذي اهتم به المتصوفة، جانب الوحي، وعالم الغيب، واتصال العالم المحسوس به، وهم الذين قامت طريقتهم على إيجاد هذه العلاقة وإقامتها بين العالمين. وقد حفلت القصيدة بالرموز الصوفية التي يحار فيها المتلقي مثل (سينية صادية، دندن دن) وهي تعبير عن الأسرار الإلهية التي حرص الصوفية على إخفائها عن غيرهم وعن المبتدئين منهم ولذلك نجد ابن عربي يقول عن نفسه: إنّي خصصت بسّر ليس يعلمه ... إلّا أنا والذي في الشّرع نتبعه هو النّبيّ رسول الله خير فتى ... بالله نتبعه فيما يشّرعه «1» ويصل ابن عربي في قوله في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الحد الذي لا مزيد بعده، فهو يذهب إلى أن الناس تعجز عن إدراك صفاته، لأنه نسيج وحده، ويشي كلامه بأن له شيئا من الصفات الإلهية، فيقول: اليثربيّ الذي لا نعت يضبطه ... ولا مقام ولا حال يعيّنه مرخى العنان على الإطلاق نشأته ... قامت فلا أحد منّا يبيّنه من قال إنّ له نعتا فليس له ... علم به عند ما يبدو مكوّنه فعلمنا إن علمناه يشير به ... وجهلنا هو في علمي يزيّنه «2» وأكثر ما تعلق به المتصوفة من معجزات الرسول الكريم، ومن سيرته، هو الإسراء والمعراج، فإن هذه المعجزة التي انتقل فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جوار ربه وعاد، والتي

_ (1) ابن عربي: الفتوحات المكية 4/ 153. (2) المصدر نفسه: 4/ 80.

تمثّل أرقى اتصال بين عالمنا المادي والعالم الروحي، أو بين الأرض والسماء، هو ما يجعله المتصوفة نصب أعينهم، في مسعاهم الحثيث ليعرجوا بأرواحهم إلى السماء، وليفنوا في خالقهم، لذلك حرص شعراء المتصوفة على ذكر هذه المعجزة بالإشارة حينا، وبالتفصيل حينا آخر، لأن الحديث عنها يعبر عن طموحاتهم، ويحمل آراءهم، ويتيح لهم الخوض في الغيبيات كما يحلو لهم، وبالقدر الذي يشبع رغبتهم في الانطلاق إلى العالم النوراني البعيد عن مادية الأرض وأسر الجسد، وفي ذلك يقول ابن عربي: ألم تر أنّ الله أسرى بعبده ... من الحرم الأدنى إلى المسجد الأقصى إلى أن علا السّبع السّماوات قاصدا ... إلى بيته المعمور بالملأ الأعلى إلى السّدرة العليا وكرسيّه الأحمى ... إلى عرشه الأسنى إلى المستوى الأزهى فكان تدلّيه على الأمر إذ دنا ... من الله قربا قاب قوسين أو أدنى وشال حجاب العلم عن عين قلبه ... وأوحى إليه في الغيوب الذي أوحى «1» ومن القضايا المتعلقة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أدب الصوفية وكتبهم، قضية العلاقة بين النبوّة والولاية، والمفاضلة بينهما، فقد أخذ على المتصوفة تفضيلهم الولي على النبيّ، وهذا ما أحرجهم، لذلك تصدوا لشرح هذه القضية وبيان مذهبهم في ذلك، فقال ابن عربي «هذه مسائل لا يعلمها إلا الأكابر من عباد الله، الذين هم في زمانهم بمنزلة الأنبياء زمن النبوة، وهي النبوة العامة، فإن النبوة انقطعت بوجود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «2» فابن عربي يذهب إلى أن كلامهم في مسألة النبوة، ووصف كبارهم بالأنبياء، لا يفهمه على حقيقته إلا الأكابر من عباد الله، وهؤلاءهم أقطاب الصوفية وكبارهم، وإلا فإن الناس سيفهمون كلام الصوفية فهما خاطئا.

_ (1) ابن عربي: الفتوحات المكية 3/ 381. (2) المصدر نفسه: 2/ 3.

وعاد ليفرق بين النبوة والولاية، وخاصة فيما يتعلق بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ولهذا مقامه من حيث هو عالم أتمّ من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع.. فإذا سمعت أحدا من أهل الله يقول أو ينقل إليك عنه أنه قال: الولاية أعلى من النبوة.. أو يقول: إن الوليّ فوق النبي والرسول، فإنه يعني بذلك في شخص واحد هو أن الرسول عليه السلام، من حيث هو ولي، أتمّ من حيث هو نبي رسول» «1» . وقد نظم رأيه في هذه المسألة شعرا، لكنه زاد هذه المسألة غموضا، ولم يبيّن ما يقصده بمقام النبوة حين قال: بين الولاية والرّسالة برزخ ... فيه النّبوّة حكمها لا يجهل لكنّها قسمان إن حقّقتها ... قسم بتشريع وذاك الأوّل عند الجميع وثمّ قسم آخر ... ما فيه تشريع وذاك الأنزل «2» أما ابن الفارض «3» ، فلم يكن ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنده على هذه الدرجة من الوضوح، ولم يكن مدحه له ظاهرا متعينا، مما حدا بالباحثين إلى تخمين ذلك تخمينا، فسلطان العاشقين تدرج في عشقه ووجده من الأولياء والصالحين والصحابة وغيرهم من شيوخ التصوف، في قصيدته اليائية التي افتتحها بالغزل والتشوق للمقدسات فقال: سائق الأظعان يطوي البيد طي ... منعما عرّج على كثبان طي كان لي قلب بجرعاء الحمى ... ضاع منّي هل له ردّ علي «4»

_ (1) ابن عربي: فصوص الحكم ص 135. (2) ابن عربي: الفتوحات المكية 2/ 252. (3) ابن الفارض: عمر بن علي بن مرشد الحموي، حجة أهل الوحدة وحامل لواء الشعر، سلطان المحبين والعشاق زاهد قانع ورع، جاور بمكة زمنا، وظهرت له كرامات عجيبة، فأمّه جميع الناس للزيارة والتبرك، له ديوان شعر مشهور، توفي سنة (632 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 149. (4) ديوان ابن الفارض: ص 3.

ثم تطور حبه وارتقى، فأضحى موضوعه ذات النبي الكريم، وذلك في قصيدته التي يقول فيها: وجاء بأسرار الجميع مفيضها ... علينا ختما على حين فترة فعالمنا منهم نبيّ ومن دعا ... إلى الحقّ منّا قام بالرّسليّة وعارفنا في وقتنا الأحمديّ من ... أولي العزم منهم آخذ بالعزيمة وما كان منهم معجزا صار بعدهم ... كرامة صدّيق له أو خليفة «1» فهو يرى الرسول حاملا للأسرار الإلهية أو ما يسميها ابن عربي جميع العلوم، وهو الذي أفاضها على أتباعه، ويتحدث ابن الفارض هنا عن المتصوفة الذين جعلوا من أنفسهم خلفاء للرسول الكريم، أخذوا عنه الأسرار الإلهية، ولذلك أضحى عالم المتصوفة نبيّا ورسولا في زمانه، تظهر على يديه الكرامات، مثلما كانت تظهر المعجزات على أيدي الأنبياء. وهذا ما تحدث عنه ابن عربي في التفريق بين الولاية والنبوة، ولم يتجاوز ابن الفارض في ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما جاء به هنا، لكنه أكثر من ذكر الأماكن المقدسة والمعاهد الحجازية، في مقدمات قصائده، وهذه المقدمات أضحت من لوازم قصيدة المدح النبوي. وقد عارض شعراء المديح النبوي قصائد ابن الفارض، وحولوها من الوجد الصوفي إلى المديح النبوي، وخاصة قصيدتاه المشهورتان، التائية واليائية. وما عدا ذلك استغرق ابن الفارض في مواجده الصوفية، والعشق الإلهي، حتى سمي بسلطان العاشقين. ويظهر لنا أن المتصوفة وصلوا إلى مدح النبي الكريم على طريقتهم، وأفردوا له

_ (1) ديوان ابن الفارض: ص 54.

قصائد خاصة، وهذا ما جعل الدكتور زكي مبارك يقطع بأن المتصوفة «ابتدعوا فن المدائح النبوية» «1» . وأن «المدائح النبوية من فنون الشعر التي أذاعها التصوف» «2» . ولم يظهر لي ما ذهب إليه الدكتور زكي مبارك، فالمدائح النبوية ظهرت في زمن متقدم على هذا الشعر، وخاصة في المغرب العربي، وأما ما ظهر عند المتصوفة من مدح نبوي، فهو لا يزيد عما ظهر عند الشعراء من الشيعة أو السنة على حد سواء، وإذا أفرد المتصوفة المديح النبوي في قصائد خاصة، فإن مدحهم هذا من المديح النبوي العام، يفترق عن باقي شعر التصوف الذي ذكر فيه النبي الكريم ضمن موضوعات كثيرة، كما هو الأمر في قصائد ابن الفارض وابن عربي وأضرابهما من المتصوفة. والقضية الهامة التي يحسن الوقوف عندها في شعر التصوف، والتي تتعلق بالمدائح النبوية هي قضية الحقيقة المحمدية، التي قال بها شعراء المدائح النبوية جميعهم، والتي اختلف الباحثون فيمن أتى بها أول مرة. فمنهم من قال إن المتصوفة هم الذين ابتدعوها، ومنهم من قال إن الشيعة هم الذين أدخلوها إلى الفكر العربي، ومنهم من ذهب إلى أن أهل السنة هم الذين قالوا بالحقيقة المحمدية، وأخذها الشيعة والمتصوفة عنهم. والحقيقة المحمدية، أو نظرية تنقل النور المحمدي، أو قدم الوجود المحمدي، هي القول بأن النور المحمدي موجود قبل هذا الوجود، وأنه تجسد في شخص آدم، وظل ينتقل من نبي إلى نبي حتى ظهر في شخص النبي صلّى الله عليه وسلّم، والصوفية يذهبون إلى أن هذا النور لا زال ينتقل من قطب إلى قطب، وسوف يظل كذلك إلى يوم الدين. وقد عبّر الدسوقي عن اعتقاد الصوفية في الحقيقة المحمدية، وانتقالها إلى الأقطاب في قوله:

_ (1) مبارك، زكي: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق 1/ 88. (2) مبارك، زكي: المدائح النبوية في الأدب العربي ص 17.

نعم نشأتي في الحبّ من قبل آدم ... وسرّي في الأكوان من قبل نشأتي أنا كنت في العلياء مع نور أحمد ... على الدرة البيضاء أو في خلوّتي أنا كنت في رؤيا الذّبيح فداؤه ... بلطف عنايات وعين حقيقة أنا كنت مع عيسى على المهد ناطقا ... وأعطيت داودا حلاوة نغمة أنا كنت مع نوح بما شهد الورى ... بحارا وطوفانا على كفّ قدرة أنا ذلك القطب المبارك أمره ... فإنّ مدار الكلّ من حول ذروتي «1» وقد شغلت نظرية الحقيقة المحمدية حيزا كبيرا من تفكير ابن عربي، لأنه يؤكد على مبدأ وراثة الأقطاب للأنبياء، وهذا يعلي من شأن الصوفية، وكبارهم على وجه الخصوص، ويجعل المريدين يمتثلون لكل ما يأتي به القطب. ففي معرض حديثه عن خزائن الجود والكرم، قال: «هي الأسماء الإلهية المتجلية في الموجودات على اختلاف أنواعها، فمحمد صلّى الله عليه وسلّم يمد المخلوقات بها، لأنه هو وحده المظهر الكامل لها جميعها، وبذلك استحق اسم عبد الله، والله اسم جامع لجميع الأسماء الإلهية. ولأن محمدا أو حقيقة محمد واسطة الخلق، وحلقة الاتصال بين الذات الإلهية والمظاهر الكونية، فهو بمثابة العقل الأول في الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، وبمثابة المسيح في الفلسفة المسيحية، وبمثابة المطاع في فلسفة الغزالي» «2» . وأوضح ابن عربي رأيه في الحقيقة المحمدية من طريق آخر، هو طريق الاصطفاء الإلهي للرسول الكريم، فهو خيار من خيار من خيار، فقال: «واصطفى واحدا من خلقه، هو منهم وليس منهم، هو المهيمن على جميع الخلائق، جعله عمدا أقام عليه قبة

_ (1) الشعراني: لواقح الأنوار 1/ 244. (2) ابن عربي: فصوص الحكم 2/ 5.

الوجود، جعله أعلى المظاهر وأسناها، صح له المقام تعيينا وتعريفا، فعلمه قبل وجود طينة البشر، وهو محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «1» . وهنا يشير ابن عربي إلى الحديث الشريف الذي نظمه شعراء المديح النبوي، وهو «إني عبد الله في أم الكتاب وإن آدم لمنجدل في طينته» «2» . وقد سبق الحلاج هؤلاء المتصوفة إلى القول بالحقيقة المحمدية في كتابه (الطواسين) ، حين جعل نور النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم أساس أنوار الأنبياء، وجعل وجوده أقدم من القدم، وقبل أن يخلق الكون، فقال: «أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر، وأقدم من القدم، سوى نور صاحب الكرم، همّته سبقت الهمم، وجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم» «3» . وقال أيضا: «كان مشهورا قبل الحوادث والكوائن والأكوان، ولم يزل مذكورا قبل القبل، وبعد البعد، والجوهر والألوان» «4» . لاقت الحقيقة المحمدية قبولا عند معظم شعراء المديح النبوي، المنتمين إلى اتجاهات دينية مختلفة، فتسابقوا إلى إيضاحها، وصبّها في قوالب شعرية معبرة، يزيدون عليها ما يلائم مذهب كل منهم، ويقفون في نسبها عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينا، ويجاوزونه إلى علي بن أبي طالب حينا آخر، ويصلون بها إلى الخلفاء والأقطاب في أحيان كثيرة، وكلهم يطلب القداسة لما يذهب إليه، ويدعم قوله بروايات غيبية وأحاديث شريفة، وجعلوا من الحقيقة المحمدية أقصى ما يمدحون به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) ابن عربي: الفتوحات المكية 2/ 73. (2) مسند الإمام أحمد: 4/ 127- 128. وفي سنن ابن ماجه (ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي وآدم في طينته) وقد ضعّف المحقق سند الحديث- كتاب الطب، حديث- 45- وحكم ابن عراق الكناني بوضعه في كتابه تنزيه الشريعة: 1/ 341. (3) الحلاج: كتاب الطواسين ص 11. (4) المصدر نفسه: ص 12.

واتخذوها ردا وموازاة لما يذهب إليه النصارى في المسيح، حين احتدم الجدال بين المسلمين وأهل الكتاب إبّان الحروب الصليبية، وذهبوا في تلوينها وتغييرها كل مذهب، لكنهم جميعا حافظوا على جوهرها القائم على قدم النور المحمدي الذي خلق قبل خلق الكون، والذي فاضت عنه المخلوقات جميعها، فأضحى بذلك علّة الكون، كما يقول ابن الفارض على لسان النبي الكريم: ولولاي لم يوجد وجود ولم يكن ... شهود ولم تعهد عهود بذمّة فلا حيّ إلّا عن حياتي حياته ... وطوع مرادي كلّ نفس مريدة «1» ومدح ابن عربي الرسول الكريم بصفات كثيرة، منها المكانة السامية، وإصلاح الزمان، ونفاذ إرادته لكنه بدأ مدحه بالحقيقة المحمدية: ألا بأبي من كان ملكا وسيّدا ... وآدم بين الماء والطّين واقف فذاك الرّسول الأبطحيّ محمّد ... له في العلا مجد تليد وطارف «2» وقد يذكر الشعراء المتصوفون الحقيقة المحمدية، ويدّعون وراثتها، وكأنهم بذلك يمدحون أنفسهم، بعد أن مدحوا صاحبها، وكما كان آل البيت يمدحون بالانتساب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان الخلفاء يحرصون على أية نسبة إليه، مهما كانت بعيدة، ولو كان تشابها في الاسم، أو تشبها بالعمل، فإن المتصوفة مدحوا أنفسهم، أو افتخروا بالانتساب إلى الرسول الكريم ووراثة علمه عن طريق الحقيقة المحمدية الخالدة، التي وجدت قبل خلق الكون، وستستمر إلى يوم القيامة، فأمّنوا بذلك إشادة لأنفسهم، وأضفوا عليها شيئا من القداسة، جعلت الناس تقدرهم، والسلاطين يتصاغرون أمامهم، فلا عجب أن يدعي ابن عربي أنه ولد الأنبياء فيقول:

_ (1) ديوان ابن الفارض: ص 55. (2) ابن عربي: الفتوحات المكية 2/ 143.

أقول لآدم أصل الجسوم ... كما أصل الرّسالة شرع نوح وأنّ محمّدا أصل شريف ... عزيز في الوجود لكلّ روح أنا ولد لآباء كرام ... فنوري في الإضاءة مثل يوح فبرّ الوالدين عليّ فرض ... فيا نفسي على التّفريط نوحي أنا بن محمّد وأنا بن نوح ... كما أني ابن آدم في الصّحيح فيا من يفهم الألغاز هذا ... لشأن رموزنا بالعلم نوحي «1» فابن عربي يذهب إلى أن روح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصل أرواحنا، فهو أول الآباء روحا، وآدم أول الآباء جسما، ونوح أول رسول أرسل، ومن كان قبله إنما كان نبيا. وهو قد ورث هؤلاء جميعا على وجه من الوجوه، وحتى لا يؤخذ كلامه مأخذا خاطئا، ويفهم على نحو يسيء رأي الناس في عقيدته، توارى خلف الرمز، وقال لسامعه أو قارئه، إن ما يقوله رموز يصعب فهمها. وهكذا انتشر مدح رسول الله بالحقيقة المحمدية، فأضحت من لوازم المديح النبوي، يقولها الشعراء على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وتقع على ألسنة الكتاب في خطب كتبهم، وخاصة المتصوفة منهم، مثل خطبة كتاب إيقاظ الهمم، فعند ما وصل المؤلف إلى الصلاة على النبي قال: «والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، منبع العلوم والأنوار، ومعدن المعارف والأسرار» «2» . وقد حفلت قصائد المتصوفة في مدح النبي الكريم بألفاظهم وتعابيرهم، فوصفهم

_ (1) ابن عربي: الفتوحات المكية 3/ 50- يوح: الشمس. (2) ابن عجيبة الحسيني: إيقاظ الهمم ص 3.

للرسول يختلف عن وصف غيرهم له، فهو الغوث والقطب ومفيض العلوم ومنبع الأسرار، وغير ذلك من اصطلاحاتهم. وأكثر ما يتضح الاتجاه الصوفي في المديح النبوي عند ابن زقاعة «1» ، فديوانه حافل بالقصائد الصوفية، ومنها قصائد في مدح رسول الله على طريقتهم، ففي إحداها نجد مقدمة طويلة في ذكر الأماكن المقدسة، ثم يصل إلى مدح النبي الكريم، فيقول: أحمد الماجد الكريم المفدّى ... صاحب المكرمات والمعجزات قلت لمّا رأيته في منامي ... يا رفيع العماد والدّرجات يا طراز الجمال يا حلّة المج ... د وتاج العلا وكهف العناة أنت عين الزّمان يا صاحب ال ... وقت وغوث الأنام في المعضلات أنت سرّ الوجود يا كعبة الوج ... د وأمانا للخائفين والخائفات «2» وتظهر قصائده ما يمكن أن يقوله صوفي من مواجد وغيبيات ورموز، وغزل وخمر، وتوسل، بالإضافة إلى مدح النبي الكريم على النحو الذي رأيناه، يضيف إليه أحيانا ما تواضع عليه شعراء المديح النبوي من معاني التفضيل والهداية، وذكر المعجزات، وبعض القيم التقليدية. ومن الشعراء المتصوفة الذين مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الجعبري «3» ، الذي أظهر في قصائده الشوق والوجد، وأضفى على النبي الكريم كل الصفات التي مدحه بها الشعراء

_ (1) ابن زقاعة: إبراهيم بن بهادر القرشي، تعانى الخياطة، ثم طلب العلم وتصوف، وقال الشعر، توفي (810 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 1/ 130. (2) ديوان ابن زقاعة، ورقة 3. (3) الجعبري: إبراهيم بن عمر بن إبراهيم، عالم بالقراآت من فقهاء الشافعية، له نظم ونثر، استقر ببلد الخليل في فلسطين، له كتب كثيرة معظمها مختصرات. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 412.

على اختلاف مذاهبهم، فهو يتشوّق إلى روح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مظهرا حبه ووجده به، فيقول: فإن متّ من وجدي غراما بحبّكم ... فقولوا قتيل، مات وهو متيّم فموتي حياتي في هوى ساكن الحشا ... مليح الجمال صلّوا عليه وسلّموا «1» ويقترب الجعبري من الحقيقة المحمدية، حين يجعل الرسل جميعا، يطلبون شفاعة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ويتوسلون به، وهذا يعني أنه موجود قبلهم، وأنهم يعرفون قدره ومكانته عند الله تعالى، فيقول: فادم لمّا أن توسّل باسمه ... تقبّل منه ربّه كلّ دعوة ونوح من الطّوفان نجّاه ربّه ... بدعوته من كلّ هول وكربة ونجّى إبراهيم لمّا دعا ربّه ... وأخمدت النّيران من بعد قوّة وموسى وعيسى بالنّبيّ توسّلا ... وعمّ البرايا فضل خير البريّة «2» والملاحظ أن الشاعر المتصوف يمهد لقصيدته في مدح النبي بما يمهد لقصائده في الوجد والعشق الإلهي، ويضفي على الرسول الكريم الصفات التي كان يستخدمها في قصائد التصوف للإشارة إلى الذات الإلهية حينا، وللإشادة بكبار المتصوفة حينا آخر، منطلقا من أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو أول المتصوفة وقطبهم. وهذا ما نراه في نبوية صوفية لعلي وفا «3» قال فيها:

_ (1) ديوان الجعبري: ص 21. (2) المصدر نفسه: ص 29. (3) علي وفا: علي بن محمد بن محمد القرشي، نشأ في أسرة متصوفة، اشتغل بالأدب والوعظ، وكثر أتباعه، له عدة تصانيف منها ديوان شعر وموشحات، توفي سنة (807 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 6/ 21.

قطب النّهى غوث العوالم كلّها ... أعلى عليّ ساد أحمد من حمد روح الوجود حياة من هو واجد ... لولاه ما تمّ الوجود لمن وجد عيسى وآدم والصّدور جميعهم ... هم أعين هو نورها لمّا ورد لو أبصر الشّيطان طلعة نوره ... في وجه آدم كان أوّل من سجد «1» فالحقيقة المحمدية ظاهرة في الأبيات والنبي هو سبب الوجود وهو نور الأنبياء وهداهم، وهو القطب أو غوث العوالم كلها، وهذه كلها معان صوفية لا يني الشعراء المتصوفة يذكرونها في شعرهم. والشاعر هنا يستغرق في عالمه الصوفي، فلا يظهر لنا الفصل بين عالمه المتخيل وبين حقيقة ما يتحدث عنه، لأن الألفاظ عند المتصوفة تستحيل إلى رموز قد تشفّ وقد تستغلق، فلا يفكّها إلا من اتّبع طريقتهم وسار شوطا كبيرا في مدارجهم ورياضتهم الروحية. نصل من ذلك كله إلى أن الشعر الصوفي، تيار قائم بذاته، يعبر عن أحوال المتصوفة وتطلعاتهم وعقائدهم ومواجدهم. وقد جاء ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا الشعر، لأنه شعر ديني، فلا بد من أن يذكر صاحب الدين فيه، ولأن بعض المتصوفة تطلعوا إلى مقام النبوة، ولأن من معتقدهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو القطب الأول للصوفية، وهم ورثته، لكن هذا الذكر ظل متفاوتا ما بين الإشارة الغامضة إلى المديح الصريح، وهذا الذكر لا يدخل الشعر الصوفي ضمن المدائح النبوية، لأنه لم ينظم أصلا من أجل مديح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعند ظهور المدائح النبوية، شارك المتصوفة في هذا الفن الجليل مشاركة واسعة فاعلة، وأثّروا فيه تأثيرا كبيرا، فكانت مقدماتهم الغزلية، وحنينهم إلى المعاهد المقدسة، من الأشياء التي حافظت عليها المدحة النبوية، بالإضافة إلى كثير من أفكارهم واصطلاحاتهم وعباراتهم التي أضحت شائعة متداولة في الشعر العربي عامة، وشعر

_ (1) المجموعة النبهانية: 2/ 55.

القسم الرابع - التشوق إلى المقدسات:

المديح النبوي خاصة، لأن التصوف أضحى من الثقافة العامة التي يتأثر بها الناس على اختلاف درجاتهم ومشاربهم. القسم الرابع- التشوق إلى المقدسات: إن ذكر ديار الأحبة، والتشوق إلى الديار عند الابتعاد عنها، معروف في الشعر العربي منذ بدايته، فإن المكان الذي يعيش فيه المرء ويألفه، تمتزج إلفته بنفسه، حتى إذا ابتعد عنه أخذت نوازع الحنين إليه تتحرك في النفس، فيحزن لفراقه، ويدعو له بالسقيا والخير، ويستعيد ذكرياته السعيدة والحزينة عما جرى له في ذلك المكان. وكان العرب في جزيرتهم دائمي الارتحال من مكان لآخر، طلبا للماء والكلأ والأمان، فكان ذلك سببا لهياج الشوق إلى الأماكن التي ارتحلوا عنها، ولاسترجاع الذكريات، ومن هنا جاء وقوف الشعراء العرب على أطلال الديار التي تركها أصحابها، يناجونها، ويستنطقونها عن أصحابها، وخاصة إذا كان للشاعر في الراحلين حبيبة، أخذها الترحال بعيدا عنه. وقد أضحى ذكر الأطلال تقليدا ثابتا عند الشعراء، قلما يخرجون عنه، وخاصة في شعر المديح، وكثر عندهم ذكر الديار والدعاء لها ومناجاتها، ووصفوا ما تثير في نفوسهم من عواطف وأهواء. وكان لمرابع الجزيرة العربية النصيب الأوفر من الذكر عند الشعراء، لأن قسما منهم تركها عند الفتح الإسلامي وما بعده، ولأن قسما آخر جاراهم في ذكر هذه الأماكن التي أضحت رمزا أكثر منها حقيقة، وتمهيدا لذكر الحبيبة والغزل، فجرير مثلا يحيي منازل الحجاز بقوله: حيّ المنازل إذ لا نبتغي بدلا ... بالدّار دارا وبالجيران جيرانا

نهدي السّلام لأهل الغور من ملح ... هيهات من ملح بالغور مهدانا أحبب إليّ بذاك الجزع منزلة ... بالطّلح طلحا وبالأغصان أغصانا «1» ويذكر عبيد الله بن قيس الرقيات «2» بعض منازل الحجاز في مطلع قصيدة له، فيقول: ما هاج من منزل بذي العلم ... بين لوى المنجنون فالسّلم «3» ويستذكر التّهامي «4» حبيبته التي تركها في الحجاز، فيقول: أستودع الله في أرض الحجاز رشا ... في روضة القلب مأواه ومرتعه «5» وكان التشوق إلى أرض الحجاز في بداية الأمر من أهله الذين ابتعدوا عنه لسبب أو لآخر، وخاصة عند ما يكون هذا الابتعاد قسريا، مثلما جرى لأبي قطيفة ابن أبي معيط، الذي نفاه ابن الزبير عن المدينة، فأظهر شوقه إلى المدينة المنورة ومعاهدها، وقبر الرسول الكريم، فقال: ألا ليت شعري هل تغيّر بعدنا ... قباء وهل زال العقيق وحاجره وهل برحت بطحاء قبر محمّد ... أراهط غرّ من قريش تباكره لهم منتهى حبّي وصفو مودّتي ... ومحض الهوى منّي وللنّاس سائره «6»

_ (1) ديوان جرير: 1/ 160. (2) ابن قيس الرقيات: عبد الله بن قيس بن شريح، عدّ شاعر قريش في الإسلام، خرج مع مصعب بن الزبير ومدحه، ثم أمّنه عبد الملك بن مروان فمدحه. الأصفهاني: الأغاني 5/ 73. (3) ديوان ابن قيس الرقيات: ص 7. (4) التّهامي: علي بن محمد بن نهد، شاعر مشهور من تهامة، زار الشام والعراق، وولي خطابة الرملة، ثم رحل إلى مصر، فاعتقل فيها وقتل سنة (416 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 3/ 204. (5) ابن منقذ، أسامة: المنازل والديار 2/ 4. (6) الأصفهاني: الأغاني 1/ 28.

وأكد الأبيوردي، الشاعر العربي الذي عاش بعيدا عن الجزيرة العربية، هذا التوجه في حنين أهل الجزيرة إليها، فأكثر في شعره من ذكر معاهدها، وأفرد في ديوانه قسما خاصا لذلك أسماه كتاب النجديات، وجعل من الشوق للجزيرة العربية ما يؤكد به عروبته في وسط أعجمي، فقال في وصف حاله وحال راحلته بعد أن أسقط عليها ما يجد في نفسه من لواعج الحنين: أحنّ وللأنضاء بالغور حنّة ... إذا ذكرت أوطانها بربا نجد وتصبو إلى رند الحمى وعراره ... ومن أين تدري ما العرار من الرّند «1» والشاعر الذي اشتهر بحنينه إلى الحجاز عامة وللمدينة خاصة هو الشريف الرضي، الذي حفل ديوانه بقصائد كثيرة، تفيض حنينا لمرابع أجداده الهاشميين، وقد اختلط حنينه هذا بشعور ديني إلى المقدسات التي تضم رفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورفاة أجداده العلويين، وشاب هذا الحنين طموح سياسي، بوصول آل البيت إلى حقهم في الخلافة، ومن هنا كثر ذكر الأماكن المقدسة في شعره وشعر المتشيعين، ومن ذلك قوله: سقى الله المدينة من محلّ ... لباب الماء والنّطف العذاب وجاد على البقيع وساكنيه ... رخيّ الذّيل ملآن الوطاب صلاة الله تخفق كلّ يوم ... على تلك المعالم والقباب «2» وقد وصل في حجازياته هذه إلى قصائد رائعة، أظهر فيها مقدرته الفنية، وأوضح مشاعره العارمة، وما يجول في نفسه من أفكار وعواطف، فقال في إحداها يخاطب محبوبته المزعومة:

_ (1) ديوان الأبيوردي: 2/ 167. (2) ديوان الشريف الرضي: 1/ 91.

يا ظبية البان ترعى في خمائله ... ليهنك اليوم أنّ القلب مرعاك الماء عندك مبذول لشاربه ... وليس يرويك إلّا مدمعي الباكي هبّت لنا من رياح الغور رائحة ... بعد الرّقاد عرفناها بريّاك سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماك «1» وإذا كان الشعراء العرب جميعا قد اتخذوا من ذكر الديار مقدمات لقصائدهم، فإن شعراء الشيعة قد اتخذوا من ذكر الأماكن المقدسة في الحجاز مقدمة لقصائد تشيعهم، وصار ذكر الأماكن المقدسة من لوازم قصائد الشيعة مدحا ورثاء وفخرا، يفتتحون بذكرها قصائدهم، ويحملونّها أشواقهم وعواطفهم، ويؤكدون من خلال ذلك أصالة آل البيت وفضلهم وحقهم في الخلافة، فعند ما رثى الصاحب بن عباد أحد العلويين، لم يجد أكثر من الأماكن المقدسة تأثيرا في النفس واستنهاضا للهمم، حين تشارك الناس في البكاء عليه فقال: تبكيه مكّة والمشاعر كلّها ... وحجيجها والنّسك والإحرام تبكيه طيبة والرّسول ومن بها ... وعقيقها والسّهل والأعلام «2» ومثلما تعلق الشيعة بالأماكن المقدسة، لأنها موطن آباء الهاشميين، فإن المتصوفة تعلقوا بها أيضا، لأنها تمثل أقدس أقداسهم، فهي شهدت البعثة والوحي، أو اتصال الأرض بالسماء، ذلك الاتصال الذي يسعون إليه بكل طاقاتهم، ولأن الأماكن المقدسة خير ما يستفتتحون بذكرها قصائدهم الدينية التي يتشوقون بها ويظهرون مواجدهم

_ (1) ديوان الشريف الرضي: 2/ 593. (2) الثعالبي: يتيمة الدهر ص 286.

ويبدون حنينهم لبيت الله على الأرض ولمثوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطب الأقطاب وسيد الخليقة، الذي يحجّون إليه بأرواحهم، ولأنها أضحت رموزا من رموزهم الكثيرة التي يعبّرون بها عن طريقتهم، لذلك نجد شعر ابن الفارض مثلا يفيض بأسماء الأماكن الحجازية مثل قوله في قصيدته التي حمّلها سلامه وتحياته إلى مرابع الحجاز، يتشوق إليها متمنيا أن تهبّ عليه نسمة منها، أو أن يصل إلى جرعة من مائها: هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم ... أم بارق لاح في الزّوراء فالعلم أرواح نعمان هلّا نسمة سحرا ... وماء وجرة هلّا نهلة بفم يا سائق الظّعن يطوي البيد معتسفا ... طيّ السّجلّ بذات الشّيح من إضم ناشدتك الله إن جزت العقيق ضحى ... فاقر السّلام عليهم غير محتشم «1» والملاحظ أن ابن الفارض يحشد أسماء الأماكن الحجازية في شعره، وربما لم يفته اسم مكان منها، وقد تابعه الشعراء في الإكثار من ذكر أسماء المعاهد الحجازية، وخاصة شعراء المديح النبوي. وقد مزج ابن الفارض وغيره من المتصوفة ذكر الأماكن المقدسة في الغزل الرمزي مثلما يمزج الشعراء ذكر الديار والوقوف على الأطلال بغزلهم وشوقهم إلى محبوباتهم، وكما يكون ذكر الديار عند الشعراء مدخلا إلى الغزل وتذكر المحبوبة وعرض مشاعرهم نحوها وحنينهم إليها يكون ذكر المقدسات عند المتصوفة مدخلا للغزل الرمزي، وبث لواعج الوجد، وإظهار مشاعر المحبة الإلهية، مثل قول العفيف التلمساني «2» :

_ (1) ديوان ابن الفارض: ص 67. (2) العفيف التلمساني: سليمان بن علي بن عبد الله، شاعر سكن دمشق وباشر بعض الأعمال فيها، وكان يتصوف على طريقة ابن عربي في أقواله وأفعاله، ألّف عدة كتب منها شرح الفصوص لابن عربي وله ديوان شعر. توفي سنة (690 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 412.

لولا الحمى وظباء بالحمى عرب ... ما كان في البارق النّجدي لي أرب وفي رياض بيوت الحيّ من إضم ... ورد جنيّ ومن أكمامه النّقب وبي لدى الحلّة الفيحاء غصن نقا ... يهفو فيجذبه حقف فينجذب أعاهد الرّاح أنّي لا أفارقها ... من أجل أنّ الثّنايا شبهها الحبب «1» فالمتصوفة أكثروا من ذكر الأماكن المقدسة، ومزجوه بالغزل الرمزي، وهم دائمو الحنين إليها، لأنها تحمل عندهم قيما سامية، ترمز إلى أحوال غيبية، ولأنها شهدت وحي السماء وحياة قطب الأقطاب، سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم لذلك أخذ الحج عندهم مقاما يفوق مناسكه المعروفة، مثل غيره من العبادات، التي لا يقفون عند أدائها الظاهر، وإنما يتعدون ذلك إلى سرّها أو باطنها كما يقولون. فكانوا يتشوّقون لمكة، ويتحسرون إذا فاتتهم زيارتها. وتكون الحسرة على أشدها، حين يرى المشتاق نياق الحجيج، وقد عادت براكبيها الذين فازوا برضا الله تعالى وزيارة بيته، وضريح رسوله، وتمتعوا بمشاهدة الأماكن المقدسة، وتقلبوا بين مشاهدها، فيقول: يا نياق الحجيج لا ذقت سهدا ... بعدها لا ولا تجشّمت وخدا لا فدينا سواك بالرّوح منّا ... أنت أولى من بات بالرّوح يفدى يا بنات الذّميل كيف تركتن ... ن شعاب الغضا وسلع ونجدا مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا ... بوجوه رأت معالم سعدى «2»

_ (1) الصفدي: الوافي بالوفيات 4/ 56. (2) ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 25.

فالمؤمنون جميعا في شوق إلى الأماكن المقدسة، وإلى أداء فريضة الحج، وزيارة قبر النبي الكريم، أما المتصوفة فإن طريقتهم في العباد تجعل شوقهم إلى المقدسات يستبد بهم، ويأخذ عليهم أنفسهم. وهكذا اشتد ذكر الأماكن المقدسة للدواعي المختلفة التي عرضنا لها، وأضحى هذا الذكر فنا شعريا قائما بذاته، يعبر به الشعراء عن شوقهم للأماكن التي رفع الله قدرها، والتي شهدت ولادة رسول الله ونشأته ومبعثه ووفاته. ولا يوجد في هذا الفن ما يفرض على الشعراء قيودا من أي نوع، لذلك ذهب به الشعراء كل مذهب، وأجادوا في قوله أيما إجادة، وعبّروا من خلاله بحرية تامة عن عواطفهم الدينية، ومشاعرهم السامية، وأظهروا فيه مقدرتهم الفنية، فجعلوه نفثات أنفسهم، ورفيف أرواحهم، ووجدوه أنسب ما يقدمون به للشعر الديني، وقصائد المديح النبوي منه خاصة، فأحيوا تلك الأماكن وناجوها، واستنطقوا تلك المعاهد وحاوروها، وحمّلوا النسيم والبرق رسائلهم إليها، وأضفوا على نياقهم المشاعر الإنسانية، وخلعوا عليها عواطفهم وأحاسيسهم، فأشركوها معهم في شوقهم وحنينهم، مثل قول جعفر السراج (ت 500 هـ) : قضت وطرا من أرض نجد وأمّت ... عقيق الحمى مرخى لها في الأزمّة وخبّرها الرّوّاد أنّ لحاجر ... حيا نورّت منه الرّياض فحنّت وغنّى لها الحادي فأذكرها الحمى ... وأيّامها فيه وساعات وجرة وقد شركتني في الحنين ركائبي ... وزدن علينا رنّة بعد رنّة «1» وقد أسكن الشعراء معاهد الحجاز محبوباتهم، وأرسلوا إليهن شوقهم ووجدهم،

_ (1) الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 7/ 155.

وليست محبوباتهم من لحم ودم، وإن فصّلوا في محاسنهن، فهنّ رموز لما يعتلج في نفوس الشعراء، تسهّل عليهم التعبير الشجي المؤثر. وتظهر الرمزية أكثر حين نحس أن الشاعر يخاطب الحجاج على طريقة مخاطبة الظعن، فمخاطبة الحجاج لا تسمح له بإظهار مشاعره بحرارة ودقة، لذلك يرمز لهم بجماعة النساء اللواتي يقطعن الفيافي من معهد إلى معهد، والشاعر يتتبع أخبارهن بلهفة وشوق، ويحسدهن على حلولهن في تلك المرابع التي يحنّ للوصول إليها، مثل قول القاضي الرشيد بن الزبير «1» : رحلوا فلا خلت المنازل منهم ... ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم ما ضرّهم لو ودّعوا ما أودعوا ... نار الغرام وسلّموا من أسلموا هم في الحشا إن أعرقوا أو أشأموا ... أو أيمانوا أو أنجدوا أو أتهموا «2» ومضى الشعراء يبثون المعاهد الحجازية أشواقهم، ويظهرون لها مواجدهم، فهم في حنين دائم إليها، وفي حرقة لمشاهدتها، يذرفون العبرات لعجزهم عن الوصول إليها، فيستحيل وجدهم بها وجدا عاما، أو حالا دائمة، تشبه نزعة الصوفي الدائمة إلى الصفاء، أو كما أوضح ابن جياء الكاتب «3» في حديثه عن حاله عند ما قال: حتّام أجري في ميادين الهوى ... لا سابقا أبدا ولا مسبوق

_ (1) الرشيد الغساني: أحمد بن علي بن إبراهيم بن الزبير، أديب فقيه، له مشاركة في علوم عدة، تقدم عند أمراء مصر ووزرائها، وأوفد داعيا إلى اليمن فادّعى الخلافة فقبض عليه، توفي سنة (563 هـ) ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/ 197. (2) الصفدي: الوافي بالوفيات 7/ 220. (3) ابن جياء الكاتب: محمد بن أحمد بن حمزة بن جياء، لم يكن مثله في العراق في الترسل والأدب والنظم الحسن، لكنه ناقص الحظ، توفي سنة (579 هـ) . الصفدي: الوافي بالوفيات 2/ 112.

ما هزّني طرب إلى رمل الحمى ... إلّا تعرّض أجرع وعقيق شوق بأطراف البلاد مفرّق ... يحوي شتيت الشّمل منه فريق «1» ويرسل الشعراء أشواقهم وحنينهم إلى الأرض المقدسة، حينما يكونون بعيدين عنها، ولا يستطيعون الوصول إليها، مرة يحملونها للراحلين إلى الحجاز للحج أو للعمرة أو للتجارة أو لأي شأن من شؤون الدين والدنيا، ومرة أخرى يحملونها للبرق والنسيم، فحين يشاهد الشاعر البرق يومض من جهة الحجاز يتذكر المرابع التي يتحرق شوقا لرؤيتها، فيخاطبه بقوله: أعديا برق ذكر أهيل نجد ... فإنّ لك اليد البيضاء عندي أشيمك بارقا فيضلّ عقلي ... فواعجبا تضلّ وأنت تهدي «2» وافتنّ الشعراء كذلك في تحميل النسيم أشواقهم وحنينهم إلى معاهد الحجاز ومشاهده، وجعلوها تشاركهم في وجدهم ومحبتهم للأماكن المقدسة، مثل الحاجري «3» الذي جعل النسيم مهيجا لأشجانه، وحاملا لسلامه إلى أهل البقاع الطاهرة، فقال: هيّجت وجدي يا نسيم الصّبا ... إن كنت من نجد فيا مرحبا جدّد فدتك النّفس عهد الصّبا ... بذكرك الحيّ وتلك الرّبا إن المقيمين بسفح اللّوى ... من لا أرى لي عنهم مذهبا أبقوا الأسى لي بعدهم مطمعا ... والدّمع حتى نلتقي مشربا «4»

_ (1) الصفدي: الوافي بالوفيات 2/ 112. (2) ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 237. (3) الحاجري: عيسى بن سنجر بن بهرام، شاعر تركي الأصل من أهل إربل، له ديوان شعر، توفي سنة (632 هـ) ابن خلكان: وفيات الأعيان 1/ 398. (4) ديوان الحاجري: ص 19.

وأفاضوا في ذكر المقدسات، معبرين عن عواطفهم الدينية ومشاعرهم الروحية، وانتشر هذا الأسلوب من التعبير، فلا يكاد يخلو ديوان شاعر منه في ذلك الوقت، وانتقلوا به من التوجه الديني إلى توجهات أخرى، أهمها الغزل الذي قرن به في هذا الموضع، وإن كان هنا رمزيا، فإن الغزل الآخر الذي ذكر الشعراء معه الأماكن المقدسة لم يكن رمزيا، فقد أضحت أسماء الأماكن الحجازية ذات ظلال محببة إلى النفوس، وإيحاآت مثيرة للشجون، يقوى بها الغزل ويؤثر، فالتلعفري «1» الذي أدمن الخمر وتعاطى القمار، يقول في مقدمة موشح غزلي: ليس يروي ما بقلبي من ظما ... غير برق لائح من إضم إن تبدّى لك بان الأجرع ... وأثيلات النّقا من لعلع يا خليلي قف على الدّار معي ... وتأمّل كم بها من مصرع واحترز واحذر فأحداق الدّمى ... كم أراقت في رباها من دمي «2» وكأن ذكر الأماكن المقدسة تعويض عن ذكر الأطلال والوقوف عليها، فلم يعد من المناسب أن يقف الشاعر على أطلال لم يعرفها ولم يرها، فساقه الاتجاه الأدبي السائد إلى الديار التي انتشر ذكرها، وهي الديار المقدسة. ويظهر هذا التوجه بوضوح في غزل البهاء زهير «3» ، فلا ندري ما هي الظلال التي تلقيها كلمات مثل البان والحمى في شعره، وهل هي نفسها الظلال التي تتركها في النفس حين تستخدم في غير هذا الموضع من قوله:

_ (1) التلعفري: محمد بن يوسف بن مسعود الشيباني: شاعر تنقل بين مدن الشام، ابتلي بالقمار، له ديوان شعر، توفي سنة (672 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 3/ 349. (2) ديوان التلعفري ص 37. (3) البهاء زهير: زهير بن محمد بن علي المهبلي، شاعر كاتب، رقيق الشعر، خدم الملك الصالح أيوب، له ديوان شعر، توفي سنة (581 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 276.

يحدّثني زيد عن البان والحمى ... أحاديث يحلو ذكرها ويطيب فقلت لزيد إنّها لبشارة ... وإنّي لنشوان بها وطروب «1» لكن ذكر الأماكن المقدسة ظل- في الغالب- على حرمته، لا يخرج به الشعراء عما يتركه في النفس من شجى وشوق ومشاعر سامية، وإن امتزج بالغزل، فالغزل يظل رمزيا. وعند اتساع المديح النبوي، ورسوخه رسوخ فن مستقل له أصوله ومقوماته، صار ذكر الأماكن المقدسة والتشوق إليها أصلا من أصول هذا الفن، ومن لوازمه، يقدم به الشعراء لقصائد مديحهم النبوية، ويجعلونه بديلا لذكر الأطلال والديار في قصائد المديح التقليدية، مثل افتتاح محمد بن علوان الصنعاني «2» لمدحة نبوية بقوله: أهدت نسيم الصّبا في طيبها خبرا ... عن أهل طيبة لمّا أن سرت سحرا فاستنشق الصّبّ منها نفحة فغدا ... يميل سكرا ولا والله ما سكرا «3» فالشاعر أراد استمالة سامعيه بذكر المكان المناسب لموضوعه، وبذلك الأثر الذي يتركه في نفوس المتلقين، وبنشوة التقوى التي يحملها النسيم من مدينة رسول الله، فيتهيّأ المتلقون لسماع قصيدته، ويدخلون في الجو القدسي الذي يلائم مقام النبي. وقدم الكارمي (عبد اللطيف) «4» لمدحته النبوية بذكر بعض المعاهد الحجازية، ممزوجا بالغزل الرمزي، الذي يرقّق عواطف السامع، ويأخذه إلى عالم عابق بالتقوى والقداسة، وهو ما يلائم موضوع القصيدة، ويستميل القلوب، ويشحن الوجدان بالمشاعر الدينية السامية، فقال:

_ (1) ديوان البهاء زهير ص 10. (2) محمد بن علي الصنعاني، ولد بصنعاء وتحول إلى مكة وتردد إلى دمشق سنة 722 هـ. الدرر الكامنة: 4/ 51. (3) ابن حجر: الدرر الكامنة 4/ 51. (4) عبد اللطيف بن محمد بن مسند الكارمي التاجر، سمع وحدث وأوقف أوقافا، توفي سنة 714 هـ. الدرر الكامنة: 2/ 410.

لي بالأجيرع دون وادي المنحنى ... قلب تقلّبه الصّبابة والضّنا أتبعتهم يوم استقلّت عيسهم ... بحشاشة ألفت معاناة العنا ونثرت من جفني عقيق مدامع ... حين التّفرّق فاستحالت أعينا «1» وكان لحنين المغاربة وتشوقهم للأماكن المقدسة، لون خاص، نبع من بعد بلادهم عن الحجاز، وما يتجشمونه في الرحلة إليه، فكان الوصول إلى الأماكن المقدسة عندهم غاية لا تدرك، وأمنية الأماني، وخاصة في الأوقات التي ينقطع فيها الطريق، وتحفّه المخاطر في البر والبحر. وقد سكنت في مسامعهم أسماء الأماكن التي شهدت انبثاق الدين السامي، وشهدت صراع المسلمين مع المشركين وتقلّب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينها، داعيا مجاهدا متلقيا لوحي السماء، وبانيا أسس الدولة العربية الإسلامية. لذلك يجتاحهم شوق جارف لرؤية هذه الأماكن، فإذا قعدت ببعضهم الموانع عن تحقيق رغبتهم الملحة التي تسكن نفوسهم، يكون حالهم مثلما وصفه ابن العريف «2» في قوله: شدّوا المطيّ وقد نالوا المنى بمنى ... وكلّهم بأليم الشّوق قد باحا سارت ركائبهم تندى روائحها ... طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحا نسيم قبر النّبيّ المصطفى لهم ... روح إذا شربوا من ذكره راحا يا واصلين إلى المختار من مضر ... زرتم جسوما وزرنا نحن أرواحا

_ (1) ابن حجر: الدرر الكامنة 2/ 410. (2) ابن العريف: أحمد بن محمد بن موسى الصنهاجي الأندلسي فاضل شهر بالصلاح، له مشاركة في العلوم وشعر، صنف كتاب (محاسن المجالس) على طريق القوم، توفي سنة (526 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الهذب 4/ 112.

إنّا أقمنا على عذر وعن قدر ... ومن أقام على عذر كمن راحا «1» ولننظر إلى مدى الشوق للمقدسات الذي يشعر به المغاربة، حين يدخل الشاعر ابن سهل إلى نفوس المؤمنين ويخرج بخفاياها، فظهر لهفتهم لرؤية المقدسات، ومدى تعلقهم بحب رسول الله، وهو إنما يتحدث عن نفسه وعمّا يجول فيها، ويعمّمه على صحبه من المؤمنين الذين شدوا الرحال إلى الديار المقدسة، فيقول: وركب دعتهم نحو يثرب نيّة ... فما وجدت إلا مطيعا وسامعا يسابق وخد العيس ما اسوّدّ منهم ... فيغنون بالشّوق المدى والمدامعا تضيء من التّقوى خبايا صدورهم ... وقد لبسوا اللّيل البهيم مدارعا تكاد مناجاة النّبيّ محمّد ... تنمّ بها مسكا على الشّمّ ذائعا «2» وهم دائمو الوصف للركب، يشركون مشاعر الشوق بين الراحل والراحلة، ويضفون عليها أحاسيس إنسانية ليظهروا مدى حنينهم لرؤية المقدسات، فإذا تكرر تخلف أحدهم عن قافلة الحج، قال متحسرا مع الجياني بعد وصف الراحلين: حملت أشباهها فهي بهم ... كقسيّ قد أقلّت أسهما أوهن الوخد قواهنّ فإن ... لاح نجد خلت فيها لمما مدّت الأعناق لمّا رمّلت ... بنقا الرّمل وأكناف الحمى من عذيري من زمان قد مضى ... أقرع السّنّ عليه ندما حسرتا إن لم أبلّغ أملي ... قبل أن يأتي الرّدى مخترما «3»

_ (1) ابن خلكان: وفيات الأعيان 1/ 169. (2) ديوان ابن سهل ص 157. (3) ابن عبد الملك الأنصاري: الذيل والتكملة 5/ 294.

فإذا ما أسعف الدهر أحدهم بالوصول إلى الأماكن المقدسة، وشاهد على البعد المدينة المنورة، اتّقد شوقه وزاد وجده، وعلت همّته، وأسرع بالمسير على الرغم من بعد السفر ومبلغ الجهد، وانتابته مشاعر الهيبة والقداسة وشعر كأنه دخل عالما آخر أو تهيأ للدخول. وقد وصف أحدهم ما حصل حين شارف الحاج المغربي المدينة المنورة، فقال: «لما دخلنا المدينة، ومعنا الوزير أبو عبد الله بن أبي قاسم بن الحكيم، وكان أرمد، فلما دخلنا ذا الحليفة أو نحوها، نزلنا عن الأكوار، وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابا لتلك الآثار، وإعظاما لمن حلّ تلك الديار، فأحس بالشفاء، فقال: ولمّا رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبّا وبالتّرب منها إذ كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا وإنّ بقائي دونه لخسارة ... ولو أنّ كفّي تملأ الشّرق والغربا «1» من كل ذلك يبدو لنا أن فن التشوق للأماكن المقدسة، كان في بداية أمره حنينا من أهل الحجاز إليه، وكان بديلا في القصائد الدينية عن الوقوف على الأطلال، ثم ظهر معبرا عن الشوق والحنين عند الذين لم يستطيعوا أداء فريضة الحج وزيارة تلك المعاهد الطاهرة، ومعبرا عن العشق والوجد عند المتصوفة الذين جعلوا للأماكن المقدسة مكانا هاما في طريقتهم، فانتشر هذا الفن الشعري، واستقل بقصائد خاصة به، ثم أضحى من لوازم المديح النبوي، وأفضل ما يقدم به للمدحة النبوية. وإذا كان التشوق للمعاهد الحجازية نابعا من قدسيتها، وهذه القداسة تعود فيما تعود، إلى شهودها ولادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعثه ودفنه فيها، فإن ذكر الأماكن المقدسة

_ (1) المقري: نفح الطيب 2/ 623.

القسم الخامس - المولد النبوي:

يفترق عن المديح النبوي، لأن قصائده لم تنشأ في الأصل لمدح النبي الأمين، وإن ورد ذكره في بعضها. ويلتقي فن التشوق للمقدسات مع المديح النبوي أحيانا، عند ذكره للرسول الكريم، وحين يقدم لقصائد المديح النبوي به، فهذا الفن له علاقة بالمديح النبوي، لكنه لا يعد مدحا نبويا خالصا، ذلك الفن الذي تقاطع مع فنون أخرى، وافترق عنها، وهو موضوع دراستنا هذه. القسم الخامس- المولد النبوي: إذا كان الناس يحتفلون بذكرى عظائمهم، وكان أصحاب الديانات المختلفة يحتفلون بميلاد أنبيائهم وأصحاب شرائعهم، فإنه يحق للمسلمين أن يحتفلوا بميلاد سيد الرسل، وأفضل البشر، لأن الاحتفال بمولده يذكّر الناس بعظمته وكماله وأثره في البشرية، وإن كان من المفروض أن ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يغرب عن بال مسلم. وأن تمثّل حياته باق نصب عينيه، ولكن لا بأس من أن يتضافر الذكر الفردي مع الذكر الجماعي، ليظل القدوة والمثل في الأنفس والقلوب، بعد أن أخذت الحياة ومشاغلها الناس شيئا ما عن مجالس الذكر والتدبّر. ويبدو أن من فكر بإحياء ليلة المولد والاحتفال بها، رأى ما عند غير المسلمين من المناسبات المماثلة، ولمس الحاجة إلى إقامة مثل هذه الاحتفالات لغايات كثيرة، منها ما هو ديني ومنها ما هو سياسي لأن الأخبار المتعلقة بالمولد النبوي لا ترقى إلى أقدم من الدولة الفاطمية، وعصر الحروب الصليبية، ولم يكن الاحتفال بهذه الذكرى في أيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا في أيام الصحابة والتابعين، ولذلك عدت بدعة، رآها بعض المسلمين بدعة حسنة، فحبّبوها، ورآها بعضهم الآخر بدعة يساء الاحتفال بها، فانتقدوها.

ورأى بعض الباحثين في المولد النبوي ضربا من التأليف في السيرة النبوية، وعدوه نوعا من التلخيص لها، يقتصر على مدة محددة من حياة الرسول، هي طور الولادة والطفولة والنشأة وما سبقها من إرهاصات، وقد تتسع لتشمل الشباب حتى البعثة، «وهو من قبيل ما يعده العلماء الدينيون ليلقوه في الموسم الرسمي، العام بعد العام، في المساجد أو غيرها، وقد زخرت بهذا النوع خزانة التأليف، حتى أصبحت الرسائل التي وضعت فيها لا تدخل تحت حصر» «1» . وقد اختلف الباحثون حول الزمن الذي ظهر فيه المولد النبوي، والمكان الذي احتفل به، فأرجعه الدكتور عمر فروخ إلى القرن الرابع الهجري، وإلى الدولة الفاطمية، لأن الفاطميين أرادوا «أن يجعلوا لحكمهم السياسي وجاهة، فاتخذوا عددا من المناسبات المشهورة، وتألفوا بها عوام الناس بإقامة المادب العامة وبإقامة معالم الزينة بالأنوار وبقراءة السيرة، وأحب العامة ذلك» «2» . وإذا كان الفاطميون قد فكروا في المولد النبوي، فإن الظن يذهب إلى اطلاعهم على الأديان الآخرى، التي أخذوا عنها بعضا من عقائدهم، فأخذوا معها فكرة الاحتفال بالموالد. للغايات التي ذكرها الدكتور فروخ. ويؤيد هذا الرأي وأن الدولة الفاطمية هي التي سنّت الاحتفال بالمولد النبوي وموالد آل البيت، ذكر المقريزي لمولد نبوي عند الفاطميين سنة (516 هـ) ، ووصفه للاحتفال بهذا المولد، وما يتمّ فيه من قراءة القرآن وإلقاء الخطب، وإنشاد المدائح، وتوزيع الصدقات، وقد عدد المقريزي الموالد الفاطمية، فوصل بها إلى ستة موالد، هي مولد النبي الكريم ومولد علي ومولد فاطمة ومولد الحسن ومولد الحسين- رضي الله عنهم- ومولد الخليفة الحاضر «3» .

_ (1) سيرة ابن هشام: 1/ 8. (2) فروخ، عمر: تاريخ الأدب العربي 6/ 111. (3) الخطط المقريزية: 1/ 292.

وعزا بعض الباحثين ظهور المولد النبوي إلى زمن متأخر، وذهبوا إلى أن أمير إربل مظفر الدين كوكبوري المتوفى سنة (630 هـ) ، صهر صلاح الدين الأيوبي، هو أول من احتفل بالمولد النبوي، ووضع قواعد هذا الاحتفال، وأن أهل الأندلس اصطنعوا هذا الاحتفال في بلادهم، فكان ابن دحية المتوفى سنة (633 هـ) هو أول من وضع دراسة عن هذه الاحتفالات في كتابه (التنوير في مولد السراج المنير) «1» . فعادة تعظيم المولد النبوي بدأت في المشرق، «وانتقلت إلى المغرب والأندلس على يد أبي العباس العزفي بسبتة، فكان يعقوب المريني أول من احتفل به في المغرب، ثم انتقل هذا الرسم إلى الأندلس» «2» . وكان لأبي سعيد كوكبوري بن علي بن بكتكين، صاحب إربل غاية من وراء احتفاله بالمولد النبوي، فقد جهد في إصلاح إربل وزيادة عمرانها، و «أراد بعد هذه الاصلاحات العمرانية أن يجعل إربل قبلة الأنظار، يقصدها الناس من جميع الطبقات، فجعل مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم موسما تمتد فيه الحفلات اثني عشر يوما» «3» . وربما لم يكن البحث عن مظاهر العظمة هي وحدها وراء احتفاء كوكبوري بالمولد النبوي، أو المشاعر الدينية عنده، بل قد يكون طلب المغفرة، والتوسل بالرسول الكريم، الدافع المباشر لإقامته هذه الاحتفالات الباذخة في ذكرى المولد، فإنه «كان عسوفا في استخراج المال، ويحتفل بمولد النبي صلّى الله عليه وسلّم وينفق عليه الأموال الجليلة» «4» . وانتشر الاحتفال بالمولد النبوي في الأقطار العربية الإسلامية بسرعة كبيرة، وأضحى من الأعياد الدينية التي يشارك فيها الناس جميعا، وصار له تقاليده الثابتة

_ (1) جمال الدين، محسن: احتفالات الموالد النبوية ص 5. (2) ابن الأحمر: نثير الجمان ص 236. (3) ابن خلكان: وفيات الأعيان 7/ 12. (4) ابن الوردي: تتمة المختصر 2/ 235.

الراسخة، وقد نقل المؤرخون كثيرا من أوصاف الاحتفال بالمولد النبوي في أقطار مختلفة متباعدة، وكلها متشابهة تقريبا، فصاحب إربل الذي عزيت إليه بداية الاحتفال بالمولد النبوي، أو وضع شعائر هذا الاحتفال، كان احتفاله به يقصر الوصف عن الإحاطة به، «كان الفقهاء والصوفية والوعاظ والقرّاء والشعراء يتوافدون إليه من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول، فيعمل القباب ويزيّنها ويقعد في كل قبة جوق من المغاني، وجوق من أرباب الخيال وأصحاب الملاهي، يتفرج عليها الناس، ويفعل هو كذلك، ثم يخرج الإبل والبقر قبل المولد بيومين، ويزفّها بالطبول والمغاني والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان وينحرها ويطبخها، فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة، ثم ينزل وبين يديه الشموع المشتعلة ... فإذا كان صبيحة يوم المولد، أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية، ثم ينزل إلى الخانقاه حيث تجتمع الأعيان والرؤساء وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب (كرسي) للوعاظ، ويعرض الجند في ذلك النهار، ثم يقدم الطعام لعامة الناس، وللمجتمعين عند الكرسي، ويخلع على المتوافدين عليه، ويبيت تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات إلى بكرة» «1» . ويظهر أن ابن دحية «2» قد وصل إلى إربل، فرأى اهتمام صاحبها بالمولد النبوي، فعمل له كتاب «التنوير في مولد السراج المنير» «3» . فإذا كان هذا حال صاحب إربل مع الاحتفال بالمولد النبوي، فكيف يكون حال المماليك الذين حرصوا على مظاهر البذخ والعظمة في كل عمل من أعمالهم؟

_ (1) ابن خلكان: وفيات الأعيان 4/ 117. (2) ابن دحية الكلبي: عمر بن الحسن بن علي، أديب مؤرخ حافظ للحديث، رحل من الأندلس واستقر بمصر من كتبه (نهاية السول في خصائص الرسول) و (التنوير في مولد السراج المنير) توفي سنة (633 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 260. (3) ابن خلكان: وفيات الأعيان 4/ 312.

لقد حرص المؤرخون على ذكر الاحتفال بالمولد النبوي في كل سنة من سنوات حكم المماليك الذين اهتموا به اهتماما كبيرا، وحرصوا على المشاركة به، وإظهار تقواهم وتعظيمهم لصاحب المناسبة، وكرمهم مع رجال الدين والعامة، فكان السلطان يقيم خيمة المولد، و «تقام أحواض العصير، يبدأ الاحتفال عند الظهر وينتهي عند ثلث الليل، فيتعاقب القارئون والمنشدون والوعاظ، وتمد الأسمطة بأنواع الحلوى والمأكولات، وعند ثلث الليل يبدأ السماع الذي يستمر حتى الفجر، فتأتي طوائف الصوفية، طائفة بعد طائفة، ويستمرون في الذكر، والسلطان جالس في صدر الخيمة، كذلك يترقب عامة الناس المولد، ليقيموا الولائم، ويتصدقوا على الفقراء، ويظهروا السرور» «1» . وهكذا انتشرت الاحتفالات بالموالد النبوية بين المسلمين، فكانوا يستمعون فيها إلى قراءة القرآن الكريم والمواعظ وأناشيد المتصوفة والمدائح النبوية، ويقيمون الولائم، ويوسعون على أنفسهم وعلى فقرائهم في الطعام والحلوى والأشربة، ويتصدقون، ويظهرون السرور، وكان يشارك في هذا الاحتفال جميع الناس من السلطان إلى من لا شأن له في المجتمع، فهي مناسبة للتضامن الاجتماعي، ومناسبة لتقرب الحاكمين من المحكومين، ومناسبة مفرحة للفقراء الذين لا يجدون ما يمسك رمقهم. لكن هذا الانتشار السريع للاحتفال بالمولد النبوي لم يمرّ بسلام، فقد وقف بعض علماء الدين ضد الاحتفال به، وعدوه بدعة غير مستحبة، لأن الاحتفال به اختلط ببعض التصرفات التي لا تتفق مع روح الدين، مثل الإفراط بالزينة، وإقامة الملاهي، واستغلال المناسبة لأغراض سياسية أو للتظاهر والتباهي، ويظهر أن الظواهر السلبية كانت ترافق الاحتفالات بالموالد النبوية منذ وقت مبكر، إذ كان أولي الأمر يعتسفون في تحصيل المال، ويظلمون الناس من أجل البذخ في الاحتفالات الدينية، وكان بعض العلماء على حذر من كل بدعة.

_ (1) عاشور: العصر المماليكي في مصر والشام ص 321 والمقريزي: السلوك ص 1162 وابن إياس: بدائع الزهور 2/ 494.

وقد يكون مأخذ العلماء على المحتفلين بالمولد النبوي، يتعدى المظاهر، وما يفعل به من أعمال لا تتلائم مع الشريعة، وينصبّ على ما يقال في هذا المولد، والذي يختلط بعقائد فاطمية تسرّبت إليه، لأن الفاطميين هم من أوائل الذين احتفلوا بالمولد النبوي، ولا شك أنهم جعلوه مناسبة لترويج عقائدهم، وكذلك المتصوفة، الذي أدخلوا بعض آرائهم إلى المولد النبوي، فهم الذين كانوا يحيون احتفال المولد، ويقيمون حلقات الذكر فيه، ويتغنون بأناشيدهم، والمعروف عنهم ميلهم إلى الغيبيات، ووضع قصص المعجزات، مثلهم مثل الوعاظ الذين يؤلّفون قصص الوعظ الحافلة بمبالغات الترغيب والترهيب، فدخلت القصص الخيالية إلى الموالد النبوية التي جعلها المتصوفة «أحبولة يتصيّدون بها أهواء الناس ... فهم لا يكتفون بقراءتها في الذكرى، ولكنهم يقرأونها حين تخلق المناسبات كحفلات الأعراس» «1» . ولذلك كانت مقاومة بعض علماء المسلمين لهذه الأفكار نابعة من حرصهم على ألا يصبح المولد النبوي مدخلا للأفكار الغريبة التي تشوه صفاء الشريعة، أو مدخلا لإضفاء نوع من الشرعية على بعض ألوان الملاهي، لهذا أطنب أحد العلماء «في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء والتغني بالآلات المحرمة عند عمل المولد الشريف» «2» . بيد أن كتاب المولد النبوي كانوا متحمسين للمولد، لا يعبؤون بما يقال عنهم، ويدعمون توجههم باراء علماء الدين الذين استحبوا هذه البدعة، فجاء في مولد الهدى: «وقد أقر الإمام أبو شامة «3» شيخ الإمام النووي، «4» ، وابن الجوزي «5» ،

_ (1) مبارك، زكي: المدائح النبوية في الأدب العربي ص 245. (2) الديار بكري، حسين: تاريخ الخميس ص 223. (3) أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي، مؤرخ محدث، ولي بدمشق دار الحديث الأشرفية، له كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين) توفي سنة (665 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 318. (4) النووي: يحيى بن شرف الحزامي، علامة بالفقه والحديث مولده ووفاته في نوى من قرى حوران، تعلّم في دمشق وأقام بها طويلا، من كتبه (المنهاج في شرح صحيح مسلم) وحلية الأبرار، توفي سنة (676 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 354. (5) ابن الجوزي: عبد الرحمن بن علي القرشي، علامة عصره في التاريخ والحديث، كثير التصانيف، منها (تلبيس إبليس) توفي سنة (597 هـ) . ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 140.

والحافظ ابن حجر، هذه السنّة الحسنة التي تكثر فيها الصدقات والمبرّات، والمعروف والخير، والبر والإحسان، والتي تشعر، وتدعو الناس إلى محبة النبي وتعظيمه، واتباع هديه صلّى الله عليه وسلّم وكثرة الصلاة والسلام عليه» «1» . وعلى الرغم من جدال المعارضين والمحبذين، انتشرت الموالد النبوية، وتسابق المؤلفون إلى وضعها، يميلون إلى التأريخ وسرد السيرة حينا آخر، ويوردون الأحاديث الشريفة والروايات بسندها مرة، ويتركون لأنفسهم العنان مرة أخرى، وبعض هذه الموالد تقتصر على النثر فقط، وبعضها الآخر يمتزج فيها الشعر بالنثر، وكلما تقدمنا في الزمن يرجح نصيب الشعر فيها، ويميل النثر إلى التوقيع الموسيقي، والتقطيع الإيقاعي، ليسهل إنشاده والتغني به، وهذا يظهر أن وضع هذه الموالد، كان هدفه الإنشاد في مناسبة المولد، وفي غيرها من المناسبات الدينية. وقد حفلت بعض الموالد بالخرافات، والقصص المختلقة التي لا تثبت عند أدنى نظر فيها، مثل الروايات التي ذكرت على لسان الصحابة والتابعين، والتي تحثّ على الاحتفال بالمولد النبوي وتزكّيه، فقد جاء في المولد المنسوب إلى ابن حجر مثلا: «قال أبو بكر الصديق- رضي الله عنه-: من أنفق درهما على قراءة مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم كان رفيقي في الجنة ... وقال عمر: من عظّم مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد أحيا الإسلام ... عثمان: من أنفق درهما على قراءة مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم فكأنما شهد غزوة بدر وحنين ... علي: من عظّم مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان سببا لقراءته، لا يخرج من الدنيا إلا بالإيمان، ويدخل الجنة بغير حساب» «2» .

_ (1) الصباغ، عبد الهادي: مولد الهدى والنور ص 3. (2) مولد ابن حجر: ص 8.

فهل كان المولد مكتوبا على عهد هؤلاء الصحابة؟ وهل عرف الصحابة الاحتفال بهذه المناسبة؟ فالظاهر من هذه الروايات التي تعظم قراءة المولد النبوي وتحث عليه، أن واضعيها أرادوا أن يجعلوا للمولد مهابة في النفوس وقداسة، وأرادوا دفع الناس إلى الاعتقاد ببركته، وإلى البذل على الاحتفال به، ووعدوهم أعلى المراتب عند الله تعالى فرفعوا قراءة المولد على العبادات، ولم يتركوا عالما أو فقيها له شهرة إلا نقلوا عنه كلاما في فضائل قراءة المولد، فنقلوا عن الحسن البصري «1» قوله: «وددت لو كان لي مثل جبل أحد ذهبا، فأنفقه على قراءة مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم» . وقال معروف الكرخي «2» : (من هيّأ طعاما لأجل قراءة مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم وجمع إخوانا، وأوقد سراجا، ولبس جديدا وتبخّر وتعطر، تعظيما لمولد النبي صلّى الله عليه وسلّم حشره الله يوم القيامة مع الفرقة الأولى من النبيين، وكأنه في أعلى عليين» «3» . أيمكن أن يقال في هذا الكلام غير أنه مختلق، وضع لإرساء تقاليد معينة لقراءة المولد النبوي؟ ومثل هذا يقال عمّا نقل على لسان الإمام الرازي «4» : «ما من شخص قرأ مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم على ملح أو برّ أو شيء آخر من المأكولات، إلا طرحت فيه البركة.. وغفر

_ (1) الحسن البصري: الحسن بن يسار، تابعي إمام أهل البصرة وحبر الأمة في زمنه، عالم فقيه فصيح ناسك، ولد في المدينة وشب في كنف علي بن أبي طالب، عظمت هيبته في القلوب فكان يدخل على الولاة فيأمرهم وينهاهم. ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/ 69. (2) معروف الكرخي: معروف بن فيروز، أحد أعلام الزهاد المتصوفين، من موالي الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم، اشتهر بالصلاح وقصده الناس للتبرك به نشأ وتوفي ببغداد سنة (200 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 1/ 360. (3) مولد ابن حجر: ص 9. (4) أبو حاتم الرازي: محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي، حافظ للحديث من أقران البخاري ومسلم، ولد في الري وتنقل في البلاد الإسلامية، له كتاب طبقات التابعين وكتاب الزينة وتفسير القرآن العظيم، توفي سنة (277 هـ) .

الله لآكله.. وإن قرأ على ماء.. فمن شرب من ذلك الماء، دخل قلبه ألف نور ورحمة» «1» . إن استعراض ما جاء في الموالد النبوية من روايات وقصص، يثير العجب والاستغراب، فقد جعلوا لقراء المولد النبوي والذين يقيمون الاحتفال به من الكرامات والثواب، ما يلبي لهم حوائج الدنيا، ويؤمن له حسن العقبى في الآخرة، والأمر جميعه مختلق لا يثبت عند النظر فيه. بل وصل الأمر بمختلقي هذه الروايات إلى تكفير تارك قراءة المولد النبوي، فقال أحدهم: «نص الفقهاء على كفر تاركه، لإشعاره بعدم حبّه له عليه الصلاة والسلام، وحيث أن عمل المولد انعقد عليه الإجماع من الأئمة الذين فضلهم في الأمة شاع، فلتاركه مع القدرة عليه العذاب المهين لإبدائه باتباع غير سبيل المؤمنين» «2» . وعلاوة على ذلك فقد جعلوا من طقوس قراءة المولد، القيام عند الوصول إلى خبر المولد، ونقلوا عن الفقهاء وغيرهم، أنهم «أجمعوا على القيام عند وصول القارئ إلى خبر ولادته، لما فيه من سرور أمته وإيقانهم بقرب مشاهدته، حيث أن القيام من علامات التوقير والاحترام» «2» . ولذلك نفر بعض كتّاب المولد النبوي من مثل هذه الروايات المختلقة، وحذروا منها، واشترطوا أن يكون المولد من «تحرير عالم متقن بخلاف الخرافات الشائعة بين الجهّال، فذلك ممّا يجب إنكاره» «3» . ولم يقتصر ما يستنكر من الموالد النبوية على القصص والروايات المختلقة التي تهدف إلى جلب اهتمام العامة إلى الموالد، وإثارة خيالهم، بل ظهر في وقت متأخر في

_ (1) مولد ابن حجر ص 10. (2) ملص، محمد جمال الدين: التحفة المرضية ص 30. (3) الحلواني الخليجي: العلم الأحمدي ص 27.

الموالد شعر غزلي، مسرف في غزله، «مما يأباه كل ذي طبع سليم، ولا يستحليه إلا كل ذي ذوق سقيم، وقد أدخلوا بعض تلك الأشعار في قصة المولد الشريف المنسوبة إلى بعض العلماء، وصارت تقرأ في مجالس العوام فلا تنكر، وذلك من أقبح المنكر» «1» . وأكثر ما حفلت به الموالد النبوية هو المعجزات التي رافقت مولده صلّى الله عليه وسلّم، وإرهاصات مولده ومبعثه، والروايات المثيرة التي نقلت عن الرهبان والكهان والجن، وقد انتقلت هذه الروايات والأخبار إلى قصائد المديح النبوي، والمثير أن معظم هذه الروايات دون سند، يأتي بها كاتب المولد النبوي دون أن يهتم بصحتها، ومن يقرأ مولد ابن حجر، سيرى من الغيبيات وقصص المعجزات ما يثير الغرابة والاستهجان، وهذا ما دفع الدكتور زكي مبارك إلى القول: «ولم يعرف لشيء من ذلك سند صحيح من التاريخ، ولا نعرف متى نشأت هذه الأخبار عند المسلمين، وأغلب الظن أنها من وضع القصاص الذين أرادوا أن يصوروا مولد الرسول بالصور التي أثرت عن أنبياء الهنود» «2» . فمولد ابن حجر مثلا يبدأ بالحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول: (ألبسه الله تاج النبوة، وجعله نبي الأنبياء، وآدم منجدل مندمج في الطين «3» . فهو يعتمد على الأحاديث الغيبية، وعلى ما يهتم به الصوفية من الجانب الروحي المحض من حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك يعود إلى وصفه بقوله: «كان سر سجود آدم، ودعوة إبراهيم» «4» . ثم يورد معجزاته صلّى الله عليه وسلّم، ويقف بين المقطع والمقطع، لينظم أبياتا من الشعر، تتناول جانبا من جوانب حياته، فيقول مثلا:

_ (1) المجموعة النبهانية: 1/ 14. (2) مبارك، زكي: المدائح النبوية في الأدب العربي ص 189. (3) مولد ابن حجر: ص 2. (4) مولد ابن حجر: ص 3.

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ... حتى تنالو جنّة ونعيما يا أمّة بنبيّها متفضّله ... صلوا عليه وسلّموا في الأوّله أمة محمّد بالقطوف الدّانيه ... صلّوا عليه وسلّموا في الثانيه يا من تورّق له الغصون اليابسه ... صلّوا عليه وسلّموا في الخامسه جاء ابن عبد الله يبشّر آمنه ... صلّوا عليه وسلّموا في الثامنه «1» ويلاحظ على هذا النظم الذي يقرب من العامية أو الزجل العامي، أنه نظم لتأكيد الأفكار التي وردت في النثر وليردده الحاضرون، مثل تكرار الصلاة عليه بطرق مختلفة، منها ما ورد في مقدمة الأبيات السابقة، ومنها ما يشبه الموشح في قوله: الصلاة عليك السلام عليك ... من باب السلام الصلاة عليك السلام عليك ... في جنح الظلام «2» ومع أن هذا النظم الذي تحفل به الموالد في النبي الكريم، وهو يتحدث عن معجزاته وحياته وبعض صفاته، إلا أنه يخرج عن المديح النبوي، لأنه نظم لشرح قطعة نثرية، وللتعقيب على فكرة، ولكسر جمود القراءة النثرية، وليتمكن السامعون من المشاركة في المولد، فيرددون هذا النظم، الذي يكون في الغالب ضعيفا، يعتوره اللحن والخطأ، وإلا فماذا نقول في مثل هذا الشعر: صلوا عليه وسلموا تسليما ... حتى تنالوا جنة ونعيما لي نبيّ اسمه محمّد يا مولاي ... لم يزل فضله عليّا

_ (1) مولد ابن حجر: ص 7. (2) المصدر نفسه: ص 73.

هو نبييّ هو شفيعي يا مولاي ... غدا من النّار القويّا أنطق النّخل بفضله يا مولاي ... وله وجه مضيّا أنفه أقنى كسيف يا مولاي ... والحواجب أنوريّا «1» ولا أظن أن هذا شعر يقال في سيد الخلق. وهكذا يسير المولد من نثر إلى شعر، حتى يختم بدعاء معهود. ويضاف إلى ذلك أن الشعر الذي يرد في الموالد النبوية، والذي فرضه سياق المولد وظروف قراءته، لم يشكل بمجموعه شعرا خاصا متميزا، ولم يطل مؤلف المولد النظر فيه، وهو غالبا لا يجيد الشعر ولا يعرف منه غير الشكل الخارجي، وهو لم ينظمه ليكون شعرا في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما استكمالا لشكل المولد، وإشباعا لحاجته الإيقاعية، ولمّا كان موضوع المولد هو قسم من حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن أي شعر يدرج في هذا المولد يجب أن يكون قريبا من هذا الموضوع، وبالتالي فهو يتحدث عن النبي الكريم، فهو شعر نبوي جاء من وحي الموضوع وليلائم المكان الذي يوضع فيه. صحيح أن المولد النبوي شيء يتردد بين التأريخ لشطر من حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبين تمجيده والثناء عليه ومدحه إلا أنه لم يكن خالصا للمديح النبوي، وظل على شيء من الاختلاف عن المديح النبوي كما عرفناه في العصر المملوكي وفي العصور التي سبقته. والمولد الذي يقرب ما جاء فيه من المديح النبوي هو مولد عائشة الباعونية «2» ، التي

_ (1) مولد ابن حجر: ص 14. (2) عائشة الباعونية: عائشة بنت يوسف بن أحمد الباعوني، شاعرة أديبة فقيهة، ومولدها ووفاتها بدمشق، رحلت إلى مصر وزارت حلب، من مؤلفاتها (المورد الأهنى في المولد الأسنى) وديوان شعر، توفيت سنة (922 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 8/ 111.

اتجهت به اتجاها صوفيا واضحا، وفسّرت كل ما حدث لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تفسيرا صوفيا، وعبّرت عن المعاني في المولد النبوي تعبيرا صوفيا محضا، وقد سارت في مولدها على نهج محدد، فهي تتحدث عن ناحية من نواحي حياة الرسول الكريم وعن فضيلة من فضائله، ثم تنظم ما قالته شعرا، فجاء الشعر أقرب إلى المنظومات التعليمية منه إلى الشعر الحقيقي. فبعد أن تحدثت عن خلق النبي الكريم من منطلق الحقيقة المحمدية، نظمت ما تحدثت عنه، فقالت: عبير الثّنا في الخافقين يفوح ... وبشر الهنا في الكائنات يلوح بإيجاد من لولاه ما كان كائن ... ولا علمت نفس ولا نعمت روح وجيه بعرش الله في رقم اسمه ... دليل على التّخصيص فيه وضوح وآدم مذ أضحى به متوسّلا ... أجيب وداود ومن قبله نوح ونجّى من النّار الخليل لأجله ... وأسعف منّا بالفداء ذبيح وكم بشر بالمصطفى قد تتابعت ... وأفصحهم نطقا بتلك مسيح وكم أضحت الأحبار تهتف باسمه ... وتعرب عن مجد العلا وتبوح وكم أنشأ الكهّان سجعا ببعثه ... وأبدع شقّ في الحلى وسطيح «1» وحين تحدثت عن معجزات مولده، وأفاضت فيها نثرا، عادت ونظمت هذه المعجزات شعرا، فقالت: الله أكبر كم وافت بشارات ... وكم تبدّت لتعظيم إشارات وكم تجلّت براهين ومعجزة ... وكم توالت كرامات وآيات

_ (1) مولد الباعونية: ص 15.

أعظم بها ليلة جلّت بدائعها ... وأفصحت بالهنا فيها الجمادات وزيّنت حضرات الغيب وانتصبت ... من أجل ياسين أعلام ورايات وجلّل العرش بالأنوار واتّشح ال ... كرسيّ وزخرف فردوس وجنّات «1» وهكذا مضت في مولدها، تنتقل من الحديث عن المولد إلى الحديث عن المعجزات إلى سرد شيء من السيرة، لتصل إلى صفاته الجسمية، وفضائله الخلقية، وتعقب على كل فقرة بقصيدة تنظم فيها ما تقدمت به، ولتختتم المولد بقصيدة في الصلاة على النبي، بدأتها بقولها: صلّوا على من عليه الله خالقه ... صلّى وسلّم في الآزال والقدم صلوا على بهجة الكونين أحمد من ... سما وسمّي قبل اللّوح والقلم صلّوا عليه يصلّي الله تكرمة ... عشرا ويشملكم بالفضل والكرم «2» وما ذكرته عائشة الباعونية شعرا ونثرا، يدخل في بناء المدحة النبوية، لكنها لم تخرج عن نطاق الغيبيات والنظرة الصوفية إلى النبي الكريم، وشعرها هنا يعد مدحا نبويا روحيا خالصا، مضمّنا في مولد نبوي، إلا أن النظم غلب عليه. ومن هنا جاء التداخل بين الشعر الذي قيل في المولد النبوي وبين المديح النبوي، لكن القصائد والمقطوعات الشعرية التي توجد في الموالد النبوية، تقتصر كل منها على معنى محدد من معاني المديح النبوي، ونادرا ما جمعت قصيدة أو قطعة شعرية معاني مختلفة من معاني المديح النبوي، وهذا ما نلاحظه بوضوح في مولد عائشة، فكل قصيدة تدور حول معنى محدد هو المعنى الذي قدمت له، ولم تأخذ القصائد شكل المدحة

_ (1) مولد الباعونية: ص 25. (2) المصدر نفسه: ص 47.

النبوية المتكاملة المعروف من مقدمة غزلية أو ذكر للمقدسات، إلى مدح النبي الكريم بقيم مختلفة، ومن نواح متباينة مع ذكر بعض المواضيع الآخرى، واختتامها بالدعاء والصلاة عليه، ولذلك افترق شعر الموالد النبوية عن شعر المدائح النبوية، فهو يلتقي معه في الموضوع، إذ إنه يتعلق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبالهدف، فهو يرمي إلى تمجيد رسول الله ومدحه لكنه يبتعد أحيانا عند ما يكون هدفه التأريخ ونظم معنى من المعاني أو قضية من القضايا، وعند ما لا يقصد به إلا الترنم والإنشاد، وهو يفترق عنه أيضا في الشكل الفني. فالمولد النبوي بشعره ونثره، فيه لون من ألوان المديح النبوي، وفيه صنعة فنية من نوع ما، ربما امتزجت فيه القصة والملحمة والشعر، وربما كان لونا فنيا خاصا، أو بداية للون فني خاص، فهو يلتقي مع المدح النبوي كما عرف في العصر المملوكي بأشياء، ويفترق عنه بأشياء أيضا. وإلى جانب ذلك يوجد شعر قيل في المولد النبوي فقط، وأشاد به، وورد ذكر المولد أيضا في قصائد المديح النبوي، فهو أحد معاني مديحه صلّى الله عليه وسلّم، بالإضافة إلى ظهور قصائد خاصة، تنظم بمناسبة يوم المولد، يذكر فيها المولد، ويمدح النبي الكريم، ثم يمدح السلطان في ذلك الوقت، فإذا كان حاضرا الاحتفال بالمولد- وهو الغالب- تنشد القصيدة بين يديه. وانتشر هذا اللون من القصائد في المغرب خاصة، وسميت القصيدة منه بالمولدية، لمناسبة نظمها، ولتعرضها لمولد الرسول الأمين. فمن المدائح النبوية التي ذكر فيها المولد، قصيدة لسليمان السمهودي «1» ، بدأها بقوله:

_ (1) السمهودي: تقي الدين سليمان بن موسى بن بهرام، اشتغل بالعلوم ونظم وناظر، وكان عارفا بالأصول، متعففا كثير العبادة، توفي سنة (736 هـ) . ابن حجز: الدرر الكامنة 2/ 164.

أضاء النّور وانقشع الظّلام ... بمولد من له الشّرف التّمام ربيع في الشّهور له فخار ... عظيم لا يحدّ ولا يرام به كانت ولادة من تسامت ... به الدّنيا وطاب بها المقام «1» والملاحظ في ذكر الشاعر للمولد النبوي أنه تناول أثر هذا المولد على الكون، وفضل شهره على غيره من الشهور، وهذا الأمر يتكرر دائما في القصائد المولدية، التي لا تفترق عن المدائح النبوية إلا بأمرين: الأول هو نظمها بمناسبة المولد، والتأكيد على ذكر أهمية المولد في تاريخ البشرية، والثاني هو مدح سلطان الوقت الذي نظمت فيه القصيدة، فهي بذلك لون من ألوان قصائد المديح النبوي. ومن ذلك قصيدة لعبد الله بن سيف النجاري الخزرجي «2» ، يمدح فيها النبي الكريم، ويذكر مولده، ويمدح ملك المغرب عبد العزيز المريني، يقول فيها: لله مولدك الكريم وفادة ... وإفادة يروي الظّماء جمامها هو أكبر الأعياد بشرى آذنت ... ألايودّع شهرها أو عامها وافى ربيع الخير منه بليلة ... عن وجه ذاك البدر حطّ لثامها طفئت بها نيران فارس بعد ما ... لم تطف ألفا عدّدت أعوامها هي ليلة فاق اللّيالي فضلها ... وتشّرفت بزمانها أيّامها أبدى الكريم إمامنا تعظيمها ... وله يحقّ بواجب إعظامها

_ (1) الأدفوي: الطالع السعيد ص 252. (2) عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري الخزرجي: فقيه قاص كاتب من أهل مالقة، كتب للموحدين، وكان شاهدا عدلا، بارع الإنشاء رقيق النظم. ابن الأحمر: نثير الجمان ص 233.

فهو المليك الصّالح العلم الرّضا ... محيّي الشّريعة، عزّها ونظامها «1» والطريف أن نجد أرجوزة لابن البرهان الفاقوسي «2» ، يتحدث فيها عن المولد، وكأنه نظم المولد رجزا، أو أنه صنعها على غرار المنظومات التعليمية، فأودعها المعلومات المختلفة حول المولد النبوي، وقد افتتحها بقوله: الحمد لله الحميد الصّمد ... منوّر الأكوان بالممجّد محمّد خير الورى المكمّل ... أهدى إلينا في ربيع الأوّل أعلام سعد المصطفى قد نشرت ... في الخافقين تلألأت وتضوّأت فاح الوجود بنشر عرف المصطفى ... لمّا مشى ما بين زمزم والصّفا من قبل نشأة آدم أنواره ... قد سطّرت في العرش لمّا اختاره «3» ونجد كذلك من يجعل إحياء ليلة المولد والاحتفال بها، معنى من معاني مدح الأمراء والسلاطين، يضاف إلى المعاني الدينية التي انتشرت في مدح ذوي الأمر آنذاك، فالفرفوري «4» مدح السلطان قانصوه الغوري قبيل انقضاء الدولة المملوكية، فقال: محبّ لأهل العلم والفضل والتّقى ... بحيث إليهم دائما يتودّد ومولد خير الخلق أجراه عادة ... بها كلّ خير دائما يتولّد «5»

_ (1) ابن الأحمر: نثير الجمان ص 241. (2) ابن البرهان الفاقوسي: إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم، كان معلّما للأطفال، خيّرا معتقدا، حصّل علوما كثيرة، استقر في مشيخة الصوفية، واشتغل بالقضاء، توفي سنة (862 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 1/ 180. (3) السخاوي: الضوء اللامع: 1/ 181. (4) الفرفوري: أحمد بن محمود بن عبد الله، قاضي القضاة برع وتميز على أقرانه، كان جامعا بين العلم والرئاسة والكرم وحسن العشرة، ولي قضاء الشافعية بدمشق، ثم جمع بينه وبين قضاء مصر، وكان له شعر متوسط، توفي سنة (911 هـ) . الغزي: الكواكب السائرة 1/ 141. (5) الغزي: الكواكب السائرة 9/ 143.

أما المشارقة، فإنهم نظموا القصائد المولدية، لكنهم لم يقحموا فيها مدح السلطان، وظلت مثل المدحة النبوية العادية، إلا أن الشاعر يتسع فيها بذكر المولد النبوي ومعجزات هذا المولد. ومن ذلك قصيدة لصفي الدين الحلي، بدأها بقوله: خمدت لفضل ولادك النّيران ... وانشقّ من فرح بك (الإيوان) وتزلزل النّادي، وأوجس خيفة ... من هول رؤياه (أنو شروان) فتأوّل الرّؤيا (سطيح) وبشّرت ... بظهورك الرّهبان والكهّان وعليك (إرميا) و (شعيا) أثنيا ... وهما و (حزقيل) لفضلك دانوا بفضائل شهدت بهنّ السّحب والت ... توارة والإنجيل والفرقان فوضعت لله المهيمن ساجدا ... واستبشرت بظهورك الأكوان متكمّلا لم تنقطع لك سرّة ... شرفا، ولم يطلق عليك ختان فرأت قصور الشّام (آمنة) وقد ... وضعتك لا تخفى لها أركان وأتت (حليمة) وهي تنظر في ابنها ... سرّا تحار لوصفه الأذهان وغدا ابن ذي يزن ببعثك مؤمنا ... سرّا ليشهد جدّك الدّيّان شرح الإله الصّدر منك لأربع ... فرأى الملائك حولك الإخوان «1» وهكذا تمضي القصيدة في سرد معجزات مولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونشأته، لتنظم معظم ما جاءت به الموالد النبوية، وليتابع الشاعر بعد ذلك مدح النبي الكريم بالمعجزات التي ظهرت علي يديه بعد البعثة.

_ (1) ديوان الحلي: ص 79.

لكن القصائد المولدية لم تكن كلها متشابهة، فربما نظم بعض الشعراء قصائد في مناسبة المولد النبوي، لكنهم لا يذكرون فيها المولد من قريب أو بعيد، ولا يمدحون فيها صاحب الأمر في وقتهم، ويقتصرون في قصائدهم تلك على المديح النبوي فقط، فتكون القصيدة مدحة نبوية خالصة، لكن اسم مولدية أتاها من نظمها بمناسبة المولد، أو لأن صاحبها أنشدها في احتفال المولد، وكان من مراحل احتفال المولد الأساسية إنشاد المدائح النبوية، دون أن يعني ذلك أن تكون خالصة للمولد النبوي، فيكفي أن يمدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم صاحب المناسبة المحتفى بها. فالمولد النبوي هو نوع من السيرة، يتناول مرحلة المولد والنشأة، وهو نوع من المدح والتمجيد، يعتني بمعجزات المرحلة الأولى من حياة الرسول الكريم، يختلط فيه الشعر بالنثر، ويقتصر على معنى واحد من معاني المديح النبوي، ولذلك يتشابه مع المديح النبوي ويفترق عنه. أما القصائد التي نظمت في هذه المناسبة وسميت بالمولدية، فإنها قصائد مديح نبوي، تلتقي مع سواها من المدائح النبوية في كل شيء، وتفترق عنها بالتوسع في ذكر المولد، وفي مدح صاحب الأمر آنذاك، وبذلك يتقاطع المدح النبوي مع المولد النبوي ويفترق عنه، فما جاء في المولد النبوي هو قسم من المديح النبوي، ولا يسعنا أن نتجاهل بعض القصائد التي وردت فيها، لأنها تلتقي مع قصائد المديح النبوي في جوانب كثيرة، أهمها أنها جميعا تقال في تمجيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومدحه. من كل ذلك يتبين لنا أن المدح التقليدي للنبي الكريم يتشابه مع غيره، وأنه جاء بسبب رسوخ التقاليد الفنية في نفوس الشعراء، وهو لون من ألوان المديح النبوي، بدأه شعراء البعثة، الذين لم يكونوا يرمون من وراء مدحهم للنبي الكريم أن يكون هذا المدح متميزا، وفنا قائما بذاته.

أما مدح آل البيت، فإنه موجه لآل رسول الله، يشيد بهم ويدافع عن حقهم في الخلافة، ويذكر قرابتهم من رسول الله، فيأتي فيه شيء من مدحه صلّى الله عليه وسلّم، لكن الشعراء الذين ذكروا رسول الله في مدحهم لآل البيت، لم يكونوا يقصدون في شعرهم مدح النبي الكريم، بل استدعى موضوع شعرهم هذا المدح. في حين أن الشعر الصوفي، وهو فن شعري مستقل، استدعى موضوعه ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لكن مدحه في الشعر الصوفي لم يكن هدفا رئيسا لقصائد المتصوفة، بيد أن الشعر الصوفي أثّر في المديح النبوي مثلما أثّر شعر الشيعة، وتأثرا به. وشعر التشوق إلى الأماكن المقدسة يفترق عن المديح النبوي، وإن ذكر الرسول الكريم فيه، فهو فن شعري مستقل، أضحى في أيام المماليك من لوازم المديح النبوي. والمولد النبوي، وما ورد فيه من شعر هو لون من ألوان المديح النبوي، يقتصر على معنى من معانيه، ويتحدث عن واقعة واحدة من وقائع سيد البشر. وبذلك تكون هذه الفنون الشعرية قريبة من فن المديح النبوي، ومتميزة عنه ومتقاطعة معه، فهي تقترب وتبتعد، وتتداخل وتتمايز مع المديح النبوي، لكننا لا نستطيع أن نجعلها بكل صورها من فن المديح النبوي، الذي عرف في العصر المملوكي على صورة معينة، يصعب دمج هذه الألوان معه. لكن هذه الفنون أثّرت في المديح النبوي وتأثرت به، وأعطته الصورة التي نعرفها.

الباب الثالث المدحة النبوية

المدحة النبوية إن المديح النبوي في العصر المملوكي قد أضحى فنا شعريا مستقلا، له أصوله وقواعده، وله شعراؤه الذين وقفوا شعرهم عليه، وله مريدوه وسامعوه الذين انفعلوا به، فكان سميرهم في مجالس العلم والشعر، وحلقات الدرس والذكر، وكان وسيلة للتعبير عن مشاعرهم وآلامهم وآمالهم، ولطلب الراحة والطمأنينة لنفوسهم المضطربة القلقة، بسبب الهزات العنيفة التي تعرض لها المجتمع العربي الإسلامي على أكثر من صعيد. وكانت المدائح النبوية تعكس رغبة الناس في الخلاص والصفاء؛ لأن العرب المسلمين كانوا وما زالوا ينظرون إلى العصور الإسلامية الأولى على أنها المثل الأعلى للحياة الحقة، التي تعطي للإنسان قيمته الإنسانية، وتجعله يعيش حرا كريما عزيزا، يشعر بمعنى الحياة، ويحس أنه يعيش من أجل هدف سام يريد الوصول إليه. وتعكس كذلك شوقهم إلى المثل الأعلى والبطولة الفذة والفضائل السامية التي تجسدت في شخصية الرسول الكريم. فكانت المدائح النبوية على هذا الانتشار وعلى هذه الفاعلية، وعلى هذا التقدير، لذلك احتفل لها شعراؤها أيّما احتفال. والمدحة النبوية تعني أنها قصيدة مدح، لذلك فهي ترتبط بفن المدح الذي عرفه العرب منذ وقت مبكر من تاريخهم، ووصل إلينا مع وصول الشعر العربي في بداياته، لذا فهي لا تخرج في نهجها العام عن قصائد المديح في الشعر العربي، وعن الطريقة التي مدح بها الشعراء.

والمديح سابق للمدحة النبوية، لذلك أخذت عنه، وجارى شعراء المديح النبوي سابقيهم في المضمون والأسلوب. وتعني أيضا أنها تنظم مدحا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقط، فلا يعد مديح غيره من المديح النبوي، مهما كانت علاقته بالنبي الكريم وثيقة. وبذلك تكون المدحة النبوية مرتبطة بفن المديح العربي عامة، ومدح النبي الأمين خاصة.

الباب الثالث المدحة النبوية

الفصل الأول المضمون مضمون المدحة النبوية الأساس هو مدح النبي الكريم، وإلى جانبه ما يمهّد لهذا المدح ويختمه، وما يضيفه الشاعر لغرض في نفسه. القسم الأول- المدح بالقيم التقليدية: إن مضمون المدحة النبوية الأساس هو مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمدح كما عرف عند الشعراء العرب هو الثناء على الرجل وأخلاقه وفضائله وأفعاله وكل ما يتصل به، وهذا ما فعله مدّاح رسول الله، إلا أنهم أضافوا إلى المدح العربي قيما أخرى، اقتضتها طبيعة من يمدحونه، فهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو سيد الخلق، وهو وحيد في خصائله وشمائله وفضائله، وهو أكبر مؤثّر في الإنسانية، لذا كان لا بد من أن يتفرّد عن غيره من البشر في مديحه، وأن يختص بقيم مدحية لا يشاركه فيها سواه. وقد تنوعت طريقة المدح النبوي تنوعا كبيرا، واتسعت معاني مديحه أيّما اتساع، لأن شخصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شخصية رحبة غنية، يحار المادحون من أي جانب يشيدون بها. فبعضهم مدحه مدحا تقليديا مثلما جرت عليه العادة في مدح عظام الناس، وبعضهم مدحه مدحا دينيا لمكانته الدينية السامية التي لا يدانيه فيها أحد، وبعضهم مدحه مدحا خلقيا، لسمو خلقه ورفعته، وبعضهم أظهر أثره في البشرية، وحرص بعضهم على إظهار معجزاته وبيان مواطن العظمة في سيرته، وإلى غير ذلك من إمكانيات المدح التي لا حصر لها، ولذلك اعترف المادحون جميعهم بتقصيرهم في مدحه، وبعجزهم عن إيفائه حقه.

فالنبي الكريم اختاره الله تعالى ليحمل رسالة الهداية والرحمة للناس أجمعين، فهيّأه لهذه المهمة الكبرى «وخصّه بخصائص لم يشاركه أحد فيها» «1» . فهو نسيج وحده في كمال خلقه وخلقه، وفي فضائله ومكانته، أثنى عليه ربه مرات كثيرة، وجعله مثالا للكمال الإنساني، فكيف يستطيع البشر الوفاء بمدحه ووصفه وحصر فضائله؟ وقد مرّ معنا في السابق كيف مدحه أصحابه وشعراء زمانه مدحا تقليديا، لا يكاد يخرج عمّا اعتادوا عليه وألفوه في مدح ساداتهم وأشرافهم، وكيف تابعهم بعض مدّاح النبي في ذلك، فلم يخرجوا إلا قليلا عن القيم الاجتماعية المعروفة، والتي كانت تحظى بالتقدير عندهم، فيمدح بها من نال إعجابهم ورضاهم، ومن جسّد مثلهم وأحياها. فالقيم الاجتماعية المعروفة عند العرب مثل الكرم والشجاعة والعزة وطيب المحتد، اعتنى بها الإسلام وهذّبها وأقرّها، وأعطاها مفهوما إنسانيا جديدا، مغايرا لما كانت عليه فأضحت من عوامل التقدم والتكافل الاجتماعي، بعد أن كانت للمباهاة وحب الظهور، بل إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» «2» . ومنذ القدم تعلق الناس بأخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأشادوا بها، بل لقد أثنى عليها خصومه المشركون الذين كفروا برسالته، لكنهم لم يستطيعوا إلا أن يعترفوا برفعة أخلاقه وسمو روحه، وهذا ما بهر شعراء المدائح النبوية، فأخذوا يبدؤون ويعيدون في ذكر أخلاقه وشمائله الطيبة، ويفتنّون في عرضها، فالبوصيري يؤخذ بفضائل النبي الكريم فيميزها عن فضائل غيره، ويقول:

_ (1) ابن البنا السرقسطي: الفتوحات الإلهية ص 100. (2) جاء في مسند ابن حنبل (بعثت لأتمم صالح الأخلاق) 2/ 381، وجاء في موطأ مالك (بعثت لأتمم حسن الأخلاق) ، كتاب حسن الخلق، الحديث الثامن ص: 904.

خلائقه مواهب دون كسب ... وشتّان المواهب والكسوب وآداب النّبوّة معجزات ... فكيف ينالها الرّجل الأديب «1» فأخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مواهب من الله تعالى، خلقه عليها، ولم يتعلمها من محيطه، ويكتسبها من غيره، ولذلك فإن هذه الفضائل تمتاز عند رسول الله عنها عند بقية الناس، بل إن كل فضيلة عند الناس مقتبسة من فضائله، ومنسوبة إليه: مصباح كلّ فضيلة وإمامها ... ولفضله فضل الخلائق ينسب «2» فشعراء المديح النبوي هاموا بفضائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتغنوا بها، فأتى المدح التقليدي عندهم غير المدح المعروف عند الناس، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يختلف عن باقي الناس في كل شيء، ومن ذلك أخلاقه وميزاته، فإذا كان الشعراء يمدحون الرجل بطيب المحتد وعراقة الأصل، وكرم الأجداد والآباء، فإن رسول الله عند مدّاحه أفضل الناس أصلا، وأزكاهم نسبا، وأكرمهم محتدا. وهو خيار من خيار من خيار، وصفوة خلق الله لا يقاربه في كرم المنبت أحد، ولا يدانيه في سمو الأصل أحد وفي ذلك قال أحد مدّاحه: لله ممّا قد برا صفوة ... وصفوة الخلق بنو هاشم وصفوة الصّفوة من بينهم ... محمّد النّور أبو القاسم «3» فرسول الله هو أزكى النّاس نسبا، وهو لم يشرف بنسبه- كما يحصل لغيره من البشر- وإنما شرف نسبه به، وأخذ عنه المجد والرفعة، أو كما قال الشهاب محمود:

_ (1) ديوان البوصيري: ص 84. (2) ديوان البوصيري: ص 90. (3) العاملي: المخلاة ص 218.

أنت المبوّأ من ذؤابة هاشم ... شرفا أناف على الكواكب طولا بك كرّم الله الجدود وطهّر ال ... آباء إذ ولدوك جيلا جيلا «1» فأين ذلك كله ممّن يعتزون بنسبهم، ويرفعون من قيمته، ويتباهون به على غيرهم؟ لقد وجد شعراء المدائح النبوية أنفسهم أمام بحر من الفضائل والمكرمات، فأخذوا يغترفون منه كيفما شاؤوا فلا يستطيعون لفضائله حصرا، ولا يجدون لمكرماته نفادا، فهو لا يدانى في حسبه ونسبه، ولا يدانى في كرمه أو كما قال البرعي: أعزّ الورى أصلا وفعلا ومنشأ ... وأعلى وأسمى في الفخار وأحسب وأحسن خلق الله خلقا وخلقة ... وأطولهم في الجود باعا وأرحب «2» ونرى في مثل هذه الأشعار أن مدّاح النبي قرنوا كرمه الذي لا يجارى بشجاعته النادرة، وصلابته في الحق، فهو شاف لكل أدواء مجتمعه، يخلّص الناس ممّا ينغّص حياتهم، وينتقص من إنسانيتهم، وهو: متمكّن الأخلاق إلّا أنّه ... في الحكم يرضى للإله وبغضب يشفي الصّدور كلامه فدواؤه ... طورا يمرّ لها وطورا يعذب «3» وهو إلى جانب عزته ومقدرته وسطوته، حليم رؤوف، يغفر الزلات، ويحلم عن المخطئين بحقه، لأن الحلم من طبعه الذي خلق عليه، وفي ذلك قال ابن جابر «4» :

_ (1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 9. (2) ديوان البرعي: ص 216. (3) ديوان البوصيري: ص 91. (4) ابن جابر، محمد بن أحمد بن علي الأندلسي، رحل إلى المشرق وطاف فيه. كان شاعرا أعمى كثير النظم، عالما بالعربية والقرآن والحديث والفقه، له كثير من المؤلفات في اللغة والنحو وديوان شعر، توفي سنة (780 هـ) . الصفدي: نكت الهميان ص 244.

قد خالط الحلم سجايا طبعه ... كمثل ما قد خالط الثّوب السّتا «1» ولم يؤخذ بعزته ونصره، ومواهب الله له، بل ظل متواضعا، ليّن الجانب للمؤمنين والضعفاء والفقراء: زيّنه تواضع على علا ... فما ازدهى بعزّة ولا نخا «2» أما شجاعته، فيضرب بها المثل، لا يخشى في سبيل الله عدوا، ولا تساور نفسه رهبة، إذا حمي الوطيس تحامى أصحابه به، فوضع الله الرعب في قلوب أعدائه، لا يعرفون عند لقائه محيصا، وقد قال فيه الشهاب المنصوري «3» عند ما مدحه: لك رعب في قلب كلّ عدّو ... كسنا البيض والقنا المهزوز «4» وقد أفاض شعراء المدائح النبوية في الحديث عن شجاعة رسول الله وبطولته، واقتحامه غمرات الحرب ليحفزوا همم معاصريهم على الجهاد، فالصرصري الذي قتل في سقوط بغداد على يد التتار، وصف رسول الله في إحدى مدائحه بقوله: إذا انبرى لغارة ... شهباء ذات شرر جلا قتام نقعها ... بصارم ذي أثر «5» إلا أن شعراء المديح النبوي لم يقفوا عند كل فضيلة من فضائل النبي طويلا، بل ذكروا هذه الفضائل بعضها مع بعض دون تفصيل، فيكفي أن يشار إلى هذه الفضائل، لينتشي السامعون بعبقها، ولم يدّع شعراء المدائح النبوية أنهم جلوا فضائل رسول الله

_ (1) المقري: نفح الطيب 7/ 308. (2) المصدر نفسه: 7/ 310. (3) الشهاب المنصوري: أحمد بن خضر، ابن الهائم، شاعر عصره. كان متعففا عن الناس. توفي سنة (887 هـ) . ابن إياس: بدائع الزهور 3/ 194. (4) السيوطي: نظم العقيان ص 80. (5) ديوان الصرصري: ورقة 35.

كلها، ولم يفخروا بنشرها، لأنهم عاجزون عن حصر هذه الفضائل أو عن إدراك جوهرها، أو كما قال تقي الدين الطبيب «1» : مجد كبا الوهم عن إدراك غايته ... وردّ عقل البرايا وهو معقول «2» ولم يفت شعراء المدائح النبوية أن يجاروا غيرهم، ويمدحوا رسول الله بجمال الخلقة والهيئة، بل إن الوصف الخارجي الذي لا يعد من المديح المجلي، والذي نادرا ما يلجأ إليه الشعراء إلا بلمحات خاطفة، يصبح عند شعراء المديح النبوي ذا دلائل خاصة، فهو يشبع حاجة الناس لمعرفة شكل رسولهم الممجّد، وتشكيل صورة له في أذهانهم وأحلامهم، وهو من ناحية ثانية يعبّر عن الجمال المطلق الذي تعلّق به الصوفية، والذي هو من درجات الكمال، ولمّا كان الرسول الكريم أفضل البشر أخلاقا وأعلاهم مقاما وجب أن يكون عند الشعراء أجمل الناس وجها، وأتمهم خلقة، لذلك أكثروا من وصف جماله، والتغني بحسنه وبهائه، وهم يقتدون بشاعره حسان بن ثابت، الذي قال فيه: وأحسن منك لم تر قطّ عيني ... وأجمل منك لم تلد النّساء خلقت مبرّأ من كلّ عيب ... كأنّك قد خلقت كما تشاء «3» وبكعب بن زهير الذي وصفه بقوله: مسح النّبيّ جبينه ... فله بياض بالخدود وبوجهه ديباجة ... كرم النّبوّة والجدود «4»

_ (1) تقي الدين الطبيب: شبيب بن حمدان بن شبيب، الأديب الفاضل، الطبيب الكحال الشاعر، له ديوان شعر، توفي سنة (695 هـ) . الصفدي: الوافي بالوفيات 16/ 107. (2) الصفدي: الوافي بالوفيات 16/ 107. (3) ديوان حسان بن ثابت: ص 66. (4) ديوان كعب بن زهير: ص 259.

وقد أولع الصرصري بوصف جمال رسول الله، وفصّل محاسنه الجسدية، وشبهها، وكأنه يتغزل بهذه المحاسن، فقال في إحدى مدائحه: طلق المحيّا نوره ... يكسف نور القمر كأنّما شمس الضّحى ... في وجهه المدوّر أبيض قد زان محي ... ياه سواد الشّعر فوق جبين واضح ... أزهر رحب أنور في مقلتيه دعج ... مترجم عن حور وجنته أحسن من ... ورد الرّياض الأحمر أقنى يلوح النّور من ... عرنينه المنوّر «1» وقد استرسل الصرصري في وصف محاسن رسول الله الجسدية، فلم يترك عضوا من أعضائه الكريمة إلا وصفه وشبّه كأحسن ما يكون الوصف والتشبيه، فقد أطلق لمخيلته العنان ليشكل صورة خارجية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتمدا على الروايات التي جاءت في وصفه، مضيفا إليها الأوصاف التي يراها مثالية في نظره، والتي اصطلح العرب على استحسانها والإشادة بها. وأحسن البوصيري في وصف محاسنه صلّى الله عليه وسلّم وتشبيهها في قوله: ستر الحسن منه بالحسن فاعجب ... لجمال له الجمال وقاء فهو كالزّهر لاح من سجف الأكما ... م والعود شقّ عنه اللّحاء «2»

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 35. (2) ديوان البوصيري: ص 59.

وهكذا مضى الشعراء في وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومدحه بالقيم التقليدية التي عرفت في المديح العربي، لكنهم وصلوا فيها إلى مراتب لم يصلها مدّاح غيره، لأن حدود المبالغة مفتوحة أمامهم، لا يوجد ما يحدهم في الإشادة به كيفما يشاؤون، فيمزجون القيم الأخلاقية مع المحاسن الجسدية، مع الفضائل الاجتماعية، في تناسق وتكامل، اقتضته شخصية رسول الله المتكاملة، فمدحه النصيبي «1» بقوله: نبيّ سخيّ حييّ وفيّ ... أبرّ البريّة قولا وفعلا وسيم عليه يلوح القبول ... وسيما السّعادة مذ كان طفلا وما زال يملأ أرض العدوّ ... في طاعة الله خيلا ورجلا «2» وظل شعراء المديح النبوي ينظمون مناقب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخصائصه الفاضلة في عقد بديع، ويقرنون بعضها إلى بعض، باذلين جهودهم في إخراجها الإخراج الذي يليق بصاحبها، فالصرصري وصفه بقوله: جمعت له غرّ المناقب فهي كال ... عقد النّظيم لا تتوزّع «3» ولم يقارن شعراء المدائح النبوية رسول الله بأحد، فالمقارنة لا تصح هنا، لكنهم فضّلوه على جميع البشر فقال الصرصري: جمعت ما في الكرام الزّهر مفترق ... وزدت فضلا عظيما غير محصور فأنت سيّد أهل الفضل أجمع في ... أصل وفرع وتقديم وتأخير «4»

_ (1) النصيبي القوصي: محمد بن عيسى، أديب شاعر محدّث، كانت له مشاركة في النحو واللغة والتاريخ، ومعرفة بالبديع والعروض، له قدرة على ارتجال الشعر، توفي سنة (707 هـ) . الأدفوي: الطالع السعيد ص 615. (2) الأدفوي: الطالع السعيد ص 616. (3) ديوان الصرصري: ورقة 57. (4) ابن شاكر: فوات الوفيات 4/ 310.

وظلوا على تفضيله، يؤكدون أن قدره فوق الخلق جميعا، لذلك حرصوا على إظهار تفرده وإبعاد أي شبه لأخلاقه وفضائله، فرسول الله نسيج وحده، وهو تجسيد للكمال الإنساني الذي قال عنه الشرف الأنصاري «1» : أبان نقص الجميع عنه ... لمّا غدا في الكمال مفرد «2» وبذلك نجد أن شعراء المديح النبوي قد أجادوا في مديح النبي الكريم بالقيم التقليدية المعروفة عند العرب، والتي مدحوا بها ساداتهم. لكن هذه المعاني التقليدية أخذت طابعا خاصا في المدائح النبوية، وأصبح لها وهج خاص عند مدح رسول الله بها، فسمت عند نسبتها إليه، فكأنها غادرت تقليديتها، واكتسبت خصوصية وقداسة فالشعراء افتنّوا في عرضها، وفي الذهاب بها إلى الغاية التي يعرفونها عند البشر، دون أن يحذروا الوقوع في المبالغة المفرطة، لأنهم مهما غالوا في هذه القيم، ستظل مغالاتهم قاصرة عن الوصول إلى المرتبة التي يحتلها النبي الكريم. فلم يبق المدح التقليدي تقليديا، ولا يصح مثلا أن نقتطع مقطعا من هذا المدح، ونقوله في إنسان آخر غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما يمكن أن يحدث في مدح غيره. ولم يكن المدح بالقيم التقليدية في المدائح النبوية أثناء العصر المملوكي متطابقا مع المدح التقليدي الذي مدح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته، لأن الشعراء باتوا يدركون مفهوم النبوة، ويعرفون قدر النبي الأمين حق المعرفة، فمدحهم وإن كان يأخذ الجانب الإنساني من شخصية الرسول الفريدة، كان يراعي الجانب الروحي والنبوي ومكانته الدينية، وكان في غالب الأحيان مختلطا به، ويصعب الفصل في مدحهم بين الجانب الديني والجانب الدنيوي، وما كان الفصل إلا مفتعلا لتسهيل الدراسة، وبيان ألوان المديح النبوي في المدائح النبوية خلال العصر المملوكي.

_ (1) الشرف الأنصاري: عبد العزيز بن محمد بن عبد الحسن، برع في العلم والأدب، وكان شيخ شيوخ حماة، له ديوان شعر، توفي سنة (662 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 2/ 354. (2) ديوان الشرف الأنصاري: ص 149.

القسم الثاني - المدح الديني:

القسم الثاني- المدح الديني: رأينا كيف مدح الصحابة والشعراء الذين شهدوا البعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مثلما كانوا يمدحون ساداتهم، لأنهم ظلوا في مديحهم له على تقاليدهم الشعرية التي حذقوها في المدح، ولأن الوقت لم يكن كافيا لتظهر المؤثرات الدينية في شعرهم، ولم يكن مفهوم النبوة واضحا في أذهانهم، فليس أمامهم مثال يحتذونه، ولم يسبق لهم أن مدحوا نبيا. وقد استمرت هذه الطريقة في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، أو أن القيم التقليدية لهذا المدح استمرت راسخة في المدائح النبوية التي ظهرت في العصر المملوكي وما قبله. بيد أن المظاهر الدينية في مدح الرسول الكريم أخذت تظهر عند الشعراء الذين مدحوا رسول الله في حياته، فامتزجت المعاني الدينية بالمعاني التقليدية، وقلما خلصت مدحة نبوية لأحد الاتجاهين، فالقيم التقليدية أضحى لها طابع ديني عند مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها، وخاصة أن الإسلام أقرّ هذه القيم وهذّبها ومنحها مفهوما جديدا، ومن هنا جاء التداخل بين المفاهيم التقليدية والمفاهيم الدينية في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما الفصل بينهما إلا فصل نظري، اقتضته متطلبات الدراسة. فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي بلّغ الرسالة السماوية، وهو الذي علّم الناس دينها، وهو شخصية دينية في المقام الأول، فلا يعقل أن يمدح دون أن يتطرق مادحه إلى مكانته الدينية، ودون أن تذكر خصائصه وفضائله ومواهب الله له، فالمدائح النبوية هي لون من ألوان الأدب الديني، تتعلق بصاحب الدين، وهادي الناس إلى النور والحق، لذلك عبقت بالمشاعر الدينية، وامتلأت بالمفاهيم الدينية، وتعرضت لسيرة النبي وفضائله ومعجزاته، وأظهرت تميّزه بين البشر. وحاول مدّاح النّبي الأمين أن يجلوا شخصية رسول الله الرحبة قدر المستطاع، لكن المتميز منهم من طرق جانبا جديدا من جوانب هذه الشخصية الفذة العظيمة، أما معظمهم فقد ردّدوا المعاني نفسها، وأعادوا الأفكار ذاتها، وإن أعادوا صياغتها.

محبته:

ويعود ذلك إلى اعتماد الشعراء في أخذ أفكارهم ومعانيهم على الكتب الكثيرة التي ألّفت حول سيرة رسول الله وخصائصه وشمائله ودلائل نبوته، وهي كتب تكرر بعضها، ولا تختلف إلا في النهج أو الأسلوب أو في الاتساع والاختصار. محبته: فجميع مدّاح النبي أظهروا محبتهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتشوقهم لزيارته، وحنينهم إلى القرب منه، وقد مرّ معنا كيف أظهروا تشوقهم، وكيف جلوا مشاعرهم اتجاهه، وكيف عمرت قلوبهم المفعمة بمحبته التي ملكت عليهم أنفسهم، والتي أوجبها الإيمان ومكانة النبي السامية عند ربه، ومكّنها ما عرفوه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كمال ورحمة، ومدى تأثيره في البشرية. فالبوصيري عبّر عن حبه وتعلقه برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: وبحبّ النّبيّ فابغ رضا الل ... له ففي حبّه الرّضا والحباء «1» ووصفه في قصيدة أخرى، فقال: بشر سعيد في النّفوس معظّم ... مقداره، وإلى القلوب محبّب «2» وأظهر شعراء المديح النبوي هيامهم برسول الله، وأبدوا تعلّقهم بذاته الكريمة، وارتياحهم لذكره، وشعورهم بالطمأنينه لمحبته، والانتماء إليه، فقال السندفائي «3» :

_ (1) ديوان البوصيري: ص 72. (2) المصدر نفسه: ص 90. (3) السندفائي: أحمد بن عبد العال، من سندفا بمصر، تردّد إلى القاهرة، وتعاني النظم بالطبع، وإلا فهو عامي، وربما وقع له الجيد، وقد أفرد في ديوانه جزآ سمّاه (الجوهر الثمين في مدح سيد المرسلين) ، توفي بعد سنة (840 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 10/ 308.

فضائله:

مكانك من قلبي وعيني كلاهما ... مكان السّويدا من فؤادي وأقرب وذكرك في نفسي وإن شفّها الظّما ... ألذّ من الماء الزّلال وأعذب «1» بل وصل عندهم حب النبي إلى الحد الذي يمتزج فيه بدمائهم، مثلما قال الوتري: دماء مزجناها بحبّ محمّد ... وأكبادنا من شوقه تتوقّد «2» فهذا الشوق وهذا الحب الذي يبديه شعراء المدائح النبوية للرسول هو شعور ديني، يظهر تعلق المسلمين برسولهم الكريم، ويظهر مكانته عندهم، فهو أغلى ما في الوجود لديهم، وهو أملهم في حياتهم ومماتهم، ولو لم يكن على هذا القدر من الكمال والسّمو لما تعلق به الناس بعد موته، ولما حاز إعجاب غير المسلمين واحترامهم، مثلما حاز وجد المسلمين به وتقديسهم له. فضائله: أخذ شعراء المديح النبوي يتغنون بفضائله، وبمقامه السامي عند ربه، ويمزجون ذلك بمشاعر الود له، مثلما قال ابن العطار: المصطفى أعلى البريّة منصبا ... قد جلّ في العلياء ذاك المنصب حاز السّيادة والكمال محمّد ... فإليه أشتات المحامد تنسب محبوبنا ونبيّنا وشفيعنا ... يدني إلى روض الرّضا ويقرّب «3» واستمر الشعراء الذين مدحوا الرسول يذكرون فضائله، ويظهرون انبهارهم بسمو قدره، وإيمانهم بنبوته ورسالته، وتعلّقهم بذاته الكريمة، ويعرضون مواهب الله له.

_ (1) السخاوي: الضوء اللامع 1/ 347. (2) الوتري: معدن الإفاضات ص 202. (3) المجموعة النبهانية: 1/ 439.

وقد أبدى شعراء المدائح النبوية تنوعا كبيرا في بيان فضائل الرسول الكريم، وكل منهم يهتمّ بجملة من الفضائل التي تؤيد توجهه الديني، فالمتصوفة مثلا اهتموا بالغيبيات في شخصية النبي الأمين وبزهده الذي هو ركيزة التصوف، والذي يظهر أن رسول الله كان مهيّأ لحمل الرسالة، وفي ذلك قال البوصيري: ألف النّسك والعبادة والخل ... وة طفلا وهكذا النّجباء وإذا حلّت الهداية قلبا ... نشطت في العبادة الأعضاء «1» وطفق شعراء المديح النبوي يبحثون عن فضائل رسول الله ليدرجوها في مدائحهم له، وليذكّروا الغافلين بها، إلى جانب الكتب الكثيرة التي ألّفت في مناقب الرسول الكريم وفضائله، مثل كتاب عجالة الراكب الذي جاء فيه الحديث التالي: عن فضائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فليصل، وأحلّت لي الغنائم، ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة» «2» . وقد تعلّق مدّاح النبي الكريم بهذا الحديث الشريف وأمثاله، فنظموها في قصائدهم، مثل قول الشهاب محمود في الحديث السابق: والله خصّك في الأنام بخمسة ... لم يعطها بشر سواك رسولا حلّ الغنائم في الجهاد ولم تزل ... للنّار يوم تقرّب مأكولا والأرض أجمع مسجد وترابها ... طهر يبيح الفرض والتّنفيلا

_ (1) ديوان البوصيري: ص 52. (2) ابن الزملكاني: عجالة الراكب، ورقة 88، والحديث في فتح الباري: 2/ 79.

هديه:

وشفاعة عمّت وإرسال إلى ... كلّ الورى طرّا وجيلا جيلا ونصرت بالرّعب الشّديد فمن ترد ... تغزوه بات بذعره مخبولا «1» وربما أجمل الشاعر فضائل رسول الله، أو ذكر فضل الله عليه، دون أن يحدد أية فضيلة، مكتفيا بتقرير هذه الحقيقة، مثل قول البوصيري: إنّ النّبيّ محمّدا من ربّه ... كرما بكلّ فضيلة ممنوح الله فضّله ورجّح قدره ... فليهنه التّفضيل والتّرجيح «2» ولذلك دعا الشعراء إلى نسب كل الفضائل إلى رسول الله، وإلى الحديث عنه بأية طريقة لائقة به، فمهما جنح القائل فيها إلى التعظيم والمبالغة، فإن أي حديث عنه يصدق طالما أن الله تعالى كمّله، وهذا ما أوضحه النواجي في قوله: تجانست فيه أوصاف الكمال فقل ... مهما تشافهو مأمون ومأمول «3» هديه: وكما أفاض شعراء المديح النبوي في الحديث عن فضائله وخصائصه وميزاته، أفاضوا كذلك في الحديث عن رسالته وهدايته للناس، وتبليغه لشرع الله، على أكمل وجه وأحسنه، أو كما قال البرعي: هداية الله في الدّنيا وخيرته ... من خلقه فهو هادي كلّ حيران «4» وهذا ما ذهب إليه الصرصري حين تحدث عن مقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي ما بعده

_ (1) الشهاب محمود: أهنى المنائع ص 13. (2) ديوان البوصيري: ص 103. (3) المجموعة النبهانية: 3/ 149. (4) ديوان البرعي: ص 53.

مقام، والذي أدّى تكليف خالق الكون أحسن أداء، ثم التفت إلى مدحه بسمات النبوة وجلالها، فقال: مصطفى الله ذي الجلال من الخل ... ق نبيّ له علينا الولاء فأتاهم من ربّه بكتاب ... هو للنّاس رحمة وشفاء ولقد أحسن البلاغ وأبقى ... سنّة لا تشوبها الآراء «1» وأكدّ البوصيري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي وضع الحد الفصل بين الخير والشر، بين شرع الله ونوره، وضلالات الناس وجهالاتهم، فالله تعالى أرسله بهديه لينقذ البشرية من مفاسدها، وجعله صلاح أمرها، فقال: لولا النّبيّ محمّد وعلومه ... لم يعرف التّحسين والتّقبيح عقد الإله به الأمور فلم يكن ... لسواه إمساك ولا تسريح «2» وأجمل السبكي «3» تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفضيل شرعه وأمته، فقال: وخير نبيّ جاء من خير عنصر ... بخير كتاب قد هدى خير أمّة لقد رفع الرّحمن ذكرك فاغتدى ... يقارن ذكر الله عند التّحيّة «4» إن قدر رسول الله عند ربه قدر عظيم، حاول شعراء المديح النبوي إيضاح ذلك والدلالة عليه، كما فعل السبكي، حين جعل اقتران ذكر رسول الله بذكر الله تعالى من علامات رفع الله قدر نبيه، وحين جعل ابن مليك الحموي «5» قسم الله به ما يدل على علو

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 3. (2) ديوان البوصيري: ص 100. (3) السبكي، تقي الدين: علي بن عبد الكافي بن علي، المفسر الحافظ المقرئ، برع في العلوم وولي قضاء الشام ومشيخة دار الحديث، له مصنفات كثيرة. توفي سنة (756 هـ) . شذرات الذهب 6/ 180. (4) المجموعة النبهانية: 1/ 519. (5) ابن مليك الحموي، علي بن محمد بن علي، شاعر ولد بحماة وانتقل إلى دمشق وتفقه، له ديوان شعر، توفي (917 هـ) . الغزي: الكواكب السائرة 1/ 361.

قدره عند ربه، فالله عز وجل أقام النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم مقاما لم يقمه أحدا من قبله ولا بعده، فقال في ذلك: نبيّ به الرّحمن أقسم واسمه ... من الحمد والفرقان قد جاء مشتقّا نبيّ غدا في حلبة الفضل سابقا ... فمن ذا يجاريه وقد أحرز السّبقا فبالغ وحدّث عن علوّ مقامه ... فكلّ غلوّ جاء في مدحه طبقا «1» وبعد أن أفرغ شعراء المدائح النبوية ما في جعبتهم حول فضائل رسول الله وأوصافه، تحدثوا عن صبره ومصابرته في تبليغ رسالته، وجهاده في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق، وإزهاق الباطل، وأفاضوا في الحديث عن جهاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصحبه، وقتاله في سبيل الله، وشجاعته في مواجهة أعداء الله والحق، فأشادوا ببطولته المتناهية حين واجه الجاحدين للحق، وقاد المسلمين من نصر إلى نصر بتأييد من الله وبجنود من عنده، حتى أقام عمود الإسلام، وهدم صرح الشرك والضلاله. وهذا ما عبر عنه الصرصري في قوله: مؤيّد الجيش بالأملاك تقدمه ... للنّصر في حومة الهيجاء ريح صبا فأصبح الدّين معمور الجناب به ... ومربع الكفر أضحى مقفرا خربا «2» وأشار الشهاب محمود إلى صبر رسول الله وأناته في تبليغ دعوته، وإيصالها إلى الناس بالطرق المختلفة والسبل المتاحة، مؤيّدا بنصر من الله، وحمايته من كيد الأعداء، فقال: فصبرت تدعوهم وتحلم عنهم ... وتروض جامحهم وتلطف قيلا وحماك ربّك من حبائل كيدهم ... ليتمّ سابق أمره المفعولا أوحى إليك الله ما أوحى وما ... كذب الفؤاد ولا استراب ذهولا «3»

_ (1) ديوان ابن مليك الحموي ص 14. (2) المجموعة النبهانية: 1/ 396. (3) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 11.

فشجاعة رسول الله وثباته في جهاده من أجل الحق، حقيقة يجب أن تبقى ماثلة في نفوس المسلمين، وأن يقتدوا بها في صراعهم مع أعدائهم، ولذلك كررها شعراء المديح النبوي في قصائدهم. وهكذا استقصى شعراء المديح النبوي فضائل رسول الله وخصائصه، والمعاني الدينية المتعلقة به، وكرروها في جميع قصائدهم، منتشين بعظمة رسولهم الكريم، وبأثره الخيّر في حياة الإنسانية، مازجين هذه المعاني السامية التي ينفرد بها النبي المصطفى بالمعاني التقليدية التي اعتاد العرب على المدح بها ليظهروا ما كان عليه رسول الله من عظمة وسمو في الجانب الديني والجانب الإنساني، وما تركه من خير ورحمة لأمّته، فوصفه البرعي بقوله: محمّد من زكت شمس الوجود به ... وطاب من ثمرات الكون عرفاه فرد الجلالة فرد الجود ألبسه ... تاج الجلالة من للخلق أهداه ومثله ما رأت عين ولا سمعت ... أذن ولا نطقت به في الكون أفواه «1» لقد حاول شعراء المديح النبوي قدر استطاعتهم أن يجملوا فضائل رسول الله، وأن يوضحوا خصائصه وميزاته، فنشروها في قصائدهم، وتتبّعوها في مصادرها، حريصين على ألّا يفوتهم شيء منها، ليردّوا على منتقصي النبي الكريم من ناحية، وليشيعوا هذه الشمائل الكريمة بين الناس، لينعموا بذكرها، ويقتدوا ويعتبروا من ناحية ثانية.

_ (1) ديوان البرعي: ص 34.

السيرة:

السيرة: لم يكتف شعراء المديح النبوي بمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقيم الاجتماعية التقليدية التي كانت مدار فخر العرب، ولا بالفضائل الدينية التي تميّزه عن غيره من البشر، لأنه نبي مرسل، وعلى الرغم من اتساعهم في هذا المنحى اتساعا كبيرا، إلا أنهم اتسعوا أكثر في حديثهم عن سيرته المباركة ومعجزاته الخارقة. فسيرته حافلة بضروب الكفاح والصبر والتصميم، والمواقف الإنسانية الرائعة، التي يطيب ذكرها والتمثّل بها، والاقتداء بما تدل عليه، لذلك حرص شعراء المديح النبوي على إيراد شيء من سيرته العطرة في قصائدهم، وربما قصروا بعض قصائدهم على السيرة، فاقتربت هذه القصائد من المنظومات التعليمية التي لايهم أصحابها إلا الإحاطة بملامح السيرة الأساسية دون تدخل من الشاعر أو تعقيب، أو التفكّر بها وإظهار مشاعره نحوها. وقد ظهر هذا اللون من المدائح النبوية في وقت مبكر نوعا ما، مثل القصيدة الشقراطيسية التي نظمها عبد الله بن زكريا الشقراطيسي، وقصرها على إيراد معجزاته صلّى الله عليه وسلّم وسيرته، فابتدأها بقوله: الحمد لله منّا باعث الرّسل ... هدى بأحمد منّا أحمد السبّل ثم أخذ يسرد معجزاته، مبتدئا بما ظهر عند مولده، فقال: ضاءت لمولده الآفاق واتّصلت ... بشرى الهواتف في الإشراق والطّفل «1» بعد ذلك عرض سيرته العطرة، ودعوته المباركة، وما لاقاه مع المسلمين الأوائل في سبيل هذه الدعوة، حتى تمّ لهم النصر وفتح مكة، فقال:

_ (1) الطفل: العشي.

قالوا: محمّد قد حلّت كتائبه ... كالأسد تزأر في أنيابها العصل فويل مكّة من آثار وطأته ... وويل أمّ قريش من جوى الهبل فجدت عفوا بفضل العفو منك ولم ... تلمم ولا بأليم اللّوم والعذل «1» ولم ينس الشقراطيسي أن يتحدث عن شجاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانتصاره على أعدائه، وجهاد الصحابة معه، وغير ذلك من الأحداث الكبيرة في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهذا ما فعله البوصيري في همزيته، إذ عرض فيها سيرة النبي الكريم، وما رافقها من معجزات، فبدأ ذلك بالحديث عن المولد، وقال: وتوالت بشرى الهواتف أن قد ... ولد المصطفى وحقّ الهناء ومضى البوصيري في عرض مولد رسول الله، فأشار إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم ولد رافعا رأسه إلى السماء، وأن معجزات باهرة رافقت هذا المولد، وبعد ذلك انتقل إلى رضاعه وطفولته في بني سعد، وما جرى له في طفولته. ثم عرض البوصيري صورا من نشأة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ألف النّسك والعبادة والخل ... وة طفلا وهكذا النّجباء ورأته خديجة والتّقى والز ... زهد فيه سجيّة والحياء فدعته إلى الزواج وما أح ... سن ما يبلغ المنى الأذكياء وأتاه في بيتها جبريل ... ولذي اللّبّ في الأمور ارتياء ثمّ قام النّبيّ يدعو إلى الل ... له وفي الكفر نجدة وإباء وهكذا استمر البوصيري في قصيدته، ينتقل من مرحلة إلى مرحلة من حياة رسول

_ (1) النويري: نهاية الأرب 18/ 342.

الله وسيرته، عارضا بعض ما يتذكره منها برشاقة لم تعهد عند ناظمي سيرة النبي الكريم، فنراه يتحدث عن دعوة الرسول الأمين وجهاده، بقوله: وهو يدعو إلى الإله وإن شق ... ق عليه كفر به وازدراء وتوالت للمصطفى الآية الكب ... رى عليهم والغارة الشّعواء فإذا ما تلى كتابا من اللّ ... له تلتّه كتيبة خضراء والقصيدة زاخرة بالتفاصيل التي تدل على معرفة البوصيري بالسيرة وبدقائقها، والتي انتخبها البوصيري ليظهر فيها ما تدل عليه هذه الأحداث من عظمة رسول الله، وليتعظ الناس بهذه السيرة الكريمة، ويشبعوا مشاعرهم الدينية بتذكر المواقف المملوءة بالدلالات، والتي حدثت مع نبيهم المعظم، أو كما قال: واملأ السّمع من محاسن يملي ... ها عليك الإنشاد والإنشاء «1» أو كقوله في قصيدة أخرى، داعيا إلى ذكر رسول الله ونشر سيرته ومناقبه: وانشر أحاديث النّبيّ فكلّ ما ... ترّويه من خبر الحبيب مليح واذكر مناقبه التي ألفاظها ... ضاق الفضاء بذكرها واللّوح «2» ونجد عند البوصيري عرضا رائعا لبعض وقائع السيرة، يضفي عليها مشاعره وأحاسيسه، فجاءت في سياق المدح مندمجة فيه، وليست إيرادا فقط، أو ذكرا مجردا، فقد قال في واقعة الهجرة والغار: وا غيرتا حين أضحى الغار وهو به ... كمثل قلبي معمور ومأهول

_ (1) ديوان البوصيري: ص 50. (2) المصدر نفسه: ص 104.

كأنّما المصطفى فيه وصاحبه الص ... صدّيق ليثان قد آواهما غيل وجلّل الغار نسيج العنكبوت على ... وهن فيا حبّذا نسج وتجليل «1» ومن الشعراء الذين عرضوا السيرة في مدائحهم، الصرصري الذي اتسع في نظم المديح النبوي اتساعا كبيرا، ونظم للسيرة والمعجزات قصيدة طويلة بلغت ثماني مئة وخمسين بيتا، بدأها منذ بداية الخلق، فقال: أصبحت أنظم مدح أكرم مرسل ... لهجا به في رائق الأوزان حبّرت فيه قصيدة أودعتها ... من مسند الأخبار حسن معان «2» وبعد أن تحدث الصرصري عن بداية الخلق وقدم النور المحمدي، تحدث عن دلائل النبوة وتبشير الكتب السماوية به، ثم أخذ يتابع حياة رسول الله وسيرته مرحلة مرحلة، فتحدث عن الدعوة والهجرة وصراع المسلمين مع المشركين وما ظهر لرسول الله من معجزات أثناء ذلك، ثم وصفه وصفا خارجيا، وكأنه يريد تعريف أهل عصره بصفات النبي الكريم ومحاسنه، ليشكلوا في أذهانهم صورة قريبة مما وصفه به الصحابة الكرام. ولم ينس الصرصري أن يمدح رسول الله بخصائصه وشمائله وفضائله وأن يتحدث عن أمور في العقيدة كانت مثارة في عصر الشاعر، وأن يشير إلى بعض قضايا المديح النبوي. فجاءت قصيدته شاملة لوقائع السيرة والمعجزات، ولمعاني المديح النبوي وقضاياه. وتابع شعراء المديح النبوي البوصيري والصرصري في نظم قصائد مدحية

_ (1) ديوان البوصيري: ص 225. (2) ديوان الصرصري، ورقة 96.

المعجزات:

تستعرض سيرة رسول الله، وتظهر مواقف العظمة والعبرة فيها، فمنهم من جعل الحديث عن السيرة في قصائد خاصة، ومنهم من عرض أجزاء منها في ثنايا مدائحهم النبوية، فاستوفوا السيرة بكل تفاصيلها، يأخذ كل منهم جانبا منها، وفق المعنى الذي يريد إبرازه في قصيدته، وكأنهم نثروا كتب السيرة في قصائدهم. واختلف الشعراء في طريقة عرضهم للسيرة، فمنهم من اقتطع منها مواقف محددة ذات دلالة، وأدمجها في قصيدته لتكمل المعاني وتؤكدها، وأظهر مشاعره نحو هذه المواقف، ومنهم من أخذ في نظم السيرة النبوية الكريمة نظما موضوعيا، مبتدئا من المولد، منتهيا بالوفاة، مارّا بأبرز الأحداث والمواقف في حياة رسول الله دون أن يشرح أو يعقّب أو يستخلص العبرة والمثل ومواطن العظمة والاقتداء، فاقتربت المدائح النبوية بذلك من المنظومات التعليمية. المعجزات: إلا أن سرد السيرة في المدائح النبوية اختلط بذكر المعجزات التي ظهرت مع مولده صلّى الله عليه وسلّم وبعثته ودعوته، وقد اتسع شعراء المديح النبوي في ذكر هذه المعجزات اتساعا كبيرا، بسبب شيوع الحديث عن هذه المعجزات والتأليف فيها، وبسبب الجدل الديني مع أهل الكتاب، وغذّى هذا التوجه نحو الإفراط في نسب المعجزات إلى رسول الله، سيادة الاتجاه الصوفي، الذي يميل أصحابه إلى الخوارق والكرامات، وادّعائها وقد يكون في نسبتها إلى رسول الله ما يسوّغ لهم نسبتها إلى أنفسهم، ويعطيهم مصداقية لما يدعون. ويظهر أن نسبة الكثير من المعجزات إلى النبي الكريم كانت محل أخذ ورد بين علماء الدين، فمنهم من أنكر قسما كبيرا منها، وعدّها من المنحول، ومن صنع

القصّاصين الذين تزيّدوا في أمور الدين ليرضوا خيال العامة، وليزيدوا من الترغيب والترهيب. ومنهم من قبل هذه المعجزات جميعها، وحرص على نسبتها إلى رسول الله لأن مكانة رسول الله عند ربه، وعلو قدره، تتيح له أن تظهر المعجزات المختلفة على يديه. وقد حفلت كتب السيرة عامة، والمتأخّرة منها خاصة، بالمعجزات المختلفة التي لا تعلي قدر رسول الله، ولا تزيد من كرامته، فمقامه السامي ليس بحاجة إلى مثل هذه المعجزات ليعرفه الناس، وليتسع بها المؤلفون والمادحون اتساعا كبيرا، فقيل في ذلك: «كان له عليه الصلاة والسلام كرامات ومعجزات في حياته وقبل مولده، وبعد موته» «1» . فمن المعجزات التي أطنب المؤلفون في ذكرها، واتسع المادحون في نظمها، المعجزات التي ظهرت عند مولد النبي، ومنها «احتباس الشياطين ورجمها، وانشقاق إيوان كسرى، وخمود نار فارس، وغيض بحيرة ساوة، وسجود الكعبة نحو مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وتساقط الأصنام» «2» . أخذ البوصيري هذه المعجزات ونظمها، فقال: يوم تفرّس فيه الفرس أنّهم ... قد أنذروا بحلول البؤس والنّقم وبات إيوان كسرى وهو منصدع ... كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم والنّار خامدة الأنفاس من أسف ... عليه والنّهر ساهي العين من سدم وساء ساوة أن غاضت بحيرتها ... وردّ واردها بالغيظ حين ظمي «3»

_ (1) السهيلي: الروض الأنف 2/ 374. (2) الديار بكري، حسين: تاريخ الخميس ص 200. (3) ديوان البوصيري: ص 242.

أما الشهاب محمود، فقد صرّح بأن هذه الظواهر التي رافقت مولده صلّى الله عليه وسلّم هي معجزات له، فقال: وخمود بيّت النّار من آياتك ال ... لاتي تردّ الطّرف عنك كليلا وكذاك في الإيوان أعظم معجز ... بهر العقول وحيّر المعقولا «1» ولم تقتصر معجزات المولد على الظواهر التي حدثت يوم المولد أو قبيله، مبشرة بمولد رسول الإنسانية بل ظهرت المعجزات في حمله ومولده صلّى الله عليه وسلّم، الذي اختلف في ذلك عن غيره من البشر، فقيل في هذا: «ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معذورا مسرورا.. وكانت أمه تحدّث أنها لم تجد حين حملت به ما تجد الحوامل من ثقل ولا وحم ولا غير ذلك، ولمّا وضعته صلّى الله عليه وسلّم وقع على الأرض، مقبوضة أصابع يديه، مشيرا بالسبابة كالمسبّح بها» «2» وقد نظم بهاء الدين السبكي «3» هذه الرواية، فقال: وآمنة لم تلق في حملك الأذى ... وقد أمنت من كلّ ضيم وشدّة وقد أبصرت نورا أضاء لها به ... معاهد بصرى كلّها وتجلّت ولدت سعيدا رافع الرّأس واضعا ... يديك لتعظيم الإله وحرمة «4» وحاول البوصيري في ذكره لمعجزات المولد أن يحرك رتابة الرواية، فقال: يوم نالت بوضعه ابنة وهب ... من فخار ما لم تنله النّساء رافعا رأسه وفي ذلك الرّف ... ع إلى كلّ سؤدد إيماء رامقا طرفه السّماء ومرمى ... عين من شأنه العلوّ العلاء «5»

_ (1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 9. (2) السهيلي: الروض الآنف 1/ 105. (3) بهاء الدين السبكي، أحمد بن علي بن عبد الكافي، اشتغل بالعلم ومهر، وولي القضاء، توفي سنة (773 هـ) . شذرات الذهب: 6/ 226. (4) المجموعة النبهانية: 1/ 521. (5) ديوان البوصيري: ص 51.

ومضى شعراء المديح النبوي في تتبعهم للسيرة، يعرضون ما أدرج في كتبها من معجزات، فبعد أن ولد رسول الله ونما، أرسل إلى البادية للرضاع، وليشب قوي البنية، وأثناء ذلك ظهرت له عدة معجزات، نظمها البوصيري في قوله: وبدت في رضاعه معجزات ... ليس فيها عن العيون خفاء إذ أبته ليتمه مرضعات ... قلن ما في اليتيم عنّا غناء فأتته من آل سعد فتاة ... قد أبتها لفقرها الرّضعاء أخصب العيش عندها بعد محل ... إذ غدا للنّبيّ منها غذاء وإذا أحاطت به ملائكة الل ... له فظنّت بأنّهم قرناء شقّ عن قلبه وأخرج منه ... مضغة عند غسله سوداء ختمته يمنى الأمين وقد أو ... دع ما لم تذع له أنباء «1» ومعجزة انشقاق الصدر، كلف بها مدّاح النبي، فرددوها في قصائدهم، واختلفوا في عدد المرات التي شق فيها صدره الشريف، فقال الصرصري: وأبثّ بعض المعجزات فنظمها ... درّ ثمين بالمسامع يلقط شرح الملائك صدره في أربع ... يا حبّذا ما ضمّ منه المخيط وكذاك في عشر وفي معراجه ... نقل الثّلاثة حافظ لا يغلط «2» وقد حرص شعراء المديح النبوي على ذكر كل ما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من معجزات وكرامات، لا يتركون منها كبيرة ولا صغيرة، يتتبعون كتب السيرة

_ (1) ديوان البوصيري: ص 51. (2) ديوان الصرصري: ورقة 55.

والخصائص، وينظمون ما يرد فيها، ولو كانت أحاديث المعجزات ضعيفة متروكة، مثل حديث إحياء الله تعالى لأبوي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليؤمنا به، الذي أعاده السيوطي إلى أهل العلم والحديث، فقال: «ويرون أن ضعف إسناده في هذا المقام مغتفر، وأن إيراد ما ضعف من الفضائل والمناقب معتبر، وقد خرّجت الأئمة في أبواب المناقب ما هو أشد ضعفا من هذا، وتسامحوا فيها بإيراد ما لم يصل إلى رتبته ولا حاذى، ووجّهوه بأنواع من التوجيه، وارتضوه لما فيه من التبرئة والتزيين. وقد قال الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقي «1» في حديث إحياء والدي رسول الله: حبا الله النّبيّ مزيد فضل ... على فضل وكان به رؤوفا فأحيى أمّه وكذا أباه ... لإيمان به فضلا لطيفا فسلّم فالقديم بذا قدير ... وإن كان الحديث به ضعيفا «2» لقد حفل كتاب الخصائص الكبرى، بمثل هذه الكرامات والمعجزات، التي وصلت إلى السيوطي، فاستقصاها في كتابه، وهذا ما حمل محقق الكتاب على تتبع روايات المعجزات وأحاديثها، وتفنيدها، فأقرّ بعضها، وأنكر بعضها الآخر، فقال مثلا: «انشقاق القمر صحيح» «3» . وقال: «معجزاته صلّى الله عليه وسلّم في تكثير الطعام، أحاديث كثيرة وصحيحة» «4» .

_ (1) ابن ناصر الدين الدمشقي: محمد بن علي بن منصور، فقيه أديب قاض، حدّث ودرّس، وولي قضاء مصر، كان بارعا في الفقه، صلبا في الحكم، متواضعا ليّن الجانب، توفي سنة (786 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 6/ 293. (2) مقامات السيوطي: ص 87. (3) السيوطي: الخصائص الكبرى 1/ 312. (4) المصدر نفسه: 2/ 227.

أما ما أنكره، فمنه حديث نطق الذئب، حيث قال: «لماذا انفردت الذئاب وحدها بإرسال وافدها.. الحديث وأشباهه، تشبه أن تكون من أسمار الرعاة» «1» . وذهب هذا المذهب في نظرته إلى روايات إحياء الموتى وكلامهم، وقال إنها موضوعة «2» . وشكّك أيضا بأحاديث حياته صلّى الله عليه وسلّم في قبره «3» . وقد قال الدكتور زكي مبارك عن مثل هذه الأخبار: «بعض أخبار المعجزات يحتاج إلى تحقيق.. فهي مسائل يحتاج عرضها إلى مخاطرة، وهي مخشية الضر قبل أن تكون مرجوة النفع» «4» . ويبدو أن مثل هذه الأحاديث والروايات كانت موضع جدال بين علماء الدين، وهذا ما ذكره السيوطي في مقاماته، وذكره الشاعر ابن ناصر الدين الدمشقي، وقبل فيه الأحاديث الضعيفة إذا كانت تتعلق بقدرة الله عز وجل وحباء رسوله بالمعجزات، فقدرة الله لا حد لها، وكرمه على عباده لا حد له، وكأن هذه القدرة الكلية، وهذا الكرم المتناهي، يغفران التزيّد والتقوّل في الدين، أو كأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحاجة إلى مثل هذه الأحاديث، ليزيد تقدير المؤمنين له، أو ليزيد عدد المؤمنين برسالته. ويظهر أن معظم شعراء المديح النبوي لم يلتفتوا إلى هذا الجدل حول معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخذوها جميعها، وأدرجوها في مدائحهم النبوية، وربما كان ميل الشعراء إلى المبالغة، قد وجد ضالته في مثل هذه الأحاديث، فالقاضي المحدث

_ (1) السيوطي: الخصائص الكبرى 2/ 270. (2) المصدر نفسه: 2/ 281. (3) المصدر نفسه 3/ 304. (4) د. مبارك زكي: المدائح النبوية في الأدب العربي ص 190.

بهاء الدين السبكي، يصرح في إحدى مدائحه النبوية، بأنه سيعرض فيها بعض المعجزات على كثرتها، وعجز الناس عن حصرها، فيقول: له المعجزات الغرّ لاحت خوارقا ... وباهر آيات عن الحصر جلّت ولكن سنأتي من بدائع حسنها ... بنزر يسير وقعة بعد وقعة «1» وقد تفاوت شعراء المديح النبوي في القدر الذي يذكرونه من هذه المعجزات، فمنهم من اقتصر على معجزة واحدة، ومنهم من انتخب منها الأصح والأثبت، ومنهم من ذكر منها ما وسعه إلى ذلك سبيلا، فابن حجر انتخب بعض هذه المعجزات، وضمّنها مدحته النبوية، فقال: ذي المعجزات فكلّ ذي بصر غدا ... لصوابها بالعين ذا تصويب وانشقّ بدر التّمّ معجزة له ... وبه أتاه النّصر قبل مغيب نطق الجماد بكفّه وبه جرى ... ماء كما ينصبّ من أنبوب «2» وخصّص بعض شعراء المديح النبوي جلّ قصائدهم لذكر المعجزات، وكأنهم بلغوا بذلك في المدح النبوي منتهاه، لأن المعجزات في نظرهم أهم جانب في شخصية الإنسان، وهي دليل القوة الخارقة، والقرب من الله تعالى. فصار ذكر المعجزات سمة عامة في المدائح النبوية، يحاول الشاعر أن يحشد أكبر قدر من المعجزات في قصيدته، ولا يتوقف عندها ليستخلص العبر، أو ليظهر عواطفه اتجاهها، وإنما يمضي في سردها سردا مجردا، بل إن بعض القصائد أوقفت على إيراد

_ (1) المجموعة النبهانية: 1/ 519. (2) المصدر نفسه: 1/ 460.

المعجزات، وكأن همّ أصحابها هو أن ينظموا فيها كل ما ذكرته كتب السيرة والخصائص، مثل القصيدة الشقراطيسية التي مرّت معنا. أما البوصيري، فإنه لا يسرد المعجزات سردا، بل ينثرها في قصيدته، ويظهر ما يراه فيها، ومشاعره نحو صاحبها، وربما أوردها في باب المقارنة بين معاملة أهل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له، وبين تعاطف الطبيعة معه، مظهرا المعجز في ذلك، وقد يورد بعض هذه المعجزات للدلالة على مكانة رسول الله، وإثباتا لنبوته، وخاصة عند ما يجادل أهل الكتاب، فبعد إحدى هذه المجادلات، قال: عجبا لهم لم ينكرون نبوّة ... ثبتت ولم ينفخ بادم روح أعجبت أن غدت الغمامة آية ... لمحمّد يغدو بها ويروح أو أن أتت سرح إليه مطيعة ... فكأنّما أتت الرّياض سروح «1» ولمنبع الماء المعين براحة ... راح الحصى وله بها تسبيح وبأن يرى الأعمى وتنقلب العصا ... سيفا ويحيا الميت وهو طريح وبأن يفيض له ويعذب منهل ... قد كان مرّا ماؤه المنزوح يا برد أكباد أصاب عطاشها ... ماء بريق محمّد مجدوح «2» والبوصيري يدافع عن هذه المعجزات وصحتها، لأن العقل يتوافق فيها مع النص، فيقول: وكم أتت عن رسول الله بيّنة ... في فضلها وافق المنقول معقول

_ (1) سروح: دواب سارحة. (2) ديوان البوصيري: ص 104.

نور فليس له ظلّ يرى وله ... من الغمامة أنّى سار تظليل ولا يرى في الثّرى أثر لأخمصه ... إذا مشى وله في الصّخر توحيل «1» ويدعو في قصيدة أخرى إلى التصديق بمعجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقول: صدّق بما حدّثت عنه ففي الورى ... بالغيب عنه مصدّق ومكذّب فاطرب لتسبيح الحصى في كفّه ... فمن السّماع لذكره ما يطرب والجذع حنّ له وبات كمغرم ... قلق بفقد حبيبه يتكرّب واهتزّ من فرح (ثبير) تحته ... ومن الجبال مسبّح ومؤوّب وشفى جميع المؤلمات بريقه ... يا طيب ما يرقي به ويطيّب «2» فالبوصيري متفرّد في تحريك عرضه للمعجزات، عن طريق التمثيل والتشبيه والتعقيب وإظهار مشاعره، ونادرا ما نجد شاعرا يجاريه في هذه المقدرة. وظل الشعراء يذكرون المعجزات، فلا يخرجون عن تعدادها، ونظمها وراء بعضها، وكأن الشاعر يقرر علما من العلوم. وأكبر معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هي القرآن الكريم، ومع ذلك فإن بعض شعراء المديح النبوي، لم يتسعوا في ذكرها اتساعهم في ذكر غيرها، لكن بعضهم بسط القول فيها، مثل البوصيري الذي أسهب في الحديث عنها وعرض مزايا القرآن الكريم ووجوه إعجازه. فتحدث في بردته عن آيات القرآن الكريم وفضلها وخلودها وأثرها في الناس، فقال:

_ (1) ديوان البوصيري: ص 224. (2) المصدر نفسه: ص 90.

آيات حقّ من الرّحمن محدثة ... قديمة، صفة الموصوف بالقدم دامت لدينا ففاقت كلّ معجزة ... من النّبيّين إذ جاءت ولم تدم ردّت بلاغتها دعوى معارضها ... ردّ الغيوريد الجاني عن الحرم قرّت بها عين قاريها فقلت له ... لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم إن تتلها خيفة من حرّ نار لظى ... أطفأت نار لظى من وردها الشّبم «1» والمعجزة التي ذكرها مدّاح النبي جميعا، وأفاضوا في الحديث عنها، هي معجزة الإسراء والمعراج، والتي ألّفت فيها كتب خاصة، وتحدثت عنها كتب السيرة والخصائص والدلائل، فعكس شعراء المدائح النبوية هذا الاهتمام، وخاصة أصحاب التوجه الصوفي منهم، لأنها تمثّل الاتصال المباشر بين الأرض والسماء، والمتصوفة يريدون من وراء طريقتهم إقامة صلة لهم بالسماء، والحادثة المقدسة مناسبة للتوسع في الحديث عن الغيبيات التي كلف بها المتصوفة، لذلك اختلفت روايات الإسراء والمعراج، وتباينت آراء الفقهاء في طريقة حدوثها، فقال السيوطي عن هذا التباين: «اختلف في المعراج والإسراء، هل كانا في ليلة واحدة أم لا؟ وأيّهما كان قبل الآخر؟ وهل كان في اليقظة أم في المنام، أو بعضه في اليقظة وبعضه في المنام؟ وهل كان مرّة أو مرتين أو مرات؟ فذهب الجمهور من المفسرين والمحدّثين والفقهاء والمتكلمين إلى أنهما وقعا في ليلة واحدة، في اليقظة، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة» «2» . ولذلك يقول ابن حجر «3» في إحدى مدائحه النبوية: سرى للمسجد الأقصى بليل ... من البيت الحرام إلى السّماء

_ (1) ديوان البوصيري: ص 244. (2) السيوطي: الآية الكبرى ص 30. (3) ابن حجر: أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، عالم عصره وحافظ الحديث فيه، له مصنفات جليلة في الحديث والتاريخ منها (فتح الباري بشرح البخاري) . توفي سنة (852 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 2/ 36.

رفيق الرّوح بالجسم ارتقى في ... طباق حفّ فيها بالهناء علا ودنا وجاز إلى مقام ... كريم خصّ فيه بالاصطفاء ولم ير ربّه جهرا سواه ... لسرّ فيه جلّ عن امتراء «1» والبيت الأخير يشير إلى خلاف آخر بين العلماء حول رؤية رسول الله لربه عيانا، فرجّحه بعضهم، ومنهم ابن حجر، والسيوطي في كتابه (الآية الكبرى) «2» . وتباين شعراء المديح النبوي في طريقة تناولهم لمعجزة الإسراء والمعراج، وفي اتساعهم في الحديث عنها، فالبوصيري عرض لهذه المعجزة في همزيته فقال: فصف اللّيلة التي كان للمخ ... تار فيها على البراق استواء وترقّى به إلى قاب قوسي ... ن وتلك السّيادة القعساء رتب تسقط الأمانيّ حسرى ... دونها ما وراءهنّ وراء «3» وهو يشدّد على مكانة الرسول الكريم عند ربه، والتي لا يدانيه فيها أحد، ولولا هذه المكانة ما قرّ به الله هذا القرب، وما عرّج به إلى ملكوته، ويرى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإسرائه ومعراجه أضحى في مرتبة سامية متفرّدة. وأشار في قصيدة أخرى إلى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كشف عنه الحجاب أثناء إسرائه ومعراجه، وحاز العلوم الإلهية كلها، وهذا ما يشغل المتصوفة من حادثة الإسراء والمعراج، وما يسعون إليه في طريقتهم، ولذلك جعلوا رسول الله صاحب مذهبهم ورأس طريقتهم، فقال:

_ (1) المجموعة النبهانية: 1/ 168. (2) السيوطي: الآية الكبرى ص 45. (3) ديوان البوصيري: ص 54.

كشف الغطاء له وقد أسري به ... فعلومه لا شيء عنها يغرب ولقاب قوسين انتهى فمحلّه ... من قاب قوسين المحلّ الأقرب فات العبارة والإشارة فضله ... فعليك منه بما يقال ويكتب «1» وعاد البوصيري إلى التأكيد على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أسري به وعرّج بجمسه وروحه، وليس بروحه فقط، مؤيدا بذلك وجهة النظر السائدة، والتي رجّحها كثير من العلماء على الرأي الذي يقول إنه أسري به وعرّج بروحه فقط، فقال: أسرى الإله بجسمه فكأنّه ... بطل على متن البراق مشيح ودنا فلا يد آمل ممتدّة ... طمعا ولا طرف إليه طموح حتى إذا أوحى إليه الله ما ... أوحى وحان إلى الرّجوع جنوح عاد البراق به وثوب أديمه ... ليلا بماء حيائه منضوح «2» فمعجزة الإسراء والمعراج معجزة مشتركة بين المدائح النبوية، قلّما نجد شاعرا ينظم مدحة نبوية، ولا يذكر هذه المعجزة، فمنهم من أسهب في الحديث عنها، ومنهم من اقتصر على الإشارة إليها إشارة عابرة في ذكره معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. إن تعلق الشعراء بالمعجزات في المديح النبوي، لم يجاره إلا إظهار مشاعرهم الدينية، فجميع مدّاح النبي الكريم ذكروا معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واتسعوا في الحديث عنها، ولم يتركوا مظهرا من مظاهر إعجازه صلّى الله عليه وسلّم إلّا أشاروا إليه في قصائدهم، وكأنهم بلغوا الغاية في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو أنهم يريدون تعريف الناس بها، وخاصة أولئك الذين لا يتصلون بالكتاب، ولا يجيدون قراءته، أو أنهم يريدون تحريك نوازع الإيمان

_ (1) ديوان البوصيري: ص 90. (2) المصدر نفسه: ص 105، مشيح: جاد في الأمور، منضوح: مرشوش.

تفضيله:

والتقوى في نفوس اللاهين، أو الذين يميلون إلى الخوارق في كل شيء، وخاصة العامة الذين يستهويهم القص، ويرغبون في الخوارق التي تشبع عواطفهم الدينية، ولذلك لم يلتفت شعراء المدائح النبوية إلى ما يثار حول هذه المعجزات من جدل؛ ولم يميزوا بين ما هو ثابت الرواية صحيح النقل، وبين ما هو ضعيف مشكوك فيه، لأنهم وجدوا أنفسهم في رحاب الفن الذي يستجيب للخارق المفعم بالدلالات، وليسوا في مجالس العلم التي تدقق في كل شيء. تفضيله: أراد شعراء المدائح النبوية إيصال ما يشعرون به إلى الناس بأية طريقة، وما يشعرون به هو كمال رسول الله، وتفرّده وعلو مقامه، وليس أفضل من المعجزات تعبيرا عن ذلك. وربما انساقوا إلى هذا الحرص على ذكر المعجزات بفعل الجدل الديني مع أهل الكتاب، الذين نسبوا إلى أنبيائهم معجزات كثيرة في معرض التفاضل بين الأنبياء والأديان، فجارى المسلمون هؤلاء في الإكثار من نسب المعجزات إلى رسول الله، ونثرها بين الناس، وهذا ما قادهم في مدائحهم النبوية إلى تفضيل النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم على الأنبياء جميعا، وتقديمه عليهم في معجزاته وكماله ومكانته عند الله تعالى، وقد أشاروا إلى ذلك في حديث الإسراء والمعراج، إذ إن حديث الإسراء والمعراج يفصح عن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصلّى بهم في المسجد الأقصى، وقابلهم أثناء عروجه إلى السماوات العلى، وقد افتتح البوصيري همزيته في التفضيل هذا فقال: كيف ترقى رقيّك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء لم يّساووك في علاك وقد حا ... ل سنا منك دونهم وسناء إنّما مثّلوا صفاتك للنّا ... س كما مثّل النّجوم الماء «1»

_ (1) ديوان البوصيري: ص 49.

فالبوصيري جعل الأنبياء صورة لفضائل النبي المصطفى، وليسوا مثله في ذاته وجوهره، وليس البوصيري بدعا بين شعراء المدائح النبوية في الإغراق والمبالغة في مسألة تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على سائر الأنبياء والرسل، فهذه المسألة أشبعها أصحاب كتب السيرة المتأخرون، وكتب الخصائص، توسيعا وتفصيلا، بأحاديث وروايات غيبية كثيرة، وقد جاء في كتاب (تاريخ الخميس) أن السيوطي جمع بعض خصائص النبي الكريم في رسالة، سمّاها (نموذج اللبيب في خصائص الحبيب) ، وقال: هي منحصرة في قسمين، القسم الأول في الخصائص التي اختص بها عن جميع الأنبياء، ولم يؤتها نبي قبله، وهي أربعة أنواع: النوع الأول ما اختص به في ذاته في الدنيا ... والنوع الثاني ما اختص به في ذاته في الآخرة..» «1» . ومضى أصحاب كتب الخصائص في ذكر ما اختص به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دون غيره من الأنبياء، وما فضلهم به، وكأنهم في معركة حاسمة مع أهل الكتاب، يريدون كسبها في هذه المفاضلة، كما يريدون كسب معركة الأمة مع الغزاة الصليبيين. وعلى الرغم من أنهم رووا حديثا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ينهى فيه عن تفضيله، وقالوا: إنه حديث مشهور، إلا أنهم ذكروا تأويلا لهذا الحديث، يفضي إلى أنه يجب تفضيله «2» . واستندوا في ذلك على آيات القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، وذهبوا إلى أن الله تعالى فضّل بعض الأنبياء على بعض، فرفع بعضهم فوق بعض درجات، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ «3» .

_ (1) الديار بكري، حسين: تاريخ الخميس ص 213 وللكتاب اسم آخر هو الخصائص الكبرى. (2) ابن الزملكاني: عجالة الراكب، ورقة 91. (3) سورة البقرة: آية 253.

وبذلك قرروا أن «نبينا صلّى الله عليه وسلّم أفضل هذا الأفضل، فهو أفضل مخلوق وأكمله» «1» . وقد أظهر الدكتور زكي مبارك امتعاضه من المبالغة في تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على سائر إخوته من الأنبياء، فحين عقّب على قول البوصيري: فإنّه شمس فضل هم كوكبها ... يظهرن أنوارها للناس في الظّلم قال: «هذا المعنى ينافي الأدب الجميل في رعاية حقوق الأنبياء، وهو يساير به نزعة ساذجة لا يقرها عقل، ولا يدعو إليها دين، وليس ممّا ينقص مجد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون لمن سبقوه من الأنبياء شخصية مستقلة عنه كل الاستقلال» «2» . أخذ شعراء المديح النبوي أحاديث تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأنبياء ورواياته، ونظموها في مدائحهم النبوية، موضحين مظاهر هذا التفضيل وجوانبه. فالبوصيري جعل تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على غيره من الرسل، قائما على المفاضلة بين معجزاتهم ومعجزاته، فقال: وكلّ آي أتت الرسل الكرام بها ... فإنّما اتّصلت من نوره بهم فإنّه شمس فضل هم كواكبها ... يظهرن أنوارها للناس في الظّلم «3» فجرّد الرسل الكرام من معجزاتهم، ونسبها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الرسل استمدوها من نوره، وهو بالنسبة إليهم كالشمس ترسل نورها إلى الكواكب التي تعكس هذا النور، ولهذا فالرسل الكرام توسلوا إلى الله به، وهذا ما أشار إليه الشهاب محمود في قوله:

_ (1) ابن الزملكاني: عجالة الراكب، ورقة 86. (2) مبارك، زكي: المدائح النبوية في الأدب العربي ص 189. (3) ديوان البوصيري: ص 242.

يا من به الرّسل الكرام توسّلوا ... فغدا توسّلهم به مقبولا «1» وأكّد عليه الحلي في قوله: وبك استغاث الأنبياء جميعهم ... عند الشّدائد ربّهم ليعانوا «2» في حين جعل ابن بنت الأعز «3» التفاضل بين الأنبياء مدخلا لسرد معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: وأراه كيف تفاضل الأملاك والر ... رسل الكرام وكان غير مقلّد هل جاء قبلك مرسل بخوارق ... إلّا وجئت بمثله أو أزيد فعصا الكليم تبدّلت أعراضها ... وكذا عصاك تبدّلت بمهنّد «4» أما الباعونية، فتقيم تفضيل النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم على سائر الأنبياء، على الأحاديث الغيبية، وعلى ما روى في قصة الإسراء والمعراج، فتقول: ولقد قامت على تفضيله ... حجج كالشّمس ما عنها غطي أمّه بالرّسل منها وكذا ... حشرهم تحت لواه يا أخي وإذا ما أحجموا عن رتبة ... قام فيها شافعا من غير لي «5» ويظهر أن المفاضلة بين الأنبياء وتفضيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم، ما كانت لتتم بهذه الحدة وتأخذ من جهد الكتّاب والشعراء هذا القدر، لو لم يكن العصر الذي شهد ظهور كتب الخصائص وقصائد المديح النبوي، عصر صراع مع عدو خارجي، أراد محو هذا

_ (1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 14. (2) ديوان الصفي الحلي: ص 81. (3) ابن بنت الأعز: عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن خليفة العلامي، وزير فقيه، تولّى التدريس، توفي سنة (695 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 2/ 279. (4) ابن شاكر: فوات الوفيات 2/ 281. (5) ديوان الباعونية، ورقة 4.

الأمة من الوجود، وجعل الطعن في الإسلام وصاحبه أحد أسلحة عدوانه، فما كان من المسلمين إلا أن ردّوا على هذا الطعن بإظهار مقام نبيهم الكريم والإدلال على أهل الكتاب بهذا المقام السامي، وزاد في المبالغة التي اتسم بها هذا الجانب من الحديث عن رسول الله ما أشاعه المتصوفة من آراء ونظريات متطرفة في الدين، وميلهم المغرق إلي الغيبيات، وتفسيرهم الآيات والأحاديث تفسيرا غيبيّا، لا يتطابق مع تفسيرها الظاهر، وكأنهم يبحثون عما يستتر خلف الحروف لأنهم جعلوا كل شيء رمزا لما يقابله في عالم الغيب الذي يتوقون إليه، وإلى كشف أسراره، حتى إذا وصلوا في مذهبهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، جعلوه قطب أقطابهم، وصاحب طريقتهم، فرفعوه فوق كل مخلوقات الله، وأقاموا عليه نظرية الإنسان الكامل، والحقيقة المحمدية، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم هو أوّل المخلوقات، وهو أبو الأنبياء، أو أنه تجلّى في شكل الأنبياء السابقين له، ومن هنا أعاد بعض شعراء المدائح النبوية فضائل الأنبياء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستغرقوا في الروايات الغيبية التي تتحدث عن هذه العلاقة بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين بقية الأنبياء، هذه العلاقة التي تقوم على استمداد الكرامات والمعجزات من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو عكس نوره الأزلي في ذواتهم، وإلّا فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يذكر نبيا من أنبياء الله إلا بكل تقدير واحترام، وأعطى لكل نبي حقه، فهم إخوته في حمل رسالة الله وهدايته إلى الإنسانية، وإن أحد أركان الإيمان في الإسلام هو الإيمان برسل الله وأنبيائه جميعا، وتقديرهم واحترامهم، أو كما قال البوصيري في إحدى مدائحه النبوية: صلوات الله ذي الفضل على ... رسل الله إلينا أجمعينا أكرم الخلق هم الرّسل لنا ... وأبو القاسم خير المرسلينا «1»

_ (1) ديوان البوصيري: 259.

الحقيقة المحمدية:

الحقيقة المحمدية: إن ذكر معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والاتساع في عرضها في المدائح النبوية، إلى جانب المفاضلة بين الأنبياء وتفضيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم جميعا، والجنوح في ذلك كله إلى الغيبيات، يقودنا إلى الحديث عن الحقيقة المحمدية التي أفاض مادحو الرسول في ذكرها وتفصيلها، فإليها يرجع قدر كبير من المعجزات، ومنها يستمد تفضيله على الأنبياء والخلق أجمعين. والحقيقة المحمدية نظرية دينية، اختلف العلماء في مصدرها، فمنهم من أعادها إلى الدين الإسلامي واتجاهاته المتعددة ومنهم من ذهب بها وبأصولها إلى مؤثرات غريبة عن الإسلام، ترجع إلى المسيحية والفلسفات اليونانية، وخاصة الأفلطونية الحديثة. إن ما يفهم من الحقيقة المحمدية التي فسّرت تفاسير شتى، وتلونت بألوان مختلفة، وصيغت صياغات كثيرة، غامضة في مجملها، أن الله تعالى بدأ خلق الوجود بخلق نور، هذا النور هو أفضل ما في الخلق. وهو النور المحمدي، أو هو النور الذي تجسّد فيما بعد بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم. ويذهب بعض أصحاب هذه النظرية إلى أن النور المحمدي كان يتجسد في أشخاص آخرين قبل أن ينتهي إلى تجسيده الحقيقي والأخير، وهو رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهؤلاء الأشخاص هم أنبياء الله، فهم بذلك تجسيد لحقيقة واحدة، أو لنور واحد، هو النور المحمدي أو الحقيقة المحمدية. وقد وضعت هذه النظرية في قالب آخر، لتحمل دلالة أخرى، وهي أن هذا النور أودع في صلب آدم- عليه الصلاة والسلام- ولا زال ينتقل من صلب إلى صلب، ومن رحم إلى رحم، إلى أن أودع في صلب عبد الله بن عبد المطلب، ورحم آمنة بنت وهب،

والدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم بذلك يريدون الاقتراب من قيمة النسب التي حرص عليها العرب واعتزوا بها، وأعطوها عند النبي الكريم نوعا من القداسة. إلا أن بعض من قالوا بالحقيقة المحمدية، غالوا أكثر من ذلك، فجعلوا النور المحمدي أول مخلوق، ثم جعلوا الوجود كله مخلوقا من هذا النور المحمدي، أو كما قال صاحب (تاريخ الخميس) في فاتحة كتابه: «الحمد لله الذي خلق نور نبيه قبل كل أوائل، ثم خلق منه كل شيء، من الأعالي والأسافل» «1» . واشتقت من هذه النظرية فكرة تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رسل الله وأنبيائه جميعهم، وجعله أصلهم وأبيهم، فهو وإن كان آخر الأنبياء في عالم الشهادة، لكنه أولهم في عالم الغيب، فالنبي المصطفى «أبو الأرواح، كما أن آدم أبو الأشباح.. فبعد ما خرج من الحجب تنفس بأنفاس، فخلق من أنفاسه أرواح الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء وسائر المؤمنين والملائكة» «2» . وقد عبّر المتصوفة عن نظرية الحقيقة المحمدية بشكل آخر، حين صاغوا منها فكرة الإنسان الكامل، فقالوا: «المراد بالنبي صلّى الله عليه وسلّم والرسول، هو الإنسان الكامل الذي اختاره الله تعالى من جنسه، وقربه إليه واصطفاه بالوحي والرسالة..» «3» . وقد تنبه الباحثون على أن نظرية الحقيقة المحمدية تلتقي بنظريات مماثلة في الأديان السماوية والفلسفات الأجنبية، أو أنها مأخوذة عن هذه الأديان أو الفلسفات «4» . بيد أن هذا التقوّل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمغالاة في الحديث عنه، والاستغراق في أمور غيبية لا يعلمها إلا الله، مجاراة لغير المسلمين، لم تمرّ دون معارضة، فكثير من

_ (1) الديار بكري، حسين: تاريخ الخميس ص 2. (2) المصدر نفسه: ص 19. (3) البغدادي، مصطفى: رسالة تنزيه الأنبياء ص 5. (4) انظر الحياة الروحية في الإسلام لمحمد مصطفى حلمي ص 53 وص 69.

علماء المسلمين، رفضوا هذه النظريات وحاربوها، وكثير منهم تهيّبوا من الخوض فيها، واستند الرافضون والمتهيبون في مواقفهم على الأصول الإسلامية من قرآن وحديث، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو أوّل من ردّ على أصحاب هذه النظريات في ذاته، فروي عنه صلّى الله عليه وسلّم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله» «1» . فالنبي الكريم ألهمه الله تعالى في حديثه عن الغيب أو المستقبل أمورا شتى تحققت وستتحقق، ومن هذه الأمور انقسام أمته على نفسها في أمور عقيدتها، وفي النظرة إليه والحديث عنه، ولذلك شدّد في حديثه هذا وفي مجمل أحاديثه على عبوديته لله تعالى قبل كل شيء، فقد اختاره الله سبحانه ليحمل رسالة الهدى والحق، وليعيد العلاقة بين الخالق والمخلوق إلى حقيقتها، وهي علاقة عبودية للخالق، وليست علاقة بنوّة أو تفويض بالخلق، أو بالوساطة مع الخلق، إلى غير ذلك مما جاءت به الحقيقة المحمدية وتفاسيرها، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أثبت ما هو ثابت له، وهو العبودية والرسالة، وأسلم لله ما هو له لا لسواه ولا يشاركه فيه أحد، من القدرة والخلق، وغير ذلك من صفات الله المنفرد بها عن خلقه. أخذ شعراء المدائح النبوية جميعهم بالحقيقة المحمدية، أخذ بدهية دينية لا تحتاج إلى النقاش، وذكروها في قصائدهم، ومدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها، بل جعلوها أقصى ما يمدح به، فقد استهوتهم نظرية الحقيقة المحمدية، لأنها تتجاوب مع تحليق الخيال، ومع المبالغة الشعرية، وقد مدّهم أصحاب السيرة والخصائص والدلائل بفيض من هذه الروايات الغيبية، التي تثير المخيلات، وتفسح المجال أمام القول الشعري، لكن هذه الروايات الغيبية، التي فرح بها الشعراء لها خطرها على العقيدة، أو كما قال محقق كتاب الخصائص الكبرى في مقدمته: «لا شيء أفسد للتاريخ والسّير من تلك الروايات المحلقة في سماء الخيال، والتي تنقل الحياة البشرية من عالم الواقع إلى جو الأساطير،

_ (1) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء 4/ 142.

وليست هناك حياة كانت على الأرض هي أغنى بواقعها المجرد من حياة سيد الخلق محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهي حياة تنطق كل حركة منها، ويشهد كل موقف من مواقفها بأنها حياة بلغت في السلوك البشري حد الإعجاز، وأن خصائصه ومعجزاته التي نطقت بها آيات الكتاب الكريم والسنن الصحيحة والآثار المعتبرة، لهي من الكثرة والوفرة بحيث لا تحتاج إلى تلك الزيادات التي يمجها الذوق السليم، وتعافها حياة الفطرة، والتي لا يشهد لها سند صحيح ولا نقل موثق» «1» . فإذا ما التفتنا إلى المدائح النبوية، وجدناها حافلة بضروب مختلفة من صور نظرية الحقيقة المحمدية، وقلما تجاوز ذكرها شاعر من شعراء المديح النبوي، فابن عربي يعبّر عن نظريته في الحقيقة المحمدية شعرا، ويقول: ويكون هذا السّيّد العلم الذي ... جرّدته من دورة الخلفاء وجعلته الأصل الكريم وآدم ... ما بين طينة خلقه والماء ونقلته حتى استدار زمانه ... وعطفت آخره على الإبداء «2» ونجد نظرة المتصوفة هذه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمنطلقة من الحقيقة المحمدية، في قول ابن زكريا الدروكي «3» من مدحة نبوية: يا قطب دائرة الوجود بأسره ... لولاك لم يكن الوجود المطلق مذ كنت أوّله وكنت أخيره ... في الخافقين لواء مجدك يخفق كنت النّبيّ وآدم في طينة ... ما كان يعلم أيّ خلق يخلق «4»

_ (1) السيوطي: الخصائص الكبرى ص 4. (2) ابن عربي: الفتوحات المكية 1/ 2. (3) الدروكي: محمد بن مصطفى بن زكريا، اشتغل بالعلم وتأدب، كان يعرف التركية والفارسية، تولى الحسبة بغزة، وأدب الملك الناصر قليلا، توفي سنة (713 هـ) . ابن حجر: الدرر الكامنة 4/ 259. (4) ابن حجر: الدرر الكامنة 4/ 295.

أما البوصيري، فإن ذكره للحقيقة المحمدية لم يكن واسعا، ولم يرد في مدائحه النبوية إلا ثلاث مرات، أوضحها في معرض مدح النبي الكريم وذكر معجزاته، والدلالة على قربه من ربه، ورسوخه في النبوة، قال: كان سرّا في ضمير الغيب من ... قبل أن يخلق كون أو يكونا أسجد الله له أملاكه ... يوم خرّوا لأبيه ساجدينا ودعا آدم باسم المصطفى ... دعوة قال لها الصّدق آمينا «1» فالبوصيري شدد على قدم النور المحمدي، وعلى استمرار هذا النور في آباء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منذ بداية الخلق، وعلى عظم قدر هذا النور عند الله تعالى، ولم يعط تفصيلات أكثر لنظرية الحقيقة المحمدية. وهذه المعاني وردت عند الصرصري، ولم يزد عليها شيئا غير التصريح بأن اسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان مكتوبا على العرش عند خلق آدم عليه الصلاة والسلام، فقال في إحدى مدائحه النبوية، وهو يعدّد خصائصه صلّى الله عليه وسلّم: ورأى بعينيه على العرش اسمه ... فدعا به حين استقلّ بذنبه «2» فالصرصري يذكر رواية غيبية عن بداية الخلق، فيها كتب الله اسم رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم على العرش، وتوسل آدم باسم النبي الكريم لينال مغفرة الله تعالى، وقدم نبوة رسول الله التي تتقدم على خلق آدم ووضع النور المحمدي في جبهة آدم، لينتقل بعد ذلك في آباء رسول الله الكرام حتى تجسّد بشخصه الكريم، وهذه كلها صور من صور الحقيقة المحمدية.

_ (1) ديوان البوصيري: ص 258. (2) ديوان الصرصري: ورقة 9.

ووضع الحلّي الحقيقة المحمدية في صورة جديدة، وعلى شكل شروط لحوادث تاريخية، لو اقترنت بخاصة من خصائص الرسول الكريم لما جرت على النحو الذي وقعت به، فقال: لو أنّ جودك للطّوفان حين طمت ... أمواجه ما نجا (نوح) من الغرق لو أنّ عزمك في نار الخليل وقد ... مسّته، لم ينج منها غير محترق لو أنّ بأسك في موسى الكليم وقد ... نوجي، لما خرّ يوم الطّور منصعق «1» فالحلي، جعل الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- يتوسلون برسول الله ليكشف الله تعالى كربهم، وجعله السر في معجزاتهم. ومن هنا جاءت مقارنة الجعبري بين ما أعطي الأنبياء من فضائل، وبين فضائل النبي الكريم في قوله على لسان الخالق عز وجل: إن كان آدم للخلائق أوّلا ... ها أنت يا مختار أوّل خلقنا أو كان إبراهيم أعطي خلّة ... ها أنت يا مختار صرت حبيبنا أو كان يوسف بالجمال منحته ... ها أنت يا مختار أجمل خلقنا «2» وحتى المغاربة الذين اتسم مدحهم النبوي بالاعتدال. وبعده عن التلوّن العقائدي، وصلت الحقيقة المحمدية إلى مدحهم الديني، فجعل ابن زمرّك «3» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علّة الوجود وسرّه، فقال: وأنت لهذا الكون علّة كونه ... ولو لاك ما امتاز الوجود بأكوان

_ (1) ديوان الصفي الحلي: ص 84. (2) ديوان الجعبري: ص 40. (3) ابن زمرّك: محمد بن يوسف، فقيه أديب، سعى في قتل لسان الدين بن الخطيب، وقتل بعد ذلك سنة (795 هـ) . المقري: نفخ الطيب 7/ 162.

ولولاك للأفلاك لم تجل نيّرا ... ولا قلّدت لبّاتهن بشهبان «1» فشعراء المديح النبوي لم يتركوا معنى من معاني الحقيقة المحمدية إلا ذكروه في قصائدهم، وخاصة العلماء منهم، الذين اقتربت مدائحهم من المنظومات العلمية، فهم أرادوا أن يذكروا فيها كل شيء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ما وسعهم إلى ذلك سبيلا، أما الشعراء الذين نظموا المدح النبوي وسواه، فإنهم لم يطيلوا الوقوف عند الحقيقة المحمدية، واكتفى كل منهم بذكر جانب من جوانب الحقيقة المحمدية. فالباعونية المتصوفة التي أغرمت بالفضائل والمعجزات، لم تزد في الحقيقة المحمدية على قولها: محمّد المصطفى الهادي الذي وجدت ... أنواره قبل خلق اللّوح والقلم «2» أما ابن مليك الحموي، فإنه تابع غيره من شعراء المديح النبوي في ذكر الحقيقة المحمدية، ولم يضف شيئا إليهم، فقال في إحدى مدائحه النبوية: لولاه ما كان لا شمس ولا قمر ... ولا سماء ولا أرض ولا جبل ولا بحار ولا ملك ولا ملك ... ولا سماك ولا حوت ولا حمل «3» فالحقيقة المحمدية، نظرية دينية انتشرت في العصر المملوكي وما قبله، لظروف موضوعية، دعت إلى ذيوعها، منها الصراع العقائدي مع أهل الكتاب، ومحاولة مجاراتهم في صفة السيد المسيح وطبيعته، ومنها انتشار التصوف الذي يميل مريدوه إلى الغيبيات والمعجزات، ويسعون إلى تشكيل عالم علوي لأرواحهم، يتوقون إليه، ويحتل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانا متميزا بين الخالق ومخلوقاته.

_ (1) المقري: نفخ الطيب 5/ 48. (2) ديوان الباعونية: ورقة 6. (3) ديوان ابن مليك الحموي: ص 23.

الرسول والبشرية:

بالإضافة إلى الجدل الديني بين الفرق الإسلامية، والتنافس فيما بينها، وإغناء بعض الفرق فكرها باراء ونظريات أجنبية، وتطعيم معتقداتها بأشياء من الأديان الآخرى، والفلسفات المتباينة، كل ذلك جعل الحقيقة المحمدية من أبرز النظريات الدينية التي شاعت في ذلك العصر، فكان لا بد لشعراء المديح النبوي من ذكرها، ومدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها، لأنها تضع النبي المصطفى في مرتبة سامية لا يدانيها مخلوق، وهم يسعون إلى ذلك، وهذا في رأيهم منتهى المدح له صلّى الله عليه وسلّم، وأقل ما يليق به. الرسول والبشرية: إن الدافع لمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المقام الأول، هو المحبة للنبي الكريم، والإشادة بأثره في البشرية فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمل رسالة السماء إلى الناس، فنقلهم من وضع إلى وضع، وأخرجهم من ظلمات الجهل ومفاسد النفس إلى نور الهداية وصفاء النفس، ووضع أسس العلاقة الصحيحة بين الإنسان وخالقه، وبين الناس في حياتهم الدنيا، فحقق للإنسان إنسانيته، وأعطى لوجوده معنى، ولحياته رسالة وهدفا. وقد حرص شعراء المدائح النبوية على إظهار أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الناس كافة في قصائدهم، وزادوا على ذلك، فأشركوا الكون كله في التفاعل مع النبي، فالمكان الذي له علاقة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم سما على الأمكنة كلها، والزمان الذي بعث فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زها على الأزمنة جميعها، ومن قبل حين تحدثنا عن الرحلة في المدحة النبوية، تبين لنا كيف أضفى شعراء المديح النبوي على راحلاتهم مشاعر الحنين لزيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومشاعر الغبطة بالوصول إليه. فالكون كله متأثر بسيد الخلق، مبتهج جذل بمبعثه، وكأن شعراء المدائح النبوية خلعوا مشاعرهم على كل ما حولهم، إذا نظرنا إلى المعجزات أو الإرهاصات بعيدا عن النظرة الدينية.

وإذا استثنينا حرص شعراء المدائح النبوية على إظهار أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياتهم ونفوسهم، وتركنا ذلك إلى الحديث عن الاستجارة به، فإن شعراء المدائح النبوية، سجلوا في قصائدهم أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الناس وهدايته لهم، مثل قول البوصيري: وجلا ظلام الظّلم لمّا أومضت ... ومضت لديه صحائف وصفيح «1» وتحدث البوصيري عن الأثر الذي تركه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمته، فقال: في أمّة خصّت بكلّ كرامة ... وتفيّأت ظلّ الصّلاح ظليلا «2» وأضاف متحدثا عن أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الإنسانية، فقال: أحيا القلوب الغلف أسمع كلّ ذي ... صمم وكم داء أزال دخيلا يوصي إلى الأمم الوصايا مثلما ... يوصي الأب البرّ الرّحيم سليلا «3» وأشرك البوصيري الطبيعة في الفرح بمبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: فرحت به البريّة القصوى ومن ... فيها وفاضلت الوعور سهولا «4» ونجد للبوصيري إشارات خاطفة إلى أثر سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا، ضمن قصيدته المحمدية التي جاء فيها: محمّد زينة الدّنيا وبهجتها ... محمّد كاشف الغمّات والظّلم محمّد طابت الدّنيا بمبعثه ... محمّد جاء بالآيات والحكم «5»

_ (1) ديوان البوصيري: ص 105. (2) المصدر نفسه: ص 204. (3) المصدر نفسه: ص 206. (4) المصدر نفسه: ص 206. (5) المصدر نفسه: ص 275.

أما الصرصري، فإنه يظهر في إحدى مدائحه النبوية أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الأرض التي حل بها، وفي الأشياء التي لمسها أو استخدمها، ليصل بعد ذلك إلى أثره في آله، فيقول: أضحى ثرى عرصاته إذ حلّها ... يشفي من الدّاء العضال غباره فخرت به خير القبائل هاشم ... وحوى به المجد الأثيل نزاره سعدت به أولاده ونساؤه ... وصحابه وزكت به أصهاره وسمت به غلمانه وإماؤه ... وجواده وبعيره وحماره وحوى الفخار سريره وفراشه ... وخيامه وقبابه وجداره وتضوّعت أردان بردته به ... طيبا وطاب رداؤه وإزاره «1» فهنا نلاحظ أن الصرصري تنقل بين الزمان والمكان، مظهرا تأثرهما وسموهما برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فالزمان أضحى عطرا ينشر أريجه، والمكان سكنه الأنس ولحقته العزة، وحاجيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تميّزت عن مثيلاتها لملامسة النبي الكريم لها، أما أهل رسول الله الكرام فإنهم فاقوا البشر جميعا عزة ورفعة وفخارا. لكن الصرصري لا ينسى أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأكبر، وهو هداية البشرية إلى نور الحق، وشرع السماء، فتحدث في مدحة نبوية عن هذا الأثر العظيم، ووصف الناس قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكيف صاروا بعد مبعثه، فقال: أتى بصراط مستقيم من الهدى ... له نبأ بادي البيان لباحث فصادف عميا يعمهون، قلوبهم ... من الغيّ غلف تابعي كلّ عائث

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 38.

فأخرجهم من ظلمة الجهل نوره ... وأنقذهم من موبقات الهناهث وأضحت شموس الحقّ مشرقة السّنا ... قد اتّضحت آثارها للمباحث «1» وإذا كان الصرصري قد تحدث في الأمثلة السابقة عن هداية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس أجمعين، فإنه لا ينسى أن يتحدث عن أثر النبي الكريم في أمته، فقال في مدحة نبوية: حبا بعظيم الفضل أمّته فلم ... يلتها ولا النّصح المبين ألاها «2» وفي رأي الصرصري، فضل رسول الله على أمته لم يكن في وقت محدد، ولا أثناء حياته فقط، بل هو فضل دائم، فقال: ونفعك الآن موصول لأمّتك ال ... غرّ الأفاضل وصلا غير منحسم «3» وبذلك أضحت أمة رسول الله أفضل الأمم، وستظل على فضلها إلى آخر الدهر: حازت به قصبات السّبق أمّته ... وأحرزت رتبة تعلو بها الرّتبا وفضل أمّته لا ينقضي أبدا ... حتّى ينزّل عيسى يكسر الصّلبا «4» وأظهر البرعي الأثر السامي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الإنسانية، وهدايته لها إلى نور الحق، فقال في وصف النبي الكريم: هداية الله في الدّنيا وخيرته ... من خلقه فهو هادي كلّ حيران في أمّة كان هاديها وليس لها ... إلّا عبادة أصنام وأوثان لم يبق للشّرك عزّا يطمئن به ... ولا نصيرا لذي بغي وعدوان

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 21. (2) المصدر نفسه: ورقة 118. (3) المصدر نفسه: ورقة 91. (4) المجموعة النبهانية: 1/ 397.

وأصبحت ملّة الإسلام ظاهرة ... بالحقّ فالنّاس في يمن وإيمان وبدّل الغيّ رشدا والضّلال هدى ... في الأرض والدّين فردا بعد أديان «1» وجعل شمس الدين ابن الموصلي «2» هداية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس علاجا للقلوب المريضة بالجهالة، فقال: وكم مراض قلوب حين عالجها ... باللّطف صحّت ومن سكر الضّلال صحت «3» أما ابن دقيق «4» ، فإنه تابع غيره في إظهار أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الناس، وهدايته لهم، وأضاف إلى ذلك الإشارة إلى أثره في الكون. فرأى أن النجوم سعدت بصحبته، فقال: سعدت منه أنجم اللّيل بالصّح ... بة حين اشتكى الفراق وساده «5» أما كيف تفاعل المكان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهذا ما يوضحه ابن دقيق العيد في قوله: فتأثّرت منه بأحسن بهجة ... أفدي الجمال مؤثّرا ومؤثّرا فتبرّجت بجماله وتشرّقت ... بجلاله ورأت مقاما أكبرا «6» وأظهر القيراطي «7» تأثر الشمس والقمر بمبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضفيا عليهما المشاعر الإنسانية في قوله:

_ (1) ديوان البرعي: ص 53. (2) ابن الموصلي، محمد بن محمد بن عبد الكريم، أخذ الفقه والعربية، وله مصنفات وشعر، أنشد منه سنة (748 هـ) . الصفدي: الوافي بالوفيات 1/ 167. (3) الصفدي: الوافي بالوفيات 1/ 267. (4) ابن دقيق العيد: محمد بن علي بن وهب، قاضي القضاة بمصر. كان من أئمة علم الحديث، درّس وصنّف، وله شعر كثير. توفي سنة (712 هـ) . ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة 8/ 218. (5) ديوان ابن دقيق العيد: ص 146. (6) المصدر نفسه: ص 140. (7) القيراطي: إبراهيم بن عبد الله بن محمد الطائي، شاعر اشتغل بالفقه، وجاور بمكة إلى أن توفي سنة (781 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 6/ 69.

التوسل به والصلاة عليه:

فعلى البدر صفرة من خشوع ... وعلى الشّمس حمرة من حياء «1» وهكذا حفلت المدائح النبوية بذكر أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحياة، ومستقبل البشرية، فأفاض شعراء المديح النبوي في الحديث عن هدايته للناس، وعن أثره في عقولهم ونفوسهم، وتجاوزوا بالفرح به والاستبشار ببعثه، البشر إلى الكون بسمائه وأرضه، وإلى الزمان والمكان، فتغنوا بهذه الماثر العظيمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي اعترف له غير المؤمنين به، بأنه أول خلق الله تأثيرا في البشرية خلال تاريخ وجودها على هذه الأرض. التوسل به والصلاة عليه: إن التوسل بالنبي الكريم والتشفع به والصلاة عليه، من لوازم المدائح النبوية، التي لا تخلو منها قصيدة، فمهما كانت الأسباب الموضوعية التي تحدو بالشعراء إلى نظم المديح النبوي، تبقى الأسباب الذاتية هي المحرك الفعلي لهذا التوجه، أو تصبح الأسباب الموضوعية أسبابا ذاتية، والشاعر يريد من وراء مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكره، الثواب على مدحه، والجائزة التي يطلبها مادح النبي، ليست من مثل الجوائز التي يطلبها الشعراء حين يمدحون الملوك والسادة، بل هو يريد من وراء مدحه أن يفرج الله كربه، ويديم نعمه عليه، ويغفر ذنوبه؛ لذلك حرص شعراء المدائح النبوية جميعهم على التوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطلب المغفرة من الله تعالى جزاء على مدحهم لرسوله. أما الصلاة على النبي في المدائح النبوية، فهي من ألصق ما يقال بموضوع المديح النبوي، فإذا كانت القصائد العادية تختتم بالصلاة على النبي، وإذا كانت تفتتح بها، وإذا كانت الكتب والرسائل تفتتح بالصلاة على النبي وتختتم، فماذا يكون حال المدائح النبوية؟

_ (1) المجموعة النبهانية: 1/ 145.

والله تعالى حث على الصلاة على نبيه، فصلّى عليه «1» ، والرسول الأمين نفسه حث على ذلك، لهذا حرص المسلمون على الصلاة والسلام عليه، واتخذت الصلاة على النبي في ذلك العصر وجوها شتى، وجعلها المتصوفة درجات وأنواعا، واتخذوها وسيلة لرؤيا النبي في نومهم، فكان لذلك صداه في المدائح النبوية، التي حفلت بالصلاة على النبي في ثناياها، وخاصة في خاتمتها. ويظهر أن علماء الدين جعلوا التوسل بالنبي مسألة خلافية، أقره معظمهم، وأنكره بعضهم، فشغلوا به، وراح كل فريق يبحث عمّا يثبت رأيه، فذهب المؤيدون للتوسل بالنبي إلى أبعد الحدود في اندفاعهم لتأكيد هذه المسألة، فقال قائلهم: «لقد أثبت العلماء في مؤلفاتهم القيامة، التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل وجوده وبعد وجوده في الدنيا، وبعد موته مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة» «2» . وأيّد الغزالي الرأي الذي يثبت الشفاعة والتوسل، ويدعو إلى التشفع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء جميعهم، بالإضافة إلى العلماء والصالحين، فقال في ذلك: «اعلم أنه إذا حقّ دخول النار على طوائف من المؤمنين، فإن الله تعالى بفضله يقبل فيهم شفاعة الأنبياء والصديقين، بل شفاعة العلماء والصالحين، وكل من له عند الله جاه وحسن معاملة، فإن له شفاعة في أهله وقرابته وأصدقائه ومعارفه» «3» . وعلى هذا الرأي جمهور المسلمين الذين يجيزون التشفع برسول الله، عملا بقوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ «4» . وأنه تعالى قد منح رسوله الكريم حق الشفاعة يوم القيامة.

_ (1) في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.... (2) اللفاني: كشف الكروب ص 10. (3) الغزالي: إحياء علوم الدين 16/ 54. (4) سورة المائدة: آية 35.

أما الفريق المنكر للتوسل، فهم الذين يرون رأي ابن تيمية، ولا يجيزون الاستغاثة والتوسل إلا بالله تعالى، لأن التوسل لون من ألوان العبادة التي لا يحل صرف شيء منها لغير الله، فالشفاعة لا تطلب إلا منه، فإن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه، ولذلك يتوجه إلى الله بالدعاء لقبول شفاعة النبي في أي أمر من الأمور. وأوضح ابن تيمية موقفه من التوسل في كتاب خاص، هو (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) ، بيّن فيه أحوال التوسل، ومتى يكون مقبولا، ومتى لا يصح، ومما جاء في كتابه قوله: «اتفق المسلمون على أنه صلّى الله عليه وسلّم أعظم الخلق جاها عند الله، لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، ولكن دعاء الأنبياء وشفاعتهم ليس بمنزلة الإيمان بهم وطاعتهم» «1» . وقال: «التوسل يراد به ثلاثة أمور، أمران متفق عليهما بين المسلمين، أحدهما هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته، والثاني دعاؤه وشفاعته.. ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد» «2» . واستنكر ابن تيمية طريقة التوسل في قصائد المديح النبوي «3» . وأوضح أنه «يحمل قول: أسألك بنبيك محمد، أي أسألك بإيماني به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته، لكن العوام لا يقصدون إلى ذلك عند توسلهم» «4» . وأضاف: «الدعاء بطلب الحوائج عند القبر لم يفعله أحد من السلف» «5» .

_ (1) ابن تيمية: قاعدة جليلة ص 7. (2) المصدر نفسه: ص 13. (3) المصدر نفسه: ص 19. (4) المصدر نفسه: ص 63. (5) المصدر نفسه: ص 71.

وذهب ابن تيمية إلى أن «أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة، لا يعتمد على شيء منها في الدين، ولهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شيئا منها، وإنما يرويها من يروي الضعاف» «1» . ويظهر أن مسألة التوسل بالنبي، كانت مثارة قبل هذا العصر، ونجد صدى ذلك في رسائل إخوان الصفاء الذين جعلوا قضية التوسل مرتبطة بدرجة معرفة المؤمن بالله تعالى فقالوا في ذلك: «من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله، وبأئمتهم وأوصيائهم، أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقربين، والتعظيم لهم، ومساجدهم ومشاهدهم، والاقتداء بهم وبأفعالهم، والعمل بوصاياهم وسننهم ... فأما من يعرف الله حق معرفته، فهو لا يتوسل إليه بأحد غيره، وهذه مرتبة أهل المعارف الذين هم أولياء الله. وأما من قصر فهمه ومعرفته وحقيقته، فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه وأوصيائهم وعباده الصالحين» «2» . وعلى الرغم من هذا الجدل، فإن شعراء المديح النبوي لم يتوقفوا عن التوسل بالنبي وطلب شفاعته، ليرفع عنهم البلاء، ولتتحقق حوائجهم في الدنيا، إلى جانب محو ذنوبهم في الآخرة، وهذا هو السبب الذاتي لتوجههم نحو المديح النبوي. فالباعونية تصرح في تقديمها لإحدى مدائحها النبوية بغايتها من وراء مدحها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتقول: «ونويت بذلك وجه الله تعالى، والأعمال بالنيّات، والمسؤول من الرحمن أن يجعل جائزتي عليها وفور حظي وحظ ولدي وذريتي وأحباي فيه من فضله العظيم، وأن ينظمنا في سلك خواص حضرة هذا الحبيب» «3» .

_ (1) ابن تيمية: قاعدة جليلة ص 72. (2) رسائل إخوان الصفا: 4/ 21. (3) ديوان الباعونية، ورقة 16.

وقد عرف شعراء المديح النبوي الأحاديث التي شاعت حول التوسل وشفاعة النبي لأمته يوم القيامة، حين يعتذر باقي الأنبياء عن التصدي لهذه المهمة، فنظموها في قصائدهم، وعملوا بها «1» . فالبوصيري اختتم إحدى مدائحه النبوية بطلب الشفاعة والغفران والصلاة على النبي، فقال: رسول الله دعوة مستقيل ... من التّقصير خاطره هيوب دعاك لكلّ معضلة ألمّت ... به ولكلّ نائبة تنوب وللذّنب الذي ضاقت عليه ... به الدّنيا وجائبها رحيب لجود المصطفى مدّت يدانا ... وما مدّت له أيد تخيب شفاعته لنا ولكلّ عاص ... بقدر ذنوبه منها ذنوب صلاة الله ما سارت سحاب ... عليه وما رسا وثوى عسيب «2» والملاحظ أن البوصيري مثل غيره من شعراء المديح النبوي، يفتنّ في ذكر الصّلاة على النبي، ويربط دوامها أو عددها بمظهر من مظاهر الطبيعة، أو بعدد مما لا يحصى، للدلالة على دوامها وكثرتها، فهنا ربط دوامها بدوام سير السحاب، وهو لا ينقطع، وببقاء جبل عسيب في مكانه. ونراه في قصيدة ثانية، يقيد الصلاة على النبي بدوام إشراق الشمس، ويشرك الصحابة الكرام في صلاته على النبي، فيقول:

_ (1) حديث الشفاعة مروي في فتح الباري بشرح البخاري لان حجر 9/ 226 وفي مسند ابن حنبل 1/ 161. (2) ديوان البوصيري ص 88- ذنوب: نصيب.

صلوات الله تترى عليه ... وعليهم طيّبات عذابا يفتح الله علينا بها من ... جوده والفضل بابا فبابا ما انتضى الشّرق من الصّبح سيفا ... وفرى من جنح ليل إهابا «1» وأشار البوصيري في صلاته على النبي إلى فضل هذه الصلاة، التي تفتح على من يقولها باب جود الله وفضله، ولذلك نجده في قصيدة أخرى، يتوجه إلى الله تعالى بالدعاء ليقبل شفاعة نبيه فيه، وليغفر له ذنوبه، ولكنه يعبر عن ذلك بضمير الجماعة، فهو يطلب المغفرة لجميع المسلمين، ويقول: يا ربّ هبنا للنّبي وهب لنا ... ما سوّلته نفوسنا تسويلا واجعل لنا اللهمّ جاه محمد ... فرطا تبلّغنا به المأمولا واصرف به عنّا عذاب جهنّم ... كرما وكفّ ضرامها المشعولا واجعل صلاتك دائما منهلّة ... لم تلف دون ضريحه تهليلا ما هزّت القضب النّسيم ورجّعت ... ورقاء في فنن الأراك هديلا «2» ويصل الأمر بالبوصيري في هذا الباب إلى أن ينظم قصيدة خاصة في الصلاة على النبي والتشفع به، سماها (القصيدة المضرية في الصلاة على خير البرية) ، اقتصر فيها على الصلاة على النبي الأمين والرسل الكرام والصحابة الأخيار، وطلب المغفرة ورفع الكرب، وأتى فيها بصور متعددة من الأشياء التي لا تعد، ليدلل على كثرة الصلاة واستمرارها، وافتتحها بقوله:

_ (1) ديوان البوصيري: ص 82. (2) المصدر نفسه: ص 219.

يا ربّ صلّ على المختار من مضر ... والأنبيا وجميع الرّسل ما ذكروا وصلّ ربّ على الهادي وشيعته ... وصحبه من لطيّ الدّين قد نشروا أزكى صلاة وأنماها وأشرفها ... يعطّر الكون ريّا نشرها العطر عدّ الحصى والثّرى والرّمل يتبعها ... نجم السّما ونبت الأرض والمدر وما أحاط به العلم المحيط وما ... جرى به القلم المأمون والقدر لا غاية لا انتهاء يا عظيم لها ... ولا لها أمد يقضى وينتظر يا ربّ واغفر لتاليها وسامعها ... والمرسلين جميعا أينما حضروا «1» فالبوصيري لم يترك مدحة نبوية من مدائحه، دون أن يودعها التوسل بالنبي والتشفع به ليرتاح مما ينغّصه في الدنيا ومما يخشاه في الآخرة، وكان في معظم تشفعه ذاتيا، إلا أنه شمل جميع المسلمين في دعواته أحيانا وظل في حدود الدين والعبادة، ولم يطلب في توسله شيئا يتعلق بعصره، غير أنه افتّنّ في طريقة عرضه للصلاة على النبي الكريم. في حين نجد الصرصري الذي عاصر البوصيري، والحروب الصليبية، وترقب غزو المغول، وقتل على أيديهم يتوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنصرة العرب والمسلمين، وردّ المعتدين، ورفع الخلاف والفتن من الأمة، فربط بذلك بين المديح النبوي وبين عصره، وما يشغل الناس في أيامه، إلى جانب ما طلبه لنفسه من مغفرة ومعافاة وعافية، فقال في إحدى قصائده متوسلا بالنبي ليرفع عن أمته فتنة التتار، ويجبر كسرها: سل جبر أمّتك الكسيرة إنّه ... لم يبق في قوس التّجلّد منزع

_ (1) ديوان البوصيري: ص 272.

محقت طغاة التّرك أطراف القرى ... فالمال نهب والمنازل بلقع واشفع إلى الرّحمن في غفران ما ... هذي عقوبته فأنت مشفّع «1» وبدأ توسله بالنبي في إحدى قصائده بطلب الرحمة لنفسه ولعترته، ثم انتقل إلى أمته، فطلب لها الحيا والخير والأمن والسلامة، واختتم توسله بالصلاة على النبي، فقال: واسأل لأمّتك الحيا غدقا فقد ... فقد المزارع ماءها السّحاحا والأمن والعيش الرّغيد ونضرة ... كاماقهم ومعونة وصلاحا واسأل إلهك أن يكون بقهره ... لعدوّهم مستأصلا مجتاحا صلّى عليك الله ما سرت الصّبا ... وشدا حمام في الغصون وناحا «2» ولا تقتصر استجارة الصرصري برسول الله صلّى الله عليه وسلّم على طلب النصرة للأمة، والغيث لأرضها، بل تتعدى ذلك إلى طلب الثبات على العقيدة، والتخلص من الفتن الدينية، والانحرافات في العقيدة، فقال في ختام مدحة نبوية: فقل يا رسول الله أنت نصيرنا ... على فتن في وقتنا تتقرّع «3» ولا ينسى الصرصري نفسه في التوسل والاستغاثة، فهو مثل غيره من شعراء المدائح النبوية، يطلب المغفرة والفرج، والنجاة في الآخرة، فخصّ نفسه في طلب الغوث من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ليعينه على خطب شديد ألمّ به، وليسأل الله تعالى له المغفرة يوم القيامة، فقال:

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 57. (2) المصدر نفسه: ورقة 28. (3) المصدر نفسه: ورقة 62.

يا نبيّ الهدى عليك سلام ... يبقى مني غضّا على الآناء أنت جاري وعدّتي ونصيري ... وعمادي في شدّتي ورخائي فأعنّي على زمان فظيع الخط ... ب في أهله شديد العناء واسأل الله حين تعرض أعما ... لي عليك الغفران لي يا رجائي «1» وقد سجل شعراء المديح النبوي أمثلة كثيرة ومختلفة على التوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند الأزمات والكوارث، أو عند حصول حادثة غريبة لا يملكون لها تفسيرا، مثل ارتجاج الأرض، وظهور نار عظيمة في الحجاز، أدخلت الرعب إلى قلوب الناس، فضجوا بالدعاء إلى الله تعالى، ليكشف عنهم ضر هذه الظاهرة، متوسلين في ذلك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن ذلك قول المشد «2» ابن قزل: ولمّا نفى عنّي الكرى خبر التي ... أضاءت بأحد ثم رضوى ويذبل ولاح سناها من جبال قريظة ... لسكّان تيما فاللّوى فالعقنقل وأخبرت عنها في زمانك منظرا ... بيوم عبوس قمطرير مطوّل وأبدت من الآيات كلّ عجيبة ... وزلزلت الأرضون أيّ تزلزل طفى النّار نور من ضريحك ساطع ... فعادت سلاما لا تضرّ بمصطل «3» فشاعر المديح النبوي يحرص على التوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مدحته، ويذكر سبب لجوئه إلى النبي الكريم، وهذا السبب يكون عاما حينا، يتعلق بالأمة كلها، ويكون خاصا

_ (1) اليونيني: ذيل مرآة الزمان ص 257. (2) المشد، سيف الدين: علي بن قزل، شاعر شامي، عمل مستشارا للدواوين، توفي سنة (655 هـ) . ابن حجة: خزانة الأدب ص 407. (3) ابن الوردي: تتمة المختصر 2/ 281.

حينا، يتعلق بالشاعر نفسه، فإما أن يكون لحاجة من حوائج الدنيا، وإما أن يكون طلبا للمغفرة والتكفير عما فرط منه، مثل قول ابن أرقم النميري «1» : وكيف أخاف ذنوبا مضت ... وأحمد في زلّتي يشفع «2» فالشاعر طلب المغفرة، وأبدى شيئا من الارتياح، لتيّقنه من شفاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له، ولذلك نجد شاعرا آخر هو ابن يحيى الغرناطي «3» ، يتشفع بالنبي الأمين، وهو موقن بالقبول، لأنه يتشفع بمن توسّل به أبو البشر، فيقول: جرمي عظيم يا عفوّ وإنّني ... بمحمّد أرجو التّسامح فيه فبه توسّل آدم من ذنبه ... وقد اهتدى من يقتدي بأبيه «4» ويظهر أن الشاب الظريف «5» قد استشعر عظم ذنبه، وتماديه في لهو الشباب، فنظم المدائح النبوية ليكفّر عن ذنبه، وليبدأ حياة جديدة من التقوى، لذلك نجده في آخر إحدى مدائحه النبوية التي وصلتنا، يتشفّع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويستجير به من ذنبه، فيقول: لي من ذنوبي ذنب وافر فعسى ... شفاعة منك تنجيني من اللهب وقد دعوتك أرجو منك مكرمة ... حاشاك حاشاك أن تدعى فلم تجب «6» واقترب الشرف الأنصاري من الشاب الظريف في توجهه نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) ابن أرقم النميري: محمد بن أحمد بن رضوان، توفي سنة (694 هـ) . السيوطي: بغية الوعاة ص 42. (2) السيوطي: بغية الوعاة ص 42. (3) ابن يحيى الغرناطي: محمد بن علي بن يحيى الشامي التاجر، توفي سنة (715 هـ) السيوطي: بغية الوعاة ص 192. (4) المصدر نفسه: ص 193. (5) الشاب الظريف: محمد بن سليمان بن علي التلمساني، شاعر رقيق له ديوان شعر، توفي شابا سنة (688 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 372. (6) ديوان الشاب الظريف: ص 57.

لطلب الشفاعة، والتوسل به للتخلص من الذنوب، وليحصل على الراحة النفسية، فطلب من الناس التشفع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال في إحدى مدائحه النبوية: تشفّع به فهو نعم الشّفيع ... وسله المنى فهو بحر السّخاء فعطفا على من تناهت به ال ... خطايا، وما عطفت لانتهاء فأنت النّبيّ الوجيه الذي ... حوى في الشّفاعة فضل الجزاء فشرّفه الله مختاره ... بخير صلاة وأزكى ثناء «1» لقد مزج الشرف الأنصاري بين التشفع والمدح، وأدرج الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخفة ورشاقة، وجاء بها على هيئة المدح بذكر مواهب الله تعالى لنبيه الكريم، وكل مناه أن تتحقق له الشفاعة وتغفر ذنوبه، فهو ينظر في توسله إلى اليوم الآخر، في حين نجد شعراء آخرين، يتوسلون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طالبين الراحة في الدنيا والآخرة. وأظهر شرف الدين القناوي «2» في مديحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يعتقده في التوسل بالنبي، وطلب شفاعته، فقال: على نايبات الدّهر أرجو محمّدا ... يساري في اليسرى ويمناي في اليمنى مناي من الدّنيا زيارة أحمد ... وقصدي في الآخرى شفاعته الحسنى «3» وأكثر الشعراء استجارة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتوسلا من الذين مدحوه، هو البرعي الذي كان يعتقد اعتقادا جازما في أن مديحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيجلب له الشفاعة، ويحقق

_ (1) ديوان الشرف الأنصاري: ص 535. (2) شرف الدين القناوي: محمد بن أحمد بن إبراهيم، القاضي الفقيه، تولى الحكم والخطابة في قنا، وتوفي سنة (692 هـ) . الصفدي: الوافي بالوفيات 2/ 136. (3) ديوان الشرف الأنصاري: 3/ 137.

له حاجاته في الدنيا، ويثيبه الله تعالى عليه بالمغفرة والأجر يوم القيامة، فنراه في إحدى مدائحه النبوية يستجير برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحرارة وورع، ويقول: يا سيّدي يا رسول الله خذ بيدي ... في كلّ هول من الأهوال ألقاه يا عدّتي يا نجاتي في الخطوب إذا ... ضاق الخناق لخطب جلّ بلواه «1» فالبرعي يخصص لنفسه قدرا كبيرا من المدحة النبوية، يناجي به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويطلب منه ما يرفع الكرب عنه، ويستجير به من ذنوبه، ويطلب شفاعته، ليتخلص من أدران الحياة الدنيا، وليتخلص من ذنوبه، يوم يعرض على الحساب في الآخرة، وهذا دأب البرعي في كل قصائده النبوية، فميله إلى التصوف جعله ينحو منحى المناجاة والدعاء والتوسل في مدائحه النبوية، ويستشعر عظم ذنبه، ويتوسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لغفرانه، ويتسع في طلبه، فلا يقتصر على نفسه وعلى أهله فقط، بل ربما استجار برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مدائحه، ليحقق غرضا من أغراض الدنيا والآخرة لأحد معارفه، مثلما فعل في تخميس له، جعل الشطر الخامس لازمة للصلاة على النبي، فقال: يا خير مبعوث لأكرم أمّة ... أنت المؤمّل عند كلّ ملمّة فاعطف على عبد الرّحيم برحمة ... فغمام فضلك فيضه متسجّم فبحقّه صلّوا عليه وسلّموا وابن الوهيب سميّك أحمدا ... وأغثه في الدّارين يا علم الهدى واجمع بنيه ووالديه بكم غدا ... فلأنت حصن للسّميّ وملزم «2» فبحقّه صلّوا عليه وسلّموا

_ (1) ديوان البرعي: ص 51. (2) المصدر نفسه ص 55.

ولا يبعد ابن حجة «1» في توسله عن غيره من شعراء المديح النبوي، فيختتم مدائحه النبوية بطلب الشفاعة للخلاص من ذنوبه، ويفتنّ في عرض هذا المعنى، وفي الصلاة على النبي، فيقول في إحدى مدائحه النبوية: عسى وقفة أو قعدة لابن حجّة ... على بابكم يسعى بها وهو محرم فقد جاء يشكو من ذنوب تعاظمت ... وقدرك في يوم الشّفاعة أعظم فيا وردنا الصّافي طيور قلوبنا ... عليك إذا ما نابها الضّيم حوّم «2» فالتوسل برسول الله، ذكره جميع شعراء المدائح النبوية، ولم تخل قصيدة نبوية من طلب شفاعة النبي الكريم، فأضحى التوسل والتشفع أحد أركان المدحة النبوية، ومن لوازمها، بل أخذ الشعراء يطلبون من الناس أن يتشفعوا برسول الله عند ما يحزمهم الكرب، وتضيق بهم الحياة، ويظهرون منافع التوسل، مثل قول السوفي «3» : بجاه النّبيّ المصطفى أتوسّل ... إلى الله فيما أبتغي وأؤمّل وأقصد باب الهاشميّ محمّد ... وفي كلّ حاجاتي عليه أعوّل إذا مسّني ضيم أنوّه باسمه ... فيدفع ذاك الضّيم عني وينقل «4» ويلاحظ أن شعراء المديح النبوي أخذوا يدعون الناس إلى زيارة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والتوسل به، والاستغاثة من ذنوبهم، وكأنهم بذلك يريدون تعميم التوسل بالنبي، وأن

_ (1) ابن حجة: أبو بكر بن علي بن عبد الله، إمام أهل الأدب في عصره، شاعر منشئ له عدة مؤلفات، ت (837 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 11/ 53. (2) ابن حجة: خزانة الأدب ص 466. (3) السوفي: محمد بن محمد بن عبد الله، ولد بالمدينة وسافر إلى الشام وماردين، اشتغل بالعلم يسيرا، وله نظم، توفي سنة (885 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 9/ 115. (4) السخاوي: الضوء اللامع 7/ 251.

يقوم به الناس كلهم حسب مقدرتهم، فإذا كان الشعراء قادرين على تسجيل توسلهم بالنبي، فإن غيرهم يمكن أن يقوموا بذلك خلال زيارة قبر رسول الله، وطلب الشفاعة عنده، ومثال ذلك ما قاله ابن خطيب داريا «1» في مدحة نبوية: يا من يروم النّجا في يوم محشره ... كن يا أخيّ عن العصيان منعزلا وأقصد حمى طيبة وانزل بساحتها ... ما خاب من في حمى المختار قد نزلا «2» وتردّد صدى هذه الدعوة في المديح النبوي، فعبّر شعراؤه عن شوقهم لزيارة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعن غرضهم من الزيارة، فإذا ما حرم الشاعر من زيارة قبر رسول الله لسبب من الأسباب، أرسل مدحته النبوية إلى الروضة الشريفة، تحمل توسله واستجارته بالنبي الأمين، مثلما فعل لسان الدين بن الخطيب حين قال: فإن أحرم زيارته بجسمي ... فلم أحرم زيارته بقلبي فدونك يا رسول الله منّي ... تحيّة مؤمن وهدى محبّ «3» فالتوسل برسول الله وطلب شفاعته أخذ حيّزا مهمّا من المدحة النبوية، واحتفل له شعراء المديح النبوي وكأنهم جعلوه الغاية من نبوياتهم، وما يريدونه لأنفسهم من وراء مديحهم للنبي الكريم، فاقتصر بعض الشعراء في بعض قصائدهم النبوية على التشفع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطلب غوثه وعونه، والصلاة عليه، وسمي هذا النوع من المديح النبوي الوسيلة، التي انتشرت في وقت متأخر من العصر المملوكي، وخاصة عند المتصوفة، ومن ذلك وسيلة لأبي الحسين الأهدل «4» ، بدأها بقوله:

_ (1) ابن خطيب داريا: محمد بن أحمد بن سليمان الأنصاري الدمشقي أديب شاعر له تصانيف، توفي (810 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 6/ 310. (2) المجموعة النبهانية: 3/ 369. (3) المقري: أزهار الرياض 3/ 148. (4) الأهدل: الحسين بن الصديق، فقيه حذق علوما كثيرة، وجاور في مكة والمدينة، توفي سنة (903 هـ) . العيدروسي: النور السافر ص 26.

يا رسول الله عونا مدد ... أنتم الوالد والعبد الولد يا رسول الله ما لي عتد ... غير حبّك ويا نعم العتد يا رسول الله كن لي شافعا ... أنت والله شفيع لا ترد يا مليح الوجه يا خير الورى ... أنت بعد الله نعم المعتمد واسأل الرّحمن لي من فضله ... العفو والغفران والرّزق الرّغد «1» فالدعاء والتوسل هو أكثر مواطن المدحة النبوية دلالة على نفس الشاعر، وإظهارا لما يجيش فيها من عواطف وأحاسيس، وفيه يظهر الغرض الذاتي للشاعر من وراء مديحه النبوي. ومثلما حرص شعراء المديح النبوي على التشفع برسول الله والاستجارة به والتوسل إلى الله بجاهه وحبه، لتحقيق سعادة الدنيا والآخرة، فإنهم جعلوا من الصلاة على النبي خاتمة لمدائحهم، لا يتخلون عنها، ويفتنون في عرضها، وفي تقليب معاني تكثيرها ودوامها، مثلما رأينا عند البوصيري، فالقيراطي اختتم إحدى مدائحه النبوية بقوله: يا إمام الهدى عليك صلاة ... وسلام في الصّبح ثمّ العشاء ما صبا في أصائل قلب صبّ ... ذكر الملتقى على الصّفراء «2» ويقرب من هذه الصلاة الخاتمة للمدحة النبوية، ما اختتم به لسان الدين بن الخطيب «3» إحدى مدائحه النبوية بقوله:

_ (1) العيدروسي: النور السافر ص 28. (2) الباعونية: شرح الفتح المبين ص 465. (3) لسان الدين بن الخطيب: محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني الأندلسي، مؤرخ أديب وزير. ترك الأندلس إلى المغرب، وله مؤلفات كثيرة، توفي سنة (776 هـ) . الناصري، أحمد: الاستقصا 2/ 132.

عليك صلاة الله ما طيّب الفضا ... عليك مطيل بالثّناء مطيب وما اهتزّ قدّ للغصون مرنّح ... وما افترّ ثغر للبروق شنيب «1» وإذا ربط ابن الخطيب صلاته السابقة على النبي بهبوب الريح واهتزاز الأغصان ولمعان البرق، فإنه ربط في نبوية أخرى مدة صلاته على النّبي باستمرار طواف الحجيج حول الكعبة وكثرتهم، فربط المعنى الديني بالمعنى الديني، مغيّرا ما درج عليه شعراء المدائح النبوية من ربطه بالعدد، واستمرار مظاهر الطبيعة وتكرارها، فقال: عليك سلام الله ما طاف طائف ... بكعبتك العليا وما قام قائم وأهدي صلاتي والسلام لأحمد ... لعلّي به من كبّة النّار سالم «2» وأجمل السيوطي «3» ما قصده مدّاح النبي صلّى الله عليه وسلّم من ربط الصلاة عليه بما يصعب حصره وحده للتعبير عن دوام الصلاة التي يدعون الله تعالى أن يمنحها لرسوله الأمين، فقال: عليه مني صلاة ما لها عدد ... تفصيل مجملها يربو على الدّيم «4» وأضاف النواجي إلى مظاهر الطبيعة في الصلاة على النبي بعض الموافق النفسية، ودوام سير المسلمين إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، فجمع مظاهر الطبيعة ومظاهر العبادة وبعض مظاهر النفس الإنسانية، وربط ذلك كله بالصلاة على النبي فقال: عليه صلاة الله ما لاح بارق ... وما لعلع الحادي سحيرا لمكّة

_ (1) المقري: نفح الطيب 6/ 363. (2) المصدر نفسه: 3/ 148. (3) السيوطي: الحافظ المسند عبد الرحمن بن أبي بكر الخضيري، صاحب المؤلفات الكثيرة، عمل في الإفتاء والتدريس، وتوفي سنة (911 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 8/ 51. (4) النبهاني: شواهد الحق ص 221.

وما حنّ مشتاق وما أن عاشق ... وما سار ركب طالبا أرض طيبة «1» إلا أن التلوين المعنوي للصلاة على النبي في خاتمة المدحة النبوية، لم يكن مرتبطا دائما بأشياء خارجة عن الحيز الديني، للدلالة على الاتساع والاستمرار، وإنما أراد الشعراء بذلك الابتعاد عن التكرار، وإظهار مقدرتهم الفنية، بالإضافة إلى التعبير عن مشاعرهم السامية والصافية نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولا أدلّ على تعلق شعراء المديح النبوي بالصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مدائحهم من قول ابن العطار، الذي أظهر فيه قدر ذكر رسول الله، واحتفال المسلمين به: فيا معشر الأحباب إنّ نبيّنا ... إلى فوزنا راع وساع وخاطب ألا فاذكروه كلّ حين وسلّموا ... عليه بذاك الذّكر تسمو المراتب وقوموا على أقدامكم عند ذكره ... فذلك في شرع المحبّة واجب «2» فالتوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وطلب شفاعته، والصلاة عليه، مما حرص شعراء المديح النبوي على ذكره في قصائدهم، وهو جزء هام من أجزاء المدحة النبوية، فهو يجلو مشاعر الشاعر، ويظهر مكنونات نفسه، وهمومه الذاتية والعامة، ويبيّن نظرة المسلمين إلى رسولهم الأمين، ودوافع مديحه الذي غدا من أهم الفنون الشعرية في العصر المملوكي.

_ (1) المجموعة النبهانية: 1/ 542. (2) المجموعة النبهانية: 1/ 442.

آثار النبي الكريم:

آثار النبي الكريم: لقد عظّم المسلمون كل ماله علاقة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأجلّوا الأزمنة التي تخصه، مثل يوم مولده ويوم هجرته، والأمكنة التي تقلب فيها مثل مكان مولده وتعبده ومسجده ومدفنه، وأضفوا القداسة على الأدوات التي كان يستخدمها في حياته من سرير ولباس وآنية، وغير ذلك من متاع الدنيا. وحرصوا أشد الحرص على ما تركه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وتبرّكوا باثاره، فالخلفاء ظلوا يتوارثون بردته وجعلوها علامة الخلافة، وكدّوا أنفسهم في تحصيل كل ماله علاقة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد وصل إلى العصر المملوكي شيء من هذه الآثار. ولا شك في أن وجود هذه الآثار أمام عيون الناس، قد هيّج وجدهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودفعهم إلى مدحه ومناجاته، فقال ابن خطيب داريا بهذه الآثار: يا عين إن بعد الحبيب وداره ... ونأت مرابعه وشطّ مزاره فلقد ظفرت من الزّمان بطائل ... إن لم تريه فهذه آثاره «1» وابن رشيد السبتي «2» «له أبيات كتبها على حذو نعل النبي صلّى الله عليه وسلّم بدار الحديث الأشرفية، وهي: هنيئا لعيني أن رأت نعل أحمد ... فيا سعد جدّي قد ظفرت بمقصدي وقبّلتها أشفي الغليل فزادني ... فيا عجبا زاد الظما عند موردي ولله ذاك اليوم عيدا ومعلما ... بمطلعه أرّخت مولد أسعدي

_ (1) الخطط المقريزية: 4/ 295. (2) ابن رشيد السبتي: محمد بن عمر بن محمد، فقيه أديب تصدى للتدريس في سبتة، من مصنفاته (الرحلة المشرقية) توفي سنة (721 هـ) . الصفدي: الوافي بالوافيات 4/ 284.

عليه صلاة نشرها طيّب كما ... يحبّ ويرضى ربّنا لمحمّد «1» ويظهر أن الناس في ذلك الوقت قد صنعوا أمثلة لنعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتناقلوها في الأمصار الإسلامية، ليتبرّكوا بها ويشبعوا حنينهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعهده المبارك، وفضولهم إلى معرفة شكل الأشياء التي كان يستعملها النبي الأمين، وكانت هذه الأمثلة تثير كوامن نفوس الشعراء، فينظمون فيها الشعر الذي يظهرون فيه مشاعرهم الدينية، ومحبتهم الكبيرة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وانتشر الحديث شعرا عن النعل النبوي الشريف في المغرب العربي خاصة، فاتخذه الشعراء وسيلة لإظهار عواطفهم الدينية، وتوطئة لمدح صاحب النعل، فزادوا بذلك معاني المدحة النبوية، وحرّكوا مضمونها، فأكثروا من نظم القصائد التي تتحدث عن نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن يطالع كتاب (أزهار الرياض) يجد ما يوازي ديوانا كاملا من القصائد التي يشيد فيها أصحابها بالنعل النبوي، ويظهرون تقديسهم لها. وقد أوسع ابن فرج السبتي «2» نعل النبي نظما، فأنشأ فيها قطعا على حروف المعجم في لزوم ما لا يلزم، سمّاها القطع المخمسة، كل قطعة خمسة أبيات، وهي في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يفتتحها بالحديث عن نعل النبي، ومنها قوله: أتمثال نعل كان يلبسها الذي ... إذا غدت الأرسال ليس له كفء أبو القاسم الأسمى الذي وطئ السّما ... بأخمصه ليلا فشرّفها الوطء أقبّل في طرس حواك كأنّني ... عليل وفي تقبيل شكلك لي البرء «3» وهكذا حرص مدّاح النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذكر كل ما يتعلق به في مدائحهم النبوية،

_ (1) الصفدي: الوافي بالوفيات 4/ 218. (2) محمد بن فرج السبتي، فقيه من أعلام سبتة في القرن الثامن الهجري المقري: أزهار الرياض 1/ 146. (3) المقري: نفح الطيب 3/ 228.

ذكر الآل والصحابة:

فذكروا آثاره، وأبدوا تقديسهم لها، واتخذوها مطية إلى إظهار مشاعرهم نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتوطئة لمدحه. ذكر الآل والصحابة: حين تحدثنا عن الفنون الشعرية التي تقرب من المدائح النبوية، والتي عدها بعض الباحثين من المدائح النبوية، مرّ معنا مدح آل البيت، الفن الشعري الذي انتشر عند الشيعة وغيرهم، وذهبنا إلى أن مدح آل النبي كان مقصودا لذاته، وإن كان تعظيم آل النبي نابعا من تعظيمه، وأن قصائد مدح آل البيت لا تدخل في نطاقق المديح النبوي، وإن ذكر النبي فيها، لأنها نظمت أساسا لمدح آل البيت، ولا يمكن أن يذكر آل البيت دون أن يذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد ورد ذكر آل النبي والصحابة في المدائح النبوية، فحين يذكر مادحو النبي سيرته، لا ينسون أصحابه وآله الذين حملوا معه رسالة الإسلام، وجاهدوا في الله حق جهاده، وضربوا أروع الأمثلة على التضحية والإيمان والإخلاص لله ورسوله، فكان لهم على مدّاح النبي حق ذكرهم والإشادة بهم، وهذا ما فعله معظم شعراء المدائح النبوية، حتى غدا ذكر الآل والصحابة من مضمون المدحة النبوية، يردّدونه في ختام القصيدة حين يجمعونهم في صلاتهم على النبي معه، أو في أثناء القصيدة عند عرضهم لجهاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبطولته، ولمواقف من سيرته. فالبوصيري عند ما ختم قصيدته بالصلاة على النبي، قال: ثمّ الصلاة على المختار ما طلعت ... شمس النّهار وما قد شعشع القمر ثمّ الرّضا عن أبي بكر خليفته ... من قام من بعده للدّين ينتصر وعن أبي حفص الفاروق صاحبه ... من قوله الفصل في أحكامه عمر

وجد لعثمان ذي النّورين من كملت ... له المحاسن في الدّارين والظّفر كذا عليّ مع ابنيه وأمّهما ... أهل العباء كما قد جاءنا الخبر والآل والصّحب والأتباع قاطبة ... ما جنّ ليل الدّياجي أو بدا السّحر «1» وإذا كان البوصيري قد فصّل في هذه القصيدة، فذكر أسماء الصحابة، وبدأ بذكرهم، فإنه في قصيدة ثانية، بدأ بمدح آل البيت بعد أن استوفى مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وثنّى بصحابته الكرام، فقال: آل النّبيّ بمن أو ما أشبّهكم ... لقد تعذّر تشبيه وتمثيل وهل سبيل إلى مدح يكون به ... لأهل بيت رسول الله تأهيل إنّ المودّة في قربى النّبيّ غنى ... لا يستميل فؤادي عنه تمويل وكم لأصحابه الغرّ الكرام يد ... عند الإله لها في الفضل تخويل قوم لهم في الوغى من خوف ربّهم ... حسن ابتلاء وفي الطّاعات تبتيل كأنّهم في محاريب ملائكة ... وفي حروب أعاديهم رآبيل «2» ويكاد يكون ذكر الآل والصحابة مدحا مستقلا في مدحة عائشة الباعونية، فبعد أن أفرغت ما بجعبتها في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، التفتت إلى الصحابة، فمدحتهم بقولها: جلّ الذي خصّ سادات بهم شرفوا ... آلا وصحبا كرام الأصل والشّيم في الله قد بذلوا أرواحهم وسلوا ... وجودهم وخلصوا صدقا لربّهم واستودعوا فوعوا واستحافظوا فرعوا ... واستنهضوا فسعوا نصرا لدينهم

_ (1) ديوان البوصيري: ص 274. (2) المصدر نفسه: ص 230- تمويل: كثرة المال. رآبيل: أسود. مفردها رئبال.

القسم الثالث - مواضيع أخرى:

عزت فضائلهم عمت فواضلهم ... رقّت شمائلهم شاقوا بذكرهم «1» فشعراء المديح النبوي جميعا ذكروا صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآله في قصائدهم، لأنهم لا يستطيعون أن يذكروا سيرته العطرة دون أن يذكروا مكان الصحابة والآل فيها، ولا يستطيعون أن يشيدوا بجهاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصبره ومصابرته في رفع كلمة الله، من غير أن يذكروا من كانوا معه في نشر الدعوة، وبناء الدولة الإسلامية. إلى جانب أن الصلاة على النبي، تجمع بينه وبين آله وصحابته الكرام، لذلك أضحى ذكر آل رسول الله وصحابته من مستلزمات المدحة النبوية، ومن مفردات مضمونها. القسم الثالث- مواضيع أخرى: لم يقتصر مدّاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مدائحهم النبوية على ذكر ماله علاقة به من قريب أو بعيد، وإن كان هذا هو الموضوع الأساس للمدائح النبوية، إلا أنهم أدرجوا في المدائح النبوية ما يعتمل في نفوسهم من مشاعر وأفكار، وما ينعكس على صفحة هذه النفوس من حوادث ومظاهر، وجدت أمام الشاعر، وانفعل بها فتسربت إلى قصائده النبوية، وبذلك حوت المدائح النبوية إشارات كثيرة إلى حياة شعرائها وعصرهم. وقد ظهر لنا فيما سبق كيف جسّد الشعراء عواطفهم الدينية، وميولهم في العقيدة أثناء مدحهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكيف تضافرت أسباب مختلفة، دفعتهم إلى مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم تبق قصائد المديح النبوي قصائد مناجاة دينية فحسب، بل أصبحت قصائد حياة لهؤلاء الشعراء، ولمن يسمعونها ويتذاكرونها. وأقرب المواضيع إلى المديح النبوي في المدحة النبوية، هو الحديث عن الحج ومشاعر المسلمين أثناء تأدية مشاعره.

_ (1) ديوان عائشة الباعونية: ورقة 13.

وكانت الرحلة لزيارة النبي الكريم تقترن غالبا بالرحلة لأداء فريضة الحج، لذلك أكثر الشعراء من ذكر الحج وخاصة حين يذكرون الأماكن المقدسة ويتشوّفون إليها، وقد يذكرون الحج منفردا عن ذكر المقدسات في الحجاز، وكأن شعراء المدائح النبوية يعرّفون مناسك الحج من يجهلها، أو يثيرون مشاعر الحنين إلى المعاهد المقدسة عند المتلقين لشعرهم، ليسارعوا إلى تلبية نداء الله تعالى، وفي ذلك قال القيراطي من مدحة نبوية: حبّذا الكعبة التي قد تبدّت ... وهي تزهو في حلّة سوداء قبّل الخال لا أبالك عشرا ... يا أخا حبّها بغير إباء واشربن من شراب زمزم كأسا ... دبّ منها السّرور في الأعضاء ثمّ قف خاضعا على عرفات ... علّ تعطى عوارف الإعطاء «1» فشعراء المدائح النبوية وجدوا في قصائدهم مناسبة لذكر الحج والمشاعر نحوه، إذ إن الحج عبادة تبيّن تعلق المسلمين بمقدساتهم، وطاعتهم لربهم، وحبهم لرسولهم، وتذكّرهم بالمعاهد التي درج فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهدت الوحي والبعثة. كذلك وجد مدّاح النبي صلّى الله عليه وسلّم في قصائدهم متّسعا للتعبير عن آرائهم الدينية، ولخوض معاركهم العقائدية مع أهل الكتاب الذين حاولوا الانتقاص من الإسلام ونبيّه، وقد مرّت معنا أمثلة على هذا الجدل، وردّ المسلمين على الغزاة، ودفاعهم عن دينهم ورسولهم، ومن هذا الجدل قول البوصيري: فإن تخلق له الأعداء عيبا ... فقول العائبين هو المعيب «2» ولم يكن الجدل الديني بين المسلمين وغيرهم فقط، بل كان فيما بينهم أيضا،

_ (1) المجموعة النبهانية: 1/ 140. (2) ديوان البوصيري: ص 84.

ويظهر أن هذا الجدل قد اشتد شيئا ما في ذلك الوقت، فوصل إلى المدائح النبوية، حتى ضجّ منها الصرصري، فقال مستغيثا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وفتّنة البدع الشّنعاء قد خلطت ... على البريّة ما تنحو وتعتقد أثارها خلف سوء خالفوا سفها ... منهاج سنّتك المثلى فما رشدوا «1» وأوضح الصرصري في مدحة نبوية آراءه الدينية، فقال في التوحيد: أشهد أنّ الله جلّ ذكره ... فوق السّماوات على العرش استوى سبحانه من واحد منزّه ... عن إفك من قال محالا وادّعى صفاته كريمة قديمة ... كلامه القديم غير مفترى وكلّ ما جاءت به الأخبار من ... صفاته تأويلها لا يبتغى فهذه عقيدتي نظمتها ... أجعلها عندك ذخرا يرتجى «2» وأشاد شعراء المديح النبوي بالحديث الشريف وبرواته وكتبه، ومنهم ابن حجر الذي قال في مدحة نبوية بعد الإشادة بالصحابة، وحفظهم للحديث الشريف: والتّابعين لهم بإحسان فهم ... نقلوا لما حفظوه منهم عنهم وأتى على آثارهم أتباعهم ... فتفقّهوا فيما رووا وتعلّموا هم دوّنوا السنن الكرام فنوّعوا ... أبوابها للطّالبين وقسّموا وأصحّ كتبهم من المشهور ما ... جمع البخاري قال ذاك المعظّم

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 30. (2) المجموعة النبهانية: 1/ 289.

وتلاه مسلم الذي خضعت له ... في الحفظ أعناق الرّجال وسلّموا «1» في حين نجد المتصوفة يشيدون بمذهبهم، وبرجال التصوف وأقطابه، حتى إن عائشة الباعونية افتتحت إحدى مدائحها النبوية بالإشادة الحارّة بشيوخها، وأظهرت تعلّقها بهم، فقالت: ومذهبي في الهوى ألاأحول ولا ... ألوي عناني لحيّ غير حيّهم هم كعبتي حيث ما وجّهت يشهدهم ... قلبي وينظرهم سرّي بنورهم «2» وإذا كان شعراء المديح النبوي قد عبّروا عما يدور في عصرهم من قضايا دينية، فإنهم استنجدوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكوارث والمصائب التي حدثت في أيامهم، وقد مرّت معنا أمثلة وافية على ذلك وعلى ما كان يعانيه الناس من الكوارث والحروب والمظالم، فظهر أثر ذلك كله في المدائح النبوية، وربما كان تبرّم الناس بأحوالهم القاسية، وضيقهم الشديد من الظروف السيئة التي تكربهم، وراء الاتساع في نظم المدائح النبوية، فإذا ما أصاب القوم مصيبة، توجهوا إلى النبي الكريم، يمدحونه ويستغيثون به، مثل استغاثة النواجي في مدحة نبوية من وباء الطاعون في قوله: وانظر لأمّتك القوم الضّعاف فقد ... عمّ البلاء وزاد الويل والحرب من وخز طاعون جلّ، فيه كم طعنوا ... بالجرح عدلا وللأرواح قد سلبوا «3» بيد أن الهمّ الشخصي كان له وجود في قصائد المديح النبوي إلى جانب الهمّ الجماعي، فالشعراء كان يشيرون إلى حوادث خاصة جرت لهم، وعانوا منها، وظلت

_ (1) المجموعة النبهانية: 4/ 109. (2) ديوان عائشة الباعونية، ورقة 10. (3) المجموعة النبهانية: 1/ 465.

تحزّ في نفوسهم، فتسللت إلى مدائحهم النبوية، لأن قصائد المديح النبوي كانت تنفيسا لما يكرب الشاعر الذي يحاول من خلالها أن يعيد لنفسه الصفاء. فابن هتيمل طلب مساعدة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أعدائه، وليدرك ثأره منهم، فما فعلوه به يؤلمه ويقض مضجعه، وهو لا يستطيع أخذ حقه منهم، ولذلك مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستنجد به ليدرك ثأره، فقال: إنّي رجوتك والأيّام قد نحلت ... عودي وأثقل ظهري حمل أوزاري من لي ومن لبنيّ الذّاهبين على ... رغمي بقتلة مقداد وعمّار لي أسوة في عليّ والحسين وفي ... ثأر لحمزة لم أحصل على ثار «1» ومثل ذلك حال النواجي الذي تبرّم بأناس اعتدوا عليه، وتقوّلوا على لسانه الأقاويل، وظلوا يكيدون له، وهو صابر، لا يجد إلا مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عزاء وسلوى، فيقول: أشكو إليك أناسا قد طغوا وبغوا ... عليّ واختلفت منهم أقاويل كم أظهروا كيد سوء فيّ واقترفوا ... ذنبا وفي كيدهم خسر وتضليل وكم تسلّيت إذ جاؤوا بإفكهم ... وقلت صبرا ففي الأيّام تحويل «2» وهكذا ظهر لنا أن المدائح النبوية حملت همّ الناس، وعبّرت عن آمالهم، فكانت صورة عن عصرها، تعكس ما يجري فيه من حوادث، وما يعتمل في العقول والنفوس، ولم تكن مجرد مناجاة دينية لا تتعدى نفس قائلها.

_ (1) ديوان ابن هتيمل: ص 63. (2) المجموعة النبهانية: 3/ 151.

الحديث عن المديح النبوي في قصائد المديح:

الحديث عن المديح النبوي في قصائد المديح: من الملاحظ في قصائد المديح النبوي، حديث الشعراء عن مديحهم للنبي الكريم، ووصفهم لهذا المديح، وذكر غايتهم منه، وغير ذلك مما يتعلق بالمديح النبوي شكلا ومضمونا، وخاصة اعترافهم جميعا بتقصيرهم في مدح سيد الخلق، وعجزهم عن الإحاطة بصفاته وخصائصه وفضائله، وهذا ما جعل كثيرا من الشعراء يتهيّبون مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لإدراكهم أنهم عاجزون عن إيفائه حقه، أو هذا ما ذهب إليه بعض المتتبعين للمديح النبوي، فقال أحدهم: «لمّا كانت محاسن رسول الله لا تحصى، وشمائله لا تستقصى، أمسك بعض الشعراء المحبين عن المدح فيه، لعلمهم العجز والقصور عن إدراك معانيه، وأن ذلك ليس في قوة البشر، بل في قدرة خالق الورى والقدر، وبعضهم تصدّى لذلك بقدر طاقته، وصرف نحو ذلك همّته وعنايته.. حتى شحّت بذلك الدفاتر، ونفذت دون نفاذه المحابر» «1» . لكن النبهاني الذي صنع ديوانا كبيرا للمدائح النبوية، وكانت له مشاركة كبيرة في هذا الفن الجميل الجليل، لم يأخذ بهذا الرأي، ولم يعذر الشعراء لتركهم مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحجة العجز عن إيفائه حقه، فقال: «لكن ذلك لا يمنع الشعراء من مدحه، للتقرب إلى رضاه ورضا مولاه بقدر استطاعتهم، فإن الله تعالى شرع لنا على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن نحمده تعالى ونشكره ونثني عليه مع عجزنا كمال العجز عما يجب له ويليق به سبحانه وتعالى» «2» . وقد أخذ بعض الكتاب يرددون مسألة العجز عن مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويضيفون إليها وينقصون، فالأبشيهي يتساءل قائلا: «وماذا عسى أن يقول المادحون في وصف من مدحه الله تعالى، وأثنى عليه ... والله لو أن البحار مداد، والأشجار أقلام، وجميع

_ (1) شرح الأزهري: ص 2. (2) المجموعة النبهانية: 1/ 17.

الخلائق كتّاب، لما استطاعوا أن يجمعوا النزر اليسير من بعض صفاته، ولكلّوا عن الإتيان ببعض بعض وصف معجزاته صلّى الله عليه وسلّم» «1» . فالأبشيهي استعار المعنى القرآني والتعبير القرآني، الذي قرّب به الله عز وجل إلى أذهاننا عدد كلماته، وصرفه إلى الحديث عن فضل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعجز الناس عن مدحه. ووصل ابن حجر في هذه المسألة إلى ما يشبه الفرض، وجعلها «ممّا يتعين على كل مكلف أن يعتقد أن كمالات نبينا صلّى الله عليه وسلّم لا تحصى، وأن أحواله وصفاته وشمائله لا تستقصى، وأن خصائصه ومعجزاته لم تجتمع قط في مخلوق ... وأن المادحين لجنابه العلي، والواصفين لكماله الجلي لم يصلوا إلا إلى أقل من كلّ لا حدّ لنهايته، وغيض من فيض لا وصول إلى غايته» «2» . وإذا ترسّخت هذه القناعة في نفوس الشعراء، فكيف يكون مدحهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإلى أي مدى يصلون فيه، وهذا الميدان تكلّ فيه فرسان البديهة والروية؟ وقد أخذ الشعراء يضمنّون مدائحهم النبوية معاني العجز عن الوصول بمدحه إلى الكمال أو ما يقرب من الكمال. فقال الشهاب محمود في ذلك: ماذا يقول النّاس في وصف من ... أنزل فيه الله طه ونون الأمر فوق الوصف لكنّه ... يمدح كي يسمو به المادحون «3» وقال الصفي الحلي في مدحة نبوية مقتربا من المعنى القرآني:

_ (1) الأبشيهي: المستظرف 1/ 230. (2) ابن حجر: المنح المكية ص 2. (3) المجموعة النبهانية: 4/ 298.

ولو أنّي وفيّت وصفك حقّه ... فني الكلام وضاقت الأوزان «1» ويرى الشهاب محمود أنه لم يعد أمام الناس ما يقولونه في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن أثنى الله تعالى عليه في كتابه العزيز، ولكن الشعراء يمدحون النبي الكريم ليسموا بهذا المديح، فقال: بمديح رسول الله أرفع قدري ... وأرجّي بنظمه حطّ وزري إنّ من قد أثنى الإله عليه ... لغنيّ عن كلّ نظم ونثر وكفاه ما أنزل الله فيه ... من ثناء من الأنام وشكر إنّما عادة المحبّين أن يغ ... روا بذكر الأحباب والحبّ يغري «2» فإذا ما اجتمع هذا الاعتقاد مع التّهيّب، كان الحذر الشديد في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان الإخلاص في مدحه، وكان التعبير الصادق المفعم بالإيمان والحب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. بيد أن البوصيري لم يستسلم لهذه الحقيقة، وجرّد همّته لقطف بعض معاني السمو المحمدي، فقال: وكيف تأبى جني أوصافه همم ... يروقها من قطوف العزّ تذييل وليس يدرك أدنى وصفه بشر ... أيقطع الأرض ساع وهو مكبول كلّ الفصاحة عيّ في مناقبه ... إذا تفكّرت والتّكثير تقليل لو أجمع الخلق أن يحصوا محاسنه ... أعيتهم جملة منها وتفصيل «3»

_ (1) ديوان الحلي: ص 82. (2) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 62. (3) ديوان البوصيري: 231.

وكذلك الأمر في رأي ابن حجر الذي جعل التسليم بحقيقة العجز عن مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المتعين على كل مكلّف، لكنه دعا إلى مدحه والتفنّن في ذلك على الرغم من استحالة الإحاطة بأوصاف الذات المحمدية، فقال: «وصحّ لمحبيه أن ينشدوا فيه: وعلى تفنّن واصفيه بوصفه ... يفنى الزّمان وفيه ما لم يوصف» «1» إلّا أنّ التعبير عن التقصير في إعطاء رسول الله حقه من المديح، لم يكن كل ما تحدث به شعراء المديح النبوي عن مديحهم للنبي الكريم، بل أظهروا غايتهم من هذا المديح الذي يتلخص في طلب الغفران ورضا الله تعالى ورسوله الأمين. فالواعظ البغدادي «2» بعد أن أظهر عجزه عن الإحاطة بفضائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مدحه، جعل هذا المدح ذخرا له يوم القيامة، فقال: مدحتك لا أنّي بمدحك قائم ... ومن ذا بإحصاء الرّمال يقوم مديحك ذخري ثم زادي وعدّتي ... ليوم به يجفو الحميم حميم «3» ولم يبعد البوصيري عن هذه الغاية في مدحه للنبي الكريم، فأفصح عنها أكثر من مرة، وقال في إحدى مدائحه النبوية: أمدائح لي فيك أم تسبيح ... لولاك ما غفر الذّنوب مديح حدّثت أنّ مدائحي في المصطفى ... كفّارة لي والحديث صحيح «4» وعبّر النواجي عن ولعه بمديح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي ملك عليه نفسه، ومنحه الطمأنينة بالمغفرة والإثابة، فقال:

_ (1) ابن حجر: المنح المكية ص 3. (2) الواعظ البغدادي: محمد بن رشيد المعروف بالوتري، من أهل غرناطة، عرف بمديحه النبوي، حج سنة (661 هـ) . المقري: نفح الطيب 5/ 242. (3) الواعظ البغدادي: ص 28. (4) ديوان البوصيري: ص 103.

وصنت عن الخليقة حرّ وجه ... بهم ما زال في تعب وعتب ليصفو بامتداح علاكك عيشي ... ومن جدوى يديك يطيب كسبي وأنقل في الثّرى من ضيق لحد ... لقصر في ذرا الجنّات رحب فنيت فليس فيّ سوى لسان ... بذكرك يا جميل الذّكر رطب «1» فالشعراء أبدوا كلفهم بالمديح النبوي، وارتياحهم لنظمه، فوصفوه وصفا ماديا ومعنويا، أظهر تعلقهم بذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فالبوصيري خاطب نفسه، وحبّذ لها مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأن مدحه مسك للروح، وعبير للسامع، وهو في ذلك يظهر أثر المدائح النبوية على الناظم والسامع، فقال: يا نفس دونك مدح أحمد إنّه ... مسك تمسّك ريحه والرّيح ونصيبك الأوفى من الذّكر الذي ... منه العبير لسامعيه يفوح «2» وإذا انتشى البوصيري من عبق طيب المديح النبوي، فإن غيره قد ثملوا وسكروا بهذا المديح، وليس السكر الذي يعرفه طلاب الملذات، وإنما هو السكر الذي تحدث عنه المتصوفة، السكر بحب الله تعالى ورسوله، والذي تحدث عنه الواعظ البغدادي في قوله: ثملنا سكرنا من مديح محمّد ... أعده علينا فالمسّرات تحدث «3» وأوضح الحلّي ما تتركه المدائح النبوية في نفوس السامعين، فقال في إحدى مدائحه النبوية:

_ (1) المجموعة النبهانية: 1/ 469. (2) ديوان البوصيري: ص 103. (3) الواعظ البغدادي: معدن الإفاضات ص 8.

يروي غليل السّامعين قطارها ... ويجلو عيون النّاظرين قطورها هي الرّاح لكن بالمسامع رشفها ... على أنّه نفنى ويبقى سرورها «1» وإذا كان المديح النبوي يفتح باب الأمل أمام أصحابه بالمغفرة والرضوان، وإذا ملك عليهم أنفسهم، فانتشت به أرواحهم، فلا أقل من أن يعبّر الشعراء عن تمسكهم بالمديح النبوي، واستمرارهم في نظمه. وهذا ما أوضحه الصرصري في قوله: أرى نظم شعري في مديحك قربة ... فلست له ما اسطعت عمري بتارك «2» وإذا أكد الصرصري أنه لن يترك مدح النبي مادام حيا، فإن ابن العطار جعل المديح النبوي مذهبا له، لا يحيد عنه، فقال: صيّرت أمداح النّبيّ المصطفى ... لي مذهبا يا نعم هذا المذهب وبمدحه شمس الرّضا طلعت على ... أفقي تضيء ونورها لا يغرب «3» ووصل كلف النواجي بالمديح النبوي، ومداومته على نظمه إلى الحد الذي لقّب فيه بمدّاح النبي، فاغتبط بهذا اللقب وقال: سمّيت باسمك والمدّاح لي لقب ... يا حبّذا الاسم أو يا حبّذا اللّقب «4» فشعراء المديح النبوي تحدثوا في مدائحهم عن رؤيتهم للمديح النبوي وكلفهم به، فأوضحوا نظرتهم ونظرة معاصريهم إلي هذا الفن الجميل الجليل، والمشاعر التي يثيرها عند الناس، فأغنوا بذلك عن الاستنتاج والتخمين.

_ (1) ديوان الصفي الحلي: ص 78. (2) ديوان الصرصري، ورقة 72. (3) المجموعة النبهانية: 1/ 493. (4) المصدر نفسه: 1/ 466.

القسم الرابع - المعاني:

القسم الرابع- المعاني: إن المعاني التي ترد في الشعر العربي مستقاة من البيئة العربية والمجتمع العربي، ومن ثقافة الشاعر التي تمدّه بمعان تكثر وتقلّ حسب اتساع هذه الثقافة. والشعراء يتابع بعضهم بعضا في ذكر المعاني التي يشكّلون منها مواضيع قصائدهم، ويتفاوتون في مقدرتهم على إبداع المعاني الجديدة، بتفاوت مواهبهم، وقد اشتهر شعراء كثيرون بمقدرتهم على إبداع المعاني وتوليدها، فقلما نجد شاعرا لم يبدع معنى من المعاني على نحو ما. وإذا لم يتسنّ للشاعر معنى جديد، فإنه يضع المعنى القديم أو المعروف في قالب جديد، يبدو معه جديدا كل الجدة، أو يعمل عقله في المعنى القديم، ليخرج منه معنى جديدا، عن طريق نقل المعنى من موضوع إلى موضوع، أو عكسه أو الاجتزاء منه أو الاتساع به، أو غير ذلك من التغييرات التي يبدو معها المعنى جديدا. ومعاني المديح النبوي موزعة على المقدمة وتنوعها، ومديح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمعان مختلفة المصادر، ومعاني الموضوعات الآخرى التي تضاف إلى المدحة النبوية. وعند حديثنا عن المديح النبوي في عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تبيّن لنا أن الشعراء في البداية لم يستطيعوا الاتساع في الحديث عن مفهوم النبوة في شعرهم، فمدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمعاني التقليدية التي درجوا على استخدامها في مدح سادتهم، وكانت المعاني التقليدية غالبة على هذا المديح، على الرغم من ظهور الأثر الديني في هذا المديح، واستخدام الشعراء لمعان دينية مقتبسة من المفاهيم الدينية والقرآن الكريم. وقد تابع شعراء المديح النبوي غيرهم في استخدام المعاني التقليدية في التعبير عن موضوعات مدائحهم النبوية، وخاصة في المقدمة التقليدية التي مهّدوا بها لمدح رسول

الله صلّى الله عليه وسلّم، وعند الذين وقفوا على الأطلال فيها مجاراة لشعراء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذين ذكروا الأطلال في مقدمات قصائدهم التي مدحوه بها. فالصرصري افتتح إحدى مدائحه النبوية قائلا: لمن دمن بالرّقمتين أراها ... محارسمها طول البلى وعفاها تحمّل عنها كلّ أغيد آنس ... ولم يبق إلّا عفرها ومهاها فأضحت قواء بعد طول غنائها ... ينعّم فيها ريمها وطلاها «1» فالطلول التي عفا الزمان على معالمها، معنى قديم تعاوره الشعراء، وإسكان المها الأطلال معنى تقليدي كذلك. وتمسّك كثير من شعراء المدائح النبوية بهذه السّنة التقليدية في افتتاح قصائدهم، فوصفوا الأطلال مثل وصف الشعراء السابقين لها، وبالمعاني نفسها دون أن يضيفوا إلى معاني المقدمة المعروفة معنى جديدا، إلا أنهم انتقلوا نقلة واحدة من وصف الطلل وذكر منازل المحبوبة إلى ذكر الأماكن المقدسة، والتشوق إليها، وقد مرّت معنا أمثلة كثيرة على ذكر المقدسات وتعدادها بالطريقة نفسها التي ذكر فيها القدماء الأطلال، مثل قول البوصيري: أمن تذكّر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم أم هبّت الرّيح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظّلماء من إضم «2» وحين ذكر الشعراء الرحلة، ووصفوا الراحلة، لم يخرجوا في قسم كبير من وصفهم عن المعاني التقليدية التي تقال عادة في الحديث عن الرحلة والراحلة، إلا أنهم

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 117. (2) ديوان البوصيري: ص 238.

في أحيان كثيرة أضافوا إلى المعاني التقليدية في وصف الرحلة والراحلة معاني الشوق والحنين إلى الأماكن المقدسة، والوجد والحب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومثال ذلك قول البوصيري: سارت العيس يرجعن الحنينا ... ويجاذبن من الشّوق البرينا داميات من حفى أخفافها ... تقطع البيد سهولا وحزونا وعلى طول طواها حرمت ... عشبها المخضّر والماء المعينا كلّما جدّ بها الوجد إلى ... غاية لم تدرها إلّا ظنونا «1» فشعراء المديح النبوي استخدموا المعاني التقليدية التي تواضع عليها الشعراء الذين سبقوهم، فلو استقصينا كتابا في المعاني مثل كتاب محاضرات الأدباء، الذي حاول مؤلفه تتبع معاني الشعر العربي والتمثيل لها، وتمعّنا في معاني المديح والغزل وذكر الأطلال ووصف الرحلة، ووصف المعارك، والحديث عن النفس والتوبة، لرأينا أن هذه المعاني لم تكن جديدة في شعر المديح النبوي، وأن شعراء المدائح النبوية لم يخترعوها أو يوجدوها من العدم، وإنما هي مستقاة مما قيل عن هذه المعاني في التراث الأدبي العربي، وكل ما فعله شعراء المديح النبوي، هو أنهم نقلوا هذه المعاني من موضوع إلى موضوع، وسموا بها إلى المقام النبوي الشريف، وأعادوا صياغتها وطريقة استخدامها، وأضافوا إليها إضافات بسيطة، لوّنوها بها، فظهرت جديدة نوعا ما، إلى جانب ما استقوه من السيرة والحديث الشريف، ومتابعة بعضهم بعضا. لقد لاحظ أدباء العصر المملوكي صعوبة الابتداع، لأنهم وجدوا أنهم مسبوقون إلى المعاني، لكن ذلك لم يدفعهم إلى اليأس، ففي المقدمة الغزلية للمدحة النبوية، نجد شعراء يذكرون معاني اعتاد سابقوهم ذكرها في مقدمات قصائدهم المدحية، أو في

_ (1) ديوان البوصيري: ص 257.

قصائد الغزل الخالص، مثل معاني الاستسقاء لماضي الزمان، والتلهف على أحوال سالفة، فقول ابن نباتة: سقى الله أكناف الغضا سائل الحيا ... وإن كنت أسقى أدمعا تتحدّر وعيشا نضا عنه الزّمان بياضه ... وخلّفه في الرّأس يزهو ويزهر «1» يذكرنا بقول الشاعر: سقى الله أياما لنا ولياليا ... مضين فلا يرجى لهنّ طلوع إذ العيش صاف والأحبّة جيرة ... جميع وإذ كلّ الزّمان ربيع «2» ولو تتبعنا المعاني التي استقاها شعراء المديح النبوي من الشعر العربي القديم، لأعجزنا ذلك، فلا توجد مدحة نبوية إلا وفيها معنى من معاني الشعراء السابقين، وربما تجاوز الشاعر المعنى إلى التعبير الأصلي، أو ما يقرب من التعبير الأصلي، فنتذكر المعنى وصاحبه، فابن سيد الناس «3» قال في مدحة نبوية: لو لم أر الموت عذبا في الغرام بكم ... ما شاقني لحسام البرق تقبيل «4» فما نكاد نتم البيت الأول حتى يقفز إلى ذاكرتنا معنى عنترة بن شداد، حين يخاطب محبوبته بقوله: ووددت تقبيل السّيوف لأنّها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسّم «5» ومثل هذا كثير في المدائح النبوية، يفيد مادحو النبي من معاني القدماء، وينقلونها

_ (1) ديوان ابن نباتة: ص 180. (2) الراغب الأصفهاني: محاضرات الأدباء 2/ 25. (3) ابن سيد الناس: محمد بن محمد اليعمري، كان حافظا للحديث فقيها، حسن التصنيف شاعرا، له (السيرة النبوية) و (بشرى الكئيب بذكر الحبيب) ، توفي سنة (734 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 287. (4) المجموعة النبهانية: 3/ 60. (5) ديوان عنترة: ص 150.

من موضوعها الأصلي إلى المديح النبوي، فابن حجر يقول في مدحة نبوية: ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بمكّة أشفي ذا الفؤاد المفنّدا «1» ولا شك في أنه حينما نظم هذا البيت كان يتذكر البيت المشهور لمالك بن الريب: ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بجنب الغضا أزجي القلوص النّواجيا «2» وقول النواجي في مدحة نبوية: وتلدغ قلبي بالملام كأنّها ... من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع «3» مأخوذ شطره الثاني من قول النابغة: فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة ... من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع «4» أما ابن نباتة الشاعر الكاتب، فإنه قد أفاد من التراث العربي في مجمله، فإذا ما قرأنا بيته التالي من مدحة نبوية: وينكرني ليلي وما خلت أنّه ... إذا وضع المرء العمامة ينكر «5» نستذكر خطبة الحجاج، والبيت الذي استشهد به في خطبته، وهو بيت سحيم بن وثيل «6» :

_ (1) المجموعة النبهانية: 2/ 62. (2) الأصفهاني: الأغاني 22/ 285. (3) المجموعة النبهانية: 2/ 348. (4) ديوان النابغة الذبياني: ص 46. (5) ديوان ابن نباتة: ص 180. (6) سحيم بن وثيل التميمي: شاعر مخضرم تفاخر مع والد الفرزدق في المعاقرة، حتى نحر نحو ثلاث مئة ناقة في خلافة علي بن أبي طالب، فمنع أكلها. الجاحظ: البيان والتبيين 2/ 308.

أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني «1» فاتسع بعض شعراء المديح النبوي في أخذ المعاني من الشعر القديم، ووضعها في سياق المدحة النبوية، مع المحافظة على التعبير الأصلي، أو تغيير ترتيب الجمل. والطريف من المدائح النبوية في هذا الباب، ما نظمه بعض شعراء المديح النبوي، حين شطروا قصائد قديمة مشهورة، مثل قصائد امرئ القيس، ومنها مدحة نبوية لحازم القرطاجني «2» ، أخذ فيها معلقة امرئ القيس، وشطرها، فجعل كل بيت من القصيدة يحوي شطرا من أبيات قصيدة امرئ القيس، على هذا النحو: لعينيك قل إن زرت أفضل مرسل ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وفي طيبة فانزل ولا تغش منزلا ... بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل «3» وتمضي مدحته النبوية على هذا النحو، يجهد الشاعر عقله في الملاءمة بين المعنى القديم وما يمكن أن يصير إليه عند إتمامه وتضمينه ونقله إلى المديح النبوي، فصرف المعاني القديمة الوصفية والغزلية في قصيدة امرئ القيس يحتاج إلى مقدرة وصناعة وحذق وتفكير أكثر من الشاعرية. وزيادة على التظارف وإظهار المقدرة الفنية والعقلية، اتكأ الشعراء هنا على الشعر القديم، فأخذوا منه المعنى والوزن والقافية. وقد عد أدباء ذلك العصر هذه الطريقة في نظم المدائح النبوية من دواعي بروز الشاعر، واشتهاره بالمقدرة على المواءمة، لذلك أظهر ابن حجة الحموي في خزانته

_ (1) الأصمعيات: ص 17. (2) حازم بن محمد بن حسين الأندلسي، نزل تونس، شاعر لغوي بلاغي له مصنفات، توفي سنة (684 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 387. (3) المقري: أزهار الرياض 3/ 178.

إعجابه الكبير بما فعله ابن الوردي حين مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقصيدة، ضمّن فيها أعجاز قصيدة أبي العلاء المعري وبعض صدورها، وهي القصيدة الرائية التي مدح بها أبو العلاء أحد فضلاء عصره، ونقلها ابن الوردي «1» إلى مستحقها صلّى الله عليه وسلّم، فمطلع قصيدة المعري: يا ساهر البرق أيقظ راقد السّمر ... لعلّ بالجزع أعوانا على السّهر فقال زين الدين: وقف على الجزع واذكرني لساكنه ... لعلّ بالجزع أعوانا على السّهر إذا تبسّم ليلا قل لمبسمه ... يا ساهر البرق أيقظ راقد السّمر وقال أبو العلاء: يودّ أنّ ظلام اللّيل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر نقله زين الدين إلى المديح، فقال: تشرّف الرّكن إذ قبّلت أسوده ... وزيد فيه سواد القلب والبصر «2» وتمضي القصيدة على هذا النحو، يتبع فيها ابن الوردي أبا العلاء بيتا بيتا، وينقل معانيها إلى المدح النبوي. وقد أولع شعراء المديح النبوي بهذه الطريقة في إنشاء مدائحهم، فأكثروا منها، وخاصة في أواخر العصر المملوكي.

_ (1) ابن الوردي: عمر بن مظفر بن عمر، فقيه مؤرخ شاعر من معرة النعمان له عدة مصنفات. توفي (749 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 157. (2) ابن حجة: خزانة الأدب ص 382، والمعري: سقط الزند 1/ 114.

فمثلما رأى ابن حجة في قصيدة المعري أن معانيها تستحق أن تقال في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رأى صاحب سكردان السلطان ذلك حين قال: كان صلّى الله عليه وسلّم في الفخر والعلا أحق بقول أبي العلاء: وإنّي وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل «1» وإذا كان شعراء المديح النبوي قد أخذوا بعض معانيهم من الشعر العربي القديم، ونقلوا هذه المعاني إلى المديح النبوي، فمن الأولى أن يأخذوا معانيهم من قصائد المديح النبوي السابقة والمشهورة، وخاصة أنهم يكررون المعاني نفسها، أو أن يأخذوا بعض معانيهم من قصائد قريبة في موضوعها من المديح النبوي، مثل قصائد التصوف أو التشوق للمقدسات، وهذا ما فعلته عائشة الباعونية حين نظمت إحدى مدائحها النبوية معارضة لقصيدة في التصوف لابن الفارض، وهي اليائية، فأخذت بعض معانيها، وقالت: سعد إن جئت ثنيّات اللّوى ... حيّ عنّي الحيّ من آل لؤي واجر ذكري وإذا صفوا له ... صف لهم ما قد جرى من مقلتي ذبت حتّى كاد شخصي يختفي ... عن جليسي فكأنّي رسم في «2» وقد أخذ شعراء المدائح النبوية يعارض بعضهم بعضا، ويأخذون معاني بعضهم، وخاصة معاني القصائد المشهورة، مثل بردة كعب بن زهير، التي عارضها البوصيري في قصيدته التي سمّاها (ذخر المعاد في وزن بانت سعاد) ، صرّح فيها بمعارضته لكعب، وقارن بين قصيدته وقصيدة كعب، فقال:

_ (1) ابن أبي حجلة: سكردان السلطان ص 348. (2) ديوان الباعونية، ورقة 2.

لم أنتحلها ولم أغصب معانيها ... وغير مدحك مغصوب ومنحول وما على قول كعب إن توازنه ... فربّما وازن الدّرّ المثاقيل «1» فالبوصيري تحدث عن أخذ المعاني من القصيدة المعارضة، ونفى أن يكون هذا الأخذ نوعا من الغصب والسرقة، وخاصة في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشعراء المدائح النبوية تعاوروا معاني محددة في جميع قصائدهم، فممدوحهم واحد ونظرتهم إليه واحدة، وتفاضلهم يكون في مقدرتهم على توليد معان جديدة من المعاني المعروفة، وعلى استخدام هذه المعاني استخداما جديدا متفردا يزيدها عمقا ويمنحها دلالات جديدة وإيحاآت مؤثرة. وعارض الشرف الأنصاري لامية كعب، فقال: أو همت نصحا (لو أنّ النّصح مقبول ... لا ألهينّك إنّي عنكك مشغول) بان التّجلّد عنّي والتّصبّر مذ ... (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول) تيّاهة آثرت صدّا لمغرمها ... (متيّم إثرها لم يفد مكبول) «2» فمعارضة الشرف الأنصاري هي تشطير لقصيدة كعب (بانت سعاد) ، جعل الشطر الأول من نظمه، ولاءم بينه وبين الشطر الثاني الذي اختاره من قصيدة كعب، فأخذ جلّ معاني قصيدة كعب. وجاء بعد ذلك ابن مليك الحموي، فعارض قصيدتي كعب والبوصيري، فأخذ معاني من هذه، ومعاني من تلك، وقال: لا تحسبوا طرفه بالنّوم مكتحلا ... ما الطّرف بعدكم بالنّوم مكحول

_ (1) ديوان البوصيري: ص 220. (2) ديوان الشرف الأنصاري: ص 389.

يا صاح دعني من ذكر الحبيب ومن ... بانت سعاد فقلبي اليوم متبول «1» وهكذا تعاور شعراء المديح النبوي معانيهم ومعاني الشعراء الذين سبقوهم، مثل أخذ ابن نباتة عن كعب بن زهير وابن سينا في قوله: بانت سعاد فليت يوم رحيلها ... فسح اللّقا فلثمت كعب مودّعي بعد الحواميم التي بثنائها ... هبطت إليك من المحلّ الأرفع «2» وإذا دققنا في معاني شعراء المديح النبوي، وأرجعناها إلى أصولها في الشعر العربي، نرى أن مدّاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استقوا معاني كثيرة، يصعب حصرها، فإذا ما تذكرنا مطلع بردة البوصيري التي أضحت مثل اللازمة عند شعراء المديح النبوي المتأخرين، وهو: أمن تذكّر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم «3» نجد شبيها لهذا المعنى أو أصلا له في قول الشاعر المتقدم: مزجت دموع العين من ... ني يوم بانوا بالدّما وكأنّما مزجت بخد ... دي مقلتي خمرا بما «4» أو في قول أبي علي النهرواني المتوفي سنة (525 هـ) : قل لجيران بذي سلم ... لم تسامحتم بسفك دمي «5»

_ (1) ديوان ابن مليك الحموي: ص 26. (2) ديوان ابن نباتة ص 290. (3) ديوان البوصيري: ص 238. (4) الراغب الأصفهاني: محاضرات الأدباء 2/ 34. (5) الصفدي: الوافي بالوفيات 12/ 34.

إن أخذ شعراء المدائح النبوية للمعاني من الشعر العربي لا يقلل من مقدرة شعراء المدائح النبوية، ولا يقدح في موهبتهم وثقافتهم، فهذه سنّة الشعر والأدب عند كل أمة، يا بني الجديد علي القديم، ويضيف إليه معاني جديدة، والمعاني التقليدية أو التي استعارها شعراء المدائح النبوية من الشعر العربي ليست معاني المديح النبوي كلها، بل هي نسبة ضئيلة من معاني المدح النبوي التي أخذها مدّاح النبي من سيرته العطرة، وحديثه الشريف، وقبل كل ذلك من القرآن الكريم. فنجد المعنى القرآني بالتعبير القرآني يزين قصائد المديح النبوي، ويعطر موضوعاتها، فالصرصري مثلا يفتتح إحدى مدائحه النبوية قائلا: سبحان من رفع السّماوات العلا ... سبعا وزان السّقف بالأبراج وأطاح بالقمر المنير ظلامها ... وأضاءها بسراجها الوهّاج وبأمره البحران يلتقيان لا ... يبغي على عذب مرور أجاج والفلك سخّرها لمنفعة الورى ... فجرين فوق المزبد العجّاج «1» ومضى الصرصري في تسبيحه، وكأنه ينظم المعاني القرآنية، حتى إذا وصل إلى المديح النّبوي ظل يقتبس المعاني القرآنية، ويمزجها بالمعاني المستقاة من السيرة الكريمة، فقال: وهو المسمّى في القران بشاهد ... وبمنذر ومبشّر وسراج أسرى من البيت الحرام به إلى ... أقصى مساجده بليل داج «2»

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 22. (2) ديوان الصرصري: ورقة 22.

أما المعاني المقتبسة من السيرة النبوية، فكثيرة جدا، لم يترك شعراء المدائح النبوية معنى من معانيها دون أن يذكروه في قصائدهم، وخاصة أن كتّاب السيرة النبوية، والخصائص والدلائل، بذلوا جهودا كبيرة في تسجيل كل صغيرة وكبيرة عن حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكل ما يتعلق بها من أحداث ومواقف ومعجزات، وكل ما نطق به أو فعله. وقد مرّت معنا أمثلة كثيرة على ذلك حين تحدثنا عن مضمون المدحة النبوية. وربما أفاد الشعراء من معاني مصطلحات العلوم، فعبروا بها عن مواضيع المديح النبوي، مثل قول ابن نباتة: كأنّ الحبّ دائرة بقلبي ... فحيث الانتهاء الابتداء لنا سند من الرّجوى لديه ... غداة غد يعنعنه الوفاء «1» إلا أن استقاء شاعر المديح النبوي للمعاني من سابقيه، لا يعني أن الأمر مسلم به كليا، فمن الصعوبة بمكان أن نحكم على أخذ اللاحق من السابق، فربما كان الأمر من قبيل توارد الخواطر، ووقع الحافر على الحافر- كما يقولون-، وقد شعر ابن حجة بصعوبة الجزم في التسليم لشاعر بأنه مبتدع أحد المعاني، فقال: «كان عنّ لي أن أورد هنا من سلامة الاختراع للمتقدمين والمتأخرين جملة مستكثرة، ولم يصدني عن ذلك إلا الخيفة ممّن تبحّر عليّ في المطالعة، فيورد ما أثبت من المعنى المخترع لزيد أنه مسبوق إليه من عمرو» «2» . ولم تكن كل المعاني التي جاء بها الشعراء في المديح النبوي، معاني تقليدية أو قديمة أو أنها غير مبدعة، بل إن شعراء المديح النبوي أبدعوا في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووصفه ومناجاته، والتعبير عن حبهم له، معاني كثيرة، ولكن يصعب أن تظهر لنا هذه المعاني

_ (1) ديوان ابن نباتة: ص 6. (2) ابن حجة: خزانة الأدب ص 406.

البديعة في هذا الكم الهائل من شعر المديح النبوي، وإلا بعد أن ترتب جميع المدائح النبوية ترتيبا زمنيا، ليتضح متى ظهر هذا المعنى أو ذاك أوّل مرة، ومن الذي ابتدعه، فمعاني المديح النبوي سرعان ما تنتشر بين مدّاح النبي صلّى الله عليه وسلّم في مشرق الأقطار العربية الإسلامية ومغربها. واستطاع بعض شعراء المديح النبوي أن يولّدوا من المعاني القديمة التقليدية معاني تكاد تكون بديعة جديدة، بفضل تطور استخدامها عبر الزمن، وبفضل الألوان التعبيرية المستجدة، فمن المقدمة الغزلية لقصيدة المدح التقليدية إلى الغزل الرمزي عند المتصوفة، الذي يخرج بالغزل المعروف عند الشعراء العرب عن آفاقه المعهودة ومراميه المعروفة، إلى الغزل الذي أضحى مقدمة للمدحة النبوية بشروط تواضع عليها شعراء المديح النبوي، نجد بعض المعاني التي جمعت بين التعبير الغزلي، ومضمون التشوق الديني للأماكن المقدسة، مثل التغزل بالكعبة المشرفة، فإن شعراء المدائح النبوية استطاعوا أن يجمعوا في الحديث عنها بين التعابير الرقيقة التي اعتاد عليها الشعراء، وبين مشاعر الشوق والحنين والتقديس لها برمزية شفافة، فجاءت المعاني بإيحاآت الألفاظ التي تعبّر عنها طريفة، فيها شيء من الجدّة، كقول ابن الزملكاني في مخاطبة الكعبة: أهواك يا ربّة الأستار أهواك ... وإن تباعد عن مغناي مغناك «1» وقول العزازي «2» : دمي بأطلال ذات الخال مطلول ... وجيش صبري مهزوم ومفلول «3» فرّبة الأستار هي الكعبة التي تتسابق الأقطار الإسلامية إلى صنع كسوتها وأستارها، وهي نفسها ذات الخال، وهو الحجر الأسود الذي يسعى المسلمون إلى لمسه وتقبيله والتبرّك به.

_ (1) الصفدي: الوافي بالوفيات 4/ 217. (2) العزازي: شهاب الدين أحمد بن عبد الملك التاجر، الشاعر المشهور، كان جيد النظم في الشعر والموشحات، ت (710 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 95. (3) ابن تغري يردي: المنهل الصافي 1/ 341.

فالشعراء استطاعوا اقتناص هذه الصفات والإفادة منها في تشكيل معان بديعة. ويقرب من هذا ما نجده في حديث شعراء المدائح النبوية عن الرحلة إلى الحجاز، فإنهم تابعوا سابقيهم في وصف الرحلة، وفي إضفاء المشاعر الإنسانية على رواحلهم، ولكنهم استطاعوا أن يضيفوا إلى ذلك مشاعر التقوى واللهفة، ونسبها إلى هذه الرواحل، وأن يشملوها بالمشاعر الدينية التي تغلب على الراحلين إلى الحجاز. وظلت المشاعر الدينية تحيط بكل ما يقوله شعراء المدائح النبوية في مقدماتهم، وحتى عند ما وصفوا الطبيعة تمهيدا للمدح، لم يجدوا فيها ما يبهج النفس فقط، بل جعلوها مظاهر لقدرة الله تعالى، وأنطقوها بشكره وتسبيحه، مثل قول الصرصري: والورق تهتف في الأوراق شاكرة ... إحسان مبتدئ بالفضل مشكور «1» وعلى الرغم من أن شعراء المديح النبوي استخدموا المعاني التقليدية في المديح، إلا أن نسبها إلى الرسول الكريم أخرجها عن تقليديتها، واستطاع الشعراء المثقفون ثقافة دينية كبيرة أن يولّدوا من المعاني التقليدية معاني جديدة، لها صبغة دينية، فجاءت بديعة جديدة، فكم أثنى الشعراء على أخلاق ممدوحيهم، ولكن لم يخطر على بال أحدهم أن يتحدث عن مصادر أخلاق الممدوح، وأن يميّز بين هذه المصادر، مثلما فعل البوصيري في الثناء على أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال: خلائقه مواهب دون كسب ... وشتّان المواهب والكسوب «2» وحين أثنى البوصيري على تقوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واجتهاده في عبادته، عبّر عن ذلك بمعنى بديع يقرب من الجدة، ضربه مضرب المثل، فقال:

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة. (2) ديوان البوصيري: ص 50.

وإذا حلّت الهداية قلبا ... نشطت في العبادة الأعضاء «1» واستطاع البوصيري أيضا أن يخرج بمعان جديدة من حديثه عن المعجزات، حين قارن بين المكاذبين لرسالته الغراء، وموقف الحيوان والجماد، الذي أظهر المعجز في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في قوله: والجمادات أفصحت بالذي أخ ... رس عنه لأحمد الفصحاء ويح قوم جفوا نبيّا بأرض ... ألفته ضبابها والظّباء وسلوه وحنّ جذع إليه ... وقلوه وودّه الغرباء أخرجوه منها وآواه غار ... وحمته حمامة ورقاء «2» فالمعجزات التي نقلها شعراء المديح النبوي نقلا إلى قصائدهم، ونظموها نظما، فجارت على شعرهم وأفقدته رواءه، أوحت للبوصيري بمعان جديدة متميزة، أظهرت مقدرته الفائقة على الملاحظة الدقيقة، واقتناص المعاني الجديدة، وتوليدها. ولا يفوتنا هنا ما أضافه المتصوفة من معان جديدة وغريبة إلى المدائح النبوية، والمتأتية من مذهبهم، ومن طريقتهم في التعبير، والتي تقوم على الرمز والاستبطان، والتعبير عن معان غامضة بتعابير لها معان ظاهرة، يريد الشاعر أن يصرف المتلقي عن المعاني الظاهرة إلى المعاني المستترة وراء الكلمات ووراء العلاقات فيما بينها. وأكثر ما يظهر ذلك في معاني الحقيقة المحمدية، التي لم تكن معروفة بين الشعراء في المراحل الأولى من المديح النبوي، والتي استجدت في العصر المملوكي أو قبيله بقليل، فتناولها الشعراء بطرق مختلفة، ومن وجوهها الكثيرة، منها مسألة المفاضلة بين

_ (1) ديوان البوصيري: ص 52. (2) المصدر نفسه: ص 53.

الأنبياء- عليهم السلام- وتفضيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم جميعا، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو أوّل الأنبياء، وهو الحقيقة الثابتة المستمرة التي تتجسد في كل عصر بنبي من الأنبياء، فهم صور متعددة لحقيقة واحدة، وهذا معنى لم نعهده من قبل في الشعر العربي، يدل عليه قول البوصيري: إنّما مثّلوا صفاتك للنّا ... س كما مثّل النّجوم الماء «1» وكذلك الأمر في مدح المتصوفة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن معاني مدحهم له جديدة مستمدة من مذهبهم، وهي معان لم تكن معروفة سابقا، مثل قول الصرصري: يا سيّد البشر الذي هو غوثنا ... في حالتي جدب الزّمان وخصبه «2» ومن معانيهم الجديدة في المديح النبوي، المعنى المستمد من اعتقادهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو سر الوجود وعلّته، مثل قول الدروكي. يا قطب دائرة الوجود بأسره ... لولاك لم يكن الوجود المطلق «3» ومن معاني الحقيقة المحمدية التي تبدو جديدة على المديح النبوي، قول العفيف التلمساني في أبوّة رسول الله لآدم- عليهما السلام-، ووجوده السابق للوجود: وقد كنت قبل الغيب فيه ممكّنا ... فأوجب إمكاني الوجود المحقّق أبا لأبي الآباء كنت ونشأتي ... لها آخر الأبناء يعزى فيخلق «4» ونجد شيئا من الجدة في معاني تأثير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الكون ومظاهر الطبيعة والإنسانية وأمته، مثل قول البوصيري في فرح الطبيعة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

_ (1) ديوان البوصيري: ص 49. (2) ديوان البوصيري: ورقة 10. (3) ابن حجر: الدرر الكامنة 4/ 259. (4) ديوان العفيف التلمساني: ورقة 109.

فرحت به البريّة القصوى ومن ... فيها وفاضلت الوعور سهولا «1» وقول الصرصري: تبشبش وجه الأرض مذ حلّها كما ... بطلعته وجه السّماء تبشبشا «2» وقد أسهب الشعراء في إظهار أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الإنسانية، فهو طبيب لأرواح الناس أو قلوبهم المريضة، كما قال ابن الموصلي مسجلا معنى بديعا فيه شيء من الجدة: وكم مراض قلوب حين عالجها ... باللّطف صحّت ومن سكر الضّلال صحت «3» ومن أمثلة المعاني البديعة التي جاءت في معرض الحديث عن أثر رسول الله في أمته قول لسان الدين بن الخطيب «4» ، يربط بين انتصارات المسلمين الأوائل على الامبراطوريات القديمة، وصراع العرب المسلمين مع الغزاة الصليبيين: ولولاك لم يعجم من الرّوم عودها ... فعود الصّليب الأعجميّ صليب «5» ولا نعدم في حديث الشعراء عن مدائحهم بعض المعاني البديعة الجديدة، التي تظهر موقع المديح النبوي في نفوس الناس، فالحلي يصف المدائح النبوية بقوله: هي الرّاح لكن بالمسامع رشفها ... على أنّه تفنى ويبقى سرورها «6»

_ (1) ديوان البوصيري: ص 206. (2) ابن شاكر: فوات الوفيات 4/ 301. (3) الصفدي: الوافي بالوفيات 1/ 267. (4) لسان الدين بن الخطيب: محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني الأندلسي، مؤرخ أديب وزير، ترك الأندلس إلى المغرب، له مؤلفات كثيرة، توفي سنة (776 هـ) ، الناصري أحمد: الاستقصا 2/ 132. (5) ديوان لسان الدين بن الخطيب: ص 324. (6) ديوان الحلي: ص 78.

لقد تطورت معاني المديح النبوي مع تقدم الزمن واتساع الثقافة، وتنوعت تنوع مذاهب الشعراء واختلافها واستجد منها ما استجد مع الأفكار الدينية والفلسفية التي دخلت إلى الثقافة العربية. فمعاني مديح المتصوفة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تختلف عن معاني غيرهم من المسلمين، والمعاني التي مدح بها شعراء المديح النبوي الرسول الأمين في بداية العصر المملوكي تتباين قليلا عن المعاني التي مدحوه بها في آخره. وكذلك الأمر حين تظهر فكرة جديدة، ففي بداية المديح النبوي مثلا لم تكن معاني الحقيقة المحمدية متداولة، في حين أضحت في العصر المملوكي من لوازم المدحة النبوية. ومثل ذلك يحدث حين ينقل مادح النبي المعنى من موضوع ما إلى المديح النبوي بخفّة وبراعة، فإنه يصبح معنى جديدا من معاني المديح النبوي، وخاصة حين يرصد الشاعر علاقته برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعلقه به، وعلاقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكون والحياة، فإن ذهنه يتفتق عن معان جديدة جميلة. إن معاني المدحة النبوية مستقاة من سيرة رسول الله الكريمة، وحديثه الشريف، ومن كل ما له علاقة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعضها مقتبس من القرآن الكريم. وإلى جانب ذلك أخذ شعراء المديح النبوي معانيهم من التراث العربي، وشعره خاصة، ونقلوها إلى المديح النبوي، مثلما أخذوا المعاني التي حفلت بها قصائد المديح النبوي السابقة. واستطاع شعراء المديح النبوي في العصر المملوكي أن يضيفوا إلى معاني المديح النبوي معاني جديدة، جاءت من الأفكار الجديدة التي عرفوها في عصرهم، ومما تفتقت عنه قرائحهم، فالمبرّزون منهم لم يقيدوا أنفسهم بما تواضع عليه سابقوهم من معاني

المديح النبوي، بل حاولوا أن يتسعوا في مصادر معانيهم، فاقتنصوا المعنى من هنا وهناك، وبالقدر الذي أسعفتهم به ثقافتهم وموهبتهم. إن مضمون المدحة النبوية هو كل ما يتعلق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسبب، فإذا تجاوزنا المقدمات المتنوعة للمدائح النبوية، وجدنا القيم التقليدية التي مدح بها الشعراء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جريا على سنة المدح العربي، والتي أضحت ذات خصوصية متميزة حين مدح بها النبي الكريم. ومدح الشعراء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدحا دينيا، وهو المضمون الأساس للمدحة النبوية، فعبروا عن حبهم له وتعلقهم به، وعددوا فضائله، وتحدثوا عن أثره في أمته والبشرية والكون، ومكانته السامية عند ربه، مجسدة بالحقيقة المحمدية، وتغنوا بشمائله وخصائصه، وأشاروا إلى مواطن العظمة في سيرته، وعددوا معجزاته، وتوسلوا به وتشفعوا ليفّرج الله تعالى كروبهم، ويغفر ذنوبهم. واتسعوا في مضمون المدحة النبوية، فتحدثوا عن آثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المادية الباقية، وأظهروا تقديسهم لها، وأشادوا باله وصحابته الكرام، وعكسوا همومهم وآمالهم وأوضاع عصرهم.

الفصل الثاني الأسلوب

الفصل الثاني الأسلوب الأسلوب الشعري هو الطريقة التي يعبّر فيها الشاعر عن أفكاره ومعانيه، وبه يتفاوت الشعراء حين يتناولون موضوعا واحدا، وهو أساس تصنيف الشعراء وتمايزهم، وبه يعرف توجه الشاعر الفني، ومفهومه للشعر. وقد ربط دارسو الأدب ونقدته بين الأسلوب والمضمون، فذهبوا إلى أن كل موضوع يناسبه شكل معين من أشكال التعبير الشعري، فالمدح يحتاج إلى الأسلوب الفخم والقصائد الرسمية الكاملة، التي يحتفل الشاعر لتشكيلها وصياغتها، والفخر يقرب من ذلك، أما الغزل والوصف، فإنهما يحتاجان إلى القصائد الرقيقة، التي يذهب فيها الشعراء كل مذهب، لكن شعراء المديح النبوي لم يتقيدوا بمثل هذا الربط بين الشكل والمضمون، فحفلت قصائدهم بالأشكال الشعرية المختلفة التي عرفها الشعر العربي. وسنتعرض في هذا الفصل لشكل القصيدة الذي عرف في شعر المديح النبوي، والذي تدرج ما بين القصائد الكاملة التي يحرص الشاعر فيها على المقدمة المعروفة، والانتقال المعهود، والخاتمة التي يوضح فيها الشاعر غرضه من المديح، وما بين المقطوعات القصيرة التي يعبّر فيها الشاعر عن موقف محدد من الممدوح، وكذلك الأمر بين القصائد والأراجيز، إلى جانب الأشكال الشعرية الآخرى التي انتشرت في العصر المملوكي، مثل الموشح والمسمطات وغير ذلك من التصرف بالقصائد والإضافة إليها، والقيود المسبقة التي وضعها الشعراء لأنفسهم قبل نظم قصائدهم، كأن يحدد عدد أبياتها مسبقا، أو يتقيد في بداية كل بيت بحرف القافية، إلى جانب المعارضة التي اشتدت في هذا العصر، وخاصة في المديح النبوي.

وسنحاول تلمس أبرز ملامح الصياغة الشعرية التي اصطنعها شعراء المديح النبوي، والتي تراوحت ما بين الصياغة التقليدية ومحاولة مجاراة القدماء، والصياغة التي تميّز بها العصر، والتي تحفل بضروب الزخرف والصنعة البديعية، التي نحاول التعرف عليها وعلى أنواعها وكيفية استخدام الشعراء لها. فالشعراء والأدباء العرب مالوا إلى التقييد والتقعيد في شكل الشعر، ومالوا إلى التقليد، ولم يحبذوا الجنوح إلى الخروج عمّا هو مألوف في طريقة نظم القصائد، وهو ما أسموه عمود الشعر، لذلك ظلت القصيدة العربية غنائية أو أقرب إلى الغنائية، وتلوّنت في هذا الإطار، ولم تخرج عنه إلا في ضروب شعرية ظهرت في هذا العصر، إلا أننا لا نحبّذها لأنها اتخذت اللهجة العامية للتعبير الشعري. فالتطور في الصناعة الشعرية كان أوضح من التطور في المضمون، إلا أن عصرا من العصور لم يخلص لمذهب أدبي واحد، ولكن ربما انتشر أحد المذاهب أكثر من غيره. ففي العصر المملوكي ظهر مذهب الصنعة البديعية على غيره، أو اشتد ليسم العصر بميسمه، لكن أدنى متابعة لشعر هذا العصر، تظهر أن ثلاثة اتجاهات رئيسية، كانت تشغل اهتمامات الشعراء، الاتجاه الأول هو الاتجاه التقليدي الذي حرص فيه الشعراء على متابعة القدماء والاقتداء بهم في شكل القصيدة وصياغتها، فأكثروا من المعارضة لتتم لهم هذه المتابعة، وتتحقق لهم هذه الرغبة. والاتجاه الثاني هو الاتجاه البديعي السائد الذي حرص فيه الشعراء على اصطناع ضروب البديع، ووضعها في المقام الأول في العمل الشعري. والاتجاه الثالث هو الاتجاه الشعبي، وأصحابه شعراء لم يتلقوا قدرا كافيا من الثقافة، أو أنهم نظموا شعرهم على هذا الوجه لافتتانهم به، أو طلبا للشهرة والانتشار وهو شعر ملحون.

وقد وصف الدارسون هذا العصر بالجمود والركود الأدبي، وافتقاد حوافز التجديد والإبداع، وانخفاض سوية الأدب، واستغراق الأدباء في تقليب الصناعة اللفظية والزخارف البديعية. ونحن لا نستطيع أن نطلق حكما عاما على أدب عصر من العصور، وخاصة على أدب العصر المملوكي، الذي اتّسم بخصب الحركة الثقافية وتنوع إنتاجها، عصر الموسوعات والمؤلفات الكبيرة التي حفظت تراث الأمة. والمسألة لا تتعدى أسلوبا في التعبير يختلف بين عصر وعصر، وليست مسألة إبداع وابتكار، فشعراء ذلك العهد كانت لهم وجهة نظرهم التي تتحدد في طلب التميّز، وكان معيار التميّز في ذلك الوقت إتقان الصنعة، وبذل الجهد العقلي في الملاءمة بين عناصر متباعدة، وفي التلاعب بالألفاظ للدلالة على الثقافة والمقدرة، ولإدهاش المتلقين، فقد كانوا يظنون أنهم يطرفون حياة الناس بهذا الضرب من الشعر، وكان الناس يطلبون هذا الضرب من الشعر ويستحسنونه، لأنه يعبر عن حياتهم وما اعتادوه فيها. وعند ما تابع شعراء العصر سابقيهم وجاروهم في أسلوبهم، لم يكونوا مفتونين جدا بالقديم، ولم يكونوا يقدسونه لقدمه، بل لظروف موضوعية جدّت في عصرهم، فقد أحس العرب «أن الأمم تريد أن تتخطفهم من حولهم، وأن من واجبهم أن يتجمعوا ضدها، وأن يحافظوا أقوى المحافظة على أمتهم، وكل ما يشخّصها ويمثّلها من شعر وغير شعر، ومن هنا مضوا يضمون شعر الأسلاف إلى صدورهم، لا تقديسا للقديم من أجل قدمه.. وإنما صدروا عن شعور عميق بوجوب استمرار العروبة وروحها العظيمة، وهو بذلك استمرار حي، لا يعني بحال التحجر والجمود، وإنما يعني الخصب والنماء» «1» .

_ (1) ضيف، شوقي: فصول في الشعر ونقده ص 180.

إلا أن الشعراء لم يحسنوا متابعة القدماء، ولم يستطيعوا اللّحاق بهم لأنهم داخلوا بين النهج القديم وصنعتهم، فجاءت المتابعة في معظمها مهجنة. وربما كان من أسباب المظاهر السلبية التي وجدت في الشعر المملوكي، مثل الإغراق في الصنعة، وظهور فنون الشعر الملحونة، إعراض الحكام المماليك عن الشعر الفصيح البليغ، لقصور ملكاتهم عن إدراك مقاصد العربية الدقيقة، وأسرار بلاغتها، وميلهم إلى ما يستطيعون إدراكه واستساغته من فنون اللهجة السائدة، وهذا ما عبّر عنه شمس الدين الضفدع «1» : قد طال فكري في قريضي الذي ... من نفعه لست على طائل أمّرني زيد فصرت امرأ ... صاحب ديوان بلا حاصل «2» ولهذا السبب وغيره من ظروف العصر عدل بعض الشعراء عن الشعر الجاد الذي يجهدون ليأتي عالي المستوى، إلى شعر التسلية الذي يفتقد الجدية في موضوعاته وأسلوبه، والذي يتلاعبون فيه بالمعاني والألفاظ، ويبحثون من خلاله عن النكتة الفنية. ويضاف إلى ذلك قلّة المحترفين من الشعراء، فقلّما تفرغ الشاعر لفنه، وأوقف حياته علية، فأضحى الشعر بابا مفتوحا يلجه كل من يأنس في نفسه أدنى مقدرة على المشاركة فيه، فدخل فيه العلماء وعامة الشعب وأصحاب الحرف، ومن الطبيعي أن أكثر هؤلاء لم يرتفعوا إلى مستوى المحترفين، فأفسدوا صورة الشعر، حتى ضاق بهم الشعراء المجيدون ذرعا، فهاجموهم، وقال ابن الخياط فيهم «3» : وفي متشاعري عصري أناس ... أقلّ صفات شعرهم الجنون يظنّون القريض قيام وزن ... وقافية وما شاءت تكون «4»

_ (1) ابن حجر: الدرر الكامنة 2/ 302. (2) الضفدع: محمد بن يوسف بن عبد الله الدمشقي الخياط، شاعر مجيد، توفي (756 هـ) . ابن حجر: الدرر الكامنة 4/ 300. (3) ابن الخياط الدمشقي: أحمد بن الحسن بن محمد، أديب شاعر، له ديوان شعر، توفي سنة (735 هـ) . (4) ابن حجر: الدرر الكامنة 1/ 123.

فالناس في ذلك الوقت كانوا منشغلين بالشعر، يستسهلون نظمه، فكثر المتشاعرون والناظمون، ويظهر أن مفهومهم للشعر كان مختلا، إذ اكتفوا منه بالهيّن الهش، وتقاعسوا عن طلبه والتدرب عليه، وهذا ما أوضحه حازم القرطاجني حين قارن بين أهل زمانه وبين العرب القدماء في قوله: «العرب القدماء كانت تتعلم الشعر، لا تجد شاعرا مجيدا منهم إلا وقد لزم شاعرا آخر المدة الطويلة، وتعلم منه قوانين النظم، واستفاد منه الدربة في أنحاء التصاريف البلاغية.. فإذا كان أهل ذلك الزمان قد احتاجوا إلى التعلم الطويل، فما ظنك بأهل هذا الزمان، بل أية نسبة بين الفريقين. وأنت تجد الآن الحريص على أن يكون من أهل الأدب المتصرفين في صوغ قافية أو فقرة من أهل زماننا، وله القليل الغث منه بالكثير من الصعوبة، بأى وشمخ، وظن أنه سامى الفحول وشاركهم، رعونة منه وجهلا، من حيث ظن أن كل كلام موزون شعر» «1» . أما المدائح النبوية، فكانت فنا متميّزا في الشعر المملوكي، حمل جميع المظاهر الشعرية التي كانت سائدة في ذلك العصر، أو التي ظهرت فيه، وحث الشعراء على الارتقاء في فنهم الشعري إلى أقصى درجة يستطيعون الوصول إليها، ليناسب قدر الممدوح عليه السلام، لكن قسما كبيرا من مادحي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم تسعفهم الشاعرية الخصبة والموهبة الأصلية، فنظموا المدائح النبوية للفوز بالمجد الأدبي في الدنيا، وبالشفاعة في الآخرة، لذلك نجد تفاوتا كبيرا في الأسلوب بين شعراء المديح النبوي، كذلك شارك كثير من العلماء وغيرهم في هذا الفن بالطريقة التي يقدرون عليها ويحسنونها، فظهرت الموشحات المدحية، والزجل المدحي، وغير ذلك من فنون الشعر التي انتشرت في هذا العصر.

_ (1) حازم القرطاجني: منهاج البلغاء ص 27.

بيد أن معظم قصائد المدح النبوي جاءت قريبة من النمط العربي المعروف، وكانت أقرب إلى المحافظة، فشعراء المديح النبوي نظموا قصائدهم وعيونهم على غرر الشعر العربي في العصور التي سبقتهم، ولذلك نجد المبرزين في فن المدائح النبوية مثل الصرصري ينظمون مدائحهم النبوية على غرار القصائد القديمة في شكلها وصياغتها، فالصرصري لا يكاد يخرج عن النهج التقليدي في مدائحه النبوية، ويظهر استعدادا كبيرا لمتابعة الشعراء الذين سبقوه، ويبدو أنه أهّل نفسه لمثل هذا الشعر، فقيل «إنه كان يحفظ صحاح الجوهري بكاملها» «1» . ويجاريه البوصيري في هذه الميزة، بالإضافة إلى أن كليهما يظهران معرفة واسعة بالشعر العربي القديم، وباللغة العربية وألفاظها، ويملكان موهبة شعرية فياضة، جعلتهما يخضعان الروايات والأحاديث للشعر وروائه. ويلاحظ في المديح النبوي أيضا إطالة الشعراء لمدائحهم، فكثرت القصائد التي تتجاوز المئة والمئتين وتصل في بعض الأحيان إلى مئات الأبيات مثل نونية الصرصري التي وصلت إلى ثماني مئة وخمسين بيتا، بيد أن هذه القصائد الطويلة، لم يسلم معظمها للشاعرية، فاقتربت كثيرا من المنظومات التعليمية. إلا أننا لو قارنا مجموع شعر المديح النبوي مع غيره من الفنون الشعرية في ذلك العصر، لوجدنا أن شعر المديح النبوي تميّز عن غيره بالقوة والجزالة وجودة السبك وحسن الأداء، والابتعاد عن الضعف الذي اتسع في بقية الفنون الآخرى. والذي جعل شعراء المديح النبوي يميلون في مديحهم إلى الأشكال الشعرية الآخرى مثل الموشح أو الزجل أو تشطير القصائد وتخميسها وغير ذلك من التغييرات التي أجروها على القصيدة، هو مسايرة للاتساع في مجالس الذكر والإنشاد، والبحث عن الشكل الحافل بالإيقاع، ليتلاءم مع الإنشاد في هذه المجالس والاحتفالات الدينية.

_ (1) القنوشي: التاج المكلل ص 247.

القسم الأول - الشكل الشعري:

القسم الأول- الشكل الشعري: ذكر الأماكن: أول ما نجده في مضمون المدحة النبوية هو المقدمة أو التمهيد، وهي سنّة قديمة في قصائد المدح العربية، أخذها مدّاح النبي الأمين وغيّروا فيها لتتلاءم مع مدحهم لسيد الخلق. والمقدمة تحتوي مواضيع متنوعة، منها الوقوف على الأطلال، وهو تقديم قديم، يراد منه إثارة مشاعر المتلقي، وخلق الجو النفسي الذي يهيّئه لسماع مضمون القصيدة، ويشدّه لمتابعة ما يأتي به الشاعر، ويجعله أقرب إلى التأثر بما يريده. وكانت مقدمات المدائح النبوية في بداية أمرها تقليدية خالصة، لأن شعراء المديح النبوي في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يكن أمامهم مثال يحتذونه، فلم يخرجوا في مدحهم له عمّا عرفوه في مدح غيره، إلا بإضافة بعض المعاني الإسلامية إلى مديحهم. فظلوا يقدمون لمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما اعتادوا على تقديمه في مدح غيره، لأنه لم ترسخ المفاهيم الإسلامية في صنعتهم الشعرية، ولم يتح لهم الوقت الكافي ليجسّدوا مفهوم النبوة شعريا، وظلوا على تقاليدهم الشعرية التي رسخت في وجدانهم. ومن العجب أن نجد شعراء المدح النبوي في العصر المملوكي يقلدون الشعر الذي مدحه به الشعراء القدامى في الوقوف على الأطلال ويفتتحون به مديحهم النبوي، وربما لم يروا طللا، لكنها سنة الشعراء التي تعطي الشاعر شيئا من الأصالة التي يريد أن يدلّ بها على غيره. فالصرصري مثلا، يقدّم لإحدى مدائحه النبوية بقوله:

لمن طلل دون الرّبا والتّنائث ... يعفّى بأيدي العاصفات العوائث ومنخرق السّربال يخترق الفلا ... ويقدم إقدام الشّجاع الدّلاهث فقلت له إن رمت أمنا وعزّة ... فعذ من عوادي النّائبات الكوارث بأفضل مبعوث إلى خير أمّة ... بخير كتاب جاء من خير باعث «1» وبعد أن وقف الصرصري على أطلاله المزعومة، التي أذكت شوقه وحنينه على طريقة الشعراء القدامى، تحدث عن رحلته وراحلته التي أوصلته إلى الحجاز، وأوصله الحديث عنها إلى مديحه. وأخذ شعراء المديح النبوي يستعيضون شيئا فشيئا عن ذكر الأطلال والديار التي درج عليها الشعراء بذكر الأماكن الحجازية، والتشوق إليها، لأنها الأنسب للمديح النبوي، فهذه الأماكن مقدسة عند المسلمين، تهفو إليها أفئدتهم، وهي التي شهدت ولادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونشأته وبعثته وجهاده وانتقاله إلى جوار ربه، وضمّت جسده الطاهر، فذكرها يوصل إلى ذكر من شرفت به، إضافة إلى أنه يهيّئ المتلقي لسماع المديح النبوي، بعد أن يذكر له هذه الأماكن التي تثير حنينه، وتشيع في نفسه القداسة والصفاء. وكان شعراء العصر السابق للعصر المملوكي قد فتنوا بالتشوق للأماكن المقدسة، وجعلوه فنا شعريا مستقلا، لما أشاعه المتصوفة في شعرهم من وجد وهيام بهذه الأماكن، وقد وردت معنا أمثلة وافية عند الحديث عن شعر التشوق إلى الأماكن المقدسة. والملفت للنظر في ذكر المقدسات، تغزل شعراء المديح النبوي بالكعبة المشرفة،

_ (1) ديوان الصرصري، ورقمه 19.

وبثها الأشواق والحنين، ومخاطبتها مخاطبة المحبوبة، فالصرصري يسميها ربّة الستور، ويرمز لها باسم حبيبته، فيقول: تهت يا ربّة السّتور على الصّ ... بّ دلالا وعزّ منك اللّقاء آه لو بلّغت إليك على بع ... د مغانيك جسرة وجناء «1» ويصفها العزازي بذات الخال، فيقول مفتتحا إحدى مدائحه النبوية: دمي بأطلال ذات الخال مطلول ... وجيش صبري مهزوم ومفلول «2» ويصرّح ابن الزملكاني «3» بحبه للكعبة ربّة الأستار بقوله: أهواك يا ربّة الأستار أهواك ... وإن تباعد عن مغناي مغناك وأعمل العيس والأشواق ترشدني ... عسى يشاهد معناك معنّاك يا ربّة الحرم العالي الأمين لمن ... وافاه من أين هذا الأمن لولاك وقد حططّت رحالي في حماك عسى ... تحطّ أثقال أوزاري بلقياك «4» وهكذا أصبح ذكر الأماكن المقدسة تقليدا ثابتا في مقدمة المدحة النبوية، تثير لدى الشعراء والمتلقين معا مشاعر الوجد الديني، والحنين إلى مهبط الوحي، وتشيع في حنايا نفوسهم دفء الطمأنينة والقداسة فإظهار الشوق إلى الأماكن المقدسة، يكاد لا تخلو منه مقدمة مدحة نبوية، وهو الذي يظهر عواطف الشاعر، ويجلو مشاعره، ويحرّك المشاعر

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 12. (2) ابن تغري بردي: المنهل الصافي 1/ 341. (3) ابن الزملكاني: محمد بن علي بن عبد الواحد الأنصاري، فقيه انتهت إليه رئاسة الشافعية في عصره، تولّى عدة أعمال. له كتاب (عجالة الراكب في أشرف المناقب) ، توفي سنة (727 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 4/ 7. (4) الصفدي: الوافي بالوفيات: 4/ 217.

الدينية في نفوس السامعين، لذلك افتتح به كثير من شعراء المدائح النبوية قصائدهم، متجاوزين الوقوف على الأطلال، مظهرين براعتهم في استمالة النفوس إلى نفثات أرواحهم، وإلى إجادتهم للنسيب الرمزي الذي ترتاح إليه القلوب، ويزداد هذا الشوق حرقة وتأججا، حين يجد الشاعر موانع قاسية تحول بينه وبين الوصول إلى الحجاز، وخاصة حين يكون بلده بعيدا جدا عنه، مثل المغاربة الذين كانوا يكابدون مشقات جمّة للوصول إلى الحجاز، فابن سعيد «1» وصل بعد جهد وعناء إلى الإسكندرية، لكنه تعذّر عليه الحج، فنظم فيها مدحة نبوية أودعها شوقه وحنينه، وافتتحها بقوله: وارحمة لمتيّم ذي غربة ... ومع التّغرّب فاته ما يقصد قد سار من أقصى المغارب قاصدا ... من لذّ فيه مسيره إذ يجهد لا طاب عيشي أو أحلّ بطيبة ... أفقا به خير الأنام محمّد «2» وإن كان ابن سعيد قد لمّح إلى سبب شوقه ووجده، وتجشمه المصاعب، فإن النواجي «3» قد بدأ مدحته النبوية ببيان سبب الشوق، ودواعي الرحيل، فقال: إليك رسول الله جبنا الفلا وخدا ... ولولاك لم نهو العقيق ولا الرّندا ولولا اشتياقي أن أراك بمقلتي ... لما كنت أشتاق الغوير ولا نجدا «4»

_ (1) ابن سعيد: علي بن موسى، ورد من المغرب وجال في الديار المصرية والعراق والشام، جمع وصنّف ونظم، وهو صاحب كتاب (المغرب في أخبار المغرب) و (المرقص والمطرب) توفي بدمشق سنة (673 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 103. (2) المقري: نفح الطيب 2/ 313. (3) النواجي: محمد بن حسن بن علي بن عثمان، عالم بالأدب، نقّاد، له شعر، مولده ووفاته بالقاهرة؛ له كتاب (حلية الكميت) وكتاب (المطالع الشمسية في المدائح النبوية، توفي سنة (859 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 7/ 229. (4) المجموعة النبهانية: 2/ 41.

الغزل:

الغزل: وإذا كانت القصيدة التقليدية في المدح قد حوت في مقدمتها الغزل بالمحبوبة التي هيّج ذكراها الوقوف على الأطلال وذكر الديار، فإن المدحة النبوية لم تخل من الغزل، جريا على عادة الشعراء، واتّباعا لسنّة العرب في شعرهم، لأن الغزل يستميل القلوب، وتهواه الأسماع، وكان الشعراء يوردونه في بداية قصائدهم ليسترعوا انتباه سامعيهم إلى غرضهم ومقصدهم من الشعر. وقد نقل شعراء المديح النبوي هذه السنّة إلى قصائدهم، وجاروا بها الشعراء الذين مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته، مثل حسان بن ثابت وكعب بن زهير، بيد أن شعراء المديح النبوي في العصر المملوكي، والأدباء الذين أولعوا بهذا الفن اشترطوا في الغزل الذي تصدّر به المدحة النبوية شروطا، تبتعد به عمّا يخدش الحشمة، وعمّا لا يليق في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال ابن حجة في ذلك: «إن الغزل الذي يصدّر به المديح النبوي، يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتأدب، ويتضاءل ويتشبب، مطربا بذكر سلع ورامة، وسفح العقيق والعذيب، والغوير ولعلع، وأكناف حاجر، ويطرح ذكر محاسن المرد، والتغزل في ثقل الأرداف، ورقة الخصر، وبياض الساق، وحمرة الخد، وخضرة العذار، وما أشبه ذلك» «1» . وبعد أن ردّدت عائشة الباعونية ما قاله ابن حجة، أضافت: «فإن سلوك هذا الطريق في المدح النبوي مشعر بقلة الأدب، وحسب العاقل قول الله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ «2» .

_ (1) ابن حجة: خزانة الأدب ص 11. (2) الباعونية: شرح الفتح المبين ص 312؟ والآية: الحج/ 30.

وقد أورد ابن حجة في خزانته أمثلة على الغزل المحتشم والغزل الذي لا يليق بالمدحة النبوية، ويظهر أن هذه المسألة كانت موضع أخذ ورد، يناصر بعض الشعراء والأدباء توجّه ابن حجة، ويعارضه آخرون اقتداء بالشعراء الذين مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته، فعبّر النبهاني عن هذا الاختلاف بالرأي في قوله: «أما قصيدة بانت سعاد التي اتخذها دليلا بعض من سلك هذا المسلك، واستحسنه، وهو في نفسه غير حسن، فهي لا تصلح دليلا لذلك، لأن ناظمها كعب بن زهير- رضي الله عنه- كان قبل إسلامه شاعرا جاهليا، فنظمها على طريقتهم قبل أن يجتمع بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ويسلم على يديه، ويعرف آداب بالإسلام.. ولم يحصل مثل هذا التشبيب بعد إسلامه، ولا من أحد من شعراء النبي صلّى الله عليه وسلّم» «1» . ولا يخطّئ النبهاني الشعراء الذين تغزلوا في مقدمات مدحاتهم النبوية تغزلا ماديا، بل يلتمس لهم المعذرة والمسامحة، فيقول: «ولئن أساؤوا من تلك الجهة بعض الإساءة، فقد أحسنوا من جهة مديحهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم كل الإحسان، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «اتبع السيئة الحسنة تمحها» «2» . والأرجح أن الغزل في مقدمة المدحة النبوية، ليس مقصودا لذاته، ولا يعبّر عن مشاعر محرّمة عند المادح، ولا يقصد به إثارة غرائز السامعين، وهو لا يعدو مقدمة فنية لإثبات المقدرة الشعرية، وجريا على عادة متأصلة في نفوس الشعراء، وإنما يكون الغزل المحتشم أكثر ملاءمة للموضوع، وجو القصيدة، وجلالة الممدوح، ويبدو أن مقدرة الشاعر الفنية، وتأصّل الاتجاه الشعري عنده، هو الذي يفرض عليه لون الغزل الذي يقدم به للمدحة النبوية، ولا يعقل أن يورد شاعر يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قصيدته ما يسيء إليها عامدا متعمّدا، لذلك لم يردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على غزل كعب، ولم يكره ذلك منه،

_ (1) المجموعة النبهانية: 1/ 14. (2) المصدر نفسه 1/ 15، والحديث في مسند ابن حنبل: 5/ 158.

لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدرك الظروف التي ينظم فيها الشعراء شعرهم، ففي ذلك الوقت كان الغزل يقتضي وصف محاسن المحبوبة، وهذا ما فعله كعب حين قدّم لقصيدته بقوله: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البيّن إذ رحلوا ... إلّا أغنّ غضيض الطّرف مكحول هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكى قصر منها ولا طول «1» إن الغزل الذي قدّم به الشعراء لمدائحهم النبوية، وتابعوا فيه كعب بن زهير- رضي الله عنه- هو تقليد شعري محض، مثل تقليد ابن هتيمل «2» الذي نظم مدحة نبوية نهج في أسلوبها ومعانيها منهج القدماء، وهذا كان أسلوبه في شعره كله، فلا غرابة حين نجده في مقدمة مدحته النبوية يذكر الأطلال ويتغزل، ويصف محبوبته بالأوصاف نفسها التي ذكرها القدماء، وكأن الأمر لا يعدو صورة شعرية تتكرر، وليست تجارب عاطفية، أو أوصافا لمحبوبة يعرفها، ويعرف مواطن الجمال فيها، ويطلع على مفاتنها، لذلك نجد مقدمته لمدحته النبوية تسير كالتالي: لولا محبّة أهل الدّار والدّار ... ما غاض صبري وجفني ماؤه الجاري ولا عكفت وأصحابي تعنّفني ... على العكوف على نؤي وأحجار أستودع الله أرواحا رحلن بها ... عنّا المهابين أحداج وأكوار

_ (1) ديوان كعب بن زهير: ص 9. (2) ابن هتيمل: القاسم بن علي، أصله من جنوب الجزيرة العربية، استقر في مكة يمدح أمراءها، وهو عربي الأرومة من خزاعة، توفي سنة (656 هـ) . مقدمة ديوانه.

تحت المازر من أكفالها كثب ... ترتجّ من تحت قضبان وأقمار وفي البراقع من ألحاظها فتن ... يطلعن ما بين أطواق وأزرار «1» وأحيانا لا يتعدى وصف محاسن المحبوبة ما يمكّن الشاعر من إظهار براعته البديعية وولعه بفنون الصنعة الشعرية، والغزل والوصف يتسعان لمثل هذه الضروب البديعية، وعند ما نقرأ غزل الشاعر في مقدمة مدحته، ندرك على الفور أنه لا يتحدث عن تجربة شعورية، وإنما يستعرض مقدرة بديعية، وهذا ما نلمسه في المقدمة الغزلية لمدحة القلقشندي «2» النبوية: سيف العيون على العشّاق مسلول ... وصارم اللّحظ مسنون ومصقول والخدّ كالجمر أو كالورد في شبه ... والخال في خدّه بالنار مشعول «3» وهكذا أخذ الغزل في مقدمات المديح النبوي يبتعد عن الأوصاف الحسية للمحبوبة وعن التغزل بمحبوبة معروفة، وأضحى غزلا صناعيا صرفا، موجّها إلى محبوبة غير متعينة، يظهر خلاله الشاعر عواطفه ومشاعر الحنين والوجد التي يتسم بها الشعر الديني، ومنه المدائح النبوية، وهذا ما نشعر به في غزل ابن خالدون الذي قدّم به لمدحته النبوية، فقال: أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موقف عبرتي ونحيبي لله عهد الظّاعنين وقد غدا ... قلبي رهين صبابة ووجيب

_ (1) ديوان ابن هتيمل: ص 62. (2) القلقشندي: أحمد بن علي الفزاري، مؤرخ أديب، ولد في قلقشندة قرب القاهرة، له تصانيف أهمها (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) . توفي سنة (821 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 2/ 8. (3) المجموعة النبهانية: 3/ 143.

الرحلة:

غربت ركائبهم ودمعي سافح ... فشربت بعدهم بماء غروب «1» وقد ابتعد الغزل في مقدمة المدائح النبوية عن التعيين، فلم يعد يتبين قارئه إن كان غزلا حقيقيا أم أنه رمز لأشياء أخرى كما هو الأمر عند المتصوفة، الذين عبّروا عن حبهم الإلهي ووجدهم بطريقة الغزل المعروفة، ومن ذلك قول الصرصري في مقدمة نبوية: شواهد قلب الصّبّ لا تقبل الرّشا ... فكيف قبول النّصح من كاشح وشى أيأمر خلو بالتّصبّر مغرما ... وآنس ربع الحبّ أصبح موحشا أما في الهوى العذري عذر لشيّق ... إذا لاح برق من تهامة أجهشا «2» ومثل هذا الغزل في مقدمة المدحة النبوية، لا يمكن أن يكون في أحبّة من النساء اللواتي يستملن قلوب العشاق، والغزل كله وجد على طريقة المتصوفة. فشعراء المديح النبوي لم يكن غزلهم بفتاة معينة، ولم يكن هدفه إظهار المشاعر نحو النساء، وإنما كان غزلا تقليديا، لاستكمال الشكل الشعري للمدحة النبوية، وكان غزلا رمزيا، يراد منه إشاعة مشاعر الوجد والحب للرسول الأمين وصحابته والأماكن المقدسة، والتمهيد للمديح النبوي. الرحلة: ومثلما ذكر شعراء المديح القدامى رحلتهم إلى الممدوح، ووصفوا طريق الرحلة، ووصفوا راحلاتهم، ليظهروا ما تجشموه من مشاق للوصول إلى الممدوح، فيجزل لهم العطاء، كذلك فعل شعراء المديح النبوي، ونقلوا هذا التقليد إلى المدائح النبوية، وهم صادقون في حديثهم عن الرحلة، لأنهم كانوا يقومون بها للحج أو لزيارة رسول الله

_ (1) تاريخ ابن خالدون: 7/ 405. (2) ابن شاكر: فوات الوفيات 4/ 311.

وصف الطبيعة:

صلّى الله عليه وسلّم، وذكر الرحلة والراحلة تقديم معروف للقصيدة المدحية، أفاد منه شعراء المديح النبوي، لأنه في وصف المصاعب التي اعترضتهم في رحلتهم، يظهرون فيه مدى محبتهم وشوقهم للرسول الكريم، وهو مناسبة لإضفاء هذه المشاعر على راحلاتهم، فتكون أعمق وأبلغ وأشد تأثيرا في النفس، فإذا كانت هذه البهائم تشعر بالشوق إلى الأماكن المقدسة، وتتجاوز الصعاب للوصول إليها، فكيف يكون حال من يركبها؟ هذا ما ظهر في تقديم الشهاب محمود في ذكر الرحلة إلى الحجاز، فوصف النوق وصفا خارجيا ونفسيا، وأضفى عليها المشاعر الإنسانية في قوله: أرحها فقد ملّ الظّلام سراها ... وأنحلها بعد المدى وبراها وغادرها جلدا وعظاما حنينها ... إلى منزل فيه اللّقاء قراها ألست تراها كلّما ذكر الحمى ... تمدّ له أعناقها وخطاها سرى وحنين واشتياق ثلاثة ... برت لحمها بري السّهام مداها «1» فهو لا يتحدث عن الراحلات وإنما عن نفوس راكبيها، وإن مزج بين معاناة هذه النياق وبين مشاعر الركب الذين يتلهفون للوصول إلى المدينة المنورة، ورؤية الروضة الشريفة. وصف الطبيعة: وجارى شعراء المديح النبوي في مقدماتهم شعراء المديح التقليدي في وصف الطبيعة، ولكنهم لم يصفوا الصحراء القاحلة إلّا لماما، وأثناء الحديث عن رحلتهم، وإنما وصفوا الطبيعة الزاهية التي تعكس فرح نفوسهم بزيارة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والتي

_ (1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 95.

تظهر قدرة الباري- عز وجل- على إحياء الميت من الأرض، وآياته في تنويع الخلق، وهذا ما أوضحه الصرصري في تقديمه لإحدى نبوياته، حين قال: خطّ الرّبيع بأقلام التّباشير ... رسالة كتبت بالنّور والنّور حيّا البقاع الحيا فاهتزّ هامدها ... لمّا أتتها يد البشرى بمنشور والورق تهتف في الأوراق شاكرة ... إحسان مبتدئ بالفضل مشكور وقد فهمنا لهذا الفضل ترجمة ... إنّ المهيمن يحيي كلّ مقبور «1» أما الصفي الحلي، فإنه اقتصر في تقديمه لمدائحه النبوية على وصف الطبيعة فقط، فأظهر براعة في وصف مظاهر الطبيعة المشرقة التي تجذب اهتمام السامع، وتجعله يتابع الشاعر باهتمام، ويتفكّر في خلق الله، وتنتشي نفسه بالمظاهر التي تبعث على السرور والنشاط، فإذا وصل الشاعر إلى المديح النبوي، وجد سامعيه على استعداد لمتابعته بنشاط وتحفّز، فقال: فيروزج الصّبح أم ياقوتة الشّفق ... بدت فهيّجت الورقاء في الورق وفاح من أرج الأزهار منتشرا ... نشر تعطّر منه كلّ منتشق كأنّ ذكر رسول الله مرّ بها ... فأكسبت أرجا من نشره العبق «2» وقد نحا ابن فضل الله العمري «3» هذا المنحى في التقديم لمدحته النبوية، مضيفا إلى وصف الطبيعة شيئا من المشاعر الإنسانية، فقال:

_ (1) ابن شاكر: فوات الوفيات 4/ 310. (2) ديوان الصفي الحلي: ص 83. (3) ابن فضل الله العمري: أحمد بن يحيى القرشي، مؤرخ حجة في معرفة الممالك والمسالك، إمام في الترسل عارف بأخبار رجال عصره، عاش في دمشق، من مؤلفاته (مسالك الأبصار) وله شعر رقيق منه (صبابة المشتاق في المدائح النبوية) ، توفي سنة (749 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 157.

الوعظ:

والشّمس قد همّت لتذهب رهبة ... لكنّها بقيت لنا لم تذهب وعلى الأصائل رقّة. فكأنّما ... لبست نحول العاشق المتلّهب ومبشّر النّوار جاء مخلّفا ... لا شكّ قد خطرت نوافح يثرب «1» وهذا يظهر لنا أن مدّاح النبي الكريم الذين اختاروا الطبيعة مقدمة لقصائدهم، كانوا يريدون إظهار بهجة نفوسهم لمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونقل هذه البهجة إلى نفوس سامعيهم، إضافة إلى رغبتهم بإظهار مقدرتهم الفنية، ومعرفتهم لضروب الصنعة البديعية، التي كان لها شأن كبير في ذلك الوقت. الوعظ: إلا أن شعراء المديح النبوي لم يقفوا عند هذه الألوان من مقدمات قصائد المديح، بل اتسعوا في مقدماتهم ونوّعوها تنويعا كبيرا، ومن ذلك تقديمهم للمدائح النبوية بالحكم والمواعظ، وضرب الأمثال، وهذه الألوان وردت في مقدمات قصائد المديح العربي، وهي تلائم المدحة النبوية، لأن المقام مقام ديني، ولأن الحكم والمواعظ تسترعي الانتباه، وتوحي بموضوع القصيدة، وتدفع إلى الخشية والورع، وهذا ما يقصد إليه شعراء المدائح النبوية، ليعتبر الناس من سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخلاقه وأفعاله. وغالبا ما تكون المواعظ في ذكر الذنوب وطلب التوبة والمغفرة، وهو ما يتطلع إليه الشعراء الذين مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وراء مدحهم، وهذا ما لا حظه النبهاني، ودعا إليه حين قال: «ويستحسن أيضا تقديم المواعظ والحكم في ابتداء مدائحه صلّى الله عليه وسلّم، لأنها من الأمور النافعة المستحسنة طبعا وشرعا» «2» .

_ (1) الصفدي: الوافي بالوفيات 8/ 265. (2) المجموعة النبهانية: 1/ 11.

فالشاعر يشرع في ذكر حاله وذنوبه، ويتحسر على مضي العمر في الغواية، فلا يجد مهربا من ذنوبه إلا استغفار الله تعالى والتشفع برسوله الكريم، مثلما قال البوصيري في افتتاح إحدى مدائحه النبوية. وافاك بالذّنب العظيم المذنب ... خجلا يعنّف نفسه ويؤنّب لم لا يشوب دموعه بدمائه ... ذو شيبة عوراتها ما تخضب يستغفر الله الذّنوب وقلبه ... شرها على أمثالها يتوثّب ضاقت مذاهبه عليه فما له ... إلّا إلى حرم بطيبة مهرب «1» ويفتتح الصرصري إحدى مدائحه النبوية بالتحسر على عمره الذي أمضاه في المعاصي، ويتذكر يوم الحساب فلا يجد من يتشفع به غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويدعو إلى التوبة قبل الممات، وبالتفكر في خلق الله، فيقول: قم فبادر من قبل رفع النّعوش ... حلبة السّبق ذا إزار كميش وتدبّر خلق السّماء ففيها ... عبر جمّة لذي التّفتيش وتفكّر في خلقة الأرض تنظر ... عجبا في مهادها المفروش «2» ويكثر الشعراء في مقدماتهم الوعظية للمدائح النبوية من ذكر الموت الذي يبعث في النفوس الخشية والرهبة، ويحثها على ترك المعاصي، والمبادرة إلى التوبة واستغفار الله تعالى، فيخرجون ذكرهم للموت مخرج الحكم والمواعظ.

_ (1) ديوان البوصيري: ص 89. (2) ديوان الصرصري، ورقة 50.

الدعاء:

الدعاء: وإلى جانب الحكم والمواعظ والتذكير بالموت وطلب التوبة، افتتح شعراء المديح النبوي بعض المدائح النبوية بالدعاء إلى الله تعالى، وطلب مغفرته، وكشف الكرب والغم، والتشفع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تمهيدا لمدحه، ومن ذلك مدحة نبوية للشهاب محمود، بدأها قائلا: يا من إليه بعزّه أتشفّع ... وبذلّتي أعنو إليه وأخضع يا كاشف الكرب التي إن أعجزت ... ضرّاؤها فإليه فيها يرجع أدعوك دعوة مستجير ماله ... إلّا إليك مدى الزّمان تطلع مستشفعا بالمصطفى الهادي الذي ... هو في القيامة في العصاة مشفّع «1» وإذا كان الشهاب محمود قد دعا الله تعالى وتضرّع إليه، ليغفر له ذنوبه، ويذهب كروبه، فإن الصرصري بدأ قصيدته في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتسبيح الله عز وجل وذكر آلائه ومظاهر قدرته في الكون، ليعتبر الغافل، وقد جعل من آلائه وفضائله على عباده بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس، فقال: سبّح لربّك في الظّلام الدّاجي ... واذكره ذكر مواظب لهّاج سبحان من رفع السّماوات العلا ... سبعا وزان السّقف بالأبراج فتبارك الله المهيمن مخرج ال ... أموات منها أحسن الإخراج واختار آدم من تراب بارئا ... أولاده من نطفة أمشاج واختار منهم أجمعين محمدا ... لظهور دين واضح المنهاج «2»

_ (1) المجموعة النبهانية: 2/ 334. (2) ديوان الصرصري، ورقة 22.

المباشرة بالمدح:

المباشرة بالمدح: لكن بعض شعراء المدائح افتتحوا قصائدهم بما يقرب من المدح، ويشير إلى موضوع قصائدهم، فالواعظ البغدادي بدأ إحدى نبوياته بطلب شكر الله على بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأمة العربية، فقال: عليكم بشكر الله يا خير أمّة ... نبيّكم أعلى نبيّ وأرفع «1» وبدأ الأبشيهي «2» مدحته النبوية بالدعوة إلى زيارة النبي الكريم، فقال: حثّ الرّكاب إلى الجناب الأفضل ... ودع التّعلّل بالخلائق وارحل «3» فهنا بدأ بعض الشعراء يتخففون من المقدمات التقليدية وغيرها للمدحة، وأخذوا يفتتحون قصائدهم بذكر رسول الله مباشرة، أو يجعلون الحديث عن المديح النبوي مدخلا لقصائدهم. وصرنا نجد بين المدائح النبوية مدائح تخلو من المقدمات، فضّل شعراؤها الدخول في مديح رسول الله مباشرة، كأنهم شعروا أن ذكر النبي الكريم لا يحتاج إلى تمهيد وتقديم، فذكره مقدم على كل حديث، وهذا ما فعله البوصيري في همزيته حين افتتحها قائلا: كيف ترقى رقيّك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء «4» وللصرصري مدائح عدّة أضرب فيها عن ذكر المقدمات، ودخل في مديح النبي مباشرة، مثل قصيدته التي مطلعها:

_ (1) الواعظ البغدادي: معدن الإفاضات ص 22. (2) الأبشيهي: محمد بن أحمد بن منصور المحلي، أديب مصنف، توفي سنة (852 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 7/ 109. (3) المجموعة النبهانية: 3/ 358. (4) ديوان البوصيري: ص 49.

قفا بحمى سلع فساكنه الذي ... من الحادث المرهوب أصبح منقذي «1» وتأتي المدائح النبوية التي تنظم للإنشاد في الاحتفالات الدينية وحلقات الذكر في الغالب دون مقدمات فالشاعر يبدأ المدحة النبوية بالمدح مباشرة، مثل البرعي الذي نظم أكثر من قصيدة من هذا اللون، فبدأ إحداها بقوله: بمحمّد خطر المحامد يعظم ... وعقود تيجان القبول تنظّم وله الشّفاعة والمقام الأعظم ... يوم القلوب لدى الحناجر كظّم «2» وهكذا نرى أن التقديم في قصائد المديح النبوي متباين، فمنه التقديم التقليدي الذي جمع الوقوف على الأطلال والغزل ووصف الرحلة. وقد قدم مادحو النبي الكريم بعض أجزاء هذا التقديم وأخّروها، ليحركوا رتابته، وحذفوا أجزاء منه، واستعاضوا عن ذكر الأطلال بذكر الأماكن المقدسة، إلى أن وصلوا في تلوين مقدماتهم إلى وصف الطبيعة أو الحديث عن التوبة والمغفرة والوعظ، وقسم منهم ترك المقدمات وشرع في المدح مباشرة.

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 33. (2) ديوان البرعي: ص 43.

الانتقال:

الانتقال: المدحة النبوية مثل غيرها من المدائح لا تقتصر في مضمونها على موضوع واحد، بل تتعدد فيها الأغراض والمواضيع، فينتقل الشاعر أثناءها من موضوع إلى آخر انتقالا حادا حينا، يشعر المتتبع بالافتعال والتصنع، وانتقالا رفيقا حينا آخر، يدل على مهارة الشاعر ومقدرته على ربط المواضيع، بعضها ببعض، وخاصة عند ما ينتقل الشاعر من مقدماته إلى غرضه الأساس (المديح) ، ويسمى هذا الانتقال عند البلاغيين المخلص أو حسن المخلص، إذ يجب على الشاعر أن يحترز من انقطاع الكلام، أو الحشو الذي لا طائل من ورائه، أو من اضطراب الكلام عند ذلك، فيشعر قارئ القصيدة أو سامعها بارتباك الشاعر عند انتقاله. والأمثلة على ذلك كثيرة، فجميع قصائد المديح النبوي تحوي على مثل هذا التخلص، يجيده الشاعر حينا، ويستعجل حبكه حينا آخر. ومن ذلك انتقال البوصيري إلى المديح بعد أن تحدث عن المعاصي فجعل ذلك مخلصا إلى مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ظلمت سنّة من أحيا الظّلام إلى ... أن اشتكت قدماه الضّرّ من ورم «1» والصرصري تحدث في مقدمة إحدى مدائحه عن الأماكن المقدسة، ودعا لها بالسّقيا، منتقلا بذلك إلى مدح النبي الكريم، فقال: سحّت غمائم أنوار المزيد على ... قبابه البيض سحّا دونه السّحب فهي الشّفاء لأسقامي وساكنها ... هو الحبيب الذي أبغي وأطّلب «2» وعند ما يقدم الشاعر لمديحه النبوي بالغزل، فإن مهمة التخلص إلى المديح تصبح

_ (1) ديوان البوصيري: ص 240. (2) ديوان الصرصري: ورقة 8.

أصعب، وتتطلب مهارة وحنكة، فابن حجر قدّم لإحدى مدائحه النبوية بأبيات هي خليط من الغزل وعتاب النفس، أظهر فيها وجده وهيامه، وعذابه في الحب، فجعل خلاصه من آلام الحب وعذابه في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: بيني وبينك في المحبّة نسبة ... فاحفظ عهود تغزّل ونسيب والله مالي من هواك تخلّص ... إلّا بمدح المصطفى المحبوب «1» وأظهر الشرف الأنصاري مقدرة ومهارة حين انتهى إلى وصف محاسن محبوبته في مقدمة مدحة نبوية، فجعل التعجب منها مخلصا إلى المدح النبوي، فقال: غصن نقا حلّ عقد صبري ... بلين خصر يكاد يعقد فمن رأى ذلك الوشاح الص ... صائم صلّى على محمّد «2» فالصلاة على النبي تقال عادة عند رؤية شيء يحوز الإعجاب، فيدعو مشاهده لحفظه وصونه، ويصلّي على النبي. التقط الشاعر هذه العادة، وجعلها مخلصا له من وصف محاسن محبوبته إلى مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فمظاهر القصيدة المدحية في الشعر العربي جميعها توفرت في شكل قصائد المدح النبوي، وهذا أمر طبيعي، لأن المدائح النبوية ليست من صنع شاعر واحد، وليست من إبداع قطر واحد، وليست من إنتاج زمن واحد، بل هي مما أبدعته قرائح شعراء لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، ومن الأقطار الإسلامية المختلفة، ومن عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى نهاية العصر المملوكي الذي ندرس المدائح النبوية فيه، واستمرت بعد ذلك إلى يومنا هذا، ولذلك كان لا بد من أن يتنوع شكل القصيدة المدحية، وأن تتمثل فيه جميع المظاهر والتطورات التي ألّمت بقصيدة المدح العربية.

_ (1) المجموعة النبهانية: 1/ 458. (2) ديوان الشرف الأنصاري: ص 147.

الرجز:

وليست قصائد المدح النبوي جميعها ذات أجزاء متباينة، وذات مقدمات وخاتمات، ففيها قصائد تحمل وحدة موضوعية، يمزج فيها الشاعر أجزاء القصيدة دون أن يترك شيئا، ودون أن يشعر المتابع بتوالي أجزاء القصيدة، ومثال ذلك قصيدة للشهاب محمود يقول فيها: نعم آن أن يسري الرّفاق إلى الحمى ... فقم أو فمت إن ركب هامة أتهما ألا حبّذا مسرى الرّكاب وقد رأت ... لها معلما عند الثّنيّة معلما وقد أشرقت تلك القباب وأشرقت ... وعاين أنوار الهدى من توسّما وشاهد في تلك المشاهد والرّبا ... معارج جبريل الأمين إلى السّما يرى منبر الهادي وموضع قبره ... ومزدحم الأملاك والوحي فيهما عليه سلام الله ما هبّت الصّبا ... وسارت نجوم اللّيل تتبع أنجما «1» فالشاعر لم يحتج إلى ما يربط به أجزاء القصيدة، لأنه مزج بين هذه الأجزاء، ولم يفصل جزآ عن آخر، وربطها جميعا بمشاعره التي ظلت ظاهرة متأججة منذ بداية القصيدة وحتى نهايتها. الرجز: ولم ينس شعراء المديح النبوي أن ينظموا بعض مدائح النبي الكريم على الشكل الشعري القديم، الذي تميّز عن باقي قصائد الشعر العربي بوزنه وبطريقة صياغته، وهو الرجز، فنجد بعض الأراجيز في المدح النبوي، منها أرجوزة للصرصري، مطلعها: جادت شابيب المطر ... بمستجيش منهمر

_ (1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 23.

المقطوعات:

يملأ أكناف الغدر ... ويودع الأرض الزّهر ربعا به كلّ الوطر ... أبيض محروس القطر ربع المصفّى من مضر ... أحمد أفضل الفطر «1» وللشرف الأنصاري ثلاث أراجيز في المديح النبوي، قال في الأولى: حرف كنون الكاتب الخطّاط ... تغني بأدنى الزّجر عن سياط حتّى تيّممت على احتياط ... قبر النّبيّ الهاشميّ السّاطي على ذوي الإلحاد والأقساط ... ومنذر السّاعة بالأشراط والحاشد الماحي ذنوب الخاطي «2» المقطوعات: ومثلما استوفى شعراء المديح النبوي شكل القصيدة العربية التقليدية بكل مكوناتها المعروفة آنذاك، فإنهم وضعوا مشاعرهم اتجاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مقطوعات شعرية قصيرة، بعيدا عن الشكل الرسمي للقصيدة المدحية فعبروا من خلالها بحرية عن معنى من معاني المديح النبوي، مثل قول الصرصري صاحب القصائد الطويلة في المدح النبوي من مقطوعة نبوية: نفسي الفداء لبدرتمّ بازغ ... سام على غصن الجمال النّابغ لا يعتري نقص المحاق كماله ... كلّا وليس قوامه بالزّائغ

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 40. (2) ديوان الشرف الأنصاري: ص 292.

أهدى له الرّحمن أحسن صيغة ... فتبارك الرّحمن أحسن صائغ بلغت عنايته به ما لم يكن ... أحد إليه من الأنام ببالغ يا من تجمعّت المناقب كلّها ... فيه فلم يدركه وصف مبالغ ومن اكتسى ثوب البهاء محبّة ... تبّا لقلب من ودادك فارغ «1» فالصرصري يتسع في إيضاح مشاعره أكثر من حشد المعاني الدينية في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكأن المقطوعات تصاغ لتجسيد التجارب الشعورية نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حين أن القصائد الرسمية الكاملة في شكلها، تجمع المشاعر الدينية إلى جانب المعاني المختلفة للمديح النبوي. وهذا يبدو واضحا في مقطوعة الشرف الأنصاري التالية: مالي إلى غيرك التفات ... حيث ترامت بي الجهات أنت دواء لكلّ داء ... تعجز عن طبّه الأساة حوشيت أن تنام عنّي ... مثلك لا تأخذ السّنات وإن عدتني الوفاة فاعذر ... عيشي من بعدك اقتيات «2» فالمقطوعة مناسبة لإظهار المشاعر بإيجاز وافتتان، ولطرق معان محددة، يريد الشاعر تأكيدها دون توسع. ومثلما انتشر في هذا العصر نظم البيت والبيتين لنكتة بديعية، أو للمحة معنوية، يظهر الشاعر فيه ذكاؤه، نظم مادحو الرسول الأمين هذا الضرب من الشعر، فأودعوا معنى من معاني المديح النبوي في بيتين أو ثلاثة.

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 65. (2) ديوان الشرف الأنصاري: ص 105.

ضروب النظم:

فعند ما وصل الزنوري «1» إلى المدينة المنورة، قال: ببابكم حطّ الفقير رحاله ... وما خاب عبد أمّكم متوسّلا لقد جاء يبغي من نداكم قراءه ... وللعفو والإحسان أمّ مؤمّلا «2» وإذا تمنى شاعر زيارة الروضة النبوية الشريفة، وضع تمنيه في بيتين من الشعر، كما فعل ابن الجمال «3» البصري في قوله: ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بروضة خير المرسلين محمّد نبيّ له الله اصطفى من عباده ... وأرشدنا منه إلى كلّ مقصد «4» ضروب النظم: ولم تكن القصيدة التقليدية بتلوناتها المختلفة والأرجوزة والمقطوعة الشعرية، هي الأشكال التي وضعت فيها المدائح النبوية في العصر المملوكي، فإلى جانبها أشكال عدة، عرفت في ذاك العصر وقبيله، جاءت عن طريق الاشتغال بالقصائد المعروفة والإضافة إليها، كأن يأخذ الشاعر قصيدة قديمة، فيأتي إلى كل بيت من أبياتها، يطرح منه أحد شطريه، ويبقي الآخر، ويتمه، فيصرف معناه من المعنى الأصلي الذي وضع له إلى معنى جديد، هو المديح النبوي، أو ما يماثله، كقول الشهاب محمود في إحدى مدائحه:

_ (1) الزنوري: محمد بن محمد الأنصاري، نزيل مكة، استوطن المدينة، كان عالما بالفقه والعربية، توفي بعد (840 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 10/ 41. (2) السخاوي: الضوء اللامع 10/ 42. (3) ابن الجمال البصري: إبراهيم بن أبي بكر بن يوسف، تاجر، توفي بمكة (859 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 1/ 36. (4) السخاوي: الضوء اللامع 1/ 36.

دع الصّبّ يدمي الدّمع منه الماقيا ... قد ظن كلّ الظّنّ ألاتلاقيا «1» وقد حظي امرؤ القيس بعناية شعراء المدائح النبوية، فكانوا يعارضون قصائده، ليكتسبوا المران على نظم الشعر الأصيل، واتكأ بعضهم علي قصائده، فشطروها، صارفين معناها إلى المديح النبوي، ومن ذلك قصيدة حازم القرطاجني التي شطّر فيها معلقة امرئ القيس- كما مرّ معنا- باذلا جهدا كبيرا في صرف معناها إلى المديح النبوي، على بعد ما بين موضوعها وبين المديح النبوي، وكأنه يريد الإفادة من شهرة القصيدة ومن وزنها وقافيتها، أو أنه يريد أن يبرهن على مقدرته الشعرية، وعلى اتقانه لصنعة كانت مدار التفاضل والتفاخر بين الشعراء، ولذلك شطّر قصيدة أخرى لامرئ القيس، بدأها بقوله: أقول لعزمي أو لصالح أعمالي ... ألا عم صباحا أيّها الطّلل البالي ألا ليت شعري هل تقول عزائمي ... لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال فأنزل دارا للرّسول نزيلها ... قليل هموم ما يبيت بأوجال جوار رسول الله مجد موثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي «2» وإلى جانب تشطير القصائد القديمة، وصرف معناها إلى المديح النبوي، نجد ما يقارب هذا في مدائح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشهورة، ونجد كذلك التخميس والتسديس والتسبيع والتعشير، وغير ذلك مما فعله بعض مدّاح النبي الكريم في قصائد المدح النبوي، وأكثر القصائد التي نالت من هذه التغييرات الشعرية، هي بردة البوصيري، إذ

_ (1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 53، وكثير من عبارات القصيدة مأخوذ من قصيدة لمجنون ليلى، مطلعها: وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما ... يظنّان كل الظن ألا تلاقيا ديوان المجنون ص 315. (2) المقري: أزهار الرياض 3/ 182.

جذبت شهرتها جهود هواة هذا النوع من التشكيل الشعري في مختلف الأقطار العربية الإسلامية، فأشبعوها تغييرا وإضافات، إلى أن أضحت القاسم المشترك لمثل هذا النشاط الشعري. فالتخميس هو نوع من المعارضة والتضمين في الوقت نفسه، هو معارضة لأن التخميس يأخذ الوزن والقافية، وتضمين لأن المخمس يضمّن القصيدة المعارضة كلها في قصيدته، فخمسا قصيدته من القصيدة المعارضة، وهكذا تكون الأشكال الآخرى مثل التسديس والتسبيع والتعشير. وممّن خمّسوا بردة البوصيري شاعر اسمه (عبد الله الطويلي) ، أتمّ ثلاثة تخاميس لها في سنة (855 هـ) ووضع التخاميس الثلاثة متساوقة في مخطوط واحد، إذ يضع بيت البوصيري، ويضع إلى جانبه تخاميسه، وقد بدأ التخميس الأول قائلا: الله يعلم ما في القلب من ألم ومن غرام بأحشاء ومن سقم على فراق فريق حلّ في الحرم أمن تذكّر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم «1» وتحدث في هذا التخميس عن تخاميسه، فقال: الله يسّره أولى وثانية معا وثالثة وزنا وقافية والله أسأله عفوا وعافية

_ (1) الطويلي: تخاميس الكواكب الدرية، ورقة 2.

فالحمد لله حمدا صاب سارية ... ولم يزل حمده مستوكف الدّيم ذيّلتها بقواف زدتهنّ لها وبالزّيادة قلب المستهام لها أكرم بها بردة ما جاء أجملها بها تغنّى الأبوصيري وفصّلها ... في مدح خير الورى المبعوث للأمم مخمّسوها كثير ما لهم عدد كلّ بفرد من التّخميس منفرد إلّا أنا لي ثلاث حفّني مدد من ذي العلا فهو ربّ دايم صمد ... سبحانه من قديم مالك القدم «1» فالشاعر هنا تحدث عن تخاميسه التي تفرّد بها عن غيره، وزاد فيها قوافي البردة، وأشار إلى أن مخمّسي البردة ليس لهم عدد، وهذه من الحقائق الثابتة، فلا يعلم على وجه اليقين عدد من زاد البردة تخميسا أو غيره إلا الله تعالى. ودعا الله تعالى في التخميس الثالث أن يغفر له ولمنشديها وكاتبيها ومغنيها، وهذه إشارات واضحة إلى ما كانت تلقاه المدائح النبوية من إقبال الناس وانشغالهم بها، فهناك منشدون لها، وهناك مغنون وكاتبون، وبالتأكيد سامعون كثر، وأشار هذا التخميس إلى أنه أنشأ تخاميسه بناء على طلب من رجل يدعى البياضي، فكان ذوو الشأن يطلبون من الشعراء نظم المدائح النبوية أو تخميسها، قال في دعائه: يا ربّ واغفر لمنشيها ومنشدها

_ (1) الطويلي: تخاميس الكواكب الدرية، ورقة 27.

مجموعة مع أخرى أو بمفردها وكاتبها ومغنّيها ومسعدها وقد أرى مطلب الإحسان في يدها ... والمسلمين فمن عرب ومن عجم «1» والغريب أن نجد شاعرا ينظم معشرات نبوية، ثم يعود فيخمسها جميعها، والمعشرات قصائد مرتبة على حروف الهجاء حسب القافية، وكل قصيدة مؤلفة من عشرة أبيات، فابن الجيّاب الأندلسي «2» له معشرات في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعد أن أتم نظمها، عاد وخمسها، ومن تخاميسه التخميس الذي وضعه على قصيدة حرف الذال، وقال في مطلعه: أقول عسى سهم النّصيحة ينفذ ... وليس لنصح في فؤادك مأخذ فؤاد بأمراس الهوى عنك يجبذ ... ذروا عاجلا يفنى وفي آجل خذوا فقد غصّ من بالمنقضى يتلذّذ «3» وفعل الشاعر هذا الفعل في جميع معشراته، وكأنه شعر بجمود معشراته وتقصيرها عن الإحاطة بمعاني المديح النبوي التي يريدها، فلجأ إلى التخميس ليضيف ما يريد من معان، وليحرك الشكل الشعري ويخلّصه من القيود التي فرضها عليه. ولم تكن التخاميس كلها موضوعة على قصائد سابقة، بل إن شعراء المديح النبوي نظموا مدائحهم على شكل التخميس بدا دون أن تكون تخاميسهم صدى لقصائد أخرى، فهي تخاميس أصيلة، أعجبت الشعراء لذيوعها، وللإمكانات الإيقاعية التي

_ (1) الطويلي: تخاميس الكواكب الدرية، ورقة 29. (2) ابن الجياب الأندلسي: علي بن محمد بن سليمان الأنصاري، شاعر ناثر، وزر وكتب لملوك بني الأحمر، توفي سنة (749 هـ) . ابن الأحمر: نثير مزائد الجمان ص 125. (3) ديوان ابن الجياب: ورقة 4.

تمنحها للشعر، وتجعلها ملائمة للإنشاد، ومن هذه التخاميس تخميس للبرعي، كأنه رباعيات فصلت عن بعضها بلازمة ثابتة، افتتحه بقوله: بمحمّد خطر المحامد يعظم ... وعقود تيجان القبول تنظّم وله الشّفاعة والمقام الأعظ ... يوم القلوب لدى الحناجر كظمّ فبحقّه صلّوا عليه وسلّموا «1» ومن التخاميس الحافلة بالإيقاع الملائم للإنشاد، وذات الأسلوب الخفيف الجميل، تخميس لبعض الوّعاظ المشارقة كما وصفه صاحب نفح الطيب، يقول فيه: جلّ الذي بعث الرّسول رحيما ليردّ عنّا في المعاد جحيما وبه نرجّي جنّة ونعيما أضحى على الباري الكريم كريما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما «2» ويظهر أن هذه اللازمة (صلوا عليه وسلموا تسليما) ، التي يكثر تردادها في الموالد النبوية قد انتقلت إلى التخاميس، والتي توضع على هذا الشكل لتنشد في مثل هذه المناسبات، ولذلك نجد عددا من التخاميس تنتهي بهذه اللازمة، وكأن الشاعر في التخميس يخاطب جمعا أمامه، أو أنه يستحضر جمع السامعين في ذهنه عند نظمه لتخميسه. فالتخميس انتشر في الأقطار العربية الإسلامية، لطاقاته الإيقاعية العالية وتنوع القوافي فيها، ولملاءمته للإنشاد في مجالس الذكر والاحتفالات الدينية.

_ (1) ديوان البرعي: ص 43. (2) المقري: نفح الطيب 7/ 448.

لكن المشارقة لم يهتموا بالتخميس اهتمام المغاربة به، الذين برعوا في إنشائه براعتهم في إنشاء الموشحات يبدعون في إيقاعه وفي صياغته، وينظمون به الأحاديث والروايات ويخضعونها لإيقاع التخميس. أما التسديس، فهو لون من ألوان التصرف بالقصيدة، يعمد فيه الناظم إلى وضع بيتين، كل شطر منهما ينتهي بالقافية نفسها، ثم يتبعهما ببيت، كل شطر فيه ينتهي بقافية مغايرة، وتظل هذه القافية ثابتة في التسديس كله، في حين تتغير القافية الأولى، فقوام التسديس وحدات، تتألف كل منها من ثلاثة أبيات أو ستة أشطر، أربعة منها على قافية، واثنان على قافية أخرى، مثل تسديس ابن العطار الذي يقول فيه: نور النّبيّ المصطفى المختار ... أربت محاسنه على الأنوار مرآه يخجل بهجة الأقمار ... نور ينجّي من عذاب النّار قد زان ذاك النّور اسماعيلا ... صلّوا عليه بكرة وأصيلا «1» ولا يغادر الشاعر اللازمة، وهي الشطر الثاني من البيت الثالث في أجزاء التسديس، وكأن هذه الأشكال الشعرية وضعت للإنشاد فقط، أو كما قال الطويلي في تخميسه للإنشاد والغناء في مجالس الذكر والاحتفالات الدينية. ويلاحظ أيضا في شكل التخميس والتسديس أنها قريبة من الرباعيات أو الدوبيت، فإذا نزعنا الشطر الخامس ذا القافية المختلفة في التخميس، والبيت الثالث ذا القافية المختلفة في التسديس، لكانت هذه الأشكال رباعيات أو غير ذلك من التسميات. إلا أننا نجد مثالا على ذلك دون أن يكون مخمسا أو تسديسا، بل وضع بدا على

_ (1) المقري: نفح الطيب 7/ 485.

شكل قريب من التربيع أو الدوبيت، فللبرعي مدحة نبوية جاءت على النحو التالي: قف بذات السّفح من إضم ... وانشد السّارين في الظّلم هل رووا علما عن العلم ... أم رأوا سلمى بذي سلم ليت شعري بعد ما رحلوا ... أي أكناف الحمى نزلوا أبذات البان أم عدلوا ... ينشدون القلب في الخيم «1» وعلى هذا النمط تأتي الأشكال الشعرية الآخرى من تسبيع وتعشير وغير ذلك من النظم الذي تتغير فيه القافية في كل مقطع من مقاطع القصيدة، فتريح الناظم من ناحية، وتشيع في القصيدة إيقاعا خاصا حسب عدد الأشطر المتفقة في القافية الواحدة من ناحية ثانية، وهذا ما يجعل القصيدة ملائمة للإنشاد، وربما الغناء بمصاحبة الآلات الموسيقية أو الإيقاعية. فمن التسبيع على البردة، قول البيضاوي «2» : الله يعلم ما بالقلب من ضرم ... ومن غرام بأحشاء ومن سقم على فراق فريق حلّ في حرم ... فقلت لمّا همى دمعي بمنسجم على العقيق عقيقا غير منسجم ... أمن تذكّر جيران بذي سلم مزجت دمعا جرى من مقلة بدم «3» ومن التعشير ما أجراه ناظم يدعى محمد بن عبد العزيز على البردة، وقال فيه:

_ (1) المقري: نفح الطيب 7/ 480. (2) البيضاوي: عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي، قاض مفسر علامة، ولي قضاء شيراز، توفي سنة (685 هـ) . السيوطي: بغية الوعاة ص 286. (3) البيضاوي: تسبيع الكواكب الدرية، ورقة 1.

أمن تذكّر جيران بذي سلم ... أم من تباريح ما أخفيت من ألم أم من هوى من سمت أوصاف حسنهم ... أم من تفانيك في إفراط حبّهم هجرت طيف الكرى ليلا فلم تنم ... أم حين أطربك الحادي بوصفهم أم بالمغاني ونجد ثم سلعهم ... أم همت شوقا ووجدا نحو أرضهم أو من وقوفك في أطلال ربعهم ... مزجت دمعا جرى من نحو مقلة بدم «1» ولا ننسى في حديثنا عن هذه الأشكال الشعرية والتغييرات التي أجراها الشعراء على قصائد المديح المشهورة، الإشارة إلى التشطير، الذي يأخذ فيه الشاعر شطر كل بيت من القصيدة، ويتمه من نظمه، مثل تشطير شاعر اسمه (محمد بن عبد القادر المقاطعي) لبردة البوصيري، ومنه قوله: أمن تذكّر جيران بذي سلم ... لبست بردا من الأحزان والسّقم أم من فراق ربوع كنت تعهدها ... مزجت دمعا من مقلة بدم «2» ولم يتوقف الشكل الشعري للمدحة النبوية عند المظاهر السابقة، والتي تعني الرصانة والجزالة، وهو ما يليق بالمدح النبوي، إلا أن انتشار المدح النبوي انتشارا عظيما، جعله يملأ مجالس الشعراء والأدباء الرصينة، ويفيض إلى مجالس الذكر والمجالس الشعبية، ليضحي فنا شعبيا يلائم كل ذوق، ويتفق مع كل درجات الثقافة، فالنبي الكريم هو نبي المسلمين جميعا، وحبيب المؤمنين كلهم، ولهم جميعا أن يشاركوا في مديحه، كل على طريقته ووفق مقدرته وثقافته، ومن هنا نشأت المذاهب المختلفة في مدح النبي، ومن هنا جاءت الأشكال الشعرية المتباينة في مدحه.

_ (1) عبد العزيز، محمد: تعشير الكواكب الدرية، ورقة 36. (2) اليمني الشرواني: حديقة الأفراح ص 23.

وقد شهد العصر المملوكي اتساع دائرة النظم، فلم تعد مقتصرة على الشكل الشعري الذي عرف إلى ذلك الحين، وإنما شملت فنونا جديدة، معظمها ملحون. ويلاحظ أن فنون النظم الملحونة قد تساوت عندهم مع فنون النظم المعربة، وهذا يدل على شيوع النظم بلهجتهم الدارجة، وعلى انفعال الناس به، واقترابه من أذواقهم وأفهامهم، وإن كان ذلك مما أفسد أذواق الناس، وقعد بهم عن التطلع إلى الفصحى والتمتع بجمالها، ولا بد أنهم نظموا في هذه الألوان الملحونة المواضيع الدينية، ومنها المديح النبوي، ولكننا سنضرب صفحا عنها وعن أمثلتها، لأن العامية لم تكن لغة لها آدابها التي تزاحم الفصحى وآدابها، ولن تكون مزاحمة لها، ولن نسمح أن تكون كذلك بإذن الله تعالى. ومن الفنون المعربة التي شاعت آنذاك، وكانت معروفة من قبل الموشح، ذلك التلوين الجميل للشعر العربي بإيقاعاته التي تلائم الموسيقا والغناء، والذي لامس العامية في خرجته، والذي عرف بأنه فن الغزل والخمر والزهر، إلا أنه استخدم للتعبير عن الموضوعات الشعرية المعروفة في الأدب العربي، أو كما قال ابن سناء الملك: «الموشحات يعمل فيها ما يعمل في أنواع الشعر من الغزل والمدح والرثاء والهجو والمجون والزهد، وما كان منها في الزهد، يقال له المكفّر، والرسم في المكفّر خاصة أن لا يعمل إلا على وزن موشح معروف وقوافي أقفاله، ويختتم بخرجة ذلك الموشح، ليدل على أنه مكفّره ومستقيل ربه عن شاعره ومستغفره» «1» . والموشح ملائم للإنشاد والغناء في مجالس الذكر، وفي الاحتفالات، فلماذا لا يفيد منه شعراء المديح النبوي، ويضعون بعض مدائحهم في قالبه؟ هذا ما فعله مدّاح النبي صلّى الله عليه وسلّم، وخاصة في الأندلس والمغرب العربي، فوضعوا

_ (1) ابن سناء الملك: دار الطراز ص 51.

موشحات كثيرة في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن هؤلاء الششتري «1» ، الذي جاء من الأندلس، وطاف أقطار المشرق، داعيا إلى طريقته الصوفية عن طريق نظم الموشحات والأزجال العامية التي انتشرت بين الناس، مما دعا الفقهاء إلى محاربة شعره الذي يميل في معظمه إلى الترخص في اللغة، ويقترب من العامية، وقلّما يسلم له موشح من اللحن، لأن العامية غلبت عليه، ومن موشحاته قوله: لا تعشق يا قلبي ... سوى المصطفى نور الله الممجّد ... وبحر الوفا من حاز الحسن طرا ... وحاز الوفا أنت البدر المكمّل ... وسرّك عجيب آه جدّد عليّ ... وصال الحبيب آه يا سيد الرسل ... مالي سواك آه يا نور عيني ... قتلني هواك آه اعطف عليّ ... وجد برضاك أنت البدر المكمل ... وسرك عجيب آه جدد علي ... وصال الحبيب «2» وهذا أقرب موشحاته إلى الصورة التي نعرفها للموشح، وهو يخلط دائما بين

_ (1) الششتري: علي بن عبد الله النميري، متصوف أندلسي من أهل ششتر، تنقل في البلاد مع أتباعه، وله عدة مصنفات منها المقاليد الوجودية في أسرار الصوفية، وديوان شعر كله موشحات وأزجال قريبة من العامية، توفي بمصر سنة (668 هـ) . الغبريني: عنوان الدراية ص 239. (2) ديوان الششتري: ص 417.

الموشح والزجل الملحون الذي يشكّل معظم ديوانه، وقد نظم به عددا من المدائح النبوية، ونجد أيضا زجلا في المدح النبوي عند ابن زقاعة في ديوانه، لا يختلف في مضمونه عمّا يرد في المدائح النبوية التي نعرفها «1» . وبذلك يكون المدح النبوي قد أضحى أحد موضوعات الفنون الشعرية الشعبية المستحدثة في ذلك العصر. ومن الموشحات التي مدح فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتقرب من المكفّرات، موشح لابن الملحمي الواعظ «2» ، بدأه بوصف الطبيعة، وإظهار مشاعره، ثم انتقل إلى الوعظ والدعوة لترك الغواية وحياة اللهو والتكفير عنها، واختتمه بالمديح النبوي، فقال: أرتجي ربّي ويكفيني الرّجا ... فهو الغفّار والنّبيّ المصطفى بدر الدّجا ... أحمد المختار من على سنّته سار نجا ... من لهيب النّار مرشد الخلق إلى سبل النّجاح ... طاهر الأعراق ذا النّدى بحر العطايا والسماح ... طيّب الأخلاق «3» والملاحظ في الموشحات أن ناظميها أطالوا في الوعظ والتذكير، وهذا مناسب للإنشاد والغناء في المجالس والاحتفالات. ولم يتطرق شعراء المديح النبوي في الموشحات إلى نظم السيرة والمعجزات

_ (1) ديوان ابن زقاعة، ورقة 26. (2) ابن الملحمي الواعظ: محمود بن القاسم الواسطي، عالم فاضل، اشتغل بالفقه، ونظم العلوم شعرا، أنشأ خطبا ومدائح، كان خطيب بغداد في وقته، توفي سنة (744 هـ) . (3) ابن شاكر: فوات الوفيات 4/ 113.

الأشكال المتميزة:

والروايات الغيبية، لأن شاعرية الموشح وإيقاعه لا تسمح للناظم أن ينقاد إلى النظم المجرد. وبذلك يظهر لنا أن المديح النبوي في العصر المملوكي قد أودع في الأشكال الشعرية جميعها، التي كانت تعرف آنذاك، لأن هذا الفن الشعري لا يحوز على اهتمام فئة دون فئة، بل يحوز على اهتمام المسلمين جميعا. وقد حفلت المدائح النبوية بتنوع كبير في الشكل الشعري، يفوق ما عرفه أي فن شعري آخر، فبالإضافة إلى كل ما سبق نجد ألوانا أخرى من الشكل الشعري، دعت إليها طبيعة المضمون، فلم تتابع شكل القصيدة العربية التقليدي في أجزائه وتركيبه. الأشكال المتميزة: ومن هذه الألوان مقصورة لابن جابر، مدح فيها النّبي الكريم، وتحدث عن مواضيع أخرى، لكنه أطالها إطالة كبيرة، وقسّمها إلى أجزاء، ليس بينها ما هو مقدمة أو ما هو غرض، بل قدم موضوعاته في القصيدة وفق ما يوصله إليه نظمه، وما يتبادر إلى ذهنه، والأجزاء في معظمها معشرات، يتألف كل جزء من عشرة أبيات مرتبة ترتيبا أبجديا، إذ استوفي في القافية حروف الهجاء جميعها قبل حرف الألف، فلا يجمع القصيدة إلا انتهاء القافية بحرف الألف، ووجود مدح النبي منثورا في أجزائها، بدأها بقوله: بادر قلبي للهوى وما ارتأى ... لمّا رأى من حسنها ما قد رأى فقرّب الوجد لقلبي حبّها ... وكان قلبي قبل هذا قد نأى ثم تغزل فقال: يا ربّ ليل قد تعاطينا به ... حديث أنس مثل أزهار الرّبى

في روضة تعانقت أغصانها ... إذا وصلت ما بينها ريح الصّبا ثم مدح فقال: تالله لا أعبا بعيش قد مضى ... ولا زمان قد تعدّى وعتا مذ علقت كفّى بالهادي الذي ... ساد الورى طفلا وكهلا وفتى ثم تحدث عن الأخلاق فقال: لا أسأل النّذل ولو أنّي به ... أملك ما حاز النّهار والدّجا لكن إذا اضطرّ زمان جائر ... أمّلت من ليس يردّ من رجا «1» وهكذا ينتقل في مقصورته من موضوع إلى موضوع، ويدرج في أثنائها المديح النبوي، وكأنه جمع عدة قصائد في قصيدة واحدة، فجاءت متفردة في بابها، موضوعا وشكلا، على الرغم من التزامه بقيود فرضها على نفسه سلفا. ومن القصائد التي تميزت في شكلها الشعري بفضل مضمونها، القصائد التي نظمها أصحابها وسيلة يتوسلون بها رسول الله تعالى، أو القصائد التي نظمت كلها صلاة على النبي، فهذه القصائد لا تحتاج إلى مقدمة أو خاتمة، أو غير ذلك مما هو معروف في شكل القصيدة المدحية العربية، مثل قصيدة البوصيري، التي مرت معنا وسماها (القصيدة المضرية في الصلاة على خير البرية) . فالوسيلة لون من ألوان المديح النبوي أو من الأوراد والأدعية التي ينظمها المتصوفة لينشدوها في مجالسهم ومحافلهم. ومثل ذلك القصيدة المحمدية للبوصيري، وهي مدح لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بدأ كل شطر من أشطرها بكلمة (محمد) ، فلا يتبين لها أجزاء ولا

_ (1) المقري: نفح الطيب 7/ 309.

يتبين لها مقدمة من خاتمة، وكأنها نشيد من أناشيد مجالس الذكر، أو هي كذلك، فهي تبدأ بقوله: محمّد أشرف الأعراب والعجم ... محمد خير من يمشي على قدم محمد باسط المعروف جامعه ... محمد صاحب الإحسان والكرم محمد ذكره روح لأنفسنا ... محمد شكره فرض على الأمم «1» وقد اشتهر البرعي بمثل هذه التوسلات والصلوات، فكان يضمّنها مدائحه النبوية، ويكثر منها، ويخصص لها قصائد خاصة، منها هذه الوسيلة التي يقول فيها: يا صاحب القبر المنير بيثرب ... يا منتهى أملي وغاية مطلبي يا من به في النّائبات توسّلي ... وإليه من كلّ الحوادث مهربي يا غوث من في الخافقين وغيثهم ... وربيعهم في كلّ عام مجدب «2» وله كذلك قصيدة جيدة في الصلاة على النبي، أبدع في معانيها، وأحسن صياغتها، فحازت على إعجاب المنشدين على مر العصور، إذ لحنت في عصرنا الحاضر، ولا نزال نسمعها بين الحين والآخر، وهي: يا ربّ صلّ على النّبيّ المجتبى ... ما غرّدت في الأيك ساجعة الرّبا يا ربّ صلّ على النبي وآله ... ما أمّت الزوار نحوك يثربا يا ربّ صلّ على النّبيّ وآله ... ما كوكب في الجوّ قابل كوكبا صلوا على المختار فهو شفيعكم ... في يوم يبعث كلّ طفل أشيبا «3»

_ (1) ديوان البوصيري: ص 274. (2) ديوان البرعي: ص 60. (3) المصدر نفسه: ص 62.

القيود الشكلية:

ففي هذه الصلوات والتوسلات التي ينظمها الشاعر وهو في غاية الانفعال والوجد، لا يستطيع أن يقف عند الشكل، ويقلّد سابقيه، أو يحدد خطواته، فموضوعها لا يسمح بأن يكون لها مقدمة وخاتمة، وانتقال بين المواضيع التي تحويها القصيدة، لأن الوسيلة لا تحوي إلا موضوعا واحدا، لذلك جاءت موحدة الشكل متميزة عن باقي المدائح النبوية. القيود الشكلية: ومن المسائل الهامة في الشكل الشعري عند شعراء المدائح النبوية، مسألة القيود التي يقيد بها الشاعر نفسه قبل نظم قصيدته، كأن يتقيد بعدد الأبيات سلفا، وينظم عددا من القصائد، يرتبها حسب تسلسل حروف الهجاء، ويبدأ كل بيت من القصيدة بحرف القافية، فيضيق على نفسه، ويحملها عسرا، فتفتقد إلى الرواء والرونق والنضارة والشاعرية، وتصبح شكلا هندسيا متقنا، يحسبه الشاعر بدقة، ويحرص على ألا يعتوره أي خلل. ويتضح ذلك من تقديم الوتري لديوانه (معدن الإفاضات) ، إذ قال: «مدحوه صلّى الله عليه وسلّم بقصائد على حروف الهجاء، وعزوها إلى المعشرات والعشرينيات، ولم يتعرضوا فيها للوتر، والله وتر يحب الوتر، فعملت هذه القصائد على واحد وعشرين بيتا» «1» . فالوتري يوضح أن بعض شعراء المديح النبوي قد أولعوا بمثل هذه الأشكال الشعرية، وأنهم صنعوا قصائد على عدد حروف الهجاء، كل قصيدة تتألف من عشرة أبيات، وهي المعشرات، أو تتألف من عشرين بيتا، وهي العشرينيات، وأنه يريد أن يشارك في مثل هذا اللون من قصائد المديح النبوي، لكنه يريد زيادة بيت على القصائد

_ (1) الوتري: معدن الإفاضات ص 5.

العشرينيات وهو الوتر، ففعل ذلك ونظم قصائد بعدد حروف الهجاء، ورتبها الترتيب الأبجدي، وزاد على ذلك فبدأ كل بيت من قصائده بحرف القافية، فحصر نفسه بقيود شكلية لا تسمن ولا تغني، ولا تضيف شيئا بديعا إلى الشكل أو المعنى، وكل همّه وهمّ أمثاله من الشعراء، هو إثبات المقدرة على تكوين مثل هذه القصائد، التي جاءت عند الوتري على النحو التالي: أصلّي صلاة تملأ الأرض والسّما ... على من له أعلى العلا متبوّأ أقيم مقاما لم يقم فيه مرسل ... وأضحت له حجب الجلال توطّأ «1» وقال على حرف الباء: بنور رسول الله أشرقت الدّنا ... ففي نوره كلّ يجيء ويذهب براه جلال الحق للخلق رحمة ... فكلّ الورى في برّه يتقلّب «2» ويظل الشاعر ينتقل من قصيدة إلى قصيدة، يضع معانيه في قوالب دقيقة، رسمها في ذهنه مسبقا، لا يحيد عنها حتى ينهي حروف الهجاء نظما وترتيبا. ومن الطريف في هذا الباب مدحة نبوية للكندي الدشناوي «3» ، بدأ كل بيت من أبياتها بحرف من حروف الهجاء مرتبة ترتيبا أبجديا، فقال: أبيت سوى مدح خير الورى ... فأصبح نظمي وثيق العرا بروحي صفات تحلّي القريض ... وتسكبه ذهبا أحمرا

_ (1) الوتري: معدن الإفاضات ص 6. (2) المصدر نفسه: ص 6. (3) الكندي الدشناوي: محمد بن أحمد بن عبد الرحمن، فقيه عالم فاضل، أديب شاعر، نظم فأحسن وكتب فأجاد، أفتى وحدث وأفاد، توفي سنة (722 هـ) . الأدفوي: الطالع السعيد ص 269.

النظم:

تعين القريحة أنّى ونت ... وتبرز ألفاظها جوهرا «1» ويظل على هذا النهج في نظمه لقصيدته حتى يستنفذ حروف الهجاء، وكأنه بذلك حاز قصب السبق في الإبداع الشعري. وهذه الطريقة في النظم شاعت في المديح النبوي، وهي أحد ألوان الشكل الشعري للمدائح النبوية، ومن مظاهر الصنعة في الشكل الشعري، التي كانت تعد آنذاك ممّا يدل على مهارة الشاعر ومقدرته، وهي لم تضف جديدا إلى شكل القصيدة العربية، بل جمدته بهذه القيود التي لا مسوّغ لها في المعنى أو في الصنعة الشعرية. النظم: ومن المظاهر البارزة في شكل المدحة النبوية الشعري، أو التي أثّرت في الشكل، النظم، فبعض شعراء المديح النبوي أرادوا في قصائدهم أن يجمعوا كل ما قيل في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاءت قصائدهم تاريخا أو سيرة أو ما شابه ذلك، فابتعدت عن الشاعرية، واقتربت من المنظومات التعليمية، لذلك اختل فيها الشكل الشعري الذي عهدناه في قصائد المدح العربية وفي معظم المدائح النبوية. والمدائح النبوية التي نحا فيها أصحابها منحى النظم كثيرة، وقلما يخلو ديوان شاعر مكثر في المديح النبوي من قصيدة استبد بها النظم، مثل القصيدة الشقراطيسية التي سبق الحديث عنها ومثل همزية البوصيري التي بدأها بقوله: كيف ترقى رقيّك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء «2» فهو يظهر من المقدمة سعيه في قصيدته إلى إثبات فضل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرّده في

_ (1) الأدفوي: الطالع السعيد ص 490. (2) ديوان البوصيري: ص 49.

معجزاته، فأخذ ينظم أحاديثها، والروايات الغيبية الكثيرة حولها، متعرّضا للسيرة، ناظما أبرز أحداثها، في أكثر من أربع مئة بيت، لا نتبين خلالها أي انتقال، أو أي جزء من أجزاء القصيدة، فلا مقدمات ولا انتقال، بل نظم حتى ينتهي إلى الخاتمة، التي يطلب فيها الشفاعة. وبذلك لا يتضح لنا الشكل الشعري للمدحة النبوية، ولا نجد فيها موضوعات مستقلة، بل هي منظومة تقرب من المنظومات التعليمية، التي لا يهتم فيها ناظمها بالشكل الشعري، وكل همّه أن يضع مادته في القالب الشعري لغرض في نفسه، وهو إثبات المقدرة والبراعة، أو تقرير علم من العلوم ليتمكّن الطلبة من استظهاره وحفظه. وهذا ما أبداه الصرصري أيضا في بعض مدائحه النبوية، وهو الذي عرف مثل البوصيري بشاعريته الفياضة وبمقدرته على تقليب معاني المديح النبوي، وغزارة شعره في هذا الباب. ويبدو أنه أراد ألّا يخلو ديوان مدحه النبوي من مثل هذا اللون من المدح النبوي، الذي صنعه بعض الشعراء ونالوا به شهرة واستحسانا حسب ذوق أدباء ذلك الزمان، فنظم قصيدة أربت على ثماني مئة وخمسين بيتا، وهو عدد لم نعهده في القصائد العربية من قبل. وقد حاول في هذه القصيدة أن يجمع كل ما قيل في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن يوضح مذهبه الديني، وبعض العقائد التي تباين موقف المسلمين منها، فأرّخ في هذه القصيدة وروى، وجادل ومدح، وسبّح وتوسل، دون أن يعير الشكل الشعري والتعبير الشعري الاهتمام الكافي إلا في مواضع قليلة، وكان يبدو عليه الحرص على أن ينظم الأحاديث والروايات في أوزان شعرية، ولو بدت نافرة مستعصية على الاندراج في السياق الشعري والخضوع للتعبير الشعري، فبدأها بقوله: أصبحت أنظم مدح أكرم مرسل ... لهجا به في رايق الأوزان حبّرت فيه قصيدة أودعتها ... من مسند الأخبار حسن معاني

في وصفه من بدء تشريفاته ... حتى الختام بحسن نظم معاني «1» فالصرصري أوضح في بداية قصيدته بعد التسبيح والحمد، أنه نظم مدحا في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه اتخذ هذا المدح معونة له لينال ما يريده، وأنه أودع في قصيدته أخبارا مسندة تبدأ منذ وجود النبي وحتى وفاته، أي أنه نظم سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي تبدأ في نظره منذ بداية الخلق. ومضى الصرصري في سرد وقائع السيرة منذ بدء الخليقة وفق نظرية الحقيقة المحمدية، وبيّن كيف تنقل نور النبي في جباه آبائه، وكيف كان سر معجزات الأنبياء، ليصل إلى إرهاصات النبوة والمولد والنشأة والبعثة ووقائع الدعوة حتى الوفاة، معرّجا خلال ذلك على دلائل النبوة والمعجزات، متوقفا عند الدقائق والجزئيات، معتمدا على الأحاديث والروايات، وكأنه ينظم قصة أو سيرة نظما مجرّدا، لا نجد فيها ملامح الشعر إلا في مواطن قليلة، ولمحات بسيطة، وهو دائما يذكر الأحاديث والروايات بنصها بعد تقطيعها عروضيا، من مثل قوله: ولقد أتى عنه حديث مسند ... سأسوق معناه لذي نشدان «2» ولم يكتف الصرصري بذلك، بل عرّج على بعض قضايا المديح النبوي، مثل موقف رسول الله من الشعر، فقال: واستنشد الأشعار مستمعا لها ... مستحسنا من غير ما نكران «3» وأبى الصرصري إلّا أن يدرج في قصيدته بعض القضايا الخلافية، ويدلي بدلوه في النقاش حولها، مثل زيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والسلام عليه، فقال:

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 96. (2) المصدر نفسه: ورقة 105. (3) المصدر نفسه: ورقة 107.

من زاره وكأنّما قد زاره ... حيّا زيارة صحة وعيان وبقبره الملك الكريم موكّل ... ليبلّغ التّسليم للبعدان لكن إذا ما المرء قام تجاهه ... ردّ السّلام على القريب الدّاني وهو الطري بقبره ما للبلى ... والحادثات عليه من سلطان «1» فهذه القصيدة منذ بدايتها وحتى نهايتها نظم للأحاديث والروايات، استقصى فيها الصرصري السيرة النبوية، والقضايا المتعلقة بالحديث النبوي، وبعض القضايا الدينية التي أثير الجدال حولها في أيامه، فلم يحتفل كعادته لمقدمتها أو خاتمتها، ولم يظهر لها أجزاء متباينة كما هو الحال في القصيدة المدحية المعروفة ولذلك بهت الشكل الشعري للقصيدة، لأن اهتمامه لم يكن منصبا على الشكل والأسلوب الشعري، وإنما على استقصاء كل ما قيل عن سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن مدحه، فظهر أثر النظم الذي جار على الشاعرية في القصيدة. ومثل ذلك لامية ابن جابر التي نظم فيها أسماء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعجزاته، وإن قدّم لها ببيتين واختتمها ببضعة أبيات، فالمنظومات التعليمية تبدأ عادة بحمد الله تعالى وتختتم بالصلاة على نبيه، فجاءت على النحو التالي: نبيّ هدى مولى شفيع مشفّع ... رؤوف رحيم سله ما شئت يبذل سما لمقام ليس يسمو إليه من ... سواه فقيل اقبل عطاي وأقبل وقال له جبريل هذه نهايتي ... تقدّم فإني لا أجاوز منزلي «2» فهذه أمثلة لشعراء كبراء من شعراء المديح النبوي، تظهر تأثير النظم على الشكل

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 113. (2) المجموعة النبهانية 3/ 351.

المعارضة:

الشعري عندهم، ولم نعرض أمثلة لشعراء آخرين، أو لعلماء نظموا صفات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومواهبه ومعجزاته وسيرته، وسنعرض لأمثلة من هذا النظم عند الحديث عن الأسلوب والصياغة، فالنظم يجعل ملامح الشكل الشعري في المدحة النبوية غامضا، يفتقر إلى الوضوح، ويبتعد عمّا هو معروف في قصائد المديح العربي وقصائد المديح النبوي. المعارضة: ومن مظاهر الشكل الشعري في المدائح النبوية، أثر المعارضة الذي لا يمكن أن ينكر، والذي ظهر إلى أبعد الحدود في شعر المديح النبوي، فكثير من قصائد المديح النبوي كانت معارضة لقصائد سابقة في المدح النبوي وسواه، والمعارضة تتعدى في تأثيرها النظر إلى قصيدة معينة عند نظم الشاعر لقصيدته، بل إن الشاعر يضع القصيدة المعارضة أمامه، ويأخذ في تتبعها بيتا بيتا، منذ بدايتها وحتى نهايتها، فيأخذ شكل القصيدة ووزنها وقافيتها، وقد يأخذ بعض معانيها وعباراتها. واقتفاء الشعراء أثر بعضهم ليس عيبا، وليس غريبا في شعرنا العربي، وتأثر الشعراء بعضهم ببعضهم ليس بدعة، فقصيدة كعب بن زهير التي لاقت من المعارضة ما لم تلقه قصيدة أخرى، أرجع معظم معانيها وكثير من عباراتها إلى قصائد جاهلية سابقة كما مر معنا-، وحتى مقدمتها، كانت شائعة في ذلك الوقت، وهي: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّم إثرها لم يفد مكبول فقيل: «القصائد التي أولها (بانت سعاد) تزيد على خمس مئة قصيدة، منها قول ربيعة بن مقروم «1» :

_ (1) ربيعة بن مقروم بن قيس الضبي، شاعر مخضرم، شهد بعض الفتوح في الإسلام. ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص 115.

بانت سعاد فأمسى القلب معمودا ... وأخلفتك ابنة الحرّ المواعيدا «1» وأشهر قصيدة للبوصيري (البردة) ، تبدو للمتمعن أن صاحبها استأنس عند نظمها بميمية ابن الفارض في التشوق للمقدسات والوجد الصوفي، فأخذ بعض معانيها وعباراتها، ووزنها وقافيتها، وفيها يقول ابن الفارض: هل نار ليلي بدت ليلا بذي سلم ... أم بارق لاح في الزّوراء فالعلم يا سائق الظّعن يطوي البيد معتسفا ... طيّ السّجلّ بذات الشّيح من إضم ناشدتك الله إن جزت العقيق ضحى ... فاقر السّلام عليهم غير محتشم «2» وقبل أن نعرض للمدائح النبوية التي عارض أصحابها بها مدائح نبوية سابقة، فأفادوا من شكلها ومعانيها، لا بد من الإشارة إلى معارضة شعراء المدائح النبوية لقصائد قديمة، وصرف المعارضة إلى المديح النبوي، مثلما فعل بعض مدّاح النبي حين شطروا قصائد قديمة، وصرفوا معانيها إلى المديح النبوي- كما مر معنا-. وأكثر قصيدة من قصائد المدح النبوي عورضت، هي قصيدة كعب بن زهير في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة، منها أنها قيلت في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أثناء حياته، وأعجب بها، وأثاب عليها، فمعارضتها تقرّب الشاعر من أن تكون قصيدته مقبولة عند ممدوحه صلّى الله عليه وسلّم كما قال محي الدين بن عبد الظاهر «3» : لقد قال كعب في النّبيّ قصيدة ... وقلنا عسى في مدحه نتشارك فإن شملتنا بالجوائز رحمة ... كرحمة كعب فهو كعب مبارك «4»

_ (1) البغدادي، عبد القادر: حاشية على شرح بانت سعاد ص 169. (2) ديوان ابن الفارض ص 67. (3) محيي الدين بن عبد الظاهر: عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان الجذامي المصري، الكاتب الشاعر، شيخ أهل الترسل وصاحب ديوان الإنشاء. توفي سنة (692 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 2/ 179. (4) الصفدي: الغيث المسجم 1/ 275.

ولأنها قصيدة أصيلة قديمة، احتفل لها كعب بن زهير أيّما احتفال، فمعارضتها تعطي الشاعر معرفة بالشعر العربي الأصيل، ويفيد منها شكلا ووزنا وقافية، وطريقة التعبير الرصين، ولذلك قلّما نجد شاعرا من شعراء المديح النبوي لم يعارض هذه القيدة، فللبوصيري قصيدة في معارضتها، سمّاها (ذخر المعاد في وزن بانت سعاد) ، عرضنا لأمثلة منها. ولابن نباتة قصيدة في معارضتها، بدأها بقوله: ما الطّرف بعدكم بالنّوم مكحول ... هذا وكم بيننا من ربعكم ميل ما يمسك الهدب دمعي حين أذكركم ... إلّا كما يمسك الماء الغرابيل وبعد أن يتغزل على طريقة كعب، يضيف إلى مقدمته الوعظ وذكر الأماكن المقدسة، وينتقل إلى المدح مثل انتقال كعب، فيقول: إن لم أنل عملا أرجو النّجاة فلي ... من الرّسول بإذن الله تنويل ويسهب في مدحه مضيفا المعجزات، والصنعة التي عرفت في عصره، حتى إذا وصل إلى الخاتمة، صرّح بمعارضته لكعب، فقال: إن كان كعب بما قد قال ضيفك في ... دار النّعيم فلي في الباب تطفيل وأين كابن زهير لي شذا كلم ... ربيعها بغمام القرب مطلول «1» ألا تعني هذه المعارضة أن الشكل الشعري لقصيدة ابن نباتة مأخوذ عن الشكل الشعري لقصيدة كعب، وهو بذلك شكل تقليدي، ليس للشاعر المعارض فيه غير بعض إضافات، لا تحجب الشكل الأساس للقصيدة الأصلية؟

_ (1) ديوان ابن نباتة: ص 372.

وتتفاوت معارضات قصيدة كعب بتفاوت حظ الشعراء من الشاعرية، فبعضهم يتكئ عليها اتكاء تاما، فيتابعها بيتا بيتا، وبعضهم يأخذ الشكل العام، لكنه يظهر ذاتيته في الصياغة والمضمون، وبعضهم يزيد عليها أو ينقص منها، وكلهم يحافظون على الشكل وتسلسل الأجزاء. وإذا أردنا استيفاء معارضات البردة، لصعب علينا ذلك، ولقينا من أمرنا شططا، وإنما نريد إيضاح فكرة المعارضة وأثرها على الشكل، فشعراء المديح النبوي لم يجدوا قصيدة مشهورة إلا عارضوها. وقد عورضت قصيدة كعب في المراحل السابقة للعصر المملوكي، عارضها الأبيوردي، وعارضها الزمخشري وغيرهما، واستمرت معارضتها إلى ما بعد العصر المملوكي، فأضحى شكلها شائعا في شعر المديح النبوي عبر العصور. ولاحظ المقري حين أورد قصيدة ابن لبّ «1» ، أنها معارضة لقصيدة أخرى، فبعد أن أورد القصيدة التي مطلعها: إذا القلب ثار أثار ادّكارا ... لقلبي فأذكى عليه أوارا قال: «وقصد- رحمه الله- بهذه القصيدة، معارضة قصيدة للشهاب محمود، التي نظمها بالحجاز في طريق المدينة المشرفة، على ساكنها الصلاة والسلام، وهي طويلة، ومطلعها: وصلنا السرّى وهجرنا الدّيارا ... وجئناك نطوي إليك القفارا وقد تبارى الشعراء في هذا الوزن وهذا الروي، ومنه القصيدة المشهورة: أقول وآنست بالحيّ نارا «2» فالمعارضة طريقة من طرق الحفاظ على الشكل الشعري التقليدي، لكنه قدّم فيه

_ (1) ابن لب: فرج بن قاسم بن أحمد التغلبي، كان مشاركا في الفقه والأدب، وكان معظما عند العامة والخاصة، درّس وولي الخطابة، توفي سنة (783 هـ) . المقري: نفح الطيب 5/ 509. (2) المقري: نفح الطيب 5/ 510.

الوزن والقافية:

وأخّر، وأنقص وزاد، واستبدل شيئا بشيء، وهناك من اكتفى بنظم المقطوعات الصغيرة في المدح، دون أن يأخذ مدحه النبوي شكل القصيدة الرسمي، ومنهم من مال إلى التشطير والتخميس والتسديس، وغير ذلك من الأشكال الشعرية التي تقوم على تلوين شكل القصيدة المعروف، وهناك من استخدم الموشحات في المدح النبوي، ومنهم من فتن بقيود الشكل المتصوّرة سلفا، ووصل المدح النبوي إلى أشكال التعبير الشعبي، والنظم الملحون، بالإضافة إلى تفرّد بعض المدائح النبوية بفضل مضمونها، أو بسبب النظم والمعارضة، وكل ذلك التنوع ناتج عن سيرورة المديح النبوي وانتشاره، وانفعال الناس جميعا به، وحرصهم على المشاركة في نظمه، كل حسب مقدرته واستعداداته وميوله النفسية. الوزن والقافية: إن المدائح النبوية تنوعت في وزنها تنوع أوزان الشعر العربي وأشكال نظمه، فبحور الشعر العربي المعروفة استخدمها شعراء المدائح النبوية بأشكالها وتنوعاتها، إضافة إلى الموشح والفنون الشعرية المحدثة بأوزانها الجديدة، لكن تعبيرها الملحون جعلنا نبعدها عن بحثنا هذا. وقد أشار النقاد العرب إلى هناك ارتباطا بين وزن القصيدة وموضوعها، فقصائد المدح تحتاج إلى وزن طويل كثير التفاعيل، يسمح بالإسهاب والإطناب، والذهاب في القول كل مذهب، غير أن هذا الأمر لم يكن مطردا في المدح النبوي، فمادحو النبي الكريم استخدموا الأوزان الرشيقة الخفيفة مثل استخدامهم للأوزان الطويلة. والوزن أو الموسيقا أو الإيقاع، هو أهم مميزات الشعر، ومعيار تفرده عن غيره من فنون القول، واللغة في الأساس أصوات موسيقية، تخرج بنغمات مختلفة، وحين تتجمع الكلمات في العبارة تكتسب جرسا موسيقيا زيادة على ما كانت عليه الكلمة من

اجتماع أصواتها أو حروفها، وخاصة عند تشابه الكلمات في الوزن والإيقاع أو تجانس فقرتين في عدد الكلمات ووزنها، أو في تجانس الكلمتين الأخيرتين من كل فقرة. فمبعث الجمال في موسيقا الشعر، يرجع إلى الانسجام الذي يدرك بالسمع، وهذا يؤثر في السامع، فيجتمع تأثير المعنى والصورة مع تأثير الإيقاع الموسيقي في الشعر، فيكون للشعر الوقع المميز في النفس، وهذا يكون على أشده إذا كان الموضوع تهفو إليه النفس، ويحرك مكامن الارتياح فيها، مثل الموضوع الديني ومدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذي تهفو إليه الأفئدة، وترتاح لذكره القلوب، لذلك كان إنشاد هذا الشعر في مجالس الذكر موقّعا، مشحونا بطاقة موسيقية كبيرة، وربما صاحبته الآلات الموسيقية حين يفتقر إلى الإيقاع الظاهر، ولهذا كان لا بد للشعراء الذين ينظمون هذا الفن الشعري من أن يوجهوا عنايتهم إلى الإيقاع في شعرهم، فكانت أشهر قصائد المدح النبوي هي التي تملك إلى جانب التصرف الجيد في المعاني، طاقات إيقاعية ظاهرة، لا تتأتى من الوزن الشعري الخارجي فقط، وإنما من الإيقاع الداخلي المعتمد على حسن اختيار الألفاظ وترتيبها، وانسجام عناصر القصيدة جميعها، مثل بردة البوصيري وبعض قصائده الآخرى. وقد حازت الموسيقا في شعر هذا العصر على اهتمام الشعراء، فنوّعوا في طريقة أداء القصائد، وأكثروا من التقطيع والجناس، ليزيدوا من الإيقاع، وعمدوا إلى التخميس والتسبيع وغير ذلك، ليمنحوا قصائدهم طاقة موسيقية زائدة، تلائم الإنشاد والغناء في مجالس ذكرهم، ومحافل أعيادهم. وأظهر شعراء المدائح النبوية هذا الاهتمام، وأبدوا معرفتهم بالوزن الشعري والعروض، فاستخدموا مصطلحات العروض في تعبيرهم- كما مرّ معنا- ومثل قول النواجي: واها لتقطيع قلب ظلّ يسبح في ... عروض بحر جفاء ما له سبب «1»

_ (1) المجموعة النبهانية: 1/ 262.

وقوله: كأنّه بيت شعر في عروض جفا ... مقطّع عملت فيه التّفاعيل «1» وقول ابن ظهيرة القرشي «2» : بسيط حبّي فيهم وافر وكذا ... سريع دمعي على الخدّين مطلول وكامل الوجد لا ينفكّ في رمل ... طويله لمديد القطع مشكول «3» والأمثلة على ذلك كثيرة، تبيّن استظهار شعراء المدائح النبوية لعلم العروض، ودراستهم له، ومعرفتهم بأسراره ومصطلحاته، فلم يعد الشعر يقال على السليقة، وإنما تدرس العلوم التي تحكم مكوّناته، من لغة ونحو وعروض وبلاغة، ولذلك نظم العلماء الشعر، ومن لم يؤت موهبة شعرية، لأنه درس العروض، واستطاع إقامة أوزانه، ولهذا قيل آنذاك في هؤلاء الذين يكتفون في نظمهم بعنصر الوزن فقط: إن كنت لا تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنت وزّان وما أنت شاعر «4» إن استخدام شعراء المدح النبوي للأوزان الشعرية المعروفة لم يخرج عمّا تواضع عليه شعراء العرب، إلا أنهم كانوا يتفاوتون في إظهار إيقاع الأوزان الشعرية وطاقاتها الموسيقية، بسبب أسلوب كل شاعر ومقدرته الفنية، فبعض الشعراء كانوا ينظمون الأحاديث والروايات، فلا يكاد الوزن يستبين، لولا التشطير والقافية، مثل بعض مقاطع البوصيري التي ينظم فيها السيرة، أو يجادل في مسألة دينية، ومنها قوله في همزيته: يا لأمر أتاه بعد هشام ... زمعة إنّه الفتى الأتّاء

_ (1) المجموعة النبهانية: 3/ 147. (2) ابن ظهيرة القرشي: محمد بن عبد الله بن ظهيرة المخزومي المكي، فقيه محدث مشارك في فنون العلم، انتهت إليه رياسة الشافعية ببلده، ولقّب عالم الحجاز، توفي سنة (817 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 8/ 92. (3) المصدر نفسه: 3/ 139. (4) ابن حجة: خزانة الأدب ص 348.

وزهير والمطعم بن عديّ ... وأبو البختريّ من حيث شاؤوا نقضوا مبرم الصّحيفة إذ شد ... دت عليهم من العدا الأنداء أذكرتنا بأكلها أكل منا ... ة سليمان الأرضة الخرساء «1» وقد يأتي البطء في الأسلوب، وضعف الإيقاع الشعري من طول اشتغال الشاعر بالنثر والعلوم الآخرى، مثل الشهاب محمود الكاتب المشهور، والذي نظم ديوانا في المدح النبوي، فظل أثر اشتغاله بالكتابة ظاهرا في شعره، وخاصة حين يميل إلى النظم، ومن ذلك قوله في مقدمة مدحة نبوية: كلّ يوم تنوي الرّحيل مرارا ... ثم تغدو تلفّق الأعذارا وتديم الأسى وأنت الذي فر ... رطت حتى صار اللّقاء ادكارا وتوالي البكاء والدّمع لا يد ... ني إذا ما قعدت منك المزارا ثم لا ضعف إذا حثّك الشّو ... ق إلى القرب شامك الأقطارا ودخول في السّنّ كدّر في عي ... نك إدراكه الأمور الكبارا «2» فالنثرية تخيم على هذا الشعر، وتقلل من حدة إيقاعه. ويزيد هذا الميل إلى النثرية في قصيدة لشاعر من القرن التاسع يدعى (الحكيم الرشيدي الأسلمي) قيل إنها من بحر (السلسلة) ، يكاد الوزن فيها لا يستبين، ومنها قوله: يا سعد لك السّعد إن مررت على البان ... عرّج فضيا البدر في المنازل قد بان

_ (1) ديوان البوصيري: ص 55، الأنداء: جمع نادي. (2) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 96.

قل صبّ من الصّبّ مدمع وإذا ما ... أقبلت على الحيّ حيّ دارا وسكّان دار جمع الله شملها بنبيّ ... من خير نزار ومن معدّ وعدنان «1» وبحر السلسلة من «بحور الشعر المولّدة التي استحدثت في العصر العباسي، حينما أحكمت أواصر الصلة بين العرب والفرس، واطلعوا على آدابهم وشعرهم، ولبحر السلسلة وزنان: الأول: تن مستفعلن مستفعلن والثاني: فعلن فعلاتن مستفعلن فعلاتن» «2» . فهذا البحر الذي يندر استخدامه، والذي يلائم الحديث والروايات على ضعف في إيقاعه الموسيقي، اختاره الشاعر ليأخذ حريته في بسط القول في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يعد جديدا نوعا ما، مثلما عدّ الأدباء قول ابن الوردي المضمّن شطرا من قصيدة للبهاء زهير: يا ألطف مرسل كريم ... (ما ألطف هذه الشّمائل) من يسمع لفظها تراه ... كالغصن مع النّسيم مائل من بحر جديد اخترعه البهاء زهير، وزنه (فعلن متفاعلن فعولن) ، إلا أن الصفدي أرجعه إلى البحر الوافر، وقال: «دخل فيه العقص، وهو اجتماع الخرم والنقص، فيخلفه مفعول بتحريك اللام، فيصبح وزنه (مفعول مفاعلن فعولن) » «3» . فشعراء المدح النبوي الذين حرصوا على ذكر الروايات والمعجزات، والمحافظة

_ (1) المجموعة النبهانية: 4/ 217. (2) ابن الحنبلي: در الحبب، حاشية ص 1/ 116. (3) الخفاجي: نسيم الرياض 1/ 130، والصفدي: الغيث المسجم 1/ 56.

على ألفاظها، جاءت قصائدهم خافتة الجرس، بطيئة الإيقاع، باهتتة الموسيقا، وكذلك قصائد الشعراء العلماء الذين لم يعانوا النظم طويلا، ولم يمتلكوا موهبة شعرية كبيرة، وطال اشتغالهم في علومهم، فقصائدهم تميل إلى النثرية وأدى قصرهم للروايات على الدخول ضمن الشكل الشعري إلى الإخلال بائتلاف المعنى مع الوزن، الذي يقتضي أن «تأتي المعاني في الشعر على صحتها، لا يضطر الشاعر الوزن إلى قلبها عن وجهها، ولا خروجها عن صحتها» «1» . لكن شعراء المدح النبوي لم يكونوا جميعا على مثل هذه الحال، فكان كثير منهم أصحاب مواهب كبيرة أصيلة، وكانوا يذهبون في شعرهم مذاهب الشعراء الذين سبقوهم، فنظموا الأراجيز، والقصائد ذات البحور القصيرة الرشيقة، مثل قول الصرصري من مشطور الرجز: الحمد لله على الجسيم من فضله المختصّ والعميم أرشدنا للمنهج القويم بعبده ذي المنظر الوسيم محمّد ذي الخلق العظيم عليه منه أفضل التّسليم «2» فالإيقاع واضح، والوزن ظاهر، والموسيقا بارزة، تشد السامع وتجعله يترنّم بالقصيدة.

_ (1) ابن أبي الإصبع: تحرير التحبير: ص 223. (2) ديوان الصرصري: ورقة 94.

ومثل هذا قصيدة أخرى للصرصري، تسيل عذوبة، وتطفح بالموسيقا الشعرية التي تتأتى من الوزن وعلاقة الألفاظ واختيارها، بدأها بقوله: أغراه بنجد لوّمه ... فبدا ما كان يكتمه لو لاقى منه معنّفه ... ما لاقى أصبح يرحمه أنّى يلحق صبّ قلق ... مشغوف القلب متيّمه إنّ المغرى بهوى طلل ... لقتيل مطلول دمه «1» والقصيدة كلها على هذا النحو من رشاقة اللفظ وخفة الوزن وعذوبة القافية الملائمة للإنشاد، تزيد السامع نشوة على نشوة المعنى، يجتمع فيها الفن الشعري الأخّاذ والمعاني القريبة من النفس، والتي تثير شجونها ومكامن الانفعال فيها. وللصرصري مدائح أخرى مماثلة، تجمع خفة الوزن وعذوبة اللفظ ورشاقته، ويظهر أن الصرصري وجد في الأوزان الخفيفة ما يلبي حاجة الإيقاع الداخلي في نفسه، وما يلائم مجالس الإنشاد، مثلما وجد في البحور الطويلة ما يعبّر عن أفكاره، ويتسع للمعلومات الكثيرة التي أودعها مدائحه النبوي، ومن المرجح أن الإنشاد ومجالسه قد جعل شعراء المدح النبوي يجنحون في قصائدهم نحو أشكال تلبي حاجة المنشدين، وتفي بما تتطلبه هذه المجالس، لذلك أخذوا ينظمون قصائدهم على الأوزان الخفيفة، ويقطّعون أبياتها تقطيعات إيقاعية، يسهل معها إنشادها بمصاحبة الآلات الإيقاعية. ومن هذه القصائد قصيدة للبوصيري، يقول فيها: الصّبح بدا من طلعته ... واللّيل دجا من وفرته فاق الرّسلا فضلا وعلا ... أهدى السّبلا لدلالته

_ (1) المجموعة النبهانية: 4/ 53.

كنز الكرم مولى النّعم ... هادي الأمم لشريعته نال الشّرفا والله عفا ... عمّا سلفا من أمّته «1» فلم يكتف البوصيري بالوزن فقط، وإنما زاد على ذلك، فقطع كل شطر إلى جزئين، وجعل للبيت قافية داخلية بالإضافة إلى القافية العامة التي تنظم الأبيات، فجعلها مموسقة موقعة، وكأنه وضع في ذهنه كيف ستنشد، أو أنه وضعها لتلبي حاجة مجالس الإنشاد. وقد اقتربت قصيدة البوصيري من التشريع الذي عرف في ذلك العصر، وهو أن «يا بني الشاعر بيته على وزنين من أوزان القريض وقافيتين، فإذا أسقط من أجزاء البيت جزآ أو جزأين، صار ذلك البيت من وزن آخر غير الأول» . ومثّل ابن حجة لهذا الضرب من الشعر من بديعيته وبديعيات غيره، فقال مثل قولي في البديعية: طاب اللّقا لذّ تشريع الشّعور لنا ... على النّقا فنعمنا في ظلالهم فأخذ منه: طاب اللقا على النقا ... وهو من منهوك الرجز «2» فالتشريع يحتاج إلى جهد ذهني كبير، وإلى موازنة وملاءمة، وتصنّع شديد ليستقيم للشاعر الوزن الذي يمكن استخراج وزن آخر منه، وبقافية جديدة، وهذا ما لم يفعله الشعراء واكتفوا بالتقطيع الداخلي مثلما فعل البوصيري، وفعل ابن الموصلي في مدحته النبوية التي يقول فيها:

_ (1) ديوان البوصيري: ص 275. (2) ابن حجة: خزانة الأدب ص 119.

لولاه ما طلعت شمس ولا غربت ... كلّا ولا دحيت أرض ولا سطحت ولا السّماء سحّت ولا الجبال رست ... ولا البحار طمت ولا الصّبا نفحت ولا الحياة حلت ولا الغيوث همت ... ولا الجنان زهت ولا لظى لفحت «1» وإذا لم يتسن للشاعر نظم قصيدة لها خصائص القصائد السابقة، جاء إلى قصيدة قديمة فزاد عليها، وهذه الزيادة تقوي جرسها الموسيقي، وتهيئها لمجالس الذكر ومنشدي المدائح، وتتأتى هذه الزيادة بالتخميس أو التسبيع أو غير ذلك من التغييرات التي أجراها الشعراء على القصائد النبوية المشهورة وعندما وجدوا ما تحدثه هذه الإضافات من إقبال على مثل هذه القصائد، نظموا قصائدهم على هذه الأشكال، ومن التخاميس، تخميس على قصيدة للفزاري، جاء فيه: هو المصطفى المحبوب طبعا وقربة ... تقدّس ذاتا ثم قبرا وتربة أقول وأعنيه هوى ومحبّة ... أحبّ رسول الله شوقا وحسبة لعلّي غدا عن حوضه لا أحّلأ «2» ومن التسديس قول ابن العطار: صلّوا بأجمعكم على شمس الهدى ... صلّوا على بدر يزين المشهدا صلّوا عليه فمن رآه تشهّدا ... صلّوا عليه به الرّشاد تمهّدا أرضى النّزيل وبيّن التنزيلا ... صلّوا بكرة وأصيلا «3»

_ (1) الصفدي: الوافي بالوفيات 1/ 267. (2) الفزازي: ديوان الوسائل المتقبلة ص 6. (3) المقري: نفح الطيب 7/ 487.

ويستطيع القارئ أن يلحظ بسهولة أن هذه الأشكال الشعرية، وإن كانت كل قصيدة منها على وزن واحد فإنها تحمل طاقة موسيقية أكثر من القصيدة العادية، وهذا ناتج عن التقطيعات الداخلية، وعن تنوع القوافي داخل القصيدة الواحدة بتكرار منسجم، يشعر السامع بترتيب إيقاعي معين، يدخل البهجة إلى نفسه. ومن التنويع في وزن المدائح النبوية، الموشح الذي وجد ليلحن وينشد بمصاحبة الآلات الموسيقية، وهو يلائم مجالس الإنشاد والاحتفالات الدينية، التي أصبح من لوازمها قيام المنشدين بالترنم بقصائد دينية ومدائح نبوية، لذلك كان لا بد للوشاحين من أن يجعلوا المدح النبوي أحد موضوعات موشحاتهم، لأن المدح النبوي انتشر انتشارا عظيما، وشارك به كل من آنس في نفسه مقدرة على النظم، وفق ميوله وإمكاناته. ومن موشحات المديح النبوي موشح لابن الملحمي الواعظ، قال فيه: وترى الأعين تجري بانفساح ... دمعها الدّفّاق زائدات فوق أمواه البطاح ... تبلغ الأعناق أرتجي ربّي ويكفين الرّجا ... فهو الغفّار والنّبيّ المصطفى بدر الدّجا ... أحمد المختار مرشد الخلق إلى سبل النّجاح ... طاهر الأعراق ذا النّدى بحر العطايا والسّماح ... طيّب الأخلاق «1» فالميل إلى الإنشاد والموسيقا، جعل شعراء ذلك العصر يفتشون عن تنويع في الأوزان، يناسب احتياجاتهم ولذلك نشأت لديهم فنون شعرية ملحونة، مثل الزجل والمواليا، ولكل منها وزن معروف خاص به، أو عدة أوزان ولها قواف متعددة، «فمنها

_ (1) ابن شاكر فوات الوفيات: 4/ 112.

ما يكون له وزن واحد وقافية واحدة، وهو الكان وكان، ومنها ما يكون له وزن واحد وأربع قواف، وهو المواليا، ومنها ما يكون له وزنان وثلاث قواف، وهو القوما، ومنها ما يكون له عدة أوزان وعدة قواف، وهو الزجل» «1» . ومن يقرأ هذه الفنون في أيامنا هذه لا يستطيع أن يقيم وزنها، ولا يستطيع قراءتها على الوجه الذي وضعت فيه، فإن هذه الفنون وضعت لتلحن، أو وضعت على مقياس ألحان معروفة، فلولا الموسيقا لما فهمت، ولما عرف المقصود منها، ولما ظهرت لها أية مسحة من جمال، ولا ستغربنا كيف أغرم أهل ذلك العصر بمثل هذه الفنون. وقد استخدم أهل العصر المملوكي هذه الفنون أو بعضها في المديح النبوي، مثل الششتري الذي اقتصر ديوانه على الأزجال العامية والموشحات التي تميل إلى العامية، وكلها في التصوف ومدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك لابن زقاعة زجل ملحون في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، جعل مضمونه مثل مضمون المدحة النبوية، ووفق تسلسل المواضيع فيها «2» . وكانوا يسمون ما تضمّن مدحا نبويا من هذه الفنون مكفرا، لأنهم كانوا يعارضون به ما قيل في الغزل أو الخمر، يكفرون به ما أثموا بغزلهم وذكرهم للخمر. فالمديح النبوي نظم وفق جميع الأشكال الشعرية التي كانت معروفة في العصر المملوكي، ولم تقتصر على شكل معين، ولم تقتصر على وزن واحد، فأوزان الشعر العربي المعروفة نظمت بها المدائح النبوية، وكذلك الموشح والفنون الملحونة، وحاول شعراء المدائح النبوية الإفادة من كل عناصر الإيقاع والموسيقا في اللغة وأوزانها، ليفوا بحاجة المنشدين ومجالس الذكر.

_ (1) الحلي: العاطل الحالي ص 2. (2) ديوان ابن زقاعة، ورقة 26.

ولم يكن التنويع الذي حاول شعراء المدائح النبوية إجراءه على قصائد المديح النبوي في الوزن فقط، بل بالقافية أيضا، التي تمنح الشعر العربي جرسا موسيقيا إضافيا، ولذلك وجدنا قسما من الحركة الإيقاعية الذي تولد في المخمسات وغيرها، يرجع إلى تنوع القوافي وترتيبها على نحو معين، وألزم بعض شعراء المدائح النبوية أنفسهم بنظم قصائد رتبوا قوافيها ترتيبا هجائيا كما مر معنا، ونظموا قصائد بعدد حروف الهجاء جعلوا كل قصيدة على حرف منها، وتكلّفوا لذلك، وكدّوا أذهانهم في تحصيل القوافي وملاءمتها لمقاصدهم، فألزموا أنفسهم بما لا يلزم، وهو لزوم يختلف عن اللزوم المعروف في قوافي الشعر العربي، والذي لم تخل منه قصائد المدح النبوي، مثل قول الشرف الأنصاري في مدحة نبوية، مظهرا فيها لونا من اللزوم: قف بنجد وهضابه ... وابغ رضوان غضابه وانشدن لي فيه قلبا ... غال صبري بانقضابه حلّه جمر الغضا مذ ... حلّ جيران الغضابه «1» فالالتزام نوع من أنواع تلوين القوافي، يظهر فيها الشاعر مقدرته، وسعة معرفته باللغة، وهو من فنون الصنعة والتصنع التي يدلّ بها الشاعر على أقرانه، ويتكلف لإتمام قوافيه، كما نلاحظ في مقطوعة الشرف الأنصاري التي جاءت القافية فيها غامضة في البيت الأول وملفقة في البيت الثالث، ولا يوجد ما يلزمه بأن يفعل ذلك. ومن لزوم ما لا يلزم قول الصفي الحلي: بكم يهتدي يا نبيّ الهدى ... ولي إلى حبّكم ينتسب به يكسب الأجر في بعثه ... ويخلص من هول ما يكتسب

_ (1) ديوان الشرف الأنصاري: ص 84.

وقد أمّ نحوك مستشفعا ... إلى الله ممّا إليه نسب سل الله يجعل له مخرجا ... ويرزقه من حيث لا يحتسب «1» واللزوم لا يجمّل القافية، إن لم يكن يسيء إليها، فجمال القافية في أن تكون عفوية معبرة، متمّمة للمعنى متمكّنة، وقد رأينا في الأمثلة الكثيرة التي مرّت معنا عددا من القصائد، يعود جمال تعبيرها إلى قوافيها، ورأينا القصائد المتكلفة، تأتي بعض قوافيها لإقامة الوزن، واتساق قوافي القصيدة، ليس أكثر، فلا تتم معنى ولا تحسن وقع الصياغة في النفس، وخاصة عندما يختار الشاعر قافية صعبة، يعسر عليه الإطالة فيها، لذلك يستعين بالمعجم ليأتي بألفاظ قلّ استخدامها، فبدت غريبة، عسيرة الفهم، مثل قول الصرصري: لمن المطايا في رباها تنفخ ... كالفلك تعلو في السّراب وترسخ حملت على الأكوار كلّ مشمّر ... للمجد عن طلب العلا لا يربخ يا سيّد البشر الكريم نجاره ... يا من بنسبته سما متشولخ «2» ومثل هذه القوافي كثيرة في المدح النبوي، لأن بعض الشعراء نظموا مدائح نبوية على حروف الهجاء جميعها كما أسلفنا، ولذلك اضطروا إلى البحث المضني عن القوافي التي تفي بحاجتهم، وتكلفوا إثباتها. ومن هؤلاء ابن دريهم الثعلبي «3» ، الذي نظم قصيدة في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مؤلفة من ثلاثين بيتا، تقرأ على حروف المعجم كلها، وهو يظن أنه بذلك قد صنع ثلاثين

_ (1) ديوان الحلي: ص 86. (2) ديوان الصرصري: ورقة 28. (3) ابن دريهم الثعلبي: علي بن محمد بن عبد العزيز الموصلي، كان تاجرا عالما، درس في الجامع الأموي، وعمل في ديوان الأسرى، بعث رسولا إلى الحبشة، فمات في قوص سنة (762 هـ) ، له نظم وسط، كثير التعسف والتكلف. ابن حجر: الدرر الكامنة 3/ 106.

قصيدة في قصيدة واحدة، وليتمّ له ذلك، وليتغلب على مشكلة الوزن والقافية، حاول الاحتيال لذلك، والاجتهاد في إخراج كلمات القافية على ما جوّزه علماء العروض، فأتت القصيدة في غاية التكلف والتصنع، بدأها بقوله: إذا لم أزر قبر النّبيّ محمّد ... وأسعى على رأسي فإني مرجأ- معنّاه- أعتب- معنّت نبيّ له فضل على كلّ مرسل ... وآياته في الكون تتلى وتنشأ- وبشراه- تطرب- تنعت رقى في السّماوات والعلا فتشرّفت ... به ودنا من قاب قوسين ينبّأ- قرباه- اقترب- يثبت «1» ويمضي هكذا في قصيدته حتى ينهي أبياته الثلاثين، وبعد نهاية كل بيت يثبت ثلاثين قافية بديلة، وكأن القافية هي تحصيل حاصل، يمكن أن يأتي الشاعر بأية كلمة لها وزن مناسب وتنتهي بحرف القافية، ويثبتها، أما ارتباط القافية بمجمل كلمات البيت، وبالمعنى والصياغة والتعبير الشعري، فإنه أمر لا يعتد به. وهذه نتيجة الاتجاه نحو الصنعة المتكلفة، والشكلية الطاغية التي طبعت شعر بعض من شاركوا في نظم المدح النبوي. إلا أن هذه الشكلية في قوافي قصائد المدح النبوي، على الرغم من وجودها الظاهر، لم تطغ على المدح النبوي كله، فظل القسم الأكبر من المدائح النبوية طبيعيا في قوافيه، وبعضها وصل إلى حدّ الروعة في الخفة والطلاوة، والانسجام مع عناصر القصيدة كلها، مثل قصيدة البوصيري التي مطلعها: الصّبح بدا من طلعته ... واللّيل دجا من وفرته «2» ومثل قول الشهاب محمود:

_ (1) ابن دريهم الثعلبي: قصيدة في مدح الرسول، ورقة 2. (2) ديوان البوصيري: ص 275.

وكيف تخاف النّفس من دونها الرّدى ... وذاك النّبيّ الهاشميّ خفيرها محمّد المبعوث للخلق رحمة ... نبيّ الهدى هادي الورى ونذيرها وشافعها في الحشر عند إلهها ... ومنقذها من ناره ومجيرها «1» ولا تفوتنا الإشارة إلى أن شعراء المدح النبوي تابع بعضهم بعضا في قوافي قصائد المديح النبوي التي عورضت كثيرا، فقوافي قصيدة كعب بن زهير ترددت طويلا في قصائد المدح النبوي، وكذلك قوافي بردة البوصيري، وقوافي يائية ابن الفارض، فالمعارضة جعلت الشعراء يرددون قوافي بعينها، لا يحيدون عنها، وهذا ما أوقع بعضهم في الجمود، وخاصة بعد أن نشأت البديعيات التي التزم ناظموها قافية الميم المكسورة وهي القافية التي بنى عليها البوصيري قصيدته، وكذلك التزموا بوزن قصيدته، وهو البحر البسيط، حتى أضحى هذا الوزن وهذه القافية من ثوابت البديعيات التي لا يغادرها ناظموها، فارتبطت بالمدح النبوي عامة. فالمدائح النبوية ارتبطت بأوزان الشعر العربي المعروفة، والتي انطلقت بعد ذلك إلى تشكيلات وزنية مختلفة، وإلى الأوزان التي عرفها أهل العصر، لم تتحجّر أوزانها إلا في البديعيات. أما قوافيها، فإن الشكلية فيها كانت أكبر، تمثلت في لزوم ما لا يلزم، وفي نحت القوافي وتكلفها عند نظم القصائد على حروف الهجاء، وفي البديعيات أيضا. وبعيدا عن هذه الشكلية، حلّق بعض شعراء المديح النبوي في أوزان قصائدهم وإيقاعاتها وموسيقاها وقوافيها، فتكامل شكلها الفني، واتحد مع موضوعها السامي، لتكون من غرر قصائد هذا العصر، ومن غرر قصائد الشعر العربي، التي استمر الناس في إنشادها واستذكارها، والانفعال بها.

_ (1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 17.

القسم الثاني - الصياغة والأسلوب:

القسم الثاني- الصياغة والأسلوب: إن الطريقة التي يؤدي بها الشاعر أفكاره، أو التي ينظم فيها كلامه، هي التي تظهر مقدرته التعبيرية وتبيّن موهبته البلاغية، فلكل أديب أسلوب مميز في الكتابة قلما يتكرر. وقد بنيت شهرة كثير من الأدباء على صياغتهم للكلام، وسبكهم للجمل. وإلى جانب ذلك، فإن لكل عصر ميزات عامة، تجمع خصائص الأسلوب عند أدبائه، وتميزهم عن غيرهم من الأدباء الذين سبقوهم، والأدباء الذين أتوا بعدهم. ففي أدبنا العربي تدرج الأسلوب أو طريقة الأداء من البساطة في الجاهلية وصدر الإسلام، إلى الاهتمام به والجزالة والقوة في عهد بني أمية وصدر عهد بني العباس، ومن التنميق والعناية بتحسينه في عهد بني العباس إلى الصناعة في أواخر عهدهم، والتصنع فيما بعد، حتى إذا وصل الباحثون في تتبعهم للأسلوب إلى العصر المملوكي، حكموا عليه بالتكلف والضعف والركالة، وتسرب الألفاظ العامية إلى شعر الشعراء ونثر الكتاب، فهل هذا الحكم صحيح؟ إن التعميم في المسائل الأدبية لا يسلم، ويظلم، ولا يصيب كبد الحقيقة، فالأدباء في العصر المملوكي، تباينت طرقهم في التعبير، واختلفت أساليبهم في أداء مقاصدهم، يتساوى في ذلك الكتاب والشعراء، فليست كل كتاباتهم متصنعة، وليس كل شعرهم متكلفا، ففي الأدباء من راق أسلوبه وسلس، وفي الشعراء من جزل أسلوبه ورشق، وإذا كان في الأدب المملوكي ضعف وتكلف، فهو ظاهرة عامة موجودة في كل زمان ومكان، وليست مقصورة على العصر المملوكي وحده، إلى جانب أن ما نراه تصنعا وتكلفا لم يكن أهل العصر يرونه كذلك. ولهذا أسبابه ومسوغاته، منها عجمة الحكام الذين لا يتذوقون بلاغة الأدب، ولا يشجعون الأدباء على العناية بأدبهم، ومنها سيادة ذوق الزخرفة في مظاهر الحياة كلها، من اللباس والآنية، إلى السلاح والمبنى، ومنها انشغال الأديب عن أدبه بما يقيم أوده.

وربما عاد الإخلال اليسير بفصاحة اللغة عند بعض الشعراء إلى تقصيرهم في امتلاك اللغة امتلاكا قويا، وهذا لا يعود إلى عجز الشاعر عن تمثل اللغة، وإنما إلى الازدواج اللغوي الذي يعاني منه في حياته، فالناس من حوله لا يتحدثون باللغة العربية الفصحى، وهو يتعامل معهم بلهجتهم العامية، ولا يتحدث باللغة الفصحى إلا في مجالس محدودة أو إلى نفسه عندما يريد أن يعبر عما فيها شعرا، وهذا يقلل من تمكن اللغة من نفسه، ويضعف من قدرته على تصريفها في أغراضه، والتعبير بها عن مراميه، ويوقعه في الركاكة والخطأ، وربما قصد إلى ذلك ليمتّن الصلة بينه وبين الناس، فيحاول أن يقترب في تعبيره من أفهامهم، واللغة التي اعتادوا عليها. وإذا لم تكن اللغة التي ينظم بها الشاعر شعره لغة حياة، فإن ارتباطها بمشاعره وخياله يكون ضعيفا، فلا يأتي شعره كما يريد، ويصبح عاجزا عن أداء أفكاره ومشاعره أداء كاملا دقيقا، ويخرج أسلوبه مرتبكا، فيه آثار العامية التي تتعايش في نفسه مع الفصحى. ولذلك عاد الشعراء إلى الشعر العربي القديم، يحاكونه ويعارضون قصائده، ويضمّنون أبياته، ويستعينون به في التعبير عن أغراضهم، فجاءت بعض قصائدهم خليطا غريبا من الشعر القديم ومن صنعة عصرهم، فهم يريدون إظهار معرفتهم بالتراث الشعري، وبراعتهم في استخدامه، ليعطيهم ذلك نوعا من الأصالة، ويريدون إثبات مقدرتهم على اصطناع فنون البديع التي فتن بها أهل عصرهم. ويظهر هذا جليا في قول ابن نباتة، الذي عبّر فيه عن رغبته في إنشاء قصائد المدح النبوي: فهل لي إلى أبيات طيبة مطلع ... به مخلص لي من إسار شقائي أصوغ على الدّرّ اليتيم مدائحا ... أعدّ بها من صاغة الشّعراء

بيت زهير حيث كعب مبارك ... وحسّان مدحي ثابت ورجائي «1» فهو يداخل ما بين الإشارات التراثية والصنعة السائدة في عصره، ليكون من صاغة الشعراء، ولم يكن جميع شعراء العصر صاغة- كما يقول-، بل فيهم من نحا منحى الجزالة والتعبير القوي، وسار على طريقة الشعراء القدامى، بعد أن تمكّن من لغته وثقافته الأدبية، ومن هؤلاء ابن هتيمل، الشاعر الذي عاش في الجزيرة العربية، واستقر في مكة، وكان من أرومة عربية أصيلة، فإن شعره يسير على النهج العربي الأصيل في صياغته وشكله وطرق تعبيره، ويظهر أن عزلته النسبية في الجزيرة العربية قد صانت شعره من ظواهر الصنعة أو الركاكة والضعف، وله مدحة نبوية يقول فيها: لولا محبّة أهل الدّار والدّار ... ما غاض صبري وجفني ماؤه جاري ولا عكفت وأصحابي تعنّفني ... على العكوف على نؤي وأحجار وإنّما لي أوطار رزيت بها ... رعيا لها من لبانات وأوطار «2» وليس جميع الشعراء كابن هتيمل في توجهه الشعري الأصيل، إلّا أن بعضهم قد أبدى في شعره استعدادات مختلفة للذهاب في شعرهم مذاهب مختلفة، فهم قادرون على مضارعة الشعراء القدامى في أسلوبهم، وعلى استخدام صنعة عصرهم، وعلى النظم وفق طريقة العلماء، وهذا يثير العجب للوهلة الأولى إلّا أنهم أرادوا أن يعطوا لكل مقام مقالا، وأن يرضوا الأذواق المختلفة في عصرهم، وأن يثبتوا أنهم قادرون على المشاركة في طرق التعبير الشعري المعروفة في عهدهم كلها، ومن هؤلاء أشهر شعراء المدح النبوي البوصيري، الذي نجده يرقى في أسلوبه إلى أسلوب الشعراء العرب القدامى الأصيل، ونجده يشارك أهل عصره في كلفهم بالصنعة، ولا ينسى أن يشارك العلماء في نظمهم.

_ (1) ديوان ابن نباتة: ص 15. (2) ديوان ابن هتيمل: ص 62.

ومن شعره الجزل الذي يضارع به الشعر العربي القديم، قوله من قصيدة (تقديس الحرم من تدنيس الضرم) : دعوا معشر الضّلال عنّا حديثكم ... فلا خطأ منه يجاب ولا عمد وما ليّنت نار الحجاز قلوبكم ... وقد ذاب من حرّ بها الحجر الصّلد تدمّر ما تأتي عليه كعاصف ... من الرّيح ما إن يستطاع له ردّ «1» وتسلم الجزالة والقوة للبوصيري في أسلوبه، حين يتحدث عن السيرة والمعجزات، وهذا مقام النظم عند الشعراء، عند ما يريدون قسر الأحاديث والروايات على الانصياع للتعبير الشعري فتأبي، أما البوصيري، فإنه أحيانا يجيد ذلك، مثل قوله: وا غيرتا حين أضحى الغار وهو به ... كمثل قلبي معمور ومأهول وجلّل الغار نسج العنكبوت على ... وهن فيا حبّذا نسج وتجليل «2» ويضارع الصرصري البوصيري في تنوع أسلوبه وصياغته، فيذهب بها كل مذهب عرف في عصره، ومن أسلوبه الجزل الذي شابه فيه القدماء، قوله في مدحة نبوية، يصف فيها الراحل إلى الحجاز على طريقة القدماء، وكأنه يصف سبعا من سباع البر: ومنخرق السّربال يخترق الفلا ... ويقدم إقدام الشّجاع الدّلاهث حسام طويل السّاعدين شرنبث ... له بطش دلهاث حصور شرابث يخوض أهاويل الدّجى بجلاعد ... أمون السّرى بادي النّشاط حثاحث «3»

_ (1) ديوان البوصيري: ص 111. (2) ديوان البوصيري: ص 225. (3) ديوان الصرصري: ورقة 19- شرنبث وشرابث: غليظ الكفين والقدمين، وهو وصف للأسد- دلاهث: المقدام السريع وهو الأسد، حثاحث: سير سريع مضطرب.

هذا الأسلوب العربي الأصيل الذي يبدو غريبا عن العصر المملوكي، يجيده الصرصري، فيعود إليه بين المدحة والآخرى، لأنه أرقى أسلوب في نظرهم، وأرقى أسلوب هو الملائم لمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لذلك نجده يحافظ على أسلوبه الجزل الأصيل في مدحة أخرى، لا يختلف بين جزء وآخر من أجزاء القصيدة، مع طلاوة وعذوبة، قلما نجدها عند شاعر غيره، فيقول: وسترت حتى نمّ دمعي بالهوى ... وأبرّ دمع العاشقين نمومه فاعطف على قلب ملكت زمامه ... أنت الشّقاء له وأنت نعيمه وله قديم لا دواء لدائه ... وأرى الهوى يعيي الرّجال قديمه «1» وحتى الشعراء الذين تأخّر بهم الزمن، حاولوا أن يجاروا الأسلوب التقليدي، وأن ينظموا شعرهم على نهج سابقيهم، لتحقيق شيء من الأصالة والقوة في التعبير، مبتعدين عن الصنعة التي ملكت عليهم ألبابهم ومن هؤلاء النواجي الذي قال في إحدى مدائحه النبوية: محمّد أحمد المختار أشرف من ... دعا إلى طاعة الرّحن داعيه ومن هدانا إلى الإسلام متّبعا ... رضا الإله بتنزيل وتنزيه ومن أتانا بدين واضح فجلا ... غياهب الشّرك وانجابت دياجيه «2» فكأن شعراء المديح النبوي الذي أجزلوا صياغتهم، أرادوا أن يجعلوا قصائدهم رصينة مناسبة لعظمة مقام النبي الكريم وهيبته، فحاولوا مجاراة القصائد التي سمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أصحابه ومعاصريه.

_ (1) ابن شاكر: فوات الوفيات 4/ 306. (2) المجموعة النبهانية: 4/ 290.

إلا أن بعض شعراء المديح النبوي لم تصل متابعتهم للقدماء إلى شكل صياغتهم، ولم تصل بهم الصنعة إلى التعقيد، فحافظوا على طريقة وسط في التعبير، تأخذ من القديم بلاغته وصحته، وتأخذ من الجديد وضوحه وطرافته، إنه أسلوبهم الخاص الذي لم ينظروا عند صياغته إلى ما حولهم، ومن ذلك قول الشهاب محمود في جلاء مشاعر الراحلين إلى الروضة الشريفة قبل وصولهم وعنده: متى قال حادينا رويدا فبينكم ... وبين الحمى مقدار يومين أو أدنى وهبنا له شطر الحياة فإن أبى ... ولم يرض ما قد وهبنا له زدنا فلم يبق من آمالنا بعد فوزنا ... بذلك ما نأسى عليه إذا متنا «1» فهذا الأسلوب في التعبير الشعري هو ما أطلق عليه أدباء ذلك العصر (الرقة والانسجام) ، المتأتي من رقة الألفاظ ودقتها، وجمال التركيب والعبارات وائتلافها، وتموج الأبيات بالإيقاع والموسيقا. ونجد الجزالة وأصالة التعبير التي قلما انحرفت في المديح النبوي عند ما دحي النبي من المغاربة، الذين لم تفتنهم الصنعة، ولم تتسرب إلى شعرهم إلا تسربا خفيفا، وخاصة أولئك الذين لم يزوروا المشرق، ولم يقيموا فيه، فإنهم ظلوا ينظمون شعرهم على غرار الشعر القديم الذي وصلهم، وكأنهم كانوا بمعزل- نوعا ما- عن مركز تيارات الصنعة الأدبية في مشرق الوطن العربي. وقد امتازت مدائح المغاربة غالبا بالأصالة والقوة والجزالة، ومن ذلك قول ابن الجياب الأندلسي: ألا عدّ عن وصف الدّيار المواثل ... ودهر مضى لم تحظ فيه بطائل

_ (1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 86.

النظم:

ودع عنك تذكار الشّباب فإنّه ... زمان تقضى في ضلال وباطل فبادر إلى محو الذنوب بتوبة ... تعفّي علي آثار تلك الرّذائل فهل لك في إعداد زاد مبلّغ ... لنيل نعيم عند ربّك كامل بمدح رسول رفع الله ذكره ... وأوجده من خير خير القبائل «1» وهذا ما نجده في جل مدائح المغاربة النبوية، فإنها في معظمها مؤدّاة بأسلوب جزل ممتع، لم تنهكه الصنعة، ولم تتسلل إليه الركاكة، لا نشعر عند قراءته بالمعاناة والتعمّل، وإنما تجري نفس الشاعر على سجيتها لا يقلد ولا ينظر إلى أسلوب غيره، بل يعبّر بالطريقة التي سمحت بها ثقافته واستعداده وتمثّله لأساليب الشعراء القدامى. النظم: من الواضح تماما في المدائح النبوية، وجود بعض القصائد التي اقتربت في أسلوبها وصياغتها من المنظومات التعليمية، كلها أو أجزاء منها، فالشاعر يريد ذكر بعض المعاني في المديح النبوي، وهذه المعاني قد وردت في أحاديث وأخبار وروايات، فلا يقدر على إخراجها إخراجا شعريا، ولا يجرّدها من الألفاظ التي وردت بها، والسياق الذي جاءت به، فينزل الخبر على حاله مع تقديم وتأخير بما يلائم الوزن الشعري فقط، ويظل على هذا النهج، ينتقل من خبر إلى خبر، إلى أن تصبح القصيدة نظما لأخبار وروايات، ليس لها من الشعر إلا الشكل الخارجي والوزن والقافية، فالمهم عند الشاعر أن يدرج هذه الأخبار في قصيدته بأي شكل من الأشكال، وهو يظن أنه صنع شعرا استوفى فيه معاني المديح النبوي، أو أدرج فيه ما لم يذكره غيره، وخاصة عندما يكون الشاعر من علماء الدين، ويريد إظهار علمه، أو يلحّ عليه علمه للظهور في شعره، فالعلماء في ذلك

_ (1) ديوان ابن الجياب الأندلسي: ورقة 6.

العصر كانت لهم مشاركة واسعة في الأدب وكثير منهم كان لهم ذوق كبير فيه، إلا أن بعضهم كانت تنقصه الموهبة الشعرية، ومع ذلك لا يريد أن يترك هذا اللون من النشاط الثقافي أسوة بغيره، أو إظهارا لمقدرته، أو لأنه يرى العلماء يثبتون علومهم على شكل قصائد شعرية، ليسهل حفظها، وربما فعل هو ذلك، فسهل عليه النظم الذي لا يتعدى إقامة الوزن واستجلاب القافية، وهؤلاء لا يحسنون الشعر، ولا يحسنون إقامة عموده، لطول اشتغالهم بالمسائل العلمية واختلاف ذوقهم عن ذوق الأدباء، إلا أنهم يريدون أن يفوزوا برضا الله تعالى ورضا رسوله الكريم، فمدحوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأظهروا معجزاته، ورووا سيرته في مدائحهم، فظهر أسلوبهم على شيء من المعاظلة والركاكة والضعف، بسبب قسرهم لطريقتم في الكتابة على أن تكون شعرا، وافتقارهم للأدوات الشعرية، مثل قول القلقشندي في مدحة نبوية: عوّذت حبّي بربّ النّاس والفلق ... المصطفى المجتبى الممدوح بالخلق إخلاص وجدي له والعذر يقلقني ... تبّت يدا عاذل قد جاء بالملق يا عالي القدر رفقا مسّني ضرر ... فالله قد خلق الإنسان من علق كم طارق منك بالإحسان يطرقني ... مثل البروج التي في أحسن الطرق والقلقشندي محبّ قال سيرته ... في مدح خير الورى الممدوح بالخلق «1» أيستقيم هذا الشعر مع مكانة القلقشندي العلمية، وخبرته في أساليب الكتابة العربية؟ وما كان أغناه وأغنى أمثاله عن مثل هذا الشعر وقد وصلت عدوى النظم إلى الشعراء الكبار الذي عرفوا بشاعريتهم الفياضة، وإجادتهم للمديح النبوي من أمثال

_ (1) المقري: نفح الطيب 7/ 328.

البوصيري والصرصري وغيرهما، وكأن الشعراء أرادوا إثبات مقدرتهم على النظم ومنافسة العلماء في هذا اللون من الشعر، وأنهم قادرون على إيراد أكبر قدر من المعلومات حول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلننظر كيف نظم البوصيري في همزيته خبر المستهزئين برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كفار قريش: خمسة كلّهم أصيبوا بداء ... والردّى من جنوده الأدواء فدهى الأسود بن مطّلب أيّ ... عمى ميّت به الأحياء ودهى الأسود بن عبد يغوث ... أن سقاه كأس الرّدى استسقاء وأصاب الوليد خدشة سهم ... قصّرت عنها الحيّة الرّقطاء وقضت شوكة على مهجة العا ... صي فلله النّقعة الشّوكاء وعلا الحارث القيوح وقدسا ... ل بها رأسه وساء الوعاء فديت خمسة الصّحيفة بالخم ... سة إن كان بالكرام فداء «1» ويمضي البوصيري في الحديث عن الخمسة الذين نقضوا صحيفة قريش الداعية إلى مقاطعة بني هاشم، والقصيدة في معظمها سرد للسيرة والمعجزات، بأسلوب يبتعد عن طريقة الشعر في التعبير على الرغم من محاولات البوصيري لتحريك السرد في شعره بالتعقيب على الخبر الذي يرويه، يظهر التعجب أو يظهر المقصود من الحديث أو يضرب المثل، إلا أن كل ذلك لم يقرّب ما ينظمه من جو الشعر وطبيعة التعبير فيه التي تختلف عن طريقة التعبير في النثر عن الحقائق العلمية أو القصص التاريخية.

_ (1) ديوان البوصيري: ص 55.

والصرصري الذي أظهر شاعرية فياضة ومقدرة كبيرة في المدح النبوي، والذهاب به كل مذهب، لم يشأ أن يترك النظم، وكأنه عدوى تصيب كل شعراء المديح النبوي، أو أنها كانت مدار تفاخر وتبار وإظهار المقدرة والتميز، ولذلك نجده ينظم عقيدته في إحدى القصائد على طريقة العلماء في تقرير علومهم، وينظم السيرة والمعجزات، فيبرد أسلوبه، وتثقل صياغته، مثل قوله: تنكّست الأصنام عند ولاده ... كما نكّستها منه في الفتح إصبع لقد شرحت منه الملائك صدره ... وكان له من أبرك العمر أربع وكان ابن خمس والغمام تظلّه ... وفي العشر نور الشّرح في الصّدر يلمع وفي الخمس والعشرين سافر تاجرا ... بمال رزان للمفاوز يقطع إلى أن أرته الأربعون أشدّه ... فأضحى بسربال الهدى يتدرّع «1» ويستمر الصرصري في نظم السيرة، ويعدد المعجزات دون أن يشعر أنه ينظم شعرا، وربما إلفته للشعر جعلته ينسى ذلك، فهو يعبر بالشعر عن حاجاته، فلماذا لا يجعله نظما للسيرة النبوية؟ فالمضمون السامي يغفر للأسلوب ركاكته وثقله، وافتقاره لروح الشعر وروائه. أو هكذا كانوا يظنون، وإلا فما معنى أن ينظم شاعر كبير مثل الصرصري هذا الحديث على طريقة المحدثين، فيقول: ألا يا رسول المليك الذي ... هدانا به الله من كلّ تيه سمعت حديثا من المسندا ... ت يسرّ فؤاد الفقيه النّبيه رواه ابن إدريس شيخي الذي اس ... تقام على منهج يرتضيه

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 59.

بإسناده عن شيوخ ثقا ... ت نفوا عن حديثك زور السّفيه ومعناه أنّك قلت اطلبوا ال ... حوائج عند حسان الوجوه ولم أر أحسن من وجهك ال ... كريم فجد لي بما أرتضيه «1» لقد انتشر النظم عند شعراء المديح النبوي، وكأنهم شعروا أنهم لا ينظمون شعرهم الذي اعتادوا عليه، وإنما ينظمون شعرا آخر، وفق قواعد نظمهم المعروفة، وربما ظنوه فنا جديدا، فنا قصيصا شعريا، لكنهم لم يتلمسوا معالم هذا الفن، ولم يحتذوا فيه مثالا معروفا، يقتدون به، ولم يطلعوا على آداب الأمم الآخرى ولو حصل ذلك، أو لو وجد من يستمر في هذا النوع من النظم ويطوره، لكان لنا فن جديد، يضارع ما لدى الأمم الآخرى من القص الشعري الملحمي، لكن الأمور لم تسر في طريق التطور الصحيح، ولم تكن واضحة في الأذهان، وطغى عليها نظم العلوم وتقريرها شعرا، والذي منه في المديح النبوي ما نظمه بعض العلماء في بيان دعاء أو تقرير حال، أو تعداد ما يخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد نظم شاعر يدعى صالح بن الحسين خبر توسل آدم بالمصطفى في قوله: فقال إلهي امنن عليّ بتوبة ... تكون على غسل الخطيئة مسعدا بحرمة هذا الاسم والزّلفة التي ... خصصت بها دون الخليقة أحمدا فتاب عليه ربّه، وحماه من ... جناية ما أخطاه لا متعمّدا «2» فماذا في هذا النظم من الشعر والشاعرية؟ الأسلوب ركيك ضعيف، يكاد يكون نثرا ثقيلا، ننأى بالعلماء عن مثل هذا التعبير، ونربأ بهم عن مثل قول أحد القضاة «3»

_ (1) اليونيني: ذيل مرآة الزمان ص 324. (2) شرح الزرقاني: 1/ 45. (3) القاضي هو أحمد بن حسن بن عبد الله، توفي سنة (771 هـ) .

الحنابلة، وهو يظن أنه فاز بإبداع ليس بعده إبداع: نبىّ أحمد وكذا إمامي ... وشيخي أحمد كالبحر طامي واسمي أحمد أرجو بهذا ... شفاعة سيّد الرّسل الكرام «1» ولابن سيد الناس مقطوعات، هي من النظم العلمي الخالص، ولا يمكن أن تكون من المديح النبوي على وجه من الوجوه، وإن كان بعض أصحاب الكتب القدماء قد أدرجوها ضمن شعر المدح النبوي، منها ما قاله في سلاح النبي صلّى الله عليه وسلّم: من قضيب ورسوب ... راسب في الضّربات وانتضى البتار فيهم ... فلّ حدّ الباترات خلت لمع البرق يبدو ... من سنا ذي الفقرات ولنار المخذّم الما ... ضي لهيب الجمرات «2» ومنها ما قاله في أسماء دوابه: من لزاز ولحيف ... ومن السّكب المواتي ومن المرتجز السّا ... بق سبق الذّاريات ومن الورد ومن سب ... حة قيد العاديات «3» فالنظم أثقل كثيرا من المدائح النبوية، فبدا أسلوبها باردا، ليس له من حرارة الشعر نصيب، وكثير منه ركيك ضعيف، ابتعد ببعض القصائد عن الشاعرية فلم يبق لها من

_ (1) ابن تغري بردي: المنهل الصافي 1/ 270. (2) الصفدي: الوافي بالوفيات 1/ 92. (3) المصدر نفسه: 1/ 90.

التصنع:

الشعر إلا هيكله الخارجي من وزن وقافية. ولم يكن للنظم محاسن تذكر، تضاف إلى صياغة الشعر العربي وأسلوبه، بل كان مضرا أكثر منه مفيدا، ولو عزلت القصائد التي غلب عليها النظم عن بقية المدائح النبوية، وضمّت إلى فن المنظومات العلمية، لكان ذلك أقرب إلى الصحة. التصنع: والأسلوب الثالث الذي برز في المدائح النبوية، هو الأسلوب المتصنع، الذي ساد في العصر المملوكي، فالأديب يجهد عقله في تنميق صياغته وزخرفتها، وحشد أكبر قدر ممكن من المحسنات البديعية التي فتنتهم. الكاتب المولع بالصنعة، غدت كتابته جمعا لضروب البديع لا أكثر، والشاعر الذي ملكت عليه الصنعة نفسه، أضحى شعره إقامة الوزن للمحسنات البديعية، ولذلك كان لا بد من أن يظهر هذا الأسلوب في المدح النبوي، طالما أنه يعد من مفاخر الشعراء، ومما يتباهون به، إظهارا لمقدرتهم، وإثباتا لإبداعهم. ولم تكن هذه المحسنات البديعية مما أتى به أهل هذا العصر، بل هي معروفة موجودة منذ العصر الجاهلي لكنها كانت تأتي عفو الخاطر، ولم يتنبه عليها إلا الشعراء العباسيون الذين أخذوا يقصدون إليها قصدا، يجملون بها صياغتهم، ولم يكثروا منها، فبقيت مبعث جمال لشعرهم، لكنها أخذت تزداد في الشعر شيئا فشيئا حتى أثقلته. وقد شارك هواة البديع في المديح النبوي، فجاءت قصائدهم مثقلة بفنونه، يجورون على المعنى والأسلوب معا، طلبا لهذه الزينة، فلا يأتون بشيء، بل إنهم يسيؤون من حيث يظنون أنهم يحسنون، ووصل الأمر ببعضهم إلى حد الربط بين المديح النبوي وفنون البديع، فخرجوا بقصائد نبوية، هي البديعيات، تجمع ما بين مدح النبي، وذكر ضروب البديع والتمثيل لها.

وظن هؤلاء أنهم يمدحون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأفضل ما عندهم، فزادوا في اصطناع بديعهم، حتى اقتربوا من نظم هذه الفنون في مدائحهم النبوية، وقد بدأ اصطناع البديع في المديح النبوي مع رسوخ هذا الفن واستقلاله، وزاد بتقدم الزمن إلى أن أصبح في نهاية العصر المملوكي مقترنا به، وكأن مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يتم إلّا بفنون بديعهم الذي أهدروا فيه طاقاتهم الذهنية، وظلموا في سبيله ملكاتهم الشعرية. ولا شك أن شعراء المديح النبوي تفاوتوا في احتفالهم للبديع حسب مذهب كل منهم في الشعر، وحسب ترتيبهم الزمني، فنجد شعراء قد أضربوا عن استخدام البديع في شعرهم، فلا نعثر عليه عندهم إلا لماما، وخاصة أولئك الذين كانوا بمعزل عن مركز الحركة الأدبية في الجزيرة العربية أو المغرب العربي، ونجد شعراء آخرين يدرجون بعض فنون البديع في شعرهم دون إكثار أو افتعال، فهم يستخدمونها حين تكون الفرصة مواتية وحين لا تسيء إلى الصياغة أو المعنى، ونجد شعراء غيرهم، كل همّهم حشد البديع حشدا في قصائدهم، دون أن يعيروا صياغتهم أو معانيهم أي اهتمام. ومن أمثلة الأسلوب الموشى بفنون البديع في المديح النبوي، دون أن يفقد رونقه وانسجامه، قول ابن أبي الفرج الجوزي «1» : يكفيه أنّ الله جلّ جلاله ... آوى، فقال: (ألم يجدك يتيما) درّ يتيم في الفخار، وإنّما ... خير اللآلي أن يكون يتيما «2»

_ (1) ابن الجوزي: يوسف بن عبد الرحمن بن علي البكري البغدادي، أستدار الخلافة المستعصمية وسفيرها، ولي الحسبة ببغداد، وأنشأ الرسائل الديوانية، وله نظم جيد، توفي سنة (656 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 287. (2) القنوشي: التاج المكلل ص 246- الآية أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً، سورة الضحى، آية (6) .

وإذا نظرنا إلى مشاركة الشعراء الكبار في العصر المملوكي، والذي عرفوا بولعهم بفنون البديع، وجدنا شعرهم حافلا بضروب الصنعة التي تثقل أحيانا، لكنهم ظلوا محافظين على وضوح المعنى بشكل عام، وظل ظلّ الصنعة قاصرا على أبيات بعينها، ولم يغط القصيدة كلها. ومن أمثلة هذا الأسلوب المتصنع قول ابن نباتة في مدحة نبوية: ولي سعاد شجون ما يغبّ لها ... إما خيال وإلا فهو تخييل أبكي اشتياقا إليها وهي قاتلني ... يا من رأى قاتلا يبكيه مقتول مسكيّة الخال أمّا ورد وجنتها ... فبالجنى من عيون النّاس مبلول مصحّح النّقل عن شهد وعن برد ... لأنه منهل بالرّاح معلول «1» فالصنعة هنا هي هاجس الشاعر، وهو يفكر في مدح سيد الخلق، أو أنه استحضر هذه الصنعة عند مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظانا أنه يحسن عملا، فيصطنع ألفاظ البديع، ويضمّن شعر القدماء، ويستخدم مصطلحات العلوم وغير ذلك من الأمور التي رآها ورآها معاصروه فنا عظيما، وإثباتا لمقدرة الشاعر البلاغية أو البديعية. ولننظر كيف يتلاعب بالألفاظ في مدحة نبوية ثانية، فيقول: شجون نحوها العشّاق فاؤوا ... وصب ماله في الصّبر رآء وعين دمعها في الحبّ طهر ... كأنّ دموع عيني بيرحاء ولاح ماله هاء وميم ... له من صبوتي ميم وهاء كأنّ الحبّ دائرة بقلبي ... فحيث الانتهاء الابتداء

_ (1) ديوان ابن نباتة: ص 372.

لنا سند من الرّجوى لديه ... غداة غد يعنعنه الوفاء «1» فما هي الإضافة في الصب الذي ليس له في الصبر راء؟ وما هو الجديد في كلمة (همّ) لتصبح حينا هاء وميما وحينا ميما وهاء؟ ولو وصف مهندس الحب، فهل يشبهه بالدائرة في افتقار شكلها إلى بداية محددة أو نهاية معروفة؟ وما هو موطن الجمال في العنعنة التي تملأ أسانيد الحديث الشريف، لينقلها ابن نباتة إلى الشعر؟ إنه الأسلوب المتصنع الذي أعجب أهل ذلك العصر، فتفاخروا في تعقيده. وكلما تقدم بالمدائح النبوية الزمن، زادت الصنعة فيها ثقلا، حتى أخفت المعاني والمشاعر، فلم يبق من الشعر إلا الوزن والقافية، وهذه الصنعة التي يعجب المرء كيف كانت تستهوي أهل ذلك العصر، فالنواجي مثلا لا يترك مدحة نبوية له دون أن يغلّفها بضروب الصنعة البديعية، مثل قوله في قصيدة: لعروض جفاك بحور هوى ... بدوائر هجرك تضطرب وبهالة وجهك دائرة ... لمعاني حسنك تجتلب وبجسم الصّبّ جرت علل ... وزحاف ليس له سبب «2» ولا ندري إن كان الشاعر يتغزل أو يتحدث عن العروض ودوائره وعلله وزحافاته وأسبابه وأوتاده، ولا ندري كيف كان الناس يستحسنون هذا الغزل، وكيف يتخيلون المحبوب من خلال هذه المصطلحات العروضية التي لا تجانس الشعر ولا تلتقي معه؟ وقد أفرغ جعبته من مصطلحات الحديث والفقه في مقدمة مدحة أخرى، طلبا للإدهاش وإظهار المقدرة، حين قال:

_ (1) ديوان ابن نباتة: ص 1. (2) المجموعة النبهانية: 1/ 470.

ما زال مسعر قلبي من طريق أبي الز ... زناد عن واقد الخدّين يرويه وسلسل الدّمع أخبار الغرام فقل ... ما شئت في ابن معين أو أماليه صب تفقّه في شرع الهوى فغدا ... إمام مذهب أهل الحبّ مفتيه في كلّ يوم له درس يطالعه ... في صفحة الهجر بالذّكرى ويلقيه «1» ولا يخفى على المطلع ما في هذا الأسلوب من تصنع وتكلف، وانحراف عن النهج السليم في التعبير عن المشاعر الرقيقة التي ضاعت بين مصطلحات الحديث وأسماء رواته، وبين الفقه ومذاهبه، والدراسة والمطالعة والإلقاء، وغير ذلك من مصطلحات العلوم، والتي أظن أن الشاعر كان يحرص على إيرادها ليثبت معرفته الواسعة بهذه العلوم، وطول باعه فيها. لقد أضاع العواطف والأفكار بين الأسماء التي أراد إثبات مهارته في استخدامها للتعبير عن فكرته، وبين مصطلحات العلوم، فلم يعد التعبير العربي الأصيل موجودا عنده، ولم يعد مذهب العرب في كلامهم كافيا ليؤدي ما بنفسه، لقد ضاقت عليه مذاهب القول كلها، ولم يعد أمامه إلا أسلوب المتصنع الملتوي الذي لا يلقيق بالنثر فكيف بالشعر. وهذا كان دأب شعراء الصنعة الذين أحالوا صياغة الشعر إلى تكلف وتعقيد ثقيل، فلم يكن النواجي وحيد دهره في هذا الأسلوب، بل شاركه فيه غير واحد، تنافسوا على الفوز بمصطلح علمي، يعبّر فيه الشاعر عن أفكاره ومشاعره، ويزهو بعد ذلك بتجديده. ومن هؤلاء الشهاب المنصوري الذي قدّم لإحدى مدائحه النبوية بقوله: فأضالعي قفص وكلّ بلابلي ... ممّا لقيت عليّ فيه نوائح

_ (1) المجموعة النبهانية: 4/ 289.

لا غرو أن رقص الفؤاد لذكرهم ... قد ترقص الأطيار وهي ذبائح «1» فالشاعر أراد التشبيه، فعبر عنه تعبيرا مباشرا، قبل أن يختمر في ذهنه، فماذا كانت النتيجة في التعبير؟ ركاكة وضعفا، لأنه ينقل كل فكرة أو كل جزء من فكرة نقلا عن غيره، قبل أن تصبح الأفكار والعبارات من ثقافته الشخصية، لذلك يستعين على أداء مشاعره بهذه الطريقة العرجاء، وهذا ما فعله في المدح النبوي في قصيدة أخرى، حيث قال: خصّك الله باختصار البلاغا ... ت فأدّيتها بلفظ وجيز وتميّزت فانتصبت لمولا ... ك بعزم نصبا على التّمييز عفت دنيا تبرّجت لك حسنا ... كزليخا تبرّجت للعزيز «2» فهذا الأسلوب انحرف به صاحبه عن السليقة، وعن النظم العربي للكلام، وطريقتهم في التعبير الواضح المستقيم، الذي لا يتكئ على أشياء خارجية لإيصال المعنى إلى المتلقي. وسار ابن مليك في تصنعه من القضاء والحرب إلى الكتابة والخط، وهو في ذلك كله يتحدث عن الغزل والمدح، ويظهر أن مسألة الخط والكتابة قد استهوته، فذكر مصطلحاتها في مدحة نبوية، وقال: أكاتب خطّ الوصل حرّر لي الضّبطا ... عسى مالكي في الحبّ أن يثبت الخطّا فنسخة خدّي اليوم بالسّقم قوبلت ... ألم تر فيها الدّمع قد أوضح الكشطا هو العاقب الماحي محا الكفر سيفه ... كذا قلم الشّرك انبرى وبه انقطّا

_ (1) المجموعة النبهانية: 4/ 334. (2) السيوطي: نظم العقيان ص 80.

كذاك حروف الخطّ قد نقطت له ... وقد كان لا يدري الهجاء ولا الخطّا «1» وربما كان الشاعر كاتبا رسميا، يحرر (الضبوط) كما يفعل رجال الشرطة الآن، ويتثبت من صحة الخط والتواقيع، ليظهر إذا كان في الكتاب كشط أو تغيير، فنقل مصطلحات الكتابة إلى الغزل والمدح النبوي، فقلبت الأمور عنده وعند غيره من شعراء هذا المذهب، فبعد أن كان التعبير الطبيعي هو الأساس، والصنعة زيادة طفيفة لتجميل التعبير وتحسينه، أضحت الصنعة هي الأساس، والتعبير الطبيعي لوصل قطع الصنعة، وربطها ببعضها. ولذلك مالت الصنعة بكثير من الشعراء إلى الركاكة والضعف والخطأ، وخاصة حين يستخدمها من لا باع له بالشعر ولا ممارسة، مثل ابن زقاعة الذي تعانى الخياطة ثم طلب العلم، وأضحى أحد المتصوفة، وترك ديوانا صغيرا كله مواجد صوفية ومدح نبوي إلا أن شعره ضعيف ركيك، أثقلته الصنعة، ومن ذلك قوله: غصن بان بطيبة ... في حشا الصّبّ راسخ من صباي هويته ... وأنا الآن شائخ عجبا كيف لم يكن ... كاتبا وهو ناسخ أحمد سيّد الورى ... وبه شاد شالخ عقد إكسير ودّه ... ليس له عنه فاسخ «2» فماذا في هذا النظم من الشعر، الأسلوب ضعيف، والألفاظ ليست فصيحة أو صحيحة، والتعبير مهلهل يقرب من العامية، ومع ذلك يصرّ هذا الشاعر على استخدام

_ (1) ديوان ابن مليك الحموي: ص 18. (2) السخاوي: الضوء اللامع/ 131.

فنون البديع في شعره، فكانت النتيجة قصيدته تلك وقصائده الآخرى، ومنها قصيدة يتلاعب فيها بالحروف على طريقة المتصوفة، فيقول: أقسم بالطّاء قبل هاء ... والسّين والميم بعد طاء والألف الأوّل المبتدا ... على حروف من الهجاء أوّل فتحي بفاتحات ... من آل حاميم في ابتداء والباب منها إنّا فتحنا ... وحارس الباب حرف فاء «1» فهذا هو الأسلوب الرمزي المعمّى الذي لحقه الضعف والركاكة، ونخرته الصنعة البديعية التي لم تستخدم استخداما حاذقا، فأضحى التعبير بعيدا عن الفهم، قريبا من العامية، فيه من الركاكة ما يجعل تسميته شعرا موضع تساؤل، بل يجعلنا نتساءل إذا كان ناظم هذا الشعر في وعيه الكامل حين نظمه، ولا بأس أن نسيء الظن بالذين احتفلوا به. إلا أن مثل هذا الأسلوب الركيك ليس شائعا في المدح النبوي، واقتصر على بعض المتصوفة الذين جاؤوا من بيئات شعبية، وتوجّهوا بشعرهم إلى هذه البيئات؛ وأن أنهم لم يكن يدور بخلدهم أن يكتب هذا الشعر ويحفظ ليصل إلينا في دواوين شعرية، احتفل بها بعض الباحثين، وأشاعوها لمضمونها السامي، أو لغرض في أنفسهم، أما باقي شعر المديح النبوي، فإنه صحيح فصيح، تندر فيه الركاكة والضعف، وتقتصر على نظم بعض العلماء الذين لم يؤتوا من موهبة الشعر حظا وافرا، مثل ابن حجر في مدحته التي يقول فيها: وأزال بالتّوحيد ما عبدوه من ... صنم برأي ثابت وصليب لم يحتموا من ميم طعنات ولا ... ألفات ضربات بلام حروب «2» .

_ (1) ديوان ابن زقاعة: ورقة 4. (2) المجموعة النبهانية: 1/ 460.

الألفاظ:

وما كان أغنى ابن حجر عن مثل هذا الشعر، ولكنها الرغبة في المشاركة في المديح النبوي بأي شكل من الأشكال. فصياغة المدائح النبوية تفاوتت تفاوتا كبيرا، ما بين القوة والجزالة، والسلامة والانسجام، وبين النظم والتصنع البديعي، والتكلف والضعف لأن شعراء المدائح النبوية عكسوا في شعرهم المذاهب الأدبية في عصرهم، وتوجّه كل منهم. الألفاظ: يختلف الشعراء في طريقة تعبيرهم، وفي الألفاظ التي يميلون إلى استخدامها في شعرهم، بحسب الموضوع الذي يتناوله الشاعر، وبحسب البيئة التي عاش فيها، وبحسب المتلقي لهذا الشعر. فشعراء البادية يميلون إلى جزالة اللفظ والإغراب فيه، وخاصة الرجّاز منهم، وهناك مواضيع لا يلائمها إلا التعبير الفخم، والألفاظ الطنانة، ومواضيع أخرى يميل التعبير عنها إلى السهولة والوضوح. وترتبط لغة الشاعر بمقدرته اللغوية، وثقافته العامة، والمصادر التي استقى منها لغته، وبذلك يتفاوت شعراء المديح النبوي تفاوتا عظيما، لأن بعضهم أخذ اللغة عن شيوخ ثقات، فأتقنها وأتقن استخدامها وبعضهم كان في عزلة أو شبه عزلة عن المؤثرات التي تضعف ملكته اللغوية، وبعضهم لم يؤت من الثقافة اللغوية إلا شيئا يسيرا، وبعضهم تنازعت لغته مؤثرات متناقضة، مثل مجالس العلم والحياة العامة، هناك يستقي اللغة الفصحى ويستخدمها، وهنا يتحدث إلى الناس باللهجة العامية، فيظهر أثر هذا وذاك في شعره. ولسنا نأخذ على بعض الشعراء ميلهم إلى السهولة والرقة في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم لم يكونوا يمدحون مدحا تقليديا، بل كانوا يعبرون عن مواجدهم وأرق

مشاعرهم الدينية، فتجاوزوا في المديح النبوي التقسيمات السابقة التي كانت تخص المدح بالجزالة والفخامة، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس سيدا أو بطلا فحسب، وإنما هو بالإضافة إلى ذلك هاد وحبيب ومنقذ، تهفو إليه النفوس بخشوع وقداسة، فحقّ لمادحيه أن يفخّموا وأن يرققوا، وأن يجزلوا وأن يسهلوا. ويظهر أن شعراء المدح النبوي في معظمهم كانوا في بداية أمرهم يميلون إلى التفخيم والإغراب في ألفاظهم، وهذا ما لاحظه الوتري، الذي قال في ذلك: «ورأيتهم أيضا قد مزجوها بألفاظ لغوية، لم يفهمها كثير من السامعين، ولا تطرب لها قلوب المشتاقين، فرققتها جهدي، وبذلت لها ما عندي، وأعرضت عن تلك الكلمات ما أمكنني، ويسر الله تعالى علي عوض ما أعوزني» «1» . وقد عبّر الصفي الحلي الذي مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقصائد عدة عن ذلك، فإن بعض الأدباء انتقدوا شعره بخلوه من الألفاظ الغربية، وكأنهم يعدون غرابة اللفظ من دلائل فحولة الشاعر، وسعة ثقافته، فهم لا يرضون إلا عن الشعر الذي يجهد الشاعر فيه فكره باستجلاب غريب اللفظ والصنعة المعقدة، وغير ذلك من الأشكال التي تدل على إطالة التفكير، وعسر المواءمة، ولذلك ردّ الصفي الحلي على هذا النقد بأبيات قال فيها: إنّما الحيزبون والدّردبيس ... والطّخا والنّقاخ والعلطبيس لغة تنفر المسامع منها ... حين تروى وتشمئزّ النّفوس وقبيح أن يسلك النّافر ال ... وحشيّ منها ويترك المأنوس إنّ خير الألفاظ ما طرب السّا ... مع منه وطاب فيه الجليس إنّما هذه القلوب حديد ... ولذيذ الألفاظ مغناطيس «2»

_ (1) الوتري: معدن الإفاضات ص 2. (2) ديوان الحلي: ص 624.

وليت الحلي لم يمثل لرأيه في الألفاظ، فقد كان مبدعا في إظهار وجهة نظره، لكنه صدمنا بأمثاله، فكيف تكون القلوب حديدا والألفاظ مغناطيسا؟ إنها الرغبة في الطرافة والإدهاش بأي ثمن. لقد كشف الحلي عن حال أهل عصره مع ألفاظ الشعر، فهم يستقونها من هنا وهناك، ومن مواضع ليس لها علاقة بالشعر من قريب أو بعيد، وهذا ما نلاحظه بكثرة في المديح النبوي، فكثير من الألفاظ التي تستخدم في قصائد المديح النبوي مستعارة من علوم ليس لها علاقة بالشعر، وإنما استخدمها الشعراء لإظهار معرفتهم ومقدرتهم، وللتفرد والإبداع كما يظنون، وقد مرّت أمثلة كثيرة على هذه الألفاظ التي استعاروها من الحرب وعلوم الدين والهندسة وعلوم اللغة، وكأن اللغة العربية وغناها الكبير بالألفاظ التي تعبر عن أدق المشاعر والأفكار قد أضحت عاجزة عن تلبية احتياجات هؤلاء الشعراء التعبيرية، فالتفتوا إلى العلوم المختلفة، يأخذون منها ما يحتاجون إليه، ويعوّضون بها ما لم تسعفهم به ثقافتهم اللغوية. ويبدو أن الأمر كان كالعدوى، فإذا ما استخدم شاعر بعض مصطلحات العلوم في التعبير عن أفكاره ومشاعره، وبدت طريفة مقبولة، يلهج بها الناس، أسرع الشعراء إلى مجاراته بمناسبة ودون مناسبة، ليحوزوا ما حاز، ويتميزوا كما تميز، وكان هذا اللون من التعبير يعد من فنون البديع آنذاك، وأطلق عليه البديعيون اسم (التوجيه) ، الذي عرّفه ابن حجة بقوله: «هو أن يوجه المتكلم بعض كلامه أو جملته إلى أسماء متلائمة اصطلاحا من أسماء الأعلام أو قواعد العلوم أو غير ذلك مما يتشعب له من فنون، توجيها مطابقا لمعنى اللفظ الثاني من غير اشتراك حقيقي بخلاف التوراة» «1» . وظهرت المتابعة في هذا الضرب من التعبير حين نظم ابن جابر قصيدة ضمنها أسماء سور القرآن الكريم، واستخدمها لتكوين معاني في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعدت هذه القصيدة من محاسنه وغرر قصائده، فهو يحاول التجديد في الشكل والصياغة، والتفنن فيها، ويحاول أن يغرب ويدهش، وفيها يقول:

_ (1) ابن حجة: خزانة الأدب ص 624.

في كلّ فاتحة للقول معتبره ... حقّ الثناء على المبعوث بالبقرة في آل عمران قدما شاع مبعثه ... رجالهم والنّساء استوضحوا خبره من مدّ للنّاس من نعماه مائدة ... عمّت فليس على الأنعام مقتصره أعراف نعماه ما حلّ الرّجاء بها ... إلا وأنفال ذاك الجود مبتدره «1» فالشاعر هنا يحاول قدر المستطاع الإفادة من معنى أسماء سور القرآن الكريم، لينسج مدحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يخفى في هذا الضرب من التعبير الشعري التكلف وتلفيق الألفاظ لتؤدي غرضه. وتابعه عدد من الشعراء في هذه الطريقة، فمدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باستخدام أسماء سور القرآن الكريم، ولا ندري ما الذي جعل الشعراء يحرصون على مثل هذا الضرب من التعبير، أو ليس في اللغة ألفاظ تفي بحاجاتهم التعبيرية؟ فلماذا هذا الإصرار على استخدام أسماء سور القرآن الكريم في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ نحن لا نجد إلا المسوغات السابقة التي تتلخص في الرغبة بالتفرد والإطراف، ومجاراة بعضهم بعضا، وربما كان للإيحاء الديني لأسماء السور القرآنية دافع للشعراء إلى استخدام الألفاظ الدينية أو التي تتعلق بالدين في موضوع ديني، هو المدح النبوي. إلا أن القلقشندي استطاع أن يحرك هذه الطريقة في النظم قليلا، وأن يحسن استخدام الألفاظ القرآنية في تعبيره الشعري عند مدحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنه لم يغال في الاعتماد على أسماء السور في قوله: عوّذت حبّي بربّ النّاس والفلق ... المصطفى المجتبى الممدوح بالخلق إخلاص وجدي له والعذر يقلقني ... تبّت يدا عاذل قد جاء بالملق

_ (1) المقري: نفح الطيب 7/ 324.

وزلزلت من غرامي كل جارحة ... وكلّ بيّنة تحكي لكم علقي يا عالي القدر رفقا مسّني ضرر ... فالله قد خلق الإنسان من علق «1» ولم تسلم لهؤلاء الشعراء صحة استخدام أسماء السور القرآنية في المديح النبوي دائما، وخاصة عند ما تستخدم للدلالة على نوع بديعي والتمثيل له، لذلك عقّب صاحب كتاب (إقامة الحجة على ابن حجة) على بيته التالي، بقوله: إبداع أخلاقه إيداع خالقه ... في زخرف الشعرا فاسمع بها وهم «معنى هذا البيت مختل اختلالا ظاهرا، لأنه أراد بقوله (زخرف الشعرا) السورتين الكريمتين، فليس لإضافة الزخرف إلى الشعراء معنى بوجه من الوجوه، ولا مجاورة بينهما في الترتيب التوفيقي» «2» . لقد أخطأ هؤلاء الشعراء طريقهم في الإفادة من ألفاظ القرآن الكريم، فأقصى ما يمكن أن يتحلّى به منطق بشر هو الاقتباس من القرآن الكريم، والإفادة من ألفاظه المشرقة، ولكن هؤلاء الشعراء تجاوزوا هذه النعمة إلى أسماء السور طلبا للطرافة والإدهاش، بيد أن بعض شعراء المدح النبوي، أفادوا من التعبير القرآني، فرصعوا به مدائحهم النبوية، مثل قول الصرصري في مقدمة مدحة نبوية، مسبحا الله تعالى وذاكرا آلاءه: وبأمره البحران يلتقيان لا ... يبغى على عذب مرور أجاج والفلك سخّرها لمنفعة الورى ... فجرين فوق المزبد العجّاج والله أحيا الأرض بعد مماتها ... بجدوبها بالوابل الثّجاج «3»

_ (1) المقري: نفح الطيب 7/ 328. (2) الحضرمي: إقامة الحجة ص 54. (3) ديوان الصرصري: ورقة 22.

ومن يتمعّن في هذا الشعر يدرك الفرق بين الشعر السابق الذي يعتمد على أسماء سور القرآن الكريم، وبين هذا الذي يقتبس من لفظه. فألفاظ القرآن الكريم هي أفضل ما استخدمه شعراء المديح النبوي في شعرهم، والقرآن الكريم أفصح المصادر التي أخذوا منها بعض ألفاظهم، إلى جانب ما أخذوه من الحديث الشريف والذي ظهر عند نظمهم للأحاديث الشريفة، وأخذهم للعبارات الشريفة، وقد مرّ معنا كثير من هذه الألفاظ عند ما مثلنا لموضوعات المديح النبوي ومعانيه. وإلى جانب مصطلحات العلوم والألفاظ التي أخذها شعراء المديح النبوي من القرآن الكريم والحديث الشريف، أخذوا ألفاظا وعبارات من التراث العربي، والشعر منه خاصة، وهذا ما ظهر لنا في مواضع سابقة، وخاصة عند ما يعارض الشاعر قصيدة قديمة، فيأخذ إلى جانب معانيها العبارات والألفاظ، ولكنه لا يستطيع الوصول إلى فصاحة ألفاظ الشاعر القديم، لأنه يجمع بينها وبين صنعة عصره، وطريقته في استخدام المصطلحات البعيدة عن الشعر، فإذا ما قارنا مقارنة بسيطة بين قصيدة كعب بن زهير (البردة) وبين بعض قصائد معارضيها، لوجدنا الفرق واضحا بين ألفاظ القصيدة الأولى، وألفاظ قصائد المعارضة: فابن نباتة يفتتح قصيدته التي عارض بها قصيدة كعب بقوله: ما الطّرف بعدكم بالنّوم مكحول ... هذا وكم بيننا من ربعكم ميل «1» أخذ عن مقدمة كعب (الطرف مكحول) في قوله: وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلّا أغنّ غضيض الطّرف مكحول «2»

_ (1) ديوان ابن نباتة: ص 372. (2) ديوان كعب بن زهير: ص 9.

فنقل ابن نباتة معنى كعب من وصف الحسناء إلى وصف نفسه، فحبيبة كعب طرفها مكحول، في حين أن طرف ابن نباتة لم يكتحل بالنوم، وهنا تبدو صنعة ابن نباتة، والتي أتمها بلفظ (ميل) الذي ورّى به عن المسافة والبعد، وأداة الكحل، فلم تبق ألفاظ كعب على فصاحتها عند ابن نباتة الذي أخذ عبارات كاملة من قصيدة كعب، مثل قوله في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: حتى أتى عربيّ يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول «1» أخذه عن قول كعب: إن الرّسول لسيف يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول «2» فنحن نرى أن تغيير ابن نباتة البسيط، قلّل من فصاحة الألفاظ واتساق المعنى على الرغم من محاولته الإضافة إليه. وجاء ابن مليك الحموي، فعارض قصيدة ابن نباتة، أي عارض المعارضة، ولم يعارض الأصل، ويظهر ذلك في الأمثلة التي عرضناها من قصيدة ابن نباتة، فابن مليك يقول في مقدمة قصيدته: لا تحسبوا طرفه بالنّوم مكتحلا ... ما الطّرف بعدكم بالنّوم مكحول «3» فابتعد أكثر عن الموضع الذي استخدمت فيه ألفاظ كعب استخداما صحيحا وأصيلا، وحتى عند ما نقل العبارة كاملة، فإنه ابتعد بها عن سياقها الأصلي، فقال: ماضي العزائم والأبطال في قلق ... مهنّد من سيوف الله مسلول «4»

_ (1) ديوان ابن نباتة: ص 374. (2) ديوان كعب بن زهير: ص 13. (3) ديوان ابن مليك الحموي: ص 26. (4) المصدر نفسه: ص 27.

فالفرق واضح بين قصيدة كعب والقصائد التي عارضتها، ولم تستطع أية قصيدة أن تقاربها في رصانتها ومتانة تراكيبها، ودقة عباراتها وفصاحة ألفاظها، فالشعراء لم يأخذوا اللفظ وطريقة استخدامه، بل أخذوا اللفظ، وراحوا يتلاعبون به ويستخدمونه استخداما جديدا، دون أن يتنبهوا على موضع استخدامه، والطريقة التي يدرج بها في الكلام. وإذا كان بعض شعراء المدح النبوي قد نشدوا اللفظ الفصيح من خلال المعارضة، فإن بعضهم قد حاولوا مجاراة القدماء في إيراد الألفاظ واستخدامها، واعتمدوا في ذلك على ثقافتهم اللغوية، وتمثّلهم للتراث العربي الأصيل، ومن ذلك أراجيز الشرف الأنصاري التي مدح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والتي أغرب فيها إغراب شعراء الرجز، فقال في إحداها: ومورد أحظى به التقاطي فكنت من فرط الفرّاط وذئبه متّصل العياط من جوعه منقطع النّياط أقعى لديّ مقعد المعاطي «1» فهذا الإغراب في اللفظ، يماثل إغراب القدماء، وطريقة استخدامه تقارب طريقة استخدامهم، دعا إلى ذلك هذا اللون من الشعر العربي، والشاعر هنا يثبت أنه قادر على الذهاب في اللغة كل مذهب، وأنه ليس بحاجة إلى استعارة مصطلحات من علوم أخرى، ليعبّر عن معانيه.

_ (1) ديوان الشرف الأنصاري: ص 292.

ويأتي في هذا السياق الإغراب في اللغة الذي قصد إليه الشعراء قصدا، أو دفعوا إلى ذلك نتيجة استخدامهم قافية قاسية، مثل قول الصرصري في خائية له: لمن المطايا في رباها تنفخ ... كالفلك تعلوا في السّراب وترسخ حملت على الأكوار كلّ مشمّر ... للمجد عن طلب العلا لا يربخ بلغت به أسباب همّته إلى ... ما دونه يقف الأعزّ الأبلخ «1» إن جزالة هذه الألفاظ وغرابتها، تبدو مقصودة ومتعمدة، وليست من طبع الشاعر وعفو خاطره، دعت إليها أسباب مختلفة. ولكن كثيرا من شعراء المدائح النبوية أظهروا مقدرتهم اللغوية، وفصاحة ألفاظهم دون أن يظهر ذلك ظهورا مقصودا ودون أن تفسد الصنعة أسلوبهم، وتقلل من فصاحة ألفاظهم، مثل قول الشهاب محمود في إحدى مدائحه النبوية، برشاقة وفصاحة: طاب المسير لنا فسيروا ... نعم المصير غدا نصير لو لم يكن قرب الحمى ... ما طبّق الآفاق نور ولما سرى نحو القلو ... ب على الوجى هذا السّرور دنت الدّيار وفي غد ... يأتي لنا فيها البشير «2» وهذا الضرب من الشعر يظهر فيه الشعراء مقدرة لغوية فائقة، لا تتوفر عند كثير من الشعراء الذين يتحكم الوزن والقافية في اختيارهم لألفاظهم، وليس ما تنطوي عليه من معان، وما توحيه من مشاعر، مثل قول الشهاب المنصوري في مدحة نبوية:

_ (1) ديوان الصرصري، ورقة 28- يربخ: يسترخي، الأبلخ: العظيم في نفسه الجريء، مربخ: جبل. (2) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 79.

القسم الثالث - الصنعة الفنية:

وجبالا أعرضت عنها وكانت ... من سبيك اللّجين والإبريز شرّفت حلّة الرّسالة لمّا ... زنتها من حلاك بالتّطريز «1» فهذا الشعر وأمثاله، يظهر أن الألفاظ وضعت إلى جانب بعضها، ليتم الوزن وتستقيم القافية، قبل أن تخبر وتؤثر. فالألفاظ في المدح النبوي تتفاوت في صحتها وفصاحتها من شاعر إلى شاعر، فالشاعر المتمكن تأتي ألفاظه فصيحة صحيحة، والشاعر الذي يعاني ضعفا في ملكته الشعرية وثقافته اللغوية، يعوّض ما ينقصه بأخذ الألفاظ من هنا وهناك، ولا يجيد استخدامها، فتترك آثارا سلبية على شعره، وتبدو فيه الركاكة والضعف والثقل، ويبتعد فيما ينظمه عن اللغة الشعرية التي تتأتى من تالف الألفاظ وارتباطها بالمعنى، وتعبيرها عن تجربة الشاعر ومشاعره. القسم الثالث- الصنعة الفنية: منذ القديم بحث الشعراء العرب عن وسائل تزيد التعبير عمقا، وتزيد الأسلوب جمالا، لكنهم لم يتحدثوا عن هذه المسائل، ولم يجهدوا أنفسهم في البحث واصطناعها في شعرهم، فظلت تأتي عندهم عفو الخاطر، وتندرج في أقوالهم دون تعمّل وتكلف، إلى أن تنبّه الشعراء عليها فيما بعد، فأخذوا يكثرون من هذه الوسائل التعبيرية ليزيد أسلوبهم جمالا، حتى جاء ابن المعتز، فوضع فيها كتابا، فتح به للمؤلفين بابا جديدا من أبواب التأليف، يكررون فيه ما نصّ عليه ابن المعتز، ويزيدون ويشرحون. أما الشعراء فمع تقدم الزمن أولعوا بفنون البديع الجديدة، وقصدوها قصدا، وتصنعوا إدراجها في شعرهم إلى أن أضحت زينة ينوء بها الشعر، وتثقل بها الكتابة، فأضحت من مميزات الأدب في العصر المملوكي.

_ (1) السيوطي: نظم العقيان ص 80.

وكانت فنون البديع التي أشار إليها ابن المعتز قليلة بسيطة، لكن الكتّاب الذين جاؤوا بعده، ظلوا يزيدون فيها حتى أضحت على درجة كبيرة من التعقيد، لا يتقنها أو يعرفها إلا المشتغل فيها المتمرس بها، وغلبت على ذوق المتأدبين من أهل العصر، فلا يجدون الجمال الأدبي إلا بها، ولا يعترفون بشاعر إن لم يكن متصنعا لها مكثرا منها، فصارت موضع فخر الشعراء وتفاضلهم، ومقياسا لشاعريتهم. ولذلك حرص الشعراء على حشد أكبر قدر من فنون البديع في شعرهم، إلى أن أضحت بعض القصائد نظما لهذه الفنون، يتكلف الشاعر إدراجها في شعره، متجنّيا على المعنى وسلامة التعبير من أجلها، وانقلبت الوسيلة إلى غاية، وأضحى الشاعر ينظم القصيدة ليعرض فنون البديع فيها، ولا يأتي بفنون البديع لزيادة المعنى إيضاحا وعمقا، والأسلوب جمالا ورونقا، حتى جعلت مواهب هواة هذه الفنون موضع شك وتساؤل، وأفسدت الظن في مقدرتهم الشعرية، فكأنهم يعانون من فقر في الموهبة والثقافة، ويحتالون على جدبهم في الأصالة بهذه الزخارف البديعية، وهم على العكس من ذلك، فيهم أصحاب الملكات الشعرية الأصيلة، وأصحاب الثقافة الواسعة، الذين رزقوا مقدرة شعرية كبيرة، ولكنه ذوق العصر، ومجاراة السائد فيه. ونحن لا نستطيع أن نطبق على شعر العصر المملوكي مقاييسنا الجمالية، وإن كنّا لا نستسيغ هذه المبالغة البديعية، فهذه الفنون كانت تعد منتهى البلاغة عندهم، وكانت غاية كل شاعر أن يتفرد باستخدام مميز لها. وقد مال شعراء هذا العصر إلى المبالغة في اصطناع فنون البديع، ليس في الكثرة فقط، بل والدرجة أيضا، فلم يعد يؤثر فيهم التشبيه العادي أو الجناس البسيط أو الاستعارة البسيطة، فلا يهتزون إلا إذا كانت هذه الفنون على درجة كبيرة من التعقيد، وليس العمق، لأن الاستخدام الجيد لهذه الفنون، والذي يزيد المعنى عمقا، ويحسّن التعبير، لم يسلم إلا للفحول منهم، ولذلك عبّروا عن درجات التشبيه مثلا بالمرقص

والمطرب، فالمرقص عندهم هو التشبية الجديد الغريب الذي يبلغ تأثيره في قارئه أو سامعه إلى درجة يدعوه معها إلى الرقص، والمطرب هو التشبيه الذي يبعث في النفس نشوة الطرب، ولا يصل إلى درجة الأول، وإلى الرقص، أما التشبيه الذي لا يصل في تعقيده وغرابته إلى درجة هذين النوعين، فإنه لا يتعدى في نظرهم المسموع أو المتروك «1» . وعلى الرغم من أن فنون البديع أكثر ما تستخدم في الغزل والوصف، إلا أن شعراء المدح النبوي في هذا العصر أكثروا من هذه الفنون في مدائحهم، وفي وهمهم أنهم يرصعونها بأفضل ما عندهم من محاسن تعبيرية تليق بفن المدائح النبوية، وليتمكنوا من نيل إعجاب الناس، ورضاهم عن هذه المدائح، ولا يستجلب ذلك إلا بفنون البديع. وزيادة على ذلك فالصنعة البديعية أضحت من أدوات الشاعر في ذلك الوقت، فلا يستطيع نظم قصيدة في أي موضوع، دون أن يدرج فنون البديع في ثناياها، ولذلك حفلت قصائد المديح النبوي بفنون البديع، وثقلت بعضها بتعقيدها، إلى أن ربط المديح النبوي بالبديع، فظهرت البديعيات التي تجمع بين المدح النبوي وبين فنون البديع جميعها مع ذكر أسمائها والتمثيل لها. ولهذا يعسر على الدارس أن يستقصي فنون البديع في المدائح النبوية كلها، ولا فائدة كبيرة ترجى من بيان المواضع التي استخدمت فيها جميع الأنواع البديعية التي عرفت في ذلك العصر، والتي عرفها البديعيون ومثّلوا لها، لأنها لم تكن منتشرة، وكان تداولها مقتصرا على أصحاب البديعيات أو البديعين الذين اخترعوا أمثلة لفنون بديعية مخترعة، هداهم إليها طول تفكيرهم بمذاهب الكلام وطرقه التعبيرية، وهي لا تزيد في بلاغة اللغة، بل تعقّدها، وتفقد المعبر بها البداهة والاسترسال وأصالة التعبير الذاتي.

_ (1) ابن سعيد: المرقص والمطلوب ص 7.

الصنعة الخيالية:

الصنعة الخيالية: ولو أتينا إلى الخيال في المدح النبوي، لوجدناه متّسعا، حلّق فيه شعراء المدائح النبوية إلى آفاق رحبة، وسبحوا في عالم الملكوت، وخاصة أصحاب الميول الصوفية منهم، الذين رحلوا بأرواحهم إلى عالم الغيب والشهادة، فجسدوه برموزهم وإشاراتهم التي تستغلق على من لم يسر في طريقتهم، وتذوق مواجدهم، ومثال ذلك قول العفيف التلمساني في حديثه عن دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس إلى الهدى: نادى قريشا خصوصا والأنام به ... يعني عموما فصمّوا في مناديه ما أقبح الشّكل في مرآة أعينكم ... إذ كلّكم شخصه فيها يلاقيه تا لله لو صدقت منكم عزائمكم ... عن كلّ قصد صحيحات دواعيه إذا لشاهدتم بي حقائقكم ... ما يدرك الميّت المعنى فيحييه فصار ما كان قبحا في نواظركم ... حسنا يدين بدين العشق واليه «1» وكذلك الأمر في الحديث عن اليوم الآخر، إذ اعتمد الشعراء على ما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف من وصف ليوم القيامة، ولما سيجري به، إضافة إلى الروايات الغيبية التي حملت بعض شعراء المدح النبوي إلى التحليق بخيالهم إلى مشاهد ذلك اليوم العظيم وتخيّله، مثل قول البرعي: وللمرء يوم ينقضي فيه عمره ... وموت وقبر ضيّق فيه يولج ويلقى نكيرا في السّؤال ومنكرا ... يسومان بالتّنكيل من يتلجلج ولا بدّ من طول الحساب وعرضه ... وهول مقام حرّه يتوهّج

_ (1) ديوان العفيف التلسماني، ورقة 214.

وديّان يوم الدّين يبرز عرشه ... ويحكم بين الخلق والحقّ أبلج فطائفة في جنّة الخلد خلّدت ... وطائفة في النّار تصلى فتنضج «1» هذه المشاهد، والتي هي من مضمون المدحة النبوية، أطلقت لشعراء المدائح النبوية الخيال، فاتسعوا في فنون التشبيه والاستعارة، واستحضروا مشاهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومواقعه، وبعثوا الحياة فيها، مثل قول الشهاب محمود في مدحة نبوية: وكأنّي بين هاتيك الرّبا ... أنظر الأملاك والصّحب الكراما وأرى في المسجد الهادي ومن ... خلفه أصحابه الغرّ قياما «2» فالشاعر عندما وصل إلى المعاهد النبوية المشرّفة، حلّق بخياله إلى الزمن الذي كانت تشهد فيه حركة الصحابة الكرام والملائكة الأبرار، وكان فيه مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامرا بنوره، يحيط به أصحابه. وأفاض شعراء المديح النبوي في التشبيه والتخيل في قصائدهم، يوضحون من خلاله معانيهم، ويزيدونها عمقا وتأثيرا، ومنهم البوصيري الذي بدا مغرما بالتشبيه والتمثيل في مدائحه النبوية، ومن ذلك قوله: واقطع حبال الأماني التي اتّصلت ... فإنّما حبلها بالزّور موصول فإنّ أرواحنا مثل النّجوم لها ... من المنيّة تسيير وترحيل فلو ترى كلّ عضو من كماتهم ... مفصّلا وهو مكفوف ومشكول كأحرف أشكلت خطا فأكثرها ... بالطّعن والضّرب منقوط ومشكول

_ (1) ديوان البرعي ص 211. (2) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 28.

وكلّ بيت حكى بيت العروض له ... بالبيض والسّمر تقطيع وتفصيل وداخلت بالرّدى أجزاءه علل ... غدا المرفّل منها وهو مجزول كأنّهم في محاريب ملائكة ... وفي حروب أعاديهم رآبيل «1» فهنا نرى مدى احتفال البوصيري بالتشبيه، في البيت الأول شبّه تواصل الأماني بحبل، والحبل مربوط بالزور، ليدل على استمرار هذه الأماني وتتابعها دون انقطاع، وهذه الأماني هي التي تجعل الإنسان في غفلة عن الطاعة، لذلك يطلب الشاعر من الغافل أن يقطع حبل الأماني، وأن يتوقف عن تعلقه بزخارف الدنيا. وهذا التشبيه أعطى المعنى وضوحا وقوة، وقرّبه إلى ذهن السامع، حين شبه المعقول بالمحسوس. وفي البيت الثاني شبه الأرواح بالنجوم، ليعرف المتلقي من حركة النجوم وغيابها كيف تتحرك الأرواح وترحل وزاد في طرافة الصورة وجمالها أن النجوم تلمع وتخفق في فضاء رحب، وتكتنفها الأسرار في سيرها وظهورها واختفائها، لا يعلم حركتها غير مدبر الكون وخالق الأرواح، والتي هي من أمر الله تعالى. وفي الأبيات الثلاثة التالية، وصف البوصيري معارك المسلمين، وما حل بالمشركين بعدها، فقد قطعت أوصالهم وتبعثرت، وتخرمت بيوتهم المنون، فشبه ذلك كله بالكتابة الغامضة المحتاجة إلى إعجام، فرفع غموضها بالتنقيط والشكل، وهنا نقلنا إلى مصطلحات الكتابة، مستعينا بها على تكوين صورة فنية، يوضع خلالها الحال التي كانت عليها جثث المشركين في أرض المعركة، ولكن كيف يفهم الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة هذه الصورة، وكيف يتخيلها؟ البوصيري يريد مجاراة أهل عصره، وإظهار مقدرته على إطرافهم، ولذلك حين يتابع ليظهر أثر هذه المعارك على بيوتات قريش، يربط بين البيت وهو العائلة هنا وبين

_ (1) ديوان البوصيري ص 220.

بيت الشعر، فيصف ما حل بعائلات المشركين عن طريق ما يحل ببيت الشعر عند تقطيعه وإظهار تفاعيله، وعند ما تلحقه العلل العروضية، مستعينا على ذلك بمصطلحات العروض التي تظل معرفتها حكرا على طائفة من الناس، وبذلك يحرم البوصيري وغيره من الشعراء كثيرا من الناس من فهم صورهم وإدراكها وتخيّلها، لأنها قيدت بعلم من العلوم لا يعرفه جميع الناس. حتى إذا وصل البوصيري إلى البيت الأخير من هذه القطعة، الذي يصف فيه المسلمين، عاد إلى التشبيه العادي والمقابلة، فالمسلمون في المساجد أتقياء ورعون لطفاء، لينو الجانب، مثل الملائكة التي تتصف بالشفافية والروحانية، ولكنهم في ساحة المعركة يتحولون إلى أسود تفتك بأعدائها، وللسامع أن يتخيل هذه الصورة التي تنقسم إلى مشهدين، مشهد يصف المسلمين في سلمهم، ومشهد يصفهم في حربهم، ولا شك أن الصور التي بناها البوصيري في هذه القصيدة زادت المعنى وعمقته، وأضفت عليه ظلالا عاطفية تثير مشاعر المتلقي وتؤثر فيه، لكنه قلّل هذا التأثير حين بنى صوره على مصطلحات العلوم التي لا يدرك مغزاها إلا قلة. وهذه سنة البوصيري في صوره جميعها، يعتمد التشبيه ويفصّل فيه، ويمثّل لمعانيه، مثل قوله في بردته: والنّفس كالطّفل إن تهمله شبّ على ... حبّ الرّضاع وإن تفطمه ينفطم كالزّهر في ترف والبدر في شرف ... والبحر في كرم والدّهر في همم كأنّما اللّؤلؤ المكنون في صدف ... من معدني منطق منه ومبتسم دعني ووصفي آيات له ظهرت ... ظهور نار القرى ليلا على علم فالدّرّ يزداد حسنا وهو منتظم ... وليس ينقص قدرا غير منتظم «1»

_ (1) ديوان البوصيري: ص 239.

لقد أجاد البوصيري في وصفه للنفس التي تطلب المزيد من الملذات إذا تركها المرء على هواها، لكنه إن راض نفسه، وكفّها عن شهواتها، عادت إلى القناعة، لا تأخذ من الملذات إلا ما حلّله الله، ولكي يوصل البوصيري هذا المعنى إلى الناس، شبه النفس بالطفل الذي يعتاد الرضاع، فإذا لم يفطم استمر على هذه العادة، وكل الناس يعرفون هذه الحقيقة ويعايشونها، ولذلك يسهل عليهم إدراك الصورة، وفهم المعنى الذي أراده البوصيري، وتخيل حقيقة النفس الإنسانية، فجاء التشبيه هنا ليغني عن الشرح والتفصيل، وينجي من الإسهاب والتطويل الذي لا يليق بالشعر. لكن البوصيري عند ما انتقل إلى مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووصفه وذكر معجزاته، أخذ يرصف التشابيه رصفا، قارنا بين المادي والمعنوي، ليجسد المعاني التي يريدها بالمحسوسات التي يراها الناس ويعرفونها، وهي تشابيه معروفة في شعرنا العربي، حتى وإن عكس التشبيه للمبالغة، حين عزا اللؤلؤ المكنون إلى منطق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثغره، بيد أنه أجاد حين مثّل لوصف آيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: إن آيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظاهرة واضحة لا تحتاج إلى وصف وبيان، ولكنه ينظمها في شعره لتزداد حسنا في أذن السامع، وإن كان سماعها في غير النظم لا يقلّل من قدرها، مثل الدر الذي يزداد حسنا حين ينظم في عقد، لكن بقاءه منثورا لا يقلل من قيمته. وصور البوصيري ليست صورا بسيطة مبتذلة، وليست في غاية التعقيد، فهو يبذل جهدا في بنائها، لتؤدي ما بنفسه من أفكار ومشاعر، ولا يتكلف رسمها إلا نادرا حين يجعل أحد أركان صورته من مصطلحات العلوم ليجاري بذلك ذوق أهل عصره من المتأدبين والشعراء، مثل وصفه للطلل بقوله: نسخت آياته أيدي البلى ... فأرت عينيّ منه الصّاد شيئا «1»

_ (1) ديوان البوصيري: ص 257.

إنه يريد أن يقول: إن الطلل كان بيتا معمورا مثل شكل حرف الصاد الذي يتمثّل به للبيت المعمور، لكن أيدي البلى حولته إلى خراب، فأضحى شكله مثل شكل حرف الشين، الذي يتمثل به للييت الخرب، فكم من الناس يعلم هذه الحقيقة؟ وهل ضاقت الدنيا عن مثل يمثّل به لشكل الطلل، فلا يجد غير الكتابة وشكل الحروف؟ أظن أنه أراد تقليب تشبيه القدماء لآثار الديار بالكتابة التي انمحت معالمها، لكنه تقليب متكلف لم يرق إلى إبداع القدماء وفق ظروفهم. إلا أن للبوصيري صورا رائعة إلى جانب ما تقدم، منها تشبيهه لحال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع باقي الأنبياء، وأنه أصل نبوّتهم، وهذا تجسيد لفكرة الحقيقة المحمدية، في قوله: إنّما مثّلوا صفاتك للنّا ... س كما مثّل النّجوم الماء «1» ووصفه لبني هاشم، أهل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيه إبداع، حين جعلهم دوحة أنبتت أغصانها علما ودينا، وأفنان الدوحة عادة تنبت الثمار والأزهار، فخلط في صورته بين المادي والمعنوي بتنسيق موفق حين قال: واصطفى محتده من دوحة ... أنبتت أفنانها علما ودينا «2» وأبدع في وصف شجاعة المسلمين وغضبهم لدين الله، حين جعل الموت يغضب لغضبهم، فقال: يغضب الموت إذا ما غضبوا ... وإذا ما غضبوا هم يغفرونا «3» فالبوصيري معتدل في صوره، لا يجنح إلى التعقيد، ولا يشتط في بنائها على

_ (1) ديوان البوصيري: ص 49. (2) المصدر نفسه: ص 259. (3) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 119.

مصطلحات العلوم، لكنه يجيد التشبيه، ويحلق فيه، مقتنصا العلاقات بين المعنويات والمحسوسات بدقة وذكاء، فحرّك بذلك أسلوبه، ومنحه شحنة عاطفية إضافية. ومن صور أهل العصر المعبرة التي تحمل آثار الصنعة، تشبيه للشهاب محمود، يصف فيه المسلمين في جهادهم، فيقول: وكساهم حلل النّصر التي ... نبذت تلك الأعادي بالعرا «1» فللنصر حلل كساها الله المسلمين، فظل المشركون في العراء، عاطلين من هذه الحلل، وفي كلمة عراء تورية، فهي نقيض الكسوة التي تحلّى بها المسلمون، وهو الفضاء الذي تركت فيه جثث المشركين المهزومين، فما أحلى حلل النصر التي كساها الله المسلمين، وما أرفع عزّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعلى مجده في صورة الشرف الأنصاري التي رسمها في قوله: هناك العزّ مرفوع السّواري ... وثمّ المجد منصوب الأواخي «2» فالعز بيت مرتفع والمجد خيمة منصوبة، وهذه الصورة تقليب لتشبيه القدماء وكناياتهم، فقد كانوا يكنون عن السيادة والعز بارتفاع بيت الممدوح، لكن الشرف الأنصاري جسّد العز، وجعل المجد مرئيا، فتقدم في هذا التشبيه خطوة إلى الأمام. وإذا أردنا استعراض التشبيه في المدائح النبوية، لعزّ علينا ذلك، ولملأنا صفحات كثيرة، وخاصة من التشابيه العادية التي تميل إلى الصنعة، والتي تظهر آثار ذوق أهل العصر، مثل وصف ابن حجر لمحاسن محبوبته المزعومة في مقدمة إحدى مدائحه النبوية بقوله:

_ (1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 119. (2) ديوان الشرف الأنصاري ص 142.

وأهيّف خطرت كالغصن قامته ... فكلّ قلب إليه من هواه هفا كالسّهم مقلته والقوس حاجبه ... ومهجتي لهما قد أصبحت هدفا «1» ولنا أن نتخيل المحبوبة التي ترمي مهجة محبّها بالسهام من عينيها، فقد نقلنا ابن حجر من الغزل ورقته إلى الحرب وقسوتها. وحاول بعض الشعراء الإغراب في تشابيههم، بتصور أمور لا وجود لها، ربط فيها المادي بالمعنوي، وأقيمت علاقة بعيدة بينهما، مثل قول الباعوني «2» في مقدمة مدحة نبوية، مفسرا سبب سهده: نومي بماء قراح السّهد مغسول ... فكيف يحصل لي من طيفكم سول «3» فالشاعر جعل النوم شيئا يغسل، وبماذا يغسل؟ يغسل بماء قراح السهد، فهذا الماء يسبب قراح السهد والسهد لا يقرح، وإنما العين هي التي تتقرح، وكأنه شبّه العين بالسهد، أو أنه أراد بالسهد العين التي يصيبها السهد، فخلط بين الأشياء، طلبا للإغراب والإدهاش، ولتحصيل المرقص والمطرب من التشابيه. ومن التشابيه التي وردت في المدائح النبوية وحملت الطابع المملوكي الخالص، تشبيه الزمردي «4» للحديث عن رسول الله بقول: كأنّه سكّر يحلو مكررّه ... وكم حديث إذا كرّرت مملول «5»

_ (1) ابن حجر: رفع الإصر، المقدمة ص ك. (2) الباعوني: محمد بن يوسف بن أحمد الدمشقي، كان قاضيا معاصرا للسخاوي، فلم يثبت وفاته. السخاوي: الضوء اللامع 10/ 89. (3) المجموعة النبهانية 3/ 154. (4) الزمردي، ابن الصائغ: محمد بن عبد الرحمن بن علي، أديب عالم، ولي قضاء العسكر وإفتاء دار العدل، ودرّس بالجامع الطولوني، له عدة كتب في الفقه والأدب، توفي سنة (776 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 6/ 248. (5) المصدر نفسه 3/ 114.

فالسكر المكرر من موجودات البيئة المملوكية، والأشياء التي أكثر الشعراء المماليك ذكرها والتشبيه بها في شعرهم. إلا أن اللون البديعي الذي ساد في شعر هذا العصر هو التوراة، والذي يكاد يكون جديدا في الشعر العربي، فقد أكثر منها الشعراء كثرة مفرطة، وعدوها دليل الفطنة والذكاء، واقتنصوها مما يخطر على البال أو لا يخطر، طلبا للإغراب والإطراف، وصارت التوراة غرضا بذاتها، يكدّ فيها الشعراء أذهانهم، ويفتنّون في عرضها، وجعلها بعضهم مذهبا فنيا لهم. والتوراة حين تستخدم استخداما موفقا، وتوضع في صياغة جميلة، فإنها تكون بديعة ومؤثرة، تدل على ذكاء وتفكير عميقين، وخاصة إذا رزق صانعها موهبة شعرية أصيلة، ووضعها في ألفاظ مواتية، فحينئذ تندرج في الشعر اندراجا خفيا لطيفا، لا يرى فيها تصنع مفتعل، ولا تصدم الذوق بتكلفها، أما إذا جاءت على غير هذا النسق، فإنها تصبح عالة ينوء بها الشعر. وهي تمثّل الاتجاه الرمزي في الشعر العربي، أو الصنعة الفنية فيه، مثلما هو الأمر في شعر المتصوفة وألفاظهم. ومن أمثلة التوراة في شعر المديح النبوي قول محي الدين بن عبد الظاهر، مشيرا إلى هدفه من معارضة لامية كعب بن زهير: لقد قال كعب في النّبيّ قصيدة ... وقلنا عسى في مدحه نتشارك فإن شملتنا بالجوائز رحمة ... كرحمة كعب فهو كعب مبارك «1» فالتورية هنا في قوله (كعب مبارك) ، وهو وصف لما يتفاءل به، فكلمة كعب في

_ (1) الصفدي: الغيث المسجم 1/ 275.

هذين البيتين لها معنيان، معنى قريب هو اسم كعب بن زهير مادح الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصاحب قصيدة (البردة) وهو الذي يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، ومعنى بعيد هو المقصود بالعبارة المشهورة (كعب مبارك) ، وهو ما سعى الشاعر إلى إيصاله في توريته. ومن ذلك أيضا قول القيراطي في مدحة نبوية: واكتبا في صحف الدّيار سطورا ... من حروف ليست حروف هجاء كم علونا المعلّى بهن حروفا ... حبّذا هن أحرف استعلاء صاح طف للإله سبعا ببيت ... رمي الفيل فيه بالدّهياء واكحل العين عند مسعاك بالمي ... ل ففيه شفاء داء العماء «1» والتوراة في البيت الثاني تكمن في كلمة (أحرف استعلاء) ، فقد كان يتحدث عن الرحلة والديار، وشبهها بالكتابة، فعند ما ذكر حروف الاستعلاء، ظن أنها من حروف الهجاء، وهو المعنى القريب، والمعنى البعيد الذي يقصده الشاعر هو الرواحل التي تسمى حروفا أيضا. وفي البيت الثالث، ورّى الشاعر بكلمة دهياء، فالذي يخطر للمتلقي أنه اسم مكان أو صفة له، وهو يريد الداهية، وكذلك الأمر في البيت الذي يليه، فالميل اسم مكان أو وحدة قياس وهو الأداة التي تكحل بها العين، فتوجه معنى البيت وألفاظه توحي بأنه يقصد أداة الكحل، ولكن المعنى الذي يريده من الكلمة هو اسم المكان. ومن التوراة في المديح النبوي قول النواجي في التشوق للمقدسات: وسرت نسمة الغوير فقل ما ... شئت في فضل ليلة الإسراء «2» فالتورية في قوله (ليلة الإسراء) ، لأن المشهور من هذا التعبير هو الدلالة على الليلة التي أسري فيها برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذا هو المعنى القريب، وهو يقصد الليلة التي سرى فيها نسيم الغوير، وهو المعنى البعيد الذي يريده.

_ (1) المجموعة النبهانية 1/ 137. (2) المصدر نفسه 1/ 156.

الصنعة اللفظية:

الصنعة اللفظية: والتوراة كثيرة في شعر المديح النبوي، مثلما هي كثيرة في شعر العصر، وخاصة في شعر عصبة من الشعراء عرفوا باتباعهم مذهب التوراة والانسجام، وهم كبار شعراء العصر، وإلى جانبهم شعراء آخرون فتنوا بالبديع من جناس وطباق وتضمين ومراعاة النظير وبراعة الاستهلال واستخدام الأمثال، وغير ذلك من فنون البديع التي بلغت عدتها الشيء الكثير، وهي لا تزيد في بلاغة اللغة، بل تقيد حرية التعبير، وتثقل الصياغة، وهي أقرب إلى الرياضة الذهنية منها إلى البلاغة التعبيرية، ولو استعرضنا بعض نصوص المدائح النبوية، لوجدنا من هذا الضرب الكثير، فعائشة الباعونية تحدثت في مقدمة مدحة نبوية عن شيوخها من المتصوفة، فقالت: هم عين عيني وهم سرّي وهم علني ... هم سرّ كوني وهم بدئي ومختتم الموت فيهم حياة والفناء بقا ... والذّل عزّ فيا طوبى لصبّهم «1» فطابقت بين السر والعلن والبدء والمختتم، والحياة والفناء، والذل والعز. وجانس الصرصري في قصيدة نبوية في جميع أبياتها، وهذا يظهر أن الجناس لم يأت عنده عفو الخاطر، وإنما أجهد نفسه لتتم له هذه المجانسة، فقال: وخوص نواج ضمّر جابت الفلا ... فما صدّها عمّا تروم وجاها بأكوارها شعث النّواصي من الس ... سرى تحاول عزّا لا يبيد وجاها تودّ من التّعظيم لو بذلت له ... ليرضى فداء أمّها وأباها نبيّ أطاعته الكنوز فلم يكن ... لها قابلا بل ردّها وأباها «2»

_ (1) ديوان الباعونية، ورقة 10. (2) ديوان الصرصري، ورقة 117.

وحاول ابن جابر أن يجانس بين قوافيه، فجاء بالجناس الملفّق حين قال: إذا بلغ العبد أرض الحجاز ... فقد نال أفضل ما أمّ له فإن زار قبر نبيّ الهدى ... فقد أكمل الله ما أمّله «1» ويظهر أن أدباء ذلك العصر قد اشتطوا في اصطناع الجناس، حتى ضجّ بعضهم من ذلك، ومنهم ابن حجة المعروف بولعه بالبديع، فقال في خزانته: «أما الجناس، فإنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله من أهل الأدب. وكذلك كثرة اشتقاق الألفاظ، فإن كلا منهما يؤدي إلى العقادة والتقييد عن إطلاق عنان البلاغة في مضمار المعاني المبتكرة» «2» . وليت شعراء ذلك العصر سمعوا هذه النصيحة، لكان لشعرهم طعم آخر، ونكهة غير التي عرفت عنه، فإنهم سدوا آذانهم أمام هذا التوجيه، ولم يسمعوا له ولغيره، ومضوا يجمعون في شعرهم ما قدروا عليه من فنون البديع، يتصنعون لذلك ويتكلفون، وهذا ما جعل شعرهم يشبه المتون العلمية أو السلاسل البديعية، فلو أخذنا نصا للقيراطي، مثلا من مقدمة مدحة نبوية، لوجدنا أنه قد نظم ليكون أمثلة تعطى في درس البديع، فهو يقول: ذكر الملتقى على الصّفراء ... فبكاه بدمعة حمراء ما لعين سوداء منّي نصيب ... بعد حبّي لعينها الزّرقاء كلّ أبيات من بغى أقعدوها ... عند ركض الخيول بالإيطاء «3» فالشاعر ينتقل من جناس إلى طباق، ومن تورية إلى تضمين، ومن استخدام مصطلحات اللغة والنحو إلى مصطلحات العروض، وكأنه وضع هذه الفنون البديعية في البداية، ثم جمع بينها بواسطة الوزن والقافية، فلا يستطيع أحد أن يدعي أن الشاعر

_ (1) المقري: نفح الطيب 2/ 488. (2) ابن حجة: خزانة الأدب ص 21. (3) المجموعة النبهانية 1/ 137.

كان ينظم الشعر على سجيته، وأنه صاغ قصيدته على الشكل الذي تبادر إلى ذهنه عند ما تداعت إليه المعاني، فلو وصلتنا الصورة الأولى للقصيدة لكانت تختلف اختلافا كبيرا عمّا هي عليه في صورتها التي أذاعها للناس، فهو يريد إرضاء ذوق أهل عصره وإدهاشهم، وإثبات مقدرته البديعية من ناحية، ويريد مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونيل غفران ربه من ناحية ثانية، فجمع بينهما لينال الحسنيين. وهذا ما كان يدور في أذهان الشعراء الذين مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأثقلوا مدحه بزخرف القول، من أمثال الشهاب المنصوري الذي قال في إحدى مدائحه للنبي الكريم: برز الصّباح براية بيضاء ... زحفا فولّى عسكر الظّلماء ضحكت على نجم السّما نجم الثّرى ... فبكت أسى بمدامع الأنواء ووشى بسرّ الرّوض نمّام الصّبا ... وغدا يطوف به على الأحياء والرّيح في فرش الرياض عليلة ... ترجوا الشّفاء برقية الورقاء والماء فيه تملّق وتدفّق ... يلقى النّسيم برقّة وصفاء «1» فمنذ مطلع القصيدة أخذ يحشد المحسنات البديعية حشدا، فجعل تعاقب الليل والنهار حربا بين جيشين، ولتتم المفارقة له، طابق بين زحف وولى، وبين البيضاء والظلماء، وحين أراد تعليل سبب المطر في البيت الثاني، جعل النبات يضحك من نجوم السماء، فبكت النجوم بالأمطار، وهو يظن أنه أجاد حسن التعليل، وهو أحد فنون البديع. واستغرق في صنعته، فخلق عالما عاقلا شاعرا من عناصر الطبيعة، وأضفى عليها الوعي الإنساني، فالليل والنهار جيشان يتقاتلان، والنبات يضحك، والنجوم تبكي،

_ (1) المجموعة النبهانية 1/ 169.

أما نسيم الصبا فهو واش نمّام، يذيع سر الروض عند ما يحمل رائحته، والماء متملق في لقائه مع النسيم، فعناصر الطبيعة كلها تشعر وتعقل، وكلها لها علاقات إنسانية فيما بينها، والصنعة البديعية تلون ذلك كله بألوان فاقعة، هي غير ألوان الطبيعة الحقيقة. صحيح أن إضفاء المشاعر البشرية على عناصر الطبيعة و (أنسنتها) من أرقى طرق التعبير الأدبي، وهذا ما يحمد للشاعر، ولكن طريقة أداء ذلك أفسدته فنون البديع أو كادت. فالصنعة لا تفارقه حين ينظم شعره، وهذا ديدنه وديدن كثير من شعراء عصره، يرون الصنعة البديعية الفن الذي ما بعده فن، وهذا ما يظهر عند ابن الموصلي في مدحة نبوية، يبدي فيها ولعه بالجناس وبأنواعه المختلفة، فهو يقول: يمناه ما صفحت لسائل منحا ... وكم عن المذنب الخطّاء قد صفحت فكم فدت وودت وأوجلت وجلت ... وأوكست وكست وأثبتت ومحت ودارسا عمّرت وعامرا درّست ... ويابسا رحمت وفارسا رمحت وكم شفت عللا وكم روت غللا ... وكم هدت سبلا لولاه ما فتحت «1» فتكلف الجناس ظاهر لا يحتاج إلى بيان، فهو لم يترك بيتا لم يجانس فيه بطريقة أو بأخرى، وأتبع الجناس الطباق، فأكثر منه، وقد حاف على المعنى في سبيل جناسه وطباقه، وجانب الدقة في إيراد الألفاظ ليقيم جناسه، مثلما فعل ابن مليك الحموي حين استخدم الأسماء في التعبير عن مشاعره بتكلف وتصنع ثقيلين في قوله: سفحت عقيق الدّمع من سفح مقلتي ... وبتّ لدى الجرعاء أجرع عبرتي

_ (1) الصفدي: الوافي بالوفيات 1/ 266.

ومذ بصفا قلبي سعى طائف الهوى ... رمى بفؤادي جمرة بعد جمرة على غاربي ألقيتم حبل هجركم ... وخيل اصطباري في الأعنّة عنّت فلا تنكروا بالحزن أن صرت حائرا ... أشقّ جيوب الصّبر من عظم حسرتي «1» فأراد ذكر السفح والعقيق والجرعاء، فسفح عقيق دمعه على سفح مقلته، وجرع لدى الجرعاء عبرته، وأراد ذكر الصفا والطواف ورمي الجمار، فجعل الهوى يطوف بصفا قلبه، وجعل فؤاده يرمي الجمرة إثر الجمرة، وهو يظن أنه جاء بشيء جديد عظيم، لم يأت به أحد قبله، وزاد على ذلك حين نظم المثل (ألقى الحبل على الغارب) ، وأضاف إليه خيل اصطباره التي عنّت في أعنتها، فالحبل استدعى إلى ذهنه الأعنة، فذهب بمعنى المثل، وبجزالة ألفاظه وبساطته في سبيل صنعته التي ألبسته ثياب الصبر ذات الجيوب، فعمل بها تمزيقا وشقا. فالصنعة جعلته يكرر الألفاظ، ويقدم ويؤخر، فأفسدت المعنى والأسلوب معا، ووصل في بعض قصائده إلى الركاكة، بسبب هذه الصنعة البديعية الثقيلة، والتي يكررها في قصائده، ويكرر صورا منها دون أدنى تغيير مثل قوله: مغرم لم يزل أسير هواكم ... راح يبكي الأسى بدمع طليق يسفح الدّمع في الخدود عقيقا ... حبّذا السّفح مؤذنا بالعقيق يا نزولا بالمنحنى من ضلوعي ... هل إلى الصّبر عنكم من طريق كيف أسلو وحبّكم في فؤادي ... ساكن في مفاصلي وعروقي وأجوز الصّراط كي لمناها ... تبلغ النّفس بالمجاز الحقيقي ومع المتّقين أسكن دارا ... زخرفت في جوار خير رفيق «2»

_ (1) ديوان ابن مليك الحموي ص 21. (2) المصدر نفسه ص 16.

فشاعرنا أسير الهوى، يبكي بدمع طليق، ماذا زاد في هذا المعنى؟ أما سفح الدموع والعقيق والمنحنى من ضلوعه، فهي صناعة مكررة حرفيا تقريبا، ولا ندري كيف يسكن الحب مفاصله وعروقه؟ وتأبى عليه صنعته إلا أن يذكر المجاز الحقيقي، حين يذكر جوازه على الصراط، وإلا أن تزخرف الدار التي يسكنها في الجنة، فلم يسلم له المعنى، ولم يسلم له جمال الأسلوب. وهذا ما نجده عند المغرمين بالصنعة البديعية، والذين لا يجيدون استخدامها في شعرهم، فأوقعهم همّ المجاراة في الركاكة والتكلف، مثل ابن حجر، العالم المتبحر، الذي أبى إلا أن يجاري الشعراء فيما هم مشتغلون به من صنعة وزخرف، فكانت النتيجة مثل قوله: إن أبرموني بالملام فإنّ لي ... صبرا سينقض كلّ ما قد أبرموا والدّمع في أثر الأحبّة سائل ... يا ويحه من سائل لا يرحم يا هاجري وحياة حبّك متّ من ... شوقي إليك تعيش أنت وتسلم «1» لقد أدخل علمه في شعره، وجارى الشعراء في صنعتهم، واستخدم الأمثال والعبارات الشعبية، فطغت هذه الأشياء على قصيدته، فذهب الشعر وبقيت. والمؤسف أن شعراء ذلك العصر كانوا يتابعون بعضهم بعضا في اصطناع ألوان البديع التي لم يسلم استخدامها من ثقل وتكلف، مثل متابعة الشعراء لبعضهم بعضا في إثبات الطي والنشر في شعرهم، وذكره باللفظ، فابن الدماميني «2» قال في مدحة نبوية:

_ (1) المجموعة النبهانية: 1/ 106. (2) ابن الدماميني: محمد بن أبي بكر بن عمر الإسكندري كان فاضلا رئيسا حشما، له شعر جيد، توجه إلى الهند في متجر، فمات هناك سنة (828 هـ) . إبن إياس: بدائع الزهور 2/ 98.

وأطوي بأذيال النّسيم رسائلي ... فأنشق عند الطّيّ من طيبها نشرا «1» وقال النواجي: لي الله أحبابا طووا شقّة الفلا ... فأنشق عند الطّيّ من طيبها نشرا «2» فالصعنة البديعية في المدائح النبوية قلما جاءت خفيفة مقبولة، طوعها الشعراء للشعر، وأخضعوها للمعنى، وظلت حلية للشعر تحرك أسلوبه وتزينه، لكنها في الغالب كانت ثقيلة متكلفة، تمردت على الشعر، وأبت الاندراج في عالمه، فظلت ظاهرة نابية، طافية على السطح، جارت على المعنى والأسلوب معا، وأضحت ثقلا تنوء به القصيدة، بل أخذت المكان الأول في القصيدة، وكل العناصر الآخرى وجدت لخدمتها، بدلا من أن تخدم هي المعنى والأسلوب، حتى تطور الأمر أخيرا في هذا الاتجاه، فنتج عنه البديعيات التي ربطت رسميا بين البديع والمدح النبوي. وقد أسهب أصحاب البديعيات وكتب البديع في التنقيب عن فنون بديعية جديدة، وضربوا الأمثلة لها، وتوسعوا بها توسعا كبيرا، فلم يتركوا مذهبا من مذاهب القول إلا عدّوه من ضروب البديع، وتكلّفوا له تحديدا وأمثلة، فإذا لم يسعفهم التراث العربي على اتساعه، أو ما قاله أهل عصرهم، تكلفوا لها أمثلة من صنعهم. ولم أشأ أن أتبع فنونهم البديعية، وأمثّل لها من المديح النبوي، لأن شعراء المديح النبوي في معظمهم لم يلتفتوا إليها كلها، من ناحية، ولأن في متابعتها شططا وظلما للمديح النبوي من ناحية ثانية، ولأن الحديث عن هذه الفنون مرتبط بالبديعيات التي سيأتي ذكرها من ناحية ثالثة.

_ (1) المجموعة النبهانية 2/ 213. (2) المصدر نفسه: 2/ 220.

الباب الرابع أثر المدائح النبوية

الباب الرابع أثر المدائح النبوية

الفصل الأول أثر المدائح النبوية في المجتمع القسم الأول- الأثر الاجتماعي: إن الأسباب التي دفعت إلى التوسع في فن المدح النبوي، وساعدت على انتشاره، تشير إلى ما رآه شعراء المدح النبوي من آثار لقصائدهم في نفوس الناس، فالأسباب السياسية تظهر أن قصائد المدح النبوي التي تحمل إشارات سياسية مثل الإشادة بالعرب وتفضيلهم، كانت تلقى تجاوبا عند العرب، وتحثهم على إبراز شخصيتهم في مناحي الحياة كلها، والأسباب الاجتماعية تنمّ عن أن مهاجمة شعراء المدح النبوي للظلم والمساوئ الاجتماعية كانت تنبّه الناس على ضرورة التخلص من هذه المساوئ، والأسباب الدينية تظهر أن شعراء المدح النبوي كانوا يؤثّرون في الجدل الديني الدائر بين المسلمين، فينتصر كل شاعر بالمدح النبوي للمذهب الذي يميل إليه. والذي ينظر في شعر العصر كله، يلاحظ أنه انعكست عليه ملامح الحياة، وأصداء أحداثها السياسية والاجتماعية، وتياراته الفكرية والدينية. والمديح النبوي جزء من شعر العصر، حمل ملامحه المعنوية والشكلية، ولم يكن فنا شعريا يقرب من العبادة فقط، لأن الأدب ثمرة لتفاعل الأديب مع بيئته والظروف المحيطة بها، والمؤثرة فيها، ولذا كانت موضوعات الشعر في عصر ما صدى لمظاهر البيئة فيه. وقد شهد العصر المملوكي على امتداده مصاعب لا حصر لها، وأزمات متلاحقة، وعرف فيه الظلم الاجتماعي، وظل الصراع السياسي والعسكري على أشده، بسبب الغزو الأوروبي والغزو المغولي، فبقي الناس في قلق وضيق وترقب.

وفي مثل هذه الأحوال تكثر الدعوات للإصلاح والتخفيف عن الناس، بطرق شتى، منها الشعر الذي ينتشر بين الناس، ويصل إلى الحكام، والذي يظهر مواطن الخطأ في المجتمع، ويشير إلى طرق تجاوزه باقتضاب، وبإشارات مبطنه، فيلهج به الناس، ويرددونه، ليدفعوا من بيده المقدرة على الإصلاح إلى فعل ذلك. وعرف الأدباء العرب آنذاك أثر الشعر في النفس الإنسانية، فقال حازم القرطاجني عن الشعر: «من شأنه أن يحبّب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكرّه إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمّن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها، أو متصوّرة بحسن هيئة تأليف الكلام، أو قوة صدقه، أو قوة شهرته، أو بمجموع ذلك» «1» . ولذلك شبّه الأدباء آنذاك أثر الشعر بأثر السحر، وأطلقوا على بعض الشعر (السحر الحلال) «الذي يلعب بالعقول، ويدع الإعجاب بحسنه يقوم ويقول» «2» . «ولأنه يخيّل للإنسان ما لم يكن، للطافته، ولأنه قادر على التأثير والإقناع في الحال ونقيضه من غير مسوّغ واضح» «3» . وإلى جانب الشعر نجد الوعظ والخطب على المنابر، والرسائل والكتب التي تحدد المشاكل وتضع لها الحلول، وقد وصلنا من هذا العصر عدد من الرسائل والكتب في هذا الباب، والتي عزا بعض مؤلفيها قيامهم بتأليفها إلى توجيهات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم في المنام، فصاحب كتاب (التيسير والاعتبار) قال عن سبب تأليفه لكتابه: «ولمّا رأى العبد الأصغر الفقير في المنام سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد قلّده أمرا، يفهم من تأويله النصيحة للإسلام والمسلمين.. فأقام العبد منتظرا ما رآه في المنام من وعد

_ (1) حازم القرطاجني: منهاج البلغاء ص 71. (2) الصفدي: الغيث المسجم 1/ 289. (3) ابن الأثير: المثل السائر 1/ 206.

النصح والإرشاد:

الصادق الأمين.. إلى أن ألهمه الله تعالى أن يكتب ما يفتح عليه من العلم المبرهن، الدال على النصيحة والتذكرة» «1» . ولذلك قام المؤلف بتأليف كتب أخرى في التنبيه على الأزمات، وطرح حلول لها، منها (لوامع الأنوار ومطالع الأسرار في النصيحة التامة لمصالح الخاصة والعامة) و (النصيحة الكلية في كل ما يتعلق بمصالح الرعية) و (الإرشادات العليّة فيما يوجب الخلل والفساد والصلاح في أحوال الرعية) «2» . ومن هذه النصائح التي كان يوجهها المصلحون لأصحاب الأمر، ما أورده السبكي في كتابه (معيد النعم ومبيد النقم) ، وجعل من واجب أولياء الأمور «سفك دم من ينتقص جناب سيدنا ومولانا وحبيبنا محمد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، أو من يسبّه، فإن ذلك مرتد كافر، ذهب كثير من العلماء إلى أن توبته لا تقبل) «3» . ومن واجبهم أيضا «دفع أهل البدع والأهواء، وكفّ شرهم عن المسلمين، ولا يسعهم الصبر على من يسبّ الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ويقذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها» «4» . النصح والإرشاد: هذه النصائح نجدها في المدائح النبوية، مثلما نجد الوعظ والحكم للناس جميعا، الذين تأخذهم بهجة الدنيا، فينسون الآخرة، وينسون الطريق السليم في الحياة، فيذنبون ويسيؤون إلى غيرهم، وقد ينبّه الشاعر غيره بالحديث عن نفسه، مثل قول البوصيري:

_ (1) الأسدي: التيسير والاعتبار ص 34. (2) المصدر نفسه ص 9. (3) السبكي: معيد النعم ص 13. (4) المصدر نفسه ص 31.

الاعتقاد بالمدائح النبوية:

إلى متى أنت باللّذات مشغول ... وأنت عن كلّ ما قدّمت مسؤول في كلّ يوم ترجّي أن تتوب غدا ... وعقد عزمك بالتّسويف محلول فجرّد العزم إنّ الموت صارمه ... مجرّد بيد الآمال مسلول أنفقت عمرك في مال تحصّله ... وما على غير إثم منك تحصيل وصن مشيبك عن فعل تشان به ... فكلّ ذي صبوة بالشّيب معذول «1» فالمدائح النبوية تحفل بالوعظ والإرشاد، وهي تذكر الناس باليوم الآخر، وبعدالة السماء، ليكفّ الظالم عن ظلمه، والمسيء عن إساءته، وتحثه على إقامة شعائر الدين والاقتداء بسنّة رسول الله، لتنتفي مظاهر الخلل في المجتمع، وتتحقق العدالة في الدنيا، قبل أن تقتص منه عدالة الله تعالى في الآخرة. ولا شك أن التنبيه على السلوك الخاطئ والدعوة إلى تصحيحه، التي تطالع الناس صباح مساء في قصائد المدح النبوي، قد كان لها أثر في نفوس الناس وسلوكهم، وخاصة حين قرنت هذه الدعوة بذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإظهار ما كان عليه حاله. الاعتقاد بالمدائح النبوية: وقد شاع في ذلك العصر التوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والاستنجاد به من الكروب التي عمّت الناس، وشاعت رؤيا النبي الكريم في المنام، وانشغل الفقهاء بهذه الرؤيا، وخاصة في أخذ الرائي بما يؤمر به في المنام. وكان الناس على اعتقاد جازم بكرامة رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأحدهم رأى النبي

_ (1) ديوان البوصيري ص 220.

الكريم في نومه، وشكا له ما به من شلل وكسح، فأمره النبي بالنهوض، فأصبح معافى «1» . وآخر يصاب بالعمى، فيرى النبي في المنام، ويمسح عينيه، فيبصر بعد أن أقام مدة أعمى، وبعد أن فقئت عيناه، وسالتا، وورم دماغه ونتن «2» . وثالث يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نومه، فيشق صدره، ويخرج منه علقة، يظنها الغش «3» . إن الاعتقاد برؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام، وفي كل ما يتعلق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قويا في العصر المملوكي وكان الناس يتجهون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالتوسل عند كل ملمّة تكربهم، والمدائح النبوية حافلة بمثل هذا التوسل وهذا يعني تأثر الناس بالمدائح النبوية وبما تحويه، فعند «وقوع الطاعون كثر الزعم برؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم» «4» . وكثر تشفعهم به ليرفع الله تعالى عنهم الوباء. وقد مرت معنا أمثلة كثيرة على توسل مادحي النبي به، ليرتفع عنهم وباء الطاعون، وليرتد الغزاة الذين يريدون محو العروبة والإسلام. لذلك نجد المدائح النبوية حافلة بالاستغاثة، معبرة عن اعتقاد أهل ذلك العصر في جدوى التوسل والاستغاثة، وقد عبر شاعر يدعى (أحمد بن عبد الرحمن الدهلوي) عن هذا الاعتقاد في قوله: إذا ما أتتني أزمة مدلهمّة ... تحيط بنفسي من جميع جوانبي

_ (1) السخاوي: الضوء اللامع 1/ 202. (2) المصدر نفسه 3/ 245. (3) المصدر نفسه 11/ 94. (4) ابن إياس: بدائع الزهور 3/ 286.

تطلّبت هل من ناصر أو مساعد ... ألوذ به من خوف سوء العواقب فلست أرى إلّا الحبيب محمّدا ... رسول إله الخلق جمّ المناقب ملاذ عباد الله ملجأ خوفهم ... إذا جاء يوم فيه شيب الذّوائب «1» ومن اعتقادهم بجدوى التوسل والتشفع جاء اعتقادهم بالمدائح النبوية كلها، وبتأثيرها على ناظمها وسامعها، فبالإضافة إلى كونها أدبا، غدت عندهم نوعا من أنواع النصوص الدينية التي تجلب تلاوتها المنافع، وغدا إنشادها ضربا من التعبد، فوصفت الباعونية المدح النبوي بقولها: «المدح النبوي شعار أهل الصلاح، وسيما أهل الفلاح، وهو ممّا يتنافس فيه المتنافسون، ويدأب فيه المخلصون، إذ هو من أعظم وسائل النجاح، وسبب لمضاعفة الأرباح» «2» . فالباعونية تعد المدح النبوي دليل صلاح المشتغلين به، وهو وسيلة للنجاح والمغفرة في الدنيا والآخرة، كما يوضح المثال الذي جاءت به، وهو بردة البوصيري، فقالت عنها: «المشهورة في مجال التسمية بالبردة، لا بل هي الترياق المجرب لكشف الشدة، التي حكم لها بالسبق، والحق الحق أنها لا تلحق» «2» . فهي تشير إلى اعتقاد الناس ببردة البوصيري، التي تشفي من الأمراض، وتفرّج الكروب، وهي تذهب إلى أن تأثير البردة ثابت ومجرب، وهذا عائد إلى قصة نظم. البردة التي رواها البوصيري، فقد أخبر أن المرض أقعده، ولم يفلح معه دواء، فمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقصيدته المشهورة، فرآه في المنام، وخلع عليه بردته، فنهض في الصباح، وقد عوفي من مرضه «3» .

_ (1) اليمني الشرواني: حديقة الأفراح ص 157. (2) ديوان الباعونية، ورقة 21. (3) ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 368.

ولذلك انتشرت هذه القصيدة انتشارا عظيما، وزاد اعتقاد الناس بمنافعها، فعندما علم الوزير بهاء الدين ابن حنا، وهو معاصر للبوصيري، بقصة البردة، «أخذها، وحلف ألّا يسمعها إلا قائما حافيا، مكشوف الرأس ... ثم بعد ذلك أدرك سعد الدين الفارقي «1» الموقّع رمد، أشرف منه على العمى، فرأى في المنام قائلا يقول له: اذهب إلى الصاحب، وخذ البردة، واجعلها على عينيك، فتتعافى بإذن الله عز وجل، فأتى إلى الصاحب، وذكر منامه ... فأخذها سعد الدين، ووضعها على عينيه، فعوفي» «2» . ومع تقدم الزمن أخذ الاعتقاد بالبردة يشتد ويقوى، واحتفل بها المتصوفة أيما احتفال، «ولم يكتف بعض المسلمين بما اخترعوا من قصص حول البردة، بل وضعوا لقراءتها شروطا لم يوضع مثلها لقراءة القرآن، منها التوضؤ، واستقبال القبلة، والدقة في تصحيح ألفاظها وإعرابها، وأن يكون القارئ عالما بمعانيها» «3» . «ووضعوا لها من المناقب والفضائل، ما لا يقع تحت حصر، فهي تشفي من عدة أمراض، وتفرّج الشدائد، وتسهّل كل أمر عسير» «4» . لذلك شاعت وقرئت في جميع المناسبات، واتّخذت منها تمائم وتعاويذ، وعورضت كثيرا، ونسجت قصص أخرى مشابهة لقصة نظمها، فتعزز الاعتقاد بالمدح النبوي وأثره. ومن القصص المشابهة لقصة نظم البردة، قصة نظم الحلي لبديعيته، إذ أراد- كما روى- أن يؤلّف «كتابا يحيط بجلّ أنواع البديع، فعرته علّة طالت مدّتها، واشتدت

_ (1) سعد الدين الفارقي: سعد الله بن مروان الكاتب البارع، كان بديع الكتابة معنى وخطا، توفي بدمشق سنة (691 هـ) ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 418. (2) ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 369. (3) ديوان البوصيري ص 29. (4) المصدر نفسه ص 30.

شدتها، فاتفق أنه رأى في منامه رسالة من النبي صلّى الله عليه وسلّم، يتقاضاه المدح، ويعده البرء من سقمه، فعدل عن تأليف ذلك الكتاب إلى نظم قصيدة تجمع أشتات البديع، وتتطرز بمدح محتده الرفيع» «1» . ولهذا نجد أبا بكر بن القنائي «2» ، يغبط شعراء المدح النبوي بقوله: هنيئا لمدّاح النّبيّ محمّد ... وإن قصّروا عن واجب المدح والشّكر لقد سعدوا دنيا وأخرى بمدحه ... وفازوا وقد حازوا به أعظم الأجر «3» فمادحوا النبي الكريم حازوا سعادة الدنيا والآخرة، أملوا سعادة الآخرة، لأنهم اعتقدوا اعتقادا جازما بأن مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيجلب لهم شفاعته، وهي جائزتهم على المدح، ومغفرة الله تعالى لهم، لأنهم أثنوا على حبيبه، وأحسوا بسعادة الدنيا، لأنهم مقتنعون بمنافع المدح النبوي، وبأثره في كشف الكرب وإزالة الهم، ولأنهم يشعرون بحلاوة الإيمان ونشوة التقوى، وراحة الطاعة، ولهذا وصف ابن عربشاه «4» المدح النبوي بقوله: ولقد شكوت إلى طبيبي علّتي ... ممّا اقترفت من الذّنوب الجانية وصف الطّبيب شراب مدح المصطفى ... فهو الشّفا فاشرب هنيئا وعافية «5» لقد أضحى المدح النبوي دواء للخلاص من الذنوب، وإن كان التشبيه يشي بما كان

_ (1) ديوان الحلي: ص 685. (2) أبو بكر بن محمد بن شافع القنائي: فقيه أقام بمصر سنين يشتغل بالفقه والفرائض والحساب، ثم رجع إلى قنا، له نظم ونثر، توفي سنة (694 هـ) . الأدفوي: الطالع السعيد ص 378. (3) الأدفوي: الطالع السعيد ص 738. (4) ابن عربشاه: عبد الوهاب بن أحمد بن محمد، فقيه محدّث، كتب الخط الحسن، وناب في قضاء دمشق والقاهرة، عرف بنظمه لمسائل العلوم، له (شفاء الكليم مدح النبي الكريم) . السخاوي: الضوء اللامع 5/ 97. (5) السخاوي: الضوء اللامع 5/ 98.

سائدا، وهو الاعتقاد بقدرة المدائح النبوية على الشفاء من الأمراض، ويدل على ذلك قول أحمد بن عبد المعطي (من أهل القرن الثامن) : أعظم بأمداح نبيّ الهدى ... حبل اعتلاق وشفاء اعتلال «1» فالمدح النبوي عندهم حبل اتصال مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو وسيلة اتصال معه، وهو أيضا شفاء لعلل الجسم والنفس، وطريق إلى المغفرة، أو كما قال السيواسي «2» : إذا ما كنت تهوى خفض عيش ... وأن ترقى مدارج للكمال فدع ذكر الحميّا والمحيّا ... وآثار التّواصل والمطال وكن حبسا على مدح المفدّى ... رسول الله عين ذوي الكمال فإنّ لديه ما يرجى ويهوى ... جميل الذّكر مع جزل النّوال «3» فالشاعر يرى أن المدح النبوي يميل بصاحبه إلى العيش الرغيد الهني، والرقي نحو الكمال، ويجعل ذكر صاحبه جميلا بين الناس، إضافة إلى النوال الجزيل الذي يناله من الله تعالى وهو المغفرة، ومن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الشفاعة. وقد رويت قصص كثيرة حول المغفرة لأصحاب المدائح النبوية، منها أنه بعد وفاة لسان الدين بن الخطيب «حكى غير واحد أنه رئي- رحمه الله- بعد موته، فقيل: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بسبب بيتين، وهما: يا مصطفى من قبل نشأة آدم ... والكون لم تفتح له أغلاق

_ (1) المجموعة النبهانية: 3/ 340. (2) السيواسي: محمد بن عبد الواحد بن مسعود، يعرف بابن الهمام، محدث علامة، درّس وأفتى وأفاد، اشتهر أمره وعظم ذكره، توفي بالقاهرة سنة (861 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 8/ 129. (3) السخاوي: الضوء اللامع 8/ 132.

أيروم مخلوق ثناءك بعد ما ... أثنى على أخلاقك الخلّاق» «1» هذه المنامات أضفت على المدح النبوي قداسة عند الناس، وجعلتهم يعتقدون بكراماته، ويتعلقون بنظمه وسماعه وإنشاده وتدارسه، ويوقنون بالمغفرة جزاء ذلك. فالنواجي قال في إحدى مدائحه النبوية: وطوّقتني بالجود منك وبالنّدى ... فطائر سعدي فيك بالمدح ساجع وأرجو بفضل الله ربح بضاعتي ... إذا كسدت يوم الحساب البضائع «2» ولهذا حرص المقري على إدراج أكبر قدر من المدائح النبوية في كتابه (نفح الطيب) ، وقال في ذلك: «فهذه عدة قصائد في مدحه صلّى الله عليه وسلّم، أرجو من الله- سبحانه- أن تكون مكفّارة لما ارتكبته على وجه الفخر والشهرة من الهزل واللغو» «3» . وقال أيضا: «ولا بأس أن نعززها بمقطوعات تكون للتكفير زيادة، وحق لمن توسل بسيد الوجود صلّى الله عليه وسلّم ألاتضيع وسائله» «4» . فالمقري يرى في إدراج المدائح النبوية في كتابه مكفّرا لزلاته، فكيف بمن ينظم هذه المدائح؟ ويعد البوصيري أكثر الشعراء تعبيرا عن هذا المفهوم لأثر المدائح النبوية، فلم تخل قصيدة من قصائده النبوية من الإشادة بالمدح النبوي وأثره، وبيان ما يحوزه ناظمه وسامعه من نعيم الدنيا والآخرة، فقد افتتح إحدى مدائحه النبوية بقوله: بمدح المصطفى تحيا القلوب ... وتغتفر الخطايا والذّنوب

_ (1) المقري: أزهار الرياض 1/ 319. (2) المجموعة النبهانية: 2/ 354. (3) المقري: نفح الطيب 7/ 505. (4) المصدر نفسه: 7/ 506.

وأرجو أن أعيش به سعيدا ... وألقاه وليس عليّ حوب يفرّج ذكره الكربات عنّا ... إذا نزلت بساحتنا الكروب مدائحه تزيد القلب شوقا ... إليه كأنّها حليّ وطيب «1» فما أجمل هذا المطلع، وما أحلى هذه الثقة المطلقة بالمدح النبوي، الذي يحيي القلوب الغافلة، التي أماتها حب الدنيا وبهرجها. لقد ارتاح البوصيري إلى المدح النبوي، الذي جعل حياته سعيدة، وأزاح كروبه، وجعله متيقنا من مغفرة الله لذنوبه، فهل يطمح الإنسان إلى أكثر من هذا؟ لقد وصل تأثير المدح النبوي عند الناس، والاعتقاد به، إلى جعل المدائح النبوية وسيلة لرؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام، فقد قال السخاوي عن شاعر يدعى ابن العليف: «بلغني أن له قصيدة نبوية، أودعها في ديوان له، مشتمل على قصائد غالبها صوفية، أولها: هذا النّبي الذي في طيبة وقبا ... له النّبوّة تاج والقرآن قبا وقال: أنه ما قرأها أحد ليلة الجمعة عشر مرات إلا رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في منامه» «2» . وروى الوتري قصة رؤياه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بعد إتمام ديوانه (معدن الإضافات) ، فقال: «لقد كنت رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة فراغي من تبييضها، وهي في يده صلّى الله عليه وسلّم، ومعه جماعة من أصحابه.. فكان يقول: انظروا بأي شيء مدحت، وما قيل فيّ، فعلمت أنها وقعت منه صلّى الله عليه وسلّم بموقع، فاستيقظت مسرورا بما أعطاني الله تعالى ... وبعد ما يقارب ثلاث سنين، كنت أردد نظري فيها، وأزيدها ترقيقا وتنقيحا.. ثم رقدت باقي الليل فرأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام وهو يقول لي: إنّ الله قد شفّعني في أهلك وزوجك وخادمك

_ (1) ديوان البوصيري: ص 83. (2) السخاوي: الضوء اللامع 5/ 298.

وفي جميع أصحابك مشيرا إليّ بمسبحته، فاستيقظت وبي من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى» «1» . فنظم المدح النبوي جعل الوتري يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام ثلاث مرات، بعد فراغه من ديوانه، وبعد كل تنقيح أو زيادة يجريها عليه، أفلا تجعل هذه الروايات الناس يعتقدون بقصائد المدح النبوي، وبأثرها في المشتغلين بها، فيحرصون على المشاركة في فن المدح النبوي، ولو كانت هذه المشاركة سماعا، أو تشجيعا للقادرين على النظم والإنشاد؟ ومن هذه الروايات ما قيل عن ابن زقاعة بعد نظمه لمدحة نبوية: «وليلة فراغها قال في سره: يا سيدي يا رسول الله، قد مدحتك بقصيدة، وقد تمّت، وأريد منك خلعة، فلما كان في صبيحة تلك الليلة، أتاه رجل وأخبره أنه رآه في النوم في حضرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ينشدها، وخلع عند فراغه منها، عليه، فخلع الشيخ رحمه الله جبة كانت عليه، وألبسها للرجل المبشر» «2» . ومن آثار المدائح النبوية على الناس في ذلك الوقت، أنفعالهم بها في مجالس الإنشاد على طريقة المتصوفة، فإنهم يستغرقون في ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويتواجدون لسماع مدائحه تأثرا بالمعاني التي ترد فيها، وبطريقة إنشادها مثلما حصل لابن سيد الكل «3» ، الذي «حضر درس ابن بنت الأعز، فأنشد شخص قصيدة نبوية، فصرخ هو على العادة، وأنكر القاضي ذلك عليه، فقال: هذا شيء ما تذوقه أنت، وقام وترك الفقاهة والمدرسة» «4» .

_ (1) الوتري: معدن الإفاضات ص 3. (2) ديوان ابن زقاعة، ورقة 12. (3) ابن سيد الكل: الحسين بن علي بن أيوب الأسواني، ففيه متصوف درّس وأفتى، توفي سنة (739 هـ) . ابن حجر: الدرر الكامنة 2/ 60. (4) ابن حجر: الدرر الكامنة 2/ 60.

وإلى جانب الراحة التي يلاقيها المشتغلون بالمدائح النبوية، فإنهم يعتقدون جازمين بأثرها في حياتهم في الدنيا، وبفضلها على تجاوزهم لأزماتهم، وهي كذلك تبعدهم عن الحاجة إلى الناس وسؤالهم في المدح، إضافة إلى الثواب والأجر والمغفرة في الآخرة، وهذا ما عبر عنه النواجي في قوله: وصنت عن الخليقة حرّ وجه ... بهم ما زال في تعب وعتب ليصفو بامتداح علاك عيشي ... ومن جدوى يديك يطيب كسبي وأنقل في الثّرى من ضيق لحد ... لقصر في ذرا الجنّات رحب فنيت فليس فيّ سوى لسان ... بذكرك يا جميل الذّكر رطب «1» وإذا كان هذا الشاعر قد وجد في المدح النبوي ما يقيه من ذل السؤال، ويوسع في رزقه، إضافة إلى الثواب والمغفرة، ولهذا تعلّق بالمدح النبوي، وأوقف عليه حياته، فإن شاعرا آخر، هو ابن أبي اليسر «2» وجد من بركة المدح النبوي ما دفع عنه ثقل دينه، فقال: «كان قد ركبني دين فوق عشرة آلاف درهم، وبقيت منه في قلق، فرأيت في النوم والدي، فشكوت إليه ثقل الدين، فقال: امدح النبي.. فقلت: قدري يعجز عن مدحه صلّى الله عليه وسلّم، فقال: امدحه يوفي الله عنك دينك، فعملت وأنا نائم، فقلت: أجد المقال وجدّ في طول المدى ... فعساك تظفر أو تنال المقصدا هي حلبة للمدح ليس يجوزها ... بالسّبق إلّا من أعين وأسعدا قال: فانتبهت، فأتممت القصيدة، فوفّى الله عني ديني في تلك السنة» «3» . فالاعتقاد بقدرة المدائح النبوية على تخليص الناس من كربهم كان قويا، يدل عليه هذا الانتشار الكبير لهذا الفن الشعري، فليس غريبا أن يعتقد مادح للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن سداد دينه جاء ببركة مدحه للنبي الكريم، فالشعور بالرضا هو ما يلازم مادحي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،

_ (1) المجموعة النبهانية 1/ 649. (2) ابن أبي اليسر: إسماعيل بن إبراهيم، تقي الدين مسند الشام. توفي سنة (672 هـ) . الصفدي: الوافي بالوفيات 9/ 73. (3) اليونيني: ذيل مرآة الزمان 3/ 44.

الجدل العقائدي:

وتشمل مشاعر الارتياح والسرور المشتغلين بها، فابن حجر يرى مدحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مذهبا للحزن، ومجدّدا للأمل والرجاء، فيقول: فإن أحزن فمدحك لي سروري ... وإن أقنط فحمدك لي رجائي «1» من كل ذلك يتبين لنا كيف اعتقد الناس بتأثير المدائح النبوية في حياتهم، وأنها تخلصهم من كربهم، وتتيح لهم راحة نفسية كبيرة، وتوسع أملهم بالمغفرة والثواب. الجدل العقائدي: بيد أن المدائح النبوية أثارت نقاشا حادا بين المسلمين حول مضمونها، وجواز التوسل بالنبي الكريم وطلب شفاعته فيها، ففريق من المسلمين ممّن يرون رأي ابن تيمية كانوا ينكرون الاستغاثة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يجيزون التشفع والتوسّل إلا بالله تعالى، وباقي جمهور المسلمين كانوا يجيزون التشفع والاستغاثة بالنبي الكريم، وكل فريق له حججه وبراهينه، التي يدعم بها رأيه. ويظهر أن المدائح النبوية مثلما كانت موضع مدارسة واستظهار وإنشاد في مجالس، كانت موضع جدال ونقاش في مجالس أخرى، وكان النقاش ينصب على الاستغاثة والتوسل فيها، وعلى بعض الروايات الغيبية التي تتحدث عن مكانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السامية، مثل الحقيقة المحمدية وعلاقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأنبياء، التي وردت في المدائح النبوية. فقد روى أحدهم أنه وقع بينه وبين شخص من الجامع الأزهر «مجادلة في قول صاحب البردة رحمه الله تعالى: فرأيت النبي.. جالسا عند منبر الجامع الأزهر..» «2» . فهذا يدل على أن مضمون المدائح النبوية كان موضع أخذ ورد بين علماء المسلمين،

_ (1) المجموعة النبهانية: 1/ 169. (2) الشعراني: لواقح الأنوار ص 100.

ففي سنة (784 هـ) ، عمل علي بن إيبك الصفدي قصيدة لامية على وزن بانت سعاد، وعرضها على العلماء، فقرّ ظوه، وانتقده أحدهم، فاختلف العلماء في ذلك، إلى أن وصلت إلى السلطان، فكتب مرسوما طويلا، منه: «بلغنا أن علي بن إيبك «1» مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم بقصيدة، وأن علي بن العز «2» اعترض عليه، وأنكر أمورا منها التوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والقدح في عصمته وغير ذلك، وأن العلماء بالديار المصرية، خصوصا أهل مذهبه من الحنفية، أنكروا ذلك، فيتقدم بطلبه وطلب القضاة والعلماء من أهل المذهب، ويعمل ما يقتضيه الشرع من تعزير وغيره» «3» . لقد وصل الجدل حول المدائح النبوية إلى السلطان الذي كتب فيه مرسوما للبتّ في هذه المسألة، ووصل الأمر إلى سجن بعض من أنكروا ما جاء في المدائح النبوية، فقد «أحضر ابن العز لمجلس القضاة، فوجد من خطه قوله: حسبي إليه، هذا لا يقال إلا لله، وقوله: اشفع لي، قال: لا تطلب منه الشفاعة، ومنها توسلت بك، فقال: لا يتوسل به، وقوله: المعصوم من الزلل، قال: إلا من زلّة العتاب، وقوله: يا خير خلق الله، الراجح تفضيل الملائكة إلى غير ذلك، فسئل فاعترف، ثم قال: رجعت عن ذلك، وأنا أعتقد غير ما قلت أولا» «4» . فهذا العالم أبدى رأيه في هذه المسألة، لكنه خاف، وعاد عن رأيه، ولا ندري إن كان قد اقتنع بالرأي الآخر، أم أنه تراجع خشية البطش به. ويظهر أن القضاة لم يقتنعوا برجوع ابن العز عن رأيه في التوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، «فعقدت له عدة مجالس غيره،

_ (1) علاء الدين التقصباوي: علي بن إيبك بن عبد الله، شاعر مدح الأكابر وطارح الأدباء، كان أديبا ماهرا بارعا بليغا، توفي سنة (801 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 5/ 194. (2) صدر الدين علي بن العز الدمشقي، من الأدباء والعلماء، كان يدرّس في مدارس دمشق، وتولّى عدة وظائف، ثم صرف عنها وسجن سنة (784 هـ) . ابن حجر: إنباء الغمر ص 302. (3) ابن حجر: إنباء الغمر ص 302. (4) المصدر نفسه ص 303.

قال في أحدها، جوابا على سؤال حول ما أراد بما كتب: ما أردت إلا تعظيم جانب النبي صلّى الله عليه وسلّم وامتثال أمره، أنه لا يعطى فوق حقه، فسجن وعزل من وظائفه» «1» . وقد وجد أصحاب المذاهب الإسلامية في المدائح النبوية مناسبة لعرض آرائهم والجدل حولها، مثل رد ابن الزملكاني على من ينكر على شعراء المدح النبوي التوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والاستغاثة به، في قوله: يا صاحب الجاه عند الله خالقه ... ما ردّ جاهك إلّا كلّ أفّاك أنت الوجيه على رغم العدا أبدا ... أنت الشّفيع لفتّاك ونسّاك يا فرقة الزّيغ لا لقيت صالحة ... ولا سقى الله يوما قلب مرضاك ولا حظيت بجاه المصطفى أبدا ... ومن أعانك في الدّنيا ووالاك «2» وأكثر الصرصري من الإشارة إلى البدع التي كانت تحصل في أيامه، في مدائحه النبوية، فلا توجد مناسبة أفضل لعرض الآراء الدينية، والرد على ما يخالف رأي الشاعر من قصائد المدح النبوي، فهو يقول في إحدى نبوياته: أشكو إلى الله العظيم فتنة ... ظلماء كاللّيل إذا اللّيل سجا أبرأ من كلّ هوى وفتنة ... إليك يا من بهداه يقتدى وأحمد الله إليك أنّني ... أومن بالله الذي شاد العلا «3» لكن الشاعر لم يصرح بحقيقة هذه الفتنة التي يتبرأ منها ومن كل هوى، ويحمد الله على إيمانه، بيد أنه أشار إلى بعض ظواهر الخروج على الشريعة في قوله:

_ (1) ابن حجر: إنباء الغمر ص 304. (2) ابن شاكر: فوات الوفيات 4/ 10. (3) المجموعة النبهانية 1/ 292.

لم أكن أرتجي لأكثر أهل الوق ... ت خيرا لجهلهم والتّعامي فرّطوا في الصّلاة حتّى أضاعوا ... وقتها والزّكاة في كلّ عام وفشا فيهم الفسوق وشرب ال ... خمر بعد الزّنا وكسب الحرام «1» لقد آلم الصرصري ما يراه حوله من انحرافات في العقيدة، فاغتنم فرصة مدحه لسيد الخلق لكي يفند هذه الانحرافات، ويظهر شطط أصحابها، ويدعو إلى القضاء عليها، ويعرض عقيدته وما يراه الحق والصحيح في العقيدة الإسلامية، فقال في مدحة نبوية: وعقيدتي الإيمان قول طيّب ... مع صالح الأعمال في الآناء بك استقرّ الفضل يا خير الورى ... للأمّة المرحومة الضّعفاء فضلت على كلّ القرون وخيرها ... من كان من أصحابك النّجباء ولأهل بيتك رتبة لا ترتقى ... في الفضل إذ طهروا من الأقذاء والأولياء الأربعون ونذّر ال ... أبدال من أتباعك الشّهداء ولهم كرامات بها كالمعجز الن ... نبويّ، إيماني بغير مراء «2» فلولا شيوع المدائح النبوية وانتشارها لما أودعها بعض الشّعراء آراءهم الدينية، ليقنعوا الناس بها، وليردوا عن أنفسهم انتقاد غيرهم، ويدعوا لمذهبهم، فهم يعرفون أثر المدائح النبوية في الناس، وانفعالهم بها، وتصديقهم لما يرد فيها من آراء، جنبا إلى جنب مع ما يقال في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأضاف هذا الأمر إلى آثار المدح النبوي أثرا جديدا، هو تعريف الناس بالمذاهب

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 91. (2) المصدر نفسه: ورقة 7.

الدينية المختلفة في عصرهم، وأصول هذه المذاهب بالطريقة التي يمدح بها كل شاعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبما يضمّن مدائحه النبوية من آراء فرقته. وكذلك الأمر مع جدال أهل الكتاب، فالشعراء وجدوا في المدح النبوي فرصة لمقارعة الغزاة من أهل الكتاب، ورد حججهم، وتسفيه آرائهم، والدفاع عن الإسلام ونبيه الكريم، فهم يعرفون أن ردّهم هذا سيصل إلى الناس في مدائحهم النبوية التي انتشرت انتشارا عظيما، وسينفعل الناس بذلك، ويعرفون كذب افتراآت أعدائهم، وما بذله شعراء المدائح من جهد في الذب عن الإسلام والمسلمين، ومن ذلك قول البوصيري ما بال من غضب الإله عليهم ... حادوا عن الحقّ المبين ونكّبوا عبدوا وموسى فيهم العجل الذي ... ذبحوا به ذبح العجول وعذّبوا وصبوا إلى الأوثان بعد وفاته ... والرّسل من أسف عليهم تندب «1» وقد أفلح شعراء المدائح النبوية في ردّهم على من انتقص الإسلام من أهل الكتاب، وقدّموا للناس ما يستطيعون أن يردوا به على هؤلاء، وبصّروهم بحقيقة ادعاآتهم، وأطلعوهم على معتقداتهم، وبثوا في الناس الحماسة للجهاد والتضحية، وخاصة حين عرضوا في مدائحهم النبوية لوحات رائعة لبطولة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشجاعته وصبره على قتال أعداء الله، واستماتته في إعلاء كلمة الحق، مع صحابة باعوا أنفسهم لله عز وجل فنصروا النبي صلّى الله عليه وسلّم بكل سبل النصرة، وتهافتوا على الاستشهاد في سبيل الله، فلماذا لا يقوم العرب المسلمون بمثل ما قام به أجدادهم، فيدفعون عن أنفسهم وبلادهم عدوان الطغاة من الفرنجة والمغول؟ فالشهاب محمود عرض في مدحة نبوية صورة رائعة لبطولة المسلمين وتضحياتهم وانتصاراتهم، وأثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك كله، فقال:

_ (1) ديوان البوصيري ص 93.

ولولاه ما بيعت وخالقها اشترى ... نفوس حماة الدّين بين المعارك ولا عفّرت في طاعة الله في الوغى ... وجوه كرام تحت وقع السّنابك ولا أشرقت والنّصر تجلى نصاله ... حوالي العوالي في الخطوب الحوالك «1» ولا شك أن قصائد المدح النبوي كانت ذات أثر كبير في تحريض الناس، وحفز هممهم للجهاد، مثلما كانت ذات أثر في الجدل الديني بين المسلمين، وبينهم وبين أهل الكتاب، وكانت كذلك دعوة جادة إلى الإصلاح الاجتماعي في عرضها للمعاني الإسلامية السامية، ولصور من حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيرته، وتأكيدها مفهوم المساواة والعدالة في الإسلام، وقد أكّد الشهاب محمود هذه المعاني حين وصف المسلمين أثناء حجهم، فقال في إحدى مدائحه النبوية: كأنّهم في البعث لا فرق فيهم ... يرى بين مملوك هناك ومالك ولا بين باد جاء يسعى وعاكف ... ولا بين أرباب الغنى والصّعالك تساووا به في قصدهم وتفاضلوا ... بإخلاصهم لا بالغنى والممالك. «2» هذه المساواة وهذه العدالة التي أقرّها الإسلام بين البشر، تذكّر أهل العصر بما يجب أن يكون في ظل حكم المماليك، ولذلك عرّض الشرف الأنصاري بملوك عصره، حين مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: زحزحت عن طرق المظالم عادلا ... فينا، ومن للعدل إن لم تعدل وقرنت بالشّرس اللّيان فأتربت ... كفّ المحقّ وخاب سعي المبطل تلك النّبوّة لا سيادة مالك ... أمر الأنام بمشرب أو مأكل «3»

_ (1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 84. (2) المصدر نفسه ص 73. (3) ديوان الشرف الأنصاري ص 562.

إظهار النزعة العربية:

إظهار النزعة العربية: لقد وضعت المدائح النبوية أمام الناس أمثلة عظيمة من العدل الاجتماعي، وحرّكت في نفوسهم التوق إلى العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وتطبيق مبادئ الدين الحنيف جميعها، فتضافرت مع أسباب أخرى، ليظهر التململ الاجتماعي الذي تحدثنا عنه سابقا، وكانت مناسبة عظيمة ينفّس العرب فيها عن كربهم وكبتهم، فهم يمدحون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو عربي الأرومة واللسان، ولا يستطيع أحد أن يعترض على ذلك، ويمدحون العرب بذكر الصحابة، ولا يجرؤا أحد على الاعتراض والمساءلة، وبذلك يشاد بالعرب في دولة لم يكونوا السادة فيها، وهذا يظهر أنهم لم يخلدوا لسبات عميق، وظلوا في حركة وتململ، وظلوا معتزين بأنفسهم، فهم حملة الرسالة السماوية ومنهم سيد الخلق الرسول العربي الكريم. وعلى الرغم مما وصل إليه الأتراك من نفوذ، فهم لم يستطيعوا أن يصبغوا البلاد العربية بصبغتهم، ولم يستطيعوا الابتعاد كثيرا عن الثقافة العربية، لأن اللغة العربية ظلت لغة الدولة والعلم والتأليف، وظلوا يحتفظون في أنفسهم بشيء من الاحترام للخلافة العربية الإسلامية، ويحرصون على استمداد شرعية ملكهم منها. ولم يكن الاعتزاز بالعروبة قاصرا على الذين يحتفظون بسلسلة نسبهم العربي الخالص، وإنما اعتز بالعروبة كل من انتمى إليها حضاريا، فاختلاط العرب بغيرهم من الشعوب، جعل من العسير على معظم الناس الاحتفاظ بأنسابهم، وإثبات أصالتها العربية، لكن ذلك لم يقلل من انتمائهم للعروبة، وخاصة أن الإسلام ربط بين عناصر الدولة، وخفّف من حدة التنافر بينها، فجميعها تلتقي على الإسلام ورسوله الكريم، وتتوحد حوله، ولذلك وجدنا من يرى في علاقة العرب بالترك علاقة تكامل، لا علاقة تطاحن، مثل قول ابن سناء الملك مشيدا بانتصارات الأتراك في الحروب الصليبية قبيل دولة المماليك:

بدولة التّرك عزّت ملّة العرب ... وبابن أيّوب ذلّت شيعة الصّلب وفي زمان ابن أيّوب غدت حلب ... من أرض مصر وعادت مصر من حلب «1» بيد أن المماليك الأتراك لم يفسحوا لغيرهم مكانا واسعا في سلطة دولتهم، وانفردوا باتخاذ القرارات المصيرية، وهذا ما حزّ في نفوس العرب الذين ثاروا عدة مرات على المماليك، لكن ثوراتهم لم تنجح، فانكفؤوا على أنفسهم، يظهرون شخصيتهم وآمالهم في الثقافة والأدب، ويعزّون أنفسهم في العبادة والزهد. وقد لمس بعض العرب انتقاص غيرهم لهم، فقال مؤلف كتاب (مبلغ الأدب في فضائل العرب) : «إن كثيرين من الفرق الأعجمية والطوائف العنادية، جبلوا على بغض العرب» «2» . وصرّح في كتابه أنه اختصر كتابا في هذا الباب لابن الحسين العراقي «3» المتوفى سنة (805 هـ) ، وجعل من كتابه إثباتا لفضل العرب، فعرض الأحاديث والروايات التي تؤيد ذلك «4» . من مثل (حب العرب إيمان وبغضهم كفر.. وحب العرب من محبة النبي.. وغير ذلك) «5» . وافتتح خطبة الكتاب بقوله: «الحمد لله الذي اختص العرب بين سائر الأمم بمزايا لا

_ (1) ديوان ابن سناء الملك ص 1. (2) ابن حجر الهيتمي: مبلغ الأرب ص 3. (3) عبد الرحيم بن الحسين العراقي، تحول والده من العراق إلى مصر فولد فيها وتلقى العلم عن شيوخها، ثم طلبه في الحواضر العربية حتى أصبح محدّث عصره، تولّى عدة وظائف منها قضاء المدينة المنورة وخطابتها وإمامتها، توفي سنة (806 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 4/ 171. (4) المصدر نفسه ص 4. (5) المصدر نفسه ص 6 والحديث الثاني ضعّفه السيوطي في الجامع الصغير 1/ 498.

تحصى، وأشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي شرّف الله به العرب على سائر من سواهم، بفضائل لا تستقصى» «1» . فالعرب في الدولة المملوكية تحسسوا وجودهم وكيانهم، وعبروا عن ذلك في الثقافة والأدب، متابعين تبرم العرب بالتسلط الأعجمي قبل قيام الدولة المملوكية، فالشريف الرضي كان يجسد في شعره طموح العربي إلى الحرية، ونزعته إلى أن يكون حرّا سيّدا كريما في أرضه، ولذلك جعل الحجاز رمزا لتوقه وخلاصه، وتعبيرا عن نزعته العربية، فقال في إحدى قصائده: ومن شيم الفتى العربيّ فينا ... وصال البيض والخيل العراب سقى الله المدينة من محلّ ... لباب الماء والنطف العذاب «2» ويظهر أن التشيّع لآل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والإشادة بهم، كانت متنفسا للإشادة بالعرب والعروبة، وكذلك الأمر في الحنين إلى الحجاز وبقاع الجزيرة العربية، فهو حنين إلى بقاع عربية، وإلى زمن عربي بوجه من الوجوه، أو هو تعبير مستتر عن النزعة العربية التي هيّجها شعر الحنين إلى الحجاز ومدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فالتلعفري قال في تشوقه وغزله: عربيّ لفظ نون حاجبه لها ... من خال وجنة خدّه إعجام «3» لقد ذكر دون أن يعي ذلك عناصر عربية في شعره، من الأماكن المقدسة إلى اللفظ العربي إلى الإعجام، وإن كانت الصنعة قد ألزمته بذلك، فإن اللاوعي قد أحضر هذه العناصر إلى ذهنه وأجراها على لسانه، وسواء أكان قاصدا إلى هذا أو لم يكن، فإن

_ (1) المصدر نفسه ص 3. (2) ديوان الشريف الرضي 1/ 91. (3) ديوان التلعفري ص 39.

ورود ما يذكّر بالعرب والعروبة في الشعر له أثره في الناس الذين يحنون إلى عصور الإسلام الزاهية التي سادها العرب. وقد صرح ملك النحاة بالنزعة العربية في قصيدة افتخر فيها بالعرب على الأعاجم، ومنها قوله: للعرب الفخر القديم في الورى ... فأعرضي عن نبأ الأعاجم هم الذين سبقوا إلى النّدى ... فهو لديهم قائم المواسم أعطاهم الله العلا لأنّهم ... قوم النّبيّ المصطفى من هاشم فخرهم باق على الدّهر به ... إن كان فخر دارس المعالم «1» وحين تخلص ابن عبية «2» من الغزل إلى المدح النبوي، قال: ما مخلصي في الحبّ من شرك الهوى ... إلا بمدح المصطفى المأمون زين الأعارب في القراع وفي القرى ... ليث الكتائب لم يخف لمنون «3» فأول ما بدأ به في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هو أنه زين الأعارب، فرسول الله عربي وفي الإشادة به إشادة بالعرب، ولذلك يظهر الشمس الدمشقي «4» خطيب السابتية حبه للعرب وتعلقه بهم في غزله الذي يقدم به لمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقول:

_ (1) صدقي، أحمد: تهذيب تاريخ دمشق 4/ 169. (2) ابن عبية: أحمد بن محمد بن محمد، عالم واعظ قاضي القدس، رحل إلى دمشق ووعظ بالجامع الأموي، له شعر لطيف وخط حسن، توفي سنة (905 هـ) الغزي: الكواكب السائرة 1/ 124. (3) الغزي: الكواكب السائرة ص 125. (4) الشمس الدمشقي: محمد بن محمد بن محمد، خطيب السابتية بدمشق، فقيه محدث، تكسب بالشهادة وجاور بمكة. السخاوي: الضوء اللامع 9/ 245.

عرب لي أرب في حبّهم ... إنّني أقضي وأقضي الأربا سادة سيّدهم لا غرو أن ... جمع السّؤدد فهو المجتبى «1» فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيد العرب وفخرهم ومشرّفهم، رفع الله شأنهم ببعثه منهم، فهم يستحقون أن يكونوا سادة في بلادهم، بعد أن حملوا رسالة الإسلام إلى العالم، وهذا مدح للعرب لا يستطيع أحد ردّه، فتميّز العرب عن غيرهم كان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو كما قال ابن شهاب الحضرمي معقّبا على بيت ابن حجة: ومذهبي في كلامي أن بعثته ... لو لم تكن ما تميّزنا على الأمم «وأما إقامة الحجة على أن تميزنا على الأمم هو بوجود بعثته عليه السلام، فذاك صحيح لا شك فيه، لأننا لم نتميز بغيرها، ولا خصم في ذلك، ولا منكر، فكل من يميّز يعلم ذلك ولا حاجة لتأكيده» «2» . إن مدخل الإشادة بالعرب في المدائح النبوية، هو الافتخار بكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العرب، والافتخار به ما بعده افتخار. وفي ثنايا مدح سيد الوجود، نثر الشعراء إشارات مختلفة تشيد بالعرب في عصر سيادة الأعاجم، ومن ذلك قول البرعي من مدائح مختلفة: يا سيّد العرب العرباء معذرة ... لنادم القلب لا يغني تندّمه «3» فرسول الله هو سيد العرب، وهذا تنويه بقدرهم، وإلى جانب ذلك فخر الشاعر بمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باللغة العربية الفصيحة، وهذا رفع لقدر اللغة العربية وقدر أصحابها، وقد أكدّ هذا المعنى في قصيدة أخرى فقال:

_ (1) السخاوي: الضوء اللامع 9/ 245. (2) ابن شهاب الحضرمي: إقامة الحجة ص 30. (3) ديوان البرعي ص 72.

يليق الخطاب اليعربيّ بأهله ... فيهدي الوفا للنّقص والحسن للقبح ومن شرف الأعراب أنّ محمّدا ... أتى عربيّ الأصل من عرب فصح «1» فالمعنى واضح في ذهن الشاعر، وواضح في شعره، أنه يشيد بالعرب، ويرفع قدرهم، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم، والقرآن أنزل بلسانهم، ولذلك لهم ميزة على من سواهم، أو لأمته ميزة على غيرها من الأمم، كما يقول: فها هو خير الخلق من خير أمّة ... يدلّ على نهج لإرشاد قاصد ونحن به نعلو على الأمم التي ... مضت وكتاب الله أعدل شاهد «2» ولا يخفى على المطلع أن مثل هذه الإشارات لم تأت عفو الخاطر، وأن المدح النبوي بذاته يحمل إشادة بالعرب أثناء الإشادة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، دون أن يقصد الشاعر إلى ذلك قصدا، وقد تنبه ابن خالدون في مقدمته على علاقة السيادة العربية برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وارتباط ملكهم ببعثته حين قال: «العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية، والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة، وبعد الهمّة والمنافسة في الرئاسة، قلّما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية، كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم.. وحصل لهم التغلّب والملك» «3» . فابن خالدون يذهب إلى أنه لولا النبوة لما قام للعرب ملك، وظلوا على تفرقهم في بواديهم المترامية، ولذلك قال عن حالهم بعد سيطرة الأعاجم عليهم: «ثم إنهم بعد ذلك، انقطعت منهم عن الدولة أجيال، نبذوا الدين فنسوا السياسة، ورجعوا إلى

_ (1) ديوان البرعي: ص 136. (2) المصدر نفسه: ص 115. (3) مقدمة ابن خالدون ص 151.

قفرهم، وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة، ببعدهم عن الانقياد.. ولم يبق لهم من اسم الملك إلا أنهم من جنس الخلفاء.. ولما ذهب أمر الخلافة، انقطع الأمر جملة من أيديهم، وغلب عليهم العجم» «1» . من هنا كان للعرب الحق بالافتخار لارتباطهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهم حملة رسالة السماء السامية، وهم الذين أقاموا دولة الإسلام، ومن الواجب أن يكون لهم شأن في بلادهم، ولذلك حفلت المدائح النبوية بالإشادة بالعرب، والتنويه بقدرهم في دولة المماليك. ووجود الإشادة بالعرب في المدائح النبوية يمنع الاعتراض عليهم، ويعصم الشعراء من البطش، فالمماليك الذين حكموا الناس باسم الدين، وحرصوا على إظهار تدينهم، لا يمكنهم أن يأخذوا شاعرا يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالثناء على قومه. وقد أظهر شعراء المدح النبوي تعلّقهم بالعرب والعروبة في مناحي شتى، ومواضع متفرقة في مدائحهم، مثل الغزل بالعربيات وذكر ديار العرب، فالصرصري يغتنم فرصة ذكر تشوقه للمقدسات وتغزله، ليشيد بالعرب ويقول: عن أيمن السّفح بالحمى عرب ... بين فؤادي وبينهم نسب أعزّة سادة لهم همم ... تقصّر عنها الرّماح والقضب زيّنت سماء العلا بهم فهم ... شموسها والبدور والشّهب إنّ حار ركب فهم أدلّته ... أو جار جدب فرفدهم سحب «2» وكان ابن هبة الله الجهني «3» قاضي حماة أكثر صراحة في مدحه للعرب، حين قال في مدحة نبوية بعد ذكر الأماكن المقدسة:

_ (1) مقدمة ابن خالدون: ص 152. (2) المجموعة النبهانية 1/ 398. (3) الجهني: عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله البارزي، أتقن العلوم الشرعية والأدبية، وصنّف وتولّى قضاء حماة، توفي سنة (683 هـ) . اليونيني: ذيل مرآة الزمان 4/ 218.

ومن دونه عرب يرون نفوس من ... يلوذ بمغناهم حلالا لهم طلقا بأيديهم بيض بها الموت أحمر ... وسمر لدى الهيجاء تحمل الزرقا أيا سيّد العرب الكرام ومن ... غدت سيادتهم للنّاس كلّهم حقّا «1» بدأ الشاعر مدح العرب بالشجاعة والمنعة، وعند ما وصل إلى مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصفه بسيد العرب الكرام، الذين تحقّ سيادتهم على الناس جميعا، فهل يوجد تعبير أفصح من هذا، يوضح ما كان يعتمل في نفوس العرب آنذاك، ويجسّد تطلعاتهم إلى السيادة في بلادهم، وتململهم من تسلط المماليك عليهم؟ ولكن إدراجه هذا المعنى في المدح النبوي يمنع مؤاخذته عليه، ويتيح له الانتشار بين الناس، وترديده كلما ردّدت قصيدته أو أنشدت في مجالس الذكر والإنشاد، أو في الاحتفالات الدينية. ويقرب من توجه الجهني هذا توجه الشاب الظريف في مدحة نبوية له، تحدث فيها عن العرب، وأظهر تعلّقه بالعروبة في عصر كانت الإشادة فيه مقصورة على الأتراك الحاكمين، فأطلقها صرخة عربية قائلا: قوم هم العرب المحميّ جارهم ... فلا رعى الله إلّا أوجه العرب أعزّ عندي من سمعي ومن بصري ... ومن فؤادي ومن أهلي نشبي إن كان أحسن ما في الشّعر أكذبه ... فحسن شعري فيهم غير ذي كذب «2» فالعرب هم أصحاب المروءة والشهامة، الذين يحفظون من يستجير بهم، وهذا يظهر إيمان الشاب الظريف بالعروبة، وصدقه في الإشادة بالعرب، وفي دعائه لهم تأكيد

_ (1) اليونيني: ذيل مرآة الزمان 4/ 219. (2) ديوان الشاب الظريف ص 56.

على أفضليتهم، وكأنه يعبر عن سخط العرب على واقعهم، ويظهر شعورهم بالغبن، إلى جانب اعتزازهم بعروبتهم، ولذلك أخذ شعراء المدح النبوي ينشرون فضائل العرب ويذيعونها بين الناس، لينتصف العرب من الأعاجم في بلادهم، وليعرفوا هم وغيرهم قدر أنفسهم ومكانتهم في الدولة الإسلامية. وهذا ما نجده عند ابن الجيّاب الأندلسي الذي اغتنم حديثه عن نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمدح العرب جميعا، وفصّل في مدحهم وأسهب، في عصر لم يعودوا فيه سادة الأمر، وأفل نجمهم أو كاد، فقال: فخير الورى العرب الذين هم هم ... عطاء نوال أو لقاء قنابل أكفّهم تزجي المنايا أو المنى ... وتهمى ببأس لا يردّ ونائل وألسنتهم جاءت وفاق أكفّهم ... كعضب يمان أو كعذب سلاسل فقد سارت الرّكبان تنشر فخرهم ... كنشر الصّبا عرف الرّبا والشّمائل «1» فما دواعي هذا المدح المستفيض للعرب في هذه المدحة النبوية؟ وما هي مسوغات التفصيل في فضائل العرب وميزاتهم؟ إن مناسبة هذا المدح، وهي مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا تتيح للشاعر أن يسهب في مدح العرب هذا الإسهاب. لقد قصد إلى ذلك قصدا وأراده، لأنه تعبير عمّا يعتلج في نفسه ونفوس العرب من تطلع إلى إثبات الوجود، والانتصاف من المتسلطين على بلادهم، والذين لا يوازون العرب في أمجادهم وفضائلهم، ولكن ما أوصلهم إلى حالهم هذه هو تقاعسهم وتفرقهم، وجهلهم قدر أنفسهم، ولذلك يأتي هذا الشعر ليثير في أنفسهم الحميّة

_ (1) ديوان ابن الجياب الأندلسي: ورقة 7.

العربية، وليذكرهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم، وأنهم حملة الإسلام، وأحق الناس بسيادة دولته، ولهذا يقول لسان الدين بن الخطيب في مدحة نبوية، مادحا العرب: جيران بيت الله والعرب الألى ... أضحوا على قنن النّجوم قعودا تخذوا السّيوف تمائما لوليدهم ... والحرب ظئرا والسّروج مهودا «1» فلماذا يسود الأعاجم العرب؟ ولماذا يفخرون عليهم، وهم جيران بيت الله وأهل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحاب الأمجاد الباذخة والشجاعة النادرة؟ إنه الزمان الذي لا يبقي أحدا على حاله، والأمور دول، من سره زمن ساءته أزمان، أو لا يعيد التاريخ نفسه؟ إن ابتعاد العرب عن السلطة هذا الزمن الطويل، وبقاءهم في الظل، لم يمنع ابن مليك الحموي أواخر العصر المملوكي وبداية العصر العثماني، من أن يشيد بالعرب في مدحة نبوية، فيقول: بهم ضاء وجه الدّهر وافترّ ثغره ... فأيّامهم في الدّهر عيد وموسم «2» ولا شك أن المدائح النبوية أثارت بما تضمنته من مدح للعرب، في نفوسهم الرغبة بالانتصاف وتحقيق العدالة في الدولة المملوكية، وأحيت الأمل باسترجاع مكانتهم السامية في الدولة الإسلامية، وذكّرت الناس بحق العرب، ووجوب مراعاة جانبهم، لفضلهم السابق، ولشرفهم ببعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بينهم. فلم تكن المدائح النبوية ثناء خالصا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإشادة بخصاله وشمائله الكريمة، وتذكيرا بأثره الخالد في حياة البشرية فقط، بل كان شاعر المدح النبوي إلى جانب ذلك يغتنم فرصة مدحه للنبي الكريم، ليبث في أثنائه إشادته بالعرب والعروبة،

_ (1) ديوان لسان الدين بن الخطيب: ص 486. (2) ديوان ابن مليك الحميوي: ص 5.

القسم الثاني - الأثر التعليمي للمدائح النبوية:

وينبّه الناس على مفاهيم العدالة والمساواة، ليرفضوا واقعهم السيء الذي تختل فيه الموازنة بين الفئات التي يتكون منه المجتمع العربي الإسلامي. القسم الثاني- الأثر التعليمي للمدائح النبوية: إن انشار المدائح النبوية الكبير بين الناس قد ترك أثرا في نفوسهم، وقبولا، ولولا ذلك ما أصبحت شغل المجالس المختلفة، ومادة الإنشاد في الاحتفالات والأعياد. والمدائح النبوية حافلة بالمعلومات التاريخية والدينية، ومملوءة بصور العظمة والبطولة، والمواقف الأخلاقية الفذة، وفيها القدوة الحسنة، والدروس المفيدة، والموعظة المقنعة، ولذلك لا بد أن يفيد الناس من المدائح النبوية تاريخا وخلقا ومعرفة بسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعجزاته، وأن يحاولوا الاقتداء بسنّته، والابتعاد عمّا يخالف هديه. ولا شك أن معظم مادحي النبي كانوا يريدون نشر الفضيلة عند ما رصعوا مدائحهم بفضائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشمائله الكريمة، ويهدفون إلى استخلاص العبر من مواقفه السامية وسيرته المباركة، ويدعون الناس إلى الاقتداء بهديه وسلوك صحابته الغرّ الميامين، ولم يكونوا يقررون شيئا ثابتا معروفا. إنهم نقلوا المقاصد الدينية إلى الشعر، وتابعوا الدين في تناوله للأخلاق بالصقل والتهذيب، وتوجيه الناس نحو الآداب العامة، ونحو إرساء الروح الجماعية للأمة الإسلامية، وجعل المسلمين قوة واحدة ومجتمعا فاضلا. وكانت المدائح النبوية في طليعة أشكال الكتابة الأدبية التي كانت تظهر في العصر المملوكي، هادفة إلى الإصلاح الخلقي، مثل الرسائل والكتب التي تناولت الاقتصاد والاجتماع والعقيدة بالدرس والانتقاد، وبيّنت طرق الإصلاح لها، ومنها (إغاثة الأمة) للمقريزي، و (معيد النعم) للسبكي، و (التيسير والاعتبار) للأسدي.

القدوة والمثل:

القدوة والمثل: وأول ما قدمته المدائح النبوية في هذا الباب تجسيد القدوة المثلى برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان المثل الأعلى في مناحي الحياة كلها، والذي لا يمكن اللحاق به، ولكن الاقتداء به يجعل المرء مستقيما في حياته، سعيدا متعاونا مع أقرانه، راضيا لثقته بأنه يتبع سنة خير الخلق التي تضمن له رضا الله تعالى ومغفرته. وإذا اقتدى أفراد المجتمع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن المجتمع سيكون مجتمعا خيّرا قويا متماسكا، يسوده العدل والرحمة والمحبة. ففي مجتمع كان فيه المستأثرون بالثروة قلّة، وبقية الناس تعاني العوز والمرض، لا بد من تذكير الأغنياء بأن رسول الله أعظم إنسان خلقه الله، كان متواضعا رحيما ناكرا لذاته، بعيدا عن التفكير في الثراء وجمع المال، ولو أراد ذلك لحصل على ثروات الأرض وكنوزها، وقد ردّد شعراء المدح النبوي هذه الصفة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتحدثوا عن زهده في الدنيا وبهرجها، ليتعظ المتهالكون على المال، والذين يظلمون من أجل الحصول عليه وكنزه. ودأب المصلحون في ذلك العصر على تنبيه الناس على تلك المسألة، فقال الماوردي في كتابه (أدب الدنيا والدين) عن المال: «ولو كانت فيه فضيلة لخصّ الله به من اصطفاه لرسالته، واجتباه لنبوته، وقد كان أنبياء الله تعالى مع ما خصّهم من كرامته، وفضلهم على سائر خلقه فقراء.. حتى صاروا في الفقر مثلا، قال البحتري: فقر كفقر الأنبياء وغربة ... وصبابة ليس البلاء بواحد «1» لقد كانت سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممّا يضرب به المثل في مناحي الحياة كلها، ومما تقارن به أعمال الناس، وكان الشعراء قبل العصر المملوكي، يتمثلون بمواقف النبي الكريم

_ (1) الماوردي: أدب الدنيا والدين ص 214 والبيت في ديوان البحتري 1/ 507.

وأقواله، فعند ما أراد شاعر مدح إنسان بالتواضع والانصياع للحق مع مكانته العالية، فإنه لم يجد مثلا لذلك أفضل من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: له حق وليس عليه حق ... ومهما قال فالحسن الجميل وقد كان الرّسول يرى حقوقا ... عليه لغيره وهو الرّسول «1» فكان الشعراء يذكّرون الناس بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيرته، ليتعظوا ويعودوا عما يخالفها، وهذا ما فعله الصفي الحلي حين حث السلطان على إقامة الحد على لصوص سرقوا ماله واحتموا بأحد نوابه، في قوله: وكذاك خير المرسلين محمّد ... وهو الذي في حكمه لا يظلم لمّا أتوه بعصبة سرقوا له ... إبلا من الصّدقات وهو مصمّم لم يعف بل قطع الأكفّ وأرجلا ... من بعد ما سمل النّواظر منهم ورماهم من بعد ذاك بحرّة ... نار الهواجر فوقها تتضرّم ورجا أناس أن يرقّ عليهم ... فأبى وقال كذا يجازى المجرم وكذا فتى الخطّاب قاد بلطمة ... ملكا لغسّان، أبوه الأيهم «2» إن الشاعر يذكر السلطان بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذي جعل الحق فوق كل العلاقات، ولم يراع في الله قرابة ومكانة، وغير ذلك ممّا يعز على النفس. وتجاوز في أخذ القدوة لإقامة الأحكام الشرعية إلى الخليفة الفاروق، فالاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبصحابته أيضا.

_ (1) المبرد: الكامل 1/ 322. (2) ديوان الصفي الحلي: ص 68.

ومن العادات الاجتماعية التي أخذ بها الناس، والتي هبطت إليهم من الجاهلية، كرههم للبنات، والتشاؤم بولادتهم، وإهانتهن، ولذلك نبّه المصلحون الناس على خطل هذه العادة التي أنكرها الله تعالى في كتابه الكريم، فقال: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى، ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ «1» وأنكرها رسول الله، فالإسلام أنزل المرأة المنزلة الكريمة التي تليق بها. ولتذكير الناس بهذا، ضرب الشعراء لهم مثلا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال أحدهم: فخير النّاس كلّهم جميعا ... رسول الله كان أبا البنات وهنّ الؤنسات وهنّ أيضا ... بعيد الموت أحرق باكيات «2» فسيّد الخلق كان أبا البنات، ولم يخدش ذلك قدره الرفيع، وإلى جانب ذلك فالبنات صاحبات مشاعر رقيقة وحنان كبير، وهن المؤنسات لأهلهن، وهن الباكيات بحرقة صادقة على موت آبائهن. وهكذا مضى الشعراء يضربون المثل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مظهرين حسن الاقتداء بسيرته الكريمة، والتأسي بأسوته الحسنة في إصلاح الظواهر الاجتماعية الخاطئة، وتعديل القيم المنحرفة عن جادة الصواب. إن مسألة الاقتداء والتّمثل بسيرة رسول الله العطرة، لم تكن مقصورة على المدائح النبوية فقط، بل إن الشعراء إذا أرادوا تقديم حجة على كلامهم، لا يجدون حجة أصدق من موقف لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو صورة من صور حياته الكريمة، أو كل ما يتصل به من قريب أو بعيد، فتمثلوا بالصحابة الكرام، وتفانيهم في خدمة دينهم ونبيهم وأكثروا من مدحهم مظهرين تضحياتهم وإخلاصهم، ضاربين مثلا رائعا تتملاه الأجيال اللاحقة، وتفيد منه.

_ (1) الآية 58 سورة النحل. (2) البلوي: كتاب ألف با 1/ 410.

وأكثر ما تمثّل به الشعراء من سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هو صبره وتجلده عند فقد عزيز عليه، وتذكير المسلمين بمصابهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند رفعه إلى الرفيق الأعلى، ولذلك قال السيوطي في إحدى مقاماته: «وأعظم ما يسلّي الوالد عن صفيه، مصيبته بسيده وهاديه ونبيه، قال صلّى الله عليه وسلّم مرشدا بالقول الصائب: من أصيب بمصيبة، فليذكر مصيبته بي، فإنها أعظم المصائب» «1» . وقد اتسع ابن العريف الأندلسي في هذا المعنى، فجعل العبرة في مصيبة المسلمين برسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامة، يجد المسلم كل المصائب تهون أمام مصيبته بفقد نبيّه، فقال: إذا نزلت بساحتك الرّزايا ... فلا تجزع لها جزع الصّبي فإنّ لكل نازلة عزاء ... بما قد كان من فقد النّبي «2» واستخدم الشعراء هذا المعنى في الرّثاء، فعند ما رثى شاعر اسمه (أحمد بن محمد بن علي الحجازي) ابن حجر، قال فيه: يا ربّ فارحمه واسق ضريحه ... بسحائب من فيض فضلك عامره يا نفس صبرا فالتّأسي لائق ... بوفاة أعظم شافع في الآخره «3» أدى انتشار هذا المعنى وكلف الشعراء به إلى تأليف كتاب يظهر العبرة من وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومواطن الاقتداء بها، سمّاه صاحبه (سلوة الكئيب بوفاة الحبيب) ، أنشد فيه لابن حجر قوله: اصبر لكلّ مصيبة وتجلّد ... واعلم بأنّ المرء غير مخلّد

_ (1) مقامات السيوطي: ص 77، وابن ناصر الدين الدمشقي: سلوة الكئيب، ورقة 52، وسنن الدارمي، مقدمة ص 14. (2) الصفدي: الوافي بالوفيات 8/ 134. (3) ابن فهد المكي: لحظ الألحاظ ص 342.

وإذا ذكرت مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنّبيّ محمّد «1» فالشعراء استقوا من سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاني مختلفة، ضربوا بها المثل لأهل عصرهم، ليتعظوا بها، وليصلحوا من شأنهم، فالنبي الكريم هو المثل الأعلى للمسلمين، وهو القدوة لهم في كل حركاته وسكناته، فحين يعرض مدّاحه زهده وورعه وعدله، يذكّرون حكامهم بما كان عليه سيد الوجوه، وبما هم عليه الآن من غنى وظلم، وحين يتطرقون إلى جهاده وشجاعته وصبره ومصابرته، فإنهم يقدّمون للمتقاعسين عن الجهاد صور البطولة الفذّة التي تحفزهم إلى بذل كل ما يستطيعون للحفاظ على دينهم وأوطانهم. وغير ذلك كثير يقرعون به أسماع اللاهين الغافلين، ليثوبوا إلى رشدهم، وليقتدوا بسنّة هاديهم. وإلى جانب إظهار القدوة من سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرص شعراء المدح النبوي على ذكر أخلاق النبي الكريم وصحابته الأطهار بالتفصيل، ومقارنتها بأخلاق أهل عصرهم، على أمل أن يتركوا من أخلاقهم ما يبتعد بهم عن أخلاقه صلّى الله عليه وسلّم وأخلاق أصحابه، وأن يتخلّقوا بخلق من بعث ليتمم مكارم الأخلاق «2» . وإذا كانت المدائح في الشعر العربي- في أكثرها- تلبس الممدوح أخلاقا لا تصحّ له، وترفعه إلى مرتبة سامية، فإن الشعراء، وإن كانوا ينافقون ويزيفون الواقع، فقد رسموا صورة مثالية لما يجب أن يكون عليه الرجل العربي، وأشاعوا الفضائل بين الناس ليأخذوا بها، فالمجتمع يفيد بذلك من قصيدة المدح، لأنها تحيي فيه أخلاقا لا قوام له بغيرها، وقد عبّر أبو تمام عن هذا المعنى بقوله:

_ (1) ابن ناصر الدين الدمشقي: سلوة الكئيب، ورقة 52. (2) «بعثت لأتمم حسن الأخلاق» موطأ الإمام مالك، حديث 8 ص 904، «بعثت لأتمم صالح الأخلاق» مسند ابن حنبل 2/ 381.

ولولا خلال، سنّها الشّعر ما درى ... بغاة النّدى من أين تؤتى المكارم «1» وحين يذكر شعراء المدح النبوي أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخلاق صحابته، وتنتشر قصائدهم بين الناس وينشغلون بها، فإنّ هذه الأخلاق الجميلة الجليلة، سترسخ في نفوسهم، ويتخلّقون بها، ويبتعدون عمّا يخالفها. وقد نقلت كتب التاريخ والأدب أمثلة وافية للانحراف عن الخلق السوي في ذلك العصر، فكان لا بد للمصلحين، ومنهم شعراء المدح النبوي من محاربة هذا الانحراف، وتذكير أصحابه بأخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخلاق أصحابه، ولذلك ألّفت الكتب الكثيرة في مناقب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصفاته وأخلاقه، منها كتاب (عجالة الراكب في ذكر أشرف المناقب) ، قال مؤلفه: «كتبت في سفري هذا ضراعة، هي عجالة راكب، أودعتها لطائف من أشرف المناقب، استخرجت معظمها من كلام العلماء، وأدت إلى بعضها قريحتي.. لكن الأولى التأدب بأدبه، والاقتداء بهداه» «2» . ومن هذه الكتب أيضا كتاب (أدب الدنيا والدين) الذي عزا مؤلفه بعض ما أورده فيه إلى منام رأى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام ذات ليلة، فقلت: يا رسول الله، أوصني، فقال: استح من الله عز وجل حقّ الحياء، ثم قال: تغير الناس، قلت: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: كنت أنظر إلى الصبي، فأرى من وجهه البشر والحياء، وأنا أنظر إليه اليوم فلا أرى ذلك في وجهه. ثم تكلم بعد ذلك بوصايا وعظات، تصورتها، وأذهلني السرور عن حفظها، ووددت لو أني حفظتها» «3» . ولهذا أكثر شعراء المدح النبوي من الحديث عن الأخلاق في مدائحهم، ومن ذلك قول البوصيري:

_ (1) ديوان أبي تمام 3/ 183. (2) ابن الزملكاني: عجالة الراكب، ورقة 85. (3) الماوردي: أدب الدنيا والدين ص 222.

لم يعده الحسن في خلق وفي خلق ... ولم يزل حبّه شغلا لكلّ خلي وقف على سنن المرضيّ من سنن ... فإنّ فيها شفاء الخبل والخبل «1» وقد نظم ابن جابر مقصورة طويلة جعلها على أقسام، كل قسم على حرف من حروف الهجاء يسبق الألف المقصورة، وقد أورد فيها نبذة من أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتحدث عن أخلاق أهل عصره، ودعا إلى الاقتداء بخلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومنها قوله: إنّ الذي لا ينثني عن جوده ... إن بخل الدّهر لنا وإن سخا زيّنه تواضع على علا ... فما ازدهى بعزّة ولا نخا أحسن أخلاقا من الرّوض إذا ... ما اختال في برد الصّبا أو ارتدى وأضاف قائلا في مدحه: أدّبنا بسنّة أفلح من ... نمى إليها النّفس يوما أو عزا «2» وبعد أن اقتطف من أخلاق النبوة الطاهرة باقة بديعة، وعرضها أمام الناس، أخذ يقارن بين هذه الأخلاق وبين أهل عصره، فابتدأ بالحديث عن نفسه، وترفّعه عن سؤال النذل، الذي ضنّ بماله على المحتاجين فقال: لا أسأل النّذل ولو أنّي به ... أملك ما حاز النّهار والدّجا لكن إذا اضطر زمان جائر ... أمّلت من ليس يردّ من رجا «3» ثم أخذ يسرد بعض الأخلاق الفاضلة المأخوذة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووضعها في قالب الحكم، فقال:

_ (1) ديوان البوصيري ص 234. (2) المقري: نفح الطيب 7/ 310. (3) المقري: نفح الطيب 7/ 309.

هل هي إلا سنّة الحقّ التي ... أرشد من لاذبها أو احتذى كفّ اللّسان وانبساط الكفّ بال ... خير وطيب الذّكر همّ قد شذا ومن تكن دنياه أقصى همّه ... لم يرو من ثدي الحجى ولا اغتذى «1» لقد ذكر الشاعر هذه الأخلاق الفاضلة في مقصورته النبوية، وكأنه يغمز من أخلاق معاصريه، فهذه الحكم جاء بها ليجابه ما انتشر بين الناس في زمانه من عادات فاسدة وأخلاق مذمومة، لذلك عاد إلى إدراج طائفة أخرى من الأخلاق على شكل حكم، فقال: والعلم في حال الغنى والفقر لا ... يزال يرقى بك كلّ مرتقى ولا ألوم المال فالمال حمى ... من جاهل يلقاك شرّ ملتقى قد جبل النّاس على حبّ الغنى ... فربّه فيهم مهاب متّقى وما لذي فقر لديهم رتبة ... ولو أفاد وأجاد واتّقى إنّ الغنى طبّ لعلّات الفتى ... والفقر داء لا تداويه الرّقى «2» فالشاعر يعرض في مدحته النبوية عددا من الفضائل الخلقية التي يجدر بالناس أن يتحلوا بها، وينتقد بلطف بعض أخلاق أهل عصره، وخاصة البخل وحب المال وكنزه ومراعاة الغنى واحترامه على علّاته، وازدراء الفقير على علمه وأدبه. وقد مرّ كثير من الأمثلة التي أظهر فيها الشعراء اهتمامهم بالأخلاق الفاضلة، حين مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخلقه وشمائله وخصاله الكريمة، وحين أشادوا بصحابته الكرام، وتخلّقهم بأخلاق حبيبهم المصطفى.

_ (1) المقري: نفح الطيب 7/ 311. (2) المصدر نفسه 7/ 319.

وإلى جانب ذلك حاول شعراء المدح النبوي توجيه الناس إلى الأخلاق الحسنة بالحكم والمواعظ التي نثروها في ثنايا مدائحهم النبوية، مثل قول الشهاب محمود في مقدمة نبوية له: ليس موت الفتى إذا صح منه ال ... قصد دون الذي يحاول عارا ليس شيء يكفي فإن تقنع النّف ... س تجد قلّ ما ترى إكثارا «1» لقد أراد شعراء المدح النبوي أن يعلّموا أبناء عصرهم الأخلاق الحميدة، فعرضوا أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحميدة وأخلاق صحابته الكرام في قصائدهم، ليعرفها الناس ويستذكروها ويتخلقوا بها، وانتقدوا بعض أخلاق عصرهم السيئة، ليتركها أصحابها، وأظهروا فوائد الخلق الجميل، ليتحول إليه الناس، ولا شك أن انشغال الناس الكبير بالمدائح النبوية، جعلهم يتأثرون بهذا الجانب منها، ويتخلّقون بالأخلاق التي أوردها شعراء المدح النبوي وحبّبوها ودعوا إليها بوعي أو دون وعي. كذلك عرض شعراء المدح النبوي عقائدهم، حتى تنتشر بين الناس، وأوضحوا مذاهبهم ليتعلمها الناس ويأخذوا بها، وكل واحد منهم يريد لمذهبه الانتشار والانتصار. فالصرصري الحنبلي، يؤكد في مدائحه النبوية تمسكه بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورفضه للآراء المخالفة، وخاصة تلك التي تجتهد في الذات الإلهية، فيقول: على أنّني إن شاء ربّي آخذ ... بسنّتك الحسنى ولست مبدّلا ولست بسبّاب ولا بمشبّه ... ولا ربّ تأويل ولست معطّلا «2» إنّ الشاعر يتبرأ من السبّابين الذين يسبون بعض الصحابة، ومن الذين يتأوّلون

_ (1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 96. (2) ديوان الصرصري، ورقة 122.

كلام الله تعالى ويصرفونه إلى غير مقاصده، والمعطّلين الذين يعطّلون المشيئة الإلهية، ويعلن التزامه بالسنّة، ويطلب من الناس الالتزام بها، لأنها تعصم من الانحراف والزّيغ عن الإسلام الصحيح، والدّين القويم. وهو يدعو الناس إلى ذلك صراحة، وإلى اتباع السنّة الشريفة، والحرص على الجماعة، لأن الخروج عن السنة والجماعة، خروج عن الدين القويم، فيقول: وإن شئت أن تحيا سعيدا مهذّبا ... بالسّنّة الزّهراء ذات الهدى خذ عليك بها فاشدد يديك بحبلها ... ومن يطّرحها نابذا فله انبذ «1» في حين نجد الصفي الحلي، الذي عرف بتشيعه، دائم الإشارة إلى ذلك والدعوة إليه، إنه يفضّل آل النبي الكرام على غيرهم، وفي ذلك يقول: لهم إخاء ورحمى غير منكرة ... والذّكر أنزل في تعريض سبقهم هم هم في جميع الفضل ما عدموا ... فضل الإخاء ونصّ الذّكر والرّحم «2» فالمدح النبوي حوى عرضا للعقائد وجدلا حولها، كل شاعر يحسّن مذهبه ويدعو له، فيردّ عليه شاعر آخر أو عالم لا يرى رأيه.

_ (1) ديوان الصرصري، ورقة 23. (2) ديوان الحلي ص 700.

المعرفة:

المعرفة: وبذلك يتضح لنا كيف عرض شعراء المدح النبوي عقائدهم، وكيف دعوا إليها، وأوضحوها للناس، فإذا لم يتأثر من يرى رأيا بالرأي المخالف له، فإنه على الأقل عرفه، وعرف أصوله، والمعرفة أحد أهداف المدح النبوي، وغاية من غاياته، كما يظهر في شرح العقائد والمذاهب، وكما يتضح من ذكر مناسك الحج أو الطريق إليه. فقد استفاض الصرصري في إحدى مدائحه النبوية في إيضاح معالم طريق الحج من العراق، كما أوضح شروط الحج وبيّن مشاعره، وهو لا شك يريد بذلك أن يطّلع الذين يجهلون الطريق أو يجهلون شروط الحج ومشاعره، على منازل الطريق، وعلى أصول أداء هذه الفريضة. فقال في مدحة نبوية: ورماها المسير بحصن بشير ... ساميات الأعناق مستبشرات وطوت بالمسير بابل طيّا ... ورمت خلف ظهرها بالفرات وقضت باقي المارب بالكو ... فة واستقبلت عراص الفلاة ثمّ مرّت بالقادسيّة واجتا ... زت بخفّان ترتمي سائرات وارتمت بالغوير بعد زرود ... وأحاطت بالأجفر المترعات «1» وبعد أن يصل إلى الحجاز، ويعرّف أهل العراق طريقهم إليه، يذكر لهم شروط الحج ومشاعره ليعرفها من يجهلها، فيقول:

_ (1) ديوان الصرصري، ورقة 14.

حرّموا الطّيب والنّساء وقتل الص ... صيد إذ أحرموا من الميقات نزعوا عنهم المخيط فهم بي ... ن يديه كهيئة الأموات ثم ساروا بنشوة وابتهاج ... يطلبون الأعلام من عرفات جمعوا الفضل حين حلّوا بجمع ... وأعدّوا الحصى بمزدلفات جمعوا بين رمي وتحليق الن ... نواصي والنّحر للبدنات وطواف القدوم والسّعي والتّك ... بير بعد الفرائض الرّاتبات «1» إنّ نظم شروط الحج في القصائد النبوية يختلف عن شرحها في كتاب، لأنها أسهل للحفظ من ناحية، ولأن الشاعر يضيف إليها أحاسيس الحاج ومشاعره، فيثير الشوق في النفوس لتأدية هذه الفريضة من ناحية ثانية، فهذه المعلومات التي ضمّنها مادحو النبي لقصائدهم، توسع معارف الناس، وتطلعهم على جوانب من علوم قد لا يمكّنهم مستواهم الثقافي من الاطلاع عليها، وكذلك تمكّنهم من حفظها، فهي وإن أضرّت نوعا ما بشاعرية قصائد المدح النبوي، إلا أنها أفادت المطلعين عليها، وأدّت مهمة تثقيفية، رآها شعراء المدح النبوي ضرورية، ولذلك أكثروا من مثل هذه المعلومات، والتي هي في الغالب قريبة من موضوع المدح النبوي، أو الثقافة الدينية، ويندر أن تخرج إلى ميادين العلوم الآخرى، مثلما فعل البرعي في مطلع إحدى مدائحه النبوية حين أشاد بعلم النحو، وأظهر فوائده، فقال: كلام بلا نحو طعام بلا ملح ... ونحو بلا شعر ظلام بلا صبح إذا شرحوا فضل العلوم فإنّني ... غنيّ بفضل النّحو عن ذلك الشّرح

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 15.

يليق الخطاب اليعربيّ بأهله ... فيهدي الوفا للنّقص والحسن للقبح «1» إلا أن المعلومات الأهم التي أوردها شعراء المدح النبوي، وأشاعوها بين الناس، هي التي تتعلق بسيرته العطرة، فكثير منهم نظموا السيرة أو نظموا جانبا منها، فعرّفوا الناس بجوانب كثيرة من السيرة النبوية، وأظهروا مواطن العظمة فيها، واستخلصوا العبر منها، ومكّنوا الناس من حفظها واستذكارها، على الرغم من أن هذا الأمر قلّل من نصيب الشعر في مدائحهم، وقرّبها من المنظومات العلمية. وتحدث مادحو النبي صلّى الله عليه وسلّم في نظمهم للسيرة عن الصحابة الكرام، وأعمالهم وجهادهم، وإنجازاتهم الكبيرة وخدمتهم للإسلام، ونشره، ونصرتهم لنبيّه الأمين، ليعلم بها من كان جاهلا، ويحفظها من كان ناسيا ويقتدي بها أصحاب الأمر، ومن ذلك قول البوصيري: فلله صدّيق النّبيّ الذي له ... فضائل لم يدرك بعد لها حدّ ومن جمع القرآن فاجتمعت به ... فضائل منه مثل ما اجتمع الزّبد ومن لم يعفّر- كرّم الله وجهه- ... جبين لغير الله منه ولا خدّ «2» إلا أن شعراء المدح النبوي لم يقصروا اهتمامهم على السيرة فقط، بل أكثروا من ذكر معجزاته، وأفاضوا في ذلك، ظنا منهم أنهم بذلك يصلون في مدحه صلّى الله عليه وسلّم إلى الذروة وأن المدح بمعجزاته لا مزيد عليه، وهم يريدون إضافة إلى ذلك نشر هذه المعجزات وتعريف الناس بها، فنظم المعجزات شعرا يجعلها أيسر حفظا، وتصل إلى جميع الناس، ومن ذلك قول البوصيري:

_ (1) ديوان البرعي ص 136. (2) ديوان البوصيري: ص 116.

بجمال صورته تمدّح آدم ... وبيان منطقه تشرّف يعرب كشف الغطاء له وقد أسري به ... فعلومه لا شيء عنها يعزب ودنا دنوّا لا يزاحم منكبا ... فيه- كما زعم المكيّف- منكب وتكلّم الأطفال والموتى له ... بعجائب فليعجب المتعجّب «1» وبذلك نرى أن شعراء المدح النبوي أفادوا الناس من قصائدهم علما وخلقا، فأطلعوهم على السيرة النبوية وعرّفوهم على معجزات النبي الكريم، وأتحفوهم بأخلاقه السامية. إلى جانب المعلومات المتفرقة عن العقيدة الإسلامية، ومذاهب الناس فيها، فكان لشعرهم أثر في التّخلق بالأخلاق الفاضلة، وفي معرفة المعلومات الكثيرة المتفرقة التي يحتاج إلى معرفتها كل مسلم.

_ (1) المصدر نفسه ص 90.

الفصل الثاني أثر المدائح النبوية في الثقافة

الفصل الثاني أثر المدائح النبوية في الثقافة القسم الأول- أثر المدائح النبوية في الشعر: إن انتشار المدائح النبوية في العصر المملوكي قد ترك أثره في الشعر العربي في ذلك العصر، وقد تبدّى هذا الأثر بوجوه عدة، منها رسوخه غرضا شعريا مستقلا من أغراض الشعر العربي، واحتلاله مساحة واسعة من ساحة الشعر العربي، ومنها تأثيره في أغراض الشعر الآخرى، فقد ترك ظلاله على بعض موضوعات الشعر العربي في بعض قصائدها. ولشعراء المدائح النبوية رأي في تأثير المدح النبوي في شعرهم، إبداعه وتشكيله، إلى جانب أن بعض الباحثين رأوا أن المدح النبوي قد أطل إطلالة خفيفة على فنون لم تعهد في الشعر العربي. وقبل أن يضحي المدح النبوي فنا شعريا مستقلا واضح المعالم، رأى الأدباء أن له أثرا في أصحابه، فابن رشيق القيرواني يورد في باب (من رفعهم الشعر) من كتابه (العمدة) حديثا عن حسان بن ثابت يقول فيه: «لم تكن له ماتّة ولا سابقة في الجاهلية والإسلام، وقد بلغ من رضا الله عز وجل ورضا نبيه عليه الصلاة والسلام ما أورثه الجنة» «1» . وأورد في باب (من قضى له الشعر ومن قضى عليه) عن حسان بن ثابت أيضا قوله: «أنشد حسان بن ثابت حين جاوب أبا سفيان بن الحارث بقوله:

_ (1) ابن رشيق: العمدة 1/ 44.

أثره في الإبداع الشعري:

هجوت محمّدا فأحببت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء فقال له: جزاؤك عند الله الجنة يا حسان.. فلمّا قال: فإنّ أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمّد منكم وقاء قال له: وقاك الله حرّ النار، فقضى له بالجنة مرتين في ساعة واحدة، وسبب ذلك شعره» «1» . فمدح النبي رفع شأن الشعراء وشهرهم، وضمن لمعاصري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجنة بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضاه. أثره في الإبداع الشعري: ولشعراء المدح النبوي آراء حول تأثير المدح النبوي في الشعر، أوردوها في مدائحهم النبوية، وكل منهم له رأيه الذي استقاه من تجربته مع المدح النبوي. فإلى جانب أثر المدح النبوي في نفس الشاعر، يؤثّر في إبداعه الشعري، ويعطيه صورة أفضل، أو كما قال الصرصري في بيان أثر المدح النبوي في شعره: بمديحه العطر المنيف تعطّرت ... وتطهّرت وتنوّرت أوزاني يعطي القريض غضاضة ونضارة ... وفصاحة تربي على سحبان «2» فالمدح النبوي يعطّر شعره كله، ويطهره من فساد القول وإثمه، فتصبح له نكهة أخرى وموقع مؤثر محبب في النفوس، وهو إلى جانب ذلك يدفع الشاعر إلى الإجادة في قوله، ليرتفع إلى مقام الموضوع السامي، فتكون النتيجة شعرا نضرا فصيحا، لا يجاريه في الفصاحة مجار.

_ (1) ابن رشيق: العمدة 1/ 53. (2) ديوان الصرصري: ورق 115.

ووصف مدحة نبوية له بقوله: أتيتك يا خير البرايا بمدحة ... أطاعت قوافيها بغير تكلّف عليها بهاء من ثنائك باهر ... شهيّ إلى قلب المحبّ المشغف «1» لقد أسعفه المدح النبوي على النظم دون تكلّف وتصنّع، وبراحة تامة، فجاءت قصيدته جميلة، ترتاح إليها قلوب محبي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فالمدح النبوي يضفي على الشعر بهاء، ويحلّيه برونق ورواء، وحين ينظم الشاعر المدح النبوي يأتي شعره رائقا مهذبا بعيدا عن الصعوبة والمعاظلة، ليس فيه عويص: إذا قيل فيك الشّعر جاء مهذّبا ... جليّ المعاني ليس فيه عويص ووصفك يعطي الفهم نورا كأنّه ... على الدّرّ في البحر الخضمّ يغوص «2» وقارن الصرصري بين الشعر الذي يمدح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والشعر الذي يمدح به غيره، فقال: نظم القريض بمدح غيرك نقده ... زيف ونظم مديحك الإبريز كلّ العروض بحسن مدحك كامل ... يحلّى به المقصور والمهموز «3» فالمدح النبوي عند الصرصري يحسّن الشعر ويجمّله، ويحثّ القريحة وينشّطها، ويجبر الشاعر على الارتقاء بشعره إلى سويّة هذا الموضوع. أما ابن نباتة، فإنه يجعل نظم المدح النبوي مثل الصياغة، وهذا إعلاء لشأوها، وإظهار لأثرها في شعره، ولسويته الفنية التي توازي الذهب، فيقول:

_ (1) ديوان الصرصري: ورقة 67. (2) المصدر نفسه: ورقة 52. (3) المصدر نفسه: ورقة 48.

أصوغ على الدّرّ اليتيم مدائحا ... أعدّ بها من صاغة الشّعراء «1» وعلى الرغم من استخدامه مصطلحات الشعر في بناء معانيه، إلا أنه عبّر عن صنعة الشعر التي ترتقي في المدح النبوي، الذي جعله في قصيدة أخرى عاصما للشعر من الانحدار، فقال: فلولا معرب الأمداح فيه ... هوى بيت القريض ولا بناء «2» وأوضح الكندي الدشناوي أثر المدح النبوي في شعره، حين ذهب إلى أنه عند ما ينظم المدح النبوي يأتي شعره جزلا متماسكا، فصفات النبي تحلي الشعر وتعلي قيمته، وتعين القريحة الضعيفة، وتحثها على الإبداع فيأتي الشعر جميلا قيّما، أو كما قال: أبيت سوى مدح خير الورى ... فأصبح نظمي وثيق العرا بروحي صفات تحلّي القري ... ض وتسكبه ذهبا أحمرا تعين القريحة أنّى ونت ... وتبرز ألفاظها جوهرا «3» وقد عبّر الدروكي عن الرأي السائد بين الشعراء حول المدح النبوي والشعر، وهو أنه يجب أن تكون سويّة الشعر الذي يمدح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عالية، تليق بهذا المدح، وألا ينظمه إلا من يملك الموهبة والمقدرة والثقافة، فقال في مقدمة مدحة نبوية: قيل اتّخذ مدح النّبيّ محمّد ... فينا شعارك إنّ شعرك ريّق وعلى بناتك لليراعة بهجة ... وعلى بيانك للبراعة رونق «4»

_ (1) ديوان ابن نباتة: ص 15. (2) المصدر نفسه: ص 30. (3) الأدفوي: الطالع السعيد ص 490. (4) الصفدي: الوافي بالوفيات 5/ 31.

أثره في قصائد الشعر الآخرى:

فالناس هم الذين طلبوا من الشاعر المتمكّن أن يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم يريدون لمدح النبي الشاعرية الفياضة والمقدرة والتمكن، ليأتي هذا المدح فنا شعريا راقيا، تصبو إليه النفوس وتستمع به. لأن قصائد المدح النبوي عندهم تؤثّر في سامعها، فتفيده وتدخل نشوة الإيمان والحب إلى نفسه، وترفع قدر الشعر وقدر صاحبها، وتنشر مكارم الأخلاق بين الناس، وهي على غاية من الجودة والجمال، لأن الشاعر يحتفل لها كل الاحتفال، ويجهد كي تأتي على أحسن ما تكون صياغة وسبكا، لتليق بموضوعها. فشعراء المدح النبوي حرصوا عند نظم مدائحهم النبوية على أن يجيدوا النظم، وأن يحتفلوا له كل الاحتفال وأن يرقوا في أسلوبهم قدر الإمكان، نظرا لقداسة الموضوع وسموه، ولاحظوا أنهم كلما أرادوا مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تيسّر لهم النظم، وتفتحت قرائحهم، فجاء شعرهم في المدح النبوي أفضل من شعرهم في سواه، وكأنهم شعروا أن للمدح النبوي أثرا في شعرهم وفي عملية الإبداع الشعري عندهم، فالمدح النبوي يجعل شعرهم منتشرا بين الناس، ويشهرهم عند المهتمين بالشعر، ولذلك يحرصون على إجادته، وبذلك يكون موضوع المدح النبوي دافعا للشعراء كي يحافظوا على جودة شعرهم، وكيلا ينحدروا في نظمه انحدارهم في نظم الموضوعات الآخرى. أثره في قصائد الشعر الآخرى: وللمدح النبوي أثر آخر في شعر العصر، يتجاوز المدائح النبوية نفسها، وما أشاعته من جودة واهتمام بالشكل الشعري، ويصل إلى القصائد المنظومة في مواضيع مختلفة، وخاصة الشعر الديني الذي يقترب من المدح النبوي. فشعراء ذلك العصر اعتادوا أن يختموا قصائدهم بأحد عناصر المدح النبوي، وهو

الصلاة على النبي، مثلما يفعلون في كتبهم وخطبهم، فالبرعي أنهى إحدى قصائد الدعاء والابتهال، بعد أن تحدّث عن قدرة الله تعالى وصفاته، وأسس التوحيد الإسلامي، بقوله: وصلّ وسلّم كلّ لمحة ناظر ... على أحمد ما حنّ رعد مجلجل صلاة تحاكي الشّمس نورا ورفعة ... وتفضح أنوار الرّياض وتخجل تخصّ حبيب الزّائرين وتنثني ... على آله إذ هم أعزّ وأفضل «1» وحين نظم السرميني «2» منظومة لغوية، بدأها بالحمد والصّلاة على النّبيّ، فقال: الحمد لله وصلّى أبدا ... على النّبيّ العربيّ أحمدا من خصّه الله بخير الألسن ... وبالهدى إلى السّبيل الحسن «3» ومدح الفرفوري السلطان قانصوه الغوري بقصيدة، أشاد فيها بفضائله الدينية، وختمها بالصلاة على النبي فقال: ومولد خير الخلق أجراه عادة ... بها كلّ خير دائما يتولّد وألف صلاة مع سلام تصاعدت ... يلقاهما خير الأنام محمّد «4» وجاء في نهاية قصيدة مدح لشاعر يدعى الشيخ بدر الدين الزيتوني:

_ (1) ديوان البرعي ص 32. (2) السرميني: علي بن كامل بن إسماعيل السلمي، رحل للعلم إلى حواضر مصر والشام، واستقر ببلده، قرب حماة قاضيا مفتيا مدرّسا للفقه واللغة والأدب إلى أن توفي بعد سنة (860 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 5/ 226. (3) السخاوي: الضوء اللامع 5/ 276. (4) الغزي: الكواكب السائرة 3/ 143.

فالله ينصره ويبقي لنا ... أيّامه أسنى بلا جور وصلّ ربّي على المصطفى ... منقذنا من كلّ محذور صلاة زيتون يرى نشرها ... أطيب من مسك وكافور «1» فانتشار المدح النبوي جعل الشعراء يضمّنون قصائدهم بعض مفرداته، وخاصة اختتام قصائدهم بالصلاة على النبي، أو الابتداء بها. وقبل العصر المملوكي كان بعض الشعراء يمدحون الخلفاء العباسيين والخلفاء الفاطميين بمثل ما يمدح الشعراء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فابن النبيه «2» له عدة مدائح في خلفاء بني العباس، لولا ذكر قرائن فيها، تدل على أنها منظومة في مدح خليفة، لظن أنها منظومة في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومنها قوله في مدح الخليفة الناصر: بغداد مكّتنا وأحمد أحمد ... حجّوا إلى تلك المنازل واسجدوا فهناك من جسد النّبوّة بضعة ... بالوحي جبريل لها يتردّد هذا هو السّرّ الذي بهر الورى ... في ظهر آدم والملائك سجّد هذا الذي يسقي العطاش بكفّه ... والحوض ممتنع الحمى لا يورد «3» ولا ندري إن كان ابن النبيه قد نظم هذا المدح وعينه على مدائح نبوية سابقة أو معاصرة له، أم أنه نظمه ابتداء، وجاء شعراء المدح النبوي فجاروه في معاني شعره

_ (1) ابن إياس: بدائع الزهور 4/ 241. (2) ابن النبيه: علي بن محمد بن الحسن، شاعر منشئ، مدح الأيوبيين وتولى ديوان الإنشاء، له ديوان شعر، توفي سنة (619 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 66. (3) ديوان ابن النبيه ص 3.

ونقلوها إلى مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمعانيه في مدح الخلفاء هي نفسها معاني المدح النبوي. وتابعه عدد من شعراء ذلك الوقت في معاني مدحه للخلفاء، وكأن هذا الأمر كان منتشرا، لا حرج فيه. فمعاني المدح النبوي كانت شائعة في القصائد الآخرى، يستخدمها الشعراء للمبالغة والافتتان في تقليب المعاني، ورأينا كيف أكثر الشعراء من التمثّل بأحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضرب المثل به، والاحتجاج لأفكارهم وما يذهبون إليه. ووصل الأمر إلى الغزل، فاستخدمت معاني المدائح النبوية في تلوين معاني هذا الفن، فالوأواء الدمشقي، «1» حلّف حبيبته قائلا: إنّي سألتك بالنّبيّ محمّد ... ووصيّه الهادي الأمين المهتدي هلّا هجرت بفيك قولك سيّدي ... مولى يقول لعبده يا سيّدي «2» وللوأواء أبيات غزلية أخرى، يظهر أنها مقدمة لمدحة نبوية لم تصلنا، يجعل فيها مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلاصا له من متاعب الحب، ومدخلا إلى المغفرة والثواب، فيقول: يا من نفت عني لذيذ رقادي ... مالي ومالك قد أطلت سهادي وأقول ما شئت اصنعي يا منيتي ... مالي سواك ولو حرمت مرادي إلا مدح المصطفى هو عمدتي ... وبه سألقى الله يوم معادي «3»

_ (1) الوأواء الدمشقي: محمد بن أحمد الغساني، شاعر مجيد: كان مناديا بدار البطيخ بدمشق له ديوان شعر، توفي سنة (385) . ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 240. (2) ديوان الوأواء الدمشقي: ص 89. (3) الأبشيهي: المستظرف 2/ 177.

ونجد في الغزل أيضا أبياتا لشاعر يدعى ابن أبي أحمد العسكري يعكس فيها ما عهدناه في المدائح النبوية، حين يستخدم مصطلحات المدح النبوي في الغزل، في حين أن شعراء المدح النبوي استخدموا الغزل وعباراته في المدح النبوي، فهو يقول: لولا تحدّيه باية سحره ... ما كنت متّبعا شريعة أمره رشأ أصدّقه وكاذب وعده ... يبدي لعاشقه أدلّة كفره ظهرت نبوّة حسنه في فترة ... من جفنه، وضلاله من شعره «1» ومن الطّريف أن تستخدم معاني المدح النبوي في الهجاء، فحين وقف أحد الشعراء على شعر ابن الشجري «2» ، قال: يا سيّدي والذي أراحك من ... نظم قريض يصدى به الفكر مالك من جدّك النّبيّ سوى ... أنّك ما ينبغي لك الشّعر «3» فاستخدام معاني المدح النبوي في مواضيع الشعر الآخرى، يظهر مدى انتشار هذا الفن، ومدى تأثيره في الشعر. وكان شعر المدح النبوي غزيرا جدا، لا يحيطه حصر، وبلغ شعراء المدح النبوي عددا كبيرا لا يعلمه إلا الله، وكثير منهم نظموا دواوين مستقلة، قصروها على المدح النبوي، وقد وصف المقري المدائح النبوية بقوله: «فالأمداح النبوية بحر لا ساحل له، وفيها النظم والنثر» «4» .

_ (1) ابن الفوطي: مجمع الآداب 1/ 44. (2) ابن الشجري: هبة الله بن علي بن محمد الحسني الشريف، من أئمة العلم باللغة والأدب، كان نقيب الطالبيين بالكرخ من كتبه الأمالي وديوان شعر، توفي ببغداد سنة (542 هـ) . ابن خلكان: وفيات الأعيان 6/ 45. (3) ابن خلكان: وفيات الأعيان 6/ 49. (4) المقري: نفح الطيب 7/ 512.

وقد أدرك الأدباء والمؤلفون هذه الحقيقة، فعجبوا لهذه الكثرة الكاثرة من مدائح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتساءلوا عن المدى الذي يستطيع الشعراء الوصول إليه في هذا الباب، وما الذي يمكن أن يقولوه بعد أن بذلوا طاقاتهم كلها في نظمه؟ إن تهيّب بعض الشعراء من المشاركة في المدح النبوي لم يمنع أكثرهم من المشاركة الواسعة فيه، وإفراغ جهدهم في نظمه، ومع ذلك أدرك أهل العصر أن الإطناب في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والإكثار من نظم المدائح النبوية، لن يفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقه، إلا أن ذلك لم يمنعهم من المضي في ذلك، لأن كل شاعر حرص على أن تكون له مشاركة صغرت أم كبرت- في هذا الفن، لأنه يؤمن للشاعر الشهرة ومعرفة الناس له من ناحية، ولأنه يطمع بغفران الله وثوابه من ناحية ثانية. فالدواوين المستقلة كثيرة، والدواوين التي يغلب عليها المدح النبوي كثيرة أيضا. ديوان البوصيري في معظمه مدح نبوي، وديوان الصرصري في مجمله مدائح لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والشهاب محمود نظم ديوانا خاصا في المدح النبوي، هو (أهنى المنائح في أسنى المدائح) ، والوتري له ديوان مستقل في المدح النبوي هو «معدن الإفاضات في مدح أشرف الكائنات» ، والبرعي ديوانه مقصور على المدح النبوي والابتهالات، والنواجي له ديوان خاص بالمدح النبوي هو «شمس المطالع» وكذلك للفزاري ديوان «الوسائل المتقبلة» ، ولابن الجيّاب ديوان في المدح النبوي. ودواوين شعراء العصر، يحتل المدح النبوي جانبا هاما منها، وهناك دواوين كثيرة ذكرت في كتب الفهارس القديمة، وفي فهارس المكتبات العالمية. وندر أن تفرّد فن شعري من فنون الشعر العربي بديوان خاص به، أو قصر شاعر شعره كله على فن واحد. وهذا دليل على أن المدح النبوي أضحى في الشعر العربي فنا خاصا قائما بذاته، له أهمية كبيرة عند شعراء العربية، وله انتشاره وسيرورته. لقد أصبح المدح النبوي جزآ لا يستهان به من الشعر العربي في العصر المملوكي، وقبيله وبعده.

وإضافة إلى ذلك، وإلى الدواوين الكثيرة التي اقتصرت على المدح النبوي، فإن المدح النبوي استأثر بأكبر قصائد الشعر العربي، وأطولها، إذ أضحى طول القصائد من الظواهر البارزة في المدح النبوي، يتسابق فيه الشعراء، وكل منهم يريد أن يتجاوز سابقه، ليدلل على مقدرته، ولتكون قصيدته جامعة لمعاني المدح النبوي، وفريدة في بابها. فهمزية البوصيري تزيد على أربع مئة بيت، ونونية الصرصري وصلت إلى ثماني مئة وخمسين بيتا، وغير ذلك كثير. ونجد أيضا مجموعات شعرية ضمّت قصائد مدحية لعدد من شعراء المدح النبوي، مثل مجموعة ابن سيد الناس، وهي (مدح الحبيب) ، أودعها ما استطاع أن يجمعه من مدح الصحابة الكرام لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومثل إفراد المقري لأجزاء كبيرة من كتابه (نفح الطيب) لإيراد قصائد مختلفة من المدح النبوي، وقال عن ذلك: «هذه عدة قصائد في مدحه صلّى الله عليه وسلّم فلا بأس أن نعززها بمقطوعات..» «1» . وهناك كثير من المجموعات الشعرية المخطوطة تحت عناوين مختلفة، ضمّت كثيرا من المدائح النبوية. وفي وقت متأخر عمل النبهاني مجموعته التي نسبها إلى نفسه في تسميتها، اختار فيها مدائح نبوية نظمت منذ عهد رسول الله إلى أيامه. فغزارة المدح النبوي تجلّت في كثرة الشعراء الذين شاركوا في هذا الفن، وفي الدواوين الكثيرة المخصصة للمدح النبوي، والمجموعات الشعرية المتخصصة، وفي القصائد الطويلة التي لم يعهدها الشعر العربي من قبل. وهذا كله يدل على أن فن المدح النبوي قد رسخ وأصبح غرضا رئيسيا من أغراض

_ (1) المقري: نفح الطيب: 7/ 505.

الشعر العربي، ومن هنا يتجلى أثره في الشعر العربي، إذ أضحى أحد موضوعاته الهامة. وزاد في غزارة المدح النبوي وانتشاره، وانشغال الناس به، مشاركة من لا يأنس في نفسه مقدرة أصيلة على نظم الشعر، عن طريق المعارضة أو التشطير والتخميس، وغير ذلك من ألوان الإضافات على قصائد المدح النبوي. وأكثر القصائد معارضة من شعر المدح النبوي، قصيدة كعب بن زهير التي بدأها بقوله: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّم إثرها لم يفد مكبول «1» وقصيدة البوصيري التي مطلعها: أمن تذكّر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم «2» فهاتان القصيدتان عارضهما شعراء كثيرون، وما زالوا يعارضونهما إلى أيامنا هذه. فأكثر الشعراء الذين نظموا المدح النبوي، عارضوا قصيدة كعب هذه، وكل منهم أظهر في معارضته مقدرته الشعرية، فبعضهم تابع كعبا في معانيه وعباراته، وبعضهم اقتصرت المعارضة على الوزن والقافية. ومن القصائد التي اشتهرت ولاقت إقبالا من الشعراء على معارضتها، يائية ابن الفارض في التصوف، والتي صرف معارضوها معانيها إلى المدح النبوي، وهي التي بدأها بقوله: سائق الأظعان يطوي البيد طي ... منعما عرّج على كثبان طي «3»

_ (1) ديوان كعب بن زهير ص 6. (2) ديوان البوصيري ص 238. (3) ديوان ابن الفارض ص 3.

فالمعارضة لم تقتصر على المدائح النبوية، بل كان الشعراء يعمدون إلى قصائد تعجبهم معانيها ووزنها وأسلوبها، فيعارضونها، ويصرفون معانيها إلى المدح النبوي، إضافة إلى أن شعراء المدح النبوي، كان يتابع بعضهم بعضا، حين ينظم شاعر سابق قصيدة متميزة تنال إعجابهم، فينظمون على غرارها، مستعينين بشهرتها وإقبال الناس عليها، فعند ما نظم الصرصري مدحة نبوية خفيفة الوزن، جزلة الألفاظ، بدأها بوصف جميل للطبيعة، فقال: جرت نسيم السّحر ... على متون الغدر فجعّدتها وثنت ... أعطاف بسط الزّهر «1» عارضها الشعراء، وحين نظم الشهاب محمود قصيدته التي يقول فيها: وصلنا السّرى وهجرنا الدّيار ... وجئناك نطوي إليك القفارا «2» عارضه غير واحد. وأمثلة المعارضة أكثر من أن تحصى، فالشعراء المتأخرون كانوا لا يعجبون بقصيدة لشاعر متقدم حتى يشبعوها معارضة، وغير ذلك من زيادات التخميس والتشطير. والزيادات التي أحدثها شعراء المدح النبوي على المدائح النبوية، جعلت المدح النبوي من الغزارة بمكان، فالذي لا يجد في نفسه مقدرة على النظم الجيد للشعر، وحدته رغبة جامحة للمشاركة في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عمد إلى قصائد المدح النبوي المشهورة، فعارضها، أو شطّرها أو خمّسها، أو أجرى عليها زيادة من أنواع الزيادة

_ (1) ديوان الصرصري، ورقة 34. (2) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 1.

المعروفة، لتكون له يد في هذا الفن الجليل، فاتكأ على شعر غيره، وجعله أساسا بنى عليه شعره الخاص، فزاد عليه إيقاعا ومعنى، وجعله ملائما للإنشاد أو الغناء. وقد مرّت معنا أمثلة وافية على التخميس والتسديس والتسبيع والتشطير وما يشابه ذلك، وكلها تدل على مشاركة الناس الواسعة في نظم المدح النبوي، فكل واحد يشارك حسب مقدرته وموهبته وثقافته، ووصل الأمر إلى النظم الملحون الذي انتشر في ذلك العصر. فكل من وجد في نفسه مقدرة، مهما هان شأنها، على الخوض في بحر المدح النبوي، لم يتوان عن ذلك، وحرص على ألّا تفوته المشاركة في فن عصره الشعري. ونتيجة لذلك كان شعر المدح النبوي غزيرا، وكان ناظموه كثيرين، فرسخ فنا شعريا مستقلا، له أصوله، وله خصائصه، وله شعراؤه، وله استمراره إلى أيامنا هذه. ولا شك أن هذه الرغبة الكبيرة عند الناس في المشاركة في المدح النبوي، قد دفعتهم إلى الدرس وتحصيل الثقافة اللازمة للحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والاستعداد لنظم الشعر بعد معرفة ما يقيمه، فكان المدح النبوي أحد دوافع التعلم والتثقف، وأحد العوامل التي حثّت القرائح وأعملت العقول، ومنعت الشعراء من الاستغراق كلية في الصنعة الجامدة، والألاعيب اللفظية. فهم لا يجرؤون على التعامل مع المدح النبوي تعاملهم مع شعر الألغاز وسواها من الموضوعات التي أزجوا فيها وقت فراغهم، فقداسة الموضوع حتّمت عليهم الارتقاء بشعرهم، والحرص على جزالته، لأنه لا شيء يستحق عناء الدرس وبذل الجهد العقلي أكثر من الشعر الديني، وبذلك حافظ شعر المدح النبوي على شيء من الأصالة والجزالة، لم تتوفر للموضوعات الآخرى. وهكذا يظهر لنا أثر المدح النبوي في الشعر العربي آنذاك، إذ بعث فيه الحركة

الملاحم:

والنشاط وحافظ على صورته الأصلية، وإن كان قد تأثر بأشكال التعبير الشعري التي عرفت في ذلك العصر. الملاحم: إن من يقرأ المدائح النبوية يشعر بشيء من النّفس الملحمي فيها، وخاصة في القصائد الطويلة التي سردت سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكرت معجزاته، ووقفت عند كل صغيرة وكبيرة في حياته صلّى الله عليه وسلّم، وصورت جهاده وغزواته ومواقفه، فإننا نحس بشيء لم نألفه تمام الإلفة في الشعر العربي، لا هو مغاير تماما للشعر القديم، ولا هو متطابق معه، وربما كان تطويرا لما كان سابقا، فالشعر الذي يسرد أحداثا قصصية، يكاد يقترب بشيء من المعالجة والجمع والتوفيق، من الشكل الملحمي. وقد ألمح النقاد إلى وجود تشابه بين السير الشعبية الكبيرة التي عرفت في الأدب العربي، وبين الملاحم المعروفة في آداب الأمم الآخرى، إلا أن الملاحم نظمت شعرا، في حين أن السير الشعبية في الأدب العربي اختلط فيها الشعر والنثر، ولكننا لو جمعنا الشعر الذي ورد في السيرة الشعبية، وربطنا بعضه مع بعضه ربطا شعريا، وملأنا ثغراته، لأكمل عندنا ملحمة شعرية طويلة، تقترب كثيرا من الملاحم القديمة في الآداب الآخرى. والسير الشعبية في الأدب العربي لا يعرف لها مؤلف، أو هي من قبيل التأليف الجمعي، يزيدها الشعب كلّما امتد بها الزمن إلى أن استقرت على الشكل الذي نعرفها به اليوم، هذه السير تعبّر عن رغبة الإنسان العربي في تجسيد البطولة القومية المطلقة، لذا تلمّس أبطاله في أعماق التاريخ، وخلع عليهم من الأوصاف ما يرتاح إليه، وألبسهم من الفضائل ما يعتز به ويتطلع إليه، فكان عنترة بن شداد، وكان الزير سالم، وأبو زيد الهلالي، وغيرهم من أبطال العرب الأسطوريين.

وقد تحققت في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البطولة المطلقة والفضيلة الكاملة، ورغبة العرب في المجد والقوة، فهو مثلهم الأعلى في كل مناحي الحياة وقيمها، وهو الذي صنع لهم المجد والسؤدد والسيادة، فلماذا لم تحل شخصيته الفريدة محل الأبطال الأسطوريين في الأدب العربي، مثلما حلّت في نفوس العرب. لقد ارتاح دارسو الأدب العربي إلى الرأي القائل بخلوه من الملاحم، وأن العرب لم يعرفوا في تاريخهم الطويل بعض الفنون الشعرية التي عرفتها الأمم الآخرى، مثل الشعر الملحمي والشعر المسرحي، وأن شعرهم اقتصر على الشعر الوجداني أو الغنائي، أو الفردي في تسمية أخرى، وأن هذه الفنون لا تتلاءم مع عقلية العرب. ولكن ألم يظهر عند العرب ما يقرب من هذه الفنون الأدبية أو يشبهها؟ فالشعر الملحمي عند الأمم الآخرى، هو «شعر قصصي بطولي متشعّب، طويل السرد، فيه العظمة والخوارق والأهداف الكبيرة، والآمال الواسعة، والنزعة الإنسانية، والاتجاه القومي، والمجال الرحيب. وهو أقدم الفنون، هدفه الجماعات والأفراد، وتمجيد الأمة، لا نقد المجتمع» «1» . و «البطل الملحمي هو المثل الأعلى المحتذى، والقائد إلى الظفر الذي تعقد عليه الآمال» «2» . نلاحظ من التعاريف المختلفة لفن الشعر الملحمي أنه شعر، وأنه يروي حادثة أو مجموعة حوادث، وأنه يدور حول الحرب والبطولة وتشكّل الأمة، وصراعها مع غيرها، وإثبات وجودها، وأنه يجسد المثل الأعلى للأمة. ألا يوجد في شعرنا العربي ما يشابه ذلك.

_ (1) غريب، جورج: الشعر الملحمي ص 5. (2) المصدر نفسه ص 6.

إن في شعر المدح النبوي عناصر كثيرة تلتقي مع عناصر الملحمة، وإن كان في الملحمة (يمتزج الواقع بالأسطورة، وتختلط الملائكة بالجن، والآلهة بالبشر، والعقائد بالخرافات، والواقع بالخوارق) «1» . وعند ما نظمت الشعوب الآخرى ملاحمها، لم تكن تفرق بين الجن والآلهة، ولم تكن تفصلهم عن البشر، ولم تكن تعتقد أن هذا واقع وهذا خارق للواقع، وأن هذه عقيدة صحيحة، وهذه خرافة، بل كل ما أتت به في الملاحم كانت تعتقد به اعتقادا جازما، ولذلك إذا انطلقنا من وجهة نظر الأمم حين نظمت ملاحمها، فإننا نلتقي معها- من حيث المبدأ- في بعض صور المدح النبوي. والمتمعن في شعر المدح النبوي يجد بعض شعرائه قد ذهبوا في حديثهم عن الغيبيات كل مذهب، حتى ليحار المسلم أمام ما يوردونه من روايات غيبية، ومن عقائد غريبة، استمدوها من الأديان الآخرى والفلسفات الأجنبية. وفي الملاحم المعروفة يكون «استخدام غير المعقول في الملحمة في الأحداث العرضية، أما الموضوع الأساسي، فلا يسمح فيه» «2» . وقيل عن الطور الذي تنشأ فيه الملاحم: «كثير من الأمم في هذا الطور كان يعتقد أن الملك يستمد سلطانه من الله، لا من الأمة.. ويصبح هذا الحاكم المتصل بالآلهة والأبطال الماضين رمزا تنسج حوله أقاصيص التقديس والتبجيل.. ومن هنا ينشأ شعر القصص أو شعر الملاحم» «3» . يكاد الباحثون يجمعون على أن الأدب العربي خال من هذا الفن، فذهبوا إلى أن «ممّا يؤسف له أننا لا نستطيع هنا أن نتحدث عن الملحمة في الشعر العربي، لأن المحقق-

_ (1) غريب، جورج: الشعر الملحمي ص 6. (2) أرسطو: فن الشعر ص 67. (3) أحمد أمين: قصة الأدب 1/ 15.

حتى الآن- أن هذا النوع الأدبي لم يوجد، ولم توجد فكرته عند شاعر عربي معروف» «1» . فهذا الرأي لا يقطع بخلو الأدب العربي من الملاحم فقط، بل ومن فكرته أيضا، في حين نجد باحثين آخرين يرون في الأدب العربي ما يشبه فن الملاحم، أو ما يعد بذرة له، فمنهم من يرى أن العرب «عرفوا الشعر الملحمي، ولكنهم لم يعرفوا الملحمة كبناء» «2» . أي أن في الشعر العربي ما يحمل مواصفات الشعر الملحمي، لكنه لم ينظم في ملحمة متكاملة كتلك التي توجد في الآداب الآخرى، لأنهم «اعتنقوا الوصف في هذا الشعر وأهملوا القصة- نواة الملحمة- فاثروا الإيجاز على الإطالة، واكتفوا بالجزئيات دون الماهيات» «3» . غير أننا نجد في العصر المملوكي ذكرا للملحمة، فقد أحضر أحدهم بين يدي السلطان، «فأمر بقطع يده ولسانه، وسبب ذلك أنه كتب ملحمة، وعتّق ورقها، وأهداها إلى شيخ، وذكر فيها أنه سيلي السلطنة» «4» . فكأن الملحمة في مفهومهم هي تنبؤ بالمستقبل، ولا ندري من سياق الخبر فيما إذا كانت هذه الملحمة شعرا أو نثرا. وأشار بعض الباحثين إلى وجود تشابه بين قصائد ومنظومات في الشعر العربي وبين نوع من الملاحم في الآداب الآخرى، ورجّحوا وجود حس ملحمي في قصائد

_ (1) اسماعيل، عز الدين: الأدب وفنونه ص 128. (2) غريب، جورج: الشعر الملحمي ص 9. (3) المصدر نفسه ص 11. (4) ابن إياس: بدائع الزهور 1/ 2 ص 800.

أخرى مثل قصة عاد الأوسط في إخبار عبيد بن شرية الجرهمي «1» ، الذي أورد شعرا ليعرب وشعرا لعاد وشعرا لثمود وطسم، وهذه الأخبار تضم شعرا وقصصا في منتهى الغرابة، تتحدث عن العرب في الأزمان الغابرة. ومن أمثلة الشعر الذي تورده، شعر لواحد من عاد، يتحدث فيه عن قحط ألمّ بقومه، ويقول فيه: ألا نزلت بنا حجج ثلاث ... على عاد فما تحتال عاد فدمعهم يبلّ التّرب منها ... وما يدرون ما بهم يراد وقد علمت بنو عاد بن عوص ... بأنّ مشورتي لهم رشاد بأن يتخيّروا وفدا يسيروا ... إلى البيت العتيق لهم سداد فيستسقوا المليك البرّ غيثا ... به تحيا البريّة والعباد «2» وأورد عبيد قصة عاد الأسطورية التي يتناوب في سردها النثر والشعر، وهذا الشعر يحاك على لسان أبطال الحوادث حينا، وعلى لسان الرواية حينا آخر، ولو جمع الشعر إلى بعضه بعضا، لأدّى نوعا من الملحمة. وهذه الأخبار قريبة من السيرة الشعبية التي عرفت في أدبنا العربي، وخاصة سيرة سيف بن ذي يزن، إلّا أن شعرها فصيح، وروايتها فصيحة، فهي حديث عبيد لمعاوية. ولكن لا يوجد في هذه الأشعار وهذه الروايات بطل واحد سوى راويها، ومن ذكرتهم من أبطالها كعاد وتبع ولقمان، يقتربون من أبطال الملاحم.

_ (1) عبيد بن شرية الجرهمي: راوية من المعمرين، من الحكماء والخطباء، استحضره معاوية من صنعاء إلى دمشق وأمر بتدوين أخباره، فجاءت في كتابين هما (الملوك وأخبار الماضين) و (التيجان وملوك حمير) توفي نحو (67 هـ) . الحموي: ياقوت: معجم الأدباء 5/ 10. (2) أخبار عبيد ص 332.

ومثل ذلك أرجوزة علي بن الجهم «1» (المحبرة) ، التي نظم فيها قصة خلق العالم وقصص الأنبياء، وسير الصحابة والخلفاء إلى عهده، بدأها بقوله: الحمد لله المعيد المبدي ... حمدا كثيرا وهو أهل الحمد ثمّ الصّلاة أولا وآخرا ... على النّبيّ باطنا وظاهرا يا سائلي عن ابتداء الخلق ... مسألة القاصد قصد الحقّ أخبرني قوم من الثّقات ... أولو علوم وأولو هيئات أنّ الذي يفعل ما يشاء ... ومن له العزّة والبقاء أنشأ خلق آدم إنشاء ... وقدّ منه زوجه حوّاء وبعد أن نظم قصة خلق العالم وخلق آدم ونزوله من الجنة، وسرد قصص الأنبياء وصل إلى الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ثمّ أزال الظّلمة الضّياء ... وعاودت جدّتّها الأشياء ودانت الشّعوب والأحياء ... وجاء ما ليس به خفاء أتاهم المنتجب الأوّاه ... محمّد صلّى عليه الله أكرم خلق الله طرّا نفسا ... ومولدا ومحتدا وجنسا أقام في مكّة سنينا ... حتّى إذا استكمل أربعينا أرسله الله إلى العباد ... أشرف به من منذر وهاد «2»

_ (1) علي بن الجهم: شاعر عربي، مدح المعتصم والواثق، وأقبلت عليه الدنيا في خلافة المتوكل، لأنه كان داعية لكل ما أراده المتوكل، كان شديد الانحراف عن العلويين، انقلب عليه المتوكل فنكبه، توفي سنة (249 هـ) . ديوانه، المقدمة، وابن المعتز: طبقات الشعراء ص 319. (2) ديوان علي بن الجهم ص 242.

فهذه الأرجوزة وإن حوت بعض المقاطع القصصية، لا تعدو سردا للأخبار وتأريخا لحياة شخصيات، وجاءها الحس الملحمي من اختياره لهذه الشخصيات، وهي شخصيات الأنبياء، فظهر فيها شيء من مسألة الاتصال بين الأرض والسماء، والصراع بين الخير والشر. ومن ذلك قصيدة للسان الدين بن الخطيب، اسمها (رقم الحلل في نظم الدول) ، قال عنها: رجز «يشتمل على الدول الإسلامية كلها، من غير حشو ولا كلفة، إلى زماننا هذا، ورفعته إلى السلطان» «1» فهي تأريخ للدول الإسلامية، ويظهر أنها على مثال أرجوزة علي بن الجهم. فالأدب العربي حوى قصائد طويلة تؤرخ للدولة العربية الإسلامية، أو تذكر أسماء الخلفاء، أو تتحدث عن دولة بعينها، وربما ابتدأ صاحبها منذ بداية الخلق كما فعل علي بن الجهم مجاراة لكثير من المؤرخين الذين حاولوا أن يشملوا في كتبهم الزمن الممتد منذ بداية الخليقة وحتى عصرهم. وهذه القصائد، وإن بدت فيها ملامح باهتة من الملاحم، إلا أنها ظلت أقرب إلى التأريخ، وإلى الشعر التعليمي. وحين لاحظ الباحثون وجود ما يشبه الملاحم في شعر المدح النبوي، اختلفوا حوله، فأقر قسم منهم بتشابه بعض قصائد المدح النبوي مع الملاحم على وجه من الوجوه، ونفى قسم منهم هذا التشابه، معتمدا على مضمون الملاحم التي تمتزج بالتهاويل والأساطير وذكر العبادات القديمة، ولا تلائم الفحوى الإسلامي، الذي شيدت عليه القصائد الكبيرة في المدح النبوي. وقد ذهب (عبد الله كنون) إلى أن قصائد المدح النبوي «أحق بأن تصنف في شعر الملاحم من المعلقات والقصص المذكورة، لأنها أطول نفسا، وأكثر حوادث، وأغنى

_ (1) ديوان لسان الدين بن الخطيب ص 104.

بصور البطولة والكفاح من أجل إثبات الوجود العربي، وإعلان رسالة الإسلام المقدسة، التي أحلّت العرب محل الصدارة بين الأمم» «1» . وضرب لذلك مثلا بردة البوصيري، فقال: «هل تقاس معلقة عمرو بن كلثوم مثلا بقصيدة البردة، وما اشتملت عليه من فنون القول، كالنسيب الذي يرقق الطباع، والحكمة المزكيّة للنفس، والإعلان عن مولد صاحب الدعوة الإسلامية، وما صاحبه من الآيات والعجائب، ما صح منها، وما يروى عن طريق الرؤى والتجليات، لأن المقام للخيال الشعري أكثر مما هو للتحقيق العلمي» «2» . وإن كنّا نوافق الأستاذ كنون في جلّ ما تحدث به، إلا أننا لا نقره بأنه يمكن أن يكون الحديث عن المعجزات من باب الخيال الشعري أكثر مما هو للتحقيق العلمي، فهذا الأمر يصح في غير الدين، وإن كان شعراء المدح النبوي قد فعلوا ذلك، فهم الملومون، ولا يا بنى على تجاوزهم أية حقيقة أدبية. إن تحلي بعض قصائد المدح النبوي بعناصر الملحمة شيء موجود يحسه كل من يطالع هذه القصائد، ففيها يمتزج العالم الواقعي بالعالم الروحي، وفيها تصوير لمعارك وحروب بطولية خارقة، وفيها قيم إنسانية نبيلة، وفيها سرد لأحداث الدعوة الإسلامية ولحياة الرسول الكريم، وفي بعضها يمتد الصراع إلى الأمم الآخرى، وفيها تصوير لمراحل نشوء الأمة العربية الإسلامية وانتصارها على أعدائها، وإيضاح لرسالتها السامية الخالدة التي حملتها إلى البشرية، وفيها فوق هذا وذاك تجسيد للإنسان الكامل، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البطل الإنساني المطلق، والمثل الأعلى للإنسانية في جوانب حياتها كافة. وماذا يبقى لتصبح هذه القصائد ملاحم؟ الأسطورة؟

_ (1) كنون، عبد الله: أدب الفقهاء ص 192. (2) المصدر نفسه ص 193.

إن الأسطورة كانت عند أصحابها حقيقة، وليس لنا أن نقيس الأمور بمقاييس عصرنا، بل بمقاييس العصر الذي كتبت فيه الملاحم. فإن كانت قصائد المدح النبوي تخلو من أساطير الملاحم الآخرى، فالخيال الشعري في التعبير يعوّض ذلك، وليس المهم أن يحلّق الشاعر بخياله عن طريق الأسطورة، ولكن المهم أن يحلق بخياله بأية طريقة، ولا يوجد أفضل من أن تنطلق به المدائح النبوية إلى عالم الروح، عالم الغيب والشهادة، ليتصور ذلك العالم الحق الذي وصفه الدين الإسلامي، وغدا الإيمان به أحد أركانه التي لا يتم إيمان المسلم إلا به، فالحديث عن السموات في الإسراء والمعراج، والحديث عن اليوم الآخر، والحديث عن الملائكة، أحاديث شيّقة، تهفو إليها نفوس المؤمنين، وتحلّق إلى عوالمها أرواحهم. وليس مهما أن يكون لدينا ملاحم تتطابق مع فن الملاحم عند الأمم الآخرى، ولكن المهم أن العبقرية العربية لم تكن قاصرة عن إبداع مثل هذا الفن، وألا يعد غياب القصة والمسرحية والملحمة على شكلها المعروف عند الشعوب الآخرى، عن الأدب العربي تخلفا وقصورا في التفكير، وجفانا في القريحة، وضيقا في الأفق، فبذور هذه الفنون كانت موجودة في أدبنا العربي، ولو كانت الظروف ملائمة لتطورت وضارعت ما هو موجود في الآداب الآخرى، أو لو كانت الحاجة ماسة إلى التعبير عن طريق هذه الفنون لوجدناها سوية ناضجة في أدبنا. وهذا لا يعني أنه من الضروري أن يكون في أدبنا العربي ملاحم ومسرحيات، فلكل أدب خصائصه وميزاته، وهذا لا يعيبه، أو كما قال كنون: «لا أرى لازما أن يقلد الأدب العربي الأدب الأجنبي في كل خصائصه ومميزاته، وأسمائه واصطلاحاته، فأفضل أن نطلق على هذا اللون من الشعر اسم شعر السير، ونجعله في مقابل شعر الملاحم» «1» .

_ (1) كنون، عبد الله: أدب الفقهاء ص 208.

وقد قاربت بعض قصائد المدح النبوي نظم السيرة شعرا، إضافة إلى المنظومات التعليمية، التي حاول أصحابها أن يذكروا كل شيء من السيرة، وهم يريدون أن يسهّلوا حفظها على الناس، ومن ذلك نظم السيرة للعراقي، ومنها قوله: وهو الذي آمن بعد ثانيا ... وكان برّا صادقا مواتيا «1» وقول أحدهم في الألفية، وهذا يعني أنها منظومة للسيرة في ألف بيت: فالستّة الباقون فالبدريّة ... فأحد فالبيعة المرضيّة «2» إن قصائد المدح النبوي تعبّر عن روح التغيير في الشعر العربي، التي كانت موجودة عند الشعراء، لكن التعبير عن هذه الروح استسلم للحدود المرسومة للشعر العربي، وهي الشكل الخارجي للقصيدة العربية من الوزن والقافية، ومن هنا لم تكن ملامح الملحمة على وضوحها عند غير العرب. فإرادة التجديد في المضمون وطريقة الأداء لم تتجسد في شكل جديد، وإنما قسرت على التجسّد بالشكل التقليدي، ولو لم يلتفت شعراء المدح النبوي إلى الشكلية، والإغراق في فنونها، لكان لقصائدهم شأن آخر، ولو قيّد لهذا الفن بعد البوصيري والصرصري شعراء عظام، لكان لأثره في الأدب العربي موقع آخر. ولو أردنا إيراد شيء من أمثلة قصائد المدح النبوي الطويلة التي ضارعت الملاحم، لوجدنا قصائد كثيرة، تجاوزت في طولها مئات الأبيات، بعضها لم يخرج عن السرد والتعداد، وكان أقرب إلى المنظومات التعليمية وبعضها حمل الحس الملحمي، مثل قصائد البوصيري، البردة المشهورة، وإن لم تصل إلى طول غيرها، والهمزية التي تجاوزت الأربع مئة بيت، وهي أقرب قصائد المدح النبوي إلى فن الملاحم، فهو يستهلها

_ (1) شرح الزرقاني 7/ 27. (2) المصدر نفسه 7/ 39.

بموازنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأنبياء، ويفضله عليهم في خضم الجدل الديني الذي بدأه الغزاة الصليبيون حين فضلوا دينهم ونبيهم على الإسلام ونبيه، وانتقصوهما، فيقول: كيف ترقى رقيّك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء لم يساووك في علاك وقد حا ... ل سنا منك دونهم وسناء «1» ويأخذ في مدحه صلّى الله عليه وسلّم بإثني عشر بيتا، إلى أن يبدأ عرض سيرته المباركة من ليلة المولد، فيقول: ليلة المولد الذي كان للدّين ... سرور بيومه وازدهاء وتوالت بشرى الهواتف أن قد ... ولد المصطفى وحقّ الهناء وبعد أن يذكر ما ظهر عند مولده من معجزات، ويتحدث عن أهميته في خمسة عشر بيتا، يقصّ علينا ما جرى في رضاعه ونشأته، فيقول: وبدت في رضاعه معجزات ... ليس فيها عن العيون خفاء إذ أبته ليتمه مرضعات ... قلن ما في اليتيم عنّا عناء وينتخب البوصيري عدة حوادث معبرة من نشأة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما ظهرت له فيها من معجزات، مثل شق صدره الشريف، وحلول البركة على بيت حليمة السعدية، وغير ذلك من دلائل النبوة التي بدت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو فتى، لينتهي من ذلك كله إلى الحديث عن البعثة، فيقول: بعث الله عند مبعثه الشّه ... ب حراسا وضاق عنها الفضاء تطرد الجنّ عن مقاعد للسّم ... ع كما تطرد الذّئاب الرّعاء

_ (1) ديوان البوصيري ص 49.

فيقص علينا خبر بعثته، وما جرى له في غار حراء، وزواجه من خديجة رضي الله عنها ليصل إلى عرضه لما حصل له عند ما بدأ بإعلان دعوته، فيقول: ثم قام النّبيّ يدعو إلى الل ... له وفي الكفر نجدة وإباء أمما أشربت قلوبهم الكف ... ر فداء الضّلال فيهم عياء وعند ما ينهي حديثه عن الدعوة في مكة المكرمة، وما جرى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مقاومة الكفار وأذاهم، وما ظهر أثناء ذلك من معجزات، يتحدث عن الهجرة، فيقول: ونحا المصطفى المدينة واشتا ... قت إليه من مكّة الأنحاء وتغنّت بمدحه الجنّ حتّى ... أطرب الإنس منه ذاك الغناء واقتفى أثره سراقة فاسته ... وته في الأرض صافن جرداء ولا يلبث البوصيري أن يتحدث عن معجزة الإسراء والمعراج، فيقول: فطوى الأرض سائرا والسّموا ... ت العلا فوقها له إسراء فصف الليلة التي كان للمخ ... تار فيها على البراق استواء فإذا ما انتهى من حديث الإسراء والمعراج، أخذ يسرد ما جرى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين باشر دعوته في المدينة، فقال: ويدلّ الورى على الله بالتّو ... حيد وهو المحجّة البيضاء واستجابت له بنصر وفتح ... بعد ذاك الخضراء والغبراء وأطاعت لأمره العرب العر ... باء والجاهليّة الجّلاء وتوالت للمصطفى الآية الكب ... رى عليهم والغارة الشّعواء

وأخذ البوصيري ينتخب الأحداث البارزة في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقارن بينها وبين حوادث جرت قبل الهجرة، يتخلل ذلك عرض لبعض المعجزات، وتعقيبات له عليها، ثم بدأ في الإشادة بصفات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشمائله الكريمة، فقال: فتنزّه في ذاته ومعاني ... هـ استماعا إن عزّ منها اجتلاء واملأ السّمع من محاسن يملي ... ها عليك الإنشاد والإنشاء كلّ وصف له ابتدأت به استو ... عب أخبار الفضل منه ابتداء وخصص جزآ من قصيدته لذكر معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإبراز عظمته وفضائله، قال فيه: ورمى بالحصى فأقصد جيشا ... ما العصا عنده وما الإلقاء ودعا للأنام إذ دهمتهم ... سنة من محولها شهباء فاستهلّت بالغيث سبعة أيا ... م عليهم سحابة وطفاء جعلت مسجدا له الأرض فاهتز ... ز به للصّلاة فيها حراء وأطال الحديث عن معجزة القرآن، فقال: أولم يكفهم من الله ذكر ... فيه للنّاس رحمة وشفاء أعجز الإنس آية منه والجن ... ن، فهلا يأتي بها البلغاء كلّ يوم تهدي إلى سامعيه ... معجزات من لفظه القرّاء ولم ينس البوصيري أن يجادل أهل الكتاب في مذاهبهم، ويرد انتقاصهم للإسلام ونبيه، فقال:

لو جحدنا جحودكم لاستوينا ... أو للحق بالضّلال استواء ما لكم إخوة الكتاب أناسا ... ليس يرعى للحقّ منكم إخاء يحسد الأوّل الأخير وما زا ... ل كذا المحدثون والقدماء وبعد أن يفرغ من مجادلة أهل الكتاب ينهاهم عن التعرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسوء، ويذكّرهم بما حلّ بالمشركين الذين أساؤوا إلى النبي الكريم، فخذلهم الله تعالى ونصر رسوله عليهم، ويجعل من ذلك مناسبة لذكر بعض معارك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظافرة مع المشركين، وما أبداه فيها من بطولة وشهامة ومروءة، لينتقل بعد هذا إلى إظهار رغبته في زيارة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيصف رحلته إلى الحجاز، ويذكر منازل الطريق إليه، ومشاعر الحجيج، فيقول: وعدتني ازدياره العام وجنا ... ء ومنّت بوعدها الوجناء أنكرت مصر فهي تنفر مالا ... ح بناء لعينها أو خلاء فكأنّي بها أرحّل من مك ... كة شمسا سماؤها البيداء حيث فرض الطّواف والسعي والحل ... ق ورمي الجمار والإهداء فقضينا بها مناسك لا يح ... مد إلا في فعلهن القضاء ورمينا بها الفجاج إلى طي ... بة والسّير بالمطايا رماء وأطال في وصف الركب وشوقهم لزيارة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومدح النبي بفضائله وشمائله، حتى وصل إلى ذكر آل بيته وصحابته، فقال: آل بيت النّبيّ طبتم فطاب ال ... مدح لي فيكم فإنّني الخنساء سدتم النّاس بالتّقى وسواكم ... سوّدته البيضاء والصّفراء

وبأصحابك الذين هم بع ... دك فينا الهداة والأوصياء أحسنوا بعدك الخلافة في الد ... دين وكلّ لما تولّى إزاء ثم طلب شفاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائلا: الأمان الأمان إنّ فوادي ... من ذنوب أتيتهنّ هواء وأنهى قصيدته بالحديث عنها، وبالصلاة على النبي، فقال: حاك من صنعة القريض برودا ... لك لم تحك وشيها صنعاء فسلام عليك تترى من الل ... له وتبقى به لك الباواء وصلاة كالمسك تحمله منّي ... شمال إليك أو نكباء «1» فهذه القصيدة التي زادت على أربع مئة وخمسين بيتا، جمع فيها البوصيري بشاعرية فياضة بين سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعجزاته، وبين مجادلة أهل الكتاب وذكر مشاعر الحج وطريقه، وبين مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووصف مشاعر المؤمنين الذي يسعون لزيارته، وبين مدح آل بيته وصحابته والوعظ والحكمة. يتحدث عن المعارك والبطولة، وعن الخوارق والمعجزات، ويذكر الناس والملائكة، وينتقل ما بين عالم المادة وعالم الروح في كلّ متكامل، وصراع حاسم بين الخير والشر. إنها ملحمة الهداية وملحمة الإنسانية، وملحمة صراع العرب مع أعدائهم، ومن أجل تشكّل أمتهم. فالحس الملحمي واضح فيها ظاهر، لأنها تؤرّخ للدعوة الإسلامية، وتؤرّخ لحياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتربط الماضي بالحاضر، وتجسّد البطولة المطلقة والمثل الأعلى، والقيم المثلى للأمة، فماذا يبقى من المميزات الأساسية للملحمة؟

_ (1) البأواء: الفخر- نكباء: ريح.

وإلى جانب هذه القصيدة، يوجد في المدح النبوي قصائد كثيرة مشابهة، تحمل حسّا ملحميا، أو ملامح ملحمية، فإن لم تكن هذه القصائد ملاحم تشابه الملاحم الموجودة في آداب الأمم الآخرى، فلتكن ملاحم عربية، ولتكن الملاحم العربية تختلف عن غيرها، فليس من الضرورة أن تتطابق مع سواها، ولتكن لها شخصيتها المستقلة مثلما للأمة شخصيتها المستقلة، ولتكن هذه القصائد الفن الشعري الذي يقابل الملاحم عند الأمم الآخرى، ولتكن له أية تسمية أخرى، فإن التسمية لا تقرر ماهية هذا الفن، ولا تعطيه مشروعية الوجود، فالتسمية لاحقة وليست سابقة، إذ لا نستطيع أن نتجاهل مثل هذه القصائد التي قد تبلغ حجما لم يعهد من قبل، وقد تحمل من الخصائص ما لم يتوفر في قصائد سابقة، مثل قصيدة الصرصري التي بلغت ثماني مئة وخمسين بيتا، والتي قال في مقدمتها: أصبحت أنظم مدح أكرم مرسل ... لهجا به في رائق الأوزان حبّرت فيه قصيدة أودعتها ... من مسند الأخبار حسن معان في وصفه من بدء تشريفاته ... حتّى الختام بحسن نظم معان «1» فهو يصرح في مقدمته أنه نظم هذه القصيدة في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه أودعها الأخبار المسندة منذ بدء تشريفاته، أي منذ وجوده وحتى الختام أي حتى وفاته، ولذلك بدأ قصيدته، أو سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الشعرية بالحديث عن بداية الخلق، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم موجود منذ بدء الخلق حسب نظرية الحقيقة المحمدية، فقال: لما بنى الله السّماوات العلا ... سبعا تعالى الله أكرم باني وأتمّ خلق العرش خلقا باهرا ... فغدا من الإجلال ذا رجفان كتب الإله عليه اسم محمّد ... فوق القوائم منه والأركان

_ (1) ديوان الصرصري، ورقة 96.

إن الصرصري لم يبدأ سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل غيره منذ الولادة أو إرهاصاتها، بل بدأ منذ بداية الخلق، فذهب بنا إلى العالم الغيبي، ليثبت قدم اتصال الأرض بالسماء، والذي تأكد في نزول الوحي، والإسراء والمعراج، هذا الاتصال الذي يعطي السيرة الحس الملحمي، وخاصة حين يظهر الشاعر المعجز في كل مراحل حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومضى الصرصري في سرد رواياته الغيبية، فأوضح كيف أن النور المحمد الذي بدئ به الخلق، ثم استمر بالانتقال من صلب طاهر إلى صلب طاهر، ومن رحم طاهرة إلى رحم طاهرة، وخاصة أصلاب الأنبياء، وكيف وردت البشارات به في الكتب السماوية، إلى أن وصل إلى الولادة، وما رافقها من معجزات، ثم عرض نشأته بطريقة السرد القصصي، فقال: ولأربع من عمره لمّا غدا ... مع صبية أترابه الرّعيان شرح الملائك صدره واستخرجوا ... من كلّ ما غلّ بشرح ثان ومضت لستّ أمّه وتكفّل الجد ... د الشّفيق له بحسن حضان وتكفّل العمّ الشفيق بأمره ... لمّا غدا متكمّلا لثمان ومضى به نحو الشام مسافرا ... وهو ابن عشر بعدها ثنتان وأعدّ في خمس وعشرين السّرى ... نحو الشّام بمتجر لرزان وكذا خديجة أبصرت فتزوّجت ... رغبا به عن خبرة وعيان وبعد أن ذكر بعض الحوادث التي جرت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تحدث عن البعثة وإرهاصاتها، فقال: وهو ابن خمس مع ثلاثين احتوى ... حزم الكهول وفورة الشّبّان كان التّعبّد دأبه لله من ... قبل النّبوّة وليس عنه بوان

وأتت عليه أربعون فأشرقت ... شمس النّبوّة منه في رمضان ثم سرد مراحل الدعوة، وما تحمّله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سبيلها، إلى أن أذن له بالهجرة إلى المدينة المنورة، وأثناء ذلك كان الإسراء والمعراج، فقال: أسرى من البيت الحرام به إلى ... أقصى المساجد ليس بالوسنان فعلا البراق وكان أشرف مركب ... يطوي القفار بسرعة الطّيران حتى أتى البيت المقدّس وارتقى ... نحو السّماء فجاز كلّ عنان ما من سماء جاءها مستفتحا ... إلّا لقوه بتحفة وتهان وما أن أنهى حديثه عن الهجرة وغزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مضى يصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصفا خارجيا، فقال: متبلّج بادي الوضاءة باهر ... في الحسن دان لنوره القمران في عينه دعج وفي أهدابه ... وطف يليق بنرجس الأجفان أقنى يلوح النّور من عرنينه ... حلو المباسم أشنب الأسنان بل وصف ملابسه بتفصيل شديد، وبعد أن أنهى وصفه المطول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحدث عن شجاعته في الحرب فقال: كانوا إذا حمي الوطيس وأشرعت ... نحو الصّدور عوامل المرّان لجؤوا إليه واتّقوا بصياله ... فحمى وذبّ بمرهف وسنان يغشى عجاجة كلّ حرب بسلة ... حمراء كاشرة النّيوب عوان فيكفّ شرّتها ويجلو نقعها ... بمهنّد ماضي الغرار يمان

وحين استنفذ الصرصري مالديه عن سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كل صغيرة وكبيرة يعرفها، صوّر وفاته في قوله: واشتدّ ما يلقاه من إعيائه ... حتى لقد حملوه في الأحضان وأتاه عزرائيل يطلب إذنه ... ولغيره ما كان ذا استئذان فاختار قرب الله جلّ ثناؤه ... فمضى حميدا سالما من دان ثم استعرض مشاهد يوم القيامة، واختتم القصيدة بالحديث عن المدح النبوي وطلب الشفاعة. إن هذه القصيدة الطويلة، التي جمع فيها الصرصري كل ما يعرفه عن سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والتي حفلت بمظاهر الاتصال بين عالم الواقع وعالم الغيب والشهادة، وبمظاهر الصراع بين الحق والباطل، وجسّدت البطولة الإنسانية المطلقة، لا تغيب عمّن قرأها ملامح الملحمة، وإن لم تتطابق معها، فالمطابقة ليست ضرورية هنا، والمهم أن في قصائد المدح النبوي أبرز الأشكال الشعرية التي تقرب من فن الملاحم، أو فيها الشكل العربي للملحمة. وإذا خلا الأدب العربي من الملاحم بشكلها المعروف عند الأمم الآخرى، فإن ذلك لا يعيبه ولا ينقص من قدره، ففي الأدب العربي ما لا يوجد في آداب الأمم الآخرى.

القسم الثاني - البديع:

القسم الثاني- البديع: غلبت الصنعة البديعية على معظم شعر العصر المملوكي ونثره الفني، حتى أصبحت خاصة يعرف بها أدب ذلك العصر، فقد فتن أهل ذلك العصر بزخرف كلامهم مثلما فتنوا بزخرف أبنيتهم وألبستهم وأدواتهم، وعدّ التجويد أو الاستزادة في البديع مما يتفاضل به الأدباء، ومما يدل على مهارتهم وتفوقهم. ولم يكن شعر المدح النبوي بمنأى عن هذه الصنعة البديعية الطاغية، فظهر البديع في قصائد المدح النبوي بدرجات متفاوتة، فمن الشعراء من حاول مجاراة الأقدمين في مدحه، فلم يترك البديع على شعره إلّا ظلالا باهتة، ومنهم من اعتدل في اصطناع البديع، ومنهم من أسرف في اصطناعه إلى أن انقلبت قصائده إلى معرض لفنون البديع، لا يهمه بعد إثباتها في شعره إن جارت على أسلوبه ومعانيه جميعها، وأتت على حساب دقة المعنى وتدفق الشعور وصدق العاطفة ورونق الصياغة والشاعرية. وقد أطلقت تسمية البديع على قسم من علم البلاغة الذي يشمل مباحث المعاني والبيان والبديع، ويراد به تحسين الكلام وتنميقه، ومعرفة أسرار جماله ومعانيه، أو كما قال الحلي: «إن أحق العلوم بالتقديم، وأجدرها بالاقتباس والتعليم، بعد معرفة الله العظيم، ومعرفة كلامه الكريم، وفهم ما أنزل في الذكر الحكيم، لتؤمن غائلة الشك والتوهيم.. ولا سبيل إلى ذلك إلا بمعرفة علم البلاغة وتوابعها من محاسن البديع اللتين بهما يعرف وجه إعجاز القرآن..» «1» . وفنون البديع معروفة منذ القدم في الكلام العربي، أخذ الأدباء يهتمون بها مع تقدم الزمن، ويقصدون إليها قصدا، بعد أن كانت تقع في كلام العرب عفو الخاطر، إلى أن جاء ابن المعتز، ووضع كتابه (البديع) ، فدلّ على بعض أنواعها وحدّدها، وفتح بابا

_ (1) الحلي: شرح الكافية البديعية ص 51.

للتأليف، اتسع شيئا فشيئا إلى أن وصل إلى أقصى اتساع له على يد ابن أبي الإصبع، الذي أوصل أنواع البديع إلى التسعين في كتابه (تحرير التحبير) «أصح كتاب ألّف في هذا العلم» «1» . وعلى الجانب الآخر كان الشعرآء يزدادون ولعا بفنون البديع واصطناعها في شعرهم، إلى أن أدخلوا معها الضّيم على الشعر. وقد مرّت معنا أمثلة كثيرة على ولع الشعراء بفنون البديع، الذين حرصوا على إيرادها في شعرهم، والإكثار منها، ولا يهمهم بعدها كيف يأتي شعرهم، ومن ذلك قصيدة طويلة لابن سيد الناس في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هي أقرب للنظم منها إلى الشعر، وزاد في جفافها اصطناع البديع دون توفيق، تكلّف إيراد فنونه تكلّفا، فقال: لو لم أر الموت عذبا في الغرام بكم ... ما شاقني لحسام البرق تقبيل ولا بدا الصّبح إلا قال قد سفرت ... سعاد يا كعبها لم أنت متبول وفي انشقاق أخيه البدر حين بدا ... فرقين واختلفت فيه التّعاليل «2» والقصيدة كلها تجري على هذا النحو، والشاعر يظن أنه يأتي بالعجائب، لذلك أطالها إلى أن قاربت مئة وتسعين بيتا، فأين لفظ عنترة وأين موقعه الذي أثمر صورته الجميلة، من تقبيل حسام البرق؟ وأين غزل كعب المتقن وبلاغته من سؤال ابن سيد الناس له؟ وأين معجزة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا التعبير الذي اختلفت فيه التعاليل؟ ومن البديع المتكلف التوراة بأسماء سور القرآن الكريم التي لم تزد التعبير عمقا أو

_ (1) الحلي: شرح الكافية البديعية ص 53. (2) المجموعة النبهانية 3/ 60.

جمالا، ومنه كذلك القيود التي كبّل بها الشعراء أنفسهم، مثل التزامهم بعدد من الأبيات، أو ابتداء أبيات قصائدهم بحرف القافية، فيزيدون قصائدهم ثقلا على ثقل، مثل قول الفازازي: سلام كعرف الرّوض أخضله النّدى ... على خير مخلوق من الجنّ والإنس سليل خليل الله خاتم رسله ... وفي الختم منع للزيادة في الطّرس سبوق بلا أين قريب بلا مدى ... عليم بلا خطّ حفيظ بلا درس سلوني كيف الحال دون لقائه ... فحزني في طرد وصبري في عكس «1» ولننظر كيف قرّب لنا معنى اختتام النبوة، حين أورد لنا صورة الكتاب الذي يمهر بالختم، فلا يستطيع أحد الزيادة عليه بعد ذلك، وكيف ألجأته الصنعة إلى وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنه سبوق لا يتعب، وعليم دون أن يعرف الخط، وحفيظ دون أن يدرس ويستظهر، أما وصف شوقه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو جاف لا يناسب الحديث عن المشاعر الحارة، فما هو الحزن المطرد، والصبر المنعكس؟ ووصلت الصنعة بشعراء المدح النبوي إلى نظم الألغاز ببعض الأسماء التي ترد فيها، فالشاعر النواجي كتب إلى الشاعر المنصوري، وكلاهما نظما المدح النبوي، ملغزا باسم مدينة النبي (طيبة) ، فقال: «ما اسم على أربعة وهو مفرد، علم وكم فيه من إشارة تعهد.. حوى أفضل الخلق والخلق، وأفصح القول والنطق، فأفصح عن غيبه، ولذ بطيبه» «2» . وكان من نتائج الإغراق في الصنعة البديعية عند شعراء المدح النبوي ظهور لون

_ (1) المجموعة النبهانية 2/ 264. (2) النواجي: التحفة البهية ص 208.

خاص من المدائح النبوية، هو البديعيات التي جمعت بين المدح النبوي وفنون البديع، وعدت فنا جديدا من فنون الشعر العربي. والبديعيات قصائد في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يحوي كل بيت من أبياتها نوعا من أنواع البديع التي عرفها أهل ذلك العصر، ويكون البيت شاهدا على هذا النوع البديعي. إن احتفال أهل العصر المملوكي بالبديع كان كبيرا، يتدارسونه ويزيدون عليه، ويؤلفون ويصنفون، ويختصرون ويشرحون، وعلى عادة أهل ذلك العصر بتقييد العلوم بالشعر، ونظم العلوم في منظومات شعرية يسهل على شداة العلم وطلبته حفظه ودرسه، فقد نظم بعض علماء العصر وشعرائه بعض القصائد التي تجمع فنون البديع، لكنهم لم ينظموا قواعد العلم كما كان سائدا، بل نظموا قصائد ذات مضامين متنوعة، وجعلوا أبياتها أمثلة على فنون البديع، مثل علي بن عثمان السليماني الإربلي «1» ، الذي نظم قصيدة في الغزل، وجعل كل بيت من أبياتها شاهدا على نوع من أنواع البديع، وبدأها بقوله: بعض هذا الدّلال والإدلال ... حالي الهجر والتّجنّب حالي جناس حرت إذ حزت ربع قلبي وإذ لا ... لي صبر أكثرت من إذلالي جناس خطي رقّ يا قاسي الفؤاد والأجفا ... ن قصار أسرى ليال طوال طباق شارحات بدمعها مجمع البح ... رين في حبّ مجمع الأمثال استعاره نفت النّوم في هواك قصا ... صا حيث أدّى منها خداع الخيال مقابلة «2» والقصيدة تظهر ولع الشاعر بفنون البديع واستخدام مصطلحات العلوم، وحرصه على إقامة شواهده في قصيدته وإن كان ذلك على حساب المعنى والصياغة.

_ (1) أمين الدين الإربلي، كان من أعيان شعراء الناصر بن العزيز، وكان جنديا فتصوف، توفي سنة (670 هـ) . فوات الوفيات 3/ 39. (2) ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 39.

وهذه الطريقة في نظم البديع تختلف عن الطريقة التي سار عليها (يحيى بن عبد المعطي الزواوي «1» في نظمه لبديعية سمّاها (البديع في علم البديع) ، قال فيها: وبعد فإنّي ذاكر لمن ارتضى ... بنظمي العروض المجتلى والقوافيا أتيت بأبيات البديع شواهدا ... أضمّ إليها في نظيمي الأساميا «2» فهو يشير إلى أنه في منظومته البديعية يأتي بالشاهد على النوع البديعي، واسم هذا النوع، وهاتان الطريقتان في نظم البديع، طريقة الإربلي، وطريقة الزواوي، كان لهما أثر واضح في البديعيات التي ظهرت فيما بعد. ولما انتشر المدح النبوي الانتشار العظيم الذي تحدثنا عنه، ولاقى إقبالا شديدا من الناس، مثل إقبالهم على فنون البديع، رأى أصحاب البديع أن يجمعوا بين البديع والمدائح النبوية، وأن يحملوا المدائح النبوية بديعهم، لينتشر بانتشارها، وتعرف فنونه بمطالعتها وإنشادها، فجمعوا في فن واحد أكثر الظواهر الأدبية انتشارا في عصرهم. ومثلما كان شعراء المدح النبوي يدرجون في قصائدهم العقائد والدعوات الأخلاقية والاجتماعية، وغير ذلك ممّا يريدون نشره بين الناس، عمد بعض الشعراء إلى إدراج البديع في قصائدهم، لينشر وتعرف فنونه. ويظهر أنهم أرادوا أن يظهروا مقدرتهم البديعية للناس، ليحصلوا على مجد أدبي من ناحية، وأرادوا مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أملا بالمغفرة والثواب من ناحية ثانية، فكأنهم أرادوا أن يخرجوا بخيري الدنيا والآخرة.

_ (1) ابن المعطي الزواوي: يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور، فقيه أديب لغوي، ناظم ناثر، له منظومات في العروض والقراآت، وله ديوان شعر وديوان خطب، توفي بالقاهرة سنة (628 هـ) . الحموي: ياقوت: معجم الأدباء 20/ 35. (2) السيد، فؤاد: فهرس المخطويات المصورة 1/ 409.

ويتضح هذا الأمر من دوافع صاحب أول بديعية (صفي الدين الحلي) ، الذي كان يعد العدة لتأليف كتاب جامع شامل في فنون البديع، لكن المرض أقعده عن إتمام مقصده، فعدل عن تأليف الكتاب، ونظم قصيدة، مدح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وضمّنها أنواع البديع التي أراد تقييدها في كتابه، وقال عن ذلك: «فعرضت لي علّة طالت مدتها، وامتدت شدتها، واتفق لي أن رأيت في المنام رسالة من النبي عليه أفضل الصلاة والسلام يتقاضاني المدح، ويعدني البرء من السقام، فعدلت عن تأليف الكتاب إلى نظم قصيدة تجمع أشتات البديع، وتتطرز بمدح مجده الرفيع» «1» . فالحلي أراد أن يؤلف كتابا في البديع، وعزم على نظم قصيدة يمدح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فالتقت في نفسه الرغبتان، وألّف بينهما بنظم قصيدة يمدح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وينظم فيها أنواع البديع التي هيأها لكتابه المنشود، فكانت البديعية. وحين بحث الحلي عن شكل لقصيدته، كان أوّل ما تبادر إلى ذهنه أشهر مدحة نبوية آنذاك، وهي بردة البوصيري، فعارضها، أو أن قصة تأليفه لبديعيته المشابهة لقصة نظم البوصيري لقصيدته، هي التي أوحت إليه بأن يجعل قصيدته المنشودة على غرار بردة البوصيري أو برأته، التي شفي إثر نظمها من المرض، عسى أن يشفى هو أيضا من مرضه، فكانت بديعيته معارضة لقصيدة البوصيري، حملت وزنها وقوافيها وموضوعها وبعض عباراتها، وأضاف إليها فنون البديع، فكان الشكل الذي عرفت عليه البديعيات، إذ إن كل الذين جاؤوا بعده، ونظموا البديعيات، لم يخرجوا إلا نادرا عن هذا الشكل. فمعظم البديعيات مدح نبوي، ومعظمها على البحر البسيط وقافية الميم المكسورة، قافية البردة ووزنها.

_ (1) الحلي: شرح الكافية البديعية ص 54.

وقد أطلق الحلي على بديعيته اسم (الكافية البديعية في المدائح النبوية) ، وبدأها بقوله في براعة المطلع: إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... واقرا السّلام على عرب بذي سلم فقد ضمنت وجود الدّمع من عدم ... لهم ولم أستطع مع ذاك منع دمي أبيت والدّمع هام هامل سرب ... والجسم في إضم لحم على وضم من شأنه حمل أعباء الهوى كمدا ... إذا همى شأنه بالدّمع لم يلم من لي بكلّ غرير من ظبائهم ... عزيز حسن يداوي الكلم بالكلم بكلّ قدّ نضير لا نظير له ... ما ينقضي أملي منه ولا ألمي وكلّ لحظ أتى باسم ابن ذي يزن ... في فتكه بالمعنّى أو أبي هرم «1» فبعد أن جاء البيت الأول شاهدا على براعة الاستهلال والتجنيس المركّب والمشتبه في قوله (سلعا فسل عن) وكذلك في البيت الثاني الذي سمّاه التجنس الملفق في قوله (من عدم، منع دمي) ، وضرب في البيت الثالث مثلا على التجنيس المذيل واللاحق (هام، هامل) و (اضم، وضم) ، وجعل البيت الرابع شاهدا على الجناس التام والمطرف في قوله (شأنه، شأنه) و (ولم، يلم) . أما البيت الخامس فأورد فيه مثالا على الجناس المصحّف والمحرف في قوله (غرير، عزيز) و (الكلم، الكلم) . وفي البيت السادس شاهد على الجناس اللفظي والمقلوب في (نضير ونظير) و (أملي وألمي) . والبيت السابع جاء شاهدا على الجناس المعنوي في قوله (ابن ذي يزن) واسمه (سيف) و (أبو هرم) واسمه (سنان) .

_ (1) ديوان الحلي ص 685.

وتمضي القصيدة على هذا النحو، ظاهرها مدح لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وباطنها عناية بالبديع، وإيراد لشواهده، فكأن الشاعر يريد نشر فضائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيرته ومعجزاته، ونشر فن البديع بين الناس سواء بسواء. وتابع الشعراء الحلي في صنيعه هذا، ولم يخرجوا عن الصورة التي وضعه بها، ومنهم ابن جابر الأندلسي الذي نظم بديعية سمّاها (الحلة السيرا في مدح خير الورى) ، قال في مقدمتها: «فأنشأت في مدحه صلّى الله عليه وسلّم قصيدة وشيّت بألقاب البديع بردها، وتوخيت فيها من موارد الثناء، ما يجد المؤمن على قلبه بردها» «1» وبدأها بقوله: بطيبة انزل ويمّم سيّد الأمم ... وانشر له المدح وانثر أطيب الكلم وابذل دموعك واعدل كلّ مصطبر ... والحق بمن سار والحظ ما على العلم سنا نبيّ أبيّ أن يضيّعنا ... سليل مجد سليم العرض محترم جميل خلق على حقّ جزيل ندى ... هدى وفاض ندى كفّيه كالدّيم «2» وهذه الأبيات شواهد على براعة الاستهلال والجناس بأنواعه. ثم أتى عز الدين الموصلي «3» ، فتابع صاحبيه، ونظم بديعية مماثلة لبديعيتيهما، لكنه زاد عليهم ذكر اسم النوع البديعي الذي يدرجه في البيت، فزاد الأمر تعقيدا على تعقيد، واقترب بالبديعيات أكثر نحو المنظومات التعليمية الصرفة، فقال فيها: براعتي تستهلّ الدّمع في العلم ... عبارة عن نداء المفرد العلم ملفّق ظاهر سرّي وشان دمي ... لمّا جرى من عيوني إذ وشى ندمي يذيّل الدّمع جار جارح بأذى ... كلاحق ماحق الآثار في الأكم «4»

_ (1) ابن جابر: الحلة السيرا ص 27. (2) المصدر نفسه ص 28. (3) عز الدين الموصلي: علي بن الحسين بن علي، أديب شاعر، أقام في حلب وانتقل إلى دمشق، وفيها توفي سنة (789 هـ) . الدرر الكامنة: 3/ 112. (4) ابن حجة: خزانة الأدب ص 12 وما بعدها.

وجاء بعد الموصلي شعراء كثيرون، نظموا بديعيات نبوية، ومنهم ابن حجة الحموي الذي نظم بديعية، سمّاها (تقديم أبي بكر) ، ذكر في أبياتها اسم النوع البديعي الذي يستشهد عليه، فقال: لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم ... براعة تستهلّ الدّمع في العلم بالله سر بي فسربي طلّقوا وطني ... وركّبوا في ضلوعي مطلق السّقم ورمت تلفيق صبرى كي أرى قدمي ... يسعى معي، فسعى لكن أراق دمي وذيّل الهمّ همل الدّمع لي فجرى ... كلا حق الغيث حيث الأرض في ضرم «1» وكثر بعد ذلك نظّام البديعيات كثرة مفرطة، فكل شاعر أحب أن تكون له مشاركة في هذا الفن الذي يدل على براعة ومقدرة كانت موضع احترام وتقدير في ذلك الوقت، فتباروا في تطويلها وزيادة أنواع البديع التي يوردونها فيها، ومنهم السيوطي الذي نظم بديعية، أطلق عليها اسم (نظم البديع في مدح خير شفيع) ، ومطلعها: من العقيق ومن تذكار ذي سلم ... براعة العين في استهلالها بدم «2» وللباعونية بديعيتان، الأولى أطلقت عليها اسم (بديع البديع في مدح الشفيع) ، ومطلها: في حسن مطلع أقمار بذي سلم ... أصبحت في زمرة العشّاق كالعلم «3» والثانية سمّتها (الفتح المبين في مدح الأمين) ، ومطلعها: عن مبتدأ خبر الجرعاء من إضم ... حدّث ولا تنس ذكر البان والعلم «4»

_ (1) ابن حجة: خزانة الأدب ص 12 وما بعدها. (2) السيوطي: شرح نظم البديع ص 2. (3) ديوان الباعونية: ورقة 2. (4) المصدر نفسه: ورقة 15.

وظل الشعراء بعد العصر المملوكي ينظمون هذا اللون من المدح النبوي. وبذلك يتضح لنا أن الهدف الأول من البديعيات هو نشر فنون البديع، وأنهم جعلوا المدح النبوي حاملا لبديعهم، ولم يجدوا وسيلة أكثر انتشارا لتعميم فنون البديع من المدح النبوي. وقد اتسمت البديعيات بالتصنع والتكلف، لأن الشاعر يبذل جهدا عظيما في الملاءمة بين معاني المدح النبوي وبين إيراد النوع البديعي وسبك شاهده، وهذا جهد عقلي محض يذهب بالشاعرية والرواء الشعري. ويدخل الشاعر في المعاظلة والضرورات الشعرية، ويحيل القصيدة إلى معان جامدة، تفتقد حرارة العاطفة، وإن وجدت التعابير الجامدة التي تشير إلى وجود عاطفة مشبوبة عند الناظم. وإلى جانب ذلك تحجرت البديعيات على شكل معين، يندر أن يخرج عليه أصحابها، وهو الشكل الذي جاءت عليه أول بديعية، وهي بديعية صفي الدين الحلي، التي عارض بها بردة البوصيري، فأصبح المدح النبوي أحد لوازم البديعيات الذي لا تحيد عنه، وأصبح البحر البسيط وزن البديعيات الموحد، وأضحت قافية الميم المكسورة هي القافية التي لا يدعها أصحاب البديعيات، فماذا بقي للمتأخر ليضيفه إلى المتقدم؟ ولذلك ظهرت منذ البداية نظرات نقدية للبديعيات من أصحابها أنفسهم، فابن حجة الحموي، صاحب إحدى البديعيات، والذي شرح بديعيته بكتابه الكبير (خزانة الأدب) ، وقارنها بالبديعيات التي سبقته، أكثر من انتقاد من سبقوه إلى نظم البديعيات، وأخذ عليهم ماخذ عدة، فحين تطرق إلى أبيات البديعيات التي تنظم أنواع الجناس، عقّب على بيتي الجناس في بديعية ابن جابر بقوله: «ولكن لم يخف ما في البيتين من الثقل مع خفة الالتزام» «1» .

_ (1) ابن حجة: خزانة الأدب ص 26.

وقال عند إيراد بيت عز الدين الموصلي: لقد تفيهقت بالتّشديق في عذلي ... كيف النّزاهة عن ذا الأشدق الخصم «هذا البيت، شموس إيضاحه آفلة في غيوم العقادة ... إن ألفاظ عز الدين في بيته، ينفر منها الجان» «1» . فإلى هذا الحد وصل التعقيد، ووصل التصنع والتكلف الذي أدى إليه ربط المدح النبوي بالبديع في قصيدة واحدة. وأعاد ابن حجة كلامه هذا عن قصيدة الموصلي، فقال: «ولكن ما أسكن بيته قرينة صالحة لبيانه، ولا غرّدت حمائم الإيضاح على أفنانه» «2» وقال عن الغموض الذي وقع به عز الدين الموصلي، نتيجة لتكلفه تلفيق المعنى بين المدح النبوي والبديع: نظم المغايرة، ولكن غاير بها الأفهام، وما أرانا من عقادة بيته غير الإبهام» «3» . وتساءل مستغربا في حديثه عن أحد أبيات بديعية الحلي، بقوله: «وعجبت للشيخ صفي الدين، كيف استحسن هذا البيت، ونظمه في سلك أبيات بديعيته، مع ما فيه من الركة والنظم السافل» «4» . وأحسن ابن حجة حين عقّب على بيت لابن جابر بقوله: «استسمن من وجه هذا البيت ذا ورم، ونفخ من نفسه في غير ضرم، وهذا لعمري جهد من لا جهد له» «5» .

_ (1) ابن حجة: خزانة الأدب ص 77. (2) المصدر نفسه: 97. (3) المصدر نفسه: ص 109. (4) المصدر نفسه: ص 130. (5) المصدر نفسه: ص 133.

إن كثيرا من البديعيات أتت على هذا النحو من التكلف والتصنع، ومع ذلك نجد أصحابها يشيدون بها ويدلّون على أهل الأدب بإبداعها، وهم لم يزيدوا الأدب شيئا، ولا أضافوا إلى البديع مفيدا، ولكنه التصنع الذي أدار رؤوس القوم، فظنوا الإغراق فيه الإبداع الذي ما بعده إبداع، وهذا ما جعل بعض أصحاب البديعيات يتبرمون بكثير مما نظم في هذا الباب، فقال ابن حجة عن بديعية ابن جابر: «البديعية غالبها سافل على هذا النمط» «1» . ولم يسلم ابن حجة نفسه من الانتقاد، فألّفت الكتب التي ترد عليه انتقاده للآخرين، وتظهر عيوب بديعيته وخطل ما يذهب إليه في شرحها، ومن ذلك كتاب (إقامة الحجة على ابن حجة) ، تعقّب صاحبه فيه ابن حجة في بديعيته وشرحها، فقال عن شواهد ابن حجة على الاطراد: «وكلها والله من سقط المتاع، الذي لا يباع والله أعلم» «2» . وأظهر صاحب الكتاب كيف جارت الصنعة البديعية على المعنى في بديعية ابن حجة، حين قال عن بيت ابن حجة: إبداع أخلاقه إيداع خالقه ... في زخرف الشّعرا فاسمع بها وهم «معنى هذا البيت مختل اختلالا ظاهرا، لأنه أراد بقوله في زخرف الشعراء، السورتين الكريمتين، فليس لإضافة الزخرف إلى الشعراء معنى بوجه من الوجوه، ولا مجاورة بينهما في الترتيب التوفيقي، وإن أراد به كلام الشعراء وقولهم، فالأمر أعظم خطرا، وإنني لأعجب أشد العجب من أمرين: أحدهما، سكوت أهل الأدب عند إيراد

_ (1) ابن حجة: خزانة الأدب ص 399. (2) ابن شهاب الحضرمي: إقامة الحجة ص 29.

هذا البيت عمّا فيه من الخلل، والثاني، أن الناظم لم يلبث مع اختلال بيته أن ادعى له الجمع بين اثني عشر نوعا من البديع، مع أن الأمر بخلاف ما ادعاه» «1» . صحيح أن الناقد بالغ وقسا، وحمّل الكلام أكثر مما يحتمل، إلا أن هذا يدل على أن الأدباء كانوا لا يرتاحون تماما إلى هذا اللون من النظم، وأن الإشادة به كانت نابعة من موضوعه السامي، وهو المدح النبوي، ومن اشتماله على فنون البديع التي فتنت أدباء ذلك العصر وأهله، وأن المزاوجة بين المدح النبوي والبديع لم تكن ناجحة، ولم تضف جديدا إلى أدب ذلك العصر وبديعه، وإن أرضت الذوق العام السائد في تلك الأيام. فالبديعيات يمكن أن تعد مرحلة وسطى بين الشعر والنظم، هي شعر لأنها تحوي موضوعا شعريا هو المدح النبوي، ولأنه تتخللها بعض مظاهر الشعر من فن كلامي وعاطفة وخيال، وهي نظم علمي، لأنها ذكر لفنون البديع، وإيراد الشواهد عليها، وقلما نجح شاعر في إقامة هذا التوازن، وتحقيق المعادلة الصحيحة بين المدح النبوي والبديع، وغالبا ما كان الجانب البديعي يطغى على الجانب الشعري في البديعيات، وقد يكون هذا عائدا إلى أن معظم الذين شاركوا في نظم البديعيات كانوا من العلماء، وحتى الشعراء الذين نظموا البديعيات، والذين أحسنوا نظم المدح النبوي، كانت شاعريتهم تضمحل حين ينظمون البديعيات، ويبدو أنهم فهموا البديعيات على أنها منظومات تعليمية، طعمت بموضوع سام، ولذلك لا مجال لإظهار الشاعرية فيها، وأن المهم فيها أن يكمل الناظم في بديعيته أصناف البديع، وأن يمثّل لها وأن يلائم بين ذلك وبين التعبير عن معاني المدح النبوي. فالبديعيات كانت نهاية ازدياد استخدام البديع في المدح النبوي.

_ (1) ابن شهاب الدين الحضرمي: إقامة الحجة ص 54.

القسم الثالث - التأليف:

ومع ذلك لم ينس الدكتور علي أبو زيد في دراسته القيامة عن البديعيات أن يعدد فوائد البديعيات وآثارها في الثقافة العربية آنذاك، فذكر منها: تعميم البلاغة ونشرها بين الناس، لأن المدائح كانت أكثر فنون الشعر انتشارا آنذاك. ترسيخ أسس البديع، وتأكيد انفصاله عن علم البيان والمعاني. العودة بالبديع إلى المدرسة الأدبية، وطريقة العرب البلغاء، التي تعتمد الشاهد، وإظهار مواطن الجمال فيه، والابتعاد عن الفلسفة والمنطق. استنباط أنواع جديدة من البديع «1» . القسم الثالث- التأليف: لم يكتف المشتغلون بالمدائح النبوية بنظمها أو تخصيص الدواوين المستقلة لها، أو الزيادة عليها، فإن كثيرا من المهتمين بفن المدح النبوي لم يؤتوا الموهبة الشعرية، ولم تكن لديهم المقدرة على النظم، وكانت لديهم رغبة شديدة في المشاركة بهذا الفن الجميل الجليل، وحرصوا على ألّا يفوتهم ما تعود به المدائح النبوية على أصحابها، من شهرة ومكانة، ومن أمل بالمغفرة والثواب، وتحصيل الراحة والطمأنينة، لذلك عمد هؤلاء إلى شرح المدائح النبوية، وإظهار مقاصدها، وإيضاح المستغلق منها، وتوجيه المبهم، ليساعدوا بذلك من التبست عليهم بعض معاني المدح النبوي ومقاصده، واستغلقت بعض ألفاظه، وأبهمت أوجه الصنعة الفنية فيه. وقد كثرت هذه الشروح كثرة مفرطة، وتناولت قصائد بعينها، تأتي في مقدمتها لامية كعب بن زهير وبردة البوصيري، إضافة إلى أن بعض الشعراء شرحوا قصائدهم

_ (1) أبو زيد، علي: البديعيات في الأدب العربي ص 251.

بأنفسهم، حرصا منهم على إيضاح مقاصدهم وخوفا من أن تؤول بعض عباراتها تأويلا لم يذهب إليه الشاعر، فيسيء إليه، أو لرغبة في التأليف عنده. وعدت الشروح آنذاك من ضروب التأليف التي يسعى إليها المؤلفون. والشروح معروفة في التأليف قبل هذا العصر، لكنها زادت زيادة كبيرة فيه، وشملت مختلف العلوم، فكثرت الشروح والحواشي وما يقرب من ذلك. وهكذا صارت تطالعنا شروح مختلفة لقصيدة واحدة، مثل قصيدة كعب بن زهير التي استمر شرحها في أوقات مختلفة فما أن ينتهي أحدهم من شرحها هنا حتى يبدأ آخر شرحها هناك، وصارت أسماء الشروح من العناوين البارزة في فهارس الكتب، مثل (شرح قصيدة كعب) و (حاشية على شرح ابن هشام لقصيدة كعب) و (بلوغ المراد على بانت سعاد) و (الجوهر الوقّاد في شرح بانت سعاد) و (كنه المراد في شرح بانت سعاد) وهكذا ... ومن أمثلة شرح قصيدة كعب الشرح الذي وضعه ابن هشام، والذي مال به إلى اللغة وعلومها، حتى أصبح مما يعتمده المشتغلون باللغة وعلومها، فقد جعل من شرحه لقصيدة كعب كتابا يحوي مسائل اللغة والنحو، ودقائقها، وشرحه يسير على النحو التالي: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّم إثرها لم يفد مكبول «قوله: بانت سعاد، معنى بان: فارق، وله مصدران ... ومذهب الكوفيين ... والتاء حرف تأنيث لا اسم للمؤنث ... قوله: سعاد، هو علم مرتجل، يريد به امرأة يهواها حقيقة وادعاء ... » «1» .

_ (1) ابن هشام الأنصاري: شرح قصيدة كعب ص 47.

ويمضي ابن هشام في شرحه، فيستفيض في النحو ومسائله، واللغة وأمثلتها، مستشهدا على ما يذهب إليه بالقرآن الكريم والشعر العربي القديم، فيستغرق شرح البيت الواحد عشر صفحات. وقد أصبح هذا الشرح مصدرا لشرّاح قصيدة كعب بن زهير الذين جاؤوا بعده، فمنهم من تابعه في اتجاهه اللغوي، ومنهم من أخذ شيئا من هذا الاتجاه، واتسع في الشرح ليشمل المعاني والسيرة والقضايا الدينية التي يقتضيها الحديث. أما بردة البوصيري، فإنها نالت من الشروح والتفاسير ما لم تنله قصيدة في الشعر العربي، فبروكلمان عدّد لها تسعة وسبعين شرحا بلغات مختلفة، إضافة إلى عدد من ترجماتها إلى اللغات الأوروبية والفارسية والتترية «1» . وكذلك الأمر مع همزيته، التي نالت اهتمام الشّراح وإقبالهم، وقد حصر بروكلمان ثمانية عشر شرحا في عصور متلاحقة «2» . ومن أمثلة شرح البردة ما وضعه عليها أبو شامة المقدسي، وسار فيه على النحو التالي: أمن تذكّر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم «قبل الخوض في الشرح، نشير إلى عدة أمور، يليق ذكرها بالمقام، منها أن عادة شعراء العرب جرت بأنهم يبتدئون في مطالع قصائدهم بذكر لوازم العشق ... الجيران: جمع جار، والسلم: نوع من الشجر، وذي سلم: مكان ... والبيت في تأويل المصدر، معطوف على تذكر، أي من هبوب الريح ... » «3» .

_ (1) بروكلمان: تاريخ الأدب العربي 5/ 82. (2) المصدر نفسه: 5/ 98. (3) أبو شامة: شرح قصيدة البردة، ورقة 42.

وهكذا ينتقل أبو شامة من بيت إلى بيت، يبدأ بشرح مفرداته، ثم يعربه، ويذكر بعض القضايا الأدبية والدينية التي يقتضيها الشرح، مستشهدا على ذلك بالقرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي، ومشيرا إلى بعض حوادث السيرة العطرة. ومن الشروح المهمة للبردة الشرح إلى وضعه الغزي «1» تحت عنوان (الزبدة في شرح البردة) ، وهو يأتي على النحو التالي: وكيف تدعو إلى الدّنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدّنيا من العدم «وكيف: للاستفهام الإنكاري، أي لا ... تدعو: أي تميل ... لم تخرج الدنيا من العدم، إلى الوجود، ببناء تخرج للفاعل أو المفعول، وخرج بقول أصالة عمّا ضرورته إليها عرض، كالحاجة إلى قدر القوت وستر العورة، مع إعلامه صلّى الله عليه وسلّم أن ذلك ونحوه ليس من الدنيا، وإن كان فيها ضرورة ... » «2» . فهو في شرحه يهتم بالمعاني وأصولها، ويتسع في الاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي. وإلى جانب هذه القصائد نجد مدائح نبوية أخرى، أخذها المؤلفون بالشرح والتفسير، وقد جاء في وصف أحد المخطوطات: «مضى شهاب الدين المقدسي إلى قصائد في مدح الرسول، شرحها، وسمّى شرحه (المقاصد السنية في شرح القصائد النبوية) ، وهي القصيدة اللامية المشهورة بالشقراطيسية.. وذات الأصول في مدح الرسول، وذات الدرر في معجزات سيد البشر، وذات القبول في مفاخر الرسول، ومفرجة الغمم في مدح سيد الأمم، ووداع الزائر للنبي الطاهر، وشكوى الاشتياق إلى النبي الطاهر الأخلاق» «3» .

_ (1) الغزي هو بدر الدين محمد بن محمد بن محمد، الفقيه المفسر المحدث، توفي سنة (984 هـ) . تراجم الأعيان: 2/ 93. (2) الغزي: الزبدة في شرح البردة ص 64. (3) بدوي، أحمد أحمد: الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية ص 44.

ومن المدائح النبوية التي اهتم أصحابها بشرحها البديعيات، فابن حجة جعل من شرحه لبديعيته كتابا كبيرا حوى كثيرا من قضايا المدح النبوي ومميزاته، وطائفة كبيرة من القضايا الأدبية التي كانت تهم أهل عصره، إضافة إلى قدر كبير من شعر العصر ونثره، وما فرضه السياق من التراث العربي. وجعل الحلي من شرح بديعيته كتابا كبيرا في البديع، وكذلك السيوطي في شرح بديعيته (شرح نظم البديع) . ومنهم أيضا أحمد بن محمد الخلوف «1» الذي «عمل بديعية ميمية، سمّاها «مواهب البديع في علم البديع» ، وشرحها شرحا حسنا) «2» . وشرح البديعيات، إضافة إلى ما ظهر لنا في شرح المدائح النبوية، يحوي إيضاحا لفنون البديع والتمثيل لها، ولو أخذنا شرح بيت من خزانة ابن حجة على بديعيته، لكلفنا ذلك من أمر البحث شططا، فهو عند ما يبدأ الشرح على البيت الأول المخصص لفن من فنون البديع وهو براعة المطلع، نجده على النحو التالي: لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم ... براعة تستهلّ الدّمع في العلم «3» «اعلم أنه اتفق علماء البديع على أن براعة المطلع، عبارة عن طلوع أهلة المعاني واضحة في استهلالها..» وبعد أن يعرّف المصطلح البديعي، يورد آراء علماء البديع به، وأمثلة من الشعر العربي القديم، ويتحدث عن قضايا أدبية، مثل الاستشهاد بشعر المولدين، كلامهم

_ (1) الخلوف، أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الحميري: شب في بيت المقدس وتعلم فيه، وعاد إلى المغرب، برع في النظم والنثر، وكتب لصاحب المغرب، امتدح النبي كثيرا. السخاوي: الضوء اللامع 2/ 122. (2) السخاوي: الضوء اللامع 2/ 122. (3) ابن حجة: خزانة الأدب ص 3.

ومعانيهم، ومثل شروط الغزل في المدح النبوي، وتراجم بعض الشعراء الذين استشهد بشعرهم، ويستطرد إلى ذكر شعر مشابه لما استشهد به، ويذكر رأيه فيه مستحسنا أو ناقدا، ولا ينسى أن يأتي بأمثلة من النثر، ويحاول أن يظهر كيف أخذ الآخر عن الأول، ثم يذكر أمثلة على النوع البديعي الذي يتحدث عنه، من بعض البديعيات التي سبقت بديعيته، ويوازن بينها، فأخذ ذلك نحو عشرين صفحة من خزانته. فجاء شرحه هذا كتابا أدبيا جامعا، فيه أمثلة كثيرة من الأدب، شعره ونثره، من العصر الجاهلي إلى عصره، وفيه نقد وحديث عن قضايا الشعر العربي والنثر العربي، حتى بدت بديعيته التي يشرحها، ليست أكثر من متكأ لتشكيل كتاب أدبي، غني بأمثلته وقضاياه. وقد استدعت هذه الشروح كتبا أخرى، تتعلق بالمدائح النبوية، هي الكتب التي رد فيها أصحابها على شراح المدائح النبوية، أو أضافوا إلى شروحهم، مثل كتاب (إقامة الحجة على ابن حجة الذي تعقّب صاحبه شرح ابن حجة، وانتقده في مواضع كثيرة من شرحه. ولم تكن شروح المدائح النبوية خالصة للقصائد التي تشرحها، توضح غامضها، وتفسر لبسها، وتبسط القول في معانيها فقط، فإلى جانب ذلك كله، حفلت الشروح بالمعلومات اللغوية والأدبية، وأوضحت مسائل تاريخية ودينية، وزخرت بالشواهد الشعرية والنثرية من التراث العربي، ومن الأدب المعاصر لأصحاب الشروح، حتى غدت بعض الشروح، مثل شرح ابن حجة في خزانته من المصادر الهامة لأدب ذلك العصر. ومثل شرح الكافية البديعية للصفي الحلي، الذي وضعه على بديعيته، وأورد فيه معلومات كثيرة حول البديع والبلاغة والأدب. والحلة السيّرا لابن جابر الذي شرح بديعيته بنفسه، وشرحها رفيقه الرعيني «1» ، وأودعها إشارات كثيرة في الأدب واللغة.

_ (1) الرعيني: أحمد بن يوسف بن مالك الغرناطي، رافق ابن جابر إلى مصر والشام، كان محدثا أديبا شاعرا ناثرا متقنا لعلوم العربية. توفي سنة (779 هـ) . الدرر الكامنة: 1/ 340.

وكذلك الفتح المبين لعائشة الباعونية، الشرح الذي وضعته على إحدى بديعتيها، وتحدثت فيه عن بعض قضايا المدح النبوي، وأودعته ملاحظات هامة في البلاغة واللغة والعقيدة والأدب، وغير ذلك مما يوسع ثقافة القارئ ويعلمه ويمتعه. إن كثيرا من قضايا المدح النبوي وأصوله، وصلت إلينا من شروح المدائح النبوية، أو من مقدمات دواوين المدح النبوي، فكان للشروح أثر في إرساء بعض القواعد النظرية للمدح النبوي. وكذلك الأمر مع بعض صور النقد التي ظهرت في الشروح لمعاني شعراء المدح النبوي وأساليبهم، والتي أظهرت المضمون العام للمدح النبوي وطريقة أدائه. فالمدائح النبوية استدعت نشاطا تأليفيا يخدمها، هو الشرح، الذي حفز همم بعض المؤلفين، وحثّهم على المشاركة في فن المدح النبوي، فدرسوا ونقّبوا وتثقّفوا ليقوموا بهذه المهمة، فكان بذلك أحد عوامل نشاط حركة التأليف في هذا العصر. ويضاف إلى ذلك كتب السيرة والدلائل والمناقب، والرسائل الي ألّفت للبحث في مسائل دينية، طرحت في المدائح النبوية، وكانت محل خلاف بين العلماء، ولوضع مادة كافية ومناسبة بين يدي شعراء المدح النبوي، ليفيدوا منها في قصائدهم. وبذلك يظهر لنا أثر المدائح النبوية في الثقافة، فإلى جانب الإنتاج الشعري الغزير، وإغناء حركة الشعر العربي بقصائد كثيرة وهامة، كانت موضع اهتمام الناس جميعا، فإن المدائح النبوية استدعت مؤلفات كثيرة العدد، هي الشروح وغيرها من المؤلفات التي لها علاقة من نوع ما بفن المدح النبوي.

الخاتمة بعد استعراض وقائع العصر المملوكي، تبيّن لنا أنه لم يكن عصر ركود وجمود كما هو شائع عنه، بل كان عصرا يموج بالحركة والنشاط، فالصراع مع أعداء الأمة لم يتوقف طول العصر، ونجح المماليك في قيادة رعاياهم نحو النصر، ورد غزوتين عاتيتين، وظلوا أندادا للمغول والفرنجة الأوروبيين، يذودون عن الوطن العربي، ويأخذون المبادرة أحيانا، فيفتحون قبرص ورودس، ويؤدبون المعتدين. وكانوا في صراع دائم فيما بينهم على السلطة، لا تهدأ فتنهم، واستمرت كذلك الثورات ضدهم، ثورات العرب لاستعادة مكانتهم ومجدهم، والثورات الشعبية التي نشدت العدالة الاجتماعية، ورفع الظلم والبؤس عن العامة. وكان النشاط الثقافي متأججا على عكس الصورة المعروفة عنه، فالعلماء كانوا يدرّسون ويؤلّفون، ويجوبون الأقطار العربية الإسلامية، فتركوا لنا ثروة ثقافية كبيرة وموسوعات معرفية عظيمة، والكتّاب احتلوا مكانة بارزة في مجتمعهم، والشعراء كثروا كثرة مفرطة، والموسوعات تترى، لتنظم معارف العصر، ومتفرقات التراث العربي. أما الشعر، فإنه تلّون بألوان مختلفة، بعضها زاه مشرق، وبعضها باهت ثقيل، منه الشعر الذي ينظر إلى شعر السابقين ويتابعهم، ومنه الشعر الذي يحفل بالصنعة المعنوية واللفظية، ومنه الشعر الشعبي الذي ينحدر نحو العامية واللحن. ونحن لا نستطيع أن نفرد العصر بمذهب شعري محدد- كما يشاع عنه-، فلم يخلص عصر من العصور لمذهب أدبي واحد، وإن طغى أحد المذاهب على غيره.

لقد طغت الصنعة على أدب العصر، وكأن الشعراء وجدوا في البديع وفنونه تجديدا ذا شأن، فلبّوا رغبة الناس الذين أولعوا بالزخرفة في مظاهر حياتهم جميعها، ولو تابعوا مظاهر التجديد التي وجدت قبلهم، لكان لشعرهم موقع آخر. ومحاولة خروج شعراء العصر المملوكي على هذا النهج كانت في الغالب تنصرف إلى الشعر الشعبي الملحون. فالشعر العربي حافظ في تاريخه الطويل على معظم مقوماته، وما أصابه من تغير أو تجديد، كان انعكاسا لتغير طبيعة حياة الشاعر وتطور عقليته، واختلاف ظروفه، فالأدب عامة هو ثمرة تفاعل الأديب مع بيئته والظروف المؤثرة فيها، ولذا كانت موضوعات الشعر وشكله الفني في كل عصر صدى لمظاهر البيئة. ونحن لا نريد أن نكلّف شعراء عصر المماليك بتجديد لا طاقة لهم به، ولا نريد أن نحاكمهم من منطلق اتجاهات عصرنا ومفاهيمه ونظرته إلى الشعر، لكننا نقرر واقعا، ونبيّن حالا، فمهما يكن شأن هذا الشعر، لا بد من دراسته وتأريخه وتقويمه. بدأ المدح النبوي منذ بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فالناس من حوله أعجبوا بشخصيته وكمالها، فتوجهوا إليه بالمدح كما يمدحون ساداتهم وأشرافهم، إلا أن الشعراء من الصحابة أخذوا يميّزون مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن مدح غيره، لأنه متميز عن غيره، فالمدح النبوي يختلف عن المدح العام في الشعر العربي بأنه موجه إلى النبي الكريم، وبأن معانيه تختلف عن معاني المدح العام في بعضها، وفي درجتها ومفهومها في بعضها الآخر، فالمعاني التقليدية التي مدح بها النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم تتباين عن المعاني التقليدية التي مدح بها غيره في منطلقها وعمقها. واختلف المدح النبوي أيضا عن الرثاء في الشعر العربي، لأن الشعراء الذين مدحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. لم يكن قصدهم رثاؤه، ولم يظهروا التفجع والحزن، ولأن شعرهم نظم بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزمن طويل، وإن وجدنا قصائد رثاء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إثر وفاته،

فهي تختلف عن قصائد المدح النبوي التي لا تزال تنظم إلى أيامنا هذه، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي يختلف عن باقي البشر، يختلف الشعر الذي يقال فيه بعد وفاته عن الشعر الذي يقال في بقية الناس، وخاصة عند ما يتيّقن المسلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موصول الحياة، فيخاطبونه مخاطبة الأحياء. لقد مدح الشعراء المسلمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدحا تقليديا في جلّه، يترسم طرائق الجاهليين، لأن التقاليد الفنية الجاهلية لا تزال راسخة في نفوسهم، بيد أن المعاني الإسلامية أخذت تزداد في مدحهم له شيئا فشيئا، فأرسوا قواعد فن المدح النبوي. وفي العصر الراشدي والأموي تابع الشعراء ما بدأه الشعراء الصحابة، ولكن سرعان ما اختفى المدح النبوي أو كاد، ليقتصر ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بعض الأبيات في قصائد مدح آل البيت، وقصائد الفخر، أو عند المقارنة، ولولا شعر الكميت لكاد أن يكون هذا العصر انقطاعا لما كان عليه المدح النبوي في زمن البعثة النبوية. واتسع هذا الذكر شيئا ما في بداية العصر العباسي، وتسابق الشعراء إلى نسب ممدوحيهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على وجه من الوجوه، وما لبثت أن ظهرت قصائد المدح النبوي، التي عارض أصحابها قصائد مدح بها النبي الأمين في حياته، ثم نظم الشعراء مدائح نبوية خالصة، تنظر إلى كل ما تقدم، بيد أنها مما سمحت به قرائح الشعراء وظروفهم. وعرف العصر العباس مراحل مختلفة من مراحل تطور المدح النبوي، وظهر فيه كثير من مفردات المدائح النبوية ولوازمها. حتى إذا وصلنا إلى العصر الفاطمي والزنكي والأيوبي، وجدنا فن المدح النبوي ينتشر في بقاع البلاد العربية الإسلامية، ليرسخ ويتعمم فنا مستقلا قائما بذاته من فنون الشعر العربي في العصر المملوكي.

إن المدح النبوي هو لون من ألوان الشعر الديني، اختلط بألوان أخرى في مسيرة تطوره حتى العصر المملوكي، ولذلك عدّ بعض الدارسين مدح آل البيت والتشوق للأماكن المقدسة من المدح النبوي، وعدوا المدح النبوي جزآ من الشعر الصوفي، وخلطوا بين المولد النبوي والمدح النبوي، ولو تمعّنا في هذه الفنون لوجدناها تقترب من فن المدح النبوي وتتقاطع معه، لكنها تفترق عنه أيضا في نواح كثيرة، فالمدح النبوي الذي جرى على الطريقة التقليدية لا يلتقي بمجمل فن المدح النبوي وصورته التي عرفت في العصر المملوكي، ومدح آل البيت فيه ذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنه ليس مدحا له، والشعر الصوفي كذلك الأمر، ويجاريهما شعر التشوق إلى الأماكن المقدسة. والعبرة في التفريق بين هذه الفنون وبين المدح النبوي هو قصد الشاعر من إنشاء قصيدته، فإذا كان غرضه مدح آل البيت أو ذكر مواجده الصوفية أو تشوقه للمقدسات، وذكر فيها النبي الكريم، فإنه لا يعد من المدح النبوي، أما إذا كان غرضه مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذكر في قصيدته آل البيت أو تشوقه للمقدسات أو بعض المواجد الصوفية، فهو مدح نبوي. أما الشعر الذي ورد في المولد النبوي، فهو لون من ألوان المدح النبوي، لكنه يقتصر على ذكر معنى من معانيه، أو ذكر مرحلة من مراحل حياة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي مرحلة الولادة والطفولة. وبذلك فهذه الفنون الشعرية قريبة من فن المدح النبوي، ومتميزة عنه، ومتقاطعة معه، فهي تقترب وتبتعد، وتتداخل وتتمايز، لكنها لا يمكن أن تعد بكل صورها من فن المدح النبوي الذي عرف في العصر المملوكي على صورة معينة، يصعب معها دمج هذه الألوان به، لكن هذه الفنون أثّرت في المدح النبوي وتأثرت به، وأعطته الصورة التي نعرفها.

وقد اتسع المدح النبوي اتساعا كبيرا لدواعي مختلفة، ولأنه فن أصيل يلتقي مع كوامن النفوس المؤمنة ومع متطلبات الحياة، فالدين ينظم حياة البشر ويعطيها معناها وغايتها، والأدب ينيرها ويجمّلها ويوسع آفاقها، وحين يلتقي الدين والأدب لرفعة المجتمع لا بد من أن يعملا على النهوض به نحو السعادة، وأن يخلصاه من منغصاته. والأدب الديني ليس جديدا على أدبنا العربي، أو الآداب الآخرى، فالأدب والعقيدة متكاملان، والشعر لما له من مكانة في نفوس الناس، استطاع أن يخدم الدين، وينشر أهدافه ويدافع عنه، كما استطاع الدين أن يمدّ الشعر بموضوعات جليلة، وأن يمنحه ظلالا عاطفية محببة. ومن هنا حاول شعراء المدح النبوي تجسيد المثل الإنساني الكامل، الذي يتفق جميع المسلمين على تعظيمه وتنزيهه، وقدموا للمطلعين على شعرهم التجارب الإنسانية الرائعة التي يكبرها العقل الإنساني ويفيد منها ويتخذها هدفا له، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عندهم الإنسان الكامل وبطل أبطال البشرية، وجماع الخير، وممثل الفضائل ومجسّد العبقرية الإنسانية، والنور الكوني المقتبس من نور الله، والصورة المشرقة لخلافة الله في الأرض. والأدب يعكس الحياة، وشعراء المدح النبوي لم يكونوا في شعرهم بعيدين عن عصرهم ومجتمعهم، وإنما كانوا يجسدون حالا موجودة، تشغل الناس، وهي الاحتفال بالنبي صلّى الله عليه وسلّم والإشادة به في ظل ظروف الحرب والقهر، أو تعرض الدين لهجمة شرسة، ونبيهم لافتراآت الغزاة وإفكهم، فكان لا بد لهم من الرد، والانتصار لدينهم ونبيهم، أو أنهم استحضروا السيرة النبوية والشمائل النبوية، وأشاعوها في حياتهم للوصول إلى هدف معين. فهناك تبادل في التأثير والتأثر بين الأدباء ومجتمعاتهم، والأدب يسعى إلى تغيير المجتمع بما يقدمه إليه من قيم جديدة، أو يحيي فيه قيما معروفة، ويعمل على ترسيخها.

وينسجم هذا المفهوم للشعر مع المفهوم الإسلامي الذي أراد للشعر أن يكون أداة بناء للمجتمع، يشجع على التخلق بالأخلاق الفاضلة، واعتناق المثل العليا، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبصّر الشعراء المسلمين بمواطن القول الحق، ويبعدهم عن الروح الجاهلية والتقاليد الفنية التي نشؤوا عليها، ونظموا شعرهم من وحيها، فهو أراد للشعر أن يكون فنا كريما، ملتزما بقضايا الإنسان، ينشد الحق والخير والمبادئ السامية، لا ممتهنا ولا وسيلة تكسب، وأراد للشاعر أن يكون فاضلا مؤمنا صادقا في فنه. إن دواعي اتساع المدح النبوي ومسوغاته في العصر المملوكي كثيرة ومتنوعة، فالظروف السياسية والاجتماعية والدينية التي كانت سائدة آنذاك، كانت كلها تدفع الشعراء إلى مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والإكثار من مدحه. فالصراع مع العدو الخارجي كان على أشده، والغزاة أرادوا اقتلاع الوجود العربي، وقد صبغ الأوروبيين عدوانهم بصبغة دينية، فهاجموا الإسلام وانتقصوا من قدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فردّ الشعراء عليهم بالإشادة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومدحه وتقديمه على الناس جميعا والأنبياء الكرام، وقدموا في قصائد مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صورا من البطولة والتضحية وأمثلة على التفاني في نصرة الحق، ليحثوا المسلمين على مقاومة الغزاة، ورد عدوانهم على الأرض والأمة وتراثها. وكذلك الأمر مع سياسة المماليك الداخلية، فقد انفردوا بالسلطة، ولم يقيموا العدالة الاجتماعية كما يجب أن تكون، ولم يحافظوا للعرب حقهم في التقدير، وهم أصحاب البلاد، وهم الذين حملوا راية الإسلام ورسالته إلى العالم، وهم أهل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاءت المدائح النبوية لتذكر المماليك بهذه الحقائق ولتحفز العرب على المطالبة بحقوقهم، واستعادة مكانتهم وأمجادهم. وحفل العصر الملوكي بصور من المظالم التي عانى منها الناس كثيرا فجاءت المدائح

النبوية متوسلة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليرفع عنهم هذه المحن، فيرفعون ظلمهم عن الناس، ولعل الناس يعرفون حقوقهم، فيطالبون بها، ويرفعون الجور عن أنفسهم. وكان للجدل الديني المحتدم بين المسلمين وأهل الكتاب من جهة، وبين المسلمين أنفسهم من جهة أخرى، أثره في دفع الشعراء لنظم المدائح النبوية، ولرد افتراآت الغزاة، ولمقاومة البدع الدينية، أو لعرض مذاهبهم الدينية وآرائهم في القضايا الدينية التي اختلف المسلمون حولها. هذه الأسباب وغيرها كانت وراء اندفاع الشعراء إلى نظم المدائح النبوية، وانتشار هذه المدائح، وانشغال أهل العصر بها على اختلاف مستوياتهم ومشاربهم. أما المدحة النبوية، فإنها قصيدة ذات مضمون مستقل، وشخصية متفردة، إذ إنها تحوي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومدحه، وهو إنسان متفرّد بين بني البشر، وقد اصطلح مادحو النبي الكريم على مضمون محدد لها، واستقروا على إيراد معان محددة فيها، يتفاوتون فيما بينهم في القدر الذي يضمّنونه منها مدائحهم النبوية. فالمضمون الأساس للمدحة النبوية هو مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يتألف من الإشادة بأخلاقه وشمائله على الطريقة التقليدية وبالقيم التقليدية التي اعتاد الشعراء العرب على مدح سادتهم بها، لكن المعاني التقليدية أخذت طابعا خاصا في المدائح النبوية، واكتسبت وهجا فريدا عند نسبها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فخرجت عن تقليديتها، لأن الشعراء باتوا يدركون مفهوم النبوة، ويعرفون أنهم يمدحون بها سيد الوجود، ويراعون فيها النبوة. وإلى جانب ذلك مدحه الشعراء بالقيم الدينية وبمكانته صلّى الله عليه وسلّم عند ربه، ومكانته بين الأنبياء، وأثره في حياة الإنسانية، واستقصوا فضائله وخصائله الكريمة، وحرصوا على ألا يفوتهم شيء منها.

وحرصوا كذلك على ذكر سيرته العطرة، فأظهروا جوانب العظمة والموعظة فيها، وذكروا معجزاته الباهرة منتقلين في ذلك إلى الغيبيات ونظرية الحقيقة المحمدية التي أفاضوا فيها أيّما إفاضة، واستغرقوا في تفصيل جوانبها أيّما استغراق. وقد ذكروا في مدائحهم الصحابة الكرام، وأشادوا بإخلاصهم لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتفانيهم في نصرة الدين، ومدحوا آل البيت الأطهار، ونوّهوا بمكانتهم الرفيعة وقرابتهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وإضافة إلى ذلك كله ذكروا بعضا من هموم عصرهم وقضاياه، وبسطوا عقائدهم ومذاهبهم ودعو إلى الجهاد وحثّوا على التحلّي بمكارم الأخلاق، واختتموا قصائدهم بالدعاء والتوسل والصلاة على النبي. كما أضاف مادحو النبي من المغاربة في بعض قصائدهم مدح سلطان وقتهم، وخاصة في المولديات. وقد تلوّن مضمون المدحة النبوية باختلاف مذاهب الشعراء واتجاهاتهم الدينية، فانطلق كل شاعر في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من موقعه وتوجهه وما يراه. فمضمون المدحة النبوية هو الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما استلزمه هذا الحديث، وانعكاس العصر على صفحته. أما معاني المدح النبوي، فمعظمها مستقى من القرآن الكريم والحديث الشريف والسيرة النبوية، والتراث العربي، شعره ونثره، وقليلة هي المعاني التي تعد ابتكارا جديدا من إبداعات شعراء المدائح النبوية، والتي جاء من الأفكار الجديدة التي عرفوها في عصرهم، ومما تفتقت عنه قرائحهم، فاقتنصوا المعنى من هنا وهناك، وبالقدر الذي أسعفتهم به ثقافتهم وموهبتهم.

لذلك نجد كثيرا من المدائح النبوية التي لا تحوي جديدا، والتي لا تعدو أن تكون نظما للسيرة أو سردا للمعجزات، فأتت فيها الأحاديث والروايات بنصها وألفاظها تقريبا. ويعكس أسلوب المدحة النبوية الاتجاهات الفنية التي عرفت في العصر المملوكي، فنجد القصيدة التقليدية التي تبدأ بالوقوف على الأطلال وتثني بالغزل وذكر الرحلة، ليصل الشاعر بعد ذلك إلى موضوعه وهو المدح، ويختمها بالمراد من مدحته، وقد اختلف هذا الشكل من شاعر إلى شاعر، فبعضهم أخل به بعض الإخلال، وبعضهم غيّر فيه، فاستبدل بذكر الأطلال وديار المحبوبة، ذكر الأماكن المقدسة، وترك الغزل الإنساني المحسوس، وتغزّل غزلا عاما مجرّدا، مظهرا تشوقه ووجده، ومشاعره الدينية الرقيقة. ونجد في المدائح النبوية القصائد التي تخلو من كل تقديم، كما نجد الأراجيز التي تميزت منذ القدم وعدت أحد أشكال القصيدة العربية. وإلى جانب ذلك نرى الإضافات التي زيدت على القصائد، فغيّرت شكلها، مثل التشطير والتخميس والتسديس والتسبيع، مع الموشحات والأشكال المستحدثة الملحونة. ونلاحظ كذلك وجود القصائد المخططة مسبقا، والتي وضع الشعراء لها قيودا محددة، كأن ينظم الشاعر عددا من القصائد، كل قصيدة تتألف من عشرة أبيات، ولها روي مختلف، ويرتبها ترتيبا أبجديا، بعدد حروف الهجاء وتسلسلها، وقد تكون القصائد مؤلفة من عشرين بيتا، فتكون من العشرينيات، وقد يزيد الشاعر قيوده، فيلتزم ببداية كل بيت من قصائده بحرف القافية، إلى غير ذلك من أساليب الصنعة الشكلية التي استحدثت في هذا العصر.

وتبعا لذلك جاءت صياغة القصائد متفاوتة أيضا، تعكس المذاهب الفنية للشعر في العصر المملوكي، فنجد المدائح النبوية التي تضارع القدماء في صياغتهم وألفاظهم وطريقتهم في التعبير الشعري، وتتابعهم في خصائص شعرهم، إما بالمعارضة التي يستعين بها الشاعر، فينظم على مثال معروف حاضر في ذهنه، يتتبعه في إطاره العام، مستفيدا من وزنه وقافيته وبعض ألفاظه وتعابيره، وإما بالإنشاء الذاتي، بعد أن يملك الشاعر عدة متابعة القدماء، من ذخيرة لغوية مناسبة، ومعرفة بالشعر القديم وأساليبه، ومقدرة شعرية تتيح له هذه المتابعة. ونجد مدائح نبوية تحمل سمات عصرها، وتنظر إلى التراث الشعري السابق، فجاءت صياغتها وسطا في جزالتها وفصاحتها، يسير الشاعر فيها على سجيته، ووفق ما تسمح به ثقافته وموهبته، فهي لا ترقى إلى أشعار السابقين، ولا تهبط إلى أشعار البديعيين، عليها رواء الشعر، وفيها ثقل الصنعة، وتظل مقبولة إذا قيست بالضرب الثالث من قصائد المدح النبوي، الذي شغف به شعراء العصر، وأحالوا فيه القصائد إلى هياكل من الزينة اللفظية والمعنوية، ومتون لضروب البديع التي وصلوا بها إلى قدر كبير من التكلف والتصنع، فذهبت بالأسلوب الشعري والمعنى معا، ولم يبق من الشعر إلا شكله الخارجي من وزن وقافية، وما بينهما هو تعمل وتكلف، يحشد فيه الشاعر كل ما يستطيع من ضروب البديع وأفانين الصنعة. أما الألفاظ في المدح النبوي، فإنها تتفاوت في صحتها وفصاحتها من شاعر إلى شاعر، فالمتمكن تأتي ألفاظه صحيحة فصيحة، والشاعر الذي يعاني ضعفا في ملكته الشعرية وثقافته اللغوية، يعوّض ما ينقصه بأخذ الألفاظ والتعابير من هنا وهناك، فيبتعد فيما ينظمه عن اللغة الشعرية والتعبير الشعري. في حين أن الصنعة الشعرية قلما جاءت في المدائح النبوية خفيفة مقبولة، طوّعها الشعراء للشعر، وأخضعوها للمعنى، وأبقوها حلية للشعر، تحرك أسلوبه وتزيينه،

وكانت في الغالب ثقيلة متكلفة، لم تندمج في الشعر، وظلت نابية ظاهرة، جارت على المعنى والأسلوب معا، وأضحت هي المقصودة في الشعر، وجاءت العناصر الآخرى لخدمتها وإظهارها، وهذا لا يعني أن أهل عصرها كانوا ينفرون منها، بل على العكس من ذلك كانوا يسرّون بهذه الصنعة، لأنها تلبّي رغبتهم وتشبع ميولهم، وتقع في نفوسهم موقع الإعجاب، لأنها توافق هوى في نفوسهم، وترضي حاجتهم إلى الجمال كما كانوا يتصورونه. وارتبطت المدائح النبوية بأوزان الشعر العربي المعروفة، وانطلقت بعد ذلك ومن خلالها إلى تشكيلات وزينة مختلفة، وإلى الأوزان التي عرفها أهل العصر، فنظمت المدائح النبوية وفق الأشكال الشعرية التي كانت معروفة في ذلك العصر، كالموشح والفنون الملحونة، وحاول الشعراء الإفادة من كل عناصر الإيقاع والموسيقا في اللغة والأوزان، ليفوا بحاجة المنشدين ومجالس الذكر. إضافة إلى ذلك كله فإننا نجد مدحا نثريا متنوّعا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، جاء على شكل رسائل ومقامات، وفي خطب الكتب وأثنائها، إلى جانب الموالد النبوية. فالشكل الشعري للمدحة النبوية، حمل كل الخصائص الفنية في العصر المملوكي، هذه الخصائص التي جاءت من تأثير البيئة في الشعراء، ومن نظرتهم الجمالية، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها. إن انتشار المدائح النبوية انتشارا عظيما، لا بد أنه قد ترك آثارا مختلفة في النشاط الاجتماعي والثقافي للمجتمع المملوكي، ولا بد أن شعراء المدح النبوي قد لمسوا ذلك، وهذا ما حفزهم على المضي بنظم هذا الفن والاتساع به قدر استطاعتهم، فجعلوا من المدح النبوي مشاركة بدعوات الإصلاح في الحكم والمواعظ التي نثروها في المدائح النبوية، وانتقاد مظاهر الخلل في المجتمع، وخاصة حين تقرن هذه الدعوات بالقدوة الصالحة من سيرة سيد الخلق.

لقد وضعت المدائح النبوية أمام الناس أمثلة عظيمة من العدل الاجتماعي، وحرّكت في نفوسهم التّوق إلى العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، فتضافرت مع أسباب أخرى، ليظهر التململ الاجتماعي. وكانت المدائح النبوية مناسبة عظيمة لينفّس العرب فيها عن كربهم وكبتهم، فهم يمدحون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو عربي الأرومة واللسان، ويمدحون الصحابة الكرام، وهم عرب، ويشيدون بالعرب دون أن يعترضهم أحد، فالعرب افتخروا ببعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بينهم، وبحملهم للرسالة السامية، وإقامتهم لدولة الإسلام، ومن الواجب أن يكون لهم شأن في بلادهم. فقد أثارت المدائح النبوية وما تضمنته من مدح للعرب، في نفوس العرب الرغبة في الانتصاف، وأحيت الأمل باسترجاع مكانتهم في الدولة الإسلامية، وذكّرت الناس بحقهم، ووجوب مراعاة جانبهم، لفضلهم السابق ولشرفهم ببعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم. ولو دققنا في الحركة الثقافية في العصر المملوكي، لوجدنا أنها جانب من حركة البحث عن الذات القومية التي تجلت في العناية بالتاريخ القومي والسير الشعبية وموسوعات التراث العربي. وإضافة إلى ذلك كله كان الاعتقاد قويا بكل ما يتعلق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومنه المدح النبوي، وبأثره في سامعيه، فكانت المدائح النبوية عندهم مما يجلب المنافع ويدفع المكاره، ووسيلة للوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة. وقد أثارت المدائح النبوية جدلا عقائديا بين المسلمين، عرضوا فيها آراءهم ومعتقداتهم، وعرّفوا الناس بها وبأصولها، وتصدى شعراء المدح النبوي لما رأوه انحرافا في العقيدة، يهدّد وحدة المسلمين في عصر، هم فيه بأشد الحاجة إلى الوحدة لمجابهة الغزوات العاتية.

وأفاد الناس أيضا من مجادلة شعراء المدائح النبوية لأهل الكتاب، معرفة بأصول دياناتهم، والتقائها أو افتراقها عن الدين الإسلامي، وردّوا افتراآت الغزاة على الدين الإسلامي الحنيف ونبيه الكريم. هذه ملامح من أثر المدائح النبوية الاجتماعي، وإلى جانب ذلك كان للمدائح النبوية أثر تعليمي تجلّى في المعلومات التاريخية والدينية، وصور البطولة والعظمة، والمواقف الأخلاقية الفذة، والقدوة الحسنة، والدروس المفيدة، التي حفلت بها المدائح النبوية، ولا بد أن الناس أفادوا منها تاريخا وخلقا ومعرفة بسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعجزاته، وأنهم حاولوا الاقتداء بسنّته والابتعاد عمّا يخالفها. لقد نقل شعراء المدح النبوي المقاصد الدينية إلى الشعر، وتابعوا الدين في توجيه الناس، وإرساء روح الجماعة بينهم، ومحاربة العادات السيئة والأوضاع الخاطئة، وتقديم القدوة من حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيرته. ووضعوا المعلومات الدينية والتاريخية في قالب الشعر الذي يصل إلى كل الناس، ويسهل حفظه، فأوصلوا إلى معاصريهم المعاني الإنسانية والنفسية والاجتماعية، ومقومات الأمة ومثلها العليا، التي أكسبتها شخصيتها لتتوارث وتستمر. وظهر للمدح النبوي أثر في الشعر العربي آنذاك، تجسد في وجوه عدة، منها رسوخه غرضا شعريا مستقلا، وأخذه حيّزا كبيرا من الشعر المنظوم في ذلك العصر، وتأثيره في أغراض الشعر الآخرى. وكان الشعراء يرون للمدح النبوي تأثيرا في شعرهم وشاعريتهم، فهو من ناحية يدخل السرور والطمأنينة إلى النفوس المؤمنة، ويشعرها بالارتياح، فيأتي شعرها رائقا. بعيدا عن أدواء الشعر، وهو من ناحية ثانية يجعل شعرهم منتشرا بين الناس، ويشهرهم، ولذلك يحرصون على إجادته والاحتفال به، كيلا ينحدروا في نظمه

انحدارهم في نظم الموضوعات الآخرى، وبذلك يكون موضوع المدح النبوي دافعا للإبداع وحث القرائح، والإجادة. وإلى جانب ذلك بلغ هذا الفن من الاتساع حدا كبيرا، إلى أن أصبح الفن الشعري الأول في العصر المملوكي، وتجلى ذلك في الدواوين الكثيرة المقتصرة على المدح النبوي، والمجموعات الشعرية الكبيرة الموقوفة عليه، والقصائد الكبيرة التي لم تعهد في الشعر العربي من قبل، ومشاركة كل الشعراء، أو من يأنس في نفسه مقدرة شعرية، مهما كانت بسيطة، في نظم المدائح النبوية. ولا شك أن هذه الرغبة الكبيرة في المشاركة بفن المدح النبوي قد دفعت الراغبين إلى الدرس والتحصيل والاستعداد لنظم الشعر، فكان المدح النبوي أحد دوافع التعلم والتثقف، وأحد العوامل التي حثت القرائح وأعملت العقول، ومنعت الشعراء من الاستغراق كليّا في الصنعة الجامدة، والألاعيب اللفظية، فقداسة الموضوع حتّمت عليهم الارتقاء بشعرهم، والحرص على جزالته، لأنه لا شيء أهم من الشعر الديني يستحق عناء الدرس وبذل الجهد، وبذلك حافظ شعر المدح النبوي على شيء من الأصالة والجزالة، لم تتوفر للموضوعات الآخرى. فالمدح النبوي بعث الحركة والنشاط في الشعر المملوكي، وحافظ على صورته الأصلية، وإن كان قد تأثر بأشكال التعبير الشعري التي عرفت آنذاك. ودخلت مفردات المدح النبوي إلى قصائد الموضوعات الآخرى في شعر ذلك العصر، فكان الشعراء يختتمون قصائدهم بالصلاة على النبي، أو يفتتحونها بمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو يمدحون الخلفاء ببعض ما يمدح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو يقدّمون للقصائد بما يقدم به للمدائح النبوية، أو يتمثّلون بأحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو يستعيرون تعابير المدح النبوي للتعبير بها في المواضيع الآخرى كالمدح والغزل.

إن ظهور القصائد الطويلة في المدح النبوي جعل بعض النقاد يتسائلون عما إذا كانت المدائح النبوية قد قدمت الشكل الشعري الأقرب إلى الملاحم بعد القصائد التاريخية والسير الشعبية، في حين أنكر بعض الباحثين وجود الملاحم أو ما يقاربها في الأدب العربي. ففي المدح النبوي عناصر كثيرة تلتقي مع فن الملحمة، فيه يمتزج العالم الواقعي بالعالم الروحي، وفيه عرض لحروب بطولية خارقة، وفيه قيم إنسانية نبيلة، وفيه سرد لأحداث الدعوة الإسلامية، ولحياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولنشوء الأمة وصراعها مع الأمم الآخرى، وفيه تجسيد للإنسان الكامل، والبطل الإنساني المطلق، والمثل الأعلى للإنسانية، وهذه كلها من عناصر الملحمة ومقوماتها. فالمدائح النبوية حملت روح التغيير في الشعر العربي، لكن تجسيدها كان ضمن الحدود المعروفة والشكل الخارجي للقصيدة العربية، فلم تكن ملامح الملحمة على وضوحها عند غير العرب، وليس مهما أن تكون لدينا ملاحم متطابقة مع فن الملاحم عند الأمم الآخرى، ولكن المهم أن العبقرية العربية لم تكن قاصرة على إبداع مثل هذا الفن، وألا يعد غيابه قصورا في التفكير، وجفافا في القريحة، وضيقا في الأفق. فإن لم تكن هذه القصائد ملاحم بالمفهوم المعروف لها، فلتكن ملاحم عربية، ولتكن لها شخصيتها المستقلة مثلما للأمة شخصيتها المستقلة، ولتكن الفن الذي يقابل الملاحم عند الأمم الآخرى. وكان للمدح النبوي أثر وتأثر بالبديع الذي كان سائدا في ذلك العصر، فالبديع ظهر بدرجات متفاوتة في قصائد المدح النبوي، وطغى على بعضها، فأحالها إلى ما يقرب من المنظومات التعليمية، وكان من نتائج الإغراق في الصنعة البديعية عند شعراء المدح النبوي، ظهور لون خاص من المدائح النبوية، هو البديعيات، التي جمعت بين المدح النبوي وفنون البديع، فتم بذلك المزاوجة بين أكثر فنون الشعر انتشارا وبين الصنعة

السائدة، فأصحاب البديع حمّلوا المدائح النبوية بديعهم، لينتشر بانتشارها، وتعرف فنونه، ومن هنا جاء التصنع والتكلف الذي اتسمت به البديعيات، لأن الناظم يبذل جهدا عظيما في الملاءمة بين معاني المدح النبوي وبين إيراد النوع البديعي، وسبك شاهده، وهذا جهد عقلي محض، يذهب بالشاعرية والرواء الشعري. ويمكن أن تعد البديعيات مرحلة وسطى بين الشعر والنظم، هي شعر لأنها تحوي موضوعا شعريا، ولأنه يتخللها بعض مظاهر الشعر، وهي نظم، لأنه ذكر لفنون البديع وإيراد الأمثلة عليها. وكان من آثار المدح النبوي الثقافية، حركة التأليف التي قامت حول المدح النبوي، والتي تجلت في الشروح المختلفة لبعض قصائد المدح النبوي، والتي تعد مشاركة في فن المدح النبوي من الذين لم يؤتوا موهبة شعرية تتيح لهم نظم المدائح النبوية، وقد عنيت هذه الشروح بمعالجة قضايا المدح النبوي، والبحث في أصوله وقواعده، وحفلت بالمعلومات التاريخية والدينية واللغوية والأدبية، حتى أصبحت من المصادر الثقافية الهامة للعصر. فالمدائح النبوية استدعت نشاطا تأليفيا يخدمها، هو الشرح الذي حفز همم بعض المؤلفين، وحثهم على المشاركة في فن المدح النبوي، فدرسوا وتثقفوا، ليقوموا بهذه المهمة، فكان بذلك أحد عوامل نشاط حركة التأليف في هذا العصر. وبذلك نرى أن المدح النبوي الذي بدأ مسيرته في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستمر خافتا إلى ما قبل العصر المملوكي، أضحى الفن الشعري الأول في ذلك العصر، وأضحى فنا مستقلّا له أصوله وقواعده، وله دواوينه وشعراؤه، وإن تقاطع مع فنون شعرية مشابهة. وكان لذلك كله أسبابه السياسية والاجتماعية والدينية، وهذا ما ظهر في المدحة النبوية التي لم تقتصر على مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقط، وعلى ذكر كل ما يتعلق به،

بل تجاوزت ذلك لتحمل صدى عصرها، وآمال الناس آنذاك، فكانت دعوة إلى العدل الاجتماعي والتخلص من كل معوقات تقدم المجتمع وقوته، وكانت دعوة إلى الجهاد والذود عن الوطن، وإلى الوحدة والتضامن، وكانت تعبيرا عن الروح العربية في عصر ساده الأعاجم، فكان لها أثرها في الناس، وكان لها أثرها في الأدب والثقافة، وكانت حافظا للشعر العربي من الانحدار والجمود، إذ أبقت شيئا من أصالته، فكانت معبرا للقصيدة العربية إلى عصرنا الحديث.

الخاتمة

المصادر والمراجع المصادر المخطوطة: البيضاوي، عبد الله: تسبيع الكواكب الدرية، ظاهرية، رقم (5106) . ابن دريهم، علي بن محمد: قصيدة في مدح الرسول، ظاهرية، رقم (3342) . ديوان ابن الجياب الأندلسي، ظاهرية رقم (5802) . ديوان ابن زقاعة، إبراهيم، ظاهرية، رقم (5078) . ديوان الصرصري، ظاهرية، رقم (3332) . ديوان عائشة الباعونية، ظاهرية، رقم (11420) . ديوان العفيف التلمساني، ظاهرية، رقم (5917) . ابن الزملكاني، محمد بن علي: عجالة الراكب في ذكر أشرف المناقب، ظاهرية، رقم (3765) . أبو شامة المقدسي: شرح قصيدة البردة، ظاهرية، مجموع أدبي، رقم (5894) . الطويلي، عبد اللطيف: تخاميس الكواكب الدرية، ظاهرية، رقم (8777) . عبد العزيز، محمد بن العربي: تعشير الكواكب الدرية في مدح خير البرية، ظاهرية، رقم (9038) . مجموعة قصائد بديعيات، لمجموعة من الشعراء، معهد التراث العلمي بحلب، رقم (أنطاكي 37) .

المصادر المطبوعة:

- ابن ناصر الدين الدمشقي محمد بن أبي بكر: سلوة الكئيب بوفاة الحبيب، ظاهرية، رقم (5567) . المصادر المطبوعة: الأبشيهي، محمد بن أحمد: المستطرف من كل فن مستظرف، مطبعة الاستقامة، القاهرة، 1379 هـ. ابن الأثير الحلبي، أحمد بن إسماعيل، جوهر الكنز، تحقيق محمد زغلول سلام، منشأة المعارف بالإسكندرية. ابن الأثير الجزري الشيباني، نصر الله بن محمد: الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور، تحقيق مصطفى جواد وجميل سعيد، المجمع العلمي العراقي، 1375- 1956. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، مطبعة نهضة مصر، القاهرة، ط 1، 1959. ابن الأحمر، إسماعيل: نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان، تحقيق د. رضوان الداية، مؤسسة الرسالة، ط 1، بيروت 1396- 1976. أخبار عبيد بن شرية الجوهمي، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، ط 1، 1347. الأدفوي، جعفر بن ثعلب: الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد، تحقيق سعد محمد حسن، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1966. الأزهري، عبد الحافظ: الفؤائد القيومية التي جاد بها رب البرية (شرح بانت سعاد) ، المطبعة المحمدية المصرية، 1321.

- الأسدي، محمد بن محمد: التيسير والاعتبار، تحقيق عبد القادر طليمات، دار الفكر العربي، مطبعة مخيمر ط 1، القاهرة، 1388- 1968. ابن أبي الإصبع: تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، تحقيق حفني شرف، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1383- 1963. الأصفهاني، أبو الفرج: الأغاني، مصور طبعة دار الكتب، 1963، وطبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب تحقيق عبد الكريم العزباوي وآخرين، 1392- 1973. الأصمعي، عبد الملك بن قريب: الأصمعيات، تحقيق أحمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف، ط 2 1964 م، القاهرة. الأنباري، عبد الرحمن: نزهة الألباء في طبقات الأدباء، تحقيق إبراهيم السامرائي، مطبعة المعارف، بغداد، 1959 م. ابن إياس، محمد بن أحمد: بدائع الزهور في وقائع الدهور، تحقيق محمد مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2، القاهرة، 1961 م. الباعونية، عائشة: شرح الفتح المبين، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1304 هـ. مولد النبي، المطبعة الحنفية، دمشق، 1301 هـ. البصري، علي بن أبي الفرج: الحماسة البصرية، تحقيق عبد المؤيد خان، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1964 م. البغدادي، عبد القادر: حاشية على شرح بانت سعاد لابن هشام، دار فرانز شتاينر بفسبادن، مطبعة دار صادر، بيروت، 1400- 1980 م. البغدادي، مصطفى: رسالة تنزيه الأنبياء، النجف، 1323 هـ. البلوي، يوسف بن محمد: كتاب ألف باء، جمعية المعارف، المطبعة الوهبية، القاهرة، 1387 هـ.

- ابن البنا السرقسطي: الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية، نشر محمود شاكر الكتبي، المطبعة الجمالية، ط 2، القاهرة، 1331 هـ- 1913 م. البيهقي، أحمد بن الحسين: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، تعليق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985 م. ابن تغرى بردي، يوسف: منتخبات من حوادث الدهور، تحقيق وليم بيبر، كاليفورنيا، 1930 م. المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، تحقيق أحمد يوسف نجاتي، مطبعة دار الكتاب، القاهرة، ط 1، 1956 م. النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، تحقيق مجموعة من المحققين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1970 م. أبو تمام، حبيب بن أوس: ديوانه بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، دار المعارف، القاهرة، 1957 م. ديوان الحماسة بشرح الخطيب التبريزي، مطبعة السعادة، 1346 هـ- 1927 م. ابن تيمية، أحمد: رسالة في المظالم المشتركة، مطبعة المؤيد، القاهرة، 1318 هـ. قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، المطبعة السلفية، القاهرة، 1373 هـ. الثعالبي، عبد الملك بن محمد: التمثيل والمحاضرة، تحقيق عبد الفتاح الحلو، دار إحياء الكتب العربية القاهرة، 1318 هـ- 1961 م. سحر البلاغة وسر اليراعة، تحقيق أحمد عبيد، المكتبة العربية، مطبعة الترقي، دمشق، ط 1. يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، وطبعة المكتبة الحسينية، القاهرة، 1353 هـ- 1934 م.

- تتمة يتيمة الدهر، تحقيق مفيد قمحية، دار الكتب العلمية، ط 1، بيروت، وطبعة مطبعة قزوين، طهران، 1353 هـ. ابن جابر: الحلة السيرا، تحقيق د. علي أبو زيد، عالم الكتب، ط 1 بيروت، 1405 هـ- 1985 م. الجاحظ، عمرو بن بحر: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هاون، مكتبة الخانجي، مطبعة المدني، القاهرة، 1985 م. الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة البابي الحلبي، ط 1، القاهرة، 1362 هـ- 1943 م. ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، مطبعة السعادة، ط 1، القاهرة، 1328 هـ. إنباء الغمر بأبناء العمر، تحقيق محمد أحمد دهمان، دمشق 1399 هـ- 1970 م. الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، تحقيق سالم الكرنكوي الألماني، دار الجيل، بيروت. رفع الإصر عن قضاة مصر، تحقيق حامد عبد المجيد وآخرين، وزارة التربية، المطبعة الميرية، القاهرة، 1957 م. فتح الباري بشرح البخاري، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1959 م. المنح المكية في شرح الهمزية، مكتبة الطوبى، مطبعة التقدم، ط 1، القاهرة، 1326 هـ. النعمة الكبرى على العالم في مولد سيد ولد آدم (مولد ابن حجر) ، مكتبة عجان الحديد، حلب. ابن حجر الهيثمي: الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم، المطبعة الخيرية، ط 1، القاهرة، 1331 هـ.

- مبلغ الأرب في فضائل العرب، مطبعة أم القرى، ط 1، القاهرة، 1357 هـ. ابن أبي حجلة، أحمد بن يحيى سكردان السلطان، دار المعرفة، بيروت، 1979 م. ابن حجة الحموي: خزانة الأدب وغاية الأرب، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1304 هـ. ابن أبي الحديد، عبد الحميد المدائني: شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط 1، القاهرة، 1378 هـ- 1959 م. القصائد السبع العلويات، شرح محمد صاحب المدارك، المكتبة العاملية، بيروت، مطبعة العرفان، صيدا، 1341 م. الحضرمي ابن شهاب الدين، أبو بكر بن عبد الرحمن: إقامة الحجة على ابن حجة، مطبعة نخبة الأخبار، القاهرة، 1305 هـ. الحلاج، الحسين بن منصور: كتاب الطواسين، تحقيق لويس ماسنيون، باريس، 1913 م. الحلواني الخليجي، أحمد بن أحمد: العلم الأحمدي في المولد المحمدي، المطبعة البهية المصرية، القاهرة، 1305 هـ. الحلي، صفي الدين: ديوانه، دار صادر، بيروت، تحقيق كرم البستاني. شرح الكافية البديعية، تحقيق نسيب نشاوي، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1403 هـ- 1983 م. العاطل الحالي والمرخص الغالي، تحقيق حسين نصار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1981 م. الحموي، ياقوت: معجم الأدباء، تحقيق د. س. مرجليوث، دار إحياء التراث العربي، طبعة أخيرة.

- ابن الحنبلي، محمد بن إبراهيم الحلبي: در الحبب في تاريخ أعيان حلب، تحقيق حمود الفاخوري ويحيى عبارة، وزارة الثقافة، دمشق 1972 م. الخرائطي، محمد بن جعفر: رسالة هواتف الجن (نوادر الرسائل) ، تحقيق إبراهيم صالح، مؤسسة الرسالة ط 2، بيروت، 1407 هـ- 1986 م. الخطيب البغدادي: أحمد بن علي: تاريخ بغداد، مكتبة الخانجي والمكتبة العربية ببغداد، مطبعة السعادة، القاهرة، ط 1، 1349 هـ- 1931 م. الخفاجي، شهاب الدين أحمد: نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض، دار سعادت، المطبعة العثمانية، استامبول، 1317 هـ. ابن خالدون: تاريخه (العبر) ، دار الطباعة الخديوية، بولاق، 1284 هـ، وطبعة لجنة البيان العربي، تحقيق علي عبد الواحد وافي، القاهرة، 1378 هـ- 1958 م. ابن خلكان، أحمد بن محمد: وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1978 م. الخوانساري، محمد باقر الموسوي: روضات الجنات، مؤسسة نشر نفائس المخطوطات، مطبعة حبل المتين، طهران، 1382 هـ. الديار بكري، حسين بن محمد: تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، المطبعة الوهبية، القاهرة، 1283 هـ. ديوان الأبيوردي (محمد بن أحمد) ، تحقيق عمر الأسعد، مجمع اللغة العربية بدمشق، مطبعة زيد بن ثابت، 1394 هـ- 1974 م. ديوان الأجل (محمد بن عبيد الله) ، تحقيق ت. س مرجليوث، مطبعة المقتطف، القاهرة، 1903 م. ديوان الأعشى الكبير، تحقيق محمد محمد حسين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 7، 1983 م.

- ديوان أمية بن أبي السلط، تحقيق د. عبد الحفيظ السلطي، مكتبة أطلس، المطبعة التعاونية، دمشق، 1974 م. ديوان البحتري، تحقيق حسن كامل الصيرفي، دار المعارف، ط 2، القاهرة، 1972 م. ديوان البرعي (عبد الرحيم بن أحمد اليمني) ، شرح حافظ المسعودي، مكتبة البابي الحلبي، ط 2، القاهرة، 1950 م. ديوان البهاء زهير، المطبعة الأزهرية، ط 1، القاهرة، 1311 هـ. ديوان البوصيري، تحقيق محمد سيد كيلاني، مكتبة البابي الحلبي، ط 2، 1973 م. ديوان التلعفري (محمد بن يوسف) ، مطبعة المعارف، بيروت، 1326 هـ. ديوان جرير بشرح محمد بن حبيب، تحقيق نعمان محمد أمين، دار المعارف، القاهرة، 1969 م. ديوان الجعبري، المكتبة الملوكية، المطبعة اليوسفية، القاهرة. ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، تحقيق عبد الرحمن البرقوقي، دار الأندلس، بيروت، 1978 م. ديوان ابن حيوس (محمد بن سلطان) ، تحقيق خليل مردم بك، مجمع اللغة العربية بدمشق، المطبعة الهاشمية، 1371 هـ- 1951 م. ديوان ابن دقيق العيد، جمع ودراسة وتحقيق علي صافي حسين، دار المعارف، القاهرة. ديوان زهير بن أبي سلمى بشرح ثعلب، دار الكتب، القاهرة، 1363 هـ- 1944 م. ديوان ابن الساعاتي (علي بن رستم) ، تحقيق أنيس المقدسي، كلية العلوم والآداب، الجامعة الأمريكية، بيروت، 1938 م.

- ديوان ابن سهل، تحقيق بطرس البستاني، مكتبة صادر، بيروت، 1953 م. ديوان الشاب الظريف، تحقيق شاكر هادي شاكر، مطبعة النجف، 1387 هـ- 1967 م. ديوان الشرف الأنصاري، تحقيق د. عمر موسى باشا، مجمع اللغة العربية بدمشق، المطبعة الهاشمية، 1967 م. ديوان الشريف الرضي، تصحيح عباس الأزهري، المكتبة العثمانية، المطبعة الأدبية، بيروت، 1310 هـ. ديوان الششتري، تحقيق علي سامي النشار، ط 1، مكتبة المعارف، الاسكندرية، 1960 م. ديوان الصاحب بن عباد، تحقيق حسن ال ياسين، دار القلم، ط 2، بيروت، 1394 هـ- 1974 م. ديوان الصنوبري (أحمد بن محمد) ، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1970 م. ديوان طلائع بن زريك، جمع محمد هادي الأميني، المكتبة الأهلية، مطابع النعمان، ط 1، النجف، 1383 هـ- 1964 م. ديوان ظافر الحداد، تحقيق حسين نصار، مكتبة مصر، القاهرة، 1969 م. ديوان عبد الله بن رواحة، صنعة وليد قصاب، دار العلوم، ط 1، بيروت، 1982 م. ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات، تحقيق يوسف نجم، دار صادر، بيروت، 1378 هـ- 1958 م. ديوان علي بن الجهم، تحقيق خليل مردم بك، المجمع العلمي العربي بدمشق، 1949 م.

- ديوان عنترة بن شداد، تحقيق وشرح عبد المنعم شلبي، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة. ديوان ابن الفارض، المطبعة البهية، القاهرة. ديوان الفرزدق، دار صادر ودار بيروت، 1380 هـ- 1960 م. ديوان كعب بن زهير، شرح العكبري، وزارة الثقافة، القاهرة، 1965 م. ديوان كعب بن مالك، جمع ودراسة مكي العاني، مكتبة النهضة، مطبعة المعارف، ط 1، بغداد، 1386 هـ- 1966 م. ديوان لسان الدين بن الخطيب، تحقيق محمد شريف ماهر، الشركة الوطنية للنشر، ط 1، الجزائر، 1973 م. - ديوان المتنبي بشرح العكبري، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1391 هـ- 1971 م. ديوان مجنون ليلى، جمع ودراسة عبد الستار أحمد فراج، مكتبة مصر. ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، دار المعارف، القاهرة، 1964 م. ديوان ابن مليك الحموي، المطبعة الإنسية، بيروت، 1312 هـ. ديوان ابن منير الطرابلسي، جمع عمر تدمري، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1986 م. ديوان مهيار الديلمي، تحقيق أحمد نسيم، دار الكتب، القاهرة، 1344 هـ- 1925 م. ديوان المؤيد داعي الدعاة، تحقيق محمد كامل حسين، دار الكتاب المصري، ط 1، القاهرة، 1949 م. ديوان النابغة الذبياني، صنعة ابن السكيت، تحقيق د. شكري فيصل، دار الفكر، مطبعة دار الهاشم، دمشق، 1388 هـ- 1968 م.

- ديوان ابن نباتة المصري، دار إحياء التراث العربي، بيروت. ديوان ابن النبيه، المكتبة الجامعة، مطبعة جمعية الفنون، بيروت. ديوان ابن هتيمل (القاسم بن علي) ، تحقيق محمد العقيلي، دار الكتاب العربي، ط 1، القاهرة، 1381 هـ- 1961 م. ديوان الوأواء الدمشقي (محمد بن أحمد الغساني) ، تحقيق سامي الدهان، المجمع العلمي العربي بدمشق، 1950 م. الذهبي: دول الإسلام، مطبعة دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد الدكن، الهند، ط 1، 1337 هـ. الراغب الأصفهاني: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، مكتبة الكتبي، المطبعة الشرقية، القاهرة. رحلة ابن جبير، تحقيق حسين نصار، دار مصر للطباعة. رسائل إخوان الصفا، تصحيح خير الدين الزركلي، المكتبة التجارية، القاهرة، 1347 هـ- 1928 م. ابن رشيق القيرواني: العمدة، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط 4، 1972 م. الزرقاني، محمد بن عبد الباقي: شرح المواهب اللدنية، المطبعة الأزهرية، ط 1، 1325 هـ. ابن زيارة اليمني (محمد بن محمد) : ملحق البدر الطالع، مطبعة السعادة، القاهرة، 1348 هـ. السبكي، عبد الوهاب بن علي: طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق الطناحي وعبد الفتاح الحلو، مطبعة البابي الحلبي، ط 1، القاهرة، 1383 هـ- 1964 م.

- معيد النعم ومبيد النقم، المطبعة الأدبية، القاهرة. السخاوي، محمد بن عبد الرحمن: التبر المسبوك، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، دار مكتبة الحياة، بيروت. ابن سعد: الطبقات الكبرى، دار صادر، بيروت. ابن سعيد، علي بن موسى: المرقصات والمطربات، دار اليقظة العربية، بيروت، 1973 م. ابن سعيد، موسى بن محمد: المغرب في حلي المغرب، تحقيق شوقي ضيف وآخرين، مطبعة جامعة فؤاد الأول، القاهرة، 1953 م. ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، 1974 م. السلمي، عبد الرحمن: طبقات الصوفية، تحقيق نور الدين سرية، جماعة الأزهر للنشر والتأليف، مطابع دار الكتاب العربي، ط 1، 1372 هـ- 1953 م. ابن سناء الملك، هبة الله بن جعفر: دار الطراز في عمل الموشحات، تحقيق جودت الركابي، دار الفكر، ط 2، دمشق، 1397 هـ- 1977 م. ديوانه، تحقيق محمد إبراهيم نصر، وزارة الثقافة، القاهرة. سنن الدارمي، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، بعناية محمد دهمان، وطبعة مطبعة الاعتدال، دمشق، 1349 هـ. سنن ابن ماجه، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة 1373 هـ- 1953 م. السهيلي، عبد الرحمن: الروض الأنف، المطبعة الجمالية، القاهرة، 1332 هـ- 1914 م.

- ابن السيد البطليوسي: الاقتضاب في شرح الكتاب، تدقيق عبد الله البستاني، المكتبة الكلية، بيروت، 1901 م. السيوطي، عبد الرحمن: الآية الكبرى في شرح قصة الإسرا، المكتبة العربية، مطبعة الترقي، ط 1، دمشق، 1350 هـ. بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، ط 2، القاهرة، 1399 هـ- 1979 م. تاريخ الخلفاء، مطبعة السعادة، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، 1371 هـ. الجامع الصغير من حديث البشير النذير، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار خدمات القرآن، 1352 هـ. الخصائص الكبرى، تحقيق محمد خليل هراس، دار الكتب الحديثة، مطبعة الميداني، القاهرة، 1387 هـ- 1967. شرح نظم البديع في مدح خير شفيع، المطبعة الوهبية، القاهرة، 1928 م. اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، المطبعة الأدبية، ط 1، القاهرة، 1317 هـ. مقامات السيوطي، مطبعة الجوائب، ط 1، القسطنطينية، 1298 هـ. نظم العقيان في أعيان الأعيان، تحقيق فيليب حتي، المطبعة السورية الأمريكية، نيويورك، 1927 م. الشافعي، محمد بن إدريس: ديوانه، جمع وتحقيق محمد عفيف الزعبي، مؤسسة الزعبي للطباعة والنشر، بيروت، ط 3، 1392 هـ- 1974 م. كتاب الأم، تحقيق محمد زهري النجار، مكتبة الكليات الأزهرية، ط 1، القاهرة، 1381 هـ- 1961 م.

- ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت. أبو شامة المقدسي: الذيل على الروضتين (تراجم رجال القرنين السادس والسابع) ، تحقيق محمد زاهد الكوثري، مكتبة الثقافة الإسلامية، ط 1، القاهرة، 1366 هـ- 1947 م. الشريف المرتضي: أماليه، تصحيح محمد الغساني، مكتبة الخانجي، مطبعة السعادة، ط 1، القاهرة، 1325 هـ- 1907 م. ديوانه، تحقيق رشيد الصفار، دار إحياء الكتب العربي، القاهرة، 1958 م. شعر دعبل الخزاعي، جمع وتحقيق: د. عبد الكريم الأشتر، مجمع اللغة العربية بدمشق، ط 1، 1983 م. شعر عبد الله بن الزبعري، جمع وتحقيق يحيى الجبوري، مؤسسة الرسالة، ط 2، بيروت، 1981 م. شعر منصور النمري، جمع وتحقيق الطيب العشاش، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1401 هـ- 1981 م. شعر النابغة الجعدي، تحقيق عبد العزيز رباح، المكتب الإسلامي بدمشق، ط 1، 1964 م. الشعراني، عبد الوهاب: لواقح الأنوار، مكتبة البابي الحلبي، ط 1، القاهرة، 1381 هـ- 1962 م. وطبعة المطبعة الشرقية 1299 هـ. الشهاب محمود: حسن التوسل إلى صناعة الترسل، المطبعة الوهبية، القاهرة، 1298 هـ- 1881 م. ديوان أهنى المنائح في أسمى المدائح، مطبعة جريدة الشورى، القاهرة، 1328 هـ. صحيح البخاري، المطبعة البهية، القاهرة، 1312 هـ.

- صحيح الترمذي (محمد بن عيسى بن سورة) ، المطبعة الزاهرة، القاهرة، 1292 هـ. صحيح مسلم: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، ط 1، القاهرة، 1375 هـ- 1955 م. ابن صصري، محمد بن محمد: الدرة المضية في الدولة الظاهرية، تحقيق وليم ببرنر، جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، 1963 م. الصفدي: تمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، مطبعة المدني، القاهرة، 1389 هـ- 1969 م. الغيث المسجم في شرح لامية العجم، دار الكتب العلمية، ط 1، بيروت، 1395 هـ- 1975 م. نكت الهميان في نكت العميان، تحقيق أحمد زكي، المطبعة الجمالية، القاهرة، 1911 م. الوافي بالوفيات، تحقيق مجموعة، دار فرانز شتاينر بفسبادن، المعهد الألماني للدراسات الشرقية، بيروت، 1980 م. الطبري، علي بن ربن: كتاب الدين والدولة في إثبات نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، تحقيق: أ. منغانة، مطبعة المقتطف، القاهرة، 1342 هـ- 1923 م. الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، مطبعة الاستقامة، القاهرة 1358 هـ- 1939 م. الطرائفي، عبد الكريم: ديوان نفح الطيب في مدح الشفيع الحبيب، طبع عبد الباسط الأنسي، ط 2، مطبعة جريدة بيروت، 1317 هـ. ابن طولون الصالحي: إعلام الورى بمن ولي نائبا من الأتراك بدمشق الكبرى، تحقيق عبد العظيم حامد خطاب، كلية الآداب، جامعة عين شمس، 1973 م.

- العاملي، زينب بنت علي: الدر المنثور في طبقات ربات الخدور، مطبعة بولاق، ط 1، القاهرة، 1313 هـ. العاملي، محمد بن حسين: الكشكول، المطبعة الشرقية، القاهرة، 1302 هـ. المخلاة، دار المعرفة، بيروت، 1399 هـ- 1979 م. العباسي، عبد الرحيم: معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1367 هـ- 1947 م. ابن عبد البر النمري: الاستيعاب في أسماء الصحاب، مطبعة السعادة، ط 1، القاهرة، 1328 هـ. ابن عبد الملك الأنصاري، محمد بن محمد: الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، تحقيق مجموعة من الباحثين، دار الثقافة، بيروت. ابن عجيبة الحسني، أحمد بن محمد: إيقاظ الهمم في شرح الحكم، نشر محمود شاكر الكتبي، المطبعة الجمالية، ط 2، القاهرة، 1331 هـ- 1913 م. ابن عراق الكناني، علي بن محمد: تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة والموضوعة، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله الصديق، مكتبة القاهرة، مطبعة عاطف، ط 1. ابن عربي، محيي الدين: ترجمان الأشواق، دار صادر، بيروت، 1966 م. الديوان الأكبر، بومباي، الهند. الفتوحات المكية، دار الكتب العربية، مطبعة بولاق، القاهرة، 1272 هـ. فصوص الحكم، تحقيق أبو العلاء عفيفي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1365 هـ- 1946 م. العسكري، عبد الله بن سهل: الصناعتين، الكتابة والشعر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1319 هـ.

- العماد الأصفهاني: خريدة القصر وجريدة العصر (قسم شعراء الشام) ، تحقيق: د. شكري فيصل، المجمع العلمي العربي بدمشق، 1950 م. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، مصور، دار المسيرة، بيروت. ابن أبي عون: التشبيهات، تحقيق: محمد عبد المعين خان، جامعة كامبريديج، 1369 هـ- 1950 م. العيد روسي، عبد القادر: النور السافر، تحقيق محمد رشيد الصفار، المكتبة العربية، مطبعة الفرات، بغداد، 1353 هـ- 1934 م. الغبريني، أحمد بن أحمد: عنوان الدراية فيمن عرف في المئة السابعة ببجاية، تحقيق عادل نويهض، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط 1، بيروت، 1969 م. الغزالي، أبو حامد: إحياء علوم الدين، لجنة نشر الثقافة الإسلامية، القاهرة، 1356 هـ. الغزي، بدر الدين: الزبدة في شرح البردة، تحقيق: د. عمر موسى باشا، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1393 هـ- 1979 م. الغزي، نجم الدين: الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة، تحقيق جبرائيل جبور، دار الآفاق الجديدة ط 2، بيروت، 1979 م. الفازازي، عبد الرحمن: ديوان الوسائل المتقبلة، المطبعة الأدبية، بيروت، 1319 هـ. ابن فرحون العمري: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، مطبعة السعادة، ط 1، القاهرة، 1329 هـ. ابن فهد المكي: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، مكتبة القدسي، مطبعة التوفيق، دمشق، 1347 هـ.

- ابن الفوطي، عبد الرزاق: تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب، تحقيق مصطفى جواد، وزارة الثقافة، دمشق، 1382 هـ- 1962 م. الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المئة السابعة، تحقيق مصطفى جواد، المكتبة العربية، مطبعة الفرات، بغداد، 1351 هـ. القاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، دار الكتب العلمية، بيروت. ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، تحقيق أحمد صقر، المكتبة العلمية، ط 3، المدينة المنورة، 1401 هـ- 1981 م. الشعر والشعراء، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1364 هـ. القرطاجني، حازم: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1981 م. القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، دار الكتب، القاهرة، 1340 هـ- 1922 م. القنّوجي، صدّيق: التاج المكلل من جواهر ماثر الطراز الآخر والأول، تحقيق عبد الحكيم شرف الدين، المطبعة الهندية العربية، بومباي، الهند، 1383 هـ- 1963 م. ابن كثير، إسماعيل: البداية والنهاية، مصور عن طبعة المطبعة السلفية (1358 هـ) ، بيروت، 1967 م. مولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تحقيق صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، ط 1، بيروت، 1961 م. الكميت بن زيد الأسدي: شعره، تحقيق داود سلوم، مكتبة الأندلس، بغداد، 1969 م.

- القصائد الهاشميات، تصحيح محمد شاكر، مطبعة الموسوعات، القاهرة، 1321 هـ. وطبعة مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1972 م. الماوردي: أدب الدنيا والدين، وزارة المعارف، المطبعة الأميرية، ط 10، القاهرة، 1336 هـ- 1918 م. المبرد: الكامل في اللغة والأدب، مكتبة المعارف، بيروت. المحبي، محمد أمين: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، المطبعة الوهبية، القاهرة، 1284 هـ. المرزباني، محمد بن عمران: معجم الشعراء، تحقيق عبد الستار فراج، مكتبة النوري، دمشق. من الضائع من معجم الشعراء، تحقيق إبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، ط 2، بيروت، 1407 هـ- 1986 م. مسند ابن حنبل، المكتب الإسلامي ودار صادر، بيروت، وطبعة دار المعارف، تحقيق أحمد شاكر، القاهرة، 1365 هـ. ابن المعتز: طبقات الشعراء المحدثين، تحقيق عبد الستار فراج، دار المعارف، القاهرة. معراج المصطفى كما رواه أنس بن مالك، مكتبة المهايني، ط 2، دمشق، 1393 هـ- 1973 م. المعري، أبو العلاء: شرح سقط الزند، وزارة الثقافة، القاهرة، 1364 هـ- 1945 م. اللزوميات، عمر أبو النصر، دار الجيل بيروت، 1969 م. المقري، أحمد: أزهار الرياض في أخبار عياض، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، المعهد الخليفي للأبحاث المغربية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1358 هـ- 1939 م.

- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968 م. المقريزي، أحمد بن علي: إغاثة الأمة بكشف الغمة، دار ابن الوليد، دمشق، 1956 م. البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب، تحقيق عبد المجيد عابدين، عالم الكتب ط 1، القاهرة، 1961 م. السلوك في تاريخ الملوك، تحقيق سعيد عاشور، دار الكتب القاهرة، 1972 م. المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، مكتبة المليجي الكتبي، مطبعة النيل، القاهرة، 1324 هـ. ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق، تحقيق رياض مراد وآخرين، دار الفكر، ط 1، دمشق، 1984 م. ابن منقذ، أسامة: المنازل والديار، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، دمشق، 1385 هـ- 1965 م. موطأ الإمام مالك، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1370 هـ- 1951 م. الناصري، أحمد: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق جعفر الناصري ومحمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1954 م. ابن نباتة، جمال الدين: ديوانه، مطبعة التمدن، بيروت، 1323 هـ. سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون، دار الفكر العربي، مطبعة المدني، القاهرة، 1383 هـ- 1964 م. مطلع الفوائد ومجمع الفرائد، تحقيق: د. عمر موسى باشا، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1392 هـ- 1964 م.

- النبهاني، يوسف: شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، المطبعة الميمنية، بيروت، 1323 هـ. المجموعة النبهانية في المدائح النبوية، المطبعة الأدبية، بيروت، 1320 هـ. النواجي: التحفة البهية والطرفة الشهية، مطبعة الجوائب، القسطنطينية، 1302 هـ. النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب، دار الكتب، القاهرة، 1949 م. ابن هشام عبد الملك الحميري: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، تراث الإسلام، القاهرة. ابن هشام، عبد الله بن يوسف الحميري: شرح قصيدة كعب بن زهير، تحقيق محمود أبو ناجي، مؤسسة علوم القرآن، ط 3، دمشق، 1984 م. الوتري، محمد بن رشيد الواعظ البغدادي: ديوان معدن الإفاضات في مدح أشرف الكائنات، طبع عبد الباسط الأنسي، مطبعة جريدة بيروت، ط 2، 1317 هـ. ابن الوردي، عمر: تتمة المختصر في تاريخ البشر، دار المعرفة، ط 1، بيروت، 1389 هـ- 1970 م. لامية ابن الوردي (نصيحة الإخوان ومرشدة الخلان) المطبعة الجمالية، ط 1، القاهرة، 1328 هـ- 1910 م. اليافعي، عبد الله: مرآة الجنان وعبرة اليقظان، مطبعة دائرة المعارف النظامية، ط 1، حيدر آباد، الهند، 1339 هـ. اليمني، عمارة: النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية، تحقيق: هرتويغ در نبرغ، نقلته بالأوفست مكتبة المثنى ببغداد عن طبعة مطبعة مرسو شالون، فرنسا 1897 م. اليمني، الشرواني، أحمد بن محمد: حديقة الأفراح لإزاحة الأتراح، المطبعة العامة، القاهرة، 1302 هـ. اليونيني، موسى بن محمد: ذيل مرآة الزمان، مجلس دائرة المعارف العثمانية، ط 1، حيدر أباد الدكن، الهند، 1954 م.

المراجع:

المراجع: إسماعيل، عز الدين: الأدب وفنونه، دار النشر المصرية، مطبعة الاعتماد، ط 1، القاهرة، 1955 م. أمين، أحمد، وزكي نجيب محمود: قصة الأدب في العالم، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1943 م. بدوي، أحمد أحمد: الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية في مصر والشام، مكتبة نهضة مصر، ط 1، القاهرة. بروكلمان، كارل: تاريخ الأدب العربي، ترجمة رمضان عبد التواب، دار المعارف، القاهرة، 1976 م. الجبوري، يحيى: شعر المخضرمين وأثر الإسلام فيه، مؤسسة الرسالة، ط 2، بيروت، 1401- 1981. جمال الدين، محسن: احتفالات الموالد النبوية في الأشعار الأندلسية، مطبعة دار البصري، ط 1، بغداد، 1967. حسين، د. طه: في الأدب الجاهلي، دار المعارف، ط 11، القاهرة، 1975. من تاريخ الأدب العربي، دار العلم للملايين، ط 3، بيروت، 1978. حسين، محمد كامل: في أدب مصر الفاطمية، دار الفكر العربي، دار الحمامي للطباعة، ط 1، القاهرة 1970. حلمي، محمد مصطفى: الحياة الروحية في الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2، القاهرة، 1984. الزركلي، خير الدين: الأعلام، دار العلم للملايين، ط 4، بيروت، 1979. الزيات: تاريخ الأدب العربي، دار الثقافة، ط 28، بيروت، 1978.

- أبو زيد: البديعيات في الأدب العربي، عالم الكتب، ط 1، بيروت، 1983. سركيس، يوسف: معجم المطبوعات العربية والمعربة، مطبعة سركيس، القاهرة، 1346- 1928. سلام، محمد زغلول: الأدب في العصر المملوكي، دار المعارف، القاهرة، 1971. السيد، فؤاد: فهرس المخطوطات العربية المصورة، مطبعة دار الرياض، 1954. الصباغ، عبد الهادي: مولد الهدى والنور، مطبعة زيد بن ثابت، دمشق. ضيف، د. شوقي: التطور والتجديد في الشعر الأموي، دار المعارف، ط 6، القاهرة، 1977. الرثاء، دار المعارف، ط 2، القاهرة، 1955. فصول في الشعر ونقده، دار المعارف، القاهرة، 1971. الفن ومذاهبه في الشعر العربي، دار المعارف، القاهرة، ط 9، 1976 م. الفن ومذاهبه في النثر العربي، دار المعارف، ط 6، القاهرة، 1971 م. عاشور، سعيد: العصر المماليكي في مصر والشام، دار النهضة العربية، مطبعة لجنة البيان العربية، ط 1، القاهرة، 1965 م. عبود، مارون: الرؤوس، دار الثقافة، ط 3، بيروت، 1967 م. عفيفي، أبو العلا: الملامتية والصوفية وأهل الفتوة، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1364 هـ- 1945 م. غريب، جورج: الشعر الملحمي، دار الثقافة، بيروت. فروخ، د. عمر: تاريخ الأدب العربي، دار العلم للملايين، بيروت، 1979 م. تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خالدون، دار العلم للملايين، بيروت، 1966 م. كنون، عبد الله: أدب الفقهاء، دار الكتاب اللبناني، بيروت.

- مبارك، د. زكي: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق، مطبعة الرسالة، ط 1، القاهرة، 1935 م. المدائح النبوية في الأدب العربي، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1935 م. ملص، محمد جمال الدين: التحفة المرضية في مدح خير البرية، مطبعة الطرائف، دمشق. نالينو، كارلو: تاريخ الآداب العربية، دار المعارف، القاهرة، 1954 م. النشار، علي سامي: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، ط 4، القاهرة، 1969 م.

فهرست الآيات الكريمة الآية الصفحة وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ 58 ما لا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. [سورة الشعراء: 26/ 224] . قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ 104 رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [سورة الكهف: 18/ 109] . قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [سورة الشورى: 42/ 23] . 130 إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [سورة 130 الأحزاب: 33/ 33] . عَمَّ يَتَساءَلُونَ [سورة النبأ: 78/ 1] . 137 تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [سورة البقرة: 2/ 253] . 243 وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [سورة المائدة: 5/ 35] . 260 إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... [سورة الأحزاب: 33/ 56] . 260 وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [سورة الحج: 22/ 333] . 320 أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً [سورة الضحى: 93/ 6] . 390 وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى، ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [سورة النحل: 461 16/ 58] .

فهرست الأحاديث الشريفة الحديث الصفحة «إذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم التراب» . 49 «إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة» . 56 «إن لله ملكا أعطاه سمع العباد» . 56 «أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبر بعد ثلاث» . 56 «لئن امتلأ جوف أحدكم قيحا» . 58 «أنا خيار من خيار» . 95 «من أصابته مصيبة فليذكر مصيبته بي» . 97 «أنا سيد الناس يوم القيامة» . 112 «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» . 129، 210، 463 «لم يكن بطن من قريش إلا وله فيه قرابة» . 130 «أنا تارك فيكم ثقلين» . 131 «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» . 131 «من كنت مولاه فعلي مولاه» . 131 «والله إنه مما عهد إلى رسول الله» . 131 «اللهم هؤلاء أهلي» . 131 «ذكروا عند عائشة أن عليا كان وصيا» . 132 «إن من البيان لسحرا» . 134

الحديث الصفحة «كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله» . 138 «إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين» . 165 «ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي» . 165 «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي» 221 «حديث الإسراء» . 239 «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم» . 249 «حديث الشفاعة» . 263 «حب العرب من الإيمان» . 449

فهرست الآيات الكريمة

الفهرس التفصيلي (عام) - حرف الألف- آدم (أبو البشر) : 84، 107، 111، 118، 138، 163، 164، 165، 166، 167، 169، 170، 194، 197، 201، 237، 248، 250، 251، 252، 268، 306، 329، 387، 437، 472، 479، 492. الآمر: 143. آمنة (أم الرسول) : 195، 202، 232، 247. إبراهيم الخليل: 164، 169، 194، 197، 231، 252، 508. الأبشيهي: 49، 285، 286، 330. الأبيوردي: 99، 100، 101، 173، 361. الأتراك (الترك) 21، 31، 89، 123، 127، 146، 266، 448، 449، 455. الأجرع: 179، 180، 182. الأجفر: 469. الأجل: 113، 114، 139. أحد: 143، 192، 267. أحمد بن حسن بن عبد الله: 388. أحمد بن عبد المعطي: 437. الأحنف بن قيس: 85. الأخوي، محمد: 41. ابن إدريس: 386. إربل: 114، 187، 188. الإربلي (السليماني) : 509، 510. ابن أرقم النميري: 268. إرميا: 202. ابن إسحاق: 60. الأسدي: 458. الإسكندرية: 319. الأسلمي، الحكيم الرشيدي: 365. إسماعيل (النبي) : 29. الأسنائي، حسن: 146. الأسود بن عبد يغوث: 385. الأسود بن مطلب: 385. أبو الأسود الدؤلي: 133. ابن أبي الأصبع: 507. الأصمعي: 62، 63. إضم: 175، 176، 180، 292، 344، 359، 512، 514.

- حرف الباء -

ابن بنت الأعز: 245، 440. الأعشى: 48، 61، 62. إلياس (جد العرب) : 95. امرؤ القيس: 296، 338. الأمويون (بنو أمية) : 75، 78، 85، 87، 91، 132، 134، 136، 377. الأندلس: 19، 187، 346، 347. أنو شروان: 202. الأهدل (أبو حسين) : 272. الأوروبيون: 9، 527، 532. ابن إياس: 17. إيل: 29. ابن الأيهم: 460. إيوان كسرى: 34، 202، 231، 232. ابن أيوب: 449. الأيوبيون: 39، 116. - حرف الباء- باب السلام: 195. بابل: 469. الباعوني، محمد: 416. الباعونية، عائشة: 18، 196، 198، 245، 253، 262، 279، 283، 298، 320، 419، 434، 514، 525. البان: 514. البحتري: 459. بحيرة مساوة: 231. البخاري: 282. أبو البختري: 365. بدر: 81، 143. البرعي: 33، 50، 127، 212، 222، 225، 257، 269، 270، 331، 342، 344، 351، 409، 452، 470، 478، 482. برقوق (الأتابكي) : 37. برنابا (صاحب الإنجيل) : 28. ابن البرهان الفاقوسي: 201. بروكلمان: 521. بشر بن معاوية: 79. بصرى: 232. البطحاء: 81، 143. بغداد: 203، 479. البقيع: 173.

- حرف التاء -

أبو بكر الصديق: 55، 135، 191، 229، 278، 431. أبو بلال الخارجي: 85. البلوي، يوسف: 103. بهاء الدين بن حنا: 35، 435. البهاء زهير: 180، 366. ابن بهادر القرشي: 156. ابن بورسة البخاري: 41. البوصيري: 18، 29، 43، 143، 145، 210، 215، 219، 221، 222، 223، 227، 228، 229، 231، 232، 233، 237، 238، 240، 241، 242، 243، 244، 246، 251، 255، 263، 264، 265، 278، 279، 281، 287، 288، 289، 292، 293، 298، 299، 300، 304، 305، 306، 315، 328، 330، 332، 338، 339، 340، 345، 350، 354، 355، 359، 360، 363، 364، 368، 369، 375، 376، 379، 380، 385، 410، 411، 412، 413، 414، 431، 434، 435، 438، 439، 446، 464، 471، 482، 483، 484، 494، 496، 497، 498، 499، 501، 511، 515، 519، 521. البويهيون: 153. البياضي 340. البيضاوي: 344. آل البيت (أهل البيت، آل الرسول) : 20، 48، 79، 82، 83، 84، 86، 90، 109، 129، 130، 132، 133، 134، 135، 136، 137، 139، 140، 141، 143، 144، 145، 146، 147، 148، 149، 150، 166، 173، 174، 204، 278، 279، 280، 445، 468، 478، 500، 501، 529، 530، 534. البيت الحرام: 175، 301، 457، 504. بيت المقدس: 450. - حرف التاء- تبع: 491. التعريف: 136، 267. تقي الدين بن ثعلب: 144. تقي الدين الطبيب: 214. التلعفري: 180. أبو تمام: 97، 463.

- حرف الثاء -

التهامي: 172. ابن تيمية: 33، 154، 261، 262، 442. - حرف الثاء- ثبير: 238. الثعالبي: 136. ثعلب بن يعقوب: 20. ثمود: 491. - حرف الجيم- ابن جابر: 212، 349، 357، 399، 420، 465، 513، 515، 516، 517، 524. جابر بن عبد الله: 221. الجاحظ: 84، 85، 86. جبال قريظة: 267. جبريل: 73، 90، 136، 141، 144، 357، 479. ابن جبير: 34. جرعاء الحمى: 161، 422، 514. جرير: 171. الجزار: 144، 145. الجزع: 172، 297. الجزيرة العربية: 48، 74، 81، 171، 173، 379، 390، 450. الجعبري: 168، 169، 252. جعفر السراج: 177. بنو جعفر: 144. ابن الجمال البصري: 337. الجمحي، أبو دهبل: 77. الجمحي، أبو عزة: 66. الجمرات: 136. الجهني: 454، 455. جهيش بن أويس: 69. جوبان القواس: 154. ابن الجوزي: 190. الجوهري (صاحب الصحاح) : 315. ابن جياء الكاتب: 178. ابن الجياب الأندلسي: 341، 382، 456، 482. الجياني: 183. جيحون: 128. - حرف الحاء- حاجر: 81، 157، 172، 177، 320. الحاجري: 179. الحارث: 385. حازم القرطاجني: 296، 314، 338، 430. الحاكم بأمر الله: 38.

بنو حام: 127. الحبش: 123. ابن حبيب الضبي: 135. ابن حبيب، عبد الملك: 119. الحجاج: 295. الحجاز: 28، 32، 81، 112، 114، 122، 148، 171، 172، 173، 174، 175، 177، 179، 182، 184، 267، 281، 304، 317، 319، 325، 361، 380، 420، 450، 469، 500. الحجازي، أحمد: 462. ابن حجر: 191، 194، 236، 239، 240، 282، 286، 288، 295، 333، 396، 397، 415، 416، 424، 442، 462. ابن حجة: 171، 296، 298، 302، 320، 321، 369، 399، 401، 420، 452، 514، 515، 516، 517، 523، 524. ابن أبي الحديد: 63، 137، 138. حزقيل: 202. حسان بن ثابت: 13، 49، 55، 72، 73، 75، 214، 320، 379، 473، 474. الحسن البصري: 192. الحسن بن علي بن أبي طالب: 114، 131، 186. الحسن بن مظفر: 91. الحسين بن علي بن أبي طالب: 81، 114، 131، 144، 145، 186، 284. ابن الحسين العراقي: 449. حصن بشير: 469. ابن أبي حصينة المعري: 139. الحضرمي، ابن شهاب: 452. ابن أبي حفصة، مروان: 89. ابن الحكيم: 184. الحلاج: 96، 165. حلب: 449. الحلة: 176. الحلي، صفي الدين: 34، 146، 202، 245، 252، 286، 289، 307، 326، 373، 398، 399، 435، 460، 468، 506، 511، 512، 513، 515، 523، 524. حليمة السعدية: 202، 497. حمزة (عم النبي) : 133، 148، 284. حنين: 143. حواء: 492. حومل: 296.

- حرف الخاء -

ابن حيوس: 108، 115. - حرف الخاء- خديجة (أم المؤمنين) : 227، 498، 503. أبو الخطاب الجبلي: 93. ابن خطيب داريا: 272، 276. خطيب السابتية: 451. خفان: 469. ابن خالدون: 323، 453. الخلوف، أحمد: 523. الخنساء: 49، 500. الخوارج: 78. الخوارزمي، عبد الله: 138. ابن الخياط الدمشقي: 313. الخيف: 80، 122، 136. - حرف الدال- دار الحديث: 35، 276. داود (النبي) : 164، 197. دجلة: 128. ابن دحية: 187، 188. الدخول: 296. الدروكي: 250، 306، 476. ابن دريهم: 374. الدسوقي: 163. دعبل: 136. ابن دقيق العيد: 258. ابن الدماميني: 94. دمشق: 145. ابن الدهان: 94. الدهلوي، أحمد: 433. ديك الجن: 98. - حرف الذال- ذات الشيخ: 175. ذو الحليفة: 184. ذو سلم: 174، 175، 292، 300، 339، 344، 345، 359، 484، 512، 514، 521، 523. أبو ذؤيب الهذلي: 65. - حرف الراء- الرازي: 192. رامة: 320. رباط الآثار: 35. ربيعة بن مقروم: 358. ابن رشيد السبتي: 276. ابن رشيق القيرواني: 51، 473. رضوى: 267. الرعيني: 524.

- حرف الزاء -

الركن: 136، 297. رودس: 527. الروضة الشريفة: 33، 120، 272، 325، 337، 382. الروم: 127، 307. ابن الرومي: 97. - حرف الزاء- ابن الزبعري: 71. الزبير بن العوام: 78، 172. ابن الزبير، الرشيد: 178. زرود: 469. ابن زقاعة: 168، 348، 372، 395، 440. زليخا: 394. الزمخشري: 101، 102، 103، 361. الزمردي: 416. ابن زمرك: 252. زمزم: 201. زمعة: 364. ابن الزملكاني: 303، 318، 444. أبو الزناد: 393. الزنادقة: 151. الزنكيون: 106. الزنوري: 337. زهير: 365. زهير بن أبي سلمى: 379. الزواوي، يحيى: 510. الزوراء: 175، 359. الزيتوني، بدر الدين: 478. زيد: 313. أبو زيد، د. علي: 519. أبو زيد الهلالي: 487. الزير سالم: 487. زين العابدين: 134. - حرف السين- ابن الساعاتي: 117، 118. ساعير: 28. بنو سام: 127. سبتة: 187. السبكي، بهاء الدين: 17، 30، 38، 232، 236، 431، 458. السبكي، تقي الدين: 223. سحبان: 474. سحيم بن وثيل: 295. السخاوي: 439. سراقة: 498.

- حرف الشين -

سراقة بن مرداس: 80. السرميني: 478. سطيح: 197، 202. بنو سعد: 227، 233. سعيد بن جبير: 130. ابن سعيد: 319. أبو سفيان: 78. أبو سفيان بن الحارث: 473. السفياني المنتظر: 21. ابن سلام: 62. السلامي: 91. سلع: 176، 320. السلم: 172. ابن أبي السمط، مروان: 88. السمهودي: 199. ابن سناء الملك: 143، 346، 448. السندفائي: 219. ابن سهل: 183. سواد بن قارب: 64. السوفي: 271. ابن سويرات: 31. سيحون: 128. ابن سيد الكل: 440. ابن سيد الناس: 299، 388، 483، 507. سيف بن ذي يزن: 109، 202، 491، 512. ابن سيف البخاري: 200. ابن سينا: 300. سيناء: 28. السيواسي: 437. السيوطي: 28، 234، 235، 240، 243، 274، 462، 514، 523. - حرف الشين- الشاب الظريف: 268، 455. الشافعي (الإمام) : 94، 134، 135. الشام (بلاد الشام) : 9، 19، 27، 106، 107، 202، 503. أبو شامة المقدسي: 190، 521، 522. ابن الشجري: 481. الشرف الأنصاري: 217، 268، 269، 299، 333، 335، 336، 373، 404، 415، 447. الشريف الرضي: 90، 91، 112، 173، 450. الشريف المرتضي: 85، 86. الششتري: 347، 372. الشعب: 81.

- حرف الصاد -

شعيا (النبي) : 202. شق: 197. الشقراطيسي: 122، 226، 227. الشهاب العزازي: 303، 318. الشهاب محمود: 127، 211، 221، 224، 232، 244، 286، 287، 325، 329، 334، 337، 361، 365، 375، 382، 405، 410، 415، 446، 447، 467، 482، 485. شهاب الدين المقدسي: 522. الشهاب المنصوري: 213، 393، 405، 421. الشهرزوري، أبو حامد: 92، 508. شيخ (الأمير) : 490. الشيعة: 38، 86، 91، 129، 130، 133، 134، 136، 137، 138، 144، 149، 150، 163، 173، 174، 204، 278. - حرف الصاد- الصاحب بن عباد: 137، 174. صالح بن الحسين: 387. الصرصري: 33، 213، 215، 216، 222، 223، 224، 229، 233، 251، 256، 257، 265، 266، 282، 290، 292، 301، 304، 306، 307، 315، 316، 317، 318، 324، 326، 328، 329، 330، 334، 335، 336، 355، 356، 357، 367، 368، 374، 380، 381، 385، 386، 401، 405، 419، 444، 445، 454، 467، 469، 472، 475، 482، 483، 485، 496، 502، 503، 505. الصفا: 201. الصفدي (خليل) : 443. صفية بنت عبد المطلب: 52. صلاح الدين الأيوبي: 114، 187. الصليبيون: 19، 26، 30، 106، 115، 130، 243، 307، 497. - حرف الضاد- الضفدع: 313. - حرف الطاء- أبو طالب (عم الرسول) : 49، 62، 63، 138. الطالبيون: 108، 138، 279. طاهر الجزري: 153. الطرائفي: 51.

- حرف الظاء -

طسم: 491. الطفيل بن عمر: 69. طلائع بن زريك: 109، 140، 141. طه حسين: 60، 61. الطويلي: 339، 343. - حرف الظاء- ظافر الحداد: 108، 143. ابن ظهيرة القرشي: 364. - حرف العين- عاد: 491. العاصي: 385. العاضد الفاطمي: 142. عامر بن واثلة: 132. عائشة (أم المؤمنين) : 431. العباس بن عبد المطلب: 49، 70، 80، 88، 133. ابن العباس، عبد الله: 130. العباس بن مرداس: 70. العباسيون: 21، 38، 87، 88، 89، 90، 132، 137، 377، 479. ابن عبد الظاهر، محيي الدين: 359، 417. عبد الله بن رواحة: 13، 67. عبد الله بن عبد المطلب (أبو الرسول) : 127، 138، 247. عبد المطلب: 138. ابن عبدوس الدهان: 82. ابن عبية، أحمد: 451. عبيد بن شرية الجرهمي: 491. العتبي: 49. عثمان بن عتبة: 78. عثمان بن عفان: 75، 191، 279. عثمان بن واقد: 78. العثمانيون: 89. العجم: 116، 120، 341، 351، 451، 452، 453، 454، 456، 457. العدنانيون (بنو عدنان) : 78، 366. العذيب: 320. العراق: 19، 123، 138، 147، 469. العراقي: 496. العرب (الأعراب، العربان) : 19، 20، 21، 22، 25، 26، 28، 47، 48، 58، 59، 63، 65، 76، 81، 83، 87، 95، 106، 116، 120، 150، 151، 171، 174، 207، 210، 215، 225، 226، 248، 265، 312، 314، 320، 341،

351، 366، 393، 429، 446، 448، 449، 450، 451، 452، 453، 454، 455، 456، 457، 488، 490، 491، 498، 501، 512، 514، 519، 521، 523، 527، 532، 533، 538. ابن عربشاه: 436. ابن عربي: 110، 111، 112، 157، 157، 159، 160، 162، 163، 164، 165، 166، 167، 250. عرفات: 281، 470. ابن العريف: 182، 462. عزرائيل: 505. العزفي، أبو العباس: 187. العزيز: 493. العزيز الفاطمي: 107. العسكري، ابن أبي أحمد: 481. ابن العطار: 31، 257، 290، 343، 370. العفيف التلمساني: 175، 306، 409. العقنقل: 267. العقيق: 81، 172، 174، 175، 177، 179، 319، 320، 344، 423، 514. العلم: 172، 175، 359، 512، 513، 523. ابن علوان الصنعاني: 181. العلويون: 87، 90، 91، 173. علي بن أبي طالب: 75، 80، 106، 109، 114، 130، 131، 132، 133، 135، 136، 137، 138، 140، 141، 142، 145، 146، 147، 148، 149، 165، 186، 191، 279، 284. علي بن الجهم: 492، 493. علي بن العز: 443. علي وفا: 169. ابن العليف، علي: 439. عمار: 284. عمارة اليمني: 115، 142. عمرو بن عبيد: 85. عمرو بن كلثوم: 494. عمر بن الخطاب (الفاروق) : 78، 191، 278، 431، 460. عمر بن عبد العزيز: 79. عنترة: 294، 787، 507. عيسى المسيح: 28، 70، 122، 164، 166، 169، 170، 197، 253، 257.

- حرف الغين -

- حرف الغين- الغار: 228، 380. غار حراء: 158، 418. غدير خم: 131، 141. الغزالي: 164، 260. الغزي: 522. الغضا: 176، 294. الغور (الغوير) : 172، 173، 174، 319، 320، 469. - حرف الفاء- فاران: 28، 29. فارس: 200، 231. ابن الفارض: 161، 162، 163، 166، 175، 298، 359، 376، 484. الفارقي، سعد الدين: 435. الفارقليط: 28، 29. الفازازي: 012، 370، 482، 508. فاطمة الزهراء: 52، 88، 114، 130، 131، 136، 141، 145، 186، 279. الفاطميون (بنو الزهراء) : 106، 107، 109، 110، 113، 114، 139، 140، 142، 143، 144، 149، 186، 190. الفائز بن شاهنشاه: 155. الفرات: 117، 128، 141، 469. ابن أبي الفرج الجوزي: 390. ابن فرج السبتي: 277. الفرزدق: 80، 134. الفرس: 123، 150، 366. الفرفوري: 201، 478. الفرنج: 71، 19، 107، 446، 527. الفضل بن العباس: 80. ابن فضل الله العمري: 326. - حرف القاف- قابيل: 118. القادسية: 469. قانصوه الغوري: 201، 478. القاهرة: 24. قباء: 81، 172. قبرص: 527. قتادة بن النعمان: 79. القحطانيون: 78. القحفازي، نجم الدين: 32. القدس: 106. ابن القرداح: 17.

- حرف الكاف -

قريش (القرشيون) : 95، 127، 172، 227، 385، 409. ابن قزل، علي: 267. قس: 109. القلعة: 35. القلقشندي: 323، 384، 400. القنائي، أبو بكر: 436. القناوي، شرف الدين: 269. القيراطي: 258، 273، 281، 418، 420. ابن قيس الرقيات: 172. - حرف الكاف- الكارمي، عبد اللطيف: 181. كاظمة: 292. كثبان طي: 161. كثير عزة: 80. الكرخي، معروف: 192. كعب الأحبار: 27. كعب بن زهير: 13، 53، 65، 72، 99، 101، 102، 103، 117، 214، 298، 299، 300، 320، 321، 322، 358، 359، 360، 361، 376، 379، 402، 403، 404، 417، 418، 484، 507، 519، 520، 521. كعب بن مالك: 23، 49، 54، 55، 75. الكعبة: 32، 112، 156، 231، 274، 281، 303، 317، 318. كليب بن أسد: 68. الكميت بن زيد: 81، 82، 83، 84، 85، 86، 87، 91، 124، 134، 529. الكندي الدشناوي: 535، 476. كنون، عبد الله: 493، 494، 495. الكوفة: 469. كوكبوري: 114، 187. - حرف اللام- ابن لب: 361. لسان الدين بن الخطيب: 272، 273، 274، 307، 437، 457، 493. لعلع: 180، 320. لقمان: 491. اللوى: 179، 267، 296. لوى المنجنون: 172. بنو لؤي: 298. - حرف الميم- مالك بن الريب: 295. مالك بن عوف: 68.

1 الماوردي: 459. مبارك، د. زكي: 11، 163، 194، 235، 244. المتصوفة (الصوفية) : 38، 39، 40، 96، 107، 109، 110، 112، 114، 140، 151، 152، 153، 154، 155، 156، 158، 159، 160، 162، 163، 164، 166، 167، 168، 169، 170، 174، 175، 176، 177، 184، 188، 189، 190، 204، 221، 239، 246، 248، 250، 260، 283، 289، 305، 306، 308، 324، 396، 417، 419، 435. المحصب: 113، 155. محمد بن بشر: 79. محمد بن عبد العزيز: 344. محمد بن علي بن أبي طالب: 80. المختار الثقفي: 80. المدينة المنورة (طيبة، يثرب) : 27، 33، 36، 81، 111، 119، 120، 138، 172، 174، 181، 183، 184، 272، 274، 275، 296، 319، 325، 327، 328، 337، 351، 361، 378، 395، 439، 450، 498، 500، 504، 508. المريني، عبد العزيز: 200. المريني، يعقوب: 187. مزدلفة: 470. المستنصر الفاطمي: 139. المسجد الأقصى: 160، 212، 301، 504. المسجد الحرام: 120. المسجد النبوي: 36. مسعر: 393. المسعودي، علي: 63. مسلم (صاحب الصحيح) : 183. المشبهة: 92. مصر: 19، 24، 106، 449، 500. مضر: 101، 102، 213. المطاع: 164. المطعم بن عدي: 365. معاوية بن ثور: 79. المعتز: 90. ابن المعتز: 406، 407، 506. المعتزلة: 101، 102، 213. معد: 366. المعري، أبو العلاء: 94، 297، 298. ابن أبي معيط: 81، 172. ابن معين: 393.

- حرف النون -

المغرب: 187، 199، 277، 346، 390 المغول (التتار) : 265، 446، 527. المقاطعي: 345. مقداد: 284. المقري: 438، 481، 483. المقريزي: 186، 458. مكة (أم القرى) : 27، 32، 35، 71، 157، 174، 176، 277، 295، 379، 479، 498، 500. الملاماتية: 152. ملح: 172. ابن الملحمي: 348، 371. الملك الأشرف: 35. ملك النحاة: 118، 451. ابن مليك الحموي: 223، 253، 299، 394، 403، 457. المماليك: 19، 20، 21، 23، 30، 31، 34، 39، 116، 146، 188، 189، 204، 313، 448، 449، 454، 455، 527، 528، 532. ابن المنجم، علي: 90. المنجنيقي، يعقوب: 153. المنحمنا: 29. منى: 80، 113، 136، 182. ابن منير الطرابلسي: 115. المهلب بن أبي صفرة: 85. مهيار الديلمي: 93، 94. ابن المهيب المغربي: 120. موسى (النبي) : 28، 29، 122، 131، 169، 245، 252، 446. الموصلي، عز الدين: 513، 514، 516. ابن الموصلي، محمد: 258، 307، 369، 422. المؤيد (داعي الدعاة) : 109، 113، 140. ميكائيل: 37. - حرف النون- النابغة الذبياني: 295. النابغة الجعدي: 76. ابن ناصر الدين الدمشقي: 234، 235. الناصر (الخليفة) : 113، 479. الناصر قلاوون: 36. ابن نباتة: 62، 294، 295، 300، 302، 360، 378، 391، 392، 402، 403، 475. النبهاني، يوسف: 54، 285، 321، 327، 483.

- حرف الهاء -

ابن النبيه: 479. نجد: 146، 155، 173، 176، 177، 179، 183، 319. بنو نزار: 336. النصارى: 24، 27، 28، 29، 84، 166. النصيبي القوصي: 216. النضر: 95. نعمان: 175. النقا: 180، 183. النهرواني، أبو علي: 300. النواجي: 222، 274، 283، 284، 288، 290، 295، 319، 363، 381، 392، 393، 418، 425، 438، 441، 482، 508. نوح (النبي) : 164، 167، 169، 197، 252. نور الدين الشهيد: 115. النووي: 190. النيل: 24، 117، 128. - حرف الهاء- هابيل: 118. هارون (أخو موسى) : 131. هاشم بن عتبة: 331. الهاشميون (آل هاشم) : 64، 78، 79، 81، 82، 83، 85، 88، 89، 92، 95، 108، 127، 134، 136، 144، 148، 173، 174، 211، 256، 385، 414. ابن هتيمل: 284، 322، 379. هرم بن سنان: 512. ابن هرمة: 88. هشام: 364. ابن هشام، جمال الدين: 520، 521. ابن هشام، عبد الملك: 60. الهند: 150. الهنود: 194. - حرف الواو- الوأواء الدمشقي: 480. واقد: 393. الوتري: (الواعظ البغدادي) : 220، 288، 289، 330، 352، 353، 398، 439، 440، 482. وجرة: 175، 177. ابن الوردي: 297، 366. ابن الوزير، محمد: 39.

- حرف الياء -

الوفائي، عبد القادر: 17. الوليد: 385. ابن الوهيب: 270. - حرف الياء- اليافعي، عبد الله: 128. ابن يحيى الغرناطي: 268. يذبل: 267. ابن أبي اليسر: 441. يعرب: 472، 491. اليهود (بني إسرائيل) : 27، 28، 29. يوسف (النبي) : 252. اليونان: 150.

§1/1