المختصر في أخبار البشر

أبو الفداء

الفصل الأول عمود التواريخ القديمة

الفصل الأول عمود التواريخ القديمة وذكر الأنبياء على الترتيب ذكر آدم وبنيه إلى نوح من الكامل لابن الأثير، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك، ومنهم السهل والحزن وبين ذلك، وإنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وخلق الله تعالى جسد آدم، وتركه أربعين ليلة، وقيل: أربعين سنة ملقى بغير روح، وقال الله تعالى للملائكة: " إذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " " الحجر: 29 " فلما نفخ الروح، فسجد له الملائكة كلهم أجمعون " إلا إبليس أبى واستكبر، وكان من الكافرين " " البقرة: 34 " ولم يسجد كبراً وبغياً وحسداً، فأوقع الله تعالى على إبليس اللعنة والاياس من رحمته، وجعله شيطاناً رجيماً، وأخرجه من الجنة بعد أن كان ملكاً على سماء الدنيا والأرض، وخازناً من خزان الجنة، وأسكن الله تعالى آدم الجنة، ثم خلق الله تعالى من ضلع آدم حواء زوجته، وسميت حواء لأنها خلقت من شيء حي. فقال الله تعالى له: " يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغداً حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " " البقرة: 35 " ثم إن إبليس أراد دخول الجنة ليوسوس لآدم، فمنعته الخزنة، فعرض نفسه على الدواب أن تحمله حتى يدخل الجنة ليكلم آدم وزوجه، فكل الدواب أبى ذلك غير الحية، فإنها أدخلته الجنة بين نابيها، وكانت الحية إذ ذلك على غير شكلها الآن، فلما دخل إبليس الجنة وسوس لآدم وزوجه، وحسن عندهما الأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها، وهي الحنطة، وقرر عندهما أنهما إن أكلا منها خلدا، ولم يموتا، فأكلا منها، فبدت لهما سوءاتهما، فقال الله تعالى " اهبطوا بعضكم لبعض عدو " " الأعراف: 24 " آدم وإبليس والحية، وأهبطهم الله من الجنة إلى الأرض، وسلب آدم وحواء كل ما كان فيه من النعمة والكرامة. ولما هبط آدم إلى الأرض، كان له ولدان: هابيل وقابيل. ويسمى قابيل قاين أيضاً، فقرب كل من هابيل وقابيل قرباناً، وكان قربان هابيل خيراً من قربان قابيل، فتقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، فحسده على ذلك، وقتل قابيل هابيل، وقيل بل كان لقابيل أخت توءمة، وكانت أحسن من توءمة هابيل، وأراد آدم أن يزوج توءمة قابيل بهابيل، وتوءمة هابيل بقابيل، فلم يطلب لقابيل ذلك، فقتل أخاه هابيل، وأخذ هابيل، توءمته، وهرب بها.

وبعد قتل هابيل ولد لآدم شيث، وكانت ولادة شيث لمضي مائتين وثلاثين سنة من عمر آدم، وهو وصي آدم، وتفسير شيث: هبة الله، وإلى شيث تنتهي أنساب بني آدم كلهم. ولما صار لشيث من العمر مائتان وخمس سنين، ولد له أنوش، وكانت ولادة أنوش لمضي أربعمائة وخمس وثلاثين سنة من عمر آدم، وتقول الصابية: إنه ولد لشيث ابن آخر اسمه صابي بن شيث، وإليه تنسب الصابية، ولما صار لأنوش من العمر مائة وتسعون سنة، ولد له قينان، وذلك لمضي ستمائة وخمس وعشرين سنة من عمر آدم، ولما صار لقينان مائة وسبعون سنة، ولد له مهلائيل، وذلك لمضي سبع مائة وخمس وتسعين سنة من عمر آدم، ولما مضى من عمر مهلائيل مائة وخمسون وثلاثون سنة، توفي آدم، وذلك لمضي تسع مائة وثلاثين سنة من عمر آدم، وهو جملة عمر آدم. قال ابن سعيد ونقله عن ابن الجوزي: إن آدم عند موته كان قد بلغ غدة ولده وولد ولده أربعين ألفاً. ولما صار لمهلائيل من العمر مائة وخمسون وستون سنة ولد له يرد - بالدال المهملة والذال المعجمة أيضاً - ولما صار ليرد مائة واثنتان وستون سنة، ولد له حنوخ بحاء مهملة ونون وواو وخاء معجمة. ولمضي عشرين سنة من عمر حنوخ، توفي شيث وعمره تسع مائة واثنتا عشرة سنة، وكانت وفاة شيث لمضي سنة ألف ومائة واثنتين وأربعين لهبوط آدم. واسم شيث عند الصابية عاديمون. ولما صار لحنوخ مائة وخمس وستون سنة من العمر، ولد له متوشلح - بتاء مثناة من فوقها، وقيل بثاء مثلثة وآخره حاء مهملة - ولما مضى من عمر متوشلح ثلاث وخمسون سنة توفي أنوش بن شيث، وكان عمر أنوش لما توفي تسعمائة وخمسين سنة. ولما صار لمتوشلح من العمر مائة وسبع وستون سنة، ولد له لامخ، ويقال له لامك ولمك أيضاً. ولما مضى إحدى وستون سنة من عمر لامخ، توفي قينان بن أنوش، وعمره تسع مائة وعشر سنين. ولما صار للامخ من العمر مائة وثمان وثمانون سنة ولد له نوح، وكانت ولادة نوح بعد أن مضى ألف وستمائة واثنتان وأربعون سنة من هبوط آدم. ولما مضى من عمر نوح أربع وثلاثون سنة توفي مهلائيل بن قينان، وكان عمر مهلائيل لما توفي ثمانمائة، وخمساً وتسعين سنة. ولما مضى من عمر نوح مائتان وست وستون سنة توفي يرد بن مهلائيل، وكان عمر يرد لما توفي تسعمائة واثنتين وستين سنة. وأما حنوخ، وهو إدريس، فإنه رفع لما صار له من العمر ثلاثمائة وخمس وستون سنة، رفعه الله إلى السماء، فكان ذلك لمضي ثلاث عشرة سنة من عمر لامخ، قبل ولادة نوح بمائة وخمس وسبعين سنة، ونبأ الله إدريس المذكور، وانكشفت له الأسرار السماوية، وله صحف، منها: لا تروموا أن تحيطوا بالله خيرة، فإنه أعظم وأعلى أن تدركه فطن المخلوقين إلا من آثاره. وأما متوشلح بن حنوخ فإنه توفي لمضي ستمائة سنة من عمر نوح، وذلك عند ابتداء مجيء الطوفان. وكان عمر متوشلح

ذكر نوح وولده

لما توفي، تسعمائة وتسعاً وستين سنة، ولما صار لنوح خمسمائة سنة من العمر، ولد له: سام وحام ويافث. ولما مضى من عمر نوح ستمائة سنة كان الطوفان، وذلك لمضي ألفين ومائتين واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم. ذكر نوح وولده من الكامل لابن الأثير، أن الله تعالى أرسل نوحاً إلى قومه، وقد اختلف في ديانتهم، وأصح ذلك ما نطق به الكتاب العزيز، بأنهم كانوا أهل أوثان. قال الله تعالى: " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلوا كثيراً " " نوح: 23 - 24 " وصار نوح يدعوهم إلى طاعة الله تعالى، وهم لا يلتفتون. وكان قوم نوح يخنقون نوحاً حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وبقي لا يأتي قرن منهم إلا كان أخبث من الذي قبله، وكانوا يضربونه حتى يظنوا أنه قد مات، فإذا أفاق نوح اغتسل، وأقبل إليهم يدعوهم إلى الله تعالى. فلما طال ذلك عليه، شكاهم إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه " إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " " هود: 36 " فلما يئس نوح منهم دعا عليهم فقال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " " نوح: 26 " فأوحى الله إلى نوح أن يصنع السفينة، فصار قومه يسخرون منه ويقولون: يا نوح قد صرت نجاراً بعد النبوة. وصنع السفينة من خشب الساج، فلما فار التنور - وكان هو الآية بين نوح وبين ربه - حمل نوح من أمره الله بحمله، وكان منهم أولاد نوح الثلاثة وهم: سام وحام ويافث، ونساؤهم، وقيل: حمل أيضاً ستة أناسي، وقيل ثمانين رجلاً، أحدهم جرهم، كلهم من بني شيث. ثم أدخل ما أمره الله تعالى من الدواب، وتخلف عن نوح ابنه يام - وكان كافراً - وارتفع الماء وطمى، وجعلت الفلك تجري بهم في موج كالجبال، وعلا الماء على رؤوس الجبال خمسة عشر ذراعاً، فهلك ما على وجه الأرض من حيوان ونبات، وكان بين أن أرسل الله الماء وبين أن غاض ستة أشهر وعشر ليال، وقيل إن ركوب نوح في السفينة كان لعشر ليال مضت من رجب، وكان ذلك أيضاً لعشر ليال خلت من آب، وخرج من السفينة يوم عاشوراء من المحرم، وكان استقرار السفينة على الجودي من أرض الموصل. قال ابن الأثير: وأما المجوس فلا يعرفون الطوفان، وكان بعضهم يقر بالطوفان، ويزعم أنه كان في إقليم بابل وما قرب منه، وأن مساكن ولدخيومرث، كانت بالمشرق، فلم يصل ذلك إليهم، وكذلك جميع الأمم المشرقية من الهند والفرس والصين لا يعترفون بالطوفان، وبعض الفرس يعترف به ويقول: لم يكن عاماً، ولم يتعد عقبة حلوان. والصحيح أن جميع أهل الأرض هم، من ولد نوح، لقوله تعالى: " وجعلنا ذريته هم الباقين " " الصافات: 77 " فجميع الناس من ولد سام وحام ويافث أولاد نوح فسام أبو العرب وفارس والروم. وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج، والفرنج والقبط من ولد نوح ابن حام،

وولد لحام أيضاً مازيغ، وولد لمازيغ كنعان، وبنو كنعان كانوا أصحاب الشام حتى غزتهم بنو إسرائيل، كذا نقل ابن سعيد. وقد نقل ابن الأثير أن بني كنعان هم، من ولد سام، والله أعلم، وولد لسام عدة أولاد، منهم: لاوذ بن سام، وولد للاوذ فارس وجرجان وطسم وعمليق الذي هو أبو العماليق، ومنهم كانت الجبابرة بالشام، والفراعنة بمصر، وسكنت بنو طسم اليمامة إلى البحرين. ومن ولد سام أيضاً أرم بن سام، وولد لأرم عدة أولاد، فمنهم غاز بن أرم. فمن ولد غاز ثمود وجديس. وولد أيضاً لأرم عوض، ومن عوض عاد، وكان كلام ولد أرم العربية. وسكنت بنو عاد الرمل إلى حضرموت، وسكنت ثمود الحجر بين الحجاز والشام، ولنرجع إلى ذكر من هو على عمود النسب من نوح إلى إبراهيم، فنقول: وولد لنوح سام وحام ويافث لمضي خمسمائة سنة من عمر نوح، وكان الطوفان لستمائة سنة من عمر نوح. وولد لسام أرفخشذ، بعد أن مضى مائة وسنتان من عمر سام، وذلك بعد الطوفان بسنتين. ولما صار لأرفخشذ من العمر مائة وخمس وثلاثون سنة. ولد له قينان، فولادة قينان تكون لمضي مائة وسبع وثلاثين سنة للطوفان. ولما صار لقينان مائة وتسع وثلاثون سنة، ولد له شالح، فتكون ولادة شالح لمضي مائتين وست وسبعين سنة من الطوفان. ولما مضت سنة ثلاثمائة وخمسين للطوفان، توفي نوح عليه السلام، وعمره تسعمائة وخمسون سنة، فتكون وفاة نوح لمضي أربع وسبعين سنة من عمر شالح. ثم ولد لشالح عابر، لما صار لشالح من العمر مائة وثلاثون سنة، وذلك لمضي أربع مائة وست سنين للطوفان. ثم ولد لعابر فالغ لما صار لعابر مائة وأربع وثلاثون سنة، وذلك لمضي خمسمائة وأربعين سنة للطوفان. ثم ولد لفالغ رعو، ولفالغ مائة وثلاثون سنة، وعند مولد رعو تبلبلت الألسن وقسمت الأرض، وتفرقت بنو نوح، وذلك لمضي ستمائة وسبعين سنة للطوفان. ولما صار لرعو مائة واثنتان وثلاثون سنة ولد له ساروع - واسمه في التوراة سرور - وذلك بعد أن مضى ثمانمائة وسنتان للطوفان. ولما صار لساروع مائة وثلاثون سنة ولد له ناحور، وذلك لمضي سنة ثلاثين وتسعمائة للطوفان، ولما صار لناحور تسع وسبعون سنة ولد له تارح، وذلك لمضي ألف سنة وإحدى عشرة سنة للطوفان. ولما صار لتارح سبعون سنة ولد له إبراهيم الخليل عليه السلام، وذلك لمضي ألف وإحدى وثمانين سنة للطوفان. وأما جملة أعمار المذكورين، فعاش سام ستمائة سنة فتكون وفاته بعد وفاة نوح بمائة وخمسين سنة، وعاش أرفخشذ أربعمائة وخمساً وستين سنة، وعاش قينان أربع مائة وثلاثين سنة، وعاش شالح أربعمائة وستين سنة، وعابر أربعمائة وأربعاً وستين سنة، وفالغ ثلاثمائة وتسعاً وثلاثين سنة، ورعو ثلاثمائة وتسعاً وثلاثين سنة، وساروع ثلاثمائة وثلاثين سنة، وناحور مائتين وثمان سنين، وتارح مائتين وخمس سنين.

ذكر هود وصالح

وأما سبب تبلبل الألسن فقد ذكر أبو عيسي أن بني نوح الذين نشؤوا بعد الطوفان، اجتمعوا على بناء حصن يتحرزون به خوفاً من مجيء الطوفان مرة ثانية، والذي وقع رأيهم عليه أن يبنوا صرحاً شامخاً تبلغ رأسه السماء، فجعلوا له اثنين وسبعين برجاً، وجعلوا على كل برج كبيراً منهم يستحث على العمل، فانتقم الله تعالى منه، وبلبل ألسنتهم إلى لغات شتى. ولم يوافقهم عابر على ذلك، واستمر على طاعة الله تعالى، فبقاه الله تعالى على اللغة العبرانية، ولم ينقله عنها. ولما افترقت بنو نوح صار لولد سام العراق وفارس وما يلي ذلك إلى الهند، وصار لوالد حام الجنوب مما يلي مصر على النيل، وكذلك مغرباً إلى منتهى المغرب الأقصى، وصار لولد يافث مما يلي بحر الخزر، وكذلك مشرقاً إلى جهة الصين، وكانت شعوب أولاد نوح الثلاثة عند تبلل الألسن اثنين وسبعين شعباً. ذكر هود وصالح وهما نبيان أرسلا بعد نوح وقبل إبراهيم الخليل عليه السلام، أما هود فقد قيل أنه عابر بن شالح المذكور. وأرسل الله هوداً إلى عاد - وكانوا أهل أصنام ثلاثة - وكان عاد وثمود جبارين طوال القامات، كما أخبر الله في التنزيل عنهم، قال الله تعالى " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة " " الأعراف: 69 " ودعا هود قوم عاد فلم يؤمن منهم إلا القليل، فأهلك الله الذين لم يؤمنوا بريح سبع ليال وثمانية أيام حسوماً - والحسوم الدائم - فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك، غير هود والمؤمنين معه، فإنهم اعتزلوا في حظيرة، وبقي هود كذلك حتى مات، وقبره بحضرموت، وقيل بالحجر من مكة. ويروى أنه كان من قوم عاد شخص اسمه لقمان، وهو غير لقمان الحكيم الذي كان على عهد داود النبي عليه السلام، وكان قد حصل لعاد - قبل أن يهلكهم الله - الجدب، فأرسلوا جماعة منهم إلى مكة يستسقون لهم، وكان من جملة الجماعة المذكورين لقمان المذكور. فلما هلكت عاد كما ذكرنا بقي لقمان بالحرم، فقال له الله تعالى: اختر ولا سبيل إلى الخلود، فقال: يا رب، أعطني عمر سبعة أنسر، فكان يأخذ الفرخ الذكر يخرج من بيضته، حتى إذا مات أخذ غيره، وكان يعيش كل نسر ثمانين سنة، وكان اسم النسر السابع لبداً، فلما مات لبد مات لقمان معه، وقد أكثر الناس والعرب في أشعارهم من ذكر هذه الواقعة فلذلك ذكرناها. وأما صالح، فأرسله الله إلى ثمود، وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماشج ابن عبيد بن خادر بن ثمود، فدعا صالح قوم ثمود إلى التوحيد - وكان مسكن ثمود بالحجر كما تقدم ذكره - فلم يؤمن به إلا قليل مستضعفون، ثم إن كفارهم عاهدوا صالحاً على أنه إن أتى بما يقترحونه عليه آمنوا به، واقترحوا عليه أن يخرج من صخرة معينة ناقة، فسأل صالح الله تعالى في ذلك، فخرج من تلك الصخرة ناقة، وولدت فصيلاً، فلم يؤمنوا، وآخر الحال

ذكر إبراهيم الخليل صلوات الله عليه

أنهم عقروا الناقة فأهلكهم الله تعالى بعد ثلاثة أيام بصيحة من السماء فيها صوت كالصاعقة، فتقطعت قلوبهم، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وسار صالح إلى فلسطين، ثم انتقل إلى الحجاز، يعبد الله إلى أن مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة. ذكر إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وهو إبراهيم بن تارح وهو آزر بن ناحور بن ساروغ بن رعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وقد أسقط ذكر قينان بن أرفخشذ من عمود النسب، قيل بسبب أنه كان ساحراً، فأسقطوه من الذكر، قالوا: شالح بن أرفخشذ، بالحقيقة شالح بن قينان بن أرفخشذ، فاعلم ذلك. وولد إبراهيم بالأهواز وقيل ببابل وهي العراق، وكان آزر أبو إبراهيم يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليبيعها، وكان إبراهيم يقول: من يشتري ما يضره ولا ينفعه. ثم لما أمر الله تعالى إبراهيم أن يدعو قومه إلى التوحيد، دعا أباه فلم يجبه، ودعا قومه، فلما فشا أمره واتصل بنمرود بن كوش وهو ملك تلك البلاد، وكان نمرود عاملاً على سواد العراق، وما اتصل به للضحاك وقيل بل كان النمرود ملكاً مستقلاً برأسه، فأخذ نمرود إبراهيم الخليل، ورماه في نار عظيمة، فكانت النار عليه برداً وسلاماً، وخرج إبراهيم من النار بعد أيام، ثم آمن به رجال من قومه على خوف من نمرود، وآمنت به زوجته سارة وهي ابنة عمه هاران، ثم إن إبراهيم ومن آمن معه وأباه على كفره، فارقوا قومهم، وهاجروا إلى حران، وأقاموا بها مدة. ثم سار إبراهيم إلى مصر - وصاحبها فرعون، قيل كان اسمه سنان بن علوان، وقيل طوليس - فذكر جمال سارة لفرعون - وهو طوليس المذكور - فأحضر سارة وسأل إبراهيم عنها فقال: هذه أختي، يعني في الإسلام، فهم فرعون المذكور فأيبس الله يديه ورجليه، فلما تخلى عنها أطلقه الله تعالى، ثم هم بها فجرى له كذلك فأطلق سارة وقال: لا ينبغي لهذه أن تخدم نفسها، ووهبها هاجر جارية لها، فأخذتها وجاءت إلى إبراهيم، ثم سار إبراهيم من مصر إلى الشام، وأقام بين الرملة وإيلياء. وكانت سارة لا تلد، فوهبت إبراهيم هاجر ووقع إبراهيم على هاجر، فولدت له إسماعيل - ومعنى إسماعيل بالعبراني مطيع الله - وكانت ولادة إسماعيل لمضي ست وثمانين سنة من عمر إبراهيم، فحزنت سارة لذلك، فوهبها الله إسحاق وولدته سارة ولها تسعون سنة، ثم غارت سارة من هاجر وابنها إسماعيل وقالت: ابن الأمة لا يرث مع ابني. وطلبت من إبراهيم أن يخرجهما عنها، فأخذ إبراهيم هاجر وابنها إسماعيل وسار بهما إلى الحجاز، وتركهما بمكة، وبقي إسماعيل بها، وتزوج من جرهم امرأة. وماتت أمه هاجر بمكة وقدم إليه أبوه إبراهيم، وبنيا الكعبة وهي بيت الله الحرام، ثم أمر الله إبراهيم أن يذبح ولده وقد اختلف في الذبح، هل هو إسحاق. أم إسماعيل وفداه الله بكبش. وكان إبراهيم في آخر أيام بيوراسب المسمى بالضحاك الذي سنذكره

ذكر بني إبراهيم

مع ملوك الفرس إن شاء الله تعالى، وفي أول ملك أفريدون، وكان النمرود عاملاً له بما ذكرناه، وكان لإبراهيم أخوان وهما هاران وناحور أولاد آزر. فهاران أولد لوطاً، وأما ناحور فأولد بتويل وبتويل أولد لابان ولابان أولد ليا وراحيل زوجتي يعقوب. ومن زعم أن الذبيح إسحاق يقول: كان موضع الذبح بالشام على ميلين من إيلياء - وهي بيت المقدس - ومن يقول إنه إسماعيل يقول إن ذلك كان بمكة، وقد اختلف في الأمور التي ابتلى الله إبراهيم بها، فقيل: هي هجرته عن وطنه، والختان، وذابح ابنه، وقيل غير ذلك. وفي أيام إبراهيم توفيت زوجته سارة بعد وفاة هاجر وفي ذلك خلاف - وتزوج إبراهيم بعد موت سارة امرأة من الكنعانيين، وولدت من إبراهيم ستة نفر فكان جملة أولاد إبراهيم ثمانية إسماعيل وإسحاق، وستة من الكنعانية على خلاف في ذلك. ذكر بني إبراهيم الذين على عمود النسب إلى موسى عليه السلام، أما مولد إبراهيم فقد تقدم في ذكر نوح، أن إبراهيم ولد لمضي ألف وإحدى وثمانين سنة من الطوفان. ولما صار لإبراهيم مائة سنة ولد له إسحاق، ولما صار لإسحاق ستون سنة ولد له يعقوب، ولما صار ليعقوب ست وثمانون سنة ولد له لاوي. ولما صار للاوي ست وأربعون سنة ولد له قاهاث، ولما صار لقاهاث ثلاث وستون سنة ولد له عمران، ولما صار لعمران سبعون سنة ولد له موسى عليه السلام، فيكون ولادة موسى لمضي أربع مائة وخمس وعشرين سنة من مولد إبراهيم، وعاش موسى مائة وعشرين سنة. فيكون ما بين ولادة إبراهيم ووفاة موسى خمسمائة وخمساً وأربعين سنة. وأما جملة أعمار المذكورين، فإن إبراهيم عاش مائة وخمساً وسبعين سنة، وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ويعقوب مائة وسبعاً وأربعين سنة، ولاوي مائة وسبعاً وثلاثين سنة، وعاش قاهاث مائة وسبعاً وعشرين سنة، وعمران مائة وستاً وثلاثين سنة. ومات إبراهيم ولإسحاق خمس وسبعون سنة، ومات إسحاق وليعقوب مائة وعشرون سنة، ومات يعقوب وللاوي ستون سنة، ومات لاوي ولقاهاث إحدى وثمانون سنة، ومات قاهاث ولعمران أربع وستون سنة، ومات عمران ولموسى ست وستون سنة، بناء على أن جملة عمر عمران مائة وست وثلاثون سنة. وقد اختلف في معنى الصحف التي أنزلها الله تعالى على إبراهيم، وقد روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أمثال، فمنها: أيها المسلط المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها، ولو كانت من كافر، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وإبراهيم أول من اختتن،

ذكر لوط عليه السلام

وأضاف الضيف، ولبس السروايل. ذكر لوط عليه السلام أما لوط فهو ابن أخي إبراهيم الخليل، وهو لوط بن هاران بن آزر، آزر هو تارح، وباقي النسب قد مر عند ذكر إبراهيم الخليل. وكان لوط ممن آمن بعمه إبراهيم، وهاجر معه إلى مصر، وعاد إلى الشام. وأرسل الله تعالى لوطاً إلى أهل سدوم، وكانوا أهل كفر وفاحشة، ودام لوط يدعوهم إلى الله تعالى، وينهاهم فلم يلتفتوا إليه، وكانوا على ما أخبر الله عنهم في قوله تعالى " إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر " " العنكبوت: 28 - 29 ". وكان قطعهم للطريق أنه إذا مر بهم المسافر أمسكوه، وفعلوا فيه اللواط، وكان لوط ينهاهم، ويتوعدهم على الإصرار، فلا يزيدهم وعظه إلا تمادياً. فلما طال ذلك عليه، سأل الله تعالى النصرة عليهم، فأرسل الله الملائكة لقلب سدوم وقراها الخمس، وكان بسدوم أربعمائة ألف بشري، وأما قراها فهي صبعة، وعمرة. وأدما، وصبويم. وبالع. وكان الملائكة قد أعلموا إبراهيم الخليل بما أمرهم الله تعالى به من الخسف بقوم لوط، فسأل إبراهيم جبريل فيهم، وقال له: أرأيت إن كان فيهم خمسون من المسلمين؟ فقال جبريل: إن كان فيهم خمسون لا نعذبهم، فقال إبراهيم: وأربعون؟ قال: وأربعون، قال إبراهيم وثلاثون؟ قال: وثلاثون، وكذلك حتى قال إبراهيم: وعشرة؟ فقال جبريل: وعشرة، فقال إبراهيم: إن هناك لوطاً، فقال جبريل والملائكة: نحن أعلم بمن فيها. فلما وصلت الملائكة إلى لوط هم قومه أن يلوطوا بهم، فأعماهم جبريل بجناحه، وقال الملائكة للوط: " إن رسل ربك فاسر بأهلك بقطع من الليل، ولا يلتفت منكم أحد " " هود 81 ". فلما خرج لوط بأهله، قال للملائكة: أهلكوهم الساعة، فقالوا لم نؤمر إلا بالصبح، أليس الصبح بقريب؟ فلما كان الصبح قلبت الملائكة سدوم، وقراها الخمس بمن فيها، وسمعت امرأة لوط الهدة فقالت: واقوماه، فأدركها حجر فقتلها، أمطر الله الحجارة على من لم يكن بالقرى، فأهلكهم. ذكر إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام وولد إسماعيل لإبراهيم لما كان لإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة، ولما صار لإسماعيل ثلاث عشر سنة تطهر هو وأبوه إبراهيم، ولما صار لإبراهيم مائة سنة، وولد له إسحاق أخرج إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة بسبب غيرة سارة منها، وقولها: أخرج إسماعيل وأمه إن ابن الأمة لا يرث مع ابني، وسكن مكة مع إسماعيل من العرب قبائل جرهم، وكانوا قبله بالقرب من مكة. فلما سكنها إسماعيل اختلطوا به، وتزوج إسماعيل امرأة من جرهم، ورزق منها اثني عشر ولداً، ولما أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام ببناء الكعبة، وهي البيت الحرام

ذكر إسحاق بن إبراهيم

سار من الشام، وقدم على ابنه إسماعيل بمكة وقال: يا إسماعيل، إن الله تعالى أمرني أن ابني له بيتاً، فقال إسماعيل: أطع ربك، فقال إبراهيم: وقد أمرك أن تعينني عليه قال: إذن أفعل. فقام إسماعيل معه وجعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة، وكانا كلما بنيا دعوا فقالا " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " " البقرة: 127 " وكان وقوف إبراهيم على حجر وهو يبني، وذلك الموضع هو مقام إبراهيم، واستمر البيت على ما بناه إبراهيم؛ إلى أن هدمته قريش سنة خمس وثلاثين من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنوه. وكان بناء الكعبة بعد مضي مائة سنة ونحو ثلاث وتسعين سنة، وأرسل الله إسماعيل إلى قبائل اليمن، وإلى العماليق، وزوج إسماعيل ابنته من ابن أخيه العيص بن إسحاق، وعاش إسماعيل مائة وسبعاً وثلاثين سنة، ومات بمكة ودفن عند قبر أمه هاجر بالحجر وكانت وفاة إسماعيل بعد وفاة أبيه إبراهيم بثمان وأربعين سنة. ذكر إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام قد تقدم مولد إسحاق عند ذكر أبيه، ثم إن إسحاق تزوج بنت عمه، فولدت له العيص ويعقوب، ويقال ليعقوب إسرائيل، ونكح العيص بنت عمه إسماعيل، ورزق منها جملة أولاد، ونكح يعقوب ليا بنت لابان بن بتويل بن ناحور بن آزروالد إبراهيم الخليل، فولدت لياروبيل وهو أكبر أولاد يعقوب، ثم ولدت شمعون ولاوي ويهود، ثم تزوج يعقوب عليها أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وكذلك ولد ليعقوب من سريتين كانتا له ستة أولاد، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلاً، هم آباء الأسباط، وأقام إسحاق بالشام حتى توفي وعمره مائة وثمانون سنة، ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل صلوات الله عليهما. وأما أسماء آباء الأسباط الاثني عشر - أولاد يعقوب - فهم: روبيل ثم شمعون ثم لاوي ثم يهوذا ثم يساخر ثم زبولون ثم يوسف ثم بنيامين ثم دان ثم نفتالي ثم كاذ ثم أشار. ذكر أيوب عليه السلام وهو رجل عده المؤرخون من أمة الروم، لأنه من ولد العيص وهو أيوب بن موص بن رازح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل. وكان لأيوب زوجة اسمها رحمة، وكان صاحب أموال عظيمة، وكان لأيوب البثنية جميعها من أعمال دمشق ملكاً، فابتلاه الله تعالى بأن أذهب أمواله حتى صار فقيراً، وهو مع ذلك على عبادته وشكره، ثم ابتلاه الله تعالى في جسده حتى تجذم ودود، وبقي مرمياً على مزبلة، لا يطيق أحد أن يشم رائحته. وكانت زوجته رحمة تخدمه وهي صابرة على حاله، فتراءى لها إبليس، وأراها ما ذهب لهم، وقال لها: اسجدي لي لأرد مالكم إليكم، فاستأذنت أيوب، فغضب وحلف ليضربنها مائة ضربة. ثم إن الله

ذكر يوسف

تعالى عافى أيوب ورزقه، ورد إلى امرأته شبابها وحسنها، وولدت لأيوب ستة وعشرين ذكراً، ولما عوفي أيوب أمره الله تعالى أن يأخذ عرجوناً من التخل، فيه مائة شمراخ، فيضرب به زوجته ليبر في يمينه، ففعل ذلك. وكان أيوب نبياً في عهد يعقوب في قول بعضهم، وذكر أن أيوب عاش ثلاثاً وتسعين سنة، ومن ولد أيوب ابنه بشر، وبعث الله تعالى بشراً بعد أيوب وسماه ذا الكفل، وكان مقامه بالشام. ذكر يوسف وولد يعقوب يوسف لما كان ليعقوب من العمر إحدى وتسعون سنة، ولما صار ليوسف من العمر ثماني عشرة سنة كان فراقه ليعقوب، وبقيا مفترقين إحدى وعشرين سنة، ثم اجتمع يعقوب بيوسف في مصر، وليعقوب من العمر مائة وثلاثون سنة، وبقيا مجتمعين سبع عشرة سنة فكان عمر يوسف لما توفي يعقوب ستاً وخمسين سنة وعاش يوسف مائة وعشر سنين، فيكون مولد يوسف لمضي مائتين وإحدى وخمسين سنة من مولد إبراهيم، ويكون وفاته لمضي ثلاثمائة وإحدى وستين سنة من مولد إبراهيم، ويكون وفاة يوسف قبل مولد موسى بأربع وستين سنة محققاً. وأما قصة فراقه من أبيه فإنه لما كان يوسف من الحسن ومن حب أبيه على ما اشتهر، حسدته أخوته وألقوه في الجب، وكان في الجب ماء وبه صخرة، فأوى إليها وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام، ومرت به السيارة، فأخرجته من الجب، وأخذوه معهم، وجاء يهوذا - أحد أخوته - إلى الجب بطعام ليوسف فلم يجده، ورآه عند تلك السيارة وأخبر يهوذا أخوته بذلك، فأتوا إلى السيارة وقالوا هذا عبدنا أبق منا. وخافهم يوسف، فلم يذكر حاله، فاشتروه من أخوته بثمن بخس، قيل عشرون درهماً، وقيل أربعون، وذهبوا به إلى مصر فباعه أستاذه، فاشتراه الذي على خزائن مصر، واسمه العزيز. وكان فرعون مصر حينئذ الريان بن الوليد رجلاً من العماليق، والعماليق من ولد عملاق بن سام بن نوح حسبما تقدم ذكره. ولما اشترى العزيز يوسف هوته امرأته، وكان اسمها راعيل، وراودته عن نفسها، فأبى وهرب منها، ولحقته من خلفه، وأمسكته بقميصه، فانقد قميصه، ووصل أمرهما إلى زوجها العزيز وابن عمها تبيان فظهر لهما براءة يوسف، وأن راعيل هي التي راودته، ثم بعد ذلك ما زالت تشكو إلى زوجها من يوسف، وتقول: إنه يقول للناس: إنني راودته عن نفسه، وقد فضحني بين الناس، فحبسه زوجها، ودام في السجن سبع سنين، ثم أخرجه فرعون مصر بسبب تعبير الرؤيا التي أريها، ثم لما مات العزيز الذي كان اشترى يوسف، جعل فرعون يوسف موضعه على خزائنه كلها، وجعل القضاء إليه، وحكمه نافذاً، ودعا يوسف الريان فرعون مصر المذكور إلى الإيمان، فآمن به، وبقي كذلك إلى أن مات الريان المذكور، وملك بعده مصر قابوس بن مصعب من العمالقة أيضاً، ولم يؤمن، وتوفي يوسف عليه السلام في ملكه

ذكر شعيب

بعد أن وصل إليه أبوه يعقوب وأخوته جميعهم من أرض كنعان - وهي الشام - بسبب المحل، وعاش معهم مجتمعين سبع عشرة سنة، ومات يعقوب وأوصى إلى يوسف أن يدفنه مع أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك وسار به إلى الشام، ودفنه عند أبيه، ثم عاد إلى مصر، وكان وفاة يوسف بمصر، ودفن بها، حتى كان من موسى وفرعون ما كان. فلما سار موسى من مصر ببني إسرائيل إلى التيه نبش يوسف وحمله معه في التيه حتى مات موسى، فلما قدم يوشع ببني إسرائيل إلى الشام، دفنه بالقرب من نابلس، وقيل عند الخليل عليه السلام. ذكر شعيب ثم الله تعالى شعيباً - عليه السلام - إلى أصحاب الأيكة وأهل مدين، وقد اختلف في نسب شعيب فقيل: إنه من ولد إبراهيم الخليل، وقيل: من ولد بعض الذين آمنوا بإبراهيم وكانت الأيكة من شجر ملتف، فلم يؤمنوا، فأهلك الله أصحاب الأيكة بسحابة، أمطر عليهم ناراً الظلة، وأهلك الله أهل مدين بالزلزلة. ذكر موسى عليه السلام أرسل الله تعالى موسى بن عمران بن قاهاث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليه السلام - نبياً، بشريعة بني إسرائيل، وكان من أمره أنه لما ولدته أمه كان قد أمر فرعون مصر - واسمه الوليد - بقتل الأطفال، فخافت عليه أمه وألقى الله تعالى في قلبها أن تلقيه في النيل، فجعلته في تابوت، وألقته، والتقطته آسية امرأة فرعون، وربته وكبر، فبينما هو يمشي في بعض الأيام إذ وجد إسرائيلياً وقبطياً يختصمان، فوكز القبطي فقتله، ثم اشتهر ذلك، وخاف موسى من فرعون، فهرب وقصد نحو مدين، واتصل بشعيب وزوجه ابنته واسمها صفورة، وأقام يرعى غنم شعيب عشر سنين. ثم سار موسى بأهله في زمن الشتاء وأخطأ الطريق، وكانت امرأته حاملاً، فأخذها الطلق في ليلة شاتية، فأخرج زنده ليقدح، فلم يظهر له نار، وأعيا مما يقدح، فرفعت له نار، فقال لأهله: " امكثوا إني آنست ناراً سأتيكم منها بخبر، أو آتيكم بشهاب قبس، لعلكم تصطلون " " النمل: 7 " فلما دنا منه رأى نوراً ممتداً من السماء إلى شجرة عظمية من العوسج، وقيل من العناب، فتحير وخاف ورجع، فنودي منها. ولما سمع الصوت استأنس وعاد، فلما أتاها نودي من جانب الطور الأيمن من الشجرة: أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين. ولما رأى تلك الهيبة علم أنه ربه، فخفق قلبه وكل لسانه، وضعفت بنيته، ثم شد الله تعالى قلبه، ولما عاد عقله نودي أن اخلع نعليك إنك بالواد المقدس، وجعل الله عصاه ويده آيتين. ثم أقبل موسى إلى أهله، فسار بهم نحو مصر، حتى أتاها ليلاً، واجتمع به هارون وسأله: من أنت؟ فقال أنا موسى، فاعتنقا وتعارفا، ثم قال موسى: يا هارون إن الله أرسلنا إلى فرعون، فانطلق معي إليه، فقال هارون سمعاً وطاعة، فانطلقا إليه، وأره موسى عصاه ثعباناً فاغراً فاه حتى خاف منه فرعون، فأحدث

في ثيابه، ثم أدخل يده في جيبه، وأخرجها وهي بيضاء لها نور تكل منه الأبصار، فلم يستطع فرعون النظر إليها، ثم ردها إلى جيبه وأخرجها فإذا هي على لونها الأول. ثم أحضر لهما فرعون السحرة، وعملوا الحيات، وألقى موسى عصاه فتلقفت ذلك، وآمن به السحرة فقتلهم فرعون عن آخرهم، ثم أراهم الآيات من القمل والضفادع وصيرورة الماء دماً، فلم يؤمن فرعون ولا أصحابه. وآخر الحال أن فرعون أطلق لبني إسرائيل أن يسيروا مع موسى، وسار موسى ببني إسرائيل ثم ندم فرعون وسار بعسكره حتى لحقهم عند بحر القلزم، فضرب موسى بعصاه البحر، فانشق ودخل فيه هو وبنو إسرائيل، وتبعهم فرعون وجنوده، فانطبق البحر على فرعون وجنوده، وغرقوا عن آخرهم. ومن جملة المعجزات التي أعطاها الله عز وجل موسى، قضيته مع قارون - من الكامل - قال: وكان قارون ابن عم موسى، وكان الله تعالى قد رزق قارون المذكور مالاً عظيماً يضرب به المثل على طول الدهر، قيل أن مفاتيح خزائنه كانت تحمل على أربعين بغلاً، وبنى داراً عظيمة، وصفحها بالذهب، وجعل أبوابها ذهباً، وقد قيل عن ماله شيء يخرج عن الحصر. فتكبر هارون بسبب كثرة ماله على موسى، واتفق مع بني إسرائيل على قذفه والخروج عن طاعته، وأحضر امرأة بغياً وهي القحبة، وجعل لها جعلاً وأمرها بقذف موسى بنفسها، واتفق معها على ذلك. ثم أتى موسى فقال: أن قومك قد اجتمعوا، فخرج إليهم موسى وقال: من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى رجمناه. فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال موسى: نعم وإن كنت أنا. قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. قال موسى: فادعوها فإن قالت فهو كما قالت. فلما جاءت، قال لها موسى: أقسمت عليك بالذي أنزل التوراة إلا صدقت، أأنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا، كذبوا، ولكن جعلوا لي جعلاً على أن أقذفك، فأوحى الله تعالى إلى موسى مر الأرض بما شئت تطعك، فقال: يا أرض خذيهم، فجعل قارون يقول: يا موسى ارحمني، وموسى يقول: يا أرض خذيهم، فابتلعتهم الأرض ثم خسف بهم، وبدار قارون. ولما أهلك الله تعالى فرعون وجنوده، قصد موسى المسير ببني إسرائيل إلى مدينة الجبارين وهي أريحا، فقالت بنو إسرائيل: " يا موسى، إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " " المائدة: 22 "، يا موسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " " المائدة: 24 " فغضب موسى ودعا عليهم فقال: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين: " " المائدة: 25 " فقال الله تعالى: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ". " المائدة: 26 "، فبقوا في التيه، وأنزل الله عليهم المن والسلوى. ثم أوحى الله تعالى إلى موسى أني متوف هارون، فأت به إلى جبل كذا وكذا، فانطلقا نحوه؛ فإذا هما بسرير، فناما عليه، وأخذ هارون الموت ورفع إلى السماء، ورجع موسى إلى بني إسرائيل، فقالوا له: أنت قتلت هارون لحبنا إياه. قال موسى: ويحكم، أفتروني أقتل أخي. فلما أكثروا

ذكر حكام بني إسرائيل ثم ملوكهم

عليه، سأل الله فأنزل السرير، وعليه هارون، وقال لهم إني مت ولم يقتلني موسى. ثم توفي موسى، واختلف في صورة وفاته، قيل: كان هو ويوشع يتمشيان فظهرت غمامة سوداء، فخافها يوشع، واعتنق موسى، فانسل موسى من قماشه، وبقي يوشع معتنق الثياب، وعدم موسى، وأتى يوشع بالقماش إلى بني إسرائيل، فقالوا أنت قتلت موسى. ووكلوا به فسأل يوشع الله تعالى أن يبين براءته، فرأى كل رجل كان موكلا عليه في منامه أن يوشع لم يقتل موسى، فإنا رفعناه إلينا، فتركوه، وقيل: بل تنبأ يوشع وأوحى الله تعالى إليه، وبقي موسى يسأله، فلم يخبره، فعظم ذلك على موسى، وسأل الله الموت فمات، وقيل غير ذلك. وكان وفاة موسى في التيه في سابع آذار لمضي ألف وستمائة وست وعشرين سنة من الطوفان، في أيام منوجهر الملك، وكان موت موسى بعد هارون أخيه بأحد عشر شهراً، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين. وكان مولد موسى لمضي أربعمائة وخمس وعشرين سنة من مولد إبراهيم، وكان بين وفاة إبراهيم ومولد موسى مائتان وخمسون سنة. وولد موسى لمضي ألف وخمسمائة وست سنين من الطوفان، وكان عمره لما خرج ببني إسرائيل من مصر ثمانين سنة، وأقام في التيه أربعين سنة، فيكون عمر موسى مائة وعشرين سنة، وأما بنو إسرائيل، وكانوا قبل أن يخرجهم موسى تحت حكم فراعنة مصر رعية لهم، وكانوا على بقايا من دينهم الذي شرعه يعقوب ويوسف عيهما السلام، وكان أول قدومهم إلى مصر لمضي تسع وثلاثين سنة من عمر يوسف، فأقاموا في مصر بقية عمر يوسف وهو إحدى وسبعون سنة، لأن عمر يوسف كان مائة وعشر سنين فإذا أنقصنا منها تسعاً وثلاثين سنة بقي إحدى وسبعون سنة، وأقاموا أيضاً مدة ما كان بين وفاة يوسف ومولد موسى، وهو أربع وستون سنة، وأقاموا أيضاً ثمانين سنة من عمر موسى حتى خرج بهم، فيكون جملة مقام بني إسرائيل بمصر حتى أخرجهم موسى مائتين وخمس عشرة سنة. ذكر حكام بني إسرائيل ثم ملوكهم لما مات موسى عليه السلام، لم يتول على بني إسرائيل ملك، بل كان لهم حكام سدوا مسد الملوك ولم يزالوا على ذلك، حتى قام فيهم طالوت، فكان أول ملوكهم على ما ستقف عليه - إن شاء الله تعالى - وهذا الفصل أعني فصل حكام بني إسرائيل وملوكهم، قد كثر الغلط فيه لبعد عهده، ولكونه باللغة العبرانية، فتعسر النطق بألفاظه على الصحة؛ ولهم أجد في نسخ التواريخ التي وقعت لي في هذا الفن، ما أعتمد على صحته، لأن كل نسخة وقفت عليها في هذا الفن، وجدتها تخالف الأخرى، إما في أسماء الحكام، وإما في عددهم، وإما في مدد استيلائهم. ولليهود الكتب الأربعة والعشرون، وهي عندهم متواترة قديمة، ولم تعرب إلى الآن، بل هي باللغة العبرانية، فأحضرت منها سفري قضاة بني إسرائيل وملوكها، وأحضرت إنساناً عارفاً باللغة العبرانية والعربية، وتركته يقرأها، وأحضرت بها ثلاث

ذكر يوشع

نسخ؛ وكتبت منها ما ظهر عندي صحته، وضبطت الأسماء بالحروف والحركات حسب الطاقة، والله الموفق للصواب. ذكر يوشع ولما مات موسى عليه السلام، قام بتدبير بني إسرائيل يوشع بن نون بن اليشاماع بن عميهوذ بن لعدان بن تاحن بن تالح بن راشف بن رافح بن بريعا بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب، وأقام ببني إسرائيل في التيه ثلاثة أيام، ثم ارتحل يوشع ببني إسرائيل، وأتى بهم إلى الشريعة، وهي النهر الذي بالغور، واسمه الأردن، في عاشر نيسان من السنة التي توفي فيها موسى، فلم يجد للعبور سبيلا، فأمر يوشع حاملي صندوق الشهادة الذي فيه الألواح بأن ينزلوا إلى حافة الشريعة، فوقفت الشريعة حتى انكشف أرضها، وعبر بنو إسرائيل، ثم بعد ذلك عادت الشريعة إلى ما كانت عليه. ونزل يوشع ببني إسرائيل على أريحا محاصراً لها، وصار في كل يوم يدور حولها مرة واحدة، وفي اليوم السابع أمر بني إسرائيل أن يطوفوا حول أريحا سبع مرات، وأن يصوتوا بالقرون، فعند ما فعلوا ذلك هبطت الأسوار، ورسخت وتساوت الخنادق بها، ودخل بنو إسرائيل أريحا بالسيف، وقتلوا أهلها. وبعد فراغه من أريحا سار إلى نابلس، إلى المكان الذي بيع فيه يوسف، فدفن عظام يوسف هناك، وكان موسى قد استخرج يوسف من نيل مصر، واستصحبه معه إلى التيه، فبقي معهم أربعين سنة، وتسلمه يوشع، فلما فرغ من سار به ودفنه هناك. وملك يوشع الشام وفرق عماله فيه، واستمر يوشع يدبر بني إسرائيل نحو ثمان وعشرين سنة، ثم توفي يوشع، ودفن في كفر حارس وله من العمر مائة وعشر سنين. ورأيت في تاريخ ابن سعيد المغربي أن يوشع مدفون في المعرة، فلا أعلم هل نقل ذلك، أم أثبته على ما هو مشهور الآن، أقول: فكانت وفاة يوشع سنة ثمان وعشرين لوفاة موسى، وبعد وفاة يوشع قام بتدبيرهم فيخاس بن العزر بن هارون بن عمران، وكالاب بن يوفنا، وكان فيخاس هو الإمام، وكان كالأب يحكم بينهم، وكان أمرهما في بني إسرائيل ضعيفاً. ودام بنو إسرائيل على ذلك سبع عشرة سنة، ثم طغوا وعصوا الله، فسلط الله عليهم كوشان ملك الجزيرة، قيل إنها جزيرة قبرس، وقيل بل كان كوشان المذكور ملك الأرمن، وكان من ولد العيص بن إسحاق، فاستولى على بني إسرائيل، واستعبدهم ثماني سنين، فاستغاثوا إلى الله تعالى. وكان لكالاب أخ من أمه يقال له عثنيال بن قناز، فأقام كالأب المذكور أخاه عثنيال على بني إسرائيل، أقول فكان خلاص بني إسرائيل من كوشان المذكور في سنة اثنتين وخمسين لوفاة موسى عليه السلام، لأن كوشان حكم عليهم ثماني سنين، وفيخاس بفاء مشربة بتاء موحدة ثم ياء مثناه من تحتها ممالة ثم نون ساكنة ثم جاء مهملة ثم آلف ممالة وسين مهملة - ثم قام فيهم

أهوذ

بعد استيلاء كوشان عثنيال بن قناز من سبط يهوذا، وأزال ما كان على بني إسرائيل لصاحب الجزيرة من القطيعة، وأصلح حال بني إسرائيل. وكان عثنيال رجلا صالحاً واستمر يدبر أمر بني إسرائيل أربعين سنة وتوفي، أقول: فتكون وفاته في أواخر سنة اثنتين وتسعين لوفاة موسى - عثنيال بعين مهملة وثاء مثلثة ساكنة ونون مكسورة وياء مثناه من تحتها مهموزة وألف ولام - ثم من بعد وفاة عثنيال، أكثر بنو إسرائيل المعاصي، وعبدوا الأصنام، فسلط الله عليهم عغلوان ملك موآب من ولد لوط، واستعبد بني إسرائيل، فاستغاثت بنو إسرائيل إلى الله أن ينقذهم من عغلون المذكور، واستمر بنو إسرائيل تحت مضايقة عغلون ثماني عشرة سنة، فيكون خلاصهم منه في أواخر سنة عشر ومائة لوفاة مرسى - عغلون. بفتح العين المهملة وسكون الغين المعجمة وضم اللام وسكون الواو ثم نون -. أهوذ ثم أقام الله لبني إسرائيل أهوذ من سبط بنيامين، وكف أهوذ عنهم أذية عغلون ومضايقته، وأقام أهوذ يدبرهم ثمانين سنة، فيكون وفاة أهوذ في أواخر سنة تسعين ومائة لوفاة موسى - أهوذ بفتح الهمزة وضم الهاء وسكون الواو ثم ذال معجمة - ولما مات أهوذ قام بتدبيرهم بعده شمكار بن عنوث دون سنة، أقول فتكون ولاية شمكار ووفاته في سنة إحدى وتسعين ومائة لوفاة موسى عليه السلام - شمكار بفتح الشين المثلثة وسكون الميم وكاف وألف وراء مهملة - ثم طغى بنو إسرائيل فأسلمهم الله تعالى في يد بعض ملوك الشام، واسمه يابين، فاستعبدهم عشرين سنة، حتى خلصوا منه، فيكون خلاصهم من يابين المذكور في أواخر سنة إحدى عشرة ومائتين لوفاة موسى. باراق بن أبي نعيم ثم قام فيهم رجل من سبط نعتالي، يقال له: باراق بن أبي نعم، وامرأة يقال لها دبورا، فقهر يابين، ودبرا أمور بني إسرائيل أربعين منه، أقول فيكون انقضاء مدتهما في أواخر سنة إحدى وخمسين ومائتين لوفاة موسى عليه السلام - باراق: بباء موحدة من تحتها، وألف وراء مهملة وألف وقاف. كذعون بن يواش ثم إن بني إسرائيل أخطأوا، وارتكبوا المعاصي لغير مدبر لهم من بني إسرائيل مدة سبع سنين، واستولى عليهم أعداؤهم من أهل مدين في تلك المدة، أقول: فيكون آخر مدة هذه الفترة في أواخر سنة ثمان وخمسين ومائتين من وفاة موسى عليه السلام، فاستغاثوا إلى الله فأقام فيهم كذعون بن يواش، فقتل أعداءهم وأقام منار دينهم، واستمر فيهم كذلك أربعين سنة، أقول فيكون وفاته في أواخر سنة ثمان وتسعين ومائتين لوفاة موسى - كذعون بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة وضم العين المهملة وواو ونون - ثم قام فيهم بعد كذعون ابنه أبيمالخ ثلاث سنين، فيكون وفاته في أواخر سنه إحدى وثلاثمائة لوفاة موسى عليه السلام - أبيمالخ بهمزة وباء موحدة من تحتها ثم ياء مثناه من تحتها وميم وألف ولام وخاء معجمة. أبيمالخ ثم قام فيهم بعد أبيمالخ المذكور رجل من سبط يشسوخر، يقال له يؤاإير الجرشي، اثنتين وعشرين سنة، فيكون وفاته لمضي ثلاثمائة وثلاث وعشرين

يفتح الجرشي

سنة من وفاة موسى - يوءاإير: بضم الياء المثناه من تحتها وهمزة مفتوحة ثم ألف ثم همزة مكسورة وياء مثناه من تحتها وراء مهملة - ثم إن بني إسرائيل أخطأوا وارتكبوا المعاصي، فسلط الله تعالى عليهم بني عمون، وهم من ولد لوط، وكان ملك بني عمون إذ ذاك يقال له: أمونيطو، فاستولى على بني إسرائيل ثماني عشرة سنة، حتى خلصوا منه، فيكون انقضاء مدته في أواخر سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة لوفاة موسى. يفتح الجرشي ثم استغاث بنو إسرائيل إلى الله تعالى، فأقام فيهم رجلا اسمه يفتح الجرشي من سبط منشا، فكفاهم شر بني عمون، وقتل من بني عمون خلقاً كثيراً، ودبرهم ست سنين، فتكون وفاته في أواخر سنة ثلاثمائة، سبع وأربعين - يفتح بضم الياء المثناة من تحتها وسكون الفاء وضم التاء المثناة من فوق وحاء مهملة. أبصن ثم قام فيهم من بعد بفتح رجل من سبط يهوذا اسمه أبصن سبع سنين، فتكون وفاته في أواخر سنة أربع وخمسين وثلاثمائة لوفاة موسى عليه السلام - أبصن: بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة من تحتهما وضم الصاد المهملة ثم نون. آلون ثم دبرهم بعد أبصن رجل اسمه آلون من سبط زبولون عشر سنين، فيكون وفاته في سنة أربع وستين وثلاثمائة لوفاة موسى - آلون بهمزة ممدودة ممالة وضم اللام ثم واو ونون. ثم دبرهم بعد آلون رجل اسمه عبدون بن هلال من سبط أفرايم بن يوسف ثماني سنين، فيكون وفاته في أواخر سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة لوفاة موسى - عبدون بفتح العين المهملة. وسكون الياء الموحدة وضم الدال المهملة ثم واو ونون. شمشون بنمانوح ثم أخطأوا وعملوا بالمعاصي، فسلط الله أهل فلسطين، واستولوا عليهم أربعين سنة، فيكون آخر استيلاء أهل فلسطين عليهم في أواخر سنة اثنتي عشرة وأربعمائة لوفاة موسى، فاستغاثوا إلى الله عز وجل فأقام فيهم رجلا اسمه شمشون ابن مانوح من سبط دان. وكان لشمشون المذكور قوة عظيمة، ويعرف بشمشون الجبار، فدافع أهل فلسطين ودبر بني إسرائيل عشرين سنة، ثم غلبه أهل فلسطين، وأسروه، ودخل إلى كنيستهم، وكانت مركبة على أعمدة، فأمسك العواميد، وحركها بقوة، حتى وقعت الكنيسة، فقتلته، وقتلت من كان فيها من أهل فلسطين، وكان منهم جماعة من كبارهم، فيكون انقضاء مدة تدبير شمشون المذكور لهم في أواخر سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة لوفاة موسى - شمشون بفتح الشين المعجمة وسكون الميم شين معجمة مضمومة ثم واو ونون -. إيثامور بن هارون ثم كانت فترة، وصار بنو إسرائيل بغير مدبر منهم، عشر سنين، فيكون انقضاء مدة الفترة في أواخر سنة اثنتين وأربعين وأربع مائة لوفاة موسى. ثم قام فيهم رجل من ولد إيثامور بن هارون بن عمران اسمه عالي الكاهن، وأصل الكاهن في لغتهم كوهن، ومعناه الإمام، وكان عابي المذكور رجلا صالحاً فدبر بني إسرائيل أربعين سنة، وكان عمره لما ولي ثمانياً وخمسين سنة، فيكون مدة عمره ثمانياً وتسعين سنة. وفي أول سنة من ولايته، ولد شمويل النبي بقرية النبي على باب القدس، يقال لهما شيلو،

داود

وفي السنة الثالثة والعشرين من ولاية عالي المذكور ولد داود النبي عليه السلام. فيكون وفاة عالي المذكور في أواخر سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة لوفاة موسى - عالي بعين مهملة على وزن فاعل -. شمويل النبي ثم دبر بني إسرائيل، شمويل النبي، وكان قد تنبأ لما صار له من العمر أربعون سنة، وذلك عند وفاة عالي، فدبر شمويل بني إسرائيل إحدى عشرة سنة، ومنتهى هذه الإحدى عشرة هي آخر سني حكام بني إسرائيل وقضاتهم، فإن جميع من ذكر من حكام بني إسرائيل، كانوا بمنزلة القضاة، وسدوا مسد ملوكهم. طالوت بن قيش وبعد الإحدى عشرة سنة التي دبرهم شمويل المذكور قام لبني إسرائيل ملوك على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، فيكون انقضاء سني حكامهم في سنة ثلاث وتسعين وأربع مائة لوفاة موسى، ثم حضر بنو إسرائيل إلى شمويل، وسألوه أن يقيم فيهم ملكاً، فأقام فيهم شاول، وهو طالوت بن قيش من سبط بنيامين، ولم يكن طالوت من أعيانهم، قيل: إنه كان راعياً، وقيل: سقاء، وقيل: دباغاً، ملك طالوت سنتين، واقتتل هو وجالوت. وكان جالوت من جبابرة الكنعانيين، وكان ملكه بجهات فلسطين، وكان من الشدة، وطول القامة، بمكان عظيم. فلما برز للقتال لم يقدر على مبارزته أحد، فذكر شمويل علامة الشخص الذي يقتل جالوت، فاعتبر طالوت جميع عسكره، فلم يكن فيهم من يوافقه تلك العلامة. وكان داود عليه السلام أصغر بني أبيه، وكان يرعى غنم أبيه وأخوته، فطلبه طالوت، واعتبره شمويل بالعلامة، وهي دهن كان يستدير على رأس من يكون فيه السر وأحضر أيضاً تنور حديد، وقال: الشخص الذي يقتل جالوت يكون ملء هذا التنور؛ فلما اعتبر داود ملء التنور، واستدار الدهن على رأسه؛ ولما تحقق ذلك العلامة، أمره طالوت بمبارزة جالوت، فبارزه، وقتل داود جالوت، وكان عمر داود إذ ذاك ثلاثين سنة. ثم بعد ذلك مات شمويل، فدفنته بني إسرائيل في الليل، وناحوا عليه، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة، وأحب الناس داود، ومالوا إليه، فحسده طالوت، وقصد قتله مرة بعد أخرى، فهرب داود منه، وبقي متحرراً على نفسه، وفي آخر الحال، إن طالوت ندم على ما كان منه من قصد قتل داود، وغير ذلك مما وقع منه، وقصد أن يكفر لله تعالى عنه ذنوبه، بموته في الغزاة، فقصد الفلسطينيين وقاتلهم، حتى قتل هو وأولاده في الغزاة، فيكون موت طالوت في أواخر سنة خمس وتسعين وأربعمائة لوفاة موسى. ولما قتل طالوت افترقت الأسباط، فملك على أحد عشر سبطاً إيش بوشت بن طالوت، واستمر إيش بوشت ملكاً على الأسباط المذكورين في ثلاث سنين، وانفرد عن إيش بوشت سبط يهوذا فقط، وعلك عليهم داود بن بيشار ابن عوفيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون بن عمينوذب بن رم بن حصرون بن بارص يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام، وحزن داود على طالوت، ولعن موضع مصرعه. وكان مقام داود بحبرون، فلما استوثق له الملك، ودخلت جميع الأسباط تحت طاعته، وذلك في سنة ثمان وثلاثين من عمر داود، انتقل إلى القدس. ثم إن داود فتح في الشام فتوحات كثيرة من أرض فلسطين، وبلد عمان، ومؤاب وحلب ونصيبين وبلاد الأرمن

سليمان

وغير ذلك. ولما أوقع داود بصاحب حلب وعسكره، وكان صاحب حماة إذ ذاك اسمه ثاعو، وكان بينه وبين صاحب حلب عداوة، فأرسل صاحب حماة ثاعو المذكور وزيره بالسلام والدعاء إلى داود، وأرسل معه هدايا كثيرة فرحاً بقتل صاحب حلب. ولما صار لداود ثمان وخمسون سنة، وهي السنة الثامنة والعشرون من ملكه، كانت قصته مع أوريا وزوجته، وهي واقعة مشهورة، وفي سنة ستين من عمر داود، خرج عليه ابنه ابشولوم بن داود، فقتله بعض قواد بني إسرائيل، وملك داود أربعين سنة. ولما صار لداود سبعون سنة توفي، فيكون وفاة داود في أواخر سنة خمس وثلاثين وخمس مائة لوفاة موسى، وأوصى داود قبل موته بالملك إلى سليمان ولده، وأوصاه بعمارة بيت المقدس، وعين لذلك عدة بيوت أموال، تحتوي على جمل كثيرة من الذهب. سليمان فلما مات داود ملك سليمان وعمره اثنتا عشرة سنة، وآتاه الله من الحكمة والملك ما لم يؤته لأحد سواه؛ على ما أخبر الله عز وجل به في حكم كتابه العزيز. وفي السنة الرابعة من ملكه، في شهر أيار وهي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة لوفاة موسى، ابتدأ سليمان عليه السلام في عمارة بيت المقدس، حسبما تقدمت به وصية أبيه إليه، وأقام سليمان في عمارة بيت المقدس سبع سنين، وفرغ منه في السنة الحادية عشرة من ملكه، فيكون الفراغ من عمارة بيت المقدس في أواخر سنة ست وأربعين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام. وكان ارتفاع البيت الذي عمره سليمان ثلاث ذراعاً، وطوله ستين ذراعاً في عرض عشرين ذراعاً، وعمل خارة البيت سوراً محيطاً به، امتداده خمسمائة ذراع في خمس مائة ذراع. ثم بعد ذلك شرع سليمان في بناء دار مملكة بالقدس، واجتهد في عمارتها وتشييدها، وفرغ منها في مدة ثلاث عشرة سنة، وانتهت عمارتها في السنة الرابعة والعشرين من ملكه. وفي السنة الخامسة والعشرين من ملكه جاءته بلقيس ملكة اليمن، ومن معها، وأطاعه جميع ملوك الأرض، وحملوا إليه نفائس أموالهم، واستمر سليمان على ذلك حتى توفي، وعمره اثنتان وخمسون سنة، فكانت مدة ملكه أربعين سنة، فيكون وفاة سليمان عليه السلام، في أواخر سنة خمس وسبعين وخمسمائة لوفاة موسى. رحبعم ولما توفي سليمان ملك بعده ابنه رحبعم، وكان رحبعم المذكور رديء الشكل، شنيع المنظر، فلما تولى حضر إليه كبراء بني إسرائيل، وقالوا له: إن أباك سليمان كان ثقيل الوطأة علنا، وحملنا أموراً صعبة، فإن أنت خففت الوطأة عنا، وأزلت عنا ما كان أبوك قد قرره علينا، سمعنا لك، وأطعناك، فأخر رحبعم جوابهم إلى ثلاثة أيام، واستشار كبراء دولة أبيه في جوابهم، فأشاروا بتطييب قلوبهم، وإزالة ما يشكونه. ثم إن رحبعم استشار الأحداث، ومن لم يكن له معرفة، فأشاروا بإظهار الصلابة والتشديد على بني إسرائيل، لئلا يحصل لهم الطمع. فلما حضروا إلى رحبعم ليسمعوا جوابه، قال لهم: أنا خنصري أغلظ من ظهر أبي وما كنتم تخشونه من أبي، فإنني أعاقبكم بأشد منه، فعند ذلك خرج عن طاعته

يربعم

عشرة أسباط، ولم يبق مع رحبعم غير سبطي يهوذا وبنيامين فقط، وملك على الأسباط العشرة رجل من عبيد أبيه سليمان، اسمه: يربعم. يربعم وكان يربعم المذكور فاسقاً كافراً، وافترقت حينئذ مملكة بني إسرائيل، واستقر لولد داود الملك على السبطين فقط، أعني سبطي يهوذا وبنيامين، وصار للأسباط العشرة ملوك تعرف بملوك الأسباط، واستمر الحال على ذلك نحو مائتين وإحدى وستين سنة، وكانت ولد سليمان في بني إسرائيل، بمنزلة الخلفاء للإسلام، لأنهم أهل الولاية، وكانت ملوك الأسباط مثل ملوك الأطراف والخوارج. وارتحلت الأسباط إلى جهات فلسطين وغيرها بالشام، واستقر ولد داود ببيت المقدس، ونحن نقدم ذكر بني داود إلى حيث اجتمعت لهم المملكة على جميع الأسباط، ثم بعد ذلك نذكر ملوك الأسباط متتابعين إن شاء الله تعالى، فنقول: واستمر رحبعم ملكاً على السبطين حسبما شرح، حتى دخلت السنة الخامسة من ملكه، فيها غزاه فرعون مصر، واسمه شيشاق، ونهب مال رحبعم، المخلف عن سليمان. واستمر رحبعم على ما استقر له من الملك، وزاد في عمارة بيت لحم، وعمارة غزة وصور وغير ذلك من البلاد، وكذلك عمر أيلة وجددها، وولد لرحبعم ثمانية وعشرون ولداً ذكراً غير البنات، وملك رحبعم سبع عشرة سنة، وكانت مدة عمره إحدى وأربعين سنة، أقول: فيكون وفاة، رحبعم في أواخر سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة لوفاة موسى - رحبعم براء مهملة لم أتحقق حركتها وضم الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وضم العين المهملة ثم ميم. أفيا ولما توفي رحبعم، ملك بعده وعلى قاعدته، ابنه أخيا ثلاث سنين، فيكون وفاة أفيا في أواخر سنة خمس وتسعين وخمس مائة لوفاة موسى - وأفيا بفتح الهمزة وكسر الفاء التي هي بين الفاء والذال على مقتضى اللغة العبرانية وتشديد الياء المثناة من تحتها ثم ألف -. أسا ولما توفي أفيا ملك بعده ابنه أسا إحدى وأربعين سنة، وخرج على أسا عدو فهزم الله العدو، بين يدي أسا، وقيل: إن العدو كان من الحبشة، وقيل: من الهنود، أقول فكانت وفاة أسا في أواخر سنة ست وثلاثين وستمائة لوفاة موسى - أسا بضم الهمزة وفتح السين المهملة ثم ألف يهوشافاط ثم ملك بعد أسا ابنه: يهوشافاط خمساً وعشرين سنة. وكان عمر يهوشافاط لما ملك، خمساً وثلاثين سنة، وكان يهوشافاط رجلا صالحاً كثير العناية بعلماء بني إسرائيل، وخرج على يهوشافاط من ولد العيص، وجاءا في جمع عظيم، وخرج يهوشافاط لقتالهم، فألقى الله بين أعدائه الفتنة، واقتتلوا فيما بينهم، حتى انمحقوا وولوا منهزمين، فجمع يهوشافاط منهم غنائم كثيرة، وعاد بها إلى القدس مؤيداً منصوراً، واستمر في ملكه خمساً وعشرين سنة، وتوفي، فتكون وفاته في أواخر سنة إحدى وستين وستمائة - ويهوشافاط بفتح الياء المثناة من تحتها وضم الهاء وسكون الواو وفتح الشين المعجمة وبعدها ألف ثم فاء وألف ثم طاء مهملة. يهورام ثم ملك بعد يهوشافاط ابنه يهورام وكان عمر يهورام لما ملك اثنتين وثلاثين سنة، وملك ثماني سنين،

أحزياهو

فيكون وفاته في أواخر سنة تسع وستين وستمائة - ويهورام بفتح الياء المثناة من تحتها وضم الهاء وسكون الواو وراء مهملة ثم ألف وميم. أحزياهو ولما مات يهورام ملك بعده ابنه أحزياهو، وكان عمره لما ملك اثنتين وأربعين سنة، وملك سنتين، فيكون وفاته في أواخر سنة إحدى وسبعين وستمائة، - وأحزياهو بفتح الهمزة والحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة ثم مثناة من تحتها ثم ألف وهاء وواو. عثليا هو ثم كان بعد أحزياهو فترة بغير ملك، وحكمت في الفترة المذكورة امرأة ساحرة، أصلها من جواري سليمان عليه السلام، واسمها عثليا هو وتتبعت بني داود فأفنتهم، وسلم منها طفل أخفوه عنها، وكان اسم الطفل يؤاش بن أحزيو، واستولت عثليا هو كذلك سبع سنين، فيكون آخر الفترة. عثليا هو يؤاش وعدم عثليا هو في أواخر سنة ثمان وسبعين وستمائة لوفاة موسى عليه السلام، ثم ملك بعد عثليا هو يؤاش وهو ابن سبع سنين، وفي السنة الثالثة والعشرين من ملكه، رمم بيت المقدس، وجدد عمارته، وملك يؤاش أربعين سنة، فيكون وفاته في أواخر سنة ثماني عشرة وسبع مائة لوفاة موسى - ويؤاش: بضم المثناة من تحتها ثم همزة وألف وشين معجمة -. أمصيا ثم ملك بعد يؤاش ابنه أمصيا هو، وكان عمره لما ملك خمساً وعشرين سنة، وملك تسعاً وعشرين سنة، وقيل: خمس عشرة، وقتل، فيكون موته في أواخر سنة سبع وأربعين وسبعمائة لوفاة موسى عليه السلام - وأمصيا هو بفتح الهمزة وفتح الميم وسكون الصاد المهملة ومثناة من تحتها وألف وهاء وواو. عزياهو ثم ملك بعده عزياهو وكان عمره لما ملك ست عشرة سنة، وملك اثنتين وخمسين سنة، ولحقه البرص، وتنغصت عليه أيامه، وضعف أمره في آخر وقت، وتغلب عليه ولده يوثم، فيكون وفاة عزياهو في أواخر سنة تسع وتسعين وسبع مائة لوفاة موسى - وعزياهو: بضم العين المهملة وتشديد الزاي المعجمة ثم مثناة من تحتها وألف وهاء وواو. يوثم ثم ملك بعد عزياهو ابنه يوثم، وكان عمر يوثم لما ملك خمساً وعشرين سنة، وملك ست عشرة سنة، فيكون وفاته في سنة خمس عشرة وثمانمائة لوفاة موسى - ويوثم: بضم المثناة من تحتها وسكون الواو وقح الثاء المثلثلة ثم ميم - وقيل: إن في أيامه كان يونس النبي عليه السلام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. آحز ولما توفي يوثم ملك بعده ابنه آحز، وكان عمر آحز لما ملك - عشرين سنة، وملك ست عشرة سنة. وفي السنة الرابعة من ملكه قصده ملك دمشق، واسمه رصين وكان أشعيا النبي في أيام آحز فبشر آحز أن الله تعالى يصرف رصين بغير حرب، فكان كذلك، فيكون وفاة آحز، في أواخر سنة إحدى وثلاثين وثمان مائة - وآحز بهمزة ممدودة ممالة وحاء مهملة ممالة أيضاً ثم زاي معجمة. حزقيا ولما توفي آحز المذكور ملك بعده ابنه: حزقيا، وكان رجلا صالحاً مظفراً، ولما دخلت السنة السادسة من ملكه، انقرضت دولة الخوارج، ملوك الأسباط الذين قدمنا ذكرهم عند ذكر رحبعم بن سليمان، ونحن نذكرهم الآن مختصراً من أولهم إلى حين

سنحاريب

انتهوا في هذه السنة، أعني: السنة السادسة من ملك حزقيا، ثم إذا فرغنا من ذكرهم، نعود إلى ذكر حزقيا، ومن ملك بعده، فنقول: إن ملوك الأسباط المذكورين، خرجوا - بعد وفاة سليمان - على رحبعم بن سليمان، في أوائل سنة ست وسبعين وخمسمائة، وانقرضوا في سنة سبع وثلاثين وثمانمائة، فيكون مدة ملكهم مائتين وإحدى وستين سنة، وعددهم سبعة عشر ملكاً، وهم: يربعم ونوذب وبعشو وإيلا، وزمري وبني وعمري وآحؤب، وأحزيو وياهورا، وياهو، ويهوياحاز ويؤاش ويربعم آخر وبقحيوء، وياقح وهو شاع، وملك المذكورون في المدة المذكورة أعني مائتين وإحدى وستين سنة تقريباً، وقد ذكر لكل واحد منهم المدة التي هلك فيها، وجمعنا تلك المدد، فلم يطابق ذلك التفصيل هذه الجملة المذكورة، فأضربنا عن ذكر تفصيل مدة ما ملك كل واحد منهم، ونذكر شيئاً من أخباره، فنقول: أما أولهم) فهو يربعم، فكان من عبيد سليمان بن داود، وكان يربعم المذكور كافراً، فلما ملك أظهر الكفر وعبادة الأوثان، وفي السنة الثامنة عشر من ملك يربعم توفي رحبعم بن سليمان. وأما ثانيهم نؤذب، فهو ابن يربعم المذكور. وأما ثالثهم بعشو فهو ابن آخيا من سبط يشوخر. وأما رابعهم: إيلا فهو ابن بعشو المذكور، وكان مقدم جيشه زمري، فقتل إيلا وتولى زمري مكانه. وخامسهم: زمري المذكور، أحرق في قصره. وأما سادسهم تبني: فإنه ولي الملك خمس سنين بشركة عمري. وأما سابعهم عمري: فإنه بعد موت تبني استقل بالملك بمفرده. وعمري المذكور هو الذي بني صبصطية، وجعلها دار ملكه. وأما ثامنهم أحؤب: فهو ابن عمري، وقتل في حرب كانت بينه وبين صاحب دمشق. وأما تاسعهم أحزبو: فهو ابن أحؤب المذكور، وكان موته بأن سقط من روشن له فات. وأما عاشرهم ياهورام: فهو وأخو أحزيو المذكور، وكان في أيامه الغلاء. وأما حادي عشرهم ياهو: فهو ابن نمشي. وأما ثاني عشرهم يهوياحاز: فهو ابن ياهو المذكور. وأما: ثالث عشرهم يؤاش: فهو ابن يهوياحاز. وأما رابع عشرهم يربعم الثاني: فهو ابن يؤاش، وقوي في مدة ملكه، وارتجع عدة من قرى بني إسرائيل، كانت قد خرجت عنهم من حماة إلى كنسر، وعلى عهده كان يونس النبي عليه السلام. وأما خامس عشرهم يقحيوء فإن مدته لم تطل، وأما سادس عشرهم باقح، فعلى أيامه حضر ملك الجزيرة وغزا الأسباط المذكورين، وأخذ منهم جماعة إلى بلده، وأجلى بعضهم إلى خراسان، وأما سابع عشرهم هو شاع، فهو ابن إيلا، ولما تولى أطاع صاحب الجزيرة، واسمه سلمناصر وقيل فلنصر، وبقي هو شاع في طاعته تسع سنين، ثم عصاه، فأرسل صاحب الجزيرة المذكور، وحاصره ثلاث سنين، وفتح بلده صبصطية، وأجلاه وقوه إلى بلد خراسان، وأسكن موضعهم السامرة وكان ذلك في السنة السادسة من ملك حزقيا، فانضم من سلم من الأسباط إلى حزقيا، ودخلوا تحت طاعته. سنحاريب وملك حزقيا تسعاً وعشرين سنة،

أسرحدون

وكان عمره لما ملك عشرين سنة، وكان من الصلحاء الكبار، وكان قد فرغ عمره قبل موته بخمس عشرة سنة، فزاده الله تعالى في عمره خمس عشرة سنة، وأمره أن يتزوج وأخبره بذلك نبي كان في زمانه. وفي أيام ملك حزقيا، قصده سنحاريب ملك الجزيرة، فخذله الله تعالى، ووقعت الفتنة في عسكره فولى راجعاً، ثم قتله اثنان من أولاده في نينوى، وكان أشعيا النبي قد أخبر بني إسرائيل أن الله تعالى يكفيهم شر سنحاريب بغير قتال، ثم إن ولديه اللذين قتلاه في نينوى، هربا إلى جبال الموصل، ثم سار إلى القدس، فأمنا بحزقيا، وكان اسمهما اذرمالخ وشراصر. أسرحدون وملك بعد سنحاريب ابنه الآخر، واسمه اسرحدون، وعظم بذلك أمر حزقيا، وهادنته الملوك، وملك حسبما ذكرنا تسعاً وعشرين سنة، وتوفي، فيكون وفاة حزقيا في أواخر سنة ستين وثمانمائة لوفاة موسى عليه السلام - حزقيا بكسر الحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة وكسر القاف وتشديد الياء المثناة من تحتها ثم ألف -. منشا ثم ملك بعده ابنه منشا، وكان عمره لما ملك اثنتي عشرة سنة، فعصى لما تملك، وأظهر العصيان والفسق والطغيان مدة اثنتين وعشرين سنة من ملكه، غزاه صاحب الجزيرة. ثم إن منشا أقلع عما كان منه، وتاب إلى الله توبة نصوحاً حتى مات، وكانت مدة ملكه خمساً وخمسين سنة، فيكون وفاته في أواخر سنة تسعمائة وخمس عشرة - منشا بميم لم يتحقق حركتها ونون مفتوحة وشين معجمة مشددة وألف - ثم ملك بعده ابنه آمون سنتين، فيكون وفاته في أواخر سنة سبع عشرة وتسع مائة لوفاة موسى - آمون بهمزة ممالة وميم مضمومة ثم واو ونون - ثم ملك بعده ابنه يوشيا، ولما ملك أظهر الطاعة والعبادة، وجدد عمارة بيت المقدس، وأصلحه. وملك يوشيا المذكور إحدى وثلاثين سنة، فيكون وفاته في أواخر سنة ثمان وأربعين وتسعمائة - يوشيا بضم المثناة من تحتها وسكون الواو وكسر الشين المعجمة وتشديد المثناة من تحتها ثم ألف. ثم ملك بعده ابنه يهوياحوز ولما ملك يهوياحوز، غزاه فرعون مصر وأظنه فرعون الأعرج، وأخذ يهوياحوز أسيراً إلى مصر فمات بها، وكانت مدة ملكه ثلاثة أشهر، فيكون انقضاء مدة ملكه في السنة المذكورة - أعني سنة ثمان وأربعين وتسعمائة أو بعدها بقليل -. يهوياقيم ولما أسر يهوياحوز، ملك بعده أخوه يهوياقيم، وفي السنة الرابعة من ملكه تولى بخت نصر على بابل - وهي سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة لوفاة موسى - وذلك على حكم ما اجتمع لنا من مدد ولايات حكام بني إسرائيل، والفترات التي كانت بيتهم، وأما ما اختاره المؤرخون فقالوا: إن من وفاة موسى عليه السلام، إلى ابتداء ملك بخت نصر، تسعمائة وثمانية وسبعين سنة ومائتين وثمانية وأربعين يوماً، وهو يزيد على ما اجتمع لنا من المدد المذكورة فوق ست وعشرين سنة، وهو تفاوت قريب، وكأن هذا النقص إنما حصل من إسقاط اليهود كسورات المدد المذكورة، فإنه من المستبعد أن يملك الشخص عشرين سنة، أو تسع عشرة سنة - مثلا -

صدقيا

بل لا بد من أشهر وأيام مع ذلك. بخت نصر فلما ذكروا لكل شخص مدة صحيحة سالمة من الكسر، نقصت جملة السنين القدر المذكور - أعني ستاً وعشرين سنة وكسوراً - وحيث انتهينا إلى ولاية بخت نصر، فنؤرخ منه ما بعده - إن شاء الله تعالى - وكان ابتداء ولاية بخت نصر في سنة تسع وسبعين وتسعمائة لوفاة موسى عليه السلام. وفي السنة الأولى من ولاية بخت نصر، سار إلى نينوى - وهي مدينة قبالة الموصل، بينهما دجلة - ففتحها وقتل أهلها وخربها. وفي السنة الرابعة من ملكه - وهي السابعة من ملك يهوياقيم - سار بخت نصر بالجيوش إلى الشام، وغزا بني إسرائيل، فلم يحاربه. يهوياقيم ودخل تحت طاعته، فبقاه بخت نصر على ملكه، وبقي يهوياقيم تحت طاعة بخت نصر ثلاث سنين، ثم خرج عن طاعته، وعصى عليه، فأرسل بخت نصر وأمسك يهوياقيم، وأمر بإحضاره إليه فمات يهوياقيم في الطريق من الخوف، فتكون مدة يهوياقيم نحو إحدى عشرة سنة، ويكون انقضاء ملك يهوياقيم في أوائل سنة ثمان لابتداء ملك بخت نصر - يهوياقيم بفتح المثناة من تحتها وضم الهاء وواو ساكنة وياء مثناة من تحتها وألف وقاف مكسورة، وياء مثناة من تحتها ساكنة وميم. لما أخذ يهوياقيم المذكور إلى العراق، استخلف مكانه ابنه - وهو يخنيو - فأقام يخنيو موضع أبيه مائة يوم، ثم أرسل بخت نصر من أخذه إلى بابل - يخنيو بفتح المثناة من تحتها وفتح الخاء المعجمة وسكون النون، وضم المثناة من تحتها، ثم واو. ولما أخذ بخت نصر يخنيو إلى العراق أخذ معه أيضاً جماعة من علماء بني إسرائيل، من جملتهم دانيال وحزقال النبي، وهو من نسل هارون، وحال وصول يخنيو سجنه بخت نصر، ولم يبرح مسجوناً حتى مات بخت نصر، ولما أمسك بخت نصر يخنيو نصب مكانه على بني إسرائيل عم يخنيو المذكور، وهو صدقيا. صدقيا واستمر صدقيا تحت طاعة بخت نصر، وكان إرميا النبي في أيام صدقيا، فبقي يعظ صدقيا وبني إسرائيل، ويهددهم ببخت نصر، وهم لا يلتفتون. وفي السنة التاسعة من ملك صدقيا عصى على بخت نصر، فسار بخت نصر بالجيوش، ونزل على بارين ورفنية، وبعث الجيوش مع وزيره، واسمه نبو زرذون - بفتح النون وضم الباء الموحدة وسكون الواو وفتح الزاي والراء المهملة وسكون الألف وضم الذال المعجمة وسكون الواو وفي آخرها نون - إلى حصار صدقيا بالقدس، فسار الوزير الكذكور بالجيش وحاصر صدقيا مدة سنتين ونصف، أولها عاشر تموز من السنة التاسعة لملك صدقيا، وأخذ بعد حصاره المدة المذكورة القدس بالسيف، وأخذ صدقيا أسيراً، وأخذ معه جملة كثيرة من بني إسرائيل، وأحرق القدس، وهدم البيت الذي بناه سليمان، وأحرقه وأباد بني إسرائيل قتلا وتشريداً. فكان مدة ملك صدقيا نحو إحدى عشرة سنة، وهو آخر ملوك بني إسرائيل. وأما من تولى بعده من بني إسرائيل، بعد إعادة عمارة بيت المقدس - على ما سنذكره - فإنما كان له الرئاسة بيت المقدس فحسب، لا غير ذلك، فيكون انقضاء ملوك بني إسرائيل، وخراب بيت المقدس على يد بخت نصر سنة عشرين من ولاية بخت نصر تقريباً،

وهي السنة التاسعة والتسعون وتسعمائة لوفاة موسى عليه السلام، وهي أيضاً سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة مضت من عمارة بيت المقدس، وهي مدة لبثه على العمارة، واستمر بيت المقدس خراباً سبعين سنة، ثم عمر على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وإلى هنا انتهى نقلنا عن كتب اليهود المعروفة بالأربعة والعشرين المتواترة عندهم، وقربنا في ضبط هذه الأسماء غاية ما أمكننا، فإن فيها أحرفاً ليست من حروف العربية، وفيها إمالات ومدات لا يمكن أن تعلم بغير مشافهة، لكن ما ذكرناه من الضبط، هو أقرب ما يمكن، فليعلم ذلك. ومن تجارب الأمم لابن مسكويه قال: إن بخت نصر لما غزا القدس وخربه وأباد بني إسرائيل، هرب من بني إسرائيل جماعة، قاموا بمصر عند فرعون، فأرسل بخت نصر إلى فرعون مصر يطلبهم منه، وقال: هؤلاء عبيدي، وقد هربوا إليك، فلم يسلمهم فرعون مصر، وقال: ليس هم بعبيدك، وإنما هم أحرار، وكان هذا هو السبب لقصد بخت نصر غزو مصر، وهرب منهم جماعة إلى الحجاز، وأقاموا مع العرب. من كتاب أبي عيسى: إن بخت نصر لما فرغ من خراب القدس وبني إسرائيل، قصد مدينة صور، فحاصرها مدة، وإن أهل صور جعلوا جميع أموالهم في السفن، وأرسلوها في البحر، فسلط الله تعالى على تلك السفن ريحاً، فغرقت أموالهم عن آخرها. وجد بخت نصر في حصارها، وحصل لعسكره منهم جراحات كثيرة وقتل، وما زال على ذلك حتى ملكها بالسيف، وقتل صاحب صور، لكنه لم يجد فيها من المكاسب ماله صورة. ثم سار بخت نصر إلى مصر، والتقى هو وفرعون الأعرج، فانتصر بخت نصر عليه، ومتله وصلبه، وحاز أموال مصر وذخائرها، وسبا من كان بمصر من القبط وغيرهم، فصارت مصر بعد ذلك خراباً أربعين سنة، ثم غزا بلاد المغرب، وعاد إلى بلاده ببابل، وسنذكر أخبار بخت نصر ووفاته. مع ملوك الفرس - إن شاء الله تعالى. وأما بيت المقدس فإنه عمر بعد لبثه على التخريب سبعين سنة، وعمره بعض ملوك الفرس - واسمه عند اليهود كيرش - وقد اختلف في كيرش المذكور: من هو؟. فقيل: دارا بن بهمن، وقيل: بل هو بهمن المذكور، وهو الأصح، ويشهد لصحة ذلك كتاب إشعيا على ما سنذكر ذلك عند ذكر أزدشير بهمن المذكور مع ملوك الفرس إن شاء الله تعالى. ولما عادت عمارة بيت المقدس، تراجعت إليه بنو إسرائيل من العراق وغيره، وكانت عمارته في أول سنة سبعين لابتداء ولاية بخت نصر. ولما تراجعت بنو إسرائيل إلى القدس كان من جملتهم عزير وكان بالعراق، وقدم معه من بني إسرائيل ما يزيد على ألفين من العلماء وغيرهم، وترتب مع عزير في القدس مائة وعشرون شيخاً من علماء بني إسرائيل. وكانت التوراة قد عدمت منهم إذ ذاك، فمثلها الله تعالى في صدر العزير، ووضعها لبني إسرائيل يعرفونها بحلالها وحرامها، فأحبوه حباً شديداً، وأصلح العزير أمرهم، وأقام بينهم على ذلك. من كتب اليهود: إن العزير لبث مع بني إسرائيل في القدس يدبر أمرهم، حتى توفي

ذكر يونس بن متى عليه السلام

بعد مضي أربعين سنة لعمارة بيت المقدس. أقول: فيكون وفاة العزير سنة ثلاثين ومائة لابتداء ولاية بخت نصر، واسم العزير بالعبرانية عزرا وهو من ولد فتحاس بن العزر بن هارون بن عمران. ومن كتب اليهود: إن الذي تولى رئاسة بني إسرائيل ببيت المقدس بعد العزير شمعون الصديق وهو أيضاً من نسل هارون. من كتاب أبي عيسى إن بني إسرائيل لما تراجعوا إلى القدر بعد عمارته. صار لهم حكام منهم، وكانوا تحت حكم ملوك الفرس، واستمروا كذلك حتى ظهر الإسكندر في سنة أربع مائة وخمس وثلاثين لولاية بخت نصر. وغلبت اليونان على الفرس، ودخلت حينئذ بنو إسرائيل تحت حكم اليونان، وأمام اليونان من بني إسرائيل ولاة عليهم، وكان يقال للمتولي عليهم هرذوس، وقيل هيروذس، واستمر بنو إسرائيل على ذلك حتى خرب بيت المقدس الخراب الثاني، وتشتت منه بنو إسرائيل على ما سنذكره إن شاء الله تعالى ولنرجع إلى ذكر من كان من الأنبياء في أيام بني إسرائيل. ذكر يونس بن متى عليه السلام ومتى أم يونس عليه السلام، ولم يشتهر نبي بأمه غير عيسى ويونس عليهما السلام. كذا ذكره ابن الأثير في الكامل في ترجمة يونس المذكور، وقد قيل إنه من بني إسرائيل، وإنه من سبط بنيامين، وقيل إن يونس المذكور كانت بعثته بعد يوثم ابن عزياهو أحد ملوك بني إسرائيل المقدم الذكر، وكانت وفاة يوثم في سنة خمس عشرة وثمانمائة لوفاة موسى عليه السلام. وبعث الله تعالى يونس المذكور في تلك المدة إلى أهل نينوى وهي قبالة الموصل، بينهما دجلة - وكانوا يعبدون الأصنام، فنهاهم وأوعدهم العذاب في يوم معلوم إن لم يتوبوا، وضمن ذلك عن ربه عز وجل. فلما أظلهم العذاب آمنوا، فكشفه الله عنهم، وجاء يونس لذلك اليوم، ولم ير العذاب حل، ولا علم بإيمانهم، فذهب مغاضباً. قال ابن سعيد المغربي: ودخل في سفينة من سفن دجلة، فوقفت السفينة، ولم تتحرك، فقال رئيسها: فيكم من له ذنب؟ وتساهموا على من يلقونه في البحر، ووقعت المساهمة على يونس، فرموه، فالتقمه الحوت، وسار به إلى الأبلة، وكان من شأنه ما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز. ذكر إرميا عليه السلام قد تقدم عند ذكر صدقيا أن إرميا كان في أيامه، وبقي إرميا يأمر بني إسرائيل بالتوبة، ويتهددهم ببخت نصر، وهم لا يلتفتون إليه. فلما رأى أنهم لا يرجعون عما هم فيه، فارقهم إرميا واختفى حتى غزاهم بخت نصر وخرب القدس حسبما تقدم ذكره. من تاريخ ابن سعيد المغربي: إن الله تعالى أوحى إلى إرميا إني عامر بيت المقدس، فاخرج إليها، فخرج إرميا وقدم إلى القدس، وهي خراب، فقال في نفسه: سبحان الله، أمرني الله أن أنزل هذه البلدة، وأخبرني أنه عامرها فمتى يعمره؟ ومتى يحييها الله بعد موتها؟ ثم وضع رأسة فنام، ومعه حماره وسلة فيها طعام. وكان من قصته ما أخبر الله تعالى به في محكم كتابه العزيز في

ذكر نفل التوراة

قوله تعالى " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها. قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير " " البقرة: 259 " وقد قيل إن صاحب القصة هو العزير والأصح أنه إرميا. ذكر نفل التوراة وغيرها من كتب الأنبياء من اللغة العبرانية إلى اللغة اليونانية من كتاب أبي عيسى قال: لما ملك الإسكندر، وقهر الفرس، وعظمت مملكة اليونان صار بنو إسرائيل وغيرهم تحت طاعتهم. وتوالت ملوك اليونان بعد الإسكندر، وكان يقال لكل واحد منهم بطلميوس - على ما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى في الفصل الثالث، ولكن نذكر منهم هاهنا ما تدعو الحاجة إلى ذكره فنقول: لما مات الإسكندر، ملك بعده بطليموس بن لاغوس عشرين سنة، ثم ملك بعده بطليموس محب أخيه، وهو الذي نقلت إليه التوراة وغيرها من كتب الأنبياء، من اللغة العبرانية إلى اللغة اليونانية. أقول: فيكون نقل التوراة بعد عشرين سنة مضت لموت الإسكندر. قال أبو عيسى: إن بطلميوس الثاني محب أخيه المذكور، لما تولى وجد جملة من الأسرى، منهم نحو ثلاثين ألف نفس من اليهود، فأعتقهم كلهم، وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، ففرح بنو إسرائيل بذلك، وأكثروا له من الدعاء والشكر، وأرسل رسولا وهدايا إلى بني إسرائيل المقيمين بالقدس، وطلب منهم أن يرسلوا إليه عدة من علماء بني إسرائيل، لنقل التوراة وغيرها إلى اللغة اليونانية، فسارعوا إلى امتثال أمره. ثم إن بني إسرائيل تزاحموا على الرواح إليه، وبقي كل منهم يختار ذلك، واختلفوا، ثم اتفقوا. على أن يبعثوا إليه من كل سبط من أسباطهم ستة نفر فبلغ عددهم اثنين وسبعين رجلا. فلما وصلوا إلى بطلميوس المذكور، أحسن قراهم، وصيرهم ستاً وثلاثين فرقة، وخالف بين أسباطهم، وأمرهم فترجموا له ستاً وثلاثين نسخة بالتوراة، وقابل بطلميوس بعضها ببعض، فوجدها مستوية لم تختلف اختلافاً يعتد به، وفرق بطلميوس النسخ المذكورة في بلاده، وبعد فراغهم من الترجمة أكثر لهم الصلات، جهزهم إلى بلدهم. وسأله المذكورون في نسخة من تلك النسخ، فأسعفهم بنسخة، فأخذها المذكورون، وعادوا بها إلى بني إسرائيل ببيت المقدس. فنسخة التوراة المنقولة لبطلميوس حينئذ أصح نسخ التوراة وأثبتهما، وقد تقدمت الإشارة إلى هذه النسخة، وإلى النسخة التي بيد اليهود الآن، وإلى نسخة السامرية في مقدمة هذا الكتاب، فأغنى عن الإعادة.

ذكر زكريا وابنه يحيى عليهما السلام

ذكر زكريا وابنه يحيى عليهما السلام من كتاب ابن سعيد المغربي: زكريا من ولد سليمان بن داود عليهما السلام، وكان نبياً ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، قال: وكان نجاراً، وهو الذي كفل مريم أم عيسى، وكانت مريم بنت عمران بن ماتان من ولد سليمان بن داود، وكانت أم مريم اسمها حنة وكان زكريا متزوجاً أخت حنة. واسمها إيساع فكانت زوج زكريا خالة مريم، ولذلك كفل زكريا مريم. فلما كبرت مريم بنى لها زكريا غرفة في المسجد، فانقطعت مريم في تلك الغرفة للعبادة. وكان لا يدخل على مريم غير زكريا فقط. وأرسل الله تعالى جيريل فبشر زكريا بيحيى مصدقاً بكلمة من الله، تعني عيسى بن مريم، ثم أرسل الله تعالى جبريل ونفخ في جيب مريم، فحبلت بعيسى، وكانت قد حبلت خالتها إيساع بيحيى، وولد يحيى قبل المسيح بستة أشهر، ثم ولدت مريم عيسى. فلما علمت اليهود أن مريم ولدت من غير بعل اتهموا زكريا بها، وطلبوه، فهرب واختفى في شجرة عظيمة، فقطعوا الشجرة وقطعوا زكريا معها، وكان عمر زكريا حينئذ نحو مائة سنة، وكأن قتله بعد ولادة المسيح، وكانت ولادة المسيح لمضي ثلاثمائة وثلاث سنين للإسكندر، فيكون مقتل زكريا بعد ذلك بقليل. وأما يحيى ابنه فإنه نبئ صغيراً، ودعا الناس إلى عبادة الله، ولبس يحيى الشعر، واجتهد في العبادة حتى نحل جسمه وكان عيسى بن مريم قد حرم نكاح بنت الأخ؛ وكان لهرذوس وهو الحاكم على بني إسرائيل بنت أخ وأراد أن يتزوجها حسبما هو جائز في دين اليهود فنهاه يحيى عن ذلك، فطلبت أم البنت من هرذوس أن يقتل يحيى، فلم يجبها إلى ذلك، فعاودته، وسألته البنت أيضاً، وألحتا عليه، فأجابهما إلى ذلك وأمر بيحيى، فذبح لديهما. وكان قتل يحيى قبل رفع المسيح بمدة يسيرة، لأن عيسى عليه السلام إنما ابتدأ بالدعوة لما صار له ثلاثون سنة؛ ولما أمره الله أن يدعو الناس إلى دين النصارى، غمسه يحيى في نهر الأردن، ولعيسى نحو ثلاثين سنة. وخرج من نهر الأردن، وابتدأ بالدعوة. وجميع ما لبث المسيح بعد ذلك ثلاث سنين، فذبح يحيى كان بعد مضي ثلاثين سنة من عمر عيسى، وقبل رفعه، وكان رفع عيسى بعد نبوته بثلاث سنين، والنصارى تسمي يحيى المذكور يوحنا المعمدان لكونه عمد المسيح حسبما ذكر. ذكر عيسى بن مريم عليه السلام أما مريم فاسم أمها حنة زوج عمران وكانت حنة لا تلد، واشتهت الولد، فدعت بذلك، ونذرت إن رزقها الله ولداً، جعلته من سدنة بيت المقدس، فحبلت حنة، وهلك زوجها عمران، وهي حامل، فولدت بنتا وسمتها مريم، ومعناه: العابدة. ثم حملتها وأتت بها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار وقالت: دونكم هذه المنذورة، فتنافسوا فيها لأنها بنت عمران - وكان من

أئمتهم - فقال زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها زوجتي. فأخذها زكريا، وضمها إلى إيساع خالتها، فلما كبرت مريم أفرد لها زكريا غرفة حسبما تقدم ذكره، وأرسل الله جبريل، فنفخ في مريم فحبلت بعيسى، وولدته في بيت لحم وهي قرية قريبة من القدس سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر. ولما جاءت مريم بعيسى تحمله، قال لها قومها: " لقد جئت شيئاً فرياً " " مريم 117 " وأخذوا الحجارة ليرجموها، فتكلم عيسى وهو في المهد معلقاً في منكبها - فقال " إني عبد الله آتاني الكتاب، وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت " " مريم: 30 - 31 "، فلما سمعوا كلام ابنها تركوها. ثم إن مريم أخذت عيسى، وسارت به إلى مصر، وسار معه ابن عمها يوسف ابن يعقوب بن ماتان النجار. وكان يوسف المذكور نجاراً حكيماً، ويزعم بعضهم أن يوسف المذكور كان قد تزوج مريم، لكنه لم يقربها، وهو أول من أنكر حملها، ثم علم وتحقق براءتها، وسار معها إلى مصر، وأقاما هناك اثنتي عشرة سنة ثم عاد عيسى وأمه إلى الشام، ونزلا الناصرة وبها سميت النصارى - وأقام بها عيسى حتى بلغ ثلاثين سنة، فأوحى الله تعالى إليه وأرسله إلى الناس. من كتاب أبي عيسى ولما صار لعيسى ثلاثون سنة، صار إلى الأردن، وهو نهر الغور المسمى بالشريعة فاعتمد، وابتدأ بالدعوة، وكان يحيى بن زكريا هو الذي عمده، وكان ذلك لستة أيام خلت من كانون الثاني لمضي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة للإسكندر. وأظهر عيسى عليه السلام المعجزات، وأحيا ميتاً يقال له عازر بعد ثلاثة أيام من موته، وجعل من الطين طائراً قيل هو الخفاش، وأبرأ الأكمه والأبرص، وكان يمشي على الماء. وأنزل الله تعالى عليه المائدة، وأوحى إليه الإنجيل. من كتاب أبي عيسى المغربي وكان عيسى عليه السلام يلبس الصوف والشعر، ويأكل من نبات الأرض، وربما تقوت من غزل أمه. وكان الحواريون الذين اتبعوه اثني عشر رجلاً، وهم شمعون الصفا وشمعون القنابي، ويعقوب بن زندي، ويعقوب بن حلقي، وقولوس، ومارقوس وأندرواس، وتمريلا، ويوحنا، ولوقا، وتوما، ومتى وهؤلاء الذين سألوه نزول المائدة، فسأل عيسى ربه عز وجل، فأنزل عليه سفرة حمراء مغطاة بمنديل؛ فيها سمكة مشوية، وحولها البقول ما خلا الكراث، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خل ومعها خمسة أرغفة على بعضها زيتون، وعلى باقيها رمان وتمر، فأكل منها خلق كثير ولم تنقص، ولم يأكل منها ذو عاهة إلا برئ، وكانت تنزل يوماً وتغيب يوماً أربعين ليلة. قال ابن سعيد: ولما أعلم الله المسيح أنه خارج من الدنيا، جزع من ذلك فدعا الحواريين، وصنع لهم طعاماً وقال أحضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا بالليل عشاهم، وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام، أخذ يغسل أيديهم، ويمسحها بثيابه فتعاظموا ذلك فقال: من رد علي شيئاً مما أصنع، فليس مني فتركوه حتى فرغ فقال لهم: إنما فعلت هذا ليكون لكم أسوة بي في خدمة بعضكم بعضاً، وأما حاجتي إليكم؛ فأن تجتهدوا لي في الدعاء

إلى الله أن يؤخر أجلي. فلما أرادوا ذلك ألقى الله عليهم النوم، حتى لم يستطيعوا الدعاء، وجعل المسيح يوقظهم ويؤنبهم فلا يزدادون إلا نوماً وتكاسلاً، وأعلموه أنهم مغلوبون عن ذلك، فقال المسيح: سبحان الله يذهب بالراعي، ويتفرق الغنم، ثم قال لهم: الحق أقول لكم: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة، ويأكلن ثمني. وكانت اليهود قد جدت في طلبه، فحضر أحد الحواريين إلى هرذوس الحاكم على اليهود وإلى جماعة من اليهود وقال: ما تجعلون لي إذا دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه فرفع الله تعالى المسيح إليه، وألقى شبهه على الذي دلهم عليه. قال ابن الأثير في الكامل: وقد اختلفت العلماء في موته قبل رفعه فقيل: رفع ولم يمت، وقيل بل توفاه الله ثلاث ساعات، وقيل: سبع ساعات، ثم أحياه، وتأول قائل هذا قوله تعالى: " إني متوفيك " " آل عمران: 55، ". ولما أمسك اليهود الشخص المشبه به ربطوه، وجعلوا يقودونه بحبل، ويقولون له: أنت كنت تحيي الموتى، أفلا تخلص نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون في وجهه، ويلقون عليه الشوك وصلبوه على الخشب، فمكث على الخشب ست ساعات ثم استوهبه يوسف النجار من الحاكم الذي كان على اليهود، وكان اسمه فيلاطوس، ولقبه هرذوس، ودفنه في قبر كان يوسف المذكور قد أعده لنفسه ثم أنزل الله المسيح من السماء إلى أمه مريم وهي تبكي عليه، فقال لها: إن الله رفعني إليه ولم يصبني إلا الخير، وأمرها فجمعت له الحواريين، فبثهم في الأرض رسلاً عن الله، وأمرهم أن يبلغوا عنه ما أمر الله به، ثم رفعه الله إليه، وتفرق الحواريون حيث أمرهم وكان رفع المسيح لمضي ثلاثمائة وست وثلاثين سنة من غلبة الإسكندر على دارا. قال الشهرستاني: ثم إن أربعة من الحواريين وهم: متى ولوقا ومرقس ويوحنا، اجتمعوا وجمع كل واحد منهم إنجيلاً، وخاتمة إنجيل متى أن المسيح قال: إني أرسلتكم إلى الأمم كما أرسلني أبي إليكم، فاذهبوا وادعوا الأمم باسم الأب والابن روح القدس. وكان بين رفع المسيح ومولد النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة وخمس وأربعون سنة تقريباً، وكانت ولادة المسيح أيضاً لمضي ثلاث وثلاثين سنة من أول ملك أغسطس، ولمضي إحدى وعشرين سنة من غلبته على قلوبطرا لان أغسطس لمضي اثنتي عشرة سنة من ملكه، سار من رومية، وملك ديار مصر، وقتل قلوبطرا ملكة اليونان. وبعد إحدى وعشرين سنة من غلبته على قلوبطرا ولد المسيح عليه السلام، وقيل غير ذلك، ولكن هذا هو الأقوى، وكانت مدة ملك أغسطس ثلاثاً وأربعين سنه. وعاش المسيح إلى أن رفع ثلاثاً وثلاثين سنة، فيكون رفع المسيح بعد موت أغسطس بثلاث وعشرين سنة، فيكون رفع المسيح في أواخر السنة الأولى من ملك غانيوس. وأما أمة عيسى فهم النصارى، وسيذكرون مع باقي الأمم في الفصل الخامس إن

ذكر خراب بيت المقدس الخراب الثاني

شاء الله تعالى. وأما مريم أم عيسى، فإنها عاشت نحو ثلاث وخمسين سنة، لأنها حملت بالمسيح، لما صار لها ثلاث عشرة سنة، وعاشت معه مجتمعة ثلاثاً وثلاثين سنة كسراً، وبقيت بعد رفعه ست سنين. ؟؟؟ ذكر خراب بيت المقدس الخراب الثاني وهلاك اليهود وزوال دولتهم زوالاً لا رجوع بعده قد تقدم ذكر عمارة سليمان بن داود لبيت المقدس، وأن سليمان عمره، وفرغ منه في سنة ست وأربعين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام، ثم ذكر، ناغز وبخت نصر القدس مرة بعد أخرى، حتى خربه وشتت بني إسرائيل في البلاد، وأن ذلك كان لمضي تسع عشرة سنة من ابتداء ملك بخت نصر وهو لمضي سنة تسعمائة وسبع وتسعين لوفاة موسى عليه السلام، وأن بيت المقدس استمر خراباً سبعين سنة، ثم عمر، فيكون ابتداء عمارته الثانية لمضي ألف وسبع وستين سنة، أعني في سنة ثمان وستين بعد الألف لوفاة موسى، ولمضي تسع وثمانين سنة من ابتداء ملك بخت نصر، فتكون عمارته في سنة تسعين من ملك المذكور والذي عمره هو ملك الفرس أزدشير بهمن، واسم أزدشير بهمن المذكور عند بني إسرائيل كيرش، وقيل: كورش، وقيل: إن كيرش ملك آخر غير أردشير بهمن. ثم تراجعت إليه بنو إسرائيل، وصاروا تحت حكم الفرس، ثم لما غلبت اليونان. على الفرس صارت بنو إسرائيل تحت حكمهم. وكان اليونان يولون من بني إسرائيل عليهم نائباً، وكان لقب كل من يتولى على بني إسرائيل هرذوس، وقيل: هيرذوس. واستمرت بنو إسرائيل كذلك حتى قتلوا زكريا بعد ولادة المسيح، حسبما تقدم ذكره. ثم لما ظهر المسيح، ودعا الناس بما أمره الله به، أراد هرذوس قتله، وكان اسمه هرذوس الذي قصد قتل المسيح فيلاطوس. فرفع الله عيسى بن مريم إليه، وكان منه ومنهم ما تقدم ذكره، وكانت ولادة المسيح لإحدى وعشرين سنة مضت من غلبة أغسطس على قلوبطرا. وكانت مدة ملك أغسطس ثلاثاً وأربعين سنة، منها قبل ملك مصر اثنتي عشرة سنه، وبعد ملك مصر إحدى وثلاثين سنة، فيكون عمر المسيح عند موت أغسطس عشر سنين تقريباً، وجملة ما عاشه المسيح إلى أن رفعة الله ثلاثاً وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، فيكون رفعه بعد موت أغسطس بنحو ثلاث وعشرين سنة والذي ملك بعد أغسطس طبياريوس وملك طبياريوس اثنتين وعشرين سنة ثم ملك بعد طبياريوس غانيوس فيكون رفع المسيح في السنة الأولى من ملكه، وملك أربع سنين ثم ملك بعده قلوذيوس أربع عشرة سنة، ثم ملك بعده نارون ثلاث عشرة سنة، ثم ملك بعده ملك آخر، قيل اسمه أوسباسيانوس

وقيل أسفشيثوس، عشر سنين، ثم ملك بعده طيطوس. وفي السنة الأولى من ملكه، قصد بيت المقدس، وأوقع باليهود، وقتلهم، وأسرهم عن آخرهم، إلا من اختفى. ونهب القدس وخربه، وخرب بيت المقدس، وأحرق الهيكل، وأحرق كتبهم وخلا القدس من بني إسرائيل، كأن لم يكن بالأمس. ولم تعد لهم بعد ذلك رئاسة ولا حكم، وكان ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة لأن بعد رفع المسيح مضى ثلاث سنين من ملك غانيوس، وأربع عشرة من قلوذيوس، وثلاث عشرة من ملك نارون وعشر من أوسباسيانوس، وجملة ذلك أربعون سنة، فيكون خراب بيت المقدس الخراب الثاني. وتشتت اليهود التشتت الذي لم يعودوا بعده لأربعين سنة مضت من رفع المسيح، ولثلاثمائة وست وسبعين سنة مضت من غلبة الإسكندر، ولثمانمائة وإحدى عشرة سنة مضت لابتداء ملك بخت نصر، فيكون لبث بيت المقدس على عمارته الأولى إلى حين خربه بخت نصر، أربعمائة وثلاثاً وخمسين سنة، ثم لبثت على التخريب سبعين سنة، ثم عمر ولبث على عمارته الثانية إلى حين خربه طيطوس التخريب الثاني، سبعمائة وإحدى وعشرين سنة. ثم إني وجدت في كتاب اسمه، العزيزي تصنيف الحسن بن أحمد المهلبي في المسالك والممالك، أن بيت القدس، بعد أن خربه طيطوس التخريب الثاني حسبما ذكر تراجع إلى العمارة قليلا قليلا، واعتنى به بعض ملوك الروم، وسماه إيليا ومعناه بيت الرب، فعمرة ورمم شعثه، واستمر عامراً - وهي عمارته الثالثة - حتى سارت هلانة أم قسطنطين إلى القدس في طلب خشبة المسيح التي تزعم النصارى أن المسيح صلب عليها، ولما وصلت إلى القدس، بنت كنيسة قيامة، على القبر الذي تزعم النصارى أن عيس دفن به، وخربت هيكل بيت المقدس إلى الأرض، وأمرت أن يلقي في موضعه مقامات البلد وزبالته فصار موضع الصخرة مزبلة، وبقي الحال على ذلك حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس، فدله بعضهم على موضع الهيكل، فنظفه عمر من الزبائل، وبنى به مسجداً، وبقى ذلك المسجد إلى أن تولى الوليد بن عبد الملك الأموي، فهدم ذلك المسجد، وبنى على الأساس القديم المسجد الأقصى، وقبة الصخرة. وبنى هناك قباباً أيضاً، سمى بعضها قبة الميزان، وبعضها قبة المعراج، وبعضها قبة السلسلة. والأمر على ذلك إلى يومنا هذا. كذا نقله العزيزي والعهدة عليه، أقول: وينبغي أن يخص كلام العزيزي خراب هيكل بيت المقدس بالعمارة التي كانت على الصخرة خاصة، لأن ذكر صفات المسجد الأقصى جاء في حديث معراج النبي صلى الله عليه وسلم. وخلاصة ما ذكر أن هيكل بيت المقدس عمره سليمان بن داود وبقي عامراً حتى خربه بخت نصر وهو التخريب الأول، ثم عمره كورش، وهي عمارته الثانية، وبقي عامراً حتى خربه طيطوس التخريب الثاني، ثم تراجع للعمارة قليلا قليلا، وبقي عامراً حتى خربتة هلانة أم قسطنطين، وهو التخريب الثالث، ثم

الفصل الثاني ذكر ملوك الفرس

عمره عمر بن الخطاب، وهو عمارته الرابعة، ثم خرب ذلك وعمره الوليد بن عبد الملك، وهي عمارته الخامسة، وهو على ذلك إلى يومنا هذا. الفصل الثاني ذكر ملوك الفرس كانت ملوك الفرس من أعظم ملوك الأرض في قديم الزمان، ودولتهم وترتيبهم لا يماثلهم في ذلك غيرهم، وهم أربع طبقات: طبقة أولى يقال لهم الفيشداذية، لأنه كان يقال لكل واحد منهم فيشداذ، ومعنى هذه اللفظة أول سيرة العدل. وعدد الفيشداذية تسعة وهم: أو شهنج، وطمهورث، وجمشيذ، وبيوراسف، وهو الضحاك - وأفريذون بن أثقيان، ومنوجهر، وفراسياب، وزو، وكرشاسف. وهذه الطبقة قديمة، وقد نقل عن مدد ملكهم وحروبهم أمور يأباها العقل، ويمجها السمع فأضربنا عنها لذلك، وذكرنا ما يقرب إلى الذهن صحته. وطبقه ثانية يقال لهم الكيانية: وهم الذين في أول أسمائهم لفظة كي وفي لفظة للتنوية، قيل معناها الروحاني، وقيل: الجبار، وعدد الكيانية تسعة أيضاً وهم: كيقباذ وكيكاؤوس، وكيخسرو، وكيلهراسف، وكيبشتاسف، وكي أزدشير بهمن، وخماني بنت أزدشير بهمن، ودارا الأول، ودارا الثاني وهو الذي قتله الإسكندر، واستولى على ملكه. وطبقة ثالثة وهم بعض ملوك الطوائف ويقال لهذه الطبقة الإشغانية. وعددهم أحد عشر، وهم أشغا بن أشغان وويقال أشك بن أشكان، وسابور بن أشغان، وجور بن أشغان، وبيرن الأشغاني، وجوذرز الأشغاني، ونرسي الأشغاني، وهرمز الأشغاني، وأرادوان الأشغاني، وخسرو الأشغاني، وبلاش الأشغاني، وأردوان الأصغر الأشغاني. وطبقة رابعة وهم الأكاسرة، لأن كل واحد منهم كان يقال له كسرى، ويقال لهم أيضاً الساسانية، نسبة إلى جدهم ساسان، وملك منهم عدة من النساء بعد الهجرة، واستولى عليهم غيرهم من الفرس، وكان أولهم أزدشير بن بابك، وآخرهم يزد جرد، الذي قتل في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، على ما سنقف على أخبارهم مفصلا إن شاء الله تعالى. الطبقة الأولى الفيشداذية من تجارب الأمم وعواقب الهمم لأبي علي أحمد بن مسكويه، قال أوشهنج أول من رتب الملك ونظم الأعمال، ووضع الخراج، ولقبه فيشداذ وتفسيره أول سيرة العدل، وكان ملكه بعد الطوفان بمائتي سنة، كذا ذكر ابن مسكويه. وقال غيره إن أوشهنج ومن ملك بعده إلى الضحاك، كانوا قبل الطوفان، وكذا يقول الفرس ويزعمون أن ملك ملوكهم لم ينقطع، وينكرون الطوفان، ولا يعترفون به. رجعنا إلى كلام ابن مسكويه قال: وأوشهنج هو الذي بنى مدينتي بابل والسوس، وكان فاضلا محمود السيرة والسياسة، ونزل الهند وتنقل في البلاد، وعقد على رأسه التاج، وجلس على

السرير ثم انقضى ملكه ولم يشتهر بعده غير طهمورث. وطهمورث من ولد أوشهنج وبينه وبينه عدة آباء، وسلك سيرة جده، وهو أول من كتب بالفارسية، وكان على هيئة الديالم ولباسهم، وهلك ثم ملك بعده جمشيذ - بجيم مفتوحة وميم ساكنة وشين مكسورة منقوطة وياء مثناة من تحتها وذال منقوطة. وهو أخو طهمورث لأبويه وجم والقمر، وشيذهو الشعاع، أي شعاع القمر وكذلك أيضاً يسمون خورشيد أي شعاع الشمس، لأن خور اسم الشمس، وجمشيذ المذكور ملك الأقاليم السبعة، وسلك السيرة الصالحة المتقدمة، وزاد عليها ورتب الناس على طبقات كالحجاب والكتاب، وأمر أن يلازم كل واحد طبقته ولا يتعداها، وأحدث النيروز وجعله عيداً يتنعم الناس فيه. من الكامل لابن الأثير ووضع لكل أمر من الأمور خاتماً مخصوصاً به، فكتب على خاتم الحرب الرفق والمداراة، وعلى خاتم الخراج العدل والعمارة، وعلى خاتم البريد والرسل الصدق والأمانة، وعلى خاتم المظالم السياسة والانتصاف، وبقيت رسوم تلك الخواتيم حتى محاها الإسلام. انتهى كلام ابن الأثير. قال ابن مسكويه: ثم إنه بعد ذلك بدل سيرته الصالحة بأن أظهر التكبر والجبروت على وزرائه وقواده، وآثر اللذات، وترك كثيراً من السياسات التي كان يتولاها بنفسه، وعلم بيوراسب باستيحاش الناس من جمشيذ وتنكر خواصه عليه، فقصده، وهرب جمشيذ وتبعه بيوراسب حتى ظفر به وقتله بأن أشره بمئشار. ثم ملك بيوراسب وكان يقال له الدهاك، ومعناه عشر آفات، فلما عرب قيل الضحاك، ولما ملك ظهر منه شر شديد، وفجور، وملك الأرض كلها، وسار فيها بالجور والعسف، وبسط يده بالقتل، وسن العشور والمكوس، واتخذ المغنين والملهيين، وكان على منكبيه سلعتان يحركهما إذا شاء، فادعى أنهما حيتان تهويلا على ضعفاء العقول، وكان يسترهما بثيابه، ولما اشتد على الناس جوره، وظلمه، ظهر بأصبهان رجل يقال له كابي، وكان الضحاك قد قتل له ابنين، فأخذ كابي المذكور عصاً، وعلق بطرفها جراباً ويقال: إنه كان حداداً، وإن الذي علقه نطع، كان يتوقى به النار، وصاح في الناس ودعاهم إلى مجاهدة بيوراسب، فأجابه خلق كثير واستفحل أمره. وبقي ذلك العلم معظماً عند الفرس، ورصعوه بالجواهر، وسموه درفش كابيان، ولما قوي أمر كابي، قصد بيوراسب فهرب منه. وسأل الناس كابي أن يتملك عليهم، فأبى لكونه ليس من بيت الملك، وأمرهم أن يملكوا بعض ولد جمشيذ، وكان أفريذون بن أثفان من أولاد جمشيذ وكان مستخفياً من الضحاك، فوافى بجماعته إلى كابي، فاستبشر الناس به وولوه الأمر، وصار كابي أحد أعوانه، حتى احتوى أفريذون على منازل بيوراسب وأمواله، وتبعه وأسره بدياوند وقتله. وكان النبي إبراهيم الخليل عليه السلام في أواخر أيام الضحاك، ولذلك زعم قوم أنه نمروذ، وأن نمروذ عامل من عماله، وقد اختلف في الضحاك المذكور اختلافاً كثيراً، فيزعم كل من الفرس واليونان

ذكر الطبقة الثانية

والعرب أنه منهم. والفرس يجعلونه قبل الطوفان لأنهم لا يعترفون بالطوفان. ثم ملك أفريذون بن أثفيان، وهم من ولد جمشيذ قيل إنه التاسع من ولده، وكان إبراهيم الخليل في أول ملك أفريذون، وقد قيل إن أفريذون هو ذو القرنين، المذكور في القرآن ولما ملك أفريذون سار في الناس بأحسن سيرة، ورد جميع ما اغتصبه الضحاك على أصحابه، وكان لأفريذون ثلاثة أولاد، فقسم الأرض بينهم أثلاثاً، أحدهم إيرج وجعل له العراق والهند والحجاز، وجعله صاحب التاج والسرير وفوض إليه الولاية على أخويه. والثاني: شرم وجعل له الروم وديار مصر والمغرب، والثالث طوج، وجعل له الصين والترك والمشرق جميعه، فلما مات أفريذون وثب طوج وشرم على إيرج فقتلاه واقتسما بلاده وملكا الأرض، ثم نشأ ابن لإيرج يقال له: منوجهر - بميم مفتوحة ونون مضمومة وواو ساكنة وجيم بين الجيم والشين مكسورة وهاء ساكنة وراء مهملة - فحقد المذكور على عميه وجمع العساكر وتغلب على ملك أبيه إيرج. ولما قوي منوجهر المذكور سار نحو الترك وطلب بدم أبيه، فقتل طوج، ثم قتل شرم عميه وأدرك ثأره منهما. ثم نشأ من ولد طوج بن أفريذون المذكور فراسياب بن طوج، وجمع العسكر وحارب منوجهر بن إيرج وحاصره بطبرستان، ثم اصطلح وضربا بينهما حداً لا يتجاوزه واحد منهما، وهو نهر يلخ، وفي أيام منوجهر ظهر موسى عليه السلام، وذكروا أن فرعون موسى وهو الوليد بن الريان كان عاملا لمنوجهر ومطيعاً له، ثم هلك منوجهر فتغلب فراسياب على مملكة فارس، وأكثر الفساد وخرب البلاد. ثم ظهر زو بن طهماسب وهو من أولاد منوجهر فتسارع الناس إليه وطرد فراسياب عن مملكة فارس حتى رده إلى بلا الترك بعد حروب كثيرة، وسار زو بأحسن سيرة حتى عمر وأصلح ما كان خربه فراسياب، واستخرج للسواد نهر، وسماه الزاب وبنى على حافته مدينة، وكان لزو وزير يقال له: كرشاسف من أولاد طوج بن أفريذون، وقد حكي أنهما اشتركا في الملك. انتهت الفيشداذية. ذكر الطبقة الثانية الكيانية: ولما هلك كرشاسف ملك بعده كيقباذ بن زو وسلك سيرة أبيه، في الخير وعمارة البلاد، ثم هلك كيقباذ، وملك بعده كيكاؤوس بن كينيه بن كيقباذ المذكور، فتشدد على إعدامه، وقتل خلقاً من عظماء البلاد، وولد له ولد نهاية في الجمال، وكان يفتن بحسنه وسماه سياوش بسين مهملة مكسورة وياء مثناة من تحتها وألف وواو مكسورة وشين منقوطة. ثم إن أباه كيكاؤوس سلمه إلى رستم الشديد، الذي كان نائباً على سجستان ومملكتها، فربى سياوش كما ينبغي، وأتى به إلى والده وهو نهاية في الأدب والفروسية، ففرح به والده فرحاً عظيماً، وولاه مملكته، وكان لكيكاؤوس زوجة مبدعة في الحسن، فهويت سياوش وأعلمته،

فامتنع ولم تزل تراجعه حتى طاوعها، فعشقها وعشقته عشقاً مبرحاً. وفي الآخر علم كيكاؤوس بذلك، فمنعِ ولده منْ دخولِ دارِه وضرَبَ الزَّوجة وحبسها ثم ترضاها، وأفرجَ عنها، فأرسلتْ مع بعض الخصيانِ إِلى سياوش تقول: إِنْ عاهْدتَني أنك تتزوج بي قتلتُ أباك، فعرف الخصي كياؤوسَ بذلك، فأسر بحبسها ومنع سياوش من الدخولِ إِليه. فسأل سياوش رستماً الذي ربّاه أنْ يشفعَ إلى أبيه أنْ يُرسِله إِلى حربِ فراسياب ملك الترك فأرسلَه مع جيش، فصالحه فراسيابُ على ما أراد، فأرسلَ يُعلم بذلك أباهُ كيكاؤوس، فأنكر عليه وقال: لا بدَّ منَ الحرب. ولم يمكن سياوش الغدر بفراسياب، ولا الرجوع إِلى والده لما ذكر، فهرب سياوشُ إلى فراسياب، فأكرمَهُ وزوّجَهُ ابنته، ثم إِنّ أولادَ فراسيابَ أغروا والدهُم بقتلِ سياوش، وقالوا: لا يكونُ عاقبتُه عليك خيراً، فقتلهُ. وكانتْ بنت فراسياب حُبْلى منه، فأراد أبوها قتلها، ثم تركها فولدَتْ ابناً. وسمع كيكاؤوس بذلك فقتل زوجتَهُ التي كان هذا الأمر بسببها، وأرسلَ قوماً شطاراً في زي التجارِ بالمالِ، وأمرهم بسرقة ابنِ سياوش وزوجتَه، فسرقوهما وأحضروهما. وكان اسمُ الولدُ المذكورُ كيخسرو، أعني ولد سياوش. ثم إِن كيكاؤوس قررَ المُلكَ لولد ولده كيخسرو ابن المذكور، ثمَ هلكَ كيكاؤوس واستمر ولد ولدِه كيخسرو المذكًورُ في الملك. ولمّا مَلكَ كيخسرو وقوي أمرهُ قصدَ جدّهُ أبا أمَّه، وهو فراسيابُ ملكُ التركِ طالباً بثارِ أبيه سياوش، وجرَتْ بينهما حروب كثيرة آخرها أنّ كيخسرو ظفر بفراسياب وأولادِهِ وعسكَرِهِ، فقتلهُمُ ونهبَ أموالهُمُ وبلادَهُمُ آخذاً بثأرِ أبيهٍ سياوش. ولمّا أدرك كيخسرو ثأره واستقرّ في ملكه تزهّدَ، وخرج عنِ الدنيا، ولما أصر على ذلك سألهُ وجوهُ الدولة في أن يعينَ للملْكَ من يختار، وكان لهراسفَ حاضراً وهو منْ مَرازبته، فجعلهُ وصيهُ وأقبلَ الناسُ عليهَ، وفقد كيخسرو، وكان مدةَ ملك كيخسَرو ستين سنة، ثم ملك لهراسف ويقالُ: إِنَّه ابن أخي كيكاؤوس، فاتخذَ سريراً من ذهب مرصعاً بالجوهرِ، فكانَ يجلسُ عليه، وبنيتُ له بأرض خراسان مدينةَ بَلخ، وسكنها لقتال الترك وكان في زماَن لهراسف بختَ نصر وجعلهُ لهُراسفُ أصبهبذاً على العراقَ والأهواز وعلى الرّومِ من غربيّ دجلة، فأتى دمشقُ وصالحهُ أهلها وصالحهُ بنو إِسرائيَلَ بالقدس ثمّ غدروا به، فسار إِليهم بخُتَ نصرَ راجعاً، وسبى ذريتَهم وخرب بيت المقدسَ، وهربَ من سلم منهم إِلى مصر، فأنفذ بختَ نصر في طلبهم إِلى ملك مصْر وقال: هؤلاءِ عبيدي قد هربوا إِليكَ فابعثْ إِلي بهم: فقال فرعون مصر: إِنما هؤلاءِ أحرارُ، وامتنعَ من تسليمهم إِليه، فسار بختُ نصر إلى مصرَ وقتْل الملِك وسبى أهل مصر، ثم سار المذكور إلى الَمغرب حتى بلغ أقاصيهما، وخرب البلاد وسبى، ثم عاد إِلى فلسطين والأردن، فسبى وقتل، وحضر مع بخت نصر من بني إِسرائيل دانيال النبي، وغيره من أولاد الأنبياء عليهم السلام، وحمل إِلى لهراسف من المغرب والشام وبيت المقدس أموالاً عظيمة، وقد اختلف

المؤرخون في بخت نصر، هل كان ملكاً مستقلاً بنفسه أم كان نائباً للفرس؟ والأصح عند الأكثر أنه كان نائباً للهراسف المذكور، وسار بالجيوش نيابة عنه، وفتح له البلاد، ثم غزا بخت نصر العرب، وكان في زمن معد بن عدنان، فقصده طوائف من العرب مسالمين، فأحسن إِليهم بخت نصر وأنزلهم شاطئ الفرات وبنوا موضع معسكرهم، وسموه الأنبار، واستمروا كذلك مدة حياة بخت نصر. ومما جرى لبخت نصر رؤياه التي أريها رقد أثبتها اليهود في كتبهم، وكذلك المؤرخون من المسلمين. قالوا: رأى صنماً رأسه من ذهب، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه وقدماه من حديد، وأصابع قدميه بعضها حديد وبعضها خزف، وأن حجراً انقطعت من جبل، من غير يد، قاطعة له، وصكت الصنم، فاندق الحديد والنحاس وغيره، وصار جميع ذلك مثل الغبار، وألوت به ريح عاصفة، ثم صارت الحجر التي صكت الصنم جبلا عظيماً امتلأت منه الأرض كلها. فقال بخت نصر: لا أصدق تعبير ما رأيته إِلا ممن يخبرني بما رأيت، وكتم بخت نصر ذلك، وسأل العلماء والسحرة والكهنة عن ذلك، فلم يطق أحد أن ينبئه بذلك، حتى سأل دانيال، فخبره دانيال بصورة رؤياه كما رآها بخت نصر، ولم يخلط منها بشيء. ثم عبرها له دانيال، فقال: الرأس ملكك، وأنت بين الملوك بمنزلة رأس الصنم الذهب، والذي يقوم بعدك دونك، بمنزلة الفضة من الذهب، ويكون كل متأخر أقل ممن قبله، مثلما النحاس دون الفضة، والحديد دون النحاس، وأما الأصابع التي بعضها حديد وبعضها خزف، فإن المملكة تصير آخر الوقت مختلطة، مختلفة، بعضها قوي وبعضها ضعيف، ثم إِنّ الله تعالى، يقيم بعد ذلك مملكة لا تبيد إلى آخر الدهر. هذا تعبير رؤياك، فخر بخت نصر ساجداً لدانيال، وأمر له بالخلع وأن يقرب له القرابين. وقد اختلف في مدة ولاية بخت نصر، والذي اختاره أبو عيسى وأثبته أن بخت نصر تولى أو ملك سبعاً وخمسين سنة، وشهراً وثمانية أيام. وتفسير بخت نصر بالعربية، عطارد، وهو ينطق، سمي بذلك لتقريبه الحكماء والعلماء، وحبه أهل العلم. ولما هلك ولي مُلك الفرس بعد بخت نصر، ابنه أولاق سنة واحدة وقتل. ثم ولي بعده - بلطشاصر سنتين، وبلطشاصر هو ابن ابن بخت نصر، ثم إِنه جلس للشراب، واحتفل بلطشاصر في مجلس عمله، وجمع فيه ألف نفس من أصحابه، وجعل فيه من آنية الذهب ما يفوت الحصر، فرأى على ضوء الشمع يد إنسان تكتب على الحائط، فتغير بلطشاصر لذلك، واضطرب ذهنه، واصطكت ركبتاه، فدعا دانيال وقال له: ما رأى، فقال دانيال: إِنك لما عظَمت الذهب، والفضْة والنحاس والحديد، وليس فيها ما ينصرك، ولم تعظم الإِله، الذي بيده نسمتك، وروحك، وجميع تصاريف أمورك، أرسل كفهُ يداً كتبتَ ما معناه: اكشف واعرى، أي أن مملكتك كشفت وعريت وجعلت لأهل فارس، فقُتل بلطاشاصر في تلك الليلة، وبه انقرضت دولة بني بخت نصر. ولنرجع إِلى سياقة ملك لهراسف، ثم مَلَك بعده ابنه

كي بشتاسف، وهو الذي يزعمون أنه باق في كنكدز ولما ملك بشتاسف بنى مدينة - فسا، وظهر في أيامه زرادشت بزاي منقوطة مفتوحة، وراء مهملة، وألف، ودال مضمومة، مهملة وشين منقوطة ساكنة، وتاء مثناه من فوقها. وهو صاحب كتاب المجوس. وتوقفت بشتاسف عن الدخول في دينه، ثم صدقه ودخل فيه، وجرى بين بشتاسف وبين خرزاسف ملك الترك حروب عظيمة، قتل بينهما فيها خلق كثير، بسبب زرداشت، ودخول بشتاسف في دينه، انتصر فيها بشتاسف على خرزاسف ملك الترك. ثم إِن بشتاسف تنسك، وانقطع للعبادة في جبل يقال له طميذر، ولقراءة كتاب زرادشت، ثم فُقد. وكان لبشتاسف ولد يقال له إِسفنديار، هلك في حياة أبيه، وخلف ولداً يقال له أزدشير بهمن بن إِسفنديار بن بشتاسف، ولما تزهد بشتاسف وفقد مَلكَ ابن ابنه أزدشير بهمن المذكور وانبسطت يده حتى ملك الأقاليم السبعة، من كتاب أبي عيسى. وأزدشير بهمن المذكور، اسمه بالعبرانية كورش، ويقال كيرش، وهو الذي أمر بعمارة بيت المقدس بعد أن خربه بخت نصر، فعمره أزدشير وأمر بني إِسرائيل بالرجوع إِليه، ولا دليل على أنّ أزدشير المذكور هو كورش أقوى من كلام أشعيا النبي عليه السلام، فإِنه يقول في الفصل الثاني والعشرين من كتابه، حكاية عن الله تعالى أنا القائل لكورش: داعي الذي يتم جمع محباتي، ويقول لأورشليم عودي مبنية، ولهيكلها كن مزخرفاً، مزيناً، هكذا قال الرب لمسيحه كورش، الذي أخذ بيمينه لتدبير الأمم وتحنى لك ظهور الملوك سائراً، تفتح الأبواب أمامه فلا تغلق، وأسير أنا قدامك، وأسهل لك الوعور، وأكسر أبواب النحاس، وأحبوك بالذخائر التي في الظلمات ولم يكن أحد في ذلك الزمان بهذه الصفة التي ذكرها أشعيا، أعني ملك الأقاليم والحكم على الأمم، وغير ذلك مما ذكره غير أزدشير بهمن، فتعين أن يكون هو كيرش. وكان أزدشير بهمن كريماً متواضعاً علامته على كتبه بقلمه، من أزدشير بهمن عبد الله وخادم الله والسايس لأمركم. وغزا رومية في ألف ألف مقاتل وبقي كذلك إِلى أن هلك، وتفسير بهمن بالعربية الحسن النية، وكان بهمن متزوجاً بابنته خماني؛ وذلك حلال على دين المجوس، فتوفي بهمن وهي حامل منه بدارا وكانت قد سألت بهمن ن يعقد التاج على ما في بطنها، ويخرج ابنه ساسان بن بهمن من الملك، فأجابها بهمن وأوصى به أكابر دولته، ففعلوا ذلك، وساست خماني الملك بعده أحسن سياسة، وعظم ذلك على ساسان، فلحق بإِصطخر، وتزهد وتجرد من حلية الملك واتخذ غنماً وتولى بنفسه رعيها، وساسان المذكور هو أبو الأكاسرة. ثم وضعت خماني ولداً وسمته دارا وهو ابنها وأخوها، ولما اشتد سلمت الملك إِليه وعزلت نفسها، فتولى دارا بن بهمن الملك، فضبطه بشجاعة وحسن سياسة وولد لدارا ابن فسماه دارا باسم نفسه. ثم هلك دارا وولي الملك ابنه دارا بن دارا، وكان

الإسكندر بن فيلبس

حقوداً ظالماً، فنفر منه قلوب الخاصة والعامة. وفي زمان دارا المذكور، تملك الإسكندر المشهور ابن فيلبس، فعرف توحش خواطر أصحاب دارا منه، فقصده بجيشه فلحق بالإسكندر المذكور، لما دنا من دارا كثير من أصحاب دارا وأطلعوه على عور دارا وقووه عليه، وطال بينهما القتال إِلى أن وثب جماعة من أصحاب دارا عليه فقتلوه، وأتوا إِلى الإسكندر فقتلهم عن آخرهم، وصار ملك دارا إِلى الإسكندر. الإسكندر بن فيلبس كان أبوه أحد ملوك اليونان، وكانوا طوائف، فلما مَلك الإسكندر غزاهم واجتمع له ملكهم، ثم غزا دارا ملك الفرس وقتله، ثم غزا الهند، وتناول أطراف الصين، ثم انصرف الإسكندر يريد الإسكندرية. وهو الذي بناها، فهلك في ناحية السواد وقيل بشهرزور وكان عصره ستاً وثلاثين سنة، فحمل في تابوت ذهب إِلى أمه، وكان ملكه نحو ثلاث عشرة سنة. واجتمع بعد ذلك ملك الروم وكان متفرقاً، وافترق مُلْكُ فارس وكان مجتمعاً، وكان مرض الإسكندر الذي مات به الخوانيق، وقيل اغتيل بالسم. وهذا الإسكندر هو صاحب أرسطاطاليس وتلميذه وأرسطو الذي أشار عليه بعدم قتل الفرس، وأن يولي أكابرهم، ومن يصلح للملك كل واحد برأسه مملكة، ليحصل بينهم التباغض والتشاحن ولا يجتمعوا على أحد، فقبل الإسكندر ذلك منه، وولاهم فصار منهم ملوك الطوائف. وكان الإسكندر أشقر أزرق وكان اليونان قبله طوائفَ، فأول ما تملك غزاهم، وقتل ملوكهم، واجتمع له جميع مملكة اليونان والروم حسبما ذكرناه، ولما اجتمعت له مملكة المغرب بنى الإسكندرية، وسار يريد الشرق، وقتال دارا، ومر الإسكندر في طريقه على بيت المقدس، وأكرم بني إِسرائيل، ثم سار إِلى بلاد فارس واستولى على مُلك الفرس، وقتل دارا، وكان منه ما ذكر وقد قيل عنه إِنه انصرف من المشرق إِلى جهة الَشمال، وبنى السد على يأجوج ومأجوج، والصحيح أن الإسكندر المذكور لم يكن منه ذلك؛ بل ذو القرنين الذي ذكره الله في القرآن، وهو ملك قديم كان على زمن إِبراهيم الخليل عليه السلام. قيل إِنه أفريذون، وقيل غيره، وقد غلط من ظن أن باني السد هو الإسكندر الرومي وكذلك قد استفاض على السنة الناس، أن لقب الإسكندر المذكور ذو القرنين وهو أيضاً غلط، فإِن لفظة ذو لفظة عربية محض، وذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن، وكان منهم ذو جدن، وذو كلاع، وذو نواس، وذو شناتر، وذو القرنين، الصعب بن الرايش، واسم الرايش الحارث بن ذي سدد بن عاد بن الماطاط بن سبأ. وقد قيل إِن ذا القرنين الصعب المذكور هو الذي مكّن الله له في الأرض وعظم ملكه، وبنى السدّ على يأجوج ومأجوج. ومما نقله ابن سعيد المغربي أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن ذي القرنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز فقال: هو مِنْ

ملوك الطوائف

حمير، وهذا مما يقوي أنه الصعب المذكور، لأنه كان ملكاً عظيماً، وكان من ولد حمير، ولما مات الإسكندر عرض الملك على ابنه، فأبى واختار النسك، فانقسمت ممالك الإسكندر بين ملوك الطوائف، وبين ملوك اليونان، على ما سنذكرهم في الفصل الثاني وبين غيرهم. ملوك الطوائف وكان من أمرهم أن الإسكندر لما غلب على الفرس، وأسر ملوكهم وكبارهم، قتل منهم جماعة، وأراد قتل الباقين عن آخرهم، واستشار أرسطوطاليس في ذلك فقال له: إِني لا أرى ذلك بل الرأي أنْ تملك منهم عدة على الفرس، فيقع بينهم التشاحن والتباغض، ولا يجتمعون فتأمن اليونان غائلتهم، ولا يبقى لهم على اليونان دماء كثيرة فمال الإسكندر إِلى ذلك وملك من كبار الفرس عشرين ملكاً على لفرس، وهم المسلمون بملوك الطوائف، واستمر بهم الحال على ذلك نحو خمسمائة واثنتي عشرة سنة، حتّى قام أزدشير بن بابك وجمع ملك الفرس، ولم يبق منهم ملك غيره، وكانت عدة ملوك الطوائف تزيد على تسعين ملكاً، ولم يؤرخ في مبتدأ أمرهم أسماؤهم، ولا مُدد ملكهم، فإِنهم كانوا ملوكاً صغاراً في الأطراف، وعظم بعد الإسكندر ملك اليونان، فكان الحكم لهم، فلذلك ذكروا بعد الإسكندر في التواريخ دون ملوك الطوائف. وبقي الأمر على ذلك حتى اشتهرت الملوك الأشغانية من بين ملوك الطوائف. ذكر الطبقة الثالثة وهم الأشغانية. قال أبو عيسى: وأوّل من اشتهر منهم أشغا بن أشغان. يقال: أشك بن أشكان. قال وكان أولُ مُلك أشغا المذكور لمضي مائتين وست وأربعين سنة لغلبة الإسكندر، وملك أشغا المذكور عشر سنين. أقول فيكون انقضاء ملكه لمضي مائتين وست وخمسين سنة للإِسكندر. ثم ملك بعده سابور بن أشغان ستين سنة، وكان مولد المسيح عليه السلام في سنة بضع وأربعين سنة خلت من ملك سابور المذكور، وكان انقضاء ملك سابور مضي ثلاثمائة وست عشرة سنة للإِسكندر. ثم ملك بعده جور بن أشغان، وقيل جوذرز عشر سنين، وهلك لمضي ثلاثمائة وست وعشرين سنة للإِسكندر. ثم ملك بيرن الأشغاني إحدى وعشرين سنة وهلك لمضي ثلاثمائة وسبع أربعين سنة، ثم ملك جوذرز الأشغاني تسع عشرة سنة، وهلك لمضي ثلاثمائة ست وستين سنة. ثم ملك نرسى الأشغاني أربعين سنة، وقال يوم ملك: إِني محب ومكرم من أنقذ أمر، وهلك لمضي أربعمائة وست سنين. ثم ملك هرمز الأشغاني تسع عشرة سنة، وهلك لمضي أربعمائة وخمس وعشرين سنة، وقال هرمز المذكور يوم ملك: يا معشر الناس؛ اجتنبوا الذنوب، كيلا تذلوا بالمعاذير. ثم

ذكر الطبقة الرابعة

ملك بعده أردوان الأشغاني اثنتي عشرة سنة، وهلك لمضي أربعمائة وسبع وثلاثين سنة. ثم ملك خسرو الأشغاني أربعين سنة وقال يوم ملك: لتسطع ناري ما دامت مضطرمة، وهلك لمضي أربعمائة وسبع وسبعين سنة للإِسكندر. ثم ملك بعده بلاش الأشغاني أربعاً وعشرين سنة. وهلك لمضي خمسمائة وسنة. ثم ملك بعده أردوان الأصغر، وظهر أمر أزدشير بن بابك، وقتل أردوان المذكور وغيره من الأردوانيين، واجتمع له ملك جميع ملوك الطوائف، فيكون انقضاء ملك أردوان لمضي خمسمائة واثنتي عشرة سنة لغلبة الإسكندر، ويكون ملكه إِحدى عشرة سنة، وقيل إِنّ أردوان المذكور ملك ثلاث عشرة سنة. ذكر الطبقة الرابعة وهم الأكاسرة الساسانية وأولهم أزدشير بن بابك، وهو من ولد ساسان بن أزدشير بهمن، المقدم الذكر في أخبار أزدشير بهمن، وساسان المذكور هو الذي تزهد، واتخذ غنماً يرعاها، لما أخرجه أبوه بهمن من الملك، وجعله لدارا قبل ولادته حسبما تقدم ذكر ذلك. وكان أزدشير بن بابك المذكور في أول ملكه، أحد ملوك الطوائف، وكان في أيام الأردوانين، فتغلبّ عليهم، وكان غلبته عليهم لمضي تسعمائة وسبع وأربعين سنة، لابتداء ولاية بخت نصر، ولمضي خمسمائة واثنتي عشرة سنة لغلبة الإسكندر على دارا، وهي مدة ملوك الطوائف، فيكون بين قيام أزدشير وبين الهجرة النبوية، أربعمائة واثنتان وعشرون سنة. وكان رصد بطلميوس قبل أزدشير المذكور بسبع وسبعين سنة، وهذه مدة يمكن أن يكون بطليموس قد عاشها، أو عاش غالبها، فليس بطليموس ببعيد عن زمن أزدشير، وجميع الأكاسرة الذين كان آخرهم يزد جرد بن شهريار من ولد أزدشير المذكور، ولما تغلب أزدشير وقتل الأردوانيين جميعهم، وضبط الملك، وكان حازماً طويل الفكر وكتب لابنه سابور عهداً ليكون له ولمن بعده من أهل بيته يتضمن حكماً وناموساً لضبط المملكة، وملك أزدشير أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، فيكون موته في أواخر سنة خمس مائة وسبع وعشرين لغلبة الإسكندر. ثم ملك بعده ابنه سابور بن أزدشير إِحدى وثلاثين سنة وستة أشهر وكان جميل الصورة حازماً، وظهر في أيامه ماني الزنديق وادعى النبوة واتبعه خلق كثير وهم المسمون بالمانوية، ولما مضى من ملكه إحدى عشرة سنة سار بعساكره وفتح نصيبين من الروم، ثم سار وتوغل في بلاد الروم، وهم على عبادة الأصنام، وذلك قبل تنصرهم، وافتتح من الشام عدة مدن عنوة، وقتل أهلها، ثم سار إِلى جهة رومية، فصانعه ملك الروم وهو حينئذ غرذيانوس، الذي سنذكره في ملوك الروم، إِن شاء الله تعالى، ودخل تحت طاعة سابور المذكور، وكان لسابور المذكور عناية عظيمة مع كتب الفلسفة

لليونانيين، ونقْلها إِلى اللغة الفارسية، ويقال: إِن في زمانه استخرجت العود، وهي الملهاة التي يغني بها، وكان موت سابور المذكور لمضي أربعة أشهر من سنة تسع وخمسين وخمسمائة للإِسكندر. ثم ملك بعده ابنه هرمز بن سابور سنة واحدة وستة أشهر، وكان عظيم الخلق شديد القوة، وكان يلقب البطل لشجاعته، وكان موته في أواخر سنة خمسمائة وستين للإسكندر. ثم ملك ابنه بهرام بن هرمز ثلاث سنين وثلاثة أشهر، واتبع سيرة آبائه في حسن السياسة والرفق بالرعية، وكان موته في أول سنة أربع وستين وخمسمائة بعد مضي شهر منها. ثم ملك بعده ابنه بهرام بن بهرام سبع عشرة سنة، فيكون موته في أول سنة إحدى وثمانين وخمس مائة للإسكندر. ثم ملك بعده ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام أربع سنين وأربعة أشهر، وسلك سبيل آبائه من العدل والسياسة، ومات في سنة خمس وثمانين وخمسمائة بعد مضي سبعة أشهر منها. ثم ملك بعده أخوه نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أزدشير ابن بابك، وملك تسع سنين فيكون موته في سنة أربع وتسعين وخمسمائة، بعد مضي سبعة أشهر منها. ثم ملك بعده ابنه هرمز بن نرسي تسع سنين أيضاً، فيكون هلاكه لمضي سبعة أشهر من سنة ثلاث وستمائة، ولما مات هرمز لمٍ يكن له ولد، وكانت بعض نسائه حاملاً، فعقدوا التاج على ما في جوفها، فولدت ابناً وسموه سابور. وهو سابور بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أزدشير بن بابك. وبقي سابور حتى اشتد وظهر منه نجابة عظيمة من صباه، وكان أول ما ظهر منه أنه سمع ضجيج الناس بسبب الزحمة على الجسر الذي على دجلة بالمدائن، فقال: ما هذه الجلبة. فقالوا بسبب زحمة الخارجين والداخلين على الجسر. فأمر أن يعمل إِلى جانب الجسر جسراً آخر ليكون أحد الجسرين للخارجين والآخر للداخلين، فعملوه، فزال ما كان يحصل من الزحام، فاستعجب الناس لنجابته، وفي أيام صباه طمعت العرب في بلاده وخربوها، فلما بلغ سابور المذكور من العمر ست عشرة سنة، انتخب من فرسان عسكره عدة اختارها وسار بهم إِلى العرب، وقتل من وجده منهم، ووصل إِلى الحسا والقطيف، وشرع يقتل ولا يقبل فداء، وورد المشقر وبه أناس من تميم وبكر بن وائل، وعبد القيس، فسفك من دمائهم ما لا يحصى، وكذلك سار إِلى اليمامة وسفك بها، ولم يمر بماء للعرب إلا وغوره، ولا بئر إِلا وطمها، ثم عطف على ديار بكر وربيعة، فيما بين مملكة فارس ومملكة الروم، وصار ينزع أكتاف العرب فسمي سابور ذا الأكتاف، وصار عليه ذلك لقباً، ثم غزا سابور المذكور الروم، وقتل فيهم وسبى، ثم هادنه قسطنطين ملك الروم، واستمر على ذلك حتى توفي قسطنطين في سنة خمس وأربعين مضت من ملك سابور المذكور وعمره، وملكت بنو قسطنطين وهلكوا في مدة ملك سابور المذكور، ثم ملك على الروم لليانوس، وارتد إِلى عبادة الأصنام وقتل النصارى،

وأخرب الكنائس، وأحرق الإنجيل، وسار لليانوس إِلى قتال سابور، واجتمع مع لليانوس العرب، لما كان قد فعله فيهم سابور المذكور، وكان على مقدمة جيش لليانوس بطريق اسمه يونيانوس، وكان يونيانوس يسرُّ دين النصارى، ولم يرتد مع لليانوس إِلى عبادة الأصنام، وبسبب ذلك كان يكره لليانوس، فظفر بكشافة لسابور فأمسكهم وأخبروه بمكان سابور، وكان قد انفرد عن جيشه ليتجسس أخبار الروم، فأرسل يونيانوس يحذر سابور، وأعلمه أنه علم به وكان قادراً على إٍمساكه، فحمده سابور على ذلك ولحق بجيشه، ثم اقتتل لليانوس وسابور فانتصر لليانوس وانهزم سابور وجيشه، وقتلت الروم منهم، واستولى لليانوس على مدينة سابور، وهي طيسفون، وهي المعروفة بالمدائن. ثم أرسل سابور واستنجد بالعساكر والملوك المجاورين لبلاده، ودفع عن طيفسون، واستمر لليانوس مقيماً ببلاد الفرس، وبقي سابور يسعى في الصلح معه، فبينما لليانوس جالس في فسطاطه، إِذ أصابه سهم غُربُ في فؤاده فقتله، فهال الروم ما نزل بهم من فقد ملكهم في بلاد عدوهم، فقصدوا يونيانوس في أن يتملك عليهم، فأبى ذلك وقال: لا أتملك على قوم يخالفوني في الدين، فقالوا: نحن نعود إلى الملة النصرانية، ونحن عليها، وإنما أظهرنا عبادة الأصنام خوفاً من لليانوس، فملك يونيانوس وصالح سابور، وسار إِليه في عدة يسيرة من أصحابه واجتمع يونيانوس وسابور واعتنقا وانتظم الصلح والمودة بينهما. وسار يونيانوس بعساكر الروم عائد إِلى بلاده، واستمر سابور على ملكه حتى بعد اثنتين وسبعين سنة، وهي مدة ملكه، ومدة عمره، فيكون موت سابور لمضي سبعة أشهر من سنة خمس وسبعين وستمائة للإِسكندر. ثم ملك بعده أخوه أزداشير بن هرمز أربع سنين بوصية من سابور له بالملك لأن سابور كان صغيراً، ومات في سنة تسع وسبعين وستمائة للإِسكندر. ثم ملك بعده سابور بن سابور ذي الأكتاف خمس سنينٍ وأربعة أشهر، وسلك سابور حسن سيرة أبيه، حتى سقط عليه فسطاط كان منصوباً عليه، فمات من ذلك فيكون هلاكه لمضي أحد عشر شهراً من سنة أربع وثمانين وستمائة للإسكندر. ثم مَلكَ بعده أخوه بهرام بن سابور ذي الأكتاف، وهو الذي يُدعى كرمان شاه، لأنه كان على كرمان، وسلك السيرة الحسنة، وملك إِحدى عشرة سنة ومات مقتولاً، لأن جماعة من الفرس ثاروا عليه، وضربه واحد منهم بسهم فقتله، وكان هلاكه لمضي أحد عشر شهراً من سنة خمس وتسعين وستمائة للإسكندر. ثم ملك بعده ابنه يزد جرد بن بهرام بن سابور، وكان يقال ليزدجر المذكور الأثيم والخشن، وملك إِحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، وكان فظاً خشن الجانب لئيم الأخلاق، فسلك أقبح سيرة من الظلم والعسف وسفك الدماء، ورأى الفرس منه من الشر ما لم يعهدوه من آبائه، وصبروا عليه، وطالت

أيامه، وهو لا يزداد إِلا تمادياً في الجور والعسف. فابتهلوا إِلى الله تعالى في هلاكه، فهلك برفسة فرس، فيكون هلاكه لمضي أربعة أشهر من سنة سبع عشرة وسبعمائة. وكان ليزدجر المذكور ولد اسمه بهرام جور وكان أبوه يزدجر قد أسلمه عند المنذر، ملك العرب ليربيه، بظهر الحيرة، فنشأ بهرام جور هناك وقدم على أبيه قبل هلاكه، وبهرام جور في غاية الأدب والفروسية. فأذاقه أبوه الهوان، ولم يلتفت إليه، ولا رأى منه خيراً، فطلب بهرام جور العود إلى العرب، حيث كان، فأمره بذلك، وعاد بهرام جور إلى المنذر، ومات أبوه وهو عند المنذر. فاجتمع جميع الفرس على أنهم لا يملّكون أحداً من ولد يزد جرد، لما قاسوه منه، وأيضاً فإن بهرام جور قد انتشأ عند العرب وتخلق بأخلاقهم، فلا يصلح للفرس. وولوا شخصاً يسمّى كسرى من ولد أزدشير، وبلغ ذلك بهرام جور فانتصر بالمنذر وبابنه النعمان ملك العرب، وجرى بين العرب وبهرام جور وبين الفرس في ذلك مراسلات كثيرة، وآخر الأمر أن بهرام جور تملك موضع أبيه يزجرد واستقل بالملك. ويحكى عنه من الشجاعة والقوة شيء كثير، وآخر أمره أنه هلك بأن طلع إلى الصيد، وأمعن في طرد الوحش حتى توحل في سبخة وعدم، وكان مدة ملكه ثلاثاً وعشرين سنة وأحد عشر شهراً، فيكون هلاك بهرام جور لمضي ثلاثة أشهر من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. ثم ملك بعده ابنه يزد جرد بن بهرام جور ثمان عشرة سنة وأربعة أشهر، وسار بسيرة أبيه بهرام جور، من قمع الأعداء وعمارة البلاد، ثم هلك يزد جرد لمضى سبعة أشهر من سنة تسع وخمسين وسبعمائة. وخلّف ابنين، هرمز وفيروز، فتملك هرمز من يزد جرد سبع سنين وظلم الرعية، واحتجب عن الناس، ولما ملك هرمز هرب أخوه فيروز إِلى الهياطلة، وهم أهل البلاد التي بين خراسان وبين بلاد الترك، وهي طخارستان نص عليه أبو الريحان واستعان بملكهم على رد ملك أبيه إليه، واستقلاعه من أخيه هرمز. فانجده، وسار فيروز بجيش طخارستان، وطوائف من عسكر خراسان إلى هرمز، واقتتلا في الري فظفر فيروز بأخيه هرمز، فسجنه، وكانت أمهما واحدة فيكون انقضاء ملك هرمز، في سنة ست وستين وسبعمائة للإسكندر. ثم ملك فيروز بن يزد جود بن بهرام جور، سبعاً وعشرين سنه، وسلك حسن السيرة وظهر في أيامه غلاء وقحط، وغارت الأعين، ويبس النبات، وهلك الوحش، ودام ذلك مدة سبع سنين، وبعد ذلك أرسل الله تعالى المطر، وعادت الأحوال إلى أحسن حال، وكان ملك الهياطلة حينئذ يسمى الإخشنوار، ووقع بينه وبين فيروز، بسبب أن فيروز خطب ابنة الإخشنوار، فلم يزوجه، فسار فيروز إلى الهياطلة، وذكر سهم ذنوباً، منها أنهم يأتون الذكران، ولم يظفر منهم بشيء، وهلك فيروز بأن تردّى في خندق كان عمله الهياطلة، وغطي فوقع فيه مع جماعته فهلكوا، واحتوى إخشنوار على جميع

ما كان في معسكره، فيكون هلاك فيروز في سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة. ثم ملك بعده ابنه بلاش بن فيروز أربع سنين، وكان حسن السيرة، ومات في سنة سبع وتسعين وسبعمائة. ثم ملك بعده أخوه قباذ بن فيروز ثلاثاً وأربعين سنة، منها ست سنين كان فيها قتال بينه وبين أخيه جاماسف، وفي أيام قباذ المذكور، ظهر مردك الزنديق. وادعى النبوة، وأمر الناس بالتساوي في الأموال، وأن يشتركوا في النساء، لأنهم إخوة لأب وأم، أم وحواء، ودخل قباذ في دينه فهلك الناس وعظم ذلك عليهم، وأجمعوا على خلع قباذ. وخلعوه وولوا أخاه جاماسف بن فيروز، ولحق قباذ بالهياطلة، فأنجده وسار بهم وبعسكر خراسان، والتقى مع أخيه جاماسف، وانتصر عليه وحبس جاماسف، وستمر قباذ في الملك حتى مات في سنة أربعين وثمانمائة لمضي سبعة أشهر من السنة المذكورة. ثم ملك بعد قباذ ابنه أنوشروان بن قباذ بن فيروز بنْ يزدجر بن بهرام جور ابن يزد جرد الأثيم بن بهرام بن سابور ذي الأكتاف بن هرمز بني نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أزدشير بن بابك. وملك أنوشروان ثمانياً وأربعين سنة، ولما تولى الملك كان صغيراً، فلما استقل بالملك وجلس على السرير قال لخواصه: إِني عاهدت الله إن صار الملك إلي على أمرين: أحدهما: أن أعيد آل المنذر إلى الحجرة، وأطرد الحارث عنها، وأما الأمر الثاني: فهو قتل المردكية، الذين قد أباحوا نساء الناس وأموالهم، وجعلوهم مشتركين في ذلك. بحيث لا يختص أحد بامرأة ولا بمال، حتّى اختلط أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وتسهّل سبيل العاهرات إلى قضاء نهمهن، واتصلت السفلة إِلى النساء الكرائم التي ما كان أمثال أولئك يتجاسرون أن يملؤوا أعينهم منهن، إذا رأوهن في الطريق، فقال له مردك وهو قائم إلى جانب السرير، هل تستطيع أن تقتل الناس جميعاً. هذا فساد في الأرض، والله قد ولاك لتصلح، لا لتفسد. فقال له أنوشروان: يا ابن الخبيثه، أتذكر وقد سألت قباذ أن يأذن لك في المبيت عند أمي، فأذن لك. فمضيت نحو حجرتها، فلحقت بك وقبلت رجلك، وإن نتن جواربك ما زال في أنفي، منذ ذلك إلى الآن، وسألتك حتى وهبتها لي ورجعت. قال: نعم فأمر حينئذ أنوشروان بقتل مردك، فقتل بين لديه، وأخرج وأحرقت جيفته، ونادى بإباحة دماء المردكة، فقتل منهم في ذلك اليوم عالم كثير، وأباح دماء المانوية أيضاً، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وثبت ملة المجوسية القديمة، وكتب بذلك إلى أصحاب الولايات، وقوي الملك بعد ضعفه، بإدامه النظر وهجر الملاذ، وترك اللهو، وقوي جنده بالأسلحة والكراع، وعمر البلاد، ورد إلى ملكه كثيراً من الأطراف التي غلبت عليها الأمم بعلل وأسباب شتى. منها السند والرخج وزابلستان وطخارستان ودروستان وغيرها، وبنى المعاقل والحصون، وقسم أموال المردكية على الفقراء، ورد الأمر التي لها أصحاب إلى أصحابها وكل مولود اختلف فيه ألحقه بالشبه، وإن كان ولداً للمردكية المقتولة،

جعله عبداً لزوج المرأة التي حبلت به من المردكية، وأمر بكل امرأة غلبت على نفسها، أن تعطى من مال المردكي الذي غلبها بقدر مهرها، وأمر بنساء المعروفين اللائي مات من يقوم عليهن، أو تبرأ منهن أهلهن، لفرط الغيرة والأنفة، أن يجمعن وضع أفرده لهن، وأجرى عليهن ما يمونهن، وأمر أن يزوجن من مال كسرى، لك فعل بالبنات اللائي لم يوجد لهن أب، وأما البنون الذين لم يوجد لهم أب فأضافهم إلى مماليكه، ورد المنذر إِلى الحيرة، وطرد الحارث عنها. وكان من حديث الحارث المذكور: أن العرب كانت قد طمعت في أرض الفرس، أيام قباذ لضعفه عن ضبط المملكة، واستولت كندة على الحيرة، وطردوا اللخميين عنها، وكان ملك اللخميين حينئذ المنذر بن ماء السماء، وملك موضعه الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية بن ثور وثور هو كندة، ووفق الحارث قباذ على اتباع مردك، فعظمه قباذ وأقامه وطرد المنذر، لذلك فلما استقل أنوشروان بالملك، أعاد المنذر وطرد الحارث عن الحيرة، فهرب، وأرسل المنذر خيلاً في طلب الحارث المذكور، فأمسكوا عدة من أهله فقتلهم، وعدم الحارث، واختلف في صورة عدمه. وسنذكر ذلك عند ذكر ملوك كندة، في الفصل المتضمن ذكر ملوك العرب إِن شاء الله تعالى. وأمر أنوشروان بنساء أبيه قباذ أن يخيرن بين المقام في داره وإجراء الأرزاق عليهن، وبين أن يزوجن بالأكفاء من البعولة، وفتح أنوشروان الرها مدينة هرقل، ثم الإسكندرية، وأذعن له قيصر بالطاعة، وغزا الخزر، ثم توجه إِلى نحو عدن، فسكّر هناك ناحية من البحر بين جبلين، بالصخور وعمد الحديد، ثم سار إلى الهياطلة، مطالباً بدم فيروز، وكبس بلادهم، وقتل ملكهم، وخلقاً كثيراً من أصحابه، وتجاوز بلخ ما وراءها. ثم رجع إلى المدائن وأرسل جيشاً إلى اليمن، وقدّم عليهم وهرز فقتلوا الحبشة المستولين عليها، وأعاد ملك أبا سيف بن ذي يزن عليه، بعد قتل ملك الحبشة مسورق بن أبرهة الأشرم الذي جاء بالفيل ليهدم الكعبة، وغزا برجان وبنى باب الأبواب. وفي زمانه ولد عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم، لأربع وعشرين سنة من ملكه، وكذلك ولد النبي صلى الله عليه وسلم، في السنة الثانية والأربعين من ملك أنوشروان المذكور. ومات أنوشروان في سنة ثمان وثمانين وثمانمائة للإسكندر لمضي سبعة أشهر من السنة المذكورة. ثم ملك بعده ابنه هرمز بن أنوشروان، وكان عادلاً، يأخذ للأدنى من الشريف، وبالغ في ذلك حتى أبغضه خواصه، وأقام الحقّ على بنيه ومحبيه، وأفرط في العدل والتشديد على الأكابر، وقصر أيديهم عن الضعفاء إِلى الغاية، ووضع صندوقاً في أعلاه خرق، وأمر أن يلقي المتظلم قصته فيه، والصندوق مختوم بخاتمه، وكان يفتح الصندوق وينظر في المظالم خوفاً من أن لا ترسل إِليه الشكاوى، على بطانته وأهله. ثم طلب أن يعلم بظلم المتظلم ساعة فساعة، فأمر باتخاذ سلسلة من الطريق، وخرق لها في داره إلى موضع

جلوسه وقت خلوته، وجعل فيها جرساً فكان المتظلم يجيء من ظاهر الدار فيحرك السلسلة، فيعلم به فيتقدم بإحضاره وإزالة ظلامته، ثم خرج على هرمز عدة أعداء، منهم شابة ملك الترك في جمع عظيم، وخرج عليه ملك الروم، وخرج عليه ملك العرب في خلق كثير، حتى نزلوا شاطئ الفرات، فأرسل عسكراً إلى ملك الترك، وقدّم عليهم رجلاً من أهل الري يقال له بهرام جوبين بن بهرام خشنش، واقتتل مع الترك، وآخر ذلك أن بهرام جوبين قتل شابة ملك الترك، ونهب عسكره وطردهم، واستولى على أموال جمة، أرسل بها إِلى هرمز. ثم قام ابن شابة مقام أبيه واصطلح مع بهرام جوبين وتهادنا، ثم أن هرمز أمر بهرام جوبين بالمسير إِلى الترك، وغزوهم في بلادهم، فلم ير بهرام ذلك مصلحة، وخاف من هرمز لكونه لم يمتثل ذلك، فاتفق بهرام والعسكر الذين معه وخلعوا طاعة هرمز، فأنفذ هرمز إِليهم عسكراً فصار أكثرهم مع بهرام جوبين بعد قتال جرى بينهم. وكان برويز بن هرمز مطروداً عن أبيه، مقيماً بأذربيجان فبلغه ضعف أمر أبيه واتفاق أكابر الدولة والعسكر على خلعه، وخشى من استيلاء بهرام جوبين على الملك، فقصد برويز أباه ولما وصل برويز وثب حالا برويز على هرمز وأمسكاه، وسملا عينيه، ولبس برويز التاج وقعد على سرير الملك، وكان من أول ملك هرمز إِلى استقرار ابنه برويز في الملك نحو ثلاث عشرة سنة ونصف سنة فإِن هرمز بقى معتقلاً مدة ثم خنق. وجلس برويز على السرير وخالفه بهرام جوبين فإِنه لما جلس برويز على سرير الملك أول مرة أظهر بهرام جوبين عدم طاعته، وانتصر لهرمز، وقصد أن ينتقم من برويز لما فعله في أبيه هرمز، من سمل عينيه، وجرى بين بهرام جوبين وبين برويز مراسلات، لم يرِد فيها بهرام جوبين إِلا ما يسوء برويز، وآخر الحال أن بهرام جوبين تغلب، وخشى برويز أن يقيم أباه الأعمى صورة ويستولي على الملك، فاتفق مع خواصه على قتل أبيه هرمز، فقتلوه ولحق برويز بملك الروم مستنجداً به. ووصل بهرام جوبين ولبس التاج وقعد على سرير الملك، وقال لعظماء الدولة: إنني وإن لم أكن من بيت الملك فإِنّ الله ملكني اليوم والمُلك بيده، يملّكه من يشاء، ووصل برويز إلى ملك الروم فزوّجه بنته مريم، واًنجده بثمانين ألف فارس، وسار بهم حتى قارب بهرام جوبين فالتقيا وجرى بينهما قتال كثير ولحق ببرويز كثير من الفرس، وولى بهرام جوبين هارباً إلى خراسان ثم لحق بالترك. ثم تملك برويز بعد طرد بهرام جربين، وفرّق في عسكر الروم أموالاً جليلة، وأعادهم إِلى ملكهم، وكان استقرار برويز في الملك في أثناء سنة اثنتين وتسعمائة للإِسكندر، وملك برويز ثمانياً وثلاثين سنة. ولما استقر في الملك غزا الروم وسببه أن الملك الرومي الذي عمل مع برويز ما عمله هلك، فطرد الروم ابنه عن الملك، وأقاموا غيره فجرت بين برويز وبين الروم عدة حروب وكسر الروم ووصلت خيله

القسطنطينية، وجمع برويز في مدة ملكه من الأموال ما لم يجتمع لغيره من الملوك، وتزوج شيرين المغنية، وبنى لها قصر شيرين، بين حلوان وخانقيق وكان له ثمانية عشر ابناً، أكبرهم اسمه شهريار، ومنهم شيرويه الذي ملك بعد أبيه. وأم شيرويه مريم بنت ملك الروم، ثم إِن برويز عتا وتجبر واحتقر الأكابر وظلم الرعية، وكان متولي الحبوس زادان فروخ قد أنهى إِليه أنه قد اجتمع في الحبس ستة وثلاثون ألف رجل، وقد ضاقت الحبوس عنهم، وقد عظم نتنهم، فإِن رأى الملك أن يعاقب من يستحق العقوبة، ويقطع من يستحق القطع، ويفرج عنهم. فقال برويز: بل أقتلهم جميعهم، وأقطع رؤوسهم، وأجعلها قدام باب دار المملكة، فاعتذر زادان فروخ عن ذلك، وسأل الإعفاء عنه، فأكد عليه كسرى برويز وقال: إِن لم تقتلهم فيْ هذا النهار قتلتك قبلهم، وشتمه وأخرجه على ذلك. فذهب إِليهم زادان فروخ وأعلم المحبسين بذلك فكثر ضجيجهم فقال: إِن أفرجت عنكم تخرجون وتأخذون بأيديكم ما تجدونه في الأسواق من آلات وأخشاب وتكبسون كسرى في داره بغتْة، فحلفوا على ذلك، وأفْرج عنهم ففْعلوا ذلك، ولم يشعر كسرى برويز إِلا بالغلبة والصياح، ولم يقدر حاشيته والذين ببابه في ذلك الوقت على رد المذكورين. فهجموا على كسرى برويز في داره، وهرب فاختبأ في جانب بستان بالدار يعرف بباغْ الهند، فدلهم عليه بعض الحاشية، فأخرجوه ممسكاً إِلى زادان فروخ، فحبسه في دار رجل يقال له مارسفيد وقيده بقيد ثقيل، ووكل به جماعة ومضى إِلى عفر بابل. فجاء بشيرويه وأجلسه على سرير الملك، وأطاعه الخاصة والعامة، وجرى بين شيرويه وبين أبيه مراسلات وتقريع، وآخر الآمر قال شيرويه لأبيه: لا تعجب إِن أنا قتلتك، فإنني اقتدي بك، في سملك عيني أبيك هرمز وقتله، ولو لم تفعل ذلك مع أبيك، ما أقدم عليك ولدك بمثل ذلك وأرسل شيرويه بعض أولاد الأساورة الذي قتلهم برويز وأمرهم بقتله، فقتلوه. ولمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوماً من ملك بهريز، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إِلى المدينة وكان هلاك برويز لمضي خمس سنين وستة أشهر وخمسة عشر يوماً للهجرة، لأنه من السنة الثانية والأربعين من ملك أنوشران، وهي سنة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِلى نصف السنة الثالثة والثلاثين من ملك برويز وهي عام الهجرة، ثلاث وخمسون سنة وبيان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد في السنة الثانية والأربعين من ملك أنوشروان، وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كان له من العمر ثلاث وخمسون سنة، فيكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبع سنين في أيام أنوشروان، واثنتا عشرة سنة في أيام هرمز بن أنوشروان، وسنة ونصف بالتقريب في الفترة التي كانت بين إِمساك هرمز وبين استقرار ابنه برويز، واثنتان وثلاثون سنة ونصف بالتقريب من ملك برويز، ومجموع ذلك ثلاث وخمسون سنة. وعلى ذلك فتكون السنة الثالثة والثلاثون

من ملك برويز، هي السنة الخامسة والثلاثون وتسعمائة للإِسكندر. بالتقريب، وكانت مدة ملك برويز ثمانياً وثلاثين سنة، فيكون هلاك برويز في سنة أربعين وتسعمائة للإِسكندر. ثم ملك شيرويه وكان رديء المزاج، كثير الأمراض، صغير الخلق، وكان أخوته السبعة عشر كأنهم عوالي الرماح، قد كملوا في حسن الخلق، والأخلاق، والأدب، فلما ولى شيرويه الملك قتل الجميع، ثم ندم علىٍ قتل أخوته، وابتلى بالأسقام فلم يلتذ بشيء من اللذات، وجزع بعد قتلهم جزعاً شديداً، واحترم نوم الليل، وصار يبكي ليلاً ونهاراً ويرمي التاج عن رأسه، ثم هلك على تلك الحال، إن مدة ملكه ثمانية أشهر. ثم ملك أزدشير بن شيرويه بن برويز، وقيل إِنه كان ابن سبع سنين وحضنه رجل يقال له مهاذر خشنش فأحسن سياسة الملك ثم قتل أزدشير بن شيرويه وكانت مدة ملكه سنة وستة أشهر. ثم ملك شهريران، وكان من مقدمي الفرس، مقيماً في مقابلة الروم في عسكر عظيم من الفرس، وكان الشام إِقطاعه، وأقبل شهريران بعسكره لما بلغه ملك أزدشير بن شيرويه وصغر سنه، وهاجم مدينة طيسبون ليلاً بعد قتال كثير، وقتل مهاذر خشنش، وقتل أزدشير بن شيرويه، واستولى على الخزائن والأموال ولبس التاج وجلس على سرير الملك، ولم يكن من أهل بيت المملكة، ولما جلس على السرير ودخل الناس للتهنئة، أوجعه بطنه بحيث لم يقدر أن يقوم إِلى الخلاء، فدعا بطست وستارة وتبرز بين يدي السرير، فتطير الناس من ذلك وقالوا: هذا لا يدوم ملكه، وكان من سنة الفرس إِذا ركب الملك أن يقف جماعة حرسه صفين له، وعليهم الدروع والبيض، وبأيديهم السيوف مشهورة والرماح. فإِذا حاذاهم الملك وضع كل منهم ترسه على قربوس سرجه، ثم وضع جبهته عليه كهيئة السجود، ثم يرفعون رؤوسهم ويسيرون من جانبي الملك يحفظونه. وركب شهريران، فوقف له بسفروخ وأخواه في جملة الحرس، فلما حاذاهم شهريران طعنه المذكورون فألقوه عن فرسه، وحملت عظماء الفرس على أصحابه فقتلوا منهم جماعة، وشدّوا في رجل شهريران حبلاً وجروه إِقبالاً وإدباراً، لكونه تعرض للملك وليس من بيت المملكة. ثم ولوا المُلك بوران بنت كسرى برويز، فأحسنت السيرة، وردت خشبة الصليب على ملك الروم فعظم موقعها عنده، وأطاعها في كل ما كلفته، وملكت سنة وأربعة أشهر ثم هلكت. فملك خشنشدة من بني عم كسرى برويز، ولمّا ملك خشنشدة المذكور لم يهتد على تدبير الملك، فكان ملكه أقل من شهر وقتل. ثم ملكت أرزمي دخت بنت كسرى برويز، ولما ملكت أظهرت العدل والإِحسان، وكان أعظم الفرس حينئذ فرخ هرمز أصبهبذ خراسان، وكانت أرزمي دخت من أحسن النساء صورة، فخطبها فرخ هرمز ليتزوجها، فامتنعت من ذلك، ثم أجابته إِلى الاجتماع به في الليل ليقضي وطره منها،

الفصل الثالث ذكر فراعنة مصر واليونان والروم

فحضر بالليل بالشمع والطيب، فأمرت متولي حرسها فقتله. وكان رستم بن فرخ هرمز، وهو الذي تولى قتل المسلمين فيما بعد، قد جعله أبوه نائبه على خراسان لما توجه بسبب أرزمي دخت، فلما قتلته جَمَعَ رستم المذكور عسكره وقصد أرزمي دخت بنت كسرى برويز، فقتلها آخذاً بثأر أبيه، وكان ملكها ستة أشهر، واختلف عظماء الفرس فيمن يولونه الملك، فلم يجدوا غير رجل من عقب أزدشير بن بابك. واسمه كسرى بن مهرخشنش فملكوه، ولما ملك المذكور لم يلق به الملك، فقتلوه بعد أيام، فلم يجدوا من يملكونه من بيت المملكة. فوجدوا رجلاً يقال له فيروز بن خستان، يزعم أنه منٍ نسل أنوشروان، فملكوا فيروز المذكور ووضعوا التاج على رأسه، وكان رأسه ضخماً فلم يسعه التاج، فقال: ما ضيق هذا التاج، فتطير العظماء من افتتاح كلامه بالضيق وقالوا: هذا لا يفلح فقتلوه. ثم ملك فرخ زاد خسرو من أولاد أنوشروان، وملك ستة أشهر وقتلوه. ثم ملك يزد جرد بن شهريار بن برويز بن هرمز بن أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزجرد بن بهرام جور بن يزد جرد بن بهرام بن سابور ذي الأكتاف بن هرمز بن نرسي بهرام بن بهرام آخر بن هرمز بن سابور بن أزْدشير بن بابك. وكان يزد جرد المذكور مختفياً بإصطخر لما قتل أبوه مع أخوته، حين قتلهم شيرويه حسبما ذكرناه، وكان ملك يزد جرد المذكور كالخيال بالنسبة إِلى ملك آبائه، وكانت الوزراء تدبر ملكه، وضعفت مملكة فارس واجترأ عليهم أعداؤهم، وغزت المسلمون بلادهم بعد أن مضى من ملكه ثلاث أربع سنين، وكان عمر يزد جرد إِلى أن قتل بمرو، عشرين سنة، وكان مقتله في خلافة عثمان رضي الله عنه، في سنة إِحدى وثلاثين للهجرة، وهو آخر من ملك منهم وزال ملكهم بالإسلام زوالاً إِلى الأبد فهذا ترتيب ملوك الفرس من أوشهنج إِلى يزد جرد من كتاب الأمم لابن مسكويه ومن كتاب أبي عيسى. الفصل الثالث ذكر فراعنة مصر واليونان والروم ثم ملوك اليونان ثم ملوك الروم أما الفراعنة فهم ملوك القبط بالديار المصرية، قال ابن سعيد المغربي، ونقله من كتاب صاعد في طبقات الأمم: إن أهل مصر كانوا أهل ملك عظيم في الدهور الخالية والأزمان السالفة، وكانوا أخلاطاً من الأمم ما بين قبطي ويوناني وعمليقي، إلا أن جمهرتهم قبط. قال: وأكثر ما تملك مصر الغرباء، قال: وكانوا صابئة يعبدون الأصنام، وصار بعد الطوفان بمصر علماء بضروب من العلوم، خاصة بعلم الطلسمات والنيرنجات والكيمياء، وكانت مدينة منف هي كرسي المملكة، وهي على اثني عشر ميلاً من الفسطاط. قال: ابن سعيد وأسنده إلى الشريف الإِدريسي: إِن أول من ملك مصر بعد الطوفان بيصر بن حام بن نوح، ونزل مدينة منف هو وثلاثون من ولده وأهله، ثم ملكها بعده ابنه مصر بن بيصر،

وسميت البلاد به، لامتداد عمره وطول مدة ملكه، ثم ملك بعده ابنه قفط بن مصر، ثم ملك بعده أخوه أتريب بن مصر، وأتريب المذكور هو الذي بنى مدينة عين شمس وبها الآثار العظيمة، إِلى الآن، ثم ملك بعده أخوه صا وبه سميت مدينة صا وهي مدينة خراب على النيل من أسفله، ثم ملك بعده تذراس، ثم ملك بعده ماْليق بن تذراس ثم ملك بعده ابنه حرابا بن ماليق. ثم ملك بعده كلكلى بن حرابا، وكان ذا حكمه، وهو أول من جمّد الزئبق، وسبك الزجاج. ثم ملك بعده حريبا بن ماليق وكان شديد الكفر. ثم ملك بعده طوليس وهو فرعون إِبراهيم عليه السلام. وهو الذي وهب سارة هاجر، وكان مسكن طوليس بالفرما ثم ملك بعده أخته جورياق. ثم ملك بعدها زلفا بنت مامون، وكانت عاجزة عن ضبط المملكة، وسمعت عمالقة الشام بضعفها فغزوها وملكوا مصر. وصارت الدولة للعمالقة وكان الذي أخذ الملك منها الوليد بن دومغ العملاقي، وكان يعبد البقر، فقتله أسد في بعض متصيداته، وقيل هو أول من تسمى بفرعون، وصار ذلك لقباً لكل من ملك مصر بعده. ثم ملك بعده ابنه الريان بن الوليد وهو فرعون يوسف، ونزل مدينة عين شمس. ثم ملك بعده ابنه دارم بن الريان، وفي زمانه توفي يوسف الصديق عليه السلام، وتجبر دارم المذكور واشتد كفره، وركب في النيل فبعث الله تعالى عليه ريحاً عاصفة أغرقته بالقرب من حلوان. ثم ملك بعده كاسم بن معدان العمليقي أيضاً، وقصد أن يهدم الهرمين، فقال له حكماء مصر إِن خراج مصر لا يفي بهدمهما، وأيضاً فإنهما قبران لنبيين عظيمين، وهما شيث بن آدم، وهرمس، فأمسك عن هدمهما. ثم ملك بعده الوليد بن مصعب، وهو فرعون موسى عليه السلام. وقد اختلف فيه فقيل إِنه من العمالقة، وهو الأظهر وقيل إِنه هو فرعون يوسف. وأطال الله تعالى عمره إِلى أيام موسى عليه السلام، قال ابن سعيد، وذكر القرطبي في تاريخ مصر أنّ الوليد المذكور كان من القبط، وكان في أول أمره صاحب شرطة لكاسم العملاقي، وكانت الأقباط قد كثرت، فملكوا الوليد المذكور بعد كاسم وانقرضت من حينئذ دولة العمالقة من مصر، قال: والوليد المذكور هو الذي ادّعى الربوبية. قال: وصنف الناس في سيرته وخلدوا ذكرها، وكانت أرض مصر على أيامه في نهاية من العمارة، فعظمت دولته وكثرت عساكره، وفي مناجاة موسى عليه السلام، يا رب لم أطلت عمر عدوك فرعون يعني الوليد المذكور مع ادعائه ما انفردتَ به من الربوبية، وجحد نعمتك، فقال الله تعالى: أمهلته لأن فيه خصلتين من خصال الإيمان، الجود والحياء، وكان هامان وزير فرعون المذكور، وهو الذي حفر لفرعون خليج السردوسي، ولما أخذ هامان في حفره سأله أهل كل قرية أن يجريه إِليهم، ويعطوه على ذلك مالاً، وكان يأتي به إِلى القرية نحو المشرق، ثم يرده إِلى القرية من نحو المغرب، وكذلك في

الجنوب والشمال، واجتمع لهامان من ذلك نحو مائة ألف دينار، فأتى بها إِلى فرعون وأخبره بالقضية فقال فرعون: ويحك إِنّه ينبغي للسيد أن يعطف على عبيده، ولا يطمع بما في أيديهم، ورد على أهل كل قرية ما أخذ منهم. وأخبر فرعون المذكور المنجمون بظهور موسى عليه السلام، وزوال ملكه على يده، فأخذ في قتل الأطفال حتى قتل تسعين ألف ألف طفل، وسلمّ الله تعالى نبيه موسى عليه السلام منه بأن التقطته زوج فرعون آسية، وحمته منه، وتزعم اليهود أنَّ التي التقطت موسى هي بنت فرعون لا زوجته، والأصح أنها زوجته، حسبما نطق به القرآن العظيم، ولما كان منه ومن موسى ما تقدّم ذكره من أظهار الآيات لفرعون، وهي العصا ويده البيضاء والجراد والقمل والضفادع وصيرورة الماء دماً وغير ذلك، سلمّ فرعون بني إِسرائيل إِلى موسى عليه السلام، ولما أخذهم موسى وسار بهم ندم فرعون على ذلك، وركب بعساكره وتبعهم فلحقهم عند بحر القلزم، وأوحى الله تعالى إِلى موسى عليه السلام، فضرب البحر بعصاه فصار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق، فتبعه فرعون فغرق هو وجنوده وكان هلاك فرعون المذكور بعد مضي ثمانين سنة من عمر موسى عليه السلام، وكان قد تملك من قبل ولادة موسى، ولذلك أمر بقتل الأطفال في أيام ولادة موسى عليه السلام فمدة ملك فرعون المذكور تزيد على ثمانين سنة قطعاً. ولما هلك فرعون المذكور ملكت القبط بعده دلوكة المشهورة بالعجوز، وهي من بنات ملوك القبط، وكان السحر قد انتهى إِليها وطال عمرها حتى عرفت بالعجوز وصنعت على أرض مصر من أول أرضها في حد أسوان إِلى آخرها سوراً متصلاً إِلى هنا انتهى كلام ابن سعيد المغربي ولم يذكر من تولى بعد دلوكة. ثم إِني وجدت في أوراق قد نقلت من تاريخ ابن حنون الطبري، وهو تاريخ ذكر فيه ملوك مصر في قديم الزمان قال: ثم ملك مصر بعد دلوكة صبي من أبناء أكابر القبط، كان يقال له دركون بن بكتوس، ثم ملك بعده توذس، ثم ملك بعده أخوه لقاش، ثم ملك بعده أخوه مرينا، ثم ملك بعده أستماذس، ثم ملك بعده يلطوس بن ميكاكيل، ثم ملك بعده مالوس ثم ملك بعده مناكيل ثم ملك بعده يولة وهو الذي غزا رحبعم بن سليمان بن داود عليهما السلام، وقد ذكر في كتب اليهود أن فرعون الذي غزا بني إِسرائيل على أيام رحبعم كان اسمه شيشاق وهو الأصح، ثم لم يشتهر بعد شيشاق المذكور، غير فرعون الأعرج، وهو الذي غزاه بخت نصر وصلبه، وكان بين رحبعم بن سليمان عليه السلام وبخت نصر فوق أربعمائة سنة، وكان شيشاق على أيام رحبعم، فشيشاق قبل فرعون الأعرج بأكثر من أربعمائة سنة، ولم يقع لي أسماء الفراعنة الذين كانوا في هذه المدة، عني فيما بين شيشاق وفرعون الأعرج. ولما قتل بخت نصر فرعون المذكور وغزا مصر وأباد أهلها، بقيت مصر أربعين سنة خراباً. ومن

ذكر ملوك اليونان

كتاب ابن سعيد المغربي قال: وصارت مصر والشام من حين غزاهما بخت نصر تحت ولايته حتى مات بخت نصر، وتوالت الولاة من جهة بني بخت نصر على مصر والشام حتى انقرضت دولة بني بخت نصر فتوالت ولاة الفرس على مصر، فكان منهم كشروس الفارسي باني قصر الشمع، ثم تولى بعده طخارست الطويل قال: وفي أيامه كان بقراط الحكيم، وتوالت بعده نواب الفرس إلى ظهور الإسكندر وغلبته على الفرس. ذكر ملوك اليونان أما ملوك اليونان، فأول من اشتهر منهم فيلبس والد الإسكندر، وكان مقر ملكه بمقذونية، وهي مدينة حكماء اليونان، وهي مدينة على جانب الخليج القسطنطيني من شرقيه. وكانت ملوك اليونان طوائف، ولم يشتهر منهم غير فيلبس المذكور، وكان فيلبس المذكور يؤدي الأتاوة لملوك الفرس، فلما مات فيلبس المذكور ملك بعده ابنه الإسكندر بن فيلبس، وقد مرّت أخبار الإسكندر مع ملوك الفرس، وملك الإسكندر نحو ثلاث عشرة سنة ومات الإسكندر في أواخر السنة السابعة من غلبته على ملك الفرس. ولما مات انقسمت البلاد بين الملوك، فملك بعض الشام والعراق أنطياخس. وملك مقذونية أخو الإسكندر واسمه فيلبس أيضاً باسم أبيه وملك بلاد العجم ملوك الطوائف، الذين رتبهم الإسكندر. وملك مصر وبعض الشام والمغرب البطالسة، وهم ملوك اليونان، وكان يسمى كل واحد منهم بطلميوس، وهي لفظة مشتقة من الحرب معناها أسد الحرب، وكان عدد البطالسة الذي ملكوا بعد الإسكندر ثلاثة عشر ملكاً. وكان آخرهم الملكة قلوبطرا بنت بطلميوس، ولم أعلم أي بطلميوس هو ولا كنيته، وزال ملكهم بملك أغستوس الرومي، وصارت الدولة للروم، وكانت جميع مدة ملك اليونان مائتين وخمساً وسبعين سنة، وكان بين غلبة الإسكندر على ملك فارس وبين غلبة أغستوس، مائتان واثنتان وثمانون سنة. وبقي الإسكندر بعد غلبته على دارا نحو سبع سنين، وإذا أنقصنا سبعاً من مائتين واثنتين وثمانين سنة بقي من موت الإسكندر إِلى غلبة أغستوس مائتان وخمس وسبعون سنة، هي مدة ملك البطالسة. وأول البطالسة بعد الإسكندر بطلميوس سشوس ابن لاغوس، وكان يلقب المنطقي، وملك المذكور عشرين سنة فيكون موت ابن لاغوس المذكور، لسبع وعشرين سنة مضت من غلبة الإسكندر. ثم ملك بعده بطلميوس الثاني واسمه فيلوذفوس ومعناه محب أخيه، وملك ثمانياً وثلاثين سنة، وهو الذي نقلت له التوراة من العبرانية إِلى اليونانية، وهو الذي عتق اليهود الذي وجدهم أسرى لما تملك، وقد تقدم ذكر ذلك بعد ذكر بني إِسرائيل. فيكون موت محب أخيه المذكور لخمس وستين سنة مضت من غلبة الإسكندر. ثم ملك بعده بطلميوس الثالث واسمه أوراخيطس

ذكر ملوك الروم

وملك خمساً وعشرين سنة، وفي أيامه أدى له ملك الشام الأتاوة، فيكون موت أوراخيطس المذكور، لتسعين سنة مضت من غلبة الإسكندر. ثم ملك بعده بطلميوس الرابع واسمه فيلوبطور ومعناه محب أبيه، وملك سبع عشرة سنة، فيكون موت محب أبيه المذكور، لمضي مائة سنة وسبع سنين من غلبة الإسكندر. ثم ملك بعده بطلميوس الخامس واسمه فيفنوس أربعاً وعشرين سنة، فيكون موت فيفنوس المذكور لمائة وإحدى وثلاثين سنة مضت من غلبة الإسكندر. ثم ملك بعده بطلميوس السادس واسمه فيلوميطور ومعناه محب أمه، وملك خمساً وثلاثين سنة. فموته لمضي مائة وست وستين سنة لغلبة الإسكندر. ثم ملك بعده بطلميوس السابع واسمه أوراخيطس الثاني، وملك تسعاً وعشرين سنة فموت لمضي مائة وخمس وتسعين سنة للإسكندر. ثم ملك بعده بطلميوس الثامن واسمه سوطيرا ست عشرة سنة، فيكون موت سوطيرا المذكور لمضي مائتين وإحدى عشرة سنة لغلبة الإسكندر. ثم ملك بعد بطلميوس التاسع واسمه سيد يريطس تسع سنين، فيكون موته لمضي مائتين وعشرين سنة لغالبة الإسكندر. ثم ملك بعده بطلميوس العاشر واسمه إِسكندروس ثلاث سنين فموته لمضي مائتين وثلاث وعشرين سنة للإِسكندر. ثم ملك بعده بطلميوس الحادي عشر واسمه فيلوذفوس آخر وملك ثمان سنين، فموت فيلوذفوس المذكور لمضي مائتين وإحدى وثلاثين سنة للإِسكندر. ثم ملك بطلميوس الثاني عشر واسمه دينو سيوس تسعاً وعشرين سنة، فيكون موت المذكور لمضي مائتين وستين سنة للإِسكندر. ثم ملكت قلوبطرا وهي الثالثهَ عشرة، وملكت المذكورة اثنتين وعشرين سنة، وعند مضي اثنتين وعشرين سنة من ملكها غلبها أغسطس على الملك فقتلت قلوبطرا نفسها وانقرض بذلك ملك اليونان، وانتقلتَ المملكة حينئذ إلى الروم، وهم بنو الأصفر، فموت قلوبطرا وغلبة أغسطس كان لمضي مائتين واثنتين وثمانين سنة لغلبة الإسكندر. ذكر ملوك الروم ذكر أبو عيسى في كتابه أنّ أول ما ملكت عليهم الروم روملّس وروما ناوس، فبنيا مدينة رومية، واشتقا اسمها من اسمهما، ثم وثب روملس على أخيه روما ناوس فقتله، وملك بعد قتله ثمانياً وثلاثين سنة، وحده، واتخذ روملس بروميه ملعباً عجيباً. ثم ملك بعده على رومية عدة ملوك ولم يشتهروا ولا وقعت إِلينا أخبارهم. ومن الكامل لابن الأثير، أنّ ملوك الروم كان مقر ملكهم رومية الكبرى، قبل غلبتهم على اليونان، وكان الروم يدينون بدين الصابئين ولهم أ! نام على أسماء الكواكب السبعة يعبدونها، وكان أول من اشتهر من ملوكهم غانيوس ثم ملك بعده يوليوس، ثم ملك بعده أغسطس

بشينين معجمتين. ولكن لما عرب صار بسينين مهملتين، ولقبه قيصر، ومعناه شق عنه لأنّ أمه ماتت قبل أن تلده، فشقوا بطنها وأخرجوه، فلقب قيصر وصار لقباً لملوك الروم بعده. وخرج أغسطس في السنة الثانية عشرة من ملكه من رومية بعساكر عظيمة، في البر والبحر، وسار إِلى الديار المصرية، واستولى على ملك اليونان، وكانت قلوبطرا هي ملكة اليونان وكان مقامها في الإسكندرية، فلما غلبها أغسطس قتلت قلوبطرا نفسها في السنة الثانية عشرة من ملك أغسطس، ولما ملك أغسطس الرومي على اليونان اضمحل ذكر اليونان ودخلوا في الروم، ولما ملك أغسطس ديار مصر والشام دخلت بنو إِسرائيل تحت طاعته، كما كانوا تحت طاعة البطالسة ملوك اليونان. فولى أغسطس ببيت المقدس على اليهود والياً منهم وكان يلقب هرذوس حسبما تقدم ذكره، وفي أيام أغسطس ولد المسيح عليه السلام، وقد تقدم ذكره أيضاً، وكانت غلبة أغسطس على ديار مصر وقتل قلوبطرا لمضي مائتين واثنتين وثمانين سنة لغلبة الإسكندر، وكانت مدة ملك أغسطس ثلاثاً وأربعين سنة، منها اثنتا عشرة سنة قبل غلبته على اليونان، وإحدى وثلاثون سنة من غلبته إِلى وفاته، وكان موت أغسطس لمضي ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة لغلبة الإسكندر. ثم ملك بعد أغسطس طبياريوس في أول سنة ثلاثمائة وأربع عشرة سنة لاسكندر، من كتاب أبي عيسى أنّ طبياريوس ملك اثنتين وعشرين سنة، وطبياريوس المذكور هو الذي بنى طبرية بالشام، واشتق اسمها من اسمه، ومات طبياريوس لمضي ثلاثمائة وخمس وثلاثين سنة للإسكندر. ثم ملك بعد طبياريوس غانيوس قال أبو عيسى وملك غانيوس أربع شين ولمضي السنة الأولى من ملك غانيوس رفع المسيح عيسى بن مريم عليه السلام فيكون رفعه لمضي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة للإسكندر، ومات غانيوس لمضي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة للإسكندر. ثم ملك بعد غانيوس قلوذيوس قال أبو عيسى: وملك قلوذيوس أربع عشرة سنة من القانون وفي أيام قلوذيوس كان سيمون الساحر برومية. من الكامل وفي مدة ملك قلوذيوس المذكور حبس شمعون، ثم خلص وسار إلى إنطاكية، ودعا إلى النصرانية، ثم سار إِلى رومية ودعا أهلها أيضاً فأجابته زوجة الملك، وكان موت قلوذيوس لمضي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة للإسكندر. ثم ملك بعده نارون من قانون أبي الريحان البيروتي أنه ملك ثلاث عشرة سنة، وهو الذي قتل في آخر ملكه بطرس وبولص برومية، وصلبهما منكسين، وكان موت نارون المذكور في أواخر سنة ست وستين وثلاثمائة للإسكندر. ثم ملك بعده ساسيانوس قال أبو عيسى وملك ساسيانوس المذكور عشر سنين، فيكون موته في أواخر سنة ست وسبعين وثلاثمائة. ثم ملك بعده طيطوس من القانون ملك سبع سنين، وهو الذي غزا اليهود

وأسرهم وباعهم وخرب بيت المقدس وأحرق الهيكل، وقد تقدم ذلك عند ذكر خراب بيت المقدس الخراب الثاني، وكان موت طيطوس في أواخر سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة للإسكندر. ثم ملك بعده ذو مطينوس من القانون ملك خمس عشرة سنة، وتتبع النصارى واليهود وأمر بقتلهم، وكان دينه ودين غيره من الروم عبادة الأصنام حسبما قدّمنا ذكره، وكان موت ذو مطينوس في أواخر سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. ثم ملك بعده نارواس من كتاب أبي عيسى أنه ملك سنة واحدة وكانت وفاته في أواخر سنة تسع وتسعين وثلاثمائة للإسكندر. ثم ملك بعده طرايانوس وقيل غراطيانوس من كتاب أبي عيسى، ملك تسع عشرة سنة وقيل تسعاً وعشرين سنة، فيكون موته في أواخر سنة ثماني عشرة وأربعمائة للإسكندر. ثم ملك بعده أذريانوس من كتاب أبي عيسى، ملك إحدى وعشرين سنة، وكان في أيامه بطلميوس صاحب المجسطي، وقد تقدم أن بطلميوس لقب ملوك اليونان الذين ملكوا بعد الإسكندر. ثم تسمى به الناس، وكان عن جملتهم طلميوس المذكور، قال في الكامل: وبطلميوس صاحب المجسطي المذكور من ولد قلوذيوس، ولهذا قيل له القلوذي، وتجذّم أذريانوس المذكور لمضي ثماني عشرة سنة من ملكه، فسار إِلى مصر يطلب شفاء لجذامه فلم يجد ذلك، وكان موته في أواخر سنة تسع وثلاثين وأربعمائة للإسكندر. ثم ملك بعده أنطونينوس قال أبو عيسى ملك ثلاثاً وعشرين سنة وكان أحد رصّاد بطلميوس صاحب المجسطي في السنة الثالثة من ملكه، وكان موته في أواخر سنة اثنتين وأربعمائة للإسكندر. ثم ملك بعده مرقوس وقيل قوموذوس وشركاوه، من القانون ملك تسع عشرة سنة. ومن الكامل لابن الأثير في أيامه أظهر ابن ديصان مقالته من القول بالاثنين، وكان ابن ديصان أسقفاً بالرها ونسب إلى نهر على باب الرها اسمه ديصان، لأنه بنى على جانب النهر كنيسة. ثم مات مرقوس في أواخر سنة إحدى وثمانين وأربعمائة للإسكندر. ثم ملك بعده قوموذوس من القانون، ثلاث عشرة سنة، وفي آخر أيامه خنق نفسه ومات بغتة، كان موته في أواخر سنة أربع وتسعين وأربعمائة للإسكندر. وقال في الكامل أن جالينوس كان في أيام قوموذوس المذكور، وقد أدرك جالينوس بطلميوس، وكان دين النصارى قد ظهر في أيامه وقد ذكرهم جالينوس في كتابه في جوامع كتاب أفلاطون في سياسة المدن، فقال: إن جمهور الناس لا يمكنهم أن يفهموا سياقة الأقاويل البرهانية، ولذلك صاروا محتاجين إلى رموز ينتفعون بها، يعني بالرموز الأخبار عن الثواب والعقاب في الدار الآخرة، من ذلك أنّا نرى الآن القوم الذين يدعون نصارى، إِنما أخذوا إيمانهم عن الرموز، وقد يظهر منهم أفعال مثل أفعال من تفلسف بالحقيقة، وذاك أن عدم جزعهم من الموت

أمر قد نراه كلنا، وكذلك أيضاً عفافهم عن استعمال الجماع، فإن منهم قوماً رجالاً ونساءً أيضاً قد أقاموا جميع أيام حياتهم ممتنعين عن الجماع، ومنهم قوم قد بلغ من ضبطهم لأنفسهم في التدبير، وشدة حرصهم على العدل، أن صاروا غير مقصرين عن الدين، يتفلسفون بالحقيقة انتهى كلام جالينوس. ثم ملك بعد قوموذوس المذكور فرطنجوس ستة أشهر، وقتل في رحبة القصر، فيكون موته في منتصف سنة خمس وتسعين وأربعمائة. ثم ملك بعده سيوارس من القانون ملك ثماني عشرة سنة، وفي أيامه بحثت الأساقفة عن أمر الفصح وأصلحوا رأس الصوم، وهلك سيوارس المذكور في منتصف سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. ثم ملك بعده أنطينينوس الثاني من كتاب أبي عيسى أربع سنين، وقتل ما بين حران والرها، فيكون هلاكه في منتصف سنة سبع عشرة وخمسمائة. ثم ملك بعده الإسكندروس من كتاب أبي عيسى ثلاث عشرة سنة، فيكون موته في منتصف سنة ثلاثين وخمسمائة. ثم ملك بعده مكسيمينوس من القانون ثلاث سنين، وشدد في قتل النصارى، وإن موته في منتصف سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة للإسكندر. ثم ملك بعده غورذيانوس من كتاب أبي عيسى، ست سنين وقتل في حدود فارس، وكان هلاكه في منتصف سنة تسع وثلاثين وخمسمائة للإسكندر. ثم ملك بعده دقيوس ويقال دقيانوس من كتاب أبي عيسى سنة واحدة، وكان الملك الذي قبله قد تنصّر، فخرج عليه دقيوس وقتله، وأعاد عبادة الأصنام ودين الصابئين، وتتبع النصارى يقتلهم، ومنه هرب الفتية أصحاب الكهف، وكانوا سبعة، وناموا والله أعلم بما لبثوا، كما أخبر الله تعالى، وكان هلاك دقيوس في منتصف سنة أربعين وخمسمائة. ثم ملك بعده غاليوس من كتاب أبي عيسى وملك ثلاث سنين، ومات في منتصف سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة للإسكندر. ثم ملك بعده غلينوس وولريانوس من كتاب أبي عيسى ملكاً خمس عشرة سنة. ومن الكامل أن ولريانوس، وقيل اسمه ولوسينوس، انفرد بالملك بعد سنتين من اشتراكهما. فيكون موت المذكور في منتصف سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. ثم ملك بعده قلوذيوس سنة واحدة فيكون هلاكه في منتصف سنة تسع وخمسين وخمسمائة. ثم ملك بعده أذرفاس وقيل أورليانوس، من كتاب أبي عيسى. ملك ست سنين ومات بصاعقة، فيكون هلاكه في منتصف سنة خمس وستين وخمسمائة. ثم ملك بعده قرونوس من كتاب أبي عيسى. سبع سنين وهلك في منتصف سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، ثم ملك بعده قاروس وشركته. من كتاب أبي عيسى. سنتين، ومات في منتصف سنة أربع وسبعين وخمسمائة للإسكندر. ثم ملك بعده دقلطيانوس إحدى وعشرين سنة، ولثلاث عشرة سنة مضت من ملكه عصى

عليه أهل مصر والإسكندرية، فسار إِليهم من رومية وغلبهم وأنكى فيهم، ودقلطيانوس المذكور آخر عبدة الأصنام من ملوك الروم فإنهم تنصروا بعده، وكان هلاك دقلطيانوس في منتصف سنة خمس وتسعين وخمسمائة للإسكندر. ثم ملك بعده قسطنطين المظفر إحدى وثلاثين سنة من القانون ولثلاث مضت من ملكه، انتقل من رومية إلى قسطنطينية وبنى سورها وتنصر، وكان اسمها البيزنطية فسماها القسطنطينية، وزعمت النصارى أنه بعد ست سنين خلت من ملك قسطنطين المذكور، ظهر له في السماء شبه الصليب، فآمن بالنصرانية وكان قبل ذلك هو ومن تقدمه على دين الصابئة، يعبدون أصناماً على أسماء الكواكب السبعة، ولعشرين سنة مضت من ملك قسطنطين المذكور، اجتمع ألفان وثمانية وأربعون أسقفاً، ثم اختار منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً، فحرموا أريوس الإسكندراني لكونه يقول: إنّ المسيح كان مخلوقاً، واتفقت الأساقفة المذكورون لدى قسطنطين ووضعوا شرائع النصرانية بعد أن لم تكن، وكان رئيس هذه البطارقة بطريق الإسكندرية، وفي إحدى عشرة خلت من ملكه سارت أم قسطنطين واسمها هيلاني إِلى القدس، وأخرجت خشبة الصلبوت وأقامت لذلك عيداً يسمى عيد الصليب، وبنى قسطنطين وأمه عدة كنائس فمنها قيامة بالقدس وكنيسة حمص وكنيسة الرها وكان موت قسطنطين في منتصف سنة ست وعشرين وستمائة للإسكندر، ولما مات قسطنطين انقسمت مملكته بين بنيه الثلاثة، وكان الحاكم عليهم منهم قسطس من القانون وملك قسطس بن قسطنطين أربعاً وعشرين سنة، وكان موته في منتصف سنة خمسين وستمائة. ثم خرج الملك عن بني قسطنطين وملك لليانوس وارتد إلى عبادة الأصنام، وسار إلى سابور ذي الأكتاف وقهره، ثم قتل في أرض الفرس بسهم غرب، وكان قد انتصر على سابور في الأكتاف حسبما تقدم ذكره مع ذكر سابور ذي الأكتاف في الفصل الثاني، ولما هلك لليانوس اضطرب عسكره وخافوا من الفرس، وكانت مدة ملك لليانوس سنتين، وهلك في سنة اثنتين وخمسين وستمائة للإسكندر. ثم ملك بعده يونيانوس سنة واحدة من كتاب أبي عيسى ويونيانوس المذكور لما ملك أظهر تنصره، وأعاد ملة النصرانية إلى ما كانت عليه، ولما ملك المذكور على الروم وهم بأرض الفرس، اصطلح يونيانوس مع سابور، ووصل إلى سابور واجتمعا واعتنقا، ثم عاد يونيانوس بالعسكر إِلى بلاده ومات في منتصف سنة ثلاث وخمسين وستمائة للإسكندر. ثم ملك بعده والنطيانوس من كتاب أبي عيسى ملك أربع عشرة سنة، وكان موته في منتصف سنة سبع وستين وستمائة. ثم ملك بعده أنونيانوس قال أبو عيسى: وملك ثلاث سنين، فيكون موته في منتصف سنة سبعين وستمائة. ثم ملك بعده خرطيانوس من كتاب أبي عيسى ملك

ثلاث سنين، فيكون موته في منتصف سنة ثلاث وسبعين وستمائة. ثم ملك بعده ثاوذوسيوس الكبير من كتاب أبي عيسى. ملك تسعاً وأربعين سنة، فيكن موته في منتصف سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة للإسكندر. ثم ملك بعده أرقاذيوس بقسطنطينية، وشريكه أونوريوس برومية، من القانون. ملكا ثلاث عشرة سنة، فيكون هلاكهما في منتصف سنة خمس وثلاثين وسبعمائة للإسكندر. ثم ملك بعدهما ثاوذوسيوس الثاني من كتاب أبي عيسى ملك عشرين سنة، وفي أيامه غزت فارس الروم، وفي أيام ثاوذوسيوس المذكور، انتبه أصحاب الكهف، وكان موت ثاوذوسيوس المذكور في منتصف سنة خمس وخمسين وسبعمائة للإسكندر، وفي مدة ملكه كان المجمع الثالث في أفسس، واجتمع مائتا أسقف وحرموا نسطورس، صاحب المذهب وكان بطركاً بالقسطنطينية، لقول نسطورس أن المسيح جوهران، جوهر لاهوتي وجوهر ناسوتي، وأقنومان، أقنوم لاهوتي وأقنوم ناسوتي، وقد قيل أن ثاوذوسيوس المذكور ملك اثنتين وأربعين سنة. ثم ملك بعده مرقيانوس من القانون ملك سبع سنين ولسنة خلت من ملكه بنى دير مارون الذي بحمص، وفي أيامه لعن نسطورس ونفي، وكان موت مرقيانوس في منتصف سنة اثنتين وستين وسبعمائة. ثم ملك بعده والنطيس من كتاب أبي عيسى ملك سنة واحدة، فيكون موته في منتصف سنة ثلاث وستين وسبع مائة. ثم ملك بعده لاون الكبير من القانون وملك سبع عشرة سنة، وفي أيامه كثر الخسف في إنطاكية بالزلازل، وكان موته في منتصف سنة ثمانين وسبعمائة. ثم ملك بعده زينون من القانون ملك ثماني عشرة سنة ومات في منتصف سنة ثمان وتسعين وسبعمائة للإسكندر. ثم ملك بعده أسطيثيانوس من كتاب أبي عيسى وملك سبعاً وعشرين سنة، وهو الذي عمر أسرار مدينة حماة في أول سنة من ملكه، وفرغت عمارتها في مدة سنتين، ولعشر سنين خلت من ملكه أصاب الناس جوع شديد، وانتشر فيهم الجراد، ولاثنتي عشرة سنة من ملكه غزا قواد الفرس آمد وحاصروها وخربوها وكان موت أسطيثيانوس في منتصف سنة خمس وعشرين وثمانمائة. ثم ملك بعده يسطينينوس من كتاب أبي عيسى وملك يسطينينوس تسع سنين، ومات في منتصف سنه أربع وثلاثين وثمانمائة للإسكندر. ثم ملك بعده يسطينينوس الثاني من كتاب أبي عيسى وملك ثمانية وثلاثين سنة، وكثرت الحروب في أيامه بين الفرس والروم، وكان في السنة الثامنة من ملكه بينهم مصاف على شط الفرات، قتل منهم خلق عظيم، وغرق من الروم في الفرات بشر كثير، وكان موت يسطينينوس في منتصف سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة للإسكندر. ثم ملك بعده يسطينينوس آخر من القانون أربع عشرة سنة، ولسبع سنين خلت من ملكه، أقبل ملك الفرس وغزا الشام وأحرق مدينة أفامية، وكان موته في منتصف سنة ست وثمانين وثمانمائة. ثم ملك بعده طبريوس

الفصل الرابع ملوك العرب قبل الإسلام

الأول من كتاب أبي عيسى ملك ثلاث سنين، وكان موته في منتصف سنة تسع وثمانين وثمانمائة. ثم ملك بعده طبريوس الثاني، من كتاب أبي عيسى ملك أربع سنين، فيكون هلاكه في منتصف سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة. ثم ملك بعده ماريقوس، من كتاب أبي عيسى وملك ثمان سنين، فيكون هلاكه في منتصف سنة إحدى وتسعمائة. ثم ملك بعده مرقوس الثاني، من كتاب أبي عيسى، وملك اثنتي عشر سنة، فيكون موته في منتصف سنة ثلاث عشرة وتسعمائة. ثم ملك بعده قوقاس ثمان سنين، فيكون موته في منتصف سنة إحدى وعشرين وتسعمائة. ثم ملك بعده هرقل واسمه بالرومي أرقليس، وكانت الهجرة النبوية في السنة الثانية عشرة من ملكه، فتكون الهجرة لمضي ثلاث وثلاثين وتسعمائة سنة لغلبة الإسكندر على دارا، ولكن قد أثبتنا في الجدول أن بين الهجرة وبين غلبة الإسكندر تسعمائة وأربعاً وثلاثين سنة، وذلك باعتبار التفاوت بين السنين الشمسية والقمرية فيما بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرته، وهو ثلاث وخمسون سنة قمرية، وبالتقريب يكون هو إحدى وخمسين سنة شمسية وثلث سنة. الفصل الرابع ملوك العرب قبل الإسلام وأما ما يتعلق بقبائل العرب وأنسابهم، فإنا نذكره عند ذكر كرامة العرب في الفصل الخامس، المشتمل على ذكر الأمم إن شاء الله تعالى، من كتاب ابن سعيد المغربي. ملوك اليمن إن بعد تبلبل الألسن، وتفرق بني نوح، أول من نزل اليمن قحطان بن عابر ابن شالح المقدم الذكر، وقحطان المذكور أول من ملك أرض اليمن ولبس التاج. ثم مات قحطان وملك بعده ابنه يعرب بن قحطان، وهو أول من نطق بالعربية على ما ذكر. ثم ملك بعده ابنه يشحب بن يعرب. ثم ملك بعده ابنه عبد شمس بن يشحب، ولما ملك أكثر الغزو في أقطار البلاد، فسمي سبا، وهو الذي بنى السد بأرض مأرب، وفجر إليه سبعين نهراً، وساق إليه السيول من أمد بعيد، وهو الذي بنى مدينة مأرب، وعرفت بمدينة سبا، وقيل أن مأرب لقب للملك الذي يلي اليمن، وقيل أن مأرب هو قصر الملك، والمدينة سبا. وخلف سبأ المذكور عدة أولاد منهم: حمير وعمرو، وكهلان، وأشعر، وغيرهم على ما سنذكره في الفصل الخامس، عند ذكر أمة العرب. ولما مات سبأ ملك اليمن بعده ابنه حمير بن سبا، ولما ملك أخرج ثمود من اليمن إلى الحجاز. ثم ملك بعده ابنه واثل بن حمير. ثم ملك بعده ابنه السكسك بن واثل. ثم ملك بعده يعفر بن السكسك. ثم وثب على ملك اليمن ذورياش وهو عامر بن باران بن عوف بن حمير. ثم نهض من بني واثل النعمان بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير، واجتمع عليه الناس، وطرد عامر بن باران عن الملك، واستقل النعمان المذكور بملك يمن، ولقب نعمان المذكور بالمعافر لقوله:

إِذا أنت عافرت الأمور بقدرة ... بلغت معالي الأقدمين المقاول والمقاول: لفظة جمع، وهم الذين يلون الجهات الكبار من اليمن. ثم ملك بعده ابنه أشمح بن نعمان المعافر المذكور. ثم ملك بعده شداد بن عاد بن ألماطاط بن سبا، واجتمع له الملك، وغزا البلاد إلى أن بلغ أقصى المغرب، وبنى المدائن والمصانع، وأبقى الآثار العظيمة. ثم ملك بعده أخوه لقمان بن عاد، ثم ملك بعده أخوه ذو سدد بن عاد، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن ذي سدد، ويقال له الحارث الرائش، وقيل إن حارث الرائش المذكور، هو ابن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر، وهو تبع الأول. ثم ملك بعده ابنه ذو القرنين، الصعب بن الرائش، وقد نقل ابن سعيد أن ابن عباس سئل عن ذي القرنين الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، فقال: هو من حمير وهو الصعب المذكور، فيكون ذو القرنين المذكور في الكتاب العزيز هو الصعب بن الرائش المذكور، لا الإسكندر الرومي. ثم ملك بعده ابنه ذو المنار أبرهه بن ذي القرنين. ثم ملك بعده ابنه أفريقس بن أبرهه، ثم ملك بعده أخوه ذو الأذعار عمرو بن ذي المنار. ثم ملك بعده شرحبيل بن عمرو بن غالب بن المنتاب بن زيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير، فإِن حمير كرهت ذا الأذعار فخلعت طاعته، وقلدت الملك شرحبيل المذكور، وجرى بين شرحبيل وذي الأذعار قتال شديد، قتل فيه خلق كثير، واستقل شرحبيل بالملك. ثم ملك بعده ابنه الهدهاد بن شرحبيل، ثم ملكت بعده ابنته بلقيس بنت الهدهاد، وبقيت في ملك اليمن عشرين سنة، وتزوجها سليمان بن داود عليهما سلام، ثم ملك بعدها عمها ناشر النعم بن شرحبيل وقيل إن ناشر النعم اسمه مالك بن عمرو بن يعفر بن عمرو، من ولد المنتاب بن زيد الحميري. ثم ملك بعده شمر يرعش بن ناشر النعم المذكور، وقيل شمر بن أفريقس ابن أبرهه ذي المنار. ثم ملك بعده ابنه أبو مالك بن شمر، ثم ملك بعده عمران بن عامر الأزدي، وهو عمران بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ. وانتقل الملك حينئذ من ولد حمير بن سبأ إلى ولد أخيه كهلان بن سبأ، وكان عمران المذكور كاهناً. ثم ملك بعده أخوه مزيقيا عمرو بن عامر الأزدي، وقيل له مزيقياء لأنه كان يلبس في كل يوم بدلة، فإذا أراد الدخول إلى مجلسه رمى بها فمزقت لئلا يجد أحداً فيها ما يلبسه بعده. انتهى كلام ابن سعيد المغربي. ومن تاريخ حمزة الأصفهاني، إن الذي ملك بعد أبي مالك بن شمر المذكور، قبل عمران الأزدي، ابنه الأقرن بن أبي مالك، ثم ملك بعده ذو حبشان بن الأقرن، وهو الذي أوقع بطسم وجديس. ثم ملك بعده أخوه تبع بن الأقرن، ثم ملك بعده ابنه كليكرب بن تبع، ثم ملك بعده أبو كرب أسعد وهو تبع الأوسط، وقتل. ثم ملك

بعده ابنه حسان بن تبع، وتتبع قتلة أبيه فقتلهم عن آخرهم، ثم قتله أخوه عمرو بن تبع، وملك بعده وتواترت الأسقام بعمرو المذكور، حتى كان لا يمضي إلى الخلاء إلا محمولاً على نعش، فسمي ذا الأعواد لذلك. ثم ملك بعده عبد كلال بن ذي الأعواد، ثم ملك بعده تبع بن حسان بن كليكرب، وهو تبع الأصغر. ثم ملك بعده ابن أخيه الحارث بن عمرو، وتهود الحارث المذكور، ثم ملك بعده مرثد بن كلال، ثم تفرق بعده ملك حمير والذي اشتهر بعده أنه ملك وكيعة بن مرتد، ثم ملك أبرهة بن الصباح، ثم ملك صهبان بن محرث، ثم ملك عمرو بن تبع، ثم ملك بعده ذو شناتر ثم ملك بعده ذو نواس، وكان من لا يتهود ألقاه في أخدود مضطرم ناراً، فقيل له صاحب الأخدود. ثم ملك بعده ذوجدن وهو آخر ملوك حمير، وكان مدة ملكهم على ما قيل ألفين وعشرين سنة، وإنما لم نذكر مدة ما ملكه كل واحد منهم لعدم صحته، ولذلك قال صاحب تواريخ الأمم: ليس في جميع التواريخ، أسقم من تاريخ ملوك حمير، لم يذكر فيه من كثرة عدد سنيهم، مع قلة عدد ملوكهم. فإنهم يزعمون أن ملوكهم ستة وعشرون ملكاً، ملكوا في مدة ألفين وعشرين سنة. ثم ملك اليمن بعدهم من الحبشة أربع، ومن الفرس ثمانية، ثم صارت اليمن للإسلام من كتاب ابن سعيد المغربي، إن الحبشة استولوا على اليمن بعد ذي جدن الحميري المذكور، وكان أول من ملك اليمن من الحبشة أرباط. ثم ملك بعده أبرهة الأشرم صاحب الفيل، الذي قصد مكة. ثم ملك بعده يكسوم. ثم ملك بعده مسروق بن أبرهة، وهو آخر من ملك اليمن من الحبشة. ثم عاد ملك اليمن إلى حمير وملكها سيف بن ذي يزن الحميري وهو الذي ملكه كسرى أنوشروان، وأرسل مع سيف المذكور أحد مقدمي الفرس، واسمه وهرز بجيش من العجم، فساروا إلى اليمن وطردوا الحبشة عنها، وقرروا سيف بن ذي يزن في ملك اليمن، ولما استقر سيف في ملك أجداده باليمن وطرد الحبشة عنها، وجلس في غمدان يشرب، وهو قصر كان لأجداده باليمن، فامتدحته العرب بالأشعار، منها ما قاله فيه أمية بن أبي الصلت، ووصف تغرّب سيف بن ذي يزن وقصده قيصرا أولاً ثم كسرى في إعادة ملك آبائه إليه، حتى قدم بالفرس الذي مقدمهم وهرز، فقال في ذلك: لا يقصد الناس إلا كابن ذي يزن ... إذخيم البحر للأعداء أحوالا وافى هرقل وقد شالت نعامته ... فلم يجد عنده النصر الذي سالا ثم انتحى نحو كسرى بعد عاشرة ... من السنين يهين النفس والمالا حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم ... تخالهم فوق متن الأرض أجبالا لله درهم من فتية صبر ... ما إن رأيت لهم في الناس أمثالا بيض مرازبة غلب أساورة ... أسد ترتب في الغيضات أشبالا

ملوك العرب الذين كانوا في غير اليمن

فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً ... برأس غمدان داراً منك محلالا تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيباً بماء فعادا بعد أبوالا وكان سيف بن ذي يزن المذكور، قد اصطفى جماعة من الحبشان، وجعلهم من خاصته، فاغتالوه وقتلوه، فأرسل كسرى عاملاً على اليمن، واستمرت عمال كسرى على اليمن إلى أن كان آخرهم باذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم، ثم صارت اليمن للإسلام، وانتهى أخبار ملوك اليمن. ملوك العرب الذين كانوا في غير اليمن وكان أول من ملك على العرب بأرض الحيرة مالك بن فهم بن غنم بن دوس ابن عدنان بن عبد الله بن وهزان بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد، والأزد من ولد كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، كان وملكه في أيام ملوك الطوائف قبل الأكاسرة ثم ملك بعده أخوه عمرو بن فهم. ثم ملك بعده ابن أخيه جذيمة بن مالك بن فهم، وكان به برص فكنوا عنه وقالوا جذيمة الأبرش، وعظم شأن جذيمة المذكور، وكانت له أخت تسمى رقاش فهويت شخصاً من إياد، كان جذيمة قد اصطنعه، وكان يقال له عدي بن نصر بن ربيعة، وهويها عدي المذكور أيضاً، وكان عدي المذكور متسلماً مجلس شراب جذيمة، فاتفقت معه رقاش على أن يخطبها من أخيها جذيمة حال غلبة السكر عليه، ففعل ذلك، وأذن له جذيمة، فدخل عدي برقاش، فلما أصبح جذيمة وعّلم بذلك عظم عليه فهرب عدي المذكور، فقيل أنه ظفر به جذيمة وقتله، وحبلت رقاش من عدي المذكور فقال لها جذيمة: خبريني رقاش لا تكذبيني ... أبحر زنيت أم بهجين أم بعبد فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون فقالت: بل من خيار العرب، وجاءت بولد، وربته وألبسته طوقاً، وسمته عمراً وتبنن به جذيمة، ثم عدم الغلام، وتزعم العرب أن الجن اختطفته، ثم وجده شخصان يقال لهما مالك وعقيل، فأحضراه إلى جذيمة ففرح به فرحاً عظيماً، وكان اسم الصبي عمراً فقال جذيمة لمالك وعقيل اللذين أحضراه: اقترحا ما شئتما. فقالا: منادمتك ما بقيت وبقينا. فهما اللذان يضرب بهما المثل فيقال كندماني جذيمة. وفي أيام جذيمة المذكور، كان قد ملك الجزيرة وأعالي الفرات ومشارق الشام، رجل من العمالقة يقال له عمرو بن الضرب بن حسان العمليقي، وجرى بينه وبين جذيمة حروب، فانتصر جذيمة عليه، وقتل عمرو المذكور. وكان لعمرو بنت تدعى الزباء، واسمها نائلة، فملكت بعده وبنت على الفرات مدينتين متقابلتين، وأخذت في الحيلة على جذيمة وأطمعته بنفسها حتى اغتر وقدم

ابتداء ملك اللخميين ملوك الحيرة

إليها فقتلته وأخذت بثأر أبيها. ابتداء ملك اللخميين ملوك الحيرة وهم المناذرة بنو عدي بن نصر بن ربيعة من ولد لخم بن عدي بن عمرو بن سبا. ولما قتل جذيمة ملك بعده ابن أخته رقاش عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة، وكان لجذيمة عبد يقال له قصير، فاتفق معه عمرو بن عدي المذكور، وجدع أنف قصير وضربه بالسياط، وحضر قصير على تلك الحالة إلى الزباء على أنه مغاضب لعمرو، فصدقته الزباء وأمنت إليه لما رأت من حاله، وصار قصير يتجر للزباء، ويأخذ المال من مولاه، ويحضره إلى الزباء على أنه كسب متجرها، مرّة بعد أخرى، حتى أتى بقفل نحو ألف حمل من الصناديق، وأقفالها من داخل، وفيها رجال معتدون فلما شاهدت الزباء تلك الأحمال ارتابت منه وقالت: ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلاً يحملن أم حديدا أم صرفاناً بارداً شديدا ... أم الرجال جثماً قعودا فلما دخلوا إِلى حصن الزباء، خرجت الرجال من الصناديق، وأخذوا المدينة عنوة، وقتلوا الزباء وأخذ قصير بثأر مولاه جذيمة، وطالت مدة ملك عمرو بن عدي المذكور. ثم مات وملك بعده ابنه امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة اللخمي، وكان يقال لامرئ القيس المذكور البدا، أي الأول. ثم ملك بعد امرؤ القيس ابنه عمرو بن امرئ القيس وكان ملكه في أيام سابورذي الأكتاف، ثم ملك بعده أوس بن قلام العمليقي، ثم ملك آخر من العماليق، ثم رجع الملك إلى بني عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة اللخميين المذكورين، وملك منهم امرؤ القيس من ولد عمرو بن امرئ القيس المذكور، عرف هذا امرؤ القيس الثاني بالمحرق، لأنه أول من عاقب بالنار، ثم ملك بعده ابنه النعمان الأعور بن امرئ القيس، وهو الذي بنى الخورنق والسدير، وبقي في الملك ثلاثين سنة، ثم تزهد وخرج من الملك في زمن بهرام جور بن يزدجرد، وهو الذي ذكره عدي بن زيد في قصيدته الرائية المشهورة بقوله: وتدبر رب الخورنق إِذ أش ... رف يوماً وللهدى تفكير سره ماله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرض والسدير فارعوى قلبه وقال وما غب ... طة جى إِلى الممات بصير ولما تزهد النعمان الأعور المذكور، ملك بعده ابنه المنذر بن النعمان. وانتهى ملكه في زمن فيزوز بن يزد جرد. ثم ملك بعده ابنه الأسود بن المنذر، وهو الذي انتصر على غسان، عرب الشام، وأسر عدة من ملوكهم، وأراد الأسود المذكور أن يعفو عنهم، وكان

للأسود المذكور ابن عم يقال له أبو أذينة، قد قتل آل غسان له أخاً في بعض الوقائع، فقال أبو أذينة في ذلك قصيدته المشهورة يغري الأسود بقتلهم منها: ما كل يوم ينال المرء ما طلبا ... ولا يسوغه المقدار ما وهبا وأحزم الناس من إِنْ فرصة عرضت ... لم يجعل السبب الموصول منقضبا وأنصف الناس في كل المواطن من ... سقى المعادين بالكأس الذي شربا وليس يظلمهم من راح يضربهم ... بحد سيف به من قبلهم ضربا والعفو إِلا عن الأكفاء مكرمة ... من قال غيره الذي قد قلته كذبا قتلت عمراً وتستبقي يزيد لقد ... راًيت رأياً يجر الويل والحربا لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إِنْ كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا هم جردوا السيف فاجعلهم له جزراً ... وأوقد النار فاجعلهم لها حطبا إِن تعف عنهم يقول الناس كلهم ... لم يعف حلماً ولكن عفوه رهبا هم أهلة غسان ومجدهم ... عال فإِن حاولوا ملكاً فلا عجبا وعرضوا بفداء واصفين لنا ... خيلاً وِإبلاً تروق العجم والعربا أيحلبون دماً منّا ونحلبهم ... رسلاً لقد شرفونا في الورى حلبا علام تقبل منهم فدية وهم ... لا فضة قبلوا منا ولا ذهبا ونقلت ذلك من مجموع بخط القاضي شمس الدين بن خلكان، ورأيت في تاريخ ابن الأثير خلاف ذلك، فقال: إِن الأسود قتلته غسان، وانتصرت عليه غسان، ثم قال ابن الأثير وقيل غير ذلك، وانتهى ملك الأسود بن المنذر المذكور في زمن فيروز. ثم ملك بعده أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان الأعور، ثم ملك بعده علقمة الذميلي، وذميل بطن من لخم، ثم ملك بعده امرؤ القيس بن النعمان ابن امرئ القيس المحرق، وهو الذي قتل سنمار الذي بنى لامرئ القيس المذكور قصره، وفيه يقول المتلمس: جزاني أبو لخم على ذات بيننا ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب ثم ملك بعده ابنه المنذر بن امرئ القيس، وكانت أم المنذر المذكور يقال لها، ماء السماء واشتهر المنذر المذكور بأمه، فقيل له المنذر بن ماء السماء، ولقبت بماء السماء لحسنها، واسمها ماوية بنت عوف بن جشم، وطرد كسرى قباذ المنذر المذكور عن ملك الحيرة، وملك موضعه الحارث بن عمرو بن حجر الكندي، لأن قباذ كان قد دخل في دين مردك، ووافقه الحارث ولم يوافقه المنذر فطرد لذلك، ثم لما تمكن كسرى أنوشروان بن قباذ المذكور في الملك، طرد الحارث وأعاد المنذر بن ماء السماء إِلى ملك الحيرة، وقد تقدم ذكر ذلك مع ذكر أنوشروان، في الفصل الثاني من هذا الكتاب. ثم ملك بعد المنذر عمرو مضرط الحجارة، وهو ابن المنذر بن ماء السماء، وكان اسم أمه

ملوك غسان

هند، ويعرف بعمرو بن هند، ولثمان سنين مضت من ملكه، كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ملك بعده أخوه قابوس بن المنذر بن ماء السماء. وقيل إِنه لم يتملك وإنما سمي ملكاً لما كان أبوه وأخوه ملكين، ثم ملك بعده أخوهما المنذر بن المنذر، ثم ملك بعده ابنه النعمان بن المنذر بن المنذر بن ماء السماء، وكنيته أبو قابوس، وهو الذي تنصر، وأمه سلمى بنت وائل بن عطية الصايغ، من أهل فدك، وملك اثنتين وعشرين سنة وقتله كسرى برويز، وبسبب مقتله كانت وقعة ذي قار بين الفرس والعرب. ثم انتقل الملك في الحيرة بعد النعمان المذكور عن اللخميين إِلى إِياس بن قبيصة الطائي، ولستة أشهر من ملك إِياس بعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ملك بعد إِياس زاذويه ابن ماهسان الهمذاني. ثم عاد الملك إِلى اللخميين، ملك بعد زاذويه المنذر بن النجمان بن المنذر بن المنذر بن ماء السماء، وسمته العرب المغرور، واستمر مالكاً للحيرةِ إلى أن قدم إِليه خالد بن الوليد، واستولى على الحيرة، وكانت المناذرة آل نصر بن ربيعة عمالاً للأكاسرة على عرب العراق، مثل ما كان ملوك غسان عمالا للقياصرة على عرب الشام. ملوك غسان وكانوا عمالاً للقياصرة على عرب الشام، وأصل غسان من اليمن، من بني الأزد ابن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبا. تفرقوا من اليمن بسيل العرم، ونزلوا على ماء بالشام يقال له غسان، فنسبوا إِليه، وكان قبلهم بالشام عرب يقال لهم الضجاعمهَ من سليح، بفتح السين المهلة ثم لام مكسورة وياء مثناه من تحتها ثم حاء مهملة، فأخرجت غسان سليحاً عن ديارهم، وقتلوا ملوكهم، وصاروا موضعهم. وأول من ملك من غسان جفنة بن عمرو بن ثعلبة بن عمرو بن مزيقيا، وكان ابتداء ملك غسان، قبل الإِسلام بما يزيد على أربعمائة سنة، وقيل أكثر من ذلك، ولما ملك جفنة المذكور وقتل ملوك سليح، دانت له قضاعة ومن بالشام من الروم. وبنى بالشام عدة مصانع ثم هلك. وملك بعده ابنه عمرو بن جفنة، وبنى بالشام عدة ديورة منها دير حالي ودير أيوب ودير هند. ثم ملك بعده ابنه ثعلبة بن عمرو وبنى صرح الغدير في أطراف حوران. مما يلي البلقاء، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن ثعلبة. ثم ملك ابنه جبلة بن الحارث، وبنى القناطرْ واذرح والقسطل. ثم ملك بعده ابنه الحارث بن جبلة، وكان مسكنه بالبلقاء فبنى بها الحفير ومصنعه. ثم ملك بعده ابنه المنذر الأكبر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة ابن عمرو بن جفنة الأول، ثم هلك المنذر الأكبر المذكور وملك بعدها أخوه النعمان بن الحارث. ثم ملك بعده أخوه جبلة بن الحارث، ثم ملك بعدهم أخوهم الأيهم بن الحارث،

ملوك جرهم

وبنى دير ضخم، ودير البنوة ثم ملك أخوهم عمرو بن الحارث ثم ملك جفنة الأصغر بن المنذر الأكبر، وهو الذي أحرق الحيرة، وبذلك سموا ولده آل محرق. ثم ملك بعده أخوه النعمان الأصغر بن المنذر الأكبر، ثم ملك النعمان ابن عمرو بن المنذر، وبنى قصر السويدا، ولم يكن عمرو أبو النعمان المذكور ملكاً، وفي عمرو المذكور يقول النابغة الذبياني: عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب ثم ملك بعد النعمان المذكور ابنه جبلة بن النعمان، وهو الذي قاتل المنذر ابن ماء السماء، وكان جبلة المذكور ينزل بصفين. ثم ملك بعده النعمان بن الأيهم بن الحارث بن ثعلبة، ثم ملك أخوه الحارث بن الأيهم ثم ملك بعده ابنه النعمان بن الحارث، وهو الذي أصلح صهاريج الرصافهَ وكان قد خربها بعض ملوك الحيرة اللخميين. ثم ملك بعده ابنه المنذر بن النعمان، ثم ملك أخوه عمرو بن النعمان، ثم ملك أخوهما حجر بن النعمان ثم ملك ابنه الحارث بن حجر، ثم ملك ابنه جبلة بن الحارث، ثم ملك ابنه الحارث بن جبلة، ثم ملك ابنه النعمان بن الحارث، وكنيته أبو كرب، ولقبه قطام. ثم ملك بعده الأيهم بن جبلة بن الحارث، وهو صاحب تدمر، وكان عامله بقال له القين بن خسر، وبنى له بالبرية قصراً عظيماً ومصانع، وأظن أنه قصر برقع. ثم ملك بعده أخوه المنذر بن جبلة، ثم ملك بعده أخوهما شراحيل بن جبلة، ثم ملك أخوهم عمرو بن جبلة، ثم ملك بعده ابن أخيه جبلة بن الحارث بن جبلة. ثم ملك بعده جبلة بن الأيهم بن جبلة، وهو آخر ملوك غسان، وهو الذي أسلم في خلافة عمر رضي الله عنه، ثم عاد إِلى الروم وتنصر، وسنذكر ذلك في خلافة عمر إِن شاء الله تعالى، وقد اختلف في مدة ملك الغساسنة، فقيل أربعمائة سنة وقيل ستمائة سنة وبين ذلك. ملوك جرهم أما جرهم فهم صنفان، جرهم الأولى: وكانوا على عهد عاد، فبادوا ودرست أخبارهم وهم من العرب البائدة. وأما جرهم الثانية: فهم من ولد جرهم بن قحطان. وكان جرهم أخا يعرب بن قحطان. فملك يعرب اليمن وملك أخوه جرهم الحجاز، ثم ملك بعد جرهم ابنه عبد يا ليل بن جرهم، ثم ابنه جرشم بن عبد يا ليل، ثم ابنه عبد المدان بن جرشم، ثم ابنه ثقيلة بن عبد المدان، ثم ابنه عبد المسيح بن ثقيلة، ثم ابنه مضاض بن عبد المسيح، ثم ابنه عمرو بن مضاض، ثم أخوه الحارث بن مضاض، ثم ابنه عمرو بن الحارث، ثم أخوه بشر بن الحارث، ثم مضاض بن عمرو بن مضاض، وجرهم المذكورون هم الذين اتصل

ملوك كندة

بهم إِسماعيل عليه السلام، وتزوج منهم. وسنذكرهم اًيضاً عند ذكر بني إِسماعيل إِن شاء الله تعالى. ملوك كندة من الكامل قال: وأول ملوك كندة حجر آكل المرار ابن عمرو، وهو من ولد كندة، وكان اسم كندة نورا وهو ابن عفير بن الحارث من ولد زيد بن كهلان ابن سبأ، وكانت كندة قبل أن يملك حجر عليهم بغير ملك، فأكل القوي الضعيف، فلما ملك حجر سدد أمورهم وساسهم أحسن سياسة، وانتزع من اللخميين ما كان بأيديهم من أرض بكر بن وائل، وبقي حجر آكل المرار كذلك حتى مات. وقيل له احمل المرار لكون امرأته قالت عنه: كأنه جمل قد أكل المرار، لبغضها له، فغلب ذلك لقباً عليه. ثم ملك بعد حجر المذكور ابنه عمرو بن حجر ويقال لعمرو المذكور المقصور، لأنه اقتصر على ملك أبيه، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو وقوي ملك الحارث المذكور، ووافق كسرى قباذ بن فيروز على الزندقة، والدخول في مذهب مردك، فطرد قباذ المنذر بن ماء السماء اللخمي عن ملك الحيرة، وملك حارث المذكور موضعه، فعظم شأن الحارث، وقد تقدم ذلك في الفصل الثاني، مع ذكر أنوشروان بن قباذ. فلما ملك أنوشروان أعاد المنذر وطرد الحارث المذكور، فهرب وتبعته تغلب وعدة قبائل؛ فظفروا بأمواله وبأربعين نفساً من بني حجر آكل المرار، ابنان من ولد حارث المذكور، فقتلهم المنذر عن آخرهم في ديار بني مرين وفي ذلك يقول امرؤ القيس بن حجر بن الحارث المذكور: فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبناء الملوك مصفدينا ملوك من بني حجر بن عمرو ... يساقون العشية يقتلونا فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا ولم تغسل جماجمهم بغسل ... ولكن في الدماء مزملينا تظل الطير عاكفة عليهم ... وتنتزع الحواجب والعيونا وهرب الحارث إِلى ديار كلب، وبقي بها حتى عُدِمَ، واختلِف في صورة عدمه. وكان الحارث المذكور قد ملك ابنه حجر بن الحارث على بني أسد ابن خزيمة ن مدركة، وملك أيضاً باقي بنيه على قبائل العرب. فملك ابنه شراحيل بن الحارث على بكر بن وائل، وملك ابنه معدي كرب بن الحارث، وكان يلقب غلفاً لتغليفه رأسه بالطيب، على قيس غيلان، وملك ابنه سلمة على تغلب والنمر. أما حجر المذكور وهو أبو امرئ القيس الشاعر، فبقي أمره متماسكاً في بني أسد مدة، ثم تنكروا عليه فقاتلهم وقهرهم، وبالغ في نكايتهم، ودخلوا

تحت طاعته، ثم هجموا عليه بغتة وقتلوه غيلة. وفي ذلك يقول ابنه امرؤ القيس بن حجر المذكور أبياتاً منها. بنو أسد قتلوا ربهم ... ألا كل شيء سواه خلل وكان امرؤ القيس لما سمع بمقتل أبيه بموضع يقال له دمون من أرض اليمن فقال في ذلك: تطاول الليل على دمون ... دمون أنا معشر يمانون ثم استنجد امرؤ القيس ببكر وتغلب على بني أسد فأنجدوه، وهربت بنو أسد منهم، وتبعهم فلم يظفر بهم، ثم تخاذلت عنه بكر وتغلب، وتطلبه المنذر بن ماء السماء فتفرقت جموع امرئ القيس خوفاً من المنذر، وخاف امرؤ القيس من المنذر، وصار يدخل على قبائل العرب، وينتقل من أناس إِلى أناس، حتى قصد السموءل بن عادياء اليهودي، فأكرمه وأنزله، وأقام امرؤ القيس عند السموءل ما شاء اللهُ، ثم سار امرؤ القيس إِلى قيصر ملك الروم مستنجداً به، وأودع أدراعه عند السموءل بن عادياء المذكور، ومرّ على حماة وشيزر، وقال في مسيرة قصيدته المشهورة التي منها: سمالك شوق بعد ما كان أقصرا ومنها: تقطع أسباب اللبابة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... والحق أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينيك إِنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا وكان بامرئ القيس قرحة قد طالت به، وفي ذلك يقول أبياته التي منها: وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة ... لعل منايانا تحولن أبؤسا فمات امرؤ القيس بعد عوده من عند قيصر في بلاد الروم، عند جبل يقال له عسيب. ولما علم بموته هناك قال: أجارتنا إِن الخطوب تنوب ... وإني مقيم ما أقام عسيب وقد قيل أن ملك الروم سمه في حلة - وهو عندي من الخرافات - ولما مات امرؤ القيس، سار الحارث بن أبي شمر الغساني إلى السموءل وطالبه بأدرع امرئ القيس، وماله عنده، وكانت الأدراع مائة، وكان الحارث قد أسر ابن السموءل فلما امتنع السموءل من تسليم ذلك إِلى الحارث، قال الحارث: إِمّا أن تسلّم الأدراع، وإِما قتلت ابنك، فأبى السموءل أن يسلمّ الأدراع، وقتل ابنه قدامه فقال السموءل في ذلك أبياتاً منها: وفيت بأدرع الكندي إِني ... إِذا ما ذم أقوام وفيت وأوصى عادياء يوماً بأن لا ... تهدم يا سموءل ما بنيت وقد ذكر الأعشى هذه الحادثة فقال: كن كالسموءل إِذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار

عدة من ملوك العرب

فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إِني مانع جاري انتهى الكلام في ملوك كندة. عدة من ملوك العرب متفرقين فمنهم عمرو بن لحي بن حارثة بن عمرو مزيقيا بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، من ولد كهلان بن سبأ وكان عمرو بن لحي المذكور ملك الحجاز، وكثير الذكر في الجاهلية، وإليه تنسب خزاعة، فيقولون أنهم من ولد كعب بن عمرو المذكور. قال الشهرستاني: وعمرو بن لحي المذكور، هو أول من جعل الأصنام على الكعبة وعبدها، فأطاعته العرب وعبدوها معه، واستمرت العرب على عبادة الأصنام حتى جاء الإسلام، وكان سبب ذلك أن عمرو المذكور، سار إِلى البلقاء من الشام، فرأى قوماً يعبدون الأصنام، فسألهم عنه، فقالوا له: هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية، والأشخاص البشرية، نستنصر بها فننتصر ونستشفي بها فنشفى ونستسقي بها فنسقى، فأعجبه ذلك فطلب منهم صنماً، فدفعوا إِليه هبل، فسار به إِلى مكة ووضعه على الكعبة، واستصحب أيضاً صنمين يقال لهما إِساف ونائلة، ودعى الناس إلى تعظيم الأصنام والتقرب إِليها فأجابوه. وقد ذكر الشهرستاني أنّ ذلك كان في أيام سابور، كان قبل الإسلام بنحو أربعمائة سنة، إِن كان سابور بن أزدشير بن بابك، وأما إِن كان سابور ذا الأكتاف فهو أبعد عن الصواب، لأنه بعد سابور الأول بمدة كثيرة. ومن ملوك العرب زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عون بن عذرة الكلبي، وكان يسمى زهير المذكور الكاهن، لصحة رأيه، وعاش عمراً طويلاً، وغزا غزوات كثيرة وكان ميمون النقيبة، واجتمعت عليه قضاعة، فغزا بهم غطفان بسبب أنّ بني نقيص بن ريث بن غطفان بنوا حرماً مثل حرم مكة، وولي سدانته منهم بنو مرة بن عون فلما بلغ زهيراً ذلك قال: والله لا يكون ذلك أبداً، ولا أخلي غطفان تتخذ حرماً، فغزاهم وجرى بينهم قتال شديد، وظفر بهم زهير وأبطل حرمهم، وأخذ أموالهم ورد نساءهم عليهم، وفي ذلك يقول أبياتاً منها: ولولا الفضل منا ما رجعتم ... إِلى عذراء شيمتها الحياء وكان زهير المذكور قد اجتمع بأبرهة الأشرم الحبشي صاحب الفيل، فأكرمه أبرهة وفضله على غيره من العرب، وأمرّه على بكر وتغلب ابني وائل. واستمر زهير أميراً عليهم حتى خرجوا عن طاعته، فغزاهم أيضاً وقتل فيهم وكذلك أيضاً غزا بني القين، وجرى له مع المذكورين حروب يطول شرحها، وكان الظفر لزهير. ولما أسنَّ زهير المذكور، شرب الخمر صرفاً حتى مات. قال ابن الأثير: وممن شرب الخمر صرفاً حتى مات عمرو بن كلثوم التغلبي، وأبو عامر ملاعب الأسنة العامري. ومن ملوك العرب أيضاً كليب بن ربيعة بن

الحارث بن زهير بن جشم بن بكر ابن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل، ووائل هو بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة الفرس بن نزار بن معد بن عدنان، وكان كليب المذكور اسمه وائلاً وكليب لقب غلب عليه، وملك كليب على بني معد، وقاتل جموع اليمن وهزمهم، وعظم شأنه وبقي زماناً من الدهر. ثم داخل كليباً زهو شديد، وبغى على قومه، فصار يحمي عليهم مواقع السحاب، فلا يرعى حماه، ويقول وحش أرض كذا في جواري، فلا يصاد، ولا ترد إبل مع إِبله، ولا توقد نار مع ناره، وبقي كذلك حتى قتله جساس بن مرة بن ذهل ابن شيبان وشيبان من بني بكر بن وائل المذكور. وكان سبب مقتل كليب أن رجلاً من جرم نزل على خالة جساس وكان اسم خالته المذكورة البسوس بنت منقذ التميمية، وكان للجرمي المذكور ناقة اسمها سراب فوجدها كليب ترعى في حماه، فضر بها بالنشاب وأخرم ضرعها. وجاءت الناقة إِلى الجرمي صاحبها مجروحة، فصرخ بالذل، فلما سمعته البسوس وضعت يدها على رأسها وصاحت: واذلاه، بسبب نزيلها الجرمي المذكور. فاستنصر جساس لخالته، وقصد كليباً وهو منفرد في حماه، فضربه بالرمح فقتله. ولما قتل كليب قام أخوه مهلهل بن ربيعة بن الحارث المذكور وجمع قبائل تغلب واقتتل مع بني بكر، وجرى بينهم عدة وقائع أولها يوم عنيزة وكانوا في القتال على السواء ثم اتقعوا بماء يقال له النهي، وكان رئيس تغلب مهلهلا، ورئيس بني شيبان بن بكر الحارث بن مرة أخا جساس، وكان النصر لبني تغلب وقتل من بكر جماعة ثم التقوا بالدنائب وهي من أعظم وقائعهم، فانتصر مهلهل وبنو تغلب، وقتل من بني بكر مقتلة عظيمة، وقتل من بني شيبان جماعة، منهم شراحيل بن هشام بن مرة، وهو ابن أخي جساس، وشراحيل المذكور هو جد معن بن زائدة الشيباني، وقتل أيضاً الحارث بن مرة، وهو أخو جساس، كذلك قتل جماعة من رؤساء بني بكر. ثم التقوا يوم واردات فظفرت تغلب أيضاً، وكثر القتل في بكر، وقتل همام أخو جساس لأبيه وأمه، وجعلت تغلب تطلب جساساً أشد الطلب، فقال له أبو مرة الحق بأخوالك بالشام، وأرسله سراً مع نفر قليل، وبلغ مهلهلاً الخبر فأرسل في طلبه ثلاثين نفراً فأدركوا جساساً واقتتلوا، فلم يسلم من أصحاب مهلهل غير رجلين، وكذلك لم يسلم من البكريين أصحاب جساس غير رجلين، وجرح جساس جرحاً شديداً مات منه، وعاد الذين سلموا فخبروا أصحابهم، وكذلك قتل مهلهل أيضاً بجير بن الحارث البكري، ولما قتله مهلهل قال: بؤبشسع نعل كليب فلما قتل بجير قال أبوه الحارث الأبيات المشهورة التي منها: قربا مربط النعامة مني ... شاب رأسي وأنكرتني رجالي لم أكن من جناتها علم الل ... هـ وإني بحرّها اليوم صالي والنعامة اسم فرسه، ودامت الحرب بين بني وائل المذكورين كذلك نحو أربعين سنة. ولما

قتل جساس أرسل أبوه مرة يقول لمهلهل: قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً، فاكفف عن الحرب، ودع اللجاج والإِسراف. فلم يرجع مهلهل عن القتال. ولما طالت الحروب بينهم، وأدركت تغلب ما أرادته من بكر، أجابوهم إِلى الكف عن القتال، وعدم مهلهل، واختلف في صورة عدمه، تركنا ذكره للاختصار. ومن ملوك العرب زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث ابن قطيعة بن عبس. وهو والد الملك قيس بن زهير العبسي، وكان لزهير أتاوة على هوازن يأخذها كل سنة في عكاظ، وهو سوق العرب أيام الموسم بالحجاز، وكان يسوم هوازن الخسف، فكان في قلوبهم منه، ووقعت الحرب بين زهير وبين عامر، فاتفقت هوازن مع خالد بن جعفر بن كلاب وبني عامر على حرب زهير، واقتتلوا معه فاعتنق زهير وخالد وتقاتلا، فقتل زهير وسلم خالد، وكانت الوقعة بالقرب من أرض هوازن، فحملت زهيراً بنوه ميتاً إِلى بلادهم، فقال: ورقة بن زهير أبياتاً في ذلك منها يقول لخالد المذكور: فَطِر خالد إِن كنت تسطيع طيرة ... ولا تقعن إِلا وقلبك حاذر أتتك المنايا إِنْ بقيت بضربة ... تفارق منها العيش والموت حاضرُ ولما كان من خالد بن جعفر بن كلاب ما كان من قتل زهير، خاف وسار إِلى النعمان بن امرئ القيس اللخمي ملك الحيرة واستجار به، وكان زهير سيد غطفان، فانتدب منهم الحارث بن ظالم المري، وقدم إِلى النعمان في معنى حاجة له، وكان النعمان قد ضرب لخالد قبة، فلما جنَّ الليل، دخل الحارث إلى خالد وقتله في قبته غيلة وهرب وسلم. ثم جمع الأخوص بن جعفر، وهو أخو خالد، بين عامر وأخذ في طلب الحارث المري، وكذلك أخذ النعمان في طلبه لقتله جاره، وجرى بسبب ذلك حروب وأمور يطول شرحها وكان آخرها يوم شعب جبلة، على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. ومن ملوك العرب الملك قيس بن زهير العبسي المذكور، وكان قد جمع لقتال بني عامر أخذاً بثأر أبيه زهير. ثم نزل قيس بالحجاز، وفاخر قريشاً، ثم رحل عن قريش ونزل على بني بدر الفزاري الذبياني، ونزل على حذيفة بن بدر منهم، وكان قيس قد اشترى من الحجاز حصانه داحساً وفرسه الغبراء، وقد قيل أن الغبراء بنت داحس استولدها قيس من داحس ولم يشترها. وكان لحذيفة بن بدر فرسان يقال لهما الخطار والحنفاء، وقصدان يسابق مع فرسي قيس، داحس والغبراء، فامتنع قيس وكره السباق، وعلم أنه ليس في ذلك خير، فأبى حذيفة إِلا المسابقة، فأجروا الأربعة المذكورة بموضع يقال له ذات الأصاد، وكان الميدان نحو مائة غلوة، والغلوة الرمية بالسهم أبعد ما يمكن، كان الرهن مائة بعير، فسبق داحس سبقاً بيناً والناس ينظرون إِليه، وكان حذيفة قد أكمن في طريق الخيل من يعترض داحساً إِنْ جاءَ سابقاً، فاعترضه ذلك القوم وضربوه على وجهه، فتأخر

داحس. ثم سبقت الغبراء أيضاً الخطار والحنفاء فأنكر حذيفة ذلك كله وادّعى السبق، فوقع الخلف بين بني بدر وبني قيس، وكان بين الربيع بن زياد وَبين قيس خلف بسبب درع اغتصبها الربيع من قيس، وكان يسوء الربيع اتفاق بني بدر مع قيس، فلما وقع بينهم بسبب السباق سره ذلك، ولما اشتد الأمر بينهم قتل قيس ندبة بن حذيفة، وكان لقيس أخ يقال له مالك بن زهير، وكان نازلا على بني ذبيان، فلما أبلغهم قتل ندبة، قتلوا مالك بن زهير المذكور غيلة، ولما بلغ الربيع بن زياد مقتل مالك غم ذلك عليه جداً، وعطف على قيس وانتصر له وعمل الربيع أبياتاً في مقتل مالك منها: من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسراً يندبنه ... ويقمن قبل تبلج الأسحار ثم اجتمع قيس والربيع واصطلحا وتعانقا، وقال قيس للربيع إِنه لم يهرب منك من لجأ إِليك، ولم يستغن عنك من استعان بك، واجتمع إِلى قيس والربيع بنو عبس، واجتمع إِلى بني بدر بنو فزارة وذبيان، واشتدت الحروب بينهم وهي المعروفة بينهم بحرب داحس فاقتتلوا أولا فقتل عوف بن بدر، وانهزمت فزارة، وقتلت بنو عبس فيهم قتلاً ذريعاً، ثم اتقعوا ثانياً فانتصرت بنو عبس أيضاً، وكانت الدائرة على فزارة، وقتل الحارث بن بدر وطالت الحروب بينهم، وكان آخرها أنهم اتقعوا فانهزمت فزارة، وانفرد حذيفة وحمل أخوه ومعهما جماعة يسيرة وقصدوا جفر الهباة فلحقهم بنو عبس وفيهم قيس والربيع بن زياد وعنترة، وحالوا بين بني بدر وبين خيلهم وقتلوا حذيفة وأخاه حملا ابني بدر، وأكثر الشعراء في ذكر جفر الهباة ومقتل بني بدر عليه، وظهرت في هذه الحروب شجاعة عنترة بن شداد. ثم أن فزارة بعد مقتل بني بدر ساعدتهم قبائل كثيرة، لأنهم أعظموا قتل بني بدر، فلما قويت فزارة سارت بنو عبس ودخلوا على كثير من أحياء العرب، ولم يطل لهم مقام عند أحد منهم، وآخر الحال أن بني عبس قصدوا الصلح مع فزارة. فأجابتهم شيوخ فزارة إِلى ذلك. وتم الصلح بينهم، وقيل أن بني عبس لما سارت إِلى بني فزارة واصطلحوا معهم لم يسر معهم الملك قيس، بل انفرد عن بني عبس وتاب وتنصر وساح في الأرض حتى انتهى إِلى عمان، فترهب بها زماناً، وقيل أن قيساً تزوج في النمر بن قاسط لما انفرد عن بني عبس وولد له ولد اسمه فضالة، وبقي فضالة المذكور حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم على من معه من قومه، وكانوا تسعة وهو عاشرهم. وكان بين ملوك العرب وقائع في أيام مشهورة فمنها يوم خزار اتقعت فيه بنو ربيعة بن نزار، وهو ربيعة الفرس، وقبائل اليمن، وكانت الدائرة على اليمن، وانتصرت بنو ربيعة عليهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وقيل: أن قائد بني ربيعة كان كليب وائل المقدم الذكر، وخزار جبل بين البصرة

إِلى مكة. ومنها أيام بني وائل بسبب قتل كليب، كانت بين تغلب وقائدهم مهلهل أخو كليب، وبين بكر وقائدهم مرة أبو جساس، فأولها يوم عنيزة وتكافأ فيه الفريقان، ثم كان بينهم يوم واردات وانتصرت فيه تغلب على بكر، ثم يوم الحنو وكان لبكر على تغلب، ثم يوم القصيبات انتصرت فيه تغلب وأصيبت بكر حتى ظنوا أنهم قد بادوا، ثم يوم أقضة ويقال يوم التحالق، كثر فيه القتل في الفريقين، وكان بينهم أيام أخر لم يشتد فيها القتال كهذه الأيام. ومن أيام العرب يوم عين اباغ وكان بين غسان ولخم، وكان قائد غسان الحارث الذي طلب أدراع امرئ القيس وقيل غيره، وكان قائد لخم المنذر بن ماء السماء بغير خلاف، وقتل المنذر في هذا اليوم، وانهزمت لخم، وتبعتهم غسان إِلى الحيرة، وأكثروا فيهم القتل وعين أباغَ بموضع يقال له ذات الخبار. ومن أيام العرب يوم مرج حليمة وكان بين غسان ولخم أيضاً، وقعة يوم مرج حليمة من أعظم الوقعات، وكانت الجيوش فيه قد بلغت من الفريقين عدداً كثيراً، وعظم الغبار حتى قيل أنّ الشمس قد انحجبت وظهرت الكواكب التي في خلاف جهة الغبار، واشتد القتال فيه، واختُلِف في النصر لمن كان منهم. ومنها يوم الكلاب الأول وكان بين الأخوين شراحيل وسلمة ابني الحارث ابن عمرو الكندي، وكان مع شراحيل وهو الأكبر بكر بن وائل وغيرهم، وكان مع سلمة أخيه تغلب وائل وغيرهم، واتقعوا في الكلاب وهو بين البصرة والكوفة، واشتد القتال بينهم، ونادى منادي شراحيل من أتاه برأس أخيه سلمة فله مائة من الإبل، ونادى منادي سلمة من أتاه برأس أخيه شراحيل فله مائة من الإبل، فانتصر سلمة وتغلب على شراحيل وبكر، وانهزم شراحيل وتبعته خيل أخيه ولحقوه وقتلوه وحملوا رأسه إِلى سلمة. ومنها يوم أوارة وهو جبل، وكان بين المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة ين بكر وائل بسبب اجتماع بكر على سلمة بن الحارث، فظفر المنذر ببكر، وأقسم أنه لا يزال يذبحهم حتى يسيل دمهم من رأس أوارة إِلى حضيضه، فبقي يذبحهم والدم يجمد، فسكب عليه ماء حتى سال الدم من رأس الجبل إِلى حضيضه، وبرت يمينه. ومنها يوم رحرحان من العقد: قال وكان من أمره، أن الحارث بن ظالم المري ثم الذبياني، لمّا قتل خالد ابن جعفر بن كلاب قاتل زهير، حسبما تقدم - ذكره، عند ذكر مقتل زهير، هرب الحارث من النعمان ملك الحيرة، لكونه قتل خالداً وهو في جيرة النعمان، فلم يجر الحارث المذكور أحد من العرب خوفاً من النعمان، حتى استجار بمعبد بن زرارة فأجاره، فلم يوافقه قومه بنو تميم، وخافوا من ذلك، ووافقه منهم بنو ماوية وبنو دارم فقط، فلما بلغ الأخوص أخا خالد مكان حارث المري من معبد، سار إِليه واقتتلوا بموضع يقال له وادي رحرحان فانهزمت بنو تميم، وأسر معبد بن زرارة، وقصد أخوه لقيط بن زرارة أن يستفكّه، فلم يقدر، وعذبوا معبداً حتى مات. ومنها يوم شعب جبلة وهو من أعظم أيام العرب، وكان من حديثه: أنه لما انقضت

الفصل الخامس ذكر الأمم

وقعة رحرحان، استنجد لقيط بن زرارة التميمي ببني ذبيان فنجدته، وتجمعت له بنو تميم، غير بني سعد، وخرجت معه بنو أسد، وسار بهم لقيط إِلى بني عامر وبني عبس في طلب ثأر أخيه معبد، فأدخلت بنو عامر وبنو عبس أموالهم في شعب جبلة، هضبة حمراء بين الشريف والشرف وهما ماآن فحضرهم لقيط فخرجوا عليه من الشعب، وكسوا جمائع لقيط وقتلوا لقيطاً، وأسروا أخاه حاجب ابن زرارة، وانتصرت بنو عامر وبنو عبس نصراً عظيماً، وفي ذلك يقول جرير: ويوم الشعْبِ قد تركوا لقيطاً ... كأنّ عليه حلة أرجوان وكبّلَ حَاجبٌ بالشامِ حولاً ... فحِكم ذا الرقيبة وهو عانِ وقتل أيضاً من بني ذبيان وبني تميم وبني أسد في يوم شعب جبلة جماعة كثيرة، وقد أكثرت العرب من مراثي المقتولين من القبائل المذكورة، وكان يوم رحرحان قبل يوم شعب جبلة بسنة واحدة، وكان يوم شعب جبلة في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى النقل من العقد لابن عبد ربه. ومن أيام العرب المشهورة يوم ذي قار وكان في سنة أربعين من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل في عام وقعة بدر الأول أقوى، وكان من حديثه أنّ كسرى برويز غضب على النعمان بن المنذر وحبسه، فهلك في الحبس، وكان النعمَان قد أودع حلقته، وهي السلاح والدروع، عند هانئ بن مسعود البكري، فأرسل برويز يطلبها من هانئ المذكور فقال: هذه أمانة والحر لا يسلم أمانته، وكان برويز لما أمسك النعمان، قد جعل موضعه في مُلك الحيرة إِياس بن قبيصة الطائي، فاستشار برويز إِياساً المذكور فقال إِياس: المصلحة التغافل عن هانئ بن مسعود المذكور حتى يطمئن، وتتبعه فتدركه، فقال برويز إِنه من أخوالك، ولا نألوه نصحاً، فقال إِياس: رأي الملك أفضل. فبعث برويز الهرمزان في ألفين من الأعاجم، وبعث ألفا من بهرا، فلما بلغ بكر ابن وائل خبرهم، أتوا مكاناً من بطن ذي قار فنزلوه، ووصلت إِليهم الأعاجم، واقتتلوا ساعة وانهزمت الأعاجم هزيمة قبيحة، وأكثرت العرب الأشعار في ذكر هذا اليوم. الفصل الخامس ذكر الأمم من الصحاح: الأمة الجماعة، هو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع، وكل جنس من الحيوان أمة، وفي الحديث " لولا أنّ الكلاب أمة من الأممَ لأمرتُ بقتلها " أمة السريان والصابئين من كتاب أبي عيسى المغربي قال: أمة السريان هي أقدم الأمم، وكلام آدم وبنيه بالسرياني، وملتهم هي ملة الصابئين،

أمة القبط وهم من ولد حام بن نوح

ويذكرون أنهم أخذوا دينهم عن شيث وإدريس، ولهم كتاب يعزونه إِلى شيث، ويسمونه صحف شيث، يذكر فيه محاسن الأخلاق، مثل الصدق والشجاعة والتعصب للغريب وما أشبه ذلك، ويأمر به، ويذكر الرذائل ويأمر باجتنابها، وللصابئين عبادات، منها سبع صلوات، منهن خمس توافق صلوات المسلمين، والسادسة صلاة الضحى، والسابعة صلاة يكون وقتها في تمام الساعة السادسة من الليل، وصلاتهم كصلاة المسلمين من النية، وأن لا يخلطها المصلي بشيء من غيرها، ولهم الصلاة على الميت بلا ركوع ولا سجود، ويصومون ثلاثين يوماً وإن نقص الشهر الهلالي صاموا تسعاً وعشرين يوماً، وكانوا يراعون في صومهم الفطر والهلال، بحيث يكون الفطر وقد دخلت الشمس الحمل، ويصومون من ربع الليل الأخير إِلى غروب قرص الشمس، ولهم أعياد عند نزول الكواكب الخمسة المتحيرة بيوت أشرافها، والشمسة المتحيرة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد. ويعظمون بيت مكة، ولهم بظاهر حران مكان يحجونه، ويعظمون أهرام مصر، ويزعمون أن أحدها قبر شيث بن آدم، والآخر قبر إِدريس، وهو حنوخ، والآخر قبر صابي بن إِدريس الذي ينتسبون إِليه، ويعظمون يوم دخول الشمس برج الحمل، فيتهادون فيه ويلبسون أفخر ملابسهم، وهو عندهم من أعظم الأعياد لدخول الشمس برج شرفها. قال ابن حزم: والدين الذي انتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر، والغالب على الدنيا، إِلى أن أحدثوا فيه الحوادث، فبعث الله تعالى إِليهم إبراهيم خليله عليه السلام، بالدين الذي نحن عليه الآن. قال الشهرستاني: والصابئون يقاتلون الحنيفية، ومدار مذهبهم التعصب للروحانيين، كما أن مدار مذهب الحنفات التعصب للبشر والجسمانيين. أمة القبط وهم من ولد حام بن نوح وكان سكناهم بديار مصر، وكانوا أهل ملك عظيم، وعز قديم، واختلط بالقبط طوائف كثيرة، من اليونان والعماليق والروم وغيرهم، وإنما صاروا أخلاطاً لكثرة من تداول عليهم وَمَلَكَ مصر، فإِن أكثر من تملك مصر الغرباء، وكان القبط في سالف الدهر صابئة يعبدون الهياكل والأصنام، وكان منهم علماء بضروب من علم الفلسفة، وخاصة بعلم الطلسمات والنيرنجات والمرائي المحرقة والكيمياء. وكانت دار ملكهم مدينة منف وهي على جانب النيل من غربيه، وكانت ملوكهم تلقب الفراعنةِ، وقد تقدم ذكرهم. أمّة الفرس ومساكنهم وسط المعمور ويقال لها أرض فارس. ومنها: كرمان والأهواز وأقاليم يطول ذكرها، وجميع ما دون جيحون من تملك الجهات يقال له إِيران، وهي أرض الفرس، وأما ما وراء جيحون فيقال له توران، وهو أرض الترك، وقد اختلف في نسب الفرس، فقيل أنهم من ولد فارس بن إِرم بن سام،

وقيل: إِنهم من ولد يافث، والفرس يقولون: إِنهم من ولد كيومرت، وكيومرت عندهم هو الذي ابتدأ منه النسل مثل آدم عندنا، ويذكرون أن الملك لم يزل فيهم من كيومرت، وهو آدم إِلى غلبة الإسلام، خلا تقطع حصل في مدد يسيرة لا يعتد به، مثل تغلب الضحاك وفراسياب التركي. وملوك الفرس عند الأمم أعظم ملوك العالم، وكان لهم العقول الوافرة والأحلام الراجحة، وكان لهم منٍ ترتيب المملكة ما لم يلحقهم فيه أحد من الملوك، وكانوا يولون ساقط البيت شيئاً من أمور الخاصة. والفرس فرق كثيرة، فمنهم الديلم، وهم سكان الجبال، ومنهم الجيل وهم يسكنون الوطاة التي لجبال الديلم، وأرضهم هي ساحل بحر طبرستان. ومنهم الكرد، ومنازلهم جبال شهرزور، وقيل: إِن الكرد من العرب، ثم تنبطوا. وقيل: إِنهم أعراب العجم. وكان للفرس ملة قديمة، وكان يقال للدائنين بها الكيومرتية أثبتوا إِلهاً قديماً وسموه يزدان، وإلهاً مخلوقاً من الظلمة محدثاً، وسموه أهرمن. ويزدان عندهم هو الله تعالى، وأهرمن هو إِبليس، وكان أصل دينهم مبنياً على تعظيم النور، وهو يزدان، والتحرز من الظلمة وهو أهرمن، ولما عظموا النور عبدوا النيران، وكان الفرس على ذلك حتى ظهر زرادشت. وكان على أيام بشتاسف فقبل دينه ودخل فيه، ثم صارت الفرس على دينه، وذكر لهم زرادشت كتاباً زعم أن الله تعالى أنزله عليه، وزرادشت من أهل قرية من قرى أذربيجان، ولهم في خلق زرادشت وولادته كلام طويل لا فائدة فيه، فأضربنا عنه، وقال زرادشت بإله يسمى أرمزد بالفارسي وأنه خالق النور والظلمة ومبدعهما، وهو واحد لا شريك له، وأن الخير والشر والصلاح والفساد إِنما حصل من امتزاج النور بالظلمة، ولو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم، ولا يزال المزاج حتى يغلب النور الظلمة، ثم يتخلص الخير إِلى عالمه والشر إِلى عالمه، وقُبْلَة زرادشت إِلى المشرق، حيث مطلع الأنوار. وللفرس أعياد ورسوم فمنها النوروز، وهو اليوم الأول من فروردينماه، واسمه يوم جديد، لكونه غرة الحول الجديد، وبعده أيام خمسة كلها أعياد، ومن أعيادهم التيركان، وهو ثالث عشر تيرماه، ولما وافق اسم اليوم الثالث عشر اسم شهره صار ذلك اليوم عيداً، وهكذا كل يوم يوافق اسمه اسم شهره فهو عيد، ومنها المهرجان وهو سادس عشَر مهرماه، وفيه زعموا أن أفريدون ظفر بالساحر الضحاك بيوراسب، وحبسه في جبل دنياوند، ومنها الفروردجان وهو الأيام الخمسة الأخيرة من أبان ماه، يضع المجوس فيها الأطعمة والأشربة لأرواح موتاهم، على زعمهم، ومنها ركوب الكوسج وهو أنه كان يأتي في أول فصل الربيع رجل كوسج راكب حماراً، وهو قابض على غراب، وهو يتروّح بمروحة ويودع الشتاء، وله ضريبة يأخذها، ومتى وجد بعد ذلك اليوم ضرب، ومنها الذق وهو العاشر من بهسنماه، وليلته، وتوقد في ليلته النيران، ويضرب حولها. ومنها الكنبهارات وهي أقسام لأيام السنة مختلفة في أول كل قسم منها

أمة اليونان

خمسة أيام هي في الكنبهارات، زعم زرادشت أن في كل يوم خلق الله تعالى نوعاً من الخليقة، من سماء وأرض وماء ونبات وحيوان وإنس، فتم خلق العالم في ستة أيام. أمة اليونان قال أبو عيسى: المنقول عن أصحاب السير من اليونان، أن اليونان نجموا من رجل اسمه اللن ولد سنة أربع وسبعين لمولد موسى النبي عليه السلام، وكان أميرس الشاعر اليوناني موجوداً، في سنة ثمان وستين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام، وهو تاريخ ظهور أمة اليونان واشتهارهم، ولم يُعلموا قبل ذلك. قال: وكانوا أهل شعر وفصاحة، ثم صارت فيهم الفلسفة في زمان بخت نصر. قال: وهذا منقول من كتاب كوولبس الذي رد فيه على لليان الذي ناقض الإنجيل، أقول وقد نقل الشهرستاني أن أبيدقليس كان في زمن داود النبي عليه السلام، وكذلك فيثاغورس كان في زمن سليمان بن داود عليه السلام، وأخذ الحكمة من معدن النبوة، وكانت وفاة سليمان بن داود لمضي خمسمائة وثلاث وسبعين سنة من وفاة موسى، وكان أبيدقليس وفيثاغورس فيلسوفين مشهورين من اليونانيين، فقول أبي عيسى إِن الفلسفة إِنما ظهرت من اليونان في زمن بخت نصر، غير مطابق لما نقله الشهرستاني فإِن بخت نصر بعد سليمان بأكثر من أربعمائة سنة. ومن كتاب ابن سعيد المغربي: أن بلاد اليونان كانت على الخليج القسطنطيني من شرقيه وغربيه إِلى البحر المحيط، والبحر القسطنطيني هو خليج بين بحر الروم وبحر القرم، واسم بحر القرم في القديم بحر نيطش - بكسر النون وياء مثناة من تحتها ساكنة وطاء مهملة لا أعلم حركتها وشين معجمة - قال: واليونان فرقتان: فرقة يقال لهم الإِغريقيون وهم اليونانيون الأول، والفرقة الثانية يقال لهم اللطينيون. وقد اختلف في نسب اليونان، فقيل أنهم من ولد يافث، وقيل أنهم من جملة الروم من ولد صوفر بن العيص بن يعقوب بن إِبراهيم الخليل عليهما السلام. وكانت ملوك اليونان المقدم ذكرهم في الفصل الثالث، من أعظم الملوك، ودولتهم من أفخر الدول، ولم يزالوا كذلك حتى غلبت عليهم الروم، حسبما تقدم في ذكر أغسطس، فدخلت اليونان في الروم ولم يبق لهم ذكر. قال: وكانت بلادهم في الربع الشمالي الغربي، متوسطها الخليج القسطنطيني، وجميع العلوم العقلية مأخوذة عنهم، مثل العلوم المنطقية والطبيعية والإلهية والرياضية، وكانوا يسمون العلم الرياضي جومطريا، وهو المشتمل على علم الهيئة والهندسة والحساب واللحون والإيقاع وغير فلك، وكان العالم بهذه العلوم يسمى فيلوسوفاً، وتفسيره محب الحكمة، لأن فيلو محب وسوفاً الحكمة. فمن فلاسفتهم ثاليس الملطي، قال أبو عيسى: كان في زمن بخت نصر ومنهم أبيد قليس وفيثاغورس، اللذين تقدم أنهما كانا في زمن داود وسليمان عليهما

السلام، وفيثاغورس من كبار الحكماء، ويزعم أنه سمع حفيف الفلك، وصل إِلى مقام الملك. وقال: ما سمعت شيئاً ألذ من حركات الأفلاك، ولا رأيت شيئاً أبهى من صورتها. ومنهم أبقراط الحكيم الطبيب المشهور، ونجم في سنة مائة وست تسعين لبخت نصر، فيكون أبقراط قبل الهجرة بألف ومائة وبضع وسبعين سنة. ومنهم سقراط، قال الشهرستاني في الملل والنحل: إِنه كان حكيماً فاضلاً زاهداً، واشتغل بالرياضة، وأعرض عن ملاذ الدنيا، واعتزل إِلى الجبل وأقام في غار، ونهى الناس عن الشرك وعبادة الأوثان فثارت عليه العامة، والجأوا ملكهم إِلى قتله فحبسه ثم سقاه سمّاً فمات. ومنهم أفلاطون الإِلهي، وكان تلميذاً لسقراط المذكور، ولما اغتيل سقراط السم، قام أفلاطون مقامه وجلس على كرسيه. ومنهم أرسطوطاليس وكان تلميذاً لأفلاطون، وكان أرسطو المذكور في زمن الإسكندر، وبين الإِسكندر والهجرة تسعمائة وأربع وثلاثون سنة، فيكون أفلاطون قبل ذلك بمدة يسيرة، وكذلك يكون سقراط قبل أفلاطون بمدة يسيرة أيضاً، فبالتقريب يكون بين سقراط والهجرة نحو ألف سنة، ويكون بين أفلاطون والهجرة أقل من ألفي سنة. ومنهم طيماوس وهو من مشايخ أفلاطون، وأما أرسطوطاليس فهو المقدم المشهور، والحكيم المطلق. قال الشهرستاني: ولما صار عمر أرسطو المذكور سبع عشر سنة أسلمه أبوه إِلى أفلاطون فمكث عنده نيفاً وعشرين سنة، ثم صار حكيماً مبرزاً يعتمد عليه. ومن جملة تلامذة أرسطو الملك الإسكندر، الذي ملك غالب المعمور، من الغرب إِلى الشرق، وأقام الإسكندر يتعلم على أرسطو خمس سنين، وبلغ فيها أحسن المبالغ، ونال من الفلسفة ما لم ينل سائر تلاميذ أرسطو، ولما لحق أباه فيلبس مرض الموت، أخذ ابنه الإسكندر من أرسطو وعهده إِليه بالملك. ومنهم يرقلس وكان بعد أرسطو وصنف كتاباً ورد فيه شبهاً في قدم العالم. ومنهم الإسكندر الأفروديسي وكان بعد أرسطو، وهو من كبار الحكماء. ومما نقلناه من تاريخ ابن القفطي وزير حلب، في أخبار الحكماء قال: فمنهم طيموخارس وهو حكيم رياضي يوناني، عالم بهيئة الفلك رصد الكواكب في زمانه، وقد ذكره بطلميوس في المجسطي؛ وكان وقته متقدماً لوقت بطلميوس بأربعمائة وعشرين سنة. ومنهم فرفوريوس وكان من أهل مدينة صور على البحر الرومي بالشام، وكان بعد زمن جالينوس الذي سنذكره، وكان فرفوريوس المذكور عالماً بكلام أرسطو، وقد فسر كتبه لمّا شكا إِليه الناس غموضها، وعجزهم عن فهم كلامه. ومنهم فلوطيس وكان فاضلاً حكيماً يونانياً، وشرح كتب أرسطو ونقلت تصانيفه من الرومي إِلى السرياني قال: ولا أَعلم أن شيئاً منها خرج إِلى العربي. ومنهمٍ فولس الأجانيطي ويعرف بالقوابلي نسبة إِلى القوابل جمع قابلة وكان خبيراً بطب النساء، كثير المعاناة له، وكان القوابل يأتينه ويسألنه عن الأمور التي تحدث بالنساء عقيب الولادة، فينعم السؤال

أمة اليهود

لهن ويجيبهن بما يفعلنه، وكان زمنه بعد زمن جالينوس، وكان مقامه بالإسكندرية. ومنهم لسلون المتعصب، وكان حكيماً يونانياً يقرئ فلسفة أفلاطون وينتصر لها، فسمي لذلك بالمتعصب. ومنهم مقسطراطيس وكان فيلسوفاً يونانياً شرح كتب أرسطو، وخرجت إلى العربي. ومنهم منطر الإسكندري وكان إِماماً في علم الفلك، واجتمع هو وأفطيمن بالإسكندرية، وأحكما آلات الرصد، ورصد الكواكب، وحققاها، وكان زمنهما قبل زمن بطلميوس صاحب المجسطي بنحو خمسمائة وإحدى وسبعين سنة. ومنهم مورطس ويقال مورسطس، حكيم يوناني له رياضة وحيل، وصنف كتاباً في الآلة المسماة بالأرغن، وهي آلة تسمع على ستين ميلاً. ومنهم مغلس الحمصي من أهل حمص، وكان من تلامذة أبقراط، وله ذكر في زمانه، وله تصانيف منها كتاب البول وغيره. ومنهم مثرود يطوس ولم يذكر زمانه، بل قال عنه: إِنه كان طبيباً وحكيماً، وهو الذي ركب المعجون المسمى مثرود يطوس، سمّى معجونه باسمه، وكان معتنياً بتجربة الأدوية، وكان يمتحن قواها في شرار الناس الذين قد وجب عليهم القتل، فمنها ما وجده موافقاً للدغة الرتيلاء ومنها ما وجده موافقاً للدغة العقرب، وكذلك غير ذلك، انتهى كلام ابن القفطي. وأما بطلميوس وجالينوس فإِن زمانهما متأخر عن زمن اليونان، وكانا في زمن الروم وأحدهما قريب من الآخر، وكان بطلميوس متقدماً على جالينوس بقليلا. قال ابن الأثير في الكامل وقد أدرك جالينوس زمن بطلميوس، وكان بطلميوس مصنف المجسطي المذكور في زمن أنطونينوس، ومات أنطونينوس في أول سنة اثنتين وستين وأربعمائة لغلبة الإسكندر، وكان بين رصد بطلميوس ورصد المأمون ستمائة وتسعون سنة، وكان رصد المأمون بعد سنة مائتين للهجرة، فيكون بين الهجرة ورصد بطلميوس أربعمائة وتسعون سنة بالتقريب، وكان جالينوس في أيام قوموذوس الملك، وكان موت قوموذوس في سنة أربع وتسعين وأربعمائة للإسكندر، فيكون بين جالينوس والهجرة أكثر من أربعمائة سنة بقليل، وذلك كله بالتقريب. ومن حكماء اليونان إِقليدس صاحب كتاب الاستقصات المسمى باسمه، قال أبو عيسى: وكان إِقليدس في أيام ملوك اليونان البطالسة، فلم يكن بعد أرسطو ببعيد قال: وليس هو مخترع كتاب إِقليدس، بل هو جامعه ومحرره ومحققه، ولذلك نسب إليه. ومنهم ابرخس وكان حكيماً رياضياً، ورصد الكواكب وحققها، ونقل بطلميوس عنه في المجسطي، وكان بين رصد برخس وبين رصد بطلميوس مائتان وخمس وثمانون سنة فارسية بالتقريب. أمة اليهود قد تقدم ذكر موسى صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك تقدم ذكر بني إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن إِسحاق بن إِبراهيم الخليل عليهم السلام. وكان لإسرائيل المذكور اثنا عشر

ابناً وهم روبيل ثم شمعون ثم لاوي ثم يهوذا ثم يساخر ثم زبولون ثم يوسف ثم بنيامين ثم دان ثم نفتالي ثم كاذ ثم أشار أولاد إِسرائيل المذكور. وهؤلاء الإثنا عشر، منهم كانت أسباط بني إسرائيل، وجميع بني إِسرائيل هم أولاد الإِثني عشر المذكورين. وأمة اليهود أعمّ من بني إِسرائيل، لأن كثيراً من أجناس العرب والروم والفرس وغيرهم صاروا يهوداً، ولم يكونوا من بني إِسرائيل، وإنما بنو إِسرائيل هم الأصل في هذه الملة، وغيرهم دخيل فيها. فلذلك قد يقال لكل يهودي إِسرائيلي. وقد تقدم ذكر حكام بني إِسرائيل وملوكهم في الفصل الأول، وأما اسم اليهود فقد قال الشهرستاني في الملل والنحل: هاد الرجل أي رجع وتاب، وإنما لزمهم هذا الاسم لقول موسى عليه السلام: " إِنا هدنا إِليك " " الأعراف: 156 " أي رجعنا وتضرعنا. قال البيروتي في الآثار الباقية: ليس ذلك بشيء، وإنما سميّ هؤلاء باليهود نسبة إِلى يهوذا أحد الأسباط، فإِن الملك استقر في ذريته، وأبدلت الذال المعجمة دالاً مهملة، كما يوجد مثل ذلك في كلام العرب، وكتابهم التوراة، وقد اشتملت على أسفار، فذكر في السفر الأول مبتدأ الخلق، ثم ذكر الأحكام والحدود والأحوال والقصص والمواعظ والأذكار في سفر وأنزل على موسى عليه السلام الألواح أيضاً، وهي شبه مختصر ما في التوراة. انتهى. كلام الشهرستاني من كتاب خير البشر بخير البشر قال فيه: وليس في التوراة ذكر القيامة ولا الدار الآخرة، ولا فيها ذكر بعث ولا جنة ولا نار، وكل جزاء فيها إِنما هو معجل في الدنيا، فيجزون على الطاعة بالنصر على الأعداء وطول العمر وسعة الرزق ونحو ذلك. ويجزون على الكفر والمعصية بالموت ومنع القطر والحميات والجرب، وأن ينزل عليهم بدل المطر الغبار والظلمة ونحو ذلك، وليس فيها ذم الدنيا ولا الزهد فيها، ولا وظيفة صلوات معلومة بل الأمر بالبطالة والقصف واللهو. ومما تضمنته التوراة أن يهوذا بن يعقوب في زمان نبوته، زنى بامرأة ابنه، وأعطاها عمامته وخاتمه، رهناً على جدي هو أجرة الزنا، وهو لا يعرفها، فأمسكت رهنه عندها، وأرسل إِليها بالجدي فلم تأخذه وظهر حملها، وأخبر يهوذا بذلك فأمر بها أنْ تحرق، فأنفذت إِليه بالرهن، فعرف يهوذا أنه هو الذي زنى بها فتركها وقال: هي أصدق. ومما تضمنته أيضاً، أن روبيل بن يعقوب وطئ سرية أبيه، وعرف بذلك أبوه، ومما تضمنته أيضاً أن أولاد يعقوب من أمتيه كانوا يزنون مع نساء أبيهم، وجاء يوسف وعرف أباه بخبر أِخوته القبيح. ومما تضمنته: أن راحيل أخت ليّا، وكانت الأختان المذكورتان قد جمع بينهما يعقوب في عقد نكاحه، وكان ذلك حلالاً في ذلك الزمان، قال: فاشترت راحيل من أختها وضرتها ليا، مبيت بن ليا، وهو روبيل، عند راحيل ليِطأها، بنوبتها من يعقوب ليبيت عند ليا، وقد تضمنت من نحو ذلك كثيراً أضربنا عنه. رجعنا إِلى كلام الشهرستاني قال: واليهود تدعَّي أنّ الشريعة لا تكون إِلا واحدة، وهي ابتدأت بموسى وتمت به، وإما ما كان قبل موسى فإِنما كان حدوداً

عقلية وأحكاماً مصلحية، ولم يجيزوا النسخ أصلاً، فلم يجيزوا بعده شريعة أخرى. قالوا: والنسخ في الأوامر بدا ولا يجوز البدا على الله تعالى. وافترقت اليهود فرقاً كثيرة: فالربانية منهم كالمعتزلة فينا، والقراؤون كالمجبرة والمشبهة فينا، ومن فرق اليهود العانانية نسبوا إِلى رجل منهم يقال له عانان بن داود، وكان رأس جالوسَ، ورأس الجالوت هو اسم للحاكم على اليهود بعد خراب بيت المقدس الخراب الثاني، فاٍنه لما ذهب المُلك منهم بغزو بخت نصر، صار الحاكم عليهم في القدس يسمى هرذوس أو هيروذس، وكان والياً من جهة الفرس ثم صار من جهة اليونان كذلك، ثم صار من جهة أغسطس، ومن بعده من ملوك الروم كذلك، حتى غزاهم طيطوس وأبادهم وخرب بيت المقدس الخراب الثاني، على ما تقدم ذكره، وتفرقت اليهود في البلاد ولم تعد لهم بعد ذلك رياسة يعتد بها، وصار منهم بالعراق وتلك النواحي جماعة، وكانوا يرجعون إِلى كبير منهم، فصار اسم ذلك الكبير الذي يرجعون إِليه رأس الجالوت، فمن مذهب العانانية المذكورين، أنهم يصدقون المسيح في مواعظه وإشاراته، ويقولون أنه لم يخالف التوراة البتة، بل قررها ودعا الناس إِليها، وهو من أنبياء بني إِسرائيل المتعبدين بالتوراة، إِلا أنهم لا يقولون بنبوته، ومنهم من يدعي أن عيسى لم يدعيّ أنه نبي مرسل ولا أنه صاحب شريعة ناسخة لشريعة موسى عليه السلام، بل هو من أَولياء الله المخلصين، وأنّ الإِنجيل ليس كتَاباً منزلاً عليه، وحياً من الله تعالى، بل هو جميع أحواله جمعه أربعة من أصحابه، واليهود ظلموه أولاً، حيث كذبوه، ولم يعرفوا بعد دعواه، وقتلوه آخراً ولم يعلموا محله ومغزاه، وقد ورد في التوراة ذكر المشيحا في مواضع كثيرة وهو المسيح. وأما السمرة فمنهم فرقة يقال لها الدستانية، وتسمى الدستانية أيضاً الفانية، ومنهم فرقة يقال لها كوشانية والدستانية يقولون: إنما الثواب والعقاب في الدنيا، وأما الكوشانية فيقرون بالآخرة وثوابها وعقابها. ولليهود أعياد وصيام فمنها الفصح وهو اليوم الخامس عشر من نيسان اليهود، وهو عيد كبير وهو أول أيام الفطير السبعة، ولا يجوز لهم فيها أكل الخمير، لأنهم أمروا في التوراة أن يأكلوا في هذه الأيام فطيراً، وآخر هذه الأيام الحادي والعشرون من الشهر المذكور، والفصح يدور من ثاني عشر آذار إلى خامس عشر نيسان، وسبب ذلك أن بني إِسرائيل لما تخلصوا من فرعون، وحصلوا في التيه اتفق ذلك ليلة الخامس عشر من نيسان اليهود والقمر تام الضوء، والزمان زمان ربيع فأمروا بحفظ هذا اليوم وفي آخر هذه الأيام غرق فرعون في بحر السويس وهو بحر القلزم. ولهم عيد الّعنصرة وهو بعد الفطير بخمسين يوماً، ويكون في السادس من شيون، وفيه حضر مشايخ بني إسرائيل إِلى طور سيناء مع موسى عليه السلام، فسمعوا كلام الله تعالى من الوعد والوعيد، فاتخذوه عيداً. ومن أعيادهم عيد الحنكة، وسعناه التنظيف، وهو ثمانية أيام، أولها الخامس

أمة النصارى وهم أمة المسيح

والعشرون من كسليو، يَسْرجون في الليلة الأولى سراجاً، وفي الثانية اثنين، وكذلك حتى يسرجوا في الثامنة ثمانية سرج، وذلك تذكار أصغر ثمانية أخوة، قَتَلَ بعض ملوك اليونان، فإنه كان قد تغلب عليهم ملك من اليونان ببيت المقدس، وكان يفترع البنات قبل الإهداء إِلى أزواجهن، وكان له سرداب قد أخرج منه حبلين عليهما جلجلان، فإن احتاج إلى امرأة حرك الأيمن فتدخل عليه، فإِذا فرغ منها حرك الأيسر فيخلى سبيلها، وكان في بني إِسرائيل رجل له ثمانية بنين وبنت واحدة، فتزوجها إِسرائيلي وطلبها، فقال له أبوها: إِن أهديتها إِليك افترعها هذا الملعون، ووبخ بنيه بذلك، فأنفوا من ذلك، ووثب الصغير منهم فلبس ثياب النساء، وخبأ خنجراً تحت قماشه، وأتى باب الملك على أنه أخته، فلما حُرّك الجرس أدُخِل عليه فحين خلا به قتله وأخذ رأسه، وحرك الحبل الأيسر وخرج خلي سبيله، فلما ظهر قتل الملك، فرح بذلك بنو إسرائيل واتخذوه عيداً في ثمانية أيام تذكاراً للأخوة الثمانية. ومن أعيادهم المظال وهي سبعة أيام، أولها خامس عشر تشرين الأول، يستظلون فيها بالخلاف والقصب وغير ذلك، وهو فريضة على المقيم دون المسافر، وأمروا بذلك تذكاراً لأظلال الله تعالى إِياهم بالغمام في التيه، وآخر المظال وهو حادي عشرين تشرين، يسمى عرابا وتفسيره شجر الخلاف وغدعرابا، وهو اليوم الثاني والعشرون من تشرين يسمى التبريك وتبطل فيه الأعمال، ويزعمون أن التوراة فيه استتم نزولها، ولذلك يتبركون فيه بالتوراة، وليس في صياماتهم فرض غير صوم الكبور، هو عاشر يوم من تشرين اليهود، وابتداء الصوم من اليوم التاسع قبل غروب الشمس بنصف ساعة، إلى بعد غروبها من اليوم العاشر بنصف ساعة، تمام خمس وعشرين ساعة، وكذلك غيره من صياماتهم النوافل والسنن. أمة النصارى وهم أمة المسيح عليه السلام من كتاب الملل والنحل للشهرستاني قال: وللنصارى في تجسد الكلمة مذاهب. فمنهم من قال: أشرقت على الجسد إشراق النور على الجسم المشف، ومنهم من قال: انطبعت فيه انطباع النقش في الشمعة، ومنهم من قال تدرع اللاهوت بالناسوت، ومنهم من قال: مازجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن بالماء. واتفقت النصارى على أن المسيح قتلته اليهود وصلبوه، ويقولون أن المسيح بعد أن قُتل وصلب ومات، عاش فرأى شخصه شمعون الصفا، وكلمه وأوصى إليه، ثم فارق الدنيا وصعد إلى السماء. قال: وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، وكبارهم ثلاث فرق، الملكانية والنسطورية، واليعقوبية. أما الملكانية فهم أصحاب ملكا الذي ظهر ببلاد الروم، واستولى عليها، فصار غالب الروم ملكانية، وهم يصرحون بالتثليث وعنهم أخبر الله تعالى بقوله: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " " المائدة: 73 " وصرحت الملكانية

الأمم التي دخلت في دين النصارى

ولهم عيد الصليب وهو مشهور. ولهم الميلاد ويصومون قبله أربعين يوماً، أولها سادس عشر تشرين الآخر وكان الميلاد في ليلة الرابع والعشرين من كانون الأول: وفي الليلة المذكورة ولدت مريم المسيح في قرية بالقرب من القدس تسمى بيت لحم. وأما الإنجيل فهو كتاب يتضمن أخبار المسيح عليه السلام، من ولادته إلى وقت خروجه من هذا العالم، كتبه أربعة نفر من أصحابه، وهم متى كتبه بفلسطين بالعبرانية، ومرقوس كتبه ببلاد الروم باللغة الرومية، ولوقا كتبه بالاسكندرية باللغة اليونانية، ويوحناّ كتبه بالإسكندرية باللغة اليونانية أيضاً. ولهم صوم السليحيين وهو ستة وأربعون يوماً، أولها يوم الاثنين تالي الفنطي قسطي، بعد الفطر الكبير بخمسين يوماً، ولهم فيه خلاف. ولهم صوم نينوى ثلاثة أيام، أولها يوم الاثنين الذي قبل الصوم الكبير باثنين وعشرين يوماً. ولهم صوم العذارى وهو ثلاثة أيام أولها يوم الاثنين، يتلو الدنح، وفطره يوم الخميس. الأمم التي دخلت في دين النصارى فمنها أمة الروم قال أبو عيسى: وهذه الأمة على كثرتها وعظم ملوكها واتساع بلادها، إنما نجمت من بني العيص بن إِسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، وكان أول ظهورهم في سنة ست وسبعين وثلاثمائة لوفاة موسى عليه السلام، وساروا إلى البلاد المعروفة ببلاد الروم وسكنوها، وحينئذ ابتدأت الروم توجد. ومن كتاب ابن سعيد المغربي إن الروم يعرفون ببني الأصفر، والأصفر هو روم العيص بن إسحاق على أحد الأقوال من الكامل، وغيره أن الروم كانت تدين بدين الصابئة، ويعبدون أصناماً على أسماء الكواكب، وما زالت الروم ملوكها ورعيتها كذلك حتى تنصر قسطنطين وحملهم على دين النصارى، فتنصروا عن آخرهم ومن أمم النصارى الأرمن وكانت بلادهم أرمينية، وقاعدة مملكتها خلاط فلما ملكها المسلمون صارت الأرمن رعية فيها، ثم تغلبت الأرمن على الثغور وملكوا من المسلمين طرسوس والمصيصة واستولوا على تلك البلاد التي تعرف اليوم ببلاد سليس، وسليس مدينة، ولها قلعة حصينة، وهي كرسي مملكة الأرمن في زماننا هذا. ومنها الكرج وبلادهم مجاورة لبلاد خلاط، آخذة إلى الخليج القسطنطيني، وممتدة إلى نحو الشمال، ولهم جبال منيعة، والكرج خلق كثير، وقد عليهم دين النصارى، ولهم قلاع حصينة وبلاد متسعة، وهم في زماننا هذا مصالحون للتتر، وبيت الملك عندهم محفوظ متوارث، يليه الرجال والنساء من ذلك البيت. ومنها الجركس وهم على بحر نيطش من شرقيه، وهم في شظف من العيش، والغالب عليهم دين النصارى. ومنها الروس ولهم بلاد في شمالي بحر نيطش، وهم من ولد يافث، وقد غلب عليهم دين النصارى. ومنها البلغار منسوبون إِلى المدينة التي يسكنونها، وهي في شرقي بحر نيطش،

أمم الهند

وكان الغالب عليهم النصرانية، ثم أسلم منهم جماعة. ومنها الألمان وهي من أكبر أمم النصارى، يسكنون في غربي القسطنطينية إلى الشمال، وملكهم كثير الجنود، وهو الذي سار إِلى صلاح الدين بن أيوب في مائة ألف مقاتل، فهلك ملك الألمان المذكور، وغالب عسكره في الطريق قبل أن يصلوا إِلى الشام، على ما سنذكر ذلك إِن شاء الله تعالى مع أخبار صلاح الدين المذكور. ومنها البرجان وهم أيضاً أمة كبيرة، بل أمم كثيرة طاغية، قد فشا فيها التثليث، وبلادهم واغلة في الشمال، وأخبارهم وسير ملوكهم منقطعة عنا لبعدهم. وجفاء طباعهم. ومنها الإفرنج وهم أمم كثيرة، وأصل قاعدة بلادهم فرنجة، ويقال فرنسه، وهي مجاورة لجزيرة الأندلس من شماليها، ويقال لملكهم الفرنسيس، وهو الذي قصد ديار مصر وأخذ دمياط، ثم أسره المسلمون واستنقذوا دمياط منه، ومنوا عليه بالإِطلاق، وكان ذلك بعيد موت الملك الصالح أيوب بن الملك الكامل محمد ابن أبي بكر بن أيوب، على ما سنذكره في سنة ثمان وأربعين وستمائة للهجرة إِن شاء الله تعالى، وقد غلب الفرنج على معظم جزيرة الأندلس، ولهم في بحر الروم جزائر مشهورة مثل صقلية وقبرس وإقريطش وغيرها. ومنهم الجنوية، منسوبون إِلى جنوة، وهي مدينة عظيمة، وبلاد كثيرة، وهي غربي القسطنطينية على بحر الروم. ومنها البنادقة، وهم أيضاً طائفة مشهورة، ومدينتهم تسمى البندقية، وهي على خليج يخرج من بحر الروم، يمتد نحو سبعمائة ميل في جهة الشمال والغرب، وهي قريبة من جنوة في البر، وبينهما نحو ثمانية أيام، وأما في البحر فبينهما أمد بعيد أكثر من شهرين، لأنهم يخرجون من شعبة البحر التي على طرفها البندقية، وقدرها سبعمائة ميل إِلى بحر الروم مشرقاً، ثم يسيرون فيه مغرباً إلى جنوة، وأما رومية فهي مدينة عظيمة، تقع غربي جنوة والبندقية، وهي مقر خليفتهم، واسمه البابا، وهي شمالي الأندلس بميلة إلى الشرق. ومن أمم النصارى، الجلالقة وهم أشد من الفرنج، وهم أمة يغلب عليهم الجهل والجفاء، ومن زيهم أنهم لا يغسلون ثيابهم، بل يتركونها عليهم إِلى أن تبلى، ويدخل أحدهم دار الآخر بدون استئذان، وهم كالبهائم، ولهم بلاد كثيرة في شمالي الأندلس، ومنها الباشقرد، وهم أمة كثيرة ما بين بلاد الألمان وبلاد إفرنجة، وملكهم وغالبهم نصارى، وفيه أيضاً مسلمون، وهم شرسو الأخلاق. أمم الهند وهم فرق كثيرة، قال الشهرستاني: ومن فرقهم الباسوية زعموا أن لهم رسولاً ملكاً روحانياً، نزل بصورة البشر، فأمرهم بتعظيم النار والتقرب إِليها بالطيب والذبائح، ونهاهم عن القتل والذبح لغير النار، وسن لهم أن يتوشحوا بخيط، يعقدونه من مناكبهم الأيامن إِلى تحت شمائلهم، وأباح لهم الزناء، وأمرهم بتعظيم البقر والسجود لها حيث رأوها، ويتضرعون في

التوبة إِلى التمسيح بها. قال ومنهم اليهودية ومن مذهبهم أن لا يعافوا شيئاً، لأن الأشياء جميعها صنع الخالق، ويتقلدون بعظام الناس، ويمسحون رؤوسهم وأجسادهم بالرماد، ويحرمون الذبائح والنكاح، وجمع الأموال، ومنهم عبدة الشمس وعبدة القمر، ومنهم عبدة الأصنام، وهم معظمهم. ولهم أصنام عدّة، كل صنم لطائفة، ويكون لذلك الصنم شكل غير شكل الصنم الآخر، مثل أن يكون أحدها بأيد كثيرة، أو على شكل امرأة ومعه حيات، ونحو ذلك. ومنهم عبّاد الماء ويقال لهم الجلهكينية، ويزعمون أن الماء ملك، وهو أصل كل شيء، وإذا أراد الرجل عبادة الماء تجرد وستر عورته، ثم دخل الماء حتى يصل إلى وسطه، فيقيم فيه ساعتين أو أكثر، ويأخذ مهما أمكنه من الرياحين فيقطعها صغاراً ويلقيها في الماء وهو يسبح، ويقرأ، وإذا أراد الانصراف، حرّك الماء بيده ثم أخذ منه، فنقّط على رأسه ووجهه، ثم يسجد وينصرف. ومنهمٍ عباد النار ويقال لهم الإكنواطرية، وصورة عبادتهم لها أن يحفروا في الأرض أخدوداً مربعاً ويؤججوا النار فيه، ثم لا يدعون طعاماً لذيذاً ولا شراباً لطيفاً ولا ثوباً فاخراً ولا عطراً فائحاً ولا جوهراً نفيساً إِلا طرحوه في تلك النار، تقرّباً إِليها. وحرموا إِلقاء النفوس فيها، خلافاً لطائفة أخرى. ومنهم البراهمة أصحاب الفكرة وهم أهل العلم بالفلك والنجوم، ولهم طريقة في أحكام النجوم تخالف طريقة منجمي الروم، والججم، وذلك أن أكثر أحكامهم باتصالات الثوابت، دون السيارات، وإنما سموا أصحاب الفكرة لأنهم يعظمون أمر الفكرة، ويقولون هو المتوسط بين المحسوس والمعقول، ويجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الفكر عن المحسوسات، فإِذا تجرد الفكر عن هذا العالم، تجلى له ذلك العالم، فربما يخبر عن المغيبات، وربما يوقع الوهم على حي فيقتله، وإنما يصرفون الفكر عن المحسوسات بالرياضة البليغة المجهدة، وبتغميض أعينهم أياماً، والبراهمة لا يقولون بالنبوات وينفونها بالكلية، ولهم على ذلك شبه مذكورة في الملل والنحل لا تليق بهذا المختصر. ومن كتاب ابن سعيد المغربي ونقله عن المسعودي: أنّ الهنود لا يرون إِرسال الريح من بطونهم قبيحاً، والسعال عندهم أقبح من الضراط، والجشاء أقبح من الفساء، ومما نقله عن المسعودي أيضاً: إِن الهنود يحرقون أنفسهم، وإذا أراد الرجل منهم ذلك أتى إِلى باب الملك واستأذنه في إحراق نفسه، فإذا أذن له ألبس ذلك الرجل أنواع الحرير المنقوش، وجعل على رأسه إِكليلاً من الريحان، وضربت الطبول والصنوج بين يديه، وقد أججت له النيران، ويدور كذلك في الأسواق وحوله أهله وأقاربه، حتى إِذا دنا من النار أخذ خنجراً بيده وشق به جوفه، ثم يهوي بنفسه في النار. قال والزناء فيما بينهم مباح، قال ويعظمون نهر كنك، وهو نهر عظيم يجري في حدود الهند، من الشرق إِلى الغرب، وهو حاد الانصباب، وللهنود رغبة في إتلاف نفوسهم بالتغريق في هذا النهر، ويقتلون أنفسهم على

أمة السند

شطه أيضاً، والهنود تتهادى ماء هذا النهر كما يتهادى المسلمون ماء بئر زمزم، وللهند ممالك فمنها: مملكة المانكير وهي من أعظم ممالك الهند، وهي على بحر اللان الذي عليه السند، ولا يدرك لهذا البحر قعر، وهو أول بحار الهند من جهة الغرب، وهذه المملكة أقرب ممالك الهند إِلى بلاد الإسلام، وهي التي كان يكثر محمود بن سبكتكين غزوها، حتى فتح منها بلاداً كثيرة، ومن مدنها العظام مدينة لهاور، وهي على جانبي نهر عظيم مثل بغداد. قال: ويلي مملكة المانكير، مملكة القنوح وهي مملكة بلادها الجبال، وهي منقطعة عن البحر، وكل من ملكها يسمى نوده، ولأهل هذه المملكة أصنام يتوارثون عبادتها، ويزعمون أن لها نحو مائتي ألف سنة. قال ويجاور هذه المملكة مملكة قمار وهي التي ينسب إِليها العود القماري، وهي على البحر، وأهل هذه المملكة يرون تحريم الزناء من بين أهل الهند، قال ابن سعيد ورواه عن المسعودي أن الذي يملكها يسمى زهم، قال ويحاربه من جهة البحر ملك الجزر المعروف بالمهراج. قال وآخر ممالك الهند من جهة الشرق مملكة بنارس وهي تلي بلاد الصين، وهي مملكة طويلة، وعرضها نحو عشرة أيام، وجزائر بحر الهند في نهاية الكثرة، وهي في البحر قبالة هذه الممالك، ولها ملوك وقد أكثر المصنفون فيها الكلام مما لا يليق بهذا المختصر. أمة السند وهم غربي الهند، وبلاد السند قسمان، قسم على جانب البحر، ويقال لتلك البلاد اللان، ومن مشاهير مدن هذا القسم المولتمان والمنصورة والدبيل، والمسلمون غالبون على هذا القسم. والقسم الثاني في البر إِلى جانب الجبل، وبلاده كثيرة الوعر، ويقال للبلاد التي في هذا القسم القشمير، وهي في أيدي الكفار، وأهلها يعبدون الأوثان مثل الهنود، وكل من ملك السند يقال له رتبيل. أمم السودان وهم من ولد حام من كتاب ابن سعيد قال: وأديان السودان مختلفة، فمنهم مجوس، ومنهم من يعبد الحيات، ومنهم أصحاب أوثان، قال: وقد روي عن جالينوس، أنهم يختصون بعشر خصال. وهي تفلفل الشعر، وخفة اللحا، وانتشار المنخرين، وغلظ الشفتين، وتحدد الأسنان، ونتن الجلد، وسواد اللون، وتشقق اليدين والرجلين، وطول الذكر، وكثرة الطرب. فمن أعظم أممهم الحبش، وبلادهم تقابل الحجاز، وبينهما البحر، وهي بلاد طويلة عريضة، وبلادهم في جنوب النوبة وشرقيها، وهم الذين ملكوا اليمن قبل الإسلام، حسبما تقدم خبره عقيب ذكر ملوك اليمن من العرب، وخصيان الحبشة أفخر الخصيان. ويجاور الحبش من الجنوب الزيلع والغالب عليهم دين الإسلام. ومن أمم السودان النوبة وهم يجاورون الحبشة من جهة الشمال والغرب،

أمم الصين

والنوبة في جنوب حدود مصر، وكثيراً ما يغزوهم عسكر مصر، ويقال: إِن لقمان الحكيم الذي كان مع داود النبي عليه السلام من النوبة، وأنه ولده بأيلة. ومنه ذو النون المصري، وبلال بن حمامة. ومن أممهم البجا وهم شديدو السواد عراة، ويعبدون الأوثان، وهم أهل أمن، وحسن مرافقة للتجار، في بلادهم الذهب، وهم فوق الحبشة إِلى جهة الجنوب على النيل. ومن أممهم الدمادم وبلادهم على النيل فوق بلاد الزنج، والدمادم تتر السودان، فإِنهم خرجوا عليهم وقتلوا فيهم كما جرى للتتر مع المسلمين، وهم مهملون في أديانهم، ولهم أوثان وأوضاع مختلفة، وفي بلادهم الزرافات، وفي أرض الدمادم يفترق النمل إلى جهة مصر وإلى الزنج. ومن أممهم الزنج وهم أشد السودان سواداً، ويحاربون راكبين البقر، ويعبدون الأوثان وهم أهل بأس وقساوة، والنيل ينقصم فوق بلادهم عند جبل المقسم. ومن أممهم التكرور وهم على غربي النيل، وبلادهم جنوبية غربية، وببلادهم يتكون الذهب، وهم كفار مهملون، ومنهم مسلمون. ومن أممهم الكانم وأكثرهم مسلمون، وهم على النيل، وهم على مذهب مالك، وأما مدينة غانة فهي من أعظم مدن السودان، وهي في أقصى جنوب المغرب، ويسافر التجار من سجلماسة إِلى غانة، وسجلماسة مدينة بالغرب الأقصى، بعيدة عن البحر، ويسيرون من سجلماسة إلى غانة في مفازة لا يوجد فيها الماء نحو اثني عشر يوماً، ويحملون إِليهما التين والملح والنحاس والودع، ولا يجلبون منها إِلا الذهب العين. أمم الصين وأما بلاد الصين فطويلة عريضةْ، طولها من المشرق إِلى المغرب أكثر من مسيرة شهرين، وعرضها من بحر الصين في الجنوب إِلى سد يأجوج ومأجوج في الشمال. وقد قيل: إِن عرضها أكثر من طولها، ويشتمل عرضها على الأقاليم السبعة، وأهل الصين أحسن الناس سياسة، وأكثرهم عدلاً، وأحذق الناس في الصناعات، وهم قصار القدود، عظام الرؤوس، وهم أهل مذاهب مختلفة، فمنهم مجوس، وأهل أوثان، وأهل نيران. قال ومدينتهم الكبرى يقال لها جمدان يشقها نهرها الأعظم. وأهل الصين أحذق خلق الله تعالى بالنقش والتصوير، بحيث يعمل الرجل الصيني بيده ما يعجز عنه أهل الأرض، والصين الأقصى ويقال له صين الصين، هو نهاية العمارة من جهة الشرق، وليس وراءه غير البحر المحيط، ومدينته العظمى يقال لها السيلي، وأخبارها منقطعة عنا. بني كنعان وهم أهل الشام، قال ابن سعيد: وإِنما سمي الشام شاماً لسكنى سام بن نوح به، وسام اسمه بالعبرانية شام، بشين معجمة، وقيل تشأمت به بنو كنعان، هو ابن مازيغ بن حام بن نوح،

البربر

وكان كنعان من جملة الذين اتفقوا على بناء الصرح، فلما بلبل الله تعالى ألسنتهم في أواخر سنة ستمائة وسبعين للطوفان، وتفرقوا، نزل كنعان في الشام ونزل في جهة فلسطين، وتوارثها بنوه، وكان كل من ملك من بني كنعان يلقب جالوت، إِلى أن قتل داود جالوت آخر ملوكهم، وكان اسمه كلياد عن البيروني ذكر ذلك في أواخر كتاب الجواهر، فتفرقت بنو كنعان وسار منهم طائفة إلى المغرب وهم البربر. البربر وقد اختُلِفَ في البربر اختلافاً كثيراً، فقيل: إِنهم من ولد فارق بن بيصر بن حام البربر يزعمون أنهم من ولد قيس غيلان، وصنهاجة من البربر تزعم أنها من ولد إفريقس بن صيفي الحميري، وزناتة منهم تزعم أنها من لخم، والأصح أنهم من ولد كنعان حسبما ذكرنا، وأنه لما قتل ملكهم جالوت، وتفرقت بنو كنعان، قصدت منهم طائفة بلاد المغرب وسكنوا تلك البلاد، وهم البربر، وقبائل البربر كثيرة جداً. منهم كثامة وبلادهم بالجبال، من الغرب الأوسط، وكثامة الذين أقاموا دولة الفاطميين مع أبي عبد الله الشيعي. ومنهم صنهاجة ومن صنهاجة ملوك أفريقية بنو بلكين بن زبري. ومن قبائل البربر زناتة وكان منهم ملوك فاس وتلمسان وسجلماسة، ولهم الفروسية والشجاعة المشهورة. ومن البربر المصامدة وسكناهم في جبل درن، وهم الذين قاموا بنصر المهدي بن تومرت، وبهم ملك عبد المؤمن وبنوه بلاد المغرب. وانفرق من المصامدة قبيلة هنتانة، وملك منهم إفريقية والغرب الأوسط، أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، ثم خطب لولده أبي عبد الله محمد ابن يحيى بالخلافة واستمر على ذلك إلى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، على ما سنذكرهم إن شاء الله تعالى. ومن قبائل البربر المشهورة برغواطة ومنازلهم في نأمسنا وجهات سلا على البحر المحيط، والبربر مثل العرب في سكنى الصحارى، ولهم لسان غير العربي، قال ابن سعيد: ولغاتهم ترجع إِلى أصول واحدة، وتختلف فروعها حتى لا تفهم إِلا بترجمان. أمة عاد وهم من ولد عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح، وكانت عاد في نهاية من عظم الأجساد والتجبر، ونزل عاد لما تبلبلت الألسن في حضرموت وأرسل الله إِلَى بني عاد هوداً نبياً، حسبما تقدم ذكره في الفصل الأول، فلم يستجيبوا له، وكانوا أهل قوة وبطش وكان لهم في الأرض آثار عظيمة، حتى قال لهم هود " أتبنون بكل ربع آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وإذا بطشتم بطشتم جبارين " " الشعراء: 28 ا - 129 - 130 " وبلاد عاد يقال لها الأحقاف، وهي

العمالقة

بلاد متصلة باليمن، وبلاد عمان، وصار الملك في بني عاد، وأول من ملك منهم شداد بن عاد، ثم ملك بعده من بنيه جماعة، وقد كثر الاختلاف في ذكرهم، وجميع ما ذكر من ذلك مضطرب غير قريب للصحة فأضربنا عنه. العمالقة وهم من ولد عمليق بن لاوذ بن سام، ولما تبلبلت الألسن نزلت العمالقة بصنعاء من اليمن، ثم تحولوا إِلى الحرم، وأهلكوا من قاتلهم من الأمم، وكان من العمالقة جماعة بالشام، وهم الذين قاتلهم موسى عليه السلام، ثم يوشع، بعده فأفناهم، وكان منهم فراعنة مصر، وكان منهم من ملك يثرب وخيبر وتلك النواحي. قال صاحب الأغاني: كان السبب في سكنى اليهود خيبر وغيرها من الحجاز، أن موسى عليه السلام، أرسل جيشاً إِلى قتال العمالقة أصحاب خيبر ويثرب وغيرهما من الحجاز، وأمرهم موسى عليه السلام أن يقتلوهم، ولا يبقوا منهم أحداً، فسار ذلك الجيش وأوقع بالعمالقة، وقتلوهم واستبقوا منهم ابن ملكهم، ورجعوا به إِلى الشام، وقد مات موسى عليه السلام، فقالت لهم بنو إِسرائيل قد عصيتم وخالفتم، فلا نأويكم. فقالوا: نرجع إِلى البلاد التي غلبنا عليها وقتلنا أهلها، فرجعوا إِلى يثرب خيبر وغيرها من بلاد الحجاز واستمرت اليهود بتلك البلاد حتى نزلت عليهم الأوس والخزرج، لما تفرقوا من اليمن بسبب سيل العرم، وقيل إِن اليهود إِنما سكنوا الحجاز لما تفرقوا اليمن حين غزاهم بخت نصر وخرب بيت المقدس والله أعلم. أمم العرب وأحوالهم قبل الإسلام قال الشهرستاني في الملل والنحل: والعرب الجاهلية أصناف، فصنف أنكروا الخالق والبعث، وقالوا بالطبع المحيي، والدهر المفني، كما أخبر عنهم التنزيل " وقالوا ما هي إِلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا " " الجاثية: 24 " وقوله " وما يهلكنا إِلا الدهر " " الجاثية: 24 " وصنف اعترفوا بالخالق، وأنكروا البعث، وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله تعالى " أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد " ق: 15 " وصنف عبدوا الأصنام، وكانت أصنامهم مختصة بالقبائل فكان ود لكلب وهو بدومة الجندل، وسواع لهذيل، ويغوث لذحج، ولقبائِل من اليمن، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير، ويعوق لهمذان، واللات لثقيف بالطائف، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة للأوس والخزرج، وهبل أعظم أصنامهم، وكان هبل على ظهر الكعبة، وكان إِساف ونائلة على الصفا والمروة، وكان منهم من يميل إلى اليهود، ومنهم من يميل إِلى النصرانية، ومنهم من يميل إِلى الصابئة، ويعتقد في أنواء المنازل اعتقاد المنجمين في السيارات، حتى لا يتحرك إِلا بنوء من الأنواء. ويقول مطرنا بنوء كذا، وكان منهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد الجن، وكانت علومهم

أحياء العرب وقبائلهم

علم الأنساب، والأنواء، والتواريخ، وتعبير الرؤيا، وكان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فيها يد طولى، وكانت الجاهلية تفعل أشياء جاءت شريعة الإسلام بها، فكانوا لا ينكحون الأمهات والبنات، وكان أقبح شيء عندهم الجمع بين الأختين، وكانوا يعيبون المتزوج بامرأة أبيه، ويسمونه الضْيزن، وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويسعون، ويقفون المواقف كلها ويرمون الجمار، وكانوا يكبسون في كل ثلاثة أعوام شهراً، ويغتسلون من الجنابة، وكانوا يداومون على المضمضة والاستنشاق، وفرق الرأس والسواك، والاستنجاء وتقليم الأظافر، ونتف الإبط وحلق العانةْ والختان، وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى. أحياء العرب وقبائلهم وقد قسمت المؤرخون العرب إلى ثلاثة أقسام بائدة وعاربة ومستعربة. أما البائدة فهم العرب الأول، الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم، لتقادم عهدهم، وهم عاد وثمود وجرهم الأولى، وكانت على عهد عاد، فبادوا ودرست أخبارهم، وأما جرهم الثانية فهم من ولد قحطان، وبهم اتصل إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، ولم يبق من ذكر العرب البائدة إلا القليل، على ما نذكره الآن. وأما العرب العاربة، فهم عرب اليمن، من ولد قحطان. وأما العرب المستعربة فهم ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. ما نقل من أخبار العرب البائدة وهم طسم وجديس، وكانت مساكن هاتين القبيلتين في اليمامة من جزيرة العرب. وكان الملك عليهم في طسم، واستمروا على ذلك برهة من الزمان، حتى انتهى الملك من طسم إلى رجل ظلوم غشوم، قد جعل سنّته أن لا تُهدى بكْر من جديس إلى بعلها حتى يدخل عليها فيفترعها، ولما استمر ذلك على جديس، أنفوا منه واتفقوا على أن دفنوا سيوفهم في الرمل، وعملوا طعاماً للملك، ودعوه إليه، فلما حضر في خواصه من طسم، عمدت جديس إلى سيوفهم، وقتلوا الملك، وغالبوا طسم، فهرب رجل من طسم وشكا إلى تبع ملك اليمن، وقيل هو حسان بن سعد، واستنصر به، وشكا ما فعله جديس بملكهم، فسار ملك اليمن إلى جديس، وأوقع بهم فأفناهم، فلم يبق لطسم وجديس ذكر بعد ذلك. العرب العاربة وهم بنو قحطان بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فمنهم بنو جرهم بن قحطان، وكانت مساكنهم بالحجاز، ولما اسكن إبراهيم الخليل ابنه إسماعيل عليهما السلام مكة، كانت جرهم نازلين بالقرب من مكة، فاتصلوا بإسماعيل وتزوج منهم، وصار من ولد إسماعيل العرب المستعربة لأن أصل إسماعيل ولسانه كان عبرانياً، ولذلك قيل له ولولده

العرب المستعربة. وأما ملوك جرهم فقد تقدم ذكرهم في الفصل الرابع مع ملوك العرب. ومن العرب العاربة بنو سبأ واسم سبأ عبد شمس، فلما أكثر الغزو والسبي سمي سبأ، وهو ابن يشحب بن يعرب بن قحطان، وقد مر نسب قحطان، وكان لسبأ عدّة أولاد، فمنهم حمير وكهلان وعمرو وأشعر. وعاملة بنو سبأ، وجميع قبائل عرب اليمن وملوكها التبابعة، من ولد سبأ المذكور، وجميع تبابعة اليمن من ولد حمير بن سبأ، خلا عمران وأخيه مزيقيا، فإنهما ابنا عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، والأزد من ولد كهلان بن سبأ، وفي ذلك خلاف، أما التبابعة فقد تقدم ذكرهم في الفصل الرابع مع ملوك العرب، فأغنى عن الإعادة، وأمّا هنا فنذكر أحياء عرب اليمن وقبائلهم المنسوبين إلى سبأ المذكور، ونبدأ بذكر بني حمير بن سبأ، فإذا انتهوا، ذكرنا كهلان بن سبأ، وكذلك حتى نأتي على ذكر بني سبأ إن شاء الله تعالى. بني حمير بن سبأ من بني حمير التبابعة ملوك اليمن، وقد تقدم ذكرهم في الفصل الرابع، ومنهم: قضاعة، وهو قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ، وقيل قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ، وكان قضاعة المذكور مالكاً لبلاد الشحر، وقبر قضاعة في جبل الشحر. ومن قضاعة أيضاً كلب وهم بنو كلب بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، وكانت بنو كلب في الجاهلية ينزلون دومة الجندل وتبوك وأطراف الشام. ومن مشاهير كلب زهير بن جباب الكلبي، وقد ذكره صاحب كتاب الأغاني وأورد له شعراً، ومنهم: زهير بن شريك الكلبي وهو القائل: ألا أصبحت أسماء في الخمر تعذل ... وتزعم أني بالسفاه موكل فقلت لها كفى عتابك نصطبح ... وإلا فبيني فالتعزب أمثل ومنهم: حارثة الكلب، وهو أبو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد أصاب ابنه زيداً شبي في الجاهلية، فصار إِلى خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فوهبته من النبي عليه السلام، وأنشد ابن عبد البر في كتاب الصحابة لحارثة المذكور يبكي ابنه زيد لما فقده: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحي يرجى أم أتى دونه الأجل تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... ويعرض ذكراه إذا قارب الطفل وإن هبّت الأرواح هيجن ذكره ... فيا طول ما حزني عليه ويا وجل ثم اجتمع بزيد أبوه حارثة، وهو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختاره على أبيه وأهله. ومن قبائل قضاعة بلي ومن قبائل قضاعة

تنوخ، وكان بينهم وبين اللخميين ملوك الحيرة حروب، ومن قضاعة بهرا، ومن قضاعة جهينة وهي قبيلة عظيمة ينسب إليها بطون كثيرة، وكانت منازلها بأطراف الحجاز الشمالي، من جهة بحر جدة. ومن قبائل قضاعة بنو سليح، وكان لهم بادية الشام، فغلبتهم عليها ملوك غسان، وأبادوا بني سليح. ومن قبائل قضاعة بنو نهد، رمن مشاهيرهم الصقعب بن عمرو النهدي، وهو أبو خالد بن الصقعب، وكان رئيساً في الإسلام. ومن قضاعة بنو عذرة، ومنهم عروة بن حزام، وجميل صاحب بثينة. ومن بطون حمير بنو شعبان، ومنهم الشعبي الفقيه، واسمه عامر. انتهى الكلام في بني حمير بن سبأ بني كهلان بن سبأ وصار من بني كهلان المذكور أحياء كثيرة، والمشهور منها سبعة وهي: الأزد، وطي، ومدحج، وهمذان، وكندة، ومراد، وأنمار، أما الأزد فهم من ولد الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ. ولنذكر قبائل الأزد حتى ينتهوا، ثم نذكر قبائل طي، ثم مذحج، ثم من بعده إلى آخرهم. أما قبائل الأزد فمنهم: الغساسنة ملوك الشام، وهم بنو عمرو بن مازن بن الأزد، ومن الأزد الأوس والخزرج أهل يثرب، والمسلمون منهم هم الأنصار، رضي الله عنهم،. ومن الأزد: خزاعة وبارق ودوس والعتيك وغافق، فهؤلاء بطون الأزد. أما خزاعة فإنها لما انخزعت عن غيرها من قبائل اليمن الذين تفرقوا بأيدي سبأ من سيل العرم، ونزلت ببطن مر على قرب من مكة، سميت خزاعة، وحصل لهم سدانة البيت والرياسة ولما أصطلح رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش في عام الحديبية، دخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهده، وقد اختلف في نسب خزاعة بين المعدية واليمانية، والأكثر أنها يمانية، والذي تنسب إليه خزاعة هو كعب ابن عمرو بن لحي بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وقد تقدم ذكر عمرو مزيقياء في الفصل الرابع مع تبابعة اليمن. ما زالت سدانة البيت في خزاعة، حتى انتهت إلى رجل منهم يقال له أبو عبثان، وكان في زمان قصي بن كلاب، فاجتمع مع قصي في الطائف على شرب فأسكره قصي، وخدع أبا عبثان الخزاعي المذكور، واشترى منه مفاتيح الكعبة بزق خمر وأشهد عليه، فتسلم قصي المفاتيح، وأرسل ابنه عبد الدار بن قصي بها إلى مكة، فلما وصل إليها رفع صوته وقال: معاشر قريش، هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل عليه السلام، قد ردها الله عليكم من غير عار ولا ظلم فلما صحا أبو لبثان ندم حيث لا ينفعه الندم، فقيل أخسر من أبي عبثان، وأكثرت الشعراء القول في ذلك فمنه: باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت ... بزق خمر فبئست صفقة البادي

باعت سدانتها بالنزر وانصرفت ... عن المقام وظل البيت والنادي وجمع قصي أشتات قريش وظهر على خزاعة، وأخرجها عن مكة، إلى بطن مر. ومن خزاعة: بنو المصطلق الذين غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما بارق: فهم من ولد عمرو مزيقياء الأزدي. نزلوا جبلاً بجانب اليمن يقال له بارق، فسموا به. ومن مشاهيرهم معقر بن حمار البارقي، ذكره صاحب الأغاني، وهو صاحب القصيدة التي من جملتها البيت المشهور: وألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر وأما دوس: فهو ابن عدنان بن عبد الله بن وهزان بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد. وسكنت بنو دوس إحدى الشروات المطلة على تهامه، وكانت لهم دولة بأطراف العراق، وأول من ملك منهم: مالك بن فهم بن غنم ابن دوس. وقد تقدم ذكر مالك بن فهم المذكور، ومن ملك بعده في الفصل الرابع، المشتمل على ذكر ملوك العرب. ومن الدوس أبو هريرة وقد اختلف في اسمه، والأكثر أن اسمه عمير بن عامر، وأمّا العتيك وغافق فقبيلتان مشهورتان في الإسلام، وهم من ولد الأزد. ومن الأزد أيضاً بنو الجلندى ملوك عمان، والجلندى لقب لكل من ملك منهم عمان، وكان ملك عمان في أيام الإسلام قد انتهى إلى حبقر وعبد ابني الجلندى وأسلما مع أهل عمان على يد عمرو بن العاص. انتهى الكلام في الأزد. الحي الثاني من بني كهلان وهم قبائل طي، ولما تفرقت اليمن بسبب سيل العرم، نزلت طي بنجد الحجاز، في جبلي أجأ وسلمى، فعرفا بجبلي طي إلى يومنا هذا. وأما طي فهو أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ. فمن بطون طي جديلة وتيهان وبولان وسلامان وهني وسدوس بضم السين. وأمّا سدوس التي في قبائل ربيعة بن نزار، فمفتوحة السين. ومن سلامان بنو بحتر ومن هني إياس بن قبيصة الذي ملك بعد النعمان، ومن طي عمرو بن المشيح وهو من بني ثعل الطائي، وكان عمرو أرمى وقته، وفيه يقول امرؤ القيس: رب رام من بني ثعله ... مخرج كفيه من ستره ومن بني ثعل الطائي أيضاً: زيد الخيل، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير. ومن طي حاتم طي المشهور بالكرم. وأما الحي الثالث من بني كهلان، فهم بنو مذحج مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ. ولمذحج بطون كثيرة، فمنها: خولان وجنب، ومن جنب معاوية الخير الجنبي صاحب لواء مذحج في حرب بني وائل، وكان مع تغلب، وكان مذحج أود قبيلة الأفوه الأودي الشاعر، ومن مذحج بنو سعد العشيرة، وسمي بذلك لأنه لم يمت حتى ركب معه من ولده

وولد ولده ثلاثمائة رجل، وكان إذا سئل عنهم يقول: هؤلاء عشيرتي، دفعاً للعين عنهم، فقيل له سعد العشيرة لذلك، ومن بطون سعد العشيرة جعف وزبيد قبيلة عمرو بن معدي كرب ومن بطون مذحج أيضاً النخع ومنهم الأشتر النخعي، واسمه مالك بن الحارث، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن النخع سنان بن أنس قاتل الحسين، ومنهم أيضاً القاضي شريك، ومن مذحج عنس بالنون، وهي قبيلة الأسود الكذاب الذي ادعى النبوة باليمن، وعنس أيضاً رهط عمار بن ياسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الحي الرابع من بني كهلان وهم همدان فهم من ولد ربيعة بن حيان بن مالك بن زيد بن كهلان، ولهم صيت في الجاهلية والإسلام. وأما الحي الخامس من بني كهلان وهم كندة، فهم بنو ثور وثور المذكور هو كندة بن عفير بن الحارث من ولد زيد بن كهلان، وسمي كندة لأنه كندابا، أي كفر نعمته، وبلاد كندة باليمن تلي حضرموت، وقد تقدم ذكر ملوك كندة في الفصل الرابع عند ذكر ملوك العرب، ومن كندة حجر بن عدي صاحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الذي قتله معاوية صبراً، ومنهم القاضي شريح، ومن بطون كندة السكاسك والسكون بنو شرس بن كندة، فمن السكون معاوية بن خديج قاتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما، ومنهم حصين بن نمير السكوني، الذي صار صاحب جيش يزيد بن معاوية بعد مسلم بن عقبة، نوبة وقعة الحرة بظاهر مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما الحي السادس من أحياء بني كهلان وهم بنو مراد فبلادهم إلى جانب زبيد، من جبال اليمن، وإليه ينتسب كل مرادي من عرب اليمن. وأما الحي السابع من أحياء بنو كهلان فهم بنو أنمار بن كهلان ولأنمار فرعان، وهما بجيلة وخثعم، وبجيلة هي رهط جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقال لجرير المذكور يوسف الأمة، لحسنه، وفيه قيل: لولا جرير هلكت بجيلة ... نعم الفتى وبئست القبيلة انتهى الكلام في بني كهلان بن سبأ. بني عمرو بن سبأ أما القبائل المنتسبة إلى عمرو بن سبأ فمنهم: لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ، ومن لخم بنو الدار رهط تميم الداري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لخم المناذرة ملوك الحيرة، وهم بنو عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، وكانت دولتهم من أعظم دول ملوك العرب. وقد تقدم ذكرهم في الفصل الرابع مع باقي ملوك العرب، فأغنى عن الإعادة، ومن

أن المسيح ناسوت كلي، وهو قديم أزلي من قديم أزلي، وقد ولدت مريم إلهاً أزلياً، والقتل والصلب وقعا على الناسوت واللاهوت معاً، وأطلقوا لفظ الأبوة والبنوة على الله تعالى وعلى المسيح حقيقة، وذلك لما وجدوا في الإنجيل: إنك أنت الابن الوحيد، ولما رووا عن المسيح أنه قال حين كان يصلب: أذهب إلى أبي وأبيكم. وحرموا أريوس لما قال: القديم هو الله تعالى والمسيح مخلوق، واجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة بالقسطنطينية، بمحضر من قسطنطين ملكهم، وكانوا ثلاثمائة ثلاثة عشر رجلاً، واتفقوا على هذه الكلمة اعتقاداً ودعوة وذلك قولهم: نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى، وبالابن الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، الذي بيده اتفقت العوالم، وكل شيء الذي من أجلنا وأجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب ودفن ثم قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الذي يخرج من أبيه، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسية مسيحية جاثليقية، وبقيام أبداننا، وبالجياة الدائمة أبد الآبدين. هذا هو الاتفاق الأول على هذه الكلمات، ووضعوا شرائع النصارى واسم الشريعة عندهم الهيمانوت. وأما النسطورية فهم أصحاب نسطورس، وهم عند النصارى كالمعتزلة عندنا، خالفت النسطورية الملكانية في اتحاد الكلمة، فلم يقولوا بالامتزاج، بل إن الكلمة أشرقت على جسد المسيح كإشراق الشمس في كوة، أو على بلور، وقالت النسطورية أيضاً: إن القتل وقع على المسيح من جهة ناسوته، لا من جهة لاهوته، خلافاً للملكانية. وأما اليعقوبية وهم أصحاب يعقوب البردغادي وكان راهباً بالقسطنطينية، فقالوا إن الكلمة انقلبت لحماً ودماً، فصار الإله هو المسيح. قال ابن حزم: واليعقوبية يقولون: إن المسيح هو الله قتل وصلب ومات، وإن العالم بقي ثلاث أيام بلا مدبر، وعنهم أخبر القرآن العزيز بقوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " " المائدة: 72، " ومن كتاب ابن سعيد المغربي قال: البطارقة للنصارى بمنزلة الأئمة أصحاب المذاهب للمسلمين، والمطارنة مثل القضاة، والأساقفة مثل المفتين، والقسيسون بمنزلة القراء، والجاثليق بمنزلة الإمام الذي يؤم في الصلاة، والشمامسة بمنزلة المؤذنين وقومة المساجد، وأما صلوات النصارى فإنها سبع، عند الفجر والضحى والظهر والعصر والمغرب والعشاء ونصف الليل، يقرؤون فيها بالزبور المنزل على داود تبعاً لليهود في ذلك، والسجود في صلاتهم غير محدود، قد يسجدون في الركعة الواحدة خمسين سجدة، ولا يتوضؤون للصلاة، وينكرون الوضوء على المسلمين واليهود، ويقولون الأصل طهارة القلب. ومما نقلناه من كتاب نهاية الإدراك في دراية الأفلاك للخرقي في الهيئة، أن للنصارى أعياداً وصيامات، فمنها صومهم الكبير، وهو صوم تسعة وأربعين يوماً، أولها يوم الاثنين وهو أقرب اثنين إلى الاجتماع الكائن فيما بين اليوم الثاني من شباط، إلى اليوم الثامن من آذار، فأي اثنين كان أقرب إليه، إما قبل الاجتماع وإما بعده، فهو رأس صومهم، وفطرهم أبداً يكون يوم الأحد الخمسين من هذا الصوم، وسبب تخصيصهم هذا الوقت بالصوم، أنهم يعتقدون أن البعث والقيامة في مثل يوم الفصح، وهو اليوم الذي قام فيه المسيح من قبره بزعمهم. ومن أعيادهم الشعانين الكبير وهو يوم الأحد الثاني والأربعون من الصوم، وتفسير الشعانين التسبيح، لأن المسيح دخل يوم الشعنينة المذكورة إلى القدس، راكب أتان يتبعها جحش، فاستقبله الرجال والنساء والصبيان وبأيديهم ورق الزيتون، وقرؤوا بين يديه التوراة إلى أن دخل بيت المقدس، واختفى عن اليهود يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، وغسل في يوم الأربعاء أيدي صحابه الحواريين وأرجلهم، ومسحها في ثيابه، وكذلك يفعله القسيسون بأصحابهم في هذا اليوم، ثم أفصح في يوم الخميس بالخبز والخمر، وصار إلى منزل واحد من أصحابه، ثم خرج المسيح ليلة الجمعة إلى الجبل، فسعى به يهوذا وكان أحد تلامذته إلى كبراء اليهود، وأخذ منهم ثلاثين درهماً رشوة، ودلهم عليه، فألقى الله شبه المسيح على المذكور، فأخذوه وضربوه ووضعوا على رأسه إكليلاً من الشوك، وأنالوه كل مكره وعذبوه بقية تلك الليلة، أعني ليلة الجمعة إلى أن أصبحوا فصلبوه بزعمهم أنه المسيح، على ثلاث ساعات من يوم الجمعة، على قول متى ومرقوس ولوقا، وأما يوحنا فإنه زعم أنه صلب على مضي ست ساعات من النهار المذكور، ويسمى جمعة الصلوب وصلب معه لصان على جبل يقال له الجمجمة واسمه بالعبرانية كاكله وماتوا على ما زعموا في الساعة التاسعة، ثم استوهب يوسف النجار، وهو ابن عم مريم المسيح من قائد اليهود هيروذس، واسمه فيلاطوس، وكان ليوسف المذكور منزلة ومكانة عنده فوهبه إياه فدفنه يوسف في قبر كان أعده لنفسه، وزعمت النصارى أنه مكث في القبر ليلة السبت ونهار السبت وليلة الأحد ثم قام صبيحة يوم الأحد الذي يفطرون فيه، ويسمون النصارى ليلة السبت بشارة الموتى بقدوم المسيح. ولهم الأحد الجديد وهو أول أحد بعد الفطر، ويجعلونه مبدأ للأعمال وتاريخاً للشروط والقبالات. ولهم عيد السلاقا ويكون يوم الخمسين، بعد الفطر بأربعين يوماً، وفيه تسلق المسيح مصعداً إِلى السماء، من طور سيناء. ولهم عيد الفنطي قسطي وهو يوم الأحد بعد السلاقا بعشرة أيام. واسمه مشتق من الخمسين بلسانهم، وفيه تجلى المسيح لتلامذته وهم السليحيون، ثم تفرقت ألسنتهم وتوجهت كل فرقة إلى موضع لغتها. ولهم الدنح وهو سادس كانون الثاني، وهو اليوم الذي غمس فيه يحيى بن زكريا الميسح في نهر الأردن.

من قصيدته التي منها: وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والأمر ظاهر ومنها: كأن لم يكن بين الحجون إِلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر إلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر ثم ولد لقيذار ابنه حمل بن قيذار، ثم ولد لحمل نبت بن حمل، ويقال له نابت، وقيل نبت بن قيذار، وقيل نبت بن إِسماعيل وفي ذلك خلاف كثير، ثم ولد لنبت سلامان بن نبت، ثم ولد لسلامان الهميسع بن سلامان بن نبت، ثم ولد للهميسع اليسع بن الهميسع، ثم ولد لليسع أدد بن اليسع بن الهميسع، ثم ولد لأدد ابنه أد بن أدد، ثم ولد لأد ابنه عدنان بن أد بن أدد، وقيل عدنان بن أدد، ثم ولد لعدنان معد، ثم ولد لمعد نزار، ثم ولد لنزار أربعة منهم مضر على عمود النسب النبوي وثلاثة خارجون عن عمود النسب، أولهم إِياد، وكان أكبر من مضر، وإلى إِياد بن نزار المذكور يرجع كل إِيادي من بني معد، وفارق إِياد الحجاز وسار بأهله إِلى أطراف العراق، فمن بني إِياد كعب بن مامة الإيادي، وكان يضرب بجوده المثل، وقس بن ساعدة الإيادي، وكان يضرب بفصاحته المثل. والثاني من بني نزار ربيعة بن نزار، ويعرف بربيعة الفرس، لأنه ورث الخيل من ماله أبيه، وولد لربيعة المذكور أسد وضبيعة ابنا ربيعة، فولد لأسد جديلة وعنزة، ومن جديلة وائل، ومن وائل بكر وتغلب ابنا وائِل، فمن تغلب كليب ملك بني وائِل الذي قتله جساس، فهاجت بسبب قتله الحرب بين بني وائِل وبين بني بكر وبين بني تغلب حسبما تقدم ذكره في الفصل الرابع، ومن بكر بن وائل بنو شيبان، ومن رجالهم مرة وابنه جساس قاتل كليب، وطرفة بن العبد الشاعر، ومن بكر أيضاً المرقشان الأكبر والأصغر، ومن بكر بن وائل أيضاً بنو حنيفة، ومنهم مسيلمة الكذاب. وأما عنزة بن أسد بن ربيعة المذكور، فمنه بنو عنزة، وهم أهل خيبر، ومن بني عنزة القارظان. وأما ضبيعة بن ربيعة فمن ولده المتلمس الشاعر، ومن قبائِل ربيعة النمر ولجيم والعجل وبنو عبد القيس، وهو من ولد أسد بن ربيعة، ومن بني ربيعة سدوس واللهازم. والثالث أنمار بن نزار، ومضى أنمار إلى اليمن فتناسل بنوه بتلك الجهات، وحسبوا من العرب اليمانية، ثم ولد لمضر المقدم الذكر إِلياس بن مضر على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب قيس عيلان بن مضر، ويقال: قيس بن عيلان بن مضر، وعيلان بالعين المهملة، قيل إِن عيلان فرسه، وقيل كلبه، وقيل بل عيلان هو أخو إِلياس، واسم عيلان إِلياس بن مضر، وولد لعيلان قيس بن عيلان، وقد جعل الله تعالى لقيس المذكور من الكثرة أمراً عظيماً، فمن ولده: قبائل هوازن ومن هوازن

بنو سعد بن بكر بن هوازن الذين كان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيعاً، ومن قبائل قيس بنو كلاب وصار منهم أصحاب حلب، وكان أولهم صالح بن مرادس، ومن قيس قبائل عقيل الذين كان منهم ملوك المَوْصِل، المقلد وقرواش وغيرهما، ومن ولد قيس أيضاً بنو عامر وصعصعة وخفاجة، وما زالت لخفاجة إِمرة العراق من قديم وإلى الآن، ومن هوازن أيضاً بنو ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة بن معاوية بنٍ بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان. ومن هوازن أيضاً جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن، ومن جشم دريد ابن الصمة، ومن قيس أيضاً بكر وبنو هلال وثقيف، واسم ثقيف عمرو بن منبه بن بكر بن هوازن، وقد قيل: إِن ثقيفاً من إِياد، وقيل من بقايا ثمود، وهم هل الطائف. ومن قيس أيضاً بنو نمير وبأهلة ومازن وغطفان، وهو ابن سعد بن قيس عيلان، ومن قيس أيضاً بنو عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، وكان بين عبس وذبيان حرب داحس المقدم ذكرها في الفصل الرابع، ومن بني عبس أيضاً عنترة العبسي ودعاه أبوه شداد بعد الكبر، ومن قيس أشجع، وهم أيضاً من ولد غطفان. ومن قيس أيضاً قبائل سليم، ومن قيس أيضاً بنو ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان. ومن بني ذبيان المذكورين بنو فزارة، فمنهم حصن بن حذيفة بن بدر الذي يمدحه زهير بقوله شعر: تراه إِذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله وأسلم حصن، ثم نافق، وكان بين بني ذبيان وبين عبس الحرب المشهورة بحرب داحس، وهو اسم حصان تسابقوا به واختلفوا بسبب السباق، فثارت الحرب بينهم أربعين عاماً، ومن بني ذبيان أيضاً النابغة الذبياني الشاعر المشهور. ومن قبائل قيس عدوان بن عمرو بن قيس عيلان، وكانوا ينزلون الطائف قبل ثقيف، ومنهَم ذو الإصبع العدواني الشاعر. انتهى الكلام على قيس بن مضر الخارج عن عمود النسب. ولنرجع إلى ذكر إلياس بن مضر. وولد لإلياس مدركة على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب طابخة بن إِلياس، وبعضهم ينسب مدركة وطابخة إِلى أمهما خندف، واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن إِلحاف بن قضاعة، وجميع ولد إلياس من خندف المذكورة، وإليها ينسبون دون أبيهم، فيقولون بنو خندف، ولا يذكرون إِلياس بن مضر، وصار من طابخة الخارج عن عمود النسب عدة قبائل، فمنهم بنو تميم بن طابخة والرباب وبنو ضبة وبنو مزينة، وهم بنو عمرو بن إِد بن طابخة، نسبوا إِلى أمهم مزينة ابنة كلب بن وبرة، ثم ولد لمدركة ابن إِلياس المذكور خزيمة بن مدركة على عمود النسب، وولد لمدركة خارجاً عن عمود النسب هذيل بن مدركة، ومن هذيل المذكور جميع قبائل الهذليين.

فمنهم عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو ذؤيب الهذلي الشاعر، وغيره، ثم ولد لخزيمة بن مدركة المذكور كنانة بن خزيمة على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب الهون وأسد ابنا خزيمة، فمن الهون عضل وهي قبيلة أبوهم عضل بن الهون بن خزيمة، ومنه أيضاً الديش بن الهون، وهو أخو عضل، ويقال لهاتين القبيلتين وهما عضل والديش القارة. وأما أسد بن خزيمة فمنه الكاهلية ودودان وغيرهما، وإليه يرجع كل أسدي، ثم ولد لكنانة بن خزيمة المذكور النضر بن كنانة على عمود النسب، وكان للنضر المذكور عدة أخوة ليسوا على عمود النسب، وهم ملكان وعبد مناة وعمرو وعامر ومالك أولاد كنانة، فصار من ملكان بنو ملكان، وصار من عبد مناة عدة بطون وهم: بنو غفار رهط أبي ذر. وبنو بكر، ومن بني بكر الدئل رهط أبي الأسود الدؤلي، ومن بطون عبد مناة أيضاً بنو ليث وبنو الحارثة وبنو مدلج وبنو ضمرة، وصار من عمرو بن كنانة العمريون. ومن أخيث عامر العامريون. ومن مالك ين كنانة بنو فراس. ومن بطون كنانة الأحابيش، وكان الحليس بن عمرو ريس الأحابيش نوبة أحد، ومن لم يقف على ذلك، إِذا سمع ذكر الأحابيش في نوبة أحد، ظن أنهم من الحبشة، وليس كذلك، بل هم عرب من بني كنانة، كذا ذكره في العقد، وهؤلاء أخوة النضر بن كنانة، وولدهم، وأما النضر المذكور فقد قيل إِنه قريش، والصحيح أن قريشاً هم بنو فهر الذي سنذكره، وولد لنضر المذكور مالك بن النضر على عمود النسب، ولم يشتهر له ولد غيره، ثم ولد لمالك فهر بن مالك على عمود النسب. وفهر المذكور هو قريش، فكل من كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس قرشياً، وقيل سمي قريشاً لشدته، تشبيهاً له بدابة من دواب البحر، يقال لها القرش، تأكل دواب البحر وتقهرهم، وقيل إِن قصي بن كلاب لما استولى على البيت وجمع أشتات بني فهر سموا قُرَيشاً، لأنه قرش بني فهر أي جمعهم حول الحرم، فقيل لهم قريش. - كذا نقله ابن سعيد المغربي - فعلى هذا يكون لفظة قريش، اسماً لبني فهر، لا لفهر نفسه، ولم يولد لمالك غير فهر المذكور على عمود النسب، وولد لفهر غالب على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب ولدان وهما محارب والحارث ابنا فهر، فمن محارب بنو محارب، ومن الحارث بنو الخلج، ومنهم أبو عبيدة بن الجراح أحد العشرة، رضي اللهّ تعالى عنهم، ثم ولد لغالب لؤي على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب تيم الأدرم، والأدرم الناقص الذقن. ومن تيم المذكور بنو الأدرم، ثم ولد للؤي المذكور ستة أولاد، وهم كعب على عمود النسب، وأخوته الخمسة خارجون عن عمود النسب، وهم سعد وخزيمة والحارث وعامر وأسامة، أولاد لؤي بن غالب، ولكل منهم ولد

رسول الله

ينسبون إِليه خلا الحارث منهم، ومن ولد عامر بن لؤي عمرو بن عبد ود فارس العرب الذي قتله علي بن أبي طالب، ثم ولد لكعب مرة على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب، هصيص وعدي ابنا كعب، فمن هصيص بنو جمح ومن مشاهيرهم أمية بن خلف عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه أبي بن خلف، وكان مثله في العداوة. ومن هصيص أيضاً بنو سهم. ومن بني سهم عمرو بن العاص، ومن عدي بن كعب بنو عدي. ومنهم عمر بن الخطاب، وسعيد بن زيد، من العشرة رضي الله عنهما، ثم ولد لمرة على عمود النسب كلاب، وولد له خارجاً عن عمود النسب، تيم ويقظة ابنا مرة، فمن تيم بنو تيم، ومنهم أبو بكر الصديق، وطلحة، من العشرة رضي الله عنهما، ومن يقظة بنو مخزوم، نسب خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأبي جهل بن هشام، واسمه عمرو وبن هشامٍ المخزومي، ثم ولد لكلاب قصي بن كلاب على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب زهرة بن كلاب، ومنه بنو زهرة، ونسب سعد بن أبي وقاص أحد العشرة ونسب آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وقصي المذكور كان عظيماً في قريش، وهو الذي ارتجع مفاتيح الكعبة من خزاعة حسبما تقدم ذكر ذلك، وهو الذي جمع قريشاً وأثل مجدهم، ثم ولد لقصي المذكور عبد مناف بن قصي على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب عبد الدار وعبد العزى ابنا قصي فمن عبد الدار: بنو شيبة الحجبة. ومن ولد عبد الدار النضر بن الحارث، وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً، يوم بدر، ومن ولد عبد العزى بن قصي الزبير بن العوام أحد العشرة، ومن ولد عبد العزى أيضاً خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بني عبد العزى أيضاً ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وولد لعبد مناف هاشم على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب عبد شمس والمطلب ونوفل أولاد عبد مناف، فمن عبد شمس أمية ومنه بنو أمية، ومنهم عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس. ومعاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية، وسعيد بن العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وبنت عتبة المذكور هند أم معاوية، وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة صبراً يوم بدر، ومن المطلب بن عبد مناف المطلبيون، ومنهم الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى. ومن نوفل النوفليون، ثم ولد لهاشم عبد المطلب على عمود النسب، ولم يعلم لهاشم ولد غيره، وولد لعبد المطلب عبد الله على عمود النسب، وولد له خارجاً عن عمود النسب جميع أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم حمزة والعباس وأبو طالب وأبو لهب والغيداق، ومنهم من يقول هو حجل الذي سنذكره. والحارث وحجل والمقوم وضرار والزبير وقثم، درج صغيراً وعبد الكعبة، ومنهم من يقول: إِن عبد الكعبة هو المقوم، ثم ولد لعبد الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في عام الفيل. وولد له خارجاً عن عمود النسب جميع أعمام

مولده

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم حمزة والعباس وأبو طالب وأبو لهب والغيداق، ومنهم من يقول هو حجل الذي سنذكره. والحارث وحجل والمقوم وضرار والزبير وقثم، درج صغيراً وعبد الكعبة، ومنهم من يقول: إِن عبد الكعبة هو المقوم، ثم ولد لعبد الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في عام الفيل. ولنذكر أولاً قصة الفيل، ثم مولده صلى الله عليه وسلم. من الكامل لابن الأثير قال: إِنّ الحبشة ملكوا اليمن بعد حمير، فلما صار الملك إِلى أبرهة منهم بنى كنيسة عظيمة، وقصد أن يصرف حج العرب إِليها ويبطل الكعبة الحرام، فجاء شخص من العرب وأحدث في تلك الكنيسة، فغضب أبرهة لذلك، وسار بجيشه ومعه الفيل، وقيل كان معه ثلاثة عشر فيلاً ليهدم الكعبة، فلما وصل إِلى الطائف، بعث الأسود بن مقصود إِلى مكة، فساق أموال أهلها وأحضرها إِلى أبرهة، وأرسل أبرهة إِلى قريش وقال لهم: لست أقصد الحرب، بل جئت لأهدم الكعبة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، هذا بيت الله، فإِن منع عنه فهو بيته وحرمه، وإن خلا بينه وبينه، فوالله ما عندنا من دفع، ثم انطلق عبد المطلب مع رسول أبرهة إليه، فلما استؤذن لعبد المطلب قالوا لأبرهة: هذا سيد قريش، فأذن له أبرهة وأكرمه، ونزل عن سريره وجلس معه، وسأله في حاجته، فذكر عبد المطلب أباعره التي أخذت له، فقال أبرهة: إِني كنت أظن أنك تطلب مني أن لا أخرب الكعبة التي هي دينك: فقال عبد المطلب: أنا رب الأباعر فأطلبها، وللبيت رب يمنعه فأمر أبرهة برد أباعره عليه، فأخذها عبد المطلب وانصرف إِلى قريش، ولما قارب أبرهة مكة وتهيأ لدخولها، بقي كلما أقبل فيله مكة، وكان اسم الفيل محموداً ينام ويرمي بنفسه إِلى الأرض، ولم يسر، فإِذا أقبلوه غير مكة قام يهرول، وبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيراً أبابيل، أمثال الخطاطيف، مع كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه فقذفتهم بها، وهي مثل الحمص والعدس، فلم يصب أحداً منهم، إلا هلك. وليس كلهم أصابت، ثم أرسل الله تعالى سيلاً، فألقاهم في البحر، والذي سلم منهم ولى هارباً مع أبرهة إِلى اليمن يبتدر الطريقَ، وصاروا يتساقطون بكل منهل وأصيب أبرهة في جسده وسقطت أعضاؤه، ووصل إِلى صنعاء كذلك ومات، ولما جرى ذلك خرجت قريش إلى منازلهم، وغنموا من أموالهم شيئاً كثيراً، ولما هلك أبرهة، ملك بعده ابنه يكسوم، ثم أخوه مسروق بن أبرهة، ومنه أخذت العجم اليمن. انتهى الكلام في الفصل الخامس وهو آخر التواريخ القديمة ومن هنا نشرع في التواريخ الإسلامية. الفصل السادس التاريخ الإسلامي رسول الله مولده صلى الله عليه وسلم وذكر شيء من شرف بيته الطاهر أما أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عبد الله بن عبد المُطلب المذكور، وكانت ولادة عَبْد الله المذكور قبل الفيل بخمس وعشرين سنة، وكان أبوه يحبه لأنه كان

أحسن أولاده وأعفهم، وكان أبوه قد بعثه يمتار له، فمر عبد الله المذكور بيثرب فمات بها، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شهران، وقيل كان حملاً، ودفن عبد الله في دار الحارث بن إِبراهيم بن سراقة العدوي، وهم أخوال عبد المطلب، وقيل دفن بدار النابغة ببني النجار. وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال وجارية حبشية، اسمها بركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوج عبد الله، وأبوه عبد المطلب، وأمّا آمنة أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهو قريش، فخطب عبد المطلب من وهب المذكور - وكان وهب حينئذ سيد بني زهرة - ابنته آمنة، لعبد الله، فزوّجه بها، فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين، لعشر خلون من ربيع الأول، من عام الفيل. وكان قدوم الفيل في منتصف المحرّم تلك السنة، وهي السنة الثامنة والأربعون من ملك كسرى أنوشروان، وهي سنة إِحدى وثمانين وثمانمائة لغلبة الإِسكندر على دارا، وهي سنة ألف وثلاثمائة وست عشرة لبخت نصر. ومن دلائل النبوة للحافظ أبي بكر أحمد البيهقي الشافعي قال: وفي اليوم السابع من ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذبح جده عبد المطلب عنه، ودعا له قريشاً، فلما أكلوا قالوا: يا عبد المطلب، أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه، ما سميته؟ قال: سميته محمداً. قالوا: فيم رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله تعالى في السماء، وخلقه في الأرض، وروى الحافظ المذكور بإِسناده المتصل بالعباس رضي الله عنه قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً. قال: فأعجب جده عبد المطلب، وحظي عنده، وقال: ليكونن لابني هذا شأن. وذكر الحافظ المذكور إِسناداً ينتهي إلى مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الَله صلى الله عليه وسلم، ارتجس إِيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان وهو قاضي الفرس في منامه إِبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك، واجتمع بالموبذان فقص عليه ما رأى، فقال كسرى: أي شيء يكون هذا، فقال الموبذان: وكان عالماً بما يكون، حدث من جهة العرب أمر. فكتب كسرى إِلى النعمان بن المنذر: أما بعد: فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجّه النعمان بعبد المسيح بن عمرو بن حنان الغساني. فأخبره كسرى بما كان من ارتجاس الإِيوان وغيره فقال له: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح. قال كسرى فاذهب إِليه وسله وأتني بتأويل ما عنده. فسار عبد المسيح حتى قدم على سطيح

صلى الله عليه وسلم

وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وحياه، فلم يحر جواباً فأنشد عبد المسيح يقول: أصمّ أمْ يسمع غطريف اليمن ... أمْ فاد فازلَمَ به شأو العنن يا فاضِلَ الخطةَ أعيت مَنْ ومَنْ ... وكاشِفَ الكُربَة عن وجه الغضن أتاكَ شيخُ الحيِّ من آل سنن ... وأمه من آل ذيب بن حجن أبيضَ فضفاضِ الرداءِ والبدن ... رسول قيلَ العجمُ يسري بالوسن لا يرهبُ الرعدَ ولا ريبَ الزمنْ ... تجوب في الأرض علنِدات شجن ترفعني وجناً وتهوي بي وجن قال: ففتح سطيح عينيه ثم قال: عبد المسيح، على جمل مشيح، أتى إِلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إِبلاً صعاباً تقوم خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها. يا عبد المسيح إِذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وخمدت نار فارس، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، فليس الشام لسطيح شاماً، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه، ثم قدم عبد المسيح على كسرى وأخبره بقول سطيح، فقال: إِلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً كانت أمور فملك منهم عشرة في أربع سنين، وذكر في العقد أن سطيحاً كان على زمن نزار بن معد بن عدنان، وهو الذي قسم الميراث بين بني نزار وهم مضر وأخوته. وأما شرف النبي صلى الله عليه وسلم، وشرف أهل بيته، فقد روى الحافظ البيهقي المذكور، بإِسناد يرفعه إلى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم. قال: قلت يا رسول الله، إِن قريشاً إِذا التقوا، لقي بعضهم بعضاً بالبشاشة، وإذا لقونا، لقونا بوجوه لا نعرفها. فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، عند ذلك غضباً شديداً، ثم قال: " والذي نفس محمد بيده، لا يدخل قلب رجل الإِيمان، حتى يحبكم لله ولرسوله ". وذكر في موضع آخر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إِنا لقعود بفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِذ مرت به امرأة، فقال بعض القوم: هذه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سُفيان: مثل محمد في بني هشام مثل الريحانة في وسط النتن. فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: " ما بال أقوام تبلغني عن أقوام، إِنَّ الله عز وجل خلق السموات سبعاً، فاختار العُلى منها، فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق، فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم ". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه

نسب رسول الله

وسلم قال لي جبرائيل، قلبت الأرض مشارقها ومغاربها، فلم أجد رجلاً أفضل من مُحمد، وقلبت الأرضَ مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم. نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تقدم في آخر الفصل الخامس ذكر بني إِسماعيل عليه السلام الذين على عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخارجين عن عمود النسب. وأما نسبة عليه السلام سرداً، فهو أبو القاسم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إِلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. ونسبه صلى الله عليه وسلم إِلى عدنان، متفق عليه من غير خلاف، وعدنان من ولد إِسماعيل ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام من غير خلاف، ولكن الخلاف في عدة الآباء الذين بين عدنان وإسماعيل عليه السلام فعد بعضهم بينهما نحو أربعين رجلاً، وعد بعضهم سبعة، وروي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عدنان بن أدد بن زيد بن برا بن أعراق الثرى. فقالت أم سلمة: زيد هميسع وبرا نبت وإسماعيل أعراق الثرى. والذي ذكره البيهقي قال: عدنان بن أدد بن المقوم بن ناحور بن تارح بن يعرب بن يشحب بن نابت بن إِسماعيل بن إِبراهيم الخليل عليهما السلام. وأما الذي ذكره الجواني النسابة في شجرة النسب وهو المختار: فهو عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إِسماعيل عليه السلام، وقد تقدم نسب إِسماعيل مع نسب إِبراهيم الخليل عليهما السلام، مستقصى في موضعه من الفصل الأول فأغنى عن الإعادة. قال: البيهقي المذكور وكان شيخنا أبو عبد الله الحافظ يقول نسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة إِلى عدنان وما وراء عدنان فليس فيه شيء يعتمد عليه. رضاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من أرضعته بعد أمه ثويبة مولاة عمه أبي لهب، وكان لثويبة المذكورة ابن اسمه مسروح، فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن ابنها مسموح المذكور، وأرضعت أيضاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن مسروح المذكور، حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا سلمة ابن عبد الأسد المخزومي، فهما أخوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع. رضاعه من حليمة السعدية صلى الله عليه وسلم من حليمة السعدية كانت المراضع يقدمن من البادية إِلى مكة، يطلبن أن يرضعن الأطفال فقدمت عدة منهن،

وأخذت كل واحدة طفلاً، ولم تجد حليمة طفلاً تأخذه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتيماً قد مات أبوه عبد الله، فلذلك لم يرغبن في أخذه، لأنهن كن يرجين الخير من أبي الطفل، ولا يرجين أمه، فأخذته حليمة بنت أبي ذؤيب بن الحارث السعدية، وتسلمته من أمه آمنة وأرضعته، ومضت به إِلى بلادها، وهي بادية بني سعد، فوجدت من الخير والبركة ما لم تعهده قبل ذلك، ثم قدمت به إِلى مكة، وهي أحرص الناس على مكثه عندها، فقالت لأمه آمنة: لو تركت ابنك عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، ولم تزل بها حتى تركته معها، فأخذته وعادت به إلى بلاد بني سعد، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، ولما كان بعض الأيام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيه. الرضاع، خارجاً عن البيوت، إِذ أتى ابن حليمة أمه وقال لها: ذلك القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت حليمة وزوجها نحوه، فوجداه قائماً، فقالا: مالك يا بني فقال: " جاءني رجلان فأضجعاني وشقا بطني. فقال زوج حليمة لها: قد حسبت أن هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله. فاحتملته حليمة وقدمت به على أمه آمنة. فقالت آمنة: ما أقدمك به وكنت حريصة عليه، فأبدت حليمة عذراً لم تقبله آمنة منها، وسألتها عن الصحيح. فقالت حليمة: أتخوف عليه من الشيطان. فقالت أمه آمنة: كلا، والله ما للشيطان عليه من سبيل، إِن لابني شأناً، وأخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع، عبد الله وأنيسة وجذامة وهي الشيماء غلب ذلك على اسمها، وأمهم حليمة السعدية، وأبوهم الحارث بن عبد العزى السعدي وهو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع. وقدمت حليمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن تزوج بخديجة، وشكت الجدب، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها خديجة، فأعطتها أربعين شاة. ثم قدمت حليمة وزوجها الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، فأسلمت هي وزوجها الحارث، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مح أمه آمنة، فلما بلغ ست سنين توفيت أمه بالأبواء، بين مكة والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار، تزيره إِياهم فماتت وهي راجعة إِلى مكة، وكفله جده عبد المطلب، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين، توفي جده عبد المطلب، ثم قام بكفالته عمه أبو طالب بن عبد المطلب، وكان أبو طالب شقيق عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خرج به أبو طالب في تجارة إِلى الشام، حتى وصل إِلى بصرى، وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ ذاك ثلاث عشرة سنة، وكان بها راهب يقال له بحيرا، فقال لأبي طالب: ارجع بهذا الغلام، واحذر عليه من اليهود، فإِنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فخرج به عمه أبو طالب حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته، وشب رسول الله صلى الله عليه

سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وسلم حتى بلغ، فكان أعظم الناس مهرة وحلماً، وأحسنهم جواباً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش، حتى صار اسمه في قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة، وحضر مع عمومته حرب الفجار وعمره أربع عشرة سنة؛ وهي حرب كانت بين قريش وكنانة وبين هوازن، وسميت بالفجار لما انتهكت فيها هوازن حرمة الحرم، وكانت الكرة في هذه الحرب أولاً على قريش وكنانة، ثم كانت على هوازن، وانتصر قريش. سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الشام في تجارة لخديجة كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب تاجرة ذات شرف ومال، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمانته، عرضت عليه الخروج في تجارتها إِلى الشام، مع غلام لها يقال له ميسرة، فأجاب إِلى ذلك وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم الشام، ومعه ميسرة، وباع ما كان معه، واشترى عوضه، ثم أقبل قافلاً إِلى مكة، ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال خديجة، وحدثها ميسرة بما شاهده من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يشاهد ملكين يظلانه وقت الحر، فعرضت خديجة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها، وأصدقها عشرين بكرة، وهي أول امرأة تزوجها، ولم يتوج غيرها حتى ماتت، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها خمساً وعشرين سنة، وكان عمرها يومئذ أربعين سنة، وكانت أيماً ولم يترج رسول الله فَي بكراً غير عائشة، وخديجة أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقيت معه بعد مبعثه عشر سنين، وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين. تجديد قريش عمارة الكعبة قيل لما مات إِسماعيل عليه السلام ولي البيت بعده ابنه نابت، ثم صارت ولاية البيت إِلى جرهم، قال عامر بن الحارث الجرهمي: وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والأمر ظاهر ومنها: كأن لم يكن بين الحجون إِلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر إلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر ثم إِن جرهماً بغت، واستحلت المحارم، فأبيدوا، وصارت ولاية البيت إِلى خزاعة، ثم صارت من بعدهم إِلى قريش، وكانت الكعبة قصيرة البناء، فأرادت قريش رفعها، فهدموها ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، فاختصموا فيه، لأن كل قبيلة أرادت أن ترفعه إِلى موضعه،

مبعث رسول الله

ثم اتفقوا على أن يحكّموا أول داخل من باب الحرم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول داخل، فحكموه، فأمرهم أن يضعوا الحجر في ثوب، وأن يمسك كل قبيلة بطرف من أطرافه، وأن يرفعوه إِلى موضعه، ففعلوا ذلك، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وصوله إِلى موضعه، فوضعه بيده موضعه، ثم أتموا بناء الكعبة، وكانت تكسى القباطي ثم كسيت البرود، وأول من كساها الديباج الحجاج ابن يوسف، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حين رضيت قريش بحكمه خمساً وثلاثين سنة قبل مبعثه بخمس سنين. مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة، بعثه الله تعالى إِلى الأسود والأحمر، رسولاً ناسخاً بشريعته الشرائع الماضية، فكان أول ما ابتدئ به من النبوة الرؤيا الصادقة، وحبب الله تعالى إليه الخلوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في جبل حراء من كل سنة شهراً، فلما كانت سنة مبعثه، خرج إِلى حراء في رمضان للمجاورة فيه، ومعه أهله. حتى إِذا كانت الليلة التي أكرمه الله سبحانه وتعالى فيها جاءه جبريل عليه السلام فقال له: اقرأ. قال له فما أقرأ قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " العلق: 1 " إِلى قوله " علم الإِنسان ما لم يعلم " " العلق: 5 " فقرأها. ثم إِن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إِلى وسط الجبل، فسمع صوتاً من جهة السماء: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبرائيل، فبقي واقفاً في موضعه يشاهد جبرائيل حتى انصرف جبرائيل، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم، وأتى خديجة فحكى لها ما رأى، فقالت: أبشر فوالذي نفس خديجة بيده، إنفي لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم انطلقت خديجة إِلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها، وكان ورقة قد نظر في الكتب وقرأها، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته ما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة: قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران، وإنه نبي هذه الأمة، فرجعت خديجة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة. ولما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، طاف بالبيت أسبوعاً، ثم انصرف إِلى منزله، ثم تواتر الوحي إِليه أولاً فأولاً، وكان أول الناس إِسلاماً خديجة، لم يتقدمها أحد، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إِلا أربع: آسية زوجة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ". أول من أسلم من الناس لا خلاف في أن خديجة أول من أسلم، واختلف فيمن أسلم بعدها، فذكر صاحب السيرة وكثير من أهل العلم، أن أول الناس إِسلاماً بعدها، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعمره

تسع سنين، وقيل عشر سنين، وقيل إِحدى عشرة سنة، وكان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل الإسلام، وذلك أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب كثير العيال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: " إِن أخاك أبا طالب كثير العيال، فأنطلق لنأخذ من بنيه ما يخفف عنه به " فأتيا أبا طالب وقالا: نريد أن نخفف عنك، فقال أبو طالب: اتركا لي عقيلاً واصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، فضمه إِليه، وأخذ العباس جعفراً، فلم يزل علي مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبياً، فصدقه علي، ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم، من شعر علي في سبقه: سبقتكم إِلى الإسلام طراً ... غلاماً ما بلغت أوان حلمي وذكر صاحب السيرة، أن الذي أسلم بعد علي زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشتراه وأعتقه، ثم أسلم بعد زيد أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، وهو عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة عثمان، وذهب آخرون إِلى أن أول الناس إِسلاماً أبو بكر، ثم أسلم بعد أبي بكر عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وكان إِسلامهم بأن دعاهم أبو بكر إِلى الإسلام، وجاء بهمٍ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه، رضي الله عنهم، فهؤلاء أول الناس إيماناً، ثم أسلم أبو عبيدة، واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد بن عمرو، وابن نفيل بن عبد العزى، وهو ابن عم عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر. وكانت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الإسلام سراً ثلاث سنين، ثم بعدها أمر الله رسوله بإِظهار الدعوة، ولما نزل " وأنذر عشيرتك الأقربين " " الشعراء: 214 " دعا النبي صلى الله عليه وسلم علياً فقال: " اصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملا لنا عساً من لبن، واجمع لي بني المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ". ففعل ما أمره ودعاهم، وهم أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس، وأحضر علي الطعام فأكلوا حتى شبعوا. قال علي: لقد كان الرجل الواحد منهم ليأكل جميع ما شبعوا كلهم منه، فلما فرغوا من الأكل، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم، بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: أشد ما سحركم صاحبكم، فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " يا علي قد رأيت كيف سبقني هذا الرجل إِلى الكلام فاصنع لنا في غد كما صنعت اليوم، واجمعهم ثانياً " فصنع علي في الغد كذلك، فلما أكلوا وشربوا اللبن، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أعلم إِنساناً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إِليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي

رضي الله عنه

وخليفتي فيكم " فأحجم القوم جميعاً. قال علي: فقلت وإني لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً وأنا يا نبي الله أكون وزيرك عليهم. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برقبة علي وقال: " إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا "، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك، وتطيع، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم على ما أمره الله، ولم يبعد عنه قومه في أول الأمر، ولم يردوا عليه حتى عاب آلهتهم، ونسب قومه وآباءهم إِلى الكفر والضلال، فأجمعوا على عداوته، إِلا من عصمه الله بالإسلام، وذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب، فجاء رجال من أشراف قريش إِلى أبي طالب، منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد مناف، وأبو سفيان بن أمية بن عبد شمس، وأبو البختري بن هشام ابن الحارث بن أسد، والأسود بن المطلب بن أسد، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة، والوليد بن المغيرة المخزومي عم أبي جهل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، والعاص بن وائِل السهمي، وهو أبو عمرو بن العاص فقالوا: يا أبا طالب إِنّ ابن أخيك قد عاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا فانْهِه عنا، أو خلِّ بيننا وبينه، فردهم أبو طالب رداً حسناً، واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على مَا هو عليه، فعظم عليهم، وأتوا أبا طالب ثانياً وقالوا له ما قالوه أولاً. وقالوا: إِن لم تنهه وإِلا نازلناك وِإياه حتى يهلك أحد الفريقين، فعظم على أبي طالب ذلك، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، إِنَّ قومك قالوا إِلي كذا وكذا، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، ما تركت هذا الأمر "، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى وقام، فولى، فناداه أبو طالب أقبل يا ابن أخي وقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً، فأخذت كل قبيلة تعذب من أسلم منها، ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب. إسلام حمزة رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فمر به أبو جهل بن هشام، فشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكلمه صلى الله عليه وسلم، وكان حمزة في القنص، فلما حضر أنبأته مولاة لعبد الله بن جدعان بشتم أبي جهل لابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، فغضب حمزة وقصد البيت ليطوف به وهو متوشح قوسه، فوجد ابن هشام قاعداً مع جماعة، فضربه حمزة بالقوس فضجه، ثم قال: أتشتم محمداً وأنا على دينه؟ فقامت رجال من بني مخزوم إِلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل دعوه فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً، وتم حمزة على إِسلامه، وعلمت قريش أن رسول اَلله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع بإِسلام حمزة.

الهجرة الأولى وهي هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة

إِسلام عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى وكان شديد البأس والعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، فروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، أو بأبي الحكم بن هشام " وهو أبو جهل، فهدى الله تعالى عمر، وكان قد أخذ سيفه وقصد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيم بن عبد الله النحام، فقال: ما تريد يا عمر: فأخبره، فقال له نعيم: لأن فعلت ذلك لن يتركك بنو عبد مناف تمشي على الأرض، ولكن اردع أختك وابن عمك سعيد بن زيد وخباب، فإِنهم قد أسلموا، فقصدهم عمر وهم يتلون سورة طه من صحيفة، فسمع شيئاً منها، فلما علموا به أخفوا الصحيفة وسكتوا، فسألهم عما سمعه فأنكروه، فضرب أخته فشجهما وقال: أريني ما كنتم تقرؤونه، وكان عمر قارئاً كاتباً، فخافت أخته على الصحيفة وقالت: تعدمها، فأعطاها العهد على أنَه يردها إِليها، فدفعتها إِليه وقال: ما أحسن هذا وأكرمه، فطمعت في إِسلامه، وكان خباب قد استخفى منه، فلما سمع ذلك خرج إِليه، فسألهم عمر عن موضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: هو بدار عند الصفا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، وعنده قريب أربعين نفساً، ما بين رجال ونساء، منهم حمزة وأبو بكر الصديق وعلي ابن أبي طالب، فقصدهم عمر وهو متوشح بسيفه، فاستأذن في الدخول، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل نهض إِليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بمجمع ردائه، وجبذه جبذة شديدة وقال: " ما جاء بك يا ابن الخطاب، أو ما تزال حتى تنزل بك القارعة " فقال عمر: يا رسول الله جئت لأؤمن بالله وبرسوله، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتم إِسلام عمر. الهجرة الأولى وهي هجرة المسلمين إِلى أرض الحبشة ولما اشتد إِيذاء قريش لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمن ليس له عشيرة تحميه، في الهجرة إِلى أرض الحبشة، فأول من خرج اثنا عشر رجلاً، وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان ومعه زوجة رقيه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام، وعثمان بن مظعون، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وركبوا البحر وتوجهوا إِلى النجاشي، وأقاموا عنده، ثم خرج جعفر بن أبي طالب مهاجراً، وتتابع المسلمون أولاً فأولاً، فكان جميع من هاجر من المسلمين إِلى أرض الحبشة ثلاثة وثمانين رجلاً، وثماني عشرة نسوة سوى الصغار، ومن ولد بها، فأرسلت قريش في طلبهم عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأرسلوا معهما هدية من الأدم إِلى النجاشي، فوصلا وطلبا من النجاشي المهاجرين، فلم يجبهما النجاشي. وقال عمرو بن العاص: سلهم

نقض الصحيفة

عما يقولون في عيسى، فسألهم النجاشي فقالوا ما قاله الله تعالى من أنه كلمة الله ألقاها إِلى مريم العذراء، فلم ينكر النجاشي ذلك. فأقام المهاجرون في جوار النجاشي آمنين، ورجع عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة خائبين، بعد أن ردّ النجاشي عليهما الهدية. ولما رأت قريش ذلك وأن الإسلام قد جعل يفشو في القبائل، تعاهدوا على بني هاشم وبني المطلب، أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، وكتبوا بذلك صحيفة وتركوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وانحازت بنو هاشم، كافرهم ومسلمهم إلى أبي طالب، ودخلوا معه في شعبه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إِلى قريش مظاهراً لهم، وكانت امرأته أم جميل بنت حرب، وهي أخت أبي سفيان، على رأيه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي سماها الله تعالى: حمالة الحطب، لأنها كانت تحمل الشوك، فتضعه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقامت بنو هاشم في الشعب، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحو ثلاث سنين، وبلغ المهاجرين الذين في الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فقدم منهم ثلاثة وثلاثون رجلا، ولما قربوا من مكة، لم يجدوا ذلك صحيحاً، فلم يدخل أحد منهم مكة إلا متخفياً، وكان من الذين قدموا عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعثمان بن مظعون. نقض الصحيفة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: " يا عم إِن ربي سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها غير أسماء الله، ونفت منها الظلم والقطيعة ". فخرج أبو طالب إِلى قريش وأعلمهم بذلك وقال: إِن كان ذلك صحيحاً، فانتهوا عن قطيعتنا، وإن كان كذباً دفعت إِليكم ابن أخي، فرضوا بذلك، ثم نظروا فإذا الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادهم ذلك شراً، فاتفق جماعة من قريش ونقضوا ما تعاهدوا عليه في الصحيفة، من قطيعة بني المطلب. الإسراء ذكر صاحب السيرة أن الإسراء كان قبل موت أبي طالب، وذكر ابن الجوزي، أنه كان بعد موت أبي طالب، في سنة اثنتي عشرة للنبوة، واختلف فيه فقيل: كان ليلة السبت، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، في السنة الثالثة عشرة للنبوة، وقيل كان في ربيع الأول، وقيل: كان في رجب، وقد اختلف أهل العلم فيه، هل كان بجسده أم كان رؤيا صادقة، فالذي عليه الجمهور أنه كان بجسده، وذهب آخرون إلى أنه كان رؤيا صادقة، ورووا عن عائشة رضي الله عنها أنفاً كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه، ونقلوا عن معاوية أيضاً أنه كان يقول: إِنّ الإسراء كان رؤيا صادقة، ومنهم من جعل الإسراء إِلى بيت المقدس جسدانياً، ومنه إِلى السموات السبع وسدرة المنتهى روحانياً.

وفاة أبي طالب

وفاة أبي طالب توفي في شوال، سنة عشر من النبوة، ولما اشتد مرضه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عم قلها استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة " يعني الشهادة. فقال له أبو طالب يا ابن أخي لولا مخافة السبة، وأن تظن قريش إِنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها، فلما تقارب من أبي طالب الموت، جعل يحرك شفتيه، فأصغى إِليه العباس بأذنه، وقال: والله يا ابن أخي لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي هداك يا عم ". هكذا روي عن ابن عباس، والمشهور أنه مات كافراً، ومن شعر أبي طالب مما يدل على أنه كان مصدقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ودعوتني وعلمتْ أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا والله لن يصلوا إِليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا وكان عمر أبي طالب بضعاً وثمانين سنة. وفاة خديجة رضي الله عنها ثم توفيت خديجة بعد أبي طالب، وكان موتهما قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين. وتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بموتهما المصائب، ونالت منه قريش، خصوصاً أبو لهب بن عبد المطلب، والحكم بن العاص، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية، فإِنهم كانوا جيران النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤذونه بما يلقون عليه وقت صلاته، وفي طعامه من القاذورات. سفره إلى الطائف ولما نالت قريش من رسول الله بعد وفاة عمه، سافر إلى الطائف يتلمس من ثقيف النصرة، ورجاء أن يقبلوا ما جاء به من الله، فوصل إِلى الطائف، وعمد إلى جماعة من أشراف ثقيف، مثل مسعود وحبيب ابني عمرو، فجلس إِليهم ودعاهم إِلى الله وقال له واحد منهم: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك، وقال الآخر: والله لا أكلمك أبداً، لأنك إِن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك، فقام رسول الله من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه إِلى حائط، ورجع عنه سفهاء ثقيف فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إِليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، على من تكلني إِن لم تكن علي غضباناً فلا أبالي " ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى مكة، وقومه أشد

عرض رسول الله نفسه على القبائل

مما كانوا عليه من خلافه. عرض رسول الله نفسه على القبائل صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج، ويدعوهم إِلى الله، فيقول: " يا بني فلان إِني رسول الله إِليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تخلعوا ما يعبد من دونه، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني ". وعمه أبو لهب ينادي إِنما يدعوكم إِلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، وكان أبو لهب أحول له غديرتان. ابتداء أمر الأنصار رضي الله عنهم ولما أراد الله تعالى إِظهار أمر دينه، وإعزاز نبيه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم يعرض نفسه على القبائل كما كان يصنع، فبينما هو عند العقبة، إِذ لقي نفراً من الخزرج، من أهل مدينة يثرب، وأهلها قبيلتان، الأوس والخزرج، يجمعهم أب واحد، وهم يمانيون، وبين القبيلتين حروب، وهم حلف قبيلتين من اليهود يقال لهما قريظة والنضير من نسل هارون بن عمران، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام عليهم، وتلى عليهم القرآن، وكانوا ستة رجال فآمنوا به وصدقوه ثم انصرفوا إِلى يثرب، وذكروا ذلك لقومهم ودعوهم إِلى الإسلام، حتى فشا فيهم فلم تبق دار إلا وفيها ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. بيعة العقبة الأولى ولما كان العام المقبل، وافى الموسم اثنا عشر رجلاً من الأنصار، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، وبيعة النساء هي المبايعة على أن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، فبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ليعلمهم شرائع الإسلام والقرآن. ولما قدم مصعب المدينة، دخل به أسعد بن زرارة وهو أحد الستة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة حائطاً من حوائطم بني ظفر، وكان سعد ابن معاذ سيد الأوس، ابن خالة أسعد بن زرارة، وكان أسيد بن حصين أيضاً سيداً، فأخذ أسيد بن حصين حربته ووقف على مصعب وأسعد، وقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا اعتزلا إِنْ كان لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فجلس أسيد وأسمعه مصعب القرآن، وعرّفه الإسلام، فقال سيد: ما أحسن هذا، كيف تصنعون إِذا أردتم الدخول في هذا الدين، فعلمه مصعب، فأسلم وقال: ورائي رجل إِن اتبعكما، لم يتخلف عنه أحد، وسأرسله إِليكما، يعني سعد بن معاذ، ثم أخذ أسيد حربته

وانصرف إِلى سعد بن معاذ، وبعث به إِلى مصعب وأسعد، فلما أقبل قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه، فلما وقف عليهما سعد بن معاذ تهدد أسعد وقال: لولا قرابتك مني ما صبرت على أن تغشانا في دارنا بما نكره، فقال له مصعب: أو ما تسمع، فإِن رضيت أمراً قبلته، وإلا عزلنا عنك ما تكره، فقال: أنصفت. فعرض مصعب عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآنَ. قال فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم. ثم قال: كيف تصنعون إِذا أنتم أسلمتم؟ فعرفاه ذلك فأسلم وانصرف إِلى النادي، حتى وقف عليه ومعه أسيد بن حصين، فلما رآه قومه مقبلاً، قالوا نحلف بالله لقد رجع سعد بغير الوجه الذي ذهب به، فقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا سيدنا وأفضلنا. قال: فإِن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام، حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى في دار بني عبد الأشهل أحد حتى أسلم، ونزل سعد بن معاذ ومصعب في دار أسعد بن زرارة يدعون الناس إِلى الإسلام، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إِلا وبّها مسلمون، إِلا ما كان من دار بني أمية بن زيد. بيعة العقبة الثانية وكانت في سنة ثلاث عشرة من المبعث، وذلك أن مصعب بن عمير عاد إِلى مكة ومعه من الذين أسلموا ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، بعضهم من الأوس وبعضهم من الخزرج، مع كفار من قومهم، وهم مستخفون من الكفار، فلما وصلوا إِلى مكة وأعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتمعوا به ليلاً في أوسط أيام التشريق بالعقبة وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس وهو مشرك، إِلا أنه أحب أن يتوثق منهم لابن أخيه، فقال العباس: يا معشر الخزرج؛ إِن محمداً منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا وهو في عز ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إِلا الانحياز إِليكم واللحوق بكم، فإن كنتم تقفون عند ما دعوتموه إِليه؛ وتمنعونه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه فمن الآن فدعوه. فقالوا: قد سمعنا العباس، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا القرآن ثم قال: " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأولادكم ". ودار الكلام بينهم؛ واستوثق كل فريق من الآخر، ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إِن قتلنا دونك ما لنا؟ قال: الجنة. قالوا: فابسط يدك، فبسط يده وبايعوه، ثم انصرفوا راجعين إِلى المدينة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إِلى المدينة، فخرجوا أرسالاً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام

الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وهي ابتداء التاريخ الإسلامي، أما لفظة التاريخ فإِنه محدث في لغة العرب؛ لأنه معرب من ماه روز، وبذلك جاءت الرواية، روى ابن سليمان عن ميمون بن مهران أنه رفع إِلى عمر بن الخطاب في خلافته رضي الله تعالى عنه صك محله شعبان فقال: أي شعبان؟ أهذا هو الذي نحن فيه؟ أو الذي هو آت؟ ثم جمع وجوه الصحابة وقال: إن الأموال قد كثرت وما قسمنا منها غير موقت، فكيف التوصل إِلى ما نضبط به ذلك؟ فقالوا: نحب أن نتعرف ذلك من رسوم الفرس، فعندها استحضر عمر الهرمزان سأله عن ذلك، فقال: إِن لنا به حساباً نسميه ماه روز، وَمعناه حساب الشهور والأيام، فعربوا الكلمة فقالوا مؤرخ، ثم جعلوا اسمه التاريخ واستعملوه، ثم طلبوا وقتاً يجعلونه أولاً لتاريخ دولة الإسلام، واتفقوا على أن يكون المبدأ سنة هذه الهجرة، وكانت الهجرة من مكة إِلى المدينة شرفهما الله، وقد تصوم من شهور هذه السنة وأيامها المحرم وصفر وثمانية أيام من ربيع الأول. فلما عزموا على تأسيس الهجرة رجعوا القهقري ثمانية وستين يوماً، وجعلوا مبدأ التاريخ أول المحرم من هذه السنة، ثم أحصوا من أول يوم في المحرم إِلى آخر يوم من عمر النبي صلى الله عليه وسلم فكان عشر سنين وشهرين، وأما إِذا حسب عمره من الهجرة حقيقة فيكون قد عاش بعدها تسع سنين وأحد عشر شهراً واثنين وعشرين يوماً وقد وضعنا زايجة تتضمن ما بين الهجرة وبين التواريخ القديمة المشهورة من السنين، وإذا أردت أن تعرف ما بين أي تاريخين شئت منها فانظر إلى ما بينهما وبين الهجرة، وأنقص أقلهما من أكثرهما؛ فمهما بقي يكون ذلك هو ما بينهما مثاله إِذا أردنا أن نعرف ما بين مولد المسيح ومولد رسول الله صلوات الله عليهما وسلامه نقصنا ما بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الهجرة وهو ثلاث وخمسون سنة وشهران وثمانية أيام من ستمائة وإحدى وثلاثين سنة، يبقى خمسمائة وثمان وسبعون سنة تنقص شهرين وثمانية أيام هي جملة ما بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مولد المسيح ابن مريم صلوات الله وسلامه عليهما وكذلك أي تاريخين أردت من هذه الدائرة.

التواريخ القديمة المشهورة، من السنين بين الهجرة وبين آدم، على مقتضى التوراة اليونانية، واختيار المؤرخين، ستة آلاف ومائتان وست عشرة سنة، وعلى مقتضى التوراة اليونانية، واختيار المنجمين، حسبما أثبتوا في الزيجات، خمسة آلاف وتسعمائة وسبع وستون سنة، وعلى مقتضى التوراة العبرانية، واختيار المؤرخين، أربعة آلاف وسبعمائة وإحدى وأربعون سنة، وأما على اختيار المنجمين، ينقص عنه مائتان وتسع وأربعون سنة، وعلى مقتضى التوراة السامرية، واختيار المؤرخين، خمسة آلاف ومائة وسبع وثلاثون سنة، وأما على اختيار المنجمين، فينقص ما ذكر، كذلك جاء الأمر في جميع التواريخ إلى قبل بخت نصر. بين الهجرة وبين الطوفان على اختيار المؤرخين، ثلاث آلاف وتسعمائة وأربع وسبعون سنة، وكان الطوفان لستمائة سنة مضت من عمر نوح، وعاش نوح بعده ثلاثمائة وخمسين

سنة، وعلى اختيار المنجمين، ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وعشرون سنة، حسبما قرره أبو معشر وكوشيار وغيرهما في الزيجات والتقاويم، بين الهجرة وبين تبلبل الألسن على اختيار المؤرخين، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربع سنين وأما على اختيار المنجمين، فتنقص عنه مائتين وتسعاً وأربعين سنة، حسبما تقدم ذكره. بين الهجرة وبين مولد إِبراهيم الخليل على اختيار المؤرخين ألفان وثمانمائة وثلاثة وتسعون سنة، وأما على اختيار المنجمين، فتنقص عته مائتين وتسعاً وأربعين سنة بين الهجرة وبين بناء الكعبة على يد إِبراهيم الخليل وولده إِسماعيل، ألفان وسبعمائة ونحو ثلاث وتسعين سنة، وكان ذلك بعد مضي مائة سنة من عمر إبراهيم وهو القريب والله أعلم. بين الهجرة وبين وفاة موسى عليه السلام، على اختيار المؤرخين، ألفان وثلاثمائة وثمان وأربعون سنة، وأما على اختيار المنجمين فتنقص عنه مائتين وتسعاً وأربعين سنة، بين الهجرة وبين عمارة بيت المقدس على اختيار المؤرخين، ألف وثمانمائة وقريب سنتين وكان فراغه لمضي أحد عشر سنة من ملك سليمان، ولمضي خمسمائة وست وأربعين سنة لوفاة موسى، وأما على اختيار المنجمين، فتنقص عنه مائتين وتسعاً وأربعين سنة. بين الهجرة وبين ابتداء ملك بختنصر ألف وثلاثمائة وتسع وستون سنة، وليس فيه خلاف، بين الهجرة وبين خراب بيت المقدس ألف وثلاثمائة وخمسون سنة، وكان لمضي تسعهَ عشرة سنة لبختنصر واستمر خراباً سبعين سنة ثم عمر. بين الهجرة وبين غلبة الإِسكندر على دارا ملك الفرس، تسعمائة وأربع وثلاثون سنة وكانت أيضاً ابتداء ملكه على الفرس. وبقي الإسكندر بعد غلبته على دارا نحو سبع سنين. بين الهجرة وبين فيلبس تسعمائة وسبع وعشرون سنة، وهو أخو الإسكندر أصغر منه باثني عشر سنة، وملك بعده على مقدونية ذكره ببطلميوس. بين الهجرة وبين غلبة أغسطس على قلوبطرا ملكة مصر، ستمائة واثنان وخمسون سنة، وكانت بسنة اثنتي عشرة من ملك أغسطس. بين الهجرة وبين مولد المسيح عليه السلام، ستمائة وإحدى وثلاثون سنة وكان بسنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر، ولإِحدى وعشرين سنة مضت من غلبة أغسطس على قلوبطرا. بين الهجرة وبين خراب بيت المقدس الثاني، خمسمائة وثمان وخمسون سنة وكان لمضي أربعين سنة من رفع المسيح عليه السلام وهو تاريخ لشتة اليهود إِلى الآن. بين الهجرة وبين أول ملك أدريانس خمسمائة وسبع سنين. بين الهجرة وبين قيام أزدشير بن بابك، أربعمائة واثنان وعشرون سنة، وهو أيضاً تاريخ انقراض ملوك الطوائف. بين الهجرة وبين أول ملك دوقلطيانس ثلاثمائة وتسع وثلاثون سنة وهو آخر عبدة الأصنام ملوك الروم. بين الهجرة وبين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاثة وخمسون سنة وشهرين وثمانية أيام. بين

الهجرة وبين مبعث رسول الله، ثلاث عشرة سنة وشهران وثمانية أيام. بين الهجرة وبين وفاة رسول الله، تسع سنين وأحد عشر شهراً واثنان وعشرون يوماً وهي بعد الهجرة. حديث الهجرة وأما ما كان من حديث الهجرة، فإِنه لما علمت قريش أنه قد صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنصار، وأن أصحابه بمكة قد لحقوا بهم، خافوا من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، فاجتمعوا واتفقوا على أن يأخذوا من كل قبيلة رجلاً، ليضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد، ليضيع دمه في القبائل، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر علياً أن ينام على فراشه، وأن يتشح ببرده الأخضر، وأن يتخلف عنه ليؤدي ما كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الودائع إِلى أربابها، وكان الكفار قد اجتمعوا على باب النبي صلى الله عليه وسلم يرصدونه، ليثبوا عليه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة تراب وتلا أول " يس "، وجعل ذلك التراب على رؤوس الكفار، فلم يروه، فأتاهم آت وقال: إِن محمداً خرج ووضع على رؤوسكم التراب، وجعلوا ينظرون فيرون علياً عليه برد النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون محمد نائم، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي فعرفوه. وأقام علي بمكة حتى أدّى ودائع النبي صلى الله عليه وسلم. وقصد النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من داره، دار أبي بكر رضي الله عنه، وأعلمه بأنّ الله قد أذن بالهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال الصحبة: فبكى أبو بكر رضي الله عنه فرحاً، واستأجرا عبد الله بن أرقط، وكان مشركاً، ليدلهما على الطريق، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إِلى غار ثور، وهو جبل أسفل مكة، فأقاما فيه ثم خرجا من الغار بعد ثلاثة أيام، وتوجها إِلى المدينة ومعهما عامر بن فهير مولى أبي بكر الصدّيق، وعبد الله بن أرقط الدليل، وهو كافر. وجدت قريش في طلبه، فتبعه سراقة بن مالك المدلجي، فلحق النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله أدركنا الطلب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إِن الله معنا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على سراقة، فارتطمت فرسه إِلى بطنها في أرض صلبة. فقال سراقة: ادع الله يا محمد أن يخلصني، ولك أنْ أرد الطلب عنك، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فخلص، ثم تبعه، فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فترطم ثانياً، وسأل الخلاص وأن يرد الطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، وقال: كيف بك يا سراقة إِذا سورت بسوار كسرى برويز، فرجع سراقة ورد كل من لقيه عن الطلب. أن يقول كفيتم ما هاهنا. وقدم المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من سنة إِحدى، وذلك يوم الاثنين الظهر، فنزل قباءْ على كلثوم بن الهدم، وأقام بقباء الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجد قباء وهو الذي نزل فيه:

تزويج النبي بعائشة صلى الله عليه وسلم بعائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما

" لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه " " التوبة: 108 " وخرج من قباء يوم الجمعة، فما مر على دار من دور الأنصار إِلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة، ويعترضون ناقته فيقول: " خلوا سبيلها فإِنها مأمورة " حتى انتهت إِلى موضع مسجده صلى الله عليه وسلم، وكان مربداً لسهل وسهيل ابني عمرو، يتيمين في حجر معاذ بن أعفر فبركت هناك ووضعت جرانها، فنزل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، واحتمل أبو أيوب الأنصاري رحل الناقة إِلى بيته، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب الأنصاري حتى بنى مسجده ومساكنه، وقيل بل كان موضع المسجد لبني النجار، وفيه نخل وخرب وقبور المشركين. تزويج النبي بعائشة صلى الله عليه وسلم بعائشة بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما وتزوجها قبل الهجرة، بعد وفاة خديجة، ودخل بها بعد الهجرة بثمانية أشهر، وهي ابنة تسع سنين، وتوفي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة. المؤاخاة بين المسلمين آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتخذ رسول الله، علي بن أبي طالب أخاً، وكان علي يقول على منبر الكوفةِ، أيام خلافته: أنا عبد اللِّه وأخو رسول الله، وصار أبو بكر وخارجة بن زيد بن أبي زهير الأنصاري، أخوين، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ الأنصاري أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الأنصاري أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ربيع الأنصاري أخوين، وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت الأنصاري أخوين، وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك الأنصاري أخوين، وسعيد ابن زيد وأبي بن كعب الأنصاري أخوين، وأول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة، عبد الله بن الزبير، وأول مولود ولد للأنصار النعمان بن بشير. ثم دخلت سنة اثنتين من الهجرة فيها حولت الصلاة إِلى الكعبة، وكانت الصلاة بمكة، وبعد مقدمه إِلى المدينة بثمانية عشر شهراً، إِلى بيت المقدس، وذلك يوم الثلاثاء منتصف شعبان، فاستقبل الكعبة في صلاة الظهر وبلغَ أهل قباء ذلك، فتحولوا إِلى جهة الكعبة وهم في الصلاة، وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين فرض صيام رمضان. وفي هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدي، في ثمانية أنفس إِلى نخلة بين مكة والطائف، ليتعرفوا أخبار قريش فمر بهم عير لقريش فغنموها وأسروا اثنين، وحضروا بذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أول غنيمة غنمها المسلمون. من الأشراف للمسعودي، وفي هذه السنة أري عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري صورة الأذان في النوم، فورد الوحي به.

غزوة بدر الكبرى

غزوة بدر الكبرى وهي الغزوة التي أظهر الله بها الدين، وكان من خبرها، أنه لما قدم لقريش قفل من الشام، مع أبي سفيان بن حرب، ومعه ثلاثون رجلاً، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليهم، وبلغ أبا سفيان ذلك فبعث إِلى مكة، وأعلم قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصده، فخرج الناس من مكة سراعاً، ولم يتخلف من الأشراف غير أبي لهب، وبعث مكانه العاص بن هشام، وكانت عدتهم تسعمائة وخمسين رجلاً، فيهم مائة فارس، وخرج محمد عليه السلام من المدينة، لثلاث خلون من رمضان سنة اثنتين للهجرة، ومعه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، منهم سبعة وسبعون من المهاجرين، والباقون من الأنصار، ولم يكن فيهم إِلا فارسان، أحدهما المقداد بن عمرو الكندي، بلا خلاف، والثاني قيل هو الزبير بن العوام، وقيل غيره، وكانت الإِبل سبعين، يتعاقبون عليها، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء، وجاءته الأخبار بأن العير قد قاربت بدراً، وأن المشركين قد خرجوا، ليمنعوا عنها، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في بدر، على أدنى ماء من القوم، وأشار سعد بن معاذ ببناء عريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمل وجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر، وأقبلت قريش، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهّم هذه قريش، قد أقبلت بخيلائها وفخرها. تكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، وتقاربوا، وبرز من المشركين عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب عتبة، وحمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم شيبة، وعلي بن أبي طالب الوليد بن عتبة، فقتل حمزة شيبة، وعلي الوليد، وضرب كل واحد من عبيدة وعتبة صاحبه، وكَّر علي وحمزة على عتبة فقتلاه، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله ثم مات، وتزاحفت القوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر على العريش، وهو يدعو ويقول: " اللهم إِن تهلك هذه العصابة، لا تعبد في الأرض، اللهم أنجز لي ما وعدتني " ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه، فوضعها أبو بكر عليه، وخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة، ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر فقد أتى نصر الله، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش يحرض الناس على القتال، وأخذ حفنة من الحصباء ورمى بها قريشاً وقال: شاهت الوجوه، ثم قال لأصحابه: شدوا عليهم فكانت الهزيمة، وكانت الوقعة صبيحة الجمعة، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وحَمَل عبد الله ابن مسعود رأس أبي جهل بن هشام إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسجد شكراً لله تعالى، وقتل أبو جهل وله سبعون سنة، واسم أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكذلك قتل أخو أبي جهل، وهو العاص بن هشام، ونصر الله نبيه بالملائكة. قال الله تعالى: " إِذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إِني ممدكم بألف من

غزوة بني قينقاع من اليهود

الملائكة " " الأنفال: 9 " وجاء الخبر إِلى أبي لهب بمكة عن مصاب أهل بدر، فلم يبق غير سبع ليال ومات كمداً، وكانت عدة قتلى بدر من المشركين سبعين رجلاً، والأسرى كذلك، فمن القتلى غير من ذكرنا حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، وعبيدة بن سعيد بن العاص بن أمية، قتله علي بن أبي طالب، وزمعة بن الأسود قتله حمزة وعلي، وأبو البحتري بن هشام، قتله المجدر بن زياد ونوفل بن خويلد، أخو خديجة، وكان من شياطين قريش، وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة بن خويلد لما أسلما في حبل، قتله علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعمير بن عثمان بن عمر التميمي، قتله علي أيضاً ومسعود بن أبي أمية المخزومي، قتله حمزة، وعبد الله بن المنذر المخزومي، قتله علي بن أبي طالب، ومنبه بن الحجاج السهمي، قتله أبو يسر الأنصاري، وابنه العاص بن منبه، قتله علي بن أبي طالب، وأخوه نبيه بن الحجاج، اشترك فيه حمزة وسعد بن أبي وقاص، وأبو العاص بن قيس السهمي، قتله علي بن أبي طالب. وكان من جملة الأسرى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وابنا أخويه، عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ولما انقضى القتال، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسحب القتلى إِلى القليب، وكانوا أربعة وعشرين رجلاً، من صناديد قريش، فقذفوا فيه، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرصة بدر ثلاث ليال، وجميع من استشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار، ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفراء راجعاً من بدر، أمر علياً فضرب عنق النضر بن الحارث، وكان من شدة عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم، إِذا تلا النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، يقول لقريش: ما يأتيكم محمد إِلا بأساطير الأولين، ثم أمر بضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أمية، وكان عثمان بن عفان قد تخلف عن رسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بأمره، بسبب مرضِ زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماتت رقية في غيبة رسول صلى الله عليه وسلم، وكانت مدة غيبة رسول فَي تسعة عشر يوماً. غزوة بني قينقاع من اليهود وهم أول يهود نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، فخرج إِليهم في منتصف شوال سنة اثنتين، فتحصنوا، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتفوا وهو يريد قتلهم، فكلمه عبد الله بن أبي بن أبي سلول الخزرجي المنافق، وكان هؤلاء اليهود خلفاء الخزرج، فأعرض النبي عنه، فأعاد السؤال، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أحسن. فقال: " ويحك أرسلني " فقال لا والله حتى تحسن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هم لك " ثم أمر بإِجلائهم، وغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون جميع

ووصل العدو إِلى رسول الله عليه السلام، وأصابته حجارتهم حتى وقع، وأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، وكان الذي أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص، أخو سعد بن أبي وقاص، وجعل الدم يسيل على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إِلى ربهم، فنزل في ذلك قوله تعالى: " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإِنهم ظالمون " " آل عمران: 128 " ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشجة، ونزع أبو عبيدة بن الجراح إِحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه وسلم، فسقطت ثنيته الواحدة، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، فكان أبو عبيدة ساقط الثنيتين، ومص سنان أبو سعيد الخدري الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وازدرده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من مس دمي دمه لم تصبه النار ". وروى أن طلحة أصابته يومئذ ضربة فشلت يده وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظاهر بين درعين، ومثلت هند وصواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجدعن الآذان والأنوف، واتخذن منها قلائد، وبقرت هند عن كبد حمزة ولاكتها ولم تسغها، وضرب أبو سفيان زوجها، بزج الرمح شدق حمزة، وصعد الجبل وصرخ بأعلى صوته: الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل، أي ظهر دينك، ولما انصرف أبو سفيان ومن معه، نادى إِنَّ موعدكم بدراً العام القابل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لواحد قل: " هو بيننا وبينكم ". ثم سار المشركون إِلى مكة، ثم التمس رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة، فوجده وقد بقر بطنه وجدع أنفه وأذناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين منهم ". ثم قال: " جاءني جبرائيل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع، حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله " ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجى ببرده، ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إِلى حمزة، فيصلي عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة، وهذا دليل لأبي حنيفة، فإنه يرى الصلاة على الشهيد خلافاً للشافعي رحمهما الله تعالى، ثم أمر بحمزة فدفن، واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إِلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ذلك وقال: " ادفنوهم حيث صرعوا ". ثم دخلت سنة أربع فيها في صفر قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عضل والقارة، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم من يفقه قومهم في الدين، فبعث معهم ستة نفر، وهم: ثابت بن أبي الأقلح، وخبيب بن عدي، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير الليثي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، وقدم عليهم مرثد بن أبي مرثد.

غزوة بني النضير من اليهود

فلما وصلوا إِلى الرجيع، وهو ماء لهذيل، على أربعة عشر ميلاً من عسفان، غدروا بهم، فقاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل ثلاثة وأسر ثلاثة، وهم زيد بن الدثنة، وخبيب، وعبد الله بن طارق، فأخذوهم إِلى مكة، وانفلت عبد الله بن طارق في الطريق، فقاتل إِلى أن قتلوه بالحجارة، ووصلوا بزيد بن الدثنة، وخبيب إِلى مكة، وباعوهما من قريش فقتلوهما صبراً. وفي صفر سنة أربع أيضاً قدم أبو برا عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو بعثت من أصحابك رجالاً إِلى أهل نجد يدعونهم، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخاف على أصحابي " فقال أبو برا: أنا لهم جار. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، المنذر بن عمر الأنصاري في أربعين رجلا من خيار المسلمين، فيهم عامر بن فهير مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فمضوا ونزلوا بئر معونة على أربع مراحل من المدينة، وبعثوا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى عدو الله عامر بن الطفيل، فقتل الذي أحضر الكتاب، وجمع الجموع وقصد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقاتلوا وقُتلوا عن آخرهم، إِلا كعب بن زيد، فإنه بقي فيه رمق وتوارى بين القتلى، ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم الخندق، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، فرأيا الطيور تحوم حول العسكر فقصدا العسكر، فوجدا القوم مقتولين، فقاتل الأنصاري وقتل، وأما عمرو بن أمية فأخذا أسيراً، وأعتقه عامر ابن الطفيل لكونه من مضر، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بالخبر فشق عليه. غزوة بني النضير من اليهود وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليهم وحاصرهم، في ربيع الأول سنة أربع. ونزل تحريم الخمر، وهو محاصر لهم، فلما مضى ست ليال محاصراً لهم، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخْليهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إِلا السلاح، فأجابهم إِلى ذلك، فخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير، مظهرين بذلك تجلداً، وكانت أموالهم فيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقسمها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين دون الأنصار، إِلا أنّ سهل بن حنيفة وأبا دجانة ذكراً فقراً، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيئاً، ومضى إِلى خيبر من بني النضير ناس، وإلى الشام ناس. غزوة ذات الرقاع ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجداً، فلقي جمعاً من غطفان في ذات الرقاع، وسميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وكان ذلك في جمادى

غزوة بدر الثانية

الأولى، سنة أربع، وفي هذه الغزوة قال رجل من غطفان لقومه: ألا أقتل لكم محمداً؟ قالوا: إلى، وحضر إِلى عند النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد أريد أنظر إِلى سيفك هذا، وكان محّلى بفضة، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إِليه، فأخذه واستله، ثم جعل يهزه ويهم، ويكبته الله، ثم قال يا محمد: ما تخافني؟ فقال له: لا أخاف منك ثم رد سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليه، فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إِذ هم قوم أن يبسطوا إِليكم أيديهم فكيف أيديهم عنكم " " المائدة: 11 ". غزوة بدر الثانية وفي شعبان سنة أربع، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لميعاد أبي سفيان، وأتى بدراً وأقام ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان من مكة، ثم رجع من أثناء الطريق إِلى مكة، فلما لم يأت انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، وفي هذه السنة ولد الحسين بن علي رضي الله عنهما. ثم دخلت سنة خمس. غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب وكانت في شوال من هذه السنة، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحزب قبائل العرب، فأمر بحفر الخندق حول المدينة، قيل: إِنه كان بإِشارة سلمان الفارسي، وهو أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت للنبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق عدة معجزات. منها: ما رواه جابر قال: اشتدت عليهم كدية أي صخرة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وسلم بماء وتفل فيه ونضحه عليها، فانهالت تحت المساحي، ومنها أن ابنة بشير بن سعد الأنصاري، وهي أخت النعمان بن بشير، بعثتها أمها بقليل تمر غذاء أبيها بشير، وخالها عبد الله بن رواحة، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاها وقال: " هاتي ما معك يا بنية " قالت: فصببت ذلك التمر في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما امتلأتا، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب، وبدد ذلك التمر عليه، ثم قال لإِنسان: اصرخ في أهل الخندق أنْ هلموا إِلى الغداء، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب. ومنها ما رواه جابر قال: كانت عندي شويهة غير سمينة، فأمرت امرأتي أن تخبز قرص شعير، وأن تشوي تلك الشاة لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وكنا نعمل في الخندق نهاراً، وننصرف إذا أمسينا، فلما انصرفنا من الخندق، قلت: يا رسول الله صنعت لك شويهة ومعها شيئاً من خبز الشعير، وأنا أحب أن تنصرف إِلى منزلي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصرخ في الناس، أن انصرفوا مع رسول صلى الله عليه وسلم إِلى بيت جابر، قال جابر: فقلت إِنّا لله وإنّا إِليه راجعون، وكان قصده أن يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، وقدّمنا

غزوة بني قريظة

له ذلك، فبرك وسمى، ثم أكل، وتواردها الناس، كلما صدر عنها قوم جاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها. وروى سلمان الفارسي قال: كنت قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أعمل في الخندق، فتغلظ علي الموضع الذي كنت أعمل فيه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة المكان، أخذ المعول وضرب ضربة، فلمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب أخرى فلمعت برقة أخرى، ثم ضرب أخرى فلمعت برقة أخرى، قال: فقلت بأبي أنت وأمي، ما هذا الذي يلمع تحت المعول، فقال: " أرأيت ذلك يا سلمان فقلت: نعم. فقال: " أما الأولى، فإن الله فتح علي بها اليمن، وأما الثانية: فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب، وأما الثالثة: فإن الله فتح علي بها المشرق "، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وأقبلت قريش في أحابيشها ومن تبعها من كنانة، في عشرة آلاف وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد، وكان بنو قريظة وكبيرهم كعب بن أسد، قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم فما زال عليهم أصحابهم من اليهود حتى نقضوا العهد، وصاروا مع الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم عند ذلك الخطب واشتد البلاء، حتى ظن المؤمنون كل الظن، ونجم النفاق، حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط وأقام المشركون بضعاً وعشرين ليلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقابلهم، وليس بينهم قتال غير المراماة بالنبل، ثم خرج عمرو بن عبد ود من ولد لؤي بن غالب يريد المبارزة، فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له عمرو: يا ابن أخي والله ما أحب أن أقتلك. فقال علي: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك ونزل عن فرسه فعقره، وأقبل إلى علي وتجاولا وعلا عليهما الغبرة، وسمع المسلمون التكبير، فعلموا أن علياً قتله، وانكشفت الغبرة وعلي على صدر عمرو يذبحه، ثم إن الله تعالى أهب ريح الصبا، كما قال الله عزّ وجل: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها " " الأحزاب: " وكان ذلك في أيام شاتية. فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح أبنيتهم، ورمى الله الاختلاف بينهم، فرحلت قريش مع أبي سفيان، وسمعت غطفان ما فعلت قريش فرحلوا راجعين إلى بلادهم. غزوة بني قريظة ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، انصرف عن الخندق راجعاً إلى المدينة، ووضع المسلمون السلاح، فلما كان الظهر، أتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا ببني قريظة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه برايته إلى بني قريظة، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على

بئر من آبارهم، وتلاحق الناس، وأتى قوم بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصل أحد العصر إلا ببني قريظة، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك، وحاصر بني قريظة خمساً وعشرين ليلة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، ولما اشتد بهم الحصار، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا حلفاء الأوس، فسأل الأوس رسول الله صلى الله عليه وسلم في إطلاقهم، كما أطلق بني قينقاع، حلفاء الخزرج بسؤال عبد الله بن أبي بن أبي سلول المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا ترضون أن يحكم فيهم سعد بن معاذ وهو سيد الأوس "،. فقالوا: إلى، ظناً منهم أن يحكم بإطلاقهم، فأمر بإحضار سعد، وكان به جرح في أكحله من الخندق، فحملت الأوس سعداً على حمار قد وطأوا له عليه بوسادة، وكان رجلاً جسيماً، ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون لسعد: يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم. والمهاجرون يقولون: إنما أراد صلى الله عليه وسلم الأنصار، والأنصار يقولون: قد عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، فقاموا إليه وقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله قد حكمك في مواليك. فقال سعد: أحكم فيهم، أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة "، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وحبس بني قريظة في بعض دور الأنصار، وأمر فحفر لهم خنادق، ثم بعث بهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، وكانوا سبعمائة رجل يزيدون أو ينقصون عنها قليلاً. ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني قريظة فأخرج الخمس، واصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو، فكانت في ملكه حتى ماتت، ولما انقضى أمر بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فمات، رضي الله عنه، وجميع من استشهد من المسلمين في حرب الخندق ستة نفر، منهم سعد بن معاذ، ما بعد حرب بني قريظة على ما وصفناه، وكان سعد بن معاذ لما جرح على الخندق، قد سأل الله تعالى أن لا يميته حتى يغزو بني قريظة، لغدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاندمل جرحه حتى فرغ من غزو بني قريظة كما سأل الله تعالى، ثم انتقض جرحه ومات، رحمه الله تعالى، وفي حرب بني قريظة، لم يستشهد غير رجل واحد، وكانت غزوة بني قريظة في ذي القعدة، سنة خمس، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حتى خرجت السنة. ثم دخلت سنة ستة فيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى إلى بني لحيان، طلباً بثأر أهل الرجيع فتحصنوا برؤوس الجبال، فنزل عسفان تخويفاً لأهل مكة، ثم رجع إلى المدينة.

غزوة ذي قرد

غزوة ذي قرد ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أياماً، فأغار عيينة بن حصين الفزاري على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بالغابة، فخرج رسول الله يوم الأربعاء، حتى وصل إلى ذي قرد، لأربع خلون من ربيع الأول، فاستنقذ بعضها، وعاد إلى المدينة، وكانت غيبته خمس ليال، وذو قرد موضع على ليلتين من المدينة على طريق خيبر. غزوة بني المصطلق وكانت في شعبان من هذه السنة، أعني سنة ست، وقيل سنة خمس، وكان قائد بني المصطلق الحارث بن أبي ضرار، ولقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ماء لهم يقال له المريسيع، واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق، فقتل وسبى وغنم الأموال ووقعت جويرة بنت قائدهم، الحارث بن أبي ضرار، في سهم ثابت بن قيس، فكاتبته على نفسها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتق بتزوجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فكانت عظيمة البركة على قومها، وفي هذه الغزوة قتل رجل من الأنصار، رجلاً من المسلمين خطأ، يظنه كافراً، وكان المقتول من بني ليث بن بكر، واسمه هشام، وكان أخوه مقيس مشركاً، فلما بلغه قتل أخيه خطأ، قدم من مكة مظهراً الإسلام، وأنه يطلب دية أخيه، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم رجع إلى مكة مرتداً، وقال من أبيات لعنه الله: حللت به وترى وأدركت ثورتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع وهو ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة، وفي هذه الغزوة ازدحم جهجاه الغفاري، أجير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسنان الجهني، حليف الأنصار، على الماء، وتقاتلا، فصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين، وصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، فغضب عبد الله بن أُبي بن أبي سلول المنافق، وعنده رهط من قومه، فيه زيد بن أرقم، فقال عبد الله المنافق: لقد فعلوها قد كاثرونا في بلادنا، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة، لنخرجن الأعز منها الأذل، ثم قال لمن حضر من قومه: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، ولو مسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا عنكم، فأخبر زيد بن أرقم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال يا رسول الله: مر به عبد الله بن بشير فليقتله، فقالي النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يتحدث الناس إذن أن محمداً يقتل أصحابه، ثم أمر بالرحيل، في وقت لم يكن ليرحل فيه، ليقطع ما الناس فيه، فلقيه أسيد بن حصين وقال: يا رسول الله، رحت في ساعة لم تكن لتروح فيها، فقال: أوما بلغك ما قاله عبد

عمرة الحديبية

الله بن أبي؟ فقال: وماذا قال: فأخبره رسول الله بمقاله. فقال أسيد: أنت والله تخرجه إن شئت، أنت العزيز وهو الذليل، وبلغ ابن عبد الله المنافق، واسمه أيضاً عبد الله وكان حسن الإسلام، مقال أبيه، فقال يا رسول الله: بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلاً فمرني، فأنا أحمل إليك رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل ترفق به وتحسن صحبته. قصة الإفك ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة، وكان ببعض الطريق، قال أهل الإفك ما قالوا: وهم مسطح بن إثاثة بن عباد بن عبد المطلب، وهو ابن خالة أبي بكر، وحسان بن ثابت، وعبد الله بن أبي بن أبي سلول الخزرجي المنافق، وأم حسنة ابنة جحش فرموا عائشة بالإفك مع صفوان بن المعطل، وكان صاحب الناقة، فلما نزلت براءتها، جلدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانين ثمانين إلا عبد الله بن أبي فإنه لم يجلده. من الأشراف للمسعودي، وفي هذه الغزوة، أعني غزوة بني المصطلق نزلت آية التيمم. عمرة الحديبية وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ذي القعدة، سنة ست، معتمراً لا يريد حرباً بالمهاجرين والأنصار في ألف وأربعمائة، وساق الهدي وأحرم بالعمرة، وسار حتى وصل إِلى ثنية المرار مهبط الحديبية أسفل مكة، وأمر بالنزول فقالوا: لينزل على غير ماء، فأعطى رجلاً سهماً من كنانته، وغرره في بعض تلك القلب في جوفه، فجاش حتى ضرب الناس عنه، وهذا من مشاهير معجزاته صلى الله عليه وسلم، فبعث قريش عروة بن مسعود الثقفي، وهو سيد أهل الطائف، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إِنّ قريشاً لبسوا جلود النمور، وعاهدوا الله أن لا تدخل عليهم مكة عنوة أبداً. ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقرع يده ويقول: كف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إِليك. فقال له عروة: ما أفظك وأغلظك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام عروة، من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرى ما يصنع أصحابه لا يتوضأ إِلا ابتدروا وضوءه ولا يبصق إِلا ابتدروا بصاقه، ولا يسقط من شعره شيء إِلا أخذوه، ورجع إِلى قريش وقال لهم: أني جئت: كسرى وقيصر في ملكهما، فوالله ما رأيت ملكاً في قومه مثل محمد في أصحابه، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إِلى قريش، ليعلمهم بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأت لحرب، فقال عمر: أني أخاف قريشاً لغلظي عليهم، وعدواتي لهم، فبعث رسول الله عثمان بن عفان إِلى أبي سفيان وأشراف قريش، أنه لم يأت لحرب، إنما جاء زائراً ومعظماً لهذا البيت، فلما وصل إِليهم عثمان

صلى الله عليه وسلم وقريش

وعرفهم بذلك، قالوا له: إِن أحببت أنك تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعله حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسكوه وحبسوه، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ عثمان قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى البيعة،، فكانت بيعة الرضوان، تحت الشجرة، وكان الناس يقولون بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وكان جابر يقول: لم يبايعنا إِلا على أننا لا نفر، فبايع رسول الله عليه السلام الناس، ولم يتخلف أحد من المسلمين إِلا الجد بن قيس استتر بناقته، وبايع رسول الله عليه السلام لعثمان في غيبته، فضرب بإِحدى يديه على الأخرى، ثم أتى النبي الخبر أن عثمان لم يقتل. الصلح بين النبي وقريش صلى الله عليه وسلم وقريش ثم إِن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو في الصلح، وتكلمّ مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فلما أجاب إِلى الصلح، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أو لست برسول الله، أولسنا بالمسلمين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى، قال: فعلام نعُطي لبينة في ديننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره، ولن يضيعني " ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن أكتب باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله، لم أقاتلك، ولكن أكتب اسمك واسم أبيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، سهيل بن عمرو، على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأشْهد في الكتاب على الصلح، رجالاً من المسلمين والمشركين، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما خرجوا من المدينة، لا يشكون في فتح مكة، لرؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح، والرجوع، داخل الناس من ذلك، أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، نحر هديه وحلق رأسه، وقام الناس أيضاً فنحروا وحلقوا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يومئذ " يرحم الله المحلقين "، قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " رحم الله المحلقين حتى أعادوا، وأعاد ذلك ثلاث مرات، ثم قال: " والمقصرين " ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، وأقام بها حتى خرجت السنة ثم دخلت سنة سبع. غزوة خيبر ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في منتصف المحرم من هذه السنة، أعني سنة سبع،

إلى خيبر، وحاصرهم وأخذ الأموال، وفتحها حصناً حصناً، فأول ما فُتح، حصن ناعم، ثم افتتح حصن القموص، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما سبايا، منهن صفية بنت كبيرهم، حيي بن أخطب، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عتقها صداقها، وهي من خواصه عليه السلام، ثم افتتح حصن المصعب، وما كان بخيبر حصن أكثر طعاماً وودكاً منه، ثم انتهى إِلى الوطيح والسلالم، وكانا آخر حصون خيبر افتتاحاً. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ربما كانت تأخذه الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما نزل خيبر أخذته، فأخذ أبو بكر الصدّيق الراية، فقاتل قتالاً شديداً، ثم رجع فأخذها عمر بن الخطاب، فقاتل قتالاً أشد من الأول، ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أما والله لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. كراراً غير فرار، يأخذها عنوة " فتطاول المهاجرون والأنصار، وكان علي بن أبي طالب غائباً، فجاء وهو أرمد قد عصب عينيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادن مني، فدنا منه، فتفل في عينيه، فزال وجعهما، ثم أعطاه الراية، فنهض بها، وعليه حلة حمراء، وخرج مرحب صاحب الحصن، وعليه مغفرة، وهو يقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... أكيلكم بالسيف كيل السندره فاختلفا بضربتين، فقدت ضربة علي المغفر ورأس مرحب، وسقط على الأرض. وروى ابن إسحاق خلاف ذلك، والذي ذكرنا هو الأصح، وفتحت المدينة على يد علي رضى الله عنه، وذلك بعد حصار بضع عشرة ليلة، وحكى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا مع علي رضي الله عنه، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى خيبر، فخرج إِليه أهل الحصن، وقاتلهم علي رضي الله عنه، فضربه رجل من اليهود، فطرح ترس علي من يده، فتناول باباً كان عند الحصن، فتترس به، ولم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده. فلقد رأيتني في سبعة نُفر أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه. وكان فتح خيبر في صفر، سنة سبع للهجرة، وسأل أهل خيبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح، على أن يساقيهم على النصف من ثمارهم، ويخرجهم متى شاء، ففعل ذلك، وفعل ذلك أهل فدك فكانت خيبر للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها فتحت بغير إيجاف خيل، ولم يزل يهود خيبر كذلك إِلى خلافة عمر رضي الله عنه، فأجلاهم منها، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، انصرف إِلى وادي القرى، فحاصره ليلة وافتتحه عنوة، ثم سار إِلى المدينة، ولما قدمها وصل إليه من الحبشة بقية المهاجرين، ومنهم جعفر بن أبي طالب، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أدري بأيهما أسَر، بفتح خيبر

رسل النبي إلى الملوك صلى الله عليه وسلم إلى الملوك

أم بقدوم جعفر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إِلى النجاشي يطلبهم، ويخطب أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قد هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش، فتنصر عبيد الله المذكور، وأقام بالحبشة، فزوجها للنبي صلى الله عليه وسلم ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وكان بالحبشة من جملة المهاجرين، وأصدقها النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، ولما بلغ أباها أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها قال: ذلك الفحل الذي لا يقرع أنفه، فقدمت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، في أن يدخلوا الذين حضروا من الحبشة في سهامهم من مغنم خيبر ففعلوا، وفي غزوة خيبر هدت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث اليهودية شاة مسمومة، فأخذ منها قطعة ولاكها. ثم لفظها، وقال: تخبرني هذه الشاة أنها مسمومة، ثم قال في مرض موته أن أكلة خيبر لم تزل تعاودني، وهذا زمان انقطاع أبهري. رسل النبي إلى الملوك صلى الله عليه وسلم إِلى الملوك في هذه السنة أعني سنة سبع، بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتبه ورسله إِلى الملوك، يدعوهم إِلى الإسلام، فأرسل إلى كسرى برويز بن هرمز، عبد الله بن حذافة، فمزَق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يكاتبني بهذا وهو عبدي، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: مزق الله ملكه، ثم بعث كسرى إلى باذان عامله باليمن، أن ابعث إِلى هذا الرجل الذي في الحجاز، فبعث باذان إِلى النبي صلى الله عليه وسلم اثنين، أحدهما يقال له خرخسره، وكتب معهما يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير إِلى كسرى، فدخلا على النبي عليه السلامُ وقد حلقا لحاهما وشواربهما، فكره النبي النظر إِليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا قالا: ربنا. يعنيان كسرى. فقال النبي عليه السلام: لكنّ ربي أمرني أن أعف عن لحيتي وأقص شاربي فأعلماه بما قَدما له وقالا: إِن فعلت، كتب فيك، باذان إِلى كسرى، وإن أبيت فهو يهلكك. فأخر النبي صلى الله عليه وسلم الجواب إِلى الغد، وأتى الخبر من السماء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنّ الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله. فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهما بذلك، وقال لهما: " إِن ديني وسلطاني سيبلغ ما يبلغ ملكَ كسرى، فقولا لباذان أسلم، فرجعا إِلى بأذان وأخبراه بذلك، ثم ورد مكاتبةَ شيرويه إِلى باذان بقتل أبيه كسرى، وأن لا يتعرض إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم باذان وأسلم معه ناس من فارس. فأرسل دحية بن خليفة الكلبي إِلى قيصر ملك الروم، فأكرم قيصر دحية وضع كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مخدة، ورد دحية رداً جميلاً. وأرسل حاطب بن أبي بلتعة، وهو بالحاء المهملة، إلى صاحب مصر، وهو المقوقس جريج بن متى، فأكرم حاطباً، وأهدى إِلى النبي صلى الله عليه وسلم أربع جوار، وقيل جاريتين، إِحداهما مارية، وولدت من النبي صلى

عمرة القضاء

الله عليه وسلم إِبراهيم ابنه، وأهدى أيضاً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم دلدل، وحماره يعفور. وكان قد أرسل إِلى النجاشي عمرو بن أمية، فقبّل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، حيث كان عنده في الهجرة. وأرسل شجاع بن وهب الأسدي إِلى الحارث بن أبي شمرّ الغساني. فلما قرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ها أنا سائر إِليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك: " باد ملكه ". وأرسل سليط بن عمرو إِلى هوذة بن علي ملك اليمامة، وكان نصرانياً فقال هوذة: إِن جعل الأمر لي من بعده سرت إِليه، وأسلمت، ونصرته، وإلا قصدت حربه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ولا كرامة، اللهم اكفنيه " فمات بعد قليل. وكان قد أرسل هوذة رجلاً يقال له الرحال بالحاء، وقيل بالجيم، إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقدم وأسلم وقرأ سورة البقرة، وتفقه ورجع إِلى اليمامة، وارتد وشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرك معه مسيلمة الكذاب في النبوة. وأرسل العلاء بن الحضرمي إِلى ملك البحرين وهو المنذر بن ساوي، فأسلم وهو من قبل الفرس، وأسلم جميع العرب بالبحرين. عمرة القضاء ثم خرج رسول صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة من سنة سبع، معتمراً عمرة القضاء وساق معه سبعين بدنة، ولما قرب من مكة خرجت له قريش عنها، وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في عسر وجهد، فاصطفوا له عند دار الندوة، فلما دخل المسجد اضطبع، بأن جعل وسط ردائه تحت عضده الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، ثم قال رحم الله أمرأ أراهم اليوم قوة ورمل في أربعة أشواط من الطواف، ثم خرج إِلى الصفا والمروة فسعى بينهما، وتزوج في سفره هذا ميمونة بنت الحارث، زوجه إِياها عمه العباس، وذكر أنه تزوجها محرماً، وهي من خواصه، ثم رجع إِلى المدينة ثم دخلت سنة ثمان من الهجرة وهو بالمدينة. إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وفي سنة ثمان قدم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص السهمي، وعثمان بن طلحة بن عبد الدار فأسلموا، ثم كانت غزوة مؤتة وهي أول الغزوات بين المسلمِين والروم، وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف وأمر عليهم مولاه زيد بن حارثة، وقال: " إِن قتل فأمير الناس جعفر بن أبي طالب فإن قتل فأميرهم عبد الله بن رواحة " ووصلوا إلى مؤتة من أرض الشام وهي قبلي الكرك، فاجتمعت عليهم الروم والعرب المنتصرة في نحو مائة ألف والتقوا بمؤته، وكانت الراية مع زيد فقتل، فأخذها جعفر فقتل، فأخذها عبد اللهّ بن رواحة فقتل، واتفق العسكر على خالد بن الوليد، فأخذ الراية ورجع بالناس وقدم الِمدينة، وكان سبب هذه الغزوة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث

نقض الصلح وفتح مكة

الحارث بن عمير رسولاً إِلى ملك بصرى بكتاب، كما بعث إِلى سائر الملوك، فلما نزل مؤتة عرض له عمرو بن شرحبيل الغساني فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غيره. نقض الصلح وفتح مكة كان السبب في نقض الصلح، أنّ بني بكر كانوا في عقد قريش. وعهدهم، وخزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وفي هذه السنة. أعني سنة ثمان، لقيت بنو بكر خزاعة فقتلوا منهم، وأعانهم على ذلك جماعة من قريش فانتقض بذلك عهد قريش، وندمت قريش على نقض العهد، فقدم أبو سفيان بن حرب إِلى المدينة لتجديد العهد، ودخل على ابنته أمّ حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يجلس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فطوته عنه، فقال: يا بنية أرغبت به عني. فقالت: هو فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس، فقال: لقد أصابك بعدي شر، ثم أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد شيئاً وأتى كبار الصحابة مثل أبي بكر الصديق، وعلي رضي الله عنه، فتحدث معهما فأجاباه إلى ذلك، فعاد إِلى مكة وأخبر قريشاً بما جرى، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصد أن يبغت قريشاً بمكة من قبل أن يعلموا به، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إِلى قريش مع سارة مولاة بني هاشم يعلمهم بقصد النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك. وأرسل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فأدركا سارة، وأخذا منها الكتاب، وأحضرا النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال: ما حملك على هذا؟ فقال: والله إني مؤمن ما بدلت ولا غيرت، ولكن لي بين أظهرهم أهل وولد، وليس لي عشيرة فصانعتهم. فقال عمر بن الخطاب دعني أضرب عنقه فإِنه منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لعشر مضين من رمضان، سنة ثمان، ومعه المهاجرون والأنصار وطوائف من العرب، فكان جيشه عشرة آلاف حتى قارب مكة فركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لعلي أجد حطاباً أو رجلاً يعلم قريشاً بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتونه ويستأمنونه، وإلا هلكوا عن آخرهم. قال: فلما خرجت سمعت صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي: قد خرجوا يتجسسون، فقال العباس: أبا حنظلة، يعني أبا سفيان، فقال أبا الفضل قلت نعم، قال لبيك فداك أبي وأمي ما وراءك، فقلت: قد أتاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف من المسلمين. فقال أبو سفيان: ما تأمرني به؟ قلت تركب لأستأمن لك رسول الله وإِلا يضرب عنقك، فردفني وجئت به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت طريقي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمرو: أبا سفيان الحمد للهّ الذي أمكنني منك بغير عقد ولا عهد، ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله

عليه وسلم وأدركته، فقال: يا رسول الله دعني اًضرب عنقه، وسأل العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فقال: النبي صلى الله عليه وسلم قد أمنته، وأحضره يا عباس بالغداة، فرجع به العباس إِلى منزله، وأتى به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغداة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا سفيان أما آن أن تعلم أن لا إِله إِلا الله؟ قال إلى: قال: ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله " فقال: بأبي أنت وأمي، أما هذه ففي النفس منها شيء، فقال له العباس: ويحك تشهّد قبل أن تُضرب عنقك، فتشاهد وأسلم معه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس " اذهب بأبي سفيان إِلى مضيق الوادي ليشاهد جنود الله "، فقال العباس يا رسول الله إِنه يحب الفخر، فاجعل له شيئاً يكون في قومه، فقال: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن ". قال: فخرجت به كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت عليه القبائل وهو يسأل عن قبيلة، وأنا أعلمه حتّى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، لا يبين منهم إِلا الحدق، فقال من هؤلاء. فقلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. فقال: لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكاً عظيماً. قال: فقلت ويحك إِنها النبوة، فقال نعم. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام أن يدخل ببعض الناس من كداء وأمر سعد بن عبادة سيد الخزرج أن يدخل ببعض الناس من ثنية كداء، ثم أمر عليّاً أن يأخذ الراية منه فيدخل بها لما بلغه من قول سعد: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة. وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة في بعض الناس، وكل هؤلاء الجنود لم يقاتلوا، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال، إِلا أن خالد بن الوليد لقيه جماعة من قريش، فرموه بالنبل ومنعوه من الدخول، فقاتلهم خالد فقتل من المشركين ثمانية وعشرين رجلاً، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك قال: ألم أنه عن القتال؟ فقالوا: إِن خالد قوتل فقاتل وقُتل من المسلمين رجلان. وكان فتح مكة يوم الجمعة، لعشر بقين من رمضان، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وملكها صلحاً، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة إِنها فتحت عنوة، ولما أمكن الله رسوله من رقاب قريش عنوة، قال لهم: ما تروني فاعلاً بكم قالوا له: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، قال " فاذهبوا فأنتم الطلقاء " ولما اطمأن الناس، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إِلى الطواف، فطاف بالبيت سبعاً على راحلته، واستلم الركن بمحجن كان في يده، ودخل الكعبة ورأى فيها الشخوص على صور الملائكة، وصورة إِبراهيم وفي يده الأزلام يستقسم،، فقال: قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إِبراهيم والأزلام، ثم أمر بتلك الصور فطمست، وصلى في البيت وأهدر دم ستة رجال

غزوة خالد بن الوليد على بني خزيمة

وأربع نسوة، أحدهم عكرمة بن أبي جهل، ثم استأمنت له زوجته أم حكيم، فأمنّه فقدم عكرمة فأسلم. وثانيهم هبار بن الأسود، وثالثهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، فأتى عثمان به النبي صلى الله عليه وسلم وسأله فيه، فصمت النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً ثم أمنّه فأسلم، وقال لأصحابه: " إِنما صمت ليقوم أحدكم فيقتله " فقالوا: هلا أومأت إِلينا، فقال: " إِن الأنبياء لا تكون لهم خائنة الأعين " وكان عبد الله المذكور قد أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، فكان يبدل القرآن، ثم ارتد، وعاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنه، وولاه مصر. ورابعهم مقيس بن صبابة لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأ، وارتد، وخامسهم عبد الله بن هلال كان قد أسلم ثم قتل مسلماً وارتد. وسادسهم الحويرث بن نفيل، كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهجوه، فلقيه علي بن أبي طالب فقتله. وأما النساء فإِحداهن هند زوج أبي سفيان أم معاوية التي أكلت من كبد حمزة، فتفكرت مع نساء قريش وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما عرفها قالت: أنا هند فاعف عما سلف فعفا، ولما جاء وقت الظهر يوم الفتح، أذن بلال على ظهر الكعبة، فقالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة، وقال الحارث بن هشام ليتني مت قبل هذا، وقال خالد بن أسيد: لقد أكرم الله أبي فلم ير هذا اليوم، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر لهم ما قالوه، فقال الحارث بن هشام أشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد فنقول أخبرك، ومن النساء المهدرات الدم سارة مولاة بني هاشم التي حملت كتاب حاطب. غزوة خالد بن الوليد على بني خزيمة لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث السرايا حول مكة إِلى الناس يدعوهم إِلى الإسلام، ولم يأمرهم بقتال، وكان بنو خزيمة قد قتلوا في الجاهلية عوفاً أبا عبد الرحمن بن عوف، وعم خالد بن الوليد، كانا أقبلا من اليمن، وأخذوا ما كان معهما، وكان من السرايا التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الناس ليدعوهم إِلى الإسلام، سرية مع خالد بن الوليد، فنزل على ماء لبني خزيمة المذكورين، فلما نزل عليه أقبلت بنو خزيمة بالسلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح، فإِن الناس قد أسلموا، فوضعوه، وأمر بهم فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله خالد، رفع يديه إِلى السماء حتى بان بياض إبطيه وقال: " اللهم إِني أبرأ إِليك مما صنع خالد " ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بمال، وأمر أن يؤدي لهم الدماء والأموال، ففعل علي ذلك، ثم سألهم هل بقي لكم مال أو دم؟ فقالوا لا، وكان قد فضل مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قليل مال، فدفعه إليهم زيادة، تطييباً لقلوبهم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأعجبه وأنكر عبد الرحمن بن عوف على خالد فعله ذلك، فقال خالد: ثأرتُ أباك. فقال عبد الرحمن: بل

غزوة حنين

ثأرت عمك الفاكه، وفعلت فعل الجاهلية في الإسلام، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خصامهما فقال: يا خالد دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أُحدٌ ذَهَبَاً، ثم أنفقته في سبيل الله تعالى ما أدركت غدوة أحدهم ولا روحته. غزوة حنين وكانت في شوال سنة ثمان، وحنين واد بين مكة والطائف، وهو إِلى الطائف أقرب. لما فُتحت مكة تجمّعت هوازن بحريمهم وأموالهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقدمهم مالك بن عوف النضري، وانضمت إِليهم ثقيف، وهم أهل الطائف، وبنو سعد بن بكر، وهم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم مرتضعاً عندهم، وحضر مع بني جشم دريد ابن الصمة، وهو شيخ كبير قد جاوز المائة، وليس يراد منه التيمن برأيه، وقال رجزاً: يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم، خرج من مكة لست خلون من شوال ثمان، وكان يقصر الصلاة بمكة، من يرم الفتح إِلى حين خرج للقاء هوازن، وخرج معه اثنا عشر ألفاً، ألفان من أهل مكة، وعشرة آلاف كانت معه، وكان صفوان ابن أمية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر لم يُسلم، سأل أن يُمهل بالإسلام شهرين، وأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِلى ذلك، واستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم منه مائة درع في هذه الغزوة، وحضرها أيضاً جماعة كثيرة من المشركين وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى حنين، والمشركون بأوطاس، فقال دريد بن الصمة: بأي واد أنتم. قالوا: بأوطاس. قال: نعْمَ مجال الخيل، لا حَزن ضرس ولا سهل دَهِس، وركب النبي صلى الله عليه وسلم بغلته الدُلَدُل، وقال رجل من المسلمين لما رأى كثرة جيش النبي صلى الله عليه وسلم: " لن يغلب هؤلاء من قلة " وفي ذلك نزل قوله تعالى: " ويوم حنين إِذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً " " التوبة: 25 " ولما التقوا انكشف المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين في نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، ولما انهزم المسلمون أظهر أهل مكة ما في نفوسهم من الحقد، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وكانت الأزلام معه في كناتته، وصرخ كلدة: الآن بطل السحر، وكلدة أخو صفوان بن أمية لأمه، وكان صفوان حينئذ مشركاً، فقال له صفوان: اسكت فضّ الله تعالى فاك. قال والله لئن يُربني رجل من قريش أحبّ إِلي من أن يُربني رجل من هوازن، واستمر رسول الله ثابتاً وتراجع المسلمون واقتتلوا قتالاً شديداً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لبغلته الدلدل: البدي البدي فوضعت بطنها على الأرض، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة تراب فرمى بها في وجه المشركين فكانت الهزيمة،

حصار الطائف

ونَصَر الله تعالى المسلمين، واتبع المسلمون المشركين يقتلونهم ويأسرونهم، وكان في السبي الشيماء بنت الحارث وأمها، حليمة السعدية، وكانت أخت رسول الله من الرضاع، فعرفته بذلك وأرته العلامة، وهي عضة النبي صلى الله عليه وسلم في ظهرها، فعرفها وبسط لها رداءه، وزودها وردها إِلى قومها حسبما سألت. حصار الطائف ولما انهزمت ثقيف من حنين إِلى الطائف، سار النبي صلى الله عليه وسلم إِليهم، فأغلقوا باب مدينتهم، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم نيفاً وعشرين يوماً، وقاتلهم بالمنجنيق، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف فقطعت، ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فرحل عنهم حتى نزل الجعرانة، وكان قد ترك بها غنائم هوازن، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض هوازن ودخلوا عليه، فرد عليهم نصيبه ونصيب بني عبد المطلب، ورد على الناس بناءهم ونساءهم، ثم لحق مالك بن عوف مقدم هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم وحسن إِسلامه، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل، وكان عدة السبي الذي أطلعه ستة آلاف رأس، ثم قسم الأموال، وكانت عدة الإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، ومن الفضة أربعة آلاف أوقية، وأعطى المؤلفة قلوبهم مثل: أبي سفيان وابنيه يزيد ومعاوية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام أخي أبي جهل وصفوان بن أمية وهؤلاء من قريش، وأعطى الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الذبياني وملك بن عوف مقدم هوازن وأمثالهم، فأعطى لكل واحد من الأشراف مائة من الإبل، وأعطى للآخرين أربعين أربعين، وأعطى للعباس بن مرداس السلمي أباعر لهم يرضها، وقال في ذلك من أبيات: فأصبح نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ... ومن يضع اليوم لا يرفع فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقطعوا عني لسانه فأعطي حتى رضي. ولما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم، لم يعط الأنصار شيئاً، فوجدوا في نفوسهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم: " أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا ألفت بها قوماً ليسلموا وكلتكم إِلى إِسلامكم، أما ترضون أن يذهب الناس بالبعير والشاة، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، أما والذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً لسلكت شعْب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ". ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة هوازن، وأعطى عيينة بن حصن وأبا سفيان

غزوة تبوك

ابن حرب وغيرهما ما ذكرنا، قال ذو الخويصرة من بني تميم للنبي صلى الله عليه وسلم: لم أرك عدلت، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: " ويحك إِذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون " فقال عمر: يا رسول الله ألا أقتله؟ قال: " لا، دعوه فإِنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة " وهذه الرواية عن محمد بن إِسحاق. وروى غيره أن ذا الخويصرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت قسم الغنيمة المذكورة: لم تعدل، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرميّة، لا يجاوز إِيمانهم تراقيهم ". فكان كما قاله صلى الله عليه وسلم، فإِنه خرج من ذي الخويصرة المذكور حرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية، وهو أوّل من بويع من الخوارج بالإمامة، وأول مارق من الدين، وذو الخويصرة تسمية سماه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاد إِلى المدينة، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وهو شاب لم يبلغ عشرين سنة، وترك معه معاذ بن جبل يفقه الناس، وحج بالناس في هذه السنة عتاب بن أسيد على ما كانت العرب تحج. وفي ذي الحجة سنة ثمان، ولد إِبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية. وفيها أعني سنة ثمان مات حاتم الطائي، وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج من ولد طي بن أدد، وكان حاتم يكنى أبا سفانة وهو اسم ابنته، كني بها، وسفانة المذكورة أتت النبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، وشكت إِليه حالها، وحاتم المذكور كان يضرب بجرده وكرمه المثل، وكان من الشعراء المجيدين. ثم دخلت سنة تسع والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وترادفت عليه وفود العرب فممن ورد عليه عروة بن مسعود الثقفي، وكان سيد ثقيف، وكان غائباً عن الطائف لما حاصرها النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم وحسن إِسلامه، وقال: يا رسول الله أمضي إِلى قومي بالطائف فأدعوهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنهم قاتلوك " فاختار المضي فمضى إلى الطائف ودعاهم إِلى الإسلام، فرماه أحدهم بسهم فوقع في أكحله فمات، رحمه الله تعالى، ووفد كعب بن زهير ابن أبي سلمى بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدته المشهورة وهي: بانت سعادُ فقلبي اليوم متبول وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بردته، فاشتراها معاوية في خلافته من أهل كعب بأربعين ألف درهم، ثم توارثها الخلفاء الأمويون والعباسيون حتى أخذها التتر. غزوة تبوك وفي رجب من هذه السنة أعني سنة تسع، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم وأعلم الناس مقصدهم لبعد الطريق وقوة العدو، وكان قبل ذلك إِذا أراد غزوة ورَّى بغيرها،

وكان الحر شديداً والبلاد مجدبة والناس في عسرة، ولذلك سمي ذلك الجيش جيش العسرة، وكانت الثمار قد طابت، فأحب الناس المقام في ثمارهم، فتجهزوا على كره، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالنفقة، فأنفق أبو بكر جميع ماله، وأنفق عثمان نفقة عظيمة، قيل كانت ثلاثمائة بعير طعاماً. وألف دينار، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يضر عثمان ما صنع بعد اليوم، وتخلف عبد الله بن أبي المنافق، ومن تبعه من أهل النفاق، وتخلف ثلاثة من عين الأنصار، وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إِلا استثقالا له، فلما سمع ذلك علي أخذ سلاحه، ولحق النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قال المنافقون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " كذبوا، وإنما خلفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إِلا أنه لا نبي بعدي. وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثون ألفاً فكانت الخيل عشرة آلاف فرس، ولقوا في الطريق شدة عظيمة من العطش والحر، ولما وصلوا إِلى الحجر وهي أرض ثمود، نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورود ذلك الماء، وأمرهم إن يريقوا ما استقوه من مائه، وأن يطعموا العجين الذي عجن بذلك الماء الإبل، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى تبوك وأقام بها عشرين ليلة، وقدم عليه بها يوحنا صاحب أيلة فصالحه على الجزية، فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار، وصالح أهل أذرج على مائة دنيار في كل رجب، وأرسل خالد بن الوليد إِلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وكان نصرانياً من كندة، فأخذه خالد وقتل أخاه، وأخذ منه خالد قباء ديباج مخوصاً بالذهب، فأرسله إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل المسلمون يتعجبون منه، وقدم خالد بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، فاعتذر إِليه الثلاثة الذي تخلفوا عنه، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم، وأمر باعتزالهم، فاعتزلهم الناس فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وبقوا كذلك خمسين ليلة، ثم أنزل الله تعالى توبتهم، فقال تعالى: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إِذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إِلا إِليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إِن الله هو التواب الرحيم " " التوبة: 81 " وكان قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، ولما دخلها قدم عليه وفد الطائف من ثقيف، ثم إِنهم أسلموا، وكان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم اللات التي كانوا يعبدونها، لا يهدمها إِلى ثلاث سنين، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فغزِلوا إلى شهر واحد فلم يجبهم، وسألوه أن يعفيهم من الصلاة فقال: " لا خير في دين لا صلاة فيه " فأجابوا وأسلموا، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب، ليهدما اللات، فتقدم

حج أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالناس

المغيرة فهدمها، وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها. حج أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالناس وبعث النبيِ صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق في سنة تسع ليحج بالناس، ومعه عشرون بدنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه ثلاثمائة رجل، فلما كان بذي الحُلَيْفَة، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في إثره علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمره بقراءة آيات من أول سورة براءة على الناس، وأن ينادي أن لا يطوف بالبيت بعد السنة عريان، ولا يحج مشرك، فعاد أبو بكر وقال: يا رسول الله أنزل فيّ شيء، قال: " لا ولكن لا يبلغ عني إِلا أنا أو رجل مني ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وصاحبي على الحوض؟ " قال: إلى، فسار أبو بكر رضي الله عنه أميراً على الموسم، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يؤذن براءة يوم الأضحى، وأن لا يحج مشرك ولا يطوف عريان، من الأشراف للمسعودي. وفي ذي القعدة سنة تسع، كانت وفاة عبد الله بن أُبي بن أبي المنافق، ثم دخلت سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وجاءته وفود العرب قاطبة، ودخل الناس في الدين أفواجاً كما قال الله: " إِذا جاء نصر الله والفتح " النصر: 1 "، وأسلم أهل اليمن وملوك حمير. إرسال علي بن أبي طالب إِلى اليمن روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً كرم الله وجهه إِلى اليمن، فسار إليها وقرأ كتاب رسول الله على أهل اليمن، فأسلمت همذان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام، وكتب بذلك إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسجد شكراً لله تعالى، ثم أمر علياً بأخذ صدقات نجران وجزيتهم، ففعل وعاد فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع. حجة الوداع وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً لخمس بقين من ذي القعدة، وقد اختلف في حجه، هل كان قراناً أم تمتعاً أم إِفراداً، والأظهر الذي اشتهر أنه كان قارناً، وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ولقي علي بن أبي طالب محرماً، فقال: " حل كما حل أصحابك " فقال: إِني أُهللت بما أُهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبقي على إِحرامه، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي عنه، وعلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مناسك الحج والسنن، ونزل قوله تعالى: " اليوم يئس الذي كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " " المائدة: 3 " فبكى أبو بكر رضي الله عنه لما سمعها، فكأنه استشعر أنه ليس بمعد الكمال إِلا النقصان، وأنه قد نعيت إِلى النبيَ صلى الله عليه وسلم نفسه، وخطب رسول الله صلى الله

وفاة رسول الله

عليه وسلم الناس خطبة، بين فيها الأحكام، منها: " يا أيها الناس إِنما النسيء زيادة في الكفر، فإِن الزمان استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً " وتمم حجته وسميت حجة الوداع، لأنه لم يحج بعدها، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ وأقام بها حتى خرجت السنة. ثم دخلت سنة إِحدى عشَرة. وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، أقام بالمدينة حتى خرجت سنة عشر، والمحرم من سنة إِحدى عشرة، ومعظم صفر، وابتدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه في أواخر صفر، قيل لليلتين بقيتا منه، وهو في بيت زينب بنت جحش، وكان يدور على نسائه، حتى اشتد مرضه وهو في بيت ميمونة بنت الحاِرث، فجمع نساءه واستأذنهن في أن يمرض في بيت إحداهن، فأذن له أن يمرض في بيت عائشة، فانتقل إِليها، كان قد جهز جيشاً مع مولاه أسامة بن زيد، وأكد في مسيره في مرضه، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي صداع وأنا أقول وارأساه، فقال: " بل أنا والله يا عائشة أقول وارأساه " ثم قال ما ضرك لو متّ قبلي فقمت عليكِ وكفنتك وصليت عليك ودفنتك " قالت: فقلت كأني بك والله لو فعلت ذلك ورجعت إِلى بيتي وتعزيت ببعض. نسائك، فتبسم صلى الله عليه وسلم. وفي أثناء مرضه، وهو في بيت عائشة، خرج بين الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب، حتى جلس على المنبر، فحمد الله ثم قال: " أيّها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقدمني، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستفد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخشى الشحناء من قبلي فإِنها ليست من شأني ". ثم نزل وصلى الظهر ثم رجع إِلى المنبر، فعاد إِلى مقالته، فادعى عليه رجل ثلاثة دراهم فأعطاه عوضها، ثم قال: " ألا إِن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة " ثم صلى على أصحاب أُحد واستغفر لهم ثم قال: " إِنّ عبداً خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده " فبكى أبو بكر ثم قال: فديناك بأنفسنا. ثم أوصى بالأنصار فقال: يا معشر المهاجرين أصبحتم تزيدون وأصبحت الأنصار لا تزيد، والأنصار عيبتي التي أويت إِليها فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم. ثم إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أيام مرضه يصلي بالناس، وإنما انقطع ثلاثة أيام، فلما أذن بالصلاة أول ما انقطع فقال: " مروا أبا بكر فليصل بالناس " وتزايد به مرضه حتى توفي يوم الاثنين ضحوة النهار، وقيل نصف النهار، وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء، يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: " اللهم أعني على سكرات الموت ". قالت: وثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه

رضي الله عنه

يكتب له عثمان بن عفان أحياناً، وعلي بن أبي طالب، وكتب له خالد بن سعيد بن العاص، وأبان بن سعيد، والعلا بن الحضرمي، وأول من كتب له أبي بن كعب، وكتب له زيد بن ثابت، وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وارتد ثم أسلم بوم الفتح، وكتب له بعد الفتح معاوية بن أبي سفيان. سلاحه وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من السلاح سيفه المسمى ذا الفقار؛ غنمه يوم بدر، وكان لمنبه بن الحجاج السهمي، وقيل لغيره، وسمي ذا الفقار لحفر فيه، وغنم من بني قينقاع ثلاثة أسياف، وقدم معه إِلى المدينة لما هاجر سفيان، شهد بأحدهما بدراً، وكان له أرماح ثلاثة وثلاثة قسي، ودرعان غنمهما من بني قينقاع، وكان له ترس فيه تمثال، فأصبح وقد أذهبه الله تعالى. عدد غزواته وسراياه صلى الله عليه وسلم قيل كانت غزواته تسع عشرة، وقيل ستاً وعشرين، وقيل سبعاً وعشرين غزوة، وآخر غزواته غزوة تبوك، ووقع القتال منها في تسع وهي بدر وأحد والخندق وقريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف، وباقي الغزوات لم يجر فيها قتال، وأما السرايا والبعوث فقيل خمس وثلاثون وقيل ثمان وأربعون. أصحابه قد اختلف الناس فيمن يستحق أن يطلق عليه صحابي، فكان سعيد بن المسيب لا يعد الصحابي إِلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة وأكثر، وغزا معه، وقال بعضهم كل من أدرك الحلم وأسلم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صحابي، ولو أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة، وقال بعضهم لا يكون صحابياً إِلا من تخصص به الرسول صلى الله عليه وسلم وتخصص هو بالرسول صلى الله عليه وسلم، بأن يثق رسول الله صلى الله عليه وسلم بسريرته، ويلازم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، والأكثر على أن الصحابي: هو كل من أسلم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ولو أقل زمان، وأما عددهم على هذا القول الأخير، فقد روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سار في عام فتح مكة في عشرة آلاف مسلم، وسار إِلى حنين في اثني عشر ألفاً، وسار إِلى حجة الوداع في أربعين ألفاً وأنهم كانوا عند وفاته صلى الله عليه وسلم مائة ألف، وأربعة وعشرين ألفاً. وأما مراتبهم فالمهاجرون أفضل من الأنصار على الإِجمال، وأما على التفضيل فسبْاق الأنصار أفضل من متأخري المهاجرين، وقد رتب أهل التواريخ والصحابة على طبقات، فالطبقة الأولى أول الناس إِسلاماً كخديجة وعلي وزيد وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم ومن تلاهم ولم يتأخر إِلى دار الندوة. الطبقة الثانية أصحاب دار الندوة، وفيها أسلم عمر رضي الله عنه. الطبقة الثالثة المهاجرون إلى الحبشة، الرابعة أصحاب العقبة الأولى وهم سباق الأنصار، الخامسة أصحاب العقبة الثانية، السادسة أصحاب العقبة

خبر الأسود العنسي

الثالثة وكانوا سبعين، السابعة المهاجرون الذين وصلوا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته وهو بقباء قبل بناء مسجده، الثامنة أهل بدر الكبرى، التاسعة الذين هاجروا بين بدر والحديبية، العاشرة أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا بالحديبية تحت الشجرة، الحادية عشرة الذين هاجروا بعد الحديبية وقبل الفتح، الثانية عشرة الذين أسلموا يوم الفتح، الثالثة عشرة صبيان أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه، ومن الصحابة أهل الصفة وكانوا أناساً فقراء لا منازل لهم ولا عشائر، ينامون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ويظلون فيه، وكان صفة المسجد مثواهم فنسبوا إِليها، وكان إِذا تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو منهم طائفة يتعشون معه، ويفرق منهم طائفة على الصحابة ليعشوهم، وكان من مشاهيرهم أبو هريرة وواثلة بن الأسقع وأبو ذر رضي الله عنهم. خبر الأسود العنسي وفي مدة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل الأسود العنسي، واسمه عيهلة بن كعب، ويقال له ذو الخمار، لأنه كان يقول يأتيني ذو خمار، وكان الأسود المذكور يشعبذُ ويُري الجهال الأعاجيب، ويسبي بمنطقه قلب من يسمعه، وهو ممن ارتد وتنبأ من الكذابين، وكاتبه أهل نجران، وكان هناك من المسلمين عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص، فأخرجهما أهل نجران وسلموهما إِلى الأسود، ثم سار الأسود من نجران إِلى صنعاء فملكها، وصفي له ملك اليمن واستفحل أمره وكان خليفته في مذحج عمرو بن معدي كرب، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بعث رسولاً إلى الأبناء وأمرهم أن يخاذلوا الأسود إما غيلة وإما مصادمة، وأن يستنجدوا رجالاً من حمير وهمذان، وكان الأسود قد تغير على قيس بن عبد يغوث، فاجتمع به جماعة ممن كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحدثوا معه في قتل الأسود فوافقهم، واجتمعوا بامرأة الأسود، وكان الأسود قد قتل أباها فقالت: والله إِنه لأبغض الناس إليّ، ولكن الحرس محيطون بقصره، فانقبوا عليه البيت، فواعدوها على ذلك ونقبوا عليه البيت، ودخل عليه شخص اسمه فيروز، فقتل الأسود وأحز رأسه فخار خوار الثور، فابتدر الحرس الباب، فقالت زوجته: هذا النبي يوحى إِليه، فلما طلع الفجر، أمروا المؤذن فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، وأن عيهلة كذاب، وكتب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فورد الخبر من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلم أصحابه بقتل الأسود المذكور، ووصل الكتاب بقتل الأسود في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فكان كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيها الناس إِني قد رأيت ليلة القدر، ثم انتزعت مني، ورأيت في يدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمامة وصاحب صنعاء، ولن تقوم الساعة

وفاة أبي بكر رضي الله عنه

ذلك. قال خالد: أوما تراه لك صاحبا؟ والله لقد هممت أن أضرب عنقك، ثم تجاولا في الكلام فقال له خالد: إِني قاتلك. فقال له: أو بذلك أمرك صاحبك؟ قال: وهذه بعد تلك، وكان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري حاضرين، فكلما خالداً في أمره، فكره كلامهما. فقال مالك: يا خالد، ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا. فقال خالد: لا أقالني الله إِنْ أقلتك، وتقدم إِلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه، فالتفت مالك إِلى زوجته وقال لخالد: هذه التي قتلتني، وكانت في غاية الجمال، فقال خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام. فقال مالك: أنا على الإسلام، فقال خالد: يا ضرار اضرب عنقه. فضرب عنقه وجعل رأسه اثفية القدر، وكان من أكثر الناس شعراً، وقبض خالد امرأته؛ قيل: إِنه اشتراها من الفيء وتزوج بها، وقيل إِنها اعتدت بثلاث حيض وتزوج بها، وقال لابن عمر ولأبي قتادة: احضرا النكاح فأبيا، وقال له ابن عمر: نكتب إِلى أبي بكر ونعلمه بأمرها وتتزوج بها، فأبى وتزوجها. وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي: ألا قل لحي أوطؤا بالسنابك ... تطاول هذا الليل من بعد مالك قضى خالد بغياً عليه بعرسه ... وكان له فيها هوى قبل ذلك فأمضى هواه خالد غير عاطف ... عنان الهوى عنها ولا متمالك فأصبح ذا أهل وأصبح مالك ... إِلى غير أهل هالكاً في الهوالك ولما بلغ ذلك أبا بكر وعمر، قال عمر لأبي بكر: إِن خالداً قد زنى فارجمه، قال: ما كنت أرجمه؛ فإِنه تأول فأخطأ. قال: فإِنه قد قتل مسلماً فاقتله، قال: ما كنت أقتله فإِنه تأول فأخطأ. قال فاعزله، قال ما كنت أغمد سيفاً سله الله عليهم. ولما بلغ متمم بن نويرة أخا مالك المذكور مقتل أخيه، بكاه وندبه بالأشعار الكثيرة، فمن ذلك قصيدة متمم العينية المشهورة التي منها: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول ... اجتماع لم نبت ليلة معا وفي أيام أبي بكر فتحت الحيرة بالأمان على الجزية. ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وسنة ثلاثة عشرة فيها كانت وقعة اليرموك، وهي الوقعة العظيمة التي كانت سبب فتوح الشام، وكانت سنة ثلاث عشرة للهجرة، وكان هرقل إذ ذاك بحمص فلما بلغه هزيمة الروم باليرموك رحل عن حمص؛ وجعلها بينه وبين المسلمين، ولما فرغ خالد بن الوليد وأبو عبيدة من رقعة اليرموك قصدا بصرى، فجمع صاحب بصرى الجموع للملتقى، ثم إِن الروم طلبوا الصلح؛ فصولحوا على كل رأس دينار وجريب حنطة. وفاة أبي بكر رضي الله عنه وقد اختلف في سبب موته، فقيل إِن اليهود سمته في أرز، وقيل في حسوٍ فأكل هو والحارث

خلافة عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى رضي الله عنه

بن كلدة فقال الحارث: أكلنا طعاماً مسموماً سُم سنة، فماتا بعد سنة، وعن عائشة رضي الله عنها، أنه اغتسل وكان يوماً بارداً، فحم خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة، وأمر عمر أن يصلي بالناس، وعهد بالخلافة إِلى عمر، ثم توفي في مساء ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان بقين من جمادى الآخر، سنة ثلاث عشرة، فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وعمره ثلاث وستون سنة، وغسلته زوجته أسماء بنت عميس، وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه عمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبر والمنبر، وأوصى أن يدفن إِلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفر له وجعل رأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حسن القامة؛ خفيف العارضين؛ معروق الوجه؛ غائر العينين؛ ناتئ الجبهة؛ أحنى؛ عاري الأشاجع؛ يخضب بالحناء والكتيم. خلافة عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى رضي الله عنه بويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأول خطبة خطبها قال: يا أيها الناس، والله ما فيكم أحداً أقوى عندي من الضعيف بم حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه. ثم أول شيء أمر به أن عزل خالد بن الوليد عن الإِمرة، وولى أبا عبيدة على الجيش والشام، وأرسل بذلك إِليهما، وهو أول من سميَّ بأمير المؤمنين. وكان أبو بكر يخاطب بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم سار أبو عبيدة ونازل دمشق، وكانت منزلته من جهة باب الجابية، ونزل خالد من جهة باب توما وباب شرقي، ونزل عمرو بن العاص بناحية أخرى، وحاصروهما قريباً من سبعين ليلة، وفتح خالد ما يليه بالسيف، فخرج أهل دمشق وبذلوا الصلح لأبي عبيدة من الجانب الآخرة وفتحوا له الباب، فأمنهم ودخل والتقى مع خالد في وسط البلد، وبعث أبو عبيدة بالفتح إِلى عمر، وفي أيامه فتح العراق. ثم دخلت سنة أربع عشرة، فيها في المحرم أمر عمر ببناء البصرة، فاختطت، وقيل في سنة خمس عشرة، وفيها توفي أبو قحافة أبو أبي بكر الصديق وعمره سبع وتسعون سنة، وكانت وفاته بعد وفاة ابنه أبي بكر. ثم دخلت سنة خمس عشرة فيها فتحت حمص بعد دمشق؛ بعد حصار طويل، حتى طلب الروم الصلح، فصالحهم أبو عبيدة على ما صالح أهل دمشق، ثم سار إِلى حماة، قال القاضي جمال الدين ابن واصل رحمه الله تعالى في التاريخ الذي نقلنا هذا منه: إِن حماة كانت في زمن داود وسليمان عليهما السلام مدينة عظيمة، قال: وقد وجدت ذكرها في أخبار داود وسليمان في كتاب أسفار الملوك الذي بأيدي اليهود، وكذلك كانت في زمن اليونان، إِلا أنها في زمن الفتوح وقبله كانت صغيرة هي وشيرز، وكانا من عمل حمص، وكانت حِمص كرسي مملكة هذه البلاد، وقد ذكرهما امرؤ القيس في قصيدته التي أولها: سما لك شوق بعدما كان اقصرا ويقول من جملتها:

عمر وقال: افتد نفسك وإلا أمرته أن يلطمك، فقال جبلة: كيف ذلك وأنا ملك وهو سوقة، فقال عمر: إِن الإسلام جمعكما وسوى بين الملك والسوقة في الحد. فقال جبلة: كنت أظن أني بالإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال عمر: دع عنك هذا. فقال جبلة أتنصر. فقال عمر: إِن تنصرت ضربت عنقك. فقال أنظرني ليلتي هذه، فأنظره، فلما جاء الليل سار جبلة بخيله ورجاله إِلى الشام، ثم صار إِلى القسطنطينية، وتبعه خمس مائة رجل من قومه، فتنصروا عن آخرهم، وفرح هرقل بهم وأكرمه، ثم ندم جبلة على فعله ذلك وقال: تنصرت الأشراف مِنْ عار لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنفنيَ فيها لجاج ونخوة ... وبعت لها العينَ الصحيحة بالعورْ فيا ليتَ أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إِلى القولِ الذي قاله عمرْ وكان قد مضى رسول عمر إلى هرقل، وشاهد ما هو فيه جبلة من النعمة، فأرسل جبلة خمس مائة دينار لحسان ابن ثابت، وأوصلها عمر إليه، ومدحه حسان ابن ثابت بأبيات منها: إِن ابن جفنة من بقية معشرِ ... لم يعرُّهم أباؤهم باللوم لم ينسني بالشام إذ هَو ربها ... كلا ولا متنصراً بالروم يعطي الجزيل ولا يراه عنده ... إِلا كبعض عطية المذموم ثم دخلت سنة سبع عشرة فيها اختطت الكوفة، وتحوّل سعد إليها، وفي هذه السنة اعتمر عمر وأقام بمكة عشرين ليلة، ووسع في المسجد الحرام، وهدم منازل قوم أبوا أن يبيعوها، وجعل أثمانها في بيت المال، وتوج أم كلثوم بنت علي ابن أبي طالب، وأمها فاطمة رضي الله عنهما. وفي هذه السنة كانت واقعة المغيرة بن شعبة، وهي أن المغيرة كان عمر قد ولاه البصرة، وكان في قبالة العليّة التي فيها المغيرة بن شعبة، علية فيها أربعة وهم: أبو بكرة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوه لأمه زياد بن أبيه، ونافع بن كلدة، وشبل بن معبد، فرفعت الريح الكوة عن العلية، فنظروا إِلى المغيرة وهو على أم جميل بنت الأرقم بن عامر بن صعصعة، وكانت تغشى المغيرة، فكتبوا إلى عمر بذلك، فعزل المغيرة واستقدمه مع الشهود، وولى البصرة أبا موسى الأشعري، فلما قدم إِلى عمر، شهد أبو بكرة ونافع وشبل على المغيرة بالزنا، وأما زياد بن أبيه فلم يفصح شهادة الزنا، وكان عمر قد قال، قبل أن يشهد: أرى رجلاً أرجو أن لا يفضح الله به رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال زياد: رأيته جالساً بين رجلي امرأة ورأيت رِجلين مرفوعتين كأذني حمار، ونفساً يعلو وإستاً تنبو عن ذكر، ولا أعرف ما وراء ذلك. فقال عمر هل رأيت الميل في المكحلة؟ قال: لا. فقال: هل تعرف المرأة؟ قال: لا. ولكن أشبهها. فأمر عمر بالثلاثة الذين شهدوا بالزنا أن يحدوا حد القذف، فجلدوا، وكان زياد أخا أبي بكرة لأمه،

فلم يكلمه أبو بكرة بعدها. وفيها فتح المسلمون الأهواز، وكان قد استولى عليها الهرمزان، وكان من عظماء الفرس، ثم فتحوا رام هرمز، وتستر وتحصن الهرمزان في القلعة، وحاصروه، فطلب الصلح على حكم عمر، فأنزل على ذلك، وأرسلوا به إِلى عمر ومعه وفد، منهم أنس بن مالك، والأحنف بن قيس، فلما وصلوا به إِلى المدينة، ألبسوه كسوته من الديباج المذهب، ووضعوا على رأسه تاجه وهو مكلل بالياقوت، ليراه عمر والمسلمون، فطلبوا عمر فلم يجدوه، فسألوا عنه، فقيل جالس في المسجد، فأتوه وهو نائم فجلسوا دونه، فقال الهرمزان: أين هو عمر: قالوا: هوذا. قال: فأين حرسه وحجابه، قالوا ليس له حارس ولا حاجب، واستيقظ عمر على جلبة الناس، فنظر إِلى الهرمزان وقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشباهه وأمر بنزع ما عليه، فنزعوه وألبسوه ثوباً ضيقاً، فقال له عمر: كيف رأيت عاقبة الغدر، وعاقبة أمر الله، فقال الهرمزان: نحن وإياكم في الجاهلية لما خلى الله بيننا وبينكم غلبناكم، ولما كان الله الآن معكم غلبتمونا. ودار بينهما الكلام، وطلب الهرمزان ماء فأتي به، فقال: أخاف أن تقتلني ولنا أشرب، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشرب، فرمى بالإناء فانكسر، فقصد عمر قتله، فقالت الصحابة: إِنك أمنته بقولك لا بأس عليك إِلى أن تشرب، ولم يشرب ذلك الماء، وآخر الأمر أنّ الهرمزان أسلم وفرض له عمر ألفين. ثم دخلت سنة ثماني عشرة فيها حصل في المدينة والحجاز قحط عظيم، فكتب عمر إِلى سائر الأمصار يستعينهم، فكان ممن قدم عليه، أبو عبيدة من الشام، بأربعة آلاف راحلة من الزاد، وقسم عمر ذلك على المسلمين، حتى رخص الطعام بالمدينة، ولما اشتد القحط، خرج عمر ومعه العباس وجمع الناس واستسقى مستشفعاً بالعباس، فما رجع الناس حتى تداركت السحب وأمطروا، وأقبل الناس يتمسحون بأذيال العباس رضي الله عنه. وفي هذه السنة أعني سنة ثمان عشرة، كان طاعون عم الناس بالشام، مات به أبو عبيدة بن الجراح، واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، واستخلف أبو عبيدة على الناس معاذ بن جبل الأنصاري، فمات أيضاً بالطاعون، واستخلف عمرو بن العاص، ومات من الناس في هذا الطاعون خمسة وعشرون ألف نفس، فطال مكثه شهراً، وطمع العدو في المسلمين، وأصاب بالبصرة مثله. وفي هذه السنة سار عمر إِلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا ثم رجع إِلى المدينة في ذي القعدة. ثم دخلت سنة تسع عشرة وسنة عشرين فيها فتحت مصر والإسكندرية على يد عمرو بن العاص والزبير بن العوام، فنازلا عين شمس، وهي بقرب المطرية، وكان لها جمعهم، ففتحاها، وبعث عمرو بن العاص أبرهة بن الصباح إلى الفرماء، وضرب عمرو فسطاطه موضع جامع عمرو بمصر الآن واختطت مصر، وبني موضع الفسطاط الجامع المعروف

مقتل عمر رضي الله عنه

بجامع عمرو بن العاص. ثم توجه إِلى الإِسكندرية ففتحها عنوة بعد قتال كثير، وفيها أعني سنة عشرين توفي بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مولى أبي بكر الصديق، واسم أمه حمامة، وهو من مولدي الحبشة، أسلم بعد إِسلام أبي بكر الصديق، ولم يؤذن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب من أبي بكر أن يرسله إِلى الجهاد، فسأله أبو بكر أن يقيم معه فأقام معه حتى تولى عمر، فسأله عمر ذلك، فأبى بلال وسار إِلى دمشق وأقام بها حتى مات ودفن عند الباب الصغير. ثم دخلت سنة إِحدى وعشرين فيها كانت وقعة نهاوند مع الأعاجم وكان قد اجتمعوا في مائة وخمسين ألفاً ومقدمهم الفيرزان، فجرى بينهم وبين المسلمين حروب كثيرة آخرها أن المسلمين هزموا الأعاجم وأفنوهم قتلاً، وهرب الفيرزان مقدم جيش الأعاجم، فلما وصل إِلى ثنية همذان، وجد بغالاً محملة عسلاً، فلم يقدر على المضي، فنزل عن فرسه وهرب في الجبل، فتبعه القعقاع راجلاً وقتله فقال المسلمون إِن لله جنداً من عسل. وفي هذه السنة فتحت الدينور والصيميرة وهمذان وأصفهان. وفي هذه السنة توفي خالد بن الوليد، واختلف في موضع قبره، فقيل بحمص، وقيل بالمدينة. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين فيها فتحت أذربيجان والري وجرجان فزوين وزنجان وطبرستان. وفيها سار عمرو بن العاص إِلى برقة، فصالحه أهلها على الجزية، ثم سار إِلى طرابلس الغرب، فحاصرها وفتحها عنوة. وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس خراسان، وحارب يزد جرد وافتتح هراة عنوة، ثم سار إِلى مرو روز، وكتب يزد جرد إِلى ملك الترك يستمده، وإلى ملك الصغد وإلى ملك الصين يستمدهما، وانهزم يزد جرد إلى بلخ ثم سار إِليه المسلمون فهزموه، وعبر يزد جرد نهر جيحون، ثم إِن يزد جرد اختلف هو وعسكره، فإِنه أشار بالمقام مع الترك، وأشار عسكره بمصالحة المسلمين والدخول في حكمهم، فأبى يزد جرد ذلك، فطرده عسكره، وأخذوا خزانته، وسار يزد جرد مع الترك في حاشيته، وأقام بفرغانة زمن عمر كله، وبقي عسكره في أماكنهم وصالحوا المسلمين. وفيها توفي أبي بن كعب بن قيس، وهو من ولد مالك بن النجار، وكان يكنى أبا المنذر، أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمر الله تعالى رسوله عليه السلام أن يقرأ القرآن على أبي بن كعب المذكور، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرأ أمتي أُبي بعدي، وقيل مات في سنة ثلاثين في خلافة عثمان، ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين. مقتل عمر رضي الله عنه وفي هذه السنة طعن أبو لؤلؤة واسمه فيروز عبد المغيرة بن شعبة عمرَ بن الخطاب وهو في الصلاة، بخنجر في خاصرته، وتحت سرته، وذلك لست بقين من ذي الحجة من

رضي الله عنه

السنة المذكورة، وتوفي يوم السبت سلخ ذي الحجة، ودفن يوم الأحد هلال المحرم سنة أربع وعشرين، وكانت مدة خلافته عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام، ودفن عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وعهد بالخلافة إِلى النفر الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وهم علي وعثمان وطلحة والزبير وسعد رضي الله عنهم، بعد أن عرضها على عبد الرحمن بن عوف فأبى. وكان عمر رضي الله عنه طويل القامة أبيض أصلع أشيب، وكان عمره خمساً وخمسين سنة، وقيل ستين، وقيل ثلاثاً وستين، وكان له من الفضل والزهد والعدل والشفقة على المسلمين القدر الوافر، فمن ذلك أنه جاء إِلى عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي في بيته ليلاً؛ فقال عبد الرحمن: ما جاء بك يا أمير المؤمنين في هذه الساعة؟ فقال: إِن رفقة نزلوا في ناحية السوق، خشيت عليهم سراق المدينة، فانطلق لنحرسهم، فأتيا السوق، وقعدا على نشز من الأرض يتحدثان ويحرسانهم. وعمر أول من سمي بأمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ، وأرّخ من السنة التي هاجر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من عس بالليل، وأول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وأول من جمع الناس في صلاة الجنازة على أربع تكبيرات، وكانوا قبل ذلك يكبرون أربعاً وخمساً وستاً، وأول من جمع الناس على إمام يصلي بهم التراويح في رمضان، وكتب بذلك إلى سائر البلدان وأمرهم به، وأول من حمل الدرة وضرب بها، ودون الدواوين. وخطب مرة الناس وعليه إِزار فيه اثنتا عشرة رقعة، وكان مرة في بعض حجته فلما مر بضحيان قال لا إِله إِلا الله، المعطي ما شاء من شاء، كنت أرعى إبل الخطاب في هذا الوادي في مدرعة صوف، وكان فظاً يرعبني إِذا عملت؛ ويضربني إذا قصرت، وقد أصبحت وليس بيني وبين الله أحد. وفضائله رضي الله عنه أكثر من أن تحصى. ثم دخلت سنة أربع وعشرين فيها عَقِبَ موت عمر، اجتمع أهل الشورى، وهم علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وكان قد شرط عمر أن يكون ابنه عبد الله شريكاً في الرأي، ولا يكون له حظ في الخلافة، وطال الأمر بينهم، وكان قد جعل لهم عمر مدة ثلاثة أيام، وقال لا يمضي اليوم الرابع إِلا ولكم أمير، وإن اختلفتم فكونوا مع الذي معه عبد الرحمن. فمضى علي إِلى العباس رضي الله عنهما؛ وقال له: عدل عنا لأن سعداً لا يخالف عبد الرحمن، لأنه ابن عمه، وعبد الرحمن صهر عثمان، فلا يختلفون فيوليها أحدهم الآخر. فقال العباس: لم أدفعك عن شيء إِلا رجعت إِلى مستأخر، أشرت عليك قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسأله فيمن يجعل هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل

خلافة عثمان

فيهم فأبيت، وهذا الرهط لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر؛ حتى يقوم له غيرنا، وأيم الله لا يناله إِلا بشر لا ينفع معه خير. ثم جمع عبد الرحمن الناس بعد أن أخرج نفسه عن الخلافة، فدعا علياً فقال: عليك عهد الله وميثاقه، لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده فقال: أرجو أن أفعل وأعمل مبلغ علمي وطاقتي، ودعا بعثمان وقال له مثل ما قال لعلي، فرفع عبد الرحمن رأسه إِلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال: اسمع وأشهد، اللهم إِني جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان وبايعه، فقال علي ليس هذا أول يوم تظاهرتم علينا فيه، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إِلا ليرد الأمر إِليك، والله كل يوم هو في شأن. فقال عبد الرحمن: يا علي، لا تجعل على نفسك حجةً وسبيلاً، فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد بن الأسود لعبد الرحمن: والله لقد تركته، يعني علياً، وإنه من الذين يقضون بالحق، وبه يعدلون. فقال: يا مقداد لقد اجتهدت للمسلمين، فقال المقداد: إني لأعجب من قريش، إِنهم تركوا رجلاً ما أقول ولا أعلم أن رجلا أقضى بالحق، ولا أعلم منه، فقال عبد الرحمن: يا مقداد، اتق الله، فإني أخاف عليك الفتنة، ثم لما أحدث عثمان رضي الله ما أحدث من توليته الأمصار للأحداث من أقاربه، روي أنه قيل لعبد الرحمن بن عوف: هذا كله فعلك. فقال: لم أظن هذا به؛ لكن لله علي أن لا أكلمه أبداً، ومات عبد الرحمن وهو مهاجر لعثمان رضي الله عنهما، ودخل عليه عثمان عائداً في مرضه فتحول إِلى الحائط ولم يكلمه. خلافة عثمان رضي الله عنه وبويع عثمان رضي الله عنه لثلاث مضين من المحرم، من هذه السنة، أعني سنة أربع وعشرين، وهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة. ولما بويع رقي المنبر وقام خطيباً فحمد الله وتشهد ثم أرتج عليه فقال: إِن أول كل أمر صعب، وإن أعش فسآتيكم الخطب على وجهها، ثم نزل وأقر عثمان ولاة عمر سنة، لأنه كان أوصى بذلك، ثم عزل المغير بن شعبة عن الكوفة، وولاها سعد بن أبي وقاص، ثم عزله وولى الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان أخا عثمان من أمه. ثم دخلت سنة خمس وعشرين فيها توفي أبو ذر الغفاري واسمه جندب بن جنادة، وكان بالشام ينكر على معاوية جمع المال، ويتلو " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله " " التوبة: 34، " الآية، فكتب معاوية إِلى عثمان يشكوه، فكتب إِليه عثمان أن أقدم المدينة، فقدم إِلى المدينة، واجتمع الناس عليه، فصار يذكر ذلك ويكثر الشناعة على من كنز الذهب والفضة، فنفاه عثمان إِلى الربدة وقيل كانت وفاته

بالربدة سنة إِحدى وثلاثين. ثم دخلت سنة ست وعشرين فيها عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، وكان أخا عثمان من الرضاعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دم عبد الله بن سعد المذكور يوم الفتح، وشفع فيه عثمان، حتى أطلقه رسول اللَه صلى الله عليه وسلم. وفي أيام عثمان فتحت إِفريقية، وكان المتولي لذلك عبد الله بن سعد بن أبي سرح المذكور، وبعث بالخمس إِلى عثمان، فاشتراه مروان بن الحكم بخمس مائة ألف دينار، فوضعها عنه عثمان، وهذا من الأمور التي أنكرت عليه، ولما فتحت إِفريقية، أمر عثمان عبد الله نافع بن الحصين أن يسير إِلى جهة الأندلس، فغزى تلك الجهة، وعاد عبد الله بن نافع إِلى إِفريقية، فأقام بها من جهة عثمان، ورجع عبد الله ابن سعد إِلى مصر. ثم دخلت سنة سبع وعشرين وسنة ثمان وعشرين فيها استأذن معاوية عثمان في غزو البحر، فأذن له، فسير معاوية إِلى قبرس جيشاً وسار إِليها أيضاً عبد الله ابن سعد من مصر، فاجتمعوا عليها وقاتلوا أهلها، ثم صولحوا على جزية سبعة آلاف دينار في كل سنة، وكان هذا الصلح بعد قتل وسبي كثير من أهل قبرس. ثم دخلت سنة تسع وعشرين فيها عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة، وولاها ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز، ثم عزل الوليد بن عقبة من الكوفة، بسبب أنه شرب الخمر وصلى بالمسلمين الفجر أربع ركعات وهو سكران، ثم التفت إِلى الناس وقال: هل أزيدكم؟ فقال ابن مسعود: مازلنا معك في زيادة منذ اليوم، وفي ذلك يقول الحطيئة: شهدا الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر نادى وقد فرغت صلاتهم ... أأزيدكم سكراً وما يدري فأبوا أبا وهب ولو أذنوا ... لقرنت بين الشفع والوتر ثم دخلت سنة ثلاثين فيها بلغ عثمان ما وقع في أمر القرآن من أهل العراق، فإنهم يقولون: قرآننا أصح من قرآن أهل الشام، لأننا قرأنا على أبي موسى الأشعري، وأهل الشام: يقولون قرآننا أصح لأنّا قرأنا على المقداد بن الأسود، وكذلك غيرهم من الأمصار فأجمع رأيه ورأي الصحابة، على أن يحمل الناس على المصحف الذي كتب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وكان مودعاً عند حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وتحرق ما سواه من المصاحف التي بأيدي الناس، ففعل ذلك ونسخ من ذلك المصحف مصاحف، وحمل كلاً منها إِلى مصر من الأمصار، وكان الذي تولى نسخ المصاحف العثمانية بأمر عثمان، زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. وقال عثمان: إِن اختلفتم في كلمة فاكتبوها بلسان قريش، فإِنما نزل القرآن

مهلك يزد جرد بن شهريار بن برويز

بلسانهم. وفي هذه السنة سقط من يد عثمان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من فضة فيه ثلاثة أسطر، محمد رسول الله، كان النبي يتختم به، ويختم به الكتب التي كان يرسلها إِلى الملوك. ثم ختم به بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، إِلى أن سقط في بئر أريس ثم دخلت سنة إِحدى وثلاثين. مهلك يزد جرد بن شهريار بن برويز وهو آخر ملوك الفرس، في هذه السنة هلك يزد جرد، وقد اختلف في ذلك، فقيل إنه نزل بمرو، فثار عليه أهلها وقتلوه، وقيل بغته الترك وقتلوا أصحابه، فهرب يزد جرد إلى بيت رجل ينقر الأرحا فقتله ذلك الرجل، واتبع الفرس أثر يزد جرد إِلى بيت النقار، وعذبوا النقار فأقر بقتله فقتلوه. وفيها عصت خراسان، واجتمع أهلها في خلق عظيم، وسار إِليهم المسلمون، وذلك في أيام عثمان ففتحوها فتحاً ثانياً. وفي هذه السنة مات أبو سفيان بن حرب بن أمية أبو معاوية. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين فيها توفي عبد الله بن مسعود ابن غافل بن حبيب بن شمخ من ولد مدركة بن إِلياس بن مضر، وفي مدركة يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في بعض الروايات أن عبد الله بن مسعود المذكور، أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، والذي روى أنه من العشرة، أسقط أبا عبيدة بن الجراح، وجعل عبد الله المذكور بدله، وكان جليل القدر، عظيماً في الصحابة، وهو أحد القراء رحمه الله تعالى ورضي عنه. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين فيها تكلم جماعة من الكوفة في حق عثمان، بأنه ولى جماعة من أهل بيته، لا يصلحون للولاية، فكتب سعيد بن العاص والي الكوفة من قبل عثمان إِليه بذلك، فأمره عثمان بأن يسير الذين تكلموا بذلك إِلى معاوية بالشام، فأرسلهم وفيهم الحارث بن مالك المعروف بالأشتر النخعي، وثابت ابن قيس النخعي، وجميل بن زياد، وزيد بن صوحان العبدي، وأخوه صعصعة، وجندب بن زهير، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق، فقدموا على معاوية وجرى بينهم كلام كثير، وحذرهم الفتنة، فوثبوا وأخذوا بلحية معاوية ورأسه، فكتب بذلك إِلى عثمان، فكتب إِليه عثمان أن يردهم إِلى سعيد بن العاص، فردهم إِلى سعيد، فأطلقوا ألسنتهم في عثمان، واجتمع أهل الكوفة. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين فيها قدم سعيد إِلى عثمان، وأخبره بما فعله أهل الكوفة، وأنهم يختارون أبا موسى الأشعري فولى عثمان أبا موسى الكوفة، فخطبهم أبو موسى وأمرهم بطاعة عثمان، فأجابوا إِلى ذلك، وتكاتب نفر من الصحابة بعضهم إِلى بعض، أن أقدموا فالجهاد عندنا، ونال الناس من عثمان، وليس أحد من الصحابة ينهي عن ذلك، ولا يذب إِلا نفر، منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن

رضي الله عنه

مالك، وحسان بن ثابت، ومما نقم الناس عليه رده الحكم بن العاص، طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريد أبي بكر وعمر أيضاً، وإعطاء مروان بن الحكم خمس غنائم إِفريقية، وهو خمس مائة ألف دينار، وفي ذلك يقول عبد الرحمن الكندي: سأحلف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله أمراً سدا ولكن خلقت لنا فتنة ... لكي نبتلى بك أو تبتلى فإِن الأمينين قد بنيا ... منار الطريق عليه الهدى فما أَخذا درهمًا غيلة ... وما جعلا درهماً في الهوى دعوت اللعين فأدنيته ... خلافاً لسنة من قد مضى وأعطيت مروان خمس العباد ... ظلماً لهم وحميت الحمى وأقطع مروان بن الحكم فدك، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي طلبتها فاطمة ميراثاً، فروى أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة "، ولم تزل فدك في يد مروان وبنيه، إِلى أن تولى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله، وردها صدقة. وفي هذه السنة توفي المقداد بن الأسود، وهو المقداد بن عمرو بن ثعلبة، ونسب إِلى الأسود بن عبد يغوث، لأنه كان قد حالف الأسود المذكور في الجاهلية، فتبناهُ، فعرف بالمقداد بن الأسود، فلما نزل قوله تعالى " أدعوهم لآبائهم " " الأحزاب: هـ " الآية، قيل له المقداد بن عمرو، ولم يكن في يوم بدر من المسلمين صاحب فرس غير المقداد، في قول، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، وكان عمره نحو سبعين سنة. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين فيها قدم من مصر جمع، قيل ألف، وقيل سبع مائة، وقيل خمس مائة، وكذلك قدم من الكوفة جمع، وكذلك من البصرة، وكان هوى المصريين مع علي، وهوى الكوفيين مع الزبير، وهوى البصريين مع طلحة، فدخلوا المدينة، ولما جاءت الجمعة التي تلي دخولهم المدينة، خرج عثمان فصلى بالناس، ثم قام على المنبر وقال للجموع المذكورة: يا هؤلاء، الله يعلم وأهل المدينة يعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال: أنا أشهد بذلك، فثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصب عثمان حتى خر على المنبر مغشياً عليه، فأدخل داره، وقاتل جماعة من أهل المدينة عن عثمان، منهم سعد بن أبي وقاص، والحسن بن علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة رضي الله عنهم، فأرسل إِليهم عثمان يعزم عليهم بالانْصراف فانصرفوا، وصلى عثمان بالناس بعد ما نزلت الجموع المذكورة في الّمسجد ثلاثين يوماً ثم منعوه الصلاة، فصلى بالناس أميرهم الغافقي أمير جمع مصر، ولزم أهل المدينة بيوتهم، وعثمان محصور في داره، ودام ذلك أربعين يوماً، وقيل خمسين، ثم إِن علياً اتفق مع عثمان على

أخبار علي بن أبي طالب

ما تطلبه الناس منه من عزل مروان عن كتابته، وعبد الله بن أبي سرح عن مصر، فأجاب عثمان إِلى ذلك، وفرق علي الناس عنه، ثم اجتمع عثمان بمروان فرده عن ذلك، ثم اضطره الحال حتى عزل ابن أبي سرح عن مصر، وولاها محمد بن أبي بكر الصديق، وتوجه مع محمد بن أبي بكر عدة من المهاجرين والأنصار، فبينما هم في أثناء الطريق، وإذا بعبد على هجين يجهده، فقالوا له: إِلى أين؟ قال: إِلى العامل بمصر. فقالوا: هذا عامل مصر، يعنون محمد بن أبي بكر، فقال: بل العامل الآخر، يعني ابن أبي سرح فأمسكوه وفتشوه، فوجدوا معه كتاباً مختوماً بختم عثمان يقول: إِذا جاءك محمد بن أبي بكر ومن معه، بأنك معزول فلا تقبل، واحتل بقتلهم، وأبطل كتابهم، وقر في عملك. فرجع محمد بن أبي بكر ومن معه من المهاجرين والأنصار إِلى المدينة وجمعوا الصحابة وأوقفوهم على الكتاب، وسألوا عثمان عن ذلك فاعترف بالختم وخط كاتبه، وحلف بالله أنه لم يأمر بذلك، فطلبوا منه مروان ليسلمه إِليهم بسبب ذلك فامتنع. فازداد حنق الناس على عثمان وجدوا في قتاله، فأقام علي ابنه الحسن يذب عنه، وأقام الزبير ابنه عبد الله وطلحة ابنه محمد يذبون عنه، بحيث خرج الحسن وانصبغ بالدم، وآخر الحال أنهم تسوروا على عثمان من دار لزق داره، ونزل عليه جماعة فيهم محمد بن أبي بكر فقتلوه. وكان عثمان رضي الله عنه حين قتل صائماً يتلو في المصحف، وكان مقتله لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وكانت مدة خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً. واختلف في عمره، فقيل خمس وسبعون، وقيل اثنتان وثمانون، وقيل تسعون، وقيل غير ذلك، ومكث ثلاثة أيام لم يدفن، لأن المحاربين له منعوا من ذلك، ثم أمر علي بدفنه، وكان عثمان معتدل القامة، حسن الوجه، بوجهه أثر جدري، عظيم اللحية، أسمر اللون، أصلع يصفر لحيته، وتزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسبب ذلك قيل له ذو النورين، وكان كاتبه مروان بن الحكم بن العاص ابن عمه، وقاضيه زيد بن ثابت. وأما فضائله: فإِنه الذي جهز جيش العسرة بجملة من المال، وكان قد أصاب الناس مجاعة في غزوة تبوك، فاشترى عثمان طعاماً يصلح العسكر، وجهز به عيراً. فلما وصل ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رفع يده إِلى السماء وقال: " اللهم إِني قد رضيت عن عثمان، فارضَ عنه "، وروى الشعبي أن عثمان دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة "، وانفتح بقتل عثمان باب الشر والفتن. أخبار علي بن أبي طالب رضي الله عنه واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم علي فاطمة بنت أسد بن هاشم، فهو هاشمي ابن هاشميين، بويع بالخلافة يوم قتل عثمان، وقد اختلف في كيفية بيعته، فقيل: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم طلحة

والزبير، فأتوا علياً وسألوه البيعة له، فقال: لا حاجة لي في أمركم، من اخترتم رضيت به، فقالوا: ما نختار غيرك، وترددوا إليه مراراً. وقالوا: إنا لا نعلم أحداً أحق بالأمر منك، ولا أقدمٍ منك سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أكون وزيراً خير من أنْ أكون أميراً. فأتوا عليه، فأتى المسجد، فبايعوه. وقيل: بايعوه في بيته، وأول من بايعه طلحة بن عبد الله، وكانت يد طلحة مشلولة من نوبة أحد، فقال حبيب بن ذؤيب: إِنا لله، أول من بدأ بالبيعة يد شلاء، لا يتم هذا الأمر، وبايعه الزبير، وقال علي لهما: إنْ أحببتما أنْ تبايعا لي بايعا، وإن أحببتما بايعتكما فقالا: بل نبايعك، وقيل إِنهما قالا بعد ذلك: إنما بايعنا خشية على نفوسنا، ثم هربا إِلى مكة بعد مبايعة علي بأربعة أشهر، وجاءوا بسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، فقال له علي: بايع، فقال: لا، حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس فقال خلوا سبيله. وكذلك تأخر عن البيعة عبد الله بن عمر، وبايعته الأنصار إِلا نفراً قليلاً، منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، والنعمان ابن بشير، ومحمد بن مسلمة، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة وزيد بن ثابت وكان هؤلاء قد ولاهم عثمان على الصدقات وغيرها، وكذلك لم يبايع علياً سعيد بن زيد وعبد الله بن سلام،، صهيب بن سنان، وأسامة بن زيد، قدامة بن مطعون، والمغيرة بن شعبة،، سموا هؤلاء المعتزلة، لاعتزالهم بيعة علي. وسار النعمان بن بشير إِلى الشام، ومعه ثوب عثمان الملطخ بالدم، فكان معاوية يعلق قميص عثمان على المنبر؛ ليحرض أهل الشام على قتال علي وأصحابه، وكلما رأى أهل الشام ذلك، ازدادوا غيظاً. وقد روي في بيعة علي غير ذلك، فقيل: لما قتل عثمان، بقيصص المدينة خمسة أيام، والغافقي أمير المصريين ومن معه، يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، ووجدوا طلحة في حائط له ووجدوا سعداً والزبير قد خرجا من المدينة، ووجدوا بني أمية قد هربوا، وأتى المصريون علياً فباعدهم، وكذلك أتى الكوفيون الزبير، والبصريون طلحة فباعداهم، وكانواٍ مع اجتماعهم على قتل عثمان، مختلفين فيمن يلي الخلافة، حتى غشى الناس علياً فقالوا: نبايعك، فقد ترى ما نزل بالإسلام، وما ابتلينا به، فامتنع علي، فألحوا عليه، فقال: قد أجبتكم، واعلموا أني إِنْ أجبتكم، ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني، فإِنّما أنا كأحدكم. وافترق الناس على ذلك، وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: إن دخل طلحة والزبير فقد استَقامت البيعة، فبعث البصريون إِلى الزبير حكيم بن جبلة، ومعه نفر فجاءوا بالزبير كرهاً بالسيف، فبايع، وبعثوا إِلى طلحة الأشتر ومعه نفر، فأتوا بطلحة ولم يزالوا به حتى بايع، ولما أصبحوا يوم الجمعة، اجتمع الناس في المسجد، وصعد علي المنبر واستعفى من ذلك، فلم يعفوه، فبايعه أولاً طلحة، وقال: أنا أبايع مكرهاً، وكانت يد طلحة شلاء، فقيل هذا الأمر لا يتم، كما ذكرنا، وبايعه أهل المدينة من المهاجرين والأنصار، خلا من لم يبايع ممن ذكرنا. وكان ذلك يوم الجمعة،

مسير عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة

لخمس بقين من ذي الحجة، من سنة خمس وثلاثين. ثم فارقه طلحة والزبير ولحقا بمكة، واتفقا مع عائشة رضي الله عنهم وكانت قد مضت إِلى الحج وعثمان محصور، وكانت عائشة تنكر على عثمان مع من ينكر عليه، وكانت تخرج قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعره وتقول: هذا قميصه وشعره لم يبل، وقد بلي دينه، لكنها لم تظن أن الأمر ينتهي إِلى ما انتهى إِليه. وكان ابن عباس بمكة لما قتل عثمان، ثم قدم المدينة بعد البيعة لعلي فوجد علياً مسخلياً بالمغيرة بن شعبة، قال: فسألته عما قال له، فقال علي: أشار علي بإقرار معاوية وغيره من عمال عثمان إِلى أنْ يبايعوا ويستقر الأمر، فأبيت ثم أتاني الآن وقال: الرأي ما رأيته. فقال ابن عباس: نصحك في المرة الأولى وغشك في الثانية، وإني أخشى أن ينتقض عليك الشام، مع أني لا آمن طلحة والزبير أنْ يخرجا عليك، وأنا أشير عليك أن تقر معاوية، فإِن بايع لك، فعلي أن اقتلعه لك من منزله متى شئت. فقال علي والله لا أعطيه إِلا السيف، ثم تمثل: وما ميتةٌ أن مِتُّها غير َعاجز ... بعار إذا ما غالتِ النفسُ غولُها فقلت: يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع، ولست صاحب رأي. فقال علي: إِذا عصيتك فأطعني. فقال ابن عباس: أفعل، إِن أيسر مالك عندي الطاعة، وخرج المغيرة ولحق بمكة. ثم دخلت سنة ست وثلاثين فيها أرسل علي إِلى البلاد عماله، فبعث إِلى الكوفة عمارة بن شهاب، وكان من المهاجرين، ووالى عثمان بن حنيف الأنصاري البصرة، وعبد الله بن عباس اليمن، وكان من المشهورين بالجود، وولى قيس ابن سعد بن عبادة الأنصاري مصر، وسهل بن حنيف الأنصاري الشام، فلما وصل تبوك، لقيته خيل، فقالوا من أنت: قال أمير على الشام. فقالوا إِن كان بعثك غير عثمان فارجع. قال: أو ما سمعتم بالذي كان قالوا: إلى. فرجع إِلى علي، ومضى قيس بن سعد إِلى مصر فوليها، واعتزلت عنه فرقة، كانوا عثمانية، وأبوا أن يدخلوا في طاعة علي، إِلا أن يقتل قاتل عثمان، ومضى عثمان بن حنيف إِلى البصرة فدخلها، واتبعته فرقة وخالفته فرقة، ومضى عمارة إِلى الكوفة فلقيه طلحة بن خويلد الأسدي، الذي كان ادعى النبوة في خلافة أبي بكر، فقال له: إِن هل الكوفة لا يستبدلون بأميرهم، فرجع إِلى علي وكان على الكوفة من قبل عثمان، أبو موسى الأشعري، ومضى عبد الله إِلى اليمن، وكان العامل بها من جهة عثمان، يعلى بن منبه، فوليها عبد الله وخرج يعلى، وأخذ ما كان حاصلاً من المال، ولحق بمكة وصار مع عائشة وطلحة والزبير، وسلم إِليهم المال. مسير عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة ولما بلغ عائشة قتل عثمان، أعظمت ذلك، ودعت إِلى الطلب بدمه، وساعدها على ذلك طلحة والزبير وعبد الله بن عمر، وجماعة من بني أمية، وجمعوا جمعاً عظيماً، واتفق رأيها على المضي إِلى البصرة للاستيلاء عليها، وقالوا معاوية بالشام، قد كفانا أمرها، وكان عبد

مسيرة علي إلى البصرة

الله بن عمر قد قدم من المدينة، فدعوه إِلى المسير معهم فامتنع، وساروا، وأعطى يعلى بن منبه عائشة الجمل المسمى بعسكر، اشتراه بمائة دينار، وقيل بثمانين ديناراً، فركبته، وضربوا في طريقهم مكاناً يقال له الحوأب فنبحتهم كلابه، فقالت عائشة: أي ماء هو هذا؟ فقيل: هذا ماء الحوأب، فصرخت عائشة بأعلى صوتها وقالت: إِنّا لله وإنا إِليه راجعون، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه: " ليت شعري أيتّكن ينبحها كلاب الحوأب "، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت: ردوني، أنا والله صاحبة ماء الحوأب، فأناخوا يوماً وليله، وقال لها عبد الله بن الزبير إِنه كذب، يعني ليس هذا ماء الحوأب، ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال لها: النجاء النجاء فقد أدرككم علي بن أبي طالب، فارتحلوا نحو البصرة، فاستولوا عليها بعد قتال مع عثمان بن حنيف، فقتل من أصحاب عثمان بن حنيف أربعون رجلاً، وأُمسك عثمان بن حنيف، فنتفت لحيته وحواجبه، وسجن ثم أطلقته. مسيرة علي إلى البصرة ولما بلغ علياً مسير عائشة وطلحة والزبير إِلى البصرة، سار نحوهم في أربعة آلاف من أهل المدينة، فيهم أربع مائة ممن بايع تحت الشجرة، وثمانمائة من الأنصار، ورأته مع ابنه محمد بن الحنفية، وعلى ميمنته الحسن، وعلى ميسرته الحسين، وعلى الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرجالة محمد بن أبي بكر الصديق، وعلى مقدمته عبد الله بن العباس. وكان مسيره في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، ولمّا وصل علي إِلى ذي قار، أتاه عثمان بنٍ حنيف وقال له: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية، وجئتك أمرد. فقال أصبت أجراً وخيراً، وقال علي: إِن الناس وليهم قبلي رجلان، فعملا بالكتاب والسنة، ثم وليهم ثالث، فقالوا في حقه وفعلوا، ثم بايعوني وبايعني طلحة والزبير ثم نكثا، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان، وخلافهما علي، والله إِنهما يعلمان أني لست بدون رجل ممن تقدم. وقعة الجمل واجتمع إِلى علي من أهل الكوفة جمع، واجتمع إلى عائشة وطلحة والزبير جمع، وسار بعضهم إلى بعض، فالتقوا بمكان يقال له الخريبة في النصف من جمادى الآخرة، من هذه السنة، ودعي على الزبير إِلى الاجتماع به، فاجتمع به، فذكره علي وقال: أتذكر يوماً مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غنم، فنظر إِلي فضحكت وضحك إِليّ فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زَهوَه. فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنه ليس بِمُزْه ولتقاتلنه وأنت ظالم له " فقال الزبير: اللهم نعم، ولو ذكرته ما سرت مسيري هذا. فقيل إنه اعتزل القتال، وقيل بل غيره ولده عبد الله، وقال خفت من رايات ابن أبي طالب. فقال الزبير إِني حلفت أن لا أقاتله. فقال له

ابنه: كفرْ عن يمينك، فعتق غلامه مكحولاً وقاتل، ووقع القتال وعائشة راكبة الجمل المسمى عسكر في هودج، وقد صار كالقنفذ من النشاب، وتمت الهزيمة على أصحاب عائشة وطلحة والزبير، ورمى مروان بن الحكم طلحة بسهم فقتلة، وكلاهما كانا مع عائشة، قيل إنه طلب بذلك أخذ ثأر عثمان منه، لأنه نسبه إِلى أنه أعان على قتل عثمان، وانهزم الزبير طالباً المدينة، وقطعت على خطام الجمل أيد كثيرة، وقتل أيضاً بين الفريقين خلق كثير، ولما كثر القتل على خطام الجمل، قال علي: اعقروا الجمل فضربه رجل فسقط، فبقيت عائشة في هودجها إِلى الليل، وأدخلها محمد بن أبي بكر أخوها إِلى البصرة، وأنزلها في دار عبد الله بن خلف، وطاف علي على القتلى من أصحاب الجمل وصلى عليهم ودفنهم. ولما رأى طلحة قتيلاً قال: إنا لله وإنا إِليه راجعون، والله لقد كنت أكره أن أرى قريشاً صرعى، أنت والله كما قال الشاعر: فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إِذا ما هو استغنى ويبعده الفقر وصلى عليه، ولم ينقل عنه أنه صلى على قتلى الشام بصفين، ولما انصرف الزبير من وقعة الجمل طالباً المدينة، مر بماء لبني تميم وبه الأحنف بن قيس، فقيل للأحنف وكان معتزلاً القتال: هذا الزبير قد أقبل، فقال: قد جمع بين هذين العارين، يعني العسكرين وتركهم وأقبل، وفي مجلسه عمرو بن جرموز المجاشعي، فلما سمع كلامه قام من مجلسه واتبع الزبير؛ حتى وجده بوادي السباع نائماً، فقتله؛ ثم أقبل برأسه إِلى علي بن أبي طالب. فقال علي: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بشروا قاتل الزبير بالنار ". قال عمرو بن جرموز المذكور لعنه الله: أتيت علياً برأس الزبير ... وقد كنت أحسبها زلفة فبشر بالنار قبل العيان ... فبئس البشارة والتحفه وسيان عندي قتل الزبير ... وضَرطة عير بذي الجحفة ثم أمر علي عائشة بالرجوع إِلى المدينة، وأن تقر في بيتها، فسارت مستهل رجب من هذه السنة، وشيعها الناس، وجهزها علي بما احتاجت إليه، وسير معها أولاده مسيرة يوم، وتوجهت إِلى مكة، فأقامت للحج تلك السنة، ثم رجعت إِلى المدينة. وقيل كانت عدة القتلى يوم الجمل من الفريقين، عشرة آلاف، واستعمل علي على البصرة عبد الله بن العباس، وسار على الكوفة فنزلها، وانتظم له الأمر بالعراق ومصر واليمن والحرمين وفارس وخراسان، ولم يبق خارج عنه إِلا الشام، وفيه معاوية وأهل الشام مطيعون له، فأرسل إِليه علي جريرَ بن عبد الله البجلي، ليأخذ البيعة على معاوية، ويطلب منه الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار. فسار جرير إِلى معاوية، فماطله معاوية، وكان عمرو بن العاص بفلسطين، حتى قدم عمرو إِلى معاوية، فوجد أهل الشام يحضون على الطلب بدم عثمان، فقال لهم عمرو: أنتم على الحق، واتفق عمرو ومعاوية على قتال علي، وشرط عمرو، على معاوية إِذا ظفر، أن يوليه مصر،

وقعة صفين

فأجابه إلى ذلك، وكان قيس بن سعد بن عبادة متولياً على مصر من جهة علي، على ما ذكرناه، فقد اعتزل عنه جماعة عثمانية إِلى قرية من بلد مصر يقال لها خربتا، وكان قيس المذكور من دهاة العرب، فرأى من المصلحة مداهنة المذكورين، وكف الحرب عنهم لئلا ينضموا إِلى معاوية، وكتب معاوية إِلى قيس المذكور يستميله، ويبذل له الولايات العظام، فلم يفد فيه، فزور عليه معاوية كتاباً وقرأه على الناس، يوهمهم أن قيساً معه، ولذلك لم يقاتل المعتزلين عنه بخربتا، فبلغ علياً ذلك، فعزل قيساً عن مصر؛ وولى عليها محمد بن أبي بكر، ولحق قيس بالمدينة، ثم وصل إِلى علي وحضر معه حرب صفين، وحكى لعلي ما جرى له مع معاوية، فعلم صحة ذلك، وبقي قيس المذكور مع علي ثم مع الحسن على ذلك، إِلى أن سلم الأمر إِلى معاوية، وأما محمد بن أبي بكر، فوصل إلى مصر وتولى عليها، ووصاه قيس في أنه لا يتعرض إِلى أهل خربتا، فلم يقبل محمد ذلك، وبعث إلى أهل خربتا يأمرهم بالدخول في بيعة علي، أو الخروج من أرض مصر، فأجابوه أن لا نفعل، ودعنا ننظر إلى ما يصير إِليه أمرنا، فأبى عليهم. وقعة صفين ولما قدم عمرو على معاوية كما ذكرنا واتفقا على حرب علي، قدم جرير بن عبد الله البجلي على علي، فأعلمه بذلك، فسار علي من الكوفة إِلى جهة معاوية، وقدم عليه عبد الله بن عباس ومن معه من أهل البصرة، فقال علي رضي الله عنه: لأصبحن العاص وابن العاصي ... سبعين ألفاً عاقدي النواصي مجنبين الخيل بالقلاص ... مستحقبين حلق الدلاص وحدا بعلي نابغة بني جعد الشاعر فقال: قد علم المصران والعراق ... أن علياً فحْلها العتاقُ أبيض جحجاح له رواقَ ... إِن الأولى جاروك لا أفاقوا لكم سباق ولهم سباق ... قد سلمتْ ذلكم الرفاق وسار عمر ومعاوية من دمشق بأهل الشام إِلى جهة علي، وتأنى معاوية في مسيره، حتى اجتمعت الجموع بصفين، وخرجت سنة ست وثلاثين والأمر على ذلك. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين والجيشان بصفين، ومضى المحرم ولم يكن بينهم قتال، بل مراسلات يطول ذكرها، لم ينتظم بها أمر، ولما دخل صفر وقع بينهما القتال فيه، وكانت بينهم وقعات كثيرة بصفين، قيل كانت تسعين وقعة، وكان مدة مقامهم بصفين مائة وعشرة أيام، وكانت عدة القتلى بصفين من أهل الشام خمسة وأربعين ألفاً، ومن أهل العراق خمسة وعشرين ألفاً، منهم ستة وعشرون رجلا من أهل بدر، وكان علي قد تقدم إِلى أصحابه أن لا يقاتلوهم حتى يبدؤوا بالقتال، وأن لا يقتلوا مدبراً وألا يأخذوا شيئاً من أموالهم وأن لا يكشفوا عورة. قال معاوية، أردت الانهزام بصفين،

فتذكرت قول ابن الإطنابة فثبت، وكان جاهلياً، والإطنابة مرة وهو قوله: أبت لي همتي وحياء نفسي ... وإقدامي على البطل المشيح وإعطائي على المكروه مالي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وقولي كلما جاشت وجاشت ... رويدك تحمدي أو تستريحي وقاتل عمار بن ياسر رضي الله عنه مع علي قتالاً عظيماً، وكان قد نيف عمره على تسعين سنة، وكانت الحربة في يده ترعد؛ وقال: هذه راية قاتلت بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، وهذه الرابعة، ودعى بقدح من لبن فشرب منه ثم قال: صدق الله ورسوله: اليوم ألقى الأحبة ... محمداً وحزبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن آخر رزقي من الدنيا ضيحة لبن "، والضيحُ: اللبن الرقيق الممزوج. وروي أنه كان يرتجز: نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله ولم يزل عمار المذكور يقاتل حتى استشهد رضي الله عنه، وفي الصحيح المتفق عليه، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: " يقتل عمار الفئة الباغية، قيل: إِن الذي قتله، أبو عادية برمح، فسقط عمار، فجاء آخر فاحتز رأسه "، وأقبلا يختصمان إِلى عمرو ومعاوية، كل منهما يقول: أنا قتلته. فقال عمرو: إِنكما في النار، فلما انصرفا قال معاوية لعمرو: ما رأيت مثل ما رأيت اليوم، صرفت قوماً بذلوا أنفسهم دوننا. فقال عمرو: هو والله ذلك، والله إِنك لتعلمه، ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة. وبعد قتل عمار رضي الله عنه انتدب علي اثني عشر ألفاً، وحمل بهم على عسكر معاوية، فلم يبق لأهل الشام صف إِلا انتقض وعلي يقول: أقتلهم ولا أرى معاويه ... الجاحظ العين العظيم الخاويه ثم نادى: يا معاوية، علام تقتل الناس ما بيننا، هلم أحاكمك إِلى الله، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال عمرو: أنصفك ابن عمك، فقال معاوية: ما أنصف، إِنك تعلم أنه لم يبرز إِليه أحد إِلا قتله. فقال عمرو وما يحسن بك ترك مبارزته. فقال معاوية: طمعتَ في الأمر بعدي. ثم تقاتلوا ليلة الهرير، شبهت بليلة القادسية، وكانت ليلة الجمعة، واستمر القتال إِلى الصبح، وقد روى أن علياً كبر تلك الليلة أربعمائة تكبيرة، وكانت عادته أنه كلما قتل قتيلاً كبر، ودام القتال إِلى ضحى يوم الجمعة. وقاتل الأشتر قتالاً عظيماً، حتى انتهى إِلى معسكرهم، وأمده علي بالرجال، ولما رأى عمرو ذلك، قال لمعاوية: هلم نرفع المصاحف على الرماح، ونقول هذا كتاب الله بيننا وبينكم، ففعلوا ذلك، ولما رأى، أهل العراق ذلك قالوا لعلي: لا نجيب إِلى كتاب الله؟ فقال علي: امضوا على حقكم وصدقكم في قتال عدوكم، فإِن عمراً ومعاوية وابن أبي معيط وابن أبي سرح والضحاك بن قيس، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنا أعرف بهم منكم، ويحكم، والله ما رفعوها إِلا خديعة ومكيدة. فقالوا: لا تمنعنا أن ندعي إِلى كتاب الله، فنأبى. فقال علي: إِني إِنما

قاتلتهم ليدينوا بحكم كتاب الله، فإِنهم قد عصوا الله فيما أمرهم. فقال له مسعود بن فدك التميمي، وزيد بن حصين الطائي في عصابة من الذين صاروا خوارج: يا علي أجب إِلى كتاب الله إِذا دعيتُ إِليه، وإلا دفعناك برمتك إِلى القرم، نفعل بك ما فعلنا بابن عفان. فقال علي: إِن تطيعوني فقاتلوا، وإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم. قالوا فابعث إِلى الأشتر فليأتك، فبعث إِليه يدعوه، فقال الأشتر: ليس هذه الساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، فرجع الرسول وأخبره بالخبر، وارتفعت الأصوات وكثر الرهج من جهة الأشتر، فقالوا لعلي: ما نراك أمرته إِلا بالقتال؟ فقال: هل رأيتموني ساررت الرسول إِليه، أليس كلمته وأنتم تسمعون؟ فقالوا: فابعث إِليه ليأتك وإلا اعتزلناك فرجع الرسول إِلى الأشتر وأعلمه. فقال: قد علمت والله أن رفع المصاحف يوقع اختلافاً، وإنها مشورة ابن العاهر فرجع الأشتر إِلى علي وقال: خدعتم فانخدعتم، وكان غالب تلك العصابة الذين نهوا عن القتال قراء، ولما كفوا عن القتال سألوا معاوية: لأي شيء رفعت المصاحف؟ فقال: تنصبوا حكماً منكم وحكماً منا، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، ثم نتبع ما اتفقا عليه، فوقعت الإجابة من الفريقين إِلى ذلك. فقال الأشعث بن قيس وهو من أكبر الخوارج: إِنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري. فقال علي: قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن. لا أرى أن أولي أبا موسى. فقالوا: لا نرضى إِلا به. فقال علي: إِنه ليس بثقة؛ قد فارقني وخذل عني الناس، ثم هرب مني حتى أمنته بعد أشهر، ولكن ابن عباس أولى منه. فقالوا: ابن عباس ابن عمك، ولا نريد إِلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء. قال علي: فالأشتر. فأبوا وقالوا: هل أسعرها إِلا الأشتر. فاضطر علي إِلى إِجابتهم، وأخرج أبا موسى، وأخرج معاوية عمرو بن العاص بن وائل، واجتمع الحكمان عند علي رضي الله عنه، وكتب بحضوره كتاب القصة وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى أمير المؤمنين علي. فقال عمرو: هو أميركم، وأما أميرنا فلا. فقال الأحنف: لا تمح اسم أمير المؤمنين. فقال الأشعث بن قيس امح هذا الاسم فأجاب علي ومحاه. وقال علي: الله أكبر سنة بسنة، والله إِني لكاتب رسول الله يوم الحديبية، فكتبت محمد رسول الله، فقالوا لست برسول الله، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحو، فقلت: لا أستطيع، فقال: فأرني، فأريته فمحاه بيده، فقال لي: " إِنك ستدعى إِلى مثلها فتجيب ". فقال عمرو: سبحان الله تشبهنا بالكفار ونحن مؤمنون. فقال علي رضي الله عنه: يا ابن النابغة، ومتى لم تكن للفاسقين، ولياً وللمؤمنين عدواً. فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم. فقال علي: إني لأرجو أن يطهر الله مجلسي منك، ومن أشباهك. وكتب الكتاب؛ فمنه: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن معهم أنا ننزل عند حكم الله وكتابه، نحيي ما أحيى، ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله - وهما أبو موسى الأشعري عبد الله

قيس وعمرو بن العاص - عملاً به، وما لم يجدا في كتاب الله فبألسنة العادلة. وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين المواثيق، أنهما أمينان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وأجلا القضاء إلى رمضان، من هذه السنة، وإن أحبا أن يؤخّرا ذلك أخراه. وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين، بدومة الجندل، في رمضان، فإِن لم يجتمعا لذلك، اجتمعا في العام المقبل بإِذرح. ثم سار علي إلى العراق، وقدم إِلى الكوفة ولم تدخل الخوارج معه إِلى الكوفة؛ واعتزلوا عنه، ثم في هذه السنة، بعث علي للميعاد أربعمائة رجل، فيهم أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس ليصلي بهم، ولم يحضر علي. وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة رجل، ثم جاء معاوية، واجتمعوا بإِذرح وشهد معهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة. والتقى الحكمان؛ فدعى عمرو أبا موسى إِلى أن تجعل الأمر إِلى معاوية، فأبى وقال: لم أكن لأوليه وأدع المهاجرين الأولين، ودعى أبو موسى عمر، إِلى أن يجعل الأمر إِلى عبد الله بن عمر بن الخطاب، فأبى عمرو، ثم قال عمرو: ما ترى أنت؟ فقال أرى أن نخلع علياً ومعاوية؛ ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فأظهر لهم عمرو أن هذا هو الرأي؛ ووافقه عليه. ثم أقبلا إِلى الناس وقد اجتمعوا، فقال أبو موسى: إِن رأينا قد اتفق على أمر نرجو به صلاح هذه الأمة. فقال عمرو: تقدّم فتكلم يا أبا موسى. فلما تقدّم لحقه عبد الله بن عباس وقال: ويحك والله إِني أظن أنه خدعك إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه قبلك. فإِني لا آمن أن يخالفك. فقال أبو موسى: إِنا قد اتفقنا فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إِنا لم نر أصلح لأمر هذه الأمة من أمر قد اجتمع عليه رأيي ورأي عمرو، وهو أن نخلع علياً ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر، فيولوا منهم من أحبوا وإِني قد خلعت علياً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً. ثم تنحى وأقبل عمرو فقام مقامه: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي فإنه ولي عثمان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه. فقال له أبو موسى: ما لك لا وفقك الله غدرت وفجرت. وركب أبو موسى ولحق بمكة حياء من الناس، وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة، ومن ذلك الوقت أخذ أمر علي في الضعف، وأمر معاوية في القوة. ولما اعتزلت الخوارج علياً دعاهم إِلى الحق؛ فامتنعوا وقتلوا كل من أرسله إِليهم، فسار إليهم وكانوا أربعة آلاف، ووعظهم ونهاهم عن القتل، فتفرقت منهم جماعة، وبقي مع عبد الله بن وهب جماعة على ضلالتهم، وقاتلوا فقتلوا عن آخرهم، ولم يقتل من أصحاب علي سوى سبعة أنفس، أولهم يزيد بن نويرة، وهو ممن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أُحد. ولما رجع علي

رضي الله عنه

إِلى الكوفة، حض الناس على المسير إِلى قتال معاوية، فتقاعدوا وقالوا: نستريح ونصلح عدتنا، فاحتاج لذلك علي أن يدخل الكوفة. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين فيها جهز معاوية عمرو بن العاص بعسكر إِلى مصر، وكتب محمد بن أبي بكر يستنجد علياً، فأرسل إليه الأشتر فلما وصل الأشتر إِلى القلزم، سقاه رجل عسلاً مسموماً فمات منه، فقال معاوية: إِن لله جنداً من عسل، وسار عمرو حتى وصل إِلى مصر، وقاتله أصحاب محمد بن أبي بكر، فهزمهم عمرو، وتفرق عن محمد أصحابه، وأقبل محمد يمشي حتى انتهى إِلى خربة فقبض عليه وأتوا به إِلى معاوية بن خديح فقتله، وألقاه في جيفة حمار وأحرقه بالنار، ودخل عمرو مصر وبايع أهلها لمعاوية. ولما بلغ عائشة قتل أخيها محمد جزعت عليه وقنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية وعمرو بن العاص، وضمت عيال أخيها محمد إِليها، ولما بلغ علياً مقتله جزع عليه وقال: عند الله نحتسبه، وكان ذلك في هذه السنة أعني سنة ثمان وثلاثين ثم بث معاوية سراياه بالغارات على أعمال علي، فبعث النعمان بن بشير الأنصاري إِلى عين التمر، فنهب وهزم كل من كان بها من أصحاب علي، وبعث سفيان بن عوف إِلى هيت والأنبار والمدائن، فنهب وحمل كل ما كان بالأنبار من الأموال، ورجع بها إِلى معاوية، وسير عبد الله بن مسعدة الفزاري إِلى الحجاز، فجهز إِليه علي خيلا، فالتقوا بتيماء؛ وانهزم أصحاب معاوية ولحقوا بالشام، وتتابعت الغارات على بلاد علي رضي الله عنه، وهو في ذلك يخطب الناس الخطب البليغة، ويجتهد بحضّهم على الخروج إِلى قتال معاوية، فيتقاعد عنه عسكره. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين والأمر على ذلك، وفيها سير عبد الله بن عباس، وكان عامل البصرة، زياداً إِلى فارس، وكانت قد اضطربت لما حصل من قتال علي ومعاوية، فوصل إِليها زياد وضبطها أحسن ضبط حتى قالت الفرس: ما رأينا مثل سياسة أنوشروان إِلا سياسة هذا العربي. ثم دخلت سنة أربعين وعلي بالعراق ومعاوية بالشام، وله معها مصر، وكان علي يقنت في الصلاة ويدعو على معاوية، وعلى عمرو بن العاص، وعلى الضحاك، وعلى الوليد بن عقبة، وعلى الأعور السلمي. ومعاوية يقنت في الصلاة ويدعو على علي، وعلى الحسن وعلى الحسين، وعلى عبد الله بن جعفر. وفي هذه السنة سير معاوية بشر بن أرطأة في عسكر إلى الحجاز، فأتى المدينة وبها أبو أيوب الأنصاري عاملا لعلي، فهرب ولحق بعلي، ودخل بشر المدينة وسفك فيها الدماء واستكره الناس على البيعة لمعاوية، ثم سار إِلى اليمن وقتل ألوفاً من الناس، فهرب منه عبيد الله بن العباس، عامل علي باليمن، فوجد لعبيد الله ابنين صبيين فذبحهما، وأتى في ذلك بعظيمة فقالت أمهما - وهي عائشة بنت عبد الله ابن عبد المدان - تبكيهما: ها من أحسّ بابني اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف ها من أحس بابني اللذين هما ... قلبي وسمعي فقبلي اليوم مختطف

مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه

من ذل والهة حيرى مدلهة ... على صبيين ذلا إِذ غدا السلف خبرت بشراً وما صدقت ما زعموا ... من إِفكهم ومن القول الذي اقترفوا أنحا على ودجي ابني مرهفة ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه قيل اجتمع ثلاثة من الخوارج منهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي، وعمرو بن بكر التميمي، والبرُك بن عبد الله التميمي، ويقال إِن اسمه الحجاج، فذكروا أخوانهم من المارقة المقتولين بالنهروان، فقالوا: لو قتلنا أئمة الضلالة أرحنا منهم البلاد، فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم علياً، وقال البرك: أنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص، وتعاهدوا أن لا يفر أحد منهم عن صاحبه الذي توجه إِليه واستصحبوا سيوفاً مسمومة، وتواعدوا لسبع عشرة ليلة تمضي من رمضان، من هذه السنة، أعني سنة أربعين، أن يثب كل واحد منهم بصاحبه. واتفق مع عبد الرحمن بن ملجم رجلان، أحدهما يقال له وردان من تيم الرباب، والآخر شبيب من أشجع، ووثبوا على علي وقد خرج إِلى صلاة الغداة، فضربه شبيب فوقع سيفه في الطاق، وهرب شبيب فنجا في غمار الناس، وضربه ابن ملجم في جبهته، وأما وردان فهرب. وأمسك ابن ملجم وأحضر مكتوفاً بين يدي علي، ودعا علي الحسن والحسين وقال: أوصيكما بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا، ولا تبكيا على شيء زوى عنكما منها، ثم لم ينطق إِلا بلا إِله إِلا الله، حتى قبض رضي الله عنه. وأما البرك فوثب على معاوية في تلك الليلة، وضربه بالسيف فوقع في إلية معاوية، وأمسك البرك فقال له: إني أبشرك فلا تقتلني، فقال بماذا؟ قال إن رفيقي قتل علياً هذه الليلة، فقال معاوية: لعله لم يقدر، فقال إلى، إن علياً ليس معه من يحرسه، فقتله معاوية. وأما عمرو بن بكر، فإِنه جلس تلك الليلة لعمرو بن العاص، فلم يخرج عمرو إِلى الصلاة، وكان قد أمر خارجة بن أبي حبيبة، صاحب شرطته، أن يصلي بالناس، فخرج خارجة ليصلي بالناس، فشد عليه عمرو بن بكر، وهو يظن أنه عمرو ابن العاص فقتله، فأخذه الناس وأتوا به عمراً، فقال: من هذا؟ قالوا عمرو. فقال: أنا مَن قتلت؟ قالوا: خارجة. فقال عمرو: أردت عمراً وأراد الله خارجة. ولما مات علي أخُرج عبد الرحمن بن ملجم من الحبس، فقطع عبد الله بن جعفر يده، ثم رجله، وكحلت عيناه بمسمار محمى، وقطع لسانه، وأحرق، لعنه الله. ولبعض الخوارج، وهو عمران بن حطان لعنه الله، يرثي ابن ملجم المذكور لعنه الله: لله در المرادي الذي فتكت ... كفاه مهجة شر الخلق إِنسانا يا ضربة من ولي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إِني لأذكره يوماً فأحسبه ... أو فالخليقة عند الله ميزانا واختلف في عمر علي رضي الله عنه، فقيل كان ثلاثاً وستين سنة، وقيل خمساً وستين، وقيل

صفته

تسعاً وخمسين، وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر، وكان قتله ما ذكرنا صبيحة يوم الجمعة، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، سنة أربعين، واختلف في موضع قبره، فقيل دفن مما يلي قبلة المسجد بالكوفة، وقيل عند قصر الإِمارة، وقيل حوله ابنه الحسن إِلى المدينة، ودفنه بالبقيع عند قبر زوجته فاطمة رضي الله عنهما، والأصح وهو الذي ارتضاه ابن الأثير وغيره، أن قبره هو المشهور بالنجف، وهو الذي يزار اليوم. صفته رضي الله عنه كان شديد الأدمة، عظيم العينين، أصلع، عظيم اللحية، كثير شعر الصدر، مائلاً إِلى القصر، حسن الوجه، لا يغير شيبه، كثير التبسم. وكان حاجبه قنبر مولاه وصاحب شرطته نعثل بن قيس الرباحي، وكان قاضيه شريح، وكان قد ولاه عمر قضاء الكوفة، ولم يزل قاضياً بها إِلى أيام الحجاج بن يوسف، وأول زوجة تزوج بها علي رضي الله عنه، فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج غيرها في حياتها، وولد له منها الحسن والحسين ومحسن، ومات صغيراً، وزينب وأم كلثوم التي تزوجها عمر بن الخطاب، ثم بعد موت فاطمة تزوج أم البنين بنت حزام الكلابية، فولد له منها العباس وجعفر وعبد الله وعثمان، قتل هؤلاء الأربعة مع أخيهم الحسين، ولم يعقب منهم غير العباس، وتزوج ليلى بنت مسعود ابن خالد النهشلي التميمي، وولد له منها عبيد الله، وأبو بكر قتلا مع الحسين أيضاً، وتزوج أسماء بنت عميس، وولد له منها محمد الأصغر ويحيى، ولا عقب لهما، وولد له من الصهباء بنت ربيعة التغلبية وهي من السبي الذي أغار عليهم خالد ابن الوليد بعين التمر عمر ورقية، وعاش عمر المذكور حتى بلغ من العمر خمساً وثمانين سنة، وجاز نصف ميراث أبيه علي؛ ومات بينبع وله عقب، وتزوج علي أيضاً أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولد له منها محمد الأوسط، ولا عقب له، وولد له من خولة بنت جعفر الحنفية محمد الأكبر المعروف بابن الحنفية، وله عقب، وكان له بنات من أمهات شتى، منهن: أم حسن ورملة الكبرى من أم سعيد بنت عروة، ومن بناته أم هاني وميمونة وزينب الصغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة، فجمع بنيه الذكور أربعة عشر، لم يعقب منهم إِلا خمسة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس وعمر. شيء من فضائله من ذلك مشاهده المشهورة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبق إِسلامه، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه "، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه في غزوة حنين: لأبعثن الراية غداً

تسليم الحسن الأمر إلى معاوية

مع رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وقوله صلى الله عليه وسلم له: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " وقال عليه السلام " أقضاكم علي " والقضاء يستدعي معرفة أبواب الفقه كلها، بخلاف قوله: " أفرضكم زيد "، وأقرأكم أبي، ولم يبن علي بناء أصلاً، وكان قد ضاع لعلي درع فوجده مع نصراني، فأقبل به إِلى شريح القاضي وجلس إِلى جانبه وقال: لو كان خصمي مسلماً لساويته، وقال: هذه درعي، فقال النصراني ما هي إلا درعي فقال شريح لعلي: ألك بينة؟ فقال علي لا، وهو يضحك. فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ثم عاد وقال: أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، ثم أسلم واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إِلى صفين، ففرح علي بإسلامه ووهبه الدرع وفرساً. وشهد مع علي قتال الخوارج، فقتل رحمه الله تعالى. وحمل علي في ملحفته تمراً اشتراه بدرهم، فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك، فقال: أبو العيال أحق بحمله. وكان يقسم ما في بيت المال كل جمعة، حتى لا يترك فيه شيئاً، ودخل مرة إلى بيت المال فوجد الذهب والفضة، فقال: يا صفراء اصفري ويا بيضاء ابيضي وأغري غيري، لا حاجة لي فيك. وقصده أخوه لأبيه وأمه عقيل بن أبي طالب يسترفده، فلم يجد عنده ما يطلب، ففارقه ولحق بمعاوية حباً للدنيا، وكان مع معاوية يوم صفين، فقال له معاوية يمازحه: يا أبا يزيد أنت اليوم معنا. فقال عقيل: ويوم بدر كنت أيضاً معكم، وكان عقيل يوم بدر مع المشركين هو وعمه العباس. أخبار الحسن ابنه ولما توفي علي رضي الله عنه بايع الناس ابنه الحسن، وكان عبد الله بن العباس قد فارق علياً قبل مقتله، وأخذ من البصرة مالاً وذهب إِلى مكة، وجرت بينه وبين علي مكاتبات في ذلك، ولما تولى الحسن الخلافة، كتب إليه ابن عباس يقوي عزيمته على جهاد عدوه، وكان أول من بايع الحسن، قيس ابن سعد بن عبادة الأنصاري، فقال: أبسط يدك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال المخالفين، فقال الحسن: على كتاب الله وسنة رسوله، فإنهما ثابتان، وبايعه الناس، وكان الحسن يشترط أنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت، فارتابوا من ذلك وقالوا: ما هذا لكم بصاحب، وما يريد إِلا القتال. ثم دخلت سنة إِحدى وأربعين. تسليم الحسن الأمر إِلى معاوية قيل: كان علي قبيل موته، قد بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت، وأخذ في التجهز إِلى قتال معاوية، فاتفق مقتله، ولما بويع الحسن، بلغه مسير أهل الشام إِلى قتاله مع معاوية، فتجهز الحسن في ذلك الجيش، الذين كانوا قد بايعوا أباه، وسار عن الكوفة إِلى لقاء معاوية، ووصل إِلى المدائن، وجعل الحسن على مقدمته قيس بن سعد في اثني عشر ألفاً، وقيل بل الذي جعله على مقدمته عبيد الله ابن عباس، وجرى في عسكره فتنة، قيل حتى نازعوا الحسن بساطاً كان تحته، فدخل المقصورة البيضاء بالمدائن، وازداد لذلك العسكر بغضاً ومنهم ذعراً. ولما رأى الحسن ذلك، كتب إِلى معاوية، واشترط

عليه شروطاً وقال إِن أجبت إليها فأنا سامع مطيع، فأجاب معاوية إِليها، وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة، وخراج دارا بجرد من فارس، وأن لا يسب علياً، فلم يجبه إلى الكف عن سبّ علي، فطلب الحسن أن لا يشتم علياً، وهو يسمع، فأجابه إِلى ذلكَ، ثم لم يف له به، وقيل إِنه وصله بأربعمائة ألف درهم، ولم يصل إِليه شيء من خراج دارا بجرد، ودخل معاوية الكوفة، فبايعه الناس، وكتب الحسن إِلى قيس بن سعد، يأمره بالدخول في طاعة معاوية، ثم جرت بين قيس وعبيد الله بن عباس، وبين معاوية، مراسلات، وآخر الأمر أنهما بايعا ومن معهما، وشرطا أن لا يطالبا بمال ولا دم، ووفى لهما معاوية بذلك، ولحق الحسن بالمدينة وأهل بيته، وقيل كان تسليم حسن الأمر إِلى معاوية في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وقيل في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى، وعلى هذا فتكون خلافته على القول الأول، خمسة أشهر ونحو نصف شهر، وعلى الثاني ستة أشهر وكسراً، وعلى الثالث سبعة أشهر وكسراً. روى سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يعود ملكاً عضوضاً ". وكان آخر الثلاثين يوم خلع الحسن نفسه من الخلافة، وأقام الحسن بالمدينة إِلى أن توفي بها في ربيع الأول، سنة تسع وأربعين، وكان مولده بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة، وهو أكبر من الحسين بسنة، وتزوج الحسن كثيراً من النساء، وكان مطلاقاً، وكان له خمسة عشر ولداً ذكراً، وثماني بنات، وكان يشبه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأسه إلى سرته، وكان الحسين يشبه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرته إِلى قدمه. وتوفي الحسن من سم سقته زوجته جعدة بنت الأشعث، قيل فعلت ذلك بأمر معاوية، وقيل بأمر يزيد بن معاوية، ووعدها أنه يتزوجها إِن فعلت ذلك، فسقته السم وطالبت يزيد أن يتزوجها فأبى. وكان الحسن قد أوصى أن يدفن عند جده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي أرادوا ذلك، وكان على المدينة مروان بن الحكم من قبل معاوية، فمنع من ذلك، وكاد يقع بين بني أمية وبين بني هاشم بسبب ذلك فتنة، فقالت عائشة رضي الله عنها: البيت بيتي ولا آذن أن يدفن فيه، فدفن بالبقيع، ولما بلغ معاوية موت الحسن خر ساجداً. فقال بعض الشعراء: أصبح اليوم ابن هند شامتاً ... ظاهر النخوة إِذ مات الحسن يا ابن هند إِن تذق كأس الردى ... تكُ في الدهر كشيء لم يكن لست بالباقي فلا تشمت به ... كل حي للمنايا مرتهن ومن فضائل الحسن في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما "، وروى أنه قال عن الحسن: " إِن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين "، وروي أنه مر بالحسن والحسين وهما يلعبان، فطأطأ لهما عنقه وحملهما، وقال: " نعم المطية مطيتهما، ونعم الراكبان هما ".

خلفاء بني أمية

خلفاء بني أمية وهم أربعة عشر خليفة، أولهم معاوية بن أبي سفيان، وآخرهم مروان الجعدي وكان مدة ملكهم نيفاً وتسعين سنة، وهي ألف شهر تقريباً، قال القاضي جمال الدين ابن واصل رحمه الله: إِن ابن الأثير قال في تاريخه، إِنه لما سار الحسن من الكوفة، عرض له رجل فقال: يا مسِّود وجوه المؤمنين. فقال لا تعذلني فإِن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري في منامه، أن بني أمية ينزّون على منبره رجلاَ فرجلا، فساءه ذلك، فأنزل الله تعالى " إِنا أعطيناك الكوثر " " الكوثر: 1 " " وإنا أنزلناه في ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر " " القدر: 1 " يملكها بعد بنو أمية. أخبار معاوية بن أبي سفيان ابن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وأمه هند بنت عتبة، ويكنى أبا عبد الرحمن، وبويع بالخلافة يوم اجتماع الحكمين، وقيل ببيت المقدس بعد قتل علي، وبويع البيعة التامة لما خلع الحسن نفسه، وسلم الأمر إِليه، واستمر معاوية في الخلافة. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وسنة ثلاث وأربعين، فيها توفي عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي القرشي السهمي، وعمرو المذكور، هو أحد الثلاثة الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم عمرو بن العاص، وأبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن الزبعري، وكان يجيبهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيضاً، وهم حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وكانت مصر طمعة لعمرو من معاوية، بعد رزق جندها، حسب ما كان شرطه له لمعاوية، عند اتفاقه معه على حرب علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وفي ذلك يقول عمرو: معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ... به منك دنيا فانظرن كيف تصنعُ فإِن تعطني مصرا ربحت بصفقة ... أخذت بها شيخاً يضر وينفع ولما مات عمرو ولى معاوية مصر ابنه عبد الله بن عمرو، ثم عزله عنها، ثم دخلت سنة أربع وأربعين. استلحاق معاوية زياداً وفي هذه السنة، استلحق معاوية زياد بن سمية، وكانت سمية جارية للحارث بن كلدة الثقفي، فزوجها بعبد له رومي، يقال له عبيد، فولدت سمية زياداً على فراشه، فهو ولد عبيد شرعاً. وكان أبو سفيان قد سار في الجاهلية إلى الطائِف، فنزل على إِنسان يبيع الخمر، يقال له أبو مريم، أسلم بعد ذلك، وكانت له صحبة فقال له أبو سفيان: قد اشتهيت النساء، فمال أبو مريم: هل لك في سمية؟ فقال أبو سفيان: هاتها على طول ثدييها، وذفرة بطنها. فأتاه بها، فوقع عليها، فيقال إِنها علقت منه بزياد ثم وضعته في السنة التي هاجر فيها رسول الله صلى الله عليه

وسلم. ونشأ زياد فصيحاً، وحضر زياد يوماً بمحضر من جماعة من الصحابة، في خلافة عمر، فقال عمرو بن العاص، لو كان أبو هذا الغلام من قريش، لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان لعلي بن أبي طالب: إِني لأعرف من وضعه في رحم أمه. فقال علي فما يمنعك من استلحاقه؟ قال: أخاف الأصلع، يعني عمر، أن يقطع إِهابي بالدرة. ثم لما كان قضية شهادة الشهود على المغيرة بالزنا، وجلدهم، ومنهم أبو بكرة أخو زياد لأمه، وامتناع زياد عن التصريح كما ذكرنا، اتخذ المغيرة بذلك لزياد يداً، ثم لما ولي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة، استعمل زياداً على فارس، فقام بولايتها أحسن قيام، ولما سلم الحسن الأمر إلى معاوية، امتنع زياد بفارس، ولم يدخل في طاعة معاوية، وأهمل معاوية أمره، وخاف أن يدعو إِلى أحد من بني هاشم، ويعيد الحرب، وكان معاوية قد ولى المغيرة بن شعبة الكوفة، فقدم المغيرة على معاوية، سنة اثنتين وأربعين، فشكا إِليه معاوية امتناع زياد بفارس، فقال المغيرة: أتأذن لي في المسير إِليه: فأذن له. وكتب معاوية لزياد أماناً، فتوجّه المغيرة إِليه، لما بينهما من المودة، وما زال عليه حتى أحضره إِلى معاوية، وبايعه، وكان المغيرة يكرم زياداً ويعظمه، من حين كان منه في شهادة الزنا ما كان. فلما كانت هذه السنة، أعني سنة أربع وأربعين، استلحق معاوية زياداً، فأحضر الناس، وحضر من يشهد لزياد بالنسب، وكان ممن حضر لذلك، أبو مريم الخمار، الذي أحضر سمية إلى أبي سفيان بالطائف، فشهد بنسب زياد من أبي سفيان، قال: إني رأيت اسكتي سمية، يقطران من مني أبي سفيان، فقال زياد: رويدك، طلبت شاهداً ولم تطلب شتاماً، فاستلحقه معاوية، وهذه أول واقعة خولفت فيها الشريعة علانية، لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم، " الولد للفراش، وللعاهر الحجر "، وأعظمَ الناس ذلك وأنكروه، خصوصاً بنو أمية، لكون زياد بن عبيد الرومي، صار من بني أمية بن عبد شمس، وقال عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان في ذلك: ألا أبلغ معاوية بن صخر ... لقد ضاقت بما تأتي اليدان أتغضبُ أن يقال أبو عف ... وترضى أن يقال أبوك زاني وأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان ثم ولى معاوية زياداً البصرة، وأضاف إِليه خراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعُمان. وفيها أعني سنة أربع وأربعين، توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم. ثم دخلت سنة خمس وأربعين، فيها قدم زياد إِلى البصرة، فشدد أمر السلطنة، وأكد الملك لمعاوية؛ وجرد السيف، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، فخاف الناس خوفاً شديداً، وذكر أنه لم يخطب أحد بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل زياد. ولما مات المغيرة سنة خمسين وكان عاملا لمعاوية على الكوفة، ولى معاوية الكوفة أيضاً زياداً، فسار زياد إِليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، فحذا حذو زياد في سفك الدماء، وكان زياد يقيم بالكوفة ستة أشهر، وفي البصرة مثلها، وهو أول من سير بين يديه بالحراب

والعمد، واتخذ الحرس خمس مائة لا يفارقون مكانه. وكان معاوية وعماله يدعون لعثمان في الخطبة يوم الجمعة، ويسبون علياً، ويقعون فيه، ولما كان المغيرة متولي الكوفة، كان يفعل ذلك طاعة لمعاوية، فكان يقوم حجر وجماعة معه، فيردون عليه سبّه لعليٍ رضي الله عنه، وكان المغيرة يتجاوز عنهم، فلما ولي زياد، دعا لعثمان وسب علياً، وما كانوا يذكرون علياً باسمه، وإنما كانوا يسمونه بأبي تراب، وكانت هذه الكنية أحب الكنى إِلى علي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كناه بها، فقام حجر وقال: كما كان يقول من الثناء على علي، فغضب زياد وأمسكه، وأوثقه بالحديد، وثلاثة عشر نفراً معه، وأرسلهم إِلى معاوية، فشفع في ستة منهم عشائِرهم، وبقي ثمانية، منهم: حجر، فأرسل معاوية من قتلهم بعذرا، وهي قرية بظاهر دمشق، رضي الله عنهم، وكان حجر من عظم الناس ديناً وصلاة، وأرسلت عائشة تتشفع في حجر، فلم يصل رسولها إِلا بعد قتله. قال القاضي جمال الدين بن واصل، وروى ابن الجوزي بإِسناده عن الحسن البصري أنه قال: أربع خصال كن في معاوية، لو لم يكن فيه إِلا واحدة لكانت موبقة، وهي أخذه الخلافة بالسيف من غير مشاورة، وفي الناس بقايا الصحابة، وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه يزيد، وكان سكيراً خميراً يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش، والعاهر للحجر، وقتله حجر بن عدي وأصحابه، فيا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر. وروي عن الشافعي رحمة الله عليه، أنه أسرّ إِلى الربيع، أنّه لا يقبل شهادة أربعة من الصحابة، وهم معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد. وفيها أعني سنة خمسٍ وأربعين، توفي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان أهل الشام قد مالوا إليه جداً، فدس إليه معاوية سماً مع نصراني يقال له أثال، فاغتاله به. ثم دخلت سنة ست وأربعين وسنة سبع وأربعين فيها توفي قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر، وإليه ينسب، فيقال المنقري، وفد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في وفد بني تميم فأسلم، وكان قيس المذكور موصوفاً بمكارم الأخلاق. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين غزوة القسطنطينية في هذه السنة، أعني سنة ثمان وأربعين، صبر معاوية جيشاً كثيفاً مع سفيان ابن عوف، إلى القسطنطينية، فأوغلوا في بلاد الروم، وحاصروا القسطنطينية، وكان في ذلك الجيش ابن عباس، وعمرو بن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري. وتوفي في مدة الحصار أبو أيوب الأنصاري، ودفن بالقرب من سورها، وشهد أبو أيوب مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً، وشهد مع علي صفين، وغيرها من حروبه. ثم دخلت سنة تسع وأربعين وسنة خمسين، فيها بنيت القيروان، وكمل بناؤها في سنة خمس وخمسين، وكان من حديثها أنَّ معاوية ولى عقبة بن نافع إفريقية وكان عقبة المذكور صحابياً من الصالحين، فوضع السيف في هل إِفريقية، لأنهم

كانوا يرتدون إِذا فارقهم العسكر، وكان مقام الولاة بزويلة وبرقة، فرأى عقبة أن يتخذ مدينة بتلك البلاد، تكون مقراً للعسكر، واختار موضع القيروان، وكان دخلة مشتبكة فقطع أشجارها وبناها مدينة، وهي مدينة القيروان. وفيها أعني في سنة خمسين، توفي دحية الكلبي، وهو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة، منسوب إِلى كلب بن وبرة، أسلم قديماً، ولم يشهد بدراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أشبه من رأيت بجبريل، دحية الكلبي ". ثم دخلت سنة إِحدى وخمسين، فيها توفي سعيد بن زيد أحد العشرة المشهود له بالجنة، رضي الله عنهم. ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وسنة ثلاث وخمسين. فيها هلك زياد ابن أبيه، في رمضان، من أكلةِ في إِصبعه وكان مولده عام الهجرة. ثم دخلت سنة أربع وخمسين وسنة خمس وخمسين وسنة ست وخمسين وفيها ولى معاوية سعيد بن عثمان بن عفان، خراسان، فقطع نهر جيحون إلى سمرقند، والصغدِ، وهزم الكفار، وسار إلى ترمذ ففتحها صلحاً. وممن قتل معه في هذه الغزوة قثم بن العباس، ودفن بسمرقند، ومات أخوه عبد الله بن العباس بالطائف، والفضل بالشام، ومعبد بإِفريقية، فيقال: لم ير قبور أخوة أبعد من قبور هؤلاء الأخوة بني العباس. وفي هذه السنة بايع معاوية الناس لابنه يزيد بولاية العهد بعده، وبايعه أهل الشام والعراق، وكان المتولي على المدينة من جهة معاوية، مروان بن الحكم، فأراد البيعة له، فامتنع من ذلك الحسين، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، وامتنع الناس لامتناعهم، وآخر الأمر أن معاوية قدم بنفسه إِلى الحجاز، ومعه ألف فارس، وتحدث مع عائشة في أمرهم، وآخر الأمر، أنه بايع ليزيد أهل الحجاز، وتأخر المذكورون عن البيعة. ويروى أنّ معاوية قال لابنه يزيد: إِني مهدت لك الأمور، ولم يبق أحد لم يبايعك غير هؤلاء الأربعة، فأمّا عبد الرحمن، فرجل كبير، تهابه اليوم وغداً، وأما ابن عمر، فرجل قد غلب عليه الورع، وأمّا الحسين فله قرابة، فإِن ظفرت به، فاصفح عنه، وأما ابن الزبير، فإِن ظفرت به، فقطعه إرْباً إِرْباً. ثم دخلت سنة سبع وخمسين وسنة ثمان وخمسين فيها توفيت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنها. وفيها، توفي أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر. ثم دخلت سنة تسع وخمسين، فيها توفي سعيد بن العاص بن أمية، ولد عام الهجرة، وقتل أبوه العاص يوم بدر كافراً، وكان سعيد من أجواد بني أمية. وفي هذه السنة أعني سنة تسع وخمسين مات الحطيئة، واسمه جرول بن مالك، لقب الحطيئة لقصره، أسلم ثم ارتد، ثم أسلم، وقال عند موت النبي صلى الله عليه وسلم وارتداد العرب: أطعنا رسول الله ما كان بيننا ... فيا لعباد الله ما لأبي بكر أيورثها بكراً إِذا مات بعده ... وتلك لعمر الله قاصمة الظهر

وفيها توفي أبو هريرة، واختلف في اسمه ونسبه، وهو ممن لازم خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه الكثير، فاتهمه بعض الناس لكثرة ما رواه من الأحاديث، والأكثر يصححون روايته ولا يشكون فيها. ثم دخلت سنة ستين وفاة معاوية وفيها في رجب توفي معاوية بن أبي سفيان، وكانت مدة خلافته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوماً، منذ اجتمع له الأمر، وبايعه الحسن بن علي، وكان عمره خمساً وسبعين، وقيل سبعين، وقيل غير ذلك، وأنشد معاوية وقد تجلد للعائدين: وتجلدي للشامتين أريهُم ... أني لريبِ الدهرِ لا تضَعْضَع وإذا المنيّةُ أنضبتْ أظفارها ... ألفيت كلّ تميمةٍ لا تنفعُ ولما توفي معاوية، خرج الضحاك بن قيس حتى أتى المنبر، فصعده ومعه أكفان معاوية فأثنى على معاوية، وأعلم الناس بموته، وأنّ هذه أكفانه، ثم صلى عليه الضحاك، وكان يزيد غائباً بقرية حوارين من عمل حمص، فكتبوا إِليه وطلبوه، فحضر بعد دفن أبيه فصلى على قبره. أخبار معاوية أسلم معاوية مع أبيه عام الفتح، واستكتبه النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمله عمر على الشام أربع سنين من خلافته، وأقره عثمان مدة خلافته، نحو اثنتي عشرة سنة، وتغلب على الشام محارباً لعلي أربع سنين، فكان أميراً وملكاً على الشام نحو أربعين سنة، وكان حليماً حازماً داهية، عالماً بسياسة الملك، وكان حلمه قاهراً لغضبه، وجوده غالباً على منعه، يصل ولا يقطع. ومما يحكى عن حلمه من تاريخ القاضي جمال الدين بن واصل، أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة، فقال لها معاوية: مرحباً بك يا خالة، كيف أنت؟ فقالت بخير يا ابن أختي، لقد كفرت النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، وكنا أهل البيت أعظم الناس في هذا الدين بلاء، حتى قبض الله نبيه، مشكوراً سعيه، مرفوعاً منزلته، فوثبت علينا بعده تيم وعدي وأمية، فابتزونا حقنا، ووليتم علينا، فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب بعد نبينا، بمنزلة هارون من موسى. فقال لها عمرو بن العاص: كفي أيتها العجوز الضالة، واقصري عن قولك مع ذهاب عقلك. فقالت: وأنت يا ابن النابغة، تتكلم وأمك كانت أشهر بغي بمكة، وأرخصهن أجرة، وادعاك خمسة من قريش، فسُئلتْ أمك عنهم فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به، فالحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائِل، فألحقوك به. فقال لها معاوية: عفا الله عما سلف، هاتي حاجتك. فقالت: أريد ألفي دينار، لأشتري بها عيناً فوارة، في أرض خرارة، تكون الفقراء بني الحارث بن عبد المطلب: وألفي دينار أخرى، أزوّج بها فقراء بني الحارث،

أخبار يزيد ابنه وهو ثاني خلفائهم، وأم يزيد ميسون بنت بحدل الكليبة، بويع بالخلافة

وألفي دينار أخرى، أستعين بها على شدة الزمان، فأمر لها معاوية بستة آلاف دينار، فقبضتها وانصرفت. ومعاوية أول خليفة بايع لولده، وأول من وضع البريد، وأول من عمل المقصورة في مسجد، وأول من خطب جالساً، في قول بعضهم، وكان عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ممن يرى سماع الأوتار والغناء، وهو رأى أهل المدينة، وكان معاوية ينكر ذلك عليه، فدخل ابن جعفر يوماً على معاوية ومعه بديح المغني، فقال ابن جعفر لبديح: غنِّ، فغنى بشعر كان يحبه معاوية وهو: يا لُبينى أوقدي النارا ... إِن من تهوين قد حارا رب نار بِتُ أرمقها ... تقضم الهندي والغارا ولها ظبي يؤججها ... عاقد في الخصر زنارا فطرب معاوية وتحرك، وضرب برجله الأرض، فقال له ابن جعفر: مَهْ يا أمير المؤمنين. فقال معاوية: إِنّ الكريم لطروب، وقال معاوية: أعنت على علي بثلاث كان رجلاً ظهرت علته، وكنت كتوماً لسري. وكان في أخبث جند، وأشده خلافاً وكنت في أطوع جند وأقله خلافاً. وخلا بأصحاب الجمل فقلت: إِن ظفر بهم أعددت ذلك عليه وَهْنا، وإن ظفروا به، كانوا أهوَنَ شوكهَ عليّ منه. أخبار يزيد ابنه وهو ثاني خلفائهم، وأم يزيد ميسون بنت بحدل الكليبة، بويع بالخلافة لما مات أبوه في رجب سنة ستين، ولما استقر يزيد في الخلافة، أرسل إِلى عامله بالمدينة بإِلزام الحسين وعبد الله بن الزبير وابن عمر بالبيعة، فأما ابن عمر فقال: إِن أجمع الناس على بيعته بايعته، وأما الحسين وابن الزبير فلحقا بمكة، ولم يبايعا، وأرسل عامل المدينة جيشاً مع عمرو بن الزبير، أخي عبد الله بن الزبير، وكان شديد العداوة لأخيه عبد الله، لقتال أخيه عبد الله، فانتصر عبد الله بن الزبير، وهزم الجمع الذي مع أخيه، وأمسك أخاه عمراً وحبسه حتى مات في حبسه. مسير الحسين إِلى الكوفة وورد على الحسين مكاتبات أهل الكوفة، يحثونه على المسير إِليهم ليبايعوه، وكان العامل عليها النعمان بن بشير الأنصاري، فأرسل الحسين إِلى الكوفة، ابن عمه مسلم بن عقيلٍ بن أبي طالب، ليأخذ البيعة عليهم، فوصل إِلى الكوفة، وبايعه بها قيل ثلاثون ألفاً، وقيل ثمانية وعشرون ألف نفس. وبلغ يزيد عن النعمان بن بشير ما لا يرضيه، فولى على الكوفة عبيد الله بن زياد، وكان والياً على البصرة، فقدم الكوفة، ورأى ما الناس عليه، فخطبهم وحثهم على طاعة يزيد بن معاوية، واستمر مسلم بن عقيل عند قدوم عبيد الله بن زياد على ما كان، ثم اجتمع إِلى مسلم بن عقيل من كان بايعه للحسين، وحصروا عبيد الله بن زياد بقصره، ولم يكن مع عبيد الله في القصر أكثر من ثلاثين رجلاً، ثم إِن عبيد الله أمر أصحابه أن يشرفوا من القصر، ويمنّوا أهل الطاعة، ويخذلوا أهل المعصية، حتى أن المرأة ليأتي ابنها وأخاها فتقول: انصرف

إِن الناس يكفونك، قتفرق الناس عن مسلم، ولم يبق مع مسلم غير ثلاثين رجلاً، فانهزم واستتر، ونادى منادي عبيد الله ابن زياد، من أتى بمسلم بن عقيل فله ديته، فأمسك مسلم وأُحضر إِليه، ولما حضر مسلم بين يدي عبيد الله، شتمه وشتم الحسين وعلياً، وضرب عنقه في تلك الساعة، ورميت جيفته من القصر، ثم أحضر هانئ بن عروة، وكان ممن أخذ البيعة للحسين، فضرب عنقه أيضاً، وبعث برأسيهما إِلى يزيد بن معاوية، وكان مقتل مسلم بن عقيل، لثمان مضين من ذي الحجة، سنة ستين. وأخذ الحسين وهو بمكة في التوجه إِلى العراق، وكان عبد الله بن عباس يكره ذهاب الحسين إلى العراق، خوفاً عليه، وقال للحسين: يا ابن العم، إِني أخاف عليك أهل العراق، فإِنهم قوم أهل غدر، وأقم بهذا البلد، فإِنك سيد أهل الحجاز، وإن أبيت إِلا أن تخرج، فسر إِلى اليمن، فإِن بها شيعة لأبيك، وبها حصون وشعاب. فقال الحسين: يا ابن العم، إِني أعلم والله أنك ناصح مشفق، ولقد أزمعت وأجمعت، ثم خرج ابن عباس من عنده، وخرج الحسين من مكة يوم التروية، سنة ستين، واجتمع عليه جمائع من العرب، ثم لما بلغه مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه، وأعلم الحسين من معه بذلك وقال: من أحب أن ينصرف فلينصرف، فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً، ولما وصل الحسين إِلى مكان يقال له سراف، وصل إِليه الحر، صاحب شرطة عبد الله بن زياد في ألفي فارس، حتى وقفوا مقابل الحسين، في حرّ الظهيرة، فقال لهم الحسين: ما أتيت إلا يكتبكم، فإن رجعتم رجعت من هنا، فقال له صاحب شرطة ابن زياد: إِنا أُمرنا أن لا نفارقك. حتى نوصلك الكوفة بين يدي عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أهون من ذلك، وما زالوا عليه حتى سار مع صاحب شرطة ابن زياد. ثم دخلت سنة إِحدى وستين. مقتل الحسين ولما سار الحسين مع الحر، ورد كتاب من عبيد الله بن زياد إِلى الحر، يأمره أن يُنزل الحسين ومن معه على غير ماء، فأنزلهم في الموضع المعروف بكربلاء، وذلك يوم الخميس، ثاني المحرم من هذه السنة، أعني سنة إِحدى وستين. ولما كان من الغد، قدم من الكوفة عمر بن سعد بن أبي وقاص بأربعة آلاف فارس، أرسله ابن زياد لحرب الحسين، فسأله الحسين في أن يُمكَّن إما من العود من حيثُ أتى، وإمّا أن يجهّز إِلى يزيد بن معاوية، وإما أن يُمكّن أن يلحق بالثغور. فكتب عمر إِلى ابن زياد يسأل أن يجاب الحسين إِلى أحد هذه الأمور، فاغتاط ابن زياد فقال: لا ولا كرامة، فأرسل مع شمّر بن ذي الجوشن، إِلى عمر بن سعد إما أن تقاتل الحسين وتقتله، وتطأ الخيل جثته، وإِمّا أن تعتزل، ويكون الأمير على الجيش شمر. فقال عمر بن سعد بل أقاتله، ونهض عشية الخميس، تاسع المحرم هذه السنة، والحسين جالس أمام بيته بعد صلاة العصر، فلما قرب الجيش منه، سألهم مع أخيه العباس، أن يمهلوه إلى الغد، وأنه

بن معاوية

يجيبهم إِلى ما يختارونه فأجابوه إِلى ذلك. وقال الحسين لأصحابه، إِني قد أذنت لكم فانطلقوا في هذا الليل، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم. فقال أخوه العباس: لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك، لا أرنا الله ذلك أبداً، ثم تكلم أخوته وبنو أخيه وبنو عبد الله بن جعفر، بنحو ذلك، وكان الحسين وأصحابه يصلون الليل كله، ويدعون، فلما أصبحوا، ركب عمر بن سعد في أصحابه، وذلك يوم عاشوراء من السنة المذكورة، وعبأ الحسين أصحابه وهم اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، ثم حملوا على الحسين وأصحابه، واستمر القتال إلى وقت الظهر من ذلك اليوم، فصلى الحسين وأصحابه صلاة الخوف، واشتد بالحسين العطش، قتقدم ليشرب، فرُمي بسهم فوقع في فمه، ونادى شمر: ويحكم ما تنتظرون بالرجل اقتلوه، فضربه زرعة بن شريك على كفه، وضربه آخر على عاتقه، وطعنه سنان ابن أنس النخعي بالرمح، فوقع فنزل إِليه فذبحه واحتز رأسه، وقيل إِن الذي نزل واحتز رأسه هو شمر المذكور، وجاء به إِلى عمر بن سعد، فأمر عمر بن سعد جماعة فوطئوا صدر الحسين، وظهره بخيولهم. ثم بعث بالرؤوس والنساء والأطفال إلى عبيد الله بن زياد، فجعل ابن زياد يقرع فم الحسين بقضيب في يده، فقال له زيد بن أرقم: ارفع هذا القضيب، فوالذي لا إِله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين، ثم بكى، وروي أنّه قتل مع الحسين من أولاد علي أربعة، هم العباس وجعفر ومحمد وأبو بكر، ومن أولاد الحسين أربعة، وقتل عدة من أولاد عبد الله بن جعفر، ومن أولاد عقيل. ثم بعث ابن زياد بالرؤوس وبالنساء وبالأطفال، إلى يزيد بن معاوية، فوضع يزيد رأس الحسين بين يديه، واستحضر النساء والأطفال، ثم أمر النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم، وأن يبعث معهم أميناً يوصلهم إلى المدينة، فجهزهم إِلى المدينة، ولما وصلوا إليها لقيهم نساء بني هاشم حاسرات، وفيهن ابنة عقيل بن أبي طالب وهي تبكي وتقول. ماذا تقولونَ إِنْ قالَ النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى وصرعى ضرجوا بدم ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي واختلف في موضع رأس الحسين، فقيل: جهز إِلى المدينة ودفن عند أمه، وقيل دفن عند باب الفراديس، وقيل: أن خلفاء مصر نقلوا من عسقلان رأساً إِلى القاهرة ودفنوه بها، وبنوا عليه مشهداً يعرف بمشهد الحسين، وقد اختلف في عمره، والصحيح أنه خمس وخمسون سنة وأشهر، وقيل حج الحسين خمساً وعشرين حجة وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة. وأما عبد الله بن الزبير فإِنه استمر بمكة ممتنعاً عن الدخول في طاعة يزيد ابن معاوية. ثم دخلت سنة اثنتين وستين وسنة ثلاث وستين، فيها اتفق أهل المدينة على خلع يزيد بن معاوية، وأخرجوا نائبه عثمان بن محمد بن أبي سفيان منها، فجهز يزيد

بحوارين من عمل حمص

جيشاً مع مسلم بن عقبة، وأمره يزيد أن يقاتل أهل المدينة، فإِذا ظفر بهم، أباحها للجند ثلاثة أيام، يسفكون فيها الدماء، ويأخذون ما يجدون من الأموال، وأن يبايعهم على أنهم خوّل وعبيد ليزيد، وإذا فرغ من المدينة، يسير إِلى مكة. فسار مسلم المذكور في عشرة آلاف فارس من أهل الشام، حتى نزل على المدينة من جهة الحرة، وأصر أهل المدينة من المهاجرين والأنصار وغيرهم على قتاله وعملوا خندقاً واقتتلوا، فقتل الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، بعد أن قاتل قتالاً عظيماً، وكذلك قتل جماعة من الأشراف والأنصار، ودام قتالهم، ثم انهزم أهل المدينة، وأباح مسلم مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، يقتلون فيها الناس ويأخذون ما بها من الأموال، ويفسقون بالنساء. وعن الزهري أنّ قتلى الحرة، كانوا سبعمائة من وجوه الناس، من قريش والمهاجرين والأنصار، وعشرة آلاف من وجوه الموالي، وممن لا يعرف، وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، ثم إِنّ مسلماً بايع من بقي من الناس على أنهم خوّل وعبيد ليزيد بن معاوية، ولما فرغ مسلم بن عقبة من المدينة سار بالجيش إلى مكة. ثم دخلت سنة أربع وستين حصار الكعبة ولما فرغ مسلم من المدينة وسار إِلى مكة كان مريضاً، فمات قبل أن يصل إِلى مكة، وأقام على الجيش مقامه الحصين بن نمير السكوني، وذلك في المحرم من هذه السنة، فقدم الحصين مكة وحاصر عبد الله بن الزبير أربعين يوماً، حتى جاءهم الخبر بموت يزيد بن معاوية، على ما سنذكره بعد رمي البيت الحرام بالمنجنيق، وإحراقه بالنار، ولما علم الحصين بموت يزيد، قال لعبد الله بن الزبير: من الرأي أن ندع دماء القتلى بيننا، وأقبل لأبايعك، وأقدم إِلى الشام، فامتنع عبد الله بن الزبير من ذلك، فارتحل الحصين راجعاً إلى الشام، ثم ندم ابن الزبير على عدم الموافقة، وسار مع الحصين من كان المدينة من بني أمية، وقدموا إِلى الشام. وفاة يزيد بن معاوية بحوارين من عمل حمص لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، من هذه السنة، أعني سنة أربع وستين وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وكان مدة خلافته ثلاث سنين وستة أشهر، وكان آدم جعداً أحور العينين، بوجهه آثار جدري، حسن اللحية خفيفها، طويلا، وخلف عدة بنين وبنات، وكانت أمه ميسون بنت بحدل الكلبية، أقام يزيد معها بين أهلها في البادية، وتعلم الفصاحة، ونظم الشعر هناك في بادية بني كلب، وكان سبب إِرساله مع أمه هناك، أن معاوية سمع ميسون بنت بحدل تنشد هذه الأبيات وهي: للبس عباءة وتقر عيني ... أحبُّ إِليَّ من لبسِ الشفوفِ وبيت تخفق الأرياح فيه ... أحب إِليّ من قصر منيف

أخبار معاوية بن يزيد

وبكر تتبع الأظعان صعب ... أحبّ إِلي من بغل زفوفِ وكلب ينبح الأضياف دوني ... أحب إِليّ من هر ألوفِ وخرق من بني عمي فقير ... أحبّ إلي من علج عنيفِ فقال لها معاوية: ما رضيت يا ابنة بحدل، حتى جعلتني علجاً عنيفاً، الحقي بأهلك فمضت إِلى بادية بني كلب ويزيد معها. أخبار معاوية بن يزيد بن معاوية وهو ثالث خلفائهم، ولما توفي يزيد بن معاوية، بويع بالخلافة ولده معاوية في رابع عشر ربيع الأول من هذه السنة، وكان شاباً ديناً، فلم تكن ولايته غير ثلاثة أشهر وقيل: أربعين يوماً، ومات وعمره إِحدى وعشرون سنة، وفي أواخر أيامه جمع الناس وقال: قد ضعفت عن أمركم، ولم أجد لكم مثل عمر بن الخطاب لأستخلفه، ولا مثل أهل الشورى، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا من أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب فيه حتى مات، وقيل إِنه أوصى أن يصلي بالناس الضحاك بن قيس حتى يقوم لهم خليفة. البيعة لعبد الله بن الزبير ولما مات يزيد بن معاوية، بايع الناس بمكة ابن الزبير، وكان مروان بن الحكم مدينة، فقصد المسير إِلى عبد الله بن الزبير ومبايعته، ثم توجّه مع من ترجّه من بني أمية إِلى الشام، وقيل إِن ابن الزبير كتب إِلى عامله بالمدينة، أن لا يترك بها من بني أمية أحداً. ولو سار ابن الزبير مع الحصين إِلى الشام، أو صانع بني أمية ومروان، لاستقر أمره، ولكن لا مرد لما قدره الله تعالى، ولما بويع عبد الله بن الزبير بمكة، كان عبيد الله بن زياد بالبصرة، فهرب إِلى الشام، وبايع أهل البصرة ابن الزبير، واجتمعت له العراق والحجاز واليمن، وبعث إِلى مصر فبايعه أهلها، وبايع له في الشام سراً الضحاك ابن قيس، وبايع له بحمص النعمان بن بشير الأنصاري، وبايع له بقنسرين زفر بن الحارث الكلابي، وكاد يتم له الأمر بالكلية، وكان عبد الله بن الزبير شجاعاً، كثير العبادة، وكان به البخل وضعف الرأي. أخبار مروان بن الحكم وهو رابع خلفائهم، وقام مروان بالشام في أيام ابن الزبير، واجتمعت إِليه بنو أمية، وصار الناس بالشام فرقتين، اليمانية مع مروان، والقيسية مع الضحاك بن قيس، وهم يبايعون لابن الزبير، وجرت مقاولات وأمور يطول شرحها. وقعة مرج راهط وآخر ذلك، أن الفريقين التقوا بمرج راهط، في غوطة دمشق، واقتتلوا، وكانت الكرة على الضحاك والقيسية، وانهزموا أقبح هزيمة، وقتل الضحاك بن قيس، وقتل جمع كثير من

أخبار عبد الملك

فرسان قيس. ولما انهزمت قيس يوم المرج، نادى منادي مروان بن الحكم، ألا لا يتبع أحد، ودخل دمشق مروان، ونزل في دار معاوية بن أبي سفيان، واجتمع عليه الناس، وتزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية، لخوفه من خالد. ولما انهزمت القيسية وقتل الضحاك وبلغ ذلك أهل حمص، وعليها النعمان ابن بشير الأنصاري، خرج هارباً بامرأته وأهله، فخرج أهل حمص وقتلوا النعمان بن بشير وردوا برأس النعمان وأهله إِلى حمص. ولما بلغ زفر بن الحارث، وهو بقنسرين، يدعو لابن الزبير، خبر الهزيمة، خرج من قنسرين وأتى قرقيسيا، فغلب عليها، واستوسق الشام لمروان بن الحكم، ثم خرج إِلى جهة مصر وبعث قدامه عمرو بن سعيد بن العاص، فدخل مصر وطرد عامل ابن الزبير عنها، وبايع لمروان بن الحكم أهلها، ولما ملك مروان مصر، رجع إِلى دمشق، وخرجت سنة أربع وستين ومروان خليفة بالشام ومصر، وابن الزبير خليفة في الحجاز والعراق واليمن. وفي هذه السنة أعني سنة أربع وستين هدم ابن الزبير الكعبة، وكانت حيطانها قد مالت من ضرب المنجنيق، فهدمها وحفر أساسها، وأدخل الحجر فيها، أعادها على ما كانت عليه أولاً. ثم دخلت سنة خمس وستين وفاة مروان بن الحكم وتوفي بأن خنقته أم خالد بن يزيد بن معاوية زوجته، وصاحت مات فجأة، وذلك لثلاث خلون من رمضان، من هذه السنة، أعني سنة خمس وستين، ودفن بدمشق، وعمره ثلاث وستون سنة، وكانت مدة خلافته تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً. شيء من أخباره كان النبي صلى الله عليه وسلم، قد طرد أباه الحكم، إِلى الطائف، ولم يزل طريداً في أيام أبي بكر وعمر، إِلى أن رده عثمان، كما ذكرنا، ومروان هو الذي قتل طلحة بسهم نشاب في حرب الجمل. أخبار عبد الملك وهو خامس خلفائهم، لما مات مروان، بويع ابنه عبد الملك بن مروان، في ثالث رمضان من هذه السنة، عني سنة خمس وستين، عقب موت مروان، واستثبت له الأمر بالشام ومصر، وقيل إِنه لما أتته الخلافة، كان قاعداً والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك. ثم دخلت سنة ست وستين. خروج المختار بن أبي عبيد الثقفي وفي هذه السنة، خرج المختار بالكوفة، طالباً بثأر الحسين، واجتمع إِليه جمع كثير، واستولى على الكوفة، وبايعه الناس بها على كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بدم أهل البيت وتجرد المختار لقتال قتلة الحسين، وطلب شمر بن ذي الجوشن حتى ظفر به وقتله، وبعث إِلى خولي

الأصبحي، وهو صاحب رأس الحسين، فاحتاط بداره، وقتله وأحرقه بالنار، ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص، صاحب الجيش، الذين قتلوا الحسين، وهو الذي أمر أن يداس صدر الحسين وظهره بالخيل، وقتل ابن عمر المذكور، واسمه حفص، وبعث برأسهما إلى محمد بن الحنفية بالحجاز، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة، ثم إِن المختار اتخذ كرسياً، وادعى أن فيه سراً، وأنه لهم مثل التابوت لبني إِسرائيل ولما أرسل المختار الجنود لقتال عبيد الله بن زياد، خرج بالكرسي على بغل يحمله في القتال. ثم دخلت سنة سبع وستين. مقتل عبيد الله بن زياد وفي هذه السنة في المحرم، أرسل المختار الجنود لقتال عبيد الله بن زياد، وكان قد استولى على الموصل، وقدم على الجيش إِبراهيم بن الأشتر النخعي، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزمت أصحاب ابن زياد، وقتل عبيد الله بن زياد، قتله إِبراهيم بن الأشتر في المعركة، وأخذ رأسه وأحرق جثته، وغرق في الزاب من أصحاب ابن زياد المنهزمين أكثر ممن قتل، وبعث إِبراهيم برأس ابن زياد، وبعدة رؤوس معه إِلى المختار، وانتقم الله للحسين بالمختار، وإن لم تكن نية المختار جميلة. وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وستين، ولى ابن الزبير أخاه مصعباً البصرة، ثم سار مصعب إِلى البصرة، بعد أن طلب المهلب بن أبي صفرة من خراسان، فقدم إِليه بمال وعسكر كثير، فسارا جميعاً إلى قتال المختار بالكوفة، وجمع المختار جموعه والتقيا، فتمت الهزيمة بعد قتال شديد على المختار وأصحابه، وانحصر المختار في قصر الإِمارة بالكوفة، ودخل مصعب الكوفة وحاصر المختار، وما زال المختار يقاتل حتى قتل، ثم نزل أصحابه من القصر على حكم مصعب، فقتلهم جميعهم، وكانوا سبعة آلاف نفس، وكان مقتل المختار في رمضان سنة سبع وستين، وعمره سبع وستون سنة. وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وستين للهجرة، وقيل سنة إِحدى وسبعين، وقيل سنة تسع وستين، وقيل سنة ثمان وستين، توفي بالكوفة أبو بحر الضحاك بن قيس بن معاوية بن حصين بن عبادة، وكان يعرف الضحاك المذكور بالأحنف، وهو الذي يضرب به المثل في الحلم، وكان سيد قومه، موصوفاً بالعقل، والدهاء والعلم، والحلم والذكاء، أدرك عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يصحبه، ووفد على عمر بن الخطاب في أيام خلافته، وكان من كبار التابعين، وشهد مع علي وقعة صفين، ولم يشهد وقعة الجمل، مع حد الفريقين، والأحنف: المائل؛ سمي بذلك لأنه كان أحنف الرجل، يطأ على جانبها الوحشي، وقدِم الأحنف المذكور على معاوية في خلافته، وحضر عنده في وجوه الناس، فدخل رجل من أهل الشام، وقال خطيباً، وكان آخر كلامه أن لعن علي بن أبي طالب، فأطرق الناس، وتكلم الأحنف، فقال: يا أمير المؤمنين، إِن هذا القائل لو يعلم أن رِضاك في لعن المرسلين، للعنهم، فاتق الله ودع عنك علياً، فقد لقي ربه، وأفرد في قبره، وكان والله الميمونة نقيبته العظيمة مصيبته، فقال معاوية: يا أحنف

لقد أغضيت العين على القذى، فأيم الله لتصعدنّ المنبر ولتلعنه، وطوعاً أو كرهاً، فقال الأحنف: أو تعفيني فهو خير لك، فألح عليه معاوية، فقال الأحنف: أما والله لا نصفنك في القول، قال: وما أنت قائل، قال أحمد الله بما هو أهله وأصلي على رسوله وأقول: أيها الناس، إِن أمير المؤمنين معاوية، أمرني أن ألعن علياً، ألا وِإن علياً ومعاوية اختلفا فاقتتلا، وادّعى كل منهما أنه مبغي عليه، فإِذا دعوت فأمنوا. ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك ملك وجميع خلقك، الباغي منهما على صاحبه، والعن الفئة الباغية، اللهم العنهم لعناً كثيراً، أمنوا رحمكم الله. يا معاوية أقوله ولو كان فيه ذهاب روحي، فقال معاوية: إِذن نعفيك من ذلك، ولم يلزمه به. ثم دخلت سنة ثمان وستين فيها توفي عبد الله بن عباس بالطائف، وكان محمد ابن الحنفية مقيماً بالطائف أيضاً، فصلى على ابن عباس، وأقام محمد بن الحنفية بالطائف إِلى أن قدم الحجاج بن يوسف إِلى مكة، وكان مولد عبد الله بن عباس قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه الكلمة والتأويل، فكان كذلك، وكان يسمى الحبر، لكثرة علومه. ثم دخلت سنة تسع وستين وما بعدها إِلى سنة إِحدى وسبعين. مقتل مُصعب بن الزَّبير في هذه السنة، أعني سنة إِحدى وسبعين، تجهز عبد الملك، وسار إِلى العراق، وتجهز مصعب لملتقاه، واقتتل الجمعان، وكان أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك، وصاروا معه في الباطن، فتخلوا عن مصعب، وقاتل مصعب حتى قتل، هو وولده وكان مقتل مصعب بدير الجاثليق، عند نهر دجيل، وكان عمر مصعب ستاً وثلاثين سنة: وكان مقتله في جمادى الآخرة سنة. إِحدى وسبعين. وكان مصعب صديق عبد الملك بن مروان قبل خلافته، وتزوج مصعب سكينة الحسين، وعائشة بنت طلحة، وجمع بينهما في عقد نكاحه. ثم دخل عبد الملك الكوفة وبايعه الناس، واستوسق له ملك العراقين. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين، فيها جهز عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي في جيش إِلى مكة، لقتال عبد الله بن الزبير، فسار الحجاج في جمادى الأولى من هذه السنة، ونزل الطائف، وجرى بينه وبين أصحاب ابن الزبير حروب، كانت الكرة فيها على أصحاب ابن الزبير، وآخر الأمر أنه حصر ابن الزبير بمكة، ورمى البيت الحرام بالمنجنيق، ودام الحصار حتى خرجت هذه السنة. ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين، والحجاج محاصر لابن الزبير، وأبى ابن الزبير أن يسلم نفسه، وقاتل حتى قتل، في جمادى الآخرة، من هذه السنة، بعد قتال سبعة أشهر، وكان عمر ابن الزبير حين قتل نحو ثلاث وسبعين سنة، وهو أول من ولد من المهاجرين بعد الهجرة، وكانت مدة خلافته تسع سنين، لأنه بويع له سنة أربع وستين، لما مات يزيد بن معاوية، وكان عبد الله بن الزبير كثير العبادة، مكث أربعين سنة لم ينزع ثوبه عن ظهره. وفي هذه السنة، بعد مقتل

ابن الزبير، بويع لعبد الملك بالحجاز واليمن، واجتمع الناس، على طاعته. وفي هذه السنة أعني سنة ثلاث وسبعين، توفي عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، وكان موته بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر، وعمره سبع وثمانون سنة. ثم دخلت سنة أربع وسبعين، فيها هدم الحجاج الكعبة، وأخرج الحجر عن البيت، وبنى البيت على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على ذلك إلى الآن، واستمر الحجاج أميراً على الحجاز. ثم دخلت سنة خمس وسبعين، فيها أرسل عبد الملك إِلى الحجاج بولاية العراق، فسار من المدينة إِلى الكوفة، وخرج في أيام ولاية الحجاج العراق شبيب الخارجي، وكثرت جموعه، وجرى له مع الحجاج حروب كثيرة، آخرها أن جموع شبيب تفرقت، وتردّى به فرسه من فوق جسر، وسقط شبيب في الماء وغرق، وكذلك خرج على الحجاج، عبد الرحمن بن الأشعث، واستولى على خراسان، ثم سار إِلى جهة الحجاج، وغلب على الكوفة، وكثرت جموعه وقويت شوكته، وفي ذلك يقول بعض أصحابه: شطب نوى من داره بالإِيوان ... إِيوان كسرى ذي القرى والزنجان من عاشق أضحى بزابلستان ... إِن ثقيفاً منهم الكذابات كذابها الماضي وكذاب ثان ... إنا سمونا للكفور الفتان حتى طغى في الكفر بعد الإِيمان ... بالسيد الغطريف عبد الرحمن سار بجمع كالدبا من قحطان ... بجحفل جم شديد الأركان فقل الحجاج ولي الشيطان ... يثبت لجمع مذحج وهمذان فإِنهم ساقوه كأس الديفان ... وملحقوه بقرى ابن مروان ثم أمد عبد الملك الحجاج بالجيوش من الشام، وآخر الأمر أن جموع عبد الرحمن تفرقت، وانهزم، ولحق بملك الترك، وأرسل الحجاج يطلبه من ملك الترك، ويتهدده بالغزو إِن أخره، فقبض ملك الترك على عبد الرحمن المذكور، وعلى أربعين من أصحابه، وبعث بهم إِلى الحجاج، فلما نزل في مكان في الطريق، ألقى عبد الرحمن نفسه من سطح فمات. ثم دخلت سنة ست وسبعين وما بعدها إلى إحدى وثمانين، فيها توفي أبو القاسم محمد بن علي بن أبي طالب، المعروف بابن الحنفية. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين فيها توفي المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وكان من الأجواد المشهورين بالكرم والشهامة، وكان الحجاج قد ولى المهلب خراسان، ومات المهلب بمرو الرود، واستخلفَ بعده ابنه يزيد بن المهلب، ولما دنت من المهلب الوفاة، أحضر السهام لأولاده وقال: أتكسرونها مجتمعة؟ قالوا: لا قال أتكسرونها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال هكذا أنتم. وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين وثمانين توفي خالد بن يزيد بن معاوية، وكان من المعدودين في بني أمية بالسخاء والفصاحة والعقل. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين،

ولاية الوليد بن عبد الملك

فيها بنى الحجاج مدينة واسط. ثم دخلت سنة أربع وثمانين وسنة خمس وثمانين، فيها أعني سنة خمس وثمانين، توفي عبد العزيز بن مروان بمصر. ثم دخلت سنة كست وثمانين. وفاة عبد الملك بن مروان وفي منتصف شوال، من هذه السنة، توفي عبد الملك بن مروان وعمره ستون سنة، وكانت مدة خلافته، منذ قتل ابن الزبير، واجتمع له الناس، ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر، تنقص سبع ليال، وكان شديد البخر، وكنّي لذلك بأبي الذبّان، وكان يلقب لبخله برشح الحجر، وكان حازماً، عاقلاً، فقيهاً، عالماً، وكان ديناً، فلما تولى الخلافة استهوته الدنيا، فتغير عن ذلك، وفيه يقول الحسن البصري، ماذا أقول في رجل، الحجاج سيئة من سيئاته. ولاية الوليد بن عبد الملك وهو سادس خلفائهم، لما توفي عبد الملك، بويع الوليد بالخلافة، في منتصف شوال من هذه السنة، أعني سنة ست وثمانين، بعهد من أبيه إِليه، وكان مغرماً بالبناء، واستوثقت له الأمور، وفتحت في أيامه الفتوحات الكثيرة، من ذلك جزيرة الأندلس، وما وراء النهر، وولى الحجاج خراسان مع العراقين، فتغلغل في بلاد الترك، وتغلغل مسلمة بن عبد الملك في بلاد الروم، ففتح وسبى، وفتح محمد بن القاسم الثقفي بلاد الهند. وفي هذه السنة أعني سنة ست وثمانين، ولى الوليد ابن عمه، عمر بن عبد العزيز المدينة، فقدم إِليها ونزل في دار جده مروان، ودعا عشرة من فقهاء المدينة، وهم عروة بن الزبير بن العوام، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأبو بكر ابن عبد الرحمن، وأبو بكر بن سليمان، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد. فقال لهم عمر بن عبد العزيز: أريد أن لا أقطع أمراً إِلا برأيكم، فما علمتموه من تعدي عامل، أو من ظلامة، فعرفوني به، فجزوه خيراً. ثم دخلت سنة سبع وثمانين وسنة ثمان وثمانين فيها كتب الوليد إِلى عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدم بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يدخل البيوت في المسجد، بحيث تصير مساحة المسجد مائتي ذراع، في مائتي ذراع، وأن يضع أثمان البيوت في بيت المال، فأجابه أهل المدينة إِلى ذلك، وقدمت الفعلة والصناع من عند الوليد، لعمارة المسجد، وتجرد لذلك عمر بن عبد العزيز. وفي هذه السنة أيضاً أعني سنة ثمان وثمانين، أمر الوليد ببناء جامع دمشق فأنفق عليه أموالاً عظيمة، تجل عن الوصف. ثم دخلت سنة تسع وثمانين وما بعدها حتى دخلت سنة ثلاث وتسعين، فيها عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن المدينة. ثم دخلت سنة أربع وتسعين، فيها قتل الحجاج سعيد بن جبير، بسبب أن سعيداً كان خلع الحجاج، وصار مع عبد الرحمن بن

بن مروان

الأشعث، وكان سعيد بن جبير قد هرب من الحجاج، وأقام في مكة، فأرسل الحجاج يطلب جماعة من الوليد قد التجأوا إِلى مكة، فكتب الوليد إلى عامله على مكة، وهو خالد بن عبد الله القسري، يأمره بإِرسال من يطلبه الحجاج، وطلب الحجاج سعيد بن جبير وغيره، فبعث بهم إليه فضرب عنق سعيد بن جبير، وسعيد بن جبير المذكور، كان من أعلام التابعين، أخذ العلم عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعنه روى القرآن أبو عمرو، وقال أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيد بن جبير، وما على وجه الأرض أحد إلا مفتقر إِلى علمه. وفي هذه السنة أعني سنة أربع وتسعين، توفي سعيد بن المسيب، وكان من كبار التابعين، وفقهائهم. وفيها وقيل في سنة خمس وتسعين توفي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف بزين العابدين، وكان مع أبيه الحسين لمّا قتل، وسلم من القتل، لأنه كان مريضاً على الفراش، وكان كثير العبادة، ولهذا قيل له زين العابدين، وتوقي بالمدينة، ودفن بالبقيع وعمره اثنان وخمسون سنة. ثم دخلت سنة خمس وتسعين، فيها توفي الحجاج بن يوسف الثقفي، والي العراقين وخراسان، وعمره أربع وخمسون سنة، وكانت مدة ولايته العراق نحو عشرين سنة، وكان الحجاج، أخفش، رقيق الصوت، في غاية الفصاحة، قيل إِنه أحصي من جملة الذين قتلهم الحجاج، فكانوا مائة ألف وعشرين ألف. ثم دخلت سنة ست وتسعين وفاة الوليد وفي جمادى الآخرة، من هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين، توفي الوليد بن عبد الملك بن مروان، وكانت مدة خلافته تسع سنين وسبعة أشهر، وكانت وفاته بدير مران، ودفن بدمشق، خارج الباب الصغير، وصلى عليه ابن عمه عمر بن عبد العزيز، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وستة أشهر، وكان سائل الأنف جداً، وكان له من الولد ثمانية عشر ابناً، وهو الذي بنى مسجد دمشق، واحتمل له الصناع من بلاد الروم، ومن سائر بلاد الإسلام، وكان في جانب الجامع كنيسة، قد سلمت للنصارى، بسبب أنها في نصف البلد الذي أخذ بالصلح، وكانت تعرف بكنيسة ماريحنا فهدمها الوليد، وأدخلها في الجامع، وكان الوليد لحاناً، دخل عليه أعرابي يشكو صهراً له، فقال له الوليد: ما شأنك، بفتح النون. فقال الأعرابي أعوذ بالله من الشين، فقال له سليمان بن عبد الملك: أمير المؤمنين يقول: ما شأنك بضم النون. فقال الأعرابي: ختني ظلمني، فقال الوليد: من ختنَك بالفتح. فقال الأعرابي: إِنما ختنني الحجام، ولست أريد ذا. فقال سليمان بن عبد الملك: أمير المؤمنين يقول من ختنُك بالضم؟ فقال: هذا وأشار إلى خصمه، وكان أبوه عبد الملك فصيحاً، وعرف بلحن ابنه، فقال له: إِنك يا بني لا تصلح للولاية على العرب، وأنت تلحن، وجعله في بيت؛ وجعل معه من يعلمه الإعراب، فمكث الوليد كذلك مدة، ثم خرج وهو أجهل مما دخل.

أخبار سليمان بن عبد الملك

أخبار سليمان بن عبد الملك بن مروان وهو سابعهم، بويع بالخلافة لما مات أخوه الوليد، في جمادى الآخرة من هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين، وكان سليمان لما مات الوليد في مدينة الرملة، فلما وصل إِليه الخبر بعد سبعة أيام، سار إلى دمشق ودخلها، وأحسن السيرة، وردّ المظالم، واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيراً. وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم. ثم دخلت سنة سبع وتسعين وسنة ثمان وتسعين، فيها خرج سليمان ابن عبد الملك بالجيوش لغزو قسطنطينية، ونزل بمرج دابق، وسير أخاه مسلمة إِلى قسطنطينية، وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها، فشتى مسلمة على قسطنطينية، وزرع الناس بها الزرع، وأكلوه، وأقام مسلمة قاهراً لأهل قسطنطينية، حتى جاءه الخبر بموت سليمان. وفيها أعني سنة ثمان وتسعين، فتح يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، الوالي على خراسان، من قبل سليمان بن عبد الملك، جرجان وطبرستان. ثم دخلت سنة تسع وتسعين وفاة سليمان بن عبد الملك وفي هذه السنة عني سنة تسع وتسعين، توفي سليمان بن عبد الملك، في صفر، وكانت مدة خلافته سنتين وثمانية أشهر، وعمره خمس وأربعون سنة، ومات بدابق، من أرض قنسرين، مرابطاً، وأخوه مسلمه منازل قسطنطينية، وكان سليمان طويلاً أسمر، جميل الصورة، وكان به عرج، وكان حسن السيرة، وكان مُغْرماً بالنساء، كثير الأكل، حج مرة، وكان الحر في الحجاز إِذ ذاك شديداً، فتوجه إِلى الطائف طلباً للبرودة، وأتي برمان فأكل سبعين رمانهَ، ثم أتي بجدي وست دجاجات فأكلها، ثم أتي بزبيب من زبيب الطائف فأكل منه كثيراً، ونعس فنام، ثم انتبه فأتوا بالغداء فأكل على عادته، وقيل كان سبب موته أنه أتاه نصراني وهو نازل على دابق، بزنبيلين مملوءين تيناً وبيضاً، فأمر من يقشر له البيض، وجعل يأكل بيضة وتينة، حتى أتى على الزنبيلين، ثم أتوه بمخ وسكر، فأكله فاتخم، ومرض ومات، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، ودفن، وكان شديد الغيرة، أمر بخصي المخنثين الذين كانوا بالمدينة، فخصاهم عامله على المدينة، وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو الأنصاري. أخبار عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف. وهو ثامن خلفائهم، وأم عمر بن عبد العزيز، بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وأوصى إِليه بالخلافة سليمان بن عبد الملك، لما اشتد مرضه بدابق، وبويع عمر بن عبد العزيز بالخلافة في صفر، من هذه السنة، أعني سنة تسع وتسعين بعد موت سليمان.

رضي الله عنه

إبطال عمر سب علي إبطال عمر بن عبد العزيز سب علي بن أبي طالب على المنابر كان خلفاء بني أمية يسبون علياً رضي الله عنه، من سنة إِحدى وأربعين، وهي السنة التي خلع الحسن فيها نفسه من الخلافة، إلى أول سنة تسع وتسعين، آخر أيام سليمان بن عبد الملك، فلما ولي عمر، أبطل ذلك، وكتب إِلى نوابه: بإبطاله، ولما خطب يوم الجمعة، أبدل السب في آخر الخطبة بقراءة قوله تعالى " إِن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي لعلكم تذكرون " " النمل: 90 " فلم يسب علي بعد ذلك. واستمرت الخطباء على قراءة هذه الآية، ومدحه كثير بن عبد الرحمن الخزاعي فقال: وليت فلم تشتم علياً ولم تخفْ ... برياً ولم تتبع سجية مجرمِ وقلتَ فصدقتَ الذي قلتَ بالذي ... فعلتَ فأضحى راضياً كل مسلم ثم دخلت سنة مائة وسنة إِحدى ومائة وفاة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وفي هذه السنة، أعني سنة إِحدى ومائة، توفي عمر بن عبد العزيز، لخمس بقين من رجب، يوم الجمعة، بخناصرة، ودفن بدير سمعان، وقيل: توفي بدير سمعان ودفن به، قال القاضي جمال الدين بن واصل، مؤلف التاريخ المنقول هذا الكلام منه: والظاهر عندي أن دير سمعان، هو المعروف الآن بدير النقيرة، من عمل معرة النعمان، وأن قبره هو هذا المشهور، وكان موته بالسم، عند أكثر أهل النقل، فإِن بني أمية علموا أنه إِن امتدت أيامه، أخرج الأمر من أيديهم، وأنه لا يعهده بعده إِلا لمن يصلح للأمر. فعالجوه وما أمهلوه، وكان مولده بمصر على ما قيل، سنة إِحدى وستين، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، وكان عمره أربعين سنة وأشهراً، وكان في وجهه شجة من رمح دابة، وهو غلام، ولهذا كان يدعى بالأشج، وكان متحرياً سيرة الخلفاء الراشدين. أخبار يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وهو تاسعهم، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، بويع بالخلافة لما مات عمر بن عبد العزيز، في رجب سنة إِحدى ومائة، بعهد من سليمان بن عبد الملك إِليه بعد عمر. وفي أيام يزيد بن عبد الملك خرج يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، واجتمع إِليه جمع، وأرسل يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة فقاتله، وقتل يزيد بن المهلب، وجميع آل المهلب بن أبي صفرة، وكانوا مشهورين بالكرم والشجاعة، وفيهم يقول الشاعر: نزلت على آل المهلب شاتياً ... غريباً عن الأوطان في زمن المحل

فما زال بي إِحسانهم وافتقادهم ... وبرهم حتى حسبتهم أهلي ثم دخلت سنة اثنتين ومائة، فيها أعني في سنة اثنتين ومائة، توفي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وعبيد الله المذكور، هو ابن أخي عبد الله بن مسعود الصحابي، وهؤلاء الفقهاء السبعة، هم الذين انتشر عنهم الفقه والفتيا، وقد نظم بعض الفضلاء أسماءهم فقال: ألا كُلّ من لا يقتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد سليمان أبو بكر خارجه ولنذكرهم على ترتيبهم في النظم، فأولهم عبيد الله المذكور، وكان من أعلام التابعين، ولقي خلقاً كثيراً من الصحابة. الثاني عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد القرشي، أبوه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأم عروة أسماء بنت أبي بكر، وهي ذات النطاقين، وهو شقيق عبد الله بن الزبير، الذي تولى الخلافة، وتوفي عروة المذكور، في سنة ثلاث وتسعين للهجرة، وقيل أربع وتسعين، وكان مولده سنة اثنتين وعشرين. الثالث قاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وكان من أفضل أهل زمانه، وأبوه محمد بن أبي بكر، الذي قتل بمصر على ما شرحنا. الرابع سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب القرشي، جمع بين الحديث والفقه، والزهد والعبادة، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، وتوفي في سنة إِحدى وقيل اثنتين، وقيل ثلاث، وقيل أربع وقيل خمس وتسعين. الخامس سليمان بن يسار، مولي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، روى عن ابن عباس، وعن أبي هريرة، وأم سلمة، وتوفي في سنة سبع ومائة، وقيل غير ذلك، وعمره ثلاث وسبعون سنة. السادس أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، وكنيته اسمه، كان من سادات التابعين، وسمي راهب قريش، وجده الحارث، هو أخو أبي جهل بن هشام، وتوفي أبو بكر المذكور في سنة أربع وتسعين للهجرة، وولد في خلافة عمر بن الخطاب. السابع خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، وأبوه زيد بن ثابت من أكابر الصحابة، الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه أفرضكم زيد. وتوفي خارجة المذكور، في سنة تسع وتسعين للهجرة، وقيل سنة مائة بالمدينة، وأدرك زمن عثمان ابن عفان، فهؤلاء السبعة هم المعروفون بفقهاء المدينة السبعة، وانتشرت عنهم الفتيا والفقه، وكان في زمانهم من هو في طبقتهم في الفضيلة، ولم يذكر معهم، مثل سالم ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وغيره، وتوفي سالم المذكور في سنة ست ومائة، وقيل غير ذلك، وكان من أعلام التابعيين أيضاً، وقد ذكر في موضع آخر وفاة بعض المذكورين، وإنما ذكرناهم جملة لأنه أقرب للضبط، ثم دخلت سنة ثلاث وسنة أربع وسنة خمس ومائة.

أخبار هشام بن عبد الملك

وفاة يزيد بن عبد الملك وفيها، أعني سنة خمس ومائة، لخمس بقين من شعبان، توفي يزيد بن عبد الملك، وعمره أربعون سنة، وقيل غير ذلك، وكانت مدة خلافته أربع سنين وشهراً، وكان يزيد المذكور، قد عهد بالخلافة إِلى أخيه هشام، ثم من بعده إِلى ابنه الوليد ابن يزيد بن عبد الملك. وكان يزيد صاحب لهو وطرب، وهو صاحب حبابة، وسلامة القس، وكان مغرماً بهما جداً، وماتت حبابة، فمات بعدها بسبعة عشر يوماً، وإنما سميت سلامة القس، لأن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمار، كان يسمى القس، لعبادته، وكان فقيهاً، فمرّ بمنزل أستاذ سلامة، فسمع غناءها، فهويها وهويته، واجتمعا، فقالت له سلامة: إِني أحبك، فقال: وأنا أيضاً. وقالت: وأشتهي أن أقبلك. قال: وأنا أيضاً. فقالت له: ما يمنعك: قال تقوى الله، وقام وانصرف عنها، فسميت سلامة القس، بسبب عبد الرحمن المذكور. أخبار هشام بن عبد الملك وهو عاشرهم، وكان عمره لما ولي الخلافة، أربعاً وثلاثين سنة وأشهراً، وكان هشام بالرصافة لما مات يزيد بن عبد الملك، في دويرة له صغيرة، فجاءته الخلافة على البريد، فركب من الرصافة وسار إِلى دمشق. ثم دخلت سنة ست ومائة وما بعدها، حتى دخلت سنة عشر ومائة، فيها توفي الإمام المشهور الحسن بن أبي الحسن البصري، وكان مولده في خلافة عمر بن الخطاب، وهو من أكابر التابعين. وفيها توفي محمد بن سيرين، وكان أبوه سيرين، عبداً لأنس بن مالك، فكاتبه أنس على مال، وحمله سيرين وعتق، وكان من سبي خالد بن الوليد، وروى محمد بن سيرين المذكور، عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم، وكان من كبار التابعين، وله اليد الطولى في تعبير الرؤيا. ثم دخلت سنة إِحدى عشرة ومائة ودخلت سنة اثنتي عشرة ومائة وما بعدها، حتى دخلت سنة ست عشرة ومائة، فيها توفي الباقر محمد بن زين العابدين، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المقدم ذكره، وقيل كانت وفاته سنة أربع عشرة، وقيل سنة سبع عشرة، وقيل سنة ثماني عشرة ومائة، وكان عمر الباقر المذكور ثلاثاً وسبعين سنة، وأوصى أن يكفن بقميصه الذي كان يصلي فيه، وقيل له الباقر: لتبقره في العلم، أي توسعه فيه، وولد الباقر المذكور في سنة سبع وخمسين، وكان عمره لما قتل جده الحسين ثلاث سنين، وتوفي بالحميمة من الشراة، ونقل ودفن بالبقيع. ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة، فيها أعني في سنة سبع عشرة، وقيل سنة عشرين ومائة، توفي نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، أصابه عبد الله في بعض غزواته، وكان نافع من كبار التابعين، سمع مولاه عبد الله، وأبا سعيد الخدري، وروى عن نافع الزهري، ومالك بن أنس، وأهل الحديث يقولون: رواية الشافعي عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر،

سلسلة الذهب لجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة. ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومائة وسنة تسع عشرة ومائة فيها غزا المسلمون بلاد الترك، فانتصروا وغنموا أشياء كثيرة، وقتلوا من الأتراك مقتلة عظيمة، وقتلوا خاقان، ملك الترك، وكان المتولي لحرب الترك، أسد بن عبد الله القسري. ثم دخلت سنة عشرين ومائة فيها توفي أبو سعيد عبد الله بن كثير أحد القراء السبعة. ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة، فيها غزا مروان بن محمد بن مروان، وكان على الجزيرة وأرمينية، بلاد صاحب السرير، فأجاب صاحب السرير إِلى الجزية، في كل سنة سبعين ألف رأس، يؤديها. وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم، فافتتح حصونها وغَنمَ. وفيها غزا نصر بن سيار بلاد ما وراء النهر، وقتل ملك الترك، ثم مضى إِلى فرغانة فسبى بها سبياً كثيراً. وفيها أعني سنة إِحدى وعشرين، وقيل اثنتين وعشرين ومائة، خرج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، بالكوفة، ودعا إلى نفسه، وبايعه جمع كثير، وكان الوالي على الكوفة من قبل هشام، يوسف بن عمر الثقفي، فجمع العسكر وقاتل زيداً، فأصاب زيداً سهم في جبهته، فأدخل بعض الدور، ونزعوا السهم من جبهته، ثم مات. ولما علم يوسف بن عمر بمقتله، تطلبه حتى دل عليه واستخرجه وصلب جثته، وبعث برأسه إِلى هشام بن عبد الملك، فأمر بنصب الرأس بدمشق، ولم تزل جثته مصلوبة حتى مات هشام، وولي الوليد، فأمر بحرق جثته، فأحرقت، وكان عمر زيد لما قتل، اثنتين وأربعين سنة. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة فيها توفي إِياس بن معاوية بن قرة المزني، المشهور بالفراسة والذكاء، وكان ولي قضاء البصرة في أيام عمر بن عبد العزيز. ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة وسنة أربع وعشرين ومائة، فيها وقيل غير ذلك، توفي محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشي، وعمره ثلاث وسبعون سنة، المعروف بالزُهري، بضم الزاي المنقوطة، وسكون الهاء، وبعدها راء، هذه النسبة إلى زهرة بن كلاب بن مرة، وكان الزُهري المذكور، من أعلام التابعين، رأى عشرة من أصحاب النبي، وروى عن الزهري المذكور، جماعة من الأئمة، مثل مالك وسفيان الثوري وغيرهما، وكان الزهري، إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله مشتغلا بها عن كل أحد فقالت له زوجته: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر. ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة. وفاة هشام وفي هذه السنة، أعني سنة خمس وعشرين ومائة، توفي هشام بن عبد الملك بالرصافة، لست خلون من ربيع الأول، فكانت مدة خلافته تسع عشرة سنة وتسعة أشهر، وكسراً، وكان مرضه الذبحة، وكان عمره خمساً وخمسين سنة، ولما مات طلبوا له ما يسخنون فيه الماء، فلم يعطهم عياض كاتب الوليد، ما يسخنون فيه الماء، فإِنه ختم على جميع موجوده للوليد، فاستعاروا

أخبار الوليد بن يزيد بن عبد الملك

له من الجيران قمقساً لتسخين الماء، ودفن بالرصافة، وكان أحول بين الحول، وخلف عدة بنين، منهم معاوية أبو عبد الرحمن، الذي دخل الأندلس، وملكها لما زال ملك بني أمية، وكان هشام حازماً سد يد الرأي، غزير العقل، عالماً بالسياسة، واختار هشام الرصافة، وبناها، وإليه تنسب فيقال رصافة هشام، وكانت مدينة رومية، ثم خرجت وهي صحيحة الهواء، وإنما اختارها لأن خلفاء بني أمية، كانوا يهربون من الطاعون، وينزلون في البرية، فأقام هشام بالرصافة، وهي في تربة صحيحة، وابتنى بها قصرين وكان بها دير معروف. أخبار الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وهو حادي عشر خلفاء بني أمية، لما مات هشام، نفذت الكتب إِلى الوليد، وكان الوليد مقيماً في البريّة بالأزرق خوفاً من هشام، وكان الوليد وأصحابه في ذلك الموضع في أسوأ حال، ولما اشتد به الضيق، أتاه الفرج بموت هشام، وكانت البيعة للوليد يوم الأربعاء، لثلاث خلون من ربيع الآخر، من هذه السنة أعني سنة خمس وعشرين ومائة، وعكف الوليد على شرب الخمر، وسماع الغناء ومعاشرة النساء، وزاد الناس في أعطيتهم عشرات، ثم زاد أهل الشام بعد زيادة العشرات عشرة أخرى، ولم يقل في شيء سُئله لا. انتهى اَلنقل من تاريخ القاضي جمال الدين بن واصل، وابتدأت من هنا من تاريخ ابن الأثير الكامل، وفي هذه السنة أعني سنة خمس وعشرين ومائة، توفي القاسم بن أبي برة، وهو من المشهورين بالقراءة. ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة، فيها سلم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، خالد بن عبد الله القسري. إِلى يوسف بن عمر، عامله على العراق، فعذبه وقتله. قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك في هذه السنة، قتل الوليد، قتله يزيد بن الوليد بن عبد الملك، الذي يقال له يزيد الناقص، وكان مقتله في جمادى الآخرة، سنه ست وعشرين ومائة، بسبب كثرة مجونه ولهوه وشربه الخمر، ومنادمة الفساق، فثقل ذلك على الرعية والجند، وأذى بني عميه هشام والوليد، فرمره بالكفر، وغشيان أمهات أولاد أبيه، ودعا يزيد إلى نفسه، واجتمعت عليه اليمانية، ونهاه أخوه العباس بن الوليد بن عبد الملك عن ذلك، وتهدده، فأخفى يزيد الأمر عن أخيه، وكان يزيد مقيماً بالبادية، لوخم دمشق، فلما، اجتمع له أمره، قصد دمشق متخفياً في سبعة نفر، وكان بينه وبينها مسيرة أربعة أيام، ونزل بجيرود على مرحلة من دمشق، ثم دخل دمشق ليلاً، وقد بايع له أكثر أهلها، وكان عامل الوليد على دمشق، عبد الملك بن محمد بن الحجاج، وجاء الوباء بدمشق فخرج منها، ونزل قرية قطنا، وظهر يزيد في دمشق، واجتمعت عليه الجند وغيرهم، وأرسل إِلى قطنا مائتي فارس، فأخذوا عبد الملك المذكور، عامل الوليد على دمشق بالأمان، ثم جهز يزيد جيشاً إِلى الوليد بن زيد بن عبد الملك، ومقدمهم عبد العزيز بن

أخبار يزيد بن الوليد

الحجاج بن عبد الملك، ولما ظهر يزيد بن الوليد بدمشق، سار بعض موالي الوليد إِليه، وأعلمه، وهو بالأغذف من عمان، فسار الوليد حتى أتى البحرة، إِلى قصر النعمان بن بشير، ونازله عبد العزيز، وجرى بينه وبين الوليد قتال كثير، وقصد العباس بن الوليد بن عبد الملك، أخوه يزيد المذكور، اللحوق بالوليد ونصرته على أخيه، فأرسل عبد العزيز، منصور بن جمهور، إلى العباس، فأخذه قهراً، وأتى به إِلى عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك، فبايع، ونصب عبد العزيز راية وقال: هذه راية العباس، قد بايع لأمير المؤمنين يزيد، فتفرق الناس عن الوليد، فركب الوليد بمن بقي معه، وقاتل قتالاً شديداً، ثم انهزم عنه أصحابه، فدخل القصر وأغلقه، وحاصروه ودخلوا إِليه وقتلوه، واحتزوا رأسه، وسيروه إلى يزيد بن الوليد، فسجد يزيد شكراً لله، ووضع الرأس على رمح، وطيف به في دمشق، وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، سنة ست وعشرين ومائة، فكانت مدة خلافته سنة وثلاثة أشهر، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وقيل غير ذلك، وكان الوليد من فتيان بني أمية وظرفائهم، منهمكاً في اللهو والشرب وسماع الغناء. أخبار يزيد بن الوليد بن عبد الملك وهو ثاني عشر خلفائهم، استقر يزيد الناقص في الخلافة، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، سنة ست وعشرين ومائة، وسمي يزيد الناقص، لأنه نقص الناس العشرات التي زادها الوليد، وقررهم على ما كانوا عليه أيام هشام، ولما قتل الوليد وتولى يزيد الخلافة خالفه أهل حمص، وهجموا دار أخيه العباس بحمص، ونهبوا ما بها، وسلبوا حرمه، وأجمعوا على المسير إِلى دمشق لحرب يزيد، فأرسل إِليهم يزيد عسكراً، والتقوا قرب ثنية العقاب، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم أهل حمص، واستولى عليها يزيد، وأخذ البيعة عليهم. ثم اجتمع أهل فلسطين، فوثبوا على عامل يزيد، فأخرجوه من فلسطين، وأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك، فجعلوه عليهم، ودعا الناس إِلى قتال يزيد الناقص، فأجابوه إِلى ذلك، وبلغ يزيد ذلك، فأرسل إِليهم جيشاً مع سليمان بن هشام ابن عبد الملك، ووعد كبراء فلسطين ومناهم، فتخاذلوا عن صاحبهم، فلما قرب منهم الجيش تفرقوا، وقدم جيش سليمان في أثر يزيد بن سليمان بن عبد الملك، فنهبوه، وسار سليمان بن هشام بن عبد الملك حتى نزل طبرية، وأخذ البيعة بها ليزيد الناقص، ثم سار حتى نزل الرملة، وأخذ البيعة على أهلها أيضاً للمذكور. ثم أن يزيداً عزل يوسف بن عمر عن العراق، واستعمل عليه منصور بن جمهور، وضم إِليه مع العراق خراسان، فامتنع نصر بن سيار في خراسان، ولم يجب إِلى ذلك، ثم عزل يزيد بن الوليد، منصور بن جمهور عن العراق، وولاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز. وفي هذه السنة أعني سنة ست وعشرين ومائة، أظهر مروان بن محمد الخلاف ليزيد بن الوليد.

بن مروان بن الحكم

وفاة يزيد بن الوليد بن عبد الملك وفي هذه السنة، توفي يزيد الناقص المذكور، لعشر بقين من ذي الحجة، وكانت خلافته خمسة أشهر واثني عشر يوماً، وكان موته بدمشق، وكان عمره ستاً وأربعين سنة، وقيل ثلاثون سنة، وقيل غير ذلك. وكان أسمر طويلاً، صغير الرأس جميلاً، ولما مات يزيد بن الوليد، قام بالأمر بعده إبراهيم أخوه وهو ثالث عشر خلفائهم، غير أنه لم يتم له الأمر، وكان يسلم عليه بالخلافة تارة، وتارة بالإمارة، فمكث أربعة أشهر وقيل سبعين يوماً. وفيها توفي عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. وفيها توفي أبو جمرة صاحب ابن عباس، جمرة بالجيم والراء المهملة. ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة، فيها سار مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، أمير ديار الجزيرة، إِلى الشام لخلع إبراهيم بن الوليد، ولما وصل إِلى قنسرين، اتفق معه أهلها، وساروا معه، ولما وصل مروان إِلى حمص، بايعه أهلها، وصاروا معه أيضاً، ولما قرب مروان من دمشق، بعث إِبراهيم إِلى قتاله الجنود، مع سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكانت عدتهم مائة وعشرين ألفاً، وعدة عسكر مروان بن محمد ثمانين ألفاً، فاقتتلوا من ارتفاع النهار إلى العصر، وكثر القتل بينهم، وانهزم عسكر إبراهيم، ووقع القتل فيهم والأسر، وهرب سليمان فيمن هرب إلى دمشق، واجتمعوا مع إِبراهيم، وقتلوا ابني الوليد بن يزيد وكانا في السجن، ثم هرب إبراهيم واختفى، ونهب سليمان بن هشام بيت المال، وقسمه في أصحابه، وخرج من دمشق. بيعة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وهو رابع عشر خلفاء بني أمية وآخرهم، وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وعشرين ومائة، بويع لمروان المذكور في دمشق بالخلافة، ولما استقر له الآمر، رجع إِلى منزله بحران، وأرسل إِبراهيم المخلوع بن الوليد، وسليمان بن هشام، فطلبا من مروان الأمان، فأمنهما، فقدما عليه ومع سليمان أخوته وأهل بيته فبايعوا مروان بن محمد. وفي هذه السنة، عصي أهل حمص على مروان، فسار مروان من حران إلى حمص، وقد سد أهلها أبوابها، فأحدق بالمدينة، ثم فتحوا له الأبواب وأظهروا طاعته، ثم وقع بينهم قتال، فقتل من أهل حمص مقتلة، وهدم بعض سورها، وصلب جماعة من أهلها. ولما فتح حمص جاءه الخبر بخلاف أهل الغوطة، وأنهم ولوا عليهم يزيد بن خالد القسري، وأنهم قد حصروا دمشق، فأرسل مروان عشرة آلاف فارس، مع أبي الورد بن الكوثر، وعمرو بن الصباح، وساروا من حمص، ولما وصلوا إلى قرب دمشق، حملوا على أهل الغوطة، وخرج من بالبلد عليهم أيضاً، فانهزم أهل الغوطة، ونهبهم العسكر وأحرقوا المزة وقرى غيرها. ثم عقيب ذلك خالفت أهل فلسطين، ومقدمهم ثابت بن نعيم، فكتب مروان إِلى أبي الورد يأمره بالسير إليه، فسار إِليه وهزمه على طبرية، ثم

اقتتلوا على فلسطين، فانهزم ثابت بن نعيم، وتفرق أصحابه، وأسر ثلاثة من أولاده، فبعث بهم أبو الورد إِلى مروان، وأعلمه بالنصر. ثم سار مروان بن محمد إِلى قرقيسيا، فخلعه سليمان بن هشام بن عبد الملك، واجتمع إِليه من أهل الشام سبعون ألفاً، وعسكر بقنسرين، وسار إِليه مروان من قرقيسيا، والتقوا بأرض قنسرين، وجرى بينهم قتال شديد، ثم انهزم سليمان بن هشام وعسكره، واتبعهم خيل مروان يقتلون ويأسرون، فكانت القتلى من عسكر سليمان تزيد على ثلاثين ألفاً، ثم إِن سليمان وصل إِلى حمص، واجتمع إِليه أهلها وبقية المنهزمين، فسار إِليهم مروان وهزمهم ثانية، وهرب سليمان إلى تدمر، وعصى أهل حمص، فحاصرهم مروان مدة طويلة، ثم طلبوا الأمان، وسلموا إِلى مروان من كان عليهم من الولاة، من جهة سليمان، فأجابهم إِلى ذلك ومنهم. وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وعشرين ومائة، مات محمد بن واسع الأزدي الزاهد. وفيها مات عبد الله بن إسحاق. مولى الحضرمي من خلفاء عبد شمس، وكنيته أبو بحر، وكان إِماماً في النحو واللغة، وكان يعيب الفرزدق في شعره، وينسبه إلى اللحن، فهجاه الفرزدق بقوله: ولو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا فقال له عبد الله: وقد لحنت أيضاً في قولك مولى مواليا، يل ينبغي أن تقول مولى موالي. ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة، فيها أرسل مروان بن محمد، يزيد بن هبيرة إِلى العراق، لقتال من به من الخوارج، وكان بخراسان نصر بن سيار، والفتنة بها قائمة، بسبب دعاة بني العباس. وفيها مات عاصم بن أبي النجود، صاحب القراة، والنجود الحمارة الوحشية. ظهور دعوة بني العباس ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة، فيها ظهرت دعوة بني العباس بخراسان، وكان يختلف أبو مسلم الخراساني من خراسان، إلى إِبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان يُسمى إِبراهيم الإمام، ومنه إلى خراسان، ليستلم منه إِبراهيم الأحوال، فلما كانت هذه السنة، استدعى إِبراهيم أبا مسلم من خراسان، فسار إِليه، ثم أرسل إليه إِبراهيم أن ابعث إِلي بما معك من المال مع قحطبة، وارجع إلى أمرك من حيث وافاك كتابي، ووافاه الكتاب بقومس، فامتثل أبو مسلم ذلك، وأرسل ما معه إِلى إِبراهيم مع قحطبة، ورجع أبو مسلم إلى خراسان، فلما وصل إِلى مرو أظهر الدعوة لبني العباس، فأجابه الناس، وأرسل إِلى بلاد خراسان بإظهار ذلك، وذلك بعد أن كان قد سعى في ذلك سراً مدة طويلة، ووافقه الناس في الباطن، وأظهروا ذلك في هذه السنة، وجرى بين أبي مسلم، وبين نصر بن سيار، أمير خراسان من جهة بني أمية، مكاتبات ومراسلات يطول شرحها، ثم جرى بينهما قتال، فقتل أبو مسلم بعض عمال نصر بن سيار، على بعض بلاد خراسان، واستولى على ما بأيديهم، وكان أبو مسلم من أهل خطرنية من سواد الكوفة، وكان قهرماناً لإِدريس معقل العجلي، ثم صار إِلى

أن ولاه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الأمر في استدعاء الناس في الباطن، ثم مات محمد، فولاه ابنه إِبراهيم الإمام بن محمد ذلك، ثم الأئمة من ولد محمد، ولما قوى أبو مسلم على نصر بن سيار، ورأى نصر أن أمر أبي مسلم كلما جاء في قوة، كتب إلى مروان بن محمد يعلمه بالحال، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكتب أبيات شعر وهي: أرى تحتَ الرماد وميضَ نارٍ ... وأوشك أن تكون لها ضرامُ فإِن لم يُطفها عقلاءُ قوم ... يكون وقودها جثث وهامُ فقلت من التعجب ليتَ شعري ... أأيقاظ أمية أم نيامُ وكان مقام إِبراهيم الإمام وأهله بالشراة، من الشام، بقرية يقال لها الحميمة، والحميمة، بضم الحاء المهملة، وميم مفتوحة، وياء مثناهْ من تحتها ساكنة، ثم ميم وهاء، هي عن الشوبك أقل من مسيرة يوم، بينها وبين الشوبك وادي موسى، وهي من الشوبك قبلة بغرب، وتلك البقعة التي هي من الشوبك، إِلى جهة الغرب، والقبلة، يقال لها الشراة. ولما بلغ مروان الحال، أرسل إِلى عامله بالبلقاء، أن يسير إِليه إبراهيم بن محمد المذكور، فشدّه وثاقاً، وبعث به إِليه، فأخذه مروان وحبسه في حران، حتى مات إِبراهيم في حبسه، وكان مولده في سنة اثنتين وثمانين. ثم دخلت سنة ثلاثين ومائة، في هذه السنة، دخل أبو مسلم مدينة مرو ونزل في قصر الإمارة، في ربيع الآخر، وهرب نصر بن سيار من مرو، ثم وصل قحطبة من عند الإمام إِبراهيم بن محمد إِلى أبي مسلم، ومعه لواء كان قد عقده له إِبراهيم، فجعل أبو مسلم قحطبة في مقدمته، وجعل إِليه العزل والاستعمال، وكتب إلى الجنود بذلك. وفيها أعني سنة ثلاثين ومائة، وقيل سنة ست وثلاثين، توفي ربيعة الرأي ابن فروج، فقيه أهل المدينة، أدرك جماعة من الصحابة، وعنه أخذ العلم الإمام مالك. ثم دخلت سنة إِحدى وثلاثين ومائة، فيها مات نصر بن سبار بساوة، قرب الري، وكان عمره خمساً وثمانين سنة، وفيها، أيضاً توفي أبو حذيفة، واصل بن عطاء الغزال المعتزلي، وكان مولده سنة ثمانين للهجرة، وكان يشتغل على الحسن البصري، ثم اعتزل عنه، وخالف في قوله في أصحاب الكبائر من المسلمين، أنهم ليسوا مؤمنين ولا كافرين، بل لهم منزلة بين المنزلتين، فسمي وأصحابه معتزلة، وكان واصل المذكور، يلثغ بالراء، ويتجنب اللفظ بالراء في كلامه، حتى ذكر ذلك في الأشعار فمنه في المديح: نعم تجنب لا يوم العطاء كما ... تجنب ابن عطاء لثغة الراء ولم يكن واصل بن عطاء غزّالا، وإنما كان يلازم الغّزالين، ليعرف المتعففات من النساء، فيحمل صدقته لهن. وفيها أعني سنة إِحدى وثلاثين ومائة، توفي بالبصرة مالك بن دينار، من موالي بني أسامة بن ثور القرشي، العالم الناسك الزاهد المشهور، وما أحسن ما وري باسم مالك المذكور، واسم أبيه دينار، بعض الشعراء، في ملك اقتتل مع أعدائه، وانتصر عليهم،

خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح

وأسر الرجال وفرق الأموال فقال: أعتقت من أموالهم ما استعبدوا ... وملكتُ رقهم وهم أحرارُ حتى غدا من كان منهم مالكا ... متمنياً لو أنه دينار ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة، في هذه السنة، سار قحطبة في جيش كثيف من خراسان، طالباً يزيد بن هبيرة أمير العراق، من جهة مروان، آخر خلفاء بني أمية، وسار حتى قطع الفرات، والتقيا، فانهزم ابن هبيرة، وعدم قحطبة، فقيل غرق، وقيل وجد مقتولاً، وقام بالأمر بعده ابنه الحسن بن قحطبة. خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح وفي هذه السنة بويع أبو العباس السفاح، واسمه عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس بالخلافة، في ربيع الأول، وقيل في ربيع الآخر بالكوفة، بعد مسيره من الحميمة، وكان سبب مسيره من الحميمة، وكان مقامه بها، أن إِبراهيم الإمام لما أمسكه مروان، نعى نفسه إِلى أهل بيته، وأمرهم بالمسير إلى أهل الكوفة، مع أخيه أبي العباس السفاح، وبالسمع له والطاعة، وأوصى إِبراهيم الإمام بالخلافة إِلى أخيه السفاح، وسار أبو العباس السفاح بأهل بيته، منهم أخوه أبو جعفر المنصور، وغيره، إِلى الكوفة، فقدم إليها في صفر، واستخفى إِلى شهر ربيع الأول، فظهر وسلم عليه الناس بالخلافة، وعزره في أخيه إبراهيم الإمام، ودخل دار الإمارة بالكوفة، صبيحة يوم الجمعة، ثاني عشر ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ثم خرج إِلى المسجد، فخطب وصلى بالناس، ثم صعد إِلى المنبر ثانياً، وصعد عمه داود بن علي، فقام دونه، وخطبا الناس، وحضاهم على الطاعة ثم نزل السفاح وعمه داود بن علي أمامه، حتى دخل القصر، وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور في المسجد، يأخذ له البيعة على الناس، ثم خرج السفاح فعسكر بحمام أعين واستخلف على الكوفة وأرضها، عمه داود بن علي، وحاجب السفاح يومئذ عبد الله ابن بسام. ثم بعث السفاح عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس إلى شهرزور، وأهلها مذعنون بالطاعة لبني العباس، وبها من جهة بني العباس أبو عون، عبد الملك بن يزيد الأزدي. وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد، إِلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ يحاصر ابن هبيرة بواسط. وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن عباس، إِلى حميد بن قحطبة، أخي الحسن بن قحطبة بالمدائن، وأقام السفاح في العسكر أشهراً، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية، وهي هاشمية الكوفة، بقصر الإِمارة. هزيمة مروان بالزاب وأخباره إلى أن قتل كان مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، آخر خلفاء بني أمية، وكان يقال له مروان الجعدي، وحمار الجزيرة أيضاً، بحران، فسار منها طالباً أبا عون، عبد الملك بن يزيد الأزدي، المستولي على شهرزور من جهة بني العباس،

فلما وصل مروان إِلى الزاب، نزل به وحفر عليه خندقاً، وكان في مائة ألف وعشرين ألفاً، وسار أبو عون من شهرزور إِلى الزاب، بما عنده من الجموع، وأردفه السفاح بعساكر في دفوع، مع عدة مقدمين، منهم سلمة بن محمد ابن عبد الله الطائي، وعم السفاح عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، كما ذكرناه، ولما قدم عبد الله بن علي على أبي عون، تحول أبو عون عن سرادقه وخلاه له وما فيه. ثم إِن مروان عقد جسراً على الزاب، وعبر إِلى جهة عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فسار عبد الله بن علي إلى مروان، وقد جعل على ميمنته أبا عون، وعلى ميسرته الوليد بن معاوية، وكان عسكر عبد الله عشرين ألفاً، وقيل أقل من ذلك، والتقى الجمعان، واشتد بينهم القتال، وداخل عسكر مروان الفشل، وصار لا يريد أمراً إِلا وكان فيه الخلل، حتى تمت الهزيمة على عسكر مروان، فانهزموا وغرق من أصحاب مروان عدة كثيرة، وكان ممن غرق، إِبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان المخلوع، وهو يومئذ مع مروان الحمار، وكتب عبد الله بن علي إِلى السفاح بالفتح، وحوى من عسكر مروان سلاحاً كثيراً. وكانت هزيمة مروان بالزاب، يوم السبت، لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة، سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ولما انهزم مروان من الزاب، أتى الموصل، فسبّه أهلها وقالوا: يا جعدي، الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبينا، فسار عنها حتى أتى حران، وأقام بها نيفاً وعشرين يوماً، حتى دنا منه عسكر السفاح، فحمل مروان أهله وخيله، ومضى منهزماً إلى حمص، وقدم عبد الله بن علي حران، ثم سار مروان من حمص وأتى دمشق، ثم سار عن دمشق إِلى فلسطين، وكان السفاح قد كتب إِلى عمه عبد الله بن علي باتباع مروان، فسار عبد الله في أثره إلى أن وصل إلى دمشق، فحاصرها ودخلها عنوة، يوم الأربعاء لخمس مضين من رمضان، سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ولما فتح عبد الله بن علي دمشق، أقام بها خمسة عشرة يوماً، ثم سار من دمشق حتى أتى فلسطين، فورد عليه كتاب السفاح يأمره أن يرسل أخاه، صالح بن علي بن عبد الله بن عباس في طلب مروان، فسار صالح في ذي القعدة من هذه السنة، حتى نزل نيل مصر، ومروان منهزم قدامه، حتى أدركه في كنيسة في بوصير من أعمال مصر، وانهزم أصحاب مروان، وطعن إِنسان مروان برمح فقتله، وسبق إِليه رجل من أهل الكوفة، كان يبيع الرمان، فاحتز رأسه، وكان قتله لثلاث بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ولما أحضر رأسه قدام صالح بن علي بن عبد الله ابن العباس، أمر أن ينفض، فانقطع لسانه، فأخذته هرة، وأرسله صالح إلى السفاح وقال: قد فتحَ اللهُ مصراً عنوةً لكُمُ ... وأهلك الفاجرَ الجعديَ إِذ ظلما وذاك مقوله هر يجرره ... وكان ربُكَ من ذي الكفر منتقما ثم رجع صالح المذكور إِلى الشام، وخلف أبا عون بمصر، ولما وصل الرأس إِلى السفاح وهو

بالكوفة، سجد شكراً لله تعالى، ولما قتل مروان، هرب ابناه عبد الله وعبيد الله إِلى أرض الحبشة، فقاتلتهم الحبشة، فقتل عبيد الله، ونجا عبد الله في عدّة ممن معه، وبقي إلى خلافة المهدي، فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين، فبعث به إِلى المهدي، ولما قتل مروان حُملت نساؤه وبناته إِلى بين يدي صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، فأمر بحملهن إلى حران، فلما دخلنها ورأين منازل مروان، رفعن أصواتهن بالبكاء، وكان عمر مروان لما قتل، اثنتين وستين سنة، وكانت مدة خلافته خمس سنين وعشرة أشهر ونصفاً، وكان يكنى أبا عبد الملك وكانت أمه أم ولد كردية، وكان يلقب بالحمار، وبالجعدي، لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه، في القول بخلق القرآن، والقدر، وكان مروان بن محمد، الحكمٍ المذكور، أبيض أشهل، ضخم الهامة، كث اللحية أبيضها، ربعة، وكان شجاعاً، حازماً، إلا أن مدته انقضت، فلم ينفعه حزمه وهو آخر الخلفاء من بني أمية. من قتل من بني أمية كان سليمان بن هشام بن عبد الملك، قد أمنه السفاح وأكرمه، فدخل سديف على السفاح وأنشده: لا يغرنك ما ترى من رجال ... إِنّ تحت الضلوع داء دويا فضع السيفَ وارفع السوطَ حتّى ... لا ترىَ فوق ظهرها أمويا فأمر السفاح بقتل سليمان، فقتل، وكان قد اجتمع عند عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، عدة من بني أمية، نحو تسعين رجلاً، فلما اجتمعوا عند حضور الطعام، دخل شبل بن عبد الله، مولى بني هاشم، على عبد الله بن علي عم السفاح المذكور وأنشده: أصبحَ الملك ثابتُ الأساسِ ... بالبهاليل من بني العباسِ طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميل من الزمان وياسِ لا تقيلن عبد شمس عثاراً ... واقطعن كل رقلة وغرَاس ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحد المواسي ولقد ساءني وساء سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي أنزلوها بحيث أنزلها الل ... هـ بدار الهوان والإتعاسِ واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وشهيد بجانبَ المهراس والقتل الذي بحران أضحى ... ثاوياً بين غربة وتتاسِ فأمر عبد الله بهم، فضربوا بالعمد حتى وقعوا، وبسط عليهم الأنطاع، ومد عليهم الطعام، وأكل الناس وهم يسمعون أنينهم حتى ماتوا جميعاً، وأمر عبد الله بنبش قبور بني أمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان، ونبش قبر يزيد ابنه، ونبش قبر عبد الملك بن مروان، ونبش قبر هشام بن عبد الملك، فوجد صحيحاً، فأمر بصلبه فصلب ثم أحرقه بالنار، وذراه، وتتبع

يقتل بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فلم يفلت منهم غير رضيع، أو من هرب إِلى الأندلس، وكذلك قَتَل سليمان ابن علي بن عبد الله بن عباس بالبصرة، جماعة من بني أمية، وألقاهم في الطريق فأكلتهم الكلاب، ولما رأى من بقي من بني أمية ذلك، تشتتوا واختفوا في البلاد. وفي هذه السنة أعني سنة اثنتين وثلاثين ومائة، خلع أبو الورد بن الكوثر، وكان من أصحاب مروان بن محمد، طاعة بني العباس، بعد أن كان قد دخل في طاعتهم، فسار عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس، إِلى أبي الورد، وهو بقنسرين، في جمع عظيم، واقتتلوا قتالاً شديداً، وكثر القتل في الفريقين، ثم انهزمت أصحاب أبي الورد، وثبت أبو الورد حتى قتل. ولما فرغ عبد الله بن علي من أمر أبي الورد، من أهل قنسرين، وجدد البيعة معهم، ثم رجع إِلى دمشق، وكان قد خرج من بها عن الطاعة أيضاً، ونهبوا أهل عبد الله بن علي، فلما دنا عبد الله من دمشق، هربوا، ثم أمنهم. وفيها ولى السفاح أخاه يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الموصل، وكان أهلها قد أخرجوا الوالي الذي بها، فسار يحيى إِلى الموصل، ولما استقر بها، قتل من أهلها نحو أحد عشر ألف رجل، ثم أمر بقتل نسائهم وصبيانهم، وكان مع يحيى قائد معه أربعة آلاف زنجي، فاستوقفت امرأة من الموصل يحيى، وقالت: مأنف للعربيات أن ينكحن الزنوج، فعمل كلامها فيه، وجمع الزنوج فقتلهم، عن آخرهم. وفي هذه السنة أرسل السفاح أخاه أبا جعفر المنصور، والياً على الجزيرة وأذربيجان وأرمنية، وولى عمه داود المدينة ومكة واليمن واليمامة، وولى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، الكوفة وسوادها، وكان على الشام عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، وعلى مصر أبو عون بن يزيد، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة، فيها استولى ملك الروم، وكان اسمه قسطنطين على ملطية، وقاليقلا، وفيها ولى السفاح عمه سليمان بن علي ابن عبد الله بن عباس، البصرة وكور دجلة والبحرين وعمان، واستعمل عمه إِسماعيل ابن علي بن عبد الله بن عباس على الأهواز. وفيها مات عم السفاح داود بن علي بالمدينة، وولى السفاح مكانه زياد بن عبد الله الحارثي. وفيها عزل السفاح أخاه يحيى بن محمد عن الموصل، لكثرة قتله فيهم، وولى عليها عمه إِسماعيل بن علي. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة فيها تحول السفاح من الحيرة، وكان مقامه بها، إِلى الأنبار، في ذي الحجة. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة فيها توفي يحيى أخو السفاح بفارس، وكان قد ولاه إِياها السفاح بعد عزله عن الموصل. ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة فيها استأذن أبو مسلم السفاح في القدوم عليه، وفي الحج، فأذن له فحج أبو مسلم، وحج أبو جعفر المنصور أيضاً، وكان أبو جعفر هو أمير الموسم.

خلافة المنصور

موت السفاح في هذه السنة مات السفاح بالأنبار، في ذي الحجة بالجدري، وعمره ثلاث وثلاثون سنة فمدة خلافته، من لدن قتل مروان، أربع سنين، وكان قد بويع له بالخلافة قبل قتل مروان بثمانية أشهر، وكان السفاح طويلا أقنى الأنف، أبيض، حسن الوجه واللحيه، وصلى عليه عمه عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، ودفنه بالزنبار العتيقة. خلافة المنصور وهو ثاني خلفاء بني العباس، كان السفاح قد عهد بالخلافة إِلى أخيه أبي جعفر المنصور، ثم من بعده إلى ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فعقد العهد في ثوب، وختم عليه، ودفعه إلى عيسى بن موسى، ولما مات السفاح، كان أبو جعفر في الحج، فأخذ له البيعة على الناس عيسى بن موسى، وأرسل يعلمه بذلك، وبموت السفاح، وكان مع أبي جعفر أبو مسلم في الحج، فبايع أبو مسلم أبا جعفر وبايعه الناس. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة فيها قدم أبو جعفر المنصور من الحج إلى الكوفة، فصلى بأهلها الجمعة، وخطبهم، وسار إلى الأنبار فأقام بها. وفيها بايع عم المنصور عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس لنفسه بالخلافة، وكان أبو مسلم قد قدم من الحج مع أبي جعفر المنصور، فأرسل أبو جعفر أبا مسلم ومعه الجنود، إِلى قتال عمه عبد الله بن علي، وكان عبد الله بأرض نصيبين، فاقتتل هو وأبو مسلم عدة دفوع، واجتهد أبو مسلم بأنواع الخدع في قتاله، وداموا كذلك مدّة، وفي آخر الأمر انهزم عبد الله بن علي وأصحابه في جمادى الآخرة، من هذه السنة، إِلى جهة العراق، واستولى أبو مسلم على عسكره، وكتب بذلك إِلى المنصور. قتل أبي مسلم الخراساني وفيها قتل أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني، بسبب وحشة جرت بينهما، فإِن المنصور كتب إِلى أبي مسلم بعد أن هزم عبد الله عمه، بالولاية على مصر والشام، وصرفه عن خراسان، فلم يجب أبو مسلم إِلى ذلك، أبو مسلم يريد خراسان، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبي مسلم يطلبه إليه، فاعتذر عن الحضور إِليه، وطالت بينهما المراسلات في ذلك، وآخر الأمر أن أبا مسلم قدم على أبي جعفر المنصور بالمدائن، في ثلاثة آلاف رجل، وخلف باقي عسكره بحلوان، ولما قدم أبو مسلم، دخل على المنصور، وقبل يده، وانصرف، فلما كان من الغد، ترك المنصور بعض حرسه خلف الرواق، وأمرهم أنه إذا صفق بيديه، يخرجون ويقتلون أبا مسلم، ودعا أبا مسلم، فلما حضر أخذ المنصور يعدد ذنوبه، وأبو مسلم يعتذر عنها، ثم صفق المنصور، فخْرجَ الحرس وقتلوا أبا مسلم، وكان قتله في شعبان

من هذه السنة، أعني سنة سبع وثلاثين ومائة، وكان أبو مسلم قد قتل في مدة دولته ستمائة ألف صبراً. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة في هذه السنة، خرج قسطنطين ملك الروم إلى بلد الإسلام، فأخذ ملطية عنوة، وهدم سورها، وعفا عن من فيها من المقاتلة والذرية، وقد مر في سنة ثلاث وثلاثين ومائة نحو ذلك، وفيها وسع المنصور في المسجد الحرام. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة.

ابتداء الدولة الأموية بالأندلس في هذه السنة، دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ابن الحكم، إِلى الأندلس، وسبب ذلك أنّ بني أمية، لما قتلوا، استخفى من سلم منهم، فهرب عبد الرحمن المذكور، واستولى على الأندلس في هذه السنة. وفيها ظفر المنصور بعمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، وأعدمه وكان عبد الله مستخفياً عند أخيه سليمان بن علي من حين هرب من أبي مسلم على ما ذكرناه. ثم دخلت سنة أربعين ومائة في هذه السنة، أرسل المنصور عبد الوهاب ابن أخيه، إبراهيم الإمام، والحسن بن قحطبة، في سبعين ألف مقاتل، ليعمروا ملطية فعمروها في ستة أشهر، وسار إِليهم ملك الروم في مائة ألف مقاتل، حتى نزل على نهر جيحان، فبلغه كثرة المسلمين، فرجع عنهم. وفيها حج المنصور وتوجه

إلى البيت المقدس، ثم إِلى الرقة، وعاد إِلى هاشمية الكوفة، وفيها أمر المنصور بعمارة مدينة المصيصة، وبنى بها مسجداً جامعاً، وأسكنها ألف جندي، وسماها المعمورة. ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة في هذه السنة، كان خروج الراوندية على المنصور، وهم قوم من أهل خراسان، على مذهب أبي مسلم الخراساني يقولون بالتناسخ، فيزعمون أن روح آدم في عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم، هو الخليفة أبو جعفر المنصور، فلما ظهروا وأتوا إِلى قصر المنصور، قالوا: هذا قصر ربنا، فحبس المنصور رؤساءهم، وهم مائتان، فغضب أصحابهم، وأخذوا نعشاً وحملوه ومشوا به على أنهم ماشون في جنازة، حتى بلغوا باب السجن، فرموا بالنعش، وكسروا باب السجن، وأخرجوا رؤساءهم، ثم قصدوا المنصور وهم نحو ستمائة رجل، فتنادى الناس، وأغلقت أبواب المدينة وخرج المنصور ماشياً، واجتمع عليه الناس، وكان معن بن زائدة مستخفياً من المنصور، فحضر وقاتل الراوندية بين يدي المنصور، فعفا عن معن لذلك وقتل في ذلك اليوم الراوندية عن آخرهم. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة فيها مات عم المنصور سليمان بن علي. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة، ودخلت سنة أربع وأربعين ومائة في هذه السنة، حبس المنصور من بني الحسن بن علي بن أبي طالب أحد عشر رجلا وقيدهم، وفيها مات عبد الله بن شبرمة وعمرو بن عبيد المعتزلي الزاهد، وعقيل بن خالد صاحب الزهري. ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة فيها ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، واستولى على المدينة، وتبعه أهلها، فأرسل المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى إِليه، فوصل إِلى المدينة، وخندق محمد ابن عبد الله على نفسه، موضع خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحزاب، وجرى بينهما قتال، آخره أن محمد بن عبد الله المذكور، فتل هو وجماعة من أهل بيته وأصحابه، وانهزم من سلم من أصحابه، وكان محمد المذكور، سميناً أسمر شجاعاً، كثير الصوم والصلاة، وكان يلقب المهدي، والنفس الزكية، ولما قتل محمد، أقام عيسى بن موسى بالمدينة أياماً، ثم سار عنها في أواخر رمضان يريد مكة معتمراً. بناء بغداد وفي هذه السنة، ابتدأ المنصور في بناء مدينة بغداد، وسبب ذلك: أن المنصور كره سكنى الهاشمية التي ابتناها أخوه بنواحي الكوفة، لما ثارت عليه الراوندية فيها، وكرهها أيضاً لجوار أهل الكوفة، فإنه كان لا يأمنهم على نفسه، فخرج يرتاد له موضعاً يسكنه، فاختار موضع بغداد، وابتدأ في عملها سنة خمس وأربعين ومائة. ظهور إبراهيم العلوي في هذه السنة أيضاً، في رمضان، ظهر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن

أبي طالب، أخو محمد النفس الزكية، وكان مستخفياً هارباً من بلد إِلى بلد، والمنصور مجتهد على الظفر به، فقدم البصرة ودعا الناس إِلى بيعة أخيه محمد بن عبد الله، وذلك قبل أن يبلغه قتله بالمدينة، فبايعه جماعة، منهم: مرة العبشمي وعبد الواحد بن زياد، وعمرو بن سلمة الهجيمي، وعبد الله بن يحيى الرقاشي، وأجابه جماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم، حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف، وكان أمير البصرة سفيان بن معاوية، فلما رأى اجتماع الناس على إِبراهيم المذكور، تحصن في دار الإمارة بجماعة، فقصده إِبراهيم وحصره، فطلب سفيان منه الأمان فأمنّه إبراهيم، ودخل إِبراهيم القصر، فجاء يجلس على حصير فرشت له هناك، فقلبها الريح، فتطير الناس بذلك، فقال إِبراهيم: إِنا لا نتطير وجلس عليها مقلوبة، ووجد إبراهيم في بيت المال ألفي ألف درهم، فاستعان بها، وفرض لأصحابه خمسين خمسين. ومضى إِبراهيم بنفسه إِلى دار زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وإليها ينسب الزينبيون من العباسيين، فنادى هناك لأهل البصرة بالأمان، وأن لا يتعرض إليهم أحد. ولمّا استقرت البصرة لإبراهيم، أرسل جماعة فاستولوا على الأهواز، ثم أرسل هارون بن سعد العجلي في سبعة عشر ألفاً إِلى واسط فملكها العجلي، ولم يزل إبراهيم بالبصرة يفرق العمال والجيوش، حتى أتاه خبر مقتل أخيه محمد بن عبد اَلله، قبل عيد الفطر بثلاثة أيام. ثم إِن إبراهيم أجمع على المسير إِلى الكوفة، وسار من البصرة وقد أحصى ديوانه مائة ألف، حتى نزل باحمرا وهي من الكوفة على ستة عشر فرسخاً، وكان المنصور قد استدعى عيسى بن موسى من الحجاز، فحضر، وجعله في جيش قبالة إِبراهيم بن عبد الله، وجرى بينهما قتال شديد، انهزم فيه غالب عسكر عيسى بن موسى ثم تراجعوا. ثم وقعت الهزيمة على أصحاب إِبراهيم، وثبت هو في نفر قليل من أصحابه يبلغون ستمائة، فجاء سهم في حلق إِبراهيم، فتنحى عن موقفه فقال أردنا أمراً وأراد الله غيره، واجتمع عليه أصحابه وأنزلوه، فحمل عليهم عسكر عيسى ابن موسى وفرقوهم عنه، واحتزوا رأس إِبراهيم، وأتوا به إِلى عيسى فسجد شكراً لله تعالى، وبعث به إِلى المنصور. وكان قتل إِبراهيم، لخمس بقين من ذي القعدة، سنة خمس وأربعين ومائة، وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة. ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة فيها تحول المنصور من مدينة ابن هبيرة إِلى بغداد ليكمل عمارتها، واستشار أصحابه، وفيهم خالد بن برمك؛ في نقض إِيوان كسرى والمدائن، ونقل ذلك إلى بغداد، فقال خالد ابن برمك: لا أرى ذلك، لأنه من أعلام المسلمين، فقال المنصور: مِلتَ يا خالد إلى أصحابك العجم، وأمر المنصور بنقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، فكان ما يغرمون على نقضه، أكثر من قيمة ذلك المنقوض، فترك نقضه، فقال له خالد: إِني لا أرى أن تبطل ذلك لئلا يقال أنك عجزت عن تخريب ما بناه غيرك، فلم يلتفت المنصور إِلى ذلك، وترك هدمه، ونقل المنصور أبواب مدينة واسط،

فجعلها على بغداد، وجعل المنصور بغداد مدوّرة، لئلا يكون بعض الناس أقرب إِلى السلطان من بعض، وبني قصره في وسطها، والجامع في جانب القصر. ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة: فيها خلع المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، من ولاية العهد، وبايع لابنه المهدي محمد بن المنصور. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة: فيها ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، وفيها ولىّ المنصور خالد بن برمك الموصل، وكان مولد الفضل قبل مولد الرشيد بتسعة أيام، فأرضعته الخيزران أم الرشيد. وفيها توفي جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وجعفر الصادق، أحد الأئمة الاثني عشر، على رأي الإمامية، فإِنه قد تقدم منهم علي بن أبي طالب، ثم ابنه الحسن، ثم الحسين، ثم زين العابدين، ثم الباقر، ثم جعفر الصادق المذكور، وسنذكر الباقين إِن شاء الله تعالى، وسمي جعفر بالصادق لصدقه، وله كلام في صنعة الكيمياء، والزجر، والفأل، وولد سنة ثمانين، وتوفي في هذه السنة. أعني سنة ثمان وأربعين ومائة بالمدينة، ودفن بالبقيع، وأمّه بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وفيها توفى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي. ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائة: فيها مات مسلم بن قتيبة بالري، وكان مشهوراً، عظيم القدر، وفيها مات كهمش بن الحسن التميمي البصري. وفيها مات عيسى بن عمر الثقفي، وعنه أخذ الخليل النحو. ثم دخلت سنة خمسين ومائة: فيها بنى عبد الرحمن الأموي سور قرطبة، وفيها مات جعفر بن أبي جعفر المنصور، وفيها مات الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت ابن زوطا، مولى تيم الله بن ثعلبة، وكان زوطا من أهل كابل، وقيل من أهل بابل، وقيل من أهل الأنبار، وهو الذكي مسه الرق فأعتق، وولد له ثابت على الإسلام، وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة المذكور: ما وقع علينا رِق قط، وروى أن ثابتاً أبا أبي حنيفة وهو صغير، ذهب إِلى علي بن أبي طالب فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته. وقيل في نسب أبي حنيفة غير ذلك، فقيل: هو النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، وأن جده النعمان بن المرزبان، أهدى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم المهرجان فالوذجا، فقال له علي: مهرجونا في كل يوم، وأدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة، وهم أنس بن مالك، وعبد الله بن أُبي، أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة، ولم يلق أحداً منهم، ولا أخذ عنهم، وأصحابه يقولون: لقي جماعة من الصحابة وأخذ عنهم، ولم يثبت ذلك عند أهل النقل. وكان أبو حنيفة عالماً عاملاً زاهداً ورعاً، راوده أبو جعفر المنصور في أن يلي القضاء فامتنع، وكان حسن الوجه، ربعة، وقيل طويلاً، أحسن الناس منطقاً. قال الشافعي: قيل لمالك، هل رأيت أبا حنيفة؟ فقال: نعم، رأيت رجلاً، لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهباً، لقام بحجته، وكان يصلي غالب الليل، حتى قيل

إِنه صلى الصبح بوضوء عشاء الآخرة أربعين سنة، وحفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه، سبعة آلاف مرة. وكان يعاب بقلة العربية، وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة، وقيل ولد سنة إِحدى وستين، وكانت وفاته ببغداد، في السجن ليلي القضاء، فلم يفعل، وقيل إِنه توفي في اليوم الذي ولد فيه الشافعي، وذلك في رجب من هذه السنة، وقيل في جمادى الأولى وقبره ببغداد مشهور. وزوطا، بضم الزاي المعجمة وسكون الواو وفتح الطاء المهملة. وفيها مات محمد بن إسحاق، صاحب المغازي فقيل كانت وفاة محمد بن إِسحاق المذكور، سنة إحدى وخمسين ومائة، وكان ثبتاً في الحديث عند أكثر العلماء، وقد ذكره البخاري في تاريخه، ولكن لم يرو عنه، وكذلك مسلم لم يخرج عنه إلا حديثاً واحداً في الرجم، وإنما لم يرو عنه البخاري لأجل طعن الإمام مالك بن أنس فيه، وكانت وفاة ابن إسحاق ببغداد، وفيها مات مقاتل بن سليمان البلخي المفسر. ثم دخلت سنة إِحدى وخمسين ومائة فيها ولى المنصور، هشام بن عمرو الثعلبي على السند، وكان على السند، عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة، فعزله وولاه إِفريقية، وكان يلقب عمر المذكور بهزار مرد أي ألف رجل وفيها بنى المنصور الرصافة، للمهدي ابنه وهي من الجانب الشرقي من بغداد، وحول إليها قطعة من جيشه، وفيها قتل معن بن زائدة الشيباني، بسجستان في بست. وكان المنصور قد استعمله على سجستان، قتله جماعة من الخوارج، هجموا عليه في بيته بغتة وهو يحتجم فقتلوه، وقام بالأمر بعده ابن أخيه يزيد بن مزبد بن زائدة الشيباني. ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة فيها غزا حميد بن قحطبة كابل وكان أمير خراسان. ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وسنة أربع وخمسين ومائة فيها أعني في سنة أربع وخمسين ومائة، توفي بالكوفة أبو عمرو، واسمه كنيته، ابن العلا بن عمار من ولد الحصين التميمي المازني البصري، وكانت ولادته في سنة سبعين، وقيل ثمان وستين، وهو أحد القراء السبعة، وكان أعلم الناس بالقرآن الكريم، وفيها سار المنصور إِلى الشام، وجهز جيشاً إِلى المغرب، لقتال الخوارج بها، وفيها مات أشعب الطامع، وفيها مات وهيب بن الورد المكي الزاهد. ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة: فيها عمل المنصور للكوفة والبصرة سوراً وخندقاً، وجعل ما أنفق فيه، من أموال أهلهما، ولما أراد المنصور معرفة عددهم، أمر أن يقسم فيهم خمسة الدراهم خمسة الدراهم، ثم جبى منهم أربعين أربعين فقال بعض شعرائهم: يا لقوم ما لقينا ... من أمير المؤمنينا قسم الخمسة فينا ... وجبانا أربعينا ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة: في هذه السنة توفي حمزة بن حبيب ابن عمارة الكوفي، المعروف بالزيات، أحد القراء السبعة، وعنه أخذ الكسائي القراءة. وكان يجلب الزيت من الكوفة إِلى حلوان، ويجلب من حلوان الجبن والجوز إلى الكوفة، فقيل له الزيات لذلك.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة: فيها مات الأوزاعي الفقيه، واسمه: عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، وعمره سبعون سنة، وكنيته أبو عمرو، وكان يسكن بيوت، وبها توفي، وكانت ولادته ببعلبك سنة ثمان وثمانين للهجرة، وكان يخضب بالحناء، وكان إمام أهل الشام، قيل إِنه أجاب في سبعين ألف مسألة وقبره في قرية على باب بيروت يقال لها خنتوس، وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون هاهنا رجل صالح. والأوزاعي منصوب إِلى أوزاع وهي بطن من ذي كلاع، وقيل بطن من همذان، وجده يحمد، بضم الياء المثناة من تحتها، وسكون الحاء المهملة وكسر الميم، وبعدها دال مهملة. ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة وفاة المنصور وهو المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكانت وفاته في هذه السنة، لست خلون من ذي الحجة، ببئر ميمونة وكان قد خرج من بغداد لحج، فسار معه ابنه المهدي، فقال له المنصور: إِني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وهذا هو الذي حداني على الحج، فاتق الله فيما عهد إِليك من أمور المسلمين بعدي، ووصاه وصية طويلة، ثم ودعه وبكيا، ثم سار إِلى الحج، ومات ببئر ميمونة محرماً، في التاريخ المذكور، وكان مرضه القيام، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة وثلاثة أشهر وكسراً. وكان المنصور أسمر نحيفاً خفيف العارضين، ولد بالحميمة من أرض الشراة، ودفن بمقابر بابه المعلى وبقي أثر الإحرام، فدفن ورأسه مكشوف، ومما يحكى عنه فيما جرى له في حجه، قيل: بينما الخليفة المنصور يطوف بالكعبة ليلاً، إِذ سمع قائلاً يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد، ودعا القائل وسأله عن قوله، فقال له: يا أمير المؤمنين إن أمنتني أنبأتك بالأمور على جليتها وأصولها، فأمنه. فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال، بين الحق وأهله، هو أنت يا أمير المؤمنين فقال المنصور: ويحك وكيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟ فقال الرجل: لأن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر، وأبواباً من الحديد، وحجاباً معهم الأسلحة، وأمرتهم أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإِيصال المظلوم والملهوف، ولا الجائع والعاري، ولا الضعيف والفقير، وما أحد إلا وله من هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذي استخلصتهم لنفسك، وأثرتهم على رعيتك، تجبي الأموال فلا تعطيها، وتجمعها ولا تقسمها، قالوا: هذا قد خان الله تعالى، فما لنا لا نخونه، وقد سخّر لنا نفسه، فاتفقوا على أن لا يصل إِليك من أخبار الناس إِلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إِلا أقصوه ونفوه، حتى تسقط منزلته ويصغر قدره،

خلافة المهدي

فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، عظمهم الناس وهابوهم، فكان أول من صانعهم عملك، بالهدايا، ليتقووا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذو القدرة والثروة من رعيتك، لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلماً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، فإن جاء متظلم، حيل بينه وبين الدخول إِليك، فإن أراد رفع قصة إِليك، وجدك قد منعت من ذلك، وجعلت رجلاً ينظر في المظالم، فلا يزال المظلوم يختلف إِليه، وهو يدافعه خوفاً من بطانتك، فإذا صرخ بين يديك، ضرب ضرباً شديداً، ليكون نكالاً لغيره، وأنت تنظر ولا تنكر فما بقاء الإسلام على هذا، فإِن قلت إِنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله في الطفل يسقط من بطن أمه وماله في الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحوبه، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل، حتى يعظم رغبة الناس إِليه، ولست الذي يعطي، وإنما الله عز وجلّ يعطي من يشاء بغير حساب، وإن قلت إِنما أجمع المال لتسديد الملك وتقويته، فقد أراك الله في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة، وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع، حين أراد الله تعالى لهم ما أراد، وإن قلت إِنما أجمعه لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فو الله ما فوق الذي أنت فيه منزلةً، إِلا منزلةً ما تنال إِلا بخلاف ما أنت عليه. أولاده وهم المهدي محمد، وجعفر الأكبر، مات في حياة أبيه المنصور، ومنهم سليمان وعيسى ويعقوب وجعفر الأصغر وصالح المسكين، وكان المنصور أحسن الناس خلقاً في الخلوة حتى يخرج إِلى الناس. خلافة المهدي محمد بن المنصور، وهو ثالثهم، ووصل إِليه الخبر بموت أبيه، وبالبيعة له، في منتصف ذي الحجة لأن القاصد وصل من مكة إِلى بغداد، في أحد عشر يوماً، فباد أهل بغداد. ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة وسنة ستين ومائة فيها أمر المهدي برد نسب آل زياد، الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان، إِلى عبيد الرومي، وأخرجهم من قريش، فأخرجوا من ديوان قريش والعرب، وردوهم إِلى ثقيف. وفيها حج المهدي، وفرق في الناس أموالاً عظيمة، ووسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمل الثلج إِلى مكة. وفيها مات داود الطائي الزاهد، وكان من أصحاب أبي حنيفة، وعبد الرحمن ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود المسعودي، وفيها توفي الخليل بن أحمد البصري النحوي أستاذ سيبويه. ثم دخلت سنة إِحدى وستين ومائة فيها أمر المهدي باتخاذ المصانع في طريق مكة وبتجديد الأميال والبرك وبحفر الركايا، وبتقصير المنابر في البلاد وجعلها بمقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها جعل المهدي يحيى بن خالد بن برمك مع ابنه هارون، وجعل مع الهادي أبان بن صدقة،

وفيها توفي سفيان الثوري، وكان مولده سنة سبع وتسعين. وفيها توفي إِبراهيم بن أدهم بن منصور الزاهد، وكان مولده ببلخ، وانتقل إلى الشام، فأقام به مرابطاً، وهو من بكر بن وائل. قال إِبراهيم بن يسار، سألت إبراهيم بن أدهم، كيف كان بدو أمرك حتى صرت إلى الزهد؟ قال: غير هذا أولى بك، فما زال يلح عليه بالسؤال حتى قال: إِني من ملوك خراسان، وكان قد حبب إِلي الصيد، فبينما أنا راكب فرساً وكلبي معي، إذ تحركت على صيد، فسمعت نداء من ورائي: يا إِبراهيم، ليس لهذا خلقت، ولا به أمرت، فوقفت مقشعراً أنظر يمنة ويسرة، فلم أر أحداً، قلت: لعن الله إِبليس. ثم حركت فرسي، فسمعت من قربوس سرجي: يا إِبراهيم ليس لهذا خلقت ولا به أُمرت فوقفت وقلت هيهات! جاءني النذير من رب العالمين، والله لا عصيت ربي، فتوجهت إِلى أهلي وجئت إِلى بعض رعاء أبي فأخذت جبته وكساءه، وألقيت إِليه ثيابي، ثم سرت حتى صرت إِلى العراق، ثم صرت إِلى الشام، ثم قدمت إِلى طرسرس، فأستأجرني شخص ناطور البستان، قال: فمكثت في البستان أياماً كثيرة، كلما اشتهرت، اختفيت وهربت من الناس، وكان إِبراهيم بن أدهم يأكل من عمل يده، مثل الحصاد وحفظ البساتين، والعمل في الطين، رحمه الله تعالى. ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة فيها تجهز المهدي لغزو الروم، وجمع العساكر من خراسان وغيرها، وعسكر بالبردان وسار عنها، وكان قد استخلف على بغداد، ابنه موسى الهادي، واستصحب معه ابنه هارون الرشيد، فلما وصل المهدي إِلى حلب، بلغه أن في تلك الناحية زنادقة، فجمعهم وقتلهم وقطع كتبهم. وسار إِلى جيحان، وجهز ابنه هارون بالعسكر إلى الغزو، فتغلغل هارون في بلاد الروم، وفتح فتحات كثيرة، ثم عاد سالماً منصوراً. وفيها قتل المقنع الخرساني، واسمه عطا، وكان من حديثه، أنه كان رجلاً ساحراً، خيل للناس صورة قمر يطلع ويراه الناس من مسافة شهرين، وإلى هذا القْمر أشار ابن سناء الملك بقوله: إِليك فما بدر المقنع طالعاً ... بأسحر من ألحاظ بدري المعمم وادعى المقنع المذكور الربوبية، وأطاعه جماعة كثيرة، وقال: إِن الله عزِّ وجل حل في آدم، ثم في نوح، ثم في نبي بعد آخر، حتى حل فيه، وعمر قلعة تسمى سنام، بما وراء النهر من رستاق كيش، وتحصن بها، ثم اجتمع عليه الناس وحصروه في قلعته، فسقى نساءه سماً فمتن، ثم تناول منه فمات في السنة المذكورة، لعنه الله، فدخل المسلمون قلعته وقتلوا من بها من أشياعه، وكان المقنع المذكور في مبدأ أمره قصاراً، من أهل مرو وكان مشوّه الخلق أعور قصيراً، وكان لا يسفر عن وجهه، بل اتخذ له وجهاً من ذهب قتقنع به، ولذلك قيل له المقنع. ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة فيها مات عم المنصور، عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، وعمره ثمان وسبعون سنة. ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة: فيها أرسل المهدي

خلافة الهادي

ابنه هارون الرشيد إِلى الروم في جيش كثير، فسار حتى بلغ خليج القسطنطينية، وغنم شيئاً كثيراً وقتل في الروم وعاد. ثم دخلت سنة ست وستين ومائة: فيها قبض المهدي وزيره يعقوب بن داود بن طهمان، وكان قبل أن يتولى وزارة المهدي، يكتب لنصر بن سيار، ثم بقي بعده بطالاً، واتصل بالمهدي فاستوزره، وصارت الأمور إِليه وتمكن عنده فحسده أصحاب المهدي، وسعوا فيه حتى أمسكه في هذه السنة، وحبسه، ولم يزل محبوساً إِلى خلافة الرشيد، فأخرجه وقد عمي، فلحق بمكة، وكان أصحاب المهدي يشربون عنده، وكان يعقوب ينهي المهدي عن ذلك، فضيق على المهدي حتى أمسكه المهدي وحبسه، وفيه يقول بشار بن برد: بني أمية هبوا طال نومكم ... إِن الخليفة يعقوب بن داود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الناء والعود وفي هذه السنة أقام المهدي بريداً بين مكة والمدينة واليمن، بغالاً وإبلاً: وفيها قتل بشار بن برد الشاعر على الزندقة، وكان أعمى، خلق ممسوح العينين، ولما قتل كان قد نيف على التسعين، وكان بشار المذكور يفضل النار على الأرض ويصوب رأي إبليس في امتناعه من السجود لآدم عليه السلام. ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة: فيها توفي عيسى بن موسى بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس ابن أخي السفاح والمنصور وهو الذي أوصى له السفاح بالخلافة بعد المنصور. ثم خلعه المنصور وولى ابنه المهدي، وكان عمر عيسى بن موسى المذكور، خمساً وستين سنة، وفي هذه السنة زاد المهدي في المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم. ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة وسنة تسع وستين ومائة. موت المهدي فيها توفي المهدي، محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بماسبذان في المحرم، لثمان بقين منه، وكانت خلافته عشر سنين وشهراً، وعمره ثلاث وأربعون سنة، ودفن تحت جوزة، وصلى عليه ابنه الرشيد، وكان المهدي يجلس للمظالم ويقول: أدخلوا علي القضاة، فلو لم يكن ردي للمظالم إِلا للحياء منهم لكفى. خلافة الهادي وهو رابعهم، كان موسى الهادي مقيماً بجرجان، يحارب أهل طبرستان، فبويع له بالخلافة في عسكر المهدي، في اليوم الذي مات فيه المهدي، وهو لثمان بقين من المحرم، من هذه السنة، أعني سنة تسع وستين ومائة، ولما وصل الرشيد وعسكر المهدي إِلى بغداد، راجعين من ماسبذان، أُخذت البيعة ببغداد أيضاً للهادي وكتب الرشيد إِلى الآفاق بوفاة المهدي، وأخذ البيعة للهادي، ولما وصل إِلى الهادي وهو بجرجان الخبر بموت أبيه المهدي، وبيعة الناس له بالخلافة، نادى بالرحيل، وسار على البريد مجدّاً، فدخل بغداد في عشرين يوماً واستوزر الربيع.

بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب

ظهور الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وفي هذه السنة، ظهر الحسين المذكور بمدينة الرسول عليه السلام، وكان معه جماعة من أهل بيته منهم الحسن بن محمد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد الله المذكور هو ابن عاتكة. واشتد أمر الحسين المذكور، وجرى بينه وبين عامل الهادي على المدينة، وهو عمر بن العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قتال، فانهزم عمر المذكور، وبايع الناس الحسين المذكور على كتاب الله وسنة نبيه، للمرتضى من آل محمد. وأقام الحسين هو وأصحابه بالمدينة يتجهزون، أحد عشر يوماً، ثم خرجوا يوم السبت، لست بقين من ذي القعدة، ووصل الحسين إِلى مكة ولحق به جماعة من عبيد مكة. وكان قد حج تلك السنة جماعة من بني العباس وشيعتهم، فمنهم سليمان بن أبي جعفر المنصور، ومحمد بن سليمان بن علي، والعباس بن محمد بن علي، وانضم إِليهم من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهم، واقتتلوا مع الحسين المذكور يوم التروية، فانهزم أصحاب الحسين وقتل الحسين واحتز رأسه، وأحضر قدام المذكورين من بني العباس، وجمع معه من رؤوس أصحابه ورؤوس أهل المدينة ما يزيد على مائة رأس، وفيها أيضاً رأس سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، واختلط المنهزمون بالحاج، وكان مقتلهم بموضع يقال له وج وهو عن مكة إِلى جهة الطائفْ، ووج المذكور هو الذي ذكره النميري في شعره فقال: تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات مررن بوج ثم قمن عشية ... يلبن للرحمن معتمرات وفي قتل المذكورين بوج يقول بعضهم: فلأبكين على الحسي ... ن بعولة وعلى الحسن وعلى ابن عاتكة الذي ... واروه ليس له كفن تركوا بوج غدوة ... في غير منزلة الوطن وأفلت من المنهزمين، إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فأتى مصر، وعلى بريدها واضح، مولى بني العباس وكان شيعياً، فحمل إدريس المذكور على البريد إلى المغرب، حتى انتهى إلى طنجة، ولما بلغ الهادي ذلك، ضرب عنق واضع، وبقي إدريس في تلك البلاد حتى أرسل الرشيد الشماخ النامي، مولى بني الأسد، فاغتاله بالسم فمات، ولما مات إِدريس المذكور كانت له حظية حبلى، فولدت ابناً وسموه إِدريس باسم أبيه، وبقي حتى كبر، واستقل بملك تلك البلاد، وحمل رأس الحسين ومعه باقي الرؤوس إلى الهادي، فأنكر الهادي عليهم حمل رأس الحسين، ولم يعطهم جوائزهم غضْباً عليهم، وكان الحسين المذكور، شجاعاً كريماً، قدم على المهدي فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرقها ببغداد والكوفة، وخرج

خلافة الرشيد بن المهدي

من الكوفة ما يملك ما يلبسه إلا فروة لم يكن تحتها قميص. وفي هذه السنة مات مطيع بن إياس الشاعر. وفيها توفي نافع بن عبد الرحمن ابن أبي نعيم المقرئ. أحد القراء السبعة، وروى عن نافع راويان، وهما ورش وقنبل، وكان نافع إمام أهل المدينة في القراءة، ويرجعون إلى قرائته، وكان محتسباً فيه دعابة، وكان أسود شديد السواد، وقرأ مالك عليه القرآن، وهذا نافع بن عبد الرحمن المقرئ. غير نافع مولى عبد الله بن عمر المحدث، فليُعْلم ذلك. وفيها مات الربيع بن يونس حاجب المنصور ومولاه. ثم دخلت سنة سبعين ومائة وفاة الهادي وفي هذه السنة توفي موسى الهادي بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر، وكان عمره ستاً وعشرين سنة، قيل إِن أمه الخيزران قتلته، بأن أمرت الجواري فغمين وجهه وهو مريض، فمات ودفن بعيسا باذ الكبرى في بستانه، وكان طويلاً جسيماً أبيض، وكان بشفته العليا تقلص، وكان له سبعة بنين وابنتان. خلافة الرشيد بن المهدي وهو خامسهم. وفي هذه السنة أعني سنة سبعين ومائة، بويع للرشيد هارون ابن المهدي محمد بالخلافة، في الليلة التي مات فيها الهادي، وكان عمر الرشيد حين ولي اثنتين وعشرين سنة، وأمه وأم الهادي الخيزران أم ولد وكان مولد الرشيد بالري في آخر ذي الحجة، سنة ثمان وأربعين ومائة، ولما مات الهادي بعيسا باذ صلى عليه الرشيد وسار إِلى بغداد وفي هذه السنة في شوال، أولد الأمين محمد بن الرشيد من زبيدة، واستوزر الرشيد يحيى بن خالد، وألقى إِليه مقاليد الأمور. وفي هذه السنة عزل الرشيد الثغور كلها، من الجزيزة وقنسرين، وجعلها حيزاً واحداً، وسميت العواصم، وأمر بعمارة طرسوس، على يد فرج الخادم التركي، ونزلها الناس. وفي هذه السنة أمر عبد الرحمن الداخل الأموي المستولي على الأندلس ببناء جامع قرطبة، وكان موضعه كنيسة، وأنفق عليه مائة ألف دينار. ثم دخلت سنة إِحدى وسبعين ومائة: في هذه السنة توفي عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس بقرطبة، ويعرف بعبد الرحمن الداخل، لدخوله بلاد المغرب، وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. في ربيع الآخر، وكان مولده بأرض دمشق سنة ثلاث عشرة ومائة، ومدة ملكه الأندلس ثلاث وثلاثون سنة، لأنه تولى الأندلس في سنة تسع وثلاثين ومائة، ولما مات ملك بعده ابنه هشام بن عبد الرحمن، وكان عبد الرحمن أصهب خفيف العارضين طويلاً نحيفاً أعور. وقصده بنو أمية من المشرق والتجأوا إِليه. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائة: فيها توفي رباح وكنيته أبو زيد اللخمي الزاهد بمدينة القيروان،

وكان مجاب الدعوة. ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة: فيها ماتت الخيزران أم الرشيد، وفيها حج الرشيد وأحرم من بغداد. ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة، وسنة خمس وسبعين ومائة: فيها صار يحيي بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى الديلم. فتحرك هناك، وفيها ولد إِدريس بن إِدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وإدريس بن عبد الله المذكور، هو الذي سلم وانهزم لما قتل أهل بيته يوم التروية بظاهر مكة، حسب ما ذكرناه في سنة تسع وستين ومائة، وكان قد توفي أبوه إِدريس الأول وله جارية حبلى، ولم يكن له ولد، فولدت الجارية بعد موته في ربيع الآخر من هذه السنة ولداً ذكراً، فسموه إِدريس أيضاً باسم أبيه، فبقي حتى كبر واستقل بالملك. دخلت سنة ست وسبعين ومائة: فيها ظهر أمر يحيى بن عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب بالديلم، واشتدت شوكته، ثم إِن الرشيد جهز إِليه الفضل بن يحيى في جيش كثيف، فكاتبه الفضل وبذل له الأمان وما يختاره، فأجاب يحيى بن عبد الله إِلى ذلك وطلب يمين الرشيد، وأن يكون بخطه ويشهد فيه الأكابر، ففعل ذلك، وحضر يحيى بن عبد الله إِلى بغداد، فأكرمه الرشيد وأعطاه مالا كثيراً، ثم أمسكه وحبسه حتى مات في الحبس. وفي هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمنية، وكان على دمشق حينئذ عبد الصمد بن علي، فجمع الرؤساء وسعوا في الصلح بينهم، فأتوا بني القين وكلموهم في الصلح فأجابوا، وأتوا اليمانية وكلموهم في الصلح، فقالوا: انصرفوا عنا حتى ننظر، ثم سارت اليمانية إِلى بني القين، وقتلوا منهم نحو ستمائة، فاستنجدت بنو القين، قضاعة وسليحا، فلم ينجدوهم، فاستنجدوا قيساً فأجابوهم وساروا معهم إِلى العواليك من أرض البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمائة، وكثر القتال بينهم، ثم عزل الرشيد عبد الصمد عن دمشق وولاها إِبراهيم بن صالح بن علي، ودام القتال بين المذكورين نحو سنتين وكان سبب الفتنة بين اليمانيين والمضريين، أن رجلا من القين أتى رحى بالبلقاء ليطحن فيه، فمر بحائط رجل من لخم أو جذام، وفيه بطيخ فتناول منه فشتمه صاحبه وتضاربا، واجتمع قوم من اليمانيين وضربوا الذي من القين، فأعانه جماعة من مضر، فقتل رجل من اليمانيين فكان ذلك سبب الفتنة. وفيها مات الفرج بن فضالة وصالح بن بشر القاري، وكان ضعيفاً في الحديث. وفيها مات نعيم بن مسيرة النحوي الكوفي. ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة: في هذه السنة أعني سنة سبع وسبعين ومائة، توفي بالكوفة أبو عبد الله شريك بن عبد الله بن أبي شريك، تولى القضاء أيام المهدي، ثم عزله الهادي، وكان عالماً عادلاً في قضائه كثير الصواب حاضر الجواب، ذكر معاوية بن أبي سفيان عنده، ووصف بالحلم فقال شريك: ليس بحليم من سفّه الحق، وقاتل علي بن أبي طالب، وكان مولده ببخارى سنة خمس وتسعين للهجرة.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة، وسنة تسع وسبعين ومائة: فيها توفي مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث من ولد في الأصبح. ولذلك قيل له الأصبحي، وذو الأصبح اسمه الحارث بن عوف من ولد يعرب بن قحطان، وكان مولد الإِمام مالك المذكور سنة خمس وتسعين للهجرة، أخذ القراءة عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الزهري، وأخذ العلم عن ربيعة الراي. قال الشافعي رضي الله عنه: قال لي محمد بن الحسن، أيهما أعلم، صاحبنا أم صاحبكم، يعني أبا حنيفة ومالكاً. قال: قلت على الإنصاف؟. قال: نعم. قال: قلت فأنشدك الله من أعلم بالقرآن، صاحبنا أو صاحبكم؟. قال: اللهم صاحبكم. قال: قلت فأنشدك الله من علم بالسنة؟ قال: اللهم صاحبكم. قال: قلت فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله المتقدمين، صاحبنا أم صاحبكم؟. قال: اللهم صاحبكم. قال الشافعي: فلم يبق إِلا القياس، والقياس لا يكون إِلا على هذه الأشياء، وسعى بمالك إِلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وهو ابن عم أبي جعفر المنصور وقالوا له: إِنه لا يرى الإِيمان ببيعتكم هذه بشيء، لأن يمين المكره ليست لازمة فغضب جعفر، ودعا بمالك وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت من كتفه، وارتكب منه أمراً عظيماً، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة. وتوفي مالك المذكور بالمدينة ودفن بالبقيع، وكان شديد البياض إِلى الشقرة، طويلاً، وفيها توفي مسلم بن خالد الزنجي الفقيه المكي، وكان الشافعي قد صحبه قبل مالك وأخذ عنه الفقه، وكان أبيض مضرباً بحمرة. ولذلك قيل له الزنجي. وفيها أعني في سنة تسع وسبعين ومائة، توفي السيد الحميري الشاعر، واسمه إِسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، والسيد لقب غلب عليه أكثر من الشعر، وكان شيعياً كثيراً الوقيعة في الصحابة، وكان كثير المدح لآل البيت، والهجو لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فمن ذلك قوله في مسيرها إِلى البصرة لقتال علي من قصيدة طويلة: كأنها في فعلها حية ... تريد أن تأكل أولادها وكذلك له فيها وفي حفصة أبيات؛ منها: إِحداهما نمت عليه حديثه ... وبغت عليه بغية إِحداهما ثم دخلت سنة ثمانين ومائهَ: فيها مات هشام بن عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام بن عبد الملك صاحب الأندلس. وكانت إِمارته سبع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام وعمره تسع وثلاثون سنة وأربعة أشهر، واستخلف بعده ابنه الحكم ابن هشام، ولما وليَ الحكم خرج عليه عمّاه، سليمان وعبد الله ابنا عبد الرحمن، وكانا في بر العدوة، فتحاربوا مدة والظفر للحكم، وظفر الحكم بعمه سليمان فقتله سنة أربع وثمانين ومائة، فخاف عمه عبد الله، وصالح الحكم سنة ست وثمانين، ولما اشتغل الحكم بقتال عميه، اغتنمت الفرنج الفرصة

فقصدوا بلاد الإسلام، وأخذوا مدينة برشلونة في سنة خمس وثمانين ومائة. وفي هذه السنة أعني سنة ثمانين ومائة سار جعفر بن يحيى بن خالد إلى الشام، فسكّن الفتنة التي كانت بالشام، وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب ما كان يقع من أهلها من العصيان في كل وقت. وفيها أي سنة ثمانين ومائة وقيل سنة سبع وسبعين ومائة، توفي سيبويه النحوي بقرية يقال لها البيضاء من قرى شيراز، واسم سيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر، وكان أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو، وجميع كتب الناس في النحو عيلة على كتاب 7 واشتغل على الخليل بن أحمد، وكان عمره لما مات نيفاً وأربعين سنة، وقيل توفي بالبصرة سنة إِحدى وستين ومائة، وقيل سنة ثمان وثمانين ومائة، وقال أبو الفرج ابن الجوزي؛ توفي سيبويه في سنة أربع وتسعين ومائة، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وإنه توفي بمدينة ساوة، وذكر خطيب بغداد عن ابن دريد، أن سيبويه مات بشيراز وقبره بها، وكان سيبويه كثيراً ما ينشد: إِذا بل من داء به ظن أنْه ... نجا وبه الداء الذي هو قاتله وسيبويه لقبه، هو لفظ فارسي معناه بالعربية رائحة التفاح، وقيل إِنما لقب سيبويه لأنه كان جميل الصورة، ووجنتاه كأنهما تفاحتان، وجرى له مع الكسائي البحث المشهور في قولك: كنت أظن لسعة العقرب أشد من لسعة الزنبور. قال سيبويه: فإِذا هو هي، وقال الكسائي فإِذا هو إِياها، وانتصر الخليفة للكسائي فحمل سيبويه من ذلك هماً، وترك العراق وسافر إِلى جهة شيراز وتوفي هناك. ثم دخلت سنة إِحدى وثمانين ومائة فيها غزا الرشيد أرض الروم فافتتح حصن الصفصاف وفيها توفي عبد الله بن المبارك المروزي، في رمضان، وعمره ثلاث وستون سنة. وفيها توفي مروان بن أبي حفصة الشاعر، وكان مولده سنة خمس ومائة، وفيها توفي أبو يوسف القاضي، واسمه يعقوب بن إبراهيم من ولد سعد بن خيثمة، وسعد المذكور صحابي من الأنصار وهو سعد بن بجير واشتهر باسم أمه خيثمة، وأبو يوسف المذكور هو أكبر أصحاب أبي حنيفة. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة: فيها مات جعفر الطيالسي المحدث. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة فيها توفي موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ببغداد في حبس الرشيد، وحبسه عند السندي بن شاهك، وتولى خدمته في الحبس أخت السندي، وحكت عن موسى المذكور أنه كان إِذا صلى العتمة، حمد الله ومجده ودعاه إِلى أن يزول الليل، ثم يقوم يصلي حتى يطلع الصبح، فيصلي الصلح ثم يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم يقعد إِلى ارتفاع الضحى، ثم يرقد ويستيقظ قبل الزوال، ثم يتوضأ ويصلي حتى يصلي العصر، ثم يذكر الله تعالى حتى يصلي المغرب، ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه إِلى أن مات رحمة الله عليه، وكان يلقب الكاظم: لأنه كان يحسن إِلى من

يسيء إِليه، وموسى الكاظم المذكور سابع الأئمة الاثني عشر على رأي الإمامية، وقد تقدم ذكر أبيه جعفر الصادق في سنة ثمان وأربعين ومائة، وتقدم ذكر جده محمد الباقر في سنة ست عشرة ومائة وولد موسى المذكور في سنة تسع وعشرين ومائة، وتوفي في هذه السنة أعني سنة ثلاث وثمانين ومائة لخمس بقين من رجب ببغذاد، وقبره مشهور هناك، وعليه مشهد عظيم في الجانب الغربي من بغداد، وسنذكر باقي الأئمة الاثني عشر إِن شاء الله تعالى. وفي هذه السنة توفي يونس بن حبيب النحوي المشهور، أخذ العلم عن أبي عمرو بن العلاء وكان عمره قد زاد على مائة سنة، وروى عنه سيبويه، وليونس المذكور قياس في النحو ومذاهب ينفرد بها. ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة فيها ولى الرشيد حماد البربري اليمن ومكة وولىّ داود بن يزيد بن مرثد بن حاتم المهلبي السند. وولى يحيى الحرسي الجبل، وولى مهرويه الرازي طبرستان وولى إِفريقية إبراهيم بن الأغلب وكان على الموصل وأعمالها يزيد بن مرثد بن زائدة الشيباني. ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة فيها مات عم المنصور، عبد الصمد ابن علي بن عبد الله بن عباس، وكان في القرب إلى عبد المناف بمنزلة يزيد بن معاوية، وبين موتهما ما يزيد على مائة وعشرين سنة. وفيها توفي يزيد بن مرثد بن زائدة الشيباني وهو ابن أخي معن بن زائدة. ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة ودخلت سنة سبع وثمانين ومائة. الإيقاع بالبرامكة في هذه السنة أوقع الرشيد بالبرامكة، وقتل جعفر بن يحيى وقد اختلف في سبب ذلك اختلافاً كثيراً، والأكثر أن ذلك لإتيانه عباسة أخت الرشيد، فإنه زوجه بها ليحل له النظر إِليها، وشرط على جعفر أنه لا يقربها، فوطئها وحبلت منه وجاءت بغلام، وقيل بل الرشيد حبس يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عند جعفر فأطلقه جعفر، وقيل بل إِنه لما عظم أمر البرامكة واشتهر كرمهم وأحبهم الناس، والملوك لا تصبر على مثل ذلك، فنكبهم لذلك، وقيل غير ذلك، وكان قتل جعفر بالأنبار، مستهل صفر من هذه السنة، عند عود الرشيد من الحج، وبعد أن قتل جعفر وحمل رأسه، أُرسل أن أحاط بيحيى وولده وجميع أسبابه، وأخذ ما وجد للبرامكة من مال ومتاع وضياع وغير ذلك، وأُرسل إِلى سائر البلاد بقبض أموالهم ووكلائهم، وسائر أسبابهم، وأرسل رأس جعفر وجيفته إِلى بغْداد، وأمر بنصب رأسه وقطعة من جيفته على الجسر، ونصب الأخرى على الجسر الآخر، ولم يتعرض الرشيد لمحمد بن خالد بن برمك وولده وأسبابه لبراءته مما دخل فْيه أخوه يحيى بن خالد بن برمك وولده، وكان عمر جعفر لما قتل سبعاً وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إِليهم سبع عشرة سنة، وفي ذلك يقول الرقاشي وقيل أبو نواس:

الآن استرحنا واستراحت ركابُنا ... وأمسك من يجدي ومن كان يحتدي فقل للمطايا قد أمنت من السرى ... وطي الفيافي فدْفداً بعد فدْفد وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر ... ولم تظفري من بعده بمسود وقل للعطايا يا بعد فضل تعطلي ... وقل للرزايا كل يوم تجددي ودونك سيفاً برمكياً مهنداً ... أصيب بسيف هاشمي مهندِ وقال يحيى بن خالد لما نكب: الدنيا دول، والمال عازية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وفينا لمن بعدنا عبرة. وفي هذه السنة خلع الروم ملكتهم وكانت امرأة تدعى رمنى وملكوا تقفور فكتب إِلى الرشيد: من تقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أمّا بعد، فإِن الملكة التي كان قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه إِليها، لكن ذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإِذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها، وإلا السيف بيننا وبينك فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، وكتب على ظهر الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين، إِلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، ثم سار الرشيد من يومه حتى نزل على هرقلة، ففتح وغنم وخرب، فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله في كل سنة فأجابه. وفي هذه السنة هاجت الفتنة بالشام بين المضرية واليمانية، فأرسل الرشيد وأصلح بينهم، وفيها ترفي الفضيل بن عياض الزاهد وكان مولده بسمرقند وانتقل إِلى مكة ومات بها، وفيها توفي أبو مسلم معاذ الفرءا النحوي وعنه أخذ الكسائي النحو وولد أيام يزيد بن عبد الملك. ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة فيها توفي العباس بن الأحنف الشاعر. ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة فيها وقيل في سنة إِحدى وثمانين توفي أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن فيروز المعروف بالكسائي، في الري، وهو أحد القراء السبعة، وكان إِماماً في النحو واللغة، وقيل له الكسائي لأنه دخل الكوفة وأتى إِلى حمزة بن حبيب الزيات ملتفاً بكساء، وقيل بل حج وأحرم بكساء. وفيها سار الرشيد إلى الري وأقام به أربعة أشهر، ثم رجع الرشيد إِلى العراق ودخل بغداد في آخر ذي الحجة، وأمر بإِحراق جثة جعفرة وكانت مصلوبة على الجسر، ولم ينزل ببغداد، ومضى من فوره إِلى الرقة، فقال في ذلك بعض شعراء الرشيد: ما أنخنا حتى ارتحلنا فانف ... رق بين المناخ والارتحال سألونا عن حالنا إِذ قدمنا ... فقرأنا وداعهم بالسؤال فقال الرشيد: والله إِني أعلم أنه ما في الشرق ولا في الغرب مدينة أيمن ولا أيسر من بغداد، وأنها دار مملكة بني العباس، ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق،

والبغض لأئمة الهدي، والحب لشجرة اللعنة بني أمية، ولولا ذلك ما فارقت بغداد. وفي هذه السنة مات محمد بن الحسن الشيباني الفقيه صاحب أبي حنيفة، وكان والده الحسن من أهل قرية حرستا، من غوطة دمشق، فسار إِلى العراق وأقام بواسط، فولد ولده محمد بن الحسن المذكور، ونشأ بالكوفة، ثم صحب أبا حنيفة وتفقه على أبي يوسف، وصنف عدة كتب مثل: الجامع الكبير، والجامع الصغير، في فقه أبي حنيفة وغير ذلك. ثم دخلت سنة تسعين ومائة في هذه السنة سار الرشيد في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفاً من المرتزقة سوى من لا ديوان له من الأتباع والمتطوعة، حتى نزل على هرقلة وحصرها ثلاثين يوماً، ثم فتحها في شوال من هذه السنة، وسبى أهلها، وبث عساكره في بلاد الروم، ففتحوا الصفصاف وملقونية وخربوا ونهبوا وبعث تقفور بالجزية عن رعيته وعن رأسه أيضاً، ورأس ولده، وبطارقته، وفي هذه السنة نقض أهل قبرس العهد. فغزاهم معتوق بن يحيى، وكان عاملاً على سواحل مصر والشام، فسبى أهل قبرس، وفيها أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون، وكان مجوسياً، وفيها توفي أسد بن عمر، وابن عامر الكوفي صاحب أبي حنيفة، وفيها توفي يحيى بن خالد بن برمك محبوساً بالرقة، في المجرم وعمره سبعون سنة. ثم دخلت سنة إِحدى وتسعين ومائة. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة فيها سار الرشيد من الرقة إلى خراسان فنزل بغداد، ورحل عنها إِلى النهروان، لخمس خلون من شعبان، واستخلف على بغداد ابنه الأمين. ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة. فيها مات الفضل بن يحيى بن خالد ابن برمك في الحبس بالرقة، في المحرم، وعمره خمس وأربعون سنة، وكان من محاسن الدنيا؛ لم ير في العالم مثله. موت الرشيد في هذه السنة أعني سنة ثلاث وتسعين ومائة، مات الرشيد لثلاث خلون من جمادى الآخرة، وكان به مرض من حين ابتدأ بسفره، فاشتدت علته بجرجان، في صفر، فسار إِلى طوس فمات بها في التاريخ المذكور، وكان قد سير ابنه المأمون إِلى مرو، وحفر الرشيد قبره في موضع الدار التي كان فيها، وأنزل فيه قوماً ختموا فيه القرآن، وهو في محفة على شفير القبر، وكان يقول في تلك الحالة واسوءتاه من رسول الله، ولما دنت منه الوفاة غشي عليه ثم أفاق، فرأى المفضل بن الربيع على رأسه فقال: يا فضل أحين دنا ما كنت أخشى دنوه ... رمتني عيونُ الناس من كل جانب فأصبحتُ مرحوماً وكنت محسداً ... فصبرا على مكروه مر العواقب سأبكي على الوصل الذي كان بيننا ... وأندبُ أيام السرور الذواهب ثم مات، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح وسرور وحسين، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوماً، وكان عمره

خلافة الأمين

سبعاً وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، وكان جميلاً أبيض قد وخطه الشيب، وكان له من البنين: الأمين من زبيدة، والمأمون من أم ولد اسمها مراجل، والقاسم المؤتمن، والمعتصم محمد، وصالح، وأبو عيسى محمد، وأبو يعقوب، وأبو العباس محمد، وأبو سليمان محمد، وأبو علي محمد، وأبو محمد، وهو اسمه، وأبو أحمد محمد، كلهم لأمهات أولاد، وخمس عشرة بنتاً، وكان الرشيد يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم، وعهد بالخلافة إِلى الأمين، ثم من بعده إِلى المأمون، وكتب بينهما عهداً بذلك، وجعله في الكعبة، وكان قد جعل ابنه القاسم ولقبه المؤتمن، ولي العهد بعد المأمون، وجعل أمر استقراره وعزله إلى المأمون إِن شاء استمر به وإن شاء عزله. خلافة الأمين وهو سادسهم، ولما توفي الرشيد بويع للأمين بالخلافة، في عسكر الرشيد، صبيحة الليلة التي توفي فيها الرشيد، وكان المأمون حينئذ بمرو وكتب صالح بن الرشيد إِلى أخيه الأمين، بوفاة الرشيد، مع رجاء الخادم، وأرسل معهُ خاتم الخليفة، والبردة والقضيب، ولما وصل إِلى الأمين ببغداد، أخذت له البيعة ببغداد، وتحول إِلى قصر الخلافة، ثم قدمت عليه زبيدة أمه من الرقة، ومعها خزائن الرشيد، فتلقاها ابنها الأمين بالأنبار ومعه جميع وجوه بغداد، وفي هذه السنة قتل تقفور ملك الروم في حرب برجان، وكان ملكه سبع سنين. ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة وفي هذه السنة اختلف أهل حمص على عاملهم إِسحاق بن سليمان، فانتقل عنهم إِلى سلمية، فعزله الأمين واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرسي، فقاتل أهل حمص حتى سألوا الأمان فأمنهم. وفي هذه السنة قتل شقيق البلخي الزاهد في غزوة كولان من بلاد الترك. ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة فيها أبطل الأمين اسم المأمون من الخطبة، وكان أبوهما قد عهد إِلى الأمين، ثم من بعده إِلى المأمون حسب ما ذكرناه، فخطب لهما إِلى هذه السنة، فقطعها الأمين، وخطب لابنه موسى بن الأمين، ولقبه الناطق بالحق. وكان موسى طفلاً صغيراً، ثم جهز الأمين جيشاً لحرب المأمون بخراسان، وقدم عليهم علي بن عيسى بن ماهان، وكان طاهر بن الحسين مقيماً في الري من جهة المأمون ومعه عسكر قليل، وسار علي بن عيسى بن ماهان في خمسين ألفاً، حتى وصل إِلى الري، والتقى العسكران، فخلع طاهر بيعة الأمين وبايع المأمون بالخلافة، وقاتل علي بن عيسى بن ماهان قتالاً شديداً، فانهزم عسكر الأمين، وقتل علي بن عيسى بن ماهان، وحمل رأسه إِلى طاهر، فأرسل طاهر بالرأس وبالفتح إلى المأمون، وهو بخراسان. وفي هذه السنة توفي أبو نواس الحسن بن هانئ الشاعر، وكان عمره تسعاً وخمسين سنة. ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة في هذه السنة سير الأمين جيشاً صحبة أحمد بن مرثد، وعبد الله بن حميد بن قحطبة، ومع كل واحد عشرون ألف فارس، فساروا إِلى حلوان لحرب طاهر، فلما وصلوا إِلى خانقين وقع الاختلاف بينهم، فرجعوا من خانقين من غير أن يلقوا طاهراً،

فتقدم طاهر فنزل حلوان، ولحقه هرثمة بجيش من عند المأمون، وكتاب يأمره فيه أن يسلم ما حوى من المدن والكور إِلى هرثمة، وأن يتوجه طاهر إِلى الأهواز، ففعل ذلك، وأقام مرثمة بحلوان، ولما تحقق المأمون قتل ابن ماهان وانهزام عساكر الأمين، أمر أن يخطب له بإِمرة المؤمنين، وأن يخاطب بأمير المؤمنين، وعقد للفضل بن سهل على المشرق، من جبل همدان إِلى التبت طولاً، ومن بحر فارس إِلى بحر الديلم وجرجان عرضاً، ولقبه ذا الرياستين، رياسة الحرب والقلم، وولىّ الحسن بن سهل ديوان الخراج، وذلك كله في هذه السنة، ثم استولى طاهر على الأهواز، ثم على واسط، ثم على المدائن، ونزل صرصر ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة في هذه السنة حاصر طاهر وهرثمة بالعساكر الذين صحبتهما بغداد، وحصروا الأمين، ووقع في بغداد النهب والحريق، ومنع طاهر دخول الميرة إِلى بغداد، فغلت بها الأسعار ودام الحصار وشدة الحال، إِلى أن انقضت هذه السنة. وفي هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين ومائة، توفي إِبراهيم بن الأغلب عامل إِفريقية، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة أربع وثمانين ومائة ولما توفي تولى على إِفريقية بعد ولده أبو العباس عبد الله بن إِبراهيم بن الأغلب ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة. استيلاء طاهر على بغداد وقتل الأمين في هذه السنة هجم طاهر على بغداد بعد قتال شديد، ونادى مناديه: من لزم بيته فهو آمن. وأخذ الأمين أمه وأولاده إِلى عنده بمدينة المنصور، وتحصن بها؛ وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه، وحصره طاهر هناك، وأخذ عليه الأبواب، ولما أشرف على أخذه، طلب الأمين الأمان من هرثمة، وأن يطلع إِليه فروجع في الطلوع إِلى طاهر، فأبى ذلك، فلما كانت ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، خرج الأمين بعد عشاء الآخرة وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود، فأرسل إِليه هرثمة يقول: إِني غير مستعد لحفظك، وأخشى أن أُغلب عنك، فأقم إلى الليلة القابلة، فأبى الأمين إلا الخروج تلك الليلة، ثم دعا الأمين لابنيه وضمهما إليه وقبلهما وبكى، ثم جاء راكباً إِلى الشط، فوجد حراقة هرثمة، فصعد إِليها، فاحتصنه هرثمة وضمه إِليه، وقبل يديه ورجليه ثم شد أصحاب طاهر على حراقة هرثمة حتى غرقوها، فأخرج الملاح هرثمة من الماء، وأما الأمين فلما سقط في الماء، شق ثيابه، ثم أخذ بعض أصحاب طاهر الأمين وهو عريان عليه سراويل وعمامة، فأمر به طاهر فحبس في بيت، فلما انتصف الليل، أرسل إِليه طاهر قوماً من العجم فقتلوه وأخذوا رأسه ومضوا به إِلى طاهر، فنصبه على برج من أبرجة بغداد، وأهل بغداد ينظرون إِليه. ثم أرسل طاهر رأس الأمين إِلى أخيه المأمون وكتب بالفتح، وأرسل البردة والقضيب، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، وصلى بالناس وخطب للمأمون، وكان قتل الأمين لست بقين من المحرم، سنة ثمان وتسعين

ومائة، وكانت مدة خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وكسراً، وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة، وكان سبطاً أنزع صغير العينين، أقنى جميلا طويلاً وكان منهمكاً في لذات وشرب الخمر، حتى أرسل إلى جميع البلاد في طلب الملهين وضمهم إِليه، وأجرى عليهم الأرزاق، واحتجب عن أخوته وأهل بيته، وقسم الأموال والجواهر في خواصه، وفي الخصيان والنساء، وعمل خمس حراقات في دجلة، على صورة الأسد، وعلى صورة الفيل وعلى صورة العقاب، وعلى صورة الحية، وعلى صورة الفرس، وأنفق في عملها مالا عظيماً، وذكر ذلك أبو نواس في شعره فقال: سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب فإذا ما ركابه سرْنَ براً ... سار في الماء راكباً ليثُ غاب عجب الناس إِذ رَأوك عليه ... كيف لو أبصروك فوق العقاب ذات سور ومنسر وجناحي ... ن تشق العباب بعد العباب ولما قتل الأمين، استوثق الأمر في المشرق والمغرب للمأمون، وهو لهم، فولى الحسن بن سهل أخا الفضل، على كور الجبال والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن. ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة. فيها ظهر ابن طباطبا العلوي، وهو محمد بن إِبراهيم بن إِسماعيل بن إِبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، بالكوفة، يدعو إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم وكان القيم بأمره، أبو السرايا السري بن منصور، وبايعه أهل الكوفة واستوثق له أهلها، فأرسل إِليه الحسن بن سهل بن زهير بن المسيب الضبي، في عشرة آلاف مقاتل، فهزمهم ابن طباطبا واستباحهم، وكانت الوقعة في جمادى الآخرة من هذه السنة، فلما كان مستهل رجب، مات محمد بن إِبراهيم بن طباطبا فجأة، سمه أبو السرايا ليستبد بالأمر، لأنه علم أنه لا حكم له مع ابن طباطبا، وأقام أبو السرايا غلاماً يقال له ابن زيد، من ولد علي بن أبي طالب، صورة مكان ابن طباطبا، ثم استولى أبو السرايا على البصرة وواسط، وجرى بينه وبين عساكر المأمون عدة وقائع يطول شرحها. وفي هذه السنة توفي والد طاهر، وهو الحسين بن مصعب، بخراسان، وأرسل المأمون يعزي ابنه طاهراً بأبيه. وفيها توفي عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، وكنيته أبو هاشم، وهو والد محمد بن عبد الله بن نمير شيخ البخاري. ثم دخلت سنة مائتين فيها في المحرم هرب أبو السرايا من الكوفة في ثمان مائة فارس، بعد أن حاصره هرثمة ودخل هرثمة الكوفة وآمن أهلها، وسار أبو السرايا إِلى جلولاء وتفرق عنه أصحابه، فظفر به حماد الكندغوش، فأمسك أبا السرايا ومن بقي معه، وأتى بهم إِلى الحسن بن سهل وهو بالنهروان، فقتل أبا السرايا وبعث برأسه إِلى المأمون، وكان بين خروج أبي السرايا وقتله عشرة أشهر. وفي هذه السنة ظهر إِبراهيم

بن موسى بن عيسى بن جعفر بن محمد العلوي وسار إِلى اليمنٍ، وبها إِسحاق بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عاملاً للمأمون، فهرب من إِبراهيم بن موسى العلوي المذكور، واستولى إِبراهيم على اليمن، وكان يسمى الجزار، لكثرة من قتل وسبى. وفي هذه السنة سار هرثمة من الكوفة بعد فراغه من أمر أبي السرايا، إلى جهة المأمون، ووردت عيه مكاتبات المأمون بالمسير إِلى الشام والحجاز، فحملته الدالية وكثرة مناصحته، على القدوم على المأمون ومخالفة مرسومه، وكان بينه وبين الحسن ابن سهل عداوة، فدس الحسن بن سهل أصحاب المأمون بالحض على هرثمة، وكان يظن هرثمة أن قوله هو المقبول في حق الحسن بن سهل، فقدم على المأمون بمرو في ذي القعدة هذه السنة، أعني سنة مائتين، فلما حضر هرثمة بين يدي المأمون، ضربه وحبسه، ثم دس إليه من قتله في الحبس وقالوا مات. وفي هذه السنة أمر المأمون أن يحصى ولد العباس، فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً، بين ذكر وأنثى. وفيها قتلت الروم ملكهم الليون، وملك عليهم ميخائيل. وفيها توفي معروف كرخي الزاهد، صاحب الكرامات، وكان أبو معروف نصرانياً. ثم دخلت سنة إِحدى ومائتين فيها اشتد أذى فساق بغداد وشطارها على الناس، حتى قطعوا الطريق، وأخذوا النساء والصبيان علانية ونهبوا القرى مكابرة، وبقي الناس معهم في بلاء عظيم، فتجمع أهل بعض المحال ببغداد، مع رجل يقال له خالد بن الدريوس، وشدوا على من يليهم من الفساق فمنعوهم وطردوهم، وقام بعده رجل يقال له سهل بن سلامة الأنصاري، من أهل خراسان، وردع الفساق، واجتمع إِليه جمع كثير من أهل بغداد، وعلق مصحفاً في عنقه، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فقبل الناس منه وكان قيام سهل المذكور لأربع خلون من رمضان، وقيام ابن الدريوس قبله بنحو ثلاثة أيام. وفي هذه السنة جعل المأمون علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولي عهد المسلمين، والخليفة من بعده ولقبه الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم وأمر جنده بطرح السواد ولبس الخضرة، وكتب بذلك إِلى الآفاق، وذلك لليلتين خلتا من رمضان، من هذه السنة، وصعب ذلك على بني العباس، وكان أشدهم تحرقاً في ذلك منصور وإبراهيم ابنا المهدي، وامتنع بعض أهل بغداد عن البيعة، وكان المتحدث في أخذ البيعة لعلي بن موسى في بغداد. عيسى بن محمد بن أبي خالد. وفي هذه السنة، في ذي الحجة خاض الناس ببغداد في البيعة لإبراهيم بن المهدي بالخلافة وخلع المأمون، لأنهم نقموا على المأمون توليته الحسن بن سهل، وجعله الخلافة في آل علي بن أبي طالب، وإخراجها عن بني العباس فأظهر العباسيون الخلاف، لخمس بقين من ذي الحجة، ووضعوا يوم الجمعة رجلاً يقول إنا نريد أن ندعو للمأمون وبعده لإبراهيم بن المهدي، ووضعوا آخر يجيبه، بأنا لا نرضى إِلا أن تبايعوا لإبراهيم بن

وقتل ذي الرياستين

المهدي بالخلافة، وبعده لإسحاق بن موسى الهادي، وتخلعوا المأمون، ففعلوا ذلك، فتفرق الناس من الجامع، ولم يصلوا الجمعة. وفي هذه السنة توفي عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب، صاحب إِفريقية، وتولى بعده أخوه زيادة الله بن إِبراهيم. وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن خرداذبة والي طبرستان جبال طبرستان، وأنزل شهريار بن شهريار بن شروين عنها وأسر أبا ليلى ملك الديلم. ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين. البيعة لإِبراهيم بن المهدي بايعه أهل بغداد بالخلافة، في المحرم من هذه السنة، أعني سنة اثنتين ومائتين. ولقب المبارك بعد أن خلعوا المأمون، وكان المتولي لبيعته، المطلب بن عبد الله بن مالك، واستولى إِبراهيم على الكوفة وعسكر بالمدائن، واستعمل علي الجانب الغربي من بغداد، العباس بن موسى الهادي، وعلى الجانب الشرقي، إسحاق ابن الهادي، ولما تولى إسحاق المذكور، ظفر بسهل بن سلامة الذي ظهر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وقمع الفساق، فتفرق عنه أصحابه وأمسكه إسحاق وبعث به إِلى إِبراهيم بن المهدي إِلى المدائن، فضربه وحبسه. مسير المأمون إلى العراق وقتل ذي الرياستين وفي هذه السنة، سار المأمون من مرو إِلى العراق، واستخلف على خُرَاسان غسان بن عباد وكان سبب مسيره ما وقع في العراق من الفتن، في البيعة لإبراهيم بن المهدي، ولما أتى المأمون سرخس، وثب أربعة أنفس بالفضل بن سهل، فقتلوه في الحمام، لليلتين خلتا من شعبان من هذه السنة، أعني سنة اثنتين ومائتين، وكان عمره ستين سنة، وجعل المأمون لمن أمسكهم عشرة آلاف دينار، فأمسكهم العباس ابن الهيثم الدينوري، وأحضرهم إِلى المأمون فقالوا: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت أعناقهم. ورحل المأمون طالباً العراق، وبلغ إبراهيم بن المهدي، والمطلب الذي أخذ البيعة لإبراهيم وغيرهما، قدوم المأمون، فتمارض المطلب، وراح إِلى بغداد، وسعى في الباطن في أخذ البيعة للمأمون، وخلع إبراهيم، وبلغ إِبراهيم ذلك وهو في المدائن فقصد بغداد وأرسل في طلب المطلب، فامتنع عليه، فأمر بنهبه، فنهبت دور أهله، ولم يظفروا بالمطلب، وذلك في صفر من هذه السنة. وفي هذه السنة عقد المأمون العقد على بوران لنت الحسن بن سهل، وزوج المأمون ابنته من علي بن موسى الرضا. وفي هذه السنة توفي أبو محمد اليزيدي، وهو يحيى بن المبارك بن المغيرة المقرئ صاحب أبي عمرو بن العلاء، وإنما قيل له اليزيدي، لأنه صحب يزيد بن منصور، خال المهدي، وكان يعلم ولده. ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين في هذه السنة في صفر مات علي بن موسى الرضا بأن أكل عنباً فأكثر منه فمات فجأة بطوس وصلى عليه المأمون، ودفنه عند قبر أبيه الرشيد، وكان مولد علي بالمدينة، سنة ثمان وأربعين ومائة، ولما مات، كتب المأمون إلى

وذكرهم عن آخرهم

أهل بغداد يعلمهم بموت علي الرضا، وقال: إِنما نقمتم علي بسببه، وقد مات، وكان يقال لعلي المذكور، علي الرضا وهو ثامن الأئمة الاثني عشر، على رأي الإمامية، وهو علي الرضا بن موسى الكاظم المقدم ذكره، في سنة ثلاث وثمان مائة، ابن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب، وعلي الرضا المذكور هو والد محمد الجواد تاسع الأئمة وسنذكره إِن شاء الله تعالى. وفي هذه السنة أعني سنة ثلاث ومائتين، خلع أهل بغداد إِبراهيم المهدي، ودعوا للمأمون بالخلافة، وتخلى عن إِبراهيم صحابه، فلما رأى إِبراهيم ذلك فارق مكانه واختفى، ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة، من كل السنة، وأحدق حميد، أحد قواد المأمون بدار إِبراهيم بن المهدي، فلم يجده في الدار، فلم يزل إِبراهيم متوارياً حتى قدم المأمون إِلى بغداد، وكانت أيام ولاية إِبراهيم نحو سنة وأحد عشر شهراً، وكسر. وفي هذه السنة في آخر ذي الحجة وصل المأمون إِلىٍ همدان، وكانت بخراسان وما وراء النهر زلازل عظيمة، دامت مقدار سبعين يوماً، فخربت البلاد وهلك فيها خلق كثير وكان معظمها ببلخ والجورجان والفارياب والطالقان، وفي هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بن سهل وتغير عقله، حتى شد في الحديد وحبس، وكتب قواد العسكر الذين كانوا مع الحسن بذلك إِلى المأمون. ابتداء دولة بني زياد ملوك اليمن وذكرهم عن آخرهم وكان ينبغي ذكر ذلك مبسوطاً في السنين، ولكن جمعناه ليضبط، بخلاف ما لو تفرق، فإنه كان يصعب التقاطه وضبطه، فنقول: كان ابتداؤها في هذه السنة تاريخ اليمن، لعمارة اليمني قال: كان شخص من بني زياد بن أبيه، اسمه محمد فلان، وقيل ابن إبراهيم بن عبيد الله بن زياد، مع جماعة من بني أمية، قد سلمهم المأمون إِلى الفضل بن سهل بن سهل ذي الرياستين، وقيل إِلى أخيه الحسن، وبلغ المأمون اختلال أمر اليمن، فأثنى ابن سهل على محمد بن زياد المذكور وأشار بإِرساله أميراً على اليمن، فأرسل المأمون محمد بن زياد المذكور، ومعه جماعة، فحج ابن زياد في هذه السنة أعني سنة ثلاث ومائتين، وسار إِلى اليمن وفتح تهامة، بعد حروب جرت بينه وبين العرب، واستقرت قدم ابن زياد المذكور باليمن، وبني مدينة زبيد، واختطها في سنة أربع ومائتين، وأرسل ابن زياد المذكور مولاه جعفراً بهدايا جليلة إِلى المأمون، فسار جعفر بها إِلى العراق، وقدمها إِلى المأمون في سنة خمس ومائتين، وعاد جعفر إِلى اليمن في سنة ست ومائتين، ومعه عسكر من جهة المأمون، بمقدار ألفي فارس، فعظم أمر ابن زياد، وملك إِقليم اليمن بأسره وتقلد جعفر المذكور الجبال، واختط بها مدينة يقال لها المديحرة، والبلاد التي كانت لجعفر تسمى إِلى اليوم مخلاف جعفر، والمخلاف عبارة عن قطر واسع، وكان جعفر هذا من الكفاة الدهاة، وبه تمت دولة بني زياد، حتى

قتل ابن زياد بجعفرة، وبقي محمد بن زياد كذلك حتى توفي. ثم ملك بعده ابنه إِبراهيم بن محمد. ثم ملك بعده ابنه زياد بن إِبراهيم بن محمد، ولم تطل مدته. ثم ملك بعده أخوه أبو الجيش إِسحاق بن إِبراهيم، وطالت مدته وأسن وتوفي أبو الجيش المذكور في سنة إِحدى وسبعين وثلاثمائة خلف طفلاً واختلف في اسم الطفل المذكور، قيل زياد، وقيل غير ذلك، وتولت كفالة الطفل المذكور أخته هند بنت أبي الجيش، وتولى معها عبد لأبي الجيش اسمه رشد، وبقي رشد على ولايته حتى مات، فتولى موضعه عبده حسين بن سلامة، عبد رشد المذكور، وسلامة المذكورة هي أم حسين، ونشأ حسين المذكور حازماً عفيفاً إِلى الغاية، وصار وزيراً لهند، ولأخيها المذكور، حتى ماتا. ثم انتقل ملك اليمن إلى طفل من آل زياد، وقام بأمر الطفل عمته، وعبد من عبيد حسين بن سلامة، اسمه مرجان، وكان لمرجان المذكور عبدان، قد تغلبا على أمور مرجان، اسم أحدهما قيس، والآخر نجاح، ونجاح المذكور هو جد ملوك زيد، على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى، فوقع التنافس بين قيس ونجاح عبدي مرجان على الوزارة، وكان قيس؛ عسوفاً ونجاح رءوفاً، وكان سيدهما مرجان يميل مع قيس على نجاح، وكانت عمة الطفل تميل إلى نجاح، فشكا قيس ذلك إِلى مولاه مرجان، فقبض مرجان على الملك، قيل كان اسمه إِبراهيم، وقيل عبد الله، وعلى عمته، وسلمها إِلى قيس، فبنى قيس على إبراهيم وعمته جداراً وختمه عليهما حتى ماتا، وكان إبراهيم المذكور آخر ملوك اليمن من بني زياد، وكان قبض مرجان على إِبراهيم وعمته في سنة سبع وأربعمائة فيكون مدة ملك بني زياد لليمن مائتي سنة وأربع سنين، لأنهم تولوا من قبل المأمون في سنة، ثلاث ومائتين، وزال ملكهم في سنة سبع وأربعمائة. وانتقل ملكهم في سنة سبع وأربعمائة، وانتقل ملكهم إِلى عبيد عبيدهم الملك صار لنجاح المذكور، على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. ولما قتل إِبراهيم وعمته، تملك، فعظم ذلك على نجاح، واستنصر نجاح الأسود والأحمر، وقصد قيساً في زبيد، وجرى بين نجاح وقيس، حروب عدة، آخرها أن قيساً قتل على باب زبيد، وفتح نجاح زبيد في ذي القعدة سنة اثنتي عشرة وأربع مائة. وقال نجاح لسيده مرجان: ما فعلت بمواليك وموالينا؟ قال: هم في ذلك الجدار، فأخرج نجاح إبراهيم وعمته ميتين، وصلى عليهما ودفنهما، وبنى عليهما مشهداً، وجعل نجاح سيده مرجان موضعهما، ووضع معه جثة قيس، وبني عليهما ذلك الجدار، وتملك نجاح وركب بالمظلة، وضرب السكة باسمه، واستقل بملك اليمن، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى في سنة اثنتي عشرة وأربع مائة. ثم دخلت سنة أربع ومائتين. قدوم المأمون إلى بغداد في هذه السنة قدم المأمون إِلى بغداد، وانقطعت الفتن بقدومه، وكان لباس المأمون لما دخل

رحمه الله

بغداد ولباس أصحابه الخضرة، وكان الناس يدخلون عليه في الثياب الخضر، ويحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، ودام ذلك ثمانية أيام، ثم تكلم بنو العباس وقواد خراسان في ذلك، فترك الخضرة وأعاد لبس السواد. وفاة الإِمام الشافعي رحمه الله وفي هذه السنة، أعني سنة أربع ومائتين، توفي الإمام الشافعي وهو محمد بن إِدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السايب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وهذا شافع الذي ينسب إِليه الشافعي، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع، وأبوه السايب أسلم يوم بدر. فالشافعي شقيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسبه، يجتمع معه في عبد مناف، وكانت زوجة هاشم بن المطلب بن عبد مناف بنت عمه الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف فولد له منها عبد يزيد، جدّ الشافعي، فالشافعي إِذن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، لأن الشفاء أخت عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وولد الشافعي سنة خمسين ومائة بغزة، على الصحيح، وقيل في غيرها، وأخذ العلم من مالك بن أنس، ومسلم بن خالد الزنجي، وسفيان بن عيينة، وسمع الحديث من إِسماعيل بن علية، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، ومحمد بن الحسن الشيباني، وغيرهم، قال الشافعي: حفظت القرآن وأنا ابن تسع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر، وقدمت على مالك وأنا ابن خمس عشرة سنة. وقال: رأيت علي بن أبي طالب في منامي، فسلم علي وصافحني؛ وجعل خاتمه في إِصبعي، ففسر لي أن مصافحته لي أمان من العذاب، وجعله الخاتم في إِصبعي، أنّه سيبلغ اسمي ما بلغ اسم علي، في الشرق والغرب. وناظر الشافعي محمد بن الحسن في الرقة، فقطعه الشافعي، وكان الشافعي حافظاً للشعر، قال الأصمعي: قرأت ديوان الهذليين على محمد بن إِدريس الشافعي، وقال أبو عثمان المازني: سمعت الأصمعي يقول قرأت ديوان الشنفري على الشافعي بمكة، وكان أحمد بن حنبل يقول: ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه، حتى جالست الشافعي. وقدم الشافعي إِلى بغداد مرتين، مرة في سنة خمس وسبعين ومائة، ثم قدمها مرة أخرى في سنة ثمان وسبعين ومائة، وناظر بشر المريسي المعتزلي ببغداد، وناظر حفص الفرد بمصر، فقال حفص: القرآن مخلوق، واستدل عليه، فتحاربا في الكلام حتى كفره الشافعي وقد رواه أبو يعقوب البويطي قال: سمعت الشافعي يقول: إِنما خلق الله الخلق بكن، فإِذا كانت كن مخلوقة، فكأن مخلوقاً خلق بمخلوق، قال ابن بنت الشافعي: حدثنا أبي قال: كان الشافعي ينظر في النجوم وهو حدث، وما نظر في شيء إِلا فاق فيه، فجلس يوماً وامرأته تطلق، فحسب وقال: تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود، تموت إِلى كذا وكذا، فكان كما قال. فجعل على نفسه ألا ينظر فيه بعدها، ودفن الكتب التي كانت عنده

في النجوم، وكان الشافعي ينكر على أهل علم الكلام وعلى من يشتغل فيه، وللشافعي أشعار فائقة منها: وأحق خلق الله بالهم امرؤ ... ذو همة يبلى بعيش ضيق وله أيضاً: رعت النسور بقوة جيف الفلا ... ورعى الذبابُ الشهدَ وهو ضعيف فيها مات الحسن بن زياد اللولوي الفقيه، أحد أصحاب أبي حنيفة، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، صاحب المسند، ومولده سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وفيها أعني سنة أربع ومائتين، وقيل سنة ثلاث ومائتين، توفي النصر بن شميل بن خرشة البصري النحوي، سار إلى خراسان من البصرة، ولما خرج من البصرة مسافراً، طلع لوداعه نحو ثلاثة آلاف رجل من أعيان أهل البصرة، فقال النضر: والله لو وجدت كل يوم كيلجة باقلي ما فارقتكم، فلم يكن فيهم أحد يتكلف ذلك له، وأقام بمرو من خراسان، وصار ذا مال طائل، وصحب الخليفة المأمون وحظي عنده. وكان يوماً عنده فقال المأمون: حدثنا هشيم عن مخالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها، كان فيه سداد من عون " وفتح سين سداد، فأعاد النضر الحديث وكسر السين من سداد، فاستوى المأمون جالساً وقال: تلحني يا نضر؟ فقال: إِنما لحن هشيم، وكان لحانة، فتتبع أمير المؤمنين لفظه قال: فما الفرق بينهما؟ قال: السداد بالفتح، القصد في الدين والسبيل، والسداد بالكسر، البلغة، وكلما سددت به شيئاً فهو سداد، بكسر السين، وأنشد من أبيات عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان المعروف بالعرجي الشاعر المشهور: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فأمر له المأمون بخمسين ألف درهم، وكان النضر من أصحاب الخليل بن أحمد، والنضر بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة، ثم راء، وشُميل - بضم الشين - وخرشة بفتح الخاء المعجمة، والعَرج بفتح العين، وسكون الراء، ثم جيم، عقبة بين مكة والمدينة. ثم دخلت سنة خمس ومائتين: فيها استعمل المأمون طاهر بن الحسين على المشرق، من مدينة السلام إِلى أقصى عمل المشرق، وفيها توفي يعقوب بن إِسحاق بن زيد البصري المقرئ، وهو أحد القراء العشرة، وله في القراءات رواية مشهورة، قرأ على سلام بن سليمان الطويل، وقرأ سلام على عاصم بن أبي النجود وقرأ عاصم على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرأ علي على صلى الله عليه وسلم. ثم دخلت سنة ست ومائتين في هذه السنة مات الحكم بن هشام صاحب الأندلس، لأربع بقين من ذي الحجة، وكانت ولايته في صفر سنة ثمانين ومائة، ولما توفي كان عمره اثنتين وخمسين سنة، وخلف من الولد تسعة عشر ذكراً. ولما مات قام بالملك بعده ابنه عبد الرحمن بن

الحكم. في هذه السنة توفي محمد بن المسير المعروف بقطرب النحوي، أخذ النحو عن سيبويه وكان يبكر الحضور إِلى سيبويه، للاشتغال عليه، قبل الصبح، فقال له سيبوبه: ما أنت إِلا قطرب، فغلب عليه ذلك وصار لقبه. وفيها توفي أبو عمرو إِسحاق الشيباني اللغوي. ثم دخلت سنة سبع ومائتين في هذه السنة توفي طاهر بن الحسين في جمادى الأولى، من حمى أصابته، وكان في آخر جمعة صلاها، قد ترك الدعاء للمأمون، وقصد لمن يخلعه فمات، وكان طاهر أعور، ويلقب ذا اليمينين وفيه يقول بعضهم: يا ذا اليمينين وعين واحدة ... نقصان عين ويمين زائدة وفي هذه السنة توفي بشر بن عمرو الزاهد الفقيه، وهو غير بشر الحافي. وفيها توفي محمد بن عمر بن واقد الواقدي، وعمره ثمان وسبعون سنة، وكان عالماً بالمغازي واختلاف العلماء، وكان يضعف في الحديث، وللواقدي عدة مصنفات، وكان المأمون يكرم جانبه ويبالغ في رعايته، وكان الواقدي متولياً القضاء بالجانب الشرقي من بغداد. وفيها توفي محمد بن عبد الله بن عبد الأعلى، المعروف بابن كناسة، وهو ابن أخت إِبراهيم بن الأدهم، وكان عالماً بالعربية والشعر وأيام الناس. وفيها توفي أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله، المعروف بالفراء الديلمي الكوفي، وكان أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب وكان في ذلك إِماماً. قال الجاحظ: دخلت بغداد في سنة أربع ومائتين، حين قدم إليها المأمون، وكان الفراء يحبني ويشتهي أن يتعلم شيئاً من علم الكلام، فلم يكن له فيه طبع، واتخذ المأمون الفراء معلماً لأولاده، وللفراء عدّة مصنفات منها، كتاب الحدود، وكتاب المعاني، وكتابان في الشكل، وكتاب النهي، وغير ذلك، وكانت وفاته بطريق مكة حرسها الله تعالى، وعمره نحو ثلاث وستين سنة، ولم يكن الفراء يعمل الفراء ولا يبيعها، بل تلقب بذلك لأنه كان يفري الكلام. ثم دخلت سنة ثمان ومائتين فيها مات الفضل بن الربيع. ثم دخلت سنة تسع ومائتين فيها مات ميخائيل ملك الروم، وكان ملكه تسع سنين، وملك بعده ابنه توفيل. وفيها توفي أبو عبيدة محمد بن حمزة اللغوي، وكان يميل إِلى مقالة الخوارج، وعمره تسعٍ وتسعون سنة، وكان متفنناً في العلوم، وكان مع كمالَ فضائله، إِذا أنشد شعراً كسره، ولا يحسن يقيم وزنه، وبلغت مصنفاته نحو مائتي مصنف. ثم دخلت سنة عشر ومائتين في هذه السنة ظفر المأمون بإِبراهيم بن محمد ابن عبد الوهاب بن إِبراهيم الإمام، وكان يعرف بابن عائشة، وبجماعة معه من الأعيان الذين كانوا قد سعوا في البيعة لإبراهيم بن المهدي، فحبسهم، ثم صلب ابن عائشة، وهو أول عباسي صُلب، ثم أنزل وكفن وصلي عليه ودفن. ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي وفي هذه السنة أعني سنة عشر ومائتين في ربيع الآخر، أمسك حارس أسود إِبراهيم

بن المهدي، وهو متنقب مع امرأتين، في زي امرأة وأحضر بين يدي المأمون، فحبسه، ثم بعد ذلك أطلقه، قيل شفع فيه الحسن بن سهل؛ وقيل ابنته بوران وقيل بل المأمون من نفسه عفا عنه. وفي هذه السنة دخل المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل، وكان الحسن ابن سهل مقيماً في فم الصلح فسار المأمون من بغداد إِلى فمٌ الصلح، ودخل بها ونثرت عليه جدة بوران أم الحسن والفضل ألف حبة لؤلؤ؛ من أنفس ما يكون، وأوقدت شمعة عنبر، فيها أربعون منا، وكتب الحسن بن سهل أسماء ضياعه في رقاع ونثرها على القواد، فمن وقع له رقعة، أخذ الضيعة المسماة فيها، أقول: قد تقدم في سنة ثلاث ومائتين، أن الحسن بن سهل تغير عقله من السوداء، وقيد وحبس وكأنه بعد ذلك تعافى وعاد إِلى منزلته، ولكن لم يذكروا ذلك. وفي هذه السنة ماتت علية بنت المهدي، ومولدها سنة ستين ومائة وكان زوجها موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين فيها أمر المأمون منادياً فنادى: برأت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أو فضله على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها مات أبو العتاهية الشاعر. وفيها توفي أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش النحوي البصري والأخفش: الصغير العينين مع سوء بصرهما. وكان من أئمة العربية البصريين، وأخذ النحو عن سيبويه، وكان أكبر من سيبويه، وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إِلا بعد أن عرضه عليّ، وللأخفش المذكور عدة مصنفات وهو الذي زاد في العروض بحر الخبب، والذين يسمون بالأخفش ثلاثة، أولهم: الأخفش الأكبر، وهو أبو الخطاب عبد الحميد، من أهل هجر، وكان نحوياً أيضاً. ثم الأخفش الأوسط، سعيد بن مسعدة الإمام المذكور. ثم الأخفش الأصغر المتأخر، وهو علي بن سليمان بن الفضل، وكان الأخفش الأصغر المذكور، نحوياً أيضاً، وتوفي في سنة خمس عشرة، وقيل ست عشرة وثلاثمائة. وفيها توفي عبد الرزاق الصغاني المحدث وهو من مشايخ أحمد بن حنبل، وكان يتشيع. ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين فيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على جميع الصحابة، وقال: هو أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي محمد بن يوسف الضبي، وهو من مشايخ البخاري. ثم دخلت سنة ثلاث عشر ومائتين فيها ولى المأمون ابنه العباس الجزيرة والثغور والعواصم، وولى أخاه أبا إِسحاق المعتصم الشام ومصر، وولى غسان بن عباد على السند. وفيها توفي إِبراهيم الموصلي المغني، وكان كوفياً، وسار إِلى الموصل، وعاد، فقيل له الموصلي. وفيها مات علي بن جبلة الشاعر، وأبو عبد الرحمن المقرئ المحدث. وفيها وقيل في سنة ثماني عشرة ومائتين، توفي بمصر أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، وهذا ابن هشام، هو الذي جمع سيرة رسول الله

صلى الله عليه وسلم من المغازي والسير، لابن إِسحاق وهذ بها وشرحها السهيلي، وابن هشام المذكور، من أهل مصر، وأصله من البصرة. ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين فيها استعمل المأمون، عبد الله بن طاهر على خراسان. وفيها صلح حال أبي دلف مع المأمون، وكان أبو دلف من أصحاب الأمين، وقدم على المأمون وهو شديد الخوف منه، فأكرمه وأعلى منزلته. وفيها وقيل في سنة ثلاث عشرة ومائتين، توفي إدريس بن إِدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمغرب، وقام بعده ابنه محمد بن إِدريس بفاس والبربر، وولى أخاه القاسم بن إِدريس طنجة وما يليها، وولى أخاه عمر صنهاجة وغمارة، وولى أخاه داود هوارة بأسليب، وولى أخاه يحيى مدينة داني وما والاها. واستعمل باقي أخوته على ملك البربر، وسنذكر أخبار باقي الأدارسة في سنة سبع وثلاثمائة إِن شاء الَله تعالى. وفيها توفي أبو عاصم بن مخلد الشيباني، وهو إِمام في الحديث. ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين فيها سار المأمون لغزو الروم، ووصل إِلى منبج ثم إِلى إنطاكية، ثم إِلى المصيصة وطرسوس، ودخل منها إِلى بلاد الروم، في جمادى الأولى، ففتح حصوناً، ثم عاد وتوجه إلى دمشق. وفي هذه السنة توفي أبو سليمان الداراني الزاهد؛ توفي بداريا، ومكي بن إِبراهيم البلخي وهو من مشايخ البخاري، وأبو زيد سعيد النحوي اللغوي وعمره ثلاث وتسعون سنة. وفيها توفي أبو سعيد الأصمعي اللغوي البصري، وقيل في سنة ست عشرة، وقيل في سنة سبع عشرة ومائتين، واسم الأصمعي: عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن صالح، وكان عمره نحو ثمان وثمانين سنة، والأصمعي نسبة إِلى جده أصمع، وكان أياماً في الأخبار والنوادر واللغة، وله عدة مصنفات منها: كتاب خلق الإنسان، وكتاب الأجناس، وكتاب الأنواء، وكتاب الصفات، وكتاب الميسر والقداح، وكتاب خلق الفرس، وكتاب خلق الإبل، وكتاب الشاء، وكتاب جزيرة العرب، وكتاب النبات، وغير ذلك، وقُرَيب - بضم القاف وفتح الراء المهملة وياء مثناة من تحتها ساكنة ثم باء موحدة من تحتها. ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين فيها سار المأمون إِلى بلاد الروم فقتل وسبى وفتح عدة حصون، ثم عاد إِلى دمشق، ثم سار المأمون في هذه السنة في ذي الحجة من دمشق إِلى مصر، وفي هذه السنة ماتت أم جعفر زبيدة ببغداد. ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين فيها عاد المأمون من مصر إِلى الشام، ثم دخل بلاد الروم، وأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عائداً وأرسل ملك الروم يطلب المهادنة فلم تتم ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين. ما كان في أمر القرآن المجيد في هذه السنة كتب المأمون إِلى عامله ببغداد، إِسحاق بن إِبراهيم أن يمتحن القضاة والشهود، وجميع أهل العلم بالقرآن، فمن أقر أنّه مخلوق محدث، خلى سبله، ومن أبى يعلمه به، ليرى فيه

رحمه الله تعالى

رأيه، فجمع أولي العلم الذين كانوا ببغداد، منهم قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي، ومقاتل، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وعلي بن الجعد وغيرهم. وقرأ عليهم كتاب المأمون، ثم قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال بشر: القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء. قال: والقرآن شيء؟ قال: نعم. قال: مخلوق هو؟ قال: ليس بخالق. قال: ليس عن هذا أسألك، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك. فقال إسحاق للكاتب: اكتب ما قال. ثم سأل غيره وغيره، فيجيبون قريباً مما أجاب به بشر. ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال: كلام الله ما أزيد عليها. ثم قال له: ما معنى قوله سميع بصير؟ قال أحمد: هو كما وصف نفسه، قال: فما معناه؟ قال: لا أدري، هو كما وصف نفسه. ثم سأل قتيبة، وعبيد الله بن محمد، وعبد المنعم بن إِدريس ابن بنت وهب بن منبه، وجماعة معهم، فأجابوا أنّ القرآن مجعول لقوله تعالى " إِنا جعلناه قرآناً عربياً " " الزخرف: 3 " والقرآن محدث لقوله تعالى " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " " الأنبياء: 2 " قال إسحاق: فالمجعول مخلوق، قالوا: نعم. قال فالقرآن مخلوق؟ قالوا: لا نقول مخلوق، ولكن مجعول. فكتب مقالتهم، ومقالة غيرهم، رجلاً رجلا، ووجهت إِلى المأمون، فورد جواب المأمون إِلى إِسحاق بن إبراهيم، أن يحضر قاضي القضاة بشر بن الوليد، وإبراهيم بن المهدي، فإن قالا بخلق القرآن وإلا تضرب أعناقهما، وأما من سواهما، فمن لم يقل بخلق القرآن، يوثقه بالحديد، ويحمله إلي فجمعهم إسحاق، وعرض عليهم ما أمر به المأمون، فقال بشر وإبراهيم وجميع الذين أحضروا لذلك؛ بخلق القرآن، إلا أربعة نفر، وهم أحمد بن حنبل، والقواريري، وسجادة، ومحمد بن نوح المصروب، فإنهم لم يقولوا بخلق القرآن فأمر بهم إِسحاق، فشدوا في الحديد، ثم سألهم، فأجاب سجادة والقواريري إلى القول بخلق القرآن، فأطلقهما، وأصر أحمد ابن حنبل ومحمد بن نوح المصروب على قولهما؛ فوجههما إلى طرسوس، ثم ورد كتاب المأمون يقول: بلغني أن بشر بن الوليد، وجماعة معه، إِنما أجابوا بتأويل الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بن ياسر " إِلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " " النحل: 106 " وقد أخطؤوا التأويل، فإِن الله تعالى عنى بهذه الآية، من كان معتقداً للإيمان، مظهراً للشرك، فأما من كان معتقداً للشرك، مظهراً للإيمان. فليس هذا له، فأشخصهم إِلى طرسوس ليقيموا بها، إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم، فأمسكهم إِسحاق وأرسلهم، فلما صاروا إِلى الرقة، بلغهم موت المأمون فرجعوا إِلى بغداد. مرض المأمون وموته رحمه الله تعالى في هذه السنة، أعني سنة ثماني عشرة ومائتين، مرض المأمون لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة، وكان سببه ما حكاه سعيد بن العلاف قال: دعاني المأمون، وهو وأخوه المعتصم جالسان على شاطئ نهر البدندون، وقد وضعا أرجلهما في الماء، فقال لي: أي شيء يؤكل ليشرب عليه من هذا الماء، الذي هو في نهاية الصفاء والعذوبة؟ قال: أمير المؤمنين أعلم،

فقال: الرطب، فبينما هم في الحديث، إِذ وصلت بغال البريد، عليها الحقائب، وفيها الألطاف، فقال لخادم له: انظر إِن كان في هذه الألطاف رطب، فمضى وعاد ومعه سلتان فيهما رطب من أطيب ما يكون، فشكر الله تعالى، وتعجبنا جميعاً، وأكل وأكلنا من ذلك الرطب، وشربنا عليه من ذلك الماء، فما قام منا أحد إِلا وهو محموم، ولم يزل المعتصم مريضاً حتى دخل العراق، ولما مرض المأمون، أوصى إِلى أخيه المعتصم، بحضرة ابنه العباس، بتقوى الله تعالى، وحسن سياسة الرعية، في كلام حسن طويل، ثم قال للمعتصم: عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسوله، لتقومن بحق الله في عباده ولتؤثرن طاعة الله على معصيته، إِذا أنا نقلتها من غيرك إِليك. قال: اللهم نعم. ثم قال: هؤلاء بنو عمك ولد أمير المؤمنين علي، صلوات الله عليه، أحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة، عند محلها، وتوفي المأمون في هذه السنة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب، وحمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إِلى طرسوس، فدفناه بدار جلعان خادم الرشيد، وصلى عليه المعتصم، وكانت خلافة المأمون عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً سوى أيام دعي له بالخلافة، وأخوه الأمين محصور ببغداد، وكان مولده للنصف منٍ ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وكانت كنيته أبا العباس، وكان ربعة، أبيض جميلا طويل اللحية رقيقها، قد وخطه الشيب، وقيل كان أسمر، أحنى، أعين، ضيق الجبهة، بخده خال أسود. بعض سيرته وأخباره لما كان المأمون بدمشق، قل المال الذي صحبته، حتى ضاق وشكى ذلك إِلى المعتصم، فقال له يا أمير المؤمنين: كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعة، وحمل إِليه المعتصم ثلاثين ألف ألف ألف، من خراج ما يتولاه له، فلما ورد ذلك، قال المأمون ليحيى بن أكتم: اخرج بنا ننظر إِلى هذا المال فخرجا ونظرا إِليه، وقد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أباعره، فاستكثر المأمون ذلك، واستحسنه، واستبشر به الناس، والناس ينظرون ويتعجبون، فقال المأمون: يا أبا محمد، ننصرف بالمال، ويرجع أصحابنا خائبين. إِن هذا للؤم، فدعا محمد بن رداد، فقال له: وقع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها، فما زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف ألف؛ ورجله في الركاب، وكان المأمون ينظم الشعر، فما يروى له من أبيات: بعثتك مرتاداً ففزتَ بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأتُ بك الظنّا فناجيت من أهوى وكنت مباعداً ... فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى أرى أثراً منها بعينيك بيْنا ... لقد أخذت عيناكَ من عينها حُسنا وكان المأمون شديد الميل إِلى العلويين، والإحسان إِليهم رحمه الله تعالى، ورد فدك على ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلمها إِلى محمد ابن يحيى بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ليفرقها على مستحقيها من ولد فاطمة، وكان المأمون فاضلاً مشاركاً في علوم كثيرة.

خلافة المعتصم

خلافة المعتصم وهو ثامنهم، وبويع للمعتصم أبي إِسحاق محمد بن هارون الرشيد بالخلافة، بعد موت المأمون، ولما بويع له، ونادوا باسم العباس بن المأمون، فأرسل المعتصم إِلى العباس وأحضره، فبايعه العباس، ثم خرج إِلى الجند فقال لهم قد بايعت عمي، فسكنوا، وانصرف المعتصم إِلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها مستهل شهر رمضان. وفي هذه السنة توفي بشر بن غياث المريسي وكان يقول بخلق القرآن. ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين في هذه السنة أحضر المعتصم أحمد ابن حنبل، وامتحنه بالقرآن، فلم يجب إِلى القول بخلقه، فجلده حتى غاب عقله، وتقطع جلده، وقيد وحبس. وفيها توفي أبو نعيم الفضل التيمي وهو من مشايخ البخاري ومسلم. وكان مولده سنة ثلاثين ومائة، وكان شيعياً. ثم دخلت سنة عشرين ومائتين في هذه السنة خرج المعتصم لبناء سامراء فخرج إلى القاطول، واستخلف على بغداد ابنه الواثق، وفيها قبض المعتصم على وزيره الفضل بن مروان، وكان قد استولى على الأمور، بحيث لم يبق للمعتصم معه أمر، وولى المعتصم مكانه محمد بن عبد الملك الزيات. وفي هذه السنة توفي محمد الجواد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهو أحد الأئمة الاثني عشر، عند الإمامية، وصلى عليه الواثق، وكان عمره خمساً وعشرين سنة، ودفن ببغداد عند جده مَوسى بن جعفر، ومحمد الجواد المذكور، هو تاسع الأئمة الاثني عشر، وقد تقدم ذكر أبيه علي الرضا، في سنة ثلاث ومائتين، وسنذكر الباقين إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة إِحدى وعشرين ومائتين فيها توفي قاضي القيروان، أحمد ابن محرز، وكان من العلماء العاملين الزاهدين. وفيها توفي آدم بن أبي إِياس العسقلاني، وهو من مشايخ البخاري في صحيحه. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين، ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين. فتح عمورية وإمساك العباس بن المأمون وحبسه وموته. في هذه السنة خرج ملك الروم نوفيل في جمع عظيم، فبلغ زبطرة وقتل وسبى ومثل بمن وقع في يده من المسلمين، ولما بلغ المعتصم ذلك، وأن امرأة هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم وامعتصماه، استعظمه ونهض من وقته، وجمع العساكر وسار لليلتين بقيتا من جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وعشرين ومائتين. وبلغه أن عمورية هي عين النصرانية وهي أشرف عندهم من قسطنطينة، وأنه لم يتعرض أحد إِليها منذ كان الإسلام، وتجهز المعتصم جهازاً لم يعهد قبله، مثله من السلاح وخيام الأدم، وغير ذلك، وسار المعتصم حتى نزل على نهر قريب من البحر، بينه وبين طرسوس يوم، وجعل عسكره ثلاث فرق،

فرقة مع الإفشين خيذر ابن كاؤوس ميمنة، وفرقة مع أشناس ميسرة، وفرقة مع المعتصم في القلب، وبين كل فرقة وفرقة فرسخان، وأمرهم المعتصم بحريق القرى وتخريب بلاد الروم ففعلوا ذلك، حتى وصلوا إِلى عمورية، فأول من قدمها أشناس، ثم المعتصم، ثم الإفشين، فأحدقوا بها، وكان نزوله عليها لست خلون من رمضان، من هذه السنة، وأقام عليها المنجنيقات، وجرى بين المسلمين والروم عليها قتال شديد يطول شرحه، وآخره أن المسلمين خربوا في السور مواضع بالمنجنيق، وهاجموا البلد وقتلوا أهله، ونهبوا الأموال والنساء، وأقبل الناس بالسبي والأسرى إِلى المعتصم، من كل جهة، وأمر بعموربة فهدمت، وأحرقت، وكان مقامه على عمورية خمسة وخمسين يوماً، ثم ارتحل راجعاً إِلى الثغور، فلما كان في أثناء الطريق، بلغ المعتصم أن العباس بن المأمون قد بايعه جماعة من القواد وهو يريد أن يثب عليه، ويأخذ الخلافة منه، فدعا المعتصم بالعباس بن المأمون، وأمسكه. وسلمه إِلى الافشين خيذر، فلما وصل إِلى منبج طلب العباس الطعام، فأكل ومُنع الماء حتى مات بمنبج، فصلى عليه بعض أخوته وأتم المعتصم سيره حتى دخل سامراء. وفيها أعني سنة ثلاث وعشرين ومائتين، توفي ملك إِفريقية زيادة الله إِبراهيم بن الأغلب، وتولى بعده أخوه أبو عقال الأغلب بن إِبراهيم بن الأغلب. ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين في هذه السنة مات إِبراهيم المهدي في رمضان، وصلى عليه المعتصم. وفيها مات أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام اللغوي، وكان عمره سبعاً وستين سنة. ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين في هذه السنة توفي أبو دلف وعلي بن محمد المدايني المشهور. ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين في هذه السنة غضب المعتصم على الإفشين خيذر بن كاؤوس، وحبسه حتى مات في حبسه، وأُخرج فصُلب، أُحرقت جثته، والإفشين هو الذي قاتل بابك المجوسي، الذي استولى على جبال طبرستان مدة عشرين سنة، وعظم أمره، وهزم عدة مرار عساكر المعتصم، حتى انتدب له المعتصم الإفشين المذكور، فجرى له معه قتال شديد، في مدة طويلة، انتصر الإفشين وأخذ مدينة بابك البذ، وأسر بابك، وأحضره إِلى المعتصم، فقتله والإفشين خيذر المذكور بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها والذال المعجمة وفي آخرها راء مهملة. وفي هذه السنة توفي الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله العلاف البصري شيخ المعتزلة وزاد عمره على مائة سنة. وفيها توفي أبو عقال الأغلب بن إِبراهيم بن الأغلب، وتولى بعده أخوه أبو العباس محمد بن إِبراهيم بن الأغلب، فكانت ولاية الأغلب سنتين وتسعة أشهر. ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين. وفاة المعتصم وفيها توفي أبو إِسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد، لثماني عشرة مضت من ربيع الأول

خلافة ابنه الواثق

بسامراء، وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر ويومين، وكان مولده سنة سبع وتسعين ومائة، وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، ومات عن ثمانية بنين، وثمان بنات، وكان أبيض، أصهب اللحية طويلها، مربوعاً مشرب اللون بحمرة، وهو أول من أضيف إِلى لقبه اسم الله تعالى من الخلفاء، وكان المعتصم بالله، طيب الأخلاق، لكنه إِذا غضب لا يبالي من قتل، وما فعل، وقد حكي أن المعتصم انفرد عن أصحابه في يوم مطر، فبينما هو يسير إِذ رأى شيخاً مع حمار عليه حمل شوك، وقد توحل الحمار ووقع الحمل، وهو ينتظر من يمر عليه ويساعده على ذلك، فنزل المعتصم بالله عن دابته، وخلص الحمار، ورفع معه الحمل عليه، ثم لحقه أصحابه، فأمر لصاحب الحمار بأربعة آلاف درهم، وقال ابن أبي داود: تصدق المعتصم ووهب على يدي مائة ألف ألف درهم. خلافة ابنه الواثق وهو تاسعهم، وبويع الواثق بالله هارون بن المعتصم في اليوم الذي توفي أبوه، وذلك يوم الخميس لثماني عشرة مضت من ربيع الأول، في هذه السنة أعني سنة تسع وعشرين ومائتين، وأم الواثق أم ولد رومية تسمى قراطيس. وفي هذه السنة هلك نوفيل ملك الروم، وملك بعده امرأته بدورة، وابنها ميخائيل بن نوفيل. الفتنة بدمشق لما مات المعتصم، ثارت القيسية بدمشق، وعاثوا وأفسدوا، وحصروا أميرهم بدمشق. فبعث إِليهم الواثق عسكراً مع رجاء بن أيوب فقاتلهم، وكانوا قد اجتمعوا بمرج راهط فقتل من القيسة نحو ألف وخمس مائة، وانهزم الباقي، وصلح أمر دمشق. وفي هذه السنة توفي بشر بن الحارث الزاهد، المعروف بالحافي في ربيع الأول. ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين في هذه السنة فتح المسلمون عدة أماكن من جزيرة صقلية، وكان الأمير على صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب، وكان مقيماً في صقلية، بمدينة بلرم، لم يخرج منها، لكن يجهز الجيوش والسرايا فيفتح ويغنم، وكانت إِمارته على صقلية تسع عشرة سنة، وتوفي في سنة سبع وثلاثين ومائتين في رجب على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفي هذه السنة مات أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر، وفيها أعطى الواثق أشناس، تاجاً ووشاحين. ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين في هذه السنة حبس الواثق الكتاب، وألزمهم أموالاً عظيمة، وفيها توفي خلف بن هشام البزار المقرئ البزار، بالزاي المنقوطة والراء المهملة. ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين في هذه السنة مات عبد الله بن طاهر بنيسابور وهو أمير خراسان وعمره ثمان وأربعون سنة، واستعمل

الواثق موضعه ابنه طاهر بن عبد الله. وفي هذه السنة خرجت المجوس في أقاصي بلاد الأندلس، في البحر، إِلى بلاد المسلمين، وجرى بينهم وبين المسلمين بالأندلس عدة وقائع، انهزم فيها المسلمون، وساروا يقتلون المسلمين، حتى دخلوا حاضر إِشبيلية، ووافاهم عسكر عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس، ثم اجتمع عليهم المسلمون من كل جهة، فهزموا المجوس، وأخذوا لهم أربعة مراكب، بما فيها، وهربت المجوس في مراكبهم إِلى بلادهم. وفي هذه السنة مات أشناس التركي بعد عبد الله بن طاهر بتسعة أيام. ثم دخلت سنة إِحدى وثلاثين ومائتين، فيها مات مخارق المغني وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي الفقيه، صاحب الشافعي، وكان قد حبس في محنة الناس بالقرآن المجيد، فلم يجب إِلى القول بأنه مخلوق، وكان البويطي من الصالحين، وهو منسوب إِلى بويط، قرية من قرى مصر. وفيها توفي محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي الكوفي، صاحب اللغة، وكان أبوه زياد عبداً سندياً أخذ الأدب عن المفضل الضبي صاحب المفضليات، ولابن الأعرابي المذكور عدة مصنفات منها: كتاب النوادر وكتاب الأنواء وكتاب تاريخ القبائل وغير ذلك، وولد في الليلة التي توفي فيها أبو حنيفة، سنة خمسين ومائة، والأعرابي منسوب إِلى الأعراب، يقال رجل أعرابي إِذا كان بدوياً، وإن لم يكن من العرب، ورجل عربي منسوب إِلى العرب، وإن لم يكن بدوياً، ويقال رجل أعجم وأعجمي إِذا كان في لسانه عجمة، وإن كان من العرب، ورجل عجمي منسوب إِلى العجم، وإن كان فصيحاً، هكذا ذكر محمد بن عزيز السجستاني، في كتابه الذي فسر فيه غريب القرآن. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين موت الواثق بالله وتوفي الواثق بالله أبو جعفر هارون بن المعتصم بالله، في هذه السنة، لست بقين من ذي الحجة بالاستسقاء وعولج بالإِقعاد في تنور مسخن، ووجد عليه خفة، فعاوده وشدد سخونته، وقعد فيه أكثر من اليوم الأول، فحمي عليه، وأخرج منه في محفة، فمات فيها، ودفن بالهاروني، ولما اشتد مرض الواثق، أحضر المنجمين، فنظروا في مولده، فقدروا له أنه يعيش خمسين سنة مستأنفة، من ذلك اليوم، فلم يعش بعد قولهم إِلا عشرة أيام، وكان أبيض مشرّباً حمرة، في عينه اليسرى نكتة بياض، وكانت خلافته، خمس سنين وتسعة أشهر وكسراً، وعمره اثنتان وثلاثون سنة وكان الواثق يبالغ في إِكرام العلويين والإِحسان إِليهم، وفرق في الحرمين أموالا عظيمة، حتى أنه لم يبق بالحرمين في أيام الواثق سائل، ولما بلغ أهل المدينة موته، كانت تخرج نساؤهم إِلى البقيع كل ليلة، ويندبن الواثق، لفرط إِحسانه إِليهم، وسلك الواثق مذهب أبيه المعتصم، وعمه المأمون في امتحان الناس بالقرآن المجيد، وألزمهم القول بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة بالأبصار.

خلافة المتوكل جعفر بن المعتصم

خلافة المتوكل جعفر بن المعتصم هو عاشرهم، ولما مات الواثق، عزم كبراء الدولة على البيعة لمحمد بن الواثق، فألبسوه قلنسوة ودرّاعة سوداء وهو غلام أمرد قصير، فلم يروا ذلك مصلحة، فتناظروا فيمن يولونه، وذكروا عدة من بني العباس، ثم أحضروا المتوكل، فقام أحمد بن أبي داود وألبسه الطويلة، وعممه، وقبل بين عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فبويع بالخلافة في يوم مات الواثق فيه، لست بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكان عمر المتوكل لما بويع ستَاً وعشرين سنة. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. القبض على ابن الزيات في صفر من هذه السنة، قبض المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات، وحبسه وأخذ جميع أمواله، وعذبه بالسهر، ثم حطه في تنور خشب، فيه مسامير حديد، أطرافها إِلى داخل التنور، يمتنع من يكون فيه من الحركة، ولا يقدر على الجلوس، فبقي كذلك محمد بن الزيات أياماً، ومات لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول من هذه السنة، وكان ابن الزيات هو الذي عمل هذا التنور، وعذب به ابن أسباط المضري وأخذ أمواله، وكان ابن الزيات صديق إِبراهيم الصولي، فلما ولي ابن الزيات الوزارة صادره بألف ألف درهم، فقال الصولي: وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت منك أذم الزمانا وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا وفي هذه السنة ولى المتوكل ابنه المنتصر الحرمين واليمن والطائف، وفيها توفي أبو زكريا يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام المري البغدادي المشهور، وكان إماماً حافظاً، قيل إِنه من قرية نحو الأنبار تسمى نقيا، وهو صاحب الجرح والتعديل، وكان الإمام أحمد بن حنبل شديد الصحبة له، وكانا مشتركين في الاشتغال بعلوم الحديث، وذكر الدارقطني يحيى بن معين المذكور في جملة من روى عن الإمام الشافعي. وولد يحيى بن معين المذكور في سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي في هذه السنة أعني سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، في ذي القعدة، وقيل ذي الحجة رحمه الله تعالى. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين فيها توفي محمد بن مبشر، أحد المعتزلة البغداديين، وأبو جيثمة زهر المحدث، وعلي بن عبد الله بن جعفر المعروف بابن المديني الحافظ، وهو إِمام ثقة. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين في هذه السنة، ظهر بسامراء رجل يقال له: محمود بن فرج، وادعى النبوة، وزعم أنه ذو القرنين، وتبعه سبعة وعشرون رجلاً، فأُتي به وبأصحابه إِلى المتوكل، فأمر أصحابه فصفعه كل واحد عشر صفعات، وضرب حتى مات من الضرب، وحبس أصحابه.

وفي هذه السنة مات الحسن بن سهل وعمره تسعون سنة، وكان قد شرب دواء فأفرط عليه القيام حتى مات، وفيها مات إِسحاق بن إِبراهيم الموصلي، صاحب الألحان والغناء. وفيها مات سريح بن يونس بن سريح بالسين المهملة، وفيها وقيل في السنة التي تليها، توفي عبد السلام بن رغبان - بالغين المنقوطة - الشاعر المشهور المعروف بديك الجن، وكان يتشيع، وعاش بضعاً وسبعين سنة، ومن جيد شعره أبياته التي من جملتها: وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغر ... ولا تسق إِلا خمرها وعقارها مشعشة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده وأدارها ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهدم ما حوله من المنازل ومنع الناس من إِتيانه، وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب، ولأهل بيته، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة، ويكشفَ رأسه، وهو أصلع، ويرقص ويقول: قد أقبل الأصلع البطين، خليفة المسلمين، يعني علياً، والمتوكل يشرب ويضحك، وفعل كذلك يوماً بحضرة المنتصر، فقال: يا أمير المؤمنين، إِن علياً ابن عمك، فكل أنت لحمه إِذا شئت، ولا تخلي مثل هذا الكلب وأمثاله يطمع فيه، فقال المتوكل للمغنين غنوا: غارا الفتى لابن عمه ... رأس الفتى في حرامه وكان يجالس من اشتهر ببغض علي، مثل ابن الجهم الشاعر، وأبي السمط من ولد مروان بن أبي حفصة، من موالي بني أمية وغيرهما، فغطى ذمه لعلي على حسناته، وإلا فكان من أحسن الخلفاء سيرة، ومنع الناس عن القول بخلق القرآن. وفي هذه السنة توفي منصور بن المهدي. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين في هذه السنة مات محمد بن عبد الله أمير صقلية، وتولى موضعه على جزيرة صقلية العباس بن الفضل بن يعقوب بن فزارة، وفتح فيها الفتوحات الجليلة، وفتح قصر يانه، وهي المدينة التي بها دار الملك بصقلية، وكان الملك قبلها يسكن مرقوسه، فلما أخذ المسلمون بعض الجزيرة، انتقل الملك إِلى قصر يانه. لحصانتها، ففتحها العباس في هذه السنة، يوم الخميس منتصف شوال، وبنى فيها مسجداً في الحال، ونصب فيه منبراً وخطب وصلى فيه الجمعة. وفيها توفي حاتم الأصم الزاهد المشهور البلخي، ولم يكن أصم؛ وإنما سمي به لأن امرأة جاءت تسأله عن مسألة فخرج منها صوت فخجلت، فأوهمها أنّه أصم، وقال: ارفعي صوتك، فسرّت المرأة ظناً منها أنه لم يسمع حبقتها، فغلب عليه هذا الاسم. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين في هذه السنة توفي عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي، صاحب الأندلس، في ربيع الآخر، وكان مولده سنة ست وسبعين ومائة، وولايته إِحدى وثلاثين

سنة وثلاثة أشهر، وكان أسمر طويلاً عظيم اللحية، يخضب بالحناء، وخلف خمسة وأربعين ابناً، ولما مات ملك بعده ابنه محمد بن عبد الرحمن. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين فيها توفي محمود بن غيلان المروزي، وهو من مشايخ البخاري ومسلم. ثم دخلت سنة أربعين ومائتين في هذه السنة مات ابن الإمام الشافعي، واسمه محمد، وكنيته أبو عثمان، وكان قاضي الجزيرة، وروى عن أبيه وعن ابن عينية، وكان للشافعي ولد آخر اسمه محمد أيضاً، مات بمصر سنة إِحدى وثلاثين ومائتين. وفيها توفي أبو ثور إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي، الفقيه البغدادي، صاحب الإمام الشافعي، وناقل أقواله القديمة عنه، وكان على مذهب أهل الرأي، حتى قدم الشافعي إِلى العراق، فاختلف إِليه واتبعه، ورفض مذهبه الأول. ثم دخلت سنة إِحدى وأربعين ومائتين في هذه السنة توفي الإِمام أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إِدريس، ينسب إِلى معد بن عدنان، وكان وفاته في ربيع الأول وروى عنه مسلم، والبخاري، وأبو داود، وإبراهيم الحرثي، وكان مجتهداً ورعاً زاهداً صدوقاً، قال الشافعي: خرجت من بغداد، وما خلفت بها أحداً أتقى ولا أورع ولا أفقه من أحمد بن حنبل. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين فيها مات أبو العباس محمد بن إِبراهيم بن الأغلب أمير إِفريقية، وولي بعده ابنه أبو إِبراهيم أحمد بن محمد المذكور. وفيها توفي القاضي يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن من ولد أكثم بن صيفي التميمي، حكم العرب، وكان يحيى المذكور عالماً بالفقه بصيراً بالأحكام، وهو من أصحاب الشافعي، وكان إِماماً في عدة فنون، وكان ذميم الخلق، وابن أكثم المذكور، هو الذي رد المأمون عن القول بتحليل المتعة. فقال ابن أكثم لبعض الفضلاء الذي كانوا يعاشرون المأمون، ومنهم أبو العيناء: بكروا غداً إِليه، فإِن وجدتم للقول وجهاً فقولوا، وإلا فاسكتوا، حتى أدخل. قال أبو العيناء: فدخلنا على المأمون وهو يسأل ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر رضي الله عنه، وأنا أنهي عنهما، ومن أنت يا جعل حتى تنهي عما فعله رسول الله، فأوجم أولئك، حتى دخل يحيى بن أكثم فقال له المأمون: أراك متغيراً، فقال يحيى: هو غم لما حدث من النداء بتحليل الزنا يا أمير المؤمنين. فقال المأمون: الزنا. فقال: نعم. المتعة زنا. قال: ومن أين قلت هذا. قال: من كتاب الله وحديث رسوله. قال الله تعالى: " قد أفلح المؤمنون إِلى قوله والذين هم لفروجهم حافظون إِلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " " المؤمنون: 5 " يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة ترث وتورث؟ قال: لا. قال: وهذا الزهري روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن علي بن أبي طالب قال " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة

وتحريمها، بعد أن كان أمر بها " فقال المأمون: أمحفوظ هذا عن الزهري؟ قال: نعم. رواه عنه جماعة، منهم مالك رضي الله عنه، فقال: المأمون: أستغفر الله، فبادروا بتحريم المتعة، والنهي عنها، ولم يكن في يحيى بن أكثم ما يعاب به سوى ما يتهم به من محبة الصبيان، وقد قيل فيه بسبب ذلك عدة أشعار منها: وكنا نرجى أن نرى العدل ظاهراً ... فاعقبنا بعد الرجاء قنوط متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط ولأحمد بن نعيم في ذلك: أنطقني الدهر بعد إِخراس ... لنائبات أطلن وسواسي لا أفلحت أمة وحق لها ... بطول نكس وطول إِتعاسِ ترضى بيحيى يكون سايسها ... وليس يحيى لها بسواسِ قاضٍ يرى الحد في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باسِ يحكم للأمرد العذير على ... مثل جرير ومثل عباسِ فالحمد لله كيف قد ذهب ال ... عدل وقل الوفاء في الناسِ أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرأس شر ما راسِ لا أحسب الجور ينقضي ... وعلى الأمة وال من آل عباس وأكثم بالثاء المثناة من فوقها والثاء المثلثة كلاهما لغتان، وهو الرجل العظيم البطن، والشبعان أيضاً. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين في هذه السنة سار المتوكل إِلى دمشق في ذي القعدة. وفيها مات إِبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الصولي وفيها توفي الحارث بن أسد المحاسبي الزاهد، وكان قد هجره أحمد بن حنبل لأجل علم الكلام، فاختفى لتعصب العامة لأحمد، فلم يصل عليه غير أربعة أنفس. ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين في هذه السنة وصل المتوكل إِلى دمشق ودخلها في صفر، وعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إِليها، فقال يزيد ابن محمد المهلبي. أظن الشام يشمت بالعراق ... إِذا عزم الإمام على انطلاق فإِن تدع العراقَ وساكنيهِ ... فقد تبكي المليحةُ بالطلاقِ ثم استوبأ المتوكل دمشق، واستثقل ماءها، فرجع إِلى سامراء وكان مقامه بدمشق شهرين وأياماً، وفيها غضب المتوكل على بختيشوع الطبيب، وقبض ماله ونفاه إِلى البحرين. وفيها قتل المتوكل أبا يوسف يعقوب بن إِسحاق المعروف بابن السكيت، صاحب كتاب إصلاح المنطق في اللغة وغيره وكان إِماماً اللغة والأدب، قتله المتوكل لأنه قال له أيمّا أحب إليك: ابناي المعتز والمؤيد، أم الحسن والحسين، فغض ابن السكّيت عن ابنيه، وذكر عن الحسن

والحسين ما هما أهله، فأمر مماليكه فداسوا بطَنه، فحمل إِلى داره فمات بعد غد ذلك اليوم. وقيل إن المتوكل لما سأل ابن السكيت عن ولديه، وعن الحسن والحسين، قال له ابن السكيت: والله إِن قنبراً خادم علي خير منك ومن ولديك. فقال المتوكل سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا به ذلك، فمات لساعته، في رجب في هذه السنة المذكورة، وكان عمره ثمانياً وخمسين سنة والسكيت بكسر السين المهملة وتشديد الكاف فعيل، اسم لكثير السكوت والصمت. ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين في هذه السنة توفي ذو النون المصري، في ذي القعدة، وأبو علي الحسين بن علي، المعروف بالكرابيسي، صاحب الشافعي. ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين فيها تحول المتوكل إلى الجعفري، وكان قد ابتدئ في عمارته سنة خمس وأربعين ومائتين، وأنفق عليه أموالاً تجل عن الحصر، وكان يقال لموضعه الماحورة وفيها توفي دعبل بن علي الخزاعي الشاعر، وكان مولده سنة ثمان وأربعين ومائة، وكان يتشيع. ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين. مقتل المتوكل في هذه السنة قتل المتوكل جماعة بالليل بالسيوف، وقت خلوته، باتفاق من ابنه المنتصر، وبغا الصغير الشرابي، وقتل في مجلس شرابه، وقتل معه وزيره الفتح ابن خاقان، وكان قتله ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال، وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، وعمره نحو أربعين سنة، وكان أسمر خفيف العارضين. بيعة المنتصر وهو حادي عشرهم، لما أصبح نهار الأربعاء صبيحة الليلة التي قتل فيها المتوكل حضر الناس والقواد والعساكر إلى الجعفري، فخرج أحمد بن الخصيب إِلى الناس، وقر عليهم كتاباً من المنتصر، أن الفتح بن خاقان قتل المتوكل فقتلته به، فبايع الناس المنتصر، صبيحة الليلة، التي قتل فيها المتوكل. وفي هذه السنة توفي العباس أمير صقلية، فولى الناس عليهم ابنه عبد الله ابن عباس، ثم ورد من إِفريقية خفاجة بن سفيان أميراً على صقلية، فغزا وفتح في جزيرة صقلية، ثم اغتاله رجل من عسكره، فقتله وهرب القاتل إِلى المشركين، ولما قتل خفاجة استعمل الناس ابنه محمد بن خفاجة، ثم أقره على ولايته محمد بن أحمد بن الأغلب صاحب القيروان، وبقي محمد بن خفاجة أميراً على صقلية إِلى سنة سبع وخمسين ومائتين، فقتله خدمه الخصيان وهربوا، فأدركهم الناس وقتلوهم، على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. وفي هذه السنة توفي أبو عثمان بكر بن محمد المازني النحوي الإمام في العربية. ثم دخلت

خلافة المستعين أحمد بن محمد المعتصم

سنة ثمان وأربعين ومائتين. موت المنتصر في هذه السنة توفي المنتصر بالله، محمد بن جعفر المتوكل، يوم الأحد بسامراء لخمس خلون من ربيع الأول، بالذبحة، وكانت مدة علته ثلاثة أيام وعمره خمس وعشرون سنة وستة أشهر، وكانت خلافته ستة أشهر ويومين، وكان أعين، أقنى، قصيراً، سهيباً، عظيم اللحية، راجح العقل، كثير الإنصاف، وأمر الناس بزيارة قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأمن العلويين، وكانوا خائفين أيام أبيه. خلافة المستعين أحمد بن محمد المعتصم وهو ثاني عشرهم، ولما توفي المنتصر، اتفق كبراء الدولة مثل بغا الكبير، وبغا الصغير، وأتامش الأتراك، ومحمد بن الخصيب، على تولية المستعين وكرهوا أن يقيموا بعض ولد المتوكل، لكونهم قتلوا المتوكل، فبايعوا المستعين ليلة الاثنين، لست خلون من ربيع الآخر، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس. وفيها ورد على المستعين الخبر بوفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عبد الله أمير خراسان، في رجب، فعقد المستعين لولده محمد بن طاهر على خراسان. وفيها مات بغا الكبير. فجعل المستعين ابنه موسى بن بغا مكانه. وفي هذه السنة شغب أهل حمص على كيدر عاملهم، فأخرجوه عنهم. وفي هذه السنة تحرك يعقوب ابن الليث الصفار من سجستان، نحو هراة. وفيها توفي محمد ابن العلا الهمداني، وكان من مشايخ البخاري ومسلم. ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين في هذه السنة كان بين المسلمين والروم وقعة بمرج الأسقف. قتل فيها مقدم العسكر، وهو عمر بن عبد الله الأقطع، وكان من شجعان المسلمين وانهزمت المسلمون وقتل منهم جماعة، وخرجت الروم، فأغاروا إِلى الثغور الجزرية. وفي هذه السنة شغبت الجند، الشاكرية والعامة، ببغداد، على الأتراك، بسبب استيلائهم على أمور المسلمين، يقتلون من شاءوا من الخلفاء ويستخلفون من أحبوا من غير ديانة، ولا نظر للمسلمين، ثم وقعت في سامراء فتنة من العام وفتحوا السجون وأطلقوا ما فيها، ثم ركبت الأتراك وقتلوا من العامة جماعة وسكنت الفتنة. وفي هذه السنة ثارت الموالي بأتامش، فقتلته، ونهبوا من داره أموالاً جمة، لأن المستعين كان قد أطلق يد أتامش، ويد والدته، أعني والدة المستعين، ويد شاهك الخادم، في بيوت الأموال، فكانوا يأخذون الأموال من دون غيرهم، فقتل أتامش بسبب استيلائه على الأموال. وفي هذه السنة توفي علي بن الجهم الشاعر. وفي هذه السنة توفي أبو إِبراهيم أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الأغلب صاحب إفريقية، ولما مات ولي موضعه أخوه زيادة الله بن محمد، وكنية زيادة الله المذكور أبو محمد. ثم دخلت سنة خمسين ومائتين في هذه السنة ظهر يحيى عمر بن يحيى

بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويكنى أبا الحسين، بالكوفة، وكثر جمعه، واستولى على الكوفة، ثم جهز إِليه محمد بن عبد الله بن طاهر جيشاً، فخرج إِليهم يحيى بجمعة، فقتل يحيى وانهزم أصحابه، وقتل منهم جماعة وحمل رأسه إِلى المستعين، ثم في هذه السنة ظهر الحسن بن زيد بن محمد بن إِسماعيل بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بطبرستان، وكثر جمعه واستقل بملك طبرستان، ويسمى بالداعي إِلى الحق، وبقي مستولياً حتى قتل في سنة سبع وثمانين ومائتين، وقام بعده الناصر الحسن بن علي. وفي هذه السنة وثب أهل حمص على عاملهم، وهو الفضل بن قارن أخو مازيار فقتلوه، فأرسل المستعين إِليهم موسى بن بغا الكبير، فحاربوه بين حمص والرستن، فهزمهم وافتتح حمص، فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقها. وفي هذه السنة توفي زيادة الله بن محمد بن إِبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية، وكانت ولايته سنة وستة أشهر، وملك بعده ابن أخيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد المذكور وفيها مات الخليع الشاعر، واسمه الحسين بن الضحاك، وأشعاره وأخباره مشهورة، وكان مولده سنة اثنتين وستين ومائة. ثم دخلت سنة إِحدى وخمسين ومائتين في هذه السنة اتفق بغا الصغير ووصيف، وقتلا باغر التركي، فشغبت الترك، وحصروا المستعين وبغا الصغير ووصيفاً في القصر، بسامراء فهرب المستعين وبغا ووصيف في حرّاقه، وانحدروا إلى بغداد، واستقر بها المستعين. البيعة للمعتز بالله في هذه السنة بعد مسير المستعين إِلى بغداد من سامراء، كما ذكرنا، خافه الأتراك فأخرجوا المعتز بالله بن المتوكل، وكان في الحبس، وبايعوه، واستولى على الأموال التي كانت في سامراء للمستعين، ولأمه، وأنفق في الجند، ثم عقد المعتز لأخيه أبي أحمد طلحة بن المتوكل، وهو الموافق لسبع بقين من المحرم، وجهزه مع خمسين ألفاً من الترك، إِلى حرب المستعين، وتحصن المستعين ببغداد، وبقي المعتز بسامراء والمستعين ببغداد، وجرى بين الفريقين قتال كثير، ثم اتفق كبراء الدولة ببغداد، على خلع المستعين، وألزموه بذلك، وفي هذه السنة مات السري السقطي الزاهد. ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين. خلع المستعين وولاية المعتز وهو ثالث عشرهم، ولما جرى من أمر المعتز والمستعين ما ذكرناه، خلع المستعين أحمد بن محمد المعتصم نفسه من الخلافة، وبايع المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم، وخطب للمعتز ببغداد يوم الجمعة، رابع المحرم من هذه السنة، وأخذت له البيعة على جميع من ببغداد، ثم نقل المستعين من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بعياله وأهله، وأخذ منه البردة والقضيب والخاتم، فطلب المستعين أن يكون مقامه بمكة، فمنع من التوجه إِلى مكة، فاختار

المقام بالبصرة، فوكل به جماعة، وانحدر إِلى واسط، ثم أمر المعتز بقتل المستعين، وكتب إلى أحمد بن طولون بقتل المستعين، فامتنع أحمد بن طولون عن قتله، وسار أحمد بن طولون بالمستعين إِلى القاطول وسلمه إِلى الحاجب سعيد بن صالح، فضربه سعيد حتى مات، وحمل رأسه إِلى المعتز. فأمر بدفنه، وكانت مدة خلافة المستعين إِلى أن خلع ثلاث سنين وتسعة أشهر وكسراً، وكان عمره أربعاً وثلاثين سنة. وفي هذه السنة عقد لعيسى بن الشيخ علي الرملة، فأنفذ له نائبا عليها يسمى أبا المعتز، وهذا عيسى شيباني وهو عيسى بن الشيخ بن السليك من ولد جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان، فلما كان من فتنة الأتراك ما كان بالعراق، تغلب ابن الشيخ المذكور على دمشق وأعمالها، وقطع ما كان يحمل من الشام إلى الخليفة، واستبد بالأموال. وفيها توفي محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى الزمن البصريان وهما من مشايخ البخاري ومسلم في الصحيح. ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين في هذه السنة شغبت الجند بسبب طلب رزق أربعة أشهر، فلم يجبهم وصيف إِلى ذلك، فوثبوا على وصيف وقتلوه، فجعل المعتز كل ما كان إِلى وصيف إِلى بغا الشرابي. وفي هذه السنة مات محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين. وفي هذه السنة ملك يعقوب الصفّار هراة وبوشنج، وعظم أمره، وهابه أمير خراسان وغيره. ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين. في هذه السنة قتل بغا الشرابي الصغير، تحت الليل، وكان بغا قد خرج من بين أصحابه وجنده، ومعه خادمان له، وقصد الركوب في زورق، فأعلم المتوكلون بالجسر المعتز بخبره، فأمرهم بقتله، فقتلوه وحملوا رأسه إِلى المعتز. وفي هذه السنة في جمادى الآخرة، توفي علي الهادي؛ وعلي التقي وهو أحد الأئمة الإثني عشر عند الإِمامية، وهو علي الزكي بن محمد الجواد المقدم ذكره في سنة عشرين ومائتين، وكان علي المذكور قد سعى به إِلى المتوكل، أن عنده كتباً وسلاحاً، فأرسل المتوكل جماعة من الأتراك، وهجموا عليه ليلاً على غفلة، فوجدوه في بيت مغلق، وعليه مدرعة من شعر، وهو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن، في الوعد والوعيد، ليس بينه وبين الأرض بساط إِلا الرمل، والحصا، فحمل على هيئته إِلى المتوكل، والمتوكل يستعمل الشراب، وفي يده الكأس، فلما رآه المتوكل أعظمه، وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس، فقال: يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط، فاعفني منه، فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً. فقال: إِني لقليل الرواية للشعر. فقال المتوكل: لا بد من ذلك. فأنشده: باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلبَ الرّجالُ فما أغنتهُمُ القلَلُ واستُزلوا بعد عزٍ عَنْ معاقلِهِم ... فأَودَعوا حُفراً يا بئس ما نزلوا ناداهُمُ صارخٌ من بعدما قَبروا ... أين الأسرة والتيجانُ والحلل أين الوجوهُ التي كانت مُنعَّمة ... منْ دونها تُضرب الأستار والكللُ

فأفصحَ القبرُ عنهمْ حين ساءلهم ... تلكَ الوجوهُ عليها الدود يقتتَلُ قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا ... فأصبحوا بعد طولِ الأكل قد أكلوا فبكى المتوكل، ثم أمر برفع الشراب وقال: يا أبا الحسن، أعليك دين؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فدفعها إِليه ورده إِلى منزله مكرماً، وكانت ولادة علي المذكور، في رجب سنة أربع عشرة ومائتين، وقيل ثلاث عشرة، وتوفي لخمس بقين من جمادى الآخرة، من هذه السنة، أعني سنة أربع وخمسين ومائتين، بسرمن رأى، ويقال لعلي المذكور، العسكري لسكناه بسرمن رأى يقال لها العسكري، لسكنى العسكر بها، وعلي المذكور عاشر الأئمة الاثني عشر، وهو والد الحسن العسكري، والحسن العسكري هو حادي عشر الأئمة الاثني عشر، وهو الحسن بن علي الزكي المذكور بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، المقدم ذكرهم، رضي الله عنهم أجمعين. وكانت ولادة الحسن العسكري المذكور، في سنة ثلاثين ومائتين، وتوفي في سنة ستين ومائتين في ربيع الأول، وقيل في جمادى الأولى، بسرمن رأى، ودفن إِلى جانب أبيه علي الزكي المذكور، والحسن العسكري المذكور، هو والد محمد المنتظر، صاحب السرداب، ومحمد المنتظر المذكور هو ثاني عشر الأئمة الاثني عشر، على رأى الإِمامية، ويقال له القائم، والمهدي، والحجة. وولد المنتظر المذكور، في سنة خمس وخمسين ومائتين، والشيعة يقولون: دخل السرداب في دار أبيه، بسرمن رأى، وأمه تنظر إِليه، فلم يعد يخرج إِليها، وكان عمره حينئذ تسع سنين، وذلك في سنة خمس وستين ومائتين، وفيه خلاف. وفيها توفي أحمد بن الرشيد، وهو عم الواثق. وفي هذه السنة ولي أحمد بن طولون على مصر. ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين في هذه السنة استولى يعقوب بن الليث الصفّار على كرمان، ثم استولى بالسيف على فارس، ودخل يعقوب الصفار إِلى شيراز، ونادى بالأمان وكتب إِلى الخليفة بطاعته، وأهدى له هدية جليلة، منها عشرة بازات بيض، ومائة مَن من المسك. خلع المعتز وموته وفي هذه السنة، في يوم الأربعاء لثلاث بقين من رجب، خلع المعتز بن جعفر، المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، واختلف في اسم المعتز، فقيل محمد، وقيل الزبير، ويكنى أبا عبد الله، وقيل كنيته غير ذلك، ومولده، بسرمن رأى، في ربيع الآخر، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وأمه أم ولد، تدعى قبيحة، ولليلتين خلتا من شعبان ظهر موته، وكان سبب ذلك: أن الأتراك طلبوا أرزاقهم، فلم يكن عند المعتز مال يعطيهم، فنزلوا معه إِلى خمسين ألف دينار فأرسل المعتز وسأل أمه قبيحة في ذلك، فقالت: ما عندي شيء. فاتفق الأتراك والمغاربة والفراعنة،

خلافة المهتدي

على خلع المعتز، فصاروا إلى بابه، فقالوا: اخرج إلينا، فقال: قد شربت أمس دواء، وقد أفرط في العمل، فإِن كان لا بد من الاجتماع، فليدخل بعضكم إِليّ، فدخل إِليه جماعة منهم، فجروا المعتز برجله إِلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس، فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدة الحر، وبقي بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وأدخلوه حجرة، وأحضروا ابن أبي الشوارب القاضي وجماعة، فأشهدوهم على خلعه، ثم سلموا المعتز إِلى من يعذبه، ومنعوه الطعام والشراب ثلاثة أيام، ثم أدخلوه سرداباً، وجصصوه عليه، فمات ودفنوه بسامراء مع المنتصر. وكانت خلافته من لدن بويع بسامراء، إِلى أن خلع، أربع سنين وسبعة أشهر إلا سبعة أيام، وكان عمره أربعاً وعشرين سنة، وثلاثة وعشرين يوماً، وكان أبيض، أسود الشعر. خلافة المهتدي وهو رابع عشرهم، وفي يوم الأربعاء لثلاث بقين من رجب، من هذه السنة، بويع لمحمد بن الواثق بالخلافة، ولقب المهتدي بالله، وكنيته أبو عبد الله، وأمه رومّية اسمها قرب. وفي هذه السنة في رمضان، ظهرت قبيحة أم المعتز، وكانت قد اختفت لما قتل ابنها، وكان لقبيحة أموال عظيمة ببغداد، وكان لها مطمور تحت الأرض ألف ألف دينار، ووجد لها في سفط قدر مكوك زمرد، وفي سفط آخر مقدار مكوك لؤلؤ، وفي سفط مقدار كيلجة ياقوت أحمر، لا يوجد مثله. ونبش ذلك كله، وحمل جميعه إلى صالح بن وصيف، فقال صالح: قبح الله قبيحة، عرضت ابنها للقتل، لأجل خمسين ألف دينار، وعندها هذه الأموال كلها، وكان المتوكل قد سماها قبيحة، لحسنها وجمالها كما يسمى الأسود كافور. ثم سارت قبيحة إِلى مكة، فكانت تدعو بصوت عال على صالح بن وصيف وتقول: هتك ستري، وقتل ولدي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني. ظهور صاحب الزنج في هذه السنة كان أول خروج صاحب الزنج، وهو علي بن محمد بن عبد الرحيم، ونسبه في عبد القيس، فجمع إِليه الزنج الذين كانوا يسكنون السباخ، في جهة البصرة، وادعى أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ولما صار له جَمْع عبر دجلة ونزل الديناري، وكان صاحب الزنج المذكور قبل ذلك، متصلاً لحاشية المنتصر في سامراء، يمدحهم ويستمنحهم بشعره، ثم إِنه شخص من سامراء سنة تسع وأربعين ومائتين إِلى البحرين، فادعى نسبته في العلويين، كما ذكر وأقام في الإحساء، ثم صار إِلى البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين. وخرج في هذه السنة أعني سنة خمس وخمسين ومائتين، واستفحل أمره، وبث أصحابه يميناً وشمالاً للإِغارة والنهب. وفي هذه السنة توفي خفاجة

بن سفيان أمير صقلية، وولى بعده ابنه محمد، وفيها توفي محمد بن كرام صاحب المقالة في التشبيه، وكان موته بالشام، وهو من سجستان، وفيها توفي عبد الله بن عبد الرحمن الداراني صاحب المسند، توفي في ذي الحجة، وعمره خمس وسبعون سنة. وفيها توفي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، صاحب التصانيف المشهورة، وكان كثير الهزل، نادر النادرة، خالط الخلفاء ونادمهم، أخذ العلم عن النظام المتكلم، وكان الجاحظ قد تعلق بأسباب ابن الزيات، فلما قتل ابن الزيات، قيد الجاحظ وسجن، ثم أُطلق. قال الجاحظ: ذُكرت للمتوكل لتعليم ولده، فلما مثلت بين يديه بسامراء، استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني. وصنف الجاحظ كتباً كثيرة منها: كتاب البيان والتبيين، جمع فيه بين المنثور والمنظوم، وكتاب الحيوان، وكتاب الغلمان، وكتاب في الفرق الإسلامية، وكان جاحظ العينين كاسمه، قال المبرد: دخلت على الجاحظ في مرضه فقلت: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج؟ لو نشر ما أحس به ونصفه الآخر منقرسٌ، لو طار الذباب به آلمه، وقد جاوز التسعين، ثم أنشد: أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشبابِ لقد كذبتكَ نفسكَ ليسَ ثوبٌ ... دريسٌ كالجديد من الثيابِ وقد روي أن موته كان بوقوع مجلدات عليه، وكان من عادته أن يصفها قائمة كالحائط، محيطة به، وهو جالس إِليها، وكان عليلاً فسقطت عليه فقتلته، في محرم هذه السنة. ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين في هذه السنة، جمع موسى بن بغا أصحابه لقتل صالح بن وصيف، فهرب صالح واختفى، ثم ظفر به موسى فقتله. خلع المهتدي وموته في هذه السنة، في منتصف رجب، خُلع محمد المهتدي بن هارون الواثق بن المعتصم، وتوفي لاثنتي عشرة ليلة بقيت منه، وكان سببه أنه قصد قتل موسى بن بغا، وكان موسى المذكور معسكراً قبالة بعض الخوارج، وكتب بذلك إِلى بابكيال، - كان من مقدمي الترك - أن يقتل موسى بن بغا، ويصير موضعه، فأطلعَ بابكيال موسى على ذلك، فاتفقا على قتل المهتدي، وسارا إِلى سامراء، ودخل بابكيال إلى المهتدي، فحبسه المهتدي وقتله، وركب لقتال موسى، ففارقت الأتراك الذي كانوا مع المهتدي عسكر المهتدي، وصاروا مع أصحابهم الأتراك مع موسى، فضعف المهتدي وهرب، ودخل بعض الدور، فأُمسك وداسوا خصيتيه، ليصفعوه، فمات، ودفن بمقبرة المنتصر. وكانت خلافة المهتدي أحد عشر شهراً ونصفاً، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة، وكان المهتدي أسمر عظيم البطن، قصيراٌ طويل اللحية، ومولده بالقاطول وكان ورعاً كثير العبادة، قصد أن يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية.

خلافة المعتمد على الله

خلافة المعتمد على الله وهو خامس عشرهم، لما خلع المهتدي وقُتل، أخرج كبراء الدولة، أبا العباس أحمد بن المتوكل من الحبس، وبايعه الناس بالخلافة، ولقب المعتمد على الله، واستوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وفي هذه السنة ملك صاحب الزنج الأبله عنوة. وقتل من أهلها خلقاً كثيراً وأحرقها، وكانت مبنية بالساج، فأسرعت النار فيها، ثم استولى على عبادان بالأمان ثم استولى على الأهواز بالسيف، وفيها عزل عيسى بن الشيخ عن الشام، وكان قد استولى عليه، وقطع الحمل عن بغداد، كما ذكرنا، فعقد لعيسى على أرمينية، وولى أماجور الشام، فسار واستولى عليه، بعد أن جرى بينه وبين أصحاب عيسى قتال شديد، انتصر فيه أماجور واستقر أميراً بالشام. وفي هذه السنة توفي الإمام محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي صاحب المسند الصحيح، الذي هو الدرجة العالية في الصحة، المتفق على تفضيله والأخذ منه، والعمل به، ورحل في طلب الحديث إِلى الأمصار، وكان مولده سنة أربع وتسعين ومائة لثلاث عشرة خلت من شوال. قال البخاري: ألهِمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب، ابن عشر سنين، فلما بلغت ثماني عشرة سنة صنفت قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وصنفت كتاب التاريخ، إِذ ذاك، عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخرجت الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث، وما أدخلت فيه إِلا ما صح. وورد مرة إِلى بغداد، فعمد أهل الحديث إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، ووضعوا عشرة أنفس، فأورد واحد بعد آخر الأحاديث المذكورة، والبخاري يقول في كل حديث منها: لا أعرفه. فلما فرغوا قال: أما الحديث الأول فهو كذا، ورده إِلى حقيقته، وأما الثاني فهو كذا، حتى ذكرها عن آخرها على حقيقتها. ووقع بين البخاري وأمير بخارى واسمه خالد وحشة، فدسّ خالد من قال إن البخاري يقول بخلق الأفعال للعباد، وبخلق القرآن فتبرأ البخاري من ذلك وأنكره، وعظم عليه فارتحل، ونزل عند بعض أقاربه، بقرية من قرى سمرقند على فرسخين منها، اسمها خرشك فمات بها ليلة عيد الفطر من هذه السنة. ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين، فيها أخذ الزنج البصرة، وقتلوا بها كل من وجدوه، وخربوها. وفي هذه السنة ملك يعقوب الصفار بلخ، ثم سار إلى كابل، فاستولى عليها، وأرسل هدية إِلى الخليفة، وفيها أصنام من تلك البلاد. وفي هذه السنة قصد الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان جرجان وملكها وفيها قُتل محمد بن خفاجة أمير صقلية، قتله خدَمه كما تقدم ذكره سنة سبع وأربعين ومائتين، واستعمل محمد بن أحمد الأغلبي صاحب إِفريقية على صقلية أحمد بن يعقوب. وفيها توفي العباس بن الفرج الرياشي اللغوي. ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين في هذه السنة أرسل المعتمد أخاه الموفق، أبا أحمد إِلى قتال الزنج.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين في هذه السنة استولى يعقوب الصفار على نيسابور وملكها. وفيها توفي محمد بن موسى بن شاكر، أحد الأخوة الثلاثة الذين ينسب إِليهم جيل بني موسى المشهورين، واسم أخويه أحمد والحسين، وكان لهم همم عالية في تحصيل العلوم القديمة، وكان الغالب عليهم الهندسة والحيل والموسيقى، ولما بلغ المأمون من كتب الأوائل أن ثور الأرض أربعة وعشرون ألف ميل، أراد تحقيق ذلك، فأمر بني موسى المذكورين بتحرير ذلك، فسألوا عن الأراضي المتساوية، فأخبروا بصحراء سنجار ووطاة الكوفة، فأرسل معهم المأمون جماعة يثق إِلى أقوالهم، فساروا إِلى صحراء سنجار؛ وحققوا ارتفاع القطب الشمالي، وضربوا هناك وتداً، وربطوا فيه حبلاً طويلاً ومشوا إِلى الجهة الشمالية على الاستواء، من غير انحراف حسب الإمكان، وبقي كلما فرغ حبل نصبوا في الأرض وتداً آخر؛ وربطوا فيه حبلاً آخر كفعلهم الأول، حتى انتهوا كذلك إِلى موضع قد زاد فيه ارتفاع القطب الشمالي المذكور درجة محققة، ومسحوا ذلك القدر، فكان ستة وستين ميلاً، وثلثي ميل، ثم وقفوا عند موقفهم الأول، وربطوا في الوتد حبلا، ومشوا إِلى جهة الجنوب من غير انحراف، وفعلوا ما شرحناه، حتى انتهوا إِلى موضع قد انحط فيه ارتفاع القطب الشمالي درجة، ومسحوا ذلك القدر، فكان ستة وستين ميلا وثلثي ميل، ثم عادوا إِلى المأمون وأخبروه بذلك، فأراد المأمون تحقيق ذلك في موضع آخر، فصيرهم إِلى أرض الكوفة، فساروا إِليها وفعلوا كما فعلوا في أرض سنجار، فوافق الحسابان، وعادوا إِلى المأمون، فتحقق صحة ذلك، وصحة ما نقل من كتب الأوائل، لمطابقة ما اعتبره، ثم ضربوا الأميال المذكورة في ثلاثمائة وستين، وهي درج الفلك، فكان الحاصل أربعة وعشرين ألف ميل، وهو دور الأرض. أقول: كذا نقله ابن خلكان. ونقل غيره من المؤرخين أن الذي وجد في أيام المأمون لحصّة الدرجة ستة وستون ميلاً وثلثا ميل، وهو غير صحيح، فإِن ذلك هو لحصة الدرجة على رأي القدماء وأما في أيام المأمون فإنه وجد حصة الدرجة ستة وخمسين ميلاً، وقد تحقق ذلك في علم الهيئة. ثم دخلت سنة ستين ومائتين فيها قتلت العرب منجور والي حمص، واستعمل عليها بكتمر. وفيها توفي مالك بن طوق الثعلبي بالرحبة، وهو الذي بناها والذي تنسب إِليه فيقال رحبة مالك. وفيها توفي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو المعروف بالعسكري، وهو أحد الأئمة الاثني عشر، على مذهب الإِمامية. وهو والد محمد المنتظر من سرداب سرمن رأى على زعمهم، وكان مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائتين حسبما تقدم ذكره، في سنة أربع وخمسين ومائتين. وفيها توفي الحسن بن الصباح الزعفراني الفقيه، وهو من أصحاب الشافعي البغداديين. وفيها توفي حنين بن

ما وراء النهر، وابتداء أمر الساماني

إسحاق، الطبيب العبادي، وهو الذي نقل كتب الحكماء اليونانيين إِلى العربية، وكان عالماً بها، وهو الذي عرّب كتاب إِقليدس، وكتاب بطليموس المجسطي وأصلحهما، ونقحهما، والعبَادي بكسر العين المهملة وفتح الباء الموحدة من تحتها هذه النسبة إِلى عباد الحيرة، وهم عدة بطون من قبائل شتى، نزلوا الحيرة، وكانوا نصارى، ينسب إِليهم خلق كثير، منهم عدي بن زيد العبادي. ثم دخلت سنة إِحدى وستين ومائتين ولاية نصر بن أحمد الساماني ما وراء النهر، وابتداء أمر الساماني في هذه السنة استُعملَ نصر بن أحمد بن أسد بن سامان أخذه بن جثمان بن طغاث بن نوشرد بن بهرام جوبين، وهو بهرام جوبين الذي ذكر في أخبار كسرى برويز، وكان لأسد بن سامان أربعة أولاد هم نوح، وأحمد، ويحيى، وإلياس، وكانوا في خراسان حين تولى عليها المأمون بن الرشيد، فأكرم المأمون أولاد أسد بن سامان، الأربعة المذكورين، وقدّمهم واستعملهم. ولما رجع المأمون من خراسان إلى العراق، استخلف على خراسان غسان بن عباد، فولى غسان المذكور؛ أحمد بن أسد فرغانة، في سنة أربع ومائتين، ويحيى بن أسد الشاش مع أسرشة وولى إِلياس بن أسد هراة، وولى نوح بن أسد سمرقند، ولما تولى طاهر بن الحسين على خراسان، أقرهم على هذه الأعمال، حسبما كان قد ولاهم غسان بن عباد عليه، ثم مات نوح ابن أسد ثم مات بعده إلياس بهراة، فاستقر على عمله ابنه محمد بن إِلياس. وكان لأحمد بن أسد سبعة بنين، وهم نصر ويعقوب ويحيى وأسد وإسماعيل وإسحاق وحميد، ثم مات أحمد بن أسد، فاستخلف ابنه نصراً على أعماله، وكان إِسماعيل ابن أحمد يخدم أخاه نصراً، فولاه نصر بخارى. في هذه السنة، أعني سنة إحدى وستين ومائتين. ثم بعد ذلك، سعت السعاة بين نصر وأخيه إسماعيل، فأفسدوا ما بينهما، حتى اقتتلا سنة خمس وسبعين ومائتين، فظفر إِسماعيل بأخيه نصر، فلما حمل إِليه، ترجل له إسماعيل وقبل يده، ورده إِلى موضعه، واستمر إِسماعيل ببخارى، وكان إِسماعيل رجلا خيراً يحب أهل العلم ويُكرمُهم، فلذلك دام ملكه وملك أولاده، وطالت أيامهم على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. وفي هذه السنة عصى أهل برقة على أحمد بن طولون، فجهز إليهم جيشاً، فحاصروا برقة، وفتحوها، وقبضوا على جماعة من رؤسائهم. وفي هذه السنة توفي محمد بن أحمد بن محمد بن إِبراهيم بن الأغلب صاحب إِفريقية، في جمادى الأولى. وكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر ونصفاً. وتولى بعده أخوه إبراهيم بن أحمد بن محمد، ثم سار إِبراهيم بن أحمد بن محمد إِلى صقلية، وفتح الفتوحات العظيمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتوفي إبراهيم بالذرب ليلة السبت، لإحدى عشرة بقيت من ذي القعدة، سنة تسع وثمانين ومائتين بصقلية، رحمه الله تعالى، وجعل في تابوت، وحمل إِلى إِفريقية، ودفن بالقيروان، وكانت ولايته خمساً وعشرين

سنة، وكان له فطنة عظيمة، وتصدق بجميع ماله. وفي هذه السنة توفي الحسن بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قاضي القضاة، وهو من ولد عتاب بن أَسيد، الذي ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، أسيد بفتح الهمزة وكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها ثم دال مهملة. وفيها توفي أبو يزيد البسطامي الزاهد، واسمه طيفور بن عيسى بن سروبيان، وكان سروبيان مجوسياً فأسلم وفي هذه السنة توفي أبو الحسين مسلم ابن الحجاج النيسابوري صاحب المسند الصحيح. رحل إِلى الأمصار لسماع الحديث. قال مسلم: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاث مائة ألف حديث مسموعة، ولما قدم البخاري إِلى نيسابور لازمه مسلم، ولما وقعت للبخاري مسألة خلق اللفظة انقطع الناس عنه إِلا مسلماً. وقال مسلم للبخاري: دعني أُقتل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث. ثم دخلت سنة اثنين وستين ومائتين في هذه السنة، أرسل الخبيث صاحب الزنج، جيشاً إِلى جهة بطايح واسط، فقتلوا وسبوا وأحرقوا. وفيها مات عمر بن شيبة. ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين في هذه السنة، استولى يعقوب الصفار على الأهواز. ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين في هذه السنة مات أماجور مقطع دمشق، وسار أحمد بن طولون من مصر إلى دمشق، ثم إِلى حمص، ثم إِلى حماة، ثم إِلى حلب، فملكها جميعها، ثم سار أحمد بن طولون إِلى إنطاكية، ودعا سيما الطويل أمير إنطاكية إِلى الدخول في طاعته، فأبى، فقاتله أحمد وملك إنطاكية عنوة، وقاتل سيما قتالاً شديداً حتى قتل، ثم رحل أحمد إِلى طرسوس، وعزم على المقام بها للجهاد، فغلا بها السعر وقلّ القوت، فرجع إِلى الشام. وفي هذه السنة خرج بالصين خارجي مجهول النسب والاسم وعظيم جمعه، فقصد مدينة خانقو من الصين، وحصرها، وهي حصينة، ولها نهر عظيم، وبها عالم كثير من المسلمين، والنصارى، واليهود، والمجوس، وغيرهم من أهل الصين، ففتحها عنوة، وقتل من أهلها ما لا يحصى، واستولى على شيء كثير من بلاد الصين، ثم عدم الخارجي المذكور في حرب ملك الصين، وانهزمت أصحابه فلم يجتمع بعد ذلك. وفي هذه السنة فرغ إِبراهيم بن أحمد بن محمد الأغلبي صاحب إِفريقية من بناء مدينة رقادة، وانتقل إِليها وسكنها. وكان قد ابتدى في بنائها سنة ثلاث وستين ومائتين. وفي هذه السنة ماتت قبيحة أم المعتز. وفيها مات أبو إبراهيم الزني صاحب الشافعي. وفيها توفي في مصر يونس بن عبد الأعلى بن موسى أحد أصحاب الشافعي، وكان مولده سنة سبعين ومائة، وكان يهوى يونس المذكور للشافعي. ما حك جلدكَ مثل ظفركْ ... فتول أنتَ جميع أمركْ وإذا قَصدتَ لحاجةٍ ... فاقْصدْ لمعترفٍ بقدرِكْ وقال: سمعت الشافعي يقول: رضى الناس غاية لا تدرك، فانظر ما فيه صلاح نفسك. في أمر

دينك ودنياك، فالزمه. وعبد الرحمن، مؤلف تاريخ مصر المشهور، هو ولد يونس المذكور، وهو عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى المذكور. ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين فيها دخل الزنج النعمانية، وسبوا وأحرقوها، ثم صاروا إِلى جرجرايا، ودخل أهل السواد بغداد. موت يعقوب الصفار وفي هذه السنة، مات يعقوب بن الليث الصفار، تاسع عشر شوال، بجنديسابور، من كور الأهواز، وكانت علته القولنج، فوصف له الحكماء الحقنة، فلم يحتقن، وكان المعتمد قد أرسل إِليه رسولا، وكتاباً يستمليه، ويعقوب مريض، فأحضر الرسول وجعل عنده سيفاً، ورغيفاً من الخشكار، وبصلا، وقال الرسول: قل للخليفة إِن مت، فقد استراح مني واسترحت منه، وإنْ عوفيت، فليس بيني وبينه إِلا هذا السيف، وإنْ كسرني وأفقرني، عدت إِلى أكل هذا الخبز والبصل. وكان يعقوب قد افتتح الرخُج، وقتل ملكها، وأسلم أهلها على يده، وكان ملك الرخج يجلس على سرير ذهب، ويدَّعي الإِلهية، وكان يعقوب حازماً عاقلاً، وكان يعمل الصفر في مبتدأ أمره، فقيل له الصفار لذلك. وصحب في حداثته رجلاً من أهل سجستان، كان مشهوراً بالتطوع في قتال الخوارج، يقال له صالح بن النضر الكناني، ثم هلك صالح المذكور، فتولى مكانه درهم بن الحسين، فصار يعقوب مع درهم كما كان مع صالح، وكان درهم غير ضابط لأمور العسكر، فلما رأى أصحاب درهم ضعفه وعجزه، اجتمعوا على يعقوب بن الليث الصفار المذكور، وملكوه أمرهم، فلما تبين ذلك لدرهم لم ينازعه، وسلم الأمر إِليه، فاستبد يعقوب بالأمر، وقويت شوكته، واستولى على البلاد، على ما تقدم ذكره، في مواضعه، من السنين. ولما مات يعقوب، قام بالأمر بعده أخوه عمرو بن الليث، وكتب إِلى الخليفة بطاعته، فولاه الموفق خراسان وأصفهان وسجستان والسند وكرمان، وسير إِليه الخلع مع الولاية. وفي هذه السنة توفي إِبراهيم بن هاني بن إسحاق النيسابوري، وكان من الأبدال. ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين في هذه السنة قتل أهل حمص عاملهم، عيسى الكرخي. وفي هذه السنة كان الناس في البلاد التي تحت حكم الخليفة في شدة عظيمة، بسبب تغلب القواد والأجناد على الأمر، لقلة خوفهم، وأمنهم من الإنكار على ما يفعلونه، لاشتغال الموفق بقتال صاحب الزنج، ولعجز الخليفة المعتمد واشتغاله بغير تدبير المملكة. ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين في هذه السنة كان بين الموفق أخي الخليفة، وبين الخبيث صاحب الزنج حروب كثيرة يطول شرحها، وكشف الزنج عن الأهواز، واستولى عليها، ثم سار الموفق إِلى مدينة صاحب الزنج، وكان قد حصنها إلى غاية ما يكون، وسمّاها المختارة، وحاصرها الموفق، فخرج أكثر أهلها إليه بالأمان، وضعف الباقون عن حفظها، فسلموها بالأمان. وفي هذه السنة ولي صقلية الحسن بن العباس، فبث السرايا إِلى كل ناحية. ثم دخلت

سنة ثمان وستين ومائتين وسنة تسع وستين ومائتين في هذه السنة حالف لؤلؤ غلام أحمد بن طولون على مولاه أحمد بن طولون، وكان في يد لؤلؤ حلب وحمص وقنسرين وديار مضر من الجزيرة، وكاتب الموفق في المسير إليه، ثم سار إِليه. وفي هذه السنة أمر المعتمد بلعن أحمد بن طولون على المنابر، لكونه قطع خطبة الموفق وأسقط اسمه من الطرز، وإنما أمر المعتمد بذلك مكرهاً، لأن هواه كان مع ابن طولون، ولم يكن للمعتمد من الأمر شيء، بل الأمر لأخيه الموفق، وكان المعتمد قد قصد اللحوق بأحمد بن طولون بمصر، لينجده على أخيه الموفق، وسار عن بغداد لما كان أخوه مشتغلاً في قتال الزنج، فأمسك إِسحاق بن كنداج عامل الموصل القواد الذين كانوا صحبة المعتمد، وأرسلهم إِلى بغداد، وتقدم إِلى المعتمد بالعَود، فلم يمكنه مخالفته بعد إِمساك قواده، فرجع إِلى سامراء. ثم دخلت سنة سبعين ومائتين في هذه السنة قتل صاحب الزنج لعنه الله بعد قتل وغَرقِ غالب أصحابه، وقُطع رأسه، وطيف به على رمح، وكثر ضجيج الناس بالتحميد، ورجع الموقف إِلى موضعه، والرأس بين يديه، وأتاه من الزنج عالم كثير يطلبون الأمان، فأمنهم، ثم بعث برأس الخبيث إِلى بغداد، وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء، لأربع بقين من رمضان، سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر، سنة سبعين ومائتين، فكانت أيامه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام. وفي هذه السنة توفي الحسن بن زيد العلوي، صاحب طبرستان، في رجب، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وكسراً، وولي مكانه أخوه محمد بن زيد. وفاة أحمد بن طولون وفي هذه السنة توفي أحمد بن طولون، صاحب مصر والشام، بعد مسيره إِلى طرسوس، ورجوعه منها، ولما وصل إِلى إنطاكية، قُدم له لبن جاموس، فأكثر منه، فأصابه منه تخمة، واتصلت به حتى صار منها ذرب، حتى مات، وكانت إِمارته نحو ست وعشرين سنة، وكان حازماً عاقلاً، وهو الذي بنى قلعة يافا، ولم يكن لها قبل ذلك قلعة، وبنى بين مصر والقاهرة الجامع المعروف به، وهو جامع عظيم مشهور هناك، وولى بعده ابنه خمارويه. وفي هذه السنة توفي محمد بن إِسحاق بن جعفر الصاغاني، وداود بن علي الأصفهاني، إِمام أصحاب الظاهر، وكان مولده سنة اثنتين ومائتين، وكان إِماماً مَجتهداً ورعاً زاهداً، وسمي هو وأصحابه بأهل الظاهر، لأخذهم بظاهر الآثار والأخبار، وإعراضهم عن التأويل، وكان داود لا يرى القياس في الشريعة، ثم اضطر إِليه، فسماه دليلاً، وله أحكام خالف فيها الأئمة الأربدة، منها أنه قال: الشرب خاصة في آنية الذهب والفضة حرام، ويجوز الأكل والترضي، وغيرهما من الانتفاعات بها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، إِنما قال: " الذي يشرب في آنية

الذهب والفضة، إِنما يجرجر في بطنه، نار جهنم " وله مثل ذلك كثير. ثم دخلت سنة إِحدى وسبعين ومائتين في هذه السنة جرت وقعة بين ابن الموفق، وهو المعتضد، وبين خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر. آخرها أن المعتضد انهزم هو وأصحابه، وكانت الوقعة بين دمشق والرملة، وانهزم خمارويه إِلى حدود مصر، وثبت عسكره، ولم يعلموا بهزيمته، وانهزم المعتضد، ولم يعلم بهزيمة خمارويه. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين وسنة ثلاث وسبعين ومائتين في هذه السنة توفي محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي، صاحب الأندلس، سلخ صَفَر. وكان عمره نحو خمس وستين سنة، وكانت ولايته أربعاً وثلاثين سنة وأحد عشر شهراً. لأنه تولى في سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وخلف ثلاثة وثلاثين ذكراً، لما مات وليَ بعده ابنه المنذر بن محمد، وبويع له بعد موت أبيه بثلاث ليال. وفيه هذه السنة مات أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، صاحب كتاب السنن، وفيها توفي خالد بن أحمد السدوسي، وكان أمير خراسان، وقصد الحج، فقبض عليه المعتمد وحبسه، فمات في الحبس في هذه السنة، وهو الذي أخرج البخاري صاحب الصحيح من بخارى، فدعا عليه البخاري، فأدركته الدعوة. وفيها توفي الحافظ محمد بن يزيد بن ماجة القويني المشهور، مصنف كتاب السنن في الحديث. وكان إِماماً في الحديث، عارفاً بعلومه، وجميع ما يتعلق به، ارتحل إِلى العراق والشام ومصر والري، لطلب الحديث، وله تفسير العظيم، وتاريخٌ أحسنَ فيه. وكتابه في الحديث أحد الكتب الستة الصحاح، ولادته سنة تسع ومائتين. ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائتين، وسنة خمس وسبعين ومائتين في هذه السنة قبض الموفق على ابنه المعتضد، واستمر في الحبر حتى خرج في مرض الموفق الذي مات فيه. وفيها توفي المنذر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الربضي بن هشام الأموي صاحب الأندلس، في المحرم، وكانت ولايته سنة وأحد عشر شهراً، وكان عمره نحو ست وأربعين سنة، وكان أسمر بوجهه أثر جدري. ولما مات بويع أخوه عبد الله بن محمد. وفي هذه السنة توفي أبو سعيد الحسين بن الحسن بن عبد الله البكري النحوي اللغوي المشهور، صاحب التصانيف. ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائتين فيها مات عبد الملك بن محمد الرقاشي. ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائتين فيها مات يعقوب بن سفيان النسائي الإمام، وكان يتشيع. وفيها توفيت عُريب المغنية المأمونية. ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين. وفاة الموفق بالله فيها توفي أبو أحمد طلحة الموفق بالله بن جعفر المتوكل، وكان قد حصل في رجله داء الفيل وطال به، وضجر، فقال يوماً: قد اشتمل ديواني على مائة ألف مرتزق، ما فيهم أسوأ حال

مني، ومات الموفق يوم الأربعاء، لثمان بقين من صفر، من هذه السنة، وكان الموفق قد بويع له بولاية العهد، بعد المفوض بن المعتمد، فلما مات الموفق، اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس المعتضد بن الموفق، بولاية العهد بعد المفوض، واجتمع عليه أصحاب أبيه وتولى ما كان أبوه يتولاه. ابتداء أمر القرامطة وفي هذه السنة تحرك بسواد الكوفة، قوم يعرفون بالقرامطة، وكان الشخص الذي دعاهم إِلى مذهبه ودينه قد مرض بقرية من سواد الكوفة، فحمله رجل من أهل القرية، يقال له كرميته، لحمرة عينيه، وهو بالنبطية اسم لحمرة العين، فلما تعافى شيخ القرامطة المذكور، سمي باسم ذلك الرجل، ثم خفف فقالوا قرمط، ودعا قوماً من أهل السواد والبادية، ممن ليس لهم عقل ولا دين إِلى دينه، فأجابوا إِليه، وكان ما دعاهم إِليه، أنه جاء بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان، وهو من قرية يقال لها نصرانة إِنه داعية المسيح، وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهدي، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو جبريل، وإن المسيح تصور في جسم إِنسان وقال: إِنك الداعية، وإنك الحجة، وإنك الدابة، وإنك يحيى بن زكريا، وإنك روح القدس. وعرفه أنّ الصلاة أربع ركعات، ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها، وأن الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن: الله أكبر ثلاث مرات، أشهد أن لا إِله إِلا الله مرتين، أشهد أن آدم رسول الله، أشهد أن نوحاً رسول الله، أشهد أن إِبراهيم رسول الله، أشهد أن عيسى رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله، والقبلة إِلى بيت المقدس، وأن الجمعة يوم الاثنين، لا يعمل فيها شيئاً، ويقرأ في كل ركعة الاستفتاح، وهو المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو الحمد لله بكلمته، وتعالى باسمه، المنجد لأوليائه بأوليائه، قل إِن الأهلة مواقيت للناس، ظاهرها ليعلم عدد السنين، والحساب والشهور والأيام، وباطنها لأوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي، واتقوني يا أولي الألباب، وأنا الذي لا أُسأل عما أفعل، وأنا العليم الحليم، وأنا الذي أبلو عبادي وأمتحن خلقي، فمن صبر على بلائي ومحبتي واختياري، أدخلته في جنتي وأخلدته في نعيمي، ومن زال عن أمري، وكذب رسلي، أخلدته مهاناً في عذابي، وأتممت أجلي وأظهرت أمري على ألسنة رسلي، وأنا الذي لم يعل جبار إِلا وضعته، ولا عزيز إِلا ذللته، وبئس الذي أصر على أمره، ودام على جهالته، وقال: لن نبرح عليه عاكفين، وبه موقنين، أولئك هم الكافرون، ثم يركع. ومن شرائعه أن يصوم يومين من السنة، وهما المهرجان والنيروز، وأن النبيذ حرام، والخمر حلال، ولا غسل من جنابة، لكن الوضوء كوضوء الصلاة، وأن يؤكل كل ذي ناب وكل ذي مخلب. ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين في هذه السنة خلع المعتمد ابنه جعفر المفوض ابن المعتمد من ولاية العهد، وجعل المعتضد ابن أخيه ولي العهد بعده.

أحمد المعتضد بالله

وفاة المعتمد وفي هذه السنة، أعني سنة تسع وسبعين ومائتين، توفي أحمد المعتضد بالله ابن جعفر المتوكل بن المعتصم، لإحدى عشرة بقيت من رجب ببغداد، وكان قد شرب على الشط وتعشى، وأكثر من الشراب والأكل، فمات ليلاً، وأحضر المعتضد القضاة وأعيان الناس، فنظروا إِليه، وحمل إِلى سرمن رأى فدفن بها، وكان عمر المعتمد خمسين سنة وستة أشهر، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وستة أيام. وكان قد تحكم عليه في خلافته أخوه الموفق، وضيق عليه، حتى إِنّه احتاج إِلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها في ذلك الوقت، فقال: أليس من العجائب أنّ مثلي ... يرى ما قلّ ممتنعاً عليه وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيء في يديه خلافة أبي العباس أحمد المعتضد بالله وهو سادس عشرهم، وفي صبيحة الليلة التي مات فيها المعتمد، بويع لأبي العباس أحمد المعتضد بالله بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل. وفي هذه السنة توفي نصر بن أحمد الساماني، فقام بما كان إِليه من العمل بما وراء النهر، أخوه إِسماعيل ابن احمد بن أسد بن سامان. وفي هذه السنة قدم الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص من مصر بهدايا عظيمة، من خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر، بسبب تزويج المعتضد بنت خمارويه. وفيها توفي أبو عيسى محمد بن عيسى بن سودة الترمذي السلمي، بترمذ، في رجب، وكان إِماماً حافظاً له تصانيف حسنة، منها الجامع الكبير في الحديث، وكان ضريراً، وهو عن أئمة الحديث المشهورين، الذين يقتدى بهم في علم الحديث، وهو تلميذ محمد بن إِسماعيل البخاري، وشاركه في بعض شيوخه، مثل قتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر. ثم دخلت سنة ثمانين ومائتين فيها توفي جعفر بن المعتمد وهو الذي كان لقبه المفوض، وخلعه أبوه وولى المعتضد على ما ذكرنا. ثم دخلت سنة إِحدى وثمانين ومائتين: فيها سار المعتضد إِلى ماردين، فهرب صاحبها حمدان، وخلى ابنه بها، فقابله المعتضد، فسلمها إِليه. وفيها دخل طغج بن جف وكان عاملاً على دمشق، من طرسوس إِلى بلاد الروم، من قبل خمارويه، وفتح وسبى. وفيها توفي عبد الله بن محمد بن أبي عبد الله بن أبي الدنيا، صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين. النيروز المعتضدي فيها أمر المعتضد بافتتاح الخراج في النيروز المعتضدي، للرفق بالناس، وهو في حزيران من شهور الروم، عند كون الشمس في أواخر الجوزاء.

قتل خمارويه في هذه السنة، قتل خمارويه بن أحمد بن طولون، ذبحه بعض خدمه على فراشه، في ذي الحجة بدمشق، وكان سببه أنه نقل إِلى خمارويه، أن جواريه قد أخذت كل واحدة منهن خصياً، وجعلته لها كالزوج، وقصد خمارويه تقرير بعض الجواري على ذلك، فاجتمع جماعة من الخدم، واتفقوا على قتله، ثم قتل من خدمه الذين اتهموا بذلك، نيفاً وعشرين نفساً. ولما مات خمارويه، بايع قواده جيش بن خمارويه، وكان صبياً، وفيها توفي أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، صاحب كتاب النبات. وفيها توفي الحارث ابن أبي أسامة، وله مسند. وفيها توفي أبو العيناء محمد بن القاسم، وكان روى عن الأصمعي، وكان ضريراً صاحب نوادر وأشعار، وكان من ظرفاء الناس، وفيه من سرعة الجواب والذكاء ما لم يكن في أحد، وولد في سنة إِحدى وتسعين ومائتين، وكف بصره وقد بلغ أربعين سنة، ولقب بأبي العيناء، لأنه قال: لأبي زيد الأنصاري كيف تصغر عيناً؟ فقال عييناً يا أبا العيناء فبقي عليه لقباً، وكان قد ذكر للمتوكل للمنادمة، فقال المتوكل: لولا أنه ضرير لصلح لذلك، وبلغ ذلك أبا العيناء فقال: إن أعفاني من رؤية الأهلة، فإِني أصلح للمنادمة. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين في هذه السنة، خلع طغج بن جف أمير دمشق، جيش بن خمارويه بدمشق واختلف جند جيش عليه، لصباه وتقريبه الأرذال، وتهديده لقواد أبيه، فثاروا به فقتلوه ونهبوا داره، ونهبوا مصر وأحرقوها، وأقعدوا أخاه هارون بن خمارويه في الولاية، وكانت ولاية جيش بن خمارويه تسعة أشهر. وفي هذه السنة مات البحتري الشاعر، واسمه الوليد بن عبادة، بمنبج أو بحلب، وكان مولده سنة ست ومائتين، وفيها توفي علي بن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر، وفيها أمر المعتضد أن يكتب إلى الأقطار، برد الفاضل من سهام المواريث، على ذوي الأرحام، وإبطال ديوان المواريث. من تاريخ القاضي شهاب الدين بن أبي الدم، قال: وفيها أمر بكتبة الطعن، في معاوية وابنه وأبيه، وإباحة لعنهم، وكان من جملة ما كتب في ذلك: بعد الحمد لله والصلاة على نبيه، وأنه لما بعثه الله رسولاً، كان أشد الناس في مخالفته بنو أمية، وأعظمهم في ذلك أبو سفيان ابن حرب، وشيعته من بني أمية، قال الله تعالى في كتابه العزيز " والشجرة الملعونة " " الإسراء: 60 " اتفق المفسرون أنهِ أراد بها بني أمية. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان مقبلاً ومعاوية يقوده، ويزيد أخو معاوية يسوق به، فقال: " لعن الله القائد والراكب والسائق " وقد روى أن أبا سفيان قال: يا بني عبد مناف، تلقفوها تلقف الكرة، فما هناك جنّة ولا نار. وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم معاوية ليكتب بين يديه، فتأخر عنه، واعتذر بطعامه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا أشبع الله بطنه " فبقي لا يشبع، وكان يقول: والله ما أترك الطعام شبعاً وإنما أتركه إعياء. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِذا رأيتم معاوية

على منبري فاقتلوه "، وأطال في ذلك، وأمر أن يقال ذلك في البلاد، ولعن معاوية على المنابر، فقيل له: إِنّ في ذلك استطالة للعلويين، وهم في كل وقت يخرجون على السلطان ويحصل به الفتن بين الناس، فأمسك عن ذلك. ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائتين في هذه السنة أخبر المنجمون الناس بغرق أكثر الأقاليم، وأن ذلك يكون بسبب كثرة الأمطار، وزيادة الأنهار، فتحفظ الناس، فقلت الأمطار، وغارت المياه، حتى استسقوا ببغداد مرات. وفيها اختل حال هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون بمصر، واختلف القواد عليه، وانحل نظام مملكته، وكان على دمشق من جهته طغج بن جف. وفيها توفي إِسحاق بن موسى الإسفراييني الفقيه الشافعي. ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائتين في هذه السنة سار المعتضد إِلى آمد، فافتتحها بالأمان، وكان صاحبها محمد بن أحمد بن عيسى بن الشيخ، ثم سار المعتضد إِلى فنسرين، فتسلمها وتسلم العواصم، من نواب هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر، وكان هارون قد سأل المعتضد في أن يتسلم هذه البلاد منه. وفيها توفي إِبراهيم بن إسحاق، وهو من أعيان المحدثين ببغداد. ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائتين في هذه السنة ظهر رجل من القرامطة بالبحرين، يعرف بأبي سعيد الجنابي، وكثر جمعه، وقتل جماعة بالقطيف، وبتلك القرى. وفيها توفي المبرد، وهو أبو العباس محمد بن عبد الله بن زيد، وكان إِماماً في النحو واللغة، وله التصانيف المشهورة، منها: كتاب الكامل، والروضة، والمقتضب، وغير ذلك، أخذ العلم عن أبي عثمان المازني وغيره، وأخذ عنه نفطويه وغيره، وولد سنة سبع ومائتين، والمبرد لقب غلب عليه، قيل: إِنه كان عند بعض أصحابه، وأن صاحب الشرطة طلبه للمنادمة، فكره المبرد المسير إِليه، وألح الرسول في طلبه، وكان هناك مزملة لتبريد الماء فارغة، فدخل المبرد واختفى في غلاف تلك المزملة، ودخل رسول صاحب الشرطة في تلك الدار، وفتش على المبرد فلم يجده، فلما تركه ومضى، جعل صاحب الدار وكان يقال له أبو حاتم السجستاني، يصفق وينادي على المزملة: المبرد المبرد، وتسامع الناس بذلك، فلهجوا به، وصار لقباً على أبي العباس المذكور. ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين في هذه السنة استولى إِسماعيل بن أحمد السلماني، صاحب ما وراء النهر على خراسان، بعد قتال، وأسر أمير خراسان، وهو عمرو بن الليث الصفار، ثم أرسله إِلى المعتضد ببغداد، فحبس عمرو بها، ولم يزل محبوساً حتى قُتل سنة تسع وثمانين ومائتين في الحبس. وفي هذه السنة سار محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان إِلى خراسان، لما بلغه أسر الصفار، ليستولي عليها، فجرى بينه وبين عسكر إسماعيل الساماني قتال شديد، ثم انهزم عسكر العلوي، وجرح جراحات عديدة، ثم مات محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان المذكور من تلك الجراحات، بعد أيام، وأسر ابنه زيد في الوقعة، وحمل إلى إسماعيل الساماني، فأكرمه ووسع عليه، وكانَ محمد بن زيد أديباً فاضلاً شاعراً، حسن السيرة، رحمه

خلافة المكتفي بالله

الله تعالى، ثم قام بعده بالأمر الناصر للحق، الحسن بن علي، وكان يعرف بالأطروش، وتوفي الناصر في سنة أربع وثلاثمائة على ما سنذكره إِن ساء الله تعالى. وفيها مات علي بن عبد العزيز البغوي بمكة. ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين. ودخلت سنة تسع وثمانين ومائتين في هذه السنة كانت حروب بالشام بين طغج بن جف أمير دمشق وبين القرامطة. وفاة المعتضد في هذه السنة، لثمان بقين من ربيع الآخر، توفي أبو العباس أحمد المعتضد ابن طلحة الموفق بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، ودفن ليلا في دار محمد بن طاهر، وكان مولده في ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً، وخلف من الذكور علياً، وهو المكتفي، وجعفر، أو هو المقتدر، وهارون، وخلف، إِحدى عشرة بنتاً، ولما حضرت المعتضد الوفاة، أنشد أبياتاً منها: ولا تأمنن الدهَر إِني أمنته ... فلم يبق لي خلا ولم يرع لي حقا قتلت صناديدَ الرجالِ ولم أدع ... عدواً ولم أمهل على طغيه خلقا وأخليت دار الملك من كل نازع ... فشردتهم غرباً ومزّقتهم شرقا فلما بلغت النجمٍ عزاً ورفعة ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا رماني الردى سهما فأَخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ألقى وكان المعتضد شهماً مهيباً عند أصحابه، يتقون سطوته، ويكفون عن المظالم خوفاً منه، وكان فيه الشح، وكان عفيفاً، حكى القاضي ابن إِسحاق قال: دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداثٌ رومٌ صباح الوجوه، فأطلت النظر إِليهم، فلما قمت، أمرني بالقعود، فجلست، فلما تفرق الناس قال: يا قاضي، والله ما حللت سراويلي على حرام قط. خلافة المكتفي بالله وهو سابع عشرهم، لما توفي المعتضد، بايع الناس ابنه المكتفي، وكان بالرقة فكتب الوزير إِليه بوفاة المعتضد، وأخذ البيعة له، ولما وصله الخبر، أخذ البيعة على من عنده أيضاً، وسار إلى بغداد، فدخلها لثمان خلون من جمادى الأولى. وفي هذه السنة توفي إِبراهيم بن أحمد بن إِبراهيم بن الأغلب، صاحب إِفريقية كما تقدم ذكره في سنة إِحدى وستين ومائتين، وملك بعده ابنه عبد الله بن إبراهيم، ثم قتل عبد الله آخر شعبان، في سنة تسعين ومائتين، على ما سنذكر إن شاء الله تعالى. وكان سكنى عبد الله وقتله بمدينة تونس، وكان كثير العدل حسن السيرة. ثم دخلت سنة تسعين ومائتين في هذه السنة اشتدت شوكة القرامطة، حتى حصروا دمشق، بعد أن هزموا جيش أميرها طغج ين جف، ثم اجتمعت عليهم العساكر وقتلوا مقدمهم يحيى المعروف بالشيخ، ولما قتل مقدم القرامطة يحيى المذكور،

وانقراض ملك بني طولون

قام فيهم أخوه الحسين، وتسمى بأحمد، وأظهر شامة في وجهه، وزعم أنها آيته، وكثر جمعه، فصالحه أهل دمشق على مال دفعوه إِليه، فانصرف عنهم إلى حمص، فغلب عليها، وخطب له على منابرها، وتسمى بالمهدي أمير المؤمنين، وعهد إِلى ابن عمه عبد الله، ولقبه المدثر، وزعم أنه المدثر الذي في القرآن، ثم سار إِلى حماة والمعرة وغيرهما، فقتل أهلها، حتى قتل الأطفال والنساء، وسار إلى سلمية، فأخذها بالأمان، ثم قتل أهلها حتى صبيان المكتب، ولما اشتد أمر القرمطي صاحب الشامة المذكور، خرج المكتفي من بغداد، ونزل الرقة، وأرسل إِليه الجيوش. ثم دخلت سنة إِحدى وتسعين ومائتين: في هذه السنة واقعت عساكر الخليفة صاحب الشامة القرمطي، وأصحابه، بمكان بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا، لست خلون من المحرم، فانهزمت القرامطة، وتبعهم العسكر يقتلونهم، وهرب صاحب الشامة ومعه ابن عمه المدثر، وغلام له رومي، فأمسكوا في البرية، وأحضروا إِلى المكتفي، وهو بالرقة، فسار بهم إِلى بغداد وقتلهم، وطيف برأس صاحب الشامة. ومن كتاب الشريف العابد أنّ المكان الذي كان فيه الوقعة المذكورة هو تمنع أقول: وهي قرية من بلاد المعرة، على الطريق الآخذة من حماة إِلى حلب، وفيها توفي ببغداد أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد، المعروف بثعلب، كان إِمام الكوفيين في النحو واللغة، ثقة حجة، صالحاً، وولد في أول سنة مائتين. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائتين. استيلاء المكتفي على الشام ومصر وانقراض ملك بني طولون في هذه السنة، بعث المكتفي جيشاً مع محمد بن سليمان، فاستولى على دمشق، وسار حتى دنا من مصر، وصاحبها هارون بن خمارويه، ففارقه غالب قواده، ولحقوا بعسكر الخليفة، وخرج هارون فيمن بقي معه، وجرى بينه وبين محمد بن سليمان وقعات، ثم وقع في عسكر هارون خصومة، وأدت إِلى قتال، فركب هارون ليُسكن الفتنة، فزرقه بعض المغاربة بمزراق فقتله، ولما قتل هارون قام عمه شيبان بالأمر، ثم طلب الأمان من محمد بن سليمان فأمنه، ثم هرب شيبان تحت الليل، فلم يوجد، واستولى محمد بن سليمان على مصر، وأمسك بني طولون، وكانوا بضعة عشر رجلاً، واستصفى ما لهم وقيدهم وحملهم إِلى بغداد، وكتب إِلى المكتفي بالفتح، وكان ذلك في صفر من هذه السنة. ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين. أخبار القرامطة في هذه السنة بعد استيلاء عسكر الخليفة على مصر، وتوجه محمد بن سليمان عنها، خرج ببلاد مصر خارجي يدعى الخلنجي، وقويت شوكته، فسار إِليه عامل دمشق، أحمد بن كيغلغ، وطمعت القرامطة في دمشق، بحكم غيبة عاملها، وقصدوها، فهبوا وقتلوا ونهبوا طبرية، ثم ساروا إِلى جهة الكوفة، فسير المكتفي إِليهم عسكراً مع قواده المختصين به، مثل رصيف

بن صوار تكين التركي، والفضل ابن موسى بن بغا، وبشر الخادم الأفشيني، ورايق الجزري، فاقتتلوا، وتمت الهزيمة على عسكر الخليفة، فقتل منهم خلق كثير، وغنمت القرامطة منهم شيئاً كثيراً فتقووا به. وفي هذه السنة توفي عبد الله بن محمد الناشئ الشاعر ونصر بن أحمد الحافظ. وفيها توفي أحمد الزنديق بن يحيى بن إِسحاق، المعروف بابن الراوندي المتكلم، صنف عدة كتب في الكفر والإِلحاد، ومناقضة الشريعة، منها قضيب الذهب، وكتاب اللامع، وكتاب الفرند، وكتاب الزمردة، وغير ذلك وقد أجاب العلماء عن كل ما قاله من معارضة القرآن العظيم، وغيره من كفرياته، وبينوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة، فمن قوله لعنه الله، في كتاب الزمردة: إِنّا نجد في كلام أكثم بن صيفي، ما هو أحسن من قوله: " إِنا أعطيناك الكوثر " وقال: إن الأنبياء وقعوا طلسمات، جذبوا بها دواعي الخلق، كما يجذب المغناطيس الحديد، ووضع كتاباً لليهود وللنصارى، يتضمن مناقضة دين الإسلام، وقال لليهود: قولا عن موسى ابن عمران أنه قال لا نبي بعدي، وقال في كتاب الفرند: إِن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن، الذي تحدى به النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تقدر العرب على معارضته، فيقال لهم: أخبرونا لو ادعى مُدع لمن تقدم من الفلاسفة، مثل دعواكم في القرآن فقال: الدليل على صدق بطليموس وإقليدس، أن إِقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه، كانت نبوته تثبت. وقال: قوله تعالى " إِن كيد الشيطان كان ضعيفاً " أي ضعف به، وقد أخرج آدم من الجنة، وله من هذا شيء كثير، أضربنا عن ذكره. وكان موته، لعنه الله، برحبة مالك بن طوق، وذكر أن عمره كان ستاً وثلاثين سنة، هكذا وجدت أخباره وتاريخ وفاته، في تاريخ القاضي شهاب الدين بن أبي الدم الحموي، وقد وجدته في تاريخ القاضي شمس الدين بن خلكان، أن وفاته كانت في سنة خمس وأربعين ومائتين، وقيل في سنة خمسين ومائتين، والله أعلم بالصواب. ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائتين في هذه السنة أخذت القرامطة الحجاج من طريق العراق، وقتلوهم عن آخرهم، وكانت عدة القتلى عشرين ألفاً، وأخذوا منهم أموالاً عظيمة، وكان كبير القرامطة ذكرويه، فجهز المكتفي إليهم عسكراً، واقتتلوا، فانهزمت القرامطة، وقتل منهم خلق كثير، وأسر ذكرويه الملعون مجروحاً، فبقي ستة أيام ومات، وقدم العسكر برأسه إِلى بغداد وطيف به. وفي هذه السنة توفي محمد بن نصر المروزي بسمرقند، وله تصانيف كثيرة. ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين في هذه السنة في صفر توفي إِسماعيل بن أحمد بن أسد السماني، صاحب ما وراء النهر وخراسان، وولي بعده ابنه أبو نصر أحمد بن إِسماعيل وأرسل له المكتفي التقليد. وفاة المكتفي في هذه السنة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، توفي المكتفي بالله أبو محمد علي بن

خلافة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله

المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق بالله أبي أحمد طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن هارون الرشيد، وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وكان ربعة جميلا، رقيق السمرة، حسن الوجه، والشعر، وافر اللحية، وأمه أم ولد تركية تدعى حجك، وطالت مرضته عدة شهور، ودفن في دار محمد بن طاهر. خلافة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله وأمه أم ولد يقال لها شعب، وهو ثامن عشرهم، بويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه المكتفي، وكان عمر المقتدر يوم بويع ثلاث عشرة سنة. موت الترمذي وفيها في المحرم توفي أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي، الفقيه الشافعي المحدث، روى عن يحيى بن بدير المصري، ويوسف بن عدي، وكثيرين يحيى وغيرهم، وروى عنه أحمد بن كامل الشافعي وغيره، وكان مولد الترمذي المذكور، سنة مائتين، وقيل ست عشرة ومائتين. ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين. خلع المقتدر ومبايعة ابن المعتز في هذه السنة خلع القواد والقضاة المقتدر، وبايعوا عبد الله بن المعتز، ولقبوه الراضي بالله، وجرت بين غلمان الدار المريدين للمقتدر، وبين المريدين لابن المعتز، حروب، وآخر ذلك أن عبد الله بن المعتز انهزم واختفى وتفرق أصحابه، ثم أمسك عبد الله بن المعتز، وحبس ليلتين، وقتل خنقاً، وأظهروا أنه مات حتف أنفه، وأخرجوه إلى أهله، وكان مولد عبد الله بن المعتز لسبع بقين من شعبان، سنة سبع وأربعين ومائتين، وكان فاضلا شاعراً، وتشبيهاته وأشعاره مشهورة، وأخذ العلم عن المبرد، وثعلب، وتولى الخلافة يوماً واحداً، وقال حين تولى: قد آن للحق أن يتضح، وللباطل أن يفتضح، له الكلام البديع فمن ذلك قوله: أنفاس الحمى خطاه إلى أجله، ربما أورد الطمع ولم يصدر، يشفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك. وكان عبد الله بن المعتز آمناً في سربه، منعكفاً على طلب العلم والشعر، قد اشتهر عند الخلفاء أنه لم يؤهل نفسه للخلافة، فكان مستريحاً، إِلى أن حمله على تولي الخلافة القوم الذين خذلوه بعد بيعته، وقد رثاه علي بن محمد بن بسام فقال: لله درك من ملك بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب ما فيه لولا ولا ليت قتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب وقد روى عنه أنه كان يقول: إِنْ ولاني الله لأفنين جميع بني أبي طالب، فبلغ ذلك ولد علي فكانوا يدعون عليه.

بن عبد الله بن إبراهيم ابن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الأغلب.

أخبار أبي نصر زيادة الله بن عبد الله بن إِبراهيم ابن أحمد بن محمد بن إِبراهيم بن الأغلب. كان المذكور قد ملك إِفريقية، سنة تسعين ومائتين، في مستهل رمضان، بعد قتل أبيه، باتفاق من زيادة الله المذكور، فإِن زيادة الله كان قد حبسه أبو عبد الله، على شرب الخمر، فاتفق مع ثلاثة من خدم أبيه الصقالية، على قتل أبيه، فقتلوه في شعبان سنة تسعين ومائتين، وأحضروا رأسه إِلى زيادة الله في الحبس، فلما تولى زيادة الله، أمر بهم فقُتلوا، وهو الذي كان أمرهم بذلك، ولما تولى زيادة الله على إِفريقية، انعكف على اللذات، وملازمة المضحكين وأهمل أمور المملكة، وقتل من الأغالبة كل من قدر عليه، من أعمامه وأخوته. وفي أيام زيادة الله، قوي أمر أبي عبد الله الشبعي، القائم بدعوة الدولة العلوية الفاطمية بالمغرب، فأرسل إليه زيادة الله جميع عسكره، وكانوا أربعين ألفاً، مع إِبراهيم من بني الأغلب، وهو من بني عمه، فهزمهم أبو عبد الله الشيعي، ولما رأى زيادة الله هزيمة عسكره وضعفه عن مقاومة أبي عبد الله الشيعي، جمع ما قدر عليه من الأموال، وسار عن ملكه إِلى الشرق في هذه السنة، فقدم مصر وبها النوشري عاملا، فكتب بأمره إِلى المقتدر، ثم سار زيادة الله إِلى الرقة، فأمره المقتدر بالعود إِلى المغرب، لقتال أبي عبد الله الشعبي، وكتب إِلى النوشري عامل مصر، يإِمداد زيادة الله بالعساكر والأموال، فقدم إِلى مصر، فأمره النَّوشري بالخروج إِلى الحمامات، ليخرج إِليه ما يحتاجه من الرجال والأموال، فخرج، ومطله النوشري، وزيادة الله مع ذلك، يلازم شرب الخمر واستماع الملاهي، وطال مقامه هناك، فتفرق عنه أصحابه، وتتابعت به الأمراض، وسقط شعر لحيته، وأيس من النَّوشري، فسار إِلى القدس للمقام به، فمات بالرملة ودفن بها، ولم يبق بالمغرب من بني الأغلب أحد، وكانت مدة ملكهم مائة سنة واثنتي عشرة سنة بالتقريب، لأنه قد تقدم أن الرشيد ولى إِبراهيم بن الأغلب على إِفريقية، في سنة أربع وثمانين ومائة، وانقضى ملكهم في هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين ومائتين، كان مدة ملك زيادة الله، إِلى أن هرب من الشيعي في هذه السنة، خمس سنين وتسعة أشهر وأياماً، فسبحان الذي لا يزول ملكه. ابتداء الدولة العلوية الفاطمية وفي هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين ومائتين، كان ابتداء ملك الخلفاء العلويين إِفريقية، وانقرضت دولتهم بمصر، سنة سبع وستين وخمس مائة، على ما نذكره إِن شاء الله تعالى، وأول من ولِي منهم، أبو محمد عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إِسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقيل: هو عبيد

الله بن أحمد بن إِسماعيل الثاني بن محمد بن إِسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد اختلف العلماء في صحة نسبه. فقال القائلون بإمامته: إِن نسبه صحيح، ولم يرتابوا فيه، وذهب كثير من العلويين العالمين بالأنساب، إِلى موافقتهم أيضاً، ويشهد بصحته ما قاله الشريف الرضي. ما مُقامي على الهوان وعندي ... مقولٌ صارمٌ وأنفٌ حمي ألبِسَ الذل في بلاد الأعادي ... وبمصر الخليفة العلوي مَنْ أبوه أبي ومولى مولا ... ي إِذا ضامني البعيد القصي لف عرقي بعرقه سيد النا ... سِ جميعاً محمد وعلي وذهب آخرون إلى أن نسبهم مدخول، ليس بصحيح، وبالغ طائفة منهم إِلى أن جعلوا نسبهم في اليهود، فقالوا: لم يكن اسم المهدي عبيد الله بل كان اسمه سعيد ابن أحمد بن عبد الله القداح بن ميمون بن ديصان، وقيل عبيد الله بن محمد، وقيل فيه سعيد بن الحسين، وأن الحسين المذكور قدم إِلى سلمية، فجرى بحضرته حديث النساء، فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد بسلمية، مات عنها زوجها فتزوجها الحسين بن محمد المذكور لابن أحمد بن عبد الله القداح المذكور. وكان للمرأة ولد من اليهودي، فأحبه الحسين وأدبه، ومات الحسين ولم يكن له ولد فعهد إِلى ابن اليهودي الحداد وهو المهدي عبيد الله وعرفه أسرار الدعوة وأعطاه الأموال والعلامات، فدعا له الدعاة، وقد اختلف كلام المؤرخين، وكثر في قصة عبد الله القداح بن ميمون بن ديصان المذكور، ونحن نشير إِلى ذلك مختصراً. قالوا: ابن ديصان المذكور، هو صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة، وكان يظهر التشيع لآل النبي صلى الله عليه وسلم، ونشأ لميمون بن ديصان ولد يقال له عبد الله القداح، لأنه كان يعالج العيون ويقدحها، وتعلم من ميمون أبيه الحيل، وأطلعه أبوه على أسرار الدعاة لآل النبي صلى الله عليه سلم، ثم سار عبد الله القداح، من نواحي كرج وأصفهان، إلى الأهواز والبصرة وسلمية، من أرض حمص، يدعو الناس إِلى آل البيت، ثم توفي عبد الله القداح وقام ابنه أحمد، وقيل محمد، مقامه، وصحبه إنسان يقال له رستم بن الحسين بن حوشب بن زادان النجار، من أهل الكوفة، فأرسله أحمد إلى الشيعة باليمن، وأن يدعو الناس إِلى المهدي من آل محمد صلى الله عليه وسلم، فسار رستم بن حوشب إِلى اليمن، ودعا الشيعة إِلى المهدي، فأجابوه، وكان أبو عبد الله الشيعي من أهل صنعاء وقيل من أهل الكوفة، وسمع بقدوم ابن حوشب إِلى اليمن، وأنه يدعو الناس إِلى المهدي، فسار أبو عبد الله الشيعي من صنعاء إِلى ابن حوشب، وكان بعَدن، فصحبه وصار من كبار أصحابه، وكان لأبي عبد الله الشيعي علم ودهاء، وكاَن قد أرسل ابن حوشب قبل ذلك، الدعاة إِلى المغرب، وقد أجابه أهل كتامة، ولما رأى ابن حوشب، علْمَ أبي عبد الله الشيعي

ودهاه، أرسله إِلى المغرب، إِلى أهل كتامة، وأرسل معه جَملة من المال، فسار أبو عبد الله الشيعي إِلى مكة، وهو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا، ولما قدم الحجاج مكة، اجتمع بالمغاربة من أهل كتامة، فرآهم مجيبين إِلى ما يختار، فسار معهم إِلى أرض كتامة من المغرب، فقدمها منتصف ربيع الأول، سنة ثمانين ومائتين، وأتاه البربر من كل مكان، وعظم أمره، وكان اسمه عندهم: أبا عبد الله المشرقي. وبلغ أمره إِلى إِبراهيم بن أحمد الأغلبي أمير إِفريقية إِذ ذاك، فاستصغر أمر أبي عبد الله، واستحقره، ثم مضى أبو عبد الله إِلى مدينة تاهرت، فعظم شأنه، وأتته القبائل من كل مكان، وبقي كذلك حتى تولى أبو نصر زيادة الله، آخر من ملك من بني الأغلب، وكان عم زيادة الله، ويعرف بالأحول، قبالة أبي عبد الله الشيعي، يقاتله، فلما تولى زيادة الله، أحضر عمه الأحول وقتله، فصفت البلاد لأبي عبد الله الشيعي. اتصال المهدي عُبيد الله بأبي عبد الله الشيعي كانت الدعاة بالمغرب يدعون إِلى محمد، والد المهدي، وكان بسلمية، فلما توفي أوصى إِلى ابنه عبيد الله المهدي، وأطلعه على حال الدعاة وشاع ذلك أيام المكتفي، فطلب، فهرب عبيد الله، وابنه أبو القاسم محمد، الذي ولي بعد المهدي، وتلقب بالقاَئم، وتوجها نحو المغرب، ووصل عبيد الله المهدي إِلى مصر في زي التجار، وكان عامل مصر حينئذ عيسى النّوشري، وقد كنت إليه الخليفة، بتطلب عبيد الله المهدي، والتوقع عليه، فَجَد المهدي في الهرب، وقدم طرابلس الغرب، وزيادة الله بن الأغلب متوقع عليه، وقد كتب إِلى عماله بإمساكه متى ظفروا به، فهرب من طرابلس، ولحق بسجلماسة فأقام بها. وكان صاحب سجلماسة يسمى اليسع بن مدرار، فهاداه المهدي، على أنه رجل تاجر، قد قدم إلى تلك البلاد، فوصل كتاب زيادة الله إِلى اليسع، يعلمه أن هذا الرجل، هو الذي يدعو له عبد الله الشيعي إِليه، فقبض اليسع على عبيد الله المهدي، وحبسه بسجلماسة، ولما كان من قتل زيادة الله عمه الأحول، وهرب زيادة الله، واستيلاء أبي عبد الله الشيعي على إِفريقية ما قدمنا ذكره، سار أبو عبد الله الشيعي من رقادة في رمضان من هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين ومائتين، إِلى سجلماسة، واستخلف أبو عبد الله الشيعي أخاه أبا العباس، وأبا زاكي على إفريقية. فلما قرب من سجلماسة، خرج صاحبها اليسع وقاتله، فرأى ضعفه عنه، فهرب اليسع تحت الليل، ودخل أبو عبد الله الشيعي إِلى سجلماسة، وأخرج المهدي وولده من السجن، وأركبهما ومشى هو ورؤوس القبائل بين أيديهما، وأبو عبد الله يشير إلى المهدي ويقول للناس: هذا مولاكم، وهو يبكي من شدة الفرح، حتى وصل إلى فسطاط، قد نصب له، ولما استقر المهدي فيه، أمر بطلب اليسع صاحب سجلماسة، فأدرك وأحضر بين يديه، فقتله، وأقام المهدي بسجلماسة أربعين يوماً، وسار إِلى إفريقية، ووصل إِلى رقادة، في ربيع الآخر، سنة سبع

وتسعين ومائتين، فدون الدواوين، وجبى الأموال، وبعث العمال إِلى سائر بلاد المغرب، واستعمل على جزيرة صقلية الحسن ابن أحمد بن أبي حفتزير، وزال بملك المهدي ملك بني الأغلب، وملك بني مدرار أصحاب مملكة سجلماسة، وكان آخر بني مدرار اليسع، وكان مدة ملك بني مدرار مائة سنة وثلاثين سنة، وزال ملك بني رستم من تاهرت، وكانت مدة ملكهم مائة سنة وستين سنة. قتل أبي عبد الله الشيعي أخيه أبي العباس لما استقرت قدم المهدي في المملكة، باشر الأمور بنفسه، ولم يبق لأبي عبد الله، ولأخيه أبي العباس مع المهدي حكم، والفطام صعب، فشرع أبو العباس أخو أبي عبد الله الشيعي يندّم أخاه ويقول له: أخرجت الأمر عنك، وسلمته لغيرك. وأخوه ينهاه عن قول مثل ذلك، إِلى أن أحنقه، وذلك يبلغ المهدي، حتى شرع يقول لرؤوس القبائل: ليس هذا المهدي الذي دعوناكم إِليه. فطلبهما المهدي وقتلهما، كذا أورد ابن الأثير في الكامل، مقتل أبي عبد الله الشيعي المذكور في سنة ست وتسعين ومائتين، ورأيت مقتل أبي عبد الله في الجمع والبيان في تاريخ القيروان أنه كان في نصف جمادى الأولى، سنة ثمان وتسعين ومائتين، وهو الأصح عندي. وكذلك ذكر في تاريخ مقتله ابن خلكان، أنّه كان في سنة ثمان وتسعين ومائتين. ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين، وسنة ثمان وتسعين ومائتين فيها توفي أبو القاسم جنيد بن محمد الصوفي، وكان إمام وقته، وأخذ الفقه عن أبي ثور صاحب الشافعي، وأخذ التصوف عن سري السقطي. ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين في هذه السنة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسين بن الفرات، ونهب داره، وهتك حرمه، وولى الوزارة أبا علي محمد ابن يحيى بن عبيد الله ابن خاقان، وكان الخاقان المذكور ضجوراً، وتحكمت عليه أولاده، فكل منهم يسعى لمن يرتشي منه، فكان يولي العمل الواحد عدة من العمال في الأيام القليلة، حتى أنه ولى ماء الكوفة، في عشرين يوماً، سبعة من العمال، فقيل فيه: وزير قد تكامل في الرقاعه ... يولي ثم يعزل بعد ساعه إذا أهل الرشا اجتمعوا عليه ... فخير القوم أوفرهم بضاعه والخليفة مع ذلك، يتصرف على مقتضى إِشارة النساء والخدام، ويرجع إِلى قولهم وآرائهم، فخرجت الممالك، وطمع العمال في الأطراف. وفي هذه السنة توفي أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان النحوي، وكان عالماْ بنحو البصريين والكوفيين. وفيها توفي إِسحاق بن حنين الطبيب. ثم دخلت سنة ثلاثمائة فيها عزل المقتدر الخاقاني عن الوزارة، وولاها علي بن عيسى. وفاة عبد الله صاحب الأندلس في هذه السنة، توفي عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام ابن عبد الرحمن

الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، طريد رسول الله صلى الله عيه وسلم، في ربيع الأول، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وكان أبيض، أصهب، أزرق، ربعة، يخضب بالسراد، وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وكسراً، لأنه تولى في سنة خمس وسبعين ومائتين، ورزق إِحدى عشر ولداً ذكراً، أحدهم محمد المقتول، قتله أبوه المذكور، في حد من الحدود، وهو والد عبد الرحمن الناصر. ولما توفي عبد الله، ولى ابن ابنه واسمه عبد الرحمن بن محمد المقتول بن عبد الله المذكور، وتولى عبد الرحمن بحضرة أعمامه، وأعمام أبيه، ولم يختلفوا عليه، وهذا عبد الرحمن، هو الذي يسمى الناصر فيما بعد. ثم دخلت سنة إِحدى وثلاثمائة. مقتل أحمد الساماني في هذه السنة قتل الأمير أحمد بن إِسماعيل الساماني، صاحب خراسان وما وراء النهر، ذبحه بالليل جماعة من غلمانه على سريره، وهربوا ليلة الخميس، لسبع بقين من جمادى الآخرة، وكان قد خرج إلى البر متصيداً، فحمل إِلى بخارى ودفن بها، وظفروا ببعض أولئك الغلمان فقتلوهم، وولي الأمر بعده، ولده أبو الحسن نصر ابن أحمد، وهو ابن ثمان سنين. قتل كبير القرامطة وفي هذه السنة قتل أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، كبير القرامطة، قتله خادم له صقلبي، في الحمام، ولما قتله، استدعى رجلا آخر من أكابر رؤسائهم، وقال له: إِن الرئيس يستدعيك، فلما دخل قتله، وفعل كذلك بغيره، حتى قتل أربعة أنفس من كبرائهم، ثم علموا به فاجتمعوا عليه وقتلوه، وكان أبو سعيد الجنابي، قد جعل ولده سعيداً الأكبر ولي عهده، فتولى بعده، وعجز عن القيام بالأمر، فغلبه أخوه الأصغر، أبو طاهر سليمان، وكان شهماً شجاعاً، واستولى على الأمر، ولما قتل أبو سعيد، كان مسستولياً على هجر والأحساء والقطيف وسائر بلاد البحرين. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، سير المهدي العلوي جيشاً مع ولده أبي القاسم محمد، إلى ديار مصر، فاستولى على الإسكندرية، والفيوم، فسيّر إليهم المقتدر، مع مؤنس الخادم جيشاً، فأجلاهم عن ديار مصر، وعادوا إِلى المغرب، وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري الثقفي. وفيها توفي محمد بن يحيى بن مندة الحافظ المشهور، صاحب تاريخ أصفهان، كان أحد الحفاظ الثقاة، وهو من أهل بيت كبير، خرج منه جماعة من العلماء. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثمائة في هذه السنة، قبض المقتدر على الحسين بن عبد الله، المعروف بابن الجصاص الجوهري، وأخذ منه من صنوف الأموال ما قيمته أربعة آلاف ألف دينار، وأكثر من ذلك،

وفي هذه السنة أرسل المهدي العلوي، جيشاً مع مقدم يقال له جاشه في البحر، فاستولى على الإسكندرية، وأرسل المقتدر جيشاً مع مؤنس الخادم، فاقتتلوا بين مصر والإسكندرية أربع دفعات، انهزمت فيها المغاربة، وعادوا إلى بلادهم، وقتل من الفريقين خلق كثير. وفي هذه السنة انتهى تاريخ أبي جعفر الطبري. وفيها، وقيل في السنة التي قبلها، توفي علي بن أحمد بن منصور، الشاعر المعروف بالبسامي، وكان من أعيان الشعراء، كثير الهجاء، هجا أباه وأخوته وأهل بيته، وعمل في القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد. قل لأبي القاسم المرزي ... قاتلك الدهر بالعجائبِ مات لك ابن وكان زينا ... وعاش ذو الشين والمعايبِ حياة هذا كموتِ هذا ... فلستَ تخلو منَ المصائب وله في المتوكل لما هدم قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما، ومنع الناس من زيارته. تالله إِن كانت أمية قد أتت ... قتيل ابن بنت نبيها مظلوما فلقد أتاه بنو أبيه بمثله ... هذا لعمرك قبره مهدوما أسِفوا على أن لا يكونوا شاركوا ... في قتله فتتبعوه رميما ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة. بناء المهدية في هذه السنة، اختار المهدي موضع المهدية على ساحل البحر، وهو جزيرة متصلة بالبر، كهيئة كفّ متصلة بزند، فبناها وجعلها دار ملكه، وجعل لها سوراً محكماً، وأبواباً عظيمة، وزن كل مصراع مائة قنطار، وكان ابتداء بنائها يوم السبت في هذه السنة، لخمس خلون من ذي القعدة، ولما تم بناؤها قال المهدي: الآن أمنت على الفاطمية بحصانتها وفي هذه السنة أغارت الروم على الثغور الجزرية، فغنموا وسبوا. وفي هذه السنة توفي أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي صاحب كتاب السنن بمكة، ودفن بين الصفا والمروة، وكان إماماً حافظاً محدثاً، رحل إلى نيسابور، ثم إِلى العراق، ثم إِلى الشام ومصر، ثم عاد إلى دمشق، فامتحن في معاوية، وطُلب منه أن يروى شيئاً من فضائله، فامتنع وقال: ما يرضى معاوية أن يكون رأساً برأس، حتى يفضل. فقيل إنه وقع في حقه مكروه، وحمل إِلى مكة فتوفي بها. وفيها توفي أبو علي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي. ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة فيها توفي الناصر العلوي صاحب طبرستان وعمره تسع وسبعون سنة، وكان يقال له الأطروش. واسمه الحسن بن علي بن الحسن بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وكان قد ملك طبرستان في سنة إِحدى وثلاثمائة، واستولى على مملكتها، ثم قام بعد الناصر المذكور، الحسن بن القاسم العلوي، ويلقب بالداعي، وقتل في سنة ست عشرة وثلاثماثة، وانقرض بموته ملك العلويين من طبرستان. وفيها توفي

يوسف ابن الحسين بن علي الرازي، صاحب ذي النون المصري وهو صاحب قصة الغار معه. ثم دخلت سنة خمس وثلاثمائة في هذه السنة مات أبو جعفر محمد بن عثمان العسكري، المعروف بالسمان، ويعرف أيضاً بالعمري، رئيس الإمامية. وكان يدعي أنه الباب إِلى الإمام المنتظر. وفيها قدم رسول ملك الروم إلى بغداد، فلما استحضروا عبئ لهم العسكر وصفت الدار بالأسلحة، وأنواع الزينة، وكان جملة العسكر المصفوف حينئذ مائة ألف وستين ألفاً، ما بين راكب وواقف ووقف الغلمان الحجرية بالزينة والمناطق المحلاة، ووقف الخدام الخصيان كذلك كانوا سبعة آلاف، أربعة آلاف خادم أبيض وثلاثة آلاف أسود، ووقف الحجاب كذلك، وهم حينئذ سبع مائة حاجب، وألقيت المراكب والزوارق في دجلة بأعظم زينة، وزينت دار الخلافة، فكانت الستور المعلقة عليها ثمانية وثلاثين ألف ستر، منها ديباج مذهبة اثنا عشر ألفاً وخمس مائة، وكانت البسط اثنين وعشرين ألفاً، وكان هناك مائة سبع، مع مائة سباع، وكان في جملة الزينة، شجرة من ذهب وفضة، تشتمل على ثمانية عشر غصناً، وعلى الأغصان والقضبان الطيور والعصافير من الذهب والفضة، وكذلك أوراق الشجرة من الذهب والفضة، والأغصان تتمايل بحركات موضوعة، والطيور تصفر بحركات مرتبة، وشاهد الرسول من العظمة ما يطول شرحه، وأحضر بين يدي المقتدر، وصار الوزير يبلغ كلامه إِلى الخليفة، ويرد الجواب عن الخليفة. ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة في هذه السنة جعل على شرطة بغداد نجح الطولوني فجعل في الأرباع فقهاء، يكون عمل أصحاب الشرطة بفتواهم، فضعفت هيبة السلطنة بسبب ذلك، فطمع اللصوص والعيارون، وأخذت ثياب الناس في الطرق المنقطعة، وكثرت الفتن. إرسال المهدي العلوي ابنه القائم بعساكر إِفريقية إِلى مصر وفي هذه السنة جهز المهدي جيشاً كثيفاً مع ابنه القائم إِلى مصر فوصل إِلى الإسكندرية، واستولى عليها، ثم سار حتى دخل الجيزة، وملك أشمونين، وكثيراً من الصعيد، وبعث المقتدر مؤنساٌ الخادم، فوصل إِلى مصر، وجرى بينه وبين القائم عدة وقعات، ووصل إِلى الإسكندرية من إِفريقية ثمانون مركباً نجدة للقائم، وأرسل المقتدر مراكب من طرسوس، إِلى قتال مراكب القائم، وكانت خمسة وعشرين مركباً، فالتقت المراكب المراكب على رشيد، واقتتلوا، واقتتلت العساكر في البر، وكانت الهزيمة على عسكر المهدي ومراكبه، فعادوا إِلى إِفريقية بعد أن قتل منهم وأُسر. وفي هذه السنة توفي القاضي محمد بن خلف بن حيان الضبي المعروف بوكيع، وكان عالماً بأخبار الناس، وله تصانيف حسنة. وفيها في جمادى الأولى توفي الإمام أبو العباس أحمد بن سريج الفقيه الشافعي، وكان من عظماء الشافعية، وأئمة المسلمين، وكان يقال له الباز الأشهب، وولي القضاء بشيراز، وبلغت مصنفاته أربع مائة

مصنف، ومنه انتشر مذهب الشافعي في الآفاق، وكان يقال في عصره، إِن الله أظهر عمر بن عبد العزيز على رأس المائة من الهجرة، وأحيى كل سنة، وأمات كل بدعة، ثم منّ الله على الناس بالشافعي على رأس المائتين. فأظهر السنة، وأخفى البدعة، ومن الله على رأس الثلاثمائة بابن سريج، فقوّى كل سنْة، وضعف كل بدعة، وكان جده سريج رجلا مشهوراً بالصلاح. ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائة. انقراض دولة الأدارسة العلويين من كتاب المغرب في أخبار أهل المغرب أن دولتهم انقرضت غي هذه السنة، أقول: كنا سقنا أخبارهم إِلى محمد بن إِدريس بن إِدريس في سنة أربع عشرة ومائتين، وأن محمداً المذكور لما تولى، فرّق غالب بلاده على أخوته، حسبما قدمنا ذكره في السنة المذكورة، وأنه أعطى أخاه عمر صنهاجة وغمارة، وبقي محمد هو الإمام حتى توفي، ولم يقع لنا تاريخ وفاته، فلما مات محمد ملك بعده ابن أخيه علي بن عمر المذكور ابن إِدريس بن إِدريس، وكانت إِمامة علي المذكور مضطربة، لم يتم له فيها أمر، فخلع عن قرب، وولي بعده ابن أخيه يحيى بن إِدريس عمران إدريس ابن إدريس، وهذا يحيى هو آخر أمتهم بفاس، وانقرضت دولتهم في هذه السنة، أعني سنة سبع وثلاثمائة، وتغلب عليهم فضالة بن جبوس، ثم ظهر من الأدارسة حسن بن محمد بن القاسم بن إِدريس بن إِدريس، ورام رد الدولة، وقد أخذت في الاختلال، ودولة المهدي عبيد الله في الإقبال، فملك عامين، ولم يتم له مطلب، وانقرضت دولتهم من جميع المغرب الأقصى، وحمِل غالب الأدارسة إلى المهدي المذكور، وولده، الأمن اختفى منهم في الجبال إِلى أن ثار بعد الأربعين والثلاثمائة إِدريس من ولد محمد بن القاسم بن إِدريس، فأعاد الإمامة لهذا البيت، ثم تغلب على بر العدوة، عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر، وخطب في تلك البلاد لبني أمية، ثم رجع عبد الملك إلى الأندلس، فاضطربت ببر العدوة دولته، فتغلب على قاس بنو أبي العافية، الزناتيون، حتى ظهر يوسف بن تاشفين، أمير المسلمين، واستولى على تلك البلاد. ثم دخلت سنة ثمان وسنة تسع وثلاثمائة. مقتل الحُسين بن منصور الحلاج كان الحسين بن منصور الحلاج الصوفي، يظهر الزهد والتصوف، ويظهر الكرامات، ويخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده إِلى الهواء، ويعيدها مملوءة دراهم، عليها مكتوب قل هو الله أحد، ويسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوه، وما صنعوه في بيوتهم، ويتكلم بما في ضمائرهم، فافتتن به خلق كثير، واعتقدوا فيه الحلول، واختلف الناس فيه، كاختلافهم في المسيح، فمن قائل إِنه قد حلّ فيه جزء إِلهي، ومن قائل إِنه ولي،

وما يظهر منه كراماته، ومن قائل إِنه مشعبذ ومتكهن وساحر كذاب. وقدم من خراسان إلى العراق، وسار إِلى مكة، وأقام بها سنة في الحجر، لا يستظل تحت سقف، وكان يصوم الدهر، وكان يفطر على ماء، ويأكل ثلاث عضات من قرص حَسْب، ولا يتناول شيئاً آخر، ثم عاد الحسين إِلى بغداد، فالتمس حامد الوزير، من المقتدر، أن يسلم إِليه الحلاج، فأمر بتسليمه إِليه، وكان حامد يخرج الحلاج إِلى مجلسه، ويستنطقه، فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة، وحامد الوزير مجد في أمره ليقتله، وجرى له معه ما يطول شرحه، وفي الآخر إِن الوزير رأى له كتاباً، حكى فيه أن الإنسان إِذا أراد الحج، ولم يمكنه، فرد من داره بيتاً نظيفَاً من النجاسات، ولا يدخله أحد، وإذا حضرت أيام الحج، طاف حوله، وفعل ما يفعله الحجاج بمكة، ثم يجمع ثلاثين يتيماً، ويعمل أجود طعام يمكنه، ويطعمهم في ذلك البيت، ويكسوهم، ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم، فإِذا فعل ذلك كان كمن حج، فأمر الوزير بقراءة ذلك قدام القاضي أبي عمرو، فقال القاضي للحلاج: من أين لك هذا؟ فقال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري فقال له القاضي: كذبت. يا حلال الدم، قد سمعناه بمكة، وليس فيه هذا، فطالب الوزير القاضي أبا عمرو أن يكتب خطه بما قاله، أنه حلاّل الدم، فدافعه القاضي، ثم ألزمه الوزير، فكتب بإباحة دم الحلاج، وكتب بعده من حضر المجلس، فلما سمع الحلاج ذلك قال: ما يحل لكم دمي وديني الإسلام، ومذهبي السنة، ولي فيها كتب موجودة، فالله الله في دمي، وكتب الوزير إِلى الخليفة يستأذنه في قتله، وأرسل الفتاوي بذلك، فأذن المقتدر في قتله، فضرب ألف سوط، ثم قطعت يده، ثم رجله، ثم قتل وأحرق بالنار، ونصب رأسه ببغداد. وفي هذه السنة توفي أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطا الصوفي، من كبار مشايخهم وعلمائهم، وإبراهيم بن هارون الحراني الطبيب. ثم دخلت سنة عشر وثلاثمائة في هذه السنة توفي أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين بأم طبرستان، وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصبراً بالمعاني، وكان من المجتهدين، لم يقلد أحداً، وكان فقيهاً عالماً عارفاً بأقاويل الصحابة والتابعين، ومن بعدهم. وله التاريخ المشهور، ابتدأ فيه من أول الزمان، إلى آخر سنة اثنتين وثلاثمائة، وكتاب في التفسير لم يفسر مثله، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، ولما مات تعصبت عليه العامة، ورموه بالرفض، وما كان سببه إِلا أنه صنف كتاباً فيه اختلاف الفقهاء، ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فقيل له في ذلك فقال: لم يكن أحمد بن حنبل فقيهاً، وإنما كان محدثاً، فاشتد ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، فشنعوا عليه بما أرادوه. وفيها توفي في ذي الحجة أبو بكر محمد بن السري بن سهل النحوي، المعروف بابن السراج، كان أحد الأئمة المشاهير، أخذ العلم عن أبي العباس المبرد، وأخذ عنه النحو جماعة، منهم أبو سعيد السيرافي، وعلي بن عيسى الرماني، وغيرهما، ونقل عنه الجوهري

في الصحاح، في مواضع عديدة، وله عدة مصنفات مشهورة. وكان مع كمال فضائله يلثغ في الراء، يجعلها غيناً، فأملى كلاماً يوماً بالراء، فكتبوه بالغين، فقال: لا بالغين بل بالغاء، وجعل يكررها على هذه الصورة، والسراج نسبة إلى عمل السروج، وقيل كانت وفاته في سنة خمس عشرة وثلاثمائة. ثم دخلت سنة إِحدى عشرة وثلاثمائة وفي هذه السنة كبست القرامطة، وكبيرهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجاني، البصرة ليلاْ، وعلوا على أسوارها، وقتلوا عاملها، وأقاموا بها سبعة عشر يوماً، يقتلون ويحملون منها الأموال. وفي هذه السنة توفي أبو محمد أحمد بن محمد بن محمد بن الحسين الجُريري، بضم الجيم، وهو من مشاهير مشايخ الصوفية، وإبراهيم بن السري الزجاج النحوي، صاحب كتاب معاني القرآن. وفيها توفي محمد بن زكريا الرازي الطبيب المشهور، وكان في شبيبته يضرب بالعود، فلما التحى قال: كل غناء يخرج من بين شارب ولحية لا يستحسن، فتركه وأقبل على دراسة كتب الطب والفلسفة، وقد جاوز الأربعين سنة، وطال عمره، وبلغ في معرفة العلوم التي اشتغل فيها الغاية، وصار إِمام وقته في علم الطب، والمشار إِليه، وصنف في الطب كتباً نافعة، فمنها الحاوي في مقدار ثلاثين مجلداً، وكتاب المنصوري وهو كتاب مختصر نافع، صنفه لبعض الملوك السامانية، ملوك ما وراء النهر. ثم دخلت سنة اثني عشرة وثلاثمائة في هذه السنة أخذ أبو طاهر القرمطي، الحجاج، وأخذ منهم أموالا عظيمة، وهلك أكثرهم بالجوع والعطش. وفي هذه السنة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسن بن الفرات، ثم سعوا في قتله، فأمر بقتله فذبح هو وولده المحسن، وكان عمر ابن الفرات إِحدى وسبعين سنة، وكان عمر ولده المحسن ثلاثاً وثلاثين سنة، واستوزر المقتدر بعده أبا القاسم الخاقاني. غير ذلك وفيها سار أبو طاهر القرمطي إِلى الكوفة، ودخلها بالسيف، وقتل فيها، وحمل منها شيئاً كثيراً، وأقام ستة أيام يدخل الكوفة نهاراً، ويخرج منها إِلى عسكره، ليلاً، وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال والثياب. ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة في هذه السنة توفي عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، وكان عمره مائة سنة وسنتين، وفيها توفي علي بن محمد بن بشار الزاهد. ثم دخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة في هذه السنة قلد المقتدر، يوسف ابن أبي الساج نواحي المشرق، وأمره بالمسير إِلى واسط، لمحاربة القرامطة، وكان يوسف المذكور بأذربيجان، فسار إِلى واسط لمحاربة القرامطة. وفي هذه السنة استولى نصر بن أحمد الساماني على الري، ومرض بها ثم سار عنها. ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة. أخبار القرامطة ومقتل ابن أبي السّاج في هذه السنة وصلت القرامطة إِلى الكوفة، فسار إِليهم يوسف بن أبي الساج من واسط،

بعسكر ضخم، تقدير أربعين ألفاً، وكانت القرامطة ألفاً وخمس مائة رجل، منهم سبع مائة فارس، وثمان مائة راجل، فلما رآهم أبو الساج احتقرهم، وقال: صدروا الكتب إِلى الخليفة بالفتح، فهؤلاء في يدي، واقتتلوا، فحملت القرامطة، فانهزم عسكر الخليفة، وأخذ يوسف بن أبي الساج مقدم العسكر أسيراً، ثم قتله أبو طاهر القرمطي، واستولى على الكوفة، وأخذ منها شيئاً كثيراً ثم جهز المقتدر إِلى القرامطة مؤنساً الخادم في عساكر كثيرة، فانهزم أكثر العسكر منهم قبل الملتقى، ثم التقوا، فانهزمت عساكر الخليفة، ووقع الجفل في بغداد خوفاً من القرامطة، ونهب القرامطة غالب البلاد الفراتية، ثم عادوا إلى هجر بالغنائم. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، ظفر عبد الرحمن الناصر بن محمد الأموي صاحب الأندلس، بأهل طليطلة، بعد حصارها مدة، لخلافهم عليه، وأخرب كثيراً من عمارتها. ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة في هذه السنة دخلت القرامطة إِلى الرحبة، فنهبوا وسبوا ثم ساروا إِلى الرقة، فنهبوا ربضها، ثم ساروا إِلى سنجار فنازلوها، وطلب أهلها الأمان فأمنوهم، ثم نهبوا الجبال وغيرها من البلاد، وعادوا إِلى هجر. وفي هذه السنة عزل المقتدر علي بن عيسى الوزير، وقبض عليه، وولى الوزارة أبا علي بن مقلة. ابتداء أمر مرداويج وكان قد استولى على جرجان، أسفار بن شيرويه، سنة خمس عشرة وثلاثمائة وكان في أصحاب أسفار، قائد من أكبر قواده، يقال له مرداويج بن زيار، من الديلم. فخرج مرداويج على أسفار، بعد أن بايع غالب العسكر في الباطن، فهرب أسفار، فطلبه مرداويج فأدركه وقتله، وابتدأ مرداويج في ملك البلاد من هذه السنة، فملك قزوين، ثم ملك الري، وهمدان، وكنكور، والدينور، وبروجرد، وقم، وقاشان، وأصفهان، وجرباذقان، وعمل له سريراً من ذهب، يجلس عليه، ويقف عسكره صفوفاً بالبعد عنه، ولا يخاطبه أحد إِلا الحجاب، الذين قد رتبهم لذلك، ثم استولى مرداويج على طبرستان. غير ذلك في هذه السنة، وصل الدمستق في جيش كبير من الروم، وحصر أخلاط، فطلبوا الصلح، فأجابهم على أن يقلع منبر الجامع، ويعمل موضعه صليباً، فأجابوا إِلى ذلك، وأخرجوا المنبر وجعلوا مكانه الصليب، ورحل إِلى بدليس، ففعل بهم كذلك، والدمستق اسم للنائب على البلاد التي في شرقي خليج قسطنطينية. وفيها مات يعقوب بن إسحاق بن إِبراهيم الإسفراييني، وله مسند مخرج على صحيح مسلم. وكنيته أبو عوانة الحافظ، طاف البلاد في طلب الحديث، سمع مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، وغيره من أئمة الحديث. ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة.

؟ خلع المقتدر في هذه السنة خلع المقتدر بالله من الخلافة، بسبب ما أنكره الجند والقواد عليه، من استيلاء النساء والخدام على الأمور، وكثرة ما أخذوا من الأموال والضياع، وانضم إِلى ذلك وحشة مؤنس الخادم. من المقتدر، فاجتمعت العساكر إِلى مؤنس، وقصدوا دار الخلافة، وأخرجوا المقتدر، ووالدته، وخالته، وخواص جواريه، وأولاده، من دار الخلافة، وحملوا إِلى دار مؤنس واعتقلوا بها، وأحضروا أخاه محمد بن المعتضد وبايعوه ولقبوه القاهر بالله، بعد أن ألزموا المقتدر بأن يشهد عليه بالخلع، فأشهد عليه القاضي أبا عمرو، بأنه خلع نفسه، ونهبت دار الخلافة، واستخرجوا من قبر في تربة بنتها أم المقتدر، ستمائة ألف دينار. عودة المقتدر إلى الخلافة فلما كان يوم الاثنين، سابع عشر المحرم، ثالث يوم خلع المقتدر، بكر الناس إِلى دار الخلافة، حتى امتلأت الرحاب، لأنه يوم موكب، ولم يحضر مؤنس المظفر ذلك اليوم، وحضرت الرجال المصافية بالسلاح، يطالبون بحق البيعة، وارتفعت زعقاتهم، فخرج من عند القاهر ياروك، ليطيب خواطرهم، فرأى في أيديهم السيوف المسلولة، فخافهم فرجع، وتبعوه فقتلوه في دار الخلافة، وصرخوا: يا مقتدر يا منصور، وهجموا على القاهر، فهرب واختفى، وتفرق عنه الناس، ولم يبق بدار الخلافة أحد، ثم قصد الرجالة دار مؤنس الخادم، وطلبوا المقتدر منه، فأخرجه وسلمه إِليهم، فحمله الرجالة على رقابهم حتى أدخلوه إلى دار الخلافة، ثم أرسل المقتدر خلف أخيه القاهر بالأمان وأحضره، وقال: قد علمت أنه لا ذنب لك، وقيل بين عينه وأمنه، فشكر إحسانه. ثم حبس القاهر عند والدة المقتدر، فأحسنت إليه ووسعت عليه، واستقر المقتدر في الخلافة، وسكنت الفتنة، وكان أشار مؤنس إعادة المقتدر إِلى الخلافة، وإنما خلعه موافقة للعسكر. ما فعله القرامطة بمكة وأخذهِم الحجر الأسود وفي هذه السنة، وافى أبو طاهر القرمطي مكة، يوم التروية، وكان الحجاج قد وصلوا إِلى مكة سالمين، فنهب أبو طاهر أموال الحجاج وقتلهم، حتى في المسجد الحرام وداخل الكعبة، وقلع الحجر الأسود من الركن، ونقله إلى هجر، وقتل أمير مكة ابن محلب وأصحابه، وقلع باب البيت، وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط فمات، وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن الباقين في المسجد الحرام، حيث قتلوا، وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة وقع بسبب تفسير قوله تعالى " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودًا " " الإسراء: 70 " ببغداد فتنة عظيمة بين الحنابلة وغيرهم، ودخل فيها الجند والعامة، واقتتلوا، فقتل بينهم قتلى كثيرة،

فقال أبو بكر المروزي الحنبلي وأصحابه: إِن معنى ذلك أن الله تعالى يقعد النبي صلى الله عليه وسلم معه على العرش، وقالت الطائفة الأخرى: إِنما هي الشفاعة، فاقتتلوا بسبب ذلك. وفي هذه السنة توفي محمد بن جابر بن سنان الحراني الأصل، البتاني الحاسب، المنجم المشهور، صاحب الزيج الصابي، واسمه يدل على إسلامه، وكذلك خطبته في زيجة، قال ابن خلكان: ولم أعلم أنه أسلم، وله الأرصاد المتقنة، وابتدأ بالرصد قي سنة أربع وستين ومائتين، إلى سنة ست وثلاثمائة وأثبت الكواكب الثابتة في زيجة لسنة تسع وتسعين ومائتين، وزيجة نسختان: أولى وثانية، والثانية أجود، والبتاني بفتح الباء الموحدة من تحتها، وقيل بكسرها نسبة إلى بتان، وهي ناحية من أعمال حران. وفيها توفي نصر بن أحمد بن نصر البصري، المعروف بالخبزأرزي، الشاعر المشهور، كان أديباً راوية للشعر، وكان أمياً لا يعرف أن يتهجا، ولا يكتب، وكان يخبز خبز الأرز، بمربد البصرة، وله الأشعار الفائقة منها: خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأحسن مِنْ مولى تمشى إلى عبد أتى زائري من غير وعد وقال لي ... أجلك عن تعليق قلبك بالوعد فما زال نجم الوصل بيني بينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد فطوراً على تقبيل نرجس ناظر ... وطوراً على تقبيل تفاحة الخد ثم دخلت سنة ثماني عشرة وثلاثمائة في هذه السنة أخرجت الرجالة المصافية من بغداد، فإِنهم استطالوا بالكلام والفعل، من حين أعادوا المقتدر إِلى الخلافة، فجرى بينهم وبين الجند وقعة، وقتل بينهم قتلى، فهربت الرجالة المصافية إلى واسط، واستولوا عليها، فسار إِليهم مؤنس الخادم، وقتل منهم وشردهم. وفيها وقيل بل في السنة التي قبلها، توفي أبو بكر الحسن بن علي بن أحمد بن بشار، المعروف بابن العلاف، الضرير النهرواني، وقد بلغ عمره مائة سنة، وهو ناظم مراثي الهر المشهورة التي منها: يا هر فارقتنا ولم تعد ... وكنت منا بمنزل الولدِ وكان قلبي عليك مرتعداً ... وأنت تنساب غير مُرتعدِ تدخل برجٍ الحمام متئدا ... وتبلع الفرخ غير متئدِ صادوك غيظاً عليك وانتقموا ... منك، وزادوا ومن يصد يُصدِ ولم تزل للحمام مرتصدا ... حتى سقيت الحمام بالرصد يا من لذيذُ الفراخ أوقعه ... ريحك هلا قنعت بالغددَ لا بارك الله في الطعام إِذا ... كان هلاك النفوس في المعدَ كم دخلت لقمة حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسدَ ما كان أغناك عن تسلقك ال ... برج ولو كان جنة الخلدِ

خلافة القاهر بالله

وهي قصيدة طويلة مشهورة، واختلف في سبب عملها، فقيل: كان له قط حقيقة وقتله الجيران فرثاه، وقيل بل رثى بها ابن المعتز، ولم يقدر يذكره خوفاً من المقتدر، فورّى بالقط، وقيل: بل هويت جارية علي بن عيسى، غلاماً لأبي بكر بن العلاف المذكور، ففطن بهما علي بن عيسى فقتلهما جميعاً، فقال أبو بكر مولاه هذه القصيدة يرثيه، وكنى عنه بالهر. ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة في هذه السنة، أرسل المقتدر عسكراً لقتال مرداويج، فالتقوا بنواحي همدان، فانهزم عسكر الخليفة، واستولى مرداويج على بلاد الجبل جميعاً، وبلغت عساكره في النهب إِلى نواحي حلوان، ثم أرسل مرداويج عسكراً إِلى أصفهان، فملكوها. وفي هذه السنة في ذي الحجة تأكدت الوحشة بين مؤنس الخادم وبين المقتدر. ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة في هذه السنة سار مؤنس الخادم إلى الموصل مغاضباً للمقتدر، واستولى المقتدر على أقطاع مؤنس وماله وأملاكه وأملاك أصحابه، وكتب إِلى بني حمدان أمراء الموصل، بصد مؤنس عن الموصل وقتاله، فجرى بين مؤنس وبينهم قتال، فانتصر مؤنس واستولى على الموصل، واجتمعت عليه العساكر من كل جهة، وأقام مؤنس بالموصل تسعة أشهر. قتل المقتدر ولما اجتمعت العساكر بالموصل عند مؤنس الخادم، سار بهم إِلى جهة بغداد، فقدم تكريت، ثم سار حتى نزل بباب الشماسية، فلما رأى المقتدر ضعفه، وانعزال العسكر عنه، قصد الانحدار إِلى واسط ثم اتفق من بقي عنده على قتال مؤنس، ومنعوه من التوجه إِلى واسط، فخرج المقَتدر إِلى قتال مؤنس وهو كاره ذلك، وبين يدي المقتدر الفقهاء والقراء، ومعهم المصاحف منشورة، وعليه البردة، فوقف على تل، ثم ألح عليه أصحابه بالتقدم إِلى القتال فتقدم، ثم انهزمت أصحابه، ولحق المقتدر قوم من المغاربة فقال لهم: ويحكم أنا الخليفة. فقالوا: قد عرفناك يا سفلة، أنت خليفة إِبليس، فضربه واحد بسيفه فسقط إِلى الأرض وذبحوه، وكان المقتدر ثقيل البدن، عظيم الجثة، فلما قتلوه رفعوا رأسه على خشبة، وهم يكبرون ويلعنونه، وأخذوا ما عليه حتى سراويله، ثم حُفر له في موضعه، وعفي قبره، وحمل رأس المقتدر إلى مؤنس، وهو بالراشدية، لم يشهد الحرب، فلما رأى رأس المقتدر، لطم وبكى، وكان المقتدر قد أهمل أحوال الخلافة، وحكم فيها النساء والخدم، وفرط في الأموال، وكانت مدة خلافته أربعاً وعشرين سنة، وأحد عشر شهراً، وستة عشر يوما، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة. خلافة القاهر بالله وهو تاسع عشرهم، كان مؤنس الخادم قد أشار بإِقامة ولد المقتدر، أبي العباس، فاعترض عليه أبو يعقوب إِسحاق بن إِسماعيل النوبختي بأن هذا صبي، ولا يولى إلا من يدبر نفسه ويدبرنا، وكان في ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه، فإن القاهر قتل النوبختي المذكور فيما بعد، فأحضروا

القاهر بالله، وهو محمد بن المعتضد، وبايعوه لليلتين بقيتا من شوال هذه السنة، ثم أحضر القاهر أم المقتدر وسألها عن الأموال، فاعترفت بما عندها من المصاغ والثياب فقط، فضربها أشد ما يكون من الضرب، وكانت مريضة، قد بدأ بها الاستسقاء، ثم علقها برجلها، فحلفت أنها ما تملك غير ما أطلعته عليه، واستوزر القاهر أبا علي بن مقلة، وعزل وولى وقبض على جماعة من العمال. غير ذلك وفي هذه السنة. توفي القاضي أبو عمرو محمد بن يوسف، وكان فاضلاً. وأبو الحسين ابن صالح الفقيه الشافعي، وكان عابداً. وأبو نعيم عبد الملك الفقيه الشافعي الجرجاني المعروف بالأشتر الأستراباذي. ثم دخلت سنة إِحدى وعشرين وثلاثمائة فيها في جمادى الآخرة، ماتت شعب، والدة المقتدر، ودفنت في تربتها بالرصافة. وفي هذه السنة حصلت الوحشة بين مؤنس وبين القاهر، وكان مؤنس قد أقام بليق حاجباً، وجعل أمر دار الخلافة إِليه، فضيق على القاهر، ومنع دخول امرأة إِلى دار الخلافة، حتى يعرف من هي، فإِن القاهر، قد استمال جماعة في الباطن، للقبض على بليق، الحاجب ومؤنس، واتفق مع القاهر على ذلك، طريف السبكري وهو من أكبر القواد. القبض على مؤنس الخادم وبليق في هذه السنة، في أول شعبان، قبض القاهر بالله على بليق الحاجب وابنه ومؤنس، لأنهم اتفقوا على خلع القاهر، وإقامة أبي أحمد بن المكتفي، واتفق معهم الوزير ابن مقلة على ذلك، فاستمال القاهر طريف السبكري، واتفق معه ومع الساجية، على قبض ابن بليق، وأمكنهم في الدهاليز والممرات، وحضر ابن بليق بجماعة، وقصد الاجتماع بالخليفة، وأظهر أنه يريد الاجتماع به بسبب القرامطة، وكان قصده القبض على الخليفة، ولم يعلم ابن بليق بما أعد له القاهر، فلما دخل دار الخلافة، قبض عليه، وبلغ أباه بليق ذلك، وكان منقطعاً في داره بسبب مرض حصل له، فركب وحضر إِلى دار الخلافة بسبب ذلك، فقبض عليه أيضاً، ثم أرسل القاهر يستدعي مؤنساً فامتنع عن الحضور، فحلف له أنه آمن، ويريد أن يعرفه ما بلغه من اتفاق بليق وابنه على خلعه، فإن كان كذباً أفرج عنهما، وما زال يحلف لمؤنس حتى حضر، فقبض عليه أيضاً، وعزل أبا علي بن مقلة، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله، ثم جد في طلب أبي أحمد ابن المكتفي، فظفر به فبنى عليه حائطاً فمات. قتل مؤنس وبليق وابنه لما أمسك القاهر المذكورين، شغب الجند أصحاب مؤنس، وكانوا غالب العسكر، وثاروا بسبب حبس مؤنس، فطلبوا إِطلاقه، فعمد القاهر إِلى ابن بليق، وذبحه ووضع رأسه في طست، وكان

قد حبسهم متفرقين، ثم أحضر الرأس في الطست إِلى أبيه بليق، فأخذ أبوه يبكي ويترشف الرأس، ثم قتله القاهر، وجعل رأس بليق مع رأس ولده في الطست، وأحضرهما إِلى مؤنس فلما رأى مؤنس الرأسين، تشاهد ولعن قاتلهما، فقتله أيضاً، وأطلع ثلاثة رؤوسهم، فطيف بها في بغداد، ونودي هذا جزاء من يخون الإمام، ثم نظفت وجعلت الرؤوس في خزانة الرؤوس، على جاري عادتهم، ثم عزل القاهر أبا جعفر الوزير ووالي الخصيبي الوزارة، ثم قبض على طريف السبكري، وكان من أكبر القواد، وهو الذي اتفق مع القاهر على قبض مؤنس وغيره، ولولاه لم يقدر القاهر على فعل ما فعله. ابتداء دولة بني بويه كان بويه رجلاً متوسط الحال من الديلم، وكنيته أبو شجاع، ولما عظمت مملكة بني بويه، اشتهر نسبهم، فقالوا بويه بن فنا خسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزير الأصغر بن شيركنده بن شيرزير الأكبر بن شيران شاه بن شيرفنه بن بستان شاه بن شيرفيروز بن شيروزيك بن سبسذا بن بهرام جور الملك ابن يزد جرد الملك، وباقي النسب إِلى أزدشير بن بابك، قد تقدم في أخبار ملوك الفرس الأكاسرة. وكان لبويه المذكور ثلاثة أولاد، وهم عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة الحسن، ومعز الدولة أبو الحسين أحمد، أولاد بويه أبي شجاع المذكور، وكانوا في خدمة ماكان بن كاكي الديلمي، ولما ملك من الديلم أسفار بن شيرويه، ومرداويج على ما أشرنا إليه، ملك ماكان بن كاكي الديلمي طبرستان، وكان أولاد بويه الثلاثة المذكورون من جملة عسكره، متقدمين عنده، فلما استولى مرداويج على ماكان بيد ماكان بن كاكي من طبرستان، سار ماكان عن طبرستان، واستولى على الدامغان، ثم انهزم ما كان بن كاكي وعاد إِلى نيسابور مهزوماً، وأولاد بويه المذكورون معه لا يفارقونه، فلما رأوا ضعفه وعجزه عن مقاتلة مرداويج قالوا: نحن معنا جماعة، وأنت مضيق، والأصلح أن نفارقك لنخف المؤنة عنك، فإذا صلح أمرك، عدنا إِليك، فأذن لهم ففارقوه ولحقوا بمرداويج، وتبعهم في ذلك جماعة من قواد ماكان، فأحسن إِليهم مرداويج، وقلد عماد الدولة علي بن بويه كرج، ولما استقر عماد الدولة في كرج، قوي وكثر جمعه، ثم أطلق مرداويج لجماعة من قواده مالاً على كرج، فلما وصلوا لقبض المال، أحسن إِليهم علي بن بويه المذكور، واستمالهم فمالوا إِليه، حتى أوجبوا طاعته. وبلغ ذلك مرداويج، فاستوحش من ابن بويه، ثم قصد ابن بويه المذكور أصفهان وبها ابن ياقوت، فاقتتلوا فانهزم ابن ياقوت واستولى ابن بويه على أصفهان وكان صحاب ابن بويه تسع مائة رجل، وعسكر ابن ياقوت عشرة آلاف، فلما هزم عماد الدولة بتسع مائة، عشرة آلاف، عظم في عيون الناس وقويت هيبته، وبقي مرداويج يراسل ابن بويه، ويستدعيه بالملاطفة، وابن بويه يعتذر ولا يحضر إِليه، وأقام ابن بويه بأصفهان

شهرين، وجبى أموالها وارتحل إِلى أرجان، وكان قد هرب إِليها ابن ياقوت، واسمه أبو بكر، فانهزم من بين يدي ابن بويه بغير قتال، فاستولى ابن بويه على أرجان في ذي الحجة، سنة عشرين وثلاثمائة، ثم سار ابن بويه إِلى النوبندجان، واستولى عليها في ربيع الآخر من هذه السنة أعني سنة إِحدى وعشرين وثلاثمائة ثم أرسل عماد الدولة، أخاه ركن الدولة، إِلى كازرون وغيرها من أعمال فارس، فاستخرج أموالها، ثم كان منهم ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة توفي أبو بكر محمد بن الحسين بن دريد اللغوي، في شعبان. وولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وأخذ العلم عن أبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي، وغيرهما، وكان فاضلاً شاعراً، نظم قصيدته المقصورة، المعروفة بمقصورة ابن دريد، وله تصانيف كثيرة في النحو واللغة، منها كتاب الجمهرة، وله كتاب الخيل. وكان ابن دريد قد ابتلى بشرب النبيذ، ومحبة سماع العيدان، قال الأزهري: دخلت على ابن دريد فوجدتهّ سكران، فلم أعد بعدها إِليه. قال ابن شاهين: كنا ندخل على ابن دريد، فنستحي مما نرى من العيدان المعلقة، والشراب المصفى، وكان قد جاوز التسعين. وفيها توفي أبو هاشم بن أبي علي الجبائي المتكلم المعتزلي، ومولده سنة سبع وأربعين ومائتين، أخذ العلم عن أبيه، أبي علي، واجتهد حتى صار أفضل من أبيه. قال أبو هاشم: كان أبي أكبر مني باثنتي عشرة سنة، وكان موت أبي هاشم وابن دريد في يوم واحد، فقال الناس: اليوم دفن علم الكلام وعلم اللغة، ودفنا بمقابر الخيزران ببغداد. وفيها توفي محمد بن يوسف بن مطر الفربري، وكان مولده سنة إِحدى وثلاثين ومائتين، وهو الذي روى صحيح البخاري عنه، وكان قد سمعه من البخاري عشرات ألوف، وهو منسوب إِلى فربر - بالفاء والراء المهملة المفتوحتين ثم باء موحدة من تحتها ساكنة وبعدها راء مهملة - وفربر المذكورة، قرية ببخارى، كذا نقله ابن الأثير في تاريخه الكامل، وقد ذكر القاضي شمس الدين بن خلكان، أن فربر المذكورة بلدة على طرف جيحون. وفيها توفي بمصر أبو جعفر أحمد بن محمد ابن سلامة الأزدي الطحاوي، الفقيه الحنفي، انتهت إِليه رياسة أصحاب أبي حنيفة بمصر، وكان شافعي المذهب، وقرأ على المزني، فقال له: والله لا جاء منك شيء. فغضب الطحاوي من ذلك، وانتقل واشتغل بمذهب أبي حنيفة، وبرع فيه، وصنف كتباً مفيدة، منها أحكام القرآن، واختلاف العلماء ومعاني الآثار، وله تاريخ كبير، وكانت ولادته سنة ثمان وثلاثين ومائتين. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة في هذه السنة استولى عماد الدولة بن بويه على شيراز. خلع القاهر بالله وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، خلع القاهر، بسبب ما ظهر منه من الغدر، بطريف

خلافة الراضي بالله

والسبكري وغشه في اليمين بالأمان للذين قتلهم، وكان ابن مقلة مستتراً من القاهر، والقاهر يجتمع بالقواد ويغريهم به، وكان ابن مقلة يظهر تارة بزي عجمي، وتارة بزي مكدي. وأعطى لبعض المنجمين مائة دينار، ليقول للقواد أن عليه قطعاً من القاهر، وكذلك أعطى لبعض معبري المنامات، ممن كان يعبر المنامات لسيما القائد، أنه إذا قص عليه سيما مناماً، يعبره بما يخوفه به من القاهر، ففعلوا بذلك، فاستوحش سيما مقدم الساجية، وغيره من القاهر، واتفقوا على القبض على القاهر، فاجتمعوا وحضروا إِليه، وكان القاهر قد بات يشرب أكثر ليلته، وهو سكران نائم، فأحدقوا بالدار، فاستيقظ القاهر مخموراً، وأوثقت الأبواب عليه، فهرب إلى سطح حمام هناك، فتبعوه وأخذوه، وأتوا به إِلى الموضع الذي فيه طريف السبكري، فأخرجوا طريفاً وحبسوا القاهر موضعه، ثم سملوا عيني القاهر، وكانت خلافته سنة واحدة وستة أشهر وثمانية أيام. خلافة الراضي بالله وهو العشرون من خلفاء بني العباس. لما قبض على القاهر، كان أبو العباس أحمد بن المقتدر ووالدته محبوسين، فأخرجوه وأجلسوه على سرير القاهر، وسلموا عليه بالخلافة ولقبوه الراضي بالله، وبويع بالخلافة يوم الأربعاء، لست خلون من جمادى الأولى. في هذه السنة، أعني سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وأشار سيما القائد بوزارة ابن مقلة، فاستوزره الراضي بالله، وراودوا القاهر أن يشهد عليه بالخلع، فامتنع وهو في الحبس أعمى. وفاة المهدي العلوي صاحب إِفريقية وولاية ولده القائم في هذه السنة، في ربيع الأول، توفي المهدي عبيد الله العلوي الفاطمي بالمهدية، وأخفى ولده القائم أبو القاسم محمد موته سنة، لتدبير ما كان له، وكان عمر المهدي ثلاثاً وستين سنة، وكانت ولايته أربعاً وعشرين سنة وشهراً وعشرين يوماً، ولما أظهر ابنه القائم وفاته بايعه الناس واستقرت ولايته. قتل ابن الشلمغاني وحكاية شيء من منصبه الخبيث في هذه السنة، قتل محمد بن علي الشلمغاني، وشلمغان المنسوب إِليها، قرية بنواحي واسط وأحدث مذهباً مداره على حلول الإلهية، والتناسخ، والتشيع، وقيل إِنه اتبعه على ذلك الحسين بن القاسم بن عبيد الله، الذي وزر للمقتدر، واتبعه أيضاً أبو جعفر، وأبو علي ابنا بسطام، وإبراهيم بن أبي عون، وأحمد بن محمد بن عبدوس، وكان محمد الشلمغاني وأصحابه مستترين. فظهر في شوال من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة فأمسكه ابن مقلة الوزير، فأنكر الشلمغاني مذهبه، وكان أصحابه يعتقدون فيه الإلهية، فأمسك وأحُضر إِلى عند الراضي، وأمسك معه ابن أبي عون، وابن عبدوس، فأمروهما بصفع الشلمغاني فامتنعا، فلما أُكرِها،

مد ابن عبدوس يده وصفعه، وأما ابن أبي عون فإنه مد يده ليصفعه فارتعدت يده، فقبل لحية الشلمغاني ورأسه، وقال: إلهي وسيدي ورازقي. فقالوا للشلمغاني: أما قلت إنك لم تدع الإلهية؟ فقال: إني ما ادعيتها قط وما عليّ من قول ابن أبي عون عني مثل هذا: ثم اصرفا وأحضر الشلمغاني عدة مرات بحضور الفقهاء، وآخر الأمر إِن الفقهاء أفتوا بإباحة دمه، فصلب ابن الشلمغاني وابن أبي عون، في ذي القعدة من هذه السنة، وأحرقا بالنار، فمن مذهبه، لعنه الله، أنّ الله يحل في كل شيء على قدر ما يحتمله ذلك الشيء، وأن الله خلق الضد ليدل به على المضدود، فحلّ الله في آدم، وفي إِبليس أيضاً، وكلاهما ضد لصاحبه، ومن مذهبه: أنّ الدليل على الحق، أفضل من الحق، وأن الضد أقرب إِلى الشيء من شبهه، وأن الله إِذا حلّ في جسد ناسوتي، أظهر فيه من القدرة ولمعجزة ما يدل على أنه هو، وأنّ الإلهية اجتمعت في نوح وإبليسه، ثم افترقت بعده، ثم اجتمعت في صالح وإبليسه، عاقر الناقة، ثم افترقت بعده، ثم اجتمعت في إِبراهيم وإبليسه نمرود، ثم افترقت بعدهما، وكذلك القول في هارون وفرعون، ثم في سليمان وإبليسه، ثم في عيسى وإبليسه، ثم افترقت في الحواريين، ثم اجتمعت في علي بن أبي طالب وإبليسه. ومن مذهبه: أنه من احتاج الناس إِليه، فهو إِله، ومن مذهبه ومذهب أصحابه: أنهم يسمون موسى ومحمداً صلوات الله عليهما وسلامه، الخائنين، لأن هارون وعلياً، أرسلا موسى ومحمداً فخاناهما، وأن علياً أمهل محمداً صلى الله عليه وسلم عدة سني أصحاب الكهف، وهي ثلاثمائة وخمسون سنة، فإِذا انقضت، انتقلت الشريعة. ومن مذهبه ترك الصلاة والصوم، وغيرهما من العبادات، ويبيحون الفروج، وأن يجامع الإنسان من شاء من ذوي رحمه، وأنه لا بد للفاضل منهم أن ينكح المفضول، ليولج النور فيه، وأنه من امتنع من ذلك، قلب في الدور الثاني امرأة، إِذ كان مذهبهم التناسخ، ولعل هذه المقالة هي المقالة النصرية. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة قتل إسحاق بن إِسماعيل النوبختي، قتله القاهر قبل أن يخلع، وكان النوبختي المذكور، هو الذي أشار باستخلافه وفي هذه السنة سار الدمستق إلى بلاد الإسلام، ففتح ملطية بالأمان، بعد حصار طويل، وأخرج هلها، وأوصلهم إِلى مأمنهم، وذلك في مستهل جمادى الآخرة، وفعل الروم الأفعال القبيحة بالمسلمين، وصارت أكثر البلاد في أيديهم. وفي هذه السنة توفي أبو نعيم الفقيه الجرجاني الأستراباذي، وأبو علي محمد الروزباري الصوفي. وفيها توفي حسين ابن عبد الله النساج الصوفي، من أهل سامراء، وكان من الأبدال، ومحمد بن علي بن جعفر الكتاني الصوفي المشهور، وهو من أصحاب الجنيد. ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.

قتل مرداويج بن زيار في هذه السنة قتل مرداويج الديلمي، صاحب بلاد الجبل وغيرها وسبب ذلك: أنه لما كان ليلة الميلاد، من هذه السنة، أمر بأن تجمع الأحطاب وتلبس الجبال والتلال، وخرج إِلى ظاهر أصفهان لذلك، وجمع ما يزيد عن ألفي طائر من الغربان، ليعمل في أرجلها النفط، ليشعل ذلك كله ليلة الميلاد، وأمر بعمل سماط عظيم، فيه ألف فرس، وألفا رأس بقر، ومن الغنم والحلوى شيء كثير، فلما استوى ذلك ورآه، استحقره وغضب على أهل دولته، وكان كثير الإِساءة إِلى الأتراك الذين في خدمته، فلما انقضى السماط، وإيقاد النيران، وأصبح ليدخل إِلى أصفهان، اجتمعت الجند المخدمة، وكثرت الخيل حول خيمته، فصار للخيل صهيل وغلبة حتى سمعها فاغتاظ، وقال: لمن هذه الخيل القريبة؟ فقالوا للأتراك. فأمر أن توضع سروجها على ظهور الأتراك، وأن يدخلوا البلد. كذلك، ففعل بهم ذلك فكان له منظر قبيح استقبحه الديلم والترك، فازداد حنق الأتراك عليه، ورحل مرداويج إلى أصفهان وهو غضبان، فأمر صاحب حرسه أن لا يتبعه في ذلك اليوم، ولم يأمر أحداً غيره ليجمع الحرس، ودخل الحمام، فانتهزت الأتراك الفرصة، وقتلوه في الحمام، وكان مرداويج قد تجبر وعتا، وعمل لأصحابه كراسي فضة يجلسون عليها، وعمل لنفسه تاجاً مرصعاً على صفه تاج كسرى، ولما قُتل قام بالأمر بعده أخوه وشمكير بن زيار. فتنة الحنابلة ببغداد وفيها عظم أمر الحنابلة على الناس، وصاروا يكبسون دور القواد والعامة فإن وجدوا نبيذاً أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في البيع والشراء، وفي مشي الرجال مع الصبيان، ونحو ذلك، فنهاهم صاحب الشرطة عن ذلك، وأمر أن لا يصلي منهم إِمام إِلا إِذا جهر ببسم الله الرحمن الرحيم فلم يفد فيهم، فكتب الراضي توقيعاً ينهاهم فيه، ويوبخهم باعتقاد التشبيه، فمنه: إنكم تارة تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين، وهيئتكم على هيئته، وتذكرون له الشعر القطط، والصعود إلى السماء، والنزول إلى الدنيا، وعدد فيه قبائح مذهبهم، وفي آخره أن أمير المؤمنين يقسم قسماً عظيماً، لئن لم تنتهوا، ليستعملن السيوف في رقابكم، والنار في منازلكم ومحالكم. ولاية الأخشيدية مصر وفي هذه السنة، تولى الأخشيدية وهو محمد بن طفج بن جف، مصر، من جهة الراضي. وكان الأخشيد المذكور قبل ذلك، قد تولى مدينة الرملة سنة ست عشرة وثلاثمائة من جهة المقتدر، وأقام بها إلى سنة ثمان عشرة وثلاثمائة فوردت إليه كتب المقتدر بولايته دمشق،

فسار إليها وتولاها، وكان حينئذ المتولي على مصر أحمد بن كيغلغ، فما تولى الراضي، عزل أحمد بن كيغلغ، وولى الأخشيد المذكور مصر، وضم إليها البلاد الشامية، فسار الأخشيد من الشام إلى مصر، واستقر بها يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. قتل أبي العلاء بن حمدان كان ناصر الحسن بن عبد الله بن حمدان، هو أمير الموصل وديار ربيعة، وكان أول من تولى الموصل منهم، أبو ناصر الدولة المذكور، وهو عبد الله، وكنيته أبو الهيجاء، ولاه عليها المكتفي، وقيل أبو الهيجاء المذكور ببغداد، في المدافعة عن القاهر، لما قبض عليه، وكان ابنه ناصر الدولة المذكور نائباً عنه بالموصل، واستمر بها إلى هذه السنة، فضمن عمه أبو العلاء بن حمدان مابيد ابن أخيه، من ديوان الخليفة، بمال يحمله، وسار أبو العلاء إلى الموصل، فقتله ابن أخيه ناصر الدولة، فلما بلغ الخليفة ذلك، أرسل عسكراً إلى ناصر الدولة مع ابن مقلة الوزير، فلما وصل إلى الموصل، هرب ناصر الدولة، ولم يدركه، فأقام ابن مقلة بالموصل مدة، ثم عاد إلى بغداد، فعاد ناصر الدولة إلى الموصل، وكتب إلى الخليفة يسأله الصفح، وضمن الموصل بمال يحمله، فأجيب إلى ذلك. فتح جنوة وغيرها وفي هذه السنة سير القائم العلوي صاحب المغرب جيشاً من إفريقية في البحر، ففتحوا مدينة جنوة، وأوقعوا بأهل سردانية، وعادوا سالمين. غير ذلك من الحوادث فيها استولى عماد الدولة بن بويه على أصفهان، وبقي هو وشمكير يتنازعان تلك البلاد، وهي أصفهان، وهمذان، وقم، وقاشان، وكرج، والري، وكنكور، وقزوين وغيرها. وفي هذه السنة في جمادى، شغب الجند ببغداد، ونقبوا دار الوزير، وهرب الوزير وابنه إلى الجانب الغربي، ثم راضوهم فسكنوا. وفيها توفي إبراهيم ابن محمد بن عرفة، المعروف بنفطويه النحوي الواسطي، وله مصنفات، وهو من ولد المهلب بن أبي صفرة، ولد سنة أربع وأربعين ومائتين، وفيه يقول الشيخ محمد بن زيد بن علي المتكلم: من سره أن لا يرى فاسقاً ... فليجتهد أن لا يرى نفطويه أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صراخاً عليه ثم دخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة في هذه السنة، قبض الحجرية والمظفر بن ياقوت على الوزير ابن مقلة، لما حضر إلى دار الخلافة على العادة، وأرسلوا أعلموا الخليفة، فاستحسن ذلك، ثم اتفقوا

غير ذلك من الحوادث

على وزارة علي بن عيسى، فامتنع، فولوا الوزارة أخاه عبد الرحمن بن عيسى، ثم قبض عليه، وولوا الوزارة أبا جعفر محمد بن قاسم الكرخي. وفي هذه السنة قطع ابن رائق حمل واسط والبصرة، وقطع البديدي حمل الأهواز وأعمالها، فضاقت أموال بغداد، وعجز أبو جعفر الوزير فعزلوه، وكانت ولايته ثلاثة أشهر ونصف، واستوزر سليمان بن الحسن، ودام الحال على توقفه، فراسل الخليفة محمد بن رائق وهو بواسط يستقدمه ليقوم بالأمور وقلده إمارة الجيش، وأمر أن يخطب له على المنابر، وقدم ابن رائق بغداد في أواخر ذي الحجة من هذه السنة، وكان ابن رائق قد أمسك ساجية قبل دخوله إلى بغداد، فاستوحشت الحجرية منه، ومن حين دخل ابن رائق بطلت الوزارة من بغداد، وبقي ابن رائق هو الناظر في الأمور جميعها، وتغلب عمال الأطراف عليها، ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها، والحكم فيها لابن رائق، وليس للخليفة فيها حكم، وأما باقي الأطراف فكانت البصرة في يد ابن رائق المذكور. وخورستان في يد البريدي. وفارس في يد عماد الدولة ابن بويه. وكرمان في يد أبي علي محمد بن إلياس. والري وأصفهان والجبل في يد ركن الدولة ابن بويه ويد وشمكير ابن زيار أخي مرداويج، يتنازعان عليها. والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد بني حمدان. ومصر والشام في يد الأخشيد محمد بن طغج والمغرب وإفريقية في يد القائم العلوي ابن المهدي. والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمد الأموي الملقب بالناصر. وخراسان وما وراء النهر في يد نصر بن أحمد بن سامان الساماني. وطبرستان وجرجان في يد الديلم. والبحرين واليمامة في يد أبي طاهر القرمطي. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، استقدم محمد بن رائق الفضل بن جعفر بن الفرات، وكان على خراج مصر والشام، فقدم بغداد وتولى الوزارة لابن رائق والخليفة. وفي هذه السنة قلد الخليفة محمد بن طغج مصر وأعمالها، مضافاً إِلى ما بيده من الشام بعد عزل أحمد بن كيغلغ عن مصر. وفي هذه السنة ولد عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو ابن ركن الدولة الحسن بن بويه بأصفهان. وفيها توفي جحظة البرمكي من ولد يحيى بن خالد بن برمك، وكان عارفاً بفنون شتى من العلوم. وفيها توفي عبد الله ابن أحمد بن محمد بن المفلس الفقيه الظاهري، صاحب التصانيف المشهورة، وعبد الله بن محمد الفقيه الشافعي النيسابوري، ومولده سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وكان قد جالس الربيع والمزني ويونس، أصحاب الشافعي، وكان إماماً. ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة في هذه السنة، أشار محمد بن رائق على الراضي بالمسير معه إِلى واسط، لحرب ابن البريدي، فأجابه، وسار الراضي إِلى واسط،

وأمسك ابن رائق بعض الأجناد الحجرية، وأجاب ابن البريدي إِلى ما طلب منه، ثم عاد الراضي وابن رائق إِلى بغداد، ثم نكث أبو عبد الله بن البريدي عما أجاب إِليه، فأرسل ابن رائق عسكراً مع بجكم، واقتتل مع أبي عبد الله بن اليريدي، فانهزم ابن البريدي إِلى عماد الدولة بن بويه، وطمّعه في العراق وهون عليه أمر الخليفة. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة، أساء عامل صقلية السيرة، وظلم، وكان عاملاً للقائمَ العلوي، واسمه سالم بن راشد فعصت عليه جرجنت، من صقلية، وكتب إِلى القائم بذلك، فجهز إِليه عسكراً وحاصروا جرجنت، فاستنجد أهل جرجنت بملك قسطنطينية فأنجدهم، ودام الحصار إِلى سنة تسع وعشرين، فسار بعض أهلها، ونزل الباقون بالأمان، فأخذوا كبارهم وجعلوهم في مركب، ليقدموا على القائم بإفريقية، فلما توسطوا اللجة، أمر مقدم جيش القائم فنقب مركبهم، وغرقوا عن آخرهم. وفيها توفي عبد الله بن محمد الخزاز النحوي، وله تصانيف في علوم القرآن. ثم دخلت سنة ست وعشرين وثلاثمائة في هذه السنة سار معز الدولة بأمر أخيه عماد الدولة ابن بويه إِلى الأهواز، وتلك البلاد، فاستولى عليها، وكان سبب ذلك مسير ابن البريدي إلى عماد الدولة كما أشرنا إليه. قطع يد أبي علي ابن مقلة وكان سببه: أنه سعى في القبض على ابن رائق، وإقامة بجكم موضعه وعلم ابن رائق بذلك، فحبسه الراضي لأجل ابن رائق وترددت الرسل بين الراضي وبين ابن رائق في معنى ابن مقلة مرات عدة، وآخرها أنهم أخرجوا ابن مقلة فقطعوا يده في منتصف شوال، وعولج فبرأ، وعاد يسعى في الوزارة، وكان يشد القلم على يده المقطوعة ويكتب، ثم بلغ ابن رائق سعيه، وأنه يدعو عليه وعلى الراضي، فأمر بقطع لسانه، فقطع، وضيق عليه في الحبس، ثم لحق ابن مقلة مع ما هو فيه الذرب، ولم يكن عنده في الحبس من يخدمه، فقاسى شدة إِلى أن مات في الحبس، في شوال سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، ودفن بدار الخليفة، ثم إِن أهله سألوا فيه فنبش وسلم إِليهم، فدفنوه في داره، ثم نبش ونقل إِلى دار أخرى، ومن العجب أنه ولي الوزارة ثلاث دفعات، ووزر لثلاثة خلفاء: المقتدر، والقاهر، والراضي. وسافر ثلاث سفرات، اثنتين إِلى شيراز، وواحدة في وزارته إِلى الموصل، ودفن بعد موته ثلاث مرات. استيلاء بجكم على بغداد وفي هذه السنة، سار بجكم من واسط إِلى بغداد، غرة ذي القعدة، وجهز ابن رائق إِليه عسكراً، فهزمهم بجكم، ولما قرب من بغداد هرب ابن رائق إِلى عكبراَ، واستتر، ودخل

بجكم بغداد ثالث عشر ذي القعدة، فخلع عليه الراضي وجعله أمير الأمراء، وكانت مدة إِمارة ابن رائق سنة وعشرة أشهر وستة عشر يوماً، وهذا بجكم كان مملوكاً لوزير ماكان بن كاكي الديلمي. ثم أخذه ما كان منه، ثم إنه فارق ماكان مع من فارقه، ولحق بمرداويج، ثم كان في جملة من قتل مرداويج، ثم سار إلى العراق واتصل بخدمة ابن رائق، وانتسب إِليه حتى كتب على رايته الرائقي وسيره ابن رائق إلى الأهواز فاستولى عليها، وطرد ابن البريدي، ثم لما استولى ابن بويه على الأهواز، سار بجكم إِلى واسط. ثم سار إِلى بغداد، فطرد ابن رائق واستولى على بغداد وعلى حضرة الخليفة. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة فسد حال القرامطة، ووقع بينهم الفتن والقتل، فاستقروا في هجر. ثم دخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة فيها سار بجكم والراضي إِلى الموصل، فهرب ناصر الدولة بن حمدان عنها، ثم حمل مالاً واستقر الصلح معه، ثم عاد الخليفة وبجكم إلى بغداد، وظهر ابن رائق مع جماعة انضموا إِليه ببغداد، قبل وصول الخليفة إِليها، فخافه الخليفة وبجكم، ثم استقر الحال على أن يولي على حرّان والرها وقنسرين والعواصم، فسار ابن رائق واستولى عليها. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، عصى أمية بن إسحاق على عبد الرحمن الأموي بشنترين واستنجد بالجلالقة، فأنجدوه وهزموا المسلمين، ثم التقوا مرة ثانية، فانهزمت الجلالقة وكثر القتل فيهم، وطلب أمية المذكور الأمان من عبد الرحمن الأموي، فأمنه. وفيها مات عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، صاحب الجرح والتعديل، وعثمان بن خطاب أبو الدنيا، المعروف بالأشج، الذي يقال إِنه لقي علي بن أبي طالب، وله صحيفة تروى عنه ولا تصح، وقد رواها كثير من المحدثين على علم منهم بضعفها. وفيها توفي محمد بن جعفر بمدينة يافا، صاحب التصانيف المشهورة كاعتلال القلوب وغيره. وفيها توفي الكعبي المعتزلي، واسمه عبد الله ابن أحمد بن محمود، وكنيته أبو القاسم وهو صاحب مقالة. ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. استيلاء ابن رائق على الشام وفي هذه السنة، استولى ابن رائق على الشام، فاستولى على دمشق وحمص، وطرد بدراً نائب الأخشيد، وسار حتى بلغ العريش يريد الديار المصرية، فخرج إِليه الأخشيد وجري بينهم قتال شديد، آخره أن ابن رائق انهزم إِلى دمشق ثم جهز الأخشيد إِليه جيشاً مع

أخيه، واقتتلوا، فانهزم عسكر الأخشيد، وقتل أخوه فأرسل ابن رائق يعزي الأخشيد في أخيه ويقول له: إِنه لم يقتل بأمري. وأرسل ولده مزاحم وقال: إِن أحببت فاقتل ولدي به، فخلع الأخشيد على مزاحم وأعاده إلى أبيه، واستقرت مصر للأخشيد، والشام لمحمد بن رائق. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة قتل طريف السبكري بالثغر، وفيها توفي محمد الكسليني - بالنون - وهو من أئمة الإمامية، ومحمد بن أحمد المعروف بابن شنبوذ المقري، وأبو محمد المرتعش، وهو من مشايخ الصوفية، وفيها توفي أبو بكر محمد بن القاسم المعروف بابن الأنباري، وهو مصنف كتاب الوقف والإبتداء الإمام المشهور في النحو والأدب، وكان ثقة وولد سنة إحدى وسبعين ومائتين وفيها توفي أبو عمر أحمد بن عبد ربه بن حبيب القرطبي، مولى هشام بن عبد الرحمن الداخل إِلى الأندلس، الأموي، وكان من العلماء المكثرين من المحفوظات وصنف كتابه العقد، وهو من الكتب النفيسة، ومولده في سنة ست وأربعين ومائتين. ثم دخلت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. موت الراضي بالله وفي هذه السنة، في منتصف ربيع الأول مات الراضي بالله، أبو العباس أحمد ابن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق طلحة. وكانت خلافته ست سنين وعشرة أيام، وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة وكان مرضه علة الاستسقاء وكان أديباً شاعراً فمن شعره: يصفر وجهي إذا تأمله ... طرفي فيحمر وجهه خجلاً حتى كأن الذي بوجنته ... من دم وجهي إِليه قد نقلا ومن شعره أيضاً من أبيات: كل صفو إِلى كدر ... كل أمن إِلى حذرْ أيها الآمن الذي ... تاه في لجة الغرر أينَ مَنْ كان قبلنا ... درسَ العينُ والأثرْ درً در ُالمشيب من ... واعظٍ يُنذر البشرْ وكان الراضي سخياً، يحب الأدباء والفضلاء وكان سنان بن ثابت الصابي الطبيب من جملة ندماء الراضي وجلسائه، وكان الراضي أسمر خفيف العارضين، وأمه أم ولد، اسمها ظلوم، وهو آخر خليفة له شعْر يدون، وآخر خليفة خطب كثيراً على منبر، وإن كان غيره قد خطب، فإِنه كان ناَدراً، لا اعتبار به، وكان آخر خليفة جالس الجلساء، وآخر خليفة كانت نفقته، وجراياته وخزانته، ومطابخه، وأموره، على ترتيب الخلفاء المتقدمين.

خلافة المتقي لله

خلافة المتقي لله وهو حادي عشرينهم، لما مات الراضي، بقي الأمر موقوفاً، انتظاراً لقدوم أبي عبد الله الكوفي، كاتب بجكم، من واسط، وكان بجكم بها أيضاً، واحتيط على دار الخلافة، فورد كتاب بجكم مع أبي عبد الله الكوفي، كاتب بجكم، يأمر فيه أن يجتمع مع أبي القاسم، سليمان بن الحسن، وزير الراضي، كل من تقلد الوزارة، وأصحاب الدواوين والعلويون والقضاة والعباسيون ووجوه البلد، ويشاورهم الكوفي فيمن ينصب للخلافة، فاجتمعوا واتفقوا على إِبراهيم بن المقتدر بالله، أبي الفضل جعفر، وبويع له بالخلافة في العشرين من ربيع الأول، وعرضت عليه الألقاب فاختار المتقي لله، ولما بويع له سير الخلع واللواء إِلى بجكم، وهو بواسط، وكان بجكم قبل استخلاف المتقي، قد أرسل إِلى دار الخلافة، وأخذ منها فرشاً وآلات كان يستحسنها، وجعل سلامة الطولوني حاجب المتقي، وأقر سليمان بن الحسن وزير الراضي على وزارته، وليس له من الوزارة إِلا اسمها، وإنما التدبير كله إِلى الكوفي كاتب بجكم. قتل ماكان بن كاكي كان ماكان بن كاكي قد استولى على جرجان، فقصده أحد قواد السامانية بعسكر خراسان، وهو أبو علي بن محمد بن مظفر بن المحتاج، فهزم ماكان عن جرجان، فقصد ماكان طبرستان وأقام بها. ثم سار أبو علي بن المحتاج المذكور عن جرجان إِلى الري، ليستولي عليها، وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج فأرسل وشمكير يستنجد ماكان بن كاكي من طبرستان، فقدم ماكان بن كاكيَ من طبرستان، وبقي مع وشمكير، وقاتلهما أبو علي بن المحتاج، فجاء سهم غرب فوقع فَي رأس ماكان، ونفذ من الخوذة إِلى جبينه، حتى طلع من قفاه، فوقع ماكان بن كاكي ميتاً، وهرب وشمكير إِلى طبرستان، واستولى أبو علي ابن المحتاج على الري. قتل بجكم وفي هذه السنة قتل بجكم، وكان بجكم قد أرسل جيشاً إِلى قتال أبي عبد الله البريدي. ثم سار من واسط في أثرهم، فأتاه الخبر بنصرة عسكره، وهرب البريدي. فقصد الرجوع إِلى واسط، وبقي يتصيد في طريقه حتى بلغ نهر جور، فسمع أن هناك أكراداً لهم مال وثروة، فشرهت عينه، وقصدهم في جماعة قليلة، وأوقع بهم، فهربوا من بين يدي بجكم، وجاء صبي من الأكراد من خلف بجكم، وطعنه برمح فيِ خاصرته ولا يعرفه، فمات بجكم من تلك الطعنة. ولما بلغ قتله المتقي، استولى على دار بجكم وأخذ منها أموالاً عظيمة، وأكثرها كانت مدفونة، وأتى البريدي الفرج بقتل بجكم من حيث لا يحتسب. وكانت مدة إِمارة بجكم

سنتين وثمانية أشهر وأياماً. ولما قتل بجكم سار البريدي إِلى بغداد واستولى على الأمر أياماً، ثم أخرجه العامة عنها لسوء سيرته، ثم استولى على الأمر كورتكين مدة قليلة، فسار ابن رائق من الشام إلى بغداد، واستخلف على الشام أبا الحسن أحمد بن علي بن مقاتل ولما وصل ابن رائق إِلى بغداد جرى بينه وبين كورتكين قتال، آخره أن ابن رائق انتصر على كورتكين وهزمه، ثم ظفر بعد ذلك ابن رائق بكورتكين وحبسه، وقلد المتقي لابن رائق إِمرة الأمراء ببغداد. غير ذلك من الحوادث فيها توفي متى بن يونس، الحكيم الفيلسوف، وبختيشوع بن يحيى الطبيب. ثم دخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة. استيلاء ابن البريدي علي بغداد وقتل ابن رائق في هذه السنة، عاد البريدي فاستولى على بغداد، وهرب ابن رائق والخليفة المتقي إِلى جهة الموصل، ونهب البريدي بغداد، وحصل منه من الجور والظلم والعسف ما لا زيادة عليه، ولما وصل المتقي وابن رائق إلى تكريت، كاتبا ناصر الدولة ابن حمدان يستمدانه، وقدما إِلى الموصل، فخرج عنها ناصر الدولة إِلى الجانب الآخر، فأرسل المتقي إِليه ابنه أبا منصور، وابن رائق، فأكرمهما ناصر الدولة، ونثر على ابن الخليفة دنانير، ولما قاما لينصرفا، أمر ناصر الدولة أصحابه بقتل ابن رائق فقتلوه. ثم سار ابن حمدان إِلى المتقي، فخلع المتقي عليه وجعله أمير الأمراء، ولك في مستهل شعبان من هذه السنة، وخلع على أخيه أبي الحسن علي، ولقبه سيف الدولة، وكان قتل ابن رائق يوم الاثنين، لسبع بقين من رجب من هذه السنة، أعني سنة ثلاثين وثلاثمائة، ولما بلغ الأخشيد صاحب مصر قتل ابن رائق، سار إلى دمشق، فاستولى عليها. ثم سار المتقي وناصر الدولة إِلى بغداد، فهرب عنها ابن البريدي، ونهب الناس بعضهم بعضاً ببغداد، وكان مقام ابن البريدي ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوماً، ودخل المتقي إِلى بغداد ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة في شوال من هذه السنة. ولما استقر ناصر الدولة ببغداد، أمر بإِصلاح الدنانير، وكان الدينار بعشرة دراهم، فبيع الدينار بثلاثة عشر درهماً. غير ذلك من الحوادث فيها مات أبو بكر محمد بن عبد الله المحاملي الفقيه الشافعي، ومولده سنة خمس وثلاثين ومائتين. وفيها توفي أبو الحسن علي بن إِسماعيل بن أبي بشر الأشعري، وكان مولده سنة ستين ومائتين ببغداد، ودفن بمشرعة الزوايا ثم طمس قبره خوفاً عليه، لئلا تنبشه الحنابلة وتحرقه، فإنهم عزموا على ذلك مراراً عديدة، ويردهم السلطان عنه. وهو من ولد أبي

غير ذلك من الحوادث

موسى الأشعري، وَاشتغل بعلم الكلام، على مذهب المعتزلة زماناً طويلاً. ثم خالف المعتزلة والمشبهة، فكانت مقالته أمراً متوسطاً، وناظر أبا علي الجبائي، في وجوب الأصلح على الله تعالى، فأثبته الجبائي على قواعد مذهبه. فقال الأشعري ما تقول في ثلاثة صبية اخترم الله أحدهم قبل البلوغ، وبقي الاثنان فآمن أحدهما وكفر الآخر، ما العلة في اخترام الصغير؟. فقال الجبائي: إِنما اخترمه لأنه علم أنه لو بلغ لكفر، فكان اخترامه أصلح له. فقال له الأشعري: فقد أحيا أحدهما فكفر. فقال الجبائي: إِنما أحياه ليعرضه لأعلى المراتب، أي ليبلغ ويصير أهلاً للتكليف، لأن الصبي والحيوان غير مكلف، فإِذا أدرك الصبي، صار مكلفاً، وهي أعلى المراتب، لأنها المرتبة الإنسانية. فقال الأشعري: فلم لا أحيى الذي اخترمه ليعرضه لأعلى المراتب. فقال الجبالًي: وسوست. فقال الأشعري: ما وسوست، ولكن وقف حمار الشيخ على القنطرة، يعني أنه انقطع. ثم أظهر الأشعري مذهبه، وقرره، فصارت مقالته أشهر المقالات، حتى طبق الأرض ذكرها، ومعظم الحنابلة يحكمون بكفره ويستبيحون دمه، ودم من يقول بقوله، وذلك لجهلهم، وكان أبو علي الجبائي المعتزلي زوج أم أبي الحسن الأشعري. ثم دخلت سنة إِحدى وثلاثين وثلاثمائة في هذه السنة سار ناصر الدولة عن بغداد إِلى الموصل، وثارت الديلم، ونهبت داره، وكان أخوه سيف الدولة بواسط، فثارت عليه الأتراك الذين معه، وكبسوه ليلاً، في شعبان، فهرب سيف الدولة أبو الحسن علي، إِلى جهة أخيه ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان، ولحق به، ثم قدم سيف الدولة إِلى بغداد، وطلب من المتقي مالاً ليفرقه في العسكر، ويمنع تورون والأتراك من دخول بغداد، فأرسل إِليه المتقي ربع مائة ألف دينار، ففرقها في أصحابه، ولما وصل تورون إِلى بغداد، هرب سيف الدولة عنها، ودخل تورون بغداد في الخامس والعشرين من رمضان، في هذه السنة، فخلع المتقي عليه وجعله أمير الأمراء وبقيِ المتقي خائفاً من تورون. وتورون بتاء مثناة من فوقها مضمومة وواو ساكنة وراء مهملة مضمومة وواو ثم نون، هو اسم تركي مشتق من اسم الباطية لأن الباطية اسمها بالتركي تروو بتاء وراء مضمومتين وواين ساكنتين. موت نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني وفي هذه السنة، توفي أبو السعيد نصر بن أحمد الساماني، صاحب خراسان وما وراء النهر، وكان مرضه السل، فبقي مريضاً ثلاثة عشر شهراً، وكانت ولايته ثلاثين سنة وثلاثة وثلاثين يوماً، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة، وكان حليماً كريماً، ولما مات نصر بن أحمد، تولى بعده ابنه نوح بن نصر، وبايعه الناس، وحلفوا له في شعبان، واستقر ملكه على خراسان وما وراء النهر. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، أرسل ملك الروم يطلب من المتقي منديلاً، زعم أن المسيح مسح به وجهه،

فصارت صورة وجهه فيه، وأن هذا المنديل في بيعة الرها، وأنه إن أرسله أطلق عدداً كثيراً من أسرى المسلمين، فأحضر المتقي القضاة والفقهاء واستفتاهم في ذلك، فاختلفوا. فقال بعضهم: ادفعه إِليهم وإطلاق الأسرى أولى. وقال بعضهم: إِن هذا المنديل لم يزل في بلاد الإسلام، ولم يطلبه ملك الروم منهم، ففي دفعه إليهم غضاضة، وكان في الجماعة علي بن عيسي الوزير فقال: إِن خلاص المسلمين من الأسر والضنك، أولى من حفظ هذا المنديل، فأمر الخليفة بتسليمه إليهم، وأرسل من تسلم الأسرى فأطلقوا. وفي هذه السنة توفي محمد بن إِسماعيل الفرغاني الصوفي، أستاذ أبي بكر الدقاق، وهو مشهور بين المشايخ. وفيها مات سنان بن ثابت بن قرة بعلة الذرب، وكان حاذقاً في الطب، ولم يغن عنه شيئا عند دنو الأجل. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة فيها سار المتقي عن بغداد خوفاً من تورون وابن شيرزاد، إِلى جهة ناصر الدولة بالموصل، وانحدر سيف الدولة إلى ملتقى المتقي بتكريت، ثم انحدر ناصر الدولة إِلى تكريت، وأصعد الخليفة إلى الموصل، ثم سار الخليفة وبنو حمدان إِلى الرقة، فأقاموا بها، وظهر للمتقي تضجر بني حمدان منه، وإيثارهم مفارقته، فكتب إِلى تورون يطلب الصلح منه، ليقدم إلى بغداد، وخرجت السنة على ذلك. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة خرجت طائفة من الروس في البحر، وطلعوا من البحر في نهر الكر، فانتهوا إِلى مدينة برْدَعَة، فاستولوا على بردعة، وقتلوا ونهبوا، ثم عادوا في المراكب إِلى بلادهم. وفيها مات أبو طاهر القرمطي رئيس القرامطة بالجدري، وفيها كان ببغداد غلاء عظيم. وفيها استعمل ناصر الدولة بن حمدان محمد بن علي بن مقاتل على قنسرين والعواصم وحمص. ثم استعمل بعده في السنة المذكورة ابن عمه الحسين بن سعيد بن حمدان على ذلك. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. مسير المتقي إِلى بغداد وخلعه كان قد كتب المتقي إِلى الإخشيد صاحب مصر، يشكو إِليه حاله، وما هو فيه، فسار الإخشيد من مصر إِلى حلب، ثم إِلى الرقة، واجتمع بالمتقي، وحمل إِليه هدايا عظيمة، واجتهد بالمتقي أن يسير معه إِلى مصر أو الشام ليكون بين يديه، فلم يفعل، ثم أشار عليه بالمقام في الرقة، وخوفه من تورون، فلم يفعل، وكان قد أرسل المتقي إِلى تورون في الصلح كما ذكرناه، فحلف تورون للمتقي على ما أراد، فانحدر المتقي لأربع بقين من المحرم إِلى بغداد وعاد الإخشيد إِلى مصر، ولما وصل المتقي إِلى هيت، أقام بها، وأرسل فجدد اليمين على تورون وسار تورون عن بغداد لملتقى الخليفة. فالتقاه بالسندية، ووكّل عليه حتى أنزله في مضربه، ثم قبض تورون على المتقي وسمله، وأعمى عينيه فصاح المتقي وصاح من عنده من الحرم والخدم، فأمر تورون

خلافة المستكفي بالله

بضرب الدبادب لئلا تظهر أصواتهن، وانحدر تورون بالمتقط إلى بغداد وهو أعمى، وكانت خلافة المتقي لله، وهو إبراهيم بن جعفر المقتدر بن المعتضد ثلاث سنين وخمسة أشهر وعشرين يوماً، وأمه أم ولد اسمها خلوب. خلافة المستكفي بالله وهو ثاني عشرينهم، ولما قبض تورون على المتقي، بايع المستكفي بالله أبا قاسم عبد الله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون، وأحضره إِلى السندية، وبايعه عامة الناس، وكانت بيعة المستكفي بالله يوم خلع المتقي في صفر من هذه السنة. خروج أبي يزيد الخارجي بالقيروان وفي هذه السنة اشتدت شوكة أبي يزيد الخارجي وهزم الجيوش، وهو رجل من زناتة، واسم والده كنداد، من مدينة توزر من بلاد قسطيلية. فولد له أبو يزيد بتوزر من جارية سوداء، وانتشأ أبو يزيد في توزر وتعلم القرآن وسار إلى تاهرت، وصار على مذهب النكارية وهو تكفير أهل الملة، واستباحة أموالهم ودمائهم، ودعا أهل تلك البلاد فأطاعوه، وكثر جمعه فحصر قسطيلية في هذه السنة، وكان أبو يزيد قصيراً قبيح الصورة، يلبس جبة صوف، ثم فتح تبسة، ثم سبيبة وصلب عاملها، ثم فتح الأريس، فأخرج القائم جيوشاً لحفظ رقادة والقيروان فهزمهم أبو يزيد، واستولى على تونس، ثم على القيروان، ورقادة، ثم سار أبو يزيد إِلى القائم فجهز إِليه القائم جيشاً، فجرى بينهم قتال كثير، وآخره أن جيوش القائم انهزمت، وسار أبو يزيد وحصر القائم بالمهدية، في جمادى الأولى من هذه السنة، وضايقها وغلا بها السعر، وعدم القوت، ودام محاصرها حتى خرجت هذه السنة، ثم رحل عن المهدية في صفر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وسار إلى القيروان، وتوفي القائم وملك ابنه إِسماعيل المنصور على ما نذكره فجهز المنصور العساكر وسار بنفسه إِلى القيروان، واستعادها من أبي يزيد وذلك في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ودام حالهم على القتال إِلى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فهزم المنصور عساكر أبي يزيد، وسار المنصور في أثره في ربيع الأول سنة خمس وثلاثين فأدرك أبا يزيد على مدنية كاغلية، فهرب أبو يزيد من موضع إِلى آخر، حتى وصل طبسة، ثم هرب حتى وصل إِلى جبل للبربر، واسم ذلك الجبل برزال، والمنصور في إِثره، واشتد على عسكر المنصور الحال حتى بلغت عليقة الشعير ديناراً ونصفاً، وبلغت قربة الماء ديناراً، فرجع المنصور إِلى بلاد صنهاجة، وبلغ إِلى موضع يسمى قرية عمرة، واتصل هناك بالمنصور، العلوي الأمير زيري الصنهاجي، وهو جد ملوك بني باديس على ما سيأتي ذكرهم إِن شاء الله تعالى. فأكرمه المنصور غاية الإكرام ومرض المنصور هناك مرضاً

شديداً، ثم تعافى ورحل إِلى المسيلة، ثاني رجب سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وكان قد اجتمع إِلى أبي يزيد جمع من البربر، وسبق المنصور إلى مسيلة، فلما قدم المنصور إِلى مسيلة هرب عنها أبو يزيد إِلى جهة بلاد السودان، ثم صعد أبو يزيد إِلى جبال كتامة، ورجع عن قصد بلاد السودان، فسار المنصور عاشر شعبان إِليه، واقتتلوا في شعبان، فقتل غالب جماعة أبي يزيد وانهزم، فسار المنصور في إِثره أول شهر رمضان واقتتلوا أيضاً، وانهزم أبو يزيد وأخذت أثقاله والتجأ أبو يزيد إِلى قلعة كتامة، وهي منيعة، فحاصرها المنصور وداوم الزحف عليها، ثم ملكها المنصور عنوة، وهرب أبو يزيد من القلعة من مكان وعر، فسقط منه، فأخذ أبو يزيد وحمل إلى المنصور، فسجد المنصور شكراً لله تعالى، وكثر تكبير الناس وتهليلهم، وبقي أبو يزيد في الأسر مجروحاً فمات، وذلك في سلخ المحرم سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، فسلخ جلد أبي يزيد، وحشي تبناً، وكتب المنصور إلى سائر البلاد بالفتح، وبقتل أبي يزيد لعنه الله، وعاد المنصور إِلى المهدية، فدخلها في شهر رمضان من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أعني سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة نقل المستكفي، القاهر، من دار الخلافة إِلى دار أبي طاهر، وكان قد بلغ بالقاهر الضر والفقر إِلى أن كان ملتفاً بجبة قطن وفي رجله قبقاب خشب. ملك سيف الدولة مدينة حلب وحمص وفي هذه السنة، لما سار المتقي عن الرقة إِلى بغداد، وسار عنها الإخشيد إلى مصر كما ذكرنا، سار سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان إِلى حلب، وبها يأنس المؤنسي، فأخذها منه سيف الدولة، واستولى عليها، ثم سار من حلب إِلى حمص، فاستولى عليها ثم سار إِلى دمشق فحصرها، ثم رحل عنها، وكان الإخشيد قد خرج من مصر إِلى الشام، بسبب قصد سيف الدولة دمشق، وسار إِليه فالتقيا بقنسرين، ولم يظفر أحد العسكرين بالآخر، ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة، فلما رجع الإخشيد إِلى دمشق، عاد سيف الدولة إِلى حلب، فملكها، فلما ملكها سارت الروم حتى قاربت حلب، فخرج إِليهم سيف الدولة وهزمهم وظفر بهم. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. موت تورون في هذه السنة في المحرم، مات تورون ببغداد، وكانت إِمارته سنتين وأربعة أشهر وتسعة عشر يوماً، ولما مات، عقد الأجناد لابن شيرزاد الإمرة عليهم، وكان بهبت، فحضر إِلى بغداد مستهل صفر، وأرسل إِلى المستكفي فاستحلفه فحلف له بحضرة القضاة وولاة أمرة الأمراء.

خلع المستكفي وخلافة المطيع

استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد كان معز الدولة في الأهواز، فلما بلغه موت تورون، سار إِلى بغداد، فلما قرب منها اختفى المستكفي بالله وابن شيرزاد، فكانت إِمارته ثلاثة أشهر وأياماً وقدم الحسن بن محمد المهلبي، صاحب معز الدولة، إِلى بغداد، وسارت الأتراك عنها إلى جهة الموصل، فظهر المستكفي واجتمع بالمهلبي، وأظهر المستكفي السرور بقدوم معز الدولة، وأعلمه أنه استتر خوفاً من الأتراك، فلما ساروا عن بغداد ظهر، ثم وصل معز الدولة إلى بغداد ثاني عشر جمادى الأولى من هذه السنة. واجتمع بالمستكفي وبايعه، وحلف له المستكفي وخلع عليه، ولقبه في ذلك اليوم بمعز الدولة، وأمر أن تضرب ألقاب بني بويه على الدنانير والدراهم، ونزل معز الدولة بدار مؤنس، وأنزل أصحابه في دور الناس، فلحق الناس من ذلك شدة عظيمة، ورتب معز الدولة للمستكفي، كل يوم خمسة آلاف درهم يتسلمها كاتبه لنفقات المستكفي. خلع المستكفي وخلافة المطيع وفي هذه السنة خلع المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفي علي بن المعتضد بن الموفق لثمان بقين من جمادى الآخرة، وصورة خلعه، أن معز الدولة وعسكره والناس، حضروا إِلى دار الخليفة، بسبب وصول رسول صاحب خراسان، فأجلس الخليفة معز الدولة على كرسي، ثم حضر رجلان من نقباء الديلم، وتناولا يد المستكفي بالله، فظن أنهما يريدان تقبيلها، فجذباه عن سريره، وجعلا عمامته في عنقه، ونهض معز الدولة، فاضطرب الناس، وساقا المستكفي ماشياً إِلى دار معز الدولة فاعتُقل بها، ونُهبت دار الخلافة حتى لم يبق بها شيء، وكانت مدة خلافة المستكفي سنة وأربعة أشهر، ولما بويع المطيع، سلم إليه المستكفي، فسمله وأعماه، وبقي محبوساً إِلى أن مات، وأمه أم ولد اسمها غصن. ولما قُبض المستكفي بويع المطيع لله وهو ثالث عشرينهم، واسمه المفضل بن المقتدر، في يوم الخميس ثاني عشرين من جمادى الآخر، من هذه السنة، أعني سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وازداد أمر الخلافة إِدباراً، ولم يبق لهم من الأمر شيء، وتسلم نواب معز الدولة العراق، بأسره، ولم يبق في يد الخليفة غير ما أقطعه معز الدولة للخليفة، مما يقوم ببعض حاجته. الحرب بين ناصر الدولة بن حمدان ومعز الدولة بن بويه في هذه السنة سار ناصر الدولة إِلى بغداد، وأرسل معز الدولة عسكراً لقتاله، فلم يقدروا على دفعه، وسار ناصر الدولة من سامراء، عاشر رمضان، إِلى بغداد، وأخذ معز الدولة المطيع معه، وسارا إِلى تكريت فنهبها، لأنها كانت لناصر الدولة، وعاد معز الدولة بالخليفة إِلى بغداد ونزل بالجانب الغربي، ونزل ناصر الدولة بالجانب الشرقي، ولم يخطب تلك الأيام للمطيع

ببغداد، وجرى بينهم ببغداد قتال كثير، آخره أن ناصر الدولة وعسكره انهزموا، واستولى معز الدولة على الجانب الشرقي، وأعيد الخليفة إلى مكانه في المحرم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، واستقر معز الدولة ببغداد، وناصر الدولة بعكبرا، ثم سار ناصر الدولة إِلى الموصل، واستقر الصلح بين معز الدولة وناصر الدولة، في المحرم من سنة خمس وثلاثين. وفاة القائم العلوي وولاية المنصور في هذه السنة توفي القائم بأمر الله أبو القاسم محمد بن المهدي عبيد الله صاحب المغرب لثلاث عشرة مضت من شوال، وقام بالأمر بعده ابنه إِسماعيل بن محمد، وتلقب بالمنصور بالله، وكتم موت القائم خوفاً من أبي يزيد الخارجي، واستمر كتمان ذلك حتى فرغ المنصور من أمر أبي يزيد الخارجي على ما ذكرناه، ثم اتسم بالخلافة، وضبط الملك والبلاد. موت الإخشيد وملك سيف الدولة دمَشْق في هذه السنة مات الإخشيد بدمشق، وكان قد سار إِليها من مصر، وهو محمد بن طغج صاحب مصر ودمشق، وكان مولده سنة ثمان وستين ومائتين ببغداد، وكان الإخشيد قبل مسيره عن مصر، قد وجد بداره رقعة مكتوب عليها قدّرتم فأسأتم، وملكتم فبخلتم، ووسع عليكم فضيقتم، وأدرت لكم الأرزاق فقنطتم أرزاق العباد، واغتررتم بصفو أيامكم، ولم تتفكروا في عواقبكم، واشتغلتم بالشهوات، واغتنام اللذات وتهاونتم بسهام الأسحار وهن صائبات، ولا سيما إن خرجت من قلوب قرحتموها، وأكباد أجعتموها، وأجساد أعريتموها، ولو تأملتم في هذا حق التأمل لانتبهتم، أو ما علمتم أن الدنيا لو بقيت للعاقل، ما وصل إليها الجاهل، ولو دامت لمن مضى، ما نالها من بقي، فكفى بصحبة ملك يكون ملكه في زوال ملكه فرح للعالم، ومن المحال أن يموت المنتظرون كلهم، حتى لا يبقى منهم أحد، ويبقى المنتظر به، افعلوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون، وثقوا بقدرتكم وسلطانكم، فإنا بالله واثقون، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فبقي الإخشيد بعد سماع هذه الرقعة في فكر، وسافر إلى دمشق ومات وولي الأمر بعده ابنه أبو القسم أنوجور، وتفسيره محمود، واستولى على الأمر كافور الخادم الأسود، وهو من خدم الإخشيد، وكان أنوجور صغيراً، وسار كافور بعد موت الإخشيد إِلى مصر فسار سيف الدولة إِلى دمشق، وملكها، وأقام بها، واتفق أن سيف الدولة ركب يوماً والشريف العقيقي معه، فقال سيف الدولة: ما تصلح هذه الغوطة إِلا لرجل واحد. فقال له العقيقي: هي لأقوام كثيرة: فقال سيف الدولة: لو أخذتها القوانين السلطانية لتبرؤا منها، فأعلم العقيقي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافوراً يستدعونه، فجاءهم، فأخرجوا سيف الدولة عنهم. ثم استقر سيف الدولة بحلب، ورجع كافور إِلى مصر وولى على دمشق بدراً الإِخشيدي فأقام سنة ثم وليها أبو المظفر بن طغج.

غير ذلك من الحوادث فيها اشتد الغلاء وعُدمَ القوت، ببغداد، حتى وجد مع إِنسان صبي قد شواه ليأكله، وكثر في الناس الموت، وفيها توفي علي بن عيسى بن الجراح الوزير، وله تسعون سنة. وفيها توفي عمر بن الحسين الخرقي الحنبلي، وأبو بكر الشبلي الصوفي، وكان أبو الشبلي حاجباً للموفق أخي المعتمد، وحجب الشبلي أيضاً للموفق، ثم تاب وصحب الفقراء، حتى صار واحد زمانه في الدين والورع، وكان الشبلي المذكور مالكي المذهب، حفظ الموطأ، وقرأ كتب الحديث، وقال الجنيد عنه: لكل قوم تاج، وتاج القوم الشبلي. وفيها توفي محمد بن عيسى، ويعرف بأبي موسى الفقية الحنفي. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة فيها توفي أبو بكر الصولي وكان عالماً بفنون الأدب والأخبار، روى عن أبي العباس ثعلب وغيره، وروى عنه الدارقطني وغيره وللصولي التصانيف المشهورة. ثم دخلت سنة ست وثلاثين وثلاثمائة فيها عقد المنصور العلوي ولاية جزيرة صقلية للحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي، من تاريخ جزيرة صقلية تأليف صاحب تاريخ القيروان، واستمر الحسن بن علي يغزو ويفتح في جزيرة صقلية حتى مات المنصور، وتولى المعز، فاستخلف الحسن على صقلية ولده أبا الحسين أحمد ابن الحسن، فكانت ولاية الحسن بن علي على صقلية خمس سنين ونحو شهرين، وسار الحسن عن صقلية إِلى إِفريقية في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، ولما وصل الحسن إِلى إِفريقية، كتب المعز بولاية ابنه أحمد بن الحسن على صقلية فاستقر أحمد والياً عليها. وفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة قدم أحمد بن الحسن من صقلية، ومعه ثلاثون رجلاً من وجوه الجزيرة، على المعز بإِفريقية فبايعوا المعز وخلع عليهم المعز، ثم أعاده إِلى مقره بصقلية، وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة ورد كتاب المعز على الأمير أحمد بصقلية، يأمره فيه يإِحصاء أطفال الجزيرة، وأن يختنهم ويكسوهم في اليوم الذي يطهر فيه المعز ولده، فكتب الأمير أحمد خمسة عشر ألف طفل وابتدأ أحمد فختن أخوته في مستهل ربيع الأول من هذه السنة، ثم ختن الخاص والعام، وخلع عليهم، ووصل من المعز مائة ألف درهم وخمسون حملا من الصلات، ففرقت في المختونين، وفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة أرسل الأمير أحمد بسبي طبرمين بعد فتحها إِلى المعز، وجملته ألف وسبع مائة ونيف، وسبعون رأساً، وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة جهز المعز أسطولاً عظيماً، وقدم عليهم الحسن بن علي بن الحسين والد الأمير أحمد، فوصل إِلى صقلية، واجتمعت الروم بها، وجرى بينهم قتال شديد، نصر الله فيه المسلمين، وقتل من الكفار فوق عشرة آلاف نفس، وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم، فكان في جملة ذلك عليه منقوش: " هذا سيف هندي وزنه مائة وسبعون مثقالاً، طالما ضرب به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث به الحسن بن علي

إِلى المعز، وكذلك بعدة من الأسرى والسلاح، وسار الحسن بعد هذا النصر وأقام بقصره بصقلية، ولحقه المرض حتى توفي في ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وكان عمره ثلاثاً وخمسين سنة، وفي أواخر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة استقدم المعز الأمير أحمد من صقلية وسار منها بأهله وماله وولده، فكانت إمارته بها ست عشرة سنة وتسعة أشهر، ولما سار أحمد عنها استخلف على الجزيرة يعيش مولى أبيه الحسن بن علي، فلما وصل أحمد إِلى إِفريقية أرسل المعز أبا القاسم علي بن الحسن بن علي أخا الأمير أحمد المذكور، وولاه الجزيرة نيابة عن أخيه أحمد، فوصل أبو القاسم إِلى صقلية في منتصف شعبان سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة قدم المعز الأمير أحمد على الأسطول وأرسله إِلى مصر، فلما وصل إِلى طرابلس، اعتل أحمد بن الحسن المذكور ومات بها، وفي سنة ستين وثلاثمائة أرسل المعز إِلى أبي القاسم سجلاً باستقلاله بولاية صقلية، وتعزيته في أخيه أحمد وفي سنة ست وستين وثلاثمائة غزا الأمير أبو القاسم علي وعاد إِلى الأرض الكبيرةْ، ونزل بموضع يعرف بالأبرجة، فرأى عسكره قد أكثروا من جمع البقر والغنم، فأنكر ذلك وقال: لقد أثقلتم وهذا يعيقنا عن الغزو، فأمر بذبحها وتفريقها، فسميت تلك المرحلة مناخ البقر إِلى الآن، وشنت غاراته في الأرض الكبيرة، وأخرب فيها مدناً، ثم عاد إلى صقلية مؤيداً منصوراً، واستمر أبو القاسم يغزو إِلى سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، فجرى بينه وبين الفرنج قتال استشهد فيه أبو القاسم ولذلك يعرف بالشهيد، وكان مقتله في المحرم من السنة المذكور ومدة ولايته على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وأياماً. ولما استشهد أبو القاسم، تولى الأمر بعده ابنه جابر بن أبي القاسم بغير ولاية من الخليفة، وكان جابر المذكور سيء التدبير، وفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وصل إلى صقلية جعفر بن محمد بن الحسين بن علي بن أبي الحسين أميراً عليها من قبل العزيز خليفة مصر، فاغتم جابر لذلك غماً عظيماً، وكان جعفر المذكور مواظباً للعزيز خليفة مصر، قريباً إِليه جداً، وكان للعزيز وزير يقال له ابن كلس، فغار من جعفر، فلما استشهد أبو القاسم أشار ابن كلس بتولية جعفر فأرسله العزيز إِليها، فسار جعفر إِلى صقلية، وهو كاره لذلك، وبقي جعفر والياً على صقلية حتى مات في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، فولى أخوه عبد الله بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي الحسين، وبقي عبد الله حتى توفي في سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وتولى بعده ولده أبو الفتوح

يوسف بن عبد الله، وأحسن يوسف المذكور السيرة، وبقي على ولايته، ومات العزيز خليفة مصر، وتولى الحاكم واستوزر ابن عم يوسف المذكور، وهو حسن بن عمار بن علي بن أبي الحسين، وبقي حسن وزيراً بمصر، وابن عمه يوسف أميراً بصقلية، وفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة أصاب أبا الفتوح يوسف بن عبد الله فالج، فعطب جانبه الأيسر، فتولى في حياته ابنه جعفر ابن يوسف وأتاه سجل من الحاكم بالولاية ولقبه تاج الدولة، فبقي مدة، ثم أحدث على أهل صقلية مظالم، فخرجوا عن طاعته، وحصروا جعفر المذكور في القصر، فخرج إِليهم والده يوسف وهو مفلوج في محفة، ورد الناس، وشرط لهم عزل جعفر، فعزله وولى موضعه أخاه تأييد الدولة أحمد الأكحل بن يوسف، وانعزل جعفر وتولى الأكحل في المحرم سنة عشر وأربع مائة، وبقي الأكحل حتى خرج عليه أهل صقلية وقتلوه في سنة سبع وعشرين وأربع مائة، ولما قتلوا الأكحل، ولوا أخاه الحسن صمصام الدولة، فجرى في أيامه اختلاف بين أهل الجزيرة وتغلبت الخوارج عليه، حتى صارت للفرنج على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وفي هذه السنة ملك معز الدولة الموصل، وسار عنها ناصر الدولة إِلى نصيين، ثم جاءت الأخبار بحركة عسكر خراسان على بلاد معز الدولة، فرحل عن الموصل وعاد إِليها ناصر الدولة. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. موت عماد الدولة بن بويه وفي هذه السنة، مات عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه بشيراز، في جمادى الآخرة وكانت علته قرحة في كلاه، طالت به وتوالت به الأسقام، ولم يكن لعماد الدولة ولد ذكر، فلما أحس بالموت، أرسل إِلى أخيه ركن الدولة، يطلب منه ابنه عضد الدولة فناخسرو، ليجعله عماد الدولة ولي عهده، وارث مملكته بفارس، وكان ذلك قبل موته بسنة، ووصل عضد الدولة إِلى عمه عماد الدولة، فولاه عماد الدولة مملكته في حياته، وأمر الناس بالانقياد إِلى عضد الدولة، ولما مات عماد الدولة، بقي ابن أخيه عضد الدولة بفارس. واختلف عليه عسكره، فسار أبوه ركن الدولة من الري إِليه، وقرر قواعد عضد الدولة، ولما وصل ركن الدولة شيراز، ابتدأ بزيارة قبر أخيه عماد الدولة باصطخر، فمشى إِليه حافياً حاسراً، ومعه العساكر على تلك الحال، ولزم القبر ثلاثة أيام إِلى أن سأله القواد والأكابر الرجوع إِلى المدينة، فرجع إِليها وكان عماد الدولة في حياته هو أمير الأمراء، فلما مات صار أخوه ركن الدولة أمير الأمراء، وكان معز الدولة هو المستولي على العراق وهو كالنائب عنهما. وفي هذه السنة مات المستكفي المخلوع، وهو في الحبس أعمى. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة في هذه السنة مات وزير معز الدولة محمد الصيمري، واستوزر معز الدولة أبا محمد الحسن المهلبي. وفي هذه السنة غزا سيف الدولة بلاد الروم، فأوغل فيها، وغنم وقتل، فلما عاد أخذت الروم عليه المضائق فهلك غالب عسكره وما معه، ونجا سيف الدولة بنفسه في عدد يسير. وفي هذه السنة أعادت القرامطة الحجر الأسود إلى مكة، وكان قد أخذوه سنة سبع عشرة وثلاثمائة، فكان لبثه عندهم اثنين وعشرين سنة.

غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي الفيلسوف، وكان رجلاً تركياً، ولد بفاراب، التي تسمى هذا الزمان أُطرار، بضم الهمزة وسكون الطاء المهملة وبين الرائين المهملتين ألف، وهي من المدن العظام، سافر الفارابي من بلده حتى وصل إِلى بغداد، وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات فشرع في اللسان العربي فتعلمه، وأتقنه، ثم اشتغل بعلوم الحكمة واشتغل على أبي بشر متى بن يونس الحكيم المشهور في المنطق، وأقام الفارابي على ذلك برهة، ثم ارتحل إِلى مدينة حران، واشتغل بها على أبي حيا الحكيم النصراني، ثم قفل إلى بغداد، وأتقن علوم الفلسفة، وحل كتب أرسطو وأتقن علم الموسيقى، وألف ببغداد معظم تصانيفه. ثم سافر إِلى دمشق، ولم يقم بها، وسافر إِلى مصر ثم عاد إِلى دمشق، وأقام بها في أيام ملك سيف الدولة بن حمدان، فأحسن اليد، وكان على زي الأتراك لم يغير ذلك، وحضر يوماً عند سيف الدولة بدمشق، بحضرة فضلائها فما زال كلام الفارابي يعلو، وكلامهم يسفل، حتى صمت الكل ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، وكان الفارابي منفرداً بنفسه لا يجالس الناس، وكان في مدة مقامه بدمشق لا يكون إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض، وكان أزهد الناس في الدنيا، وأجرى عليه سيف الدولة كل يوم أربعة دراهم، فاقتصر علمها، ولم يزل مقيماً بدمشق إلى أن توفي بها، وقد ناهز ثمانين سنة ودفن خارج الباب الصغير. وفي هذه السنة مات الزجاجي النحوي، وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن إِسحاق، صحب إِبراهيم بن السري الزجّاج، فنسب إِليه وعرف به، وكان إِمام وقته وصنف الجمل في النحو. ثم دخلت سنة أربعين وثلاثمائة في هذه السنة توفي عبد الله بن الحسين الكرخي، الفقيه المشهور، الحنفي المعتزلي، وكان عابداً، ومولده سنة ستين ومائتين، وأبو جعفر الفقيه، توفي ببخارى. وفيها توفي أبو إِسحاق إِبراهيم بن أحمد بن إسحاق المروزي الفقيه الشافعي بمصر، وانتهت إِليه الرئاسة بالعراق بعد ابن سريج، وصنف كتباً كثيرة، وشرح مختصر المزني. ثم دخلت سنة إِحدى وأربعين وثلاثمائة في هذه السنة سار يوسف بن وجيه، صاحب عمان في البحر والبر إِلى البصرة، وحصرها، وساعده القرامطة على ذلك، وأمدوه بجمع منهم وأقاموا هناك أياماً، فأدركهم المهلبي وزير معز الدولة بالعساكر فرحلوا عنها. وفاة المنصور العلوي وفي هذه السنة، توفي المنصور بالله العلوي أبو طاهر إِسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن عبيد الله المهدي سلخ شوال، وكانت خلافته سبع سنين وستة عشر يوماً. وكان عمره تسعاً وثلاثين سنة، وكان خطيباً بليغاً، يخترع الخطبة لوقته، وظهر من شجاعته في قتال أبي يزيد الخارجي ما تقدم ذكره، وعهد إِلى ابنه أبي تميم معد بن المنصور إسماعيل

بن أحمد بن إسماعيل وولاية ابنه عبد الملك

بولاية العهد وهو معد المعز لدين الله، فبايعه الناس في يوم مات أبوه في سلخ شوال من هذه السنة، وأقام في تدبير الأمور إِلى سابع ذي الحجة فأذن للناس فدخلوا إِليه، وسلموا عليه بالخلافة، وكان عمر المعز إِذا ذاك أربعاً وعشرين سنة. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة ملك الروم مدينة سروج وسبوا أهلها وغنموا أموالهم، وخربوا المساجد. وفيها توفي أبو علي إِسماعيل بن محمد بن إِسماعيل الصفار النحوي المحدث، وهو من أصحاب المبرد، وكان مولده سنة سبع وأربعين ومائتين، وكان ثقة. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، ودخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة. موت الأمير نوح بن نصر بن أحمد بن إِسماعيل وولاية ابنه عبد الملك في هذه السنة مات الأمير نوح بن نصر الساماني، في ربيع الآخر، وكانت ولايته في سنة إِحدى وثلاثين وثلاثمائة، وكان يلقب بالأمير الحميد، وكان حسن السيرة كريم الأخلاق، ولما توفي ملك بعده ابنه عبد الملك بن نوح. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة في ربيع الأول، غزا سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم، فغنم وقتل، ووقع بينه وبين الروم وقعة عظيمة، قتل فيها من الفريقين عالم كثير، وانتصر فيها سيف الدولة. وفيها أرسل معز الدولة سبكتكين في جيش إلى شهرزور، فعاد ولم يفتحها. وفيها مات محمد بن العباس، المعروف بابن النحوي الفقيه، ومحمد بن القاسم الكرخي. ثم دخلت سنة أربع وأربعين وثلاثمائة فيها مات أبو علي بن المحتاج، صاحب جيوش خراسان بعد أن عزله الأمير نوح عن خراسان، فخرج لذلك عن طاعته نوح ولحق بركن الدولة بن بويه، ومات في خدمته. ما جرى في هذه السنة بين المعز العلوي وعبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس وفي هذه السنة أنشأ عبد الرحمن الناصر الأموي مركباً كبيراً، لم يعمل مثله، وسير فيه بضائع لتباع في بلاد الشرق، ويعتاض عنها، فلقي في البحر مركباً فيه رسول من صقليه إِلى المعز العلوي، ومعه مكاتبات إِليه، فقطع عليهم المركب الأندلسي وأخذهم بما معهم، وبلغ المعز فجهز أسطولا إِلى الأندلس، واستعمل عليه الحسن بن علي عامله على صقلية، فوصلوا

إلى المرية وأحرقوا جميع ما في ميناها من المراكب، وأخذوا ذلك المركب الكبير المذكور، بعد عوده من الإسكندرية، وفيه جوار مغنيات وأمتعة لعبد الرحمن، وصعد أسطول المعز إِلى البر فقتلوا ونهبوا ورجعوا سالمين إِلى المهدية، ولما جرى ذلك، جهز عبد الرحمن أسطولاٌ إِلى بلاد إِفريقية، فوصلوا إِليها، فقصدهم عساكر المعز فرجعوا إِلى الأندلس بعد قتال جرى بينهم. ثم دخلت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. فيها سار سيف الدولة بن حمدان إِلى بلاد الروم، فغنم وسبى وفتح عدة حصون، ورجع إِلى أذنة فأقام بها، ثم ارتحل إِلى حلب. وفيها توفي أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد غلام ثعلب المعروف بالمطرز، أحد أئمة اللغة المشاهير المكثرين، صحب أبا العباس ثعلباً زماناً فعرف به، وللمطرز المذكور عدة مصنفات، وكانت ولادته سنة إحدى وستين ومائتين، وكان اشتغاله بالعلوم، قد منعه عن اكتساب الرزق، فلم يزل مضيقَاً عليه، وكان لسعة روايته وكثرة حفظه يكذبه أدباء زمانه في أكثر نقل اللغة، ويقولون: لو طار طائر يقول أبو عمر المذكور: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي ويذكر في معنى ذلك شيئاً، وكان يلقي تصانيفه من حفظه، حتى أنه أملى في اللغة ثلاثين ألف ورقة، فلهذا الإكثار نسب إِلى الكذب. ثم دخلت سنة ست وأربعين وثلاثمائة في هذه السنة مات السلار المرزبان صاحب أذربيجان، وملك بعده ابنه حسان، وكان لمرزبان أخ يسمى وهشوذان. فشرع في الإفساد بين أولاد أخيه، حتى وقع ما بينهم وتقاتلوا، وبلغ عمهم وهشوذان ما أراد، وقد ذكر ابن الأثير في حوادث هذه السنة أن البحر نقص ثمانين باعاً، فظهرت فيه جزائر وجبال لم تعرف قبل ذلك. وفيها توفي أبو العباس محمد بن يعقوب الأموي النيسابوري، المعروف بالأصم وكان عالي الإسناد في الحديث، وصحب الربيع بن سليمان صاحب الشافعي، وأبو إسحاق إِبراهيم بن محمد الفقيه البخاري الأمين. ثم دخلت سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. مسير جيوش المعز العلوي إِلى أقاصي المغرب فيها عظم أمر أبي الحسن، جوهر عبد المعز، فصار في رتبة الوزارة، وسيره المعز في صفر هذه السنة، في جيش كثيف إِلى أقاصي المغرب، فسار إلى تاهرت، ثم سار منها إِلى فاس في جمادى الآخرة، وبها صاحبها أحمد بن بكر، فأغلق أبوابها، فنازلها جوهر وقاتل أهلها، فلم يقدر عليها، ومضى جوهر حتى انتهى إلى البحر المحيط، وسلك تلك البلاد جميعها، ثم عاد إِلى فاس ففتحها عنوة وكان مع جوهر زيري بن مناذ الصنهاجي، وكان شريكه في الإمرة، وكان فتح فاس في رمضان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة. وفيها توفي أبو الحسن علي بن البوشجي الصوفي بنيسابور، وهو أحد المشهورين منهم. وفيها توفي أبو الحسن محمد من ولد أبي الشوارب، قاضي بغداد، وكان مولده سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وأبو علي الحسين

بن علي النيسابوري. وأبو محمد عبد الله الفارسي النحوي، أخذ النحو عن المبرد. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة فيها توفي أبو بكر بن سليمان الفقيه الحنبلي، المعروف بالنجاد، وعمره خمس وتسعون سنة، وجعفر بن محمد الخلدي الصوفي، وهو من أصحاب الجنيد، وفيها انقطعت الأمطار وغلت الأسعار في كثير من البلاد. ثم دخلت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة فيها وقع الخلف بين أولاد المرزبان، فاضطروا إِلى مساعدة عمهم وهشوذان، فكاتبوه وصالحوه، وقدموا عليه فغدر بهم، وأمسك حسان وناصراً ابني أخيه وأمهما وقتلهم. في هذه السنة غزا سيف الدولة ابن حمدان بلاد الروم في جمع كثير، ففتح وأحرق وقتل وغنم وبلغ إِلى خرشنه وفي عوده أخذت الروم عليه الضائق واستردوا ما أخذه، وأخذوا أثقاله وأكثروا القتل في أصحابه، وتخلص سيف الدولة في ثلاثمائة نفس. وكان قد أشار عليه أرباب المعرفة بأن لا يعود على الطريق، فلم يقبل، وكان سيف الدولة معجباً بنفسه، يحب أن يستبد ولا يشاور أحداً، لئلا يقال إِنه أصاب برأي غيره. وفي هذه السنة أسلم من الأتراك نحو مائتي ألف خركاة. وفيها انصرف حجاج مصر من الحج فنزلوا وادياً وباتوا فيه، فأتاهم السيل ليلاً وأخذهم جميعهم مع أثقالهم وجمالهم، فألقاهم في البحر. وفي هذه السنة أو قريب من هذه السنة، توفي أبو الحسن التيناتي، نسبة إِلى التينات، وكان عمره مائة وعشرين سنة، وله كرامات مشهورة. وفيها مات أنوجور بن الإخشيد صاحب مصر، وأقيم أخوه علي بن الإخشيد مكانه. ثم دخلت سنة خمسين وثلاثمائة. موت صاحب خراسان وفي هذه السنة يوم الخميس حادي عشر شوال، تقنطر بالأمير عبد الملك بن نوح الساماني فرسه، فوقع عبد الملك إِلى الأرض فمات من ذلك، فثارت الفتنة بخراسان بعده، وولي مكانه أخوه منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إِسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان. وفاة صاحب الأندلس وفي هذه السنة توفي عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، في رمضان، وكانت مدة إِمارته خمسين سنة ونصفاً، وعمره ثلاث وسبعون سنة، وكان أبيض أشهل حسن الوجه، وهو أول من تلقب من الأمويين أصحاب الأندلس بألقاب الخلفاء، وتسمى بأمير المؤمنين، وكان من قبله يخاطبون، ويخطب لهم بالأمير وأبناء الخلائف، وبقي عبد الرحمن كذلك إلى أن مضى من إِمارته سبع وعشرون سنة، فلما بلغه ضعف الخلفاء بالعراق، وظهور الخلفاء العلويين بإفريقية ومخاطبتهم بأمير المؤمنين أمر حينئذ أن يلقب بالناصر لدين الله، ويخطب له بأمير المؤمنين، وأمه أم ولد اسمها مدنة ولما مات ولي الأمر بعده ابنه الحكم بن عبد الرحمن وتلقب بالمستنصر

وخلف عبد الرحمن أحد عشر ولداً ذكراً. وفي هذه السنة تولى قضاء القضاة ببغداد أبو العباس عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب، والتزم كل سنة أن يؤدي مائتي ألف درهم، وهو أول من ضمن القضاء. وكان ذلك في أيام معز الدولة بن بويه، ولم يسمع بذلك قبلها، ثم ضمنت بعده الحسبة والشرطة ببغداد. وفيها توفي أبو شجاع فاتك وكان رومياً، وأخذه الإخشيد صاحب مصر من سيده بالرملة، وارتفعت مكانته عنده، وكان رفيق كافور، فلما مات الإخشيد وصار كافور أتابك ولده، أنف فاتك من ذلك، وكانت الفيوم إِقطاعة، فانتقل وقام بها، وكثرت أمراضه لوخم الفيوم، فعاد إلى مصر كرهاً المرض، وكان كافور يخافه ويخدمه، وكان المتنبي إِذ ذلك بمصر عند كافور، فاستأذنه، ومدح فاتك المذكور بقصيدته التي أولها: لا خيل عندك تُهديها ولا مال ... فليسعد النطق إِن لم يسعد الخال كفاتك ودخول الكاف منقصة ... كالشمس قلت وما للشمس أمثال ولما توفي فاتك رثاه المتنبي بقصيدته التي أولها: الحزن يقلق والتجملُ يردعُ ... والدمع بينهما عصيٌ طيع ومنها: إِني لأجبن من فراق أحبتي ... وتحس نفسي بالحمام فأشجع تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يتوقع ومن يغالط في الحقيقة نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع ثم دخلت سنة إِحدى وخمسين وثلاثمائة، وفي هذه السنة سارت الروم مع الدمستق وملكوا عين زربى بالأمان فقتلوا بعض أهلها وأطلقوا أكثرهم. استيلاء الروم على حلب وعودهم عنها بغير سبب وفي هذه السنة استولت الروم على مدينة حلب، دون قلعتها، وكان قد سار إِليها الدمستق، ولم يعلم به سيف الدولة إِلا عند وصوله، فلم يلحق سيف الدولة أن يجمع، وخرج فيمن معه وقاتل الدمستق، فقُتل غالب أصحابه وانهزم سيف الدولة في نفر قليل، وظفر الدمستق بداره، وكانت خارج مدينة حلب تسمى الدارين، فوجد الدمستق فيها ثلاثمائة بدرة من الدراهم، وأخذ لسيف الدولة ألف وأربعمائة بغل، ومن السلاح ما لا يحصى، وملكت الروم الحواضر وحصروا المدينة وثلموا السور، وقاتلهم أهل حلب أشد قتال، فتأخر الروم إِلى جبل جوشن. ثم وقع بين أهل حلب ورجالة الشرطة فتنة، بسبب نهب كان وقع بالبلد، فاجتمع بسبب ذلك الناس، ولم يبق على الأسوار أحد، فوجد الروم السور خالياً، فهجموا البلد وفتحوا أبوابه وأطلقوا السيف في أهل حلب، وسبوا بضعة عشر ألف صبي

وصبية، وغنموا ما لا يوصف كثرة، فلما لم يبق معهم ظهر يحمل الغنائم، أمر الدمستق فأحرقوا ما بقي بعد ذلك، وأقام الدمستق تسعة أيام ثم ارتحل عائداً إِلى بلاده ولم ينهب قرايا حلب، وأمرهم بالزراعة ليعود من قابل إِلى حلب في زعمه. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة استولى ركن الدولة بن بويه على طبرستان وجرجان. وفيها كتب عامة الشيعة بأمر معز الدولة على المساجد، ما هذه صورته لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة فدكا، ومن منع أن يدفن الحسن عند قبر جده، ومن نفى أبا ذر الغفاري، ومن أخرج أبا العباس عن الشورى. فلما كان من الليل حكه بعض الناس، فأشار الوزير المهلبي على معز الدولة أن يكتب موضع المحي لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يذكر أحد في اللعن إِلا معاوية، ففعل ذلك. وفي هذه السنة في ذي القعدة سارت جيوش المسلمين إِلى صقلية، ففتحوا طبرمين، وهي من أمنع الحصون وأشدها على المسلمين بعد حصار سبعة أشهر ونصف، وسميت طبرمين المعزية نسبة إِلى المعز العلوي. وفيها فتحت الروم حصن دلوك بالسيف وثلاثة حصون مجاورة له. وفي هذه السنة في شوال أسرت الروم أبا فراس الحارث بن سعيد بن حمدان من منبج، وكان متقلداً بها. وفيها توفي أبو بكر محمد بن الحسن النقاش المقري، صاحب كتاب شفاء الصدور. ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة في هذه السنة توفي الوزير المهلبي أبو محمد، وكانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، وكان كريماً عاقلاً ذا فضل. وفيها في عاشر المحرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم، وأن يظهروا النياحة، وأن يخرج النساء منشورات الشعور، مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن ويلطمن وجوههن، على الحسين بن علي رضي الله عنهما، ففعل الناس ذلك. ولم يقدر السنية على منع ذلك لكثرة الشيعة، والسلطان معهم. وفيها عزل ابن أبي الشوارب عن القضاء. وأَبطل ما كان التزم به من الضمان. وفيها قتل الروم ملكهم، وملكوا غيره، وصار ابن شمشقيق دمستقاً، وفيها في ثامن ذي الحجة، أمر معز الدولة بإِظهار الزينة في البلد والفرح، كما يفعل في الأعياد، فرحاً بعيد غد يرخم، وضربت الدبادب والبوقات. ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة في هذه السنة سار معز الدولة واستولى على الموصل ونصيبين، بعد أن انهزم ناصر الدولة من بين يديه، ثم وقع بينهما الاتفاق، وضمن ناصر الدولة الموصل بمال ارتضاه معز الدولة، فرحل معز الدولة ورجع إلى بغداد. ثم دخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وفي هذه السنة سار ملك الروم إِلى المصيصة، فحاصرها وفتحها عنوة بالسيف، يوم السبت ثالث عشر رجب، ووضع السيف في أهلها، ثم رفع السيف وأخذ من بقي أسرى، ونقلهم إِلى بلد الروم، وكان أهلها

نحو مائتي ألف إِنسان، ثم سار إِلى طرسوس، فطلب أهلها الأمان فأمنهم، وتسلم طرسوس وسار أهلها عنها في البر والبحر، وسير ملك الروم معهم من يحميهم، حتى وصلوا إِلى إنطاكية، وجعل جامع طرسوس اصطبلا، وأحرق المنبر، وعمر طرسوس حصنها وتراجع إِليها بعض أهلها وتنصر بعضهم، ثم عاد ملك الروم إِلى القسطنطينية. مخالفة أهل إنطاكية على سيف الدولة بن حمدان في هذه السنة أطاع أهل إنطاكية بعض المقدمين، الذين حضروا من طرسوس، وخالفوا سيف الدولة، وكان اسم المقدم الذي أطاعوه رشيقاً فسار إِلى جهة حلب، وقاتل عامل سيف الدولة قرعويه، وكان سيف الدولة بميافارقين فأرسل سيف الدولة عسكراً مع خادمه بشارة فاجتمع قرعويه العاعل بحلب مع بشارة، وقاتلا رشيق، فقتل رشيق وهرب بأصحابه، ودخلوا إنطاكية. وفي هذه السنة قتل المتنبي الشاعر وابنه، قتلهما الأعراب وأخذوا ما معهما، واسمه أحمد بن الحسين بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الكندي، ومولده سنة ثلاث وثلاثمائة في الكوفة، بمحلة تسمى كندة، فنسب إِليها، وليس هو من كندة، التي هي قبيلة، بل هو جُعْفي القبيلة، بضم الجيم وسكون العين المهملة، ويقال إِنّ المتنبي كان سقاء بالكوفة، وفي ذلك يقول بعضهم يهجو المتنبي بأبيات منها: أي فضل لشاعر يطلب الفض ... ل من الناس بكرة وعشيا عاش حينا يبيع في الكوفة الما ... ء وحينا يبيع ماء المحيا ثم قدم المتنبي إِلى الشام في صباه، واشتغل بفنون الأدب، ومهر فيها، وكان من المكثرين لنقل اللغة، والمطلعين عليها وعلى غريبها، لا يسأل عن شيء إلا واستشهد فيه بكلام العرب، حتى قيل إِن الشيخ أبا علي الفارسي صاحب كتاب الإيضاح قال له يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعلى، فقال المتنبي في الحال: حجلى وظربى. قال أبو علي فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهما ثالثاً فلم أجد، وحسبك من يقول في حقه أبو علي هذه المقالة، وأما شعره فهو النهاية ورزق فيه السعادة، وإنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في برية السماوة، وتبعه خلق كثير من بني كلب، وغيرهم، فخرج إِليه لؤلؤ نائب الإخشيدية بحمص، فأسر المتنبي وتفرق عنه أصحابه، وحبسه طويلا ثم استتابه وأطلقه، ثم التحق المتنبي بسيف الدولة بن حمدان في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، ثم فارقه واتصل بمصر سنة ست وأربعين، فمدح كافوراً الإِخشيدي، ثم هجاه وفارقه سنة خمسين وقصد عضد الدولة ببلاد فارس ومدحه، ثم رجع قاصداً الكوفة، فقتل بقرب النعمانية، وهي من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول، قتلته العرب، وأخذوا ما معه. وفيها توفي محمد بن حبان أبو حاتم بن أحمد بن حبان البستي صاحب التصانيف المشهورة، حبان بكسر الحاء المهملة والباء الموحدة ثم ألف

ونون. ثم دخلت سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. خروج الروم إلى بلاد الإسلام في هذه السنة، خرجت الروم ووصلوا إلى آمد وحصروها، ثم انصرفوا عنها إِلى قرب نصيبين، وغنموا، وهرب أهل نصيبين، ثم ساروا من الجزيرة إِلى الشام ونازلوا إنطاكية وأقاموا عليها مدة طويلة، ثم رحلوا عنها إِلى طرسوس. وفي هذه السنة استفك سيف الدولة بن حمدان بن عمه أبا فراس ابن حمدان من الأسر، وكان بينه وببن الروم الفداء، فخلص عدة من المسلمين من الأسر. ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلاثمائة. موت معز الدولة وولاية ابنه بختيار في هذه السنة سار معز الدولة إِلى واسط، وجهز الجيوش لمحاربة عمران بن شاهين صاحب البطيحة، وحصل له إِسهال، فلما قوي به عاد إِلى بغداد، وترك العسكر في قتال عمران بن شاهين، ثم تزايد به المرض بعد وصوله إِلى بغداد، فلما أحس بالموت، عهد إِلى ابنه بختيار، ولقبه عز الدولة، وأظهر معز الدولة التوبة وتصدق بأكثر ماله وأعتق مماليكه، وتوفي ببغداد في ثالث عشر ربيع الآخر من هذه السنة، بعلة الذرب، ودفن بباب التبن، في مقابر قريش، وكانت إمارته إِحدى وعشرين سنة، وأحد عشر شهراً. ولما مات معز الدولة استقر ابنه عز الدولة بختيار في الإمارة، وكتب بختيار إِلى العسكر بمصالحة عمران بن شاهين، وعودهم إِلى بغداد، ففعلوا ذلك، وكان معز الدولة مقطوع اليد، قيل إِنها قطعت بكرمان في بعض حروبه، ومعز الدولة هو الذي أنشأ السعاة ببغداد لأعلام أخيه ركن الدولة بالأحوال سريعاً، فنشأ في أيامه فضل ومرعوش وفاقا جميع السعاة، وكان كل واحد منهما يسير في اليوم نيفاً وأربعين فرسخاً، وتعصبت لهما الناس، وكان أحدهما ساعي السنية والآخر ساعي الشيعة، ولما تولى بختيار، أساء السيرة واشتغل باللعب واللهو وعشرة النساء، والمغنيين وبغى كبائر الديلم شرهاً إِلى إِقطاعاتهم. القبض على ناصر الدولة بن حمدان وفي هذه السنة، قبض ابن ناصر الدولة أبو تغلب، على أبيه ناصر الدولة، وحبسه وكان سبب قبضه، أن ناصر الدولة كان قد كبر وساءت أخلاقه، وضيق على أولاده وأصحابه وخالفهم في أغراضهم فضجروا منه، حتى وثب عليه ابنه أبو تغلب فقبضه في هذه السنة في أواخر جمادى الأولى، ووكل به من يخدمه، ولما فعل أبو تغلب ذلك خالفه بعض أخوته، فاحتاج أبو تغلب إِلى مداراة بختيار ليعضده، فضمن أبو تغلب البلاد لبختيار بألف ألف ومائتي ألف درهم.

وفاة وشمكير في هذه السنة مات وشمكير بن زيار أخو مرداويج بأن حمل عليه وهو في الصيد، خنزير مجروح، فقامت به فرسه فسقط إلى الأرض فمات، فقام بالأمر بعده ابنه بيستون بن وشمكير بن زيار، وقيل إِن موته كان سنة سبع وخمسين في المحرم. وفاة كافور وفيها مات كافور الإخشيدي وكان خصياً أسود من موالي محمد بن طغج الإخشيدي صاحب مصر، واستولى كافور على ملك مصر والشام بعد موت أولاد الإخشيد، فإنه ملك بعد الإخشيد ابنه أنوجور، والأمر جميعه إِلى كافور، ثم مات أنوجور سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فأقام كافور أخاه علياً بن الإخشيد، فتوفي علي ابن الإخشيد المذكور، وهو صغير، في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة فاستقل كافور بالمملكة من هذا التاريخ وكان كافور شديد السواد، واشتراه الإخشيد بثمانية عشر ديناراً وقصده المتنبي ومدحه، وحكى المتنبي قال: كنت إِذا دخلت على كافور، أنشده يضحك لي، ويبش في وجهي إِلى أن أنشدته: ولما صار ود الناس خبا ... جزيتَ على ابتسام بابتسام وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام قال: فما ضحك بعدها في وجهي إِلى أن تفرقنا، فعجبت من فطنته وذكائه، ولم يزل كافور مستقلاً بالأمر حتى توفي في هذه السنة يوم الثلاثاء لعشرين بقين من جمادى الأولى بمصر، وقيل كانت وفاته سنة سبع وخمسين، ودفن بالقرافة الصغرى، وكان يدعى له على المنابر بمكة والحجاز جميعه، والديار المصرية، وبلاد الشام، وكان تقدير عمره خمساً وستين سنة، ووقع الخلف فيمن ينصب بعده، واتفقوا على أبي الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيد وخطب له في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وفاة سيف الدولة وفيها مات سيف الدولة، أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي الربعي، وكان موته بحلب في صفر، وحمل تابوته إِلى ميافارقين، فدفن بها، وكان مولده في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثمائة وكان مرضه عسر البول، وهو أول من ملك حلب من بني حمدان، أخذها من أحمد بن سعيد الكلابي نائب الإخشيد وقيل إن أول من ولى حلب من بني حمدان، الحسين بن سعيد، وهو أخو أبي فراس حمدان وكان سيف الدولة شجاعاً كريماً، وله شعر فمنه ما قاله في أخيه ناصر الدولة: وهبت لك العلياء وقد كنت أهلها ... وقلت لهم بيني وبين أخي فرق

وما كان لي عنها نكول وإنما ... تجاوزت عن حقي فتم لك الحق أما كنت ترضى أن أكون مصلياً ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق وله: قد جرى في دمعه دمه ... فإلى كم أنت تظلمه رد عنه الطرف منك فقد ... جَرحنه منك أسهمه كيف يستطيع التجلد من ... خطرات الوهم تؤلمه ولما توفي سيف الدولة، ملك بلاده بعده ابنه سعد الدولة شريف، وكنيته أبو المعالي بن سيف الدولة بن حمدان. وفي هذه السنة توفي أبو علي محمد بن إِلياس، صاحب كرمان. وفي هذه السنة توفي أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، الكاتب الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني، وجده مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وهو أصفهاني الأصل بغدادي المنشأ، وروى عن عالم كثير من العلماء، وكان عالماً بأيام الناس والأنساب والسير، وكان على أمويته متشيعاً، قيل إِنه جمع كتاب الأغاني في خمسين سنة وحمله إِلى سيف الدولة، فأعطاه ألف دينار، واعتذر إِليه، له غيره مصنفات عدة، وصنف كتباً لبني أمية أصحاب الأندلس، وسيرها إِليهم سراً وجاءه الإنعام منهم سراً، وكان منقطعاً إِلى الوزير المهلبي، وله فيه مدائح، وكانت ولادته سنة أربع وثمانين ومائتين، وأسماء الكتب التي صنفها لبني أمية: نسب بني عبد شمس، وأيام العرب ألف وسبع مائة يوم، وجمهرة النسب ونسب بني سنان. ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة في هذه السنة استولى عضد الدولة ابن ركن الدولة بن بويه على كرمان بعد موت صاحبها علي بن إِلياس. قتل أبي فراس بن حمدان وفي هذه السنة في ربيع الآخر قتل أبو فراس وكان مقيماً بحمص، فجرى بينه وبين أبي المعالي بن سيف الدولة وحشة، وطلبه أبو المعالي، فانحاز أبو فراس إلى صدد فأرسل أبو المعالي عسكر مع قرعويه، أحد قواد عسكره، فكبسوا أبا فراس في صدد، وقتلوه، وكان أبو فراس خال أبي المعالي وابن عمه، واسم أبي فراس الحارث بن أبي العلا سعيد بن حمدان بن حمدون وهو ابن عم ناصر الدولة، وسيف الدولة أسر بمنبج كما ذكرناه، وحمل إِلى القسطنطينية، وأقام في الأسر أربع سنين، وله في الأسر أشعار كثيرة، وكانت منبج إِقطاعه. وقال ابن خالويه. لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص، فاتصل خبره بأبي المعالي بن سيف الدولة وغلام أبيه قرعويه، فأرسله إِليه وقاتله، فقتل في صدد وقيل بقي مجروحاً أياماً، َ ومات، وكان مولده سنة عشرين وثلاثمائة. وفي مقتله في

صدد يقول بعضهم: وعلمني الصد من بعده ... عن النوم مصرعه في صدد فسقيا لها إِذ حوت شخصه ... وبعداً لها حيث فيها ابتعد غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة مات المتقي لله إِبراهيم بن المقتدر في داره أعمى مخلوعاً، ودفن فيها. وفيها توفي علي بن قيدار الصوفي في النيسابوري. ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. ملك المعز العلوي مصر في هذه السنة، سير المعز لدين الله أبو تميم معد بن إِسماعيل المنصور بالله ابن القائم محمد بن المهدي عبيد الله القائد أبا الحسين، جوهر أغلام، والده المنصور، وجوهر رومي الجنس، فسار جوهر المذكور، في جيش كثيف إلى الديار المصرية، فاستولى عليها، وكان سبب ذلك أنه لما مات كافور الإِخشيدي، اختلفت الأهواء في مصر، وتفرقت الآراء، فبلغ ذلك المعز، فجهّز العسكر إِليها، فهربت العساكر الإِخشيدية من جوهر المذكور قبل وصوله، ووصل القائد جوهر إِلى الديار المصرية سابع عشر شعبان، وأقيمت الدعوة للمعز في الجامع العتيق في شوال، وكان الخطيب أبا محمد عبد الله بن الحسين الشمشاطي، وفي جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، قدم جوهر إِلى جامع ابن طولون وأمر فأذن فيه بحي على خير العمل، ثم أذّن بعده بذلك في الجامع العتيق، وجهر في الصلاة يبسم الله الرحمن الرحيم ولما استقر جوهر بمصر شرع في بناء القاهرة. ملك عسكر المعز دمشق وغيرها من البلاد ولما استقر قدم جوهر بمصر، سيّر جمعاً كثيراً مع جعفر بن فلاج إلى الشام، فبلغ الرملة، وبها للحسن بن عبد الله بن طغج، وجرى بينهما حروب كان الظفر فيها لعسكر المعز، وأسر ابن طغج وغيره من القواد، فسيرهم جوهر إِلى المعز، واستولى عساكر المعز على تلك البلاد، وجبوا أموالها. ثم سار جعفر بن فلاج بالعساكر إِلى طبرية، فوجد أهلها قد أقاموا الدعوة للمعز قبل وصوله. فسار عنها إِلى دمشق، فقاتله أهلها فظفر بهم، وملك دمشق ونهب بعضهما، وكف عن الباقين، وأقام الخطبة يوم الجمعة للمعز لدين الله العلوي، لأيام خلت من المحرم، سنة تسع وخمسين، وقطعت الخطبة العباسية، وجرى في أثناء هذه السنة بعد إِقامة الخطبة العلوية، فتنة بين أهل دمشق وجعفر بن فلاج، ووقع بينهم حروب، وقطعوا الخطبة العلوية، ثم استظهر جعفر بن فلاج واستولى على دمشق، فزالت الفتن واستقرت دمشق للمعز لدين الله العلوي.

اختلاف أولاد ناصر الدولة وموت أبيهم كان أبو تغلب وأبو البركات، وأختهما فاطمة، أولاد ناصر الدولة، من زوجته فاطمة بنت أحمد الكردية، وكانت مالكة أمر ناصر الدولة، فاتفقت مع ابنها أبي تغلب، وقبضوا على ناصر الدولة على ما ذكرناه، وكان لناصر الدولة ابن آخر اسمه حمدان، كان ناصر الدولة قد أقطعه الرحبة وماردين وغيرهما، فلما قبض ناصر الدولة، كاتب ابنه حمدان يستدعيه، ليتقوى به على المذكورين، فظفر أولاده بالكتاب، فخوفوا أباهم وحذروه، وبلغ ذلك حمدان، فعادى أخوته، وكان أشجعهم، ولما خاف أبو تغلب من أبيه ناصر الدولة، نقله إِلى قلعة كواشي، وحبسه بها، وبقي ناصر الدولة محبوساً بها شهوراً، ومات ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان التغلبي المذكور، بقلعة كواشي، في ربيع الأول من هذه السنة، ووقع بين حمدان بن ناصر الدولة، وبين أخويه أبي تغلب وأبي بركات حروب كثيرة، قتل فيها أبو البركات، قتله أخوه حمدان. ثم قوي أبو تغلب على أخيه حمدان وطرده عن بلاده، واستولى عليها، وكان يلقب أبو تغلب بن ناصر الدولة المذكور، عدة الدولة الغضنفر أبا تغلب. ما فعله الروم بالشام في هذه السنة دخل ملك الروم إِلى الشام، ولم يمنعه أحد، فسار في البلاد إلى طرابلس، وفتح قلعة عرقة بالسيف، ثم قصد حمص، وقد أخلاها أهلها، فأحرقها ورجع إِلى بلاد الساحل، فأتى عليها نهباً وتخريباً، وملك ثمانية عشر منبراً، وأقام في الشام شهرين، ثم عاد إِلى بلاده، ومعه من الأسرى والغنائم ما يفوق الحصر. استيلاء قرعويه على حلب في هذه السنة استولى قرعويه غلام سيف الدولة على حلب، وأخرج ابن أستاذه أبا المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان منها، فسار أبو المعالي إِلى عند والدته بميافارقين، وأقام عندها، ثم جرى بينهما وحشة، ثم اتفقا بعدها، ثم سار أبو المعالي فعبر الفرات وقصد حماة وأقام بها. وفي هذه السنة طلب سابور بن أبي طاهر القرمطي من أعمامه، أن يسلموا الأمر إِليه، فحبسوه ثم أخرج ميتاً في منتصف رمضان. ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. ما ملكه الروم من البلاد في هذه السنة، سارت الروم إِلى الشام، ففتحوا إنطاكية بالسيف، وقتلوا أهلها، وغنموا وسبوا، ثم قصدوا حلب، وقد تغلب عليها قرعويه، غلام سيف الدولة بن حمدان، بعد طرد ابن أستاذه أبي المعالي عنها، فتحصن قرعويه بالقلعة، وملك الروم مدينة حلب وحصروا

القلعة، ثم اصطلحوا على مال يحمله قرعويه إلى ملك الروم في كل سنة، وكانت المصالحة بحمل المال المقرر على حلب وما معها من البلاد، وهي حماة وحمص وكفر طاب والمعرة وأفامية وشيزر وما بين ذلك، ودفع أهل حلب الرهائن بالمال إِلى الروم، فرحلت الروم عن حلب، وعادت المسلمون إِليها. وفيها رسل ملك الروم إِلى ملاز كرد من أرمينية جيشاً، فحصروها وفتحوها، عنوة بالسيف، وصارت البلاد كلها مسبية، ولا يمنع الروم عنها مانع. قتل ملك الروم كان قد غلب على ملك الروم رجل ليس من بيت المملكة، واسمه نقفور وخرج إلى بلاد الإسلام وفتح من الشام وغيره ما ذكرناه، وطمع في ملك جميع الشام وعظمت هيبته، وكان قد قتل الملك الذي قبله، وتزوج امرأته، ثم أراد أن يخصي أولادها الذين من بيت الملك، لينقطع نسلهم، ويبقى الملك في نسل نقفور المذكور وعقبه، فعظم ذلك على أمهم التي هي زوجة نقفور، فاتفقت مع الدمستق على قتله، وأدخلت الدمستق مع جماعة في زي النساء إِلى كنيسة متصلة بدار نقفور، فلما نام نقفور وغلقت الأبواب قامت زوجته ففتحت الباب الذي إِلى جهة الكنيسة، ودعت الدمستق، فدخل على نقفور وهو نائم، فقتله وأراح الله المسلمين من شره، وأقام الدمستق أحد أولادها الذي من بيت الملك في الملك، والدمستق عندهم اسم لكل من يلي بلاد الروم التي هي شرقي خليج قسطنطينية. استيلاء أبي تغلب بن ناصر الدولة على حران في هذه السنة سار أبو تغلب إِلى حَران وحاصرها مدة وفتحها بالأمان، فاستعمل على حران البرقعيدي، وهو من أكابر أصحاب بني حَمْدان، ثم عاد أبو تغلب إِلى المَوْصل. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة اصطلح قرعويه مع ابن أستاذه أبي المعالي، وخطب له بحلب، وكان أبو المعالي حينئذ بحمص، وخطب أيضاً بحمص وحلب للمعز لدين الله العلوي، صاحب مصر، وخطب بمكة للمطيع، وبالمدينة النبوية للمعز، وخطب أبو محمد الموسوي والد الشريف الرضي خارج المدينة للمطيع. وفي هذه السنة مات محمد بن داود الدينوري، المعروف بالرقي وهو من مشاهير مشايخ الصوفية، والقاضي أبو العلا محارب بن محمد بن محارب، الفقيه الشافعي، وكان عالماً بالفقه والكلام. ثم دخلت سنة ستين وثلاثمائة. ملك القرامطة دمشق في هذه السنة، في ذي القعدة، وصلت القرامطة إِلى دمشق، وبلغ خبرهم جعفر ابن فلاج، نائب المعز لدين الله، فاستهان بهم، فكبسوه خارج دمشق وقتلوه، وملكوا دمشق وأمنوا

أهلها، ثم ساروا إِلى الرملة فملكوها، ثم اجتمع إليهم خلق من الإخشيدية. فقصدوا مصر، ونزلوا بعين شمس، وجرى بنيهم وبين المغاربة وجوهر قتال، انتصرت فيه القرامطة، ثم انتصرت المغاربة، فرحلت القرامطة وعادوا إلى الشام، وكان كبير القرامطة حينئذ اسمه الحسن بن أحمد بن بهرام. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة، الصاحب أبا القاسم ابن عباد. وفيها مات أبو القاسم سليمان بن أيوب الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة بأصفهان، وكان عمره مائة سنة. وفيها توفي السري الرفاء الشاعر الموصلي ببغداد. ثم دخلت سنة إِحدى وستين وثلاثمائة في هذه السنة وصلت الروم إِلى الجزيرة والرها ونصيبين، فغنموا وقتلوا، ووصل المسلمون إلى بغداد مستصرخين، فثارت العامة. وجرى في بغداد فتن كثيرة، واستغاثوا إِلى بختيار وهو في الصيد، فوعدهم الخروج إِلى الغزاة، وأرسل بختيار يطلب من الخليفة المطيع مالاً، فقال المطيع: أنا ليس لي غير الخطبة، فإِن أحببتم اعتزلت، فتهدده بختيار، فباع الخليفة قماشه وغير ذلك، حتى حمل إِلى بختيار أربعمائة ألف درهم، فأنفقها بختيار وأخرجها في مصالح نفسه، وبطل حديث الغزاة، وشاع في الناس أن الخليفة صودرَ. مسير المعز لدين الله العلوي إِلى مصر وفي هذه السنة سار المعز من إفريقية، في أواخر شوال واستعمل على بلاد إفريقية يوسف، ويسمى بلكين بن زيري بن مناذ الصنهاجي، وجعل على بلاد صقلية أبا القاسم علي بن الحسين بن علي بن أبي الحسين، وعلى طرابلس الغرب عبد الله بن يخلف الكتامي، واستصحب المعز معه أهله وخزانته، وفيها أموال عظيمة، حتى سبك الدنانير وعملها مثل الطواحين، وشالها على جمال، ولما وصل إلى برقة ومعه محمد بن هاني الشاعر الأندلسي، قتل غيلة، لا يدري من قتله، وكان شاعراً مجيداً، وغالي في مدح المعز حتى كفر في شعره، فمما قاله: ما شئتَ لا ما شاءَتِ الأقدار ... فاحكمْ فأنتَ الواحد القهار ثم سار المعز حتى وصل إِلى الإسكندرية في أواخر شعبان، سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وأتاه أهل مصر وأعيانها فلقيهم وأكرمهم، ودخل القاهرة خامس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، تم الصلح بين منصور بن نوح الساماني، صاحب خراسان وبين ركن الدولة بن بويه، على أن يحمل ركن الدولة إِليه في كل سنة مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار، وتزوج منصور بابنة عضد الدولة. وفيها ملك أبو تغلب بن ناصر الدولة بن

غير ذلك من الحوادث

حمدان قلعة ماردين، سلمها إِليه نائب أخيه حمدان، فأخذ أبو تغلب كل ما لأخيه فيها من مال وسلاح. ثم دخلت سنة اثنتين وستين وثلاثمائة فيها وصل الدمستق إلى جهة ميافارقين، فنهب واستهان بالمسلمين، فجهز أبو تغلب بن ناصر الدولة، أخاه هبة الله بن ناصر الدولة، في جيش، فالتقوا مع الدمستق، فانهزمت الروم، وأخذ الدمستق أسيراً، وبقي في الحبس عند أبي تغلب، ومرض فعالجه أبو تغلب، فلم ينجع فيه، ومات الدمستق في الحبس. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة استوزر عز الدولة، بختيار، محمد بن بقية، فعجب الناس. من ذلك، لأن ابن بقية كان رضيعاً في نفسه من أهل أوانا، وكان أبوه أحد الزراعين. وفي هذه السنة حصلت الوحشة بين بختيار وبين أصحابه من الديلم والأتراك. ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. خلع المطيع وخلافة ابنه الطايع كان بختيار قد سار إِلى الأهواز، وتخلف سبكتكين التركي عنه ببغداد، فأوقع بختيار بمن معه من الأتراك، واحتاط على إِقطاع سبكتكين، فخرج عليه سبكتكين ببغداد فيمن بقي معه من الأتراك، ونهب دار بختيار ببغداد؛ ولما حكم سبكتكين، رأى المطيع عاجزاً من المرض، وقد ثقل لسانه، وتعذرت الحركة عليه، وكان المطيع يستر ذلك، فلما انكشف لسبكتكين، دعاه إِلى أن يخلع نفسه من الخلافة، ويسلمها إِلى ولده الطايع، فأجاب إِلى ذلك، وخلع المطيع لله المفضل نفسه، في منتصف ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وكانت مدة خلافته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر غير أيام. وبويع الطايع لله وهو رابع عشرينهم، واسمه عبد الكريم بن المفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بن المعتضد أحمد، وكنية الطايع المذكور أبو بكر، واستقر أمره. أحوال المعز العلوي وفي هذه السنة سارت القرامطة إِلى ديار مصر، وجرى بينهم وبين المعز حروب، آخرها أن القرامطة انهزمت، وقتل منهم خلق كثير، وأرسل المعز في أثرهم عشرة آلاف فارس، فسارت القرامطة إِلى الإِحساء والقطيف، ولما انهزمت القرامطة وفارقوا الشام، أرسل المعز لدين الله القائد ظالم بن موهوب العقيلي إِلى دمشق فدخلها، وعظم حاله وكثرت جموعه. ثم وقع بين أهل دمشق والمغاربة وعاملهم المذكور فتن كثيرة، وأحرقوا بعض دمشق، وعامت الفتن بينهم إِلى سنة أربع وستين وثلاثمائة.

حال بختيار لما جرى لبختيار وسبكتكين والأتراك ما ذكرناه، انحدر سبكتكين بالأتراك إِلى واسط، وأخذوا معهم الخليفة الطايع، والمطيع وهو مخلوع، فمات المطيع بدير العاقول، ومرض سبكتكين ومات أيضاً، وحملا إِلى بغداد، وقدم الأتراك عليهم أفتكين وهو من أكابر قوادهم، وساروا إِلى واسط، وبها بختيار، فنزلوا قريباً منه، ووقع القتال بين الأتراك وبختيار قريب خمسين يوماً، والظفر للأتراك ورُسُل بختيار متتابعة إِلى ابن عمه عضد الدولة، بالحث والإسراع، وكتب إِليه: فإِن كنتُ مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلا فأدركني ولما أمزق فسار عضد الدولة إِليه، وخرجت هذه السنة والحال على ذلك. وفي هذه السنة انتهى تاريخ ثابت بن قره، وابتدأه من خلافة المقتدر، سنة خمس وتسعين ومائتين. ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة. استيلاء عضد الدولة على العِراق والقبض على بختيار، في هذه السنة سار عضد الدولة بعساكر فارس، لما أتاه مكاتبات بختيار كما ذكرناه، فلما قارب واسط، رجع أفتكين والأتراك إِلى بغداد، وصار عضد الدولة من الجانب الشرقي، وأمر بختيار أن يسير في الجانب الغربي إِلى نحو بغداد، وخرجت الأتراك من بغداد، وقاتلوا عضد الدولة، فانهزمت الأتراك وقتل بينهم خلق كثير، وكانت الوقعة بينهم رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، وسار عضد الدولة فدخل بغداد، وكان الأتراك قد أخذوا الخليفة معهم، فرده عضد الدولة إِلى بغداد، فوصل الخليفة إِلى بغداد في الماء، ثامن رجب من هذه السنة. ولمّا استقر عضد الدولة ببغداد، شغبت الجند على بختيار يطلبون أرزاقهم، ولم يكن قد بقي مع بختيار شيء من الأموال، فأشار عضد الدولة على بختيار أن يغلق بابه، ويتبرأ من الإمرة، ليصلح الحال مع الجند. ففعل بختيار ذلك، وصرف كتابه وحجابه، فأشهد عضد الدولة الناس على بختيار، أنه عاجز وقد استعفى من الإمرة، عجزاً عنها، ثم استدعى عضد الدولة بختيار وأِخوته إِليه، وقبض عليهم في السادس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، واستقر عضد الدولة ببغداد، وعظم أمر الخليفة وحمل إِليه مالاً كثيراً وأمتعة. عود بختيار إلى ملكه لما قبض بختيار، كان ولده المرزبان بالبصرة متولياً لها، فلما بلغه قبض والده كتب إِلى ركن الدولة يشكو إليه ذلك، فلما بلغ ركن الدولة ذلك، عظم عليه حتى ألقى نفسه إلى الأرض، وامتنع عن الأكل والشرب، حتى مرض

وأنكر على عضد الدولة أشد الإِنكار. فأرسل عضد الدولة يسأل أباه في أن يعوض بختيار مملكة فارس، فأراد ركن الدولة قتل الرسول وقال: إِن لم يعد بختيار إِلى مملكته وإلا سرت إِليه بنفسي، وكان قد سيّر عضد الدولة أبا الفتح بن العميد إِلى والده ركن الدولة أيضاً، في تلطيف الحال، فرده ركن الدولة أقبح رد، فلما رأى عضد الدولة اضطراب الأمور عليه بسبب غضب أبيه، اضطر إلى امتثال أمره، فأخرج بختيار من محبسه، وخلع عليه، وأعاده إِلى ملكه وسار عضد الدولة إِلى فارس في شوال من هذه السنة. استيلاء أفتكين على دمشق كان أفتكين من موالي معز الدولة بن بويه، وكان تركياً، فلما انهزم من بختيار عند قدوم عضد الدولة، حسبما ذكرناه، سار إلى حمص، ثم إِلى دمشق، وأميرها ريان الخادم، من جهة المعز العلوي فاتفق أهل دمشق مع أفتكين وأخرجوا ريان الخادم، وقطعوا خطبة المعز في شعبان، واستولى أفتكين على دمشق، فعزم المعز العلوي على المسير من مصر إِلى الشام لقتال أفتكين، فاتفق مرت المعز في تلك الأيام على ما نذكره وتولى ابنه العزيز، فجهز القائد جوهراً إِلى الشام. فوصل إلى دمشق وحصر أفتكين بها فأرسل أفتكين إِلى القرامطة فساروا إِلى دمشق، فلما قربوا منها رحل جوهر عائداً إلى جهة مصر فسار أفتكين والقرامطة في أثره، واجتمع معهم خلق عظيم فلحقوا جوهراً قرب الرملة، فرأى جوهر ضعفه عنهم، فدخل عسقلان، فحصروه بها حتى أشرف جوهر وعسكره على الهلاك من الجوع، فراسل جوهر أفتكين، وبذل له أموالاً عظيمة في أن يمن عليه ويطلقه، فرحل عنه أفتكين. وسار جوهر إِلى مصر، وأعلم العزيز بصورة الحال، فخرج العزيز بنفسه وسار إِلى الشام، فوصل إِلى ظاهر الرملة، وسار إِليه أفتكين والقرامطة، والتقوا، وجرى بينهم قتال شديد، وانهزم أفتكين والقرامطة، وكثر فيهم القتل والأسر، وجعل العزيز لمن يحضر أفتكين مائة ألف دينار، وتم أفتكين هارباً حتى نزل ببيت مفرج بن دغفل الطائي فأمسكه مفرج بن دغفل المذكور، وكان صاحب أفتكين، وحضر مفرج إلى العزيز وأعلمه بأسر أفتكين، وطلب منه المال فأعطاه ما ضمنه، وأرسل معه من أحضر أفتكين، فلما حضر أفتكين ممسوكاً بين يدي العزيز أطلقه ونصب له خيمة، وأطلق من كان في الأسر من أصحابه، وحمل العزيز إِليه أموالاً وخلعاً، ثم عاد العزيز إِلى مصر وأفتكين صحبته، على أعظم ما يكون من المنزلة، وبقي كذلك حتى مات أفتكين بمصر. ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة. وفاة المعز العلوي وولاية ابنه العزيز في هذه السنة توفي المعز لدين الله أبو تميم معد بن المنصور بالله إِسماعيل ابن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي عبيد الله العلوي الحسيني بمصر، في سابع عشر ربيع الأول وولد بالمهدية من إِفريقية، حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة فيكون

عمره خمساً وأربعين سنة وستة أشهر تقريباً، وكان مغواً بالنجوم، ويعمل بأقوال المنجمين، وكان فاضلا، ولما مات المعز أخفى العزيز ابنه موته، وأظهره في عيد النحر من هذه السنة، وبايعه الناس. غير ذلك من الحوادث في أواخر هذه السنة وأول التي بعدها سار أبو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي الحسين أمير صقلية إِلى الغزوة ففتح مدينة مسينة ثم عدى إِلى كتنه ففتحها، وفتح قلعة جلوى وبث سراياه في نواحي قلورية، وغنم وسبى وفتح غير ذلك من تلك البلاد. وفيها خطب للعزيز العلوي بمكة. وفيها توفي ثابت بن سنان ابن قرة الصابي صاحب التاريخ. وفيها وقيل بل في سنة ست وستين وثلاثمائة، وقيل في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة توفي أبو بكر واسمه محمد بن علي بن إِسماعيل القفال الشاشي الفقيه الشافعي إِمام عصره، لم يكن بما وراء النهر في وقته مثله، رحل إِلى العراق والشام والحجاز، وأخذ الفقه عن ابن سريج، وروى عن محمد بن جرير الطبري وأقرانه، وروى عنه الحاكم بن منده، وجماعة كثيرة، وأبو بكر القفال المذكور، هو والد قاسم صاحب كتاب التقريب، الذي ينقل عنه في النهاية والوسيط والبسيط، وذكره الغزالي في الباب الثاني من كتاب الرهن، كنه قال أبو القاسم، وهو غلط، وصوابه القاسم وهذا التقريب غير التقريب الذي لسليم الرازي، فإِن التقريب الذي للقاسم بن القفال الشاشي قليل الوجود، بخلاف تقريب سليم الرازي. والشاشي منسوب إِلى الشاش، وهي مدينة وراء نهر سيحون في أرض الترك، وأبو بكر محمد الشاشي المذكور، غير أبي بكر محمد الشاشي صاحب العمدة، والكتاب المستظهري الذي سنذكره إِن شاء الله تعالى في سنة سبع وخمس مائة المتأخر عن الشاشي القفال المذكور. ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة. وفاة ركن الدولة وملك عضد الدولة في هذه السنة في المحرم، توفي ركن الدولة الحسن بن بويه، واستخلف على مماليكه ابنه عضد الدولة، وكان عمر ركن الدولة قد زاد على سبعين سنة، وكانت إمارته أربعاً وأربعين سنة، وأصيب به الدين والدنيا جميعاً لاستكمال خلال الخير فيه، وعقد لولده، فخر الدولة على همدان، وأعمال الجبل، لولده مزيد الدولة على أصفهان وأعمالها، وجعلهما تحت حكم أخيهما عضد في هذه البلاد. مسير عضد الدولة إِلى العراق وفيها بعد وفاة ركن الدولة، سار عضد الدولة إِلى العراق، فخرج بختيار إِلى قتاله، فاقتتلا بالأهواز، وخامر أكثر جيش بختيار عليه، فانهزم بختيار إِلى واسط، وبعث عضد الدولة عسكراً فاستولوا على البصرة، ثم سار بختيار إِلى بغداد، وسار عضد الدولة إلى البصرة، وتلك النواحي، وقرر أمورها،

واستمر الحال على ذلك حتى خرجت هذه السنة. ابتداء دولة آل سبكتكين وفي هذه السنة ملك سبكتيكين مدينة غزنة. وكان سبكتكين من غلمان أبي إِسحاق بن البتكين، صاحب جيش غزنة للسامانية، وكان سبكتكين مقدماً عند مولاه أبي إِسحاق، لعقله وشجاعته، فلما مات أبو إِسحاق ولم يكن له ولد، اتفق العسكر وولوا سبكتكين عليهم لكمال صفات الخير فيه، وحلفوا له وأطاعوه، ثم إِن سبكتكين عظم شأنه وارتفع قدره وغزا بلاد الهند واستولى على بُسْت وفصْدار. غير ذلك من الحوادث فيها مات منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إِسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان، صاحب خراسان وما وراء النهر في منتصف شوال، في بخارى، وكانت ولايته نحو خمس عشرة سنة، وولي الأمر بعده ابنه نوح بن منصور، وعمره نحو ثلاث عشرة سنة وفيها مات القاضي منذر بن سعيد البلوطي، قاضي قضاة الأندلس، وكان إِماماً فقيهاً خطيباً شاعراً ذا دين متين، وفيها قبض عضد الدولة على أبي الفتح بن العميد وزير أبيه وسمل عينه الواحدة، وقطع أنفه، وكان أبو الفتح ليلة قبض، قد أمسى مسروراً، وأحضر ندماءه، وأظهر من الآلات الذهبية والزجاج المليح، وأنواع الطيب، ما ليس لأحد مثله، وشربوا وعمل شعراً، وغني له به وهو: دعوت المنى ودعوتُ العلى ... فلما أجابا دعوتُ القَدَح وقلت لأيام شرخ الشبابِ ... إِلي فهذا أوان الفرح إِذا بلغ المرء آماله ... ليس له بعدها مقترح فطاب عليه وشرب حتى سكر ونام، فقبض عليه في السحر من تلك الليلة. وفاة الحكم الأموي صاحب الأندلس الملقب بالمستنصر في هذه السنة. توفي الحكم بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي، صاحب الأندلس وكانت إِمارته خمسٍ عشرة سنة، وخمسة أشهر، وعمره ثلاثاً وستين سنة وسبعة أشهر، وكان فقيهاً عالماً بالتاريخ، وغيره، وعهد إِلى ابنه هشام بن الحكم، وعمره عشر سنين ولقبه المؤيد بالله فلما مات بايع الناس ابنه هشاماً، ولما بويع المؤيد هشام بالخلافة، وكان عمره عشرة أعوام، فتولى حجابته وتنفيذ أموره أبو عامر محمد بن عبد الله بن أبي عامر محمد ابن الوليد بن يزيد المعافري

القحطاني، ويلقب أبو عامر المذكور، بالمنصور، واستولى على الدولة وحجب المؤكد، ولم يترك أحداً يصل إِليه ولا يراه واستبد بالأمر، وأصل المنصور بن أبي عامر المذكور من الجزيرة الخضراء من الأندلس، من قرية من أعمالها تسمى طرش، واشتغل المنصور بالعلوم في قرطبة وكانت له نفس شريفة، فبلغ معالي الأمور، واجتمعت عنده الفضلاء وأكثر الغزو والجهاد في الفرنج، حتى بلغت عدة غزواته نيفاً وخمسين غزوة، ومن عجائب الاتفاقات أن صاعد بن الحسن اللغوي، أهدى إِلى المنصور المذكور أيلاً مربوطاً في رقبته بحبل، وأحضر مع الأيل أبياتاً يمتدح المنصور فيها، وكان المنصور قد أرسل عسكراً لغزو الفرنج، وملكهم إِذ ذاك اسمه غرسية بن سانجة، والأبيات كثيرة منها: عبد نشلت بضبعه وعرسته ... في نعمة أهدى إليك بأيل سمته غرسية وبعثته ... في حبله ليتاح فيه تفاؤلي فلأن قبلت فتلك أسنى نعمة ... أسدى بها ذو منحة وتطول فقضى الله في سابق علمه، أن عسكره أسروا غرسية في ذلك اليوم الذي أُهدي فيه الأيل بعينه، وكان أسر غرسية. وهذه الواقعة في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وبقي المنصور على منزلته حتى توفي في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. عود شريف إلى ملك حلب فيها عاد أبو المعالي شريف بن سيف الدولة إِلى ملك حلب، وسببه أنه لما جرى بين قرعويه وبين أبي المعالي ما قدمنا ذكره من استيلاء قرعويه على حلب، ومقام أبي المعالي بحماة، وصل إِلى أبي المعالي وهو بحماة، مارقطاش مولى أبيه من حصن برزية وخدمه وعمر له مدينة حمص، بعد ما كان قد أخربها الروم، وكان لقرعويه مولى يقال له بكجور وقد جعله قرعويه نائبه، فقوي بكجور واستفحل أمره، وقبض على مولاه قرعويه، وحبسه في قلعة حلب، واستولى بكجور على حلب وكاتب أهلها أبا المعالي، فسار أبو المعالي إِلى حلب، وأنزل بكجور بالأمان، وحلف له أنه يوليه حمص، فنزل بكجور وولاه أبو المعالي حمص، واستقر أبو المعالي مالكاً لحلب. غير ذلك في هذه السنة توفي بهستون بن وشمكير بجرجان، واستولى على طبرستان وعلى جرجان أخره قابوس بن وشمكير بن زيار. وفيها توفي يوسف بن الحسن الجنابي القرمطي صاحب هجر، ومولده سنة ثمانين ومائتين، وتولى أمر القرامطة بعده سنة نفر شركة، وسموا السادة. ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة.

استيلاء عضد الدولة على العراق وغيره وقتل بختيار وفي هذه السنة سار عضد الدولة إِلى العراق. وكتب إِلى بختيار يقول له اخرج عن هذه البلاد، وأنا أعطيك أي بلاد اخترت غيرها. فمال بختيار إِلى ذلك، وأرسل له عضد الدولة خلعة فلبسها، وسار بختيار إلى نحو الشام، ودخل عضد الدولة بغداد واستقر فيها، وقتل ابن بقية وزير بختيار وصلبه، ورثاه أبر الحسن الأنباري بقصيدته المشهورة التي منها: علو في الحياة وفي الممات ... لحق أنت إِحدى المعجزات كأن الناسَ حولك حين قاموا ... وفود نداك أيام الصلات مَدَدْتَ يديكَ نحوهم اقتفاء ... كمدهما إِليهم في الهباتِ ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضم علاك من بعد الممات أصاروا الجو قبرك واستنابوا ... الأكفان ثوب السافياتِ لعظمك في النفوس تبيتُ ترعى ... بحراس وحفاظ ثقات وتشعل عندك النيران ليلا ... كذلك كنت أيام الحياةِ وسار مع بختيار، حمدان بن ناصر الدولة، فأطمعه حمدان في ملك الموصل، وحسن له ذلك، وهون عليه أمر أخيه أبي تغلب، فسار بختيار إِلى جهة الموصل، فأرسل أبو تغلب يقول لبختيار: إِن سلمت إِليّ أخي حمدان، صرت معك وقاتلت عضد الدولة، وأخرجته من العراق، فقبض بختيار على حمدان، وحبله وسلمه إِلى أخيه أبي تغلب، وارتكب فيه من الغدر أمراً شنيعاً، فحبسه أخوه أبو تغلب واجتمع أبو تغلب بعساكره مع بختيار، وقصدا عضد الدولة، فخرج عضد الدولة من بغداد نحوهما، والتقوا بقصر الجص من نواحي تكريت، ثامن شوال من هذه السنة، فهزمهما عضد الدولة وأمسك بختيار أسيراً فقتله، ثم سار عضد الدولة نحو الموصل فملكها وهرب أبو تغلب إِلى نحو ميافارقين، فأرسل عضد الدولة جيشاً في طلبه ومقدمهم أبو الوفاء فلما وصلوا إِلى ميافارقين هرب أبو تغلب إلى بدليس، وتبعه عسكر عضد الدولة، فهرب إلى نحو بلاد الروم. فلحقه العسكر، وجرى بينهم قتال، فانتصر أبو تغلب وهزم عسكر عضد الدولة، ثم سار أبو تغلب إِلى حصن زياد، ويعرف الآن بخرت برت، ثم سار إلى آمد، وأقام بها، وفيها توفي ظهير الدولة بهستون ابن وشمكير، وملك بعده أخوه شمس المعالي قابوس بن وشمكير. وفيها توفي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة البغدادي، وكان قاضي السندية وغيرها من أعمال بغداد، وكان إِحدى عجائب الدنيا في سرعة البديهة بالجواب عن جميع ما يسأل عنه، في أفصح لفظ وأملح سجَع. وكان مختصاً بصحبة الوزير المهلبي، وكان رؤساء العصر يلاعبونه ويكتبون إِليه المسائل المضحكة، فيكتب الجواب من غير توقف، وكان الوزير المهلبي يغري به جماعة يضعون له الأسئلة الهزلية

ليجيب عنها، فمن ذلك ما كتب إليه به العباس بن المعلى الكاتب، ما يقول القاضي وفقه الله تعالى، في يهودي زنى بنصرانية فولدت ولداً جسمه للبشر ووجهه للبقر، وقد قبض عليهما، فما يرى القاضي فيهما؟ فكتب الجواب بديهاً: هذا من أعدل الشهود على اليهود، بأنهم شربوا العجل في صدورهم فخرج من أيورهم، وأرى أن يناط برأس اليهودي رأس العجل ويصلب على عنق النصرانية الساق مع الرجل، ويسحبا على الأرض وينادى عليهما، ظلماتٌ بعضها فوق بعض والسلام. والسندية: قرية على نهر عيسى، بين بغداد والأنبار، وينسب إِليها سندواني، ليحصل الفرق بين النسبة إِليها وبين النسبة إِلى بلاد السند. ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة فيها فتح أبو الوفا مقدم عسكر عضد الدولة ميافارقين بالأمان، فلما سمع أبو تغلب بفتحها، سار عن آمد نحو الرحبة، ثم سار عسكر عضد الدولة مع أبي الوفاء، ففتحوا آمد واستولى عضد الدولة على جميع ديار بكر، ثم استولى على ديار مضر - بالضاد المعجمة - والرحب، ولما استولى عضد الدولة على جميع مملكة أبي تغلب، واستخلف أبا الوفاء على الموصل، وسار عضد الدولة ودخل بغداد. وأما أبو تغلب فإنه سار إِلى دمشق، وكان قد تغلب على دمشق قسام وهو شخص كان يثق إِليه أفتكين ويقدمه، فاستولى قسام على دمشق، وكان يخطب فيها للعزيز صاحب مصر، فلما وصل أبو تغلب إِلى دمشق، قاتله قسام ومنعه من دخول دمشق، فسار أبو تغلب إلى طبرية. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي القاضي أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي النحوي مصنف شرح كتاب سيبويه، وكان فاضلا فقيهاً مهندساً منطقياً وعمره أربع وثمانْون سنة، وولي بعده أبو محمد بن معروف، الحكم بالجانب الشرقي ببغداد. ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة. مقتل أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان كان أبو تغلب قد سار عن دمشق إِلى طبرية، كما ذكرناه، ثم سار إِلى الرملة في المحرم من هذه السنة، وكان بتلك الجهة دغفل بن مفرج الطائي، وقائد من قواد العزيز اسمه الفضل، ومعه عسكر قد جهزه العزيز إِلى الشام، فساروا لقتال أبي تغلب، ولم يبق مع أبي تغلب غير سبع مائة رجل من غلمانه، وغلمان أبيه، فولى أبو تغلب منهزماً، وتبعوه فأخذوه أسيراً، فقتله دغفل وبعث برأسه إِلى العزيز بمصر، وكان معه أخته جميلة بنت ناصر الدولة، وزوجته بنت عمه سيف الدولة، فحملهما بنو عقيل إلى حلب، وبها ابن سيف الدولة فترك أخته عنده، وأرسل جميلة بنت ناصر الدولة إِلى بغداد، فاعتقلت في حجرة في دار عضد الدولة.

وفاة عمران بن شاهين صاحب البطيحة وأخباره وولاية ابنه الحسن بن عمران كان عمران بن شاهين من أهل بلدة تسمى الجامدة، فجنى جنايات وخاف من السلطان فهرب إِلى البطيحة، وأقام بين القصب والآجام، واقتصر على ما يصيده من السمك وطيور الماء، واجتمع إليه جماعة من الصيادين واللصوص، فقوي بهم، فلما استفحل أمره واشتدت شوكته، اتخذ له معاقل على التلال التي بالبطيحة، وغلب على تلك النواحي واستولى عليها في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة في أيام معز الدولة، فأرسل إِلى قتاله معز الدولة العسكر مرة ثم أخرى، فلم يظفر به، ومات معز الدولة وعسكره محاصر عمران المذكور، وتولى بختيار، فأمر العسكر بالعود إِلى بغداد، فعادوا ثم جرى بين بختيار وبين عمران عدة حروب، فلم يظفر منه بشيء، وطلبه الملوك والخلفاء، وبذلوا جهدهم بأنواع الحيل، فلم يظفروا منه بشيء ومات في مملكته في هذه السنة، في المحرم فجأة حتف أنفه، وكانت مدة ولايته من حين ابتداء أمره، قريب أربعين سنة، ولما مات تولى مكانه على البطيحة ابنه الحسن بن عمران بن شاهين، فطمع فيه عضد الدولة، وأرسل إِليه عسكراً، ثم اصطلحوا على مال يحمله الحسن بن عمران إِلى عضد الدولة في كل سنة. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة سار عضد الدولة إِلى بلاد أخيه فخر الدولة، لوحشة جرت بينهما، فهرب فخر الدولة، ولحق بشمس المعالي قابوس بن وشمكير، فأكرمه قابوس إِلى غاية ما يكون، وملك عضد الدولة بلاد أخيه فخر الدولة علي، وهي همدان والري وما بينهما من البلاد، ثم سار عضد الدولة إِلى بلاد حسنويه الكردي فاستولى عليها أيضاً، ولحق عضد الدولة في هذه السفرة صرع، فكتمه وصار كثير النسيان لا يذكر الشيء إِلا بعد جهد، وكتم ذلك أيضَاً، وهذا دأب الدنيا لا تصفو لأحد. وفي هذه السنة أرسل عضد الدولة جيشاً إِلى الأكراد الهكارية، من أعمال الموصل، فأوقع بهم وحاصرهم، فسلموا قلاعهم إِليه، ونزلوا مع العسكر إِلى الموصل، وفيها تزوج الطائع لله ابنة عضد الدولة. وفيها توفي الحسين بن زكريا اللغوي صاحب كتاب المجمل في اللغة، وغيره. وفيها توفي ثابت بن إِبراهيم الحرافي المتطبب الصابي، وكان حاذقَاً في الطب. ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة فيها توفي الأحدب المزور، كان يكتب على خط كل أحد، فلا يشك المكتوب عنه أنه خطه، وكان عضد الدولة يوقع بخطه بين الملوك الذين يريد الإِيقاع بينهم، بما يقتضيه الحال في الإفساد بينهم. وفيها ورد على عضد الدولة هدية من صاحب اليمن، فيها قطعة واحدة من العنبر، وزنها ستة وخمسون رطلاً بالبغدادي. وفيها توفي الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد بن

الأزهر بن طلحة اللغوي الإمام المشهور، كان فقيهاً شافعي المذهب فغلبت عليه اللغة، واشتغل بها، وصنف في اللغة كتاب التهذيب، ويكون أكثر من عشرة مجلدات، وله تصنيف في غريب الألفاظ التي يستعملها الفقهاء. وولد سنة اثنتين وثمانين ومائتين، والأزهري منسوب إِلى جده الأزهر. ثم دخلت سنة إِحدى وسبعين وثلاثمائة وفيها استولى عضد الدولة على بلاد جرجان وطبرستان، وأجلى عنها صاحبها قابوس بن وشمكير ومعه فخر الدولة علي أخو عضد الدولة، وكان ذلك بسبب أن عضد الدولة، طلب من قابوس أن يسلم إليه أخاه فخر الدولة علياً، فامتنع قابوس عن ذلك. وفيها قبض عضد الدولة على القاضي المحسن بن علي التنوخي الحنفي، وكان شديد التعصب على الشافعي، يطلق لسانه فيه. وفيها أفرج عضد الدولة عن أبي إِسحاق إِبراهيم الصابي، وكان قد قبض عليه سنة سبع وستين بسبب أنه كان ينصح في المكاتبات لصاحبه بختيار، وهذا من العجب فإنه ما ينبغي أن تجعل مناصحة الإنسان لصاحبه وعدم مخامرته ذنباً. وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري، المعروف بابن الباقلاني، إِلى ملك الروم في جواب رسالة وردت عليه منه. وفيها توفي أبو بكر أحمد بن إِبراهيم بن إِسماعيل الإِسماعيلي، الفقيه الشافعي الجرجاني، والإمام محمد بن أحمد بن عبد الله المروزي، الفقيه الشافعي، وكان عالماً بالحديث وغيره، وروى صحيح البخاري عن الفريري. ثم دخلت سنة اثنتين وسيعين وثلاثمائة في هذه السنة سير العزيز بالله العلوي صاحب مصر، جيشاً مع بكتكين إِلى الشام، فوصلوا إِلى فلسطين، وكان قد استولي عليها مفرج بن الجراح، وكثر جمعه، فجرى بينهم قتال شديد، فانهزم ابن الجراح وجماعته، وكثر القتل والنهب فيهم، ثم سار بكتكين إِلى دمشق، فقاتله قسام المتولي عليها، فغلبه بكتكين وملك دمشق، وأمسك قساماً وأرسله إِلى العزيز بمصر، واستقر بدمشق وزالت الفتن. وفاة عضد الدولة في ثامن شوال من هذه السنة، مات عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة حسن بن بويه، بمعاودة الصرع مرة بعد أخرى، وحمل إلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فدفن به، وكانت ولايته بالعراق خمس سنين ونصفاً، وكان عمره سبعاً وأربعين سنة، وقيل إِنه لما احتضر لم ينطق لسانه إِلا بتلاوة " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه " وكان عاقلا فاضلا، حسن السياسة شديد الهيبة، وهو الذي بنى على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم سوراً، وله شعر فمنه أبيات منها بيت لم يفلح بعده والأبيات هي: ليس شرب الراح إِلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر غانيات سالبات للنهى ... ناغمات في تضاعيف الوتر مبرزاتُ الكأس من مطلعها ... ساقياتُ الراح من فاق البشر

عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلابُ القدر وكان عضد الدولة محباً للعلوم وأهلها، فقصده العلماء من كل بلد، وصنفوا له الكتب، منها الإيضاح في النحو، والحجة في القراءات والملكي في الطب، والتاجي في تاريخ الديلم. وغير ذلك، ولما توفي عضد الدولة اجتمع القواد والأمراء على ولده. كاليجار المرزبان، فبايعوه، وولوه الإمارة ولقبوه صمصام الدولة، وكان أخوه شرف الدولة شيرزبك بن عضد الدولة بكرمان، فلما بلغه موت أبيه سار إِلى فارس وملكها، وقطع خطبة أخيه صمصام الدولة. غير ذلك من الحوادث فيها قَتَل أبو الفرج محمد بن عمران بن شاهين أخاه الحسن بن عمران صاحب البطيحة، واستولى أبو الفرج عليها. ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وفي هذه السنة توفي مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة حسن بن بويه بالخوانيق، وكان قد أقره أخوه عضد الدولة على ما كان بيده، وزاد عليه مملكة أخيهما فخر الدولة، وكان عمر مؤيد الدولة ثلاثاً وأربعين سنة، وكان أخوه فخر الدولة علي، مع قابوس بن وشمكير بن زيار كما ذكرناه، فلما مات مؤيد الدولة اتفق قواد عسكره على طاعة فخر الدولة، وكتبوا إِليه وسار فخر الدولة علي إِليهم، وعاد إِلى ملكه، واستقر فيه بغير منة لأحد ولا قتال، وذلك في رمضان هذه السنة، ووصلت إِلى فخر الدولة الخلع من الخليفة والعهد بالولاية. ولاية بكجور دمشق كنا قد ذكرنا أن بكجور مولى قرعويه قبض على أستاذه قرعويه، وملك حلب ثم سار أبو المعالي سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، فأخذ حلب من بكجور وولاه حمص إِلى هذه السنة، فكاتب العزيز صاحب مصر، وسأله في ولاية دمشق، فأجابه العزيز إِلى مصر، فسلمها إِلى بكجور في رجب، واستقر بكجور في ولاية دمشق، وأساء السيرة فيها. غير ذلك من الحوادث وفيها اتفق كبراء عسكر عمران بن شاهين فقتلوا أبا الفرج محمد بن عمران لسوء سيرته، وأقاموا أبا المعالي بن الحسن بن عمران بن شاهين، وكان صغيراً، فدبر أمره المظفر بن علي الحاجب، وهو أكبر قواد جده عمران، ثم بعد مدة أزال المظفر الحاجب المذكور أبا المعالي، وسيره هو وأمه إِلى واسط، واستولى المظفر المذكور على ملك البطيحة، واستقل فيها، وانقرض بيت عمران بن شاهين. وفيها في ذي الحجة توفي يوسف بلكين بن زيري أمير إِفريقية، وتولى بعده ابنه المنصور ابن يوسف بن زيري، وأرسل إِلى العزيز بالله هدية

بن عضد الدولة العراق وقبضه على أخيه صمصام الدولة

عظيمة قيمتها ألف ألف دينار. ثم دخلت سنة أربع وسبعين وثلاثمائة في هذه السنة ولى أبو طريف عليان ابن ثمال الخفاجي حماية الكوفة وهي أول إِمارة بني ثمال. وفيها توفي أبو الفتح محمد بن الحسين الموصلي الحافظ المشهور. وفيها توفي بميافارقين الخطيب أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة، صاحب الخطب المشهورة، وكان إِماماً في علوم الأدب، ووقع الإجماع على أنه ما عمل مثل خطبه، وصار خطيباً بحلب مدة، وبها اجتمع بالمتنبي، ثم اجتمع بالمتنبي في خدمة سيف الدولة بن حمدان، وكان الخطيب المذكور رجلا صالحاً، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: مرحباً يا خطيب الخطباء، كيف تقول: كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة. قال الخطيب تتمة هذه الخطبة وهي المعروفة بخطبة المنام، وأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفل في فيه، فبقي الخطيب بعد هذه الرؤيا ثلاثة أيام لم يطعم طعاماً ولا يشتهيه، ويوجد من فيه مثل رائحة المسك. ولم يعش بعد ذلك إِلا أياماً يسيرة وكان مولده سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وفي هذه السنة قصدت القرامطة الكوفة، مع نفرين من الستة الذي سموهم السادة، ففتحوها ونهبوها، فجهز صمصام الدولة بن عضد الدولة إِليهم جيشاً، فانهزمت القرامطة، وكثر القتل فيهم، وانحرفت هيبتهم، وقد حكى ابن الأثير في حوادث هذه السنة، والعهدة على الناقل، أنه خرج في هذه السنة بعُمان طائر من البحر كبير، أكبر من الفيل، ووقف على تل هناك وصاح بصوت عال، ولسنان فصيح، قد هرب، قالها ثلاث مرات، ثم غاص في البحر فعل ذلك، ثلاثة أيام ولم ير بعد ذلك. ثم دخلت سنة ست وسبعين وثلاثمائة. ملك شرف الدولة بن عضد الدولة العراق وقبضه على أخيه صمصام الدولة في هذه السنة سار شرف الدولة شيرزيك بن عضد الدولة، من الأهواز إلى واسط، فملكها، وأشار أصحاب صمصام الدولة عليه بالمسير إلى الموصل أو غيرها، فأبى صمصام الدولة، وركب بخواصه وحضر إِلى عند أخيه شرف الدولة مستأمناً، فلقيه شرف الدولة، وطيب قلبه فلما خرج من عنده، غدر به وقبض عليه، وسار شرف الدولة شيرزيك حتى دخل بغداد في رمضان، وأخوه صمصام الدولة معتقل معه، وكانت إِمارة صمصام الدولة ببغداد ثلاث سنين، ثم نقله إِلى فارس، فاعتقله في قلعة هناك. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي المظفر الحاجب صاحب البطيحة، وولى بعده ابن أخته أبو الحسن علي بن نصر، بعهد من المظفر، ووصل إِليه التقليد من بغداد بالبطيحة، ولقب مهذب الدولة، فأحسن السيرة، وبذل الخير والإِحسان، وفيها توفي ببغداد أبو علي الحسن بن أحمد بن

عبد الغفار الفارسي النحوي، صاحب الإِيضاح، وقد جاوز تسعين سنة، وقيل كان معتزلياً، ولد في مدينة فسا، واشتغل ببغداد، وكان إِمام وقته في علم النحو، ودار البلاد، وأقام بحلب عند سيف الدولة بن حمدان مدة، ثم انتقل إِلى بلاد فارس، وصحب عضد الدولة، وتقدم عنده، ومن تصانيفه كتاب التذكير، وهو كبير، وكتاب المقصور والمدود، وكتاب الحجة في القراءات، وكتاب العوامل المائة، وكتاب المسائل الحلبيات، وغير ذلك. ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ودخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة فيها سير العزيز صاحب مصر العلوي، عسكراً مع القائد منير الخادم إِلى دمشق، ليعزل بكجور، عنها، ويتولاها، فلما قرب منها خرج بكجور وقاتله عند داريا، ثم انهزم بكجور، ودخل البلد، وطلب الأمان، فأجابه منير إِلى ذلك، فسار بكجور إلى الرقة، فاستولى عليها، واستقر منير في إِمارة دمشق، وأحسن السيرة في أهلها. وفي هذه السنة في المحرم، أهدى الصاحب بن عباد، ديناراً وزنه ألف مثقال، إِلى فخر الدولة علي بن ركن الدولة حسن وعلى الدينار مكتوب: وأحمر يحكي الشمس شكلاً وصورة ... فأوصافها مشتقة من صفاتهِ فإن قيل دينارٌ فقد صدق اسمه ... وإن قيل ألف فهو بعضُ سماته بديعٌ ولم يطبعْ على الدهرِ مثلهُ ... ولا ضربتَ أضرابه لسراتهَ وصار إِلى شاهان شاه انتسابُهُ ... على أنه مستصغرُ لعفاتهِ يخبر أن يبقى سنيناً كوزنه ... لتستبشر الدنيا بطول حياتهِ وفي هذه السنة توفي أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد بن إِسحاق الحاكم النيسابوري صاحب التصانيف المشهورة. ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وفيها أرسل شرف الدولة، محمد الشيرازي، ليسمل أخاه صمصام الدولة المرزبان، فوصل إِلى القلعة التي بها صمصام الدولة محبوساً بعد موت شرف الدولة، وسمل صمصام الدولة فأعماه. وفاة شرف الدولة في هذه السنة في مستهل جمادى الآخرة، توفي الملك شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيك بن عضد الدولة بالاستسقاء، وحمل إِلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فدفن به، وكانت إِمارته بالعراق سنتين وثمانية أشهر، وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة وخمسة أشهر، ولما مات استقر في الإمارة موضعه أخوه أبو نصر بهاء الدولة، وقيل اسمه خاشاذ بن عضد الدولة، وخلع عليه الطائع وقلده السلطنة. الفتنة ببغداد وفي هذه السنة، وقعت الفتنة أيضاً بين الأتراك والديلم، ودام القتال بينهم خمسة أيام وبهاء الدولة في داره، يراسلهم في الصلح فلم يسمعوا، ودام ذلك بينهم اثني عشر يوماً، ثم صار بهاء

صاحب ديار بكر وابتداء دولة بني مروان

الدولة مع الأتراك فضعفت الديلم، وأجابوا إِلى الصلح، ثم من بعد ذلك أخذ أمر الأتراك في القوة، وأمر الديلم في الضعف. هرب القادر إِلى البطيحة في هذه السنة هرب أبو العباس أحمد بن الأمير إِسحاق بن المقتدر إِلى البطيحة، فاحتمى فيها، وكان سببها أن الأمير إِسحاق بن المقتدر والدالقادر، لما توفي جرى بين ابنه أحمد الذي تسمى فيما بعد بالقادر، وبين أخت له، منازعة على ضيعة، وكان الطائع قد مرض وشفي، فسعت بأخيها المذكور إِلى الطائع، وقالت: إِن أخي شرع في طلب الخلافة عند مرضك، فتغير الطائع على أخيها أحمد، وأرسل ليقبضه، فهرب المذكور واستتر، ثم سار إِلى البطيحة، فنزل على مهذب الدولة صاحب البطيحة، فأكرمه مهذب الدولة، ووسع عليه وبالغ في خدمته. عود بني حمدان إِلى الموصل كان ابنا ناصر الدولة، وهما أبو الطاهر إبراهيم، وأبو عبد الله الحسين، في خدمة شرف الدولة بن عضد الدولة ببغداد، فلما توفي شرف الدولة، وملك أخوه بهاء الدولة، استأذناه في المسير إِلى الموصل، فأذن لهما بهاء الدولة في ذلك، فسار أبو طاهر وأبو عبد الله الحسين المذكوران إِلى الموصل، فقاتلهما العامل الذي بها، واجتمع إليهما المواصلة، فاستوليا على الموصل، وطردا عاملها، والعسكر الذي قاتلهما إِلى بغداد، واستقرا في الموصل. وفي هذه السنة توفي محمد بن أحمد ابن العباس السلمي النقاش، وكان من متكلمي الأشعرية. ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة. قتل باد صاحب ديار بكر وابتداء دولة بني مروان في هذه السنة طمع باد صاحب ديار بكر في ابني ناصر الدولة، وهما أبو طاهر إبراهيم، وأبو عبد الله الحسين، المستوليان علي الموصل، فقصدهما، وجرى بينهم قتال شديد، قتل فيه باد، وحمل رأسه إِليهما، وكان باد المذكور، خال أبي علي بن مروان، فلما قتل باد، سار أبو علي بن أخته إِلى حصن كيفا، وكان بالحصن امرأة خال باد المذكور وأهله، فقال لامرأة باد: قد أنفذني خالي إِليك في مهم، فلما صعد إِليها أعلمها بهلاك خاله، وأطمعها في الترويج بها، فوافقته على ملك الحصن وغيره، ونزل أبو علي بن مروان، وصلك بلاد خاله حصناً حصناً، حتى ملك ما كان لخاله جميعه، وجرى بينه وبين بي طاهر وأبي عبد الله ابني العزيز ناصر الدولة حروب، ثم مضى أبو علي بن مروان إِلى مصر، وتقلد من الخليفة العزيز بالله العلوي ولاية حلب، وتلك النواحي، وعاد إلى مكانه من ديار بكر، وأقام بتلك الديار إِلى أن اتفق بعض أهل آمد مع شيخهم عبد البر، فقتلوا أبا علي بن مروان المذكور، عند خروجه

من باب البلد بالساكين، وكان المتولي لقتله رجلا من أهل آمد، يقال له ابن دمنة، فلما قُتل أبو علي بن مروان، استولى عبد البر شيخ آمد عليها، وزوج ابن دمنة بابنته، فوثب ابن دمنة فقتل عبد البر أيضاً، واستولى ابن دمنة على آمد واستقر فيها، وكان لأبي علي ابن مروان، أخ يقال له ممهد الدولة، فلما قتل أبو علي، سار ممهد الدولة بن مروان إلى ميافارقين، فملكها وملك غيرها، من بلاد أخيه، وكان في جماعة ممهد الدولة رجل اسمه شموه، وهو من أكابر العسكر، فعمل دعوة لممهد الدولة وقتله فيها، واستولى شروه على غالب بلاد بني مروان، وذلك في سنة اثنتين وأربعمائة، وكان لممهد الدولة أخ آخر اسمه أبو نصر أحمد، وكان قد حبسه أخوه أبو علي بن مروان، بسبب رؤيا رآها، وهو أنه رأى أن الشمس في حجره، وقد أخذها منه أخوه أبو نصر، فحبسه لذلك، فلما قتل ممهد الدولة، أخرج أبو نصر من الحبس، واستولى على أرزن، وفي ذلك جميعه، وأبوهم مروان باق وهو أعمى، مقيم بأرزن عند قبر ولده أبي علي، ولما استقر أمر أبي نصر، انتقض أمر شروه، وخرجت البلاد عن طاعته، واستولى أبو نصر على سائر بلاد ديار بكر، ودامت أيامه، وحسنت سيرته، وبقي كذلك من سنة اثنتين وأربعمائة إلى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. ملك أبي الذواد الموصل في هذه السنة، أعني سنة ثمانين وثلاثمائة استولى أبو الذواد محمد بن المسيب بن رافع بن المقلد بن جعفر أمير بني عقيل على الموصل، وقتل أبا الطاهر ابن ناصر الدولة بن حمدان، وقتل أولاده وعدة من قواده، بعد قتال جرى بينهما، واستقر أمر أبي الذواد بالموصل. ثم دخلت سنة إِحدى وثمانين وثلاثمائة. القبض على الطائع لله في هذه السنة قبض بهاء الدولة بن عضد الدولة، على الطائع لله عبد الكريم، وكنيته أبو بكر بن المفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل، بسبب طمع بهاء الدولة في مال الطائع، ولما أراد بهاء الدولة ذلك، أرسل إِلى الطائع وسأله الإذن ليجدد العهد به، فجلس الطائع على كرسي ودخل بعض الديلم، كأنه يريد تقبيل يد الخليفة، فجذبه عن سريره، والخليفة يقول: إِنا لله وإنا إليه راجعون. ويستغيث، فلا يغاث، وحمل الطائع إِلى دار بهاء الدولة، وأشهد عليه بالخلع، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وثمانية أشهر. وأياماً، ولما تولى القادر حُمل إليه الطائع، فبقي عنده مكرماً إِلى أن توفي الطائع سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ليلة الفطر، وكان مولده سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ولم يكن للطائع في ولايته من الحكم ما يستدل به على حاله، وكان في الناس الذين حضروا القبض على الطائع الشريف

خلافة القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير وإسحاق بن المقتدر بن المعتضد

الرضي، فبادر بالخروج من دار الخلافة، وقال في ذلك أبياتاً من جملتها: أمسيت أرحم من كنت أغبطه ... لقد تقارب بين العز والهون ومنظر كان بالسراء يضحكني ... يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني هيهات أعثر بالسلطان ثانية ... قد ضل عندي ولاج السلاطين خلافة القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير وإسحاق بن المقتدر بن المعتضد وهو خامس عشرينهم، وكان مقيماً بالبطيحة. كما ذكرناه، فأرسل إِليه بهاء الدولة، خواص أصحابه ليحضروه، ولما قرب من بغداد خرج بهاء الدولة وأعيان الناس لملتقاه، ودخل القادر دار الخلافة ثاني عشر شهر رمضان، وبايعه الناس، وخطب له ثالث عشر رمضان. وكانت مدة مقام القادر في البطيحة، عند مهذب الدولة، سنتين وأحد عشر شهراً. وكان مهذب الدولة محسناً إِلى القادر بالله، ولما توجه من عنده، حمل إِليه مهذب الدولة أموالاً كثيرة. قتل بكجور وموت سعد الدولة كنا قد ذكرنا استيلاء منير الخادم من جهة العزيز على دمشق، ومسير بكجور عنها إِلى الرقة، فلما كان هذه السنة، سار بكجور إِلى قتال سعد الدولة بن سيف الدولة بحلب، واقتتلا قتالاً شديداً، وهرب بكجور وأصحابه، وكثر القتل فيهم، ثم أمسك بكجور وأحضر أسيراً إِلى سعد الدولة فقتله، ولقي بكجور عاقبة بغيه وكفره، إحسان مولاه، ولما قتله سار سعد الدولة إِلى الرقة، وبها أولاد بكجور وأمواله، وحصرها فطلبوا الأمان، وحلفوا سعد الدولة على أن لا يتعرض إِليهم، ولا إلى مالهم، فبذل سعد الدولة اليمين لهم، فلما سلموا الرقة إِليه، وخرجوا منها، غدر بهِم سعد الدولة، وقبض على أولاد بكجور وأخذ ما معهم من الأموال، وكانت شيئاً كثيراٌ. فلما عاد سعد الدولة إِلى حلب، لحقه فالج في جانبه اليمين، فأحضر الطبيب ومد إليه يده اليسرى، فقال الطبيب: يا مولانا هات اليمين. فقال سعد الدولة: ما تركت لي اليمين يميناً، وعاش بعد ذلك ثلاثة أيام ومات في هذه السنة، واسم سعد الدولة المذكور شريف، وكنيته أبو المعالي بن سيف الدولة بن علي بن حمدان بن حمدون الثعلبي. وقبل موته عهد إِلى ولده أبي الفضائل بن سعد الدولة، وجعل مولاه لؤلؤاً يدبر أمره. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، وصل بسيل ملك الروم إلى الشام، ونازل حمص ففتحها ونهبها، ثم سار إِلى شيزر فنهبها، ثم سار إِلى طرابلس، فحصرها مدة، ثم عاد إِلى بلاد الروم. وفي هذه السنة توفي القائد جوهر الذي فتح مصر للمعز العلوي، معزولا عن وظيفته. ثم دخلت سنة

اثنتين وثمانين وثلاثمائة فيها شغبت الجند على بهاء الدولة بسبب استيلاء أبي الحسن بن المعلم على الأمور كلها، فقبض بهاء الدولة على ابن المعلم وسلمه إلى الجند فقتلوه. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة في هذه السنة استولى على بخارى بغراخان، واسمه هارون بن سليمان أيلك خان، وكان له كاشغر وبلا صاغون إِلى حد الصين، فقصد بخارى، وجرى بينه وبين الأمير الرضي نوح بن منصور الساماني حروب انتصر فيهما بغراخان، وملك بخارى، وخرج منها الأمير نوح مستخفياً، فعبر النهر إِلى أمل الشط، وأقام الأمير نوح المذكور بها، ولحق به أصحابه، وبقي يستدعي أبا علي بن سيمجور صاحب جيش خراسان، فلم يأته وعصي عليه، ومرض بغراخان في بخارى، فارتحل عنها راجعاً نحو بلاده، فمات في الطريق، وكان بغراخان ديناً حسن السيرة، وكان يحب أن يكتب عنه مولى رسول الله، وولي أمرة الترك بعده طغان خان أبو نصر أحمد بن علي خان، ولما رحل بغراخان عن بخارى ومات، بادر الأمير نوح فعاد إِلى بخارى، واستقر في ملكه وملك آبائه. ثم دخلت سنة أربع وثمانين وثلاثماثة في هذه السنة لما عاد نوح إلى بخارى، اتفق أبو علي بن سيمجور صاحب جيش خراسان، وفائق، على حرب نوح، فكتب نوح إِلى سبكتكين وهو بغزنة يعلمه الحال، وولاه خراساَن، فسار سبكتكين عن غزنة ومعه ولده محمود إِلى نحو خراسان، وخرج نوح من بخارى، فاجتمعوا وقصدوا أبا علي بن سيمجور وفائقاً، واقتتلوا بنواحي هراة، فانهزم أبو علي وأصحابه، وتبعهم عسكر نوح وسبكتكين. يقتلون فيهم، ولما استقر أمر نوح بخراسان، استعمل عليها محمود بن سبكتكين. وفيها توفي عبيد الله بن محمد بن نافع، وكان من الصالحين، بقي سبعين سنة لا يستند إلى حائط ولا إِلى مخدة. وأبو الحسن علي بن عيسى النحوي، المعروف بالرماني، ومولده سنة ست وتسعين ومائتين، وله تفسير كبير، ومحمد بن العباس بن أحمد القزاز، سمع وكتب كثيراً، وخطه حجة في صحة النقل، وجودة الضبط. وفيها توفي أيضاً أبو إسحاق إِبراهيم بن هلال الكاتب الصابي المشهور، وكان عمره إِحدى وتسعين سنة، وكان قد زمن وضاقت الأمور به، وقلت عليه الأموال، كان كاتب إِنشاء ببغداد لمعز الدولة، ثم كتب لبختيار، وكانت تصدر عنه مكاتبات إِلى عضد الدولة تؤلمه، فحقد عليه، فلما ملك عضد الدولة بغداد حبسه مدة، ثم أطلقه، وأمره عضد الدولة أن يصنف له كتاباً في أخبار الدولة الديلمية، فصنف له كتاباً وسماه التاجي، ونقل إِلى عضد الدولة عنه، أن بعض أصحاب أبي إسحاق، دخل عليه وهو يؤلف في التاجي، فسأله عما يعمل؟ فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها، فحرك ذلك عضد الدولة وأهاج حقده، فأبعده وأحرمه، ولم يزل الصابي على دينه، فجهد عليه معز الدولة أن يسلم فلم يفعل، وكان مع ذلك يحفظ القرآن، ولما مات الصابي المذكور رثاه الشريف الرضي فليم على ذلك. فقال: إِنما رثيت فضيلته. ثم دخلت سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وفي هذه السنة عاد أبو علي ابن

سيمجور إِلى خراسان، وقاتل محمود بن سبكتكين، وأخرجه عنها، ثم سار سبكتكين ومحمود ابنه بالعساكر، واقتتلوا مع أبي علي بطرس فهزموه، وفي ذلك يقول بعض الشعراء عن ابن سيمجور: عصى السلطان فابتدرت إِليه ... رجال يقلعون أبا قبيس وصير طوس معقله فكانت ... عليه طوس أشأم من طويس ثم إِن أبا علي طلب الأمان من نوح، فأمنه وسار إِليه، فلما وصل إِلى بخارى، قبض نوح على أبي علي وأصحابه وحبسهم، حتى مات أبو علي في الحبس. وفاة ابن عباد في هذه السنة مات الصاحب أبو القاسم إِسماعيل بن عباد وزير فخر الدولة، علي بن ركن الدولة، بالري، ونقل إِلى أصفهان ودفن بها، وكان الصاحب المذكور أوحد زمانه، علماً وفضلا وتدبيراً وكرماً، وكان عالماً بأنواع العلوم، وجمع من الكتب ما لم يجمعه غيره، وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء، لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد، فقيل له صاحب ابن العميد. ثم طلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة، وبقي علماً عليه. ثم سمي به كل من ولي الوزارة، وكان أولاً وزيراً لمؤيد الدولة بن ركن الدولة، فلما مات مؤيد الدولة، واستولى أخوه فخر الدولة على مملكته، أقر الصاحب بن عباد على وزارته، وعظمت منزلته عنده، وصنف الصاحب عدة كتب، منها المحيط في اللغة، والكافي في الرسائل، وكتاب الإمامة، يتضمن فضائل علي وصحة إمامة من تقدمه، وكتاب الوزارة، وله النظم الجيد، وكان مولده في ذي القعدة سنة ست وعشرين وثلاثمائة بإصطخر وقيل بالطالقان، وهي طالقان قزوين، لا طالقان خراسان، وكان عباد أبو الصاحب وزير ركن الدولة، وتوفي عباد في سنة أربع أو خمس وثلاثين وثلاثمائة وفي هذه السنة توفي الإمام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد المعروف بالدارقطني. وكان حافظاً إِماماً فقيهاً، مذهب الشافعي، وكان يحفظ كثيراً من دواوين الشعراء منها ديوان السيد الحميري، فنسب إِلى التشيع لذلك، وخرج من بغداد إلى مصر، وأقام عند أبي الفضل جعفر بن الفضل، وزير كافور الإخشيدي. وحصل للدارقطني منه مال جزيل، وكان متقناً في علوم كثيرة، إِماماً في علوم القرآن، وكان مولده في ذي القعدة سنة ست وثلاثين وكانت وفاته ببغداد، والدارقطني نسبة إِلى دار القطن، وكانت محلة كبيرة ببغداد. وفيها توفي أبو محمد يوسف بن الحسن بن عبد الله، بن المرزبان السيرافي النحوي الفاضل بن الفاضل، شرح أبوه الحسن بن عبد الله، كتاب سيبويه، وظهر له فيه ما لم يظهر لغيره، وصنف بعده كتاب الإقناع، ومات الحسن المذكور قبل إِتمامه، فكمله ولده يوسف المذكور. ثم صنف عدة كتب مشهورة، مثل شرح أبيات كتاب سيبويه، وشرح إِصلاح المنطق، وسيراف فرضة فارس، وليس بها زرع، ولا ضرع، وأهلها زجاة، ومنها ينتهي الإنسان

إِلى حصن ابن عمارة على البحر، من أمنع الحصون. ويقال إِن صاحبها هو الذي يقول الله تعالى في حقه: " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً " " الكهف: 79 " وكان اسم ذلك الملك الجُلُندي بضم الجيم واللام وسكون النون وفتح الدال المهملة وبعدها ألف. ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلاثمائة. وفاة العزيز بالله وولاية ابنه الحاكم وفي هذه السنة لليلتين بقيتا من رمضان، توفي العزيز بالله أبو منصور نزار بن المعز معد بن المنصور إِسماعيل العلوي الفاطمي، صاحب مصر. وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر بمدينة بليس وكان قد برز إِليها لغزو الروم، وكان موته بعدة أمراض، منها القولنج. وكانت خلافته إِحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصف شهر. ومولده بالمهدية، وكان قد ولى كتابته رجلاً نصرانياً يقال له عيسى بن نسطورس، واستناب بالشام رجلاً يهودياً اسمه ميشا، فاستطالت النصارى واليهود بسببهما على المسلمين، فعمد أهل مصر إِلى قراطيس، فعملوها على صورة امرأة، ومعها قصة وجعلوها في طريق العزيز فأخذها العزيز وفيها مكتوب بالذي وأعز اليهود بميشا، والنصارى بعيسى بن نطورس، وأذل المسلمين بك، إِلا كشفت عنده فقبض على عيسى النصراني المذكور، وصادره، وكان العزيز يحب العفو ويستعمله. ولما مات العزيز بويع ابنه المنصور أبو علي الحاكم بأمر الله، بعهد من أبيه، فولي الخلافة وعمره إِحدى عشرة سنة، وقام بتدبير ملكه خادم أبيه رجوان، وكان خصياً أبيض فضبط الملك وحفظه للحاكم إِلى أن كبر، ثم قتل الحاكم أرجوان المذكور. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة مات أبو دواد بن المسيب، أمير الموصل، وولي بعده أخوه المقلد بن المسيب. وفيها توفي منصور بن يوسف بلكين بن زيري الصنهاجي أمير إِفريقية، وكان ملكاً كريماً شجاعاً، وتولى بعده ابنه باديس بن منصور. وفيها توفي أبو طالب محمد بن علي بن عطية المكي، صاحب قوت القلوب. روى أنه صنف كتابه قوت القلوب، وكان قوته إِذ ذاك عروق البدري، وكان صالحاً مجتهداً في العبادة، ولم يكن من أهل مكة، وإنما كان من أهل الجبل، وسكن مكة فنسب إِليها، وقدم بغداد فوعظ وخلط في كلامه، فهجروه. وكان مما خلط فيه وحفظ عليه، أنه قال: ليس على المخلوقين أضر من الخالق. ومنع من الكلام بعد ذلك، وتوفي ببغداد في جمادى الآخرة من هذه السنة. ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. ابتداء دولة بن حماد ملوك بجاية من كتاب الجمع والبيان في أخبار القيروان. في هذه السنة أعني سنة سبع وثمانين وثلاثمائة عقد باديس بن منصور بن بلكين صاحب إِفريقية، في شهر صفر، الولاية لعمه حماد بن بلكين

على أشير وخرج إِليها حماد، فاتسعت ولاية حماد وكثر دخله وعظم شأنه، واجتمع له العساكر والأموال، وبقي كذلك إِلى سنة خمس وأربعمائة فأظهر حماد الخلاف على ابن أخيه باديس وخرج عن طاعته وخلعه، وسار كل منهما بجموعه إِلى الآخر واقتتلا في أول جمادى الأولى سنة ست وأربع مائة، فانهزم حماد هزيمة شنيعة، بعد قتال شديد جرى بين الفريقين، ولما انهزم حماد التجأ إلى قلعة مغيلة، ثم سار حماد إلى مدينة دكمة ونهبها ونقل منها الزاد إِلى القلعة المذكورة، وعاد إِليها وتحصن بها وباديس نازل بالقرب منه محاصر له، ودام الحال كذلك حتى توفي باديس فجأة، نصف ليلة الأربعاء آخر ذي القعدة سنة ست وأربع مائة. وتولى بعد باديس ابنه المعز بن باديس. واستمر حماد على الخلف معه كما كان مع أبيه، حتى اقتتل المعز بن باديس وحماد في سنة ثمان وأربع مائة بموضع يقال له ينني، فانهزم حماد بعد قتال شديد هزيمة قبيحة، وبعد هذه الهزيمة لم يعد حماد إِلى قتال، واصطلح مع المعز المذكور، على أن يقتصر حماد على ما في يده، وهو عمل ابن علي وما وراءه من أشير وتاهرت، واستقر للقائد بن حماد المسيلة وطبنة ومرسى الدجاجي وزواوة ومقرة ودكمة وغير ذلك، وبقي حماد وابنه القائد كذلك حتى توفي حماد في نصف سنة تسع عشرة وأربع مائة، واستقر في الملك بعده ابنه القائد بن حماد وبقي القائد في الملك حتى توفي في سنة ست وأربعين وأربعمائة في شهر رجب. ولما توفي القائد ملك بعده ابنه محسن بن القائد بن حماد، فأساء السيرة، وخبط وقتل جماعة من أعمامه، فخرج عن طاعة محسن المذكور، ابن عمه بلكين ابن محمد بن حماد، واقتتل معه فقتل بلكين محسناً المذكور وملك موضعه في ربيع الأول سنة سبع وأربعين وأربع مائة، وبقي حتى غدر ببلكين المذكور الناصر بن علناس بن حماد، وأخذ منه الملك في رجب سنة أربع وخمسين وأربعمائة، واستقر الناصر بن علناس بن حماد في الملك حتى توفي في سنة إِحدى وثمان وأربعمائة. وملك بعده ابنه المنصور بن الناصر وبقي في الملك حتى توفي في سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وملك بعده ابنه باديس بن المنصور، وأقام باديس مدة يسيرة وتوفي، وملك بعده أخوه العزيز بالله بن المنصور، وبقي العزيز في الملك حتى توفي، ولم يقع لي تاريخ وفاته، وملك بعده ابنه يحيى بن العزيز بالله، وبقي في الملك حتى سار عبد المؤمن من الغرب الأقصى وملك بجاية. قال ابن الأثير في الكامل: إِن ذلك كان في سنة سبع وأربعين وخمس مائة، وكان آخر من ملك منهم يحيى بن العزيز بالله بن المنصور بن الناصر بن علناس بن حماد بن بلكين، وانقرضت دولة بني حماد في السنة المذكورة، وكان ينبغي أن نذكر ذلك مبسوطاً مع السنين، وإنما جمعناه لقلته لينضبط.

موت نوح صاحب ما وراء النهر في هذه السنة مات الرضي الأمير نوح بن منصور بن نوح بن ناصر بن أحمد بن إِسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان. في رجب، واختلّ بموته ملك آل سامان، ولما توفي قام بالأمر بعده ابنه أبو الحارث منصور بن نوح. موت سبكتكين وفي هذه السنة توفي سبكتكين في شعبان، وكان مقامه ببلخ، فلما طال مرضه ارتاح إِلى هوى غزنهَ، فسار عن بلخ إِليها فمات في الطريق، فنقل ميتاً ودفن بغزنة، وكانت مدة ملكه نحو عشرين سنة. وكان عادلاً خيراً، ولما حضرته الوفاة عهد إِلى ولده إِسماعيل، وكان محمود أكبر منه، فملك إِسماعيل وكان بينه وبين أخيه محمود قتال في تلك المدة، ثم انتصر محمود وانهزم إِسماعيل وانحصر في قلعة غزنة، وحاصره محمود، فنزل إِسماعيل بالأمان، فأحسن إِليه محمود وأكرمه وكان مدة ملك إِسماعيل سبعة أشهر. وفاة فخر الدولة وفي هذه السنة، توفي فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة، أبي علي الحسن بن بويه، بقلعة طبرك، في شعبان، وأقعدوا في الملك بعده ولده مجد الدولة أبا طالب رستم، وعمره أربع سنين، واتفق الأمراء على ذلك، وكان المرجع في تدبير الملك إِلى والدة أبي طالب المذكور. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة توفي أبو الوفاء محمد بن محمد المهندس الحاسب البوزجاني، أحد الأئمة المشاهير في علم الهندسة، ومولده في رمضان سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ببوزجان، وهي بلدة من خراسان، بين هراة ونيسابور، ثم قدم العراق. وفيها توفي الحسن بن إِبراهيم بن الحسين من ولد سليمان بن زولاق، وهو مصري الأصل، وكان فاضلاً في التاريخ، وله فيه مصنفات، وله كتاب خطط مصر، وكتاب قضاة مصر، وله غير ذلك من المصنفات، رحمه الله تعالى. وفيها توفي الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري، العلامة، وكنيته أبو أحمد، صاحب التصانيف الكثيرة في اللغة والأمثال وغيرها، وكان أبو أحمد المذكور من أهل عسكر مكرم، وهي مدينة من كور الأهواز، وكان مولده في شوال سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وأخذ العلم عن أبي بكر بن دريد، ومن جملة تصانيفه كتاب في علم المنطق، وكتاب الزواجر، وكتاب المختلف والمؤتلف، وكتاب الحكم والأمثال. ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.

قتل صمصام الدولة في هذه السنة، في ذي الحجة، قتل صمصام الدولة، أبو كاليجار المرزبان بن عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة حسن بن بويه بسبب شغب الديلم عليه، وكان عمر صمصام الدولة خمساً وثلاثين سنة وسبعة أشهر، ومدة ولايته بفارس تسع سنين وثمانية أيام. قال القاضي شهاب الدين بن أبي الدم: إِن صمصام الدولة المذكور، لما خرج من الاعتقال، وملك في سنة ثمانين وثلاثمائة كان أعمى من حين سمل واستمر في الملك، وكان منه ما تقدم ذكره، حتى قتل في هذه السنة وهو أعمى. وفيها توفي محمد بن الحسن بن المظفر المعروف بالحاتمي، أحد الأعلام، وكان إِماماً في الأدب واللغة وهو صاحب الرسالة الحاتمية التي بيّن فيها سرقة المتنبي ونسبة الخاتمي إِلى حاتم بعض أجداده. ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة. القبض على الأمير منصور بن نوح وولاية أخيه في هذه السنة، اتفق أعيان عسكر منصور الساماني، مع بكتورون، وفائق، وخلعوا منصوراً بن نوح، وأمر بكتورون به، ولم يراقب الله ولا إِحسان مواليه إِليه، وأقاموا في الملك أخاه عبد الملك، وهو صبي صغير، وكان مدة ملك منصور سنة وسبعة أشهر. ملك محمود بن سبكتكين خراسان ولما وقع من بكتورون وفائق ما وقع في حق منصور بن نوح، كتب محمود بن سبكتكين يلومهما على ذلك وسار إِليهما، فاقتتلوا أشد قتال، ثم انهزم بكتورون وفائق، وتبعهم محمد يقتل في عسكرهم، حتى أبعدوا في الهرب، واستولى محمود على ملك خراسان، وقطع منها خطبة السامانية. انقراض دولة السامانية وفي هذه السنةِ انقرضت دولة السامانية، فإِن محمود بن سبكتكين لما ملك خراسان وقطع خطبتهم، اتفق ببخارى مع عبد الملك بن نوح بكتورون، وفائق، وأخذوا في جمع العساكر، فاتفق أن فائقاً مات في تلك المدة، وكان هو المشار إِليه، فضعفت نفوسهم بموته، وبلغ ذلك أيلك خان، واسمه أرسلان، فسار في جمع الأتراك إِلى بخارى، وأظهر المودة، لعبد الملك والحمية له، فظنوه صادقاً، وخرج إِليه بكتورون وغيره من الأمراء والقواد، فقبض عليهم وسار حتى دخل بخارى، عاشر ذي القعدة من هذه السنة. ثم قبض على عبد الملك بن نوح وحبسه حتى مات في الحبس، وحبس معه أخاه منصور الذي سملوه وباقي بني سامان، وانقرضت دولة بني سامان. وكانت دولتهم قد انتشرت وطبقت كثيراً من الأرض، وكانت

من أحسن الدول سيرة وعدلا، وهذا عبد الملك هو عبد الملك بن نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إِسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان. فسبحان من لا يزول ملكه، وكان ابتداء دولتهم في سنة إِحدى وستين ومائتين، وانقرضت في هذه السنة، أعني سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، ثم دخلت سنة تسعين وثلاثمائة في هذه السنة وقيل بل في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة توفي أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي اللغوي، كان إِماماً في علوم شتى، وخصوصاً في اللغة، وله عدة مصنفات منها: كتابه المجمل في اللغة، ووضع المسائل الفقهية، وهي مسألة في المقامة الطيبية، وكان مقيماً بهمذان وعليه اشتغل البديع الهمذاني صاحب المقامات. ثم دخلت سنة إِحدى وتسعين وثلاثمائة في هذه السنة قتل حسام الدولة المقلد بن المسيب بن رافع بن جعفر بن عمر بن مهنا بن يزيد بالتصغير بن عبد الله بن زيد، من ولد ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن العقيلي، وكان المقلد المذكور أعور وأخوه أبو الذواد محمد بن المسيب، هو أول من استولى منهم على الموصل، وملكها في سنة ثمانين وثلاثمائة حسبما تقدم ذكره، ثم ملكها بعده أخوه المقلد المذكور، في سنة ست وثمانين وثلاثمائة واستمر مالكها حتى قتل في هذه السنة، قتله مماليكه الأتراك بالأنبار، وكان قد عظم شأنه، ولما مات قام مقامه ابنه قرواش بن المقلد بن المسيب. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي أبو عبد الله الحسين بن الحجاج الشاعر، بطريق النيل. وكان شاعراً مشهوراً، ذا مجون وخلاعة، وتولى حسبة بغداد مدة، وكان من كبار الشيعة، وأوصى أن يدفن عند مشهد موسى بن جعفر، وأن يكتب على قبره " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " " الكهف: 18 "، ولما مات بالنيل، نقل إِلى بغداد ودفن كما أوصى، والنيل بلدة على الفرات بيِن بغداد والكوفة، وأصل اسم هذا الموضع، أن الحجاج بن يوسف حفر به نهراً مخرجه من الفرات، وعليه قرى، وسماه باسم نيل مصر. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة في هذه السنة غزا السلطان محمود بن سبكتكين بلاد الهند، فغنم وأسر وسبى كثيراً، وعاد إِلى غزنة سالماً غانماً. وفي هذه السنة جرى بين قرواش بن المقلد بن المسبب العقيلي وبين عسكر بهاء الدولة حروب، انتصر فيها قرواش أولاً، ثم انتصر عسكر بهاء الدولة. وفي هذه السنة توفي أبو بكر محمد بن محمد بن جعفر الفقيه الشافعي المعروف بابن الدقاق، صاحب الأصول. ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة في هذه السنة ملك يمين الدولة محمود بن سبكتكين سجستان، وانتزعها من يد صاحبها، خلف بن أحمد، وبقي خلف بن أحمد المذكور في الجوزخان بعد ذلك أربع سنين، ثم نقله يمين الدولة محمود إِلى جودين، واحتاط

عليه هناك حتى أدركه أجله، سنة تسع وتسعين، وكان خلف المذكور مشهوراً بطلب العلم، وله تفسير من أكبر الكتب. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي أبو عامر محمد، الملقب بالمنصور، أمير الأندلس، وكان قد عظم شأنه، وأكثر الغزوات، وضبط البلاد، وكانت ولايته في سنة ست وستين وثلاثمائة حسبما ذكرناه هناك، فكانت مدة ولايته نحواً من سبع وعشرين سنة، ولم يكن للمؤيد خليفة الأندلس معه من الأمر شيء، ولما توفي المنصور بن أبي عامر المذكور، تولى بعده ابنه أبو مروان عبد الملك بن المنصور المذكور، وتلقب بالمظفر وجرى في الغزو وسياسة الملك عن هشام المؤيد، على قاعدة أبيه، وبقي عبد الملك المذكور في الولاية سبع سنين، فتكون وفاته في سنة أربعمائة. ولما توفي عبد الملك المظفر المذكور، قام بالأمر بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر المذكور، وتلقب عبد الرحمن المذكور بالناصر، فخلط ولم يزل مضطرب الأمور مدة أربعة أشهر، فخرج على المؤيد، ابن عمه محمد بن هشام على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى، فخلع هشام وقُتل عبد الرحمن المذكور وصُلب. وفي هذه السنة كثرت العيارون والمفسدون والفتن ببغداد. وفيها استعمل الحاكم العلوي صاحب مصر والشام على دمشق، أبا محمد الأسود، ولما استقر في قصر الإِمارة بدمشق وحكم، أشْهَر إِنساناً مغربياً ونادى عليه، هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر ثم أخرجه من دمشق. وفيها توفي ببغداد عثمان بن جني النحوي الموصلي، مصنف اللمع وغيره، ومولده سنة اثنتين وثلاثمائة وفيها توفي القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني بالري، وكان إِماماً فاضلاً ذا فنون كثيرة، والوليد بن بكر بن مخلد الأندلسي الفقيه المالكي، وهو محدث مشهور. وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبد الله السلامي الشاعر البغدادي، فمن شعره في عضد الدولة: فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو العمر وله في الدرع: يا ربَّ سابغة حبتني نعمة ... كافأتها بالسوء غير مفند أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذلها لكل مهندِ ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلاثمائة خروج البطيحة عن ملك مهذب الدولة في هذه السنة استولى على البطيحة وغيرها إِنسان يقال له أبو العباس بن واصل. وكان رجلاً قد تنقل في خدم الناس، ثم خدم مهذب الدولة صاحب البطيحة، فتقدم عنده حتى جهز معه جيشاً، فاستولى على البصرة وسيراف، فلما فتحهما ابن واصل المذكور، وغنم

أموالاً عظيمة، قويت نفسه، وخلع طاعة مهذب الدولة مخدومه، ثم قصده، فانهزم مهذب الدولة عن البطيحة، واستولى ابن واصل على بلاد مهذب الدولة وأمواله وكانت عظيمة، ونهب ما كان مع مهذب الدولة من المال، وقصد مهذب الدولة بغداد، فلم يمكن من الدخول إِليها، وهذا خلاف ما اعتمده مهذب الدولة المذكور، مع القادر لما هرب من بغداد إِليه، فإِن مهذب الدولة بالغ في الخدمة والإِحسان إِليه. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة قلد بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الموسوي، والد الشريف الرضي، نقابة العلويين بالعراق، وقضاء القضاة والمظالم، وكتب عهده بذلك من شيراز، ولقبّه الطاهر ذا المناقب، فامتنع الخليفة من تقليده قضاء القضاة، وأمضى ما سواه. ثم دخلت سنة خمس وتسعين وثلاثمائة عود مهذب الدولة إِلى البطيحة كان أبو العباس بن واصل لما استولى على البطايح، قد أقام بها نائباً، وسار هو إِلى نحو البصرة، فلم يتمكن نائبه من المقام بها، وخرج أهل البطيحة عن طاعته، فأرسل عميد الجيوش وهو أمير العراق من جهة بهاء الدولة، عسكراً في السفن مع مهذب الدولة إِلى البطيحة، فلما دخلها لقيه أهل البلاد وسروا بقدومه، وسلموا إليه جميع الولايات، واستقر عليه لبهاء الدولة، في كل سنة خمسون ألف دينار، واشتغل عنه ابن واصل بحرب غيره. وفي هذه السنة فتح يمين الدولة محمود بن سبكتكين مدينة بهاطية من أعمال الهند وهي وراء الملتان، وهي مدينة حصينة عالية السور. ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلاثمائة في هذه السنة سار يمين الدولة ففتح الملتان، ثم سار إِلى نحو بيدا ملك الهند، فهرب إلى قلعته المعروفة بكاليجار فحصره بها، ثم صالحه على مال حمله إِليه، وألبس ملك الهند خلعته، واستعفى من شد المنطقة، فلم يعفه يمين الدولة منها فشدها على كره. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة قُلد الشريف الرضي نقابة الطالبيين ولقب بالرضي، ولقب أخوة المرتضى فعل ذلك بهاء الدولة. وفيها توفي محمد بن إِسحاق بن محمد ابن يحيى بن منده الأصفهاني، صاحب التصانيف المشهورة. ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثلاثمائة قتل ابن واصل في هذه السنة وقع بين بهاء الدولة وأبي العباس بن واصل حروب، آخرها أن أبا العباس انهزم إِلى البصرة ثم انهزم عنها، فأُسر وحُمل إِلى بهاء الدولة، فأمر بقتله قبل وصوله إِليه، وطيف برأس أبي العباس بن واصل المذكور بخورستان وكان قتله بواسط عاشر صفر.

خبر أبي ركوة في هذه السنة، خرج على الحاكم بمصر، إِنسان أموي من ولد هشام بن عبد الملك، يسمى أبا ركوة، لحمله ركوة على كتفه، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فكثر جمعه وملك برقة، وجهز إِليه الحاكم جيشاً فهزمه أبو ركوة، وغنم ما في ذلك الجيش، وقوى به، وسار أبو ركوة إِلى الصعيد واستولى عليه، فعظم ذلك على الحاكم إِلى الغاية، فأحضر عساكر الشام، واستخدم عساكر كثيرة، واستعمل عليهم فضل بن عبد الله، وأرسله إِلى أبي ركوة، فجرى بينهم قتال عظيم، وآخره أن عساكر الحاكم انتصرت، وهربت جموع أبي ركوة، وأُخذ أسيراً فقتله الحاكم وصلبه، وطيف برأسه. ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة في هذه السنة، سار يمين الدولة محمود إلى الهند، وأوغل فيه وغزا وفتح. وفي هذه السنة استعملت والدة مجد الدولة بن فخر الدولة - وكان إليها الحكم بمملكة ابنها - أبا جعفر ابن شمتر يار، المعروف بابن كاكوية، على أصفهان، فاستقر فيها قدمه وعظم شأنه وإنما قيل له ابن كاكوية، لأنه كان ابن خال والدة مجد الدولة المذكورة، وكاكوية هو الخال بالفارسية. وفي هذه السنة توفي عبد الواحد بن نصر المعروف بالببغاء الشاعر. وفيها توفي البديع أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني صاحب المقامات المشهورة التي عمل الحريري على منوالها المقامات الحريرية. وفيها توفي أبو نصر إِسماعيل بن أحمد الجوهري، مصنف كتاب الصحاح في اللغة المعروف بصحاح الجوهري وهو كتاب شهرته تغني عن ذكره، وإسماعيل المذكور هو من فاراب وهي مدينة ببلاد الترك، من وراء النهر، وتسمى هذا الزمان أطرار وكان المذكور إِماماً في اللغة العربية، قدم إِلى نيسابور وتوفي بها، وكان يكتب خطاً حسناً منسوباً من الطبقة العالية. ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلاثمائة في هذه السنة قتل أبو علي بن ثمال الخفاجي، وكان الحاكم العلوي قد ولاه الرحبة، ثم انتقلت عنه، وصار أمرها إِلى صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب. وفيها توفي علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس المصري، صاحب الزيج الحاكمي، المعروف بزيج بن يونس، وهو زيج كبير في أربع مجلدات، وذكر أن الذي أمر بعمله العزيز أبو الحاكم. ثم دخلت سنة أربعمائة في هذه السنة عاد يمين الدولة وغزا الهند وغنم وعاد. ؟؟؟ أخبار المؤيد الأموي خليفة الأندلس قد تقدم في سنة ست وستين وثلاثمائة ذكر موت الحاكم صاحب الأندلس، وولاية ابنه المؤيد هشام بن الحكم المنتصر بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمر المؤيد لما

ولي الخلافة عشر سنين، فاستولى على تدبير المملكة أبو عامر محمد بن أبي عامر، وبقي المؤيد محجوباً عن الناس، واستمر المؤيد هشام المذكور في الخلافة إِلى سنة تسع وتسعين وثلاثمائة فخرج عليه في السنة المذكورة، محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر الأموي، في جمادى الآخرة من سنة تسع وتسعين وثلاثمائة واجتمع عليه الناس وبايعوه بالخلافة، وقبض على المؤيد وحبسه في قرطبة وتلقب محمد المذكور بالمهدي، واستمر في الخلافة، فخرج عليه سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، فهرب محمد بن هشام بن عبد الجبار المذكور، واستولى سليمان على الخلافة في أوائل شوال من هذه السنة أعني سنة أربعمائة، ثم جمع المهدي محمد بن هشام جمعاً وقصد سليمان بقرطبة، فهرب سليمان وعاد محمد المهدي المذكور إِلى الخلافة في منتصف شوال من هذه السنة المذكورة، ثم اجتمع كبار العسكر وقبضوا على المهدي محمد المذكور، وأخرجوا المؤيد من الحبس، وأعادوه إِلى الخلافة في سابع ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة أربعمائة، وأحضروا المهدي المذكور بين يديه، فأمر بقتله، فقتل، واستمر المزيد في الخلافة، وقام بتدبير أمره واضح العامري ثم قبض المؤيد على واضح المذكور وقتله، فكثرت الفتن على المؤيد، واتفقت البربر مع سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وسار وحصر المؤيد بقرطبة، وملكها سليمان عنوة، وأخرج المؤيد من القصر، ولم يتحقق للمؤيد خبر بعد ذلك، وبُويع سليمان بالخلافة في منتصف شوال من سنة ثلاث وأربعمائة، وتلقب بالمستعين بالله، ثم كان من سليمان وأخبار الأندلس ما سنذكره إِن شاء الله تعالى في سنة سبع وأربعمائة. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة بنى أبو محمد بن سهلان، سوراً على مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وفيها توفي النقيب أبو أحمد الموسوي، والد الشريف الرضي، وكان مولده سنة أربع وثلاثمائة، وكان قد أضر في آخر عمره. وفيها توفي أبو العباس النامي الشاعر، وأبو الفتح علي بن محمد البستي، الكاتب الشاعر، صاحب التجنيس. ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة فيها سار أيلك خان ملك الترك، من سمرقند، بجيوشه لقتال أخيه طغان خان، فوصل إلى أوزكند وسقط عليه ثلج منعه من المسير إِليه، فعاد إِلى سمرقند. الخطبة العلوية بالكوفة والموصل في هذه السنة خطب قرواش بن المقلد بن المسيب أمير بني عقيل، للحاكم بالله العلوي صاحب مصر، بأعماله كلها، وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها. وكان ابتداء

وملكه حلب وأخبار ولده إلى سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة

الخطبة بالموصل، الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب، وانهدت بعظمته أركان النصب، وأطلع بقدرته شمس الحق من الغرب، فكتب بهاء الدولة إِلى عميد الجيوش يأمره بالمسير إِلى حرب قرواش فسار إِليه، وأرسل قرواش يعتذر وقطع خطبة العلويين. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة وقع الحرب بين بني مزيد وبني دبيس، بسبب أن أبا الغنائم محمد بن مزيد، كان مقيماً عند بني دبيس، في جزيرتهم، بنواحي خورستان لمصاهرة بينهم، فقتل أبو الغنائم محمد بن مزيد، أحد وجوه بني دبيس، ولحق بأخيه أبي الحسن بن مزيد، فسار إِليهم أبو الحسن بن مزيد، واقتتلوا فقتل أبو الغنائم محمد بن مزيد، وهرب أخوه أبو الحسن. وفي هذه السنة توفي عميد الجيوش أبو علي بن أستاذ هرمز، وكان أميراً من جهة بهاء الدولة على العسكر، وعلى الأمور ببغداد، وكانت ولايته ثمان سنين وأربعة أشهر وأياماً. وعمره تسع وأربعون سنة، وكان أبوه أستاذ هرمز، من حجاب عضد الدولة، واتصل عميد الجيوش بخدمة بهاء الدولة، فلما فسد حال بغداد من الفتن، أرسله بهاء الدولة إِلى بغداد، فأصلح الأمور وقمع المفسدين، فلما مات عميد الجيوش، استعمل بهاء الدولة موضعه على بغداد فخر الملك، أبا غالب. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعمائة أخبار صالح بن مرْداس وملكه حلب وأخبار ولده إلى سنة اثنتَين وسبعين وأربعمائة وكان ينبغي أن نذكر ذلك مبسوطاً في السنين، ولكن لقلته كان يضيع ولا ينضبط فلذلك أوردنا في هذه السنة جملة، كما فعلنا مثل ذلك في عدة قصص من هذا التاريخ فنقول: إِننا ذكرنا ملك أبي المعالي شريف الملقب بسعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان لحلب، إِلى أن توفي بالفالج، وهو مالكها، على ما شرحناه في سنة إِحدى وثمانين وثلاثمائة، ولما توفي أبو المعالي سعد الدولة المذكور، أقيم أبو الفضائل ولد سعد الدولة مكان أبيه، وقام بتدبيره، لؤلؤ، أحد موالي سعد الدولة، ثم استولى أبو نصر بن لؤلؤ المذكور علي أبي الفضائل بن سعد الدولة، وأخذ منه حلب، واستولى عليها، وخطب للحاكم العلوي بها، ولقب الحاكم أبا نصر بن لؤلؤ المذكور، مرتضى الدولة. واستقر في ملك حلب، وجرى بينه وبين صالح بن مرداس الكلابي وبني كلاب وحشة وقصص يطول شرحها، وكانت الحرب بينهم سجالاً، وكان لابن لؤلؤ غلام اسمه فتح، وكان دزدار قلعة حلب، فجرى بينه وبين أستاذه ابن لؤلؤ وحشة في الباطن، حتى عصى. فتح المذكور في قلعة حلب على أستاذه، واستولى عليها، وكاتب فتح المذكور الحاكم العلوي بمصر، ثم أخذ فتح من الحاكم صيدا وبيروت، وسلم حلب إِلى نواب الحاكم،

فسار مولاه ابن لؤلؤ إِلى إنطاكية وهي للروم، فأقام معهم بها، وتنقلت حلب بأيدي نواب الحاكم، حتى صارت بيد إِنسان من الحمدانية، يعرف بعزيز الملك، وبقي المذكور نائب الحاكم بحلب، حتى قتل الحاكم، وولي الظاهر لاعزاز دين الله، العلوي، فتولى من جهة الظاهر العلوي المذكور على مدينة حلب، إِنسان يعرف بابن ثعبان وولي القلعة خادم يعرف بموصوف، فقصدهما صالح بن مرداس، أمير بني كلاب، فسلم إِليه أهل البلد مدينة حلب، لسوء سيرة المصريين فيهم، وصعد ابن ثعبان إِلى القلعة، وحصرها صالح بن مرداس، فسلمت إِليه قلعة حلب أيضاً، في سنة أربع عشرة وأربعمائة واستقر صالح مالكاً لحلب، وملك معها من بعلبك إِلى عانة وأقام صالح بن مرداس بحلب، مالكاً لما ذكر ست سنين، فلما كان سنة عشرين وأربعمائة، جهز الظاهر العلوي جيشاً لقتال صالح المذكور، ولقتال حصان أمير بني طيئ وكان قد استولى حسان المذكور على الرملة. وتلك البلاد، وكان مقدم عسكر المصريين اسمه أنوش تكين، فاتفق صالح وحسان على قتال أنوش تكين، وسار صالح من حلب إلى حسان، واجتمعا على الأردن عند طبرية ووقع بينهم القتال، فقتل صالح بن مرداس وولده الأصغر، ونفذ رأساهما إلى مصر، ونجا ولده أبو كامل نصر بن صالح بن مرداس، وسار إِلى حلب، فملكها، وكان لقب أبي كامل المذكور، شبل الدولة وبقي شبل الدولة بن صالح مالكاً لحلب إلى سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وذلك في أيام المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر. فجهزت العساكر من مصر إِلى شبل الدولة، ومقدمهم رجل يقال له الدزبري بكسر الدال المهملة وسكون الزاي المعجمةَ وباء موحدة وراء مهملة ويا مثناة من تحت وهو أنوش تكين المذكور، وكان يلقب الدزبري. نقلت ذلك من تاريخ ابن خلكان فاقتتلوا مع شبل الدولة عند حماة، في شعبان سنة تسع وعشرين وأربعمائة فقتل شبل الدولة، وملك الدزبري حلب في رمضان من السنة المذكورة. وملك الشام جميعه، وعظم شأن الدزبري وكثر ماله، وتوفي الدزبري بحلب سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. وكان لصالح بن مرداس ولد بالرحبة، يقال له: أبو علوان ثمال، ولقبه معز الدولة، فلما بلغه وفاة الدزبري سار ثمال بن صالح المذكور إِلى حلب وملك مدينة حلب، ثم ملك قلعتها في صفر سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وبقي معز الدولة ثمال بن صالح المذكور، مالكاً لحلب إِلى سنة أربعين وأربعمائة، فأرسل إليه المصريون جيشاً، فهزمهم ثمال، ثم أرسلوا إِليه جيشاً آخر، فهزمهم ثمال أيضاً ثم صالح ثمال المذكور المصريين، ونزل لهم عن حلب فأرسل المصريون رجلاً من أصحابهم يقال له الحسن بن علي بن ملهم ولقبوه مكين الدولة، فتسلم حلب من ثمال بن صالح بن مرداس، في سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وسار ثمال إِلى مصر، وسار أخوه عطية بن صالح بن مرداس

إِلى الرحبة، وكان لنصر الملقب بشبل الدولة الذي قتل في حرب الدزبري ولد يقال له محمود، فكاتبه أهل حلب، وخرجوا عن طاعة ابن ملهم، فوصل إِليهم محمود، واتفق معه أهل حلب، وحصروا ابن ملهم في جمادى الآخرة من سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، فجهز المصريون جيشاً لنصرة ابن ملهم، فلما قاربوا حلب، رحل محمود عنها هارباً، وقبض ابن ملهم على جماعة من أهل حلب، وأخذ أموالهم، ثم سار العسكر في أثر محمود بن نصر بن صالح المذكور، فاقتتلوا وانتصر محمود وهزمهم، ثم عاد محمود إِلى حلب فحاصرها، وملك المدينة والقلعة، في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وأطلق ابن ملهم ومقدم الجيش، وهو ناصر الدولة، من ولد ناصر الدولة بن حمدان، فسار إِلى مصر واستقر محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس مالكاً لحلب. ولما وصل ابن ملهم وناصر الدولة إِلى مصر، وكان ثمال بن صالح بن مرداس قد سار إِلى مصر كما ذكرنا، جهز المصريون ثمال بن صالح بجيش، لقتال ابن أخيه محمود بن شبل الدولة فسار ثمال بن صالح إِلى حلب وهزم محمود بن أخيه، وتسلم ثمال بن صالح بن مرداس حلب، في ربيع الأول من سنة ثلاث وخمسين أربعمائة ثم توفي ثمال في حلب سنة أربع وخمسين في ذي القعدة، وأوصى بحلب لأخيه عطية، الذي كان سار إِلى الرحبة كما ذكرناه. فسار عطية بن صالح من الرحبة، وملك حلب في السنة المذكورة، وكان محمود بن شبل الدولة، لما هرب من عمه ثمال من حلب، سار إِلى حران، فلما مات ثمال، وملك أخوه عطية حلب، جمع محمود عسكراً وسار إلى حلب، فهزم عمه عطية عنها وسار عطية إِلى الرقة فملكها، ثم أُخذت منه، فسار عطية إِلى الروم، وأقام بقسطنطينية حتى مات بها. وملك محمود بن نصر بن صالح بن مرداس حلب، في أواخر سنة أربع وخمسين وأربعمائة ثم استوَلى محمود على أرتاح، وأخذها من الروم في سنة ستين، ومات محمود المذكور في ذي الحجة سنة ثمان وستين وأربعمائة في حلب، مالكاً لها. وملك حلب بعده ابنه نصر بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس، ثم قتل التركمان نصراً المذكور، على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى، في سنة تسع وستين وأربعمائة وملك حلب بعده أخوه سابق بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس وبقي سابق بن محمود المذكور، مالكاً لحلب إِلى سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة وأخذ حلب منه شرف الدولة، مسلم بن قريش، صاحب الموصل على ما نذكره إن شاء الله تعالى. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، كتب ببغداد محضر بأمر القادر، يتضمن القدح في نسب العلويين خلفاء مصر، وكتب فيه جماعة من العلويين والقضاة، وجماعة من الفضلاء، وأبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة، ونسخة المحضر المذكورة هذا ما شهد به الشهود، أن معد بن إِسماعيل بن

عبد الرحمن بن سعيد، منتسب إلى ديصان بن سعيد، الذي ينسب إِليه الديصانية، وأن هذا الناجم بمصر هو منصور ابن نزار المتلقب بالحاكم، حكم الله عليه بالبوار والدمار، ابن معد بن إِسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد، لا أسعده الله، وأن من تقدمه من سلفه، الأرجاس الأنجاس، عليهم لعنة الله، ولعنة اللاعنين، أدعياء خوارج لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن ما ادعوه من الانتساب إِليه، زور وباطل، وأن هذا الناجم في مصر، هو وسلفه، كفّار وفسّاق، زنادقة ملحدون معطلون، وللإِسلام جاحدون، أباحوا الفروج وأحلوا الخمور، وسبوا الأنبياء، وادعوا الربوبية وتضمن المحضر المذكور نحو ذلك، أضربنا عنه، وفي آخره كتب في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة وفيها اشتد أذى خفاجة للحجاج، وقطعوا عليهم الطريق. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة قتل قابوس في هذه السنة، قتل شمس المعالي قابوس بن وشمكير بن زيار، بسبب تشديده على أصحابه، وعدم التجاوز عن ذنوبهم، فخرجوا عن طاعته وحصروه، واستدعوا ولده منوجهر بن قابوس، فأقاموه عليهم، وكان بجرجان، ثم اتفق مع أبيه قابوس، فانقطع قابوس في قلعة يعبد الله، فلم يطب للعسكر الذين خلعوه، وعاودوا منوجهر في قتله، فسكت فمضوا إِلى قابوس، وأخذوا جميع ما عنده من ملبوس، وتركوه حتى مات بالبرد، وكان قابوس المذكور كثير الفضائل، عظيم السياسة، شديد الأخذ، قليل العفو، وكان عالماً بالنجوم وغيرها، وله أشعار حسنة، فمن شعره: قلْ للذي بصروف الدهرِ عيرنا ... هلْ عاند الدهر ُإِلا مَنْ له خطرُ ففي السماء نجوم ما لها عدد ... وليسَ يكسف إِلا الشمسُ والقمر وفي هذه السنة مات ملك الترك، أيلك خان، وملك بعده أخوه طغان خان، وكان أيلك خان خيراً عادلاً محباً للدين وأهله. وفاة بهاء الدولة في هذه السنة في عاشر جمادى الآخرة، توفي بهاء الدولة أبو نصر خاشاذ بن عضد الدولة بن بويه بتتابع الصرع، مثل مرض أبيه عضد الدولة، وكان موت بأرجان، وملك العراق وعمره اثنتان وأربعون سنة وتسعة أشهر، وملكه أربع وعشرون سنة. ولما توفي ولي الملك بعده ابنه سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة. وفيها كان استيلاء سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر على قرطبة، وبويع بالخلافة على ما قدمنا ذكره، في سنة أربعمائة، ولما استولى على قرطبة عدم المؤيد هشام، فلم يتحقق له خبر بعد هذه السنة، وسنذكر ما قيل في ظهوره إِن شاء الله تعالى وإن ذلك كان تنويجاً لا حقيقة له.

وفيها توفي القاضي أبو بكر بن الباقلاني، واسمه محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، وكان أبو بكر المذكور، على مذهب أبي الحسن الأشعري، وهو ناصر طريقته، ومؤيد مذهبه، وسكن ببغداد، وصنف التصانيف للكثيرة في علم الكلام، وانتهت إِليه الرئاسة في مذهبه، ونسبة الباقلاني إلى بيع الباقلاء، وهي نسبة شاذة مثل صنعاني. ثم دخلت سنة أربع وأربعمائة في هذه السنة أيضاً عاد يمين الدولة محمود، فغزا الهند وأوغل في بلادهم وغنم وفتح وعاد إِلى غزنة. وفيها عاثت خفاجة، ونهبوا سواد الكوفة، وطلع عليهم العسكر وقتل منهم وأسر. وفي هذه السنة توفي أبو الحسن علي بن سعيد الأصطخري، وهو من شيوخ المعتزلة، وكان عمره قد زاد على ثمانين سنة. ثم دخلت سنة خمس وأربعمائة في هذه السنة، كانت الحرب بين أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي، وبين مضر وحسان ونبهان وطراد بني دبيس، وكان آخر تلك الحرب، أن مضر بن دبيس، كبس أبا الحسن ابن مزيد المذكور، فهزمه واستولى ابن دبيس على خيل أبي الحسن وأمواله وهرب أبو الحسن إِلى بلد النيل. وفيها توفي الحافظ محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم الضبي الطهماني، المعروف بابن الحاكم النيسابوري إِمام أهل الحديث في عصره، والمؤلف فيه الكتب التي لم يسبق إِلى مثلها، سافر في طلب الحديث، وبلغت عدة شيوخه نحو ألفين، وصنف عدة مصنفات، منها الصحيحان، والأمالي، وفضائل الشافعي، وإنما عُرف أبوه بالحاكم، لأنه تولى القضاء بنيسابور. وفيها قتل طائفة من عامة الدينور، قاضيهم أبا القاسم يوسف بن أحمد بن كج، الفقيه الشافعي، قاضي الدينور، قتلوه خوفاً منه، وله وجه في المذهب، وصنف كتباً كثيرة، وجمع بين رئاستي العلم والدنيا. ثم دخلت سنة ست وأربعمائة وفاة باديس في هذه السنة، توفي باديس بن منصور بن يوسف بلكين بن زيري، أمير إِفريقية. وولي بعده إِمرة إِفريقية ابنه المعز بن باديس، وعمره ثمان سنين، ووصلت إِليه الخلع والتقليد من الحاكم العلوي، ولقبه شرف الدولة، وهذا المعز بن باديس هو الذي حمل أهل المغرب على مذهب الإمام مالك، وكانوا قبله على مذهب أبي حنيفة. وفي هذه السنة غزا يمين الدولة محمود الهند على عادته، فتاه الدليل، ووقع هو وعسكره في مياه فاضت من البحر فغرق كثير ممن معه، وبقي فيه أياماً، حتى تخلص، وعاد إِلى خراسان. وفي هذه السنة عَزَل سلطان الدولة بن بهاء الدولة نائبه بالعراق، فخر الملك، أبا غالب، وقتله سلخ ربيع الأول من هذه السنة، وكان عمر فخر الملك اثنتين وخمسين سنة وأحد عشر شهراً، وكانت مدة ولايته على العراق خمس سنين وأربعة أشهر وأياماً، ووجد له من المال ألف ألف دينار عيناً، غير العروض. وغير ما نهب، وكان قبضه بالأهواز. ثم استوزر سلطان الدولة بن بهاء

وتفرق ممالك الأندلس، وأخبار الدولة العلوية بها

الدولة أبا محمد الحسن بن سهلان. وفيها توفي أبو نصر قرا خان صاحب تركستان، وقيل في سنة ثمان ورأبعمائة على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. وفيها توفي الشريف الحسيني الملقب بالرضي، وهو محمد بن الحسين بن موسى بن إِبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، المعروف بالموسوي، صاحب ديوان الشعر، حكي أنه تعلم النحو من ابن السيرافي النحوي، فذاكره ابن السيرافي على عادة التعليم، وهو صبي، فقال: إذا قلنا رأيت عمر فما علامة النصب في عمرو؟ فقال الرضي: بغض علي. أراد السيرافي النصب الذي هو الإعراب، وأراد الرضي الذي هو بغض علي، فأشار إِلى عمرو بن العاص وبغضه لعلي، فتعجب الحاضرون من حدة ذهنه، وكانت ولادته سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ببغداد. وفيها توفي الإمام أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الإسفراييني، إِمام أصحاب الشافعي، وكان عمره إِحدى وستين سنة وأشهراً، قدم بغداد في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وكان يحضر مجلسه أكثر من ثلاثمائة فقيه، وطبق الأرض بالأصحاب، وله عدة مصنفات منها: في المذهب التعليقة الكبرى، وهو من إسفرائين وهي بلدة بخراسان بنواحي نيسابور، على منتصف الطريق إِلى جرجان. ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة فيها غزا يمين الدولة محمود الهند على عادته، ووصل إِلى قشمير، وقنوج، وبلغ نهر كنك وفتح عدة بلاد وغنم أموالاً وجواهر عظيمة، وعاد إِلى غزنة مؤيداً منصوراً. انقراض الخلافة الأموية من الأندلس وتفرق ممالك الأندلس، وأخبار الدولة العلوية بها في هذه السنة، خرج بالأندلس على المستعين بالله سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الأموي، شخص من القواد يقال له خيران العامري، لأنه كان من أصحاب المؤيد، فلما ملك سليمان الأموي قرطبة، خرج عنه خيران المذكور، وسار في جماعة كثيرة من العامريين، وكان علي بن حمود العلوي مستولياً على سبتة، وبينه وبين الأندلس عدوة المجاز، وكان أخوه القاسم بن حمود مستولياً على الجزيرة الخضراء من الأندلس، ولما رأى علي بن حمود العلوي خروج خيران على سليمان، عبر من سبتة إِلى مالقة، واجتمع إِليه خيران وغيره من الخارجين على سليمان الأموي، وكان أمر هشام المؤيد الخليفة الأموي قد اختفى عليهم، من حين استولى ابن عمه سليمان المذكور على قرطبة، في سنة ثلاث وأربعمائة، على ما قدمنا ذكره. وأخرج المؤيد من القصر، فلم يطلع للمؤيد على خبر، فاجتمع خيران وغيره إِلى علي بن حمود العلوي بالمكتب، وهي ما بين المرية ومالقة، سنة ست وأربعمائة، وبايعوا علي بن حمود العلوي على طاعة المؤيد الأموي، إِن ظهر خبره، وساروا إلى سليمان

بقرطبة، وجرى بينهم قتال شديد، انهزم فيه سليمان الأموي، وأخذ أسيراً، وأحضر هو وأخوه وأبوهما الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وكان الحكم أبو سليمان المذكور، متخلياً عن الملك للعبادة، وملك علي بن حمود العلوي قرطبة، ودخلها في هذه السنة أعني سنة سبع وأربعمائة، وقصد القواد وعلي ابن حمود القصر، طمعاً في أن يجدوا المؤيد، فلم يقفوا له على خبر، فقتل علي بن حمود العلوي سليمان وأباه وأخاه، ولما قدم الحكم بن سليمان للقتل، قال له علي ابن حمود: يا شيخ قتلتم المؤيد؟ فقال: والله ما قتلناه، وإنه حي يرزق، فحينئذ أسرع علي بن حمود في قتله، وأظهر علي بن حمود موت المؤيد، ودعا الناس إلى نفسه فبايعوه، وتلقب بالمتوكل على الله، وقيل الناصر لدين الله، وهو علي بن حمود بن أبي العيش ميمون بن أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن إِدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. ثم إن خيران خرج عن طاعته، لأنه إِنما وافقه طمعاً في أن يجد المؤيد محبوساً في قصر قرطبة، ليعيده إِلى الخلافة، فلما لم يجده، سار خيران عن قرطبة يطلب أحداً من بني أمية ليقيمه في الخلافة، فبايع شخصاً من بني أمية ولقبه المرتضى، وهو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي، وكان مستخفياً بمدينة جيان، واجتمع إِلى عبد الرحمن المذكور أهل شاطبة وبلنسية وطرطوشة مخالفين على علي بن حمود العلوي، فلم ينتظم لعبد الرحمن المذكور أمر، وجمع علي بن حمود جموعه، وقصد المسير إِليهم من قرطبة، وبرز العساكر إِلى ظاهرها، ودخل علي بن حمود الحمّام، ليخرج منها ويسير بالعساكر فوثب عليه غلمانه وقتلوه في الحمّام. وكان قتل علي بن حمود في أواخر ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة، فلما علمت العساكر بقتله، دخلوا البلد، وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة، ومدة ولايته سنة وتسعة أشهر. ثم ولي بعده أخوه القاسم بن حمود، وكان أكبر من أخيه علي بعشرين عاماً، وقيل بعشرة أعوام، ولقب القاسم بالمأمون، وبقط القاسم بن حمود مالكاً لقرطبة وغيرها، إلى سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. ثم سار القاسم من قرطبة إلى إشبيلية، فخرج عليه ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود بقرطبة، ودعا الناس إلى نفسه، وخلع عمه، فأجابوه، وذلك في مستهل جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. وتلقب يحيى بالمعتلي، وبقي بقرطبة حتى سار إِليه عمه القاسم من إِشبيلية، فخرج يحيى بن علي بن حمود من قرطبة إِلى مالقة، والجزيرة الخضراء، فاستولى عليهما، وذلك في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، في ذي القعدة، ودخل القاسم بن حمود قرطبة في التاريخ المذكور، وجرى بين أهل قرطبة وبين القاسم قتال شديد، وأخرجوه عن قرطبة، وبقي بينهم القتال نيفاً وخمسين يوماً، ثم انتصر أهل قرطبة وانهزم القاسم بن حمود، وتفرق عنه عسكره، وسار إِلى شريش، فقصده ابن أخيه يحيى بن علي

بن حمود، وأمسك عمه القاسم بن حمود وحبسه، حتى مات القاسم في الحبس، بعد موت يحيى. ولما جرى ذلك خرج أهل إِشبيلية عن طاعة القاسم، وابن أخيه يحيى، وقدموا عليهم قاضي إِشبيلية أبا القاسم محمد بن إِسماعيل بن عباد اللخمي، وبقي إِليه أمر إشبيلية وكانت ولاية القاسم بن حمود بقرطبة إِلى أن أمسك وحبس ثلاثة أعوام، وشهوراً، وبقي محبوساً إِلى أن مات سنة إِحدى وثلاثين وأربعمائة وقد أسنّ. ثم أقام أهل قرطبة رجلاً من بني أمية اسمه عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، ولقب عبد الرحمن المذكور المستظهر بالله وهو أخو المهدي محمد بن هشام، وبويع في رمضان، وقتلوه في ذي القعدة، كل ذلك في سنة أربع عشرة وأربعمائة، ولما قتل المستظهر، بويع بالخلافة محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر، ولقب محمد المذكور المستكفي، ثم خلع المستكفي المذكور بعد سنة وأربعة أشهر، فهرب وسم في الطريق فمات. ثم اجتمع أهل قرطبة على طاعة يحيى بن علي بن حمود العلوي، وكان بمالقة، يخطب له بالخلافة، ثم خرجوا عن طاعته في سنة ثماني عشرة وأربعمائة، وبقي يحيى كذلك مدة، ثم سار من مالقة إِلى قرمونة. وأقام بها محاصراً لإشبيلية وخرجت للقاضي أبا القاسم بن عباد خيل، وكمن بعضهم، فركب يحيى لقتالهم، فقتل في المعركة، وكان قتل يحيى المذكور في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة. ولما خلع أهل قرطبة طاعة يحيى كما ذكرنا، بايعوا لهشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي ولقبوه بالمعتد بالله، وكان ذلك في سنة ثماني عشرة وأربعمائة حسبما ذكرنا، وجرى في أيامه فتن وخلافات من أهل الأندلس يطول شرحها، حتى خلع هشام المذكور سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وسار هشام مخلوعاً إِلى سليمان بن هود الجذامي، فأقام عنده إِلى أن مات هشام سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. ثم أقام أهل قرطبة بعد هشام شخصاً من ولد عبد الرحمن الناصر أيضاً واسمه أمية، ولما أرادوا ولاية أمية، قالوا له: نخشى عليك أن تقتل فإن السعاد قد ولت عنكم يا بني أمية. فقال: بايعوني اليوم، واقتلوني غداً، فلم ينتظم له أمر، واختفى فلم يظهر له خبر بعد ذلك. ثم إِن الأندلس اقتسمها أصحاب الأطراف والرؤساء، وصاروا مثل ملوك الطوائف، وأما قرطبة فاستولى عليها أبو الحسن بن جهور، وكان من وزراء الدولة العامرية، وبقي كذلك إِلى أن مات سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وقام بأمر قرطبة بعده ابنه أبو الوليد محمد بن جهور. وأما إِشبيلية فاستولى عليها قاضيها أبو القاسم محمد بن إِسماعيل بن عباد اللخمي، وهو من ولد النعمان بن المنذر ولما انقسمت مملكة الأندلس، شاع أن المؤيد هشام بن الحكم الذي اختفى خبره قد ظهر وسار إِلى قلعة رباح، وأطاعه أهلها، فاستدعاه ابن عباد إِلى إِشبيلية، فسار إليه، وقام بنصره، وكتب بظهوره إِلى ممالك الأندلس، فأجاب

أكثرهم، وخطبوا له وجددت بيعته في المحرم سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وبقي المؤيد حتى ولي المعتضد بن عباد، فأظهر موت المؤيد، والصحيح أن المؤيد لم يظهر خبر مذ عدم من قرطبة، في سنة ثلاث وأربعمائة على ما قدمنا ذكره، وإما كان إِظهار المؤيد من تمويهات ابن عباد وحيله ومكره. وأما بطليوس فقام بها سابور الفتى العامري، وتلقب سابور المذكور بالمنصور، ثم انتقلت من بعده إِلى أبي بكر محمد بن عبد الله بن مسلمة، المعروف بابن الأفطس، وتلقب محمد المذكور بالمظفر، وأصل ابن الأفطس المذكور من بربر مكناسة، لكن ولده أبوه بالأندلس. فلما توفي محمد المذكور، صار ملك بطليموس بعده لولده عمر بن محمد وتلقب بالمتوكل، واتسع ملكه، وقتل صبراً مع ولديه، عند تغلب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين على الأندلس، وكان اسم ولديه اللذين قتلا معه، الفضل والعباس. وأما طليطلة فقام بأمرها ابن يعيش، ثم صارت إِلى إِسماعيل بن عبد الرحمن بن عامر بن ذي النون، وتلقب بالظافر بحول الله، وأصله من البربر، ثم ملك بعده ولده يحيي بن إِسماعيل، ثم أخذت الفرنج منه طليطلة في سنة سبع وسبعين وأربعمائة، وصار هو ببلنسية، وأقام هو بها إلى أن قتله القاضي ابن جحاف الأحنف. وأما سرقسطة والثغر الأعلى، فصارت في يد منذر بن يحيى، ثم صارت سرقسطة وما معها بعده لولده يحيى بن منذر بن يحيى، ثم صارت لسليمان بن أحمد بن محمد بن هود الجذامي، وتلقب بالمستعين بالله، ثم صارت بعده لولده أحمد بن سليمان بن محمد بن أحمد، ثم ولى بعده ابنه عبد الملك بن أحمد، ثم ولي بعده ابنه أحمد بن عبد الملك، وتلقب بالمستنصر بالله. وعليه انقرضت دولتهم على رأس الخمسمائة، فصارت بلادهم جميعها للملثمين. وأما طرطوشة فوليها لبيب بن الفتى العامري. وأما بلنيسة فكان بها المنصور أبو الحسن عبد العزيز المغافري، ثم انضاف إِليه المرية، ثم ملك بعده ابنه محمد بن عبد العزيز، ثم غدر به صهره المأمون بن ذي النون، وأخذ الملك من محمد بن عبد العزيز في سنة سبع وخمسين وأربعمائة. وأما السهلة فملكها عبود بن رزين، وأصله بربري. وأما دانية والجزائر فكانت بيد الموفق بن أبي الحسين مجاهد العامري. وأما مرسية فوليها بنو طاهر، واستقامت لأبي عبد الرحمن منهم، إِلى أن أخذها منه المعتمد بن عباد. ثم عصى بها نائبها عليه، ثم صارت للملثمين. وأما المرية فملكها خيران العامري، ثم ملك المرية بعده زهير العامري، واتسع ملكه إِلى شاطبة، ثم قتل وصارت مملكته إِلى المنصور عبد العزيز بن عبد الرحمن المنصور بن أبي عامر، ثم انتقلت حتى صارت للملثمين. وأما مالقة فملكها بنو علي بن حمود العلوي، فلم تزل في مملكة العلويين يخطب لهم فيها بالخلافة، إِلى أن أخذها منهم باديس ابن حبوس صاحب غرناطة. وأما غرناطة فملكها حبوس بن ماكس الصنهاجي فهذه صورة تفرق

ممالك الأندلس، بعد ما كانت مجتمعة لخلفاء بني أمية، وقد نظم أبو طالب عبد الجبار المعروف بالمثنى الأندلسي، من أهل جزيرة شقراء، أرجوزة تحتوي على فنون من العلوم، وذكر فيها شيئاً من التاريخ يشتمل على تفرق ممالك الأندلس، فمن ذلك قوله: لما رأى أعلامُ أهل قُرطبة ... أن الأمور عندهم مضطربَه وعدمت شاكلة للطاعة ... استعلمت آراءها الجماعة فقدموا الشيخَ من آل جهور ... المكتنى بالحزم والتدبرِ ثم ابنه أبا الوليد بعده ... وكانْ يحدوا في السداد قصده فجاهرت لجورها الجهاوره ... وكل قطر حل فيه فاقره والثغر الأعلى قامَ فيه منذر ... ثم ابنُ هود بعدُ فيما يذكر وابن يعيش ثار في طليطله ... ثم ابن ذي النون تصفى الملك له وفي بطليموس انتزا سابور ... وبعده ابن الأفَطس المنصور وثار في إِشبيلية بنو عباد ... والكذب والفتونُ في ازدياد وثار في غرناطة حبوس ... ثم ابنه من بعده باديس وآل معن ملكوا المريه ... بسيرة محمودة مُرْضيه وثار في شرق البلاد الفتيان ... العامريون ومنهم خيران ثم زهيرٌ والفتى لبيبُ ... ومنهم مجاهد اللبيب سلطانه رسى بمرسى دانيه ... ثم غزا حتى إلى سردانيه ثم أقامت هذه الصقالبه ... لابن أبي عامر هم بشاطبه وحل ما ملكهم بلنسيه ... وثار آل طاهر بمرسيه وبلد البيت لآل قاسم ... وهو حتى الآن فيه حاكم وابن رزين جاره في السهلة ... أمهل أيضاً ثم كل المهله ثم استمرت هذه الطوائِف ... يخلفهم من آلهم خوالف غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، أعني سنة سبع وأربعمائة، قتلت الشيعة بإفريقية، وتتبع من بقي منهم فقتلوا، وكان سببه أن المعز بن باديس ركب في القيروان، فاجتاز بجماعة، فسأل عنهم فقيل له: هؤلاء رافضة، يسبون أبا بكر وعمر، فقال المعز رضي الله عن أبي بكر وعمر، فثارت بهم الناس، وأقاموا الفتنة وقتلوهم طمعاً في النهب. ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة في هذه السنة مات قرا خان ملك تركستان، وقيل إِن وفاته كانت في سنة ست وأربعمائة، ومدينة تركستان كاشغر، ولما كان قرا خان مريضاً، سارت جيوش الصين من الترك والخطابية إِلى بلاده،

فدعا قرا خان الله تعالى في أن يعافيه ليقاتلهم، ثم يفعل به ما شاء، فتعافى وجمع العساكر وسار إِليهم، وهم زهاء ثلاثمائة ألف خركاة، فكبسهم وقتل منهم زيادة على مائتي ألف رجل، وأسر نحو مائة ألف، وغنم ما لا يحصى، وعاد إِلى بلا ساغون، فمات بها عقيب وصوله، وكان عادلاً ديناً، وما أشبه قصته هذه بقصة سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه، في غزوة الخندق، لما جرح في وقعة خندق، وسأل الله أن يحييه إِلى أن يشاهد غزوة بني قريظة، فاندمل جرحه حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل بني قريظة، وسبيهم، فانتقض جرح سعد ومات رضي الله عنه، ولما مات قرا خان، واسمه أبو نصر أحمد بن طغان خان علي ملك أخوه أبو المظفر أرسلان خان. وفاة مهذب الدولة صاحب البطيحة وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي مهذب الدولة أبو الحسن بن علي ابن نصر، ومولده سنة خمس وثلاثمائة وهو الذي هرب إليه القادر بالله، وسبب موته أنه افتصد، فورم ساعده، واشتد بسبب ذلك به المرض، فلما أشرف على الموت، وثب ابن أخت مهذب الدولة، وهو أبو محمد عبد الله بن يمني، فقبض على ابن مهذب الدولة، واسمه أحمد، فدخلت أمه على مهذب الدولة قبل موته، فأعلمته بما جرى على ابنه فقال لها مهذب الدولة أي شيء أقدر أن أعمل وأنا على هذا الحال. ومات من الغد، ووليٍّ الأمر أبو محمد ابن أخت مهذب الدولة المذكور، وضرب ابن مهذب الدولة ضرباً شديداً، فمات أحمد بن مهذب الدولة من ذلك الضرب بعد ثلاثة أيام من موت أبيه، ثم حصل لأبي محمد ذبحة فمات منها، فكان مدة ملكه دون ثلاثة أشهر. فولي البطيحة بعده الحسين بن بكر الشرابي، وكان من خواص مهذب الدولة، ثم قبض عليه سلطان الدولة، في سنة ست عشرة وأربعمائة، وأرسل سلطان الدولة صدقة بن فارس المازديادي فملك البطيحة. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة مات علي بن مزيد الأسدي وصار الأمير بعده ابنه دبيس بن علي بن مزيد. وفي هذه السنة ضعف أمر الديلم ببغداد، وطمعت فيهم العامة، وكثرت العيارون والمفسدون في بغداد، ونهبوا الأموال. وفيها قدم سلطان الدولة إِلى بغداد، وضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس، وكان جده عضد الدولة يفعل ذلك في أوقات ثلاث صلوات. ثم دخلت سنة تسع وأربعمائة. في هذه السنة غزا يمين الدولة الهند، على عادته، فقتل وغنم وفتح وعاد إِلى غزنة مظفراً منصوراً. وفيها مات عبد الغني بن سعيد الحافظ المصري، صاحب المؤتلف والمختلف. وفيها توفي أرسلان خان أبو المظفر بن طغان خان علي، ولما توفي مَلِكَ بلاد ما وراء النهر قدر خان، يوسف ابن بغراخان هارون

بن، بهاء الدولة بن عضد الدولة العراق

بن سليمان، وتوفي قدر خان المذكور في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة عشر وأربعمائة، وفيها توفي وثاب بن سابق النميري صاحب حران وملك بلاده بعده ولده شبيب بن وثاب. ثم دخلت سنة إِحدى عشرة وأربعمائة موت الحاكم بأمر الله في هذه السنة، لثلاث بقين من شوال، فقد الحاكم بأمر الله أبو علي منصور ابن العزيز بالله العلوي، صاحب مصر، وكان فَقْده بأن خرج يطوف بالليل على رسمه، وأصبح عند قبر الفقاعي وتوجه إِلى شرقي حلوان، ومعه ركابيان فأعاد أحدهما مع جماعة من العرب ليوصلهم ما أطلق لهم من بيت المال، ثم عاد الركابي الآخر وأخبر أنه خلف الحاكم عند العين والمقصبة، فخرج جماعة من أصحابه لكشف خبره، فوجدوا عند حلوان حمار الحاكم، وقد ضربت يده بسيف، وعليه سرجه ولجامه، وأتبعوا الأثر، فوجدوا ثياب الحاكم فعادوا ولم يشكوا في قتله، وكان سبب قتله: أنه تهدد أخته، فاتفقت مع بعض القواد، وجهزوا عليه من قتله، وكان عمر الحاكم ستاً، وثلاثين سنة وتسعة أشهر، وولايته خمساً وعشرين سنة وأياماً، وكان جواداً بالمال، سفاكاً للدماء، وكان يصدر عنه أفعال متناقضه، يأمر بالشيء ثم ينتهي عنه. وولي الخلافة بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله، أبو الحسن علي بن منصور الحاكم بأمر الله، وبويع له بالخلافة. في اليوم السابع من قتل الحاكم، وهو إذ ذاك صبي وكتبت الكتب إِلى بلاد مصر والشام بأخذ البيعة له، وجمعت عمته أخت الحاكم، واسمها ست الملك، الناس، ووعدتهم وأحسنت إِليهم ورتبت الأمور وباشرت تدبير الملك بنفسها، وقويت هيبتها عند الناس، وعاشت بعد قتل الحاكم أربع سنين وماتت. ملك شرف الدولة بن، بهاء الدولة بن عضد الدولة العراق وفي هذه السنة، في ذي الحجة شغبت الجند ببغداد على سلطان الدولة فأراد الإنحدار إِلى واسط، فقال الجند له: إِما أن تجعل عندنا ولدك، وإما أخاك مشرف الدولة، فاستخلف أخاه مشرف الدولة على العراق، وسار سلطان الدولة عن بغداد إِلى الأهواز، واستوزر في طريقه ابن سهلان، فاستوحش مشرف الدولة من ذلك، وأرسل سلطان الدولة وزيره ابن سهلان ليخرج أخاه مشرف الدولة من العراق، فسار إِليه واقتتلا، فانتصر مشرف الدولة وأمسك ابن سهلان، وسمله، فلما سمع سلطان الدولة بذلك، ضعفت نفسه وهرب إِلى الأهواز في أربعمائة فارس، واستقر مشرف الدولة بن بهاء الدولة في ملك العراق، وقطعت خطبة سلطان الدولة، وخطب لمشرف الدولة في أواخر المحرم سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.

غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة، في الموصل، قبض معتمد الدولة قرواش بن المقلد على وزيره أبي القاسم المغربي، ثم أطلقه، فيما بعد، وقبض أيضاً على سليمان بن فهد، وكان ابن فهد في حداثته بين يدي الصابي ببغداد، ثم صعد إِلى الموصل، وخدم المقلد ابن المسيب والد قرواش، ثم نظر في ضياع قرواش فظلم أهلها، ثم سخط قرواش عليه وحبسه ثم قتله، وهو المذكور في شعر ابن الزمكدم في أبياته وهي: وليلِ كوجهِ البرقعيدي مظلم ... ورد أغانيه وطولِ قرونهِ سريت ونومي فيه نوم مشردٍ ... كعَقلِ سليمَانَ بن فهد ودينهِ علي أولق فيه التفات كأنه ... أبو جابر في خطبهِ وجنونهِ إِلى أن بدا نور الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه وكان من حديث هذه الأبيات، أن قرواشاً جلس في مجلس شرابه في ليلة شاتية وكان عنده المذكورون، وهم البرقعيدي وكان مغنياً لقرواش، وسليمان بن فهد الوزير المذكور، وأبو جابر، وكان حاجباً لقرواش، فأمر قرواش الزمكدم أن يهجو المذكورين ويمدحه، فقال هذه الأبيات البديهية. وفيها اجتمع غريب بن معن ودبيس بن علي بن مزيد، وأتاهم عسكر من بغداد، وجرى بينهم وبين قرواش قتال، فانهزم قرواش، وامتدت يد نواب السلطان إِلى أعماله، فأرسل قرواش يسأل الصفح عنه. وفيها على ما حكاه ابن الأثير في حوادث هذه السنة، في ربيع الآخر نشأت سحابة بإفريقية شديدة البرق والرعد، فأمطرت حجارة كثيرة وهلك كل من أصابته. ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة فيها مات صدقة بن فارس المازياري أمير البطيحة، وضمنها أبو نصر شيرزاد بن الحسن بن مروان، واستقر فيها، وأمنت به الطرق. وفيها توفي علي بن هلال، المعروف بابن البواب، المشهور بجودة الخط، وقيل كان موته سنة ثلاث عشرة وكان عنده علم، وكان يقص بجامع المدينة ببغداد، ويقال له ابن الستري أيضاً، لأن أباه كان بواباً، والبواب يلازم ستر الباب، فلهذا نسب إِليه أيضاً، وكان شيخه في الكتابة محمد بن أسد بن علي القارئ الكاتب البزار البغدادي. وتوفي ابن البواب ببغداد، ودفن بجوار أحمد بن حنبل. وفيها توفي أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي الصوفي صاحب طبقات الصوفية. وفيها توفي علي بن عبد الرحمن الفقيه البغدادي، المعروف بصريع الدلاء، قتيل الغواشي ذي الرقاعتين، الشاعر المشهور، وله قصيدة في المجون فمنها قوله: وليس يخرا في الفراش عاقلٌ ... والفرش لا ينكر فيها من فسى من فاته العلم وأخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حال سوا

وقدم مصر في السنة التي توفي فيها، ومدح الظاهر لإعزاز دين الله. أخبار اليمن من تاريخ اليمن لعمارة قال: وفي هذه السنة، أعني سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، استولى نجاح على اليمن حسبما سبقت الإشارة إليه، في سنة ثلاث ومائتين، ونجاح المذكور مولى مرجان، ومرجان مولى حسين بن سلامة، وحسين مولى رشد، ورشد مولى زياد، وكان لنجاح عدة من الأولاد منهم: سعيد الأحول، وجياش، ومعارك، وغيرهم وبقي نجاح في ملك اليمن حتى توفي في سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. قيل إن الصليحي أهدى إليه جارية جميلة، فسمت نجاحاً ومات بالسم. ثم ملك بعد نجاح بنوه، وكبيرهم سعيد الأحول بن نجاح، وبقي الأمر فيهم بعد موت نجاح سنتين وغلب عليهم الصليحي، على ما سنذكره في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، فهرب بنو نجاح إِلى دهلك وجزائرها، ثم افترقوا منها فقدم جياش متنكراً إِلى زبيد، وأخذ منها وديعة كانت له، ثم عاد إِلى دهلك مدة ملك الصليحي. وأما سعيد الأحوال، فقدم إِلى زبيد أيضاً، بعد عود أخيه جياش عنها، واستتر بها، وأرسل واستدعى جياشاً من دهلك، وبشره بانقضاء ملك الصليحي، وأن ذلك قد قرب أوانه، فقدم جياش إِلى زبيد في اليوم التاسع من ذي القعدة، سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، وقصدا الصليحي، وكان الصليحي قد سار إِلى الحج، فلحقاه عند أم الدهيم، وبير أم معبد، وبغتاه وقتلاه في ثاني عشر ذي القعدة، من السنة المذكورة، ومعه عسكر كثير، فلم يشعروا إِلا بقتل الصليحي، وكذلك قتل مع الصليحي أخوه عبد الله بن محمد، وحز سعيد رأس الصليحي ورأس أخيه عبد الله، واحتاط على امرأة الصليحي، وهي أسماء بنت شهاب، وسار عائداً إِلى زبيد، وكان لأسماء ابن يقال له الملك المكرم، وكان مالكاً بعض حصون اليمن، ودخل سعيد بن نجاح وأخوه جياش زبيد في أواخر سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة والرأسان قدامهما، أمام هودج أسماء بنت شهاب، وأنزل سعيد أسماء بدار في زبيد، ونصب الرأسين قبالتها، واستوسق الأمر بتهامة لسعيد بن نجاح، واستمرت أسماء مأسورة إِلى سنة خمس وسبعين وأربعمائة، فأرسلت أسماء بالخفية كتاباً إِلى ابنها المكرم تستوحيه، فجمع المكرم، واسمه أحمد بن علي الصليحي، جموعاً وسار من الجبال إِلى زبيد، وجرى بينه وبين سعيد بن نجاح قتال شديد، فانتصر الملك المكرم، وهرب سعيد، ومن سلم معه إِلى دهلك، واستولى المكرم على زبيد، وأنزل رأسي الصليحي وأخيه ودفنهما، وبنى عليهما مشهداً وولى المكرم على زبيد خاله أسعد بن شهاب، وماتت أسماء المذكورة، بعد ذلك في صنعاء سنة سبع وسبعين وأربعمائة. ثم عاد بنو نجاح من دهلك وملكوا زبيد، وأخرجوا أسعد بن شهاب منها في سنة تسع وسبعين وأربعمائة،

ثم غلب عليهم الملك المكرم أحمد بن علي الصليحي، وملك زبيد وقتل سعيد بن نجاح في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وقيل سنة ثمانين، ونصب رأسه مدة، ولما قتل سعيد في السنة المذكورة، هرب أخوه جياش إِلى الهند، وأقام جياش في الهند ستة أشهر، ثم عاد إِلى زبيد فملكها، في بقايا سنة إِحدى وثمانين المذكورة، وكان قد اشترى من الهند جارية هندية، فأقدمها معه وهي حبلى منه، فلما حصل في زبيد ولدت له ابنه الفاتك بمن جياش، وبقي المكرم في الجبال يوقع الغارات على بلاد جياش، ولم يبق له من القدرة على غير ذلك. ولم يزل جياش مالكاً لتهامة من اليمن، من سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، إِلى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، فمات في أواخرها، وقيل إِن موته كان في سنة خمسمائة، وترك عدة أولاد منهم: الفاتك ابن الهندية، ومنصور، وإبراهيم، فتولى بعده ابنه فاتك بن جياش، وخالف عليه أخوه إبراهيم، ثم مات فاتك في سنة ثلاث وخمسمائة وخلف ولده منصوراً، فاجتمعت عليه عبيد أبيه فاتك وملكوه وهو دون البلوغ، فقصده عمه إِبراهيم وقاتله، فلم يظفر إِبراهيم بطائل، وثار في زبيد عم الصبي عبد الواحد بن جياش، وملك زبيد، فاجتمع عبيد فاتك على منصور واستنجدوا وقصدوا زبيد، وقهروا عبد الواحد، واستقر منصور بن فاتك في الملك بزبيد، ثم ملك بعد منصور بن فاتك، ولده فاتك بن منصور بن فاتك. ثم ملك بعد فاتك الأخير المذكور ابن عمه، واسمه أيضاً فاتك بن محمد بن فاتك بن جياش بن نجاح، مولى مرجان، في سنة إِحدى وثلاثين وخمسمائة، واستقر فاتك بن محمد المذكور في ملك اليمن، من السنة المذكورة، حتى قتله عبيد في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وهو آخر ملوك اليمن من بني نجاح. ثم تغلب على اليمن في سنة أربع وخمسين وخمسمائة، علي بن مهدي، على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة فيها كان الصلح بين مشرف الدولة وأخيه سلطان الدولة، واستقر الحال على أن يكون العراق جميعه لمشرف الدولة وكرمان وفارس لسلطان الدولة. وفيها استوزر مشرف الدولة أبا الحسن بن الحسن الرخجي، ولقب مؤيد الملك، وامتدحه المهيار وغيره من الشعراء، وبنى مارستان بواسط، وجعل عليه وقوفاً عظيمة، وكان يسأل في الوزارة ويمتنع، فألزمه مشرف الدولة بها في هذه السنة. وفيها توفي علي بن عيسى السكري. شاعر السنة وسمي بذلك لإكثاره من مدح الصحابة ومناقضته شعراء الشيعة، وفيها توفي عبد الله بن المعلم فقيه الإمامية، ورثاه المرتضى. ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة في هذه السنة استولى علاء الدولة أبو جعفر بن كاكوية على همذان وأخذها من صاحبها سماء الدولة أبي الحسن بن شمس الدولة، من بني بويه، ولما ملك علاء الدولة همذان، سار إِلى الدينور، فملكها، ثم ملك شابور خواشت، أيضاً وقْويت هيبته وضبط المملكة. وفي

هذه السنة قبض مشرف الدولة على وزيره الرخجي، واستوزر أبا القاسم المغربي، واسمه الحسين، الذي تقدم ذكره أنه كان وزير القرواش، وكان أبوه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان، وسار إِلى مصر وولد له أبو القاسم المذكور بها، سنة سبعين وثلاثمائة ثم قتل الحاكم أباه، فهرب أبو القاسم إِلى الشام وتنقْل في الخدم. وفي هذه السنة غزا يمين الدولة محمود بلاد الهند، وأوغل فيه وفتح وغنم وعاد سالماً. وفي هذه السنة توفي القاضي عبد الجبار وقد جاوز التسعين، وكان متكلماً معتزلياً، وله تصانيف مشهورة في علم الكلام. ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة وفاة سلطان الدولة في هذه السنة، في شوال، توفي الملك سلطان الدولة، أبو شجاع بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة، بشيراز، وعمره اثنتان وعشرون سنة وأشهر. فاستولى أخوه قوّام الدولة أبو الفوارس بن بهاء الدولة ملك كرمان، على مملكة فارس، وكان أبو كاليجار بن سلطان الدولة بالأهواز، فسار إِلى عمه واقتتلا، فانهزم عمه أبو الفوارس، واستولى أبو كاليجار بن سلطان الدولة على شيراز وسائر مملكة أبيه بفارس، ثم أخرجه عمه أبو الفوارس عنها، ثم عاد أبو كاليجار فملكها ثانياً، وهزم عمه قوّام الدولة، وملك شيراز، واستفر في ملك أبيه. وفيها توفي علي بن عبيد الله بن عبد الغفار السمساني اللغوي، كان فيمن يعلم اللغة، وكتب الأدب التي عليها خطه، مرغوب فيها. ثم دخلت سنة ست عشرة وأربعمائة، في هذه السنة عاد أيضاً يمين الدولة إِلى غزو بلاد الهند، وأوغل فيه، وفتح مدينة الصنم المسمى بسومنات، وهذا الصنم كان أعظم أصنام الهند، وهم يحجون إِليه، وكان له من الوقوف ما يزيد على عشرة آلاف ضيعة، وقد اجتمع في بيت الصنم من الجواهر والذهب ما لا يحصى، فقتل يمين الدولة فيها من الهنود ما لا يحصى وغنم تلك الأموال، وأوقد على الصنم ناراً حتى قدر على كسره، من صلابة حجره، وكان طوله خمسة أذرع، منها ثلاثة بارزة، وذراعان في البناء، وأخذ بعض الصنم معه إِلى غزنة، وجعله عتبة للجامع. وفاة مشرف الدولة وفي هذه السنة، في ربيع الأول توفي مشرف الدولة، أبو علي بن بهاء الدولة، وعمره ثلاث وعشرون سنة وأشهر، وملكه خمس سنين وخمسة وعشرون يوماً، وكان عادلاً حسن السيرة. وفيها قتل علي بن محمد التهامي الشاعر، المشهور، صاحب المرثية المشهورة التي عملها في ولد صغير له مات، التي منها: حكم المنية في البريةِ جاري ... ما هذه الدنيا بدار قرارِ طُبعتْ على كَدر وأنتَ تُريدها ... صفواً من الأقذاء والأكدارِ

ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ ووصل التهامي المذكور إِلى القاهرة، متخفياً، ومعه كتب من حسان بن مفرج ابن دغفل البدوي، إلى بني قرة، فعلم بأمره وحبس في خزانة البنود، ثم قتل بها محبوساً في التاريخ المذكور، والتهامي منسوب إِلى تهامة، وهي تطلق على مكة، ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم تهامي، لأنه منها، وتطلق على البلاد التي بين الحجاز وأطراف اليمن. ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة في هذه السنة تسلط الأتراك في بغداد فأكثروا مصادرات الناس، وعظم الخطب، وزاد الشر، ودخل في الطمع العامة والعيارون، وذلك بسبب موت شرف الدولة وخلو بغداد من سلطان. وفيها توفي أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله الفقيه الشافعي، المعروف بالقفال، وعمره تسعون سنة، وله التصانيف النافعة، وكان يعمل الأقفال، ماهراً في عملها، واشتغل على كبر، وفاق أهل زمانه، يقال كان عمره لما ابتدأ بالاشتغال ثلاثين سنة، وأبو بكر القفال المذكور غير أبي بكر القفال الشاشي، المقدم ذكره في سنة خمس وستين وثلاثمائة، والقفال المذكور اسمه عبد الله، وكنيته أبو بكر، وأما القفال الشاشي المقدم الذكر، اسمه وكنيته أبو بكر. ثم دخلت سنة ثماني عشرة وأربعمائة. ملك جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة بغداد في هذه السنة سار جلال الدولة من البصرة إِلى بغداد، وكان قد استدعاه الجند بأمر الخليفة، لما حصل من النهب والفتن ببغداد، لخلوها من السلطان، فدخلها ثالث رمضان، وخرج الخليفة القادر لملتقاه، وحلفه واستوثق منه، واستقر جلال الدولة في ملك بغداد. وفي هذه السنة توفي الوزير أبو القاسم الغربي الذي تقدم ذكره، وعمره ست وأربعون سنة. وفيها سقط بالعراق بَرَدٌ كبار، وزن البَرَدة، رطل ورطلان بالبغدادي، وأصغره كالبيضة. وفيها نقضت الدار التي بناها معز الدولة بن بويه ببغداد، وكان قد غرم عليها ألف ألف دينار، وبذل في حكاكة سقف منها ثمانية آلاف دينار. وفي هذه السنة أعني سنة ثماني عشرة وأربعمائة، توفي الأستاذ أبو إسحاق إِبراهيم بن محمد بن إِبراهيم بن مروان الاسفرائيني، ويلقب ركن الدين الفقيه الشافعي، المتكلم الأصولي، أخذ عنه الكلام عامة شيوخ نيسابور، وأقر أهل خراسان له بالعلم، وله التصانيف الجليلة في الأصول والرد. على الملحدين، وهو أحد من بلغ حد الاجتهاد من العلماء، لتبحره في العلوم، واختلف إِلى مجلسه أبو القاسم القشيري، وأكثر الحافظ أبو بكر البهيقي الرواية عنه. وفيها توفي أبو القاسم بن طباطبا الشريف، وله شعر جيد، واسمه أحمد بن محمد بن إِسماعيل بن إِبراهيم طباطبا بن إِسماعيل بن إِبراهيم بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، نقيب الطالبيين بمصر، وكان من أكابر رؤسائها، وطباطبا لقب جده، لقّب بذلك لأنه كان يلثغ، فيجعل القاف طاء، طلب يوماً قماشه، فقال غلامه: أجيب

دراعة، فقال: لا، طباطبا يريد قباقيا فبقي عليه لقباً، ومن شعره: كأن نجوم الليل سارتْ نهارها ... فوافت عشاء وهي أنضاء أسفارِ وقد خيمتْ كي تستريح ركابها ... فلا فلكُ جارٍ ولا كوكب ساري ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمائة في هذه السنة، في ذي القعدة توفي قوام الدولة أبو الفوارس بن بهاء الدولة، صاحب كرمان، فسار ابن أخيه أبو كاليجار ابن سلطان الدولة، صاحب فارس، إِلى كرمان، واستولى عليها بغير حرب. ثم دخلت سنة عشرين وأربعمائة في هذه السنة استولى يمين الدولة محمود بن سبكتكين على الري وقبض على مجد الدولة بن فخر الدولة علي بن ركن الدولة حسن بن بويه، صاحب الري، وكان سبب ذلك أن مجد الدولة اشتغل عن تدبير المملكة، بمعاشرة النساء ومطالعة الكتب، فشغبت عليه جنده، فبعث يشكو جنده إِلى يمين الدولة محمود، وعلم محمود بعجزه، فبعث إِليه عسكراً قبضوا على مجد الدولة، واستولى على الري. وفي هذه السنة كان قتل صالح بن مرداس أمير بني كلاب، صاحب حلب على ما سبق ذكره في سنة اثنتين وأربعمائة وفي هذه السنة توفي منوجهر بن قابوس بن وشمكير بن زيار، وملك بعده ابنه أنوشروان بن منوجهر. ثم دخلت سنة إِحدى وعشرين وأربعمائة. ؟؟ وفاة السلطان محمود وفي هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي محمود بن سبكتكين، ومولده في عاشورا سنة ستين وثلاثمائة، وكان مرضه إِسهالاً وسوء مزاج، وبقي كذلك نحو سنتين، وكان قوي النفس، فلم يضع جنبه في مرضه، بل كان يستند إِلى مخدته حتى مات، كذلك وأوصى بالملك لابنه محمد بن محمود، وكان أصغر من مسعود، فقعد محمد في الملك، وكان أخوه مسعود بأصفهان، فسار نحو أخيه محمد، فاتفق أكابر العسكر وقضوا على محمد، وحضر مسعود فتسلم المملكة، واستقر فيها وأطلق أخاه محمداً، وأحسن إِليه. ثم قبض مسعود على القواد الذين قبضوا أخاه محمداً، وسعوا لمسعود في المملكة. وهذا عاقبة غدرهم. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة في هذه السنة سير السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين عسكراً، فاستولى على التيز ومكران. ملك الروم مدينة الرها وكانت الرها لعطير، من بني نمير، فاستولى أبو نصر بن مروان صاحب ديار بكر على حران، وجهز من قتل عطيراً صاحب الرها، فأرسل صالح بن مرداس يشفع إلى أبي نصر بن مروان في أن يرد الرها إِلى ابن عطير ابن والي شيل، بينهما نصفين فقبل شفاعته وسلمها إِليهما في سنة ست عشرة وأربعمائة، وبقيت المدينة معهما إلى هذه السنة، فراسل ابن عطير أرمانوس ملك الروم، وباعه حصته من الرها، بعشرين ألف دينار وعدة قرى، وحضر

وفاة القادر بالله خلافة القائم بأمر الله

الروم وتسلموا برج ابن عطير، فهرب أصحاب ابن شبل، واستولى الروم على البلد، وقتلوا المسلمين وخربوا المساجد. وفاة القادر بالله خلافة القائم بأمر الله وهو سادس عشرينهم في هذه السنة، في ذي الحجة، توفي القادر بالله أبو العباس أحمد بن الأمير إِسحاق بن المقتدر، وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر، وخلافته إِحدى وأربعون سنة وشهر، ولما مات القادر بالله، جلس في الخلافة ابنه القائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله بن القادر، وكان أبوه قد عهد إِليه وبايع له بالخلافة، فجددت البيعة وأرسل القائم أبا الحسن الماوردي إلى الملك أبي كاليجار، فأخذ البيعة عليه للقائم، وخطب له في بلاده. ملك الروم قلعة فامية في هذه السنة، سارت الروم ومعهم حسان بن مفرج الطائي، وهو مسلم، وكان قد هرب إليهم حين انهزم على الأدرن من عسكر الظاهر العلوي، فسار مع الروم إلى الشام، وعلى رأس حسان المذكور علم فيه صليب، ووصلوا إلى فامية، فكبسوها وغنموا ما فيها، وملكوا قلعتها، وأسروا وسبوا. ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة: فيها شغبت الجند ببغداد على جلال الدولة، ونهبوا داره وأخرجوه من بغداد، وكتبوا إلى الملك أبي كاليجار يستدعونه إلى بغداد، فتأخر، وكان قد خرج جلال الدولة إلى عكبرا، ثم وقع الاتفاق وعاد جلال الدولة إلى بغداد. وفي هذه السنة توفي قدر خان يوسف بن بغراخان هروبن بن سليمان، وصح بلاد التيرة من الكفر، وكان قد ملك بلاد ما وراء النهر في سنة تسع وأربعمائة، ولما مات قدر خان ملك بعده ابنه عمر بن قدر خان. ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة. فيها قبض مسعود بن محمود على شهر يوش صاحب ساوه، وقم، وتلك النواحي، وكان قد كثر أفاه على حجاج خراسان، وغيرهم، فأرسل مسعود عسكراً إليه فقبضوا عليه، وأمر به فصلب على سور ساوة. وفيها توفي أحمد بن الحسين الميمندي وزير السلطان محمود، وأبيه مسعود، أقول: ينبغي تحقيق ذلك. فإنه ورد أن محموداً قتل وزيره المذعور، فيتأمل ذلك. وفيها توفي القاضي ابن السماك، وعمره خمس وتسعون سنة. ثم دخلت سنة خمس وعشرين أربعمائة فيها فتح الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين قلعة سرستي وما جاورها من بلاد الهند، وكانت حصينة، وقصدها أبوه مراراً فلم يقدر على فتحها، فطم مسعود خندقها بالشجر والقصب السكر، وفتحها الله عليه، فقتل أهلها وسبى ذراريهم. وفيها توفي بدران بن المقلد صاحب نصيبين، فقصد ولده قريش، عمه قرواشاً فأقر عليه حاله وماله

وسياق أخبار من ملك بعده من أهل بيته إلى آخرهم.

وولاية نصيبين، واستقر قريش بها. ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمائة فيها انحل أمر الخلافة والسلطنة ببغداد، وعظم أمر العيارين وصاروا يأخذون أموال الناس ليلا ونهاراً، ولا مانع لهم، والسلطان جلال الدولة عاجز عنهم لعدم امتثال أمره، والخليفة أعجز منه، وانتشرت العرب في البلاد، فنهبوا النواحي وقطعوا الطريق. وفيها وصلت الروم إلى ولاية حلب، فخرج إليهم صاحبها شبل الدولة بن صالح ابن مرداس، وتصاففوا واقتتلوا، فانهزمت الروم، وتبعهم إلى إعزاز، وغنم منهم وقتل. وفيها قصدت خفاجة الكوفة فنهبوها. وفيها توفي أحمد بن كليب الشاعر، وكان يهوى أسلم بن أحمد بن سعيد، فمات كمداً في هواه، فمن قوله فيه: وأسلمني في هوا ... هـ أسلم هذا الرشا غزال له مقلة ... يصيب بها من يشا وشى بيننا حاسد ... سيسأل عما وشى ولو شاء أن يرتشي ... على الوصل روحي ارتشى ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وفاة الظاهر صاحب مصر في هذه السنة منتصف شعبان، توفي الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن، علي ابن الحاكم أبي علي منصور العلوي بمصر، وعمره ثلاث وثلاثون سنة، وكانت خلافته خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وأياماً، وكان له مصر والشام، والخطبة بإفريقية. وكان جميل السيرة، منصفاً للرعية، ولما مات ولى بعده ابنه أبو تميم معد، ولقب بالمستنصر بالله، ومولده سنة عشرين وأربعمائة، وهذا المستنصر هو الذي خطب له ببغداد، على ما سنذكره في سنة خمسين وأربعمائة إن شاء الله تعالى، وهو الذي وصل إليه الحسن بن الصباح الإسماعيلي، وخاطبه في إقامة دعوته بخراسان وبلاد العجم، وقال له: إن فقدت فمن الإمام بعدك؟ فقال المستنصر: ابني نزار. فتح السويداء كان الروم قد أحدثوا عمارتها، واجتمع إليها أهل القرى المجاورة لها، فسار إليها ابن وثاب وابن عطية مع عسكر كثيف من عند نصر الدولة بن مروان وفتحوا السويداء عنوة. مقتل يحيى الإدريسي وسياق أخبار من ملك بعده من أهل بيته إلى آخرهم. في هذه السنة، أعني سنة سبع وعشرين وأربعمائة، قتل يحيى بن علي بن حمود، حسبما تقدم في سنة سبع وأربعمائة، ولما قتل يحيى، تولى بعده أخوه إدريس بن علي بن حمود،

وتلقب بالمتأيد، واستقر بمالقة حتى توفي في سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ثم ملك بعده أخوه القاسم بن محمد ابن عم إدريس المذكور، وبقي القاسم مدة، ثم ترك الملك وتزهد، فملك بعده الحسن بن يحيى ابن علي بن حمود، وتلقب الحسن المذكور بالمستنصر، وبقي في الملك حتى توفي، ولم يقع لي تاريخ وفاته، ثم ملك بعد الحسن المذكور أخوه إدريس بن يحيى، وتلقب بالعالي، وكان العالي المذكور، فاسد التدبير، وكان يدخل الأراذل على حريمه، ولا يخببهن منهم، وسلك نحو ذلك من السلوك، فخلعه الناس وبايعوا ابن عمه محمد بن إدريس بن علي بن حمود، فاستقر محمد المذكور في الملك، وتلقب بالمهدي، وأسمك ابن عمه العالي وسجنه، وبقي محمد المهدي المذكور حتى توفي في سنة خمس وأربعين وأربعمائة. وكان المهدي المذكور آخر من ملك منهم تلك البلاد، وانقرضت دولتهم في السنة المذكورة، أعني سنة خمس وأربعين وأربعمائة، وقيل بل إن العامة أخرجوا العالي بعد موت محمد المهدي وملكوه، فلما مات انقرضت دولتهم، وفي أيام خلافة المهدي محمد بن إدريس المذكور، قام من بني عمه شخص اسمه محمد بن القاسم بن حمود، بالجزيرة الخضراء، وتلقب محمد بن القاسم المذكور بالمهدي أيضاً، واجتمعت عليه البرابر، ثم افترقوا عنه فمات بعد أيام يسيره، وقيل مات غماً، ولما مات محمد بن القاسم المذكور بن حمود، وهو آخر من ملك منهم الجزيرة الخضراء، انقرضت ملوكهم. وفي هذه السنة أعني سنة سبع وعشرين وأربعمائة، توفي رافع بن الحسين بن معن، وكان حازماً شجاعاً، وكانت يده مقطوعة، قطعت غلطاً في عربدة على الشرب، وله شعر حسن، فمنه: لها ريقة أستغفر الله إنها ... ألذ وأشهى في النفوس من الخمر وصارم طرف لا يزايل جفنه ... ولم أر سيفاً قط في جفنه يفري فقلت لها والعين تحدج بالضحى ... أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر أليس من الخسران أن لياليا ... تمر بلا وصل وتحسب من عمري وفيها وقيل في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، توفي أبو إسحاق الشيخ أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ويقال الثعالبي، وكان أوحد زمانه في علم التفسير، وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء عليهم السلام، وله غير ذلك، وروى عن جماعة، وهو صحيح النقل. ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. فيها توفي أبو القاسم علي بن الحسين بن مكرم، صاحب عمان، وقام ابنه مقامه. وفيها توفي مهيار الشاعر وكان مجوسياً، فأسلم سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وصحب الشريف الرضي، فقال له أبو القاسم بن برهان: يا مهيار قد انتقلت بإسلامك في النار من زاوية إلى زاوية، فقال: كيف. قال: لأنك كنت مجوسياً، فصرت تسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شعرك، فمن شعره من جملة قصيدة يذم فيها العرب، قبل النبي صلى الله عليه وسلم قوله:

ما برحت مظلمة دنياكم ... حتى أضاء كوكب في هاشم نبلتم به وكنتم قبله ... سراً يموت في ضلوع كاتم ثم قضى مسلماً من ريبه ... فلم يكن من غدركم بسالم نقضتم عهوده في أهله ... وجزتم عن سنن المراسم وقد شهدتم مقتل ابن عمه ... خير مصل بعده وصائم وما استحل باغياً إمامكم ... يزيد بألطف من ابن فاطم وها إلى اليوم الظباء خاضبة ... من دمهم مناسر القشاعم وأشعار مهيار المذكور مشهورة. وفيها توفي أبو الحسين أحمد بن محمد ابن أحمد القدوري الحنفي، ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة بالعراق، وارتفع جاهه، وصنف كتابه المسمى بالقدوري المشهور، ونسبته إلى القدور جمع قدر، قال القاضي شمس الدين ابن خلكان: ولا أعلم وجه نسبته إليها. وفيها توفي الشيخ الرئيس أبو علي الحسن بن عبد الله بن سينا البخاري، وكان والده من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى في أيام الأمير نوح ابن منصور الساماني، ثم تزوج امرأة بقرية أفشنة، وقطن بها، وولد له الشيخ الرئيس وأخوه بهاء، وختم الرئيس القرآن وهو ابن عشر سنين، وقرأ الحكمة على أبي عبد الله الناتلي، وحل إقليدس والمجسطي، واشتغل في الطب، وأتقن ذلك كله، وهو ابن ثمان عشرة سنة، وكان ببخارى ثم انتقل منها إلى كركنج، وهي بالعربي الجرجانية، ثم انتقل إلى أماكن شتى حتى أتى إلى جورجان، فاتصل به أبو عبد الله الجورجاني، أكبر أصحاب الشيخ الرئيس المذكور، ثم انتقل إلى الري واتصل بخدمة مجد الدولة ابن فخر الدولة أبي الحسن علي بن ركن الدولة حسن بن بويه، ثم خدم شمس المعالي قابوس بن وشمكير، ثم فارقه وقصد علاء الدولة بن كاكويه بأصفهان وخدمه، وتقدم عنده، ثم إن الرئيس المذكور مرض بالصرع والقولنج، وترك الحمية ومضى إلى همذان وهو مريض، ومات بهمذان في هذه السنة، وكان عمره ثمانياً وخمسين سنة، ومصنفاته وفضائله مشهورة، وقد كفر الغزالي ابن سينا المذكور، وصرح الغزالي بذلك في كتابه الموسوم بالمنقذ من الضلال، وكذلك كفر أبا نصر الفارابي، ومن الناس من يرى رجوع ابن سينا إلى الشرائع واعتقادها، وحكى الرئيس أبو علي المذكور، في المقالة الأولى من الفن الخامس، من طبيعيات الشفاء قال: وقد صح عندي بالتواتر ما كان ببلاد جورجان في زماننا من أمر حديد، لعله يزن مائة وخمسين منا نزل من الهواء فنشب في الأرض. ثم نبا نبوة الكرة التي يرمى بها الحائط، ثم عاد فنشب في الأرض، وسمع الناس لذلك صوتاً عظيماً هائلاً، فلما تفقدوا أمره ظفروا به وحملوه إلي وإلى جورجان، ثم كاتبه سلطان خراسان محمود ابن سبكتكين،

يرسم بإنفاذه أو إنفاذ قطعة منه، فتعذر نقله لثقله، فحاولوا كسر قطعة منه، فما كانت الآلات تعمل فيه إلا بجهد، وكانت كل آلة تعمل فيه تنكسر، لكنهم فصلوا منه آخر الأمر شيئا، فأنفذوه إليه، ورام أن يطبع منه سيفاً فتعذر عليه، وحكى أن جملة ذاك الجوهر، كان ملتئماً من أجزاء جاورشية صغار، مستديرة، التصق بعضها ببعض، قال: وهذا الفقيه عبد الواحد الجورجاني صاحبي شاهد ذلك كله. ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمائة. فيها قتل شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس صاحب حلب، في قتاله لعسكر مصر، الذين كان مقدمهم الدزيري على ما قدمنا ذكره، في سنة اثنتين وأربعمائة وفيها هادن المستنصر بالله العلوي ملك الروم، على أن يطلق خمسة آلاف أسير، ليمكن من عمارة قمامة التي كان قد خربها الحاكم في أيام خلافته، فأطلق الأسرى وأرسل من عمر قمامة، وأخرج ملك الروم عليها أموالاً عظيمة جليلة. وفيها توفي أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري، صاحب التواليف المشهورة، وكان إمام وقته، ومن جملة تواليفه المشهورة: يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، وكان مولده سنة خمسين وثلاثمائة. ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة فيها توفي أبو علي الحسين الرخجي، وزير ملوك بني بويه، ثم ترك الوزارة، وكان في عطلته يتقدم على الوزراء. وفيها توفي أبو الفتوح الحسن بن جعفر العلوي، أمير مكة. وفيها توفي أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني الحافظ، والفضل بن منصور بن الطريف الفارقي، الأمير الشاعر، وله ديوان حسن. ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. فيها ملك الملك أبو كاليجار البصرة. أخبار عمان لما توفي أبو القاسم بن مكرم صاحب عمان، ولي بعده ابنه أبو الجيش، وقد صاحب جيش أبيه علي بن هطال، وكان أبو الجيش يحترم ابن هطال، ويقوم له إذا حضر، وكان لأبي الجيش أخ يقال له المهذب، ينكر على أخيه أبي ابن الجيش قيامه لابن هطال، وإكرامه، فعمل ابن هطال دعوة للمهذب، فلما عمل السكر في المهذب، حدثه ابن هطال وقال له: إن قمت معك وملكتك وأخرجت أخاك أبا الجيش، ما تعطيني؟ فبذل المهذب له الإقطاعات الجليلة، والمبالغة في الإكرام، فطلب ابن هطال خطه بذلك، فكتبه المهذب، وأصبح ابن هطال، فاجتمع بأبي الجيش وعرفه أن أخاه المهذب يسعى في أخذ الملك منه، وقال: قد رغبني وكتب خطه لي، وأخرج الخط، فأمر أبو الجيش بالقبض على أخيه المهذب، ثم قتله، وبعد ذلك بقليل مات أبو الجيش وله أخ صغير يقال له أبو محمد، فطلبه ابن هطال من أمه ليجعله في الملك، فلم تسلمه إليه. وقالت: ولدي غير ما يصلح، أفتصل أنت بالملك، فاستولى ابن هطال على عمان، وأساء السيرة، وبلغ ذلك الملك أبا كاليجار، فأعظمه وأرسل جيشاً إلى عمان، وخرجت الناس عن طاعة علي

بن هطال، فقتله خادم له وفراش واستفر الأمر لأبي محمد بن أبي القاسم بن مكرم في هذه السنة. وفي هذه السنة توفي شبيب بن وثاب النميري صاحب الرقة، وسروج، وحران، وفيها توفي أبو نصر موسكان، كاتب إنشاء مسعود، وولده محمود بن سبكتكين، وكان من الكتاب المفلقين ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة ابتداء الدولة السلجوقية وسياقة أخبارهم متتابعة في هذه السنة توطد ملك طغريل بك وأخيه داود ابني ميكائيل بن سلجوق ابن دقاق، وكان جدهم دقاق رجلاً شهماً من مقدمي الأتراك، وولد له سلجوق، فانتشأ وظهرت عليه إمارات النجابة، فقدمه يبغو ملك الترك إذ ذاك، وقوى أمره وصار له جماعة كثيرة، فتغير يبغو عليه، فخاف سلجوق منه فسار بجماعته وبكل من يطيعه من دار الكفر إلى دار الإسلام، وذلك لما قدره الله تعالى من سعادته وسعادة ولده، وأقام بنواحي جند، وهي بليدة وراء بخارى - بجيم مفتوحة ونون ساكنة ودال مهملة - وصار يغزو الترك الكفار، وكان لسلجوق من الأولاد: أرسلان، وميكائيل، وموسى. وتوفي سلجوق بجند وعمره مائة وسبع سنين، وبقي أولاده على ما كان عليه أبوهم من غزو كفار الترك، فقتل ميكائيل في الغزاة شهيداً، وخلف من الأولاد يبغو، وطغريل بك، وجغروبك داود، ثم ارتحلوا ونزلوا على فرسخين من بخارى، فأساء أمير بخارى جوارهم، فالتجأوا إلى بغراخان ملك تركستان، واستقر الأمر بين طغريل بك وأخيه داود أن لا يجتمعا عند بغراخان، بل إذا حضر أحدهما أقام الآخر في البيوت، خوفاً من الغدر بهما، واجتهد بغراخان على اجتماعهما عنده فلم يفعلا، فقبض على طغريل بك، وأرسل عسكراً إلى أخيه داود، فاقتتلوا فانهزم عسكر بغراخان، وكثر القتل فيهم، وقصد داود موضع أخيه طغريل بك وخلصه من الأسر، ثم عادا إلى جند وأقاما بها حتى انقرضت الدولة السامانية، وملك أيلك خان بخارا، فعظم عنده محل أرسلان بن سلجوق، ثم سار أيلك خان عنها وبقي ببخارى علي تكين، ومعه أرسلان بن سلجوق، حتى عبر محمود بن سبكتكين نهر جيحون وقصد بخارى، فهرب علي تكين من بخارى، وأما أرسلان وجماعته فإنهم دخلوا المفازة والرمل، واجتمعوا عن السلطان محمود، فكاتب السلطان محمود أرسلان واستماله ورغبه، فقدم أرسلان بن سلجوق عليه فقبضه السلطان محمود في الحال، وكب خركاواته، وأشار أرسلان الجاذب على محمود أن يغرق السلجوقية، جماعة أرسلان المذكور في نهر جيحون، فأبى، فأشار بقطع إبهاماتهم بحيث لا يقدرون على رمي النشاب، فلم يقبل محمود ذلك، وأمر بهم فعبرا نهر جيحون وفرقهم في نواحي خراسان إلى أصفهان، ووضع عليهم الخراج، فجارت العمال عليهم، وامتدت الأيدي إلى أموالهم، وأولادهم، فانفصل منهم جماعة عن خراسان إلى أصفهان: وجرى بينهم وبين علاء الدولة بن كاكويه حرب، ثم ساروا إلى أذربيجان، وهؤلاء:

كانوا جماعة أرسلان بن سلجوق، وبقي اسمهم هناك الترك العرية، وبذلك سمى كل جماعتهم، وسار طغريل بك وأخواه داود ويبغو من خراسان إلى بخارى، فسار علي تكين بعسكره وأوقع بهم، وقتل عدة كثيرة من جمائعهم فألجأتهم الضرورة إلى العود إلى خراسان، فعبرا نهر جيحون، وخيموا بظاهر خوارزم، سنة ست وعشرين وأربعمائة، واتفقوا مع خوارزمشاه هرون بن الطيطاش وعاهدهم ثم غدر بهم خوارزمشاه وكبسهم، فأكثر خوارزم إلى جهة مرو، فأرسل إليهم مسعود أب السلطان محمود جيشاً فهزمهم، وجرى بين عسكر مسعود منازعة على الغنيمة، وأدت إلى قتال بينهم، وأشار داود بالعود إلى جهة العسكر، فعادوا فوجدوا الاختلاف والقتال بينهم، فأوقع السلجوقية بعسكر مسعود وهزموهم، وأكثروا القتل فبهم واستردوا ما كان أخذوه منهم، وتمكنت هيبتهم من قلوب عسكر مسعود، فكاتبهم السلطان مسعود واستمالهم، فأرسلوا إليه يظهرون الطاعة ويسألونه أن يطلق عمه أرسلان بن سلجوق، الذي قبضه السلطان محمود، فأحضر مسعود أرسلان المذكور إلى عنده ببلخ، فطلبهم ليحضروا فامتنعوا، فأعاده إلى محبسه، وعادت الحرب بينهم، وهزموا عسكر مسعود مرة بعد أخرى، وقوى أمرهم واستولوا على غالب خراسان، وفرقوا النواب في النواحي، وخطب لطغريل بك في نيسابور، وسار داود إلى هراة، وهرب عساكر مسعود وتقدموا من خراسان إلى غزنة، وأعلموا مسعود بتفاقم الحال، فسار مسعود بجميع عساكره وقيوله من غزنة اليهم إلى خراسان، وبقي كل ماتبع السلجوقية إلى مكان، ساروا عنه إلى غيره، وطال البيكار على عسكر مسعود، وقلت الأقوات عليهم، وآخر ذلك أن السلجوقية ساروا إلى البرية، فتبعهم مسعود بتلك العساكر العظيمة مرحلتين، فضجرت العساكر من طول البيكار، وكان لعسكر خراسان إذ ذاك ثلاث سنين في البيكار، ونزل العسكر بمنزلة قليلة المياه، وكان الزمان حاراً، فجرى بينهم الفتن بسبب الماء، ومشى بعض العسكر إلى بعض في التخلي عن مسعود، ووقع بينهم الخلاف، فعادت السلجوقية عليهم فانهزمت عساكر مسعود أقبح هزيمة، وثبت السلطان مسعود في جمع قليل، ثم ولى منهزماً، وغنم السلجوقية منهم ما لا يدخل تحت الإحصاء، وقسم داود ذلك على أصحابه وآثرهم على نفسه، وعاد السلجوقية إلى خراسان، فاستولوا عليها، وثبتت قدمهم بخراسان وخطب لهم على منابرها، وذلك في أواخر سنة إحدى وثلاثين وأبعمائة، وسنذكر باقي أخبارهم إن شاء الله تعالى. قبض مسعود وقتله ولما انهزم عسكر مسعود من السلجوقية على ما ذكرنا، وهرب مسعود وعسكره عن خراسان إلى غزنة، فوصل إليها في شوال سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وقبض على مقدم

عسكره شباوشي وعلى عدة من الأمراء، وسير ولده مودود إلى بلخ ليرد عنها داود بن ميكائيل بن سلجوق، وكان مسير مودرد إلى بلخ في هذه السنة، أعني سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وسار مسعود إلى بلاد الهند ليشتي بها على عادة والده، وعبر سيحون فنهب أنوشتكين أحد قواد عسكره بعض الخزاين، واجتمع إليه جمع، وألزم محمداً أخا مسعود بالقيام بالأمر، فقام على كره، وبقي مسمعود في جماعة من العسكر، والتقى الفريقان في منتصف ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، واقتتلوا أشد قتال فانهزم مسعود وجماعته، وتحصن مسعود في رباط، فحصروه، فخرج إليهم فأرسله أخوه محمد إلى قلعة كيدي، وحمل مع مسعود أهله وأولاده وأمر بإكرامه وصيانته، ولما استقر محمد بن محمود في إشبكتكين في الملك فوض مر دولته إلى ولده أحمد، وكان فيه خبط وهوج، فقتل عمه مسعود بن محمود في قلعة كيدي بغير علم أبيه، ولما علم أبوه محمد بذلك شق عليه وساء ذلك، وكان السلطان مسعود كثير الصدقة، تصدق مرة في رمضان بألف ألف درهم، وكان كثير الإحسان إلى العلماء، فقصدوه وصنفوا له التصانيف الكثيرة، وكان يكتب خطاً حسناً، وكان ملكه عظيماً فسيحاً، ملك أصفهان والري وطبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الران وكرمان وسجستان. والسند والرخج وغزنة وبلاد الغور. وأطاعه أهل البر والبحر. ملك مودود بن مسعود وقتله عمه محمداً لما قتل مسعود، كان ابنه مودود بن مسعود بخراسان في حرب السلجوقية، فلما بلغه خبر قتل أبيه مسعود، عاد مجداً بعساكره إلى خزنة، ووقع القتال بينه وبين عمه محمد، فانهزم محمد وعسكره وقبض عليه مودود وعلى ولده أحمد، وعلى أنوشتكين الذي نهب الخزائن، وأقام محمد المذكور، وكان أنوشتكين خصياً وأصله من بلخ، فقتلهم وقتل جميع أولاد عمه محمد، خلا عبد الرحيم، وكذلك قتل كل من دخل في القبض على والده مسعود، ودخل مودود إلى غزنة في ثالث عشرين شعبان من هذه السنة، واستقر الأمر لمودود بغزنة، وسلك حسن السيرة، وثبتت قدمه في الملك، وراسله ملك الترك بما وراء النهر بالانقياد والمتابعة له. وفي هذه السنة توفي المظفر محمد بن الحسن بن أحمد المروزي بشهر زور. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة فيها في المحرم توفي علاء الدولة أبو جعفر بن شهريار، المعروف بابن كاكويه، وكان شجاعاً ذا رأي، وقام بأصفهان بعده ابنه ظهير الدين أبو منصور فرامرز، وهو أكبر أولاده، سار ولده كرشاسف بن علاء الدولة إلى همذان، فأقام بها وأخذها لنفسه. وفي هذه السنة ملك السلطان طغريل بك جرجان وطبرستان. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أمر المستنصر العلوي أهل دمشق بالخروج عن طاعة الدزبري، فخرجوا عليه

وسار الدزبري إلى حماة، فعصي عليه أهلها، فكاتب مقلد بن منقذ الكفرطابي، فحضر إليه في نحو ألفي رجل من كفر طاب، واحتمى به وسار عن حماة إلى حلب فدخلها وأقام بها مدة، وتوفي الدزبري في منتصف جمادى الآخرة من هذه السنة، وقد تقدم ذكر وفاته في سنة اثنتين وأربعمائة، وكان الدزبري يلقب بأمير الجيوش، واسمه أنوشتكين. والد زبري - بكسر الدال المهملة والباء الموحدة وبينهما زاء منقوطة ساكنة وفي الاخر راء مهملة - هذه السنة إلى دزبر بن رويتم الديلمي، ولما مات الدزبري في هذه السنة فسد أمر الشام وزال النظام وطمعت العرب، وخرجوا في نواحي الشام، فخرج صاحب الرحبة أبو علوان ثمال، ولقبه معز الدولة بن صالح بن مرداس الكلابي وسار إلى حلب وملكها، وعاد حسان بن مفرج الطائي فاستولى على فلسطين، وقد تقدم ذكر مسيره إلى قسطنطينية وعوده في سنة اثنتبن وعشرين وأربعمائة. وفيها سير الملك أبو كاليجار من فارس عسكراً إلى عمان، فملكوا أصحاب مدينة عمان. وفيها توفي أبو منصور بهرام الملقب بالعادل، وزير الملك أبي كاليجار، ومولده سنة ست وستين وثلاثمائة، وكان حسن السيرة، وبنى دار الكتب بفيروز آباد، وجعل فيها سبعة آلاف مجلد. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة فيها ملك السلطان طغريل بك خوارزم، وكانت خوارزم من جملة مملكة محمود بن سبكتكين، ثم صارت مسعود ابنه ونائبه فيها الطيطاش حاجب أبيه محمود، ومات الطيطاش فولاها مسعود ابنه هارون بن الطيطاش، ولقبه خوارزمشاه، ثم قتل هرون، قتله جماعة من غلمانه عند خروجه إلى الصيد، فاستولى على البلد رجل يقال له عبد الجبار، ثم وثب غلمان هارون على عبد الجبار فقتلوه، وولوا البلد إسماعيل بن الطيطاش أخا هارون، فسار شاه ملك بن علي، وكان ملك بعض أطراف تلك البلاد فاستولى على خوارزم، وهزم إسماعيل عنها، ثم سار طغريل بك إلى خوارزم فاستولى عليها، وانهزم شاه ملك عنها، واستقرت في ملك طغريل بك في هذه السنة، ثم سار طغريل بك ستولى على الجبل في هذه السنة أيضاً. الوحشة بين القائم وجلال الدولة في هذه السنة لما افتتحت الجوالي في المحرم ببغداد، أخذها جلال الدولة، وكانت العادة أن تحمل إلى الخلفاء، لا يعارضهم فيها الملوك، فأرسل القائم إلى جلال الدولة في ذلك مع أبي الحسن الماوردي، فلم يلتفت جلال الدولة إليه، فعزم القائم على مفارقة بغداد، فلم يتم له ذلك. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة في رجب، خرج بمصر رجل اسمه سكين، وكان يشبه الحاكم خليفة مصر، فادعى أنه الحاكم، واتبعه جماعة يعتقدون رجعة الحاكم، وقصدوا دار الخليفة وقت الخلوة وقالوا: هذا الحاكم، فارتاع من كان بالباب في ذلك الوقت، ثم ارتابوا به فقبضوا على سكين،

وصلب مع أصحابه. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة. وفاة جلال الدولة وفي هذه السنة في شعبان توفي جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه ببغداد، وكان مرضه ورماً في كبده، وكان مولده سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وملكه ببغداد ست عشرة سنة وأحد عشر شهراً، ولما مات جلال الدولة كان ابنه الملك العزيز أبو بكر منصور بواسط، فكاتبه الجند فيما يحمله إليهم، فلم ينتظم له أمر، فسار يطلب النجدة، وقصد الملوك مثل قرواش وأبي الشوك، فلم ينجده أحد، فقصد نصر الدولة بن مرران وتوفي عنده بميا فارقين، سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، فلما لم ينتظم لابن جلال الدولة أمر، كاتب الملك أبو كاليجار عسكر بغداد، فاستقر الأمر لأبي كاليجار ابن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدرلة ابن ركن الدولة ابن بويه، وخطبوا له ببغداد في صفر سنة ست وثلاثين وأربعمائة. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، أعني سنة خمس وثلاثين وأربعمائة فتح عسكر مودود بن مسعود بن محمود عدة حصون، من بلاد الهند، وفيها أسلم من الترك خمسة آلاف خركاة، وتفرقوا في بلاد الإسلام، ولم يتأخر عن الإسلام سوى الخطا والتتر وهم بنواحي الصين. وفي هذه السنة ترك شرف الدولة ملك الترك لنفسه بلاد بلاساغون، وكاشغر، وأعطى أخاه أرسلان تكين كثيراً من بلاد الترك، وأعطي أخاه بغراخان أطرار وأسبيجاب، وأعطى عمه طغان فرغانة بأسرها، وأعطى علي تكين بخارى وسمر قند، وغيرهما، وقنع شرف الدولة المذكور من أهله المذكورين بالطاعة له. وفي هذه السنة قطع المعز بن باديس بإفريقية خطبة العلويين خلفاء مصر، وخطب للقائم العباسي خليفة بغداد، ووصلت إليه من القائم الخلع والأعلام على طريق القسطنطينية في البحر. ثم دخلت سنة ست وثلاثين وأربعمائة فيها خطب للملك أبي كاليجار في صفر ببغداد، وخطب له أيضاً أبو الشوك ببلاده، ودبيس بن مرثد ببلاده، ونصر الدولة بن مروان بديار بكر، وسار الملك أبو كاليجار إلى بغداد ودخلها في رمضان من هذه السنة، وزينت بغداد لقدومه. وفيها أمر الملك أبو كاليجار ببناء سور مدينة شيراز، فبني وأحكم بناؤه، ودوره اثنا عشر ألف ذراع، في ارتفاع ثمانية أذرع، وله أحد عشر باباً، وفرغ منه في سنة أربعين وأربعمائة. وفيها توفي الشريف المرتضي أبو القاسم أخو الشريف الرضي، ومولده سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وولي نقابة العلويين بعده عدنان ابن أخيه الرضي. وفيها توفي القاضي أبو عبد الله الحسين الصيمري شيخ أصحاب أبي حنيفة، ومولده سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. وفيها توفي أبو الحسين محمد ابن علي البصري المعتزلي

صاحب التصانيف المشهورة. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. فيها أرسل السلطان طغرلبك أخاه إبراهيم ينال بن ميكائيل، فاستولى على همذان وأخذها من كرشاسف بن علاء الدولة ابن كاكويه، واستولى على الدينور وأخذها من أبي الشوك، ثم استولى على الصيمرة. وفي هذه السنة توفي أبو الشوك، واسمه فارس بن محمد بن عنان، بقلعة السيروان، ولما توفي غدر الأكراد بابنه سعدي، وصاروا مع مهلهل بن محمد أخي أبي الشوك. وفيها قتل عيسى بن موسى الهمذاني صاحب أربل، قتله ابنا أخ له وملكا قلعة أربل، وكان لعيسى أخ آخر اسمه سلار بن موسى قد نزل على قرواش صاحب الموصل لوحشة كانت بين سلار وأخيه عيسى، فلما بلغه قتل أخيه سار قرواش إلى أربل ومعه سلار فملكها وتسلمها سلار، وعاد قرواش إلى الموصل. وفيها وقع الوباء في الخيل وعم البلاد. وفيها توفي أحمد بن يوسف المنازي وزر لأبي نصر أحمد بن مروان الكردي، صاحب ديار بكر، وترسل إلى القسطنطينية، وكان من أعيان الفضلاء والشعراء، وجمع المنازي المذكور، كتباً كثيرة وأوقفها على جامع ميافارقين وجامع آمد، وهي إلى قريب كانت موجودة بخزائن الجامعين، وكان قد اجتاز في بعض أسفاره بوادي بزاعا، فأعجبه حسنه فقال فيه: وقانا لفحة الرمضاء واد ... وقاه مضاعف النبت العميم نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم تروع حصاه حالية العذارى ... فيلمس جانب العقد النظيم والمنازي منسوب إلى مناز جهر، مدينة عند خرتبرت، وهي غير مناز كرد التي من عمال خلاط. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة فيها ملك مهلهل بن محمد عنان أخو أبي الشوك قرميسين والدينور بعد ما كان قد استولى عليهما أخو طغرلبك على ما تقدم ذكره. وفي هذه السنة توفي عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين، وكان الجويني إماماً في الشافعية، تفقه على أبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، وهو صاحب وجه في المذهب، وكان عالماً أيضاً بالأدب وغيره من العلوم، وهو من بني ستبس، بطن من طي. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة في هذه السنة استولى عسكر الملك أبي كاليجار على البطيحة، وأخذوها من صاحبها أبي نصر بن الهيثم، وهرب ابن الهيثم إلى زبرب. وفيها كان بالعراق غلاء عظيم، حتى أكل الناس الميتة، وببغداد حتى خلت الأسواق. وفيها توفي عبد الواحد بن محمد المعروف بالمطرز الشاعر، وأبو الخطاب الشبلي الشاعر. وفيها مات بغراخان محمد بن قدرخان يوسف، وقبض على أخيه عمر بن قدرخان يوسف، وماتا جميعاً مسمومين في هذه السنة، وكان قد ملك عمر المذكور في سنة ثلاث

وعشرين وأربعمائة حسبما تقدم، فسار شمس الملك طفقاج خان أبو إسحاق إبراهيم بن نصر أيلك خان من سمرقند، وملك بلادهما. وتوفي طفقاج سنة اثنتين وستين وأربعمائة. ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة. موت أبي كاليجار وملك ابنه الملك الرحيم في هذه السنة توفي الملك أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة ابن بهاء الدولة ابن عضد الدولة ابن ركن الدولة ابن بويه، في رابع جمادى الأولى بمدينة جناب من كرمان، وكان قد سار إلى بلاد كرمان، لخروج عامله بهرام الديلمي عن طاعته، ومرض من قصر مجاشع، وتم سايراً، وقويت به الحمى وضعف عن الركوب، فركب في محفة، فتوفي في جناب، وكان عمره أربعين سنة وشهوراً، وكان ملكه العراق أربع سنين وشهرين، ولما توفي نهبت الأتراك الخزائن والسلاح والدواب من العسكر. وكان معه ولده أبو منصور فلاستون بن أبي كاليجار فعاد إلى شيراز وملكها. ولما وصل خبر وفاة أبي كاليجار إلى بغداد وبها ولده الملك الرحيم أبو نصر خسره فيروز بن أبي كاليجار، جمع الجند واستحلفهم واستولى على بغداد، ثم أرسل الملك الرحيم عسكراً إلى شيراز، فقبضوا على أخيه أبي منصور فلا ستون، وعلى والدته في شوال هذه السنة، وخطب للملك الرحيم بشيراز، ثم سار الملك الرحيم من بغداد إلى خوزستان، فلقيه من بها من الجند وأطاعوه، ومن جملتهم كرشاسف بن علاء الدولة صاحب همذان، فإنه كان قد قدم إلى الملك أبي كاليجار لما أخذ منه إبراهيم ينال أخو طغريل بك همذان. غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي محمد بن محمد بن غيلان البزار وهو راوي الأحاديث المعروفة بالغيلانيات التي أخرجها الدارقطني، وهي من أعلى الحديث وأحسنه. ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمائة فيها جمع فلاستون بن أبي كاليجار جمعاً بعد أن خلص من الاعتقال، واستولى على بلاد فارس، وفيها جرى بين طغرلبك وأخيه إبراهيم ينال وحشة أدت إلى قتال بينهما، فانهزم إبراهيم ينال وعصي بقلعة سرماح، فحصره بها طغرلبك واستنزله قهراً. وفيها أرسل ملك الروم إلى السلطان طغرلبك هدية عظيمة، وطلب منه المعاهدة فأجابه إليها، وعمر مسجد القسطنطينية، وأقام فيه الصلاة والخطبة لطغرلبك، ودانت الناس له وتمكن ملكه وثبت. وفيها أفرج السلطان طغرلبك عن أخيه ينال وتركه معه. وفاة مودود في هذه السنة في رجب توفي أبو الفتح مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب

وهزيمة المعز بن باديس

غزنة، وعمره تسع وعشرون سنة، وملك تسع سنين وعشرة أشهر، وكان موته بغزنة، واستقر في الملك بعده عمه عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين، وكان مودود قد حبس عمه المذكور، فخرج موته واستقر في الملك ولقب شمس دين الله سيف الدولة. غير ذلك فيها سار الباسيري كبير الأتراك ببغداد، وملك الأنبار، وأظهر العدل وحسن السيرة، ولما قرر قواعدها عاد إلى بغداد. وفيها ملك عسكر خليفة مصر العلوي مدينة حلب، وأخذوها من ثمال بن صالح بن مرداس الكلابي على ما قدمنا ذكره في سنة اثنتين وأربعمائة. وفيها وقعت الفتنة ببغداد بين السنية والشيعة، وعظم الأمر حتى بطلت الأسواق؛ وشرع أهل الكرخ في بناء سور عليهم محيطاً بالكرخ، وشرع السنية من القلابين ومن يجري مجراهم في بناء سور على سوق القلابين، وكان الأذان بأماكن الشيعة بحي على خير العمل، وبأماكن السنية الصلاة خير من النوم. وفيها توفي أبو بكر منصور بن جلال الدولة، وله شعر حسن. دخلت سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة في هذه السنة سار السلطان طغرلبك من خراسان، وحاصر أصفهان، وبها صاحبها أبو منصور بن علاء الدولة بن كاكويم به، وطال محاصرته قريب سنة، وأخذها بالأمان ودخل السلطان طغرلبك أصفهان في المحرم سنة ثلاث وأربعين، واستطابها ونقل إليها ما كان له بالري من سلاح ذخائر. حال قرواش مع أخيه وفيها استولى أبو كامل بركة بن المقلد على أخيه قرواش بن المقلد، ولم يبق لقرواش مع أخيه المذكور تصرف في المملكة، وغلب عليها أبو كامل المذكور ولقبه زعيم الدولة. مسير العرب من جهة مصر إلى جهة إفريقية وهزيمة المعز بن باديس في هذه السنة لما قطع المعز بن باديس خطبة العلويين من إفريقية، وخطب للعباسيين، عظم ذلك على المستنصر العلوي، وأرسل إلى المعز بن باديس في ذلك، فأغلظ ابن باديس في الجواب، وكان وزير المستنصر الحسن بن علي اليازوري، ويازور من أعمال الرملة، فاتفقا على إرسال زغبة ورياح، وهما قبيلتان من العرب، وكان بينهم حرب فأصلح المستنصر بينهم، وجهزهم بالأموال، فساروا واستولوا على برقة، فسار إليهم المعز بن باديس فهزموه وساروا إلى إفريقية، وقطعوا الأشجار وحصروا المدن ونزل بأهل إفريقية من البلاء ما لم يعهدوا مثله. ثم جمع المعز ما يزيد على ثلاثين ألف فارس والتقى معهم فهزموه أيضاً، ودخل المعز القيروان مهزوماً. ثم جمع المعز وخرج إليهم والتقوا وجرى بينهم قتال عظيم، ثم انهزمت عساكر المعز وكثر القتل فيهم، وانهزم المعز ووصلت العرب إلى القيروان، ونزلوا

بمصلى القيروان، وأقام العرب يحاصرون البلاد وينهبونها إلى سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وانتقل المعز إلى المهدية في رمضان سنة تسع وأربعين وأربعمائة، ونهبت العرب القيروان. غير ذلك من الحوادث فيها سار مهلهل بن محمد بن عنان أخو أبي الشوك إلى السلطان طغرلبك، فأحسن إليه طغرلبك وأقره على بلاده، ومن جملتها السيروان، ودقوقا وشهرزور، والصامغان، وكان سرحاب بن محمد أخو مهلهل محبوساً عند طغرلبك، فأطلقه لأخيه مهلهل. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة. فيها كانت الفتنة بين السنية والشيعة ببغداد، وعظم الأمر، وأحرق ضريح قبر موسى بن جعفر، وقبر زبيدة، وقبور ملوك بني بويه، وجميع الترب التي حواليها، ووقع النهب، وقصد أهل الكرخ إلى خان الحنفيين، وقتلوا مدرس الحنفيين أبا سعيد السرخسي، وأحرقوا الخان ودور الفقهاء، ثم صارت الفتنة إلى الجانب الشرقي فاقتتل أهل باب الطاق وسوق يحيى والأساكفة. وفاة زعيم الدولة بركة بن المقلد وفي هذه السنة توفي بركة بن المقلد بن المسيب بتكريت، واجتمع العرب وكبراء الدولة على إقامة ابن أخيه قريش بن بدران بن المقلد، وكان بدران بن المقلد المذكور صاحب نصيبين، ثم صارت لقريش المذكور بعده، وكان قرواش تحت الاعتقال منذ اعتقله أخوه بركة مع القيام بوظائفه ورواتبه، فلما تولى قريش نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل، فاعتقله بها. غير ذلك من الحوادث فيها وقت العصر ظهر ببغداد سكب له ذؤابة، غلب نوره على الشمس، وسار سيراً بطيئاً، ثم انقض. وفيها وصل رسول طغرلبك إلى الخليفة بالهدايا. وفيها عاد طغرلبك عن أصفهان إلى الري. وفيها كرشاسف بن علاء الدولة بن كاكويه بالأهواز، وكان قد استخلفه بها أبو منصور بن أبي كاليجار. ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة قتل عبد الرشيد في هذه السنة قتل عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة، قتله الحاجب طغريل، وكان حاجباً لمودود بن مسعود، فأقره عبد الرشيد وقدمه، فطمع في الملك وخرج على عبد الرشيد المذكور، فانحصر عبد الرشيد بقلعة غزنة، وحصره طغريل حتى سلمه أهل القلعة، فقتله طغريل وتزوج ببنت السلطان مسعود كرهاً، ثم اتفقت كبراء الدولة ووثبوا على طغريل فقتلوه، وأقاموا فرخزاد بن مسعود ابن محمود بن سبكتكين،

وكان محبوساً في بعض القلاع فأحضر وبويع له، وقام بتدبر الأمر بين يديه خرخير، وكان أميراً على الأعمال الهندية، فقدم وتتبع كل من كان أعان على قتل عبد الرشيد فقتله. وفاة قرواش في هذه السنة مستهل رجب، توفي معتمد الدولة أبو منيع قرواش بن المقلد ابن المسيب العقيلي، الذي كان صاحب الموصل، محبوساً بقلعة الجراحية من أعمال الموصل، وحمل فدفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل، وقيل إن ابن أخيه قريش بن بدران المذكور، أحضر عمه قرواشاً المذكور من الحبس إلى مجلسه وقتله فيه، وكان قرواش من ذوي العقل وله شعر حسن فمنه: لله در النائبات فإنها ... صدأ القلوب وصيقل الأحرار ما كنت إلا زبرة فطبعتني ... سيفاً وأطلق صرفهن عراري وجمع قرواش المذكور بين أختين في نكاحه، فقيل له: إن الشريعة تحرم هذا. فقال: وأي شيء عندنا تجيزه الشريعة، وقال مرة. ما برقبتي غير خمسة أو ستة قتلتهم من البادية، وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم. غير ذلك من الحوادث فيها قبض على أبي هشام بن خميس بن معن صاحب تكريت، أخوه عيسى ابن خميس، وسجنه واستولى على تكريت. وفيها في حوادث هذه السنة زلزلت خورستان وغيرها زلازل كثيرة، وكان معظمها بأرجان، فانفرج من ذلك جبل كبير قريب من أرجان، وظهر وسطه درجة بالآجر والجص، فتعجب الناس من ذلك، وكذلك كانت الزلازل بخراسان وكان أشدها ببيهق، وخرب سور قصبة بيهق، وبقي خراباً حتى عمره نظام الملك في سنة أربع وستين وأربعمائة، ثم خربه أرسلان أرغو. ثم عمره مجد الملك البلاساني. وفي هذه السنة كانت الفتنة ببغداد بين السنية والشيعة، وأعادت الشيعة الآذان بحي على خير العمل، وكتبوا في مساجدهم محمد وعلي خير البشر. ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة فيها عماد أبو منصور فلاستون ابن الملك أبي كاليجار، واستولى على شيراز وأخذها من أخيه أبي سعيد بن أبي كاليجار، ولما استقر أبو منصور في شيراز خطب فيها للسلطان طغرلبك، ولأخيه الملك الرحيم، ولنفسه بعدهما. ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة فيها سار طغرلبك إلى أذربيجان وقصد تبريز فأطاعه صاحبها وهشوذان وخطب له فيها وحمل إليه ما أرضاه، وذلك فعل أصحاب تلك النواحي، ولما استقر له أذربيجان على ما ذكرنا سار إلى أرمينية وقصد ملازكرد وهي للروم، وحصرها فلم يملكها، وعبر إلى الروم وغزا في الروم ونهب وقتل وأثر فيهم آثاراً عظيمة.

غير ذلك وفي هذة السنة حصلت الوحشة بين البساسيري والخليفة القائم. ثم دخلت سنة سبع وأربعين وأربعمائة فيها قتل الأمير أبو حرب سليمان بن نصر الدولة بن مروان، صاحب الجزيرة، قتله عبيد الله بن أبي طاهر البشنوي الكردي غيلة. غير ذلك فيها ثارت جماعة من السنية ببغداد، وقصدوا دار الخلافة، وطلبوا أن يؤذن لهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، فأذن لهم، وزاد شرهم، ثم استأذنوا في نهب دور البساسيري وكان غائباً في واسط، فأذن لهم الخليفة بذلك، فقصدوا دور البساسيري ونهبوا وأحرقوها، وأرسل الخليفة إلى الملك الرحيم يأمره بإبعاد البساسيري، فأبعده وقدم الملك الرحيم من واسط إلى بغداد، وسار البساسيري إلى جهة دبيس بن مرثد لمصاهرة بينهما. الخطبة في بغداد لطغرلبك فيها سار طغرلبك حتى نزل حلوان، فعظم الإرجاف ببغداد، وأرسل قواد بغداد يبذلون له الطاعة والخطبة، فأجابهم طغرلبك إلى ذلك، وتقدم الخليفة القائم بذلك، فخطب له بجوامع بغداد لثمان بقين من رمضان هذه السنة، ثم أرسل طغرلبك واستأذن في دخول بغداد، فتوجهت إليه الرسل فحلفوه للخليفة القائم وللملك الرحيم، فحلف لهما، وسار طغرلبك فدخل بغداد ونزل بباب الشماسية. وثوب العامة بعسكر طغرلبك والقبض على الملك الرحيم ولما وصل طغرلبك إلى بغداد دخل عسكره يتحوجون، فجرى بين بعضهم وبين السوقية هوشة، وثارت أهل تلك المحلة على من فيها من الغز عسكر طغرلبك ونهبوهم، ثارت الفتنة بينهم ببغداد وخرجت العامة إلى وطاقات طغرلبك، فركب عسكره وتقاتلوا، فانهزمت العامة، وأرسل طغرلبك يقول: إن كان هذا من الملك الرحيم فهو لا يقدر على الحضور إلينا، وإن كان برئا من هذا، فلا غناء عن حضوره، فأرسل الخليفة القائم إلى الملك الرحيم أن يخرج هو وكبار القواد، وهم في أمان الخليفة وذمامه، فخرجوا إلى طغرلبك فقبض على الملك الرحيم وعلى القواد الذين صحبته، فعظم ذلك على الخليفة القائم، وأرسل إلى طغرلبك في أمرهم، وشكا من عدم حرمته وعدم الالتفات إلى أمانه، فأفرج طغرلبك عن بعض القواد، واستمر بالباقين وبالملك الرحيم في الاعتقال، وهذا الملك الرحيم آخر من استولى على العراق من ملوك بني بويه، وكان أول من استولى منهم على العراق وبغداد معز الدولة أحمد بن بويه، ثم ابنه بختيار بن معز الدولة، ثم ابن عمه عضد الدولة، ثم فناخسرو ابن ركن الدولة

بن بويه، ثم ابنه صمصام الدولة بن كاليجار المرزبان بن عضد الدولة، ثم أخوه شرف الدولة شيزريك بن عضد الدولة، ثم أخوه بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة، ثم ابنه سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة، ثم أخوه شرف الدولة ابن بهاء الدولة، ثم أخوه جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة، ثم ابن أخيه أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة، ثم ابنه الملك الرحيم خسره فيروز ابن أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه وهو آخرهم. غير ذلك من الحوادث فيها وقعت الفتنة بين الشافعية والحنابلة ببغداد، فأنكرت الحنابلة على الشافعية الجهر بالبسملة، والقنوت في الصبح، والترجيع في الأذان، ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. فيها تزوج الخليفة القائم ببنت داود أخي طغرلبك. وفيها وقعت حرب بين عبيد المعز بن باديس، وبين عبيد ابنه تميم بن المعز بالمهدية، فانتصرت عبيد تميم وقتلوا في عبيد المعز وأخرجوهم من المهدية. ابتداء دولة الملثمين والملثمون من عدة قبائل، ينتسبون إلى حمير، وكان أول مسيرهم من اليمن في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه، سيرهم إلى جهة الشام، وانتقلوا إلى مصر، ثم إلى المغرب مع موسى بن نصير، وتوجهوا مع طارق إلى طنجة، وأحبوا الانفراد فدخلوا الصحراء واستوطنوها إلى هذه الغاية، فلما كانت هذه السنة، توجه رجل منهم اسمه جوهر من قبيلة جدالة إلى إفريقية، طالباً الحج، فلما عاد استصحب معه فقيهاً من القيروان يقال له عبد الله بن ياسين الكزولي، ليعلم تلك القبائل دين الإسلام، فإنه لم يبق فيهم غير الشهادتين والصلاة في بعضهم. فتوجه عبد الله بن ياسين مع جوهر حتى أتيا قبيلة لمتونة، وهي القبيلة التي منها يوسف بن تاشفين أمير المسلمين، ودعياها إلى العمل بشرائع الإسلام، فقالت لمتونة: أما الصلاة والصوم والزكاة فقريب، وأما قولكما من قتل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنا يرجم، فهذا أمر لا نلتزمه، اذهبا عنا. فمضى جوهر وعبد الله بن ياسين إلى جدالة قبيلة جوهر، فدعاهم عبد الله بن ياسين والقبائل التي حولهم إلى شرائع الإسلام. فأجاب أكثرهم، وامتنع أقلهم، فقال ابن ياسين للذين أجابوا إلى شرائع الإسلام: يجب عليكم قتال المخالفين لشرائع الإسلام، فأقيموا لكم أميراً، فقالوا: أنت أميرنا فامتنع ابن ياسين وقال لجوهر: أنت الأمير. فقال جوهر: أخشى من تسلط قبيلتي على الناس، ويكون وزر ذلك علي. ثم اتفقا على أبي بكر بن عمر رأس قبيلة لمتونة، فإنه سيد مطاع، ليلزم لمتونة قبيلته، فأتيا أبا بكر بن عمر وعرضا عليه ذلك فقبل، فعقد له البيعة، وسماه ابن ياسين أمير المسلمين، اجتمع إليه

كل من حسن إسلامه، وحرضهم عبد الله بن ياسين على الجهاد، وسماهم المرابطين، فقتلوا من أهل البغي والفساد ومن لم يجب إلى شرائع الإسلام نحو ألفي رجل، فدانت لهم قبائل الصحراء، وقويت شوكتهم، وتفقه منهم جماعة على عبد الله بن ياسين. ولما استبد أبو بكر بن عمر وعبد الله بن ياسين بالأمر، داخل جوهر الحسد، فأخذ في إفساد الأمر، فعقد له مجلس وحكم عليه بالقتل لكونه شق العصا، وأراد محاربة أهل الحق، فصلى جوهر ركعتين، وأظهر السرور بالقتل طلباً للقاء الله تعالى، وقتلوه، ثم جرى بين المرابطين وبين أهل السوس قتال، فقتل في تلك الحرب عبد الله بن ياسين الفقيه، ثم سار المرابطون إلى سجلماسة واقتتلوا مع أهلها، فانتصر المرابطون واستولوا على سجلماسة وقتلوا أصحابها، ولما ملك أبو بكر بن عمر سجلماسة استعمل عليها يوسف بن تاشفين اللمتوني، وهو من بني عم أبي بكر بن عمر، وذلك في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. ثم استخلف أبو بكر على سجلماسة ابن أخيه وبعث يوسف بن تاشفين ومعه جيش من المرابطين إلى السوس، ففتح على يديه، كان يوسف بن تاشفين رجلا ديناً حازماً مجرباً داهية، واستمر الأمر كذلك إلى أن توفي أبو بكر بن عمر في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، فاجتمعت طوائف المرابطين على يوسف بن تاشفين وملكوه عليهم ولقبوه بأمير المسلمين، ثم سار إلى المغرب وافتتحها حصناً حصناً، وكان غالبها لزناتة، ثم إن يوسف قصد موضع مراكش، وهو قاع صفصف لا عمارة فيه فبنى فيه مدينة مراكش، واتخذها مقراً ملكه، وملك البلاد المتصلة بالمجماز مثل سبتة وطنجة وسلا وغيرها، وكثرت عساكره، ويقال للمرابطين الملثمين أيضاً، قيل إنهم كانوا يتلثمون على عادة العرب، فلما ملكوا ضيقوا لثامهم، كأنه ليتميزوا به، وقيل بل إن قبيلة لمتونة خرجوا غائرين على عدو لهم، وألبسوا نساءهم لبس الرجال ولثموهن، فقصد بعض أعدائهم بيوتهم، فرأوا النساء ملثمين فظنوهن رجالا، فلم يقدموا عليهن، واتفق وصول رجالهم في ذلك التاريخ فأوقعوا بهم، فتبركوا باللثام وجعلوه سنة من ذلك التاريخ، فقيل لهم الملثمون. مسير طغرلبك عن بغداد لما أقام طغرلبك ببغداد، ثقلت وطأة عسكره على الرعية إلى الغاية، فرحل طغرلبك عن بغداد عاشر ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وكان مقامه ببغداد ثلاثة عشر شهراً وأياماً، لم يلق الخليفة فيها، وتوجه طغرلبك إلى نصيبين، ثم سار منها إلى ديار بكر التي هي لابن مروان. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة توفي أمير الكاتب البيهقي، كان من رجال الدنيا. ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة

عود طغرلبك إلى بغداد فيها عاد طغرلبك إلى بغداد بعد أن استولى على الموصل وأعمالها، وسلمها إلى أخيه إبراهيم ينال، ولما قارب طغرلبك الفقص خرج لتلقيه كبراء بغداد، مثل عميد الملك وزير طغرلبك ببغداد، ورئيس الرؤساء، ودخل بغداد وقصد الاجتماع بالخليفة القائم، فجلس له الخليفة وعليه البردة على سرير عمال عن الأرض نحو سبعة أذرع، وحضر طغرلبك في جماعته، وأحضر أعيان بغداد وكبراء العسكر، وذلك يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة من هذه السنة، فقبل طغريل بك الأرض، ويد الخليفة، ثم جلس على كرسي. ثم قال له رئيس الرؤساء: إن الخليفة قد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده، ورد إليك مراعاة عباده، فاتق الله فيما ولاك، واعرف نعمته عليك، وخلع على طغريل بك وأعطى العهد، فقبل الأرض ويد الخليفة ثانياً وانصرف، ثم بعث طغريل بك إلى الخليفة خمسين ألف دينار، وخمسين مملوكاً من الأتراك، ومعهم خيولهم وسلاحهم مع ثياب وغيرها. غير ذلك فيها قبض المستنصر العلوي خليفة مصر على وزيره اليازوري، وهو الحسن بن عبد الله، وكان قاضياً في الرملة على مذهب أبي حنيفة، ثم تولى الوزارة، ولما قبض وجد له مكاتبات إلى بغداد. وفيها توفي أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري الأعمى وله نحو ست وثمانين سنة، ومولده سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وقيل ست وستين وثلاثمائة، واختلف في عماه، والصحيح أنه عمي في صغره من الجدري، وهو ابن ثلاث سنين، وقيل ولد أعمى، وكان عالماً لغوياً شاعراً، ودخل بغداد سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وأقام بها سنة وسبعة أشهر، واستفاد من علمائها، ولم يتلمذ أبو العلاء لأحد أصلا، ثم عاد إلى المعرة ولزم بيته، وطبق الأرض ذكره، ونقلت عنه أشعار وأقوال علم بها فساد عقيدته، ونسب إلى التمذهب بمذهب الهنود، لتركه أكل اللحم خمساً وأربعين سنة، وكذلك البيض واللبن، وكان يحرم إيلام الحيوان، وله مصنفات كثيرة، أكثرها ركيكة، فهجرت لذلك، وكان يظهر الكفر ويزعم أن لقوله باطناً، وأنه مسلم في الباطن فمن شعره المؤذن بفساد عقيدته قوله: عجبت لكسري وأشياعه ... وغسل الوجوه ببول البقر وقول النصارى إله يضام ... ويظلم حيا ولا ينتصر وقول اليهود إله يحب ... رسيس الدماء وريح القتر وقوم أتوا من أقاصي البلد ... لرمي الجمار ولثم الحجر فوا عجباً من مقالاتهم ... أيعمى عن الحق كل البشر ومن ذلك قوله:

خليفة مصر وما كان إلى قتل البساسيري

زعموا أنني سأبعث حيا ... بعد طول المقام في الأرماس وأجوز الجنان أرتع فيها ... بين حور وولدة أكياس أي شيء أصاب عقلك يا مس ... كين حتى رميت بالوسواس ومن ذلك: أتى عيسى فبطل شرع موسى ... وجاء محمد بصلاة خمس وقالوا لا نبي بعد هذا ... فضل القوم بين غد وأمس ومهما عشت في دنياك هذي ... فما تخليك من قمر وشمس إذا قلت المحال رفعت صوتي ... وإن قلت الصحيح أطلت همسي ومن ذلك قوله: تاه النصارى والحنيفة ما اهتدت ... ويهود هطرى والمجوس مضلله قسم الورى قسمين هذا عاقل ... لا دين فيه ودين لا عقل له وفي هذه السنة توفي أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني مقدم أصحاب الحديث بخراسان، وكان فقيهاً خطيباً إماماً في عدة علوم. وفيها توفي أياز غلام محمود سبكتكين، وله مع محمود أخبار مشهورة. وفيها مات أبو أحمد عدنان بن الشريف الرضي نقيب العلويين. ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة الخطبة بالعراق للمستنصر العلوي خليفة مصر وما كان إلى قتل البساسيري في هذه السنة سار إبراهيم ينال بعد انفصاله عن الموصل إلى همذان، وسار طغرلبك من بغداد في إثر أخيه أيضاً إلى همذان، وتبعه من كان ببغداد من الأتراك فقصد البساسيري بغداد ومعه قريش بن بدران العقيلي في مائتي فرس، ووصل إليها يوم الأحد ثامن ذي القعدة، ومعه أربعمائة غلام ونزل بمشرعة الزوايا وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي خليفة مصر، وأمر فأذن بحي على خير العمل، ثم عبر عسكره إلى الزاهر، وخطب بالجمعة الأخرى من وصوله للمصري بجامع الرصافة أيضاً، وجرى بينه وبين مخالفيه حروب في أثناء الأسبوع، وجمع البساسيري جماعته ونهب الحريم، ودخل الباب النوبي، فركب الخليفة القائم لابساً للسواد. وعلى كتفه البردة وبيده سيف، وعلى رأسه اللواء وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة، وسرى النهب إلى باب الفردوس من ثأره، فلما رأى القائم ذلك رجع إلى ورائه، ثم صعد إلى المنظرة ومع القائم رئيس الرؤساء، وقال رئيس الرؤساء، لقريش بن بدران: يا علم الدين، أمير المؤمنين القائم يستذم بذمامك وذمام رسول الله وذمام العربية، على نفسه وماله وأهله وأصحابه فأعطى قريش محضرته ذماماً، فنزل القائم ورئيس

الرؤساء إلى قريش من الباب المقابل لباب الحلبة، وسارا معه، فأرسل البساسيري، إلى قريش وقال له: أتخالف ما استقر بيننا وتنقض ما تعاهدنا عليه؟ وكانا قد تعاهدا على المشاركة، وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر، ثم اتفقا على أن يسلم رئيس الرؤساء إلى البساسيري لأنه عدوه، ويبقى الخليفة القائم عند قريش، وحمل قريش الخليفة إلى معسكره ببردته والقضيب ولوائه، ونهبت دار الخليفة وحريمها أياماً. ثم سلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارس، وسار به مهارس والخليفة في هودج إلى حديثة عانة، فنزل بها، وسار أصحاب الخليفة إلى طغرلبك، وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر إلى المصلى بالجانب الشرقي، وعلى رأسه ألوية خليفة مصر، وأحسن إلى الناس، ولم يتعصب لمذهب، وكانت والدة القائم باقية، وقد قاربت تسعين سنة فأفرد لها البساسيري داراً وأعطاها جاريتين من جواريها وأجرى لها الجراية؛ وكان قد حبس البساسيري رئيس الرؤساء فأحضره من الحبس، فقال رئيس الرؤساء: العفو. فقال له البساسيري. أنت قدرت فما عفوت وأنت صاحب طيلسان، وفعلت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي، وكانوا قد ألبسوا رئيس الرؤساء استهزاء به طرطوراً من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة جلود وطافوا به إلى النجمي وهو يقرأ: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " " آل عمران: 26 " فلما مر رئيس الرؤساء بتلك الحالة على أهل الكرخ بصقوا في وجهه، لأنه كان يتعصب عليهم. ثم ألبس جلد ثور وجعلت قرونه على رأسه وجعل في كفه كلابان من حديد، وصلب وبقي إلى آخر النهار ومات، وأرسل البساسيري إلى المستنصر العلوي بمصر، يعرفه بإقامة الخطبة له بالعراق، وكان الوزير هناك ابن أخي أبي القاسم المغربي وهو ممن هرب من البساسيري فبرد فعل البساسيري وخوف من عاقبته، فتركت أجوبته مدة، ثم عادت بخلاف ما أمله، ثم سار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصر فملكهما، وأما طغريل بك فكان قد خرج عليه أخوه إبراهيم ينال، وجرى بينه وبينه قتال، وآخره أن طغريل بك انتصر على أخيه إبراهيم ينال وأسره وخنقه بوتر، وكان قد خرج عليه مراراً وطغريل بك يعفو عنه، فلم يعف عنه في هذه المرة. عود الخليفة القائم إلى بغداد وقتل البساسيري وكان ذلك في السنة القابلة سنة إحدى وخمسين، فقدم ذكر هذه الواقعة في هذه السنة لتكون أخبارها متتابعة إلى منتهاها فنقول: إنه لما فرغ طغريل بك من أمم أخيه إبراهيم ينال وقتله، سار إلى العراق لرد الخليفة إلى مقر ملكه، وأرسل إلى البساسيري يقول: رد الخليفة إلى مكانه، وأنا أرضى منك بالخطبة، ولا أدخل العراق، فلم يجب البساسيري إلى ذلك. فسار طغريل بك، فلما قارب إلى بغداد انحدر منها خدم البساسيري وأولاده في

دجلة، وكان دخول البساسيري وأولاده سنة خمسين سادس ذي القعدة، وخروجهم من بغداد في سنة إحدى وخمسين سادس ذي القعدة أيضاً، ووصل طغريل بك إلى بغداد وأرسل في طلب الخليفة القائم إلى مهارس، فسار مهارس والخليفة إلى بغداد في السنة المذكورة، أعني سنة إحدى وخمسين في حادي عشر ذي القعدة وأرسل طغريل بك الخيام العظيمة والآلات لملتقى الخليفة القائم، ووصل الخليفة إلى النهروان رابع وعشرين ذي القعدة وخر طغريل بك لتلقيه واجتمع به واعتذر عن تأخره بعصيان أخيه إبراهيم، وأنه قتله عقوبة لما جرى منه، وبوفاة أخيه داود بخراسان، وسار مع الخليفة ووقف طغريل بك في الباب النوبي مكان الحاجب. وأخذ بلجام بغلة الخليفة حتى صار على باب حجرته، ودخل الخليفة إلى داره يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين، ثم أرسل طغريل بك جيشاً خلف البساسيري، ثم سار طغريل بك في إثرهم، واقتتل الجيش والبساسيري. ثامن ذي الحجة، فقتل البساسيري، وانهزم أصحابه وحمل رأسه إلى طغريل بك وأخذت أموال البساسيري مع نسائه وأولاده ثم أرسل طغريل بك رأس البساسيري إلى دار الخلافة فصلب قبالة الباب النوبي، وكان البساسيري مملوكاً تركياً من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة. واسمه أرسلان، وهو منسوب إلى مدينة بسا بفارس، وكان سيد هذا لمملوك من بسا، فقيل له البساسيري لذلك، والعرب تجعل عوض الباء فاء فتقول فسا ومنها أبو علي الفارسي النحوي. غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة أعني سنة خمسين وأربعمائة توفي شهاب الدولة أبو الفوارس منصور بن الحسين الأسدي صاحب الجزيرة، واجتمعت عشيرته على ولده صدقة، وفيها توفي الملك الرحيم أبو نصر خسره فيروز آخر ملوك بني بويه بعد أن نقل من قلعة السيروان إلى قلعة الري، فمات بها مسجوناً وهو الملك الرحيم بن أبي كاليجار المرزبان بن سلطان الدول بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه. وفيها توفي القاضي أبو الطيب الطبري الفقيه الشافعي وله مائة سنة وسنتان، وكان صحيح السمع والبصر، سليم الأعضاء يناظر ويفتي ويستدرك على الفقهاء، ودفن عند قبر أحمد بن حنبل. وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي، وله تصانيف كثيرة منها، الحاوي المشهور، وعمره ست وثمانون سنة، أخذ الفقه عن أبي حامد الإسفراييني وغيره ومن مصنفاته تفسير القرآن والنكت والعيون والأحكام السلطانية وقانون الوزارة، والماوردي نسبة إلى بيع ماء الورد. وفيها كانت زلزلة عظيمة لبثت ساعة بالعراق والموصل، فخربت كثيراً وهلك فيها الجم الغفير. ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة

وفاة فرخزاد صاحب غزنة في هذه السنة وقيل في سنة تسع وأربعين، توفي الملك فرخزاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بالقولنج، وملك بعده أخوه إبراهيم بن مسعود، فأحسن السيرة، وغزا الهند وفتح حصوناً. وكان ديناً، ولما استقر في ملك غزنة صالح داود بن ميكائيل بن سلجوق صاحب خراسان. وفاة داود وملك ابنه ألب أرسلان في هذه السنة في رجب توفي داود بن ميكائيل بن سلجوق، أخو طغريل بك، وعمره سبعون سنة، صاحب خراسان وهو مقاتل آل سبكتكين، ولما توفي داود ملك خراسان بعده ابنه ألب أرسلان وكان لداود من البنين ألب أرسلان، وياقوتي وقاروت بك وسليمان، فتزوج طغريل بك بأم سليمان امرأة أخيه. غير ذلك من الحوادث فيها قدم طغريل بك إلى بغداد، وأعاد الخليفة، وقتل البساسيري حسبما ذكرنا. وفيها توفي علي بن محمود بن إبراهيم الزوزني، وهو الذي ينسب إليه رباط الزوزني المقابل لجامع المنصور ببغداد. ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة فيها ملك محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس حلب، على ما تقدم ذكره في سنة اثنتين وأربعمائة. وفيها سار طغريل بك من بغداد إلى بلاد الجبل في ربيع الأول، وجعل الأمير برسق شحنة ببغداد. وفيها توفيت والدة القائم وهي جارية أرمنية، قيل اسمها قطر الندى. ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وفاة المعز صاحب إفريقية وفي هذه السنة توفي المعز بن باديس، بضعف الكبد، وكانت مدة ملكه سبعاً وأربعين سنة، وكان عمره لما ملك قيل إحدى عشرة سنة، وقيل ثمان سنين، وملك بعده ابنه تميم بن المعز، ولما مات المعز طمعت أصحاب البلاد بسبب العرب وتغلبهم على بلاد إفريقية كما قدمنا ذكره. وفاة قريش صاحب الموصل وفيها توفي قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب صاحب الموصل ونصيبين، وكانت وفاته بنصيبين، بخروج دم من حلقه وأنفه وأذنيه، وقام بالأمر بعده ابنه شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش. وفاة نصر الدولة بن مروان وفي هذه السنة توفي نصر الدولة أبو نصر أحمد بن مروان الكردي، صاحب ديار بكر -

وكان عمره نيفاً وثمانين سنة، وإمارته اثنتين وخمسين سنة، لأن تملكه كان في سنة اثنتين وأربعمائة كما قدمنا ذكره في سنة ثمانين وثلاثمائة، واستولى أبو نصر على أموره وبلاده استيلاء تاماً، وتنعم تنعماً لم يسمع بمثله، وملك من الجواري المغنيات ما اشترى بعضهن بخمسة آلاف دينار، وأكثر، وملك خمسمائة سرية، سوى توابعهن وخمسمائة خادم، وكان في مجلسه من الآلات ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار، وأرسل طباخين إلى مصر حتى تعلموا الطبخ هناك وقدموا عليه، وغرم على ذلك جملة، ووزر له أبو القاسم المغربي وفخر الدولة بن جهير، ووفد إليه الشعراء وأقام عنده العلماء، ولما مات نصر الدولة المذكور، خلف ابنين نصراً وسعيداً ابني المذكور، فاستقر في الأمر بعده ابنه نصر بن أحمد بميافارقين، وملك أخوه سعيد بن أحمد آمد. وفاة أمير مكة في هذه السنة توفي شكر العلوي الحسيني أمير مكة، وله شعر حسن فمنه: قوض خيامك عن أرض تضام بها ... وجانب الذل إن الذل مجتنب وارحل إذا كان في الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة فيها تزوج طغريل بك ببنت الخليفة القائم، وكان العقد في شعبان بظاهر تبريز، وكان الوكيل في تزويجها من جهة القائم عميد الملك، وفيها استوزر القائم فخر الدولة أبا نصر بن جهير بعد مسيره عن ابن مروان. وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي، الفقيه الشافعي، صاحب كتاب لشهاب، وكتاب الأنباء عن الأنبياء، وتواريخ الخلفاء وكتاب خطط مصر. تولى قضاء مصر من جهة الخلفاء العلويين مصريين، وتوجه منهم رسولا إلى جهة الروم، والقضاعي منسوب إلى قضاعة، وهو من حمير، وينسب إلى قضاعة قبائل كثير منها: كلب وبلى وجهينة وعدوة وغيرهم، وقيل: قضاعة بن معد بن عدنان. ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة أخبار اليمن من تاريخ اليمن عمارة قال: وفي هذه السنة أعني سنة خمس وخمسين وأربعمائة تكامل جميع اليمن لعلي بن القاضي محمد بن علي الصليحي، وكان القاضي محمد والد علي الصليحي المذكور، سني المذهب، وله الطاعة في رجال حراز، وهم أربعون ألفاً ببلاد اليمن، فتعلم ابنه علي المذكور مذهب الشيعة، وأخذ أسرار الدعوة عن عامر بن عبد الله الرواحي، وكان عامر المذكور من أهل اليمن، وهو أكبر دعاة المستنصر الفاطمي خليفة مصر، فصحبه علي بن محمد الصليحي وتعلم منه أسرار الدعوة، فلما دنت من عامر الوفاة، أسند

أمر الدعوة إلى علي المذكور، فقام بأمر الدعوة أتم قيام وصار علي بن محمد الصليحي المذكور دليلا لحجاج اليمن، يحج بهم على طريق الطائف وبلاد السرو، وبقي على ذلك عدة سنين، وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة، ترك دلالة الحجاج وثار بستين رجلا، وصعد إلى رأس مشاف، وهو أعلى ذروة من جبال حراز، ولم يزل يستفحل أمره شيئًا فشيئاً، حتى ملك جميع اليمن في هذه السنة، أعني سنة خمس وخمسين وأربعمائة. ولما تكامل لعلي الصليحي ملك اليمن، ولى على زبيد أسعد بن شهاب بن علي الصليحي، وأسعد المذكور هو أخو زوجته أسماء بنت شهاب، وابن عم علي المذكور. وبقي علي الصليحي مالكاً لجميع اليمن حتى حج، فقصده بنو نجاح وقتلوه بغتة، بالهجم علب بضيعة يقال لها أم الدهيم وبيرام معبد، في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، فلما قتل الصليحي المذكور، استقرت التهائم لبني نجاح واستقر بصنعاء ابن الصليحي المذكور، وهو أحمد بن علي بن القاضي محمد الصليحي، وكان يلقب أحمد المذكور بالملك المكرم، ثم جمع المكرم المذكور العرب وقصد سعيد بن نجاح بزبيد، وجرى بينهما قتال شديد، فانهزم سعيد بن نجاح إلى جهة دهلك، وملك أحمد المذكور زبيد في سنة خمس وسبعين وأربعمائة، ثم عاد ابن نجاح وملك زبيد في سنة تسع وسبعين وأربعمائة، ثم عاد أحمد المكرم وقتل سعيد في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة. ثم ملك جياش أخو سعيد وبقي أحمد المكرم على ملك صنعاء حتى مات المكرم في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ولما مات أحمد المكرم بن علي بن القاضي محمد بن علي الصليحي تولى بعده ابن عمه أبو حمير سبأ بن أحمد بن المظفر ابن علي الصليحي في السنة المذكورة، أعني سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وبقي سباً متولياً حتى توفي في سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وهو آخر الملوك الصليحيين. ثم بعد موت سبأ أرسل من مصر علي بن إبراهيم بن نجيب الدولة، فوصل إلى جبال اليمن في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقام بأمر الدعوة والمملكة التي كانت بيد سبأ، وبقي ابن نجيب الدولة حتى أرسل الآمر الفاطمي خليفة مصر وقبض على ابن نجيب الدولة المذكور، بعد سنة عشرين وخمسمائة، وانتقل الملك والدعوة إلى آل الزريع بن العباس بن المكرم. وآل الزريع هم أهل عدن، وهم من همذان بن جشم، وهؤلاء بنو للمكرم يعرفون بآل الذيب، وكانت عدن لزريع بن العباس بن المكرم، ولعمه مسعود بن المكرم، فقتلا على زبيد مع الملك المفضل، فولى بعدهما ولداهما، وهما أبو السعود بن زريع وأبو الغارات ابن مسعود، وبقيا حتى ماتا، وولى بعدهما محمد بن أبي الغارات، ثم ولى بعده ابنه على بن محمد بن أبي الغارات. ثم استولى على الملك والدعوة سبأ بن أبي السعود بن زريع، وبقي حتى توفي في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، ثم تولى ولده الأعز علي بن سبأ، وكان

مقام علي بالدملوة، فمات بالسل، وملك بعده أخره المعظم محمد بن سبأ، ثم ملك بعده ابنه عمران بن محمد بن سبأ، وكانت وفاة محمد بن سبأ في سنه ثمان وأربعين وخمسمائة، ووفاة عمران بن محمد بن سبأ في شعبان سنة ستين وخمسمائة وخلف عمران ولدين طفلين هما، محمد وأبو السعود ابنا عمران. وممن ولي الأمر من الصليحيين، زوجة أحمد المكرم، وهي الملكة ولقبها الحرة، واسمها سيدة بنت أحمد بن جعفر بن موسى الصليحي، ولدت سنة أربعين وأربعمائة وربتها أسماء بنت شهاب، وتزوجها ابن أسماء أحمد المكرم بن علي الصليحي سنة إحدى وستين وأربعمائة، وطالت مدة الحرة المذكورة، وولاها زوجها أحمد المكرم الأمر في حياته، فقامت بتدبير المملكة والحروب، واشتغل زوجها بالأكل والشرب، ولما مات زوجها وتولى ابن عمه سبأ استمرت هي في الملك، ومات سبأ وتولى ابن نجيب الدولة في أيامها، واستمرت بعده حتى توفيت الحرة المذكورة. في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة وممن كان له شركة في الملك: الملك المفضل أبو البركات بن الوليد الحميري صاحب تعز، وكان المفضل المذكور يحكم بين يدي الملكة الحرة وكان يحتجب حتى لا يرجى لقاؤه، ثم يظهر ويدبر الملك حتى يصل إليه القوي والضعيف، وبقي المفضل كذلك حتى توفي في شهر رمضان سنة أربع وخمسمائة، وملك معامل المفضل وبلاده بعده ولده منصور، ويقال له الملك المنصور بن المفضل، واستمر المنصور بن المفضل في ملك أبيه من تاريخ وفاته إلى سنة سبع وأربعين وخمسمائة، فابتاع محمد بن سبأ بن أبي السعود منه المعامل التي كانت للصليحيين بمائة ألف دينار، وعدتها ثمانية وعشرون حصناً، وبلداً، وأبقى المنصور بن المفضل لنفسه تعز، وبقي المنصور في ملكها حتى توفي بعد أن ملك نحو ثمانين سنة. وسنذكر بقية أخبار اليمن في سنة أربع وخمسين وخمسمائة إن شاء الله تعالى. دخول طغريل بك بابنة الخليفة وفي هذه السنة أعني سنة خمس وخمسين وأربعمائة، قدم طغريل بك إلى بغداد ودخل بابنة الخليفة، وحصل من عسكره الأذية لأهل بغداد لإخراجهم من دورهم وفسقهم بنسائهم أخذاً باليد. وفاة طغريل بك في هذه السنة بعد دخول طغريل بك بابنة الخليفة، سار من بغداد في ربيع الأول إلى بلد الجبل، فوصل إلى الري فمرض وتوفي يوم الجمعة ثامن شهر رمضان من هذه السنة، وعمره سبعون سنة تقريباً، وكان طغريل بك عقيماً لم يرزق ولداً، واستقرت السلطنة بعده لابن أخيه ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق.

غير ذلك فيها دخل الصليحي صاحب اليمن إلى مكة مالكاً لها، فأحسن السيرة، وجلب إليها الأقوات، وفيها كان بالشام زلزلة عظيمة خرب بها كثير من البلاد، وانهدم بها سور طرابلس. وفيها ولي أمير الجيوش بدر مدينة دمشق للمستنصر العلوي خليفة مصر، ثم ثار به الجند ففارقها. وفيها توفي سعيد بن نصر الدولة أحمد بن مروان صاحب آمد من ديار بكر. ثم دخلت سنة ست وخسمين وأربعمائة القبض على الوزير عميد الملك وقتله في هذه السنة قبض السلطان ألب أرسلان على الوزير عميد الملك أبي نصر منصور بن محمد الكندري، وزير عمه طغريل بك، بسبب سعي نظام الملك وزير ألب أرسلان به، فقبض ألب أرسلان على عميد الملك وحبسه في مروروز، فلما مضى على عميد الملك في الحبس سنة، أرسل ألب أرسلان إليه غلامين ليقتلا فدخل عميد الملك ورع أهله وصلى ركعتين وخرق خرقه من طرف كمه وعصب عينيه بها، فقتلاه بالسيف وقطع رأسه وحملت جثته إلى كندر فدفن عند أبيه، وكان عمره نيفاً وأربعين سنة، وكان عميد الملك خصياً. لأن طغريل بك أرسله ليخطب له امرأة فتزوجها عميد الملك، فخصاه طغريل بك لذلك، وكان عميد الملك كثير الوقيعة في الشافعي، حتى خاطب طغريل بك في لعن الرافضة على منابر خراسان، فأمر له بذلك فأمر بلعنهم، وأضاف إليهم الأشعرية، فأنف من ذلك أئمة خراسان، منهم أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني، وأقام بمكة أربع سنين ولهذا لقب إمام الحرمين، ومن العجب أن ذكر عبد الملك ومخاصيه، دفن بخوارم لما خصي، ودمه سفح بمرو، وجسده دفن بكندر، ورأسه ما عدا قحفه دفن بنيسابور، ونقل قحفه إلى كرمان لأن نظام الملك كان هناك. غير ذلك في هذه السنة ملك ألب أرسلان قلعة ختلان، ثم سار إلى هراة فحاصر عمه بيغو بن ميكائيل بن سلجوق بها، وملكها وأخرج عمه، ثم أحسن إليه وأكرمه، ثم سار إلى صغائيان فملكها أيضاً بالسيف، وكان اسم صاحبها موسى، فأخذ أسيراً وفي هذه السنة أمر ألب أرسلان بعود بنت الخليفة القائم إلى بغداد وكانت قد سارت إلى طغريل بك إلى الري بغير رضى الخليفة. وفيه هذه السنة عصى قطلومش بن أرسلان بن سلجوق على ألب أرسلان، فأرسل إليه ونهاه عن ذلك وعرفه أنه يرعى له القرابة والرحم، فلم يلتفت قطلومش إلى ذلك، فسار إليه ألب أرسلان إلى قرب الري، والتقى العسكران واقتتلوا فانهزم عسكر قطلومش وهرب إلى جهة قلعة كردكوه، فلما انقضى القتال وجد قطلومش ميتاً، قيل إنه

مات من الخوف، فعظم موته على ألب أرسلان وبكى عليه، وقعد للعزاء وعظم عليه فقده فسلاه نظام الملك، ودخل ألب أرسلان مدينة الري في آخر المحرم من هذه السنة، وهذا قطلومش السلجوقي هو جد الملوك أصحاب قونية، وأقصرا وملطية، إلى أن استولى التتر على مملكتهم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وكان قطلومش مع أنه رجل تركي عارفاً بعلم النجوم، وقد أتقنه. وفي هذه السنة شاع ببغداد والعراق وخوزستان وكثير من البلاد، أن جماعة من الأكراد خرجوا يتصيدون، فرأوا في البرية خيماً سوداء وسمعوا منها لطماً شديداً وعويلا كثيراً، وقائلا يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم أهله قلع أصله، فصدق ذلك ضعفاء العقول من الرجال والنساء، حتى خرجوا إلى المقابر يلطمن وخرج رجال من سفلة الناس يفعلون ذلك، قال ابن الأثير: ولقد جرى ونحن في الموصل وغيرها من تلك البلاد في سنة ستمائة مثل هذا، وهو أن الناس أصابهم وجع كثير في حلوقهم فشاع أن امرأة من الجن يقال لها أم عنقود مات ابنها عنقود، وكل من لا يعمل مأتماً أصابه هذا المرض، فكان النساء وأوباش الناس يلطمون على عنقود ويقولون يا أم عنقود اعذرينا، قد مات عنقود ما درينا. وإنما أوردنا هذا لأن رعاع الناس إلى يومنا هذا وهو سنة سبعمائة وخمس عشرة يقولون بأم عنقود وحديثها، ليعلم تاريخ هذا الهذيان من متى كان. وفيها توفي أبو القاسم علي بن برهان الأسد النحوي، المتكلم، وكان له اختيار في الفقه وكان يمشي في الأسواق مكشوف الرأس. ولم يقبل من أحد شيئاً، وكان يميل إلى مذهب مرجئة المعتزلة، ويعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار، وكان قد جاوز ثمانين سنة. ثم دخلت سنة سبع وخمسين وأربعمائة وفيها عبر ألب أرسلان جيحون وسار إلى جند وصبران، وهما عند بخارى، وقبر جده سلجوق بجند، فخرج صاحب جند إلى طاعته، فأقره على مكانه، ووصل إلى كركنج خوارزم، وسار منها إلى مرو. وفيها ابتدأ نظام الملك بعمارة المدرسة النظامية ببغداد. ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وفيها أقطع ألب أرسلان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدار بن المقلد بن المسيب صاحب الموصل، الأنبار وتكريت زيادة على الموصل. وفيها توفي أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي الخسروجردي، وكان إماماً في الحديث والفقه على مذهب الشافعي، وكان زاهداً ومات بنيسابور ونقل إلى بيهق، وبيهق قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخاً منها، وكان البيهقي من خسرو جرد وهي - قرية من بيهق - وكان البيهقي أوحد زمانه، رحل في طلب الحديث إلى العراق والجبال والحجاز، وصنف شيئاً كثيراً، وهو أول من جمع نصوص الشافعي في عشر مجلدات، ومن مشهور مصنفاته السنن الكبير والسنن الصغير ودلائل النبوة، وكان قانعاً من الدنيا بالقليل، ومولده في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. وقال إمام

الحرمين في حقه: ما من شافعي المذهب إلا وللشافعي عليه منة، إلا أحمد البيهقي، فإن له على الشافعي منة، لأنه كان أكثر الناس نصر المذهب الشافعي. وفيها توفي أبو علي محمد ابن الحسين بن الحسن بن الفراء الحنبلي، وعنه انتشر مذهب أحمد بن حنبل، وهو مصنف كتاب الصفات، أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض، وكان ابن التميمي الحنبلي يقول: لقد خرى أبو يعلي بن الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء. وفيها توفي الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده المرسي، وكان إماماً في اللغة، صنف فيها المحكم، وهو كتاب مشهور، وله غيره عدة مصنفات وكان ضريراً، وتوفي بدانية من شرق الأندلس، وعمره نحو ستين سنة. ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة فيها في ذي القعدة فرغت عمارة المدرسة النظامية، وتقرر التدريس بها للشيخ أبي إسحاق الشيرازي واجتمع الناس فتأخر أبو إسحق عن الحضور لأنه سمع شواذاً أن أرض المدرسة مغصوبة، ولما تأخر ألقي الدرس بها إلى يوسف بن الصباغ صاحب كتاب الشامل مدة عشرين يوماً، ثم اجتهدوا بأبي إسحاق فلم يزالوا به حتى درس فيها. ثم دخلت سنة ستين وأربعمائة فيها كانت بفلسطين ومصر زلزلة شديدة حتى طلع الماء من رؤوس الآبار، وهلك من الردم عالم عظيم، وزال البحر عن الساحل مسيرة يوم، فنزل الناس أرضه يلتقطون فرجع الماء عليهم وأهلك خلقاً كثيراً. وفيها توفي الشيخ أبو منصور عبد الملك بن يوسف، وكان من أعيان الزمان. ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة فيها احترق جامع دمشق بسبب فتنة وقعت بين المغاربة والمشارقة، فضربت دار مجاورة للجامع بالنار، فاتصلت النار بالجامع، وعجز الناس عن إطفائها، فأتى الحريق على الجامع، فدثرت محاسنه، وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة. ثم دخلت سنة اثنتين وستين وأربعمائة في هذه السنة توفي طفغاج خان ملك ما وراء النهر، واسمه أبو إسحاق إبراهيم بن نصر أيلك خان، وملك بعده ابنه شمس الملك نصر بن طفغاج، وبقي شمس الملك حتى توفي، ولم يقع لي تاريخ وفاته، وملك بعده أخوه حصر خان بن طفغاج، ثم ملك بعده ابنه أحمد، وبقي أحمد المذكور حتى قتل سنة ثمان وثمانين وأربعمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها كان بمصر غلاء شديد حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، وانتزح منها من قدر على الانتزاح، واحتاج خليفة مصر المستنصر العلوي إلى إخراج الآلات وبيعها، فأخرج من خزانته ثمانين ألف قطعة بلور كبار، وخمساً وسبعين ألف قطعة من الديباج وأحد عشر ألف كزغندو، وعشرين ألف سيف محلى، ووصل من ذلك مع التجار إلى بغداد. ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة فيها قطع محمود بن نصر بن صالح ابن مرداس صاحب حلب خطب المستنصر العلوي، وخطب للقائم العباسي خليفة بغداد. وفيها سار السلطان ألب أرسلان إلى ديار بكر، فأتى صاحبها نصر

ذكر غير ذلك

بن أحمد بن مروان إلى طاعته وخدمته، ثم سار ألب أرسلان حتى نزل على حلب، فبذل صاحبها محمود بن نصر بن صالح بن مرداس له الطاعة، بدون أن يطئ بساطه، فلم يرض ألب أرسلان بذلك، فخرج محمود ووالدته ليلا، ودخلا على السلطان ألب أرسلان فأحسن إليهما، وأقر محموداً على مكانه بحلب. وفيها سار ملك الروم أرمانوس بالجموع العظيمة من أنواع الروم والروس والجركس وغيرهم حتى وصل إلى ملاز كرد، فسار إليه ألب أرسلان وسأل الهدنة من ملك الروم فامتنع واقتتل الجمعان، فولى الروم منهزمين، وقتل منهم ما لا يحصى وأخذ الملك أرمانوس أسيراً، فشرط ألب أرسلان عليه شروطاً من حمل المال والأسرى والهدنة، فأجاب أرمانوس إليها، فأطلقه ألب أرسلان وحمله إلى مأمنه. وفيها قصد يوسف بن أبق الخوارزمي وهو من أمراء ملكشاه بن ألب أرسلان الشام، وفتح مدينة الرملة وبيت المقدس، وأخذهما من نواب الخليفة المستنصر، صاحب مصر، ثم حصر دمشق وضيق على أهلها ولم يملكها. ذكر غير ذلك وفي هذه السنة توفي أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الغوراني الفقيه الشافعي، مصنف كتاب الإبانة وغيره. وفيها توفي أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون الأندلسي القرطبي، وكان من أبناء الفقهاء بقرطبة ثم انتقل وخدم المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية، وصار عنده وزيره. ولابن زيدون المذكور الأشعار الفائقة منها: بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سراً إذا ذاعت الأسرار لم يذع يا بائعاً حظه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع يكفيك أنك لو حملت قلبي ما ... لم تستطعه قلوب الناس يستطع ته أحتمل واستطل أصبر وأعز أهن ... وول أقبل وقل أسمع ومر أطع ومن قصائده المشهورة قصيدته النونية التي منها: تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا وفيها في ذي الحجة توفي ببغداد الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي صاحب المصنفات الكثيرة، وكان إمام الدنيا في زمانه، وممن حمل جنازته الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وصنف تاريخ بغداد، الذي ينبئ عن إطلاع عظيم، وكان من المتجرين، وكان فقيهاً فغلب عليه الحديث والتاريخ، ومولده في جمادى الآخر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وكان الخطيب المذكور في وقته حافظ الشرق، وأبو عمرو يوسف بن عبد البر صاحب الاستيعاب حافظ الغرب، وماتا في هذه السنة، ولم يكن للخطيب عقب، وصنف أكثر من ستين كتاباً، وأوقف جميع كتبه رحمه الله. وأما ابن عبد البر المذكور، فهو

يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، كان إمام وقته في الحديث، ألف كتاب الاستيعاب في أسماء الصحابة، وصنف كتاب التمهيد، على موطأ مالك، تصنيفاً لم يسبق إليه، وكتاب الدرر في المغازي والسير، وغير ذلك، وكان موفقاً في التأليف معاناً عليه، وسافر من قرطبة إلى شرق الأندلس، وتولى قضاء أشبونه وشنترين وصنف لمالكها المظفر بن الأفطس، كتاب بهجة المجالس، في ثلاثة أسفار جمع فيه أشياء مستحسنة تصلح للمحاضرة، ومما ذكره في الكتاب المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل الجنة ورأى فيها عذقاً مدلى فأعجبه وقال: لمن هو؟ فقيل: لأبي جهل. فشق عليه ذلك وقال: ما لأبي جهل والجنة؟ والله لا يدخلها أبداً، فلما أتاه عكرمة بن أبي جهل مسلماً. فرح به وتأول ذلك العذق، ابنه عكرمة. ومن ذلك ما روي عن جعفر بن محمد الصادق، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى كأن كلباً أبقع يلغ في دمه، فكان شمر بن أبي جوشن، قاتل الحسين، وكان أبرص. فتفسرت رؤياه بعد خمسين سنة. ومنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: يا أبا بكر، رأيت كأني وأنت نرقى في درجة فسبقتك بمرقانين ونصف، فقال أبو بكر يا رسول الله، يقبضك الله إلى رحمته، وأعيش بعدك سنتين ونصفاً. ومنه أن بعض أهل الشام قص على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: رأيت كأن الشمس والقمر اقتتلا، ومع كل واحد منهما فريق من النجوم، فقال عمر: أيهما كنت؟ قال مع القمر. قال: مع الآية الممحوة، والله لا توليت لي عملا. فقتل الرائي المذكور على صفين، وكان مع معاوية. ومنه أن عائشة رضي الله عنها رأت كأن ثلاثة قمر سقطن في حجرها. فقال لها أبوها أبو بكر رضي الله عنهما: يدفن في بيتك ثلاثة من خيار أهل الأرض. فل دفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: هذا أحد أقمارك. ولغرابة ذلك أوردناه. وتوفي الحافظ بن عبد البر المذكور في مدينة شاطبة من الأندلس في هذه السنة، أعني سنة ثلاث وستين وأربعمائة. وفيها توفيت كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية، وهي التي تروي صحيح البخاري بمكة. وإليها انتهى علو الإسناد الصحيح. ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة وفاة بن عمار قاضي طرابلس وفي هذه السنة في رجب، توفي القاضي أبو طالب بن عمار قاضي طرابلس، وكان قد استولى عليها واستبد بأمرها فقام مكانه ابن أخيه جلال الملك أبو الحسن ابن عمار، فضبط البلد أحسن ضبط. ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة مقتل السلطان ألب أرسلان في هذه السنة سار السلطان ألب أرسلان، واسمه محمد، إلى ما وراء النهر، وعقد على جيحون جسراً وعبره، في نيف وعشرين يوماً، وعسكره يزيد على مائتي ألف فارس ولما عبر السلطان

وقتل ناصر الدولة.

ألب أرسلان النهر مد سماطاً في بليدة هناك يقال لها قرير، وبتلك البليدة حصن على شاطئ جيحون، فأحضر إليه مستحفظ ذلك الحصن، ويقال له يوسف الخوارزمي، مع غلامين يحفظانه وكان قد ارتكب جريمة في أمر الحصن، فأمر السلطان أن تضرب له أربعة أوتاد، ويشد بأطرافه إليها. فقال له يوسف: يا مخنث، مثلي يقتل هذه القتلة؟ فغضب السلطان وأخذ القوس والنشاب وقال للغلامين: خلياه ورمام بسهم، فأخطأه ولم يكن يخطئ سهمه، فوثب يوسف على السلطان بسكين كانت معه، فقام السلطان عن السدة فوقع على وجهه، فضربه يوسف بالسكين، ثم جرح شخصاً آخر واقفاً على رأس السلطان يقال له سعد الدولة، ثم ضرب بعض الفراشين يوسف المذكور بمزربة على رأسه فقتله ثم قطعه الأتراك، فقال السلطان وهو مجروح: لما كان أمس صعدت على تل فارتجت الأرض تحتي من عظم الجيش، فقلت في نفسي: أنا ملك الدنيا، وما يقدر أحد علي فعجزني الله بأضعف خلقه، وأنا أستغفر الله وأستقيله من ذلك الخاطر، وكان جرح السلطان في سادس عشر ربيع الأول، وتوفي في عاشر ربيع الآخر من هذه السنة، وعمره أربعون سنة وشهور وأيام، وكانت مدة ملكه مذ خطب له بالسلطنة إلى أن توفي تسع سنين وستة أشهر وأياماً وأوصى بالسلطنة لابنه ملك شاه وكان في صحبته، فحلف جميع العسكر لملك شاه، واستقر في السلطنة. وكان المتولي على الأمر نظام الملك وزير السلطان ألب أرسلان، وعماد ملكشاه بالعسكر من بلاد ما وراء النهر إلى خراسان، وأرسل إلى بغداد وإلى الأطراف، فخطب له فيها على قاعدة أبيه ألب أرسلان، واستمر نظام الملك على وزارته ونفوذ أمره، ولما استقر ملك ملكشاه خرج عمه قاروت بك صاحب كرمان عن طاعته، وسار إليه فالتقى الجمعان فانهزم عسكر قاروت بك وأتي به إلى ملكشاه أسيراً، فأمر به فخنق وأقر كرمان على أولاده، ولما انتصر ملكشاه كثرت أذية العسكر للبلاد ففوض ملكشاه الأمور إلى نظام الملك، وحلف له وزاده من الإقطاعات على ما كان بيده مواضع من جملتها مدينة طوس ولقبه ألقابا من جملتها أتابك، وأصلها أطابك، ومعناه الوالد الأمين فأحسن نظام الملك السياسة والتدبير. أخبار المستنصر العلوي خليفة مصر وقتل ناصر الدولة. فنقول: كانت قد استولت والدة المستنصر العلوي خليفة مصر على الأمر، فضعف أمر الدولة، وصارت العبيد حزباً، والأتراك حزباً، وجرت بينهم حروب، وكان ناصر الدولة وهو من أحفاد ناصر الدولة بن حمدان من أكبر قواد مصر، والمشار إليه، فأجمعت إليه الأتراك وجرى بينهم وبين العبيد عدة وقعات، وحصر ناصر الدولة مصر وقطع الميرة عنها براً وبحراً، فغلت الأسعار بها وعدم ما كان بخزائن المستنصر، حتى أخرج العروض كما تقدم ذكره وعدم المتحصل بسبب انقطاع السبيل، ثم استولى ناصر الدولة على مصر وانهزمت

العبيد وتفرقت في البلاد، واستبد ناصر الدولة بالحكم، وقبض على والدة المستنصر وصادرها بخمسين ألف دينار، وتفرق عن المستنصر أولاده وأهله. وانقضت سنة أربع وستين وما قبلها بالفتن، وبالغ ناصر الدولة في إهانة المستنصر، حتى بقي المستنصر يقعد على حصيرة، لا يقدر على غير ذلك. وكان غرضه في ذلك أن يخطب للخليفة القائم العباسي، ففطن بفعله قائد كبير من الأتراك اسمه الدكز، فاتفق مع جماعة على قتل ناصر الدولة، وقصدوه في داره فخرج ناصر الدولة إليهم مطمئناً بقوته، فضربوه بسيوفهم حتى قتلوه، وأخذوا رأسه ثم قتلوا فخر العرب أخا ناصر الدولة، وتتبعوا جميع من بمصر من بني حمدان فقتلوهم عن آخرهم، وكان قتلهم في هذه السنة أعني سنة خمس وستين وبقي الأمر بمصر مضطرباً ولما كان سنة سبع وستين وأربعمائة ولى الأمر بمصر أمير الجيوش بدر الجمالي، وقتل الدكز والوزير ابن كدينة، واستقامت الأمور كما سنذكره إن شاء الله تعالى. غير ذلك فيها توفي الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري النيسابوري، مصنف الرسالة، وغيرها، وكان فقيهاً أصولياً مفسراً كاتباً ذا فضائل جمة. وكان له فرس قد أهدي إليه فركبه نحو عشرين سنة، فلما مات الشيخ لم يأكل الفرس شيئاً ومات بعد أسبوع، ومولده سنة سنة ست وسبعين وثلاثمائة، وكان إماماً في علم التصوف، وقرأ أصول الدين على أبي بكر بن فورك، وعلى ابن إسحاق الإسفراييني، وله تفسير حسن، وله شعر حسن فمنه: إذا ساعدتك الحال فارقب زوالها ... فما هي إلا مثل حلبة أشطر وإن قصدتك الحادثات ببوسها ... فوسع لها ذرع التجلد واصبر وفيها توفي علي بن الحسين بن علي بن المفضل الكاتب المعرف بصردر الشاعر المشهور، وكان أبوه يلقب بشحنة صردر، فما بلغ ولده المذكور وأجاد في الشعر قيل صردر، ومن جيد شعره قوله: تسائل عن ثمامات بحزوي ... وبأن الرمل يعلم ما عنينا فقد كشف الغطاء فما نبالي ... أصرحنا بذكرك أم، كنينا ألا لله طيف منك يسقى ... بكاسات الري زوراً ومينا مطيته طوال الليلة جفني ... فكيف شكا إليك وجا وأينا فأمسينا كأنا ما افترقنا ... وأصبحنا كأنا ما التقينا ثم دخلت سنة ست وستين وأربعمائة، وفي هذه السنة زادت دجلة وجاءت السيول حتى غرق الجانب الشرقي، وبعض الغربي، ودخل الماء إلى المنازل من فوق ونبع من البلاليع، وغرق من الجانب الغربي مقبرة أحمد، ومشهد باب التين، وهلك في ذلك خلق

خلافة المقتدي بأمر الله

كثير. ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة فيها وصل بدر الجمالي إلى مصر وكان بدر متولي سواحل الشام، فأرسل إليه المستنصر العلوي يشكو حاله واختلال دولته، فركب البحر في قرة الشتاء في زمن لا يسلك البحر فيه، فمن الله تعالى عليه بالسلامة، ووصل بدر إلى مصر وقبض على الأمراء والقواد الذين كانوا قد تغلبوا، وأخذ أموالهم وحملها إلى المستنصر، وأقام منار الدولة وشيد من أمرها ما كان قد درس، ثم سار إلى الإسكندرية ودمياط وأصلح أمورهما، ثم عاد إلى مصر وسار إلى الصعيد وقهر المفسدين، وقرر قواعد البلاد وأحسن إلى الرعية، فعمرت البلاد وعادت مصر وأعمالها إلى أحسن ما كانت عليه. وفاة القائم في هذه السنة ليلة الخميس ثالث عشر شعبان، توفي القائم بأمر الله عبد الله وكنيته أبو جعفر بن القادر أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد أحمد، وكان قد لحق القائم ماشراً فافتصد، فانفجر فصاده وهو نائم، وخرج منه دم كثير وهو لا يشعر، ولم يكن عنده أحد، فاستيقظ وقد ضعف وسقطت قوته، فأحضر الوزير ابن جهير والقضاة وأشهدهم أنه جعل ابن ابنه عبد الله بن ذخيرة الدين محمد بن القائم ولي عهده، وتوفي القائم وعمره ست وسبعون سنة وثلاثة أشهر وأيام، وكانت خلافته أربعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوماً، وقيل عمره ست وتسعون سنة وأشهر. /بسم الله الرحمن الرحيم خلافة المقتدي بأمر الله وهو سابع عشرينهم، لما توفي القائم بويع المقتدي بأمر الله عبد الله بن ذخيرة الدين بن القائم بالخلافة، وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك والوزير بن جهير والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ، ونقيب النقباء، وطراد الزينبي والقاضي أبو عبد الله الدامغاني وغيرهم، من الأعيان، فبايعوه بالخلافة، ولم يكن للقائم ولد ذكر سواء، فإن محمد بن القائم وكان يلقب ذخيرة الدين توفي في حياة أبيه القائم، وكان لمحمد بن القائم لما توفي جارية اسمها أرجوان فلما توفي محمد ورأت أرجوان ما نال القائم من المصيبة بانقطاع نسله، ذكرت أنها حامل من محمد ابنه، فولدت عبد الله المقتدي، إلى ستة أشهر من موت محمد، فاشتد فرح القائم به وعظم سروره، فلما بلغ المقتدي الحلم جعله القائم ولي عهده. غير ذلك من الحوادث وفيها جمع ملكشاه ونظام الملك جماعة من المنجمين، وجعلوا النيروز عند نزول الشمس، أول الحمل. وكان النيروز قبل ذلك عند نزول الشمس نصف الحوت. وفيها عمل

ذكر غير ذلك

السلطان ملكشاه الرصد، واجتمع في عمله جماعة من الفضلاء منهم عمر الخيام وأبو المظفر الإسفرائيني وميمون بن النجيب الواسطي، وأخرج عليه من الأموال جملاً عظيمة، وبقي الرصد دائراً إلى أن مات السلطان سنة خمس وثمانين وأربعمائة فبطل. ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمائة. فها ملك أتسز دمشق. كنا قد ذكرنا سنة إحدى وستين ملك أتسز الرملة، وحصاره دمشق، ثم رحل عنها وعاودهم في أيام إدراك الغلات، حتى ضعف عسكر دمشق وتسلمها أتسز في هذه السنة، وقطع الخطبة العلوية، فلم يخطب بعدها في دمشق لهم وأقام الخطبة العباسية يوم جمعة، لست بقين من ذي القعدة من هذه السنة، وخطب للمقتدي بأمر الله، ومنع من الأذان بحي على خير العمل. ذكر غير ذلك وفي هذه السنة توفي أبو الحسن علي بن أحمد بن متويه الواحدي، المفسر، مصنف الوسيط والبسيط والوجيز، في التفسير، وهو نيسابوري ويقال له المتوي نسبة إلى جده متويه، والواحدي نسبة إلى الواحد بن ميسرة، وكان أستاذ عصره في النحو والتفسير وشرح ديوان المتنبي، وليس في الشروح مثله جودة، وكان الواحدي تلميذ الثعلبي، وتوفي الواحدي بعد مرض طويل في هذه السنة بنيسابور. وفيها توفي الشريف الهاشمي العباس أبو جعفر مسعود بن عبد العزيز، المعروف بالبياضي الشاعر، وله أشعار حسنة فمنها: كيف يذوي عشب أشوا ... قي ولي طرف مطير إن يكن في العشق حر ... فأنا العبد الأسير أو على الحسن زكاة ... فأنا ذاك الفقير ومنها: يا من لبست لبعده ثوب الضنا ... حتى خفيت به عن العواد وأنست بالسهر الطويل فأنسيت ... أجفان عيني كيف كان رقادي إن كان يوسف بالجمال مقطع الأيدي فأنت مفتت الأكباد وقيل له البياضي لأن بعض أجداده كان مع جماعة من بني العباس، وكلهم قد لبسوا أسود غيره، فسأل الخليفة عنه وقال من ذلك البياضي، فبقي عليه لقباً. ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة فيها سار أتسز المتولي على دمشق إلي مصر وعاد مهزوماً إلى الشام. قيل كانت هزيمته لقتال جرى بين الفريقين، وقيل بل انهزم بغير قتال، وهلك جماعة من أصحابه. وفي هذه السنة أورد ابن الأثير موت محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب، أقول: لكني وجدت في تاريخ حلب، تأليف كمال الدين المعروف بابن العديم أن محموداً المذكور مرض في سنة شع وستين وأربعمائة، وحدث به قروح

في المعى، مات بها، ولحقه في أواخر عمره من البخل ما لا يوصف، ولما مات في السنة المذكورة، ملك حلب بعده ابنه نصر بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس الكلابين فمدحه ابن جيوش بقصدية منها: ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ... فلا افترقت ما افتر عن ناظرٍ شفر ضميرك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وعزمك والنصر وكان لمحمود بن نصر سجية ... وغالب ظني أن سيخلفها نصر وكان عطية بن جيوش على محمود إذا مدحه، ألف دينار، فأعطاه نصر ألف دينار، مثل ما كان يعطيه أبوه محمود، وقال: لو قال: وغالب ظني أن سيضعفها نصر لأضعفتها له، وكان نصر يدمن شرب الخمر فحمله السكر على أن خرج إلى التركمان الذين ملكوا أباه حلب وهم بالحاضر، وأراد قتالهم فضربه واحد منهم بسهم نشاب فقتله، ولما قتل نصر ملك حلب أخوه سابق بن محمود، ولم يذكر ابن الأثير تاريخ قتل نصر متى كان. ثم إني وجدت في تاريخ حلب، تأليف كمال الدين المعروف بابن العديم تاريخ قتل نصر المذكور، قال: وفي يوم عيد الفطر سنة ثمان وستين وأربعمائة عيّد نصر بن محمود وهو في أحسن زي وكان الزمان ربيعاً، واحتفل الناس في عيدهم وتجملوا بأفخر ملابسهم، ودخل عليه ابن جيوش فأنشده قصيدة منها: صفت نعمتان خصتاك وعمتا ... حديثهما حتى القيامة يؤثر فجلى نصر فشرب إلى العصر، وحمله السكر على الخروج إلى الأتراك وسكناهم في الحاضر، وأراد أن ينهبهم وحمل عليهم، فرماه تركي بسهم في حلقه فقتله، وكان قتله يوم الأحد مستهل شوال، سنة ثمان وستين وأربعمائة، ولما قتل نصر ملك حلب بعده أخوه سابق ابن محمود. وفيها توفي طاهر بن أحمد بن باب شاذ النحوي المصري، توفي بأن سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر، فمات لوقته. ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة فيها توفي عبد الرحيم بن محمد بن إسحاق الأصفهاني الحافظ، له يهوياقيم تصانيف كثيرة منها: تاريخ أصفهان، وله طائفة ينتمون إليه في الاعتقاد من أهل أصفهان، يقال لهم العبد رحمانية. ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة استيلاء تنش على دمشق في هذه السنة ملك تاج الدولة تنش بن السلطان ألب أرسلان دمشق، وسببه أخاه السلطان ملكشاه أقطعه الشام، وما يفتحه، فسار تاج الدولة تنش إلى حلب وكان قد أرسل بدر الجمالي أمير الجيوش بمصر عسكراً إلى حصار أتسز بدمشق، فأرسل أتسز يستنجد تنش وهو نازل على حلب يحاصرها، فسار تنش إلى دمشق، فلما قرب منها رحل عنها عسكر

ذكر غير ذلك

مصر كالمنهزمين، فلما وصل إلى دمشق ركب أتسز لملتقاه بالقرب من المدينة، فأنكر تنش عليه تأخره عن الطلوع إلى لقائه، وقبض على أتسز وقتله وملك تنش دمشق، وأحسن السيرة. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة فيها غزا الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بلاد الهند، فأوغل فيها وفتح وغنم وعاد إلى غزنة سالماً. ملك مسلم بن قريش مدينة حلب في هذه السنة، سار شرف الدولة بن قريش بن بدران بن المقلد بن السميب صاحب الموصل إلى حلب، فحصرها، فسلم البلد إليه في سنة ثلاث وسبعين، وحصر القلعة واستنزل منها سابقاً ووثاباً ابني محمود بن نصر بن صالح بن مرداس وتسلم القلعة. ذكر غير ذلك وفيها توفي نصر بن أحمد بن مروان، صاحب ديار بكر، وملك بعده ابنه سور بن نصر ودبر دولته ابن الأنباري. وفيها توفي أبو الفتيان محمد بن سلطان بن جيوش. الشاعر المشهور، وقد تقدم ذكر مديحه لنصر بن محمود صاحب حلب. ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة ودخلت سنة أربع وسبعين وأربعمائة فيها كانت فتنة ببغداد بين الشافعية والحنابلة. وفيها أرسل الخليفة المقتدي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي رسولاً إلى السلطان ملكشاه، وإلى نظام الملك، فسار من بغداد إلى خراسان، ليشكو من عميد العراق أبي الفتح بن أبي الليث، فأكرم السلطان ونظام الملك الشيخ أبا إسحاق، وجرى بينه وبين إمام الحرمين أبي المعالي الجوبني مناظرة بحضرة نظام الملك، وعاد بالإجابة إلى ما التمسه الخليفة، ورفعت يد العميد عن جميع ما يتعلق بحواشي الخليفة. وفيها توفي أبو نصر علي بن الوزير أبي القاسم هبة الله بن ماكولا، مصنف كتاب الإكمال، ومولده سنة عشرين وأربعمائة، قتله مماليكه الأتراك بكرمان. ثم دخلت سنة ست وسبعين وأربعمائة فيها في جمادى الآخرة توفي الشيخ أبو إسحاق إبراهيم ابن علي الشيرازي الفيروز أبادي، وفيررز أباد بلدة بفارس، ويقال هي مدينة جون. وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وقيل سنة ست وتسعين، وكان أوحد عصره علماً وزهداً وعبادة، ولد بفيروز أباد ونشأ بها، ودخل شيراز وقرأ بها الفقه، ثم قدم إلى البصرة، ثم إلى بغداد في سنة خمس عشرة وأربعمائة وكان إمام وقته في المذهب والخلاف والأصول وصنف المهذب، والتنبيه والتلخيص، والنكت، والتبصير، واللمع، ورؤوس المسائل. وكان فصيحاً، وله نظم حسن فمنه: سألت الناس عن خل وفي ... فقالوا ما إلى هذا سبيل تمسك إن ظفرت بود حر ... فإن الحر في الدنيا قليل وله:

جاء الربيع وحسن وردة ... ومضى الشتاء وقبح برده فاشرب على وجه الحبي ... ب ووجنتيه وحسن خده وكان مستجاب الدعوة مطرح التكلف، ولما توجه إلى خراسان في رسالة الخليفة قال: ما دخلت بلدة ولا قرية إلا وكان خطيبها وقاضيها تلميذي، ومن جملة أصحابي. وفيها توفي أبو الحجاج بن يوسف بن سليمان الأعلم الشنتمري، رحل إلى قرطبة واشتغل بها. وكان إماماً في العربية والأدب وشرح الحماسة، ونسبته إلى شنتمرية، مدينة بالأندلس. ثم دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمائة فيها سار فخر الدولة بن جهير بعساكر السلطان ملكشاه، إلى قتال شرف الدولة مسلم بن قريش، ثم سير السلطان ملكشاه إلى فخر الدولة جيشاً آخر فيهم الأمير أرتق بن أكسك وقيل أكسب، والأول أصح، جد الملوك الأرتقية، فانهزم شرف الدولة مسلم، وانحصر في آمد، ونزل الأمير أرتق على آمد، فحصره فبذل له مسلم بن قريش مالاً جليلاً ليمكنه من الخروج من آمد فأذن له أرتق، وخرج شرف الدولة من آمد في حادي عشرين ربيع الأول من هذه السنة، فسار إلى الرقة وبعث إلى أرتق ما وعده به، ثم سير السلطان عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير بعسكر كثيف، وسير معه، أقسنقر قسيم الدولة إلى الموصل، فاستولى عليها عميد الدولة، وهذا أقسنقر هو والد عماد الدولة زنكي، ثم أرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة بالعهود يستدعيه إلى سلطان، فقدم شرف الدولة إليه، وأحضره عند السلطان ملكشاه بالبوازيح، وكان قد ذهبت أمواله، فاقترض شرف الدولة مسلم، ما خدم به السلطان، وقدم إليه خيلاً من جملتها فرسه التي نجا عليه في المعركة. المشهور وكان اسم الفرس بشاراً، وكان سابقاً، وسابق به السلطان الخيل، فجاء سابقاً، فقام السلطان قائماً لما تداخله من العجب، فرضي السلطان على مسلم، وخلع عليه وأقره على بلاده. فتح سلمان بن قطلومش أنطاكية في هذه السنة سار سلمان بن قطلومش السلجوقي صاحب قونية، وأقصرا، وغيرهما من بلاد الروم، فملك مدينة أنطاكية بمخامرة الحاكم فيها من جهة النصارى، وكانت أنطاكية بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فافتتحها سليمان في هذه السنة. قتل شرف الدولة مسلم وملك أخيه إبراهيم لما ملك سليمان بن قطلومش أنطاكية وأرسل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحلب، يطلب منه ما كان يحمله إليه أهل أنطاكية، فأنكر سليمان ذلك وقال: إن صاحب أنطاكية كان نصرانياً، فكنت تأخذ منه ذلك على سبيل الجزية، ولم يعطه شيئاً، فجمعا واقتتلا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، في طرف أعمال

أنطاكية، فانهزم عسكر مسلم، وقتل شرف الدولة مسلم في المعركة، وقتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب، وقد قدمنا ذكر مقتله لتتبع الحادثة بعضها بعضاً، وكان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب أحول، واتسع ملك مسلم بن قريش المذكور، وزاد ملك من تقدمه من أهل بيته، فإنه ملك السندية التي على نهر عيسى إلى منبج وديار ربيعة ومضر من الجزيرة وحلب، وما كان لأبيه وعمه قرواش من الموصل، وغيرهم، وكان مسلم يسوس مملكته سياسة حسنة، بالأمر والعدل، ولما قتل، قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش وهو محبوس، فأخرجوه وملكوه وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة، بحيث صار لم يقدر على المشي لما خرج. وفي هذه السنة ولد لملكشاه ولد بسنجار، فسماه أحمد، ثم غلب عليه اسم سنجر لكونه ولد بسنجار، وهو السلطان سنجر على ما تجيء أخباره، كذا نقله المؤرخون، والذي يغلب على ظني أنه سماه على عادة الترك، فإنهم يسمون صنجر، ومعناه يطعن، والناس يقولونه بالسين. وفيها توفي أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد الصباغ الفقيه الشافعي، صاحب الشامل والكامل، وكفاية المسائل وغيرها من التصانيف، بعد أن أضر عدة سنين، ومولده سنة أربعمائة، والقاضي أبو عبد الله الحسين بن علي البغدادي، المعروف بابن القفال، وهو من شيوخ أصحاب الشافعي، وكان إليه القضاء بباب الأزج. ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فيها ملك الفرنج طليطلة من الأندلس بعد أن حاصرها الأدفونش سبع سنين، وكان سبب ذلك تفرق ممالك الأندلس على ما تقدم ذكره في سنة سبع وأربعمائة. وفي هذه السنة استولى فخر الدولة بن جهير على آمد، ثم على ميافارقين، ثم على جزيرة ابن عمر، وهي بلاد بني مروان وأخذها من منصور بن نصر بن مروان وهو آخر من ملك منهم، وانقرضت بأخذ الجزيرة منه مملكة بني مروان، فسبحان من لا يزول ملكه. وفيها سار أمير الجيوش بدر الجمالي بجيوش مصر، فحصر دمشق وبها تاج الدولة تنش، وضيق عليه، فلم يظفر بشيء، فارتحل عائداً إلى مصر. وفيها في ربيع الآخر توفي إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله ابن يوسف الجويني ومولده في الكامل سنة عشرة وأربعمائة، وفي تاريخ ابن أبي الدم أن مولده سنة تسع عشرة وأربعمائة، وهو إمام العلماء في وقته، وله عدة مصنفات منها: نهاية المطلب في دراية المذهب، سافر إلى بغداد، ثم إلى الحجاز وأقام بمكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي ويصنف، وأم بالناس في الحرمين الشريفين، فسمي لذلك إمام الحرمين، ثم رجع إلى نيسابور وجعل إليه الخطابة، ومجلس الذكر، والتدريس، وبقي على ذلك ثلاثين سنة، وحظي عند نظام الملك، وله عدة تلاميذ من الفضلاء كالغزالي وأبي القاسم الأنصاري وأبي الحسن علي الطبري، وهو المعروف بالكيا الهراس، وكان إمام الحرمين قد ادعى

الاجتهاد المطلق، لأن أركانه كانت حاصلة له، ثم عاد إلى اللائق وتقليد الإمام الشافعي، لعلمه أن منصب الاجتهاد قد مضت سنوه. ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة قتل سليمان بن قطلومش لما قتل سليمان مسلم بن قريش في سنة ثمان وسبعين، على ما ذكرناه في سنة سبع وسبعين، أرسل سليمان إلى ابن الحبيبي العباسي مقدم أهل حلب، يطلب تسليم حلب، فاستمهله إلى أن يكاتب السلطان ملكشاه، وأرسل ابن الحبيبي، استدعى تنش صاحب دمشق بن السلطان ألب أرسلان، أخا السلطان ملكشاه، فسار تنش إلى حلب، وكان مع تنش أرتق بن أكسك، وقد فارق خدمة ملكشاه، خوفاً من إطلاق مسلم بن قريش من آمد، على ما قدمنا ذكره، وجرت الحرب بين تنش وابن سليمان بن قطلومش فانهزم عسكر سليمان، وثبت سليمان، فقيل إن سليمان انهزم عسكره، أخرج سكيناً وقتل نفسه، وقيل بل قتل في المعركة، وكان سليمان قد أرسل جثة مسلم بن قريش على بغل، ملفوفة في إزار إلى حلب، ليسلموها إليه في السنة الماضية، في سادس صفر، فأرسل تنش جثة سليمان في هذه السنة في سادس صفر ملفوفة في إزار إلى حلب، ليسلموها إليه، فأجابه ابن الحبيبي بالمماطلة، إلى أن يرد مرسوم ملكشاه في أمر حلب بما يراه، فحاصر تنش حلب وضيق على أهلها وملكها، فاستجار ابن الحبيبي بالأمير أرتق بن أكسك، فأجاره، وأما قلعة حلب فكان بها منذ قتل مسلم بن قريش، سالم بن مالك بن بدارن بن المقلد بن المسيب، العقيلي، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم بن قريش، فحاصر تنش سبعة عشر يوماً فبلغه وصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه. وصول السلطان ملكشاه إلى حلب كان ابن الحبيبي قد كاتب السلطان في أمر حلب، فسار إليها من أصفهان، في جمادى الآخرة، فملك في طريقه حرّان، وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن، قريش وسار إلى الرها، وهي بيد الروم من حين اشتروها من ابن عطير، كما قدمنا ذكره فحصرها وملكها، وسار إلى قلعة جعبر، واسمها الدوسرية، ثم عرفت بقلعة جعبر لطول مدة ملك جعبر لها، وبها صاحبها سابق الدين جعبر القشير المذكور، وهو شيخ أعمى فأمسكه وأمسك ولديه، وكانا يقطعان الطريق ويخيفان السبيل، ثم صار إلى منبج فملكها، وسار إلى حلب فلما قاربها رحل أخوه تنش عن حلب على البرية، وتوجه إلى دمشق، ووصل السلطان إلى حلب وتسلمها، وتسلم القلعة من سالم بن مالك بن بدران العقيلي، على أن يعوضه بقلعة جعبر، فسلم السلطان إليه قلعة جعبر، فبقيت بيده ويد أولاده، إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولما نزل السلطان ملكشاه بحلب، أرسل إليه الأمير نصر

ذكر غير ذلك من الحوادث

بن علي بن منقذ الكناني صاحب شيزر، ودخل في طاعته وسلم إليه اللاذقية، وكفر طاب، وأفامية، فأجابه السلطان إلى المسالمة وترك قصده، وأقر عليه شيزر، ولما ملك السلطان ملكشاه حلب، سلمها إلى قسيم الدولة أقسنقر، ثم ارتحل السلطان إلى بغداد على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة في ربيع الأول توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مرثد الأسدي، صاحب الحلة والنيل. وغيرهما، وكان فاضلاً وله شعر جيد. واستقر مكانه ولده صدقة، ولقب سيف الدولة. ملك يوسف بن تاشفين غرناطة من الأندلس وانقراض دولة الصنهاجية منها: في هذه السنة عدّى البحر يوسف بن تاشفين أمير المسلمين، من سبتة إلى الجزيرة الخضراء بسبب استيلاء الفرنج على بلاد الأندلس، واجتمع إليه أهل الأندلس، مثل المعتمد بن عباد وغيره من ملوك الأندلس، وجرى بينهم وبين الأدفونش قتال شديد، نصر الله فيه المسلمين، وانهزم الفرنج وقتل منهم ما لا يحصى، حتى جمعوا من رؤوسهم تلاً وأذنوا عليه، وملك يوسف غرناطة، وأخذها من صاحبها عبد الله بن بلكين بن باديس بن حبوس بن مالس بن بلكين بن زبري الصنهاجي. من تاريخ القيروان قال: وأول من حكم من الصناهجة في غرناطة راوي بن بلكين، ثم تركها وعاد إلى إفريقية في سنة عشر وأربعمائة، فملك غرناطة ابن أخيه حبوس بن مالس بن بلكين، وبقي بها حتى توفي في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وولي بعده ابنه باديس بن حبوس، وبقي حتى توفي، وولي بعده ابن أخيه عبد الله بن بلكين بن حبوس، ودام فيها حتى أخذها منه يوسف بن تاشفين في هذه السنة. وذكر صاحب تاريخ القيروان أن أخذ يوسف غرناطة، كان في سنة ثمانين وأربعمائة. ولنرجع إلى ذكر ابن تاشفين. ثم إن يوسف بن تاشفين عبر البحر إلى سبتة، وأخذ معه عبد الله صاحب غرناطة المذكور، وأخاه تميماً إلى مراكش، فكانت غرناطة أول ما ملكه يوسف بن تاشفين من الأندلس. وفيها سار ملكشاه عن حلب ودخل بغداد في ذي الحجة وهو أول قدومه إلى بغداد، ثم خرج إلى الصيد، فصاد من الوحوش شيئاً كثيراً، ثم عاد إلى بغداد واجتمع بالخليفة المقتدي، وأقام ببغداد إلى صفر من سنة ثمانين، وعاد إلى أصفهان. وفيها أقطع السلطان ملكشاه محمد بن شرف الدولة، مسلم بن قريش مدينة الرحبة، وأعمالها، وحران وسروج، والرقة، والخابور، وزوجه بأخته زليخا بنت ألب أرسلان.

ذكر غير ذلك:

وفيها كانت زلازل عظيمة حتى فارق الناس ديارهم، وفيها توفي الشريف أبو نصر الزيني العباسي، نقيب الهاشميين وهو محدث مشهور على الإسناد. ثم دخلت سنة ثمانين وأربعمائة وسنة إحدى وثمانين وأربعمائة فيها توفي الملك المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة، وقيل كانت وفاته سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وهو الأقوى. ولكن تابعنا ابن الأثير وإيراده وفاة المذكور في هذه السنة، وكان ملكه في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وكان حسن السيرة حازماً، ولما توفي ملك بعده ابنه مسعود بن إبراهيم، وكان قد زوجه أبوه بابنة السلطان ملكشاه. وفيها جمع أقسنقر صاحب حلب عساكره وسار إلى قلعة شيزر، وصاحبها نصر بن علي بن منقذ، وضيق عليه ونهب الربض، ثم صالحه ابن منقذ المذكور، فعاد أقسنقر إلى حلب. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة فيها سار السلطان ملكشاه بجيوش لا تحصى كثرة، إلى ما وراء النهر، وعبر جيحون وسار إلى بخارى، وملك ما على طريقه من البلاد، ثم ملك بخارى، ثم سار إلى سمرقند فملكها وأسر صاحبها أحمد خان وأكرمه، ثم سار السلطان إلى كاشغر فبلغ إلى بوزكند، وأرسل إلى ملك كاشغر يأسره بإقامة الخطبة له والسكة، فأجاب إلى ذلك، وسار ملك كاشغر وحضر عند السلطان ملكشاه، فأكرمه السلطان وعظمه وأعاده إلى ملكه، ثم رجع السلطان إلى خراسان. ذكر غير ذلك: فيها عمرت منارة جامع حلب، وقام بعملها القاضي أبو الحسن بن الخشاب، وكان بحلب ليت نار قديم، ثم صار أتون حمام، فأخذ ابن الخشاب المذكور حجارته وبنى بها المأذنة المذكورة، فسعى بعض حسدة ابن الخشاب به إلى أقسنقر، وقال: إن هذه الحجارة لبيت المال، فأحضره أقسنقر وحدثه في ذلك، فقال ابن الخشاب: يا مولانا إني عملت بهذه الحجارة معبداً للمسلمين، وكتبت عليه اسمك، فإن رسمت غرِّمت ثمنها. فأجابه أقسنقر إلى إتمام ذلك، من غير أن يأخذ منه شيئاً. وفيها توفي عاصم بن محمد بن الحسن البغدادي من أهل الكرخ، وكان مطبوعاً كيسّاً وله شعر حسن فمنه: ماذا على متلوّن الأخلاق ... لو زارني فأبثه أشواقي وأبوح بالشكوى إليه تذللاً ... وأفضُّ ختم الدمع من آماقي أسر الفؤاد ولم يرق لموثق ... ما ضره لو منَّ بالإطلاق إن كان قد لسعت عقارب صدغه ... قلبي فإن رضا به ترياقي ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة فيها توفي فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير، بالموصل، في المحرم، منها، وكان مولده بالموصل سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وتنقل في الخدم،

فخدم بركة بن المقلد حتى قبض على أخيه حقرواش، ثم سار إلى حلب، فوزر لمعز الدولة ثمال بن صالح بن مرداس، ثم مضى إلى نصر الدولة أحمد بن مروان، صاحب ديار بكر، فوزر له ثم وزر لولده، ثم سار إلى بغداد فولي وزارة الخليفة، ثم سار مع السلطان ملكشاه، ففتح له ديار بكر وأخذها من بني مروان. وفي هذه السنة في شعبان كان صعود الحسن بن الصباح مقدم الإسماعيلية على قلعة الألموت وظهور دعوته. ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمائة فيها تولى عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير وزارة الخليفة المقتدي. ملك أمير المسلمين بلاد الأندلس في هذه السنة سار يوسف بن تاشفين أمير المسلمين من مراكش إلى سبتة وأقام بها، وسير العساكر مع شير بن أبي بكر إلى الأندلس، فعبروا البحر وأتوا إلى مدينة مرسية، فملكوها وأخذوها من صاحبها أبي عبد الله بن طاهر، ثم ساروا إلى مدينة شاطبة ودانية فملكوهما، وكانت بلنسية قد ملكها الفرنج، ثم أخلوها فملكها عسكر أمير المسلمين، وعمرها، وكان يوسف أمير المسلمين، قد ملك غرناطة فيما قبل، على ما تقدم ذكره، ثم سار إلى أشبيلية، فحصروها وبها صاحبها، المعتمد بن عباد، فملكوها وأخذوا المعتمد بن عباد صاحبها، وأرسلوه إلى يوسف بن تاشفين فحبسه حتى مات، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، ولما فرغ شير وعساكر يوسف بن تاشفين من إشبيلية ساروا إلى المرية، وكان بها صاحبها، محمد بن صمادح بن معن، فلما بلغه أخذ إشبيلية، ومسير العسكر إليه، مات غماً وكمداً، ولما مات سار ولده الحاجب بن محمد بن صمادح بأهله وماله عن المرية في البحر، إلى بلاد بني حماد، المتاخمين لإفريقية فأحسنوا إليهم، ثم قصد شير بطليوس فأخذها من صاحبها عمر بن الأفطس، وكان عمر بن الأفطس ممن أعان شير على ابن عباد حتى ملك إشبيلية، ثم رجع ابن الأفطس إلى بطليوس، فسار إليه شير وملكها منه، وأخذ عمر بن الأفطس وولديه الفضل والعباس ابني عمر المذكور فقتلهم صبراً، ولم يترك شير من ملوك الأندلس سوى بني هود، فإنه لم يقصد بلادهم، وهي شرق الأندلس، وكان صاحبها المستعين بالله بن هود يهادي يوسف بن تاشفين ويخدمه، قبل أن يقصد بلاد الأندلس فرعى له ذلك حتى أنه أوصى ابنه علي بن يوسف بن تاشفين عند موته، بترك التعرض إلى بلاد بني هود. استيلاء الفرنج على صقلية قد تقدم ذكر فتح صقلية، وتوارد الولاة عليها من جهة ابن الأغلب، ثم من جهة الخلفاء العلويين، فلما كان سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة كان الأمير على صقلية أبا الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن الحسين، من جهة العزيز خليفة مصر، فأصاب يوسف المذكور فالج، وبطل جانبه الأيسر، فاستناب ابنه جعفر بن يوسف وبقي جعفر أميراً بصقلية إلى سنة عشر

وأربعمائة، فثار به أهل صقلية وحصروه بقصره لسوء سيرته، وكان أبو يوسف حينئذ حياً، مفلوجاً فخرج، إلى أهل صقلية في محفة فبكوا عليه وشكوا ابنه جعفر، وسألوا أن يولي عليهم ابنه أحمد، المعروف بالأكحل، ففعل يوسف ذلك، ثم سير يوسف ابنه جعفر إلى مصر، وسار هو بعده، ومعهما أموال جليلة، وكان ليوسف المذكور من الدواب أربعة عشر ألف حجرة سوى البغال وغيرها، واستمر الأكحل في صقلية، وأحسن السيرة، وبث السرايا في بلاد الكفار، وأطاعه جميع قلاع صقلية وبلادها التي للمسلمين. ثم حصل بين الأكحل وبين أهل صقلية وحشة، فسار بعض أهل صقلية إلى إفريقية، إلى المعز ابن باديس فأرسل المعز بن باديس إلى صقلية جيشاً مع ابنه عبد الله بن المعز بن باديس في سنة سبع وعشرين وأربعمائة، فحصروا الأكحل في الخالصة وقتل الأكحل في الحصار. ثم إن أهل صقلية كرهوا عسكر المعز، فقاتلوهم، فانهزم عسكر المعز وابنه عبد الله وقتل منهم ثمانمائة رجل، ورجعوا في المراكب إلى إفريقية وولى أهل صقلية عليهم أخا الأكحل واسمه الصمصام بن يوسف، واضطربت أحوال أهل صقلية عند ذلك واستولى الأراذل، ثم أخرجوا الصمصام وانفرد كل إنسان ببلد، فانفرد القائد عبد الله بن منكوت بمازر وطرابنش وغيرهما، وانفرد القائد علي بن نعمة المعروف بابن الحواش بقصريانة وجرجنت وغيرهما، وانفرد ابن التمنة بمدينة سيرقوس وقطانية، فوقع بينهم، واستنصر ابن التمنة بالفرنج الذين بمدينة مالطة، واسم ملكهم رجار، وهون عليهم أمر المسلمين، فسار الفرنج وابن التمنة إلى البلاد التي بأيدي المسلمين، في سنة أربع وأربعين وأربعمائة واستولوا على مواضع كثيرة من الجزيرة، وفارق الجزيرة حينئذ خلق كثير من أهلها من العلماء والصالحين، وسار جماعة إلى المعز بن باديس إلى إفريقية. ثم استولى الفرنج على غالب بلاد صقلية وحصونها، وليس لهم مانع، ولم يثبت بين أيديهم غير قصريانة وجرجنت وحصرهما الفرنج، وطال الحصار عليهما حتى أكل أهلهما الميتة، فسلم أهل جرجنت أولاً وبقيت قصريانة بعدها ثلاث سنين، ثم أذعنوا، وملك رجار جميع الجزيرة في هذه السنة، أعني سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ثم مات رجار قبل سنة تسعين، وتولى بعده ولده وسلك طريقة ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب والجاندارية وغير ذلك، وأسكن في الجزيرة الفرنج مع المسلمين، وأكرم المسلمين ومنع من التعدي عليهم وقربهم. وصول السلطان ملكشاه إلى بغداد في هذه السنة في رمضان، وصل السلطان ملكشاه إلى بغداد، ووصل إليه أخوه تنش من دمشق، وأقسنقر من حلب، ووصل إليه غيرهما من زعماء الأطراف وعمل الميلاد ببغداد، واحتفل له الناس احتفالاً عظيماً، وأكثر الشعراء من وصف تلك الليلة. وفي هذه السنة أمر ملكشاه بعمل الجامع المعروف بجامع السلطان ببغداد، وعمل قبلته بهرام منجمه،

وجماعة من أصحاب الرصد، وابتدأ أمراء السلطان الكبار بعمل مساكن لهم ببغداد، بحيث إذا قدموا إلى بغداد ينزلون فيها. فتفرق شملهم بالموت والقتل بعد ذلك عن قريب. وفيها توفي الأمير أرتق ابن أكسك التركماني، جد الملوك أصحاب ماردين، مالكاً للقدس منذ قدم إلى تنش حسبما تقدم ذكره، ولما توفي أرتق استقرت القدس لولديه إيلغازي وسقمان ابني أرتق، إلى أن سار الأفضل أمير الجيوش من مصر، وأخذ القدس منهما فسار إيلغازي وسقمان إلى الشرق، فكان منهما ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة خمس وثمانين وأربعمائة: استيلاء تنش على حمص وغيرها كان السلطان ملكشاه قد أمر أقسنقر بمساعدة أخيه تنش على ملك الشام، وما بأيدي خليفة مصر العلوي، من البلاد، فسار أقسنقر مع تنش، ونزل على حمص، بها صاحبها خلف بن ملاعب، فملك تنش حمص، وأمسك ابن ملاعب وولديه، ثم سار تنش إلى عزقة فملكها ثم سار إلى أفامية فملكها. مقتل نظام الملك الحسن بن علي بن إسحاق وسببه أنه حصل بين ملكشاه وبين نظام الملك وحشة، فلما كان عاشر رمضان من هذه السنة، بعد الإفطار، وهم بالقرب من نهاوند، وقد انصرف نظام الملك إلى خيمة حرمه، وثب عليه صبي ديلمي في صورة مستعط، وضرب نظام الملك بسكين فقضى عليه، وأدرك أصحاب نظام الملك ذلك الصبي فقتلوه، وحصل للعسكر بسبب مقتله شوشة، فركب السلطان وسكن العسكر، وكان نظام الملك قد كبر، فإن مولده سنة ثمان وأربعمائة، وكان قتله بتدبير من السلطان ملكشاه، ومات السلطان ملكشاه بعده بخمسة وثلاثين يوماً على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وكان نظام الملك من أبناء الدهاقين بطوس، وماتت أم نظام الملك وهو رضيع فكان يطوف به والده على المرضعات فيرضعنه حسبة، ثم انتشأ نظام الملك وتعلم العربية، وسمع الحديث، ثم اشتغل بالأعمال السلطانية، ولم يزل الدهر يعلو به حتى خدم طغريل بك وصار وزيره، واستمر على وزارته، ولما صار الملك إلى ألب أرسلان كان نظام الملك مع ابنه ملكشاه بن ألب أرسلان، وقام بأمره حتى صارت السلطنة إلى ملكشاه، فبلغ نظام الملك من المنزلة ما لم يبلغه غيره من الوزراء، وقرب العلماء وبنى المدارس في سائر الأمصار، وأسقط المكوس وأزال لعن الأشعرية من المنابر، وكان قد فعله عميد الملك الكندري كما تقدم ذكره، وأوصافه كثيرة حسنة رحمه الله تعالى. وفاة السلطان ملكشاه كان السلطان ونظام الملك قد سارا عن بغداد في العام الماضي إلى أصفهان فعادا من أصفهان

وحال أخيه بركيارق بن ملكشاه:

في هذه السنة متجهين إلى بغداد، فقتل نظام الملك بالقرب من نهاود، كما ذكر، وأتم السلطان السير ودخل بغداد، في الرابع والعشرين من رمضان هذه السنة، ثم خرج السلطان ملكشاه من بغداد إلى الصيد، وعاد ثالث شوال مريضاً بحمى محرقة، وتوفي ليلة الجمعة نصف شوال، وهو ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وكان مولده في سنة سبع وأربعين وأربعمائة. وكان من أحسن الناس صورة ومعنى، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى بلاد اليمن، وحملت له ملوك الروم الجزية ولم يفته مطلب، وكانت أيامه أيام عدل وسكون وأمن، فعمرت البلاد ودرت الأرزاق، وعمر الجامع ببغداد، وعمل المصانع بطريق مكة، وكان غاوياً بالصيد، وكان يتصدق بعدد كل وحش يصيده بدينار، وصاد مرة صيداً كثيراً تقديره عشرة آلاف، فتصدق بعشرة آلاف دينار. ملك الملك محمود بن ملكشاه وحال أخيه بركيارق بن ملكشاه: لما مات السلطان ملكشاه، أخفت زوجته تركان خاتون موته، وفرقت الأموال في الأمراء، وسارت بهم إلى أصفهان، واستحلفت العسكر لولدها محمود، وعمره أربع سنين وشهور، وخطب له في بغداد وغيرها، وكان تاج الملك هو الذي يدير الأمر بين يدي تركان خاتون، وأما أخوه بركيارق، فإنه هرب من أصفهان لما وصلت تركان خاتون إليها، وانضم إلى بركيارق النظامية لبغضهم تاج الملك، لأنه هو الذي سعى في نظام الملك حتى كان من قتله ما كان، فقوي بركيارق بهم، فأرسلت تركان خاتون عسكراً إلى بركيارق والنظامية، فاقتتلوا بالقرب من بروجرد فانهزم عسكر خاتون وسار بركيارق في أثرهم وحصرهم بأصفهان، وكان تاج الملك في عسكر تركان خاتون، فأخذ أسيراً، وأراد بركيارق الإحسان إلى تاج الملك وأن يوليه الوزارة، فوثبت النظامية عليه فقتلوه، وكان تاج الملك المذكور ذا فضائل جمة، وخرجت هذه السنة والأمر على ذلك. ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة فيها خرج من أصفهان الحسن بن نظام الملك إلى بركيارق، وهو محاصر لأصفهان، فأكرمه وولاه وزارته، ولقبه عز الملك. وفيها تحرك تنش من دمشق لطلب السلطنة بعد موت أخيه ملكشاه، واتفق معه أقسنقر صاحب حلب، وخطب له باغي سيان صاحب أنطاكية، وبزان صاحب الرها وسار تنش ومعه أقسنقر فافتتح نصيبين عنوة، ثم قصد الموصل، وكنا ذكرنا في سنة سبع وسبعين وأربعمائة أنه لما قتل شرف الدولة، مسلم بن قريش صاحب الموصل وحلب وغيرهما، استولى على الموصل إبراهيم بن قريش أخو مسلم، ثم إن ملكشاه قبض على إبراهيم سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وأخذ منه الموصل، وبقي إبراهيم معه حتى مات ملكشاه، فأطلق إبراهيم وسار إلى الموصل وملكها، فلما قصد تنش في هذه السنة الموصل، خرج إبراهيم

ذكر غير ذلك:

لقتاله، والتقوا بالمضيع من أعمال الموصل، وجرى بينهم قتال شديد، انهزمت فيه المواصلة، وأخذ إبراهيم بن قريش أسيراً وجماعة من أمراء العرب، فقتلوا صبرا، وملك تنش الموصل، واستناب تنش على الموصل علي بن مسلم بن قريش، وأمه ضيفة عمة تنش، وأرسل تنش إلى بغداد يطلب الخطبة فتوقفوا فيها، ثم سار تنش واستولى على ديار بكر، وسار إلى أذربيجان وكان قد استولى بركيارق على كثير منها، فسار بركيارق إلى عمه تنش ليمنعه، فقال أقسنقر: نحن إنما أطعنا تنش لعدم قيام أحد من أولاد السلطان ملكشاه، أما إذا كان بركيارق ابن السلطان قد تملك فلا نكون مع غيره، وخلى أقسنقر تنش ولحق ببركيارق، فضعف تنش لذلك وعاد إلى الشام. ذكر غير ذلك: في هذه السنة ملك عسكر المستنصر بالله العلوي خليفة مصر مدينة صور. ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة في هذه السنة يوم الجمعة رابع عشر المحرم خطب لبركيارق ببغداد. وفاة المقتدي بأمر الله في هذه السنة توفي الخليفة المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن محمد ذخيرة الدين بن القائم، مات فجأة يوم السبت خامس عشر المحرم، وكان عمر المقتدي ثمانياً وثلاثين سنة وثمانية أشهر وأياماً، وخلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر، وأمه أم ولد أرمنية تسمى أرجوان أدركت خلافته، وخلافة ابنه المستظهر بالله وخلافة ابن ابنه المسترشد بالله، وكان المقتدي قوي النفس عظيم الهمة. خلافة المستظهر بالله وهو ثامن عشرينهم، لما توفي المقتدي كان بركيارق قد قدم إلى بغداد، فأخذت البيعة عليه للمستظهر بالله أبي العباس أحمد وبايعه الناس، وكان عمر المستظهر لما بويع بالخلافة ست عشرة سنة وشهرين، قتل أقسنقر والخطبة لتنش ببغداد لما عاد تنش من أذربيجان إلى الشام، أخذ في جمع العساكر، وكثرت جموعه، وجمع أقسنقر العسكر بحلب، وأمده بركيارق بالأمير كربغا، فاجتمع كربغا مع أقسنقر، والتقوا مع تنش عند نهر سبعين، قريباً من تل سلطان، وبينه وبين حلب ستة فراسخ، واقتتلوا فخامر بعض عسكر أقسنقر وصار مع تنش وانهزم الباقون، وثبت أقسنقر فأخذ أسيراً وأحضر إلى تنش، فقال تنش لأقسنقر: لو ظفرت أبي ما كنت صنعت؟ قال: كنت أقتلك. قال تنمق: فأنا أحكم عليك بما كنت تحكم علي به فقتل أقسنقر صبراً. وسار تنش إلى حلب فملكها المؤمنين أاسربوازار

ذكر غير ذلك:

وقتله، وأسر كربغا وأرسله إلى حمص فسجنه بها، ثم استولى تنش على حران والرها، ثم سار تنش إلى بلاد الجزرية فملكها، ثم ملك ديار بكر خلاط، وسار إلى أذربيجان فملك بلادها. ثم سار إلى همذان فملكها، وأرسل يطلب الخطبة ببغداد من المستظهر بالله فأجيب إلى ذلك، ولما بلغ بركيارق استيلاء عمه تنش على أذربيجان سار إلى أربل ومنها إلى بلد شرحاب الكردي ابن بدر، إلى أن قرب من عسكر عمه تنش، ولم يكن مع بركيارق غير ألف رجل، وكان مع عمه خمسون ألف رجل، فسارت فرقة من معسكر تنش فكبسوا بركيارق، فهرب إلى أصفهان، وكانت تركان خاتون قد ماتت، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، فدخل بركيارق أصفهان وبها أخوه محمود، فلما دخل بركيارق أصفهان احتاط عليه جماعة من كبراء عسكر أخيه محمود وأرادوا أن يسملوا بركيارق، فلحق محموداً جدري قوى، فتوقفوا في أمر بركيارق لينظروا ما يكون من محمود، فمات محمود من ذلك في سلخ شوال من هذه السنة، فكان هذا فرحاً بعد شدة لبركبارق، وكان مولد محمود سنة ثمانين وأربعمائة في صفر. ثم إن بركيارق جدر بعد محمود وعوفي فاجتمعت عليه العساكر، وكان منه ومن تنش ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفاة أمير الجيوش في هذه السنة في ربيع الأول توفي بمصر أمير الجيوش بدر الجمال، وقد جاوز ثمانين سنة، وكان هو الحاكم في دولة المستنصر، والمرجوع إليه، ولما مات قام بما كان إليه من الأمر ابنه الأفضل. وفاة المستنصر العلوي في هذه السنة في ثامن ذي الحجة، توفي المستنصر بالله أبو تميم معد بن أبي الحسين علي الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم، وكانت خلافة المستنصر ستين سنة وأربعة أشهر، وكان عمره سبعاً وستين سنة، وهو الذي خطب له البساسيري ببغداد، ولقي المستنصر شدائد وأهوالاً أخرج فيها أمواله وذخائره، حتى لم يبق له غير سجادته التي يجلس عليها، وهو مع هذا صابر غير خاشع، ولما مات ولي خلافة مصر بعده ابنه أبو القاسم أحمد المستعلي بالله. ذكر غير ذلك: وفي هذه السنة توفي أمير مكة محمد بن أبي هاشم الحسيني، وقد جاوز سبعين سنة. وتولى بعده الأمير قاسم بن أبي هاشم. وفي هذه السنة في رمضان توفيت تركان خاتون امرأة ملكشاه، التي قدمنا ذكرها، وكانت قد برزت من أصفهان لتتصل بتاج الدولة تنش، فمرضت وعادت إلى أصفهان وماتت، ولم يكن قد بقي معها غير قصبة أصفهان. ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة:

مقتل صاحب سمرقند في هذه السنة اجتمع قواد عسكر أحمد خان صاحب سمرقند، وقبضوا عليه بسبب زندقته، ولما قبضوه أحضروا الفقهاء والقضاة، وأقاموا خصوماً ادعوا عليه الزنذقة، فجحد، فشهد عليه جماعة بذلك، وأفتى الفقهاء بقتله، فخنقوه وأجلسوا ابن عمه مسعود مكانه، قدرخان، واسمه جبريل بن عمر، المقدم الذكر في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وقتل السلطان سنجر جبريل المذكور، وولي مكانه محمد خان بن سليمان بن داود بن إبراهيم بن طفغاج وله نيف وعشرون سنة، واستمر في ولايته إلى سنة خمس عشرة وخمسمائة، ولم يقع لنا خبر أحد منهم بعد المذكور. مقتل تنش لما انهزم بركيارق من تنش ودخل أصفهان حسب ما ذكرنا، استولى تنش على بلاد أذربيجان ونهب جرباذقان، ثم سار إلى الري وبركيارق مريض بالجدري، فلما عوفي سار بالعساكر من أصفهان إلى عمه تنش، والتقوا بموضع قريب من الري، فانهزم عسكر تنش وثبت هو، فقتل في صفر من هذه السنة، واستقامت السلطنة لبركيارق وإذا أراد الله تعالى أمراً فلا مرد له، وإلا فلو تبع بركيارق لما كبسه عسكر تنش، وهرب إلى أصفهان مائة فارس، أخذوه لأنه بقي على باب أصفهان عدة أيام لا يمكن من الدخول إليها، فلما دخلها أراد الأمراء أن يسملوه، فاتفق أن أخاه محموداً حمّ ثاني يوم وصوله وجدّر فمات، وقام هو مقامه ثم جدر، ولو قصده عمه تنش قبل دخوله أصفهان، أو وقت مرض أخيه، أو وقت مرضه، لملك البلاد، ولله سر في علاه، وإنما كلام الغوى ضرب من الهذيان. ذكر حال رضوان ودقاق أبي تنش وكان دقاق في الوقعة مع أبيه لما قتل، وأما رضوان فبلغه مقتل أبيه وهو بالقرب من هيت متوجهاً للاستيلاء على العراق، فلما بلغه مقتل أبيه رجع إلى حلب، وبها من جهة والده تنش أبو القاسم حسن بن علي الخوارزمي، ولحق برضوان جماعة من قواد أبيه، ثم لحقه بحلب أخوه دقاق، وكان معه أيضاً أخواه الصغيران أبو طالب وبهرام، وكانوا كلهم مع أبي القاسم حسن الخوارزمي كالضيوف، وهو المستولي على البلد، ثم إن رضوان كبس أبا القاسم الخوارزمي نصف الليل واحتاط عليه وطيب قلبه، وخطب لرضوان بحلب، وكان مع رضوان الأمير باغي سيان بن محمد التركماني صاحب أنطاكية، ثم سار رضوان بمن معه إلى ديار بكر للاستيلاء عليها، وقصد سروج، فسبقه إليها سقمان بن أرتق واستولى على سموج، ومنع رضوان عنها، فسار رضوان إلى الرها واستولى عليها، وأطلق

ذكر غير ذلك من الحوادث:

قلعة الرها لباغي سيان التركماني صاحب أنطاكية، ثم وقع الاختلاف في عسكر رضوان بين باغي سيان وجناح الدولة، وكان جناح الدولة مزوجاً بأم رضوان، وهو من أكبر القواد، فعاد رضوان إلى حلب وسار، باغي سيان إلى أنطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمي، ودخل رضوان إلى حلب. وأما دقاق فكاتبه ساوتكين الخادم، الوالي بقلعة دمشق يستدعيه سراً ليملكه دمشق، فهرب دقاق من حلب سراً وجد السير، فأرسل أخوه رضوان خيلاً خلفه فلم يدركوه، ووصل دقاق إلى دمشق، فسلمها إليه ساوتكين، واستبش به، ووصل إلى دقاق طغتكين ومعه جماعة من خواص تنش، فإن طغتكين كان مع تنش في الوقعة وأسر ثم خلص من الأسر، ووصل إلى دمشق فلقيه دقاق وأكرمه، وكان طغتكين زوج والدة دقاق، واتفق دقاق وطغتكين على ساوتكين الخادم فقتلاه، ثم سار باغي سيان التركماني صاحب أنطاكية إلى دقاق، ووصل إلى دمشق ومعه أبو القاسم حسن الخوارزمي الذي كان مستولياً على حلب، فجعله وزيراً لدقاق. ذكر غير ذلك من الحوادث: وفي هذه السنة، توفي المعتمد بن عباد، صاحب إشبيلية وغيرها من الأندلس، مسجوناً بأغمات، وأخباره مشهورة، وله أشعار حسنة. قال صاحب القلائد. إن المعتمد بن عباد لما كان مسجوناً بأغمات، دخل عليه من بنيه يوم عيد، من يسلم عليه ويهنيه، وفيهم بناته وعليهن أطمار كأنها كسوف وهن أقمار، وأقدامهن حافية، وآثار نعمتهن عافية، فقال المعتمد: فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً ... فجاءك العيد في أغمات مأسوراً ترى بناتك في الأطمار جائعة ... يغزلن للناس ما يملكن قطميرا يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا لا خدّ إلا تشكى الجدب ظاهره ... وليس إلا مع الأنفاس ممطورا قد كان دهرك أن تأمره ممتثلاً ... فردك الدهر منهياً ومأمورا من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا ولأبي بكر بن اللبانة يرثي المعتمد بن عباد المذكور من قصيدة طويلة وهي: لكل شيء من الأشياء ميقات ... وللمنا من منايا هن غايات والدهر في صبغة الحرباء منغمس ... ألوان حالاته فيها استحالات ونحن من لعب الشطرنج في يده ... وربما قمرت بالبيدق الشاة ومنها: من كان بين الندا والبأس أنصله ... هندية وعطاياه هنيدات رماه من حيث لم تستره سابغة ... دهر مصيباته نبل مصيبات لهفي على آل عباد فإنهم ... أهلة ما لها في الأفق هالات

تمسكت بعرى اللذات ذاتهم ... يا بئس ما جنت اللذات والذات ومنها: فجعت منها بإخوان ذوي ثقة ... فأتوا وللدهر في الإخوان آفات واعتضت في آخر الصحراء طائفة ... لغاتهم في جميع الكتب ملغاة يعني البربر أعني ابن تاشفين وعسكره. وفيها سار أبو حامد الغزالي إلى الشام وترك التدريس في النظامية لأخيه نيابة عنه، وتزهد ولبس الخشن، وزار القدس وحج، ثم عاد إلى بغداد وسار إلى خراسان. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد الحميدي الأندلسي، وهو مصنف الجمع بين الصحيحين، وكان ثقة فاضلاً، ومولده قبل العشرين وأربعمائة، وهو من أهل ميورقة، وكان عالماً بالحديث، سمع بالمغرب ومصر والشام والعراق، وكان نزهاً عفيفاً، وله تاريخ، كراسة واحدة أو كراستان، ختمه بخلافة المقتدي. وفيها توفي علي بن عبد الغني المقري الضرير الحصري القيرواني، الشاعر المشهور. سافر من القيروان إلى الأندلس، ومدح المعتمد، وغيره، ثم سار إلى طنجة من بر العدوة، فتوفي بها، وله أشعار جيدة منها قصيدته التي منها: يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده رقد السمار فأرقه ... أسف للبين يردده ومنها: هاروت يعنعن فن السح ... ر إلى عينيك ويسنده وإذا أغمدت اللحظ قتل ... ت فكيف وأنت تجرده ما أشرك فيك القلب فل ... في نار الهجر تخلده ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمائة ذكر ملك كربوغا الموصل كان تنش قد حبس كربوغا بحمص لما قتل أقسنقر، كما قدمنا ذكره في سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وبقي كربوغا في الحبس حتى أرسل بركيارق إلى رضوان، صاحب حلب يأمره بإطلاقه فأطلقه وأطلق أخاه الطنطاش، واجتمع على كربوغا البطالون وقصد نصيبين وبها محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش فطلع محمد إلى كربوغا واستحلفه، ثم غدر كربوغا بمحمد وقبض عليه وحاصر نصيبين وملكها، ثم سار إلى الموصل وقتل في طريقه محمد بن مسلم بن قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب، وحصر الموصل وبها علي بن مسلم أخو محمد المذكور من حين استنابه بها تنش على ما ذكرناه، فلما ضاق عليه الأمر هرب علي بن مسلم المذكور من الموصل إلى صدقة بن مزيد بالحلة، وتسلم كربوغا الموصل بعد حصار تسعة أشهر، ثم إن الطنطاش استطال على أخيه كربرغا، فأمر بقتله، فقتل الطنطاش في ثالث يوم استولى كربوغا على الموصل وأحسن كربرغا السيرة فيها. وفيها استولى

عسكر خليفة مصر العلوي على القدس، في شعبان، وأخذوه من إيلغازي وسقمان بن أرتق. ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة ذكر مقتل أرسلان أرغون كان للسلطان ملكشاه أخ اسمه أرسلان أرغون بن ألب أرسلان، وكان مع أخيه ملكشاه، فلما مات ملكشاه سار أرسلان أرغون واستولى على خراسان، وكان شديد العقوبة لغلمانه، كثير الإهانة لهم، وكانوا يخافونه عظيماً، فدخل عليه غلام له وليس عنده أحد، فأنكر عليه أرسلان أرغون تأخره عن الخدمة، وأخذ الغلام يعتذر فلم يقبل عذره، فوثب الغلام وقتل أرسلان أرغرن بسكين،، وكان مقتله في المحرم من هذه السنة، ولما قتل أرسلان أرغون سار بركيارق إلى خراسان واستولى عليها، وأرسل إلى ما وراء النهر، فأقيمت له الخطبة بتلك البلاد وسلم بركيارق خراسان إلى أخيه السلطان سنجر بن ملكشاه، وجعل وزيره أبا الفتح علي بن الحسين الطغرائي. ذكر ابتداء دولة بيت خوارزم شاه وأولهم محمد خوارزم شاه بن أنوش تكين، وكان أنوش تكين مملوكاً لرجل من غرشتان ولذلك قيل له أنوش تكين غرشه، فاشتراه منه أمير من السلجوقية اسمه بلكابل وكان أنوشتكين حسن الطريقة فكبر وعلا محله، وصار أنوشتكين مقدماً مرجوعاً إليه، وولد له محمد خوارزم شاه المذكور، فرباه والده أنوشتكين وأحسن تأديبه، فانتشأ محمد عارفاً أديباً، وتقدم بالعناية الأزلية، واشتهر بالكفاية وحسن التدبير، فلما قدم الأمير داذا الحبشي إلى خراسان وهو من أمراء بركيارق؛ كان قد أرسله بركيارق لتهدئة أمر خراسان؛ بسبب فتنة كانت قد وقعت فيها من الأتراك، قتل فيها النائب على خوارزم، فوصل داذا وأصلح أمر خوارزم، واستعمل على خوارزم في هذه السنة محمد بن أنوشتكين المذكور، ولقبه خوارزم فقصر محمد أوقاته على معدلة ينشرها ومكرمة يفعلها، وقرب أهل العلم والدين، فعلا محله وعظم ذكره، ثم أقره السلطان سنجر على ولاية خوارزم، وعظمت منزلة محمد خوارزم شاه المذكور عند السلطان سنجر، ولما توفي خوارزم شاه محمد، ولي بعده ابنه أطسز فمد غلال الأمن وأفاض العدل. ذكر الحرب بين رضوان وأخيه دقاق فيها سار رضوان من حلب إلى دمشق ليأخذها من أخيه دقاق، وسار مع رضوان باغي سيان ابن محمد التركماني صاحب أنطاكية وجناح الدولة، ووصلوا إلى دمشق فلم ينل منها غرضاً، فارتحل منها رضوان إلى القدس فلم يملكها وتراجعت عنه عساكره فرجع إلى حلب،

ذكر غير ذلك من الحوادث:

ثم فارق باغي سيان رضوان وسار إلى دقاق، وحسن له قصد أخيه رضوان وأخذ حلب منه، فسار دقاق إلى رضوان وجمع رضوان العسكر والترك والتراكمين والتقى مع أخيه على قنسرين، فانهزم دقاق وعسكره ونهبت خيامهم، وعاد رضوان إلى حلب منصوراً، ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق قبل دقاق. ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة، خطب الملك رضوان للمستعلي بأمر الله العلوي خليفة مصر أربع جمع، ثم خشي من عاقبة ذلك فقطعها، وأعاد الخطبة العباسية. وفيها قتلت الباطنية أرغش النظامي بالري، وكان قد بلغ مبلغاً عظيماً بحيث أنه تزوج بابنة ياقوتي عم السلطان بركيارق، وفيها قتلت الباطنية أيضاً الأمير برسق، وكان برسق من أصحاب طغريل بك، وهو أول شحنة كان من جهة السلجوقية ببغداد. ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ذكر مسير الفرنج إلى الشام وملكهم أنطاكية وغيرها وكان مبتدأ خروجهم في سنة تسعين وأربعمائة، فعبروا خليج قسطنطينية وولوا إلى بلاد قليج أرسلان بن سليمان بن قطلمش، وهي قونية وغيرها، وجرى بين قليج أرسلان وبين الفرنج قتال، فانهزم قليج أرسلان من بين يديهم. ثم ساروا إلى بلاد ليون الأرمني وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها تسعة أشهر، وظهر لباغي سان في ذلك شجاعة عظيمة، ثم هجموا أنطاكية عنوة، وخرج باغي سيان بالليل من أنطاكية هارباً مرعوباً، فلما أصبح ورجع وعيه أخذ يتلهف على أهله وأولاده وعلى المسلمين، فلشدة ما لحقه سقط مغشياً عليه، فأراد من معه أن يركبه، فلم يكن فيه من المسكة ما يثبت على الفرس، فتركوه مرمياً واجتاز إنسان أرمني كان يقطع الخشب بباغي سيان بن محمد بن ألب أرسلان التركماني صاحب أنطاكية المذكور، وهو على آخر رمق، فقطع رأسه وحمله إلى الفرنج بأنطاكية، وأما الفرنج فإنهم ملكوا أنطاكية، وكان ذلك في جمادى الأولى من هذه السنة، ووضعوا السيف في المسلمين الذين بها ونهبوا أموالهم. ذكر مسير المسلمين إلى حرب الفرنج بأنطاكية لما بلغ كربوغا صاحب الموصل ما فعله الفرنج بأنطاكية، جمع عسكره وسار إلى مرج دابق، واجتمع إليه دقاق بن تنش صاحب دمشق، وطغتكين أتابك، وجناح الدولة صاحب حمص وهو زوج أم الملك رضوان، فإنه كان قد فارق رضوان من حلب وسار إلى حمص فملكها، وغيرهم من الأمراء والقواد، وساروا حتى نازلوا أنطاكية، وانحصر الفرنج بها، وعظم خوفهم حتى طلبوا من كربوغا أن يطلقهم فامتنع، ثم إن كربوغا أساء السيرة

ذكر غير ذلك من الحوادث:

فيمن اجتمع معه من الملوك والأمراء المذكورين، وتكبر عليهم، فخبثت نياتهم على كربوغا، ولما ضاق على الفرنج الأمر وقلت الأقوات عندهم، خرجوا من أنطاكية واقتتلوا مع المسلمين، فولى المسلمون هاربين، وكثر القتل فيهم، ونهبت الفرنج خيامهم، وتقووا بالأقوات والسلاح ولما انهزمت المسلمون من بين أيديهم سار الفرنج إلى المعرة فاستولوا عليها، ووضعوا السيف في أهلها، فقتلوا فيها ما يزيد على مائة ألف إنسان وسبوا السبي الكثير، وأقاموا بالمعرة أربعين يوماً وساروا إلى حمص فصالحهم أهلها. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ذكر ملك الفرنج بيت المقدس كان تنش قد أقطع بيت المقدس للأمير أرتق، فلما توفي صارت القدس لولديه أيلغازي وسقمان ابني أرتق، حتى خرج عسكر خليفة مصر فاستولوا على القدس بالأمان، في شعبان سنة تسع وثمانين وأربعمائة وسار سقمان وأخوه أيلغازي من القدس فأقام سقمان ببلد الرها، وسار أيلغازي إلى العراق، وبقي القدس في يد المصريين إلى الآن فقصده الفرنج وحصروا القدس نيفاً وأربعين يوماً وملكوه يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان من هذه السنة، ولبث الفرنج يقتلون في المسلمين بالقدس أسبوعاً، وقتل من المسلمين في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألف نفس، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن جاور في ذلك الموضع الشريف، وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء، ووصل المستنفرون إلى بغداد في رمضان، فاجتمع أهل بغداد في الجوامع واستغاثوا وبكوا، حتى أنهم أفطروا من عظم ما جرى عليهم، ووقع الخلاف بين السلاطين السلجوقية، فتمكن الفرنج من البلاد، وقال في ذلك المظفر الأبيوردي أبياتاً منها: مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم وشر سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هفوات أيقظت كل نائم وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم يسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم وكم من دماء قد أبيحت ومن دم ... توارى حياء حسنها بالمعاصم أترضى صناديد الأعاريب بالأذى ... وتغضى على ذل كماة الأعاجم فليتهم إذ لم يذودوا حمية ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة قوي أمر محمد بن ملكشاه أخي الملك بركيارق، وهو أخو السلطان لأب وأم، وأمهما أم ولد، واجتمع إليه العساكر واستوزر محمد مؤيد الملك عبيد الله بن نظام الملك وقصد أخاه السلطان بركيارق، وهو بالري فسار بركيارق عن الري، ووصل إليها محمد ووجد والدة أخيه بركيارق زبيدة خاتون قد تخلفت بالري عن ابنها، فقبض عليها مؤيد الملك وأخذ خطها بمال، ثم خنقها، ثم اجتمع إلى محمد كوهرابين شحنة بغداد وكربوغا صاحب الموصل، وأرسل يطلب الخطبة ببغداد، فخطب له بها نهار الجمعة سابع عشر ذي الحجة من هذه السنة. ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة فيها سار بركيارق ودخل بغداد وأعيدت الخطبة له في صفر، ثم سار بركيارق إلى أخيه محمد وجمع كل منهما عساكره واقتتلوا رابع رجب، عند النهر الأبيض وهو على عدة فراسخ من همذان، فانهزم بركيارق وأرسل السلطان محمد إلى بغداد بذلك، فأعيدت خطبته، ولما انهزم بركيارق سار إلى الري واجتمع عليه أصحابه وقصد خراسان واجتمع مع الأمير داذا أمير جيش خراسان، ووقع بين بركيارق وبين أخيه السلطان سنجر

القتال، فانهزم بركيارق وعسكره، وسار بركيارق إلى جرجان، ثم إلى دامغان. ذكر غير ذلك من الحوادث: فيها جمع صاحب ملطية وسيواس وغيرهما، وهو كمشتكين بن طيلو المعروف بابن الدانشمند، وإنما قيل له ابن الدانشمند لأن أباه كان معلم التركمان والمعلم عندهم اسمه الدانشمند، فترقى ابنه حتى ملك هذه البلاد، وقصد الفرنج وكانوا قد ساروا إلى قرب ملطية، وأوقع بهم وأسر ملكهم. وفي هذه السنة توفي أبو علي يحيى بن عيسى بن جذلة الطبيب، صاحب كتاب المنهاج الذي جمع فيه الأدوية والأغذية المفردة والمركبة، كان نصرانياً ثم أسلم، وصنف رسالة في الرد على النصارى وبيان عوار مذهبهم، ومدح فيها الإسلام وأقام الحجة على أنه الدين الحق، وذكر فيها ما قرأه في التوراة والإنجيل في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وأن اليهود والنصارى أخفوا ذلك، وهي رسالة حسنة، وصنف أيضاً في الطب كتاب تقويم الأبدان، وغير ذلك، ووقف كتبه قبل موته، وجعلها في مشهد أبي حنيفة رضي الله عنه. ذكر ابتداء دولة بيت شاهرمن من ملوك خلاط وفي هذه السنة أعمي سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، كان استيلاء سقمان القطبي، وقيل سكمان بالكاف، على خلاط، وكان سكمان المذكور مملوكاً للملك إسماعيل صاحب مدينة مرند من أذربيجان، ولقب إسماعيل المذكور قطب الدين وكان من بني سلجوق. ولذلك قيل لسكمان المذكور القطبي نسبة إلى مولاه قطب الدين إسماعيل المذكور، وانتشأ سكمان المذكور في غاية الشهامة والكفاية، وكان تركي الجنس وكانت خلاط لبني مروان

ملوك ديار بكر، وكان قد كثر ظلمهم لأهل خلاط واتفقوا معه، فسار إليهم سكمان وفتحوا له باب خلاط، وسلموها إليه، وهرب عنها بنو مروان في هذه السنة، واستمر سكمان القطبي مالكاً لخلاط حتى توفي في سنة ست وخمسمائة، وملك خلاط بعده ولده ظهير الدين إبراهيم بن سكمان على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة ذكر الحرب بين الأخوين بركيارق ومحمد قد تقدم ذكر هزيمة بركيارق من أخيه محمد، ثم قتال بركيارق مع أخيه سنجر بخراسان، وهزيمة بركيارق أيضاً، فلما انهزم بركيارق صار إلى خورستان واجتمع عليه أصحابه، ثم أتى عسكر مكرم وكثر جمعه، ثم سار إلى همذان فلحق به الأمير إياز ومعه خمسة آلاف فارس، وسار أخوه محمد إلى قتاله، واقتتلوا ثالث جمادى الآخرة من هذه السنة، وهو المصاف الثاني، واشتد القتال بينهم طول النهار، فانهزم محمد وعسكره، وأسر مؤيد الملك بن نظام الملك وزير محمد، وأحضر إلى السلطان بركيارق فوافقه على ما جرى منه في حق والدته، وقتله السلطان بركيارق بيده، وكان عمر مؤيد الملك لما قتل قريب خمسين سنة، ثم سار السلطان بركيارق إلى الري، وأما محمد فإنه هرب إلى خراسان واجتمع بأخيه سنجر وتحالفا واتفقا، وجمعا الجموع وقصدا أخاهما بركيارق، وكان بالري، فلما بلغه جمعهما سار من الري إلى بغداد وضاقت الأموال على بركيارق، فطلب من الخليفة مالاً، وترددت الرسل بينهما، فحمل الخليفة إليه خمسين ألف دينار، ومد بركيارق يده إلى أموال الرعية، ومرض وقوي به المرض، وأما محمد وسنجر فإنهما استوليا على بلاد أخيهما بركيارق وسارا في طلبه حتى وصلا إلى بغداد، وبركيارق مريض، وقد أيس منه، فتحول إلى الجانب الغربي محمولاً، ثم وجد خفة فسار عن بغداد إلى جهة واسط، ووصل السلطان محمد وأخوه سنجر إلى بغداد فشكى الخليفة المستظهر إليهما سوء سيرة بركيارق، وخطب لمحمد، ثم كان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ملك ابن عمار مدينة جبل كان قد استولى على جبلة القاضي أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة، وحاصره الفرنج بها، فأرسل إلى طغتكين أتابك دقاق صاحب دمشق يطلب منه أن يرسل إليه من يتسلم منه جبلة ويحفظها، فأرسل إليها طغتكين ابنه تاج الملوك توري، فتسلم جبلة وأساء السيرة في أهلها، فكاتب أهل جبلة أبا علي ابن محمد بن عمار صاحب طرابلس، وشكوا إليه ما يفعله توري بهم، فأرسل إليهم عسكراً فاجتمعوا وقاتلوا توري فانهزم أصحابه، وملك عسكر ابن عمار جبلة، وأخذ توري أسيراً وحملوه إلى طرابلس، فأحسن إليه

ذكر غير ذلك:

ابن عمار وسيره إلى أبيه طغتكين وأما القاضي أبو محمد الذي كان صاحب جبلة المعروف بابن صليحة المذكور، فإنه سار بماله وأهله إلى دمشق، ثم إلى بغداد وبها بركيارق، وقد ضاقت الأموال عليه، فأحضره بركيارق وطلب منه مالاً، فحمل أبو محمد بن صليحة جملة طائلة إلى بركيارق. ذكر أحوال الباطنية ويسمون الإسماعيلية أول ما عظم أمرهم بعد وفاة السلطان ملكشاه، وملكوا القلاع فمنها قلعة أصفهان وهي مستجدة بناها السلطان ملكشاه، وكان سبب بنائها: أنه كان في الصيد ومعه رسول ملك الروم، فهرب منه كلب وصعد إلى موضع قلعة أصفهان، فقال رسول الروم لملكشاه: لو كان هذا الموضع ببلادنا لبنينا عليه قلعة، فأمر السلطان ببنائها، وتواردت عليها النواب حتى ملكها الباطنية، وعظم ضررهم بسببها وكان يقول الناس: قلعة يدل عليها كلب، ويشير بها كافر، لا بد وأن يكون آخرها إلى شر. ومن القلاع التي ملكوها: ألموت، وهي من نواحي قزوين، قيل إن بعض ملوك الديلم، أرسل عقاباً على الصيد، فقعد على موضع ألموت، فرآه حصيناً فبنى عليه قلعة وسماها إله الراموت. ومعناه بلسان الديلم تعليم العقاب، ويقال لذلك الموضع وما يجاوره طالقان، وكان الحسن بن الصباح رجلاً شهماً عالماً بالهندسة والحساب والجبر وغير ذلك، وطاف البلاد ودخل على المستنصر العلوي خليفة مصر، ثم عاد إلى خراسان وعبر النهر ودخل كاشغر ثم عاد إلى جهة الموت فاستغوى أهله وملكه. ومن القلاع التي ملكوها قلعة طبس وقهستان، ثم ملكوا قلعة وستمكوه، وهي بقرب أبهر سنة أربع وثمانين وأربعمائة واستولوا على قلعة خاليجان، وهي على خمس فراسخ من أصفهان، وعلى قلعة أزدهن ملكها أبو الفتوح ابن أخت الحسن بن الصباح، واستولوا على قلعة كردكوه، وقلعة الطنبور، وقلعة خلا وخان وهي بين فارس وخورستان، وامتدوا إلى قتل الأمراء الأكابر غيلة، فخافهم الناس وعظم صيتهم، فاجتهد السلطان بركيارق على تتبعهم وقتلهم، فقتل كل من عرف من الباطنية. ذكر غير ذلك: وفي هذه السنة ملك الفرنج مدينة سروج من ديار الجزيرة، فقتلوا أهلها وسبوهم. وفيها ملك الفرنج أيضاً أرسوف بساحل عكا وقبسارية. ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة ذكر وفاة المستعلي وخلافة الآمر وفي هذه السنة توفي المستعلي بأمر الله أبو القاسم أحمد بن المستنصر معد العلوي خليفة مصر لسبع عشرة خلت من صفر، وكان مولده في العشرين من شعبان سنة سبع وستين

وأربعمائة، وكانت خلافته سبع سنين وقريب شهرين، وكان المدبر لدولته الأفضل بن بدر الجمالي أمير الجيوش، ولما توفي بويع بالخلافة لابنه أبي علي منصور، ولقب الآمر بأحكام الله، وكان عمر الآمر لما بويع خمس سنين وشهراً وأياماً، وقام بتدبير الدولة الأفضل بن بدر الجمالي المذكور. ذكر الحرب بين بركيارق وأخيه محمد كان بركيارق بواسط ومحمد ببغداد على ما تقدم ذكره، فلما سار محمد عن بغداد سار بركيارق من واسط إليه والتقوا بروذراور، وكان العسكران متقاربين في العدة فتصافوا ولم يجر بينهما قتال ومشى الأمراء بينهما في الصلح، فاستقرت القاعدة على أن يكون بركيارق هو السلطان ومحمد هو الملك، ويكون لمحمد من البلاد أذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وتفرق الفريقان من المصاف رابع ربيع الأول من هذه السنة، ثم انتقض الصلح وسار كل منهما إلى صاحبه في جمادى الأولى، واقتتلوا عند الري وهو المصاف الرابع، فانهزم عسكر محمد ونهبت خزانته، ومضى محمد في نفر يسير إلى أصفهان وتتبع بركيارق أصحاب أخيه محمد فأخذ أموالهم، ثم سار بركيارق فحصر أخاه محمداً بأصفهان وضيق عليه، وعدمت الأقوات في أصفهان، ودام الحصار على محمد إلى عاشر ذي الحجة، فخرج محمد من أصفهان هارباً مستخفياً، وأرسل بركيارق خلفه عسكراً فلم يظفروا به، ثم رحل بركيارق عن أصفهان ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة وسار إلى همذان. ذكر أحوال الموصل في هذه السنة مات كربوغا بخوي من أذربيجان، كان قد أمره بركيارق بالمسير إليها فمات في خوي في ذي القعدة، واستولى على الموصل موسى التركماني. وكان عاملاً لكربوغا على حصن كيفا فكاتبه أهل الموصل فسار وملك الموصل، وكان صاحب جزيرة ابن عمر رجلاً تركياً يقال له شمس الدولة جكرمش، فقصد الموصل واستولى في طريقه على نصيبين، فخرج موسى التركماني من الموصل إلى قتال جكرمش، فغدر بموسى عسكره وصاروا مع جكرمش، فعاد موسى إلى الموصل، وحصره جكرمش بها مدة طويلة، فاستعان موسى بسقمان بن أرتق، وكان سقمان بديار بكر، وأعطاه حصن كيفا، فاستمر الحصن لسقمان وأولاده إلى آخر وقت، فسار سقمان إليه، فرحل جكرش عن الموصل، وخرج موسى لتلقي سقمان، فوثب على موسى جماعة من أصحابه فقتلوه عند قرية تسمى كوانا ودفن على تل هناك يعرف بتل موسى إلى الآن ورجع سقمان إلى حصن كيفا، ثم عاد جكرمش صاحب الجزيرة إلى الموصل وحصرها، ثم تسلمها صلحاً، وملك جكرمش الموصل وأحسن السيرة فيها.

لعنهم الله تعالى وقتل جناح الدولة صاحب حمص

ذكر ما فعله الفرنج لعنهم الله تعالى وقتل جناح الدولة صاحب حمص في هذه السنة سار صنجيل الأفرنجي في جمع قليل وحصر ابن عمار بطرابلس ثم وقع الصلح على مال حمله أهل طرابلس إليه، فسار صنجيل إلى أنطرطوس ففتحها وقتل من بها من المسلمين، ثم سار صنجيل وحصر حصن الأكراد، فجمع جناح الدولة صاحب حمص العسكر ليسير إليه، فوثب باطني على جناح الدولة وهو بالجامع فقتله، ولما بلغ صنجيل قتل جناح الدولة رحل عن حصن الأكراد إلى حمص ونازلها وملك أعمالها. ذكر غير ذلك فيها قتل المؤيد بن مسلم بن قريش أمير بني عقيل قتله بنو نمير عند هيت، وفيها توفي الأمير منصور بن عمارة الحسيني أمير مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وقام ولده مقامه وهم من ولد المهنا. ثم دخلت سنة ست وتسعين وأربعمائة في هذه السنة في جمادى الآخرة، كان المصاف الخامس بين الأخوين بركيارق ومحمد، ابني ملكشاه فانهزم عسكر محمد أيضاً، وكانت الوقعة على باب خري، وسار بركيارق بعد الوقعة إلى جبل بين مراغة وتبريز كثير العشب والماء، فأقاما به أيام ثم سار إلى زنجان وأما محمد فسار إلى أرجيش على أربعين فرسخاً من موضع الوقعة وهي من أعمال خلاط، ثم سار من أرجيش إلى خلاط. ذكر ملك دقاق الرحبة فيها سار دقاق بن تنش بن ألب أرسلان صاحب دمشق إلى الرحبة فاستولى عليها وملكها وقرر أمرها، ثم عاد إلى دمشق. ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة فيها استولى بلك بن بهرام بن أرتق بن أكسك، وهو ابن أخي سقمان وأيلغازي، على مدينتي عانة والحديثة، وكان لبلك المذكور سروج فأخذها منه الفرنج، فسار واستولى على عانة الحديثة، وأخذهما من بني عيس بن عيسى. وفي هذه السنة في صفر غارت الفرنج على قلعة جعبر والرقة واستاقوا المواشي وأسروا من وجدوه، وكانت الرقة وقلعة جعبر لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي، سلمها إليه السلطان ملكشاه كما تقدم ذكره في سنة تسع وسبعين وأربعمائة لما تسلم منه حلب. ذكر الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه في هذه السنة في ربيع الأول وقع الصلح بين بركيارق ومحمد، وكان بركيارق حينئذ بالري والخطبة له بها وبالجبل وطبرستان وفارس وديار بكر وبالجزيرة والحرمين الشريفين، وكان محمد بأذربيجان والخطبة له بها وببلاد سنجر، فإنه كان يخطب لشقيقه محمد إلى ما وراء النهر، ثم إن بركيارق ومحمداً تراسلاً في الصلح واستقر بينهما، وحلفا على

ذكر غير ذلك من الحوادث

ذلك في التاريخ المذكور، وكان الصلح على أن لا يذكر بركيارق في البلاد التي استقرت لمحمد، وأن لا يتكاتبا بل تكون المكاتبة بين وزيريهما، وأن لا يعارض العسكر في قصد أيهما شاء، وأما البلاد التي استقرت لمحمد، ووقع عليها الصلح فهي: من النهر المعروف باسبيدز إلى باب الأبواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشام، ويكون له من العراق بلاد صدقة بن مزيد، ولما وصلت الرسل إلى المستظهر الخليفة بالصلح وما استقر عليه الحال، خطب لبركيارق ببغداد وكان شحنة بركيارق ببغداد أيلغازي بن أرتق. ذكر ملك الفرنج جبيل وعكا من الشام في هذه السنة سار صنجيل وقد وصله مدد الفرنج من البحر إلى طرابلس وحاصرها براً وبحراً، فلم يجد فيها مطمعاً، فعاد عنها إلى جبيل وحاصرها وتسلمها بالأمان، ثم سار إلى عكا، ووصل إليه من الفرنج جمع آخر من القدس، وحصروا عكا في البر والبحر، وكان الوالي بعكا من جهة خليفة مصر، اسمه بنا ولقبه زهر الدولة الجيوشي، نسبة إلى أمير الجيوش، وجرى بينهم قتال طويل حتى ملك الفرنج عكا بالسيف وفعلوا بأهلها الأفعال الشنيعة، وهرب من عكا بنا المذكور إلى الشام ثم سار إلى مصر، وملوك الإسلام إذ ذاك مشتغلون بقتال بعضهم بعضاً، وقد تفرقت الآراء واختلفت الأهواء وتمزقت الأموال، ثم إن الفرنج قصدوا حران فاتفق جكرمش صاحب الموصل وسقمان بن أرتق ومعه التركمان فتحالفا واتفقا وقصدا الفرنج واجتمعا على الخابور، والتقيا مع الفرنج على نهر البليخ، فنصر الله تعالى المسلمين وانهزمت الفرنج، وقتل منهم خلق كثير وأسر ملكهم القومص. ذكر وفاة دقاق في هذه السنة في رمضان توفي الملك دقاق بن تنش بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق صاحب دمشق، فخطب طغتكين الأتابك بدمشق لابن دقاق وكان طفلاً له سنة واحدة، ثم قطع خطبته وخطب لبلتاش بن تنش عم هذا الطفل في ذي الحجة، ثم قطع خطبة بلتاش وأعاد خطبة الطفل، واستقر طغتكين في ملك دمشق. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة سار صدقة بن مزيد صاحب الحلة إلى واسط واستولى عليها، وضمن البطيحة لمهذب الدولة بن أبي الخير بخمسين ألف دينار. وفيها توفي أمين الدولة أبو سعد الحسن بن موصلايا فجأة، وكان قد أضر، وكان بليغاً فصيحاً، خدم الخلفاء خمساً وستين سنة، لأنه خدم القائم سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وكان نصرانياً فأسلم سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وكان كل يوم تزداد منزلته حتى تاب عن الوزارة، وكان كثير الصدقة جميل

السيرة ووقف أملاكه على وجوه البر. ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة ذكر وفاة بركيارق في هذه السنة ثاني ربيع الآخر توفي السلطان بركيارق بن ملكشماه بن ألب أرسلان بن داود ابن ميكائيل بن سلجوق، وكان مرضه السل والبواسير، وكان بأصفهان، فسار طالباً بغداد، فقوي به المرض في بروجرد، فجمع العسكر وحلفهم لولده ملكشاه وعمره حينئذ أربع سنين وثمانية أشهر، وجعل الأمير أياز أتابكه فحلف العسكر له، وأمرهم بالمسير إلى بغداد وتوفي بركيارق ببروجرد ونقل إلى أصفهان فدفن بها في تربة عملتها له سريته، ثم ماتت عن قريب فدفنت بإزإئه. وكان عمر بركيارق خمساً وعشرين سنة، وكانت مدة وقوع السلطنة عليه اثنتي عشرة سنة وأربعة أشهر، وقاسى من الحروب واختلاف الأمور عليه ما لم يقاسه أحد، واختلفت به الأحوال بين رخاء وشدة، وملك وزواله، وأشرف عدة مرات على ذهاب مهجته في الأمور التي تقلبت به، ولما استقام أمره وأطاعه المخالفون أدركته منيته، واتفق أنه كلما خطب له ببغداد وقع فيها الغلاء وقاسى من طمع أمرائه فيه شدائد، حتى إنهم كانوا يحضرون نوابه ليقتلوهم، وكان صابراً حليماً كريماً حسن المداراة كثير التجاوز، ولما مات بركيارق سار أياز بالعسكر ومعه ملكشاه بن بركيارق، ودخلوا بغداد سابع عشر ربيع الآخر من هذه السنة وخطب لملكشاه بجوامع بغداد على قاعدة أبيه بركيارق. ذكر قدوم السلطان محمد إلى بغداد لما بلغ محمداً موت أخيه بركيارق، سار إلى بغداد ونزل بالجانب الغربي وبقي أياز وملكشاه بالجانب الشرقي، وجمع أياز العسكر لقتال محمد، ثم إن وزير أياز أشار عليه بالصلح ومشى بينهما، واتفق الصلح، وحضر الكيا الهراس مدرس النظامية والفقهاء وحلفوا محمد الأياز وللأمراء الذين معه، وحضر أياز والأمراء إلى عند محمد وأحضروا ملكشاه، فأكرمه وأكرمهم وصارت السلطنة لمحمد، وكان ذلك لسبع بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، واستمر الأمر على ذلك إلى ثامن جمادى الآخرة فعمل أياز دعوة عظيمة للسلطان محمد في داره ببغداد، فحضر إليه وقدم له أياز أموالاً عظيمة، وفي ثالث عشر جمادى الآخرة طلب السلطان أيازاً وأوقف له في الدهليز جماعة، فلما دخل ضربوه بسيوفهم حتى قتلوه، وكان عمر أياز قد جاوز أربعين سنة، وهو من جملة مماليك السلطان ملكشاه، وكان غزير المروة شجاعاً، وأمسك الصفي وزير أياز وقتل في رمضان وعمره ست وثلاثون، سنة وكان من بيت رئاسة بهمذان.

ذكر وفاة سقمان في هذه السنة توفي سقمان بن أرتق بن أكسب، كذا ذكره ابن الأثير أنه أكسب بالباء، وصوابه أكسك بكافين، ذكر ذلك أيضاً ابن خلكان، وكان وفاة سقمان في القريتين لأنه كان متوجهاً إلى دمشق، باستدعاء طغتكين بسبب الفرنج، ليجعله مقابلتهم بحكم مرض طغتكين، فلحق سقمان الخوانيق في مسيره فتوفي في القريتين في صفر من هذه السنة، وخلف سقمان اثنين هما إبراهيم وداود، وحمل سقمان في تابوت إلى حصن كيفا فدفن به، ولما مات سقمان كان مالكاً لحصن كيفا ماردين، أما ملكه لحصن كيفا فقد ذكرنا ذلك، وصورة تسليم موسى التركماني صاحب الموصل الحصن له لما استنجد به على جكرمش، وأما ملكه ماردين فنحن نورده من أول الحال. وهو أن ماردين كان قد وهبها هي وأعمالها، السلطان بركيارق لإنسان مغن، ووقع حرب بين كربوغا صاحب الموصل وبين سقمان، وكان مع سقمان ابن أخيه ياقوتي وعماد الدين زنكي ابن أقسنقر، وهو إذ ذاك صبي، فانهزم سقمان وأخذ ابن أخيه ياقوتي أسيراً، فحبسه كربوغا في قلعة ماردين، وبقي ياقوتي في حبسه مدة، فمضت زوجة أرتق إلى كربوغا وسألته في إطلاق ابن ابنها ياقوتي، فأجابها كربوغا إلى ذلك وأطلقه، فأعجبت ياقوتي ماردين، وأرسل يقول لصاحبها المغني إن أذنت لي سكنت في ربض قلعتك وجلبت إليها الكوبات وحميتها من المفسدين، ويحصل لك بذلك النفع، فأذن له المغني بالمقام في الربض فأقام ياقوتي بماردين. وجعل يغير من باب خلاط إلى بغداد ويستصحب معه حفاظ قلعة ماردين ويحسن إليهم ويؤثرهم على نفسه، فاطمأنوا إليه، وسار مرة ونزل معه أكثرهم، فقيدهم وقبضهم وأتى إلى باب قلعة ماردين ونادى من بها من أهليهم إن فتحتم الباب وسلمتم إلي القلعة وإلا ضربت أعناقهم جميعهم، فامتنعوا، فأحضر واحداً منهم وضرب عنقه، ففتحوا له باب القلعة وتسلمها ياقوتي وأقام بها، ثم جمع ياقوتي جمعاً وقصد نصيبين، ولحقه مرض حتى عجز عن لبس السلاح وركوب الخيل، وحمل على فرسه وركبه، فأصابه سهم فسقط ياقوتي منه ومات، ثم ملك ماردين بعد ياقوتي أخوه علي، وصار في طاعته جكرمش صاحب الموصل، واستخلف على ماردين بعض أصحابه وكان اسمه علياً أيضاً، فأرسل علي يقول لسقمان: إن ابن أخيك يريد أن يسلم ماردين إلى جكرمش، فسار سقمان بنفسه وتسلم ماردين، فطالبه ابن أخيه علي بردها إليه، فلم يفعل سقمان ذلك، وأعطاه جبل جور عوضها، واستقرت ماردين وحصن كيفا لسقمان حتى سار إلى دمشق ومات بالقريتين، فصارت ماردين لأخيه أيلغازي بن أرتق، وصارت حصن كيفا لابنه إبراهيم بن سقمان المذكور، وبقي إبراهيم بن سقمان مالكاً لحصن كيفا حتى توفي، وملكها بعده أخوه داود بن سقمان حتى توفي، وملكها بعدهما

ذكر غير ذلك:

قرا أرسلان بن داود حتى توفي في سنة اثنتين وستين وخمسمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر غير ذلك: وفي هذه السنة اجتمعت الحجاج من الهند وما وراء النهر وخراسان وغيرها، وساروا فلما وصلوا جوار الري، أتاهم الباطنية وقت السحر، فوضعوا فيهم السيف وقتلوهم، ونهبوا أموالهم ودوابهم، وفيها كانت وقعة بين فرنج أنطاكية والملك رضوان بن تنش صاحب حلب، عند شيزر، فانهزم المسلمون وأسر وقتل منهم كثير، واستولى الفرنج على أرتاح. وفيها توفي محمد بن علي بن الحسن المعروف بابن أبي الصقر، كان فقيهاً شافعياً، وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وغلب عليه الشعر فاشتهر به، فمن قوله لما كبر. ابن أبي الصقر افتكر ... وقال في حال الكبر والله لولا بولة ... تحرقني وقت السحر لما ذكرت أن لي ... ما بين فخذي ذكر وكانت ولادته في نحو سنة سبع وأربعمائة. ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة في هذه السنة سار سيف الدولة صدقة بن مزيد من الحلة إلى البصرة فملكها. ذكر اتصال ابن ملاعب بملك أفامية واستيلاء الفرنج عليها: كان خلف بن ملاعب الكلابي صاحب حمص، وكان رجاله وأصحابه يقطعون الطريق على الناس، فكان الضرر بهم عظيماً، فسار صاحب دمشق تنش بن ألب أرسلان إليه، وأخذ حمص منه، كما تقدم ذكره في سنة خمس وثمانين وأربعمائة ثم تقلبت بخلف بن ملاعب المذكور الأحوال، إلى أن دخل مصر وأقام بها، واتفق أن متولي أفامية من جهة رضوان بن تنش صاحب حلب، كان يميل إلى مذهب خلفاء مصر، فكاتبهم في الباطن في أن يرسلوا من يسلم إليه أفامية وقلعتها، فطلب ابن ملاعب أن يكون هو الذي يرسلونه لتسليم أفامية فأرسلوه، وتسلم أفامية وقلعتها، فلما استقر خلف بن ملاعب الكلابي المذكور بأفامية، خلع طاعة المصريين ولم يرع حقهم، وأقام بأفامية يقطع الطريق ويخيف السبيل، فاتفق قاضي أفامية وجماعة من أهلها وكاتبوا الملك رضوان صاحب حلب؛ في أن يرسل إليهم جماعة ليكبسوا أفامية بالليل، وأنهم يسلمونها إليهم، فأرسل رضوان مائة، فأصعدهم القاضي والمتفقون معه بالحبال إلى القلعة، فقتلوا ابن ملاعب وبعض أولاده، وهرب البعض، واستولوا على قلعة أفامية، ثم سار الفرنج إلى أفامية وحاصروها وملكوا البلد والقلعة وقتلوا القاضي المتغلب عليها. ذكر حال طرابلس مع الفرنج كان صنجيل قد ملك مدينة جبلة، ثم سار وأقام على طرابلس، فحصرها وبنى بالقرب منها

وموت جكرمش وقليج أرسلان

حصناً، وبنى تحته ربضاً، وهو المعروف بحصن صنجيل، فخرج الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس فأحرق الربض، ووقف صنجيل على بعض سقوفه المحرقة، فانخسف به، فمرض صنجيل، لعنه الله، من ذلك، وبقي عشرة أيام ومات وحمل إلى القدس ودفن فيها، ودام الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين، وظهر من صاحبها ابن عمار صبر عظيم، وقلت الأقوات بها، وافتقرت الأغنياء. ثم دخلت سنة خمسمائة. ذكر وفاة يوسف بن تاشفين في هذه السنة توفي أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ملك الغرب والأندلس وكان حسن السيرة، وكان قد أرسل إلى بغداد فطلب التقليد من المستظهر خليفة بغداد، فأرسل إليه الخلع والتقليد، ويوسف المذكور هو الذي بنى مدينة مراكش، ولما مات يوسف ملك البلاد بعده ابنه علي بن يوسف بن تاشفين، وتلقب أيضاً بأمير المسلمين. ذكر قتل فخر الدولة بن نظام الملك في هذه السنة قتل فخر الدولة أبو المظفر علي بن نظام الملك، يوم عاشوراء، وكان أكبر أولاد نظام الملك، وزّر لبركيارق، ثم لأخيه سنجر بن ملكشاه، وكان قد أصبح في يوم قتل صائماً بنيسابور. وقال لأصحابه: رأيت الليلة في المنام الحسين بن علي وهو يقول: عجل إلينا وليكن إفطارك عندنا، وقد اشتغل فكري ولا محيد عن قضاء الله تعالى. فقالوا الصواب أن لا تخرج اليوم، فأقام يومه يصلي ويقرأ القران، وتصدق بشيء كثير، وخرج العصر من الدار التي كان بها، يريد دار النساء، فسمع صياح متظلم شديد الحرقة، فأحضره وقال: ما حالك؟ فدفع رقعة، فبينما فخر الدولة يتأملها إذ ضربه بسكين فقتله. وأمسك الباطني وحمل إلى السلطان سنجر فقرره، فأقر على جماعة كذباً فقتل هو وتلك الجماعة. ذكر ملك صدقة تكريت في هذه السنة ملك سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد قلعة تكريت، سلمها إليه كيقباذ بن هزارسب الديلمي، وكانت تكريت لبني مقن، برهة من الزمان، ثم خرجت عنهم وتنقلت في أيدي غيرهم، حتى صارت لأقسنقر صاحب حلب، ثم لكوهراتين ثم لمجد الملك البلاساني، فولى عليها كيقباذ المذكور، وبقيت في يده حتى سلمها في هذه السنة لصدقة المذكور. ذكر ملك جاولي الموصلي وموت جكرمش وقليج أرسلان في هذه السنة أقطع السلطان محمد جاولي، سقاوة الموصل، والأعمال التي بيد جكرمش فسار، جاولي حتى قارب الموصل فخرج جكرمش لقتاله في محفة، لأنه كان قد

لحقه طرف فالج، واقتتلا، وانهزم عسكر جكرمش، وأخذ جكرمش أسيراً من المحفة، وسار جاتولي بعد الوقعة، وحصر الموصل، وكان قد أقام أصحاب جكرمش زنكي بن جكرمش، وملك الموصل، وله إحدى عشرة سنة، وبقي جاولي يطوف بجكرمش حول الموصل أسيراً وهو يأمرهم بتسليم البلد، فلم يقبلوا منه، ومات جكرمش في تلك الحال وعمره نحو ستين سنة، وكان قد عظم ملك جكرمش، وهو الذي على سور الموصل وحصنها، وكاتب أهل الموصل قليج أرسلان بن سليمان بن قطلمش السلجوقي صاحب بلاد الروم، يستدعونه، فسار قاصد الموصل. فلما وصل إلى نصيبين رحل جاولي عن الموصل خوفاً منه، وسار إلى الرحبة، ووصل قليج أرسلان إلى الموصل وتسلمها في الخامس والعشرين من رجب من هذه السنة، ثم استخلف قليج أرسلان ابنه ملكشاه بن قليج أرسلان على الموصل، وعمره إحدى عشرة سنة، وأقام معه أميراً يدبره، وسار قليج أرسلان إلى جاولي، وكان قد كثر جمع جاولي، واجتمع إليه رضوان صاحب حلب وغيره، ولما وصل قليج أرسلان إلى الخابور وصل إليه جاولي واقتتلوا في العشرين من ذي القعدة، وقاتل قليج أرسلان بنفسه قتالاً عظيماً، فانهزم عسكره واضطر قليج أرسلان إلى الهروب، فألقى نفسه في الخابور فغرق وظهر بعد أيام، ودفن بالشميسانية، وهي من قرى الخابور، ولما فرغ جاولي من الوقعة سار إلى الموصل فسلمت إليه بالأمان، وسار ملكشاه بن قليج أرسلان إلى عند السلطان محمد. ذكر قتل الباطنية في هذه السنة حاصر السلطان محمد قلعة الباطنية التي بالقرب من أصفهان، التي بناها ملكشاه بإشارة رسول ملك الروم، على ما قدمنا ذكره، وكان اسم القلعة شاه دز وكانت المضرة بها عظيمة، وأطال عليها الحصار، ونزل بعض الباطنية بالأمان وساروا إلى باقي قلاعهم، وبقي صاحب شاه دز واسمه أحمد بن عبد الملك بن عطاش مع جماعة يسيرة، فزحف السلطان عليه وقتله وقتل جماعة كثيرة من الباطنية، وملك القلعة وخربها. وفي هذه السنة توفي الأمير شرخاب بن بدر بن مهلهل المعروف بابن أبي الشوك الكردي، وكان له أموال وخيول لا تحصى، وقام مقامه بعده أخوه منصور بن بدر، وبقيت الإمارة في بيته مائة وثلاثين سنة. ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة. ذكر مقتل صدقة في هذه السنة في رجب قتل سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأسدي أمير العرب، في قتال جرى بينه وبين السلطان محمد، واشتد القتال بينهم، وقتل صدقه في المعركة بعد أن قاتل قتالاً شديداً، وحمل رأسه إلى السلطان محمد، وكان عمر صدقة تسعاً

ذكر غير ذلك من الحوادث

وخمسين سنة، وإمارته إحدى وعشرين سنة، وقتل من أصحابه ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس، وكان صدقة متشيعاً وهو الذي بنى الحلة بالعراق. وأقول: إنه قد تقدم ذكر الحلة قبل وجود صدقة المذكور، فكيف يكون هو الذي بناها؟ لكن كنا نقلناه من الكامل لابن الأثير، وكان قد عظم شأنه وعلا قدره واتسع جاهه واستجار به صغار الناس وكبارهم، وكان مجتهداً في النصح للسلطان محمد، حتى أنه جاهر بركيارق بالعداوة ولم يبرح على مصافاة محمد، ثم فسد ما بينهما حتى قتل صدقة كما ذكرنا، وكان سبب الفساد بينهما حماية صدقة لكل من خاف من السلطان، واتفق أن السلطان محمد أغضب على أبي دلف شرخاب بن كيخسرو صاحب ساوة، فهرب صاحب ساوة المذكور واستجار بصدقة، وأرسل السلطان يؤكد في إرساله وطلبه، فلم يفعل صدقة أن يسلمه، فسار إليه السلطان واقتتلوا كما ذكرنا، فقتل صدقة وأسر ابنه دبيس بن صدقة، وأسر شرخاب صاحب سارة المذكور. ذكر وفاة تميم بن المعز في هذه السنة في رجب توفي تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية وكان تميم ذكياً حليماً، وكان ينظم الشعر، وكان عمره تسعاً وسبعين سنة، وكانت ولايته ستاً وأربعين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً، وخلّف من الأولاد مائة ابن، أربعين ذكراً وستين بنتاً. ولما توفي ملك بعده ابنه يحيى بن تميم، وكان عمر يحيى حين ولي ثلاثاً وأربعين سنة وستة أشهر. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توجه فخر الملك أبو علي بن عمار من طرابلس إلى بغداد مستنفراً لما حل بطرابلس وبالشام من الفرنج، واجتمع بالسلطان محمد وبالخليفة المستظهر، فلم يحصل منهما غرض، فعاد إلى دمشق وأقام عند طغتكين، وأقطعه الزبداني، وأما طرابلس فإن أهلها دخلوا في طاعة خليفة مصر، وخرجوا عن طاعة ابن عمار، وكان من أمر طرابلس ما سنذكره. ثم دخلت سنة اثنتين وخمسمائة في هذه السنة أرسل السلطان محمد عسكراً فيهم عدة من أمرائه الكبار، مع أمير يقال له مودود بن الطغتكين إلى الموصل ليأخذوها من جاولي، فوصلوا إلى الموصل وحصروها، وتسلمها الأمير مودود في صفر، وأما جاولي فإنه لم ينحصر بالموصل وهرب إلى الرحبة قبل نزول العسكر عليها، ثم سار جاولي مجداً ولحق السلطان محمداً قريب أصفهان، وأخذ كفنه معه ودخل عليه، وطلب العفو، فعفا عنه وأمّنه. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة تولى مجاهد الدين بهروز شحنكية بغداد، ولاه إياها السلطان محمد، وأمر بهروز بعمارة دار المملكة ببغداد، ففعل بهروز ذلك وأحسن إلى الناس وكان السلطان

لما ولاه، في أصفهان، ثم لما قدم السلطان إلى بغداد، ولى بهروز شحنكية العراق جميعه. وفي هذه السنة في فصح النصارى نزل الأمراء بنو منقذ أصحاب شيزر منها، للتفرج على عيد النصارى فثار جماعة من الباطنية في حصن شيزر، فملكوا قلعة شيزر، وبادر أهل المدينة إلى الباشورة، وأصعدهم النساء بالحبال من الطاقات وأدركهم الأمراء بنو منقذ ووقع بينهم القتال، فانخذل الباطنية وأخذهم السيف كل جانب، فلم يسلم منهم أحد. وفي هذه السنة في جمادى الآخرة توفي الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي أحد أئمة اللغة. قرأ على أبي العلاء سليمان المعري، وضيره، وسمع الحديث بمدينة صور من الفقيه سليم بن أبو الرازي وغيره. وروى عنه أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي وغيره، وتخرج عليه خلق كثير، وتتلمذوا له، قال في وفيات الأعيان: وقد روي أنه لم يكن بمرضي الطريقة، وشرح الحماسة، وديوان المتنبي، وله في النحو مقدمة وهي عزيزة الوجود وله في إعراب القرآن كتاب سماه المخلص في أربع مجلدات، وله غير ذلك التواليف الحسنة المفيدة، سافر من تبريز إلى المعرة لقصد أبي العلاء ودخل مصر في عنفوان شبابه، وقرأ بها على طاهر بن بايشاذ، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها إلى الممات، وكانت ولادته سنة إحدى وعشرين وأربعمائة وتوفي فجأة في التاريخ المذكور ببغداد. وفيها توفي أبو الفوارس الحسن بن علي الخازن المشهور بجودة الخط وله شعر حسن. ثم دخلت سنة ثلاث. وخمسمائة. ذكر ملك الفرنج طرابلس في هذه السنة في حادي عشر ذي الحجة، ملك الفرنج مدينة طرابلس، لأنهم ساروا إليها من كل جهة، وحصروها في البر والبحر، وضايقوها من أول رمضان، وكانت في يد نواب خليفة مصر العلوي، وأرسل إليها خليفة مصر أسطولاً، فرده الهواء ولم يقدر على الوصول إلى طرابلس، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وملكوها بالسيف فقتلوا ونهبوا وسبوا، وكان بعض أهل طرابلس، قد طلبوا الأمان، وخرجوا منها إلى دمشق قبل أن يملكها الفرنج. ثم في دخلت سنة أربع وخمسمائة في هذه السنة ملك الفرنج مدينة صيدا في ربيع الآخر، وملكوها بالأمان، وفيها سار صاحب. أنطاكية مع من اجتمع إليه من الفرنج إلى الأثارب، وهي بالقرب من حلب، وحصروها، ودام القتال بينهم، ثم ملكوها بالسيف وقتلوا من أهلها ألفي رجل وأسروا الباقين، ثم ساروا إلى ذردنا فملكوها بالسيف، وجرى لهم كما جرى لأهل الأثارب، ثم سار الفرنج إلى منبج وبالس، فوجدوهما قد أخلاهما أهلهما فعادوا عنهما، وصالح الملك رضوان صاحب حلب الفرنج على اثنين وثلاثين ألف دينار، يحملها إليهم مع خيول وثياب، ووقع الخوف في قلوب أهل الشام من الفرنج، فبذلت لهم

ذكر غير ذلك

أصحاب البلاد أموالاً، وصالحوهم، فصالحهم أهل مدينة صور على سبعة آلاف دينار، وصالحهم إبن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف دينار، وصالحهم علي الكردي صاحب حماه على ألفي دينار. ذكر غير ذلك وفي هذه السنة توفي الكيا الهراسي الطبري، والكيا بالعجمية: الكبير القدر المقدّم بين الناس، واسمه أبو الحسن علي بن محمد بن علي، ومولده سنة خمسين وأربعمائة وكان من أهل طبرستان، وخرج إلى نيسابور وتفقه على إمام الحرمين، وكان حسن الصورة، جهوري الصوت، فصيح العبارة،، ثم خرج إلى للعراق وتولى تدريس النظامية. وفي هذه السنة أعني سنة أربع وخمسمائة، قال ابن خلكان في ترجمة الآمر منصور العلوي، وقيل في سنة إحدى عشرة وخمسمائة قصد بردويل الفرنجي الديار المصرية، فانتهى إلى الفرما، ودخلها وأحرقها، وأحرق جامعها ومساجدها، ورحل عنها راجعاً إلى الشام وهو مريض، فهلك في الطريق قبل وصوله إلى العريش، فشقه أصحابه ورموا حشوته هناك، فهي ترجم إلى اليرم، ورحلوا بجثته فدفنوها بقمامة، وسبخة بردويل التي في وسط الرمل على طريق الشام منسوبة إلى بردويل المذكور، والناس يقولون عن الحجارة الملقاة هناك إنها قبر بردويل، وإنما هي هذه الحشوة، وكان بردويل المذكور صاحب بيت المقدس وعكا ويافا وعدة من بلاد ساحل الشام، وهو الذي أخذ هذه البلاد المذكورة من المسلمين. ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة فيها جهز السلطان محمد عسكراً فيه صاحب الموصل مودود، وغيره من صحاب الأطراف إلى قتال الفرنج بالشام، فساروا ونزلوا على الرها، فلم يملكوها، فرحلوا ووصلوا إلى حلب، فخاف منهم الملك رضوان بن تنش صاحب حلب، وغلق بواب حلب ولم يجتمع بهم، ولا فتح لهم أبواب المدينة، فساروا إلى المعرة ثم افترقوا، ولم يحصل لهم غرض. وفي هذه السنة في جمادى الآخرة توفي الإمام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الملقب حجة الإسلام زين الدين الطوسي، اشتغل بطوس، ثم قدم نيسابور، واشتغل على إمام الحرمين، واجتمع بنظام الملك فأكرمه وفوض إليه تدريس مدرسة النظامية ببغداد، في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ثم ترك جميع ما كان عليه في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وسلك طريق التزهد والانقطاع، وحج وقصد دمشق وأقام بها مدة، ثم انتقل إلى القدس واجتهد في العبادة، ثم قصد مصر وأقام بإسكندرية مدة، ثم عاد إلى وطنه بطوس وصنف الكتب المفيدة المشهورة، منها البسيط، والوسيط، والوجيز، والمنخول والمنتخل في علم الجدل، وكانت ولادته سنة خمسين وأربعمائة ونسبه إلى طوس من خراسان، وطوس مدينتان، تسمى إحداهما طابران، والأخرى نوقان،

وقتل مودود بن الطونطاش صاحب الموصل:

والغزالي نسبة إلى الغرال، والعجم تقول في القصّار قصاري، وفي الغزال غزالي وفي العطار عطاري. ثم دخلت سنة ست وخمسمائة فيها توفي بسيل الأرميني صاحب بلاد الأرمني، فقصدها صاحب أنطاكية الفرنجي ليملك بلاد الأرمن المعروفة الآن ببلاد سيس، فمات في الطريق وملكها سيرجال. وفيها توفي قراجا صاحب حمص، وقام بعده ولده قيرخان. وفيها توفي سكمان أو سقمان القطبي، صاحب خلاط، وكان قد ملك خلاط في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة حسبما تقدم ذكره هناك، ولما توفي سكمان ملك خلاط بعده ولده ظهير الدين إبراهيم بن سكمان وسلك سيرة أبيه، وبقي في ملك خلاط حتى توفي في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، فتولى مكانه أخوه أحمد بن سكمان، وبقي أحمد في الولاية عشرة أشهر وتوفي، فحكمت والدتهما وهي إينانج خاتون، وهي ابنه أركمان على وزن أفخران، وبقيت مستبدة بمملكة خلاط، ومعها ولد ولدها سكمان بن إبراهيم بن سكمان، وكان عمره ست سنين، فقصدت جدته إينانج المذكورة إعدامه، لتنفرد بالمملكة، فلما رأى كبراء الدولة سوء نيتها لولد ولدها المذكور، اتفق جماعة وخنقوا إينانج المذكورة في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، واستقر ابن ابنها شاهرمن سكمان بن إبراهيم المذكور بن سكمان في الملك حتى توفي في سنة تسع وسبعين وخمسمائة حسبما نذكره إن شاء الله تعالى. أثم دخلت سنة سبع وخمسمائة. ذكر الحرب مع الفرنج وقتل مودود بن الطونطاش صاحب الموصل: في هذه السنة اجتمع المسلمون وفيهم مودود صاحب الموصل، وتميرك صاحب سنجار، والأمير أياز بن أيلغازي وطغتكين صاحب دمشق، وكان مودود قد سار من الموصل إلى دمشق، فخرج طغتكين والتقاه بسلمية، وسار معه إلى دمشق واجتمعت الفرنج وفيهم بغدوين صاحب القدس، وجوسلين صاحب الحلس واقتتلوا بالقرب من طبرية، ثالث عشر المحرم، وهزم الله الفرنج وكثر القتل فيهم، ورجع المسلمون منصورين إلى دمشق ودخلوها في ربيع الأول، ودخل الجامع مودود وطغتكين وأصحابهما وصلوا الجمعة، وخرج طغتكين ومودود يتمشيان في بعض صحن الجامع، فوثب باطني على مودود وضربه بسكين، وقتل الباطني وأخذ رأسه، وحمل مودود إلى دار طغتكين وكان صائماً واجتهدوا به أن يفطر فلم يفعل، ومات من يومه رحمه الله تعالى، وكان خيرّاً عادلاً، قيل إن الباطنية الذين بالشام خافوه فقتلوه، وقيل: إن طغتكين خافه فوضع عليه من قتله ودفن مودود بدمشق في تربة دقاق بن تنش، ثم نقل إلى بغداد فدفن في جوار أبي حنيفة ثم نقل إلى أصفهان.

ذكر غير ذلك

ذكر وفاة رضوان في هذه السنة توفي الملك رضوان بن تنش بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق صاحب حلب، وقام بملك حلب بعده ابنه ألب أرسلان الأخرس ابن رضوان، وكانت سيرة رضوان غير محمودة، وقتل رضوان قبل موته أخويه أبا طالب وبهرام، وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينه، وكانت ولاية رضوان في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة في سنة قتل أبوه تنش، ولما ملك الأخرس بن رضوان استولى على الأمور لؤلؤ الخادم، وكان الحكم والأمر إليه، ولم يكن ألب أرسلان المذكور أخرس حقيقة، وإنما كان في لسانه حبسة وتمتمة، وكانت أم الأخرس بنت باغي سيان صاحب أنطاكية، وكان عمره حين ولي ست عشرة سنة، ولما مات رضوان ملك ألب أرسلان، قتلت الباطنية الذين كانوا بحلب، وكانوا جماعته ولهم صورة ونهبت أموالهم. ذكر غير ذلك في هذه السنة توفي إسماعيل بن أحمد الحسين البيهقي الإمام ابن الإمام وتوفي ببيهق، ومولده سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وفيها توفي محمد بن أحمد بن محمد الأبيوردي الأديب الشاعر وله شعر حسن فمنه: تنكر لي دهري ولم يدر أنني ... أعز وأهوال الزمان تهون وظل يريني الخطب كيف اعتداؤه وبت أريه الصبر كيف يكون وكانت وفاته بأصفهان وهو من بني أمية. وفيها توفي محمد بن أحمد بن أبي الحسن بن عمر، وكنيته أبو بكر الشاشي الفقيه الشافعي، ومولده سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وتفقه على أبي إسحق الشيرازي ببغداد، وعلى أبي نصر بن الصباغ، وصنف المستظهر بالله كتابه المعروف بالمستظهري. ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة فيها أرسل السلطان محمد بن ملكشاه أقسنقر البرسقي والياً على الموصل لما بلغه قتل مودود بن الطنطاش صاحب الموصل، وأمر السلطان الأمراء وأصحاب الأطراف بالسير بصحبة البرسقي لقتال الفرنج، وجرى بين البرسقي وأيلغازي بن أرتق صاحب ماردين قتال انتصر فيه أيلغازي وهرب البرسقي، ثم خاف أيلغازي من السلطان فسار إلى طغتكين صاحب دمشق، فاتفق معه وكاتباً الفرنج واعتضدا بهم، ثم عاد أيلغازي من دمشق إلى جهة بلاده، فلما قرب من حمص وكان في جماعة قليلة، خرج قيرخان بن قراجا صاحب حمص، وأمسك أيلغازي وبقي في أسره مدة، ثم تحالفا وأطلقه.

ذكر وفاة صاحب غزنة في هذه السنة في شوال، توفي الملك علاء الدولة أبو سعد مسعود بن إبراهيم ابن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة، كان ملكه في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وملك بعده ابنه أرسلان شاه بن مسعود، وأمسك إخوته، وهرب، من إخوته بهرام شاه، واستجار بالسلطان سنجر بن ملكشاه صاحب خراسان، وأرسل سنجر إلى أرسلان شاه يشفع في بهرام شاه فلم يقبل منه، فسار السلطان سنجر إلى غزنة، وجمع أرسلان شاه عساكره وخيوله، واقتتلوا واشتد القتال بينهم، فانهزم عسكر غزنة، وانهزم أرسلان شاه، ودخل سنجر غزنة واستولى عليها في سنة عشر وخمسمائة، وأخذ منها أموالاً عظيمة، وقرر السلطنة لبهرام شاه بن مسعود، وأن يخطب في مملكته للسلطان محمد، ثم للملك سنجر ثم للسلطان وبهرام شاه المذكور، ثم عاد سنجر إلى بلاده، وكان أرسلان شاه قد هرب إلى جهة هندستان، ثم جمع جمعاً وعاد إلى غزنة فاستنجد بهرام شاه بسنجر ثانياً، فأرسل إليه عسكراً، فلما قاربوا أرسلان شاه هرب من غير قتال، وتبعوه حتى أمسكوه، فخنق بهرام شاه أخاه أرسلان شاه، ودفنه بتربة أبيه بغزنة، وكان قتل أرسلان شاه في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وقدمنا ذكره لنتبع الحادثة بعضها بعضاً، وكان عمر أرسلان شاه لما قتل سبعاً وعشرين سنة. ذكر مقتل صاحب حلب في هذه السنة قتل تاج الدولة ألب أرسلان الأخرس، صاحب حلب ابن الملك رضوان بن تنش بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، قتلة غلمانه بقلعة حلب، وأقاموا بعده أخاه سلطان شاه بن رضوان، وكان المتولي على الأمر لؤلؤ الخادم. ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة فيها أرسل السلطان محمد بن ملكشاه عسكراً ضخماً لقتال طغتكين صاحب دمشق، وأيلغازي صاحب ماردين، فعبر العسكر الفرات من الرقة وقصدوا حلب، فعصت عليهم، فساروا إلى حماة وهي لطغتكين، فحصروها وفتحوها عنوة، ونهبوا الأموال ثلاثة أيام، ثم سلموا حماة إلى الأمير قيرخان بن قراجا صاحب حمص، وأقام العسكر بحماة واجتمع بأفامية أيلغازي وطغتكين وملوك الفرنج، وهم صاحب أنطاكية، وصاحب طرابلس وغيرهما، وأقاموا بأفامية ينتظرون تفرق المسلمين، فلما أقام عسكر المسلمين إلى الشتاء، تفرق الفرنج وسار طغتكين إلى دمشق، وأيلغازي إلى ماردين، ثم سار المسلمون من حماة إلى كفرطاب وهي للفرنج، فاستولوا عليها وقتلوا من بها من الفرنج ونهبوهم، ثم سار المسلمون إلى المعرة، وهي للفرنج، ثم ساروا منها إلى حلب، فكبسهم صاحب أنطاكية في أثناء الطريق، فانهزمت المسلمون، وقتل الفرنج فيهم،

ذكر غير ذلك

ونهبوهم، وهرب من سلم منهم إلى بلاده. وفي هذه السنة: استولى الفرنج على رفنية، وكانت لطغتكين أيضاً ثم سار طغتكين من دمشق واسترجعها إلى ملكه وقتل من بها من الفرنج. ذكر وفاة صاحب إفريقية في هذه السنة توفي يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية يوم عيد الأضحى فجأة، وتولى بعده ابنه علي بن يحيى، وكان عمر يحيى اثنتين وخمسين سنة، وولايته ثمان سنين وخمسة أشهر وخلّف ثلاثين ولداً. ذكر غير ذلك فيها قدم السلطان محمد إلى بغداد، فسار إليه طغتكين من دمشق ودخل عليه وسأل الرضى عنه، فرضي عنه ورده إلى دمشق، وفيها أخذ السلطان الموصل وما كان معها من أقسنقر البرسقي، وأقطعها للأمير جيوش بك وبقي البرسقي في الرحبة وكانت أقطاعه. ثم دخلت سنة عشرة وخمسمائة في هذه السنة مات جاولي سقاوه بفارس وكان السلطان محمد بن ملكشاه قد ولاه فارس، بعد أخذ الموصل منه علي ما تقدم ذكره. وفيها وقيل بل في سنة ست عشرة وخمسمائة توفي بمروالروز أبو محمد الحسن بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه المحدث، كان بحراً في العلوم صنف كتباً عدة منها: التهذيب في الفقه، والمصابيح في الحديث، والجمع بين الصحيحين، وغير ذلك، والفراء نسبة إلى عمل الفراء والبغوي نسبة إلى بلدة بخراسان يقال لها بغ وبغشور أيضاً. ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة. ذكر وفاة السلطان محمد في هذه السنة في رابع وعشرين ذي الحجة توفي السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وابتدأ مرضه من شعبان، ومولده ثامن عشر شعبان من سنة أربع وسبعين وأربعمائة، فكان عمره ستاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وأول ما خطب له ببغداد في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وقطعت خطبته عدة دفعات، ولقي من المشاق والأخطار ما لا زيادة عليه، وكان عادلاً حسن السيرة، أطلق المكوس والضرائب في جميع بلاده، وعهد بالملك إلى ولده محمود وعمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة. ولما عهد عليه اعتنقه، وقبله وبكى كل واحد منهما، وجلس محمود على تخت السلطنة بالتاج والسوارين يوم وفاة أبيه في الرابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وخطب لمحمود بالسلطنة في يوم الجمعة الثامن والعشرين من ذي الحجة.

واستيلاء أيلغازي عليها:

ذكر قتل صاحب حلب واستيلاء أيلغازي عليها: في هذه السنة قتل لؤلؤ الخادم، وكان قد استولى على حلب وأعمالها. وكان قد أقام لؤلؤ المذكور، بعد رضوان ابنه، ألب أرسلان الأخرس بن رضوان، فلما قتل كما تقدم ذكره، أقام أخاه سلطان شاه، وليس له من الحكم شيء، وبقي لؤلؤ المذكور هو المتحكم في البلاد، فلما كانت هذه السنة سار لؤلؤ إلى قلعة جعبر، ليجتمع بسالم بن مالك العقيلي صاحب قلعة جعبر، فوثب جماعة من الأتراك أصاب لؤلؤ على لؤلؤ وقد نزل يريق الماء، وصاحوا أرنب أرنب، وقتلوه بالنشاب، ونهبوا خزانته وعادوا إلى حلب، فاتفق أهل حلب واستعادوا منهم المال، وقام بأتابكية سلطان شاه بن رضوان شمس الخواص يارقطاش، وبقي يارقطاش شهراً، ثم اجتمع كبراء الدولة وعزلوه وولوا أبا المعالي بن الملحي الدمشقي، ثم غزوه وصادروه، ثم خاف أهل حلب من الفرنج، فسلموا البلد إلى أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، فسار أيلغازي وتسلم حلب، وجعل فيها ولده حسام الدين تمرتاش، وعاد أيلغازي إلى ماردين. ذكر غير ذلك: في هذه السنة جاء سيل فغرق مدينة سنجار، وغرق من الناس خلق كثير، وهدم المنازل، ومن عجيب ما يحكى أن الماء حمل مهداً فيه مولود، فتعلق المهد بشجرة زيتون ثم نقص الماء والمهد معلق بالشجرة فسلم الطفل. وفيه هجم الفرنج على ربض حماة وقتلوا من أهلها ما يزيد على مائة رجل، ثم عادوا عنها. ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وخمسمائة في هذه السنة عزل السلطان محمود مجاهد الدين بهروز عن شحنكية بغداد، وجعل أقسنقر البرسقي شحنة بغداد، وسار بهروز إلى تكريت، وكانت أقطاعه، وكان المدبر لدولة السلطان محمود، الوزير الربيب أبو منصور. وفيها سار الأمير دبيس بن صدقة إلى الحلة بإذن السلطان محمود، وكان دبيس معتقلاً مع السلطان محمد، من حين قتل أبوه صدقة، إلى الان، فلما أطلق توجه إلى الحلة، واجتمعت عليه العرب والأكراد. ذكر وفاة المستظهر في هذه السنة، في سادس عشر ربيع الآخر، توفي المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بأمر الله عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم، وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر وأياماً، وخلافته أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً. ومن الاتفاق الغريب، أنه لما توفي السلطان ألب أرسلان توفي بعده القائم بأمر الله، ولما توفي ملكشاه توفي بعده المقتدي، ولما توفي محمد، توفي بعده المستظهر.

خلافة المسترشد

خلافة المسترشد وهو تاسع عشرينهم، ولما توفي المستظهر بويع ولده المسترشد بالله أبو منصور فضل بن أحمد المستظهر، وأخذ البيعة على الناس للمسترشد. القاضي أبو الحسن الدامغاني. ذكر غير ذلك: وفي هذه السنة توفي أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن منده الأصفهاني المحدث المشهور، وله في الحديث تصانيف حسنة. وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن محمد بن الخازن وكان أديباً وله شعر حسن. وفيهما قتل أرسلان شاه ابن مسعود السبكتكيني قتله أخوه بهرام شاه بن مسعود، واستقر بهرام شاه في ملك غزنة، حسبما قدمنا ذكره في سنة ثمان وخمسمائة. ثم دخلت سنة ثلاث عشر وخمسمائة فيها سار السلطان سنجر إلى حرب ابن أخيه السلطان محمود، والتقيا بالري بالقرب من ساوة، فانهزم محمود. ونزل السلطان سنجر في خيامه، ثم وقع الصلح بينهما، على أن يخطب للسلطان سنجر ثم بعده للسلطان محمود، واستولى سنجر على الري وأضافها إلى ما بيده، وقدم السلطان محمود إلى عمه السلطان سنجر بالري فأكرمه سنجر وأحسن إليه. ذكر غير ذلك: فيها كانت وقعة بين أيلغازي بن أرتق، وبين الفرنج، بأرض حلب، فهزم الفرنج وقتل منهم عدة كثيرة، وأسر عدة، وكان فيمن قتل، سرجال صاحب أنطاكية، ثم سار أيلغازي وفتح عقيب الوقعة الأثارب وزردنا. وكانت الوقعة في منتصف ربيع الأول عند عفرين، ومما مدح أيلغازي به بسبب هذه الوقعة. قل ما تشاء فقولك المقبول ... وعليك بعد الخالق التعويل واستبشر القرآن حين نصرته ... وبكى لفقد رجاله الإنجيل وفي هذه السنة سار جوسلين صاحب تل باشر إلى، بلاد دمشق ليكبس العرب بني ربيعة، وأميرهم إذ ذاك مر بن ربيعة، فتقدم عسكر جوسين قدامه، فضل جوسلين عنهم، ووقع عسكره على العرب. وجرى بينهم قتال شديد انتصر فيه مر بن ربيعة، وقتل وأسر من الفرنج عدة كثيرة. ذكر غير ذلك: في هذه السنة أمر السلطان سنجر بإعادة بهروز إلى شحنكية العراق، فعاد إليها. وفيها ظهر قير إبراهيم الخليل، وقبور ولديه إسحاق ويعقوب عليهم السلام بالقرب من بيت المقدس، ورآهم كثير من الناس لم تبل أجسادهم، وعندهم في المغارة قناديل من ذهب وفضة، قال ابن الأثير مؤلف الكامل: هكذا ذكره حمزة بن أسد بن علي بن محمد

التميمي في تاريخه. ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة. ذكر الحرب بين السلطان محمود وأخيه مسعود كان مسعود ابن السلطان محمد له الموصل وأذربيجان، فكاتب دبيس بن صدقة، جيوش بك أتابك مسعود، يشير عليه بطلب السلطنة لمسعود، ووعده دبيس بأن يسير إليه وينجده وكان غرض دبيس أن يقع بين محمود ومسعود، لينال دبيس علو المنزلة، كما نالها، أبوه صدقة، بسبب وقوع الخلاف بين بركيارق وأخيه محمد. فأجاب مسعود إلى ذلك، وخطب لنفسه بالسلطنة، وجمع عسكره وسار إلى أخيه محمود والتقوا عند عقبة أستراباذ، منتصف ربيع الأول من هذه السنة واشتد القتال بينهم، فانهزم مسعود وعسكره، ولما انهزم مسعود اختفى في جبل، وأرسل يطلب من أخيه محمود الأمان فبذله له، وقدم مسعود إلى أخيه محمود فأمر محمود بخروج العسكر إلى تلقيه، ولما التقيا اعتنقا وبكيا، وبالغ محمود في الإحسان إلى أخيه مسعود، وفى له، ثم قسم جيوش بك أتابك مسعود على محمود فأحسن إليه أيضاً، وأما دبيس بن صدقة، فإنه لما بلغه انهزام مسعود أخذ في إفساد البلاد ونهبها، وكاتبه محمود فلم يلتفت إليه. فسار السلطان محمود إليه، ولما قرب منه خرج دبيس عن الحلة والتجأ إلى أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، ثم اتفق الحال على أن يرسل دبيس أخاه منصوراً رهينة، ويعود إلى الحلة، فأجيب إلى ذلك. وفي هذه السنة خرجت الكرج إلى بلاد الإسلام وملكو تقليس بسيف، وقتلوا ونهبوا من المسلمين شيئاً كثيراً. وفي هذه السنة أيضاً جمع أيلغازي التركمان وغيرهم، والتقى مع الفرنج عند ذات البقل، من بلد سرمين، وجرى بينهم، قتال شديد، فانتصر أيلغازي وانهزم الفرنج. ذكر ابتداء أمر محمد بن تومرت وملك عبد المؤمن كان محمد بن عبد الله بن تومرت العلوي الحسيني من قبيلة من المصامدة، من أهل جبل السوس، من بلاد المغرب، فرحل ابن تومرت إلى بلاد المشرق في طلب العلم، وأتقن علم الأصولين والعربية، والفقه والحديث، واجتمع بالغزالي والكيا الهراسي في العراق، واجتمع بأبي بكر الطرطوشي بالإسكندرية، وقيل إنه لم يجتمع بالغزالي. ثم حج ابن تومرت وعاد إلى المغرب، وأخذ في الإنكار على الناس وإلزامهم بإقامة الصلوات وغير ذلك من أحكام الشريعة، وتغيير المنكرات، ولما وصل إلى قرية اسمها ملالة بالقرب من بجاية اتصل به عبد المؤمن بن علي الكومي، وتفرس ابن تومرت النجاية في عبد المؤمن المذكور، وسار معه، وتلقب ابن تومرت بالمهدي. واستمر المهدي المذكور على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووصل الى مراكش، وشدد في النهي عن المنكرات وكثرت أتباعه، وحسنت ظنون الناس به، ولما اشتهر أمره استحضره أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بحضرة الفقهاء فناظرهم

وقطعهم، وأشار بعض وزراء علي بن يوسف بن تاشفين عليه بقتل ابن تومرت المهدي وقال: والله ماغرضه النهي عن المنكر والأمر بالمعروف بل غرضه التغلب على البلاد، فلم يقبل علي ذلك. فقال الوزير: وكان اسمه مالك بن وهيب من أهل قرطبة: فإذا لم تقتله فخلده في الحبس. فلم يفعل، وأمر بإخراجه من مراكش، فسار المهدي إلى أغمات ولحق بالجبل واجتمع عليه الناس وعرفهم أنه هو المهدي الذي وعد النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه، فكثرت أتباعه واشتدت شوكته، وقام إليه عبد المؤمن بن علي في عشرة أنفس، وقالوا له: أنت المهدي، وبايعوه على ذلك وتبعهم غيرهم، فأرسل أمير المسلمين علي إليه جيشاً فهزمه المهدي، وقويت نفوس أصحابه، وأقبلت إليه القبائل يبايعونه وعظم أمره، وتوجه إلى جبل عند تينمليل واستوطنه، ثم إن المهدي رأى من بعض جموعه قوماً خافهم. فقال: إن الله أعطان نوراً أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وجمع الناس إلى رأس جبل، وجعل يقول: عن كل من يخافه هذا من أهل النار، فيلقى من رأس الشاهق ميتاً، وكل من لا يخافه، هذا من أهل الجنة ويجعله عن يمينه، حتى قتل خلقاً كثيراً واستقام أمره وأمن على نفسه. وقيل: إن عدة الذين قتلهم سبعون ألفاً وسمي عامة أصحابه الداخلين في طاعته الموحدين، ولم يزل أمر ابن تومرت المهدي يعلو، إلى سنة أربع وعشرين وخمسمائة فجهز جيشاً يبلغون أربعين ألفاً فيهم الونشريسي وعبد المؤمن إلى مراكش، فحصروا أمير المسلمين بمراكش عشرين يوماً، ثم سار متولي سجلماسة بالعساكر للكشف عن مراكش وطلع أهل مراكش وأمير المسلمين واقتتلوا فقتل الونشريبسي، وصار عبد المؤمن مقدم العسكر، واشتد بينهم القتال إلى الليل، فانهزم عبد المؤمن بالعسكر إلى الجبل، ولما بلغ المهدي بن تومرت خبر هزيمة عسكره وكان مريضاً فاشتد مرضه، وسأل عن عبد المؤمن فقالوا سالم، فقال المهدي لم يمت أحد، وأوصى أصحابه باتباع عبد المؤمن وعرفهم أنه هو الذي يفتح البلاد، وسماه أمير المؤمنين، ثم مات المهدي في مرضه المذكور وكان عمره إحدى وخمسين سنة، ومدة ولايته عشر سنين، وعاد عبد المؤمن إلى تينمليل وأقام بها يؤلف قلوب الناس، إلى سنة ثمان وعشرين وخسمائة ثم سار عبد المومن واستولى على الجبال، وجعل أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ابنه تاشفين بن علي يسير في الوطاة قبالة عبد المؤمن، وفي سنة عائشة تسع وثلاثين سار عسكر عبد المؤمن إلى مدينة وهران، وسار تاشفين إليهم، وقرب الجمعان بعضهم من بعض، فلما كان ليلة تسع وعشرين من رمضان من هذه السنة وهي ليلة يعظمها المغاربة، سار تاشفين في جماعة يسيرة متخفياً. ليزور مكاناً على البحر، فيه متعبدون وصالحون، وقصد التبرك وبلغ الخبر مقدم جيش عبد المؤمن واسمه عمر بن يحيى الهنتماتي، فسار وأحاط بتاشفين بن علي بن يوسف، فركب تاشفين فرسه وحمل ليهرب، فسقط من جرف عال فهلك، وأخذ ميتاً،

ذكر غير ذلك:

وعلت جثته على خشبة، وقتل كل من كان معه وتفرق عسكر تاشفين، وسار عبد المؤمن إلى تلمسان وهي مدينتان بينهما شوط فرس، إحداهما اسمها قاروت بها أصحاب السلطان، والأخرى اسمها أفادير فملك عبد المؤمن قاروت أولاً، ثم قرر أمرها وجعل على أفادير جيشاً يحصرها، ثم سار عبد المؤمن إلى فاس وملكها بالأمان في آخر سنة أربعين وخمسمائة ورتب أمرها، ثم سار إلى سلا ففتحها في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وفتح عسكره أفادير بعد حصار سنة، وقتلوا أهلها، ثم سار عبد المؤمن ونازل مراكش، وكان قد مات علي بن يوسف صاحبها، وملك بعده ابنه تاشفين بن علي، ثم ملك بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين وهو صبي، فحاصرها عبد المؤمن أحد عشر شهراً وفتحها بالسيف وأمسك الأمير إسحاق وجماعة من أمراء المرابطين وجعل إسحاق يرتعد ويسأل العفو عنه، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقال له سير وهو من أكبر أمراء المرابطين وكان مكتوفاً: تبكي على أبيك وأمك، اصبر صبر الرجال، وبزق في وجه إسحاق، ثم قال عبد المؤمن إن هذا الرجل لا يدين الله بدين، فنهض الموحدون وقتلوا سير المذكور بالخشب، وقدم إسحاق على صغر سنه فضربت عنقه، سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وهو آخر ملوك المرابطين،. وبه انقرضت دولتهم، وكانت مدة ملكهم ثمانين سنة، لأن يوسف بن تاشفين حكم في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وانقرضت دولتهم في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وولى منهم أربعة: يوسف بن تاشفين وابنه علي بن يوسف وتاشفين بن علي، وإسحاق بن علي. ولما فتح عبد المؤمن مراكش استوطنها وبنى بقصر ملوك مراكش جامعاً وزخرفه، وهدم الجامع الذي بناه يوسف بن تاشفين، وكان ينبغي ذكر هذه الوقائع في مواضعها، وإنما قدمت لتتبع الأحاديث بعضها بعضاً. سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وفتح عسكره أفادير بعد حصار سنة، وقتلوا أهلها، ثم سار عبد المؤمن ونازل مراكش، وكان قد مات علي بن يوسف صاحبها، وملك بعده ابنه تاشفين بن علي، ثم ملك بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين وهو صبي، فحاصرها عبد المؤمن أحد عشر شهراً وفتحها بالسيف وأمسك الأمير إسحاق وجماعة من أمراء المرابطين وجعل إسحاق يرتعد ويسأل العفو عنه، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقال له سير وهو من أكبر أمراء المرابطين وكان مكتوفاً: تبكي على أبيك وأمك، اصبر صبر الرجال، وبزق في وجه إسحاق، ثم قال عبد المؤمن إن هذا الرجل لا يدين الله بدين، فنهض الموحدون وقتلوا سير المذكور بالخشب، وقدم إسحاق على صغر سنه فضربت عنقه، سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وهو آخر ملوك المرابطين،. وبه انقرضت دولتهم، وكانت مدة ملكهم ثمانين سنة، لأن يوسف بن تاشفين حكم في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وانقرضت دولتهم في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وولى منهم أربعة: يوسف بن تاشفين وابنه علي بن يوسف وتاشفين بن علي، وإسحاق بن علي. ولما فتح عبد المؤمن مراكش استوطنها وبنى بقصر ملوك مراكش جامعاً وزخرفه، وهدم الجامع الذي بناه يوسف بن تاشفين، وكان ينبغي ذكر هذه الوقائع في مواضعها، وإنما قدمت لتتبع الأحاديث بعضها بعضاً. ذكر غير ذلك: وفي هذه السنة أعني سنة أربع عشرة وخمسمائة أغار جوسلين الفرنجي صاحب الرها على جموع العرب والتركمان وكانوا نازلين بصفين، فغنم من أموالهم ومواشيهم شيئاً كثيراً، ثم عاد جوسلين إلى بزاعة فخر بها. وفيها في جمادى توفي أبو سعد عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري الإمام ابن الإمام، ولما توفي جلس الناس في البلاد البعيدة لعزائه. ثم دخلت سنة خمس عشرة وخمسمائة. ذكر وفاة صاحب إفريقية في هذه السنة توفي الأمير علي بن يحيى بن تميم صاحب إفريقية، في ربيع الآخر، وكانت إمارته خمس سنين وأربعة أشهر، وولي بعده ابنه الحسن بن علي وعمره اثنتا عشرة سنة، بعهد من أبيه، وقام بتدبير دولته صندل الخصي، وبقي صندل مدة ومات، وصار مدبر دولته القائد أبا غر بن موفق.

ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة أقطع السلطان محمود الموصل وأعمالها كالجزيرة وسنجار، للأمير أقسنقر البرسقي. وفيها قتل بمصر أمير الجيوش الأفضل بن بدر الجمالي، وكان قد ركب بمصر ومعه جمع كثير، فتأذى من الغبار، فسار قدامهم ومعه نفران، فوثب عليه ثلاثة بسوق الصياقلة وضربوه بالسكاكين، وأدركهم أصحابه فقتلوا الثلاثة، وحمل الأفضل إلى داره فمات بها وبقي الآمر بأحكام الله الخليفة العلوي صاحب مصر، ينقل من دار الأفضل الأموال ليلاً ونهاراً أربعين يوماً، ووجد له من الأموال والتحف ما لا يحصى، وكان عمر الأفضل سبعً وخمسين سنة وولايته ثمانياً وعشرين سنة، وقيل إن الآمر هو الذي جهز عليه من قتله، ولما قتل الأفضل ولي الآمر بأحكام الله بعده أبا عبد الله البطائحي. وفيها عصى سليمان بن أيلغازي بن أرتق على أبيه بحلب وكان فيمن حسن له ذلك إنسان من أهل حماة من بيت قرناص، وكان قد قدمه أيلغازي على أهل حلب، فجاراه بذلك، ولما سمع أيلغازي بذلك سار مجدّاً من ماردين وهاجم حلب وقطع يدي ابن قرناص ورجليه وسمل عينيه فمات، وأحضر ولده سليمان وأراد قتله فلحقته رقة الوالد فاستبقاه، وهرب سليمان إلى عند طغتكين بدمشق، واستناب أيلغازي على حلب ابن أخيه واسمه سليمان أيضاً بن عبد الجبار بن أرتق، وعاد أيلغازي إلى ماردين. وفيها أقطع السلطان محمود ميافارقين للأمير أيلغازي المذكور، وفيها كان بين بلك بن بهرام بن أرتق وبين جوسلين حرب، انتصر فيها بلك وقتل من الفرنج وأسر جوسلين وأسر معه ابن خالته كليام وأسر جماعة من فرسانه المشهورين، وبذل جوسلين في نفسه أموالاً كثيرة فلم يقبلها بلك، وسجنهم في قلعة خرتبرت. وفيها تضعضع الركن اليماني من البيت الحرام شرفه الله تعالى، من زلزلة وانهدم بعضه. وفيها توفي أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري مصنف كتاب المقامات المشهورة، ولد في حدود سنة ست وأربعين وأربعمائة، وكان إماماً في النحو واللغة، وصنف عدة مصنفات منها: المقامات التي طبق الأرض شهرتها، وكان الذي أمره بتصنيفها أنوشروان بن خالد بن محمد وزير السلطان محمود، فإن الحريري عمل مقامه واحدة على وضع مقامات البديع وعرضها على أنوشروان، وكان الحريري قد أولع بنتف لحيته والعبث بها، وقدم بغداد وسكن في الحريم، ووقع بينه وبين ابن جكينا مهاجاة، ثم نفي الحريري إلى المشان فقال فيه ابن جكينا يهجوه: شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس أنطقه الله في المشان وقد ... ألجمه في الحريم بالخرس

والمشان موضع من أعمال بغداد، وكان إذا غضب على شخص نفي إليه، وكان الحريري بصرى المولد والمنشأ وينتسب إلى ربيعة الفرس وخلف ولدين أحدهما عبيد الله، وهو أحد رواة المقامات عن والده، والثاني كان متفقهاً. وفيها أعني سنة خمس عشرة وخمسمائة قتل مؤيد الدين الحسين بن علي ابن محمد الطغرائي المنشي الدؤلي من ولد أبي الأسود الدؤلي من أهل أصفهان وكان عالماً فاضلاً شاعراً كاتباً منشئاً، خدم السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان وكان متولياً ديوان الطغر، ثم بقي على علو منزلته حتى استوزره السلطان مسعود، وجرى بينه وبين أخيه محمود الحرب، وانهزم مسعود فأخذ الطغرائي أسيراً وقتل صبراً، ومن شعره قصيدته المشهورة التي أولها: أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتي لدى العطل هكذا ذكره القاضي شهاب الدين. وما الشيخ عز الدين علي بن الأثير فذكر أن قتل الطغرائي كان في سنة أربع عشرة وخمسمائة، وقال عنه السلطان محمود: قد ثبت عندي فساد عقيدته، وأمر بقتله وكان الطغرائي قد جاوز ستين سنة، وكان يميل إلى عمل الكيمياء. وفيها أعني سنة خمس عشرة وخمسمائة، توفي بمصر علي بن جعفر بن علي محمد، المعروف بابن القطاع النحوي العروضي. وكان أحد الأئمة في علم الأدب واللغة، وله عدة مصنفات، ولد في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ثم دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة فيها قتل السلطان محمود جيوش بك، وهو الذي كان قد خرج على السلطان مع مسعود أخي السلطان ولما أمن محمود أخاه جيوش بك وأقطعه أذربيجان، سعت به الأمراء إلى محمود فقتله في رمضان على باب تبريز. ذكر وفاة أيلغازي في هذه السنة في رمضان، توفي أيلغازي بن أرتق، وملك بعده ابنه تمرتاق قلعة ماردين، وملك ابنه سليمان ميافارقين، وكان بحلب ابن أخيه سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، فبقي بها حاكماً إلى أن أخذها منه ابن عمه بلك بن بهرام بن رتق. وفيها أقطع السلطان محمود مدينة واسط لأقسنقر. البرسقي، زيادة على ما بيده من الموصل وأعمالها، فاستعمل البرسقي على واسط عماد الدين زنكي بن أقسنقر. وفيها توفي عبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن محمد ومولده سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وكان ثقة حافظاً للحديث. ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة في هذه السنة كان الحرب بين الخليفة المسترشد بالله وبين دبيس بن صدقة، فخرج الخليفة بنفسه، مع من اجتمع إليه، واشتد القتال بينه وبين دبيس، فانهزم دبيس وعسكره، وسار دبيس إلى غزية من العرب فلم يطيعوه فراح إلى المنتفق واتفقوا معه، وسار إلى البصرة، ونهبها، ثم سار دبيس إلى الشام وصار مع الفرنج، وأطمعهم في ملك حلب. وفيها سلم سليمان بن عبد الجبار بن أرتق

ذكر قتل بلك:

حصن الأثارب إلى الفرنج ليهادنوه على حلب، لعجزه عن مقاومتهم. وفيها سار بلك بن بهرام بن أرتق إلى حران وملكهما، ثم بلغه عجز ابن عمه سليمان عن حلب، فسار إلى حلب وملكها في جمادى الأولى. وفيها استولى الفرنج على خرتبرت وكان بها جوسلين وغيره من الفرنج محبوسين، وخلصوهم من خرتبرت، وكانت لبلك، ثم سار إليها بلك واسترجعهما من الفرنج. وفيها توفي قاسم بن هاشم العلوي الحسني، أمير مكة، شرفها الله تعالى، وولي بعده ابنه أبو فليتة وفيها سار طغتكين صاحب دمشق إلى حمص، وهجم المدينة ونهبها وحصر صاحبها قيرخان بن قراجا بالقلعة، ثم رحل عنه وعاد إلى دمشق. وفيها سار الأمير محمود بن قراجا صاحب حماة إلى أفامية، وهجم ربضها فأصابه سهم من القلعة في يده فعاد إلى حماة وعملت عليه يده فمات من ذلك، واستراح أهل حماة من ظلمه، فلما سمع طغتكين الخبر، أرسل إلى حماة عسكراً وملكها، وصارت حماة من جملة بلاده، وفيها توفي أحمد بن محمد بن علي، المعروف بابن الخياط الشاعر الدمشقي وله أشعار فائقة منها قصيدته التي منها: سلوا سيف ألحاظه الممتشق ... أعند القلوب دم للحدق من الترك ما سهمه إذ رمي ... بأفتك من طرفه إذ رمق ومنها: وللحب ما عزمني وهان ... وللحسن ما جل منه ودق وكانت ولادته في سنة خمس وأربعمائة بدمشق رحمه الله تعالى. ثم دخلت سنة ثماني عشرة وخمسمائة. ذكر قتل بلك: في هذه السنة قتل بلك بن بهرام بن أرتق صاحب حلب، وسببه أنه قبض على الأمير حسان البعلبكي صاحب منبج، وسار إلى منبج فملك المدينة وحصر القلعة، فبينما هو يقاتل إذ أتاه سهم فقتله لا يدري من رماه، فاضطرب عسكره وتفرقوا، وخلص حسان صاحب منبج وعاد إليها وملكها وكان في جملة عسكر بلك ابن عمه تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، فحمل بلك مقتولاً إلى حلب وتسلمها واستقر تمرتاش في ملك حلب في عشرين من ربيع الأول من هذه السنة، ورتب أمرها وعاد إلى ماردين. وفي هذه السنة ملك الفرنج مدينة صور بعد حصار طويل، وكانت للخلفاء العلويين أصحاب مصر، وكان ملكها بالأمان، وخرج المسلمون منها في العشرين من جمادى الأولى بما قدروا على حمله من أموالهم. وفيها اجتمعت الفرنج وانضم إليهم دبيس بن صدقة وحاصروا حلب، وأخذوا في بناء بيوت لهم بظاهرها فعظم الأمر على أهلها، ولم ينجدهم صاحبها تمرتاش لإيثاره الرفاهة والدعة، فكاتب أهل حلب أقسنقر البرسقي صاحب الموصل في

تسلميها إليه، فسار إليهم فلما قرب من حلب رحلت الفرنج عنها، وسلم أهل حلب المدينة والقلعة إليه، واستقرت في ملك البرسقي مع الموصل وغيرها. وفي هذه السنة مات الحسن بن الصباح مقدم الإسماعيلية صاحب الألموت وقد تقدم ذكره في ظهوره في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة في هذه السنة سار البرسقي إلى كفر طاب وأخذها من الفرنج، ثم سار إلى أعزاز وكانت لجوسلين، فاجتمعت الفرنج لقتاله، فاقتتلوا فانهزم البرسقي، وقتل من المسلمين خلق كثير. وفيها مات سالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب صاحب قلعة جعبر وملكهما بعده ابنه مالك بن سالم. ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة. ذكر مقتل البرسقي في هذه السنة ثامن ذي القعدة، قتلت الباطنية قسيم الدولة أقنسقر البرسقي صاحب الموصل يوم الجمعة في الجامع بالموصل، وهو في الصلاة، فوثب عليه منهم بضعة عشر نفساً، وكان البرسقي مملوكاً تركياً شجاعاً ديناً حسن السيرة، من خيار الولاة، رحمه الله تعالى، وكان ابنه عز الدين مسعود في حلب، فلما بلغه قتل أبيه سار إلى الموصل واستقر في ملكها. ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج في هذه السنة اجتمعت الفرنج وقصدوا دمشق، نزولاً في مرج الصفر عند قرية شقحب، وأرسل طغتكين وجمع التراكمين وغيرهم، وخرج إلى الفرنج والتقى معهم في أواخر ذي الحجة، وكان مع طغتكين رجالة كثيرة من التركمان واشتد القتال، فانهزم طغتكين والخيالة؛ وتبعهم الفرنج، ولم يقدر رجالة التركمان على الهرب، فقصدوا مخيم الفرنج وقتلوا كل من وجدوه من الفرنج، ونهبوا أموال الفرنج وأثقالهم، وسلموا بذلك. ولما عاد الفرنج من وراء المنهزمين وجدوا أثقالهم وخيمهم قد نهبت فانهزم أيضاً وفيها حصر الفرنج رفنية وملكوها وفيها توفي أبو الفتوح أحمد بن محمد بن محمد الغزالي الواعظ أخو أبي حامد الغزالي، وكانت له كرامات. وقد ذمه أبو الفرج ابن الجوزي بأشياء كثيرة، منها روايته في وعظه الأحاديث التي ليست بصحيحة. وكان من الفقهاء، غير أنه مال إلى الوعظ فغلب عليه، واختصر كتاب أخيه إحياء علوم الدين في مجلد وسماه لباب الأحياء ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وخمسمائة في هذه السنة ولى السلطان محمود شحنكية العراق عماد الدين زنكي بن أقنسقر مضافاً إلى ما بيده من ولاية واسط وفيها سار السلطان محمود عن بغداد وفي هذه السنة سار صاحب الموصل مسعود بن أقسنقر البرسقي إلى الرحبة واستولى عليها؛ ومرض وهو محاصرها؛ ومات مسعود يوم تسليم الرحبة إليه، وقام بالأمر بعد مسعود مملوك البرسقي اسمه جاولي أقام أخاً لمسعود صغيراً في الملك؛

ذكر غير ذلك

وأرسل إلى السلطان محمود يسأله في توليته فلم يجب إلى ذلك، وولى على الموصل عماد الدين زنكي بن أقسنقر، فسار عماد الدين من بغداد ورتب أمر الموصل، وأقطع جاولي مملوك البرسقي المذكور مدينة الرحبة، ثم سار عماد الدين واستولى على نصيبين وسنجار وحران وجزيرة ابن عمر. وفيها ولي السلطان محمود شحنكية العراق لمجاهد الدين بهروز بعد مسير عماد الدين زنكي عنها إلى الموصل. وفيها توفي محمد بن عبد الملك بن إبراهيم الفرضي الهمذاني صاحب التاريخ. وفيها توفي ظهير الدين إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط، وملك بعده أخوه أحمد بن سكمان، وبقي عشرة أشهر، وتوفي أحمد المذكور؛ فحكمت والدة إبراهيم وأحمد المذكورين؛ وهي إينانج خاتون بنت أركمان؛ وأقامت في المملكة معها ولد ولدها؛ وهو سكمان بن إبراهيم بن سكمان؛ وعمره حينئذ ست سنين، واستبدت إينانج بالحكم حسبما تقدم ذكره في سنة ست وخمسمائة ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة. ذكر ملك عماد الدين زنكي حلب كانت حلب للبرسقي وكان بها ولده مسعود، فلما قتل البرسقي وسار مسعود إلى الموصل استخلف على حلب أميراً اسمه قومار، كذا رأيته مكتوباً، وصوا به قيماز، ثم استخلف مسعود على حلب قتلغ بعد قيماز؛ فاستولى على حلب بعد موت مسعود على الرحبة كما ذكرنا، وأساء قتلغ السيرة، وكان مقيماً بحلب سليمان بن عبد الجبار بن أرتق الذي كان صاحبها أولاً، فاجتمع أهل حلب عليه لسوء سيرة قتلغ وملكوه مدينة حلب، وعصى قتلغ في القلعة؛ وسمع الفرنج باختلاف أهل حلب؛ فسار إليهم جوسلين فصالحوه بمال فرحل عنهم، وكان قد استقر عماد الدين زنكي في ملك الموصل؛ فأرسل عسكراً مع بعض قواده واسمه قراقوش إلى حلب ومعه توقيع السلطان محمود بالشام، فأجاب أهل حلب إليه، وتقدم عسكر عماد الدين إلى سليمان وقتلغ بالمسير إلى عماد الدين زنكي، فسار إليه إلى الموصل، فلما وصلا إلى عماد الدين زنكي أصلح بين سليمان وقتلغ ولم يرد واحداً منهما إلى حلب، وسار عماد الدين إلى حلب وملك في طريقه منبج وبزاغة، وطلع أهل حلب إلى تلقيه واستبشروا بقدومه، فدخل عماد الدين البلد ورتب أموره، ثم إن عماد الدين قبض على قتلغ وكحله فمات، وكان ملك عماد الدين زنكي حلب وقلعتها في المحرم من هذه السنة. ذكر غير ذلك وفي هذه السنة سار السلطان سنجر من خراسان إلى الري ومعه دبيس بن صدقة، وكان قد سار إلى سنجر واستجار به، فلما وصل سنجر إلى الري أرسل يستدعي ابن

أخيه السلطان محمود، فحضر محمود إلى عمه سنجر فأكرمه سنجر وأجلسه معه على السرير، وأمره بالإحسان إلى دبيس وإعادته إلى بلده، فامتثل السلطان محمود ذلك، وعاد سنجر إلى خراسان وفيها في صفر مات طغتكين صاحب دمشق، وهو من مماليك تنش بن ألب أرسلان، وكان طغتكين عاقلاً خيراً، وكان لقبه ظهير الدين، ولما توفي ملك دمشق بعده ابنه تاج الملوك توري بن طغتكين بعهد من والده، وكان توري أكبر أولاده. ثم دخلت ثلاث وعشرين وخمسمائة وفيها عاود دبيس العصيان على السلطان والخليفة، وترددت بينهم الرسل، فلم يحصل الصلح، فسار السلطان محمود إلى بغداد وجهز جيشاً كثيفاً في أمر دبيس، فعبر دبيس البرية بعد أن نهب البصرة وأموال الخليفة والسلطان. ذكر أخبار الإسماعلية بالشام

وقتلهم وحصر الفرنج دمشق:

وقتلهم وحصر الفرنج دمشق: كان قد سار رجل من الإسماعلية يسمى بهرام، بعد قتل خاله إبراهيم الأسترابادي ببغداد، إلى الشام، ودخل دمشق، ودعى الناس إلى مذهبه. وأعانه وزير توري صاحب دمشق، وهو طاهر ابن معد المزدغاني وسلم إلى بهرام قلعة بانياس، فعظم أمر بهرام بالشام، وملك عدة حصون بالجبال، وجرى بين بهرام وبين أهل وادي النيم مقاتلة فقتل فيها بهرام، وقام مقامه بقلعة بانياس رجل منهم يسمى إسماعيل. وأقام الوزير المزدغاني عوض بهرام بدمشق رجلاً منهم تسمى أبا الوفا، وعظم أمر أبي الوفا حتى صار الحكم له بدمشق، فكاتب أبو الوفا الفرنج، على أن يسلم إليهم دمشق، ويسلموا إليه عوضها مدينة صور، واتفقوا على ذلك. وأن يكون قدوم الفرنج إلى دمشق يوم الجمعة، ليجعل أبو الوفا أصحابه

ذكر غير ذلك:

على أبواب جامع دمشق. وعلم تاج الملوك توري صاحب دمشق بذلك، فاستدعى وزيره المزدغاني وقتله، وأمر بقتل الإسماعلية الذين بدمشق، فثأر بهم أهل دمشق، وقتلوا من الإسماعلية ستة آلاف نفر، ووصل الفرنج إلى الميعاد وحصروا دمشق، فلم يظفروا بشيء، وكان البرد والشتاء شديداً، فرحلوا عن دمشق شبه المنهزمين، وخرج توري بعسكر دمشق في إثرهم، وقتلوا منهم عدة كثيرة، وأما إسماعيل الباطني الذي كان في قلعة بانياس، فإنه سلم قلعة بانياس إلى الفرنج وصار معهم. ذكر ملك عماد الدين زنكي حماة في هذه السنة ملك عماد الدين زنكي حماة، وسببه أنه كان بحماة سونج بن توري نائباً بها عن أبيه توري، وكان قد سار عماد الدين زنكي من الموصل إلى جهة الشام، وعبر الفرات، وأرسل إلى توري يستنجده على الفرنج، فأرسل توري إلى ولده سونج بحماة يأمره بالمسير إلى عماد الدين زنكي، فسار سونج إليه، فغدر عماد الدين زنكي بسونج، وقبض عليه، وارتكب أمراً شنيعاً من الغدر، ونهب خيامه والعسكر الذين كانوا صحبته، واعتقل سونج وجماعة من مقدمي عسكره بحلب، ولما قبض عماد الدين زنكي على سونج، سار من وقته إلى حماة وملكها، لخلوها من الجند. ثم رحل عنها إلى حمص وحاصرها مدة، وكان قد غدر أيضاً بصاحبها قيرخان بن قراجا وقبض عليه، وأحضره صحبته إلى حمص ممسوكاً، وأمره أن يأمر ابنه وعسكره بتسليم حمص. فأمرهم قيرخان، فلم يلتفتوا إليه، فلما أيس زنكي منها رحل عنها عائداً إلى الموصل، واستصحب سونج وأمراء دمشق معه، واستمر بهم معتقلين، وكتب توري إليه، وبذل له مالاً في ابنه سونج فلم يتفق له حال. ذكر غير ذلك: وفي هذه السنة ملك الفرنج حصن القدموس. وفيها توفي أبو الفتح أسعد بن أبي نصر، الفقيه الشافعي، مدرس النظامية، وله طريقة مشهورة في الخلاف، وكان له قبول عظيم عند الخليفة والناس. وفيها توفي الشريف حمزة بن هبة الله بن محمد العلوي الحسيني النيسابوري، سمع الحديث الكثير ورواه. ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وجمع بين شرف النسب وشرف النفس، والتقوى، وكان زيدي المذهب. ثم دخلت سنة أربع وعشرين وخمسمائة. ذكر فتح الأثارب فيها جمع عماد الدين زنكي عساكره وسار من الموصل إلى الشام، وقصد حصن الأثارب لشدة ضرره على المسلمين، فإن أهله الفرنج كانوا يقاسمون أهل حلب على جميع أعمال

ذكر غير ذلك:

حلب الغربية، حتى على رحى بظاهر باب الجنان، بينها وبين سور حلب عرض الطريق. وأظن أن اسمها العريبة، وكان أهل حلب معهم في ضيق شديد، فسار عماد الدين إليه ونازله، وجمع الفرنج فارسهم وراجلهم وقصدوا عماد الدين، فرحل عماد الدين عن الأثارب وسار إلى ملتقاهم، فالتقوا واقتتلوا أشد قتال، ونصر الله المسلمين وانهزم الفرنج، ووقع كثير من فرسانهم في الأسر، وكثر القتل فيهم ولما فرغ المسلمون من ظفرهم عادوا إلى الأثارب فأخذوه عنوة، وقتلوا وأسموا كل من فيه، وخرب عماد الدين في ذلك الوقت حصن الأثارب المذكور، وجعله دكاً وبقي خراباً إلى الآن. ذكر وفاة الآمر بأحكام الله العلوي في هذه السنة في ذي القعدة قتل الآمر بأحكام الله العلوي أبو علي منصور بن المستعلي أحمد بن المستنصر معد العلوي صاحب مصر، وكان قد خرج إلى مستنزه له، فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه، وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنه وخمسة أشهر وخمسة عشر يوماً. وعمره أربعاً وثلاثين سنة. وهو العاشر من ولد المهدي عبيد الله. وهو العاشر من الخلفاء العلويين. ولما قتل الآمر لم يكن له ولد، فولى بعده ابن عمه الحافظ، عبد المجيد بن أبي القاسم بن المستنصر بالله، ولم يبايع أولاً بالخلافة، بل كان على صورة نائب لانتظار حمل إن ظهر للآمر. ولما تولى الحافظ، استوزر أبا علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي، فاستبد بالأمر، وتغلب على الحافظ وحجر عليه، ونقل أبو علي ما كان بالقصر من الأموال إلى داره، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن قتل أبو علي سنة ست وعشرين على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر غير ذلك: في هذه السنة كان الرصد في دار السلطنة شرقي بغداد، تولاه البديع الإسطرلابي ولم يتم. وفي هذه السنة ملك السلطان مسعود قلعة ألموت. وفيها توفي إبراهيم بن عثمان بن محمد الغزي عند قلعة بلخ ودفن فيها، وهو من أهل غزة، ومولده سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وهو من الشعراء المجيدين فمن قصائده المشهورة قصيدته التي مدح فيها الترك التي أولها: أمط عن الدرر الزهر اليواقيتا ... وأجعل لحج تلاقينا مواقيتا ومنها: في فتية من جيوش الترك ما تركت ... للرعد كراتهم صوتاً ولا صيتا قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة ... حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا ثم ترك الغزي قول الشعر وغسل كثيراً منه وقال: قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة ... باب البواعث والدواعي مغلق خلت البلاد فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق

ذكر غير ذلك

ومن العجائب أنه لا يشترى ... ويخان فيه مع الكساد ويسرق ثم دخلت سنة خمس وعشرين وخمسمائة. فيها أسر دبيس بن صدقة وسبب ذلك مسيره من العراق إلى صرخد، لأن صرخد كان صاحبها خصياً، وكانت له سرية، فتوفي الخصي في هذه السنة، واستولت سريته على قلعة صرخد وما فيها، وعلمت أنه لا يتم لها ذلك إن لم تتصل برجل يحميها، فأرسلت إلى دبيس ابن صدقة تستدعيه للتزوج به، وتسلم إليه صرخد وما فيها من مال وغيره. فسار دبيس من العراق إليها، فضل به الأدلاء بنواحي دمشق، فنزل بناس من كلب كانوا شرقي الغوطة، فأخذوه وحملوه إلى تاج الملوك توري بن طغتكين صاحب دمشق، في شعبان من هذه السنة، فحبسه توري، وسمع عماد الدين زنكي بأسر دبيس، فأرسل إلى توري يطلبه، ويبذل له إطلاق ولده سونج ومن معه من الأمراء الذين غدر بهم زنكي وقبضهم. كما تقدم ذكره. فأجاب توري إلى ذلك، وأفرج زنكي عن المذكورين، وتسلم دبيس، فأيقن دبيس بالهلاك، لأنه كان كثير الوقيعة في عماد الدين زنكي، ففعل معه الزنكي بخلاف ما كان يظن، وأحسن إلى دبيس، وحمل إليه الأموال والسلاح والدواب، وقدمه على نفسه، ولم يزل دبيس مع عماد الدين زنكي حتى انحدر معه إلى العراق على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وسمع الخليفة المسترشد بقبض دبيس، فأرسل يطلبه مع سديد الدولة ابن الأنباري، وأبي بكر بن بشر الجزري. فأمسكهما عماد الدين زنكي، وسجن ابن الأنباري، ووقع منه في حق ابن بشر مكروه قوي، ثم شفع المسترشد في ابن الأنباري فأطلقه. ذكر وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود في هذه السنة في شوال، توفي السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود ابن ميكائيل بن سلجوق بهمدان. فأقعد وزيره أبو القاسم النساباذي. ابنه داود بن محمود في السلطنة، وصار أتابكه أقسنقر الأحمديلي. وكان عمر السلطان محمود لما توفي، نحو سبع وعشرين سنة، وكانت ولايته السلطنة اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرين يوماً، وكان حليماً عاقلاً يسمع المكروه ولا يعاقب عليه، مع قدرته عليه. ذكر غير ذلك في هذه السنة وثب الباطنية على تاج الملوك توري بن طغتكين صاحب دمشق. فجرحوه جرحين، برئ أحدهما وبقي الآخر ينسر عليه، إلا أنه يجلس للناس ويركب على ضعف فيه. وفيها توفي حماد بن مسلم الرحبي الرياشي الزاهد المشهور، صاحب الكرامات، وسمع الحديث، وله أصحاب وتلاميذ كثيرة، وكان أبو الفرج ابن الجوزي يذمه ويثلبه. ثم دخلت سنة ست وعشرين وخمسمائة فيها قتل أبو علي بن الفضل بن بدر الجمالي، وزير الحافظ لدين الله العلوي. وكان أبو علي المذكور قد حجر على الحافظ، وقطع

وبين عماد الدين زنكي:

خطبة العلويين وخطب لنفسه خاصة، وقطع من الأذان " حي على خير العمل "، فنفرت منه قلوب شيعة العلويين، وثار به جماعة من المماليك، وهو يلعب الكرة فقتلوه، ونهبت داره. وخرج الحافظ من الاعتقال ونقل ما بقي في دار أبي علي إلى القصر، وبويع الحافظ في يوم قتل أبي علي بالخلافة، واستوزر أبا الفتح يانس الحافظي، وبقي يانس مدة قليلة ومات، فاستوزر الحافظ ابنه الحسن بن الحافظ، وخطب له بولاية العهد، ثم قتل الحسن المذكور سنة تسع وعشرين وخمسمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفي هذه السنة تحرك السلطان مسعود بن محمد في طلب السلطنة وأخذها من ابن أخيه داود ابن محمود، وكذلك تحرك سلجوق بن محمد صاحب فارس، أخو مسعود، وأتابكه قراجا الساقي، في طلب السلطنة، وقدم سلجوق إلى بغداد، واتفق الخليفة المسترشد معه، واستنجد مسعود بعماد الدين زنكي، فسار إلى بغداد لقتال الخليفة وسلجوق، فقاتله قراجا أتابك سلجوق وانهزم زنكي إلى تكريت، وعبر منها، وكان الدزدار بها إذ ذاك نجم الدين أيوب فأقام له المعابر فعبر عماد الدين وسار إلى بلاده، وكان هذا الفعل من نجم الدين أيوب سبباً للاتصال بعماد الدين زنكي، حتى ملك أيوب البلاد. ثم اتفق الحال بين مسعود وأخيه سلجوق والخليفة المسترشد على أن تكون السلطنة لمسعود، ويكون أخوه سلجوق شاه ولي عهده، وعادوا إلى بغداد، ونزل مسعود بدار السلطنة وسلجوق بدار الشحنكية، وكان اجتماعهم في جمادى الأولى من هذه السنة، ثم إن السلطان سنجر سار من خراسان ومعه طغريل ابن أخيه السلطان محمد، لأخذ السلطنة من مسعود، وجرى المصاف بينه وبين مسعود وسلجوق، فانهزم مسعود ثم إن السلطان سنجر بذل الأمان لمسعود، فحضر عنده، وكان قد بلغ خونج فلما رآه سنجر قبله وأكرمه وعاتبه وأعاده إلى كنجه، وأجلس الملك طغريل في السلطنة، وخطب له في جميع البلاد، ثم عاد إلى خراسان، فوصل إلى نيسابور في رمضان من هذه السنة. ذكر الحرب بين المسترشد الخليفة وبين عماد الدين زنكي: في هذه السنة سار عماد الدين زنكي ومعه دبيس بن صدقة وعدى الخليفة إلى الجانب الغربي، وسار ونزل بالعباسية ونزل عماد الدين بالمنارية من دجيل. والتقيا بحصن البرامكة في سابع وعشرين رجب، فحمل عماد الدين على ميمنة الخليفة فهزمها، وحمل الخليفة بنفسه وبقية العسكر، فانهزم دبيس ثم انهزم عماد الدين، وقتل بينهم خلق كثير. ذكر وفاة توري صاحب دمشق في هذه السنة توفي تاج الملوك بن طغتكين صاحب دمشق، بسبب الجرح الذي كان به من الباطنية، على ما تقدم ذكره، فتوفي في حادي وعشرين رجب وكانت إمارته أربع

سنين وخمسة أشهر وأياماً. ووصى بالملك بعده لولده شمس الملوك إسماعيل، ووصى ببعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد، وكان توري شجاعاً سد مسد أبيه. ولما استقر إسماعيل بن توري في ملك دمشق وأعمالها، واستقر أخوه محمد في ملك بعلبك، واستولى محمد على حصن الرأس وحصن اللبوة، وكاتب إسماعيل صاحب دمشق أخاه محمداً صاحب بعلبك في إعادتهما، فلم يقبل محمد ذلك، فسار إسماعيل وفتح حصن اللبوة، ثم حصن الرأس، وقرر أمرهما، ثم سار إلى أخيه محمد وحصره ببعلبك وملك المدينة، وحصر القلعة، فسأله محمد في الصلح فأجابه، وأعاد عليه بعلبك وأعمالها. واستقرت أمورهما، وعاد إسماعيل إلى دمشق مؤيداً منصوراً. ثم دخلت سنة سبع وعشرين وخمسمائة. فيها سار شمس الملوك إسماعيل بن توري صاحب دمشق على غفلة من الفرنج إلى حصن بانياس، فملك مدينة بانياس بالسيف، وقتل وأسر من كان بها، وحاصر قلعة بانياس وتسلمها بالأمان. وفي هذه السنة جمع السلطان مسعود العساكر وانضم إليه ابن أخيه داود بن محمود، وسار السلطان مسعود إلى أخيه طغريل وجرى بينهما قتال شديد، انهزم فيه طغريل، واستولى مسعود على السلطنة، وتبع أخاه طغريل يطرده من موضع إلى موضع، حتى وصل إلى الري. واقتتلا ثانياً فانهزم طغريل أيضاً وأسر جماعة من أمرائه. وفيها سار الخليفة المسترشد بعساكر بغداد، وحصر الموصل ثلاثة أشهر، وكان عماد الدين زنكي قد خرج من الموصل إلى سنجار، وحصن الموصل بالرجال والذخائر، ثم رحل الخليفة عن الموصل وعاد إلى بغداد ووصل إليها في يوم عرفة، ولم يظفر منها بطائل. ذكر ملك شمس الملوك إسماعيل مدينة حماة وفي هذه السنة، سار إسماعيل بن توري صاحب دمشق من دمشق في العشر الآخر من رمضان إلى حماة، وهي لعماد الدين زنكي، من حين غدر بسونج بن توري وأخذها منه، حسبما تقدم ذكره في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة فحصرها شمس الملوك إسماعيل، وقاتل من بها يوم عيد الفطر، وعاد ولم يملكها فلما كان الغد، بكر إليهم وزحف من جميع جوانب البلد فملكه عنوة، وطلب من به الأمان فأمنهم، وحصر القلعة ولم تكن إذ ذاك حصينة، فإنها حصنت فيما بعد، لأن تقي الدين عمر ابن أخي السلطان صلاح الدين، قطع جبلها وعملها على ما هي عليه الآن، في سنين كثيرة، فلما حصرها شمس الملوك إسماعيل، وعجز النائب بها عن حفظها، فسلمها إليه، فاستولى عليها وعلى ما بها من ذخائر وسلاح، وذلك في شوال من هذه السنة.، لما فرغ شمس الملوك إسماعيل من حماة، سار إلى شيزر وبها صاحبها من بني منقذ، فنهب بلدها وحصر القلعة، فصالحه صاحبها بمال حمله إليه، فعاد عنها وسار إلى دمشق، ووصل إليها في ذي القعدة من هذه السنة.

ذكر غير ذلك من الحوادث

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة اجتمعت التراكمين وقصدوا طرابلس، فخرج من بها من الفرنج إليهم واقتتلوا، فانهزم الفرنج وسار القومص صاحب طرابلس ومن في صحبته، فانحصروا في حصن بعرين وحصرهم التركمان بها، ثم هرب القومص من الحصن في عشرين فارساً، وخلى بحصن بعرين من يحفظه ثم جمع الفرنج وقصدوا التركمان، ليرحلوهم عن بعرين، فاقتتلوا فانحاز الفرنج إلى نحور فنية وعاد التركمان عنهم. وفيها اشترى الإسماعلية حصن القدموس من صاحبه ابن عمرون. وفيها وفي ربيع الآخر، وثب على شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق، بعض مماليك جده طغتكين، فضربه بسيف فلم يعمل فيه، وتكاثر على ذلك الشخص مماليك شمس الملوك فقبضوه، وقرره شمس الملوك فقال ما أردت إلا إراحة المسلمين من شرك وظلمك، ثم أقر على جماعة من شدة الضرب، فقتلهم من غير تحقيق، وقتل شمس الملوك إسماعيل أيضاً مع ذلك الشخص أخاه سونج بن توري، الذي كان بحماة وأسره زنكي، على ما تقدم ذكره في سنة ثلاثة وعشرين وخمسمائة، فعظم ذلك على الناس ونفروا من شمس الملوك إسماعيل المذكور. وفيها توفي علي بن يعلي بن عوض الهروي، وكان واعظاً، وله بخراسان قبول كثير، وسمع الحديث فأكثر. وفيها توفي أبو فليتة أمير مكة، وولي إمارة مكة بعده أبو القاسم. ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. فيها في المحرم سار شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق إلى حصن الشقيق، وكان بيد الضحاك بن جندل، رئيس وادي التيم، قد تغلب عليه وامتنع به، فأخذه شمس الملوك منه، وعظم ذلك على الفرنج، وقصدوا بلد حوران، وجمع شمس الملوك الجموع وناوشهم، ثم أغار على بلادهم من جهة طبرية، ففت ذلك في أعضاد الفرنج؛ ورحلوا عائدين إلى بلادهم، ثم وقعت الهدنة بينهم وبين شمس الملوك. وفي هذه السنة استولى عماد الدين زنكي على جميع قلاع الأكراد الحميدية، منها قلعة العقير، قلعة شوش وغيرهما ثم استولى على قلاع الهكارية وكواشي. وفيها أوقع ابن دانشمند صاحب ملطية بالفرنج الذين بالشام، فقتل كثيراً منهم. وفيها اصطلح الخليفة المسترشد وعماد الدين زنكي. ثم دخلت سنة تسمع وعشرين وخمسمائة. فيها مات السلطان طغريل ابن السلطان محمد، وكان بعد هزيمته من أخيه مسعود، قد استولى على بلاد الجبل فمات في هذه السنة في المحرم، وقيل إن وفاته كانت في أول سنة ثمان وعشرين، وهو الأصح في ظني، وكان مولده سنة ثلاث وخمسمائة في المحرم أيضاً وكان خيراً عاقلاً، ولما بلغ أخاه مسعوداً خبر وفاته، سار نحو همذان، وأقبلت العساكر جميعاً إليه، واستولى على همذان وطاعته البلاد جميعها.

وأسر الخليفة وقتله:

ذكر قتل إسماعيل صاحب دمشق في هذه السنة في رابع عشر ربيع الآخر، قتل شمس الملوك إسماعيل بن توري بن طغتكين، وكان مولده في سابع جمادى الآخرة، سنة ست وخمسمائة، قتله على غفلة جماعة باتفاق من والدته، وقد اختلف في سببه فقيل إن الناس لفرط جور إسماعيل المذكور، وظلمه ومصادرته، كرهوه وشكوه لأمه، فاتفقت مع من قتله، وقيل بل إن أمه اتهمت بشخص من أصحاب والده يقال له يوسف بن فيروز، فأراد قتل أمه فاتفقت مع من قتله. وسر الناس بقتله، ولما قتل ملك بعده أخوه شهاب الدين محمود بن توري، وحلف له الناس. وفيها بعد قتل شمس الملوك، وصل عماد الدين زنكي إلى دمشق، وحصرها وضيق عليها، وقام في حفظ البلد معين الدين أنز مملوك طغتكين، القيام التام الذي تقدم به، واستولى على الأمر بسببه، فلما لم ير زنكي في أخذ دمشق مطمعه اصطلح مع أهلها ورحل عنها عائداً إلى بلاده. ذكر قتل حسن بن الحافظ لدين الله العلوي قد تقدم في سنة ست وعشرين وخمسمائة أن أباه استوزره، فتغلب حسن المذكور على الأمر واستبد به، وأساء السيرة وأكثر من قتل الأمراء وغيرهم ظلماً وعدواناً، وأكثر من مصادرات الناس، فأراد العسكر الإيقاع به وبأبيه، فعلم أبوه الحافظ ذلك، فسقاه سماً فمات، ولما مات حسن، استوزر الحافظ، تاج الدولة بهرام، وكان نصرانياً فتحكم واستعمل الأرمن على الناس، فكان ما سنذكره. الحرب بين الخليفة المسترشد وبين السلطان مسعود وأسر الخليفة وقتله: في هذه السنة، كانت الحرب بين الخليفة المسترشد وبين السلطان مسعود، وسببه أن جماعة من عسكر مسعود فارقوه مغاضبين، واتصلوا بالخليفة المسترشد، وهونوا عليه قتال السلطان مسعود، فاغتر بكلامهم وسار من بغداد إلى قتال السلطان مسعود، وسار مسعود إليه واتقعوا عاشر رمضان من هذه السنة، فصار غالب عسكر الخليفة مع مسعود، وانهزم الباقون، وأخذ الخليفة المسترشد أسيراً ونهب عسكره، وأسروا وبقى المسترشد مع مسعود أسيراً، ثم سار به مسعود من همذان إلى مراغة، في شوال، لقتال ابن أخيه داود بن محمود فنزل على فرسخين من مراغة والمسترشد معه في خيمة منفردة، وكان قد اتفق مسعود مع الخليفة على مال يحمله الخليفة إليه وأن لا يعود يخرج من بغداد، واتفق وصول رسول السلطان سنجر إلى مسعود، فركب مسعود والعساكر لملتقاه، فوثبت الباطنية على المسترشد، وهو في تلك الخيمة فقتلوه ومثلوا به، فجدعوا أنفه وأذنيه، وقتل معه نفر من أصحابه، وكان قتل

ذكر غير ذلك

المسترشد يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة بظاهر مراغة، وكان عمره لما قتل ثلاثاً وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوماً. وأمه أم ولد، وكان فصيحاً حسن الخط شهماً. ذكر خلافة الراشد وهو الثلاثون من خلفاء بني العباس لما قتل المسترشد بالله، بويع ابنه الراشد بالله أبو جعفر المنصور بن المسترشد فضل بن المستظهر أحمد، وكان أبوه قد بايع له بولاية العهد في حياته، ثم بعد قتله جددت له بيعة في يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي القعدة، من هذه السنة، وكتب مسعود إلى بغداد بذلك، فحضر بيعته أحد وعشرين رجلاً من أولاد الخلفاء. ذكر قتل دبيس في هذه السنة قتل السلطان مسعود، دبيس بن صدقة على باب سرداقه، بظاهر مدينة خوى، أمر غلاماً أرمنياً بقتله، فوقف على رأس دبيس وهو ينكث في الأرض بإصبعه، فضرب رقبته وهو لا يشعر، وكان ابنه صدقة بن دبيس بالجيلة، فلما بلغه الخبر، اجتمع عليه عسكر أبيه، وكثر جمعه، وما أكثر ما يتفق قرب موت المتعاديين فإن دبيساً كان يعادي المسترشد بالله، فاتفق قتل أحدهما عقيب قتل الآخر. ذكر غير ذلك: في هذه السنة استولى الفرنج على جزيرة جربة، من أعمال إفريقية، وهرب وأسر من كان بها من المسلمين. وفيها صالح المستنصر بن هود الفرنج على تسليم حصن زوطة من بلاد الأندلس، وسلمه إلى صاحب طليطلة الفرنجي. ثم دخلت سنة ثلاثين وخمسمائة. ذكر ملك شهاب الدين حمص في هذه السنة في الثاني والعشرين من ربيع الأول، تسلم شهاب الدين محمود بن توري صاحب دمشق مدينة حمص وقلعتها، وسبب ذلك أن أصحابها أولاد الأمير قيرخان بن قراجا، والوالي بها من قبلهم، ضجروا من كثرة تعرض عماد الدين زنكي إليها وإلى أعمالها، فراسلوا شهاب الدين في أن يسلموها إليه، ويعطيهم عوضها تدمر، فأجابهم إلى ذلك وتسلم حمص، وأقطعها المملوك جده معين الدين أنز، وسلم إليهم تدمر. فلما رأى عسكر زنكي بحلب وحماة خروج حمص إلى صاحب دمشق، تابعوا الغارات على بلدها، فأرسل شهاب الدين محمود إلى عماد الدين زنكي في الصلح، فاستقر بينهما، وكف عسكر عماد الدين عن حمص.

وهو حادي ثلاثينهم

ذكر غير ذلك فيها سارت عساكر عماد الدين زنكي الذين بحلب وحماة، ومقدمهم إسوار نائب زنكي بحلب إلى بلاد الفرنج بنواحي اللاذقية، وأوقعوا بمن هناك من الفرنج، وكسبوا من الجواري والمماليك والأسرى والدواب ما ملأ الشام من الغنائم، وعادوا سالمين. ذكر خلع الراشد وخلافة المقتفي وهو حادي ثلاثينهم كان الراشد قد اتفق مع بعض ملوك الأطراف، مثل عماد الدين زنكي وغيره، على خلاف السلطان مسعود، وطاعة داود بن السلطان محمود، فلما بلغ مسعوداً ذلك، جمع العساكر وسار إلى بغداد، ونزل عليها وحصرها، ووقع في بغداد النهب من العيارين والمفسدين، ودام مسعود محاصرها نيفاً وخمسين يوماً فلم يظفر بهم، فارتحل إلى النهروان. ثم وصل طرنطي صاحب واسط بسفن كثيرة فعاد مسعود إلى بغداد وعبر إلى غربي دجلة، واختلفت كلمة عساكر بغداد، فعاد الملك داود إلى بلاده أذربيجان في ذي القعدة، وسار الخليفة الراشد من بغداد مع عماد الدين زنكي إلى الموصل، ولما سمع مسعود بمسير الخليفة وزنكي، سار إلى بغداد واستقر بها في منتصف ذي القعدة، وجمع مسعود القضاة وكبراء بغداد، وأجمعوا على خلع الراشد، بسبب أنه كان قد عاهد مسعود على أنه لا يقاتله، ومتى خالف ذلك فقد خلع نفسه، وبسبب أمور ارتكبها، فخلع وحكم بفسقه وخلعه. وكانت مدة خلافة الراشد أحد عشر شهراً وأحد عشر يوماً، تم استشار السلطان مسعود فيمن يقيمه في الخلافة، فوقع الاتفاق على محمد بن المستظهر فأحضر وأجلس في الميمنة، ودخل إليه السلطان مسعود وتحالفا، ثم خرج السلطان وأحضر الأمراء وأرباب المناصب والقضاة والفقهاء وبايعوه، ولقبوه المقتفي لأمر الله، والمقتفي عم الراشد المذكور، وهو والمسترشد أبناء المستظهر، وليا الخلافة، وكذلك السفاح والمنصور أخوان، وكذلك المهدي والرشيد أخوان، وكذلك الواثق والمتوكل، وأما ثلاثة أخوة ولوا الخلافة، فالأمين والمأمون والمعتصم أولاد الرشيد، وكذلك المكتفي والمقتدر والقاهر، والمعتضد والراضي والمتقي والمطيع بنو المقتدر. وأما أربعة إخوة ولوها، فالوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك بن مروان، لا يعرف غيرهم. وعمل محضر بخلع الراشد، وأرسل إلى الموصل، وزاد المتقي في إقطاع عماد الدين زنكي وألقابه، وأرسل المحضر، فحكم به قاضي القضاة الزينبي بالموصل، وخطب للمقتفي في الموصل في رجب سنة إحدى وثلاثين. ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. فيها عزل الحافظ وزيره بهرام النصراني الأرمني، بسبب ما اعتقد من تولية الأرمن على المسلمين وإهانتهم لهم، فأنف من ذلك شخص يسمى رضوان بن الوكحشي، وجمع جمعاً وقصد بهرام، فهرب بهرام إلى الصعيد. ثم عاد وأمسكه الحافظ وحبسه في القصر. ثم إن بهرام المذكور ترهب وأطلقه الحافظ، ولما هرب بهرام، استوزر الحافظ

رضوان المذكور، ولقبه الملك الأفضل، وهو أول وزير للمصريين لقب بالملك. ثم إنه فسد ما بين رضوان والحافظ، فهرب رضوان وجرى له أمور يطول شرحها، آخرها أن الحافظ قتل رضوان المذكور، ولم يستوزر بعده أحداً، وباشر الأمور بنفسه إلى أن مات. حصر زنكي حمص ورحيله إلى بارين وفتحها في هذه السنة نزل عماد الدين زنكي حمص، وبها صاحبها معين الدين أتز فلم يظفر بها، فرحل عنها في العشرين من شوال إلى بعرين، وحصر قلعتها، وهي للفرنج، وضيق عليها، فجمع الفرنج ملوكهم ورجالهم وساروا إلى زنكي ليرحلوه عن بعرين، فلما وصلوا إليه لقيهم وجرى بينهم قتال شديد، فانهزمت الفرنج، ودخل كثير من ملوكهم لما هربوا إلى حصن بعرين، وعاود عماد الدين زنكي حصار الحصن وضيق عليه، وطلب الفرنج الأمان، فقرر عليهم تسليم حصن بعرين وخمسين ألف دينار يحملونها إليه، فأجابوا إلى ذلك، فأطلقهم وتسلم الحصن وخمسين ألف دينار. وكان زنكي في مدة مقامه على حصار بعرين قد فتح المعرة وكفر طاب وأخذهما من الفرنج. وحضر أهل المعرة وطلبوا تسليم أملاكهم التي كان قد أخذها الفرنج، فطلب زنكي منهم كتب أملاكهم، فذكروا أنها عدمت، فكشف من ديوان حلب عن الخراج، وأفرج عن كل ملك كان عليه الخراج لأصحابه. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. ملك عماد الدين زنكي حمص وغيرها في هذه السنة في المحرم، وصل زنكي حماة وسار منها إلى بقاع بعلبك، فملك حصن المجدل، وكان لصاحب دمشق، وراسله مستحفظ بانياس وأطاعه، وسار إلى حمص وحصرها. ثم رحل عنها إلى سلمية بسبب نزول الروم على حلب، على ما نذكره. ثم عاد إلى منازلة حمص فسلمت إليه المدينة والقلعة. وأرسل عماد الدين زنكي وخطب أم شهاب الدين محمود، صاحب دمشق، وتوجها واسمها مردخاتون بنت جاولي، وهي التي قتلت ابنها شمس الملوك إسماعيل بن توري، وهي التي بنت المدرسة المطلة على وادي الشقرا بظاهر دمشق، وحملت الخاتون إلى عماد الدين في رمضان، وإنما تزوجها طمعاً على الاستيلاء على دمشق، لما رأى من تحكمها، فلما خاب ما أمله ولم يحصل على شيء، أعرض عنها. وصول ملك الروم إلى الشام وما فعله كان قد خرج ملك الروم متجهزاً من بلاده في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فاشتغل بقتال الأرمن وصاحب أنطاكية وغيره من الفرنج، فلما دخلت هذه السنة، وصل إلى الشام وسار إلى بزاعة وهي على ستة فراسخ من حلب، وحاصرها وملكها بالأمان في الخامس

والعشرين من رجب، ثم غدر بأهلها وأسر وسبى، وتنصر قاضيها، وقدر أربعمائة نفس من أهلها، وأقام على بزاعة بعد أخذها عشرة أيام، ثم رحل عنها بمن معه من الفرنج إلى حلب، ونزل على قويق، وزحف على حلب، وجرى بين أهلها وبينهم قتال كثير، فقتل من الروم بطريق عظيم القدر عندهم، فعادوا خاسرين، وأقاموا ثلاثة أيام ورحلوا إلى الأثارب وملكوها، وتركوا فيها سبايا بزاعة وتركوا عندهم من الروم من يحفظهم. وسار ملك الروم بمجموعة من الأثارب نحو شيزر، فخرج الأمير أسوار نائب زنكي بحلب بمن عنده، وأوقع بمن في الأثارب من الروم فقتلهم واستفكت أسرى بزاعة وسباياها، وسار ملك الروم بجموعه إلى شيزر وحصرها، ونصب عليها ثمانية عشر منجنيقاً، وأرسل صاحب شيزر أبو العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن نصر ابن منقذ الكناني إلى زنكي يستنجده، فسار زنكي ونزل على العاصي بين حماة وشيزر، وكان يركب عماد الدين زنكي وعسكره كل يوم، ويشرفون على الروم وهم محاصرون لشيزر، بحيث يراهم الروم ويرسل السرايا فيأخذون كل ما يظفرون به منهم، وأقام ملك الروم محاصراً شيزر أربعة وعشرون يوماً، ثم رحل عنها من غير أن ينال منها غرضاً، وسار زنكي في أثر الروم، فظفر بكثير ممن تخلف منهم، ومدح الشعراء زنكي بسبب ذلك، فأكثروا، فمن ذلك ما قاله مسلم بن خضر بن قسيم الحموي من أبيات: لعزمك أيها الملك العظيم ... تذل لك الصعاب وتستقيم ألم تر أن كلب الروم لما ... تبين أنه الملك الرحيم وقد نزل الزمان على رضاء ... ودان لخطبه الخطب العظيم فحين رميته بك عن خميس ... تيقن فوت ما أمسى يروم كأنك في العجاج شهاب نور ... توقد وهو شيطان رجيم أراد بقاء مهجته فولى ... وليس سوى الحمام له حميم ذكر مقتل الراشد كان الراشد قد سار من بغداد إلى الموصل مع عماد الدين زنكي وخلع كما تقدم ذكره. ثم فارق الراشد زنكي وسار من الموصل إلى مراغة، واتفق الملك داود بن السلطان محمود وملوك تلك الأطراف، على خلاف السلطان مسعود وقتاله، وإعادة الراشد إلى الخلافة، وسار السلطان مسعود إليهم واقتتلوا، فانهزم داود وغيره، واشتغل أصحاب السلطان مسعود بالكسب، وبقي وحده، فعمل عليه أميران يقال لهما بوزايه وعبد الرحمن طغايرك، فانهزم مسعود من بين أيديهما، وقبض بوزايه على جماعة من أمرائه، وعلى صدقة بن دبيس صاحب الحلة، ثم قتلهم أجمعين. وكان الراشد إذ ذاك بهمذان، فلما كان من الوقعة ما كان سار الملك داود إلى فارس، وتفرقت تلك الجموع وبقي الراشد وحده، فسار إلى أصفهان، فلما

ذكر غير ذلك:

كان الخامس والعشرون من رمضان، وثب عليه نفر من الخرسانية الذين كانوا في خدمته، فقتلوه وهو يريد القيلولة، وكان من أعقاب مرض قد برئ منه، ودفن بظاهر أصفهان بشهرستان، ولما وصل خبر قتل الراشد إلى بغداد، جلسوا لعزائه يوماً واحداً. ذكر غير ذلك: في هذه السنة ملك حسام الدين تمرتاش بن أيلغازي صاحب ماردين، قلعة الهتاخ من ديار بكر، أخذها من بعض بني مروان الذين كانوا ملوك ديار بكر جميعها وهو آخر من بقي منهم. وفيها قتل السلطان مسعود البقش، شحنة بغداد. وفيها جاءت زلزلة عظيمة بالشام والعراق وغيرهما من البلاد فخربت كثيراً هلك تحت الهدم عالم كثير. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه في هذه السنة في المحرم، شار سنجر بجموعه إلى خوارزم شاه أطسز بن محمد بن أنوش تكين، وقد تقدم ذكر ابتداء أمر محمد بن أنوش تكين في سنة تسعين وأربعمائة. ووصل سنجر إلى خوارزم، وخرج خوارزم شاه لقتاله، واقتتلوا، فانهزم أطسز خوارزم شاه، واستولى سنجر على خوارزم وأقام بها من يحفظها، وعاد إلى مرو في جمادى الآخرة من هذه السنة، وبعد أن عاد سنجر إلى بلاده، عاد أطسز إلى خوارزم واستولى عليها. قتل محمود صاحب دمشق في هذه السنة في شوال قتل شهاب الدين محمود بن توري بن طغتكين صاحب دمشق، قتله غيلة على فراشه ثلاثة من خواص غلمانه وأقرب الناس منه، كانوا ينامون عنده، فقتلوه وخرجوا من القلعة وهربوا فنجا أحدهم وأخذ الاثنان وصلبا، واستدعى معين الدين أتز أخاه جمال الدين محمد بن توري، وكان صاحب بعلبك فحضر إلى دمشق وملكها. ذكر ملك زنكي بعلبك في هذه السنة في ذي القعدة، سار عماد الدين زنكي إلى بعلبك، ووصل إليها في العشرين من ذي الحجة وحصرها ونصب عليها أربعة عشر منجنيقاً فطلب أهلها الأمان فأمنهم، وسلموا إليه المدينة، واستمر الحصار على القلعة حتى طلبوا الأمان أيضاً فأمنهم وسلموا إليه القلعة، فلما نزلوا منها وملكها، غدر بهم وأمر بهم فصلبوا عن آخرهم، فاستقبح الناس ذلك واستعظموه، وحذره الناس، وكانت بعلبك لمعين الدين أتز، أعطاه إياها جمال الدين محمد لما ملك دمشق، وكان أتز قد تزوج بأم جمال الدين محمد صاحب دمشق، وكان له جارية يحبها، فأخرجها أتز إلى بعلبك. فلما ملك زنكي بعلبك أخذ الجارية المذكورة

وتزوجها في حلب، وبقيت مع زنكي حتى قتل على قلعة جعبر، فأرسلها ابنه نور الدين محمود بن زنكي إلى أتز وهي كانت أعظم الأسباب في المودة بين نور الدين وأتز. ذكر غير ذلك في هذه السنة توالت الزلازل بالشام، وخربت كثيراً من البلاد لا سيما حلب. فإن أهلها فارقوا بيوتهم، وخرجوا إلى الصحراء. ودامت من رابع صفر إلى تاسع عشر. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وخمسمائة. في هذه السنة سار عماد الدين زنكي إلى دمشق وحصرها، وزحف عليها، وبذل لصاحبها جمال الدين محمد بعلبك وحمص، فلم يأمنوا إليه بسبب غدره بأهل بعلبك، وكان نزوله على داريا في ثالث عشر ربيع الأول، واستمر منازلاً لدمشق، فمرض في تلك المدة جمال الدين محمد بن توري صاحب دمشق ومات، في ثامن شعبان. فطمع زنكي حينئذ في ملك دمشق وزحف إليها واشتد القتال فلم ينل غرضاً. ولما مات جمال الدين محمد، أقام معين الدين أتز في الملك، ولده مجير الدين أتق بن محمد بن توري بن طغتكين، واستمر أتز يدبر الدولة، فلم يظهر لموت جمال الدين محمد أثر. ثم رحل زنكي ونزل بعذرا من المرج في سادس شوال وأحرق عدة من قرى المرج ورحل عائداً إلى بلاده. وفي هذه السنة ملك زنكي شهر زور وأخذها من صاحبها قبجق بن ألب أرسلان شاه التركماني، وبقي في طاعة زنكي، ومن جملة عسكره وفيها قتل المقرب جوهر من كبراء عسكر سنجر، وكان قد عظم في الدولة، وكان من جملة إقطاع المقرب المذكور الري. قتله الباطنية، ووقفوا له في زي النساء؛ واستغثن به، فوقف يسمع كلامهم فقتلوه. وفيها توفي هبة الله بن الحسين بن يوسف المعروف بالبديع الإسطرلابي، وكانت له اليد الطولى في عمل الإسطرلاب والآلات الفلكية، وله شعر جيد؛ وأكثره في الهزل. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. في هذه السنة وصل رسول السلطان سنجر ومعه بردة النبي صلى الله عليه وسلم والقضيب، وكانا أخذا من المسترشد، فأعادهما الآن إلى المقتفي. وفي هذه السنة ملك الإسماعيلية حصن مصياف بالشام، وكان واليه مملوكاً لبني منقذ صاحب شيزر فاحتال عليه الإسماعيلية ومكروا به حتى صعدوا إليه وقتلوه وملكوا الحصن. وفيها توفي الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان، قتيلاً في فندق بمراكش، وكان فاضلاً في الأدب، وألف عدة كتب منها: قلائد العقيان، ذكر فيه عدة من الفضلاء وأشعارهم، ولقد أجاد فيه. ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة. في هذه السنة في المحرم، وقيل في صفر كان المصاف العظيم بين الترك الكفار من الخطا وبين السلطان سنجر. فإن خوارزم شاه أطسز بن محمد لما هزمه سنجر وقتل ولد أطسز، عظم ذلك عليه، وكاتب الخطا وأطمعهم

في ملك ما وراء النهر فساروا في جمع عظيم، وسار إليهم السلطان سنجر في جمع عظيم، والتقوا بما وراء النهر، فانهزم عسكر سنجر، وقتل منهم خلق عظيم، وأسرت امرأة سنجر، ولما تمت الهزيمة على المسلمين، سار خوارزم شاه أطسز إلى خراسان، ونهب أموال سنجر، ومن بلادها شيئاً كثيراً، واستقرت دولة الخطا والترك الكفار بما وراء النهر. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وخمسمائة. في هذه السنة بعث عماد الدين زنكي جيشاً ففتحوا قلعة أشب، وكانت من أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها، ولما ملكها زنكي أمر بإخرابها وبناء القلعة المعروفة بالعمادية عوضاً عنها، وكانت العمادية حصنا عظيماً خراباً، فلما عمره عماد الدين زنكي سمي العمادية نسبه إليه. وفيها سارت الفرنج في البحر من صقلية إلى طرابلس الغرب، فحصروها ثم عادوا عنها. وفيها توفي محمد بن الدانشمند صاحب ملطية والثغر، واستولى على بلاده الملك مسعود بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب قونية. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة في هذه السنة كان الصلح بين السلطان مسعود وبين عماد الدين زنكي. وفيها سار زنكي بعساكره إلى ديار بكر، ففتح منها طنزة واستعرد، وحيزان وحصن الروق، وحصن قطليس وحصن باتاسا وحصن ذي القرنين، وأخذ من بلد ماردين مما هو بيد الفرنج، جملين والموزر وتل موزر من حصون شنحتان. وفيها سار السلطان سنجر بعسكره إلى خوارزم، وحصر أطسز بها، فبذل خوارزم شاه أطسز الطاعة، فأجابه سنجر إلى ذلك واصطلحا، وعاد سنجر إلى مرو. وفيها ملك زنكي عانة من أعمال الفرات. وفيها قتل داود ابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، قتله جماعة اغتالوه ولم يعرفوا. وفيها توفي أبو القاسم محمود بن عمر النحوي الزمخشري، ولد في رجب سنة سبع وستين وأربعمائة. وهو من زمخشر، قرية من قرى خوارزم. كان إماماً في العلوم، صنف المفصل في النحو والكشاف في التفسير، وجهر القول فيه بالاعتزال، وافتتحه بقوله: الحمد لله الذي خلق القرآن منجماً. ثم أصلحه أصحابه فكتبوا: الحمد لله الذي أنزل القرآن. وله غير ذلك من المصنفات، فمنها: كتاب الفائق في غريب الحديث. وقدم الزمخشري بغداد وناظر بها، ثم حج وجاور بمكة سينين كثيرة، فسمي لذلك جار الله. وكان حنفي الفروع، معتزلي الأصول، وللزمخشري نظم حسن، فمنه من جملة أبيات: فإنا اقتصرنا بالذين تضايقت ... عيونهم والله يجزي من اقتصر مليح ولكن عنده كل جفوة ... ولم أر في الدنيا صفاءً بلا كدر ومن شعره يرثي شيخه أبا مضر منصوراً: وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقط من عينيك سمطين سمطين

فقلت لها الدر الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذني تساقط من عيني ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة في هذه السنة فتح عماد الدين زنكي الرها من الفرنج بالسيف بعد حصار ثمانية وعشرين يوماً. ثم تسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات، وأما البيرة فنزل علمها وحاصرها، ثم رحل عنها بسبب قتل نائبه بالموصل وهو نصير الدين جقر. وسبب قتله: أنه كان عند زنكي، ألب أرسلان ابن السلطان محمود بن محمد السنجوقي، وكان زنكي يقول: إن البلاد التي بيدي إنما هي لهذا الملك. ألب أرسلان المذكور، وأنا أتابكه، ولهذا أسمى أتابك زنكي، وكان ألب أرسلان المذكور بالموصل، وجقر يقوم بوظائف خدمته، فحسن بعض المناحيس لألب أرسلان المذكور قتل جقر وأخذ البلاد من عماد الدين زنكي، فلما دخل جقر إلى ألب أرسلان على عادته، وثب عليه من عند ألب أرسلان فقتلوه، فاجتمعت كبراء دولة زنكي وأمسكوا ألب أرسلان ولم يطعه أحد. ولما بلغ زنكي ذلك وهو محاصر للبيرة، عظم عليه قتل جقر، وخشي من الفتن، فرحل عن البيرة لذلك. وخشي الفرنج الذين بها من معاودة الحصار، وعلموا بضعفهم عن عماد الدين فراسلوا نجم الدين صاحب ماردين وسلموا البيرة إليه وصارت للمسلمين. وفيها خرج أسطول الفرنج من صقلية إلى ساحل إفريقية، وملكوا مدينة برسك، وقتلوا أهلها، وسبوا الحريم. وفيها توفي تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين صاحب المغرب، وولي بعده أخوه إسحاق ابن علي، وضعف أمر الملثمين وقوي عبد المؤمن، وقد تقدم ذكر ذلك في سنة أربع عشرة وخمسمائة. ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة. فيها هرب علي بن دبيس بن صدقة من السلطان مسعود، وكان قد أراد حبسه في قلعة تكريت، فهرب إلى الحلة واستولى عليهما، وكثر جمعه وقويت شوكته. وفيها اعتقل الخليفة المقتفي أخاه أبا طالب، وضيق عليه، وكذلك احتاط على غيره من أقاربه. وفيها ملك الفرنج شنترين وتاجر وماردة وأشبونة وسائر المعاقل المجاورة لها من بلاد الأندلس. وفيهما توفي مجاهد الدين بهروز، وحكم في العراق نيفاً وثلاثين سنة وكان بهروز خصياً أبيض. وفيها توفي الشيخ أبو منصور، مرهوب بن أحمد الجواليقي اللغوي ومولده في ذي الحجة سنة خمس وستين وأربعمائة، أخذ اللغة عن أبي زكريا التبريزي، وكان يؤم بالخليفة المقتفي، وكان طويل الصمت كثير التحقيق، لا يقول الشيء إلا بعد فكر كثير. وكان يقول إذا سئل لا أدري، وأخذ العلم عنه جماعة منهم تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي، ومحب الدين أبو البقا، وعبد الوهاب بن سكينه. وفيها توفي أبو بكر يحيى بن عبد الرحمن بن بقي الأندلسي القرطبي الشاعر المشهور صاحب الموشحات البديعة، ومن شعره ما أورده في قلائد العقيان:

ومقتله:

يا أفتك الناس ألحاظاً وأطيبهم ... ريقاً متى كان فيك الصاب والعسل في صحن خدك وهو الشمس طالعة ... ورد يزيدك فيه الراح والخجل إيمان حبك في قلبي مجددة ... من خدك الكتب أو من لحظك الرسل إن كنت تجهل أني عبد مملكة ... مرني بما شئت آتيه وأمتثل لو اطلعت على قلبي وجدت به ... من فعل عينيك جرحاً ليس يندمل ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. ذكر ملك الفرنج طرابلس الغرب وسبب ملكها أنهم نزلوا عليها وحصروها، فلما كان اليوم الثالث من نزولهم، سمع الفرنج في المدينة ضجة عظيمة، وخلت الأسوار من المقاتلة، وكان سببه أن أهل طرابلس اختلفوا، فأراد طائفة منهم تقديم رجل من الملثمين ليكون أميرهم، وأرادت طائفة أخرى تقديم بني مطروح، فوقعت الحرب بين الطائفتين وخلت الأسوار، فانتهز الفرنج الفرصة، وصعدوا بالسلالم وملكوها بالسيف. في المحرم من هذه السنة، وسفكوا دماء أهلها، وبعد أن استقر الفرنج في ملك طرابلس بذلوا الأمان لمن بقي من أهل طرابلس، وتراجعت إليها الناس وحسن حالها. حصار عماد الدين زنكي حصني جعبر وفنك ومقتله: في هذه السنة سار زنكي ونزل على قلعة جعبر وحصرها، وصاحبها علي بن مالك بن سالم ابن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي. وأرسل عسكراً إلى قلعة فنك، وهي تجاور جزيرة ابن عمر، فحصرها أيضاً وصاحبها حسام الدولة الكردي البشنوي. ولما طال على زنكي منازلة قلعة جعبر، أرسل مع حسام البعلبكي الذي كان صاحب منبج، يقول لصاحب قلعة جعبر: قل لي من يخلصك مني، فقال صاحب قلعة جعبر لحسان: يخلصني منه الذي خلصك من بلك بن بهرام بن أرتق. وكان بلك محاصراً المنبج، فجاءه سهم فقتله، فرجع حسان إلى زنكي ولم يخبره بذلك، فاستمر زنكي منازلاً قلعة جعبر، فوثب عليه جماعة من مماليكه وقتلوه في خامس في ربيع الآخر من هذه السنة بالليل، وهربوا إلى قلعة جعبر، فصاح من بها على العسكر وأعلموهم بقتل زنكي، فدخل أصحابه إليه وبه رمق، وكان عماد الدين زنكي حسن الصورة، أسمر اللون، مليح العينين، قد وخطه الشيب. وكان قد زاد عمره على ستين سنة ودفن بالرقة. وكان شديد الهيبة على عسكره عظيمها. وكان له الموصل وما معها من البلاد، وملك الشام خلا دمشق. وكان شجاعاً وكانت الأعداء محيطة بمملكته من كل جهة، وهو ينتصف منهم ويستولي على بلادهم، ولما قتل زنكي كان ولده نور الدين محمود حاضراً عنده، فأخذ خاتم والده وهو ميت من إصبعه، وسار إلى حلب فملكها، وكان صحبة زنكي أيضاً الملك

ذكر غير ذلك من الحوادث

ألب أرسلان بن محمود ابن السلطان محمد السلجوقي، فركب في يوم قتل زنكي، واجتمعت عليه العساكر، فحسن له بعض أصحاب زنكي الأكل والشرب وسماع المغاني، فسار ألب أرسلان إلى الرقة وأقام بها منعكفاً على ذلك وأرسل كبراء دولة زنكي إلى ولده سيف الدين غازي بن زنكي يعلمونه بالحال وهو بشهرزور، فسار إلى الموصل واستقر في ملكها وأما ألب أرسلان فتفرقت عنه العساكر، وسار إلى الموصل يريد ملكها، فلما وصلها قبض عليه غازي بن زنكي وحبسه في قلعة الموصل، واستقر ملك سيف الدين غازي للموصل وغيرها. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أرسل عبد المؤمن بن علي جيشاً إلى جزيرة الأندلس، فملكوا ما فيها من بلاد الإسلام واستولوا عليها. وفيها بعد قتل عماد الدين زنكي، قصد صاحب دمشق مجير الدين أبق حصن بعلبك وحصره، وكان به نجم الدين أيوب بن شاذي، مستحفظاً، فخاف أن أولاد زنكي لا يمكنهم إنجاده بالعاجل، فصالحه وسلم القلعة إليه، وأخذ منه قطاعاً وملكه عدة قرى من بلاد دمشق، وانتقل أيوب إلى دمشق وسكنها وأقام بها. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة في هذه السنة دخل نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلاد الفرنج، ففتح منها مدينة أرتاح بالسف، وحصر مامولة وبصر فوت وكفر لاثا. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. ملك الفرنج المهدية بإفريقية وحال مملكة بني باديس كان قد حصل بإفريقية غلاء شديد حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، ودام من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة إلى هذه السنة، ففارق الناس القرى ودخل أكثرهم إلى جزيرة صقلية. فاغتنم رجار الفرنجي صاحب صقلية هذه الفرصة، وجهز أسطولاً نحو مائتين وخمسين شينياً مملوءة رجالاً وسلاحاً، واسم مقدمهم جرج، وساروا من صقلية إلى جزيرة قوصرة وهي ما بين المهدية وصقلية، وساروا منها وأشرفوا على المهدية ثاني صفر من هذه السنة. وكان في المهدية الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية. فجمع كبراء البلد واستشارهم، فرأوا ضعف حالهم وقلة المؤنة عندهم، فاتفق رأي الأمير حسن ابن علي على إخلاء المهدية، فخرج منها وأخذ معه ما خف حمله، وخرج أهل المهدية على وجوههم بأهليهم وأولادهم، وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية. ثم دخلوا المهدية بعد مضي ثلثي النهار المذكور بغير ممانع ولا مدافع، ولم يكن قد بقي من المسلمين بالمهدية ممن عزم على الخروج أحد، ودخل جرج مقدم الفرنج إلى قصر الأمير حسن بن علي، فوجده على حاله لم يعدم منه إلا ما خف حمله، ووجد فيه جماعة من حظايا الحسن بن علي، ووجد الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة من كل شيء

ذكر غير ذلك من الحوادث:

غريب، يقل وجود مثله، وسار الأمير حسن بأهله وأولاده إلى بعض أمراء العرب، ممن كان يحسن إليه وأقام عنده، وأراد الحسن المسير إلى الخليفة العلوي الحافظ صاحب مصر، فلم يقدر على المسير لخوف الطرق، فسار إلى ملك بجاية يحيى بن العزيز من بني حماد، فوكل يحيى المذكور على الحسن وعلى أولاده من يمنعهم من التصرف، ولم يجتمع يحيى بهم، وأنزلهم في جزائر بني مزغنان، وبقي الحسن كذلك حتى ملك عبد المؤمن بن علي بجاية في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وأخذها هي وجميع ممالك بني حماد، فحضر الأمير الحسن عنده، فأحسن إليه عبد المؤمن وأكرمه، واستمر على ذلك في خدمة عبد المؤمن إلى أن فتح المهدية، فأقام فيها والياً من جهته وأمره أن يقتدي برأي الأمير حسن ويرجع إلى قوله، وكان عدة من ملك من بني باديس بن مناذ إلى الحسن، تسعة ملوك. وكانت ولايتهم في سنج إحدى وستين وثلاث مائة، وانقضت في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ثم إن جرج بذل الأمان لأهل المهدية وأرسل وراءهم بذلك، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع فتراجعوا إلى المهدية. حصر الفرنج لدمشق في هذه السنة سار ملك الألمان، والألمان بلادهم وراء القسطنطينية، حتى وصل إلى الشام في جمع عظيم، ونزل على دمشق وحصرها، وصاحبها مجير الدين أتق بن محمد بن توري بن طغتكين. والحكم وتدبير المملكة إنما هو لمعين الدين أتز مملوك جده طغتكين. وفي سادس ربيع الأول زحفوا على مدينة دمشق، ونزل ملك الألمان بالميدان الأخضر، وأرسل أتز إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده، فسار بعسكره من الموصل إلى الشام، وسار معه أخوه نور الدين محمود بعسكره، ونزلوا على حمص ففت ذلك في أعضاد الفرنج وأرسل أتز إلى فرنج الشام يبذل لهم تسليم قلعة بانياس، فتخلوا عن ملك الألمان وأشاروا عليه بالرحيل وخوفوه من إمداد المسلمين، فرحل عن دمشق وعاد إلى بلاده، وسلم أتز قلعة بانياس إلى الفرنج حسبما شرطه لهم. ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة كان بين نور الدين محمود وبين الفرنج مصاف بأرض يغرى من العمق، فانهزم الفرنج وقتل منهم وأسر جماعة كثيرة، وأرسل من الأسرى والغنيمة إلى أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل. وفيها ملك الفرنج من الأندلس مدينة طرطوشة، وجميع قلاعها، وحصون لارده وفيها كان الغلاء العام من خراسان إلى العراق إلى الشام إلى بلاد المغرب. وفي ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، قتل نور الدولة شاهنشاه بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين قتله الفرنج

وولاية الظافر:

لما كانوا منازلين دمشق، فجرى بينهم وبين المسلمين مصاف، قتل فيه شاهنشاه المذكور، وهو أبو الملك المظفر عمر صاحب حماة، وأبو فرخشاه صاحب بعلبك، وكان شاهنشاه أكبر من صلاح الدين، وكانا شقيقين. ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وفاة غازي بن زنكي في هذه السنة توفي سيف الدين غازي بن عماد الدين، أتابك زنكي صاحب الموصل، بمرض حاد في أواخر جمادى الآخرة، وكانت ولايته ثلاث سنين وشهراً وعشرين يوماً. وكان حسن الصورة، ومولده سنة خمسمائة. وخلف ولدا ذكراً، فرباه عمه نور الدين، وأحسن تربيته. وتوفي المذكور شاباً، وانقرض بموته عقب سيف الدين غازي. وكان سيف الدين المذكور كريماً، يصنع لعسكره كل يوم طعاماً كثيراً بكرة وعشية، وهو أول من حمل على رأسه السنجق في ركوبه، وأمر الأجناد أن لا يركبوا إلا بالسيوف في أوساطهم، والدبوس تحت ركبهم. فلما فعل ذلك، اقتدى به أصحاب الأطراف، ولما توفي سيف الدين غازي، كان أخره قطب الدين مودود بن زنكي مقيماً بالموصل، فاتفق جمال الدين الوزير، وزين الدين علي أمير الجيش، على تمليكه، فحلفاه وحلفا له، وكذلك باقي العسكر، وأطاعه جميع بلاد أخيه سيف الدين. ولما تملك، تزوج الخاتون ابنة تمرتاش صاحب ماردين، وكان أخوه سيف الدين قد تزوجها، ومات قبل الدخول بها، وهي أم أولاد قطب الدين. وفاة الحافظ لدين الله العلوي وولاية الظافر: وفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، توفي الحافظ لدين الله عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم بن المستنصر العلوي، صاحب مصر، وكانت خلافته عشرين سنة إلا خمسة أشهر. وكان عمره نحو سبع وسبعين سنة، ولم يل الخلافة من العلويين المصريين - من أبوه غير خليفة - غير الحافظ والعاضد، على ما سنذكره. ولما توفي الحافظ، بويع بعده ابنه الظافر بأمر الله أبو منصور إسماعيل بن الحافظ عبد المجيد. واستوزر ابن مصال، فبقي أربعين يوماً، وحضر من الإسكندرية العادل بن السلار، وكان قد خرج ابن مصال من القاهرة في طلب بعض المفسدين، فأرسل العادل بن السلار ربيبه عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، وكان أبوه أبو الفتوح. قد فارق أخاه علي بن يحيى صاحب إفريقية، وقدم إلى الديار المصرية وتوفي بها، فتزوج العادل بن السلار بزوجة أبي الفتوح المذكور، ومعها ولدها عباس بن أبي الفتوح، فرباه العادل وأحسن تربيته، ولما قدم العادل إلى مصر يريد الاستيلاء على الوزارة، أرسل ربيبه عباساً في عسكر إلى ابن مصال، فظفر به عباس وقتله، وعاد إلى العادل بالقاهرة، فاستقر العادل في الوزارة

ذكر غير ذلك من الحوادث:

وتمكن، ولم يكن للخليفة الظافر معه حكم، وبقي العادل كذلك إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فقتله ربيبه عباس المذكور وتولى الوزارة على ما سنذكره. ذكر غير ذلك من الحوادث: وفي هذه السنة حصر نور الدين محمود بن زنكي حصن حارم، فجمع البرنس صاحب أنطاكية الفرنج وسار إلى نور الدين، واقتتلوا، فانتصر نور الدين وقتل البرنس، وانهزم الفرنج، وكثر القتل فيهم، ولما قتل البرنس، ملك بعده ابنه بيمند وهو طفل، وتزوجت أمه برجل آخر، وتسمى بالبرنس. ثم إن نور الدين غزاهم غزوة أخرى، فهزمهم وقتل فيهم وأسر، وكان فيمن أسر البرنس الثاني زوج أم بيمند، فتمكن بيمند في ملك أنطاكية. وفيها زلزلت الأرض زلزلة شديدة. وفيها توفي معين الدين أنز، صاحب دمشق، وهو الذي كان إليه الحكم فيها، وإليه ينسب قصير معين الدين الذي في الغور. وفيها تولى أبو المظفر يحيى بن هبيرة وزارة الخليفة المقتفي، يوم الأربعاء، رابع ربيع الآخر، وكان قبل ذلك صاحب ديوان الزمام. وفيها توفي القاضي ناصح الدين الأرجاني، وأرجان من أعمال تستر، وتولى المذكور قضاء تستر، واسمه أحمد بن محمد بن الحسين، وله الشعر الفائق، فمن ذلك قوله: ولما بلوت الناس أطلب عندهم ... أخاً ثقة عند اعتراض الشدائد تطلعت في حالي رخاء وشدة ... وناديت في الأحياء هل من مساعد فلم أر فيما ساءني غير شامت ... ولم أر فيما سرني غير حاسد تمتعتما يا ناظري بنظرة ... وأوردتما قلبي أمر الموارد أعيني كفا عن فؤادي فإنه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد وفيها توفي بمراكش، القاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي، ومولده بها في سنة ست وسبعين وأربعمائة أحد الأئمة الحفاظ الفقهاء المحدثين الأدباء، وتكيفه وأشعاره شاهدة بذلك، ومن تصانيفه: الإجمال في شرح كتاب مسلم. ومشارق الأنوار في تفسير غريب الحديث. ثم دخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة في هذه السنة رابع عشر المحرم، أخذت العرب جميع الحجاج بين مكة والمدينة، ذكر أن اسم ذلك المكان الغرابي، فهلك أكثرهم، ولم يصل منهم إلى البلاد إلا القليل. وفيها سار نور الدين محمود بن زنكي إلى أفامية، وحصر قلعتها وتسلمها من الفرنج، وحصنها بالرجال والذخائر، وكان قد اجتمع الفرنج وساروا ليرحلوه عنها، فملكها قبل وصولهم، فلما بلغهم فتحها تفرقوا. وفيها سار الأذفونش صاحب طليطلة بجموع الفرنج إلى قرطبة وحصرها ثلاث أشهر، ثم رحل عنها ولم يملكها. وفيها مات الأمير علي بن دبيس بن صدقة صاحب الحلة. ثم دخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة.

بن محمد بن ملكشاه وملك ملكشاه ومحمد، ابني محمود:

هزيمة نور الدين بن جوسلين ثم أسر جوسلين كان جوسلين من أعظم فرسان الفرنج، قد جمع بين الشجاعة وجودة الرأي، وكان نور الدين قد عزم على قصد بلاده، فجمع جوسلين الفرنج، فأكثر، وسار نحو نور الدين، والتقوا، فانهزم المسلمون، وقتل وأسر منهم جمع كثير، وكان من جملة من أسر، السلاح دار، ومعه سلاح نور الدين، فأرسله جوسلين إلى مسعود بن قليج أرسلان، صاحب قونية، وأقسرا، وقال: هذا سلاح زوج ابنتك، وسآتيك بعده بما هو أعظم منه، فعظم ذلك على نور الدين، وهجر الملاذ، وفكر في أمر جوسلين، وجمع التركمان وبذل لهم الوعود إن ظفروا به، إما بإمساك أو بقتل، فاتفق أن جوسلين طلع إلى الصيد، فكبسه التركمان وأمسكوه، فبذل لهم مالاً فأجابوه إلى إطلاقه، فسار بعض التركمان وأعلم أبا بكر ابن الداية نائب نور الدين بحلب، فأرسل عسكراً كبسوا التركمان الذين عندهم جوسلين، وأحضروه إلى نور الدين أسيراً. وكان أسر جوسلين من أعظم الفتوح، وأصيبت النصرانية كافة بأسره، ولما أسر سار نور الدين إلى بلاد جوسلين وقلاعه، فملكها، وهي تل باشر، وعين تاب، وذلوك، وعزاز، وتل خالد، وقورس، والرواندان، وبرج الرصاص، وحصن الباره، وكفر سود، وكفر لاثا، ومرعش، ونهر الجوز، وغير ذلك. في مدة يسيرة. وكان نور الدين كلما فتح منه موضعاً حصنه بما يحتاج إليه من الرجال والذخائر. ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة من الكامل في هذه السنة سار عبد المؤمن بن علي إلى بجاية وملكها، وملك جميع ممالك بني حماد، وأخذها من صاحبها يحيى بن العزيز بن حماد، آخر ملوك بني حماد، وكان يحيى المذكور مولعاً بالصيد واللهو، لا ينظر في شيء من أمور مملكته، ولما هزم عبد المؤمن عسكر يحيى، هرب يحيى وتحصن بقلعة قسطنطينية من بلاد بجاية، ثم نزل يحيى إلى عبد المؤمن بالأمان فأمنه، وأرسله إلى بلاد المغرب، وأقام بها، وأجرى عبد المؤمن عليه شيئاً كثيراً. وقد ذكر في تاريخ القيروان: أن مسير عبد المؤمن وملكة تونس وإفريقية إنما كان في سنة أربع وخمسين وخمسمائة. وفاة السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه وملك ملكشاه ومحمد، ابني محمود: وفي هذه السنة، وقيل في أواخر سنة ست وأربعين، في أول رجب، توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمدان، ومولده سنة اثنتين وخمسمائة، في ذي القعدة، ومات معه سعادة البيت السلجوقي، فلم يقم لهم بعده راية يعتد بها، وكان حسن الأخلاق، كثير المزاح والانبساط مع الناس، كريماً، عفيفاً عن أموال الرعايا. ولما مات عهد بالملك

إلى ابن أخيه ملكشاه بن محمود، فقعد في السلطنة وخطب له، وكان المتغلب على المملكة أميراً يقال له خاص بك، وأصله صبي تركماني اتصل بخدمة السلطان مسعود، فتقدم على سائر أمرائه، ثم إن خاص بك المذكور، قبض على السلطان ملكشاه بن محمود وسجنه، وأرسل إلى أخيه محمد ابن محمود وهو بخورستان، فأحضره وتولى السلطنة، وجلس على السرير، وكان قصد خاص بك، أن يمسكه ويخطب لنفسه بالسلطنة، فبدره السلطان محمد في ثاني يوم وصوله، فقتل خاص بك وقتل معه زنكي الجاندار، وألقى برأسيهما، فتفرق أصحابهما. فتح دلوك في هذه السنة جمعت الفرنج وساروا إلى نور الدين، وهو محاصر دلوك، فرحل عنها وقاتلهم أشد قتال الناس، وانهزمت الفرنج، وقتل وأسر كثير منهم، ثم عاد نور الدين إلى دلوك فملكها ومما مدح به في ذلك: أعدت بعصرك هذا الجديد ... فتوح النبي وأعصارها وفي تل باشر باشرتهم ... بزحف تسور أسوارها وإن دالكتهم دلوك فقد ... سددت فصدقت أخبارها ذكر ابتداء ظهور الملوك الغورية وانقراض دولة آل سبكتكتين: أول من اشتهر من الملوك الغورية، أولاد الحسين. وأولهم محمد بن الحسين، وكان قد صاهر بهرام شاه بن مسعود، صاحب غزنة، من آل سبكتكين، وسار محمد بن الحسين المذكور إلى غزنة، تظهر الطاعة لبهرام شاه، ويبطن الغدر، فأمسكه بهرام شاه وقتله. فتولى بعده في ملك الغورية أخوه سودي بن الحسين، وسار إلى غزنة طالباً بثأر أخيه، وجرى القتال بينه وبين بهرام شاه، فظفر بهرام شاه بسودي وقتله أيضاً، وانهزم عسكره. ثم ملك بعدهما أخوهما علاء الدين الحسين بن الحسين، وسار إلى غزنة، فانهزم عنها صاحبها بهرام شاه، واستولى علاء الدين الحسين على غزنة، وأقام فيها أخاه سيف الدين سام بن الحسين، وعاد علاء الدين الحسين بن الحسين إلى الغور فكاتب أهل غزنة بهرام شاه، فسار إليهم واقتتل مع سيف الدين الغوري، فانتصر بهرام شاه وظفر بسيف الدين سام فقتله، واستقر بهرام شاه في ملك غزنة. ثم توفي بهرام شاه وملك بعده ابنه خسروشاه، وتجهز علاء الدين الحسين ملك الغورية وسار إلى غزنة، في سنة خمسين وخمسمائة، فلما قرب منها فارقها صاحبها خسروشاه بن بهرام شاه، وسار إلى لهاوور وملك علاء الدين الحسين بن الحسين غزنة ونهبها ثلاثة أيام، وتلقب علاء الدين بالسلطان المعظم، وحمل الجتر على عادة السلاطين السلجوقية. وأقام الحسين على ذلك مدة، واستعمل على غزنة ابني أخبه، وهما غياث الدين محمد بن سام، وأخوه شهاب الدين محمد بن سام. ثم جرى بينهما وبين عمهما علاء

الدين الحسين حرب، انتصر فيه على عمهما وأسراه، ولما أسراه أطلقاه وأجلساه على التخت، ووقفا في خدمته، واستمر عمهما في السلطنة، وزوج غياث الدين بابنته، وجعله ولي عهده، وبقي كذلك إلى أن مات علاء الدين الحسين بن الحسين، في سنة ست وخمسين وخمسمائة، على ما نذكره. وملك بعده غياث الدين محمد بن سام بن الحسين، وخطب لنفسه في الغور وغزنة بالملك، ثم استولى الغز على غزنة، وملكوها منه مدة خمس عشرة سنة ثم أرسل غياث الدين أخاه شهاب الدين إلى غزنة، فسار إليها وهزم الغز، وقتل منهم خلقاً كثيراً، واستولى على غزنة وما جاورها من البلاد، مثل كرمان وشنوران وماه السند، وقصد لهاوور، وبها يومئذ خسرو شاه بن بهرام شاه السبكتكيني، فملكها شهاب الدين في سنة تسع وسبعين وخمسمائة، بعد حصار، وأعطى خسروشاه الأمان، وحلف له، فحضر خسروشاه عند شهاب الدين بن سام المذكور، فأكرمه شهاب الدين، وأقام خسروشاه على ذلك شهرين، ولما بلغ غياث الدين بن سام ذلك، أرسل إلى أخيه شهاب الدين يطلب منه خسروشاه، فأمره شهاب الدين بالتوجه، فقال خسروشاه: أنا ما أعرف أخاك ولا سلمت نفسي إلا إليك، فطيب شهاب الدين خاطره، وأرسله وأرسل أيضاً ابن خسروشاه مع أبيه إلى غياث الدين، وأرسل معهما عسكراً يحفظونهما، فلما وصلوا إلى الغور، لم يجتمع بهما غياث الدين، بل أمر بهما فرفعا إلى بعض. القلاع، وكان آخر العهد بهما، وخسروشاه المذكور هو ابن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، وهو آخر ملوك آل سبكتكين. وكان ابتداء دولتهم سنة ست وستين وثلاثمائة، وملكوا مائتي سنة وثلاث عشرة سنة تقريباً، فيكون انقراض دولتهم في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وقدمنا ذلك لتتصل أخبارهم، وكان ملوكهم من أحسن الملوك سيرة، وقيل إن خسروشاه توفي في الملك، وملك بعده ابنه ملكشاه على ما نشير إليه في مواضعه، إن شاء الله تعالى. ولما استقر ملك الغورية بلهاوور، واتسعت مملكتهم وكثرت عساكرهم، كتب غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين بإقامة الخطبة له بالسلطنة، وتلقب بألقاب منها: معين الإسلام. قسيم أمير المؤمنين. ولما استقر ذلك، سار شهاب الدين إلى أخيه غياث الدين، واجتمعا وسار إلى خراسان، وقصدا مدينة هراة وحصراها، وتسلمها غياث الدين بالأمان. ثم سار ومعه شهاب الدين في عساكرهما إلى بوشنج، فملكها ثم عاد إلى باذغيس، وكالين، وبيوار، فملكها. ثم رجع غياث الدين إلى بلدة فيروزكوه، ورجع أخوه شهاب الدين إلى غزنة، ولما استقر شهاب الدين بغزنة، قصد بلاد الهند وفتح مدينة آجر. ثم عاد إلى غزنة، ثم قصد الهند، فذلل صعابها، وتيسر له فتح الكثير من بلادهم ودوخ ملوكهم، وبلغ منهم ما لم يبلغ أحد من ملوك المسلمين، ولما كثر فتوحه في الهند، اجتمعت الهنود مع ملوكهم في خلق كثير، والتقوا مع شهاب الدين، وجرى بينهم قتال عظيم، فانهزم المسلمون وجرح

وهزيمة السلطان سنجر منهم، وأسره:

شهاب الدين، وبقي بين القتلى. ثم اجتمعت عليه أصحابه وحملوه إلى مدينة آجر، واجتمعت عليه عساكره، وأقام شهاب الدين في آجر حتى آتاه المدد من أخيه غياث الدين. ثم اجتمعت الهنود، وتنازل الجمعان، وبينهما نهر، فكبس عساكر المسلمين الهنود، وتمت الهزيمة عليهم، وقتل المسلمون من الهنود ما يفوق الحصر، وقتلت ملكتهم، وتمكن شهاب الدين بعد هذه الوقعة من بلاد الهند، وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك مدينة دهلي، وهي من كراسي ممالك الهند، فأرسل أيبك عسكراً مع مقدم يقال له محمد بن بختيار، فملكوا من الهند مواضع ما وصلها مسلم قبله، حتى قاربوا جهة الصين. ذكر وفاة صاحب ماردين في هذه السنة توفي حسام الدين تمرتاش بن أيلغازي، صاحب ماردين وميافارقين، وكانت ولايته نيفاً وثلاثين سنة، لأنه ولي بعد موت أبيه في سنة ست عشرة وخمسمائة حسبما تقدم ذكره، وتولى بعده ابنه نجم الدين البلي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. ذكر أخبار الغز وهزيمة السلطان سنجر منهم، وأسره: في هذه السنة في المحرم، انهزم السلطان سنجر من الأتراك الغز، وهم طائفة من الترك، وكانوا بما وراء النهر، فلما ملكه الخطا، أخرجوهم منه، فقصدوا خراسان، وكانوا كفاراً، وكان من أسلم منهم وخالط المسلمين، يصير ترجماناً بين الفريقين، حتى صار من أسلم منهم قيل عنه إنه صار ترجماناً، ثم قيل تركماناً بالكاف العجمية، وجمع على تراكمين، ثم أسلم الغز جميعهم، فقيل لهم تراكمين، ولما قدموا إلى خراسان أقاموا بنواحي بلخ مدة طويلة، ثم عن للأمير قماج مقطع بلخ، أن يخرجهم من بلاده، فامتنعوا، فسار قماج إليهم في عشرة آلاف فارس، فحضر إليه كبراء الغز، وسألوه أن يكف عنهم ويتركهم في مراعيهم، ويعطوه عن كل بيت مائتي درهم، فلم يجبهم إلى ذلك، وأصر على إخراجهم أو قتالهم، فاجتمعوا واقتتلوا، فانهزم قماج وتبعه الغز يقتلون ويأسرون، ثم عاثوا في البلاد، فاسترقوا النساء، والأطفال، وخربوا المدارس، وقتلوا الفقهاء، وعملوا كل عظيمة، ووصل قماج إلى السلطان سنجر منهزماً، وأعلمه بالحال، فجمع سنجر عساكره وسار إليهم في مائة ألف فارس، فأرسل الغز يعتذرون إليه مما وقع منهم، وبذلوا له بذلاً كثيراً ليكف عنهم، فلم يجبهم وقصدهم، ووقعت بينهم حرب شديدة، فانهزمت عساكر سنجر، وتبعه الغز يقتلون فيهم ويأسرون، فقتل علاء الدين قماج، وأسر السلطان سنجر، وأسر معه جماعة من الأمراء، فضربوا أعناقهم. وأما سنجر فلما أسروه اجتمع أمراء الغز وأقبلوا الأرض بين يديه وقالوا له: نحن عبيدك لا نخرج عن طاعتك. وبقي معهم كذلك شهرين

أو ثلاث. ودخلوا معه إلى مرو، وهي كرسي ملك خراسان، فطلبها منه بختيار إقطاعاً، وهو من أكبر أمراء الغز، فقال سنجر: هذه دار الملك ولا يجوز أن تكون إقطاعاً لأحد، فضحكوا منه، وحبق له بختيار بفمه، فلما رأى سنجر ذلك، نزل عن سرير الملك ودخل خانقاه مرو وتاب من الملك، واستولى الغز على البلاد، فنهبوا نيسابور، وقتلوا الكبار والصغار، وقتلوا القضاة والعلماء والصلحاء، الذين بتلك البلاد، فقتل الحسين بن محمد الأرسانيدي، والقاضي علي بن مسعود، والشيخ محي الدين محمد بن يحيى، الفقيه الشافعي، الذي لم يكن في زمانه مثله، وكان رحلة الناس من الشرق والغرب، وغيرهم من الأئمة والفضلاء، ولم يسلم شيء من خراسان من النهب غير هراة، ودهستان، لحصانتهما. ولما كان من هزيمة سنجر وأسره ما كان، اجتمع عسكره على مملوك لسنجر يقال له أي به، ولقبه المؤيد، واستولى المؤيد على نيسابور، وطوس، ونسا، وأبيورد، وشهرستان، والدامغان، وأزاح الغز عنها، وأحسن السيرة في الناس، وكذلك استولى في السنة المذكورة على الري مملوك لسنجر يقال له إينانج، وهادى الملوك واستقر قدمه وعظم شأنه. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة قتل العادل بن السلار، وزير الظافر العلوي. قتله ربيبه عباس بن أبي الفتوح الصنهاجي، بإشارة أسامة بن منقذ، وكان العادل قد تزوج بأم عباس المذكور، وأحسن تربية عباس، فجازاه بأن قتله وولي مكانه، وكانت الوزارة في مصر لمن غلب. وفيها كان بين عبد المؤمن ملك الغرب، وبين العرب، حرب شديد، انتصر فيها عبد المؤمن. وفيها مات رجار الفرنجي ملك صقلية بالخوانيق، وكان عمره قريب ثمانين سنة، وملكه نحو عشرين سنة، وملك بعده ابنه غليالم. وفيها في رجب توفي بغزنة بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم السبكتكيني، صاحب غزنة، وقام بالملك بعده ولده نظام الدين خسروشاه، وكانت مدة ملك بهرام شاه نحو ست وثلاثين سنة، وذلك من حين قتل أخاه أرسلان شاه بن مسعود، في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وكان ابتداء ولايته من حين انهزم أخوه قبل ذلك، في سنة ثمان وخمسمائة حسبما تقدم ذكره، في السنة المذكورة، وكان بهرام شاه حسن السيرة. وفيها ملك الفرنج مدينة عسقلان، وكانت لخلفاء مصر، والوزراء يجهزون إليها فلما كانت هذه السنة، قتل العادل بن السلار، واختلفت الأهواء في مصر، فتمكن الفرنج من عسقلان وحاصروها وملكوها. وفيها وصلت مراكب من صقلية، فنهبوا مدينة تنيس بالديار المصرية. وفيها توفي أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني المتكلم على مذهب الأشعري، وكان إماماً في علم الكلام والفقه، وله عدة مصنفات منها: نهاية الإقدام في علم الكلام، والملل والنحل، والمناهج، وتلخيص الأقسام لمذاهب الأنام.

ودخل بغداد سنة عشر وخمسمائة، وكانت ولادته سنة سبع وستين وأربعمائة بشهرستان. وتوفي بها، وشهرستان اسم لثلاث مدن: الأولى شهرستان خراسان، بين نيسابور وخوارزم، عند أول الرمل المتصل بناحية خوارزم، وهي التي منها محمد الشهرستاني المذكور، وبناها عبد الله بن طاهر أمير خراسان. والثانية شهرستان بأرض فارس. والثالثة مدينة جي بأصفهان، يقال لها شهرستان، وبينها وبين اليهودية مدينة أصفهان نحو ميل، ومعنى هذه الكلمة مدينة الناحية بالعجمي، لأن شهر اسم المدينة راستان الناحية. ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة. قتل الظافر وولاية ابنه الفائز في هذه السنة في المحرم، قتل الظافر بالله أبو منصور إسماعيل ابن الحافظ لدين الله عبد المجيد العلوي، قتله وزيره عباس الصنهاجي، وسببه أنه كان لعباس ولد حسن الصورة، يقال له نصر، فأحبه الظافر وما بقي يفارقه، وكان قد قدم من الشام مؤيد الدولة أسامة بن منقذ الكناني، في وزارة العدل، فحسن لعباس قتل العادل، فقتله وتولى مكانه، ثم حسن لعباس أيضاً قتل الظافر، فإنه قال له: كيف تعبر على ما أسمع من قبيح القول؟ فقال له عباس: ما هو؟ فقال: إن الناس يقولون إن الظافر يفعل بابنك نصر. فأنف عباس، وأمر ابنه نصراً، فدعا الظافر إلى بيته وقتلاه، وقتلا كل من معه، وسلم خادم صغير فحضر إلى القصر وأعلمهم بقتل الظافر، ثم حضر عباس إلى القصر وطلب الاجتماع بالظافر، وطلبه من أهل القصر، فلم يجدوه، فقال: أنتم قد قتلتموه، فأحضر أخوين للظافر يقال لهما يوسف وجبريل، وقتلهما عباس المذكور أيضاً. ثم أحضر الفائز بنصر الله أبا القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل ثاني يوم قتل أبوه، وله من العمر ثلاث سنين، فحمله عباس على كتفه وأجلسه على سرير الملك، وبايع له الناس، وأخذ عباس من القصر من الأموال والجواهر النفيسة شيئاً كثيراً، ولما فعل عباس ذلك، اختلفت عليه الكلمة، وثارت الجند والسودان، وكان طلائع بن رزيك في منية ابن خصيب، والياً عليها، فأرسل إليه أهل القصر من النساء والخدم يستغيثون به، وكان فيه شهامة، فجمع جمعه وقصد عباساً، فهرب عباس إلى نحو الشام بما معه من الأموال والتحف التي لا يوجد مثلها، ولما كان في أثناء الطريق، خرجت الفرنج على عباس المذكور فقتلوه وأخذوا ما كان معه، وأسروا ابنه نصراً وكان قد استقر طلائع بن رزيك بعد هرب عباس في الوزارة، ولقب الملك الصالح، فأرسل الصالح بن رزيك إلى الفرنج، وبذل لهم مالاً، وأخذ منهم نصر بن عباس وأحضره إلى مصر، وأدخل القصر، فقتل وصلب على باب زويلة، وأما أسامة ابن منقذ فإنه كان مع عباس، فلما قتل عباس هرب أسامة ونجا إلى الشام، ولما استقر أمر الصالح بن رزيك، وقع في الأعيان بالديار المصرية، فأبادهم بالقتل والهروب إلى البلاد البعيدة.

ذكر حصر تكريت في هذه السنة سار المقتفي لأمر الله الخليفة، بعساكر بغداد، وحصر تكريت وأقام عليها عدة مجانيق، ثم رحل عنها ولم يظفر بها. ملك نور الدين محمود بن زنكي دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين أبق بن محمد بن توري بن طغتكين، كان الفرنج قد تغلبوا بتلك الناحية بعد ملكهم مدينة عسقلان، حتى أنهم استعرضوا كل مملوك وجارية بدمشق من النصارى، وأطلقوا قهراً كل من أراد منهم الخروج من دمشق واللحوق بوطنه، شاء صاحبه أو أبى، فخشي نور الدين أن يملكوا دمشق، فكاتب أهل دمشق واستمالهم في الباطن، ثم سار إليها وحصرها، ففتح له باب الشرقي فدخل منه، وملك المدينة، وحصر مجير الدين في القلعة، وبذل له إقطاعاً من جملته مدينة حمص، فسلم مجير الدين القلعة إلى نور الدين، وسار إلى حمص، فلم يعطه إياها نور الدين وأعطاه عوضها بالس، فلم يرضها مجير الدين وسار عنها إلى العراق، وأقام ببغداد، وابتنى داراً بقرب النظامية، وسكنها حتى مات بها. وفي هذه السنة والتي بعدها، ملك نور الدين قلعة تل باشر وأخذها من الفرنج. ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائة في هذه السنة سار الخليفة المقتفي إلى دقوقا فحصرها، وبلغه حركة عسكر الموصل إليه، فرحل عنها ولم يبلغ غرضاً. وفيها هجم الغز تيسابور بالسيف، وقيل كان معهم السلطان سنجر معتقلاً، وله اسم السلطنة ولكن لا يلتفت إليه، وكان إذا قدم إليه الطعام يدخر منه ما يأكله وقتاً آخر، خوفاً من انقطاعه عنه، لتقصيرهم في حقه. ثم في دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة في هذه السنة ثارت أهل بلاد إفريقية على من بها من الفرنج، فقتلوهم، وسار عسكر عبد المؤمن فملك بونة، وخرجت جميع إفريقية عن حكم الفرنج، ما عدا المهدية وسوسة. وفيها قبض زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، على الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، وكان سليمان المذكور قد قدم إلى بغداد، وخطب له بالسلطنة في هذه السنة، وخلع عليه الخليفة المقتفي، وقلده السلطنة على عادتهم، وخرج من بغداد بعسكر الخليفة ليملك به بلاد الجبل، فاقتتل هو وابن عمه السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه، فانهزم سليمان شاه، وسار يريد بغداد على شهرزور، فخرج إليه علي كوجك بعسكر الموصل، فأسره وحبسه بقلعة الموصل، مكرماً، إلى أن كان منه ما نذكره في سنة خمس وخمسين.

ذكر وفاة خوارزم شاه في هذه السنة، تاسع جمادى الآخرة، توفي خوارزم شاه أطسز بن محمد بن أنوش تكين، وكان قد أصابه فالج، فاستعمل أدوية شديدة الحرارة، فاشتد مرضه وتوفي، وكانت ولادته في رجب سنة تسعين وأربعمائة، وكان حسن السيرة، ولما توفي ملك بعده ابنه أرسلان بن أطسز. ذكر وفاة ملك الروم وفي هذه السنة توفي الملك مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق، صاحب قونية وغيرها من بلاد الروم، ولما توفي ملك بعده ابنه قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان المذكور. ذكر هرب السلطان سنجر من أسر الغز في هذه السنة في رمضان، هرب السلطان سنجر بن ملكشاه من أسر الغز. وسار إلى قلعة ترمذ، ثم سار من ترمذ إلى جيحون، ووصل إلى دار ملكه بمرو في رمضان من هذه السنة، فكانت مدة أسره من سادس جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين إلى رمضان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة بايع عبد المؤمن لولده محمد بولاية العهد بعده، وكانت ولاية العهد لأبي حفص عمر، وكان من أصحاب ابن تومرت، وهو من أكبر الموحدين، فأجاب إلى خلع نفسه والبيعة لابن عبد المؤمن. وفيها استعمل عبد المؤمن أولاده على البلاد، فاستعمل ابنه عبد الله على بجاية وأعمالها، وابنه عمر على تلمسان وأعمالها، وابنه علياً على فارس وأعمالها، وابنه أبا سعيد على سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة، وكذلك غيرهم. وفي هذه السنة سار الملك محمد ابن السلطان محمود السلجوقي، من همذان بعساكر كثيرة إلى بغداد، وحصرها، وجرى بينهم قتال، وحصن الخليفة المقتفي دار الخلافة، واعتد للحصار، واشتد الأمر على أهل بغداد، وبينما الملك محمد على ذلك، إذ وصل إليه الخبر، أن أخاه ملكشاه ابن السلطان محمود، والدكز صاحب بلاد أران، ومعه الملك أرسلان ابن الملك طغريل بن محمد، وكان الدكز مزوجاً بأم أرسلان المذكور، قد دخلوا إلى همذان، فرحل الملك محمد عن بغداد وسار نحوهم، في الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة اثنين وخمسين وخمسمائة. وفيها احترقت بغداد، فاحترق درب فراشا، ودرب الدواب، ودرب اللبان، وخرابة ابن جردة، والظفرية، والخاتونية، ودار الخلافة، وباب الأدج، وسوق

وأخبار بني منقذ أصحاب شيزر إلى أن ملك نور الدين شيزر:

السلطان، وغير ذلك. وفيها توفي أبو الحسن بن الخل، شيخ الشافعية في بغداد، وهو من أصحاب الشاشي، وجمع بين العلم والعمل. وتوفي ابن الآمدي الشاعر، وهو من أهل النيل، في طبقة الغزي والأرجاني، وكان عمره قد زاد على تسعين سنة. وفيها قتل مظفر بن حماد، صاحب البطيحة، قتل في الحمام، وتولى بعده ابنه. وفيها توفي الوأواء الحلبي، الشاعر المشهور. وفيها توفي الحكيم أبو جعفر بن محمد البخاري، بإسفرائين، وكان عالماً بعلوم الفلسفة. ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. ذكر الزلازل بالشام وأخبار بني منقذ أصحاب شيزر إلى أن ملك نور الدين شيزر: في هذه السنة في رجب، كان بالشام زلازل قوية، فخربت بها حماة وشيزر وحمص وحصن الأكراد وطرابلس وأنطاكية، وغيرها من البلاد المجاورة لها، حتى وقعت الأسوار والقلاع، فقام نور الدين محمود بن زنكي في ذلك الوقت، المقام المرضي، من تداركها بالعمارة، وإغارته على الفرنج ليشغلهم عن قصد البلاد، هلك تحت الهدم ما لا يحصى، ويكفي أن معلم كتاب كان بمدينة حماة، فارق المكتب، وجاءت الزلزلة، فسقط المكتب على الصبيان جميعهم، قال المعلم: فلم يحضر أحد يسأل عن صبي كان له هناك، ولما خربت قلعة شيزر بهذه الزلزلة، ومات بنو منقذ تحت الردم سار الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي إلى شيزر، وملكها يوم الثلاثاء، ثالث جمادى الأولى، من سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، واستولى على كل من فيها لبني منقذ، سلمها إلى مجد الدين أبي بكر ابن الداية، وقد ذكر ابن الأثير، أن شيزر لم تزل لبني منقذ، يتوارثونها من أيام صالح بن مرداس صاحب حلب، وليس الأمر كذلك، فإن صالح المذكور، كانت وفاته في سنة عشرين وأربعمائة، وملك بني منقذ لشيزر، كان في سنة أربع وسبعين وأربعمائة، فيكون ملكهم لشيزر بعد وفاة صالح بن مرداس بأربع وخمسين سنة، ونحن نورد أخبار بني منقذ محققة حسبما نقلناها من تاريخ مؤيد الدولة سامة ابن مرشد، وكان المذكور أفضل بني منقذ، قال: وفي سنة ثمان وستين وأربعمائة، بدأ جدي سديد الملك أبو الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني بعمارة حصن الجسر، وحصر به حصن شيزر. - أقول ويعرف الجسر المذكور في زماننا بجسر ابن منقذ، وموضع الحصن اليوم تل خال من العمارة، وهو غربي شيزر، على مسافة قريبة منها - رجعنا إلى كلام ابن منقذ قال: وكان في شيزر وال للروم، اسمه دمتري، فلما طالت المضايقة لدمتري المذكور، راسل جدي، هو ومن عنده من الروم، في تسليم حصن شيزر إليه، باقتراحات اقترحوها عليه، منها مال يدفعه إلى دمتري المذكور، ومنها إبقاء أملاك الأسقف الذي بها عليه، فإنه استمر مقيماً تحت يد جدي

حتى مات بشيزر، ومنها أن القنطارية، وهم رجالة الروم، يُسلّفهم ديوانهم لثلاث سنين، فسلم إليهم جدي ما التمسوه، وتسلم حصن شيزر يوم الأحد، في رجب، سنة أربع وسبعين وأربعمائة، واستمر سديد الملك علي بن مقلد المذكور مالكها إلى أن توفي فيها، في سادس المحرم سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وتولى بعده ولده أبو المرهف نصر بن علي إلى أن توفي، سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. وتولى بعده أخره أبو العساكر سلطان بن علي إلى أن توفي فيها، وتولى ولده محمد بن سلطان إلى أن مات تحت الردم، هو وثلاثة أولاده بالزلزلة، في هذه السنة المذكورة، أعني سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، في يوم الاثنين ثالث رجب. انتهى ما نقلناه من تاريخ ابن منقذ، ولنرجع إلى كلام ابن الأثير. قال: فلما انتهى ملك شيزر إلى نصر بن علي بن نصر بن منقذ، استمر فيها إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، فلما حضره الموت، استخلف أخاه مرشد بن علي على حصن شيزر، فقال مرشد: والله لا وليته، ولأخرجن من الدنيا كما دخلتها، ومرشد هو والد مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، فلما امتنع مرشد من الولاية، ولاّها نصر، أخاه الصغير سلطان بن علي، واستمر مرشد مع أخيه سلطان على أجمل صحبة مدة من الزمان، وكان لمرشد عدة أولاد نجباً، ولم يكن لسلطان ولد، ثم جاء لسلطان الأولاد، فخشي على أولاده من أولاد أخيه مرشد، وسعى المفسدون بين مرشد وسلطان، فتغير كل منهما على صاحبه، فكتب سلطان إلى أخيه مرشد أبياتاً يعتبه، وكان مرشد عالماً بالأدب والشعر، فأجابه مرشد بقصيدة طويلة منها: شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ... فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا وطاوعت الواشين في وطال ما ... عصيت عذولاً في هواها وواشيا ومال بها تيه الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسى لها الدهر قانيا ومنها: ولما أتاني من قريظك جوهر ... جمعت المعالي فيه لي والمعانيا وكنت هجرت الشعر حيناً لأنه ... تولى برغمي حين ولى شبابيا ومنها: وقلت أخي يرعى بنيّ وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا فمالك لما أن حنى الدهر صعدتي ... وثلم مني صارماً كان ماضيا تنكرت حتى صار برُّكَ قسوة ... وقربُك منهم جفوةً وتنائيا على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي السنون وداديا وكان الأمر بين مرشد وأخيه سلطان فيه تماسك، إلى أن توفي مرشد، سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فأظهر سلطان التغير على أولاد أخيه مرشد المذكور، وجاهرهم بالعداوة،

ذكر غير ذلك من الحوادث:

ففارقوا شيزر، وقصد أكثرهم نور الدين محمود بن زنكي، وشكوا إليه من عمهم سلطان، فغاظه ذلك، ولم يمكنه قصده لاشتغاله بجهاد الفرنج، وبقي سلطان كذلك إلى أن توفي، وولي بعده أولاده. فلما خربت القلعة في هذه السنة بالزلزلة، لم ينج من بني منقذ الذين كانوا بها أحد، فإن صاحبها منهم كان قد ختن ولده، وعمل دعوة للناس، وأحضر جميع بني منقذ في داره، فجاءت الزلزلة، فسقطت الدار والقلعة عليهم، فهلكوا عن آخرهم، وكان لصاحب شيزر بن منقذ المذكور حصان يحبه، ولا يزال على باب داره، فلما جاءت الزلزلة وهلك بنو منقذ تحت الهدم، سلم منهم واحد، وهرب يطلب باب الدار، فلما خرج من الباب رفسه الحصان المذكور فقتله، وتسلم نور الدين القلعة والمدينة. ذكر وفاة السلطان سنجر في هذه السنة في ربيع الأول، توفي السلطان سنجر بن ملكشاه بن أبى أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، أصابه قولنج، ثم إسهال، فمات منه. ومولده بسنجار في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، واستوطن مدينة مرو من خراسان وقدم إلى بغداد مع أخيه السلطان محمد، واجتمع معه بالخليفة المستظهر، فلما مات محمد، خوطب سنجر بالسلطان، واستقام أمره، وأطاعته السلاطين، وخطب له على أكثر منابر الإسلام بالسلطنة، نحو أربعين سنة، وكان قبلها يخاطب بالملك نحو عشرين سنة، ولم يزل أمره عالياً إلى أن أسره الغز، ولما خلص من أسرهم، وكاد أن يعود إليه ملكه، أدركه أجله. وكان مهيباً كريماً، وكانت البلاد في زمانه آمنة، ولما وصل خبر موته إلى بغداد، قطعت خطبته، ولما حضر سنجر الموت، استخلف على خراسان الملك محمود بن محمد بن بغراخان، وهو ابن أخت سنجر، فأقام خائفاً من الغز. ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة، استولى أبو سعيد بن عبد المؤمن على غرناطة من الأندلس، وأخذها من الملثمين، وانقرضت دولة الملثمين ولم يبق لهم غير جزيرة ميورقة. ثم سار أبو سعيد في جزيرة الأندلس، وفتح المرية، وكانت بأيدي الفرنج مدة عشر سنين. وفيها ملك نور الدين بعلبك، وأخذها من إنسان كان قد استولى عليهما من أهل البضع يقال له ضحاك البقاعي، كان قد ولاه صاحب دمشق عليها، فلما ملك نور الدين دمشق، استولى ضحاك المذكور على بعلبك. وفيها قلع المقتفي الخليفة باب الكعبة، وعمل عوضه باباً مصفحاً بالفضة المذهبة، وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتاً يدفن فيه. وفيها مات محمد بن عبد اللطيف بن محمد الخجندي، رئيس أصحاب الشافعي بأصفهان، وكان صدراً مقدماً عند السلاطين. ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة فيها قصد

ملكشاه بن السلطان محمود السلجوقي قم وقاشان ونهبهما، وكان أخوه السلطان محمد بن محمود، بعد رحيله عن حصار بغداد، قد مرض، فطال مرضه، فأرسل إلى أخيه ملكشاه أن يكف عن النهب، ويجعله ولي عهده، فلم يقبل ملكشاه ذلك، ثم سار ملكشاه إلى خورشان واستولى عليها، وأخذها من صاحبها شملة التركماني. وفي هذه السنة توفي يحيى بن سلامة بن الحسن، بميافارقين، الحصكفي الشاعر وكان يتشيع. ومن شعره: وخليع بتُّ أعذله ... ويرى عذلي من العبث قلت إن الخمر مخبثة ... قال حاشاها من الخبث قلت فالأرفاث تتبعها ... قال طيب العيش في الرفث قلت منها القيء قال أجل ... شرفت عن مخرج الخبث وسأسلوها، فقلت متى؟ قال عند الكون في الجدث ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة. ذكر فتح المهدية في أواخر هذه السنة، نزل عبد المؤمن على مدينة المهدية، وأخذها من الفرنج يوم عاشورا، سنة خمسين وخمسمائة، وملك جميع إفريقية، وكان قد ملك الفرنج المهدية في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وأخذوها من صاحبها الحسن بن علي بن يحيى بن تميم الصنهاجي، وبقيت في أيديهم إلى هذه السنة، ففتحه عبد المؤمن، فكان ملك الفرنج المهدية اثنتي عشرة سنة تقريباً، ولما ملكها عبد المؤمن، أصلح أحوالها، واستعمل عليها بعض أصحابه، وجعل معه الحسن بن علي الصنهاجي، الذي كان صاحبها، وكان قد سار إلى بني حماد ملوك بجاية، ثم اتصل بعبد المؤمن حسبما تقدم ذكر ذلك، فأقام عنده مكرماً إلى هذه السنة، فأعاده عبد المؤمن إلى المهدية، وأعطاه بها دوراً نفيسة وإقطاعاً، ثم رحل عبد المؤمن عنها إلى الغرب. ذكر وفاة السلطان محمد وفي هذه السنة، وقيل في سنة خمس وخمسين، توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه. السلجوقي، في ذي الحجة، وهو الذي حاصر بغداد، ولما عاد عنها لحقه سل، وطال به فمات بباب همدان، وكان مولده في ربيع الآخر سنة اثنين وعشرين وخمسمائة، وكان كريماً عاقلاً، وخلف ولداً صغيراً، ولما حضره الموت، سلم ولده إلى أقسنقر الأحمديلي وقال: أنا أعلم أن العساكر لا تطيع مثل هذا الطفل، فهو وديعة عندك، فارحل به إلى بلادك. فرحل به أقسنقر إلى بلدة مرأغا. ولما مات السلطان محمد، اختلفت الأمراء، فطائفة طلبوا ملكشاه أخاه، وطائفة طلبوا سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه بن

ألب أرسلان، الذي كان قد اعتقل في الموصل، وهم الأكثر، ومنهم من طلب أرسلان بن طغريل، الذي كان مع الدكز. وبعد موت محمد سار أخوه ملكشاه إلى أصفهان فملكها. ذكر مرض نور الدين وفي هذه السنة مرض نور الدين بن زنكي مرضاً شديداً، أرجف بموته، وكان بقلعة حلب، فجمع أخوه أمير ميران بن زنكي جمعاً وحصر قلعة حلب، وكان شيركوه بحمص، وهو من أكبر أمراء نور الدين، فسار إلى دمشق ليستولي عليها، وبها أخوه نجم الدين أيوب، فأنكر عليه أيوب ذلك وقال: أهلكتنا، والمصلحة أن تعود إلى حلب، فإن كان نور الدين حياً، خدمته في هذا الوقت، وإن كان قد مات، فإنا في دمشق نفعل ما تريد من ملكها. فعاد شيركوه إلى حلب مجداً، وجلس نور الدين في شباك يراه الناس، فلما رأوه حياً تفرقوا عن أخيه أمير ميران، واستقامت الأحوال ذكر أخبار اليمن من تاريخ اليمن لعمارة وفي هذه السنة استقر في ملك اليمن علي بن مهدي، وأزال ملك بني نجاح، على ما قدمنا ذكره في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وعلي بن مهدي المذكور، من حمير من أهل قرية يقال لها الغبرة، من سواحل زبيد، كان أبوه مهدي المذكور، رجلاً صالحاً، ونشأ ابنه على طريقة أبيه في العزلة والتمسك بالصلاح، ثم حج، واجتمع بالعراقيين، وتضلع من معارفهم، ثم صار علي بن مهدي المذكور واعظاً، وكان فصيحاً صبيحاً حسن الصوت، عالماً بالتفسير، غزير المحفوظات، وكان يتحدث في شيء من أحوال المستقبل، فيصدق، فمالت إليه القلوب، واستفحل أمره، وصار له جموع، فقصد الجبال وأقام بها إلى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. ثم عاد إلى أملاكه، وكان يقول في وعظه: أيها الناس، دنا الوقت، أزف الأمر، كأنكم بما أقول لكم وقد رأيتموه عياناً. ثم عاد إلى الجبال إلى حصن يقال له الشرف، وهو لبطن من خولان، فأطاعوه وسماهم الأنصار، وسمى كل من صعد معه من تهامة، المهاجرين، وأقام على خولان رجلاً اسمه سبأ، وعلى المهاجرين رجلاً اسمه التويتي، وسمى كلا من الرجلين شيخ الإسلام، وجعلهما نقيبين على الطائفتين فلا يخاطبه أحد غيرهما، وهما يوصلان كلامه إلى الطائفتين، وكلام الطائفتين وحوائجهما إليه، وأخذ يغادي الغارات ويراوحها على التهايم، حتى أخلى البوادي، وقطع الحرث والقوافل. ثم إنه حاصر زبيد، واستمر مقيماً عليها حتى قتل فاتك بن محمد، آخر ملوك بني نجاح، قتله عبيدة، وجرى بين ابن مهدي وعبيد فاتك حروب كثيرة، وآخرها أن ابن مهدي انتصر عليهم، وملك زبيد، واستقر في دار الملك يوم الجمعة، رابع عشر رجب من هذه السنة،

وما كان منه إلى أن قتل

أعني سنة أربع وخمسين وخمسمائة. وبقي ابن مهدي في الملك شهرين وإحدى وعشرين يوماً، ثم مات علي بن مهدي المذكور في السنة التي ملك فيها في شوال، ثم ملك اليمن بعده ولده مهدي بن علي بن مهدي، ولم يقع تاريخ وفاته، ثم ملك اليمن بعده ولده عبد النبي بن مهدي، ثم خرجت المملكة عن عبد النبي المذكور إلى أخيه عبد الله، ثم عادت إلى عبد النبي واستقر فيها حتى سار إليه توران شاه بن أيوب من مصر في سنة تسع وستين وخمسمائة، وفتح اليمن واستقر في ملكه، وأسر عبد النبي المذكور، وهو عبد النبي بن مهدي بن علي بن مهدي الحميري، وهو من ملك اليمن من بني حمير، وكان مذهب علي بن مهدي التكفير بالمعاصي، وقتل من خلف اعتقاده من أهل القبلة واستباحة وطء سباياهم، واسترقاق ذراريهم، وكان حنفي الفروع، وكان أصحابه يعتقدون فيه فوق ما يعتقده الناس في الأنبياء، صلوات الله عليهم، ومن سيرته قتل من شرب ومن سمع الغناء. ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة. ذكر مسير سليمان شاه إلى همذان وما كان منه إلى أن قتل مات محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان، أرسلت الأمراء وطلبوا عمه سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه ليولوه السلطنة، وكان قد اعتقل في الموصل مكرماً، فجهزه قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، بشيء كثير، وجهاز يليق بالسلطنة، وسار معه زين الدين علي كجك بعسكر الموصل إلى همذان، وأقبلت العساكر إليهم، كل يوم تلقاه طائفة، وأميره ثم تسلطت العساكر عليه ولم يبق له حكم، وكان سليمان فيه تهور وخرق، وكان يدمن شرب الخمر، حتى أنه شرب في رمضان نهاراً، وكان يجمع عنده المساخر، ولا يلتفت إلى الأمراء، فأهمل العسكر أمره، وصاروا لا يحضرون بابه، وكان قد رد جميع الأمور إلى شرف الدين كردبازو الخادم، وهو من مشايخ الخدم السلجوقية، يرجع الأمور إلى دين وحسن تدبير. فاتفق يوماً أن سليمان شرب بظاهر همذان بالكشك، فحضر إليه كردياز ولامه، فأمر سليمان من عنده من المساخر فعبثوا بكردبازو، حتى أن بعضهم كشف له سوءته، فاتفق كردبازو مع الأمراء على قبضه، وعمل كردبازو دعوة عظيمة، فلما حضرها الملك سليمان في داره، قبض عليه كردبازو وحبسه، وبقي في الحبس مدة، ثم أرسل إليه كردبازو من خنقه، وقيل سقاه سماً؟، فمات في ربيع الآخر سنة ست وخمسين وخمسمائة. ولما مات سار الدكز في عساكر تزيد على عشرين ألفاً، ومعه أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان، ووصل إلى همذان، فلقيه كردبازو وأنزله في دار المملكة، وخطب لأرسلان شاه بالسلطنة، وكان الدكز مزوجاً بأم أرسلان شاه، فولدت للدكز أولاداً منهم: البهلوان محمد، وقزل أرسلان عثمان، أبناء الدكز.

خلافة المستنجد

وبقي الدكز أتابك أرسلان وابنه البهلوان، وهو أخو أرسلان لأمه حاجبه، وكان هذا الدكز أحد مماليك السلطان مسعود، اشتراه في أول أمره، ثم أقطعه آران وبعض بلاد أذربيجان، فعظم شأنه وقوي أمره، ولما خطب لأرسلان شاه بالسلطنة في تلك البلاد، أرسل الدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه بالسلطنة، على عادة الملوك السلجوقية، فلم يجب إلى ذلك، ونحن قد قدمنا ذكر موت سليمان وولاية أرسلان ليتصل ذكر الحادثة، وهي في الكامل مذكورة في موضعين، في سنة خمس وسنة ست وخمسمائة. ذكر وفاة الفائز وولاية العاضد العلويين في هذه السنة توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر، خليفة مصر، وكانت خلافته ست سنين ونحو شهرين، وكان عمره لما ولي ثلاث سنين، وقيل خمس سنين، ولما مات دخل الصالح بن رزيك القصر، وسأل عمن يصلح، فأحضر له منهم إنسان كبير السن، فقال بعض أصحاب الصالح له سراً: لا يكون عباس أحزم منك. حيث اختار الصغير، فأعاد الصالح الرجل إلى موضعه، وأمر بإحضار العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ، ولم يكن أبوه خليفة، وكان العاضد ذلك الوقت مراهقاً، فبايع له بالخلافة، وزوجه الصالح بابنته، ونقل معها من الجهاز ما لا يسمع بمثله. وفاة المقتفي لأمر الله في هذه السنة ثاني ربيع الأرل، توفي الخليفة المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر أبي العباس أحمد، بعلة التراقي، وكان مولده ثاني ربيع الآخر، سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وأمه أم ولد، وكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة، وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً، وكان حسن السيرة، وهو أول من استبد بالعراق منفرداً عن سلطان يكون معه، وكان يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار في جميع البلاد، حتى كان لا يفوته منها شيء. خلافة المستنجد وهو ثاني ثلاثينهم ولما توفي المقتفي لأمر الله محمد، بويع ابنه يوسف، ولقب المستنجد بالله، وأم المستنجد أم ولد تدعى طاووس، ولما بويع المستنجد بالخلافة، بايعه أهله وأقاربه، فمنهم عمه أبو طالب، ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفي، وكان أكبر من المستنجد، ثم بايعه الوزير ابن هبيرة، وقاضي القضاة وغيرهم.

ذكر وفاة صاحب غزنة في هذه السنة في رجب توفي السلطان خسروشاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمد بن سبكتكين، صاحب غزنة، وكان عادلاً حسن السيرة، وكانت ولايته في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ولما مات ملك بعده ابنه ملكشاه بن خسروشاه، وقيل والده خسروشاه المذكور توفي في حبس غياث الدين الغوري، وأنه آخر ملوك بني سبكتكين حسبما تقدم ذكره، في سنة سبع وأربعين وخمسمائة، والله أعلم بالصواب. ذكر وفاة ملكشاه والسلجوقي في هذه السنة توفي السلطان ملكشاه بن محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان، بأصفهان، مسموماً. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة حج أسد الدين شيركوه بن شاذي، مقدم جيش نور الدين محمود بن زنكي. ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة في هذه السنة في ربيع الآخر، توفي الملك علاء الدين الحسين بن الحسين الغوري، ملك الغور، وكان عادلاً حسن السيرة، ولما مات، ملك بعده ابن أخيه غياث الدين محمد، وقد تقدم ذكر ذلك في سنة سبع وأربعين وخمسمائة. ذكر نهب نيسابور وتخريبها وعمارة الشاذباخ في هذه السنة تقدم المؤيد أي به بإمساك أعيان نيسابور، لأنهم كانوا رؤساء للحرامية والمفسدين، وأخذ المؤيد يقتل المفسدين، فخربت نيسابور، وكان من جملة ما خرب مسجد عقيل، وكان مجمعاً لأهل العلم، وكان فيه خزائن الكتب الموقوفة، وخرب من مدارس الحنفية سبع عشرة مدرسة، وأحرق ونهب عدة من خزائن الكتب. وأما الشاذباخ، فإن عبد الله بن طاهر بن الحسين بناها لما كان أميراً على خراسان، للمأمون، وسكنها هو والجند، ثم خربت بعد ذلك، ثم جددت في أيام السلطان ألب أرسلان السلجوقي، ثم تشعثت بعد ذلك، فلما كان الآن وخربت نيسابور، أمر المؤيد أمح أي به بإصلاح سور الشاذباخ، وسكنها هو والناس، فخربت نيسابور كل الخراب، ولم يبق بها أحد. ذكر قتل الصالح بن رزيك في هذه السنة في رمضان قتل الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك الأرمني، وزير العاضد العلوي، جهزت عليه عمة العاضد من قتله، وهو داخل في القصر، بالسكاكين،

حرسها الله تعالى:

ولم يمت في تلك الساعة، بل حمل إلى بيته، وأرسل يعتب على العاضد. فأرسل العاضد إلى طلائع المذكور يحلف له، أنه لم يرض، ولا علم بذلك، وأمسك العاضد عمته وأرسلها إلى طلائع فقتلها، وسأل العاضد أن يولى ابنه رزيك الوزارة، ولقب العادل، ومات طلائع واستقر ابنه العادل رزيك في الوزارة، وكان للصالح طلائع شعر حسن، فمنه في الفخر: أبى الله إلا أن يدين لنا الدهر ... ويخدمنا في ملكنا العز والنصر علمنا بأن المال تفنى ألوفه ... ويبقى لنا من بعده الأجر والذكر خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا ... سحاب لديه البرق والرعد والقطر ذكر ملك عيسى مكة حرسها الله تعالى: كان أمير مكة قاسم بن أبي فليتة بن قاسم بن أبي هاشم العلوي الحسيني، فلما سمع بقرب الحاج من مكة، صادر المجاورين، وأعيان مكة، وأخذ أموالهم، وهرب إلى البرية. فلما وصل الحاج إلى مكة، رتب أمير الحاج، مكان قاسم، عمه عيسى بن قاسم بن أبي هاشم، فبقي كذلك إلى شهر رمضان، ثم إن قاسم بن أبي فليتة، جمع العرب وقصد عمه عيسى، فلما قارب مكة، رحل عنها عيسى، فعاد قاسم فملكها، ولم يكن معه ما يرضى به العرب، فكاتبوا عمه عيسى وصاروا معه، فقدم عيسى إليهم، فهرب قاسم وصعد إلى جبل أبى قبيس، فسقط عن فرسه، فأخذه أصحاب عمه عيسى وقتلوه، فغسله عمه عيسى ودفنه بالمعلى عند ابنه أبي فليتة. واستقرت مكة لعيسى. ذكر غير ذلك في هذه السنة عبر عبد المؤمن بن علي المجاز إلى الأندلس، وبنى على جبل طارق من الأندلس مدينة حصينة، وأقام بها عدة أشهر، ثم عاد إلى مراكش. وفيها ملك قرا أرسلان صاحب حصن كيفا، قلعة شاتان، وكانت لطائفة من الأكراد، ولما ملكها خربها، وأضاف أعمالها إلى حصن طالب. ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائة. في هذه السنة، نازل نور الدين محمود بن زنكي قلعة حارم، وهي للفرنج مدة، ثم رحل عنها ولم يملكها. وفيها سارت الكرج في جمع عظيم ودخلوا بلاد الإسلام، وملكوا مدينة دوين من أعمال أذربيجان، ونهبوها. ثم جمع الدكز صاحب أذربيجان جمعاً عظيماً، وغزا الكرج وانتصر عليهم. وفيها حج الناس، فوقعت فتنة، وقتال بين صاحب مكة وأمير الحاج، فرحل الحاج ولم يقدر بعضهم على الطواف بعد الوقفة. قال ابن الأثير: وكان ممن حج ولم يطف، جدته أم أبيه، فوصلت إلى بلادها وهي على إحرامها، واستفتت الشيخ أبا القاسم بن البرزي، فأفتى أنها إذا دامت على ما بقي من إحرامها إلى قابل، وطافت، كمل حجها الأول، ثم تفدي وتحل، ثم تحرم إحراماً ثانياً، وتقف بعرفات، وتكمل مناسك الحج، فيصير لها حجة ثانية. فبقيت

على إحرامها إلى قابل، وفعلت كما قال، فتم حجها الأول والثاني. وفيها مات الكيا الصنهاجي، صاحب الألموت، مقدم الإسماعلية، وقام ابنه مقامه، فأظهر التوبة. وفيها في المحرم، توفي الشيخ عدي بن مسافر الزاهد، المقيم ببلد الهكارية، من أعمال الموصل، وأصل الشيخ عدي من الشام، من بلد بعلبك، فانتقل إلى الموصل، وتبعه أهل السواد والجبال بتلك النواحي، وأطاعوه وأحسنوا الظن به. ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. ذكر وزارة شاور ثم الضرغام في هذه السنة، في صفر، وزر شاور للعاضد لدين الله العلوي، وكان شاور يخدم الصالح طلائع بن رزيك، فولاه الصعيد، وكانت ولاية الصعيد أكبر المناصب هد الوزارة، ولما خرج الصالح، أوصى ابنه العادل أن لا يغير على شاور شيئاً، لعلمه بقوة شاور، فلما تولى العادل ابن الصالح الوزارة، كتب إلى شاور بالعزل، فجمع شاور جموعه، وسار نحو العادل إلى القاهرة، فهرب العادل، وطرد وراءه شاور، وأمسكه وقتله، وهو العادل رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك، وانقرضت بمقتله دولة بني رزيك، وفيهم يقول عمارة التميمي من أبيات طويلة: ولت ليالي بني رزيك وانصرمت ... والمدح والشكر فيهم غير منصرم كأن صالحهم يوماً وعادلهم ... في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم واستقر شاور في الوزارة، وتلقب بأمير الجيوش، وأخذ أموال بني رزيك وودائعهم، ثم إن الضرغام، جمع جمعاً ونازع شاور في الوزارة، في شهر رمضان، وقوى على شاور، فانهزم شاور إلى الشام، مستنجداً بنور الدين، ولما تمكن ضرغام في الوزارة، قتل كثيراً من الأمراء المصريين، لتخلو له البلاد، فضعفت الدولة لهذا لسبب، حتى خرجت البلاد من أيديهم. ذكر وفاة عبد المؤمن في هذه السنة، في العشرين من جمادى الآخرة، توفي عبد المؤمن بن علي، صاحب بلاد المغرب وإفريقية والأندلس، وكان قد سار من مراكش إلى سلا، فمرض بها ومات، ولما حضره الموت، جمع شيوخ الموحدين وقال لهم: قد جربت ابني محمداً فلم أره يصلح لهذا الأمر، وإنما يصلح له ابني يوسف، فقدموه، فبايعوه، ودعى بأمير المؤمنين، واستقرت قواعد ملكه، وكانت مدة ولاية عبد المؤمن ثلاث وثلاثين سنة وشهوراً. وكان حازماً سديد الرأي، حسن السياسة للأمور، كثير سفك الدم على الذنب الصغير، وكان يعظم أمر الدين ويقويه، ويلزم الناس بالصلاة بحيث أنه من رآه وقت الصلاة غير مصل قتل، وجمع الناس في المغرب على مذهب مالك في الفروع، وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول.

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، ملك المؤيد أي به قومس، ولما ملكها أرسل إليه السلطان أرسلان بن طغريل ابن ملكشاه خلعة وألوية، وهدية جليلة، فلبس المؤيد أي به الخلع، وخطب له في بلاده. وفي هذه السنة كبس الفرنج نور الدين محمود، وهو نازل بعسكره في البقيعة، تحت حصن الأكراد، فلم يشعر نور الدين وعسكره إلا وقد أظلت عليهم صلبان الفرنج، وقصدوا خيمة نور الدين، فلسرعة ذلك ركب نور الدين فرسه وفي رجله السنجة، فنزل إنسان كردي فقطعها، فنجا نور الدين، وقتل الكردي، فأحسن نور الدين إلى مخلفيه، ووقف عليهم الوقوف، وسار نور الدين إلى بحيرة حمص، فنزل عليها، وتلاحق به من سلم من المسلمين. وفيها أمر الخليفة المستنجد بإخلاء بني أسد، وهم أهل الحلة المزيدية، فقتل منهم جماعة، وهرب الباقون، وتشتتوا في البلاد، وذلك لفسادهم في البلاد، وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى رجل يقال له ابن معروف. وفيها توفي سديد الدولة محمد بن عبد الكريم بن إبراهيم، المعروف بابن الأنباري، كاتب الإنشاء بدار الخلافة، وكان فاضلاً أديباً، وكان عمره قريب تسعين سنة. ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة في هذه السنة سير نور الدين محمود بن زنكي، عسكراً، مقدمهم أسد الدين شيركوه بن شاذي، إلى الديار المصرية، ومعهم شاور، وكان قد سار من مصر هارباً من ضرغام الوزير، فلحق شاور بنور الدين واستنجده، وبذل له ثلث أموال مصر، بعد رزق جندها، إن أعاده إلى الوزارة، فأرسل نور الدين شيركوه إلى مصر، فوصل إليها وهزم عسكر ضرغام، وقتل ضرغام عند قبر السيدة نفيسة، وأعاد شاور إلى وزارة العاضد العلوي. وكان مسير أسد الدين في جمادى الأولى من هذه السنة. واستقر شاور في الوزارة، وخرجت إليه الخلع في مستهل رجب من هذه السنة، ثم غدر شاور بنور الدين ولم يف له بشيء مما شرط، فسار أسد الدين واستولى على بلبيس والشرقية، فأرسل شاور واستنجد بالفرنج، على إخراج أسد الدين شيركوه من البلاد، فسار الفرنج، واجتمع معهم شاور بعسكر مصر، وعمروا شيركوه ببلبيس، ودام الحصار مدة ثلاث أشهر، وبلغ الفرنج حركة نور الدين وأخذه حارم، فراسلوا شيركوه في الصلح، وفتحوا له، فخرج من بلبيس بمن معه من العسكر، وسار بهم ووصلوا إلى الشام سالمين. وفي هذه السنة في رمضان، فتح نور الدين محمود قلعة حارم، وأخذها من الفرنج، بعد مصاف جرى بين نور الدين والفرنج، انتصر فيه نور الدين، وقتل وأسر من الفرنج عالماً كثيراً، وكان في جملة الأسرى البرنس، صاحب أنطاكية، والقومص صاحب طرابلس، وغنم منهم المسلمون شيئاً كثيراً. وفي هذه السنة أيضاً في ذي الحجة، سار نور الدين إلى بانياس وفتحها، وكان بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلى هذه السنة. في هذه السنة توفي جمال الدين أبو جعفر محمد بن علي بن أبي

منصور لأصفهاني، وزير قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، في شعبان، مبوضاً عليه، وكان قد قبض عليه قطب الدين، في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وكان قد تعاهد جمال الدين المذكور، وأسد الدين شيركوه، أنهما من مات منهما قبل الآخر، ينقله الآخر إلى مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، فيدفنه فيها، فنقله شيركوه، واكترى له من يقرأ القرآن عند شيله وحطه، وكان ينادي في كل بلد ينزلونه بها بالصلاة عليه، ولما أرادوا الصلاة عليه بالحلة، صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد: سرى نعشه فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله يمر على الوادي فتثني رماله ... عليه، وبالنادي فتثني أرامله وطيف به حول الكعبة، ودفن في رباط بالمدينة بناه لنفسه، وبينه وبين قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، نحو خمسة عشر ذراعاً، وهذا جمال الدين، هو الذي جدد مسجد الخيف بمنى، وبنى الحجر بجانب الكعبة، وزخرف الكعبة، وغرم جملة طائلة لصاحب مكة، وللمقتفي، حتى مكنه من ذلك، وهو الذي بنى المسجد الذي على جبل عرفات، وعمل الدرج إليه، وعمل بعرفات مصانع الماء، وبنى سوراً على مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، وبنى على دجلة جسراً، عند جزيرة ابن عمر، بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلس، فقبض قبل أن يفرغ، وبنى الربط وغيرها. وفي هذه السنة توفي نصر بن خلف، ملك سجستان، وعمره أكثر من مائة سنة، ومدة ملكه ثمانون سنة، وملك بعده ابنه أبو الفتح أحمد بن نصر. وفيها توفي الإمام عمر الخوارزمي، خطيب بلخ، ومفتيها، والقاضي أبو بكر المحمودي صاحب التصانيف والأشعار، وله مقامات بالفارسية على نمط مقامات الحريري. ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة في هذه السنة، في ربيع الأول، توفي شاه مازندران رستم بن علي بن شهريار بن قارن، وملك بعده ابنه علاء الدين الحسن، وفيها ملك المؤيد أي به مدينة هراة. وفيها كان بين قليج أرسلان صاحب قونية، وما جاورها من بلاد الروم، وبين باغي أرسلان بن الدانشمند صاحب ملطية، وما يجاورها من بلاد الروم، حروب شديدة، انهزم فيها قليج أرسلان، واتفق موت باغي أرسلان صاحب ملطية في تلك المدة، وملك بعده ملطية ابن أخيه إبراهيم بن محمد بن الدانشمند، واستولى ذو النون بن محمد بن الدانشمند على قيساربة، وملك شاهان شاه بن مسعود أخو قليج أرسلان مدينة أنكورية، واصطلح المذكورون على ذلك، واستقرت بينهم القواعد واتفقوا. وفيها توفي عون الدين الوزير ابن هبيرة، واسمه يحيى بن محمد بن المظفر، وكان موته في جمادى الأولى، ومولده سنة سبعين وأربعمائة، ودفن بالمدرسة التي بناها الحنابلة، بباب البصرة، وكان حنبلي المذهب، وأنفق على المقتفي نفاقاً عظيماً، حتى أن المقتفي كان يقول: لم يتوزر لبني العباس مثله، ولما مات قبض على أولاده وأهله. وفيها توفي الشيخ الأمام أبو القاسم عمر بن عكرمة بن البرزي،

الفقيه الشافعي، تفقه على الكيا الهراسي، وكان أوحد زمانه في الفقه، وهو من جزيرة ابن عمر. وفيها توفي أبو الحسن هبة الله بن صاعد بن هبة الله، المعروف بأمين الدولة ابن التلميذ، وقد ناهز المائة من عمره، وكان طبيب دار الخلافة ببغداد، ومحظياً عند المقتفي، وكان حاذقاً، فاضلاً، ظريف الشخص، عالي الهمة، مصيب الفكر، شيخ النصارى، وقسيسهم، وكان له في الأدب يد طولي، وكان متفنناً في العلوم، وكان فضلاء عصره يتعجبون كيف حرم الإسلام مع كمال فهمه، وغزارة علمه، والله يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يريد بحكمه. وكان أوحد الزمان، أبو البركات، هبة الله بن ملكان الحكيم، المشهور، صاحب كتاب المعتبر في الحكمة، معاصراً لابن التلميذ المذكور، وكان بينهما تنافس، كما يقع كثير بين أهل كل فضيلة وصنعة، وكان أبو البركات المذكور يهودياً، ثم أسلم في آخر عمره، وأصابه الجذام وتداوى وبرئ منه، وذهب بصره، وبقي أعمى، وكان متكبراً، وكان ابن التلميذ متواضعاً، فعمل ابن التلميذ في أبي البركات المذكور: لنا صديق يهودي حماقته ... إذا تكلم تبدو فيه من فيه يتيه والكلب أعلى منه منزلة ... كأنه بعد لم يخرج من التيه ولابن التلميذ أيضاً: يا من رماني عن قوس فرقته ... بسهم هجر على تلافيه أرض لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابه فيه وله التصانيف الحسنة منها كتاب، اقرأ باذين، وله على كليات القانون حواشي، وكتاب اقرأ باذين ابن التلميذ المذكور، هو المعتمد عليه عند الأطباء، كان شيخه في الطب، أبا الحسن هبة الله بن سعيد، صاحب المغني في الطب، ولابن سعيد المذكور أيضاً، الإقناع في الطب، وهو كتاب جيد في أربعة أجزاء. ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة. في هذه السنة، فتح نور الدين محمود حصن المنطرة من الشمام، وكان بيد الفرنج. وفيها في ربيع الآخر توفي الشيخ عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، وكنيته أبو محمد، وكان مقيماً ببغداد، ومولده سنة سبعين وأربعمائة. قال ابن الأثير: كان من الصلاح على حال عظيم، وهو حنبلي المذهب، ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد. ثم دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائة، في هذه السنة عاد أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية، وجهزه نور الدين بعسكر جيد، عدتهم ألفا فارس، فوصل إلى ديار مصر واستولى على الجيزة، وأرسل شاور إلى الفرنج واستنجدهم، وجمعهم وساروا في أثر شيركوه إلى جهة الصعيد، والتقوا على بلد يقال له أيوان، فانهزم الفرنج والمصريون، واستولى شيركوه على بلاد الجيزة، واستغلها. ثم سار إلى الإسكندرية وملكها، وجعل فيها ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعاد شيركوه إلى جهة الصعيد فاجتمع عسكر مصر والفرنج، وحصروا صلاح الدين بالإسكندرية مدة ثلاث أشهر، فسار شيركوه إليهم، فاتفقوا

على الصلح، على مال يحملونه إلى شيركوه، ويسلم إليهم الإسكندرية، ويعود إلى الشام، فتسلم المصريون الإسكندرية في منتصف شوال من هذه السنة، وسار شيركوه إلى الشام، فوصل إلى دمشق في ثامن عشر ذي القعدة، واستقر الصلح بين الفرنج والمصريين، على أن يكون للفرنج بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار. وفي هذه السنة، فتح نور الدين صافيتا والغربية. وفيها عصا غازي بن حسان صاحب منبج، على نور الدين بمنبج، فسير إليه نور الدين عسكراً وأخذوا منه منبج، ثم أقطع نور الدين منبج، قطب الدين ينال بن حسان، أخا غازي المذكور، فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب، سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. وفيها توفي فخر الدين قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا، وملك بعده ولده نور الدين محمود بن قرا أرسلان بن داود. وفيها توفي عبد الكريم أبو سعيد بن محمد بن منصور بن أبو بكر المظفر السمعاني المروزي، الفقيه الشافعي، وكان مكثراً من سماع الحديث، سافر في طلبه إلى ما وراء النهر، وسمع منه ما لم يسمعه غيره، وله التصانيف المشهورة الحسنة، منها: ذيل تاريخ بغداد، وتاريخ مدينة مرو، وكتاب الأنساب، في ثمان مجلدات. وقد اختصر كتاب الأنساب المذكور، الشيخ عز الدين علي بن الأثير، في ثلاث مجلدات، والمختصر المذكور، هو الموجود في أيدي الناس، والأصل قليل الوجود، وله غير ذلك، وقد جمع مشيخته، فزادت عدتهم على أربعة آلاف شيخ، وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي، فأوقع فيه، فمن جملة قوله فيه: أنه كان يأخذ الشيخ ببغداد، ويعبر به إلى فوق نهر عيسى، ويقول حدثني فلان بما وراء النهر، هذا بارد جداً، لأن السمعاني المذكور، سافر إلى ما وراء النهر حقاً، فأي حاجة إلى هذا التدليس، وإنما ذنبه عند ابن الجوزي، أنه شافعي، وله أسوة بغيره، فإن ابن الجوزي، لم يبق على أحد غير الحنابلة، وكانت ولادة أبي سعيد السمعاني المذكور، في شعبان سنة ست وخمسمائة، وكان أبوه وجده فاضلين، والسمعاني منسوب إلى سمعان، وهو بطن من تميم. ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة في هذه السنة فارق زين الدين علي كجك بن بكتكين، نائب قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، خدمه قطب الدين، واستقر بإربل، وكانت في إقطاع زين الدين علي المذكور وكانت له إربل مع غيرها، فاقتصر على إربل وسكنها، وسلم ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود، وكان زين الدين علي المذكور، قد عمي وطرش. ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة. ذكر ملك نور الدين قلعة جعبر في هذه السنة ملك نور الدين محمود قلعه جعبر، وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي، وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه، ولم يقدر نور الدين على أخذها، إلا بعد أن أسر صاحبها مالك

وقتل شاور

المذكور بنو كلاب، وأحضروه إلى نور الدين محمود، واجتهد به على تسليمها فلم يفعل، فأرسل عسكراً مقدمهم فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر، المعروف بابن الداية، وكان رضيع نور الدين، وحصروا قلعة جعبر، فلم يظفروا منها بشيء، وما زالوا على صاحبها مالك حتى سلمها، وأخذ عنها عوضاً مدينة بأعمالها، والملوحة، من بلد حلب، وعشرين ألف دينار، معجلة، وباب بزاعة. ذكر ملك أسد الدين شيركوه مصر وقتل شاور ثم ملك صلاح الدين، وهو ابتداء الدولة الأيوبية. في هذه السنة أعني سنة أربع وستين وخمسمائة، في ربيع الأول سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى دار مصر، ومعه العساكر النورية، وسبب ذلك تمكن الفرنج من البلاد المصرية، وتحكمهم على المسلمين بها، حتى ملكوا بلبيس قهراً في مستهل صفر من هذه السنة، ونهبوها وقتلوا أهلها وأسروهم، ثم ساروا من بلبيس، ونزلوا على القاهرة، عاشر صفر وحاصروها، فأحرق شاور مدينة مصر، خوفاً من أن يملكها الفرنج، وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً، فأرسل العاضد الخليفة إلى نور الدين يستغيث به، وأرسل في الكتب شعور النساء، وصانع شاور الفرنج على ألف ألف دينار، يحملها إليهم، فحمل إليهم مائة ألف دينار، وسألهم أن يرحلوا عن القاهرة، ليقدر على جمع المال وحمله، فرحلوا، فجهز نور الدين العسكر مع شيركوه، وأنفق فيهم المال، وأعطى شيركوه مائتي ألف دينار، سوى الثياب والدواب والأسلحة وغير ذلك، وأرسل معه عدة أمراء، منهم ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على كره منه، أحب نور الدين مسير صلاح الدين، وفيه ذهاب الملك من بيته، وكره صلاح الدين المسير، وفيه سعادته وملكه " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم " البقرة 216، ولما قارب شيركوه مصر رحل الفرنج من ديار مصر على أعقابهم إلى بلادهم، فكان هذا لمصر فتحاً جديداً، ووصل أسد الدين شيركوه إلى القاهرة، في رابع ربيع الآخر، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه، وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية، وأجرى عليه، وعلى عسكره الإقامات الوافرة، وشرع شاور يماطل شيركوه، فيما بذله لنور الدين من تقرير المال، وإفراد ثلث البلاد له، ومع ذلك فكان شاور يركب كل يوم إلى أسد الدين شيركوه، ويعده ويمنيه " وما يعدهم الشيطان إلا غروراً " النساء 125، ثم إن شاور عزم على أن يعمل دعوة لشيركوه وأمرائه، ويقبض عليهم، فمنعه ابنه الكامل ابن شاور من ذلك، ولما رأى عسكر نور الدين من شاور ذلك، عزموا على الفتك بشاور، واتفق على ذلك صلاح الدين يوسف، وعز الدين جرديك، وغيرهما. وعرفوا شيركوه بذلك، فنهاهم عنه واتفق أن شاور قصد شيركوه على عادته فلم يجده في المخيم وكان قد مضى لزيارة قبر الشافعي، فلقي صلاح الدين وجرديق

شاور، وأعلماه برواح شيركوه إلى زيارة الشافعي، فساروا جميعاً إلى شيركوه، فوثب صلاح الدين وجرديك ومن معهما على شاور، وألقوه إلى الأرض عن فرسه، وأمسكوه في سابع ربيع الآخر من هذه السنة، أعني سنة أربع وستين وخمسمائة، فهرب أصحابه عنه، وأرسلوا أعلموا شيركوه بما فعلوه، فحضر ولم يمكنه إلا إتمام ذلك. وسمع العاضد الخبر، فأرسل إلى شيركوه يطلب منه إنفاذ رأس شاور، فقتله وأرسل رأسه إلى العاضد، دخل بعد ذلك شيركوه إلى القصر عند العاضد، فخلع عليه العاضد خلع الوزارة، ولقبه الملك المنصور، أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة، وهي التي كان فيها شاور، واستقر في الأمر، وكتب له منشور بالإنشاء الفاضلي، أوله بعد البسملة: من عبد الله ووليه أبي محمد، الإمام العاضد لدين الله، أمير المؤمنين، إلى السيد الأجل الملك المنصور، سلطان الجيوش، ولي الأئمة، مجير الأمة، أسد الدين أبي الحارث شيركوه العاضدي، عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته. سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يصلي على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين، والأئمة المهديين، سلم تسليماً. ثم ذكر تفويض أمور الخلافة إليه، ووصايا أضربنا عنها للاختصار، وكتب العاضد بخطه على طرة المنشور، هذا عهد لم يعهد لوزير بمثله، فتقلد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلاً لحملها، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار، بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبرة، مدحت الشعراء أسد الدين، ووصل إليه من الشام مديح لعماد الكاتب، قصيدة أولها: بالجد أدركت ما أدركت لا اللعب ... كم راحة جنيت من دوحة التعب يا شيركوه بن شاذي الملك دعوة من ... نادي فعرف خير ابن لخير أب جرى الملوك وما حازوا بركضهم ... من المدى في العلى ما حزت بالخبب تمل من ملك مصر رتبة قصرت ... عنها الملوك فطالت سائر الرتب قد أمكنت أسد الدين الفريسة من ... فتح البلاد فبادر نحوها وثب وفي شيركوه وقتل شاور يقول عرقلة الدمشقي: لقد فاز بالملك العقيم خليفة ... له شيركوه العاضدي وزير هو الأسد الضاري الذي جل خطبه ... وشاور كلب للرجال عقور بغى وطغى حتى لقد قال صحبه ... على مثلها كان اللعين يدور فلا رحم الرحمن تربة قبره ... ولا زال فيها منكر ونكير وأما الكامل بن شاور، فلما قتل أبوه دخل القصر، فكان آخر العهد به، ولما لم يبق لأسد الدين شيركوه منازع، أتاه أجله " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة " الأنعام: 144، وتوفي يوم

السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، سنة أربع وستين وخمسمائة. فكانت ولايته شهرين وخمسة أيام، وكان شيركوه وأيوب ابني شاذي من بلد دوين، قال ابن الأثير: وأصلهما من الأكراد الروادية، فقصدا العراق وخدما بهروز شحنة السلجوقية ببغداد، وكان أيوب أكبر من شيركوه، فجعله بهروز مستحفظاً لقلعة تكريت، ولما انكسر عماد الدين زنكي من عسكر الخليفة، ومر على تكريت، خدمه أيوب وشيركوه، ثم، إن شيركوه قتل إنساناً بتكريت، فأخرجهما بهروز من تكريت، فلحقا بخدمة عماد الدين زنكي، فأحسن إليهما وأعطاهما إقطاعات جليلة، ولما ملك عماد الدين زنكي قلعة بعلبك، جعل أيوب مستحفظاً لها، ولما حاصره عسكر دمشق بعد موت زنكي، سلمها أيوب إليهم، على إقطاع كبير شرطوه له، وبقي أيوب من أكبر أمراء عسكر دمشق، وبقي شيركوه مع نور الدين محمود بعد قتل أبيه زنكي، وأقطعه نور الدين حمص والرحبة، لما رأى من شجاعته، وزاده عليهما، وجعله مقدم عسكره، فلما أراد نور الدين ملك دمشق، أمر شيركوه فكاتب أخاه أيوب، فساعد أيوب نور الدين على ملك دمشق، وبقيا مع نور الدين إلى أن أرسل شيركوه إلى مصر مرة بعد أخرى حتى ملكها، وتوفي فيها في هذه السنة، على ما ذكرناه ولما توفي شيركوه، كان معه صلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب ابن شاذي، وكان قد سار معه على كره قال صلاح الدين: أمرني نور الدين بالمسير مع عمي شيركوه، وكان قد قال شيركوه بحضرته لي: تجهز يا يوسف للمسير، فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبداً، فقال لنور الدين لا بد من مسيره معي فأمرني نور الدين وأنا أستقيل. فقال نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك. فشكوت الضائقة، فأعطاني ما تجهزت به، فكأنما أنساق إلى الموت، فلما مات شيركوه، طلب جماعة من الأمراء النورية التقدم على العسكر، وولاية الوزارة العاضدية، منهم عين الدولة الياروقي، وقطب الدين ينال المنبجي، وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي، وهو خال صلاح الدين، فأرسل العاضد، أحضر صلاح الدين وولاه الوزارة، ولقبه بالملك الناصر، فلم تطعه الأمراء المذكورون، وكان مع صلاح الدين، الفقيه عيسى الهكاري، فسعى مع المشطوب حتى أماله إلى صلاح الدين، ثم قصد الحارمي، وقال: هذا ابن أختك، وعزة وملكه لك، فمال إليه أيضاً، ثم فعل بالباقين كذلك، فكلهم أطاع، غير عين الدولة الياروقي، فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف، وعاد إلى نور الدين بالشام. وثبت قدم صلاح الدين، على أنه نائب لنور الدين، وكان نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الأسفهسلار، ويكتب علامته على رأس الكتاب، تعظيماً عن أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب، بل إلى الأمير صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية، يفعلون كذا وكذا، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور

الدين، أباه أيوب وأهله، فأرسلهم إليه نور الدين، فأعطاهم صلاح الدين الإقطاعات بمصر، وتمكن من البلاد، وضعف أمر العاضد، ولما فوض الأمر إلى صلاح الدين، تاب عن شرب الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص لباس الجد، ودام على ذلك إلى أن توفاه الله تعالى. قال ابن الأثير مؤلف الكامل: رأيت كثيراً من ابتدى بالملك ينتقل إلى غيره عقبه، فإن معاوية تغلب وملك، فانتقل الملك إلى بني مروان، ثم ملك السفاح من بني العباس، فانتقل الملك إلى أخيه المنصور وعقبه، ثم السامانية أول من ابتدى بالملك منهم نصر بن أحمد، فانتقل الملك إلى أخيه إسماعيل وعقبه، ثم عماد الدولة بن بوية، ملك فانتقل الملك إلى عقب أخيه ركن الدولة، ثم ملك طغريل بك السلجوقي، فانتقل الملك إلى عقب أخيه داود، ثم شيركوه ملك، فانتقل الملك إلى ابن أخيه، ولما قام صلاح الدين بالملك، لم يبق الملك في عقبه، بل انتقل إلى أخيه العادل، وعقبه، ولم يبق لأولاد صلاح الدين غير حلب، وكان سبب ذلك كثرة قتل من يتولى ذلك أولاً وأخذه الملك، وعيون أهله وقلوبهم متعلقة به، فيحرم عقبه ذلك. ولما استقر قدم صلاح الدين في الوزارة، قتل مؤتمن الخلافة، وكان مقدم السودان، فاجتمعت السودان، وهم حفاظ القصر، في عدد كثير، وجرى بينهم وبين صلاح الدين وعسكره وقعة عظيمة، بين القصرين، انهزم فيها السودان، وقتل منهم خلق كثير، وتبعهم صلاح الدين فأجلاهم قتلاً وتهجيجاً، وحكم صلاح الدين على القصر، وأقام فيه بهاء الدين قراقوش الأسدي، وكان خصياً أبيض، وبقي لا يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، كان بين إينانج صاحب الري، وبين الدكز، حرب انتصر فيها الدكز، وملك الري، وهرب إينانج وانحصر في بعض القلاع، فأرسل الدكز ورغب غلمان إينانج في الإقطاعات إن قتلوا إيناج أستاذهم، فقتلوه ولحقوا بالدكز، فلم يف لهم وقال: مثل هؤلاء لا ينبغي الإبقاء عليهم، فهربوا إلى البلاد، ولحق بعضهم، وهو الذي قتل أستاذه بخوارزم شاه، فصلبه لخيانته أستاذه. وفيها توفي الشيخ أبو محمد الفارقي، وكان أحد الزهاد، وله كرامات كثيرة، كان يتكلم على الخاطر، وكلامه مجموع مشهور. وفيها توفي ياروق أرسلان التركماني، وكان مقدماً كبيراً، وإليه تنسب الطائفة الياروقية من التركمان، وكان عظيم الخلقة، يسكن بظاهر حلب، وبنى على شاطئ قويق هو وأتباعه عماير كثيرة، وتعرف الآن بالياروقية، وهي مشهورة هنا. ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة. فيها سارت الفرنج إلى دمياط وحصروها، وشحنها صلاح الدين بالرجال والسلاح والذخائر، وأخرج على ذلك أموالاً عظيمة، فحصروها خمسين يوماً، وخرج نور الدين فأغار على بلادهم بالشام، فرحلوا عائدين على أعقابهم، ولم يظفروا

وفاة المستنجد خلافة المستضيء

بشيء منها. قال صلاح الدين: ما رأيت أكرم من العاضد، أرسل إلي مدة مقام الفرنج على دمياط، ألف ألف دينار مصرية، سوى الثياب وغيرها. وفيها سار نور الدين وحاصر الكرك مدة، ثم رحل عنه. وفيها كانت زلزلة عظيمة خربت الشام، فقام نور الدين في عمارة الأسواق، وحفظ البلاد أتم قيام، وكذلك خربت بلاد الفرنج، فخافوا من نور الدين، واشتغل كل منهم عن قصد الآخر، بعمارة ما خرب من بلاده. وفيها في ذي الحجة، مات قطب الدين مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، وكان مرضه حمى حادة، ولما مات صرف أرباب الدولة الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود، إلى أخيه الذي هو أصغر منه، وهو سيف الدين غازي بن مودود، فسار عماد الدين زنكي إلى عمه نور الدين مستنصراً به، وتوفي قطب الدين وعمره أربعين سنة تقريباً، وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً. وكان من أحسن الملوك سيرة. وفي هذه السنة توفي الملك طغريل بك بن قاورت بك، صاحب كرمان، واختلف أولاده، بهرام شاه، وأرسلان شاه وهو الأكبر، واستنجد كل منهم، وطلب الملك، فاتفق في تلك المدة أن أرسلان شاه الأكبر مات، فاستقر بهرام شاه في ملك كرمان. وفيها توفي مجد الدين أبو بكر بن الداية رضيع نور الدين، وكانت حلب وحارم وقلعة جعبر إقطاعه، فأقر نور الدين أخاه علياً بن الداية على إقطاعه. وفيها توفي محمد بن محمد بن ظفر، صاحب كتاب سلوان المطاع، صنفه لبعض القواد بصقلية، سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وله أيضاً كتاب نجباء الأبناء، وشرح مقامات الحريري، ومولده بصقلية، وتنقل بالبلاد وأقام بمكة، شرفها الله تعالى، وسكن آخر وقت مدينة حماة، وتوفي بها، ولم يزل يكابد الفقر حتى مات، رحمه الله تعالى. ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة. وفاة المستنجد خلافة المستضيء وهو ثالث ثلاثينهم: في هذه السنة، تاسع ربيع الآخر، توفي المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله، ومولده مستهل ربيع الآخر سنة عشر وخمسمائة، وكان أسمر تام القامة، طويل اللحية، وكان سبب موته أنه مرض واشتد مرضه، وكان قد خاف منه أستاذ داره عضد الدين أبو الفرج، ابن رئيس الرؤساء، وقطب الدين قيماز المقتنوي، وهو حينئذ أكبر أمراء بغداد، فاتفقا ووضعا الطبيب على أن يصف له ما يهلكه، فوصف له دخول الحمام، فامتنع منه لضعفه، ثم أنه دخلها وغلق عليه الباب فصات، ولما مات المستنجد، أحضر عضد الدين وقطب الدين المستضيء بأمر الله ابن المستنجد، واشترطا عليه شروطاً، أن يكون عضد الدين وزيراً، وابنه كمال الدين أستاذ داره، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك. واسم المستضيء الحسن، وكنيته أبو محمد، ولم يل الخلافة من اسمه حسن، غير الحسن بن علي المستضيء، فبايعوه بالخلافة يوم مات أبوه بيعة خاصة، وفي غده بيعة عامة، وكان المستنجد حسن

السيرة، أطلق كثيراً من المكوس، وكان شديداً على أهل العبث والفساد. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، سار نور الدين محمود بن زنكي إلى الموصل، وهي بيد ابن أخيه غازي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، فاستولى عليها نور الدين وملكها. ولما ملك نور الدين الموصل، قرر أمرها وأطلق المكوس منها، ثم وهبها لابن أخيه سيف الدين غازي المذكور، وأعطى سنجار لعماد الدين زنكي بن مردود، وهو أكبر من أخيه سيف الدين غازي، فقال كمال الدين الشهرزوري في هذا طريق إلى أذى، يحصل للبيت الأتابكي، لأن عماد الدين كبير، ولا يرى طاعة أخيه سيف الدين، وسيف الدين هو الملك، لا يرى الإغضاء لعماد الدين، فيحصل الخلف وتطمع الأعداء. وفي هذه السنة سار صلاح الدين عن مصر فغزا بلاد الفرنج قرب عسقلان والرملة، وعاد إلى مصر، ثم خرج إلى أيلة وحصرها، وهي للفرنج على ساحل البحر الشرقي، ونقل إليها المراكب، وحصرها براً وبحراً، وفتحها في العشر الأول من ربيع الآخر، واستباح أهلها، وما فيها، وعاد إلى مصر، ولما استقر صلاح الدين بمصر، كان لمصر دار للشحنة تسمى دار المعونة، يحبس فيها، فهدمها صلاح الدين، وبناها مدرسة للشافعية، وكذلك بنى دار الغزل مدرسة للشافعية، وعزل قضاة المصريين، وكانوا شيعة، ورتب قضاة شافعية، وذلك في العشرين من جمادى الآخرة، وكذلك اشترى تقي الدين عمر بن أخي صلاح الدين منازل العز، وبناها مدرسة للشافعية. وفي هذه السنة توفي القاضي ابن الخلال، من أعيان الكتاب المصريين وفضلائهم، وكان صاحب ديوان الإنشاء بها. ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة. ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر، وانقراض الدولة العلوية في هذه السنة، ثاني جمعة من المحرم، قطعت خطبة العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله ابن الأمير يوسف ابن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد ابن أبي القاسم محمد، ولم يل الخلافة ابن المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله، أبي الحسن علي ابن الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور بن العزيز بالله أبي منصور ابن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بالله أبي الطاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله، أول الخلفاء العلويين من هذا البيت، وقد مر ذكرنسبه في ابتداء دولتهم. وكان سبب الخطبة العباسية بمصر، أنه لما تمكن صلاح الدين من مصر، وحكم على القصر، وأقام فيه قراقوش الأسدي، وكان خصياً أبيض، وبلغ نور الدين ذلك، أرسل إلى صلاح الدين يأمره حتماً جزماً بقطع الخطبة العلوية، لا إقامة الخطبة العباسية، فراجعه صلاح الدين في ذلك خوف الفتنة، فلم يلتفت نور الدين إلى ذلك، وأصر عليه، وكان العاضد قد مرض فأمر صلاح الدين الخطباء أن يخطبوا للمستضيء،

ويقطعوا خطبة العاضد، فامتثلوا ذلك، ولم ينتطح فيها عنزان، وكان العاضد قد اشتد مرضه، فلم يعلمه أحد من أهله بقطع خطبته، فتوفي العاضد يوم عاشوراء، ولم يعلم بقطع خطبته، ولما توفي العاضد، جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه، وكان كثرته تخرج عن الإحصاء، وكان فيه أشياء نفيسة من الأعلاق المثمنة، والكتب والتحف، فمن ذلك، الحبل الياقوت، وكان وزنه سبعة عشر درهماً، أو سبعة عشر مثقالاً. قال ابن الأثير مؤلف الكامل: أنا رأيته، ووزنته، ومما حكي: أنه كان بالقصر طبل للقولنج، إذا ضرب الإنسان به ضرط، فكسر، ولم يعلموا به إلا بعد ذلك، ونقل صلاح الدين أهل العاضد إلى موضع من القصر، ووكل بهم من يحفظهم، وأخرج جميع من فيه من عبد وأمة، فباع البعض، وعتق البعض، ووهب البعض، وخلا القصر من سكانه، كأن لم يغن بالأمس. ولما اشتد مرض العاضد، أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه فظن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه، فندم لتخلفه عنه، وجميع من خطب له منهم بالخلافة أربع عشرة خليفة، المهدي، والقائم، المنصور، والمعز، والعزيز، والحاكم، والطاهر، والمستنصر، والمستعلي، والآمر، والحافظ، والظافر، والفائز، والعاضد. وجميع مدة خلافتهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة، سنة ست وتسعين ومائتين، إلى أن توفي العاضد في هذه السنة، أعني سنة سبع وستين وخمسمائة، مائتان واثنتان وسبعون سنة تقريباً، وهذا دأب الدنيا، لم تعط إلا واستردت، ولم تحل إلا وتمررت، ولم تصف إلا وتكدرت، بل صفوها لا يخلو من الكدر. ولما وصل خبر الخطبة العباسية بمصر إلى بغداد، ضربت لها البشائر عدة أيام، وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل، وهو من خواص الخدم المقتفوية، إلى نور الدين، وصلاح الدين، والخطباء، وسيرت الأعلام السود، وكان العاضد المذكور، قد رأى في منامه: أن عقرباً خرجت من مسجد بمصر، معروف ذلك المسجد للعاضد، ولدغته، فاستيقظ العاضد مرعوباً، واستدعى من يعبر الرؤيا، وقص ما رآه عليه، فعبره له بوصول أذى إليه من شخص بذلك المسجد، فتقدم العاضد إلى والي مصر، بإحضار من بذلك المسجد، فأحضر إليه شخصاً صوفياً يقال له نجم الدين الخويشاني، فاستخبره العاضد عن مقدمه، وسبب مقامه بالمسجد المذكور، فأخبره بالصحيح في ذلك، فرآه العاضد أضعف من أن يناله بمكروه، فوصله بمال وقال له: ادع لنا يا شيخ، وأمره بالإنصراف، فلما أراد السلطان صلاح الدين إزالة الدولة العلوية، والقبض عليهم، استفتى في ذلك، فأفتاه بذلك جماعة من الفقهاء، وكان نجم الدين الخويشاني المذكور من جملتهم، فبالغ في الفتيا، وصرح في خطه بتعديد مساوئهم، وسلب عنهم الإيمان، وأطال الكلام في ذلك، فصح بذلك رؤيا العاضد. ذكر غير ذلك وفي هذه السنة جرى بين نور الدين وصلاح الدين الوحشة في الباطن، فإن صلاح الدين

سار ونازل الشوبك، وهي للفرنج، ثم رحل عنه خوفاً أن يأخذه، فلم يبق ما يعوق نور الدين عن قصد مصر، فتركه ولم يفتحه لذلك، وبلغ نور الدين ذلك فكتمه، وتوحش باطنه لصلاح الدين، ولما استقر صلاح الدين بمصر، جمع أقاربه وكبراء دولته وقال: بلغني أن نور الدين يقصدنا، فما الرأي؟ فقال تقي الدين عمر ابن أخيه: نقاتله ونصده، وكان ذلك بحضرة أبيهم نجم الدين أيوب، فأنكر على تقي الدين ذلك وقال: أنا والدكم، لو رأيت نور الدين نزلت وقبلت الأرض بين يديه، بل اكتب وقل لنور الدين: أنه لو جاءني من عندك إنسان واحد، وربط المنديل في عنقي وجرني إليك، سارعت إلى ذلك. وانفضوا على ذلك، ثم اجتمع أيوب بابنه صلاح الدين خلوة وقال له: لو قصدنا نور الدين، أنا كنت أول من يمنعه ويقاتله، ولكن إذا أظهرنا ذلك، يترك نور الدين جميع ما هو فيه ويقصدنا، ولا ندري ما يكون من ذلك، وإذا أظهرنا له الطاعة، تمادى الوقت بما يحصل به الكفاية من عند الله، فكان كما قال. وفي هذه السنة توفي الأمير محمد بن مردنيش صاحب شرقي بلاد الأندلس، وهي مرسية وبلنسية وغيرهما، فقصد أولاده أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، ملك الغرب، وسلموا إليه بلادهم، فسر يوسف بذلك وتسلمها منهم وتزوج بأختهم، وأكرمهم ووصلهم بالأموال الجزيلة، وكان قد قصدهم يوسف المذكور في مائة ألف مقاتل، فأجابوا بدون قتال كما ذكرنا. وفي هذه السنة عبر الخطا نهر جيحون، فجمع خوارزم شاه أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين عساكره وسار إلى لقائهم، فمرض خوارزم شاه ورجع مريضاً، وأرسل عسكراً مع بعض المقدمين، فاقتتلوا مع الخطا، وانهزم عسكر خوارزم شاه، وأسر مقدمهم، ورجع الخطا إلى بلادهم بعد ذلك. وفي هذه السنة اتخذ نور الدين بالشام الحمام الهوادي، وتسئى المناسيب، لنقل البطائق والأخبار. وفيها عزل المستضيء وزيره عضد الدين ابن رئيس الرؤساء مكرهاً، لأن قطب الدين قيماز ألزمه بعزله، فلم يمكنه مخالفته. وفيها مات يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي الأندلسي القرطبي، وكان إماماً في القراءة والنحو وغيره من العلوم، توفي بالموصل. وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد، المعروف بابن الخشاب البغدادي، العالم المشهور في الأدب والنحو التفسير والحديث، وكان متضلعاً من العلوم، وكان قليل الاكتراث بالمأكل والملبس. وفيها توفي نصر الله بن عبد الله بن مخلوف بن علي بن عبد النور بن قلاقس، الشاعر المشهور، الإسكندري، مدح القاضي الفاضل، وكان كثير الأسفار، سار إلى صقلية في سنة ثلاث وخمسين، ثم عاد وسار إلى اليمن في سنة خمس وستين وخمسمائة، وفي كثرة أسفاره يقول: الناس كثر ولكن لا يقد لي ... إلا مرافقة الملاح والحادي ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة في هذه السنة توفي خوارزم شاه أرسلان بن

أطسز بن محمد بن أنوش تكين، وكان قد عاد من قتال الخطا مريضاً، ولما مات ملك بعده ابنه الصغير سلطان شاه محمود، ودبرت والدته المملكة، وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكين مقيماً في جند قد أقطعه أبوه إياها، فلما بلغه موت أبيه، وولاية أخيه الصغير، أنف من ذلك واستنجد بالخطا، وسار إلى خيه سلطان شاه وطرده، ثم إن سلطان شاه، قصد ملوك الأطراف، واستنجدهم على أخيه تكش وطرده، وكانت الحرب بينهم سجالاً حتى مات سلطان شاه، في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، واستقر في ملك خوارزم أخوه تكش بن أرسلان، وفي تلك الحروب بين الأخوين، قتل المؤيد أي به، قتله تكش صبراً، وملك بعده ابنه طغانشاه ابن المؤيد أي به. وفي هذه السنة سار شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر من مصرالى النوبة، للتغلب عليها، فلم تعجبه تلك البلاد، فغنم وعاد إلى مصر. وفي هذه السنة توفي شمس الدين الدكز بهمذان، وملك بعده ابنه محمد البهلوان، ولم يختلف عليه أحد، وكان الدكز هذا مملوكاً للكمال السميري وزير السلطان محمود، ثم صار للسلطان محمود، فلما ولي السلطان مسعود، ولاه وكبره حتى صار ملك أذربيجان وغيرها من بلاد الجبل، وأصفهان والري، وكان عسكره خمسين ألف فارس، وكان يخطب في بلاده بالسلطنة للسلطان أرسلان بن طغريل، ولم يكن لأرسلان معه حكم، وكان الدكز حسن السيرة. وفي هذه السنة سار طائفة من الترك من ديار مصر، مع مملوك لتقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، اسمه قراقوش، إلى إفريقية، ونزلوا على طرابلس الغرب فحاصرها مدة، ثم فتحها واستولى عليها قراقوش المذكور، وملك كثيراً من بلاد إفريقية. وفيها غزا أبو يعقوب بن عبد المؤمن بلاد الفرنج في الأندلس. وفيها سار نور الدين محمود بن زنكي إلى بلاد قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان، واستولى على مرعش، وبهنسا، ومرزبان، وسيواس، فأرسل إليه قليج أرسلان يستعطفه ويطلب الصلح، فقال نور الدين: لا أرضى إلا بأن ترد ملطية على ذي النون ابن الدانشمند، وكان قليج أرسلان قد أخذها منه، فبذل له سيواس واصطلح معه نور الدين، فلما مات نور الدين، عاد قليج أرسلان واستولى على سيواس وطرد ابن الدانشمند. وفيها سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك:، وحصرها، وكان قد واعد نور الدين أن يجتمعا على الكرك، وسار نور الدين من دمشق حتى وصل إلى الرقيم، وهو بالقرب من الكرك، فخاف صلاح الدين من الاجتماع بنور الدين، فرحل صلاح الدين عن الكرك عائداً إلى مصر، وأرسل تحفاً إلى نور الدين، واعتذر أن أباه أيوب مريض، ويخشى أن يموت فتذهب مصر، فقبل نور الدين عذره في الظاهر، وعلم المقصود، ولما وصل صلاح الدين إلى مصر، وجد أباه أيوب قد مات، وكان سبب موت نجم الدين أيوب بن شاذي المذكور، أنه ركب بمصر، فنفرت

به فرسه فوقع، وحمل إلى قصره، وبقي أياماً ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة؟ وكان أيوب خبيراً عاقلاً حسن السيرة، كريماً كثير الإحسان. وفيها توفي أبو نزار حسن بن أبي الحسن صافي بن عبد الله بن نزار النحوي، وقد ناهز الثمانين، وهو المعروف بملك النحاة، وبرع في النحو حتى فاق فيه أهل طبقته، وكان معجباً بنفسه، ولقب نفسه بملك النحاة، وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك، وقرأ الفقه على مذهب الشافعي، وكذلك قرأ الأصولين والخلاف، وسافر إلى خراسان وكرمان وغزنة، ثم رحل إلى الشام، واستوطن دمشق. ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة. ذكر ملك شمس الدولة توران شاه بن أيوب اليمن كان صلاح الدين وأهله، خائفين من نور الدين، فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر، بحيث إن قصدهم نور الدين قاتلوه، فإن هزمهم التجأوا إلى تلك المملكة، فجهز صلاح الدين أخاه توران شاه إلى النوبة، فلم تعجبهم بلادها، ثم سيره في هذه السنة بعسكر إلى اليمن، وكان صاحب اليمن حينئذ إنساناً يسمى عبد النبي، المقدم الذكر في سنة أربع وخمسين وخمسمائة، فتجهز توران شاه ووصل إلى اليمن، وجرى بينه وبين عبد النبي قتال، فانتصر توران شاه وهزم عبد النبي، وهجم زبيد وملكها، وأسر عبد النبي، ثم قصد عدن، وكان صاحبها إنساناً اسمه ياسر، فخرج لقتال توران شاه، فهزمه توران شاه، وهجم عدن وملكها، وأسر ياسر أيضاً، واستولى توران شاه على بلاد اليمن، واستقرت في ملك صلاح الدين، واستولى على أموال عظيمة لعبد النبي، وكذلك من عدن. ذكر قتل جماعة من المصريين وعمارة اليمني في هذه السنة في رمضان، صلب صلاح الدين جماعة من أعيان المصريين، فإنهم قصدوا الوثوب عليه، وإعادة الدولة العلوية، فعلم بهم وصلبهم عن آخرهم، فمنهم عبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وعمارة بما علي اليمني، الشاعر الفقيه، وله أشعار حسنة، فمنها ما يتعلق بأحوال العلويين، وانقراض دولتهم، قوله قصيدة منها: رميت يا دهر كف المجد بالشلل ... وجيده بعد حسن الحلي بالعطل جدعت ما رنك الأقني فأنفك لا ... ينفك ما بين أمر الشين والخجل لهفي ولهف بني الآمال قاطبةً ... على فجيعتها في أكرم الدول يا عاذلي في هوى أنباء فاطمة ... لك الملامة إن أقصرت في عذل بالله زر ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لا على صفين والجمل وقل لأهلهما والله لا التحمت ... فيكم جروحي ولا قرحي بمندمل ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلةً ... في نسل آل أمير المؤمنين علي

ومنها: وقد حصلتم عليها واسم جدكم ... محمد وأبوكم خير منتعل مررت بالقصر والأركان خالية ... من الوفود وكانت قبلة القبل ومنها: والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم ... ولا نجا من عذاب الله غير ولي أئمتي وهدأتي وألذ خيرة لي ... إذا ارتهنت بما قدمت من عمل والله لا حلت عني حبي لهم أبداً ... ما أخر الله لي في مدة الأجل وأيضاً له فيهم: غصبت أمية إرث آل محمد ... سفهاً وشنت غارة الشنئآن وغدت تخالف في الخلافة أهلها ... وتقابل البرهان بالبهتان لم تقتنع حكامهم بركوبهم ... ظهر النفاق وغارب العدوان وقعودهم في رتبة نبوية لم يبنها لهم أبو سفيان حتى أضافوا بعد ذلك أنهم ... أخذوا بثأر الكفر في الإيمان فأتى زياد في القبيح زيادة ... تركت يزيدَ يزيدُ في النقصان ذكر وفاة نور الدين محمود وفي هذه السنة، توفي الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي أقسنقر، صاحب الشام وديار الجزيرة وغير ذلك، يوم الأربعاء حادي عشر شوال، بعلة الخوانيق، بقلعة دمشق المحروسة، وكان نور الدين قد شرع يتجهز للدخول إلى مصر، لأخذها من صلاح الدين، وكان يريد أن يخلي ابن أخيه سيف الدولة غازي بن مودود في الشام، قبالة الفرنج، ويسير هو بنفسه إلى مصر، فأتاه أمر الله الذي لا مرد له، وكان نور الدين أسمر، طويل القامة، ليس له لحية إلا في حنكه، حسن الصورة، كان قد اتسع ملكه جداً، وخطب له بالحرمين واليمن، لما ملكها توران شاه بن أيوب، وكذلك كان يخطب له بمصر. وكان مولد نور الدين سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله، وكان من الزهد والعبادة على قدم عظيم، وكان يصلي كثيراً من الليل، كان كما قيل: جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب وكان عارفاً بالفقه على مذهب أبي حنيفة، وليس عنده فيه تعصب، وهو الذي بنى أسوار مدن الشام مثل: دمشمق، وحمص، وحماة، وحلب، وشيزر، وبعلبك، وغيرها. لما تهدمت بالزلازل. وبنى المد ارس الكثيرة، الحنفية والشافعية، ولا يحتمل هذا المختصر ذكر فضائله. ولما توفي نور الدين. قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بالملك بعده، وعمره إحدى عشرة سنة، وحلف له العسكر بدمشق، وأقام بها، وأطاعه صلاح الدين بمصر، خطب له بها. وضربت السكة باسمه، وكان المتولي لتدبير الملك الصالح، وتدبير دولته، الأمير شمس

الدين محمد بن عبد الملك، المعروف بابن المقدم. ولما مات نور الدين، وتملك ابنه الملك الصالح، سار من الموصل، سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي، وملك جميع البلاد الجزرية. ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة. ذكر خلاف الكنز بصعيد مصر في أول هذه السنة اجتمع على رجل من أهل الصعيد يقال له الكنز، جمع كثير، أظهر الخلاف على صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين إليه عسكراً، فاقتتلوا، وقتل الكنز وجماعة معه، وانهزم الباقون. ذكر ملك صلاح الدين دمشق وغيرها في هذه السنة سلخ ربيع الأول، ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب مدينة دمشق، وحمص، وحماة، وسببه أن شمس الدين ابن الداية المقيم بحلب، أرسل سعد الدين كمشتكين يستدعي الملك الصالح بن نور الدين، من دمشق إلى حلب، ليكون مقامه بها، فسار الملك الصالح إلى حلب مع سعد الدين كمشتكين، ولما استقر بحلب وتمكن كمشتكين، قبض على شمس الدين ابن الداية وإخوته، وقبض على الرئيس ابن الخشاب وإخوته، وهو رئيس حلب، واستبد سعد الدين بتدبير الملك الصالح، فخافه ابن المقدم، وغيره من الأمراء الذين بدمشق، وكاتبوا صلاح الدين بن أيوب صاحب مصر، واستدعوه ليملكوه عليهم، فسار صلاح الدين جريدة في سبعمائة فارس، ولم يلبث، ووصل إلى دمشق، فخرج كل من كان بها من العسكر، والتقوه وخدموه، ونزل بدار والده أيوب، المعروفة بدار العقيقي، وعصت عليه القلعة، وكان فيها من جهة الملك الصالح خادم اسمه ريحان، فراسله صلاح الدين واستماله، فسلم القلعة إليه، فصعد إليها صلاح الدين وأخذ ما فيها من الأموال، ولما ثبت قدمه وقرر أمر دمشق، استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب. وسار إلى حمص مستهل جمادى الأولى، وكانت حمص وحماة وقلعة بارين وسلمية وتل خالد والرها من بلد الجزيرة، في إقطاع فخر الدين مسعود بن الزعفراني، فلما مات نور الدين، لم يمكن فخر الدين مسعود المقام بحمص وحماه، لسوء سيرته مع الناس، وكانت هذه البلاد له بغير قلاعها، فإن قلاعها كان فيها ولاة لنور الدين، وليس لفخر الدين معهم في القلاع حكم الأبارين، فإن قلعتها كانت له أيضاً، ونزل صلاح الدين على حمص، في حادي عشر جمادى الأولى، وملك المدينة، وعصت عليه القلعة فترك عليها من يضيق عليها، ورحل إلى حماة، فملك مدينتها مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان بقلعتها الأمير عز الدين جرديك، أحد المماليك النورية، فامتنع في القلعة، فذكر له صلاح الدين أنه ليس له غرض سوى حفظ البلاد للملك الصالح إسماعيل، إنما هو نائبه، وقصده من جرديك المسير إلى حلب، في رسالة، فاستحلفه جرديك على ذلك،

وسار جرديك إلى حلب برسالة صلاح الدين، واستخلف في قلعة حماة أخاه، فلما وصل جرديك إلى حلب، قبض عليه كمشتكين وسجنه، فلما علم أخوه بذلك، سلم قلعة حماة إلى صلاح الدين فملكها، ثم سار صلاح الدين إلى حلب وحصرها، وبها الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، فجمع أهل حلب وقاتلوا صلاح الدين، وصدوه عن حلب، وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية أموالاً عظيمة، ليقتلوا صلاح الدين، فأرسل سنان جماعة، فوثبوا على صلاح الدين فقتلوا دونه، واستمر صلاح الدين محاصراً لحلب إلى مستهل رجب، ورحل عنها بسبب نزول الفرنج على حمص، ووصل صلاح الدين إلى حماة ثامن رجب، وسار إلى حمص، فرحل الفرنج عنها، ووصل صلاح الدين إلى حمص وحصر قلعتها، وملكها في الحادي والعشرين من شعبان، من هذه السنة. ثم سار إلى بعلبك فملكها، ولما استقر ملك صلاح الدين لهذه البلاد، أرسل الملك الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي، صاحب الموصل، يستنجده على صلاح الدين، فجهز جيشه صحبة أخيه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، وجعل مقدم الجيش أكبر أمرائه، وهو عز الدين محمود، ولقبه سلقندار، وطلب أخاه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار، ليسير في النجدة أيضاً فامتنع، مصانعة لصلاح الدين، فسار سيف الدين غازي وحصره بسنجار، ووصل عسكر الموصل صحبة مسعود بن مودود وسلقندار إلى حلب، وانضم إليهم عسكر حلب، وساروا إلى صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين ببذل حمص وحماة، وأن تقر بيده دمشق، وأن يكون فيها نائباً للملك الصالح، فلم يجيبوا إلى ذلك، وساروا إلى قتاله، واقتتلوا عند قرون حماة، فانهزم عسكر الموصل وحلب، وغنم صلاح الدين وعسكره أموالهم، وتبعهم صلاح الدين حتى حصرهم في حلب، وقطع صلاح الدين حينئذ خطبة الملك الصالح بن نور الدين، وأزال اسمه عن السكة، واستبد بالسلطنة، فراسلوا صلاح الدين في الصلح، على أن يكون له ما بيده من الشام، وللملك الصالح ما. بقي بيده منه، فصالحهم على ذلك ورحل عن حلب، في العشر الأول من شوال من هذه السنة، أعني سنة سبعين وخمسمائة وفي العشر الأخير من شوال من هذه السنة، ملك السلطان صلاح الدين قلعة بارين، وأخذها من صاحبها فخر الدين مسعود بن الزعفراني، وكان فخر الدين المذكور، من أكابر الأمراء النورية. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة ملك البهلوان بن الدكز مدينة تبريز، وأخذها من ابن أقسنقر الحمديلي وفيها مات شملة التركماني، صاحب خورستان، وملك ابنه بعده. وفيها وقع بين الخليفة وبين قطب الدين قيماز، مقدم عسكر بغداد، فتنة، فنهبت دار قيماز، وهرب إلى الحلة، ثم إلى

الموصل، فلحق قيماز في الطريق عطش شديد، فهلك أكثر أصحابه، ومات قطب الدين قيماز، قبل أن يصل إلى الموصل، فحمل ودفن بظاهر باب العمادي، ولما هرب قيماز، خلع الخليفة على عضد الدولة الوزير، وعاده إلى الوزارة. ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة: ذكر انهزام سيف الدين غازي صاحب الموصل من السلطان صلاح الدين في هذه السنة عاشر شوال، كان المصاف بين السلطان صلاح الدين، وبين سيف الدين غازي ابن مودود بن زنكي بتل السلطان، فهرب سيف الدين غازي والعساكر التي كانت معه، فإنه كان قد استنجد بصاحب حصن كيفا، وصاحب ماردين، وغيرهما، وتمت على سيف الدين غازي الهزيمة، حتى وصل الموصل مرعوباًن وقصد الهروب منها إلى بعض القلاع، فثبته وزيره، وأقام بالموصل. واستولى السلطان صلاح الدين على أثقال عسكر الموصل وغيرهم، وغنم ما فيها، ثم سار السلطان صلاح الدين إلى بزاعة، فحصرها وتسلمها. ثم سار إلى منبج فحصرها في آخر شوال، وصاحبها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وكان شديد البغض لصلاح الدين، وفتحها عنوة، وأسر ينال، وأخذ جميع موجوده ثم أطلقه، فسار ينال إلى الموصل، فأقطعه سيف الدين غازي مدينة الرقة، ثم سار السلطان صلاح الدين إلى إعزاز، ونازلها ثالث ذي القعدة، وتسلمها حادي عشر ذي الحجة، فوثب إسماعيلي على صلاح الدين في حصاره إعزاز، فضربه بسكين في رأسه فجرحه، فأمسك صلاح الدين يدي الإسماعيلي، وبقي يضرب بالسكين فلا يؤثر، حتى قتل الإسماعيلي على تلك الحال، ووثب آخر عليه فقتل أيضاً، وجاء السلطان إلى خيمته مذعوراً، وأعرض جنده، وأبعد من أنكره منهم. ولما ملك السلطان إعزاز رحل عنها، ونازل حلب في منتصف ذي الحجة، وحصرها وبها الملك الصالح بن نور الدين، وانقضت هذه السنة وهو محاصر لحلب، فسألوا صلاح الدين في الصلح، فأجابم إليه، وأخرجوا إليه بنتاً صغيرة لنور الدين محمود، فأكرمها السلطان صلاح الدين، وأعطاها شيئاً كثيراً، وقال لها: ما تريدين؟ فقالت: أريد قلعة إعزاز، وكانوا قد علموها ذلك، فسلمها إليهم، واستقر الصلح، ورحل السلطان صلاح الدين عن حلب، في العشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. ذكر غير ذلك في هذه السنة سار أمير الحاج العراقي طاشتكين، وأمره الخليفة بعزل صاحب مكة، مكثر بن عيسى، فجرى بين الحجاج وبينه قتال، فانهزم مكثر في البرية، وأقام أخاه داود

مكانه بمكة. وفيها في رمضان قدم شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن إلى الشام، وأرسل إلى أخيه صلاح الدين يعلمه بوصوله، وكتب إليه أبياتاً من شعر ابن النجم المصري: وإلى صلاح الدين أشكو أنني ... من بعده مضنى الجوانح مولع جزعاً لبعد الدار عنه ولم أكن ... لولا هواه لبعد دار أجزع ولأركبن إليه متن عزائمي ... ويخب بي ركب الغرام ويوسع ولأسرين الليل لا يسرى به ... طيف الخيال ولا البروق اللمع وأقدمن إليه قلبي مخبراً ... أني بجسمي عن قريب أتبغ حتى أشاهد منه أسعد طلعة ... من أفقها صبح السعادة يطلع وفيها توفي الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، المعروف بابن عساكر الدمشقي، الملقب نور الدين، كان إماماً في الحديث، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، صنف تاريخ دمشق في ثمانين مجلدة، على وضع تاريخ بغداد، أتى فيه بالغرائب، ومولد المذكور في أول سنة تسع وتسعين وأربعمائة. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة فيها قصد السلطان صلاح الدين، بلد الإسماعيلية، في المحرم، فنهب بلدهم وخربه وأحرقه، وحصر قلعة مصياف، فأرسل سنان مقدم الإسماعيلية إلى خال صلاح الدين، وهو شهاب الدين الحارمي صاحب حماة، يسأله أن يسعى في الصلح، فسأل الحارمي الصفح عنهم، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وصالحهم ورحل عنهم، وأتم السلطان صلاح الدين مسيره، ووصل إلى مصر فإنه كان قد بعد عهده بها، بعد أن استقر له ملك الشمام، ولما وصل إلى مصر في هذه السنة، أمر ببناء السور الدائر على مصر والقاهرة والقلعة، التي على جبل المقطم، ودور ذلك تسعة وعشرون ألف ذراع، وثلاث مائة ذراع، بالذراع الهاشمي، ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين. وفي هذه السنة أمر صلاح الدين ببناء المدرسة التي على الشافعي بالقرافة بمصر، وعمل بالقاهرة مرستان. وفيها توفي القاضي جمال الدين محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، قاضي دمشق، وجميع الشام. ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة في هذه السنة في جمادى الأولى، سار السلطان صلاح الدين من مصر إلى ساحل الشام، لغزو الفرنج، فوصل إلى عسقلان في الرابع والعشرين من الشهر، فنهب، وتفرق عسكره في الإغارات، وبقي السلطان في بعض العسكر، فلم يشعر إلا بالفرنج قد طلعت عليه، فقاتلهم أشد قتال، وكان لتقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ولد اسمه أحمد، وهو من أحسن الشباب، أول ما قد تكاملت لحيته، فأمره أبوه تقي الدين بالحملة على الفرنج، فحمل عليهم، وقاتلهم، فأثر فيهم أثراً كبيراً، وعاد سالماً، فأمره أبوه بالعود

إليهم ثانية، فحمل عليهم فقتل شهيداً، وتمت الهزيمة على المسلمين، وقاربت حملات الفرنج السلطان، فمضى منهزماً إلى مصر على البرية، ومعه من سلم، فلقوا في طريقهم مشقة وعطشاً شديداً، وهلك كثير من الدواب، وأخذت الفرنج العسكر الذين كانوا يتفرقون في الإغارات أسرى، وأسر الفقيه عيسى، وكان من أكبر أصحاب السلطان صلاح الدين، فافتداه السلطان من الأسر بعد سنتين، بستين ألف دينار، ووصل السلطان إلى القاهرة نصف جمادى الآخرة، قال الشيخ عز الدين علي بن الأثير مؤلف الكامل: ورأيت كتاباً بخط يد صلاح الدين، إلى أخيه توران شاه، نائبه بدمشق، يذكر له الوقعة، وفي أوله: ذكرتك والخطي تخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر ويقول فيه: لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة، وما نجانا الله منه إلا لأمر يريده سبحانه وتعالى. وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر. وفي هذه السنة سار الفرنج وحصروا مدينة حماة، في جمادى الأولى، وطمع الفرنج بسبب بعد السلطان بمصر، وهزيمته من الفرنج، ولم يكن غير توران شاه بدمشق، ينوب عن أخيه صلاح الدين، وليس عنده كثير من العسكر، وكان توران شاه أيضاً كثير الانهماك في اللذات، مائلاً إلى الراحات، ولما حصروا حماة، كان بها صاحبها شهاب الدين الحارمي، خال صلاح الدين، وهو مريض، واشتد حصار الفرنج لحماة، وطال زحفهم عليها، حتى أنهم هجموا بعض أطراف المدينة، وكادوا يملكون البلد قهراً، ثم جد المسلمون في القتال، وأخرجوا الفرنج إلى ظاهر السور، وأقام الفرنج كذلك على حماة أربعة أيام، ثم رحلوا عنها إلى حارم، وعقيب رحيلهم عنها مات صاحبها شهاب الدين الحارمي، وكان له ابن من أسن الناس شباباً، مات قبله بثلاثة أيام. وفي هذه السنة قبض الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، صاحب حلب، على سعد الدين بن كمشتكين، وكان قد تغلب على الأمر. وكانت حارم لكمشتكين، فأرسل الملك الصالح إليهم، فلم يسلموها إليه فأمر كمشتكين أن يسلمها، فأمرهم بذلك، فلم يقبلوا منه، فأمر بتعذيب كمشتكين ليسلموا القلعة، فعذب وأصحابه يرونه ولا يرحمونه، فمات في العذاب، وأصر أصحابه على الامتناع، ووصل الفرنج إلى حارم بعد رحيلهم عن حماة، وحصروا حارم مدة أربعة أشهر، فأرسل الملك الصالح مالاً للفرنج وصالحهم، فرحلوا عن حارم، وقد بلغ بأهلها الجهد، وبعد أن رحل الفرنج عنها، أرسل إليها الملك الصالح عسكراً وحصروها، فلم يبق بأهلها ممانعة، فسلموها إلى الملك الصالح، فاستناب بقلعة حارم مملوكاً كان لأبيه، اسمه سرخك. وفي هذه السنة في المحرم خطب للسلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل ابن السلطان محمد ابن السلطان ملكشاه، المقيم ببلاد الدكز، وكان أبوه أرسلان الذي تقدم خبره، قد توفي، ولم

يذكر ابن الأثير وفاة أرسلان بن طغريل إلا في هذا الموضع، وكان ينبغي أن يذكره قبل هذه السنة. وفيها في ذي الحجة قتل عضد الدين محمد بن عبد الله بن هبة الله، وزير الخليفة، وكان قد عبر دجلة عازماً على الحج، فقتله الإسماعيلية، وحمل مجروحاً إلى منزله فمات به، وكان مولده في جمادى الأولى سنة أربع عشرة وخمسمائة. وفيها توفي صدقة بن الحسين الحداد، الذي ذيل تاريخ ابن الزعفراني ببغداد. ثم دخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة في هذه السنة، طلب توران شاه من أخيه السلطان صلاح الدين بعلبك، وكان السلطان أعطاها شمس الدين محمد ابن عبد الملك المقدم، لما سلم دمشق إلى صلاح الدين، فلم يمكن صلاح الدين منع أخيه من ذلك، فأرسل إلى ابن المقدم ليسلم بعلبك، فعصي بها ولم يسلمها، فأرسل السلطان وحصره ببعلبك، وطال حصارها، فأجاب ابن المقدم إلى تسليمها على عوض، فعوض عنها، وتسلمها السلطان وأقطعها أخاه توران شاه. رفيها كان بالبلاد غلاء عام، وتبعه وباء شديد، وفيها سير السلطان صلاح الدين ابن أخيه تقي الدين عمر إلى حماة، وابن عمه محمد بن شيركوه إلى حمص، وأمرهما بحفظ بلادهما، فاستقر كل منهما ببلده. وفيها توفي الحصيص الشاعر، واسمه سعد بن محمد بن سعد، وشعره مشهور فمنه: لا تلمني في سقامي بالعلى ... رغد العيش لريات الحجال سيف عز زانه رونقه ... فهو بالطبع غني عن صقال وفيها ماتت شهدة بنت أحمد بن عمر الأبري، سمعت الحديث من السراج، وطراد، وغيرهما، وعمرت حتى قاربت مائة سنة، وسمع عليها خلق كثير لعلو إسنادها. ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة.، فيها سار السلطان صلاح الدين، وفتح حصناً كان بناه الفرنج عند مخاضة الأحزان، بالقرب من بانياس، عند بيت يعقوب، وفي ذلك يقول علي بن محمد الساعاتي الدمشقي: أتسكن أوطان النبيين عصبة ... تمين لدى أيمانها وهي تحلف نصحتكم والنصح للدين واجب ... ذرواً بيت يعقوب فقد جاء يوسف وفيها كان حرب بين عسكر السلطان صلاح الدين، ومقدمهم ابن أخيه تقي الدين، عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وبين عسكر قليج أرسلان بن. مسعود بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم، وسببها أن حصن رعبان كان بيد شمس الدين بن المقدم، فطمع فيه قليج أرسلان، وأرسل إليه عسكراً كثيراً ليحصروه، وكانوا قريب عشرين ألفاً، فسار إليهم تقي الدين في ألف فارس، فهزمهم، وكان تقي الدين يفتخر ويقول: هزمت بألف عشرين ألفاً.

ذكر وفاة المستضيء خلافة الإمام الناصر

ذكر وفاة المستضيء خلافة الإمام الناصر وهو رابع ثلاثينهم: في هذه السنة ثاني ذي القعدة، توفي المستضيء بأمر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد، وأمه أم ولد أرمنية، وكانت خلافته نحو تسع سنين وسبعة أشهر. وكان مولده سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وكان عادلاً حسن السيرة، وكان قد حكم في دولة ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر، المعروف بابن العطار، بعد قتل عضد الدين الوزير، فلما مات المستضيء، قام ظهير الدين بن العطار، وأخذ البيعة لولده، الإمام الناصر لدين الله، ولما استقرت البيعة للإمام الناصر، حكم أستاذ الدار مجد الدين أبو الفضل، فقبض في سابع ذي القعدة على ظهير الدين بن العطار، ونقل إلى التاج، وأخرج ظهير الدين المذكور ميتاً على رأس حمال، ليلة الأربعاء، ثاني عشر ذي القعدة، فثارت به العامة، والقوه عن رأس الحمال، وشدوا في ذكره حبلاً وسحبوه في البلد، وكانوا يضعون في يده مغرفة، يعني أنها قلم، وقد غمس تلك المغرفة في العذرة، ويقولون وقع لنا يا مولانا، هذا فعلهم به، مع حسن سيرته فيهم، وكفه عن أموالهم، ثم خلص منهم ودفن. وفي هذه السنة في ذي القعدة، نزل توران شاه أخو السلطان عن بعلبك، وطلب عوضها الإسكندرية، فأجابه السلطان صلاح الدين إلى ذلك، وأقطع بعلبك لعز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، فسار إليها فرخشاه، وسار شمس الدولة توران شاه إلى الإسكندرية، وأقام بها إلى ن مات بها. ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة. ذكر وفاة سيف الدين صاحب الموصل في هذه السنة ثالث صفر، توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، والديار الجزرية، وكان مرضه السل، وطال، وكان عمره نحو ثلاثين سنة، وكانت ولايته عشر سنين ونحو ثلاثة شهر، وكان حسن الصورة مليح الشباب، تام القامة أبيض اللون، عاقلاً عادلاً، عفيفاً شديد الغيرة، لا يدخل بيته غير الخدم إذا كانوا صغاراً، فإذا كبر أحدهم منعه، وكان عفيفاً عن أموال الرعية، مع شح كان فيه، وحين حضره الموت، أوصى بالمملكة بعده إلى أخيه عز الدين مسعود بن مودود، وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده سنجرشاه بن غازي، فاستقر ذلك بعد موته حسبما قرره، وكان مدير الدولة والحاكم فيها مجاهد الدين قيماز. وفي هذه السنة، سار السلطان صلاح الدين إلى جهة قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان، صاحب بلاد الروم، ووصل إلى رعبان، ثم اصطلحوا. فقصد صلاح الدين بلاد ابن ليون الأرمني، وشن فيها الغارات، فصالحه ابن ليون على مال حمله، وأسرى أطلقهم. وفيها توفي شمس الدولة توران شاه بن أيوب، أخو

صلاح الدين الأكبر، بالإسكندرية، وكان له معها أكثر بلاد اليمن، ونوابه هناك يحملون إليه الأموال من زبيد وعدن وغيرهما، وكان أجود الناس وأسخاهم كفاً، يخرج كل ما يحمل إليه من أموال اليمن، ودخل الإسكندرية، ومع هذا، فلما مات، كان عليه نحو مائتي ألف دينار مصرية، ديناً عليه، فوفّاها أخوه صلاح الدين عنه، لما وصل إلى مصر، ووصل السلطان صلاح الدين إلى مصر في هذه السنة، في شعبان، واستخلف بالشام ابن أخيه عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك. ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة في هذه السنة، عزم البرنس صاحب الكرك، على المسير إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، للاستيلاء على تلك النواحي الشريفة، وسمع ذلك عز الدين فرخشاه، نائب عمه السلطان صلاح الدين بدمشق، فجمع وقصد بلاد الكرك، وأغار عليها وأقام في مقابلة البرنس، ففرق البرنس جموعه، وانقطع عزمه عن الحركة. وفيها وقع بين نواب توران شاه باليمن بعد موته اختلاف، فخشي السلطان صلاح الدين على اليمن، فجهز إليه عسكراً مع جماعة من أمرائه، فوصلوا إلى اليمن واستولوا عليه، وكان نواب توران شاه على عدن، عز الدين عثمان بن الزنجيلي، وعلى زبيد، حطان بن كامل بن منقذ الكناني، من بيت صاحب شيزر. ذكر وفاة الملك الصالح صاحب حلب في هذه السنة في رجب، توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب حلب، وعمره نحو تسع عشرة سنة، ولما اشتد به مرض القولنج، وصف له الأطباء الخمر فمات ولم يستعمله، وكان حليماً عفيف اليد والفرج واللسان، ملازماً لأمور الدين، لا يعرف له شيء مما يتعاطاه الشباب، ووصى بملك حلب إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، صاحب الموصل، فلما مات سار مسعود ومجاهد الدين قيماز من الموصل إلى حلب، واستقر في ملكها. ولما استقر مسعود بن مودود في ملك حلب، كاتبه أخوه عماد الدين زنكي بن مودود، صاحب سنجار، في أن يعطيه حلب ويأخذ منه سنجار، فأشار قيماز بذلك، فلم يمكن مسعود إلا موافقته، فأجاب إلى ذلك، فسار عماد الدين إلى حلب وتسلمها، وسلّم سنجار إلى أخيه مسعود، وعاد مسعود إلى الموصل. وفي هذه السنة في شعبان توفي أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد النحوي، المعروف بابن الأنباري، ببغداد، وله تصانيف حسنة في النحو، وكان فقيها. ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. ذكر مسير السلطان صلاح الدين إلى الشام في هذه السنة خامس المحرم، سار السلطان صلاح الدين عن مصر إلى الشام، ومن عجيب الإتفاق، أنه لما برز من القاهرة، وخرجت أعيان الناس لوداعه، أخذ كل منهم يقول شيئاً

في الوداع وفراقه، وفي الحاضرين معلم لبعض أولاد السلطان، فأخرج رأسه من بين الحاضرين وأنشد: تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار فتطير صلاح الدين وانقبض بعد انبساطه، وتنكد المجلس على الحاضرين، فلم يعد صلاح الدين بعدها إلى مصر مع طول المدة، وسار السلطان صلاح الدين وأغار في طريقه على بلاد الفرنج، وغنم، ووصل إلى دمشق في حادي عشر صفر من هذه السنة، ولما سار السلطان إلى الشام، اجتمعت الفرنج قرب الكرك، ليكونوا على طريقه، فانتهز فرخشاه ابن أخي السلطان صلاح الدين ونائبه بدمشق الفرصة، وسار إلى الشقيف بعساكر الشام، وفتحه، وغار على ما يجاوره من بلاد الفرنج، وأرسل إلى السلطان وبشره بذلك. ذكر إرسال سيف الإسلام إلى اليمن في هذه السنة سير السلطان أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى بلاد اليمن ليملكهما، ويقطع الفتن منها، وكان بها حطان بن منقذ الكناني، وعز الدين عثمان الزنجيلي، وقد عادا إلى ولايتهما، فإن الأمير الذي كان سيره السلطان نائباً إلى اليمن، تولى وعزلهما، ثم توفي، فعادت بين حطان وعثمان الفتن قائمة، فوصل سيف الإسلام إلى زبيد، فتحصن حطان في بعض القلاع، فلم يزل سيف الإسلام يتلطف به حتى نزل إليه، فأحسن صحبته، ثم إن حطان طلب دستوراً ليسير إلى الشام، فلم يجبه إلا بعد جهد، فجهز حطان أثقاله قدامه ودخل حطان ليودع سيف الإسلام، فقبض عليه وأرسل واسترجع أثقاله، وأخذ جميع أمواله، وكان في جملة ما أخذه سيف الإسلام من حطان، سبعين غلاف زردية مملوءة ذهباً عيناً، ثم سجن حطان في بعض قلاع اليمن، فكان آخر العهد به، وأما عثمان الزنجيلي فإنه لما جرى لحطان ذلك، خاف وسار نحو الشام، وسيّر أمواله في البحر، فصادفهم مراكب أصحاب سيف الإسلام، فأخذوا كل ما لعثمان الزنجيلي، وصفت بلاد اليمن لسيف الإسلام. ذكر غارات السلطان الملك صلاح الدين وما استولى عليه من البلاد في هذه السنة سار السلطان صلاح الدين من دمشق، في ربيع الأول، ونزل قرب طبرية، وشن الإغارة على بلاد الفرنج، مثل بانياس وجينين والغور، فغنم وقتل وعاد إلى دمشق، ثم سار عنها إلى بيروت وحصرها، وأغار على بلادها، ثم عاد إلى دمشق، ثم سار من دمشق إلى البلاد الجزرية، وعبر الفرات من البيرة، فصار معه مظفر الدين كوكبوركي بن زين الدين علي بن بكتكين، وكان حينئذ صاحب حران، وكاتب السلطان صلاح الدين ملوك تلك الأطراف واستمالهم، فأجابه نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا، وصار معه، ونازل السلطان الرها وحاصرها وملكها، وسلمها إلى مظفر الدين

كوكبوري صاحب حران، ثم سار السلطان إلى الرقة وأخذها من صاحبها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، فسار ينال إلى عز الدين مسعود صاحب الموصل. ثم سار صلاح الدين إلى الخابور، وملك قرقيسيا وماكسين وعربان والخابور، واستولى على الخابور جميعه، ثم سار إلى نصيبين وحاصرها، وملك المدينة، ثم ملك القلعة، ثم أقطع نصيبين أميراً كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين، ثم سار عن نصيبين وقصد الموصل، وقد استعد صاحبها عز الدين مسعود ومجاهد الدين قيماز للحصار، وشحنوها بالرجال والسلاح، فحصر الموصل وأقام عليها منجنيقاً، فأقاموا عليه من داخل المدينة تسعة مناجنيق، وضايق الموصل، فنزل السلطان صلاح الدين محاذاة باب كندة، ونزل صاحب حصن كيفا على باب الجسر، ونزل تاج الملوك بوري أخو صلاح الدين على باب العمادي، وجرى القتال بينهم، وكان ذلك في شهر رجب من هذه السنة، فلما رأى أن حصارها يطول، رحل عن الموصل إلى سنجار وحاصرها وملكها، واستناب بها سعد الدين بن معين الدين أتز، وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة، ومعنى، ثم سار السلطان صلاح الدين إلى حران وعزل في طريقه عن نصيبين أبا الهيجاء السمين. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة عمل البرنس صاحب الكرك أسطولاً في بحر إيلة، وساروا في البحر فرقتين، فرقة أقامت على حصن إيلة يحصرونه، وفرقة سارت نحو عيذاب يفسدون في السواحل، وبغتوا المسلمين في تلك النواحي، فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجاً قط، وكان بمصر الملك العادل أبو بكر نائباً عن أخيه السلطان صلاح الدين، فعمر أسطولاً في بحر عيذاب، وأرسله مع حسام الدين الحاجب لؤلؤ، وهو متولي الأسطول بديار مصر، وكان مظفراً فيه، وشجاعاً، فسار لؤلؤ مجداً في طلبهم، وأوقع بالذين يحاصرون إيلة، فقتلهم وأسرهم، ثم سار في طلب الفرقة الثانية، وكانوا قد عزموا على الدخول إلى الحجاز ومكة والمدينة، حرسهما الله تعالى، وسار لؤلؤ يقفو أثرهم، فبلغ رابغ، فأدركهم بساحل الحورا، وتقاتلوا أشد قتال، فظفر الله تعالى بهم، وقتل لؤلؤ أكثرهم، وأخذ الباقين أسرى، وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها، وعاد بالباقين إلى مصر، فقتلوا عن آخرهم. وفي هذه السنة توفي عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب بعلبك، وكان ينوب عن صلاح الدين بدمشق، وهو ثقته من بين أهله، وكان فرخشاه شجاعاً كريماً فاضلاً، وله شعر جيد، ووصل خبر موته إلى صلاح الدين، وهو في البلاد الجزرية، فأرسل إلى دمشق شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم، ليكون بها، وأقر بعلبك على بهرام شاه بن فرخشاه المذكور. وفيها توفي أبو العباس أحمد بن علي بن الرفاعي من سواد واسط، وكان صالحاً ذا قبول عظيم عند الناس، وله من

التلامذة ما لا يحصى. وفيها توفي بقرطبة خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال الخزرجي الأنصاري، وكان من علماء الأندلس، وله التصانيف المفيدة، ومولده في سنة أربع وتسعين وأربعمائة. وفيها توفي بدمشق مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، الفقيه الشافعي، ولد سنة خمس وخمسمائة، وهو الملقب قطب الدين، وكان إماماً فاضلاً في العلوم الدينية، قدم إلى دمشق وصنف عقيدة للسلطان صلاح الدين، وكان السلطان يقريها أولاده الصغار. ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة. ذكر ما ملكه السلطان صلاح الدين من البلاد في هذه السنة، ملك السلطان صلاح الدين حصن آمد، بعد حصار وقتال، في العشر الأول من المحرم، وسلمها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا، ثم سار إلى الشام، وقصد تل خالد من أعمال حلب وملكها، ثم سار إلى عينتاب وحصرها، وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين محمود بن زنكي، وكان قد سلم نور الدين عينتاب إلى إسماعيل المذكور، فبقيت معه إلى الآن، فحاصرها السلطان وملكها تسليم صاحبها إليه، فأقره السلطان عليها، وبقي في خدمة السلطان، ومن جملة أمرائه، ثم سار السلطان إلى حلب وحصرها، وبها صاحبها عماد الدين زنكي بن ودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، وطال الحصار عليه، وكان قد كثر اقتراحات أمراء حلب وعسكرها عليه، وقد ضجر من ذلك وكره حلب لذلك، فأجاب السلطان ملاح الدين إلى تسليم حلب، على أن يعوض عنها بسنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج، واتفقوا على ذلك، وسلم حلب إلى السلطان في صفر من هذه السنة، فكان أهل حلب ينادون على عماد الدين المذكور يا حمار بعت حلب بسنجار، وشرط السلطان على عماد الدين المذكور الحضور إلى خدمته، بنفسه وعسكره إذا استدعاه، ولا يحتج بحجة عن ذلك، ومن الاتفاقات العجيبة، أن محي الدين بن الزكي قاضي دمشق، مدح السلطان بقصيدة منها: وفتحكم حلباً بالسيف في صفر ... مباشر بفتوح القدس في رجب فرافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وكان في جملة من قتل على حلب، تاج الملوك بوري بن أيوب، أخو السلطان الأصغر، وكان كريماً شجاعاً، طعن في ركبته، فانفكت، فمات منها. ولما استقر الصلح، عمل عماد الدين زنكي المذكور دعوة للسلطان، واحتفل لها، فبينما هم في سرورهم، إذ جاء إنسان فأسر إلى السلطان بموت أخيه بوري، فوجد عليه في قلبه وجداً عظيماً، وأمر تجهيزه سرا، ولم يعلم السلطان في ذلك الوقت أحداً ممن كان في الدعوة بذلك لئلا يتنكد عليهم ما هم فيه، وكان يقول السلطان ما وقعت حلب علينا رخيصة بموت بوري، وكان هذا من السلطان من الصبر العظيم، ولما ملك السلطان حلب، أرسل إلى حارم وبهما

سرخك الذي ولاه الملك الصالح ابن نور الدين، في تسليم حارم، وجرت بينهما مراسلات، فلم ينتظم بينهما حال، وكاتب سرخك الفرنج، فوثب عليه أهل القلعة وقبضوا عليه، وسلموا حارم إلى السلطان فتسلمها، وقرر أمر حلب وبلادها، وأقطع إعزاز أميراً يقال له سليمان بن جندر. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة قبض عز الدين مسعود، صاحب الموصل، على نائبه مجاهد الدين قيماز، وفيها لما فرغ السلطان من تقرير أمر حلب، جعل فيها ولده الملك الظاهر غازي، وسار إلى دمشق وتجهز منها للغزو، فعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من هذه السنة. فأغار على بيسان وحرقها، وشن الغارات على تلك النواحي، ثم تجهز السلطان إلى الكرك، وأرسل إلى نائبه بمصر، وهو أخوه الملك العادل، أن يلاقيه إلى الكرك، فسارا واجتمعا عليها، وحصر الكرك وضيق عليها، ثم رحل عنها في منتصف شعبان، وسار معه أخوه العادل، وأرسل السلطان ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر إلى مصر، نائباً عنه. موضع الملك العادل، ووصل السلطان إلى دمشق وأعطى أخاه أبا بكر العادل مدينة حلب وقلعتها وأعمالها، وسيره إليها في شهر رمضان من هذه السنة، وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق. وفي هذه السنة في جمادى الآخرة، توفي محمد بن بختيار بن عبد الله الشاعر المعروف بالأبله. وفي هذه السنة أعني سنة تسع وسبعين وخمسمائة في أواخرها، توفي شاهرمن سكمان ابن ظهير الدين إبراهيم بن سكمان القطبي صاحب خلاط، وقد تقدم ذكر ملك شاهرمن المذكور في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، وكان عمر سكمان لما توفي أربعاً وستين سنة، ولما مات سكمان كان بكتمر مملوكه بميافارقين، فلما سمع بكتمر بموته سار من ميافارقين ووصل إلى خلاط، وكان أكثر أهلها يريدونه، وكان مماليك شاهرمن متفقين معه، فأول وصوله استولى على خلاط وتملكها، وجلس على كرسي شاهرمن، واستقر في مملكة خلاط حتى قتل في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، حسبما نذكره إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة. ذكر وفاة يوسف بن عبد المؤمن في هذه السنة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب، إلى بلاد الأندلس، وعبر البحر في جمع عظيم من عساكره، وقصد بلاد الفرنج، فحصر شنترين من غرب الأندلس، وأصابه مرض فمات منه، في ربيع الأول، وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية، وكانت مدة مملكته اثنتين وعشرين سنة وشهوراً، وكان حسن السيرة، واستقامت له المملكة لحسن تدبيره، ولما مات بايع الناس ولده يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وكنيته أبو يوسف، وملكوه عليهم في الوقت الذي مات فيه أبوه، لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم، لقربهم من العدو، فقام يعقوب بالملك أحسن قيام، وأقام راية الجهاد وأحسن السيرة.

ذكر غزو السلطان الكرك في هذه السنة في ربيع الآخر، سار السلطان صلاح الدين من دمشق للغزو، وكتب إلى مصر، فسارت عساكرها إليه، ونازل الكرك وحصره وضيق على من به وملك ربض الكرك، وبقيت القلعة، وليس بينها وبين الربض غير خندق خشب، وقصد السلطان صلاح الدين طمه فلم يقدر، لكثرة المقاتلة، فجمعت الفرنج فارسها وراجلها، وقصدوه، فلم يمكن السلطان إلا الرحيل، فرحل عن الكرك وسار إليهم، فأقاموا في أماكن وعرة، وأقام السلطان قبالتهم، وسار من الفرنج جماعة ودخلوا الكرك، فعلم بامتناعه عليه، فسار إلى نابلس وأحرقها ونهب ما بتلك النواحي وقتل وأسر وسبى فأكثر، ثم سار إلى صبصطية وبها مشهد زكريا، فاستنقذ ما بها من أسرى المسلمين، ثم سار إلى جنبتين ثم عاد إلى دمشق. ذكر وفاة صاحب ماردين في هذه السنة مات قطب الدين أيلغازي بن نجم الدين ألبي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، أقول إنه قد تقدم في سنة سبع وأربعين وخمسمائة ذكر ملك ألبي ولد أيلغازي المذكور، وبقي ألبي في ملك ماردين حتى مات، وملك بعده ابنه أيلغازي المذكور، ولم يقع لي وفاة ألبي، وملك أيلغازي المذكورين متى كان لأثبته، ولما مات أيلغازي المذكور، كان له أولاد أطفال، فأقيم في الملك بعده ولده حسام الدين بولق أرسلان، وقام بتدبير المملكة وترتيبها مملوك والده نظام الدين البقش، حتى كبر بولق أرسلان، وكان به هوج وخبط، فمات بولق أرسلان وأقام البقش بعده أخاه الأصغر ناصر الدين أرتق أرسلان بن قطب الدين أيلغازي، ولم يكن له حكم، بل الحكم إلى البقش وإلى مملوك للبقش اسمه لؤلؤ، كان قد تغلب على أستاذه البقش، بحيث كان لا يخرج البقش عن رأي لؤلؤ المذكور، ولم يكن لناصر الدين أرتق أرسلان صاحب ماردين من الحكم شيء، وبقي الأمر كذلك إلى سنة إحدى وستمائة، فمرض النظام البقش وأتاه ناصر الدين صاحب ماردين يعوده، فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه ناصر الدين بسكين فقتله، ثم عاد إلى البقش فقتله وهو مريض، واستقل أرتق أرسلان بملك ماردين من غير منازع. وفي هذه السنة توفي شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبي سعيد أحمد، وكان قد سار من عند الخليفة إلى السلطان صلاح الدين في رسالة، ومعه شهاب الدين بشير الخادم، ليصلحا بين السلطان صلاح الدين وبين عز الدين مسعود صاحب الموصل، فلم ينتظم حال، واتفق أنهما مرضا بدمشق وطلبا المسير إلى العراق، وسارا في الحر فمات بشير بالسخنة ومات صدر الدين شيخ الشيوخ بالرحبة، ودفن بمشهد البوق، وكان أوحد زمانه، قد جمع بين رئاسة الدين والدنيا. وفيها في المحرم أطلق عز الدين مسعود صاحب الموصل مجاهد الدين قيماز من الحبس، وأحسن إليه. ثم دخلت

سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. ذكر حصار السلطان صلاح الدين الموصل في هذه السنة حصر السلطان صلاح الدين الموصل، وهو حصاره الثاني، فأرسل إليه عز الدين مسعود صاحب الموصل والدته، وابنة عمه نور الدين محمود بن زنكي، وغيرهما من النساء، وجماعة يطلبون منه ترك الموصل وما بأيديهم، فردهم، واستقبح الناس ذلك من صلاح الدين، لا سيما وفيهن بنت نور الدين محمود، وحاصر الموصل وضايقها، وبلغه وفاة شاهرمن، صاحب أخلاط، في ربيع الآخر من هذه السنة، فسار عن الموصل إلى جهة أخلاط فاستدعى أهلها ليملكها. ذكر وفاة صاحب حصن كيفا في هذه السنة توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحب الحصن، وآمد، وملك بعده ولده سقمان، ولقبه قطب الدين، وكان صغيراً فقام بتدبيره القوام ابن سماقا الأشعردي وحضر سقمان إلى السلطان صلاح الدين وهو نازل على ميافارقين، فأقره على ما كان بيد ولده نور الدين محمد، وأقام معه أميراً من أصحاب أبي سقمان المذكور. ذكر ملك السلطان صلاح الدين ميافارقين لما سار السلطان عن الموصل إلى أخلاط جعل طريقه على ميافارقين، وكانت لصاحب ماردين الذي توفي، وفيها من حفظها من جهة شاهرمن صاحب أخلاط المتوفي، فحاصرها السلطان وملكها في سلخ جمادى الأولى، ثم إن السلطان رجع عن قصد أخلاط إلى الموصل، فجاءته رسل عز الدين مسعود يسأل في الصلح، واتفق حينئذ أن السلطان صلاح الدين مرض، وسار من كفر زمار عائداً إلى حران، فلحقته رسل صاحب الموصل بالإجابة إلى ما طلب، وهو أن يسلم صاحب الموصل إلى السلطان صلاح الدين شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي، وجميع ما وراء الزاب، وأن يخطب للسلطان صلاح الدين على جميع منابر الموصل، وما بيده، وأن يضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وتسلم السلطان ذلك واستقر الصلح، وأمنت البلاد، ووصل السلطان إلى حران، وأقام بها مريضاً واشتد به المرض حتى أيسوا منه، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، ولما اشتد مرض السلطان سار ابن عمه محمد بن شيركوه بن شاذي صاحب حمص إلى حمص، وكاتب بعض أكابر دمشق في أن يسلموا إليه دمشق إذا مات السلطان. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة ليلة عيد الأضحى، شرب بحمص صاحبها ناصر الدين محمد بن شيركوه

بن شاذي، فأصبح ميتاً. قيل إن السلطان صلاح الدين دس عليه من سماه سماً، لما بلغه مكاتبته أهل دمشق في مرضه، ولما مات أقر السلطان حمص وما كان بيد محمد على ولده شيركوه ابن محمد، وعمره اثنتا عشرة سنة، وخلف صاحب حمص شيئاً كثيراً من الدواب والآلات وغيرها، فاستعرضها السلطان عند نزوله بحمص في عودته من حران، وأخذ أكثرها، ولم يترك إلا ما لا خير فيه. وفيها توفي الحافظ محمد بن عمر بن أحمد الأصفهاني المدني المشهور، وكان إمام عصره في الحفظ والمعرفة، وله في الحديث وعلومه تواليف مفيدة، وله كتاب الغيث في مجلد كمل به كتاب الغريبين للهروي، واستدرك فيه عليه مواضع وهو كتاب نافع، وكان مولده سنة إحدى وخمسمائة. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. ذكر نقل الملك العادل أخي السلطان من حلب وإخراج الملك الأفضل ابن السلطان من مصر إلى دمشق في هذه السنة أحضر السلطان ولده الأفضل من مصر، وأقطعه دمشق، وسببه أن الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخي السلطان، كان نائب عمه بمصر، وكان معه الملك الأفضل. فأرسل تقي الدين يشتكي من الأفضل، أني لا أتمكن من استخراج الخراج، فإني إذا أحضرت من عليه الخراج، وأردت عقوبته، يطلقه الملك الأفضل، فأرسل السلطان، وأخرج ابنه الملك الأفضل من مصر، وأقطعه دمشق، وتغير السلطان على تقي الدين عمر في الباطن، فإنه ظن أنه إنما أخرج ولده من مصر ليتملك مصر، إذا مات السلطان، ثم أحضر أخاه العادل من حلب، وجعل معه ولده العزيز عثمان ابن السلطان نائباً عنه بمصر، واستدعى تقي الدين عمر من مصر، فقيل أنه توقف عن الحضور، وقصد اللحاق بمملوكه قراقوش، المستولي على بعض بلاد إفريقية وبريقة من المغرب، وبلغ السلطان ذلك، فساءه، وأرسل يستدعي تقي الدين عمر ويلاطفه، فحضر إليه، ولما حضر تقي الدين عند السلطان، زاده على حماة منبج والمعرة وكفر طاب وميافارقين وجبل جور بجميع أعمالها، واستقر العادل والعزيز عثمان في مصر، ولما أخذ السلطان حلب من أخيه العادل، أقطعه عوضها حران والرها. ذكر وفاة البهلوان وملك أخيه قزل في هذه السنة في أولها، توفي البهلوان محمد بن الدكز، صاحب بلد الجبل، همذان والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد، وكان عادلاً حسن السيرة، وملك البلاد بعده أخوه قزل أرسلان، واسمه عثمان، وكان السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل

بن محمد بن ملكشاه السلجوقي مع البهلوان، وله الخطابة في بلاده، وليس له من الأمر شيء، فلما مات البهلوان، خرج طغريل عن حكم قزل، وكثر جمعه، واستولى على بعض البلاد، وجرت بينه وبين قزل حروب. ذكر غير ذلك في هذه السنة غدر البرنس صاحب الكرك، وأخذ قافلة عظيمة من المسلمين وأسرهم، فأرسل السلطان يطلب منه إطلاقهم، بحكم الهدنة التي كانت بينهم على ذلك، فلم يفعل، فنذر السلطان أنه إن ظفره الله به قتله بيده. وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار بن بري، المصري، الإمام في علم النحو واللغة، اشتغل عليه جماعة وانتفعوا به، ومن جملتهم أبو موسى الجزولي، صاحب المقدمة الجزولية في النحو، وكانت وفاته بمصر، وولد بها في سنة تسع وتسعين وأربعمائة. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. ذكر غزوات السلطان الملك الناصر صلاح الدين وفتوحاته في هذه السنة جمع السلطان العساكر، وسار بفرقة من العسكر وضايق الكرك، خوفاً على الحجاج من صاحب الكرك، وأرسل فرقة أخرى مع ولده الملك الأفضل، فأغاروا على بلد عكا وتلك الناحية، وغنموا شيئاً كثيراً، ثم سار السلطان ونزل على طبرية، وحصر مدينتها وفتحها عنوة بالسيف، وتأخرت القلعة، وكانت طبرية للقومص صاحب طرابلس، وكان قد هادن السلطان ودخل في طاعته، فأرسلت الفرنج إلى القومص المذكور القسوس والبطرك، ينهونه عن موافقة السلطان ويوبخونه، فصار معهم واجتمع الفرنج لملتقى السلطان. ذكر وقعة حطين وهي الوقعة العظيمة التي فتح الله بها الساحل وبيت المقدس لما فتح السلطان مدينة طبرية، اجتمعت الفرنج في ملوكهم بفارسهم وراجلهم، وساروا إلى السلطان، فركب السلطان من عند طبرية وسار إليهم، يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر، والتقى الجمعان، واشتد بينهم القتال، ولما رأى القومص شدة الأمر، حمل على من قدامه من المسلمين، وكان هناك تقي الدين صاحب حماة، فأفرج له وعطف عليهم، فنجا القومص ووصل إلى طرابلس، وبقي مدة يسيرة ومات غبناً، ونصر الله المسلمين وأحدقوا بالفرنج من كل ناحية، وأبادوهم قتلاً وأسراً، وكان في جملة من أسر ملك الفرنج الكبير والبرنس

أرنلط صاحب الكرك، وصاحب جبيل، وابن الهنفري، ومقدم الداوية، وجماعة من الإسبتارية، وما أصيبت الفرنج من حين خرجوا إلى الشام، وهي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن بمصيبة مثل هذه الوقعة، ولما انقضى المصاف جلس السلطان في خيمته، وأحضر ملك الفرنج وأجلسه إلى جانبه، وكان الحر والعطش به شديداً، فسقاه السلطان ماء مثلوجاً، وسقى ملك الفرنج منه البرنس أرنلط صاحب الكرك. فقال له السلطان: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني، فيكون أماناً له، ثم كلم السلطان البرنس ووبخه وفزعه على غدره، وقصده الحرمين الشريفين، وقام السلطان بنفسه فضرب عنقه، فارتعدت فرائص ملك الفرنج، فسكن جأشه. ثم عاد السلطان إلى طبرية وفتح قلعتها بالأمان، ثم سار إلى عكا وحاصرها وفتحها بالأمان، ثم أرسل أخاه الملك العادل فنازل مجد اليابا وفتحه عنوة بالسيف، ثم فرق السلطان عسكره، ففتحوا الناصرة، وقيسارية، وهيفا، وصفورية، ومعلثا، والفولة، وغيرها من البلاد المجاورة لعكا، بالسيف، وغنموا وقتلوا وأسروا أهل هذه الأماكن، وأرسل فرقة إلى نابلس فملكوا قلعتها بالأمان. ثم سار الملك العادل بعد فتح مجد اليابا إلى يافا وفتحها عنوة بالسيف، ثم سار السلطان إلى تبنين ففتحها بالأمان، ثم سار إلى صيدا فأخلاها صاحبها وتسلمها السلطان ساعة وصوله، لتسع بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، ثم سار إلى بيروت فحصرها وتسلمها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى بالأمان، وكان حصرها مدة ثمانية أيام، وكان صاحب جبيل من جملة الأسرى، فبذل جبيل في أن يسلمها ويطلق سراحه، فأجيب إلى ذلك. وكان صاحب جبيل ابن أعظم الفرنج، وأشدهم عداوة للمسلمين، ولم تك عاقبة إطلاقه حميدة، وأرسل السلطان فتسلم جبيل وأطلقه. وفيها حضر المركيس في سفينة إلى عكا وهي للمسلمين، ولم يعلم المركيس بذلك، واتفق هجوم الهواء فراسل المركيس الملك الأفضل وهو بعكا، يقترح أمراً بعد آخر، والملك الأفضل يجيب المركيس إلى ذلك، إلى أن هب الهواء فأقلع المركيس إلى صور، واجتمع عليه الفرنج الذين بها، وملك صور، وكان وصول المركيس إلى صور وإطلاق الفرنج الذين يأخذ السلطان بلادهم بالأمان، ويحملهم إلى صور من أعظم أسباب الضرر التي حصلت، حتى راحت عكا وقوي الفرنج بذلك، ثم سار السلطان إلى عسقلان وحاصرها أربعة عشر يوماً وتسلمها بالأمان، سلخ جمادى الآخرة. ثم بث السلطان عسكره ففتحوا الرملة، والداروم، وغزة، وبيت لحم، وبيت جبريل، والنطرون. وغير ذلك. ثم سار السلطان ونازل القدس، وبه من النصارى عدد يفوت الحصر، وضايق السلطان السور بالنقابين، واشتد القتال، وغلقوا السور، فطلب الفرنج الأمان فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، وقال: لا آخذها إلا بالسيف، مثلما أخذها الفرنج من المسلمين، فعاودوه في الأمان، وعرفوه ما هم عليه من الكثرة، وأنهم إن أيسوا

منه من الأمان، قاتلوا خلاف ذلك، فأجابهم السلطان إليه بشرط أن يؤدي كل من بها عشرة الدنانير عشرة الدنانير من الرجال، يؤدي النساء خمسة خمسة، ويؤدوا عن كل طفل دينارين، وأي من عجز عن الأداء كان أسيراً، فأجيب إلى ذلك، وسلمت إليه المدينة يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب، وكان يوماً مشهوداً، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسرار المدينة، ورتب السلطان على أبواب البلد من يقبض منهم المال المذكور، فخان المرتبون في ذلك ولم يحملوا منه إلا القليل، وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب، وتسلق المسلمون وقلعوه، فسمع لذلك ضجة لم تعهد مثلها من المسلمين للفرح والسرور، ومن الكفار بالتفجع والتوجع، وكان الفرنج قد عملوا في غربي الجامع الأقصى هرباً ومستراحاً، فأمر السلطان بإزالة ذلك وإعادة الجامع إلى ما كان عليه. وكان نور الدين محمود بن زنكي قد عمل منبراً بحلب قد تعب عليه مدة، وقال: هذا لأجل القدس، فأرسل السلطان صلاح الدين وأحضر المنبر من حلب وجعله في الجامع الأقصى، وأقام السلطان بعد فتوح القدس بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان، يرتب أمور البلد وأحوالها، وأمر بعمل الربط والمدارس الشفعوية. ثم رحل السلطان إلى عكا ورحل منها إلى صور وصاحبها المركيس، وقد حصنها بالرجال، وحفر خندقها، ونزل السلطان على صور تاسع شهر رمضان وحاصرها وضايقها، وطلب الأسطول، فوصل إليه في عشرة شوان، فاتفق أن الفرنج كبسوهم في الشواني وأخذوا خمسة شواني ولم يسلم من المسلمين إلا من سبح ونجا، وأخذ الباقون وطال الحصار عليها، فرحل السلطان عنها في آخر شوال، وكان أول كانون الأول، وأقام بعكا وأعطى العساكر الدستور، فسار كل واحد إلى بلده، وبقي السلطان بعكا في حلقته، وأرسل إلى هوبين ففتحها بالأمان. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة سار شمس الدين محمد بن عبد الملك، عرف بابن المقدم، بعد فتح القدس، حاجاً، وكان هو أمير الحاج الشامي، ليجمع بين الغزوة وزيارة القدس والخليل عليه السلام، والحج في عام واحد، فسار ووقف بعرفات، ولما أفاض، أرسل إليه طاشتكين أمير الحاج العراقي يمنعه من الإفاضة قبله، فلم يلتفت إليه، فسار العراقيون واتقعوا مع الشاميين، ففتل بينهم جماعة، وابن المقدم يمنع أصحابه من القتال، ولو أمكنهم لانتصفوا من العراقيين، فجرح ابن المقدم ومات شهيداً ودفن بمقبرة المعلى. وفيها قوي أمر السلطان طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل بن السلطان محمد بن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وملك كثيراً من البلاد، وأرسل قزل ابن الدكز إلى الخليفة يستنجده ويخوفه عاقبة أمر طغريل. وفيها سار شهاب الدين الغوري وغزا

بلاد الهند. وفيها قتل الخليفة الناصر أستاذ داره مجد الدين أبا الفضل بن الصاحب، ولم يكن للخليفة معه حكم، وظهر له أموال عظيمة، فأخذت جميعاً. وفيها استوزر الخليفة الناصر لدين الله، أبا المظفر عبيد الله بن يونس، ولقبه جلال الدين، ومشى أرباب الدولة في ركابه، حتى قاضي القضاة، وكان ابن يونس من جملة الناس، فكان يمشي ويقول لعن الله طول العمر. وفيها توفي قاضي القضاة الدامغاني، وكان قد ولى القضاء للمقتفي. ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة. ذكر فتوحات السلطان صلاح الدين وغزواته شتى السلطان هذه السنة في عكا، ثم سار بمن معه وقصد كوكب وجعل على حصارها أميراً يقال له قيماز النجمي، وسار منها في ربيع الأول، ودخل دمشق، ففرح الناس بقدومه، وكتب إلى الأطراف باجتماع العساكر، وأقام في دمشق تقدير خمسة أيام، وسار من دمشق في منتصف ربيع الأول من هذه السنة، ونزل على بحيرة مقدس غربي حمص، وأتته العساكر بها، فأولهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صاحب سنجار ونصيبين، ولما تكاملت عساكره رحل ونزل تحت حصن الأكراد، وشن الغارات على بلاد الفرنج، وسار من حصن الأكراد فنزل على أنطرطوس، سادس جمادى الأولى، فوجد الفرنج قد أخلوا أنطرطوس، فسار إلى مرقية، فوجدهم قد أخلوها أيضاً، فسار إلى تحت المرقب، وهو للإستبتار فوجده لا يرام، ولا لأحد فيه مطمع، فسار إلى جبلة ووصل إليها ثامن جمادى الأولى، وتسلمها حالة وصوله، فجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الدالة صاحب شيزر، ثم سار السلطان إلى اللاذقية، ووصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، ولها قلعتان، فحصر القلعتين وزحف إليهما، فطلب أهلهما الأمان فأمنهم، وتسلم القلعتين، ولما ملك السلطان اللاذقية سلمها إلى ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أبوب، فعمرها وحصن قلعتها، وكان تقي الدين عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة عليها، كما فعل بقلعة حماة. ثم رحل السلطان عن اللاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى إلى صهيون وحاصرها، وضايقها، فطلب أهلها الأمان فلم يجبهم إلا على أمان أهل القدس، فيما يؤدونه، فأجابوه إلى ذلك، وتسلم السلطان قلعة صهيون وسلمها إلى أمير من أصحابه يقال له ناصر الدين منكورس، صاحب قلعة أبي قبيس. ثم فرق عسكره في تلك الجبال، فملكوا حصن بلادنوس وكان الفرنج الذين به قد هربوا منه وأخلوه، وملكوا حصن العبد وحصن الجماهدبين، ثم سار السلطان من صهيون ثالث جمادى الآخرة، ووصل إلى قلعة بكاس، فأخلاها أهلها وتحصنوا بقلعة الشغر، فحصرها ووجدها منيعة، وضايقها فأرمى الله في قلوب أهلها الرعب وطلبوا الأمان، وتسلمها يوم

الجمعة سادس جمادى الآخرة بالأمان، وأرسل السلطان ولده الملك الظاهر غازي صاحب حلب، فحصر سرمينية وضايقها وملكها، واستنزل أهلها على قطيعة قررها عليهم، وهدم الحصن، وعفى أثره، وكان في هذا الحصن وفي الحصون المذكورة من أسرى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا وأعطوا الكسوة والنفقة. ثم سار السلطان من الشغر إلى برزية ورتب عسكره ثلاثة أقسام وداومها بالزحف، وملكها بالسيف في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وسبى وأسر وقتل أهلها. قال مؤلف الكامل ابن الأثير: كنت مع السلطان في مسيره وفتحه هذه البلاد طلباً للغزوة، فنحكي ذلك من مشاهدة. ثم سار السلطان فنزل على جسر الحديد، وهو على العاصي بالقرب من أنطاكية، فأقام عليه أياماً حتى تلاحق به من تأخر من العسكر، ثم سار إلى دربساك ونزل عليها ثامن رجب من هذه السنة، وحاصرها وضايقها وتسلمها بالأمان، على شرط أن لا يخرج أحد منها إلا بثيابه فقط، وتسلمها تاسع عشر رجب. ثم سار من دربساك إلى بغراس. وحصرها وتسلمها بالأمان، على حكم أمان دربساك، وأرسل بيمند صاحب أنطاكية إلى السلطان يطلب منه الهدنة والصلح وبذل إطلاق كل أسير عنده فأجابه السلطان إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر، وكان صاحب أنطاكية حينئذ أعظم ملوك الفرنج في هذه البلاد، فإن أهل طرابلس سلموا إليه طرابلس بعد موت القومص صاحبها، على ما ذكرناه، فجعل بيمند صاحب أنطاكية ابنه في طرابلس. ولما فرغ السلطان من أمر هذه البلاد والهدنة، سار إلى حلب، فدخلها ثالث شعبان، وسار منها إلى دمشق، وأعطى عماد الدين زنكي بن مودود دستوراً، وكذلك أعطى غيره من العساكر الشرقية، وجعل طريقه لما رحل من حلب على قبر عمر رضي الله عنه ابن عبد العزيز، فزاره وزار الشيخ الصالح أبا زكريا المغربي، وكان مقيماً هناك، وكان من عباد الله الصالحين، وله كرامات ظاهرة، وكان مع السلطان أبو فليتة الأمير قاسم بن مهنا الحسيني، صاحب مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، شهد معه مشاهده وفتوحاته، وكان السلطان يتبرك برؤيته، ويتيمن بصحبته، ويرجع إلى قوله، ودخل السلطان دمشق في شهر رمضان المعظم، فأشير عليه بتفريق العساكر ليريحوا ويستريحوا، فقال السلطان: إن العمر قصير، والأجل غير مأمون، وكان السلطان لما سار إلى البلاد الشمالية، قد جعل على الكرك وغيرها من يحصرها، وخلا أخاه الملك العادل في تلك الجهات يباشر ذلك، فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان، فأمر الملك العادل المباشرين لحصارها بتسلمها، فتسلموا الكرك والشوبك، وما بتلك الجهات من البلاد، ثم سار السلطان من دمشق في منتصف رمضان، وسار إلى صفد فحصرها وضايقها وتسلمها بالأمان ثم سار إلى كوكب وعليها قيماز النجمي يحاصرها، فضايقها السلطان وتسلمها بالأمان، في منتصف ذي القعدة، وسير أهلها إلى صور، وكان اجتماع أهل

هذه القلاع في صور من أعظم أسباب الضرر على المسلمين، ظهر ذلك فيما بعد، ثم سار السلطان إلى القدس، فعيد فيه عيد الأضحى، ثم سار إلى عكا فأقام بها حتى انسلخت السنة. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أرسل قزل بن الدكز يستنجد بالخليفة الإمام الناصر، على طغريل بن أرسلان بن طغريل السلجوقي، ويحذره عاقبة أمره، فأرسل الخليفة عسكراً إلى طغريل، والتقوا ثامن ربيع الأول من هذه السنة قرب همذان، فانهزم عسكر الخليفة، وغنم طغريل أموالهم، وأسر مقدم العسكر جلال الدين عبيد الله وزير الخليفة. وفيها توفي محمد بن عبد الله الكاتب المعروف بابن التعاويذي، الشاعر المشهور، وقصائده في الغزل والنسيب مشهورة، وله في غير ذلك أشياء حسنة أيضاً، وقد صودر ببغداد جماعة من الدواوين، من جملة قصيدته: يا قاصدا بغداد جز عن بلدة ... للجور فيها زجرة وعتاب إن كنت طالب حاجة فارحع فقد ... سدت على الراجي لها الأبواب والناس قد قامت قيامتهم فلا ... أنساب بينهم ولا أسباب والمرء يسلمه أبوه وعرسه ... ويخونه القرباء والأحباب لا شافع تغني شفاعته ولا ... جان له مما جناه متاب شهدوا معادهم فعاد مصدقا ... من كان قبل ببعثه يرتاب جسر وميزان وعرض جرائد ... وصحائف منشورة وحساب ما فاتهم من يوم ما وعدوا به ... في الحشر إلا راحم وهاب ومولد ابن التعاويذي المذكور في سنة تسع عشرة وخمسمائة. ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة في هذه السنة سار السلطان صلاح الدين ونزل بمرج عيون، وحضر إليه صاحب شقيف أرنون، وبذل إليه تسليم الشقيف، بعد مدة ظهر بها خديعة منه، فلما بقي للمدة ثلاثة أيام استحضره السلطان، وكان اسم صاحب الشقيف أرنلط، فقال له السلطان في التسليم، فقال: لا يوافقني عليه أهلي وأهل الحصن، فأمسكه السلطان وبعثه إلى دمشق فحبس ذكر حصار الفرنج عكا كان قد اجتمع بصور، أهل البلاد التي أخذها السلطان بالأمان، فكثر جمعهم حتى صاروا في عالم لا تحصى كثرتهم، وأرسلوا إلى البحر يبكون ويستنجدون، وصوروا صورة المسيح، وصورة عربي يضرب المسيح، وقد أدماه. وقالوا: هذا نبي العرب يضرب المسيح، فخرجت النساء من بيوتهن، ووصل من الفرنج في البحر عالم لا يحصون كثرة، وساروا إلى عكا من صور، ونازلوها في منتصف رجب من هذه السنة، وضايقوا عكا وأحاطوا بيوتها من

البحر إلى البحر، ولم يبق للمسلمين إليها طريق، فسار إليهم السلطان ونزل قريب الفرنج، وقاتلهم في مستهل شعبان، وباتوا على ذلك، وأصبحوا، فحمل تقي الدين عمر صاحب حماة من ميمنة السلطان على الفرنج، فأزالهم عن موقعهم، والتزق بالصور، وانفتح الطريق إلى المدينة يدخل المسلمون ويخرجون، وأدخل السلطان إلى عكا عسكراً نجدة، فكان من جملتهم أبو الهيجاء السمين، وبقي المسلمون يغادون القتال ويراوحونه إلى العشرين من شعبان، ثم كان بين المسلمين وبينهم وقعة عظيمة، فإن الفرنج اجتمعوا وضربوا مع السلطان مصافاً، وحملوا على القلب، فأزالوه وأخذوا يقتلون في المسلمين، إلى أن بلغوا إلى خيمة السلطان، فانحاز السلطان إلى جانب، وانضاف إليه جماعة، وانقطع مدد الفرنج، واشتغلوا بقتال الميمنة، فحمل السلطان على الفرنج الذين خرقوا القلب، وانعطف عليهم العسكر فأفنوهم قتلاً، فكانت قتلى الفرنج نحو عشرة آلاف نفس، ووصل المنهزمون من المسلمين بعضهم إلى طبرية، وبعضهم وصل إلى دمشق، وجافت الأرض بعد هذه الوقعة، ولحق السلطان مرض، وحدث له قولنج، فأشار عليه الأمراء بالانتقال من ذلك الموضع، فوافقهم ورحل من عكا رابع عشر رمضان من هذه السنة، إلى الخروبة، فلما رحل تمكن الفرنج من حصار عكا، وانبسطوا في تلك الأرض، وفي تلك الحال وصل أسطول المسلمين في البحر مع حسام الدين لؤلؤ، وكان شهماً، فظفر ببطشة للفرنج، فأخذها ودخل بها إلى عكا، فقوى قلوب المسلمين، وكذلك وصل الملك العادل بعسكر مصر وبالسلاح إلى أخيه السلطان، فقويت قلوب المسلمين بوصوله. ذكر غير ذلك فيها توفي بالخروبة الفقيه عيسى، وكان مع السلطان، وهو من أعيان عسكره، وكان جندياً فقيهاً شجاعاً، وكان من أصحاب الشيخ أبي القاسم البرزي. وفيها توفي محمد بن يوسف بن محمد بن قائد، الملقب موفق الدين الأربلي، الشاعر المشهور، وكان إماماً مقدماً في علم العربية، وكان أعلم الناس بالعروض، وأحذقهم بنقد الشعر، وأعرفهم بجيده من رديئه، واشتغل بعلوم الأوائل، وحل كتاب إقليدس، وهو شيخ أبي البركات بن المستوفي صاحب تاريخ أربل، ورحل ابن القائد المذكور إلى شهرزور وقام بها مدة، ثم رحل إلى دمشق ومدح السلطان صلاح الدين يوسف، ومن شعره قصيدة مدح بها زين الدين يوسف صاحب أربل منها: رب دار بالحمى طال بلاها ... عكف الركب عليها فبكاها كان لي فيها زمان وانقضى ... فسقى الله زماني وسقاها قل لجيران مواثيقهم ... كلما أحكمنها رثت قواها

كنت مشغوفاً بكم إذ كنتم ... شجراً لا يبلغ الطير ذراها وإذا ما طمع أغرى بكم ... عرض اليأس لنفسي فثناها فصبابات الهوى أولها ... طمع النفس وهذا منتهاها لا تظنوا لي إليكم رجعة ... كشف التجريب عن عيني عماها إن زين الدين أولاني يداً ... لم تدع لي رغبة فيما سواها وهي طويلة اقتصرنا منها على هذا القدر، وكان أبوه محمد تاجراً يتردد إلى البحرين لتحصيل اللآلئ من المغاصات. وفيها توفي محمود بن علي بن أبي طالب بن عبد الله الأصبهاني، المعروف بالقاضي، صاحب الطريقة في الخلاف، وصنف فيه التعليقة، وهى عمدة المدرسين في إلقاء الدروس، ومن لم يذكرها فإنما هو لقصور فهمه عن إدراك دقائقها، وكان متفنناً في العلوم، وله في الوعظ اليد الطولى. ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة في هذه السنة بعد دخول صفر رحل السلطان صلاح الدين عن الخروبة، وعاد إلى قتال الفرنج على عكا، وكان الفرنج قد عملوا قرب سور عكا ثلاثة أبرجة، طول البرج ستون ذراعاً، جاؤوا بخشبها من جزائر البحر، وعملوها طبقات، وشحنوها بالسلاح والمقاتلة، ولبسوها جلود البقر، والطين بالخل، لئلا يعمل فيها النار، فتحايل المسلمون وأحرقوا البرج الأول فاحترق بمن فيه من الرجال والسلاح، ثم أحرقوا الثاني والثالث، وانبسطت نفوس المسلمين لذلك بعد الكآبة، ووصل إلى السلطان العساكر من البلاد، وبلغ المسلمين وصول ملك الألمان، وكان قد سار من بلاد وراء القسطنطينية بمائة ألف مقاتل، واهتم المسلمون لذلك، وآيسوا من الشام بالكلية، فسلط الله تعالى على الألمان الغلاء والوباء فهلك أكثرهم في الطريق، ولما وصل ملكهم إلى بلاد الأرمن نزل في نهر هناك يغتسل فغرق، وأقاموا ابنه مقامه، فرجع من عسكره طائفة إلى بلادهم، وطائفة خامرت ابن الملك المذكور فرجعوا أيضاً ولم يصل مع ابن ملك الألمان إلى الفرنج الذين على عكا غير تقدير ألف مقاتل، وكفى الله المسلمين شرهم، وبقي السلطان والفرنج على عكا يتناوشون القتال إلى العشرين من جمادى الآخرة، فخرجت الفرنج من خنادقهم بالفارس والراجل، وأزالوا الملك العادل عن موضعه، وكان معه عسكر مصر، فعطفت عليه المسلمون وقتلوا من الفرنج خلقاً كثيراً، فعادوا إلى خنادقهم، وحصل للسلطان مغص فانقطع في خيمة صغيرة، ولولا ذلك لكانت الفيصلة، ولكن إذا أراد الله أمرا فلا مرد له. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، لما قوي الشتاء واشتدت الرياح، أرسل الفرنج المحاصرون عكا مراكبهم إلى صور، خوفاً عليها أن تنكسر، فانفتحت الطريق إلى عكا في البحر، وأرسل البدل إليها،

فكان العسكر الذين خرجوا منها أضعاف الواصلين إليها. فحصل التفريط بذلك لضعف البدل. وفيها في ثامن شوال توفي زين الدين يوسف بن زين الدين علي كوجك صاحب أربل وكان مع السلطان في عسكره، ولما توفي أقطع السلطان صلاح الدين أربل أخاه مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كوجك، وأضاف إليه شهرزور وأعمالها، وارتجع ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرها، وسار مظفر الدين إلى أربل وملكها. وفيها استولى الخليفة الناصر لدين الله على حديثة عانة بعد حصرها مدة. وفيها أقطع السلطان ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرها وسمساط والموزر، الملك المظفر تقي الدين عمر، زيادة على ما بيده، وهو ميافارقين، ومن الشام حماة والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم وجبلة واللاذقية وبلاطنس ومكرابيك. ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة. ذكر استيلاء الفرنج على عكا: واستمر حصار الفرنج لعكا إلى هذه السنة، وكانوا قد أحاطوا بها من البحر إلى البحر، وحفروا عليهم خندقاً، فلم يتمكن السلطان من الوصول إليهم، وكانوا محاصرين لعكا، وهم كالمحصورين من خارجهم من السلطان، واشتد حصارهم لعكا وطال وضعف من بها عن حفظ البلد، وعجز السلطان صلاح الدين عن دفع العدو عنهم، فخرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب من عكا، وطلب الأمان من الفرنج على مال وأسرى يقومون به للفرنج، فأجابوهم إلى ذلك، وصعدت أعلام الفرنج على عكا ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة، واستولوا على البلد بما فيه، وحبسوا المسلمين في أماكن من البلد، وقالوا إنما نحبسهم ليقوموا بالمال والأسرى وصليب الصليوت، وكتبوا إلى السلطان صلاح الدين بذلك، فحصل ما أمكن تحصيله من ذلك، وطلب منهم إطلاق المسلمين، فلم يجيبوا إلى ذلك، فعلم منهم الغدر، واستمر أسرى المسلمين بها. ثم قتل الفرنج من المسلمين جماعة كثيرة واستمروا بالباقين في الأسر، وبعد استيلاء الفرنج على عكا وتقرير أمرها، رحلوا عنها مستهل شعبان نحو قيسارية، والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم، ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف، ووقع بينهم وبين المسلمين مصاف، أزالوا المسلمين عن موقفهم، ووصلوا إلى سوق المسلمين، فقتلوا من السوقية وغيرهم خلقاً كثيراً، ثم سار الفرنج إلى يافا وقد أخلاها المسلمون، فملكوها، ثم رأى السلطان تخريب عسقلان مصلحة، لئلا يحصل لها ما حصل لعكا، فسار إليها وأخلاها وخربها، ورتب الحجارين في تفليق أسوارها وتخريبها، فدكها إلى الأرض، فلما فرغ السلطان من تخريب عسقلان رحل عنها ثاني شهر رمضان إلى الرملة، فخرب حصنها وخرب كنيسة لد.

ثم سار إلى القدس وقرر أموره وعاد إلى مخيمه بالتظرون، ثامن شهر رمضان، ثم تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك الإنكتار، ويكون للملك العادل القدس، ولامرأته عكا، فحضر القسيسون وأنكروا عليها ذلك إلا أن يتنصر الملك العادل، فلم يتفق بينهم حال، ثم رحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة، وبقي في كل يوم يقع بين المسلمين وبينهم مناوشات، فلقوا من ذلك شدة شديدة، وأقبل الشتاء وحالت الأوحال بينهم، ولما رأى السلطان ذلك وقد ضجرت العساكر، أعطاهم الدستور وسار إلى القدس، لسبع بقين من في القعدة، ونزل داخل البلد واستراحوا مما كانوا فيه، وأخذ السلطان في تعمير القدس وتحصينه، وأمر العسكر بنقل الحجارة، وكان السلطان ينقل الحجارة بنفسه على فرسه، ليقتدي به العسكر فكان يجتمع عند العمالين في اليوم الواحد ما يكفيهم لعدة أيام. ذكر وفاة الملك المظفر تقي الدين عمر كان الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قد سار إلى البلاد المرتجعة من كوكبوري، التي زاده إياها عمه السلطان من وراء الفرات، وهي حران وغيرها، فامتدت عين الملك المظفر إلى بلاد مجاوريه، واستولى على السويداء وحاني، واتقع مع بكتمر صاحب خلاط فكسره وحصره في خلاط، وتملك على معظم البلاد، ثم رحل عنها ونازل ملازكرد، وهي لبكتمر، وضايقها، وكان في صحبته ولده الملك المنصور محمد بن الملك المظفر عمر المذكور، فعرض للملك المظفر مرض شديد، وتزايد به حتى توفي يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان من هذه السنة، أعني سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فأخفى ولده الملك المنصور وفاته، ورحل عن ملازكرد ووصل به إلى حماة، ودفنه بظاهرها، وبنى إلى جانب التربة مدرسة، وذلك مشهور هناك، وكان الملك المظفر شجاعاً شديد البأس، ركناً عظيماً من أركان البيت الأيوبي، وكان عنده فضل وأدب، وله شعر حسن، واتفق أن في ليلة الجمعة التي توفي فيها الملك المظفر، توفي فيها حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين، وأمه ست الشام بنت أيوب أخت السلطان، فأصيب السلطان في تاريخ واحد بابن أخيه وابن أخته. ولما مات الملك المظفر، راسل ابنه الملك المنصور، السلطان صلاح الدين، واشترط شروطاً نسبه السلطان فيها إلى العصيان، وكاد أمره يضطرب بالكلية، فراسل الملك المنصور عمه الملك العادل في استعطاف خاطر السلطان، فما برح الملك العادل بأخيه السلطان يراجعه ويشفع في الملك المنصور، حتى أجابه السلطان، وقرر للملك المنصور حماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم، وارتجع السلطان البلاد الشرقية وما معها، وأقطعها أخاه الملك العادل، بعد أن شرط السلطان أن الملك العادل ينزل عن كل ما له من الإقطاع بالشام، خلا الكرك والشوبك

والصلت والبلقاء ونصف خاصه بمصر، وأن يكون عليه في كل سنة ستة آلاف غرارة، تحمل من الصلت والبلقاء إلى القدس، ولما استقر ذلك، سار الملك العادل إلى البلاد الشرقية لتقرير أمورها، فقررها وعاد إلى خدمة السلطان في آخر جمادى الآخرة من السنة القابلة، أعني سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ولما قدم الملك العادل على السلطان، كان الملك المنصور صاحب حماة صحبته، فلما رأى السلطان الملك المنصور بن تقي الدين، نهض واعتنقه وغشيه البكاء وأكرمه وأنزله في مقدمة عسكره. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة في شعبان، قتل قزل أرسلان، واسمه عثمان بن الدكز، وهو الذي ملك أذربيجان وهمذان وأصفهان والري بعد أخيه محمد البهلوان، وكان قد قوي عليه السلطان طغريل السلجوقي، وهزم عسكر بغداد كما تقدم ذكره، ثم إن قزل أرسلان تغلب واعتقل السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل في بعض البلاد، وسار قزل أرسلان بعد ذلك إلى أصفهان، وتعصب على الشفعوية وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم، وعاد إلى همذان وخطب لنفسه بالسلطنة، ودخل لينام على فراشه، وتفرق عنه أصحابه، فدخل عليه من قتله على فراشه، ولم يعرف قاتله. وفيها قدم معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم إلى السلطان صلاح الدين، وسببه أن والده فرق مملكته على أولاده، وأعطى ولده هذا ملطية، ثم تغلب بعض إخوته على والده وألزمه بأخذ ملطية من أخيه المذكور، فخاف من ذلك، فسار إلى السلطان ملتجئاً إليه فأكرمه السلطان وزوجه بابنة أخيه الملك العادل، وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة، وقد انقطعت أطماع أخيه منه قال ابن الأثير لما ركب السلطان صلاح الدين ليودع معز الدين قيصر شاه المذكور، ترجل معز الدين له، فترجل السلطان صلاح الدين، ولما ركب السلطان صلاح الدين عضده قيصر شاه وركبه، وكان علاء الدين بن عز الدين مسعود، صاحب الموصل، مع السلطان إذ ذاك، فسوى ثياب السلطان أيضاً. فقال بعض الحاضرين في نفسه: ما بقيت تبالي يا ابن أيوب بأي موتة تموت، يركبك ملك سلجوقي، ويسوي قماشك ابن أتابك زنكي. وفيها قتل أبو الفتح يحيى بن حنش بن أميرك، الملقب شهاب الدين السهوردي، الحكيم الفيلسوف، بقلعة حلب، محبوساً، أمر بخنقه الملك الظاهر غازي، بأمر والده السلطان صلاح الدين، قرأ المذكور الأصولين والحكمة بمراغة، على مجد الدين الجيلي، شيخ الإمام فخر الدين، ثم سافر السهروردي المذكور إلى حلب، وكان علمه أكثر من عقله، فنسب إلى انحلال العقيدة، وأنه يعتقد مذهب الفلاسفة، فأفتى الفقهاء بإباحة دمه لما ظهر من سوء مذهبه، واشتهر عنه، وكان أشدهم عليه في ذلك، زين الدين ومجد الدين ابنا جهبل حكى الشيخ

سيف الدين الآمدي قال: اجتمعت بالسهروردي في حلب فقال لي: لا بد أن أملك الأرض. فقلت له من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر. فقلت: لعل يكون اشتهار علمك، وما يناسب هذا، فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه، ووجدته كثير العلم قليل العقل، وكان عمره لما قتل ثمانياً وثلاثين سنة، وله عدة مصنفات في الحكمة، منها: التلويحات والتنقيحات، والمشارع والمطارحات، وكتاب الهياكل وحكمة الإشراق، وكان ينتسب إلى أنه يعرف السيمياء وله نظم حسن فمنه: أبداً تحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى لذيذ لقائكم ترتاح وارحمتا للعاشقين تكلفوا ... ستر المحبة والهوى فضاح وإذا هم كتموا يحدث عنهم ... عند الوشاة المدمع السحاح لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى ... كتمانهم فنمى الغرام وباحوا وهي قصيدة طويلة اقتصرنا منها على هذا القدر. ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة فيها سار الفرنج إلى عسقلان وشرعوا في عمارتها في المحرم، والسلطان بالقدس. وفيها قتل المركيس صاحب صور، لعنه الله تعالى، قتله بعض الباطنية، وكانوا قد دخلوا في زي الرهبان إلى صور. ذكر عقد الهدنة مع الفرنج، وعود السلطان إلى دمشق وسبب ذلك أن ملك الأنكتار مرض، وطال عليه البيكار، فكاتب الملك العادل يسأله الدخول على السلطان في الصلح، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، ثم اتفق رأي الأمراء على ذلك لطول البيكار، وضجر العسكر. ونفاد نفقاتهم، فأجاب السلطان إلى ذلك واستقر أمر الهدنة، في يوم السبت ثامن عشر شعبان، وتحالفوا على ذلك في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان، ولم يحلف ملك الأنكتار بل أخذوا يده وعاهدوه، واعتذر بأن الملوك لا يحلفون، وقنع السلطان بذلك، وحلف الكندهري ابن أخيه وخليفته في الساحل، وكذلك حلف غيره من عظماء الفرنج، ووصل ابن الهنفري وباليان إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من المقدمين، وأخذوا يد السلطان على الصلح، واستحلفوا الملك العادل أخا السلطان، والملك الأفضل، والظاهر، ابني السلطان، والملك المنصور صاحب حماة، محمد بن تقي الذين عمر، والملك المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص، والملك الأمجد بهرام شاه بن فرخشاه صاحب بعلبك، والأمير بدر الدين أيلدرم الباروقي صاحب تل باشر، والأمير سابق الدين عثمان ابن الداية صاحب شيرز، والأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وغيرهم من المقدمين الكبار، وعقدت هدنة عامة في البحر والبر وجعلت مدتها ثلاث

سنين وثلاثة أشهر. أولها أيلول الموافق لحادي وعشرين من شعبان. وكانت الهدنة على أن يستقر بيد الفرنج يافا وعملها، وقيسارية وعملها، وأرسوف وعملها، وحيفا وعملها، وعكا وعملها، وأن تكون عسقلان خراباً، واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في عقد هدنته، واشترط الفرنج دخول صاحب أنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم، وأن يكون لد والرملة مناصفة بينهم وبين المسلمين، فاستقرت القاعدة على ذلك. ثم رحل السلطان إلى القدس في رابع شهر رمضان، وتفقد أحواله وأمر بتشييد أسوار، وزاد في وقف المدرسة التي عملها بالقدس، وهذه المدرسة كانت قبل الإسلام تعرف بصندحنة، يذكرون أن فيها قبر حنة أم مريم، ثم صارت في الإسلام دار علم قبل أن يتملك الفرنج بالقدس، ثم لما ملك الفرنج القدس في سنة اثنين وتسعين وأربعمائة، أعادوها كنيسة كما كانت قبل الإسلام، فلما فتح السلطان القدس أعادها مدرسة، وفوض تدريسها ووقفها إلى القاضي بهاء الدين بن شداد. ولما استقر أمر الهدنة أرسل السلطان مائة حجار لتخريب عسقلان، وأن يخرج من بها من الفرنج، وعزم على الحج والإحرام من القدس، وكتب إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن بذلك، ثم فنده الأمراء وقالوا: لا نعتمد على هدنة الفرنج خوفاً من غدرهم، فانتقض عزمه عن ذلك، ثم رحل السلطان عن القدس لخمس مضين من شوال إلى نابلس، ثم سار إلى بيسان، ثم إلى كوكب، فبات بقلعتهما، ثم رحل إلى طبرية ولقيه بها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، وقد خلص من الأسر، وكان قد أسر بعكا لما أخذها الفرنج مع من أسر، فسار قراقوش مع السلطان إلى دمشق، ثم سار منها قراقوش إلى مصر. ثم سار السلطان إلى بيروت ووصل إلى خدمته بيمند صاحب أنطاكية يوم السبت حادي وعشرين شوال، فأكرمه السلطان وفارقه غد ذلك اليوم، وسار السلطان إلى دمشق ودخلها يوم الأربعاء لخمس بقين من شوال وفرح الناس به لأن غيبته كانت عنهم مدة أربع سنين، وأقام العدل والإحسان بدمشق، وأعطى السلطان العساكر الدستور، فودعه ولده الملك الظاهر وداعاً لا لقاء بعده، وسار إلى حلب، وبقي عند السلطان بدمشق ولده الملك الأفضل، والقاضي الفاضل، وكان الملك العادل قد استأذن السلطان وسار من القدس إلى الكرك لينظر في مصالحه، ثم عاد الملك العادل إلى دمشق طالباً البلاد الشرقية التي صارت له بعد تقي الدين، فوصل إلى دمشق في الحادي والعشرين من ذي القعدة، وخرج السلطان إلى لقائه. وفي يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من هذه السنة، توفي الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب بنابلس، وكانت إقطاعه، فوقف السلطان ثلث نابلس على مصالح القدس، وأقطع الباقي للأمير عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب، وأميرين معه.

ذكر وفاة السلطان عز الدين قليج أرسلان صاحب بلاد الروم وأخبار الذين تولوا بعده في هذه السنة، أعني سنة ثمان وثمانين وخمسمائة في منتصف شعبان، توفي السلطان عز الدين قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطالوش بن أرسلان يبغو بن سلجوق. وكان ملكه في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وكان ذا سياسة حسنة، رهيبة عظيمة، وعدل وافر، وغزوات كثيرة، وكان له عشرة بنين، قد ولى كل واحد منهم قطراً من بلاد الروم، وأكبرهم قطب الدين ملكشاه بن قليج أرسلان المذكور، وكان قد أعطاه أبوه سيواس، فسولت له نفسه القبض على أبيه وإخوته والانفراد بالسلطنة، وساعده على ذلك صاحب أرزنكات، فسار قطب الدين ملكشاه وهجم على والده قليج أرسلان بمدينة قونية. وقبض عليه، وقال لوالده وهو في قبضته: أنا بين يديك أنفذ أوامرك. ثم إنه أشهد على والده بأنه قد جعله ولي عهده. ثم مضى ملكشاه المذكور إلى حرب أخيه نور الدين سلطان شاه، صاحب قيسارية، ووالده في القبضة معه، وهو يظهر أن ما يفعله إنما هو بأمر والده، فخرج عسكر قيسارية لحربه، فوجد أبوه عز الدين قليج أرسلان عند اشتغال العسكر بالقتال فرصة، فهرب إلى ولده سلطان شاه صاحب قيسارية، فأكرمه وعظمه كما يجب عليه، فرجع قطب الدين ملكشاه إلى قونية وخطب لنفسه بالسلطنة، وبقي أبوه قليج أرسلان يتردد في بلاده بين أولاده، كلما ضجر منه واحد منهم ينتقل إلى الآخر، حتى حصل عند ولده غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب برغلو فقوى أباه قليج أرسلان، وأعطاه وجمع له وحشد وسار معه إلى قونية، فملكها وأخذها من ابنه ملكشاه، ثم سار إلى أقصرا، فاتفق أن عز الدين قليج أرسلان مرض ومات في التاريخ المذكور، فأخذه ولده كيخسرو وعاد به إلى قونية فدفنه بها. واتفق موت ملكشاه بعد موت أبيه قليج أرسلان بقليل، فاستقر كيخسرو في ملك قونية وأثبت أنه ولي عهد أبيه قليج أرسلان. ثم إن ركن الدين سليمان أخا غياث الدين كيخسرو قوي على أخيه كيخسرو، وأخذ منه قونية، فهرب كيخسرو إلى الشام مستجيراً بالملك الظاهر صاحب حلب، ثم مات ركن الدين سليمان سنة ستمائة، وملك بعده ولده قليج أرسلان بن سليمان، فرجع غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان إلى بلاد الروم، وأزال ملك قليج أرسلان بن سليمان وملك بلاد الروم جميعها، واستقرت له السلطنة ببلاد الروم، وبقي كذلك إلى أن قتل، وملك بعده ابنه عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو، ثم توفي كيكاؤوس وملك بعده أخوه السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو، وتوفي علاء الدين كيقباذ سنة أربع وثلاثين وستمائة،

وملك بعده ولده غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو، كسره التتر سنة إحدى وأربعين وستمائة، وتضعضع حينئذ ملك السلاطين السلجوقية ببلاد الروم، ثم مات غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق، وانقضى بموت كيخسرو المذكور سلاطين بلاد الروم في الحقيقة لأن من صار بعده لم يكن له من السلطنة غير مجرد الاسم، وخلف كيخسرو المذكور صبيين هما: ركن الدين، وعز الدين. فملكا معاً مدة مديدة، ثم انفرد ركن الدين بالسلطنة وهرب أخوه عز الدين إلى قسطنطينية، وتغلب على ركن الدين، معين الدين البرواناه، والبلاد في الحقيقة للتتر، ثم إن البرواناه قتل ركن الدين، وأقام ابناً لركن الدين يخطب له بالسلطنة والحكم للبرواناه، وهو نائب التتر على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة غزا شهاب الدين الغوري الهند فغنم وقتل ما لا يحصى وفيها خرج السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل من الحبس، بعد قتل قزل أرسلان بن الدكز، وكان قزل قد اعتقله حسبما تقدم ذكره في سنة سبع وثمانين وخمسمائة. وفيها توفي راشد الدين سنان بن سليمان بن محمد، وكنيته أبو الحسن، صاحب دعوة الإسماعيلية بقلاع الشام، وأصله من البصرة. ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة. ذكر وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب بن شادي، وشيء عن أخباره دخلت هذه السنة والسلطان بدمشق، على أكمل ما يكون من المسرة، وخرج إلى شرقي دمشق متصيداً، وغاب خمسة عشر يوماً، وصحبة أخوه الملك العادل. ثم عاد إلى دمشق وودعه أخوه الملك العادل وداعاً لا لقاء بعده، فمضى إلى الكرك وأقام فيه حتى بلغه وفاة السلطان، وأقام السلطان بدمشق، وركب في يوم الجمعة خامس عشر صفر وتلقى الحجاج، وكان عادته ألا يركب إلا وهو لابس كزاغند، فركب ذلك اليوم، وقد اجتمع بسبب ملتقى الحجاج وركوبه عالم عظيم، ولم يلبس الكزاغند، ثم ذكره وهو راكب، فطلب الكزاغند فلم يجده، وقد حملوه معه، ولما التقى الحجاج استعبرت عيناه كيف فاته الحج، ووصل إليه مع الحجاج ولد أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن. ثم عاد السلطان بين البساتين إلى جهة المنيبع، ودخل إلى القلعة على الجسر إليها، وكانت هذه آخر ركباته، فلحقه ليلة السبت سادس عشر صفر كسل عظيم، وغشيه نصف الليل حمى صفراوية، وأخذ المرض في التزايد، وقصده

الأطباء في الرابع، فاشتد مرضه، وحدث به في التاسع رعشة، وغاب ذهنه وامتنع من تناول المشروب، واشتد الإرجاف في البلد، وغشي الناس من الحزن والبكاء عليه ما لا يمكن حكايته، وحقن في العاشر حقنتين، فحصل له راحة، وتناول من ماء الشعير مقداراً صالحاً، ثم لحقه عرق كثير حتى نفذ من الفراش، واشتد المرض ليلة الثاني عشر من مرضه، وهي ليلة السابع والعشرين من صفر، وحضر عنده الشيخ أبو جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده في القلعة، بحيث إن احتضر بالليل ذكره الشهادة، وتوفي السلطان في الليلة المذكورة، أعني في الليلة المستقرة عن نهار الأربعاء السابع والعشرين من صفر، بعد صلاة الصبح، من هذه السنة، أعني سنة تسع وثمانين وخمسمائة. وبادر القاضي الفاضل بعد صلاة الصبح فحضر وفاته، ووصل القاضي بهاء الدين بن شداد بعد موته وانتقاله إلى رحمة الله وكرامته، وغسله الفقيه الدولعي خطيب دمشق، وأخرج بعد صلاة الظهر من نهار الأربعاء المذكور في تابوت مسجى بثوب، وجميع ما احتاجوا من الثياب في تكفينه أحضره القاضي الفاضل من جهة حل عرفه، وصلى عليه الناس ودفن في قلعة دمشق، في الدار التي كان مريضاً فيها، وكان نزوله إلى جدثه وقت صلاة العصر من النهار المذكور، وكان الملك الأفضل ابنه قد حلف الناس له قبل وفاة والده عندما اشتد مرضه، وجلس للعزاء في القلعة، وأرسل الملك الأفضل على الكتب بوفاة والده إلى أخيه العزيز عثمان بمصر، وإلى أخيه الظاهر غازي بجلب، وإلى عمه الملك العادل أبي بكر بالكرك. ثم إن الملك الأفضل عمل لوالده تربة قرب الجامع، وكانت داراً لرجل صالح، ونقل إليها السلطان يوم عاشورا سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ومشى الملك الأفضل بين يدي تابوته، وأخرج من باب القلعة على دار الحديث إلى باب البريد، وأدخل الجامع ووضع قدام الستر وصلى عليه القاضي محيط الدين بن القاضي زكي الدين، ثم دفن وجلس ابنه الملك الأفضل في الجامع ثلاثة أيام للعزاء، وأنفقت ست الشام بنت أيوب أخت السلطان في هذه النوبة أموالاً عظيمة. وكان مولد السلطان صلاح الدين بتكريت، في شهور سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، فكان عمره قريباً من سبع وخمسين سنة، وكانت مدة ملكه للديار المصرية نحو أربع وعشرين سنة، وملكه الشام قريباً من تسع عشرة سنة، وخلف سبعة عشر ولدا ذكراً، وبنتاً واحدة، وكان أكبر أولاده الملك الأفضل نور الدين علي بن يوسف، ولد بمصر سنة خمس وستين وخمسمائة، وكان العزيز عثمان أصغر منه بنحو سنتين، وكان الظاهر صاحب حلب أصغر منهما، وبقيت البنت حتى تزوجها ابن عمها الملك الكامل صاحب مصر، ولم يخلف السلطان صلاح الدين في خزانته غير سبعة وأربعين درهماً، وحرم واحد صوري، وهذا من رجل له الديار المصرية والشام وبلاد الشرق واليمن، دليل قاطع على فرط كرمه، ولم يخلف داراً ولا عقاراً. قال العماد

الكاتب: حسبت ما أطلقه السلطان في مدة مقامه بمرج عكا من خيل عراب وأكاديش، فكان اثني عشر ألف رأس، وذلك غير ما أطلقه من أثمان الخيل المصابة في القتال، ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو مرهوب، أو موعود به، ولم يؤخر صلاة عن وقتها، ولا صلى إلا في جماعة، وكان إذا عزم على أمر توكل على الله، ولا يفضل يوماً على يوم، وكان كثير سماع الحديث النبوي، قرأ مختصراً في الفقه تصنيف سليم الداري، وكان حسن الخلق صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب صحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه، وكان يوماً جالساً، فرمى بعض المماليك بعضاً بسر موزة، فأخطأته ووصلت إلى السلطان فأخطأته ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى ليتغافل عنها، وكان طاهر المجلس فلا يذكر أحد في مجلسه إلا بالخير، وطاهر اللسان، فما يولع بشمتم قط. قال العماد الكاتب: مات بموت السلطان الرجال، وفات بوفاته الأفضال، وغاضت الأيادي، وفاضت الأعادي، وانقطعت الأرزاق، وادلهمت الآفاق، وفجع الزمان بواحده وسلطانه، ورزئ الإسلام بمشيد أركانه. ذكر ما استقر عليه الحال بعد وفاة السلطان لما توفي السلطان الملك الناصر صلاح الدين، استقر في الملك بدمشق وبلادها المنسوبة إليها، ولده الملك الأفضل نور الدين علي وبالديار المصرية العزيز عماد الدين عثمان. وبحلب الملك الظاهر غياث الدين غازي. وبالكرك والشوبك والبلاد الشرقية الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب. وبحماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر. وببعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب. وبحمص والرحبة وتدمر شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي. وبيد الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين بصرى، وهو في خدمة أخيه الملك الأفضل، وبيد جماعة من أمراء الدولة بلاد وحصون، منهم سابق الدين عثمان بن الداية، بيده شيزر، وأبو قبيس، وناصر الدين بن كورس بن خمار دكين بيده صهيون وحصن برزية. وبدر الدين دلدرم بن بهاء الدين ياروق بيده تل باشر. وعز الدين أسامة بيده كوكب وعجلون. وعز الدين إبراهيم بن شمس الدين بن المقدم بيده بعرين وكفر طاب وفامية. والملك الأفضل هو الأكبر من أولاد السلطان والمعهود إليه بالسلطنة، واستوزر الملك الأفضل ضياء الدين نصر الله بن محمد بن الأثير مصنف المثل السائر، وهو أخو عز الدين بن الأثير مؤلف التاريخ المسمى بالكامل، فحسن للملك الأفضل طرد أمراء أبيه، ففارقوه إلى أخويه العزيز والظاهر. قال العماد الكاتب: وتفرد الوزير في توزره، ومد الجزري في جزره، ولما اجتمعت أكابر الأمراء بمصر حسنوا

للملك العزيز الانفراد بالسلطنة، ووقعوا في أخيه الأفضل، فمال إلى ذلك، وحصلت الوحشة بين الأخوين الأفضل والعزيز. وفي هذه السنة بعد موت السلطان قدم الملك العادل من الكرك إلى دمشق، وأقام فيها وظيفة العزاء على أخيه، ثم توجه إلى بلاده التي وراء الفرات. ذكر حركة عز الدين مسعود صاحب الموصل إلى البلاد الشرقية التي بيد الملك العادل وعوده وموته في هذه السنة لما مات السلطان صلاح الدين، كاتب عز الدين مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب ملوك البلاد المجاورين للموصل يستنجدهم ولذلك اتفق مع أخيه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي صاحب سنجار، وسار إلى جهة حران وغيرها، فلحق عز الدين مسعود إسهال قوي وضعف فترك العسكر مع أخيه عماد الدين وعاد إلى الموصل، وصحبته مجاهد الدين قيماز، فحلف العسكر عز الدين لابنه أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن أقسنقر، وقوي بعز الدين مسعود المرض، وتوفي في السابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، فكانت مدة ما بين وفاته ووفاة السلطان صلاح الدين نصف سنة، وكانت مدة ملك عز الدين مسعود للموصل ثلاث عشرة سنة وستة أشهر، وكان ديناً خيراً كثير الإحسان، وكان أسمر مليح الوجه خفيف العارضين، يشبه جده عماد الدين زنكي، واستقر في ملك الموصل بعده ولده أرسلان شاه، وكان القيم بأمره، مجاهد الدين قيماز. ذكر قتل بكتمر صاحب أخلاط في هذه السنة في أول جمادى الأولى، قتل سيف الدين بكتمر صاحب أخلاط، وكان بين قتله وبين موت السلطان صلاح الدين شهران ولما بلغ بكتمر موت السلطان صلاح الدين، سرف في إظهار الشماتة بموت السلطان، وضرب البشائر ببلاده، وفرح فرحاً كثيراً، وعمل تختاً يجلس عليه، ولقب نفسه السلطان المعظم صلاح الدين، وكان اسمه بكتمر، فسمى نفسه الملك العزيز، فلم يمهله الله تعالى، وكان هذا بكتمر من مماليك ظهير الدين شاهرمن، وكان له خشداش اسمه هزار ديناري، وكان قد قوي وتزوج ابنة بكتمر، وطمع في الملك، فوضع على بكتمر من قتله، ولما قتل ملك بعده هزار ديناري خلاط وأعمالها، واسم هزار ديناري المذكور أقسنقر، ولقبه بدر الدين، جلبه تاجر جرجاني اسمه علي إلى أخلاط، فاشتراه منه شاهرمن سكمان بن إبراهيم، وأعجب به شاهرمن، فجعله ساقياً له، ولقبه هزار ديناري، وبقي على ذلك برهة من الزمان، فلما تولى بكتمر على مملكة أخلاط، بقي المذكور من أكبر الأمراء، وتزوج ببنت بكتمر عينا خاتون، فلما قتل بكتمر خلف ولداً، فأخذ

هزار ديناري المذكور ولد بكتمر وأمه، واعتقلهما بقلعة أرزاس بموش، وكان عمر ابن بكتمر إذ ذاك نحو سبع سنين، واستمر بدر الدين أقسنقر هزار ديناري في مملكة أخلاط حتى توفي في سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وحسبما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر غير ذلك في هذه السنة شتى شهاب الدين الغوري في برشاوور، وجهز مملوكه أيبك في عساكر كثيرة إلى بلاد الهند، ففتح وغنم وعاد منصوراً مؤيداً. وفيها توفي سلطان شاه بن أرسلان بن أطسز ابن محمد بن أنوشتكين، وكان قد ملك مرو وخراسان، ولما مات انفرد أخوه تكش بالمملكة، وقد تقدم ذكرهما في سنة ثمان وستين وخمسمائة. وفيها مات الأمير داود بن عيسى بن محمد بن أبي هاشم أمير مكة، وما زالت إمارة مكة له تارة، ولأخيه مكثر تارة، حتى مات. ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة. ذكر قتل طغريل وملك خوارزم شاه الري كان طغريل بن أرسلان بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل السلجوقي، قد حبسه قزل أرسلان بن الدكز، وخرج طغريل من الحبس في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وملك همذان وغيرها وجرى حرب بينه وبين مظفر الدين أزبك بن البهلوان محمد ابن الدكز، وقيل بل هو قطلغ إينانج أخو أزبك المذكور، فانهزم ابن البهلوان، ثم إن ابن البهلوان بعد هزيمته استنجد بخوارزم شاه علاء الدين تكش، فخاف منه، فلم يجتمع بخوارزم شاه، فسار خوارزم شاه تكش وملك الري، وذلك في سنة ثمان وثمانين. وبلغ تكش أن أخاه سلطان شاه قد قصد خوارزم، فصالح طغريل السلجوقي وعاد تكش إلى خوارزم، وبقي الأمر كذلك حتى مات سلطان شاه في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فتسلم تكش مملكة أخيه سلطان شاه وخزانته، وولى ابنه محمد بن تكش نيسابور، وولى ابنه الأكبر ملكشاه بن تكش مرو. ولما دخلت سنة تسعين سار تكش إلى حرب طغريل السلجوقي، فسار طغريل إلى لقائه قبل أن يجمع عساكره، والتقى العسكران بالقرب من الري، وحمل طغريل بنفسه. فقتل، وكان قتله في الرابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وحمل رأس طغريل إلى تكش، فأرسله إلى بغداد، فنصب بها عدة أيام، وسار تكش فملك همذان وتلك البلاد جميعها، وسلم بعضها إلى ابن البهلوان، وأقطع بعضها لمماليكه، ورجع إلى خوارزم. وهذا طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، هو آخر السلاطين السلجوقية الذين ملكوا بلاد العجم، وقد تقدم ذكر ابتداء الدولة السلجوقية في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وأول من ملك منه العراق وأزال دولة بني بويه، طغريل بك ابن ميكائيل

بن سلجوق. ثم ملك بعده ابن أخيه ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل ثم ابنه ملكشاه بن ألب أرسلان ثم ابنه محمود بن ملكشاه، وكان طفلاً، فقامت بتدبير المملكة أم محمود تركان خاتون، ومات محمود وهو ابن سبع سنين، وملك أخوه بركيارق بن ملكشاه. ثم أخوه محمد بن ملكشاه. ثم ابنه محمود بن محمد المذكور. ثم ابنه داود بن محمود ابن محمد المذكور مدة يسيرة. ثم عمه طغريل بن محمد. ثم أخوه مسعود بن محمد. ثم ابن أخيه ملكشاه بن محمود بن محمد أياماً يسيرة، ثم أخوه محمد بن محمود، ثم بعد محمد المذكور اختلفت العساكر وقام من بني سلجوق ثلاثة، أحدهم ملكشاه بن محمود أخو محمد المذكور، والثاني سليمان شاه بن محمد ابن السلطان ملكشاه، وهو عم محمد المذكور، والثالث أرسلان شاه بن طغريل بن محمد ابن السلطان ملكشاه. وكان الدكز مزوجاً بأم أرسلان شاه المذكور، فقوي عليهما سليمان شاه واستقر في همدان في سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ثم قبض سليمان شاه وقتل، وكذلك سم ملكشاه بن محمود المذكور ومات بأصفهان في السنة المذكورة، أعني سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وانفرد بالسلطنة أرسلان شاه بن طغريل ربيب الدكز، ثم ملك بعده ابنه طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل المذكور، في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وجرى له ما ذكرناه حتى قتله تكش في هذه السنة، أعني سنة تسعين وخمسمائة، وانقرضت به الدولة السلجوقية من تلك البلاد. ذكر غير ذلك في هذه السنة أرسل الخليفة الإمام الناصر، عسكراً مع وزيره مؤيد الدين محمد بن علي، المعروف بابن القصاب، إلى خورستان، وهي بلاد شملة وأولاده من بعده، وكان قد مات صاحبها ابن شملة، فاختلفت أولاده، فوصل عسكر الخليفة إلى خورستان وملكوا مدينة تستر في المحرم سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وغيرها من البلاد وكذلك ملكوا قلعة الناطر، وقلعة كاكرد، وقلعة لاموج وغيرها من القلاع والحصون، فأنفذوا بني شملة أصحاب بلاد خورستان إلى بغداد. وفي هذه السنة أعني سنة تسعين وخمسمائة، استحكمت الوحشة بين الأخوين العزيز والأفضل ابني السلطان صلاح الدين، فسار العزيز في عسكر مصر وحصر أخاه الأفضل بدمشق، فأرسل الأفضل إلى عمه العادل وأخيه الظاهر وابن عمه الملك المنصور صاحب حماة يستنجدهم، فساروا إلى دمشق وأصلحوا بين الأخوين، ورجع العزيز إلى مصر، ورجع كل ملك إلى بلده، وأقبل الملك الأفضل بدمشق على شرب الخمر وسماع الأغاني والأوتار ليلاً ونهاراً، وأشاع ندماؤه أن عمه الملك العادل حسن له ذلك، وكان يعمله بالخفية فأنشده العادل:

فلا خير في اللذات من دونها ستر فقبل وصية عمه وتظاهر بذلك، وفوض أمر المملكة إلى وزيره ضياء الدين بن الأثير الجزري يدبرها برأيه الفاسد. ثم إن الملك الأفضل أظهر التوبة عن ذلك، وأزال المنكرات، وواظب على الصلوات، وشرع في نسخ مصحف بيده. ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وفيها سار ابن القصاب وزير الخليفة بعد ملك خورستان إلى همذان، فملكها وملك غيرها من بلاد العجم، وأخذ يستولي على سائر البلاد للخليفة، فتوفي مؤيد الدين بن القصاب المذكور في أوائل شعبان، سنة اثنين وتسعين وخمسمائة. وفيها غزا ملك الغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الفرنج بالأندلس، وجرى بينهم مصاف عظيم، انتصر فيه المسلمون، وقتل من الفرنج ما لا يحصى وولوا منهزمين، وغنم المسلمين منهم ما لا يحصى. وفيها جهز الخليفة الإمام الناصر عسكراً مع مملوك له يقال له سيف الدين طغريل، فاستولوا على أصفهان. وفيها قدم مماليك البهلوان عليهم مملوكاً من البهلوانية، يقال له كلجا، فعظم أمر كلجا واستولى على الري وهمذان. وفيها عاود الملك العزيز عثمان صاحب مصر قصد الشام ومنازلة أخيه الملك الأفضل، فسار ونزل الغوار من أرض السواد من بلاد دمشق، فاضطرب بعض عسكر العزيز عليه، وهم طائفة من الأمراء الأسدية، وفارقوه، فبادر العزيز العود إلى مصر بمن بقي معه من العسكر، وكان الملك الأفضل قد استنجد بعمه الملك العادل لما قصده أخوه العزيز. فلما رحل العزيز عائداً إلى مصر، رحل الملك الأفضل وعمه العادل ومن انضم إليهما من الأسدية، وساروا في إثر العزيز طالبين مصر، فساروا حتى نزلوا على بلبيس وقد ترك فيها العزيز جماعة من الصلاحية، وقصد الملك الأفضل مناجزتهم بالقتال فمنعه العادل عن ذلك، فقصد الأفضل المسير إلى مصر والاستيلاء عليهما، فمنعه عمه العادل أيضاً عن ذلك، وقال: مصر لك متى شئت، وكاتب العادل العزيز في الباطن، وأمره بإرسال القاضي الفاضل ليصلح بين الأخوين، وكان القاضي الفاضل قد اعتزل عن ملابستهم لما رأى من فساد أحوالهم، فدخل عليه الملك العزيز وسأله، فتوجه القاضي الفاضل من القاهرة إلى عند الملك العادل، واجتمع به واتفقا على أن يصلحا بين الأخوين، فأصلحا بينهما، وأقام الملك العادل بمصر عند العزيز ابن أخيه ليقرر أمور مملكته، وعاد الأفضل إلى دمشق. وفيها كان بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب، وبين الفرنج بالأندلس شمالي قرطبة حروب عظيمة، انتصر فيها يعقوب، وانهزم الفرنج. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة فيها سار شهاب الدين الغوري صاحب غزنة إلى بلاد الهند، وفتح قلعة عظيمة تسمى بهنكر بالأمان، ثم سار إلى قلعة كوكير وبينهما نحو خمسة أيام، فصالحه أهلها على مال حملوه إليه، ثم سار في بلاد الهند فغنم وأسر وعاد إلى غزنة. وفيها قتل صدر الدين محمد بن عبد اللطيف بن محمد

الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان، وهو الذي سلم أصفهان إلى عسكر الخليفة، قتله سنقر الطويل شحنة للخليفة، بسبب منافرة جرت بينهما. وفيها نقل الملك الأفضل أباه السلطان صلاح الدين من قلعة دمشق إلى التربة بالمدينة، في صفر، فكان مدة لبثه بالقلعة ثلاث سنين، ولزم الملك الأفضل الزهد والقناعة، وأموره مفوضة لوزيرة ضياء الدين بن الأثير الجزري، وقد اختلفت الأحوال به وكثر شاكوه وقل شاكروه. ذكر انتزاع دمشق من الملك الأفضل لما بلغ الملك العادل في مصر والملك العزيز، اضطراب الأمور على الملك الأفضل، اتفق العادل مع العزيز على أن يأخذا دمشق، وأن يسلمها العزيز إلى العادل، لتكون الخطبة والسكة للعزيز بسائر البلاد، كما كانت لأبيه، فخرجا وسارا من مصر، فأرسل الأفضل إليهما ذلك الدين، وهو أحد أمرائه، وكان فلك الدين أخاً الملك لعادل لأمّه، واجتمع فلك الدين بالملك العادل فأكرمه وأظهر الإجابة إلى ما طلبه، أتم العادل والعزيز السير حتى نزلا على دمشق، وقد حصنها الملك الأفضل، فكاتب بعض الأمراء من داخل البلد، الملك العادل، وصاروا معه، وأنهم يسلمون المدينة إليه، فزحف الملك العادل والملك العزيز ضحى يوم الأربعاء السادس والعشرين من رجب من هذه السنة، فدخل الملك العزيز من باب الفرج، والملك العادل من باب توما، فأجاب الملك الأفضل إلى تسليم القلعة، وانتقل منها بأهله وأصحابه، وأخرج وزيره ضياء الدين بن الأثير مختفياً في صندوق خوفاً عليه من القتل، وكان الملك ظافر خضر ابن السلطان صلاح الدين صاحب بصرى مع أخيه الملك الأفضل ومعاضداً له، فأخذت منه بصرى أيضاً، فلحق بأخيه الملك الظاهر، فأقام عنده بحلب، وأعطى الملك الأفضل صرخد، فسار إليها بأهله واستوطنها، ودخل الملك العزيز إلى دمشق يوم الأربعاء رابع شعبان، ثم سلم دمشق إلى عمه الملك العادل على حكم ما كان وقع عليه الاتفاق بينهما، وتسلمها الملك العادل، ورحل الملك العزيز من دمشق عشية يوم الاثنين تاسع شعبان، وكانت مدة ملك الملك الأفضل لدمشق ثلاث سنين وشهراً، وأبقى الملك العادل السكة والخطبة بدمشق للملك العزيز، ولما استقر الملك الأفضل بصرخد، كتب إلى الخليفة الإمام الناصر يشكو من عمه العادل أبي بكر، وأخيه العزيز عثمان، وأول الكتاب: مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حق عليّ فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقى من الأول فكتب الإمام الناصر جوابه: وافا كتابك يا ابن يوسف معلناً ... بالصدق يخبر أن أصلك طاهر غصبوا علياً حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر

فاصبر فإن غداً عليه حسابهم ... وأبشر فناصرك الإمام الناصر ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة في هذه السنة توفي ملكشاه بن تكش بنيسابور، وكان أبوه خوارزم شاه تكش، قد جعله فيها وجعل له الحكم على تلك البلاد، وجعله ولي عهده، وخلف ملك شاه ولداً اسمه هندوخان، فلما مات ملكشاه، جعل تكش فيها عوضه ولده الآخر قطب الدين محمد، وهو الذي ملك بعد أبيه، وغير لقبه عن قطب الدين، وجعله علاء الدين، وكان بين الأخوين ملكشاه وقطب الدين عداوة مستحكمة. ذكر وفاة سيف الإسلام في هذه السنة في شوال، توفي سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب صاحب اليمن، ولما مات سيف الإسلام، كان ولده الملك العزيز إسماعيل بالسمرين، فبعث إليه جمال الدولة كافور، جماعة من الجند، فعرفوه بوفاة ولده ومضوا به إلى ممالك أبيه، فسلموها إليه، وكانت وفاة سيف الإسلام بزبيد، وكان شديد السيرة، مضيقاً على رعيته، يشتري أموال التجار لنفسه ويبيعها كيف شاء، وجمع من الأموال ما لا يحصى، حتى أنه كان يسبك الذهب وجعله كالطاحون ويدخره. ثم دخلت. سنة أربع وتسعين وخمسمائة في هذه السنة في المحرم توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، صاحب سنجار والخابور والرقة، وكان حسن السيرة متواضعاً يحب أهل العلم، إلا أنه كان بخيلاً شديد البخل، وملك بعده ولده قطب الدين حمد بن زنكي، وتولى تدبير دولته مجاهد الدين بزنقش مملوك أبيه. وفيها في جمادى الأولى سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل إلى نصيبين، فاستولى عليها وأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي، فأرسل قطب الدين محمد واستنجد بالملك العادل، فسار الملك العادل إلى البلاد الجزرية، ففارق نور الدين أرسلان شاه نصيبين وعاد إلى الموصل، فعاد قطب الدين محمد بن زنكي وتسلم نصيبين. وفيها سار خوارزم شاه تكش إلى بخارى، وهي للخطا، وحاصرها وملكها، وكان تكش أعور، فأخذ أهل بخارى في مدة الحصار كلباً أعور وألبسوه قباً وقالوا للخوارزمية: هذا سلطانكم، ورموه بالمنجنيق إليهم، فلما ملكها خوارزم شاه تكش، أحسن إلى أهل بخارى وفرق فيهم أموالاً، ولم يؤاخذهم بما فعلوه في حقه. وفيها وصل جمع عظيم من الفرنج إلى الساحل واستولوا على قلعة بيروت، وسار الملك العادل ونزل بتل العجول، وأتته النجدة من مصر، ووصل إليه سنقر الكبير صاحب القدس، وميمون القصري صاحب نابلس، ثم سار الملك العادل إلى يافا وهجمها بالسيف وملكها، وقتل الرجال المقاتلة، وكان هذا الفتح، ثالث فتح لها، ونازلت الفرنج تبنين، فأرسل الملك العادل إلى الملك العزيز صاحب مصر، فسار الملك العزيز بنفسه بمن بقي عنده من عساكر مصر،

واجتمع بعمه الملك العادل على تبنين، فرحل الفرنج على أعقابهم إلى صور خائبين، ثم عاد الملك العزيز إلى مصر وترك غالب العسكر مع عمه العادل، وجعل إليه أمر الحرب والصلح، ومات في هذه المدة سنقر الكبير، فجعل الملك العزيز أمر القدس إلى صارم الدين قطلق، مملوك عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، ولما عاد الملك العزيز إلى مصر في هذه المدة، مدحه القاضي ابن سنا الملك بقصيدة منها: قدمت بالسعد وبالمغنم ... كذا قدوم الملك المقدم قميصك الموروث عن يوسف ... ما جاء إلا صادقاً في الدم أغثت تبنين وخلصتها ... فريسة من ماضغي ضيغم شنشنة تعرف من يوسف ... في النصر لا تعرف من أخزم مقدمه صار جمادى به ... كمثل ذي الحجة ذا موسم ثم طاول الملك العادل الفرنج، فطلبوا الهدنة، واستقرت بينهم ثلاث سنين، ورجع الملك العادل إلى دمشق، ثم سار الملك العادل من دمشق إلى ماردين وحصرها، وصاحبها حينئذ يولق أرسلان بن أيلغازي بن إلبي بن تمرتاش بن أيلغازي ابن أرتق، وليس ليولق أرسلان من الحكم شيء، وإنما الحكم إلى مملوك والده البقش. ذكر أخبار ملوك خلاط وفيها توفي صاحب خلاط بدر الدين أقسنقر هزارديناري، وقد تقدم ذكر ملكه الخلاط في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، ولما توفي هزارديناري استولى على خلاط بعده خشداشه قتلغ وكان مملوكاً أرمني الأصل من سناسنة، فملك خلاط نحو سبعة أيام، ثم اجتمع عليه الناس وأنزلوه من القلعة، ثم وثبوا عليه فقتلوه، فلما قتل قتلغ، اتفق كبراء الدولة فأحضروا محمد بن بكتمر من القلعة التي كان معتقلاً فيها، واسمها أرزاس، وأقاموه في مملكة خلاط ولقبوه الملك المنصور، وقام بتدبير أمره شجاع الدين قتبز الدوادار، وكان قتلغ المذكر قفجاقي الجنس، دوادار الشاهر من سكمان بن إبراهيم، واستقر ابن بكتمر كذلك إلى سنة اثنتين وستمائة، فقبض على أتابكه قتلغ المذكور وحبسه، ثم قتله، فخرج عليه مملوك شاهرمن يقال له عز الدين بلبان فاتفق العسكر مع بلبان المذكور وقبضوا على محمد بن بكتمر وحبسوه، ثم خنقوه ورموه من سور القلعة إلى أسفل وقالوا: وقع، واستمر بلبان في مملكة خلاط، دون سنة، وقتله بعض أصحاب طغريل بن قليج أرسلان شاه صاحب أرزن، وقصد طغريل المذكور أن يتسلم خلاط، فلم يجبه أهلها إلى ذلك، وعصوا عليه، فعاد إلى أرزن، ثم وصل الملك الأوحد أيوب ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وتسلم خلاط، وملكها قريب ثمان سنين، حسبما ذكر

ذلك في سنة أربع وستمائة إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة. ذكر وفاة العزيز صاحب مصر في هذه السنة في منتصف ليلة السابع والعشرين من المحرم، توفي الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان قد طلع إلى الصيد، فركض خلف ذئب، فتقنطر وحم، سابع المحرم، في جهة الفيوم، فعاد إلى الأهرام وقد اشتدت حماه، ثم توجه إلى القاهرة فدخلها يوم عاشوراء، وحدث به يرقان وقرحة في المعا، واحتبس طبعه، فمات في التاريخ المذكور. وكانت مدة مملكته ست سنين إلا شهراً، وكان عمره سبعاً وعشرين سنة وأشهراً، وكان في غاية السماحة والكرم والعدل، والرفق بالرعية، والإحسان إليهم. ففجعت الرعية بموته فجعة عظيمة، وكان الغالب على دولة الملك العزيز، فخر الدين جهاركس، فأقام في الملك ولد الملك العزيز، الملك المنصور محمد، واتفقت الأمراء على إحضار أحد من بني أيوب ليقوم بالملك، وعملوا مشورة بحضور القاضي الفاضل، فأشار بالملك الأفضل، وهو حينئذ بصرخد، فأرسلوا إليه فسار محثاً، ووصل إلى مصر على أنه أتابك الملك المنصور بن الملك العزيز، وكان عمر الملك لمنصور حينئذ تسع سنين وشهوراً، وكان مسير الملك الأفضل من صرخد لليلتين بقيتا من صفر، في تسعة عشر نفراً، متنكراً، خوفاً من أصحاب عمه الملك العادل، فإن غالب تلك البلاد كانت له، فوصل بلبيس خامس ربيع الأول. ثم سار الملك الأفضل إلى القاهرة، فخرج الملك المنصور بن العزيز للقائه، فترجل له عمه الملك الأفضل ودخل بين يديه إلى دار الوزارة، وهي كانت مقر السلطنة، ولما وصل الملك ة فضل إلى بلبيس، التقاه العسكر، فتنكر منه فخر الدين جهاركس وفارقه، وتبعه عدة من العسكر، وساروا إلى الشام وكاتبوا الملك العادل، وهو محاصر ماردين، أرسل الملك الظاهر إلى أخيه الملك الأفضل يشير عليه بقصد دمشق وأخذها من عمه الملك العادل، وأن ينتهز الفرصة لاشتغال العادل بحصار ماردين، فبرز الملك الأفضل من مصر وسار إلى دمشق، وبلغ الملك العادل مسيره إلى دمشق، فترك على حصار ماردين ولده الملك الكامل، وسار العادل وسبق الأفضل ودخل دمشق قبل نزول الأفضل عليها بيومين، ونزل الملك الأفضل على دمشق ثالث عشر شعبان من هذه السنة، وزحف من الغد على البلد، وجرى بينهم قتال، وهجم بعض عسكره مدينة، حتى وصل إلى باب البريد، ولم يمدهم العسكر، فتكاثر أصحاب الملك العادل وأخرجوهم من البلد، ثم تخاذل العسكر فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة، ثم وصل إلى الملك الأفضل أخوه الظاهر صاحب حلب، فعاد إلى مضايقة دمشق، ودام الحصار عليها، وقلت الأقوات عند الملك العادل، وعلى أهل البلد، وأشرف الأفضل والظاهر على

ملك دمشق، وعزم العادل على تسليم البلد لولا ما حصل بين الأخوين، الأفضل والظاهر، من الخلف، وخرجت السنة وهم على ذلك، وكان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر استيلاء الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة على بارين وفي شهر رمضان من هذه السنة، قصد الملك المنصور صاحب حماة بارين، وبها نواب عز الدين إبراهيم بن شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم، وحاصرها، وكان عز الدين إبراهيم مع الملك العادل، محصوراً معه بدمشق، ونصب الملك المنصور عليها المجانيق، وانجرح الملك المنصور حال الزحف، ثم فتحها في التاسع والعشرين من ذي القعدة، وأقام ببارين مدة حتى أصلح أمورها. ذكر وفاة يعقوب ملك الغرب في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى، توفي أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس، بمدينة سلا، وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وكان يتظاهر بمذهب الظاهرية، وأعرض عن مذهب مالك وعمره ثمان وأربعون سنة، وتلقب يعقوب المذكور بالمنصور، ولما مات يعقوب ملك بعده ابنه محمد بن يعقوب، وتلقب محمد بالناصر، ومولد محمد المذكور سنة ست وسبعين وخمسمائة، وعبد المؤمن وبنوه جميعهم كانوا يسمون بأمير المؤمنين، وفي هذه السنة رحل عسكر الملك العادل مع ابنه الملك الكامل عن حصار ماردين. ذكر الفتنة بفيروزكوه في هذه السنة كانت فتنة عظيمة في عسكر غياث الدين ملك الغورية، وهو بفيروزكوه، وسببها أن الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن حسين الرازي، الإمام المشهور، كان قد قدم إلى غياث الدين وبالغ في إكرامه واحترامه، وبنى له مدرسة بهراة بالقرب من الجامع، فعظم ذلك على الكرامية، وهم كثيرون بهراة، ومذهبهم التجسيم والتشبيه، وكان الغورية كلهم كرامية، فكرهوا فخر الدين لأنه شافعي، وهو يناقض مذهبهم، فاتفق أن فقهاء الكرامية والحنفية والشافعية حضروا بفيروزكوه عند غياث الدين للمناظرة، وحضر فخر الدين الرازي، والقاضي عبد المجيد بن عمر، المعروف بابن القدوة، وهو من الكرامية الهيصمية، وله عندهم محل كبير لتزهده وعلمه، فتكلم الرازي، فاعترض عليه ابن القدوة وطال الكلام، فقام غياث الدين، فاستطال فخر الدين الرازي على ابن القدوة وشتمه، وبالغ في أذاه، وابن القدوة لا يزيده على أن يقول: لا يفعل يا مولانا إلا وأخذ الله، فصعب

على الملك ضياء الدين، وهو ابن عم غياث الدين، وزوج ابنته، وشكى إلى غياث الدين وذم فخر الدين الرازي، ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة، فلم يصغ إليه غياث الدين فلما كان الغد، وعظ الناس ابن عمر بن القدرة بالجامع وقال: بعد حمد الله والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، أيها الناس إنا لا نقول إلا ما صح عندنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما علم أرسطو وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها، فلأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وسنة نبيه، وبكى وبكى الكرامية، واستغاثوا، وثار الناس من كل جانب، وامتلأ البلد فتنة، فبلغ ذلك السلطان، فأرسل جماعة سكنوا الناس ووعدهم إخراج فخر الدين الرازي من عندهم، وتقدم عليه بالعود إلى هراة فعاد إليها. وفي هذه السنة: في ربيع الأرل، توفي مجاهد الدين قيماز بقلعة الموصل، وهو الحاكم في دولة زور الدين أرسلان صاحب الموصل، وقيماز المذكور هو الذي كان حاكماً على مسعود والد أرسلان حتى قبض عليه مسعود، ثم أخرجه بعد مدة، وكان قيماز عاقلاً أديباً فاضلاً في الفقه، على مذهب أبي حنيفة، وبنى عدة جوامع وربط ومدارس. وفيها فارق غياث الدين ملك الغورية مذ هب الكرامية، وصار شافعي المذهب. وفيها توفي محمد بن عبد الملك بن زهر الأندلسي الإشبيلي، وكان فاضلاً في الأدب، وكان طبيباً، وكان جده زهر وزيراً وفيلسوفاً، وتوفي زهر المذكور في سنة خمس وعشرين وخمسمائة بقرطبة، وزهر بضم الزاي المعجمة وسكون الهاء، وقد قيل في ابن زهر: قل للوباء أنت وابن زهر ... قد جزتما الحد في النكايه ترفقا بالورى قليلاً ... في واحد منكما كفايه ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة والملكان الأفضل والظاهر محاصران لمدينة دمشق، واتفق وقوع الخلف بين الأخوين الأفضل والظاهر، وسببه أنه كان للملك الظاهر مملوك يحبه اسمه أيبك ففقد، ووجد عليه الملك الظاهر وجداً عظيماً، وتوهم أنه دخل دمشق، فأرسل من تكشف خبره وأطلع الملك العادل وهو محصور على القضية، فأرسل إلى الظاهر يقول له: إن محمود بن الشكري أفسد مملوكك وحمله إلى الأفضل أخيك، فقبض الظاهر على ابن الشكري، فظهر المملوك عنده، فتغير الظاهر على أخيه الأفضل، وترك قتال العادل، وظهر الفشل في العسكر، فتأخر الأفضل والظاهر عن دمشق، وأقاما بمرج الصفر إلى أواخر صفر. ثم سارا إلى رأس الماء ليقيما به إلى أن ينسلخ الشتاء، ثم انثنى عزمهما وسار الأفضل إلى مصر والظاهر إلى حلب، على القريتين. ولما تفرقا، خرج الملك العادل من دمشق وسار في أثر الأفضل إلى مصر، ولما وصل الأفضل إلى مصر

تفرقت عساكره في بلادهم لأجل الربيع، فأدركه عمه العادل، فخرج الأفضل بمن بقي عنده من العسكر وضرب معه مصافاً بالسائح، فانكسر الأفضل وانهزم إلى القاهرة، ونازل العادل القاهرة ثمانية أيام، فأجاب الأفضل إلى تسليمها، على أن يعوض عنها ميافارقين وحاني وسميساط، فأجابه العادل إلى ذلك، ولم يف له به، وكان دخول العادل إلى القاهرة في الحادي والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، وقال ابن الأثير: كان دخول العادل إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الأخر. فيها وتوفي القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، في سابع عشر ربيع الآخر، وقيل إن مولد القاضي الفاضل سنة ست وعشرين وخمسمائة، فكان عمره نحو سبعين سنة. ثم سافر الملك الأفضل إلى صرخد، وأقام العادل بمصر، على أنه أتابك الملك المنصور محمد ابن العزيز عثمان مدة يسيرة، ثم أزال الملك المنصور محمد المذكور، واستقل العادل في السلطنة، ولما استقرت المملكة للملك العادل، أرسل إليه الملك المنصور صاحب حماة يعتذر إليه، مما وقع منه بسبب أخذه بعرين من ابن المقدم، فقبل الملك العادل عذره، وأمره برد بعرين إلى ابن المقدم، فاعتذر الملك المنصور عنها بقربها من حماة، ونزل عن منبج وقلعة نجم لابن المقدم عوضاً عن بعرين، فرضي ابن المقدم بذلك، لأنهما خير من بعرين بكثير، وتسلمهما عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، وكان له أيضاً فامية وكفر طاب وخمس وعشرون ضيعة من المعرة، وكذلك كاتب الملك الظاهر صاحب حلب عمه الملك العادل وصالحه، وخطب له بحلب، وبلادها، وضرب السكة باسمه، واشترط الملك العادل على صاحب حلب أن يكون خمسمائة فارس من خيار عسكر حلب في خدمة الملك العادل، كلما خرج إلى البيكار، والتزم صاحب حلب بذلك، وقصر النيل في هذه السنة تقصيراً عظيماً، حتى أنه لم يبلغ أربعة عشر ذراعاً. ذكر وفاة خوارزم شاه في هذه السنة في العشرين من رمضان، توفي خوارزم شاه تكش بن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين صاحب خوارزم، وبعض خراسان والري، وغيرها من البلاد الجبلية، بشهرستانة. وولي الملك بعده ابنه محمد بن تكش، وكان لقب محمد، قطب الدين، فغيره إلى علاء الدين، وكان تكش عادلاً حسن السيرة، يعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة، والأصول، ولما بلغ غياث الدين ملك الغورية موت خوارزم شاه، ترك ضرب نوبته ثلاثة أيام وجلس للعزاء مع ما كان بينهما من العداوة المستحكمة، وهذا خلاف ما فعله بكتمر من الشماتة بالسلطان صلاح الدين، ولما استقر محمد بن تكش في المملكة، هرب ابن أخيه هندوخان بن ملكشاه بن تكش إلى غياث الدين ملك الغورية يستنصره على

عمه، فأكرمه غياث الدين ووعده النصر. ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة لما دخلت هذه السنة، كان بالديار المصرية الملك العادل، وعنده ابنه الملك الكامل محمد، وهو نائبه بها، وبحلب الملك الظاهر، وهو مجد في تحصين حلب خوفاً من عمه الملك العادل، وبدمشق الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل، نائب أبيه بها، وبالشرق الملك إبراهيم ابن الملك العادل، وبميافارقين، الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل. وفي هذه السنة توفي عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، وصارت البلاد بعده، وهي منبج وقلعة نجم وفامية وكفر طاب، لأخيه شمس الدين عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، ولما استقر شمس الدين عبد الملك بمنبج، سار إليها الملك الظاهر صاحب حلب وحصرها، وملك منبج، وعصى عبد الملك بن المقدم بالقلعة، فحصره، ونزل عبد الملك بالأمان، فاعتقله الملك الظاهر، وملك قلعة منبج، وبعد أن فرغ من منبج سار إلى قلعة نجم، وبها نائب ابن المقدم، فحصرها وملكها في آخر رجب من هذه السنة، وأرسل الملك الظاهر إلى الملك المنصور صاحب حماة يبذل له منبج وقلعة نجم، على أن يصير معه على الملك العادل، فاعتذر صاحب حماة باليمين التي في عنقه للملك العادل، فلما أيس الملك الظاهر منه، سار إلى المعرة وأقطع بلادها، واستولى على كفر طاب، وكانت لابن المقدم، ثم سار إلى فامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم، وأرسل الملك الظاهر وأحضر عبد الملك بن المقدم من حلب، وكان معتقلاً بها، وأحضر معه أصحابه الذين اعتقلهم وضربهم قدام قراقوش ليسلم فامية، فامتنع قراقوش، فأمر الملك الظاهر بضرب عبد الملك بن المقدم، فضرب ضرباً شديداً، وبقي يستغيث، فأمر قراقوش فضربت النقارات على قلعة فامية لئلا يسمع أهل البلد صراخه، ولم يسلم القلعة، فرحل عنها الملك الظاهر وتوجه إلى حماة وحاصرها لثلاث بقين من شعبان من هذه السنة، ونزل شمالي البلد، وشعث التربة التقوية وبعض البساتين، وزحف من جهة الباب الغربي، وقاتل قتالاً شديداً، ثم زحف في آخر شعبان من الباب الغربي والباب القبلي وباب العميان، وجرى فيه قتال شديد، وخرج الملك الظاهر بسهم في ساقه، واستمرت الحرب إلى أيام من رمضان، فلما لم يحصل على غرض، صالح الملك المنصور على مال يحمله إليه، قيل أنه ثلاثون ألف في ينار صورية. ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق وبها الملك المعظم ابن الملك العادل، فنازلها الملك الظاهر هو وأخوه الملك الأفضل، وانضم إليهما فارس الدين ميمون القصري صاحب نابلس، ومن وافقه من الأمراء الصلاحية، واستقرت القاعدة بين الأخوين الأفضل والظاهر، أنهما متى ملكا دمشق يتسلمها الملك الأفضل، ثم يسيران ويأخذان مصر من الملك العادل، ويتسلمها الملك الأفضل وتسلم دمشق حينئذ إلى الملك الظاهر صاحب حلب، بحيث تبقى مصر

للملك الأفضل، ويصير الشام جميعه للملك الظاهر. وكان قد تخلف من أكابر الأمراء الصلاحية عنهما فخر الدين جهاركس، وزين الدين قراجا، فأرسل الملك الأفضل وسلم صرخد إلى زين الدين قراجا، ونقل الملك الأفضل والدته وأهله إلى حمص عند شيركوه، وبلغ الملك العادل حصار الأخوين دمشق، فخرج بعساكر مصر وأقام بنابلس، ولم يجسر على قتالهما، واشتدت مضايقة الملكين الأفضل والظاهر لدمشق، وتعلق النقابون بسورها، فلما شاهد الملك الظاهر صاحب حلب ذلك، حسد أخاه الملك الأفضل على دمشق وقاله له: أريد أن تسلم إلي دمشق الآن. فقال له الأفضل: إن حريمي حريمك، وهم على الأرض، وليس لنا موضع نقيم فيه، وهب هذه البلد لك، فاجعله لي إلى حين تملك مصر وتأخذه، فامتنع الظاهر من قبول ذلك، وكان قتال العسكر والأمراء الصلاحية إنما كان لأجل الأفضل، فقال لهم الأفضل: إن كان قتالكم لأجلي فاتركوا القتال وصالحوا الملك العادل، وإن كان قتالكم لأجل أخي الملك الظاهر، فأنتم وإياه، فقالوا إنما قتالنا لأجلك، وتخلوا عن القتال، وأرسلوا وصالحوا الملك العادل، وخرجت السنة وهم محاصرون دمشق، وقد تفرقت العساكر، فرحل الملك الظاهر عن دمشق في أول المحرم، سنة ثمان وتسعين، وسار الأفضل إلى حمص. وفي هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين، توفي عماد الدين الكاتب محمد بن عبد الله بن حامد الأصفهاني، وكان فاضلاً في الفقه والأدب والخلاف والتاريخ، وله النظم البديع، والنثر الفائق، وكتب لنور الدين ولصلاح الدين، وله التصانيف الحسنة، منها: البرق الشامي، وخريدة القصر، وكان مولده سنة تسع عشر وخمسمائة وكان عمره نيفاً وسبعين سنة. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة سار الملك غياث الدين ملك الغورية بعساكره، وأرسل استدعى أخاه شهاب الدين من عرنة، فلحقه بعساكره أيضاً، وسار غياث الدين إلى خراسان واستولى على ما كان لخوارزم شاه بخراسان، ولما ملك غياث الدين مرو، سلمها إلى هندوخان بن ملكشاه بن خوارزمشاه تكش، الذي كان هرب من عمه محمد إلى غياث الدين ثم استولى غياث الدين على سرخس وطوس ونيسابور وغيرها، ولما استقرت هذه البلاد لغياث الدين عاد إلى بلاده وتوجه أخوه شهاب الدين إلى بلاد الهند، فغنم وفتح نهروالة وهي من أعظم بلاد الهند. وفي هذه السنة: في رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان مدينة ملطية، وكانت لأخيه معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان، ثم سار ركن الدين إلى أرزن الروم، وكانت للملك محمد بن صليق وهو من بيت قديم، ملكوا أرزن الروم مدة طويلة، فطلع صاحب أرزن الروم المذكور ليصالح ركن الدين، فقبض عليه

وأخذ البلد منه، وكان هذا محمد آخرالملوك من أهل بيته. وفيها توفي سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب آمد وحصن كيفا، سقط من سطح جوسق كان له بحصن كيفا، فمات، وكان له أخ اسمه محمود بن محمد، وكان سقمان. يبغضه، فأبعده إلى حصن منصور، وكان قد جعل سقمان ولي عهده مملوكه إياس، وكان يحبه حباً شديداً، وأوصى له بالملك بعده، فلما مات سقمان، استولى إياس على البلاد، فلم ينتظم له حال، وكاتبوا أخاه محموداً فحضر وملك بلاد أخيه سقمان. وفيها كان بمصر غلاء شديد بسبب نقص النيل. وفيها كان بالجزيرة والشام والسواحل زلزلة عظيمة فهدمت مدناً كثيرة. وفيها في رمضان توفي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي الحنبلي الواعظ المشهور وتصانيفه مشهورة، وكان كثير الوقيعة في العلماء، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة. ثم دخلت سنه ثمان وتسعين وخمسمائة في هذه السنة بعد رحيل الملك الأفضل، والظاهر عن دمشق كما ذكرنا، قدم إليها الملك العادل، وكان قد سار ميمون القصري مع الملك الظاهر فأقطعه إعزاز. وفيها خرب الملك الظاهر قلعة منبج خوفاً من انتزاعها منه، وأقطع منبج بعد ذلك عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب. وفيها أرسل قراقوش نائب عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن مقدم بفامية إلى الملك الظاهر يبذل له تسليم فامية، بشرط أن يعطي شمس الدين عبد الملك بن المقدم إقطاعاً يرضاه، فأقطعه الملك الظاهر الراوندان وكفر طاب ومفردة المعرة، وهو عشرون ضيعة معينة من بلاد المعرة، وتسلم فامية، ثم إن عبد الملك بن المقدم، عصى بالراوندان، فسار إليه الملك الظاهر واستنزله منها. وأبعده، فلحق ابن المقدم بالملك العادل، فأحسن إليه. وفيها سار الملك العادل من دمشق ووصل إلى حماة، ونزل على تل صفرون، وقام الملك المنصور صاحب حماة بجميع وظائفه، وكلفه، وبلغ الظاهر صاحب حلب وصول عمه العادل إلى حماة بنية قصده ومحاصرته بحلب، فاستعد للحصار بحلب، وراسل عمه ولاطفه وأهدى إليه، ووقعت بينهما مراسلات، ورقع الصلح، وانتزعت منه مفردة المعرة، واستقرت للمللث المنصور صاحب حماة وأخذت من الملك الظاهر أيضاً قلعة نجم، وسلمت إلى الملك الأفضل وكانت له سروج وسميساط، وسلم الملك العادل حران وما معها لولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى، وسيره إلى الشرق، وكان بميافارقين الملك الأوحد بن الملك العادل، وبقلعة جعبر الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل، ولما استقر الصلح بين الملك العادل والظاهر، رجع الملك العادل إلى دمشق وأقام بها، وقد انتظمت المماليك الشامية والشرقية والديار المصرية كلها في سلك ملكه وخطب له على منابرها، وضربت السكة فيها باسمه.

ذكر غير ذلك في هذه السنة عاد خوارزم شاه محمد بن تكش واسترجع البلاد التي أخذها الغورية من خراسان إلى ملكه. وفيها توفي هبة الله بن علي بن مسعود بن ثابت المنستيري - بضم الميم وفتح النون وسكون السين المهملة وكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء ومنستير بليدة بإفريقية. وكان هبة الله المذكور عالي الإسناد، ولم يكن في عصره من هو في درجته، سمع إبراهيم بن حاتم الأسدي، وسمع جماعة من الأكابر وسمع الناس على هبة الله المذكور، وسافروا إليه من البلاد لعلو إسناده، وكان جده مسعود قد قدم من منستير إلى بوصير، فعرف هبة الله المذكور بالبوصيري، وكانت ولادته سنة ست وخمسمائة. ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة والملك العادل مقيم بدمشق. وفيها في المحرم توفي فلك الدين سلطان أخو الملك العادل لأمه، وهو الذي تنسب إليه المدرسة الفلكية بدمشق. ذكر الحوادث باليمن كان قد تملك اليمن الملك المعز إسماعيل بن سيف الإسلام بن طغتكين بن أيوب وكان فيه هوج وخبط، فادعى أنه قرشي، وأنه من بني أمية، ولبس الخضرة، وخطب بنفسه، ولبس ثياب الخلافة في ذلك الزمان، وكان طول الكم نحو عشرين شبراً، وخرج عن طاعته جماعة من مماليك أبيه واقتتلوا معه، وانتصر عليهم، ثم اتفق معهم جماعة من الأمراء الأكراد وقتلوا المعز إسماعيل وأقاموا في مملكة اليمن أخاً له صغيراً، وسموه الناصر، وبقي مدة، وأقام بأتابكيته مملوك والده وهو سيف الدين سنقر، ثم مات سنقر بعد أربع سنين، وتزوج أم الناصر أمير من أمراء الدولة يقال له غازي بن جبرئل، وقام بأتابكية الناصر ثم سمّ الناصر في كوز فقاع على ما قيل، وبقي غازي متملكاً للبلاد، ثم قتله جماعة من العرب بسبب قتله للناصر بن طغتكين، وبقيت اليمن خاليه بغير سلطان، فتغلبت أم الناصر المذكور على زبيد، وأحرزت عندها الأموال، وكانت تنتظر وصول أحد من بني أيوب لتتزوج به وتملكه البلاد، وكان للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ولد اسمه سعد الدين شاهنشاه، وكان له ابن اسمه سليمان، فخرج سليمان بن شاهنشاه بن عمر فقيراً يحمل الركوة على كتفه، ويتنقل مع الفقراء من مكان إلى مكان، وكان قد أرسلت أم الناصر بعض غلمانها إلى مكة حرسها الله تعالى في موسم الحاج ليأتيها بأخبار مصر والشام، فوجد غلمانها سليمان المذكور، فأحضروه إلى اليمن، فاستحضرته أم الناصر وخلعت عليه وملكته اليمن، فملأ اليمن ظلماً وجوراً وأطرح زوجته التي ملكته البلاد، وأعرض عنها، وكتب إلى السلطان الملك العادل وهو عم جده كتاباً جعل في أوله أنه من سليمان، وأنه بسم الله الرحمن الرحيم،

فاستقل الملك العادل عقله، ثم كان من سليمان المذكور ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفي هذه السنة أرسل السلطان الملك العادل إلى ولده الملك الأشرف وأمره بحصار ماردين، فحصرها وضايقها، ثم سعى الملك الظاهر إلى الملك العادل في الصلح، فأجاب إلى أن يحمل إليه صاحب ماردين مائة ألف وخمسين ألف دينار، ويخطب له ببلاده، ويضرب السكة باسمه، ويكون بخدمته متى طلبه، فأجاب إلى ذلك واستقر الصلح عليه. وفيها أخرج الملك العادل، الملك المنصور محمد بن العزيز من مصر إلى الشام، فسار بوالدته وإخوته وأقام بحلب عند عمه الملك الظاهر. وفيها سار الملك المنصور صاحب حماة إلى بعرين مرابطاً للفرنج، وأقام بها، وكتب الملك العادل، إلى صاحب بعلبك وإلى صاحب حمص بإنجاده فأنجده، واجتمعت الفرنج من حصن الأكراد وطرابلس وغيرها، وقصدوا الملك المنصور ببعرين، واتقعوا معه في ثالث شهر رمضان من هذه السنة، واقتتلوا، فانهزم الفرنج وقتل وأسر من خيالتهم جماعة، وكان يوماً مشهوداً، وفي ذلك يقول بهاء الدين أسعد بن يحيى السنجاري قصيدة من جملتها: ما لذة العيش إلا صوت معمعة ... ينال فيها المنى بالبيض والأسل يا أيها الملك المنصور نصح فتى ... لم يلوه عن وفاء كثرة العذل أعزم ولا تترك الدنيا بلا ملك ... وجد فالملك محتاج إلى رجل يا أوحد العصر يا خير الملوك ومن ... فاق البرية من حاف ومنتعل ثم خرج من حصن الأكراد والمرقب الإسبتار، وانضم إليهم جموع سن السواحل واتقعوا مع الملك المنصور صاحب حماة، وهو نازل ببعرين في الحادي والعشرين من شهر رمضان من هذه السنة، بعد الوقعة الأولى بثمانية عشر يوماً، فانتصر ثانياً، وانهزمت الفرنج هزيمة شنيعة، وأسر الملك المنصور وقتل منهم عدة كثيرة، ومدح المالك المنصور بسبب هذه الوقعة، سالم بن سعادة الحمصي بقصيدة منها: أمر اللواحظ أن تفوق أسهماً ... ريم برامة ما رنا حتى رما فتنة بالسحر بل فتاكة ... ما جار قاضيهن حين تحكما ومنها: أصبحت فيها مغرماً كمحمد ... لما غدا بالأريحية مغرما ومنها: وشننت منتقماً بساحل بحرها ... جيشاً حكى البحر الخضم عرمرما أسدلت في الآفاق من هبواته ... ليلاً وأطلعت الأسنة أنجما وفي هذه السنة ولد الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور محمد صاحب

حماة، من ملكة خاتون بنت السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وسمي عمر، وإنما سمي محموداً بعد ذلك، وكانت ولادته بقلعة حماة ظهر يوم الثلاثاء رابع عشر رمضان من هذه السنة. وفي هذه السنة أرسل الملك العادل وانتزع ما كان بيد الملك الأفضل، وهي رأس عين وسروج وقلعة نجم، ولم يترك بيده غير سميساط فقط، فأرسل الملك الأفضل والدته فدخلت على الملك المنصور صاحب حماة، ليرسل معها من يشفع في الملك الأفضل عند الملك العادل في إبقاء ما كان بيده، وتوجهت أم الملك الأفضل، وتوجه معها من حماة القاضي زين الدين ابن الهندي إلى الملك العادل، فلم يجبها الملك العادل، ورجعت خائبة، قال عز الدين ابن الأثير مؤلف الكامل، وقد عوقب البيت الصلاحي بمثل ما فعله والدهم السلطان صلاح الدين، لما خرجت إليه نساء بيت الأتابك، ومن جملتهن بنت نور الدين الشهيد، يشفعن في إبقاء الموصل على عز الدين مسعود فردهن ولم يجب إلى سؤالهن، ثم ندم رحمه الله تعالى على ردهن، فجرى للملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين مع عمه مثل ذلك، ولما جرى ذلك قام الملك الأفضل بسميساط، وقطع خطبة عمه الملك العادل، وخطب للسلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود السلجوقي صاحب بلاد الروم. ذكر وفاة غياث الدين ملك الغورية وفي هذه السنة في جمادى الأولى، توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام بن الحسين الغوري صاحب غزنة، وبعض خراسان، وغيرها، وكان أخوه شهاب الدين بطوس عازماً على قصد خوارزم، وخلف غياث الدين من الولد، ابناً اسمه محمود، ولقب غياث الدين بلقب والده، ولم يحسن شهاب الدين الخلافة على ابن أخيه ولا على غيره من أهله، وكان لغياث الدين زوجة يحبها، وكانت مغنية، فقبض عليها شهاب الدين بعد موت أخيه غياث الدين وضربها ضرباً مبرحاً، وأخذ أموالها، وكان غياث الدين مظفراً منصوراً، لم ينهزم له راية قط، وكان له دهاء ومكر، وكان حسن الاعتقاد كثير الصدقات، وكان فيه فضل غزير وأدب مع حسن خط وبلاغة، وكان ينسخ المصاحف بخطه ويوقفها في المدارس التي بناها، وكان على مذهب الكرامية، ثم تركه وصار شافعياً. ذكر غير ذلك وفي هذه السنة استولى الكرج على مدينة دوين من أذربيجان، ونهبوها وقتلوا أهلها، وكانت هي وجميع أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان، وكان مشغولاً ليلاً ونهاراً بشرب الخمر، ولا يلتفت إلى تدبير مملكته، ووبخه أمراؤه ونوابه على ذلك فلم يلتفت. وفيها توفيت زمرد أم الخليفة الإمام الناصر، وكانت كثيرة المعروف. ثم دخلت سنة ستمائة

والملك العادل بدمشق. وفيها كانت الهدنة بين الملك المنصور صاحب حماة وبين الفرنج. وفيها نازل ابن لاوون ملك الأرمن أنطاكية فتحرك الملك الظاهر صاحب حلب ووصل إلى حارم، فرحل ابن لاورن عن أنطاكية على عقبه. وفيها خطب قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار للملك العادل ببلاده، وانتمى إليه، فصحب على ابن كمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، وقصد نصيبين وهي لقطب الدين، واستولى على مدينتها، فاستنجد قطب الدين بالملك الأشرف ابن العادل، فسار إليه واجتمع معه أخوه الملك الأوحد صاحب ميافارقين، والتقى الفريقان بقرية يقال لها بوشرة، فانهزم نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل هزيمة قبيحة، ودخل إلى الموصل وليس معه غير أربعة أنفس، وكانت هذه الواقعة أول ما عرفت من سعادة الملك الأشرف بن الملك العادل، فإنه لم ينهزم له راية بعد ذلك، واستقرت بلاد قطب الدين محمد بن زنكي عليه، ووقع الصلح بينهم في أول سنة إحدى وستمائة. وفيها اجتمع الفرنج لقصد بيت المقدس، فخرج السلطان الملك العادل من دمشق وجمع العساكر ونزل على الطور في قبالة الفرنج، ودام ذلك إلى آخر السنة. وفيها استولت الفرنج على قسطنطينية وكانت قسطنطينية بيد الروم من قديم الزمان، فلما كانت هذه السنة اجتمعت الفرنج وقصدتها في جموع عظيمة، وحاصروها فملكوها، وأزالوا يد الروم عنها، ولم تزل بأيدي الفرنج إلى سنة ستين وستمائة، فقصدتها الروم واستعادوها من الفرنج. وفيها توفي السلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطومش بن يبغو أرسلان بن سلجوق، سلطان بلاد الروم، في سادس ذي القعدة حسبما قدمنا ذكره في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وكان مرضه بالقولنج، وكان قبل مرضه بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية، وهي أنقرة، وكان ركن الدين المذكور يميل إلى مذهب الفلاسفة، ويحسن إلى طائفتهم ويقدمهم، ولما مات ركن الدين، ملك ولده قليج أرسلان ابن سليمان، وكان صغيراً، فلم يستثبت أمره، وكان ما سنذكره إلى شاء الله تعالى. وفيها كان بين خوارزم شاه محمد بن تكش وبين شهاب الدين ملك الغورية قتال، انتصر فيه ملك الغورية، واستنجد خوارزم شاه بالخطا، فساروا واتقعوا مع شهاب الدين ملك الغورية. فهزموه، وشاع ببلاده أن شهاب الدين قتل، فاختلفت مملكته وكثر المفسدون، ثم إنه ظهر ووصل إلى غزنة واستقر في ملكه، وتراجعت الأمور إلى ما كانت عليه. وفيها قتل كلجا مملوك البهلوان، وكان قد ملك الري وهمدان وبلاد الجبل، قتله خشداشه أيدغمش مملوك البهلوان، وتملك موضعه، وأقام أيدغمش ابن أستاذه أزبك بن البهلوان في الملك، وليس لأزبك غير الاسم، والحكم لأيدغمش. وفيها استولى إنسان اسمه محمود بن محمد الحميري

على طفار ومرباط وغيرهما من حضرموت. وفيها خرج أسطول للفرنج فاستولوا على مدينة فوه من الديار المصرية فنهبوها خمسة أيام. وفيها كانت زلزلة عظيمة، عمت مصر والشام والجزيرة وبلاد الروم وصقلية وقبرس والعراق وغيرها، وخربت سور مدينة صور. ثم دخلت سنة إحدى وستمائة: في هذه السنة كانت الهدنة بين الملك العادل والفرنج، وسلم إلى الفرنج يافا، ونزل عن مناصفات لد والرملة، ولما استقرت الهدنة، أعطى العساكر دستوراً، وسار الملك العادل إلى مصر وأقام بدار الوزارة. وفيها أغارت الفرنج على حماة ووصلوا إلى قرب حماة، إلى قرية الرقيطا، وامتلأت أيديهم من المكاسب، وأسروا من أهل حماة شهاب الدين بن البلاعي، وكان فقيهاً شجاعاً تولى بر حماة مرة، وسلمية أخرى، وحمل إلى طرابلس، فهرب وتعلق بجبال بعلبك ووصل إلى أهله بحماة سالماً، ثم وقعت الهدنة بين الملك المنصور صاحب حماة وبين الفرنج. وفيها بعد الهدنة توجه الملك المنصور صاحب حماة إلى مصر، وكان عنده استشعار من السلطان الملك العادل، فلما وصل إليه بالقاهرة أحسن إليه إحساناً كثيراً وأقام في خدمته شهوراً، ثم خلع عليه وعلى أصحابه وعاد إلى حماة. وفيها ملك السلطان غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان بلاد الروم، وكان لما تغلب أخوه ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان على البلاد قد هرب كيخسرو المذكور إلى الملك الظاهر صاحب حلب، ثم تركه وسار إلى قسطنطينية، فأحسن إليه صاحبها، وأقام بالقسطنطينية إلى أن مات أخوه ركن الدين سليمان، وتولى ابنه قليج أرسلان، فسار كيخسرو من قسطنطينية وأزال أمر ابن أخيه، وملك بلاد الروم واستقر أمره. وفيها كانت الحرب بين الأمير قتادة الحسيني أمير مكة، وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني أمير المدينة، وكانت الحرب بينهما سجالاً. ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة والملك العادل بالديار المصرية والممالك بحالها. ذكر قتل ملك الغورية شهاب الدين في هذه السنة أول ليلة من شعبان قتل شهاب الدين أبو المظفر محمد بن سام بن الحسين الغوري ملك غزنة، وبعض خراسان، بعد عوده من لهاوور بمنزل يقال له دمبل، قبل صلاة العشاء، وثب عليه جماعة وهو بخركاته، وقد تفرق الناس عنه لأماكنهم فقتلوه بالسكاكين، قيل أنهم من الكوكير، وهم طائفة من أهل الجبال، مفسدون، كان شهاب الدين قد فتك فيهم، وقيل أنهم من الإسماعيلية، فإن شهاب الدين أيضاً كان كثير الفتك فيهم، واجتمع حرس شهاب الدين فقتلوا أولئك الذين قتلوا شهاب الدين عن آخرهم، وكان شهاب الدين شجاعاً كثير الغزو، عادلاً في الرعية، وكان الأمام فخر الدين الرازي يعظه في داره، فحضر يوماً ووعظه وقال في آخر كلامه: يا سلطان لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازي،

فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس، ولما قتل شهاب الدين كان صاحب باميان بهاء الدين سام بن شمس الدين محمد بن مسعود عم غياث الدين، وشهاب الدين المذكور، فسار بهاء الدين سام ليتملك غزنة، ومعه ولداه علاء الدين محمد، وجلال الدين، ابنا سام بن محمد ابن مسعود بن الحسيني، فأدركت بهاء الدين سام الوفاة قبل أن يصل إلى غزنة، وعهد بالملك إلى ابنه علاء الدين محمد، فأتم علاء الدين وأخوه جلال الدين السير إلى غزنة ودخلاها وتملكها علاء الدين، وكان لغياث الدين ملك الغورية مملوك يقال له تاج الدين يلدز، وكانت كرمان إقطاعه، وهو كبير في الدولة، ومرجع الأتراك إليه، فسار يلدز إلى غزنة وهزم عنها علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام، وأخاه جلال الدين، واستولى يلدز على غزنة ثم إن علاء الدين وجلال الدين ولدي بهاء الدين سام، سارا إلى باميان وجمعا العساكر وعادا إلى غزنة، فقاتلهما يلدز، فانتصرا عليه وانهزم يلدز إلى كرمان، واستقر علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام ومعه بعض العسكر في ملك غزنة، وعاد أخوه جلال الدين في باقي العسكر إلى باميان، ثم إن يلدز لما بلغه مسير جلال الدين في باقي العسكر إلى باميان، وتأخر علاء الدين بغزنة، جمع العساكر من كرمان وغيرها وسار إلى غزنة، وبلغ علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام ذلك، فأرسل إلى أخيه جلال الدين وهو بباميان يستنجده، وسار يلدز وحصر علاء الدين بغزنة، وسار جلال الدين فلما قارب غزنة رحل يلدز إلى طريقه، واقتتلا، فانهزم عسكر جلال الدين وأخذه يلدز أسيراً، فأكرمه يلدز واحترمه، وعاد إلى غزنة فحصر علاء الدين بها، وكان عنده بغزنة هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش فاستنزلهما يلدز بالأمان، ثم قبض على علاء الدين وعلى هندوخان، وتسلم غزنة، وأما غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد، ملك الغورية، فإنه لما قتل عمه شهاب الدين، كان ببست، فسار إلى فيرزكوه وتملكها وجلس في دست أبيه غياث الدين، وتلقب بألقابه، وفرح به أهل فيروزكوه، وسلك طريقة أبيه في الإحسان والعدل، ولما استقل يلدز بغزنة، وأسر جلال الدين وعلاء الدين ابني سام، كتب إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام بن الحسين بالفتح، وأرسل إليه الأعلام وبعض الأسرى. ذكر غير ذلك في هذه السنة توفي الأمير مجير الدين طاشتكين أمير الحاج، وكان قد ولاه الخليفة على جميع خورستان، وكان خيراً صالحاً، وكان يتشيع. وفيها تزوج أبو بكر بن البهلوان بابنة ملك الكرج، وذلك لاشتغاله بالشرب عن تدبير المملكة، فعدل إلى المصاهرة والهدنة، فكف الكرج عنه. ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة في هذه السنة سار الملك العادل من مصر إلى الشام، ونازل في طريقه عكا فصالحه أهلها على إطلاق جمع من الأسرى، ثم

ذكر غير ذلك:

وصل إلى دمشق، ثم سار منها ونزل بظاهر حمص على بحيرة قدس، واستدعى العساكر فأتته من كل جهة، وأقام على البحيرة حتى خرج رمضان، ثم سار ونازل حصن الأكراد وفتح برج أعناز وأخذ منه سلاحاً ومالاً وخمسمائة رجل، ثم سار ونازل طرابلس ونصب عليها المجانيق، وعاث العسكر في بلادها، وقطع قناتها، ثم عاد في أواخر ذي الحجة إلى بحيرة قدس بظاهر حمص. ذكر غير ذلك: في هذه السنة أرسل غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد ملك الغورية يستميل يلدز، مملوك أبيه المستولي على غزنة، فلم يجبه يلدز إلى ذلك، وطلب يلدز من غياث الدين أن يعتقه، فأحضر الشهود وأعتقه، وأرسل مع عتاقه هدية عظيمة، وكذلك أعتق أيبك المستولي على بلاد الهند، وأرسل نحو ذلك، فقبل كل منهما ذلك، وخطب له أيبك ببلاد الهند التي تحت يده، وأما يلدز فلم يخطب له، وخرج بعض العساكر عن طاعة يلدز لعدم طاعته لغياث الدين. وفيها في ثالث شعبان ملك غياث الدين كيخسرو صاحب بلاد الروم، أنطاكية بالأمان، وهي مدينة للروم على ساحل البحر. وفيها قبض عسكر خلاط على صاحبها ولد بكتمر، وكان أتابك قنلغ مملوك شاهرمن، فقبض عليه ابن بكتمر، فثارت عليه أرباب الدولة وقبضوه، وملكوا بلبان مملوك شاهرمن بن سقمان، صاحب خلاط، حسبما تقدم ذكره في سنه أربع وتسعين وخمسمائة. ثم دخلت سنة أربع وستمائة والملك العادل نازل على بحيرة قدس، ثم وقع الهدنة بينه وبين صاحب طرابلس، وعاد الملك العادل إلى دمشق وأقام بها. ذكر استيلاء الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل على خلاط في هذه السنة ملك الملك الأوحد أيوب بن الملك العادل خلاط، وكان صاحب خلاط بلبان حسبما قدمنا ذكره في سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فسار الملك الأوحد من ميافارقين وملك مدينة موش، ثم اقتتل هو وبلبان صاحب خلاط، فانهزم بلبان واستنجد بصاحب أرزن الروم، وهو مغيث الدين طغريل شاه بن قليج أرسلان السلجوقي، فسار طغريل شاه واجتمع به بلبان، فهزما الملك الأوحد، ثم غدر طغريل شاه ببلبان فقتله غدراً، ليملك بلاده، وقصد خلاط فلم يسلموها إليه، وقصد منازكرد فلم تسلم إليه، فرجع طغريل شاه إلى بلاده، فكاتب أهل خلاط الملك الأوحد، فسار إليهم وتسلم خلاط وبلادها بعد إياسه منها، واستقر ملكه بها. وفي هذه السنة لما استقر الملك العادل بدمشق،

وصل إليه التشريف من الخليفة الإمام الناصر، صحبة الشيخ شهاب الدين السهروردي، فبالغ الملك العادل في إكرام الشيخ، والتقاه إلى القصير، ووصل من صاحبي حلب وحماة ذهب لينثر على الملك العادل إذا لبس الخلعة، فلبسها الملك العادل ونثر ذلك الذهب، وكان يوماً مشهوداً. والخلعة جبة أطلس أسود بطراز مذهب، وعمامة سوداء بطراز مذهب، وطوق ذهب مجوهر، تطوق به الملك العادل، وسيف جميع قرابه ملبس ذهباً، تقلد به، وحصان أشهب بمركب ذهب، ونشر على رأسه علم أسود مكتوب فيه بالبياض اسم الخليفة، ثم خلع رسول الخليفة على كل واحد من الملك الأشرف والملك المعظم ابني الملك العادل عمامة سوداء وثوباً أسود، واسع الكم، وكذلك على الوزير صفي الدين بن شكر، وركب الملك العادل وولداه ووزيره بالخلع ودخل القلعة، وكذلك وصل إلى الملك العادل مع الخلعة تقليد بالبلاد التي تحت حكمه، وخوطب الملك العادل فيه، شاهنشاه ملك الملوك خليل أمير المؤمنين، ثم توجه الشيخ شهاب الدين إلى مصر، فخلع على الملك الكامل بها، وجرى فيها نظير ما جرى في دمشق من الاحتفال، ثم عاد السهروردي إلى بغداد مكرماً معظماً. وفي هذه السنة اهتم الملك العادل بعمارة قلعة دمشق، وألزم كل واحد من ملوك أهل بيته بعمارة برج من أبراجها. ذكر قتال خوارزم شاه مع الخطا بما وراء النهر في هذه السنة كاتبت ملوك ما وراء النهر، مثل ملك سمرقند، وملك بخارى، خوارزم شاه يشكون ما يلقونه من الخطا، ويبذلون له الطاعة والخطبة والسكة ببلادهم، إن دفع الخطا عنهم، فعبر علاء الدين محمد خوارزم شاه بن تكش، نهر جيحون. واقتتل مع الخطا، وكان بينهم عدة وقائع، والحرب بينهم سجال، واتفق في بعض الوقعات أن عسكر خوارزم شاه انهزم، وأخذ خوارزم شاه محمد أسيراً، وأسر معه شخص من أصحابه يقال له فلان بن شهاب الدين مسعود، ولم يعرفهما الخطاي الذي أسرهما، فقال ابن مسعود لخوارزم شاه: دع عنك المملكة وادع أنك غلامي واخدمني لعلي أحتال في خلاصك. فشرع خوارزم شاه يخدم ابن مسعود ويقلعه قماشه وخفه، ويلبسه، ويخدمه، فسأل الخطاي ابن مسعود من أنت؟ قال: أنا فلان، فقال له الخطاي: لولا أخاف من الخطا أطلقتك. فقال له ابن مسعود: إني أخشى أن ينقص خبركما عن أهلي فلا يعلمون بحياتي، وأشتهي أن أعلمهم بحالي لئلا يظنوا موتي ويتقاسموا مالي. فأجابه الخطاي إلى ذلك. فقال ابن مسعود أشتهي أن أبعث بغلامي هذا مع رسولك ليصدقوه. فأجابه إلى ذلك، وراح خوارزم شاه مع ذلك الشخص حتى قرب من خوارزم، فرجع الخطاي واستقر خوارزم شاه في ملكه، وتراجع إليه عسكره. وكان لخوارزم شاه أخ يقال له علي شاه بن تكش، وكان نائب أخيه بخراسان، فلما بلغه عدم

أخيه في الوقعة مع الخطا، دعى إلى نفسه بالسلطنة، واختلفت الناس بخراسان، وجرى فيها فتن كثيرة، فلما عاد خوارزمشاه محمد إلى ملكه، خاف أخوه علي شاه، فسار إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد، ملك الغورية، فأكرمه غياث الدين محمود وأقام علي شاه عنده بفيروزكوه. ذكر قتل غياث الدين محمود وعلي شاه ولما استقر خوارزم شاه في ملكه، وبلغه ما فعله أخره علي شاه، أرسل عسكراً إلى قتال غياث الدين محمود الغوري، فسار العسكر إلى فيروزكوه مع مقدم يقال له أمير ملك، فسار إلى فيروزكوه، وبلغ ذلك محسوداً، فأرسل يبذل الطاعة ويطلب الأمان، فأعطاه أمير ملك الأمان، فخرج غياث الدين محمود من فيروزكوه ومعه علي شاه، فقبض عليهما أمير ملك، وأرسل يعلم خوارزمشاه بالحال، فأمره بقتلهما، فقتلهما في يوم واحد. واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه محمد بن تكش، وذلك في سنة خمس وستمائة، وهذا غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام بن الحسين، هو آخر الملوك الغورية، وكانت دولتهم من أحسن الدول، وكان هذا محمود كريماً عادلاً رحمة الله عليه، ثم إن خوارزم شاه محمداً، لما خلا سيره من جهة خراسان عبر النهر وسار إلى الخطا، وكان وراء الخطا في حدود الصين، التتر، وكان ملكهم حينئذ يقال له كشلي خان، وكان بينه وبين الخطا عداوة مستحكمة، فأرسل كل من كشلي خان ومن الخطا يسأل خوارزم شاه أن يكون معه على خصمه، فأجابهما خوارزم شاه بالمغلطة، وانتظر ما يكون منهما، فاتقع كشلي خان والخطا، فانهزمت الخطا، فمال عليهم خوارزم شاه وفتك فيهم، وكذلك فعل كشلي خان بهم، فانقرضت الخطا ولم يبق منهم إلا من اعتصم بالجبال أو استسلم، وصار في عسكر خوارزم شاه. ثم دخلت سنة خمس وستمائة والملك العادل بدمشق، وعنده ولداه الملك الأشرف والمعظم. ذكر قدوم الأشرف إلى حلب متوجهاً إلى بلاده الشرقية وفي هذه السنة توجه الملك الأشرف موسى بن الملك العادل من دمشق، راجعاً إلى بلاده الشرقية، ولما وصل إلى حلب، تلقاه صاحبها الملك الظاهر وأنزله بالقلعة، وبالغ في إكرامه، وقام للأشرف ولجميع عسكره بجميع ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والحلوى والعلوفات، وكان يحمل إليه في كل يوم خلعة كاملة، وهي: غلالة وقباً وسراويل وكمة وفروة وسيف وحصان ومنطقة ومنديل وسكين ودلكش، وخمس خلع لأصحابه. وأقام على ذلك خمسة وعشرين يوماً، وقدم له تقدمة، وهي مائة ألف درهم، ومائة بقجة، مع مائة مملوك، فمنها عشر بقج في كل واحدة منها ثلاثة أثواب أطلس، وثوبان خطاي، وعلى كل بقجة جلد قندس كبير، ومنها عشرة، في كل واحدة منها عشرة أثواب عتابي خوارزمي، وعلى كل

بقجة جلد قندس كبير، ومنها. عشرة، في كل واحدة خمسة أثواب عتابي بغدادي وموصلي، وعليها عشرة جلود قندس صغار، ومنها عشرون في كل واحدة خمس قطع مرسوسي وديبقي، ومنها أربعون في كل واحدة منها خمسة أقبية وخمس كمام، وحمل إليه خمس حصن عربية بعدتها، وعشرين أكديشاً، وأربعة قطر بغال، وخمس بغلات فائقات بالسروج واللجم المكفنة، وقطارين من الجمال، وخلع على أصحابه مائة وخمسين خلعة، وقاد إلى أكثرهم بغلات وأكاديش. ثم سار الملك الأشرف إلى بلاده. وفي هذه السنة أمر الملك الظاهر صاحب حلب، بإجراء القناة، من حيلان إلى حلب، وغرم على ذلك أموالاً كثيرة، وبقي البلد يجري الماء فيه. وفي هذه السنة وصل غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم إلى مرعش، لقصد بلاد ابن لارون الأرمني، وأرسل إليه الملك الظاهر نجدة، فدخل كيخسرو إلى بلاد ابن لاوون، وعاث فيها ونهب، وفتح حصناً يعرف بفرقوس. ذكر مقتل صاحب الجزيرة في هذه السنة قتل معز الدين سنجرشاه بن سيف الدين غازي بن مودود بن عماد الدين بن زنكي بن أقسنقر، صاحب جزيرة ابن عمر، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة ست وسبعين وخمسمائة، قتله ابنه غازي. وكان سنجرشاه ظالماً قبيح السيرة جداً، لا يمتنع عن قبيح يفعله، من القتل وقطع الألسنة والأنوف والآذان وحلق اللحى، وتعدى ظلمه إلى أولاده وحريمه، فبعث ابنيه، محموداً، ومودوداً إلى قلعة، فحبسهما فيها، وحبس ابنه المذكور غازي في دار في المدينة، وضيق عليه، وكان بتلك الدار هوام كثيرة، فاصطاد غازي المذكور منها حية وأرسلها إلى أبيه في منديل لعله يرق عليه، فلم يزده ذلك إلا قسوة، فأعمل غازي الحيلة حتى هرب، وكان له واحد يخدمه، فقرر معه أن يسافر، ويظهر أنه غازي ابن معز الدين سنجرشاه، ليأمنه أبوه، فمضى ذلك الإنسان إلى الموصل، فأعطى شيئاً وسافر منها، واتصل ذلك بسنجر شاه فاطمأن، وتوصل ابنه غازي حتى دخل إلى دار أبيه واختفى عند بعض سراري أبيه، وعلم به جماعة منهم. وكتموا ذلك عن سنجرشاه لبغضهم فيه، واتفق أن سنجرشاه شرب يوماً بظاهر البلد، وشرع يقترح على المغنين الأشعار الفراقية وهو يبكي، ودخل داره سكران إلى عند الحظية التي ابنه مختبئ عندها، ثم قام معز الدين سنجرشاه ودخل الخلاء، فهجم عليه ابنه غازي فضربه أربع عشرة ضربة بالسكين، ثم ذبحه وتركه ملقى، ودخل غازي الحمام وقعد يلعب مع الجواري، فلو أحضر الجند واستحلفهم في ذلك الوقت، لتم له الأمر وملك البلاد، ولكنه تنكر واطمأن، فخرج بعض الخدم وأعلم أستاذ

الدار، فجمع الناس وهجم على غازي وقتله، وحلف العسكر لأخيه محمود بن سنجرشاه، ولقب معز الدين بلقب أبيه، ووصل معز الدين محمود بن سنجر شاه بن زنكي واستقر ملكه بالجزيرة، وقبض على جواري أبيه فغرقهن في دجلة، ثم قبض محمود بعد ذلك أخاه مودوداً. ثم دخلت سنة ست وستمائة في هذه السنة سار الملك العادل من دمشق، وقطع الفرات، وجمع العساكر والملوك من أولاده، ونزل حران، ووصل إليه بها الملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان الأرتقي، صاحب آمد وحصن كيفا، وسار الملك العادل من حران ونازل سنجار وبها صاحبها قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي، فحاصرها وطال الأمر في ذلك. ثم خامرت العساكر التي صحبة الملك العادل، ونقض الملك الظاهر صاحب حلب الصلح معه، فرحل عن سنجار وعاد إلى حران، واستولى الملك العادل على نصيبين، وكانت لقطب الدين محمد المذكور، وكذلك استولى على الخابور. وفي هذه السنة توفي الملك المؤيد نجم الدين مسعود ابن السلطان صلاح الدين. وفيها توفي الإمام فخر الدين محمد بن عمر، خطيب الري، بن الحسين بن الحسن بن علي التيمي البكري الطبرستاني الأصل، الرازي المولد، الفقيه الشافعي، صاحب التصانيف المشهورة. قال ابن الأثير: وبلغني أن مولده سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وكان فخر الدين المذكور مع فضائله يعظ، وله فيه اليد الطولى، وكان يعظ باللسانين العربي والعجمي، ويلحقه في الوعظ الوجد والبكاء، وكان أوحد زمانه في المعقولات والأصول، واشتغل في أول زمانه على والده، ثم قصد الكمال السمعاني واشتغل عليه، ثم عاد إلى الري واشتغل على المجد الجيلي، وسافر إلى خوارزم، وما وراء النهر، وجرى له بكردكوه ما تقدم ذكره، وأخرج منها بسبب الكرامية، واتصل بشهاب الدين الغوري صاحب غزنة، وحصل له منه مال طائل، ثم عاد فخر الدين إلى خراسان واتصل بالسلطان خوارزم شاه محمد بن تكش، وحظي عنده، ولفخر الدين نظم حسن فمنه: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكانت العلماء يقصدونه من البلاد، وتشد إليه الرحال، وقصده ابن عنين الشاعر ومدحه بقصائد. وفيها في سلخ ذي الحجة، توفي مجد الدين بن السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم، ومولده سنة أربع وأربعين وخمسمائة، المعروف بابن الأثير، أخو عز الدين علي المؤرخ، مؤلف الكامل في التاريخ، وكان مجد الدين المذكور عالماً بالفقه والأصولين،

ذكر غير ذلك:

والنحو والحديث، واللغة، وله تصانيف مشهورة، وكان كاتباً مفلقاً. وفيها توفي المجد المطرز النحوي الخوارزمي، وكان إماماً في النحو، وله فيه تصانيف حسنة. ثم دخلت سنة سبع وستمائة فيها عاد السلطان الملك العادل من البلاد الشرقية إلى دمشق، وفيها قصدت الكرج خلاط، وحصروا الملك الأوحد بن الملك العادل بها، واتفق أن ملك الكرج شرب وسكر، فحسن له السكر أنه تقدم إلى خلاط في عشرين فارساً، فخرجت إليه المسلمون، فتقنطر وأخذ أسيراً وحمل إلى الملك الأوحد، فرد على الملك الأوحد عدة قلاع، وبذل إطلاق خمسة آلاف أسير ومائة ألف في ينار، وعقد الهدنة مع المسلمين ثلاثين سنة، وشرط أن يزوج ابنته بالملك الأوحد، فتسلم ذلك منه وأقام وتحالفا وأطلق. ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل في هذه السنة توفي نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب الموصل، في آخر رجب، وكان مرضه قد طال، وملك الموصل سبع عشرة سنة وأحد عشر شهراً. ولما اشتد مرضه انحدر إلى العين القيارة ليستحم بها، وعاد إلى الموصل في سبارة، فتوفي في الطريق ليلاً، وكان أسمر حسن الوجه، قد أسرع إليه الشيب، وكان شديد الهيبة على أصحابه، وكان عنده قلة صبر في أموره. واستقر في ملكه بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود، وكان عمر القاهر عشر سنين، وقام بتدبير مملكته بدر الدين لؤلؤ، وكان لؤلؤ مملوك والده أرسلان شاه وأستاذ داره، وهذا لؤلؤ هو الذي ملك الموصل على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وكان لأرسلان شاه ولد آخر أصغر من القاهر، اسمه عماد الدين زنكي، ملكه أبوه قلعتي العقر وشوش، وهما بالقرب من الموصل. ذكر غير ذلك: وفي هذه السنة وردت رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف، أن يشربوا له كأس الفتوة، ويلبسوا له سراويلها، وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق، ويجعلوه قدوتهم فيه. وفيها سار الملك العادل بعد وصوله إلى دمشق، ومقامه، إلى الديار المصرية، وأقام بدار الوزارة. وفيها توفي فخر الدين جهاركس، مقدم الصلاحية وكبيرهم. ذكر وفاة الملك الأوحد صاحب خلاط في هذه السنة توفي الملك الأوحد أيوب ابن الملك العادل، فسار أخوه الملك الأشرف وملك خلاط، واستقل بملكها، مضافاً إلى ما بيده من البلاد الشرقية، فعظم شأنه، ولقب شاهرمن. وفي هذه السنة قتل غياث الدين كيخسرو صاحب بلاد الروم، قتله ملك الأشكري،

وملك بعده ابنه كيكاؤوس بن كيخسرو بن قليج أرسلان حسبما تقدم ذكره، في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. ثم دخلت سنة ثمان وستمائة في هذه السنة قبض الملك المعظم عيسى بن الملك العادل، على عز الدين أسامة صاحب قلعتي كوكب وعجلون، بأمر أبيه الملك العادل، وحبسه في الكرك إلى أن مات بها، وحاصر القلعتين المذكورتين وتسلمهما من غلمان أسامة، وأمر الملك العادل بتخريب كوكب وتعفية أثرها، فخربت وبقيت خراباً، وأبقى عجلون، وانقرضت الصلاحية بهذا. وملك الملك المعظم بلاد جهاركس، وهي بانياس وما معها، لأخيه شقيقه الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن الملك العادل، وأعطى صرخد مملوكه عز الدين أيبك المعظمي. وفي هذه السنة عاد الملك العادل إلى الشام، وأعطى ولده الملك المظفر غازي الرها مع ميافارقين. وفيها أرسل الملك الظاهر، القاضي بهاء الدين بن شداد إلى الملك العادل، فاستعطف خاطره وخطب ابنته ضيفة خاتون، ابنة الملك العادل، فزوجها من الملك الظاهر، وزال ما كان بينهما من الأحن. وفيها أظهر الكيا جلال الدين حسن، صاحب الألموت، وهو من ولد بن الصباح، شعائر الإسلام، وكتب به إلى جميع قلاع الإسماعيلية بالعجم والشام، فأقيمت فيها شعائر الإسلام. وفيها توفي أبو حامد محمد بن يونس بن منعة، الفقيه الشافعي، بمدينة الموصل، وكان إماماً فاضلاً، وكان حسن الأخلاق. وفيها توفي القاضي السعيد، المعروف بابن سنا الملك، وهو هبة الله بن جعفر بن سنا الملك السعدي، الشاعر المشهور، المصري، أحد الفضلاء الرؤساء صاحب النظم الفائق، وكان كثير التنعم، وافر السعاده، محظوظاً من الدنيا، مدح توران شاه أخا السلطان صلاح الدين بقصيدة مطلعها: تقنعت لكن بالحبيب المعمم ... وفارقت لكن كل عيش مذمم فهجن بعض الفضلاء هذا المطلع وعابوه، ومن شعره أيضاً: لا الغصن يحكيك ولا الجوذر ... حسنك مما كثروا أكثر يا باسماً أهدى لنا ثغرة ... عقداً ولكن كله جوهر قال لي اللاحي أما تستمع ... فقلت للاحي أما تبصر ثم دخلت سنة تسع وستمائة في هذه السنة في المحرم، عقد الملك الظاهر على ضيفة خاتون بنت الملك العادل، وكان المهر خمسين ألف في ينار، وتوجهت من دمشق في المحرم إلى حلب، فاحتفل الملك الظاهر لملتقاها، وقدم لها أشياء كثيرة نفيسة. وفيها عمر الملك العادل قلعة الطور، وجمع لها الصناع من البلاد، والعسكر حتى تمت. وفي هذه السنة سار طغريل شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم، وحاصر ابن أخيه سلطان الروم كيكاؤوس بسيواس، فاستنجد كيكاؤوس بالأشرف بن الملك العادل، فخاف عمه طغريل

ورحل عنه، وكان لكيكاؤوس أخ اسمه كيقباذ، فلما جرى ما ذكرناه، سار كيقباذ واستولى على أنكورية من بلاد أخيه كيكاؤوس، فسار كيكاؤوس وحصره وفتح أنكورية وقبض على أخيه كيقباذ وحبسه، وقبض على أمرائه وحلق لحاهم ورؤوسهم، وأركب كل واحد منهم فرساً، وأركب قدامه وخلفه قحبتين، وبيد كل منهما معلاق تصفعه به، وبين يدي كل واحد منهم مناد ينادي: هذا جزاء من خان سلطانهم. ثم دخلت سنة عشر وستمائة في هذه السنة ظفر عز الدين كيكاؤوس كيخسرو صاحب بلاد الروم بعمه طغريل شاه، فأخذ بلاده وقتله، وذبح أكثر أمرائه وقصد قتل أخيه علاء الدين كيقباذ، فشفع فيه بعض أصحابه، فعفا عنه. وفيها في رمضان توفي بحلب فارس الدين ميمون القصري، وهو آخر من بقي من كبراء الأمراء الصلاحية، وهو منسوب إلى قصر الخلفاء بمصر، كان قد أخذه السلطان صلاح الدين من هناك. وفيها ولد للملك الظاهر من ضيفة خاتون بنت الملك العادل، ولده الملك العزيز غياث الدين محمد وفي هذه السنة قتل أيدغمش مملوك البهلوان، وكان قد غلب على المملكة، وهي همذان والجبال، قتله خشداش له، من البهلوانية، اسمه منكلي، وكان أيدغمش قد هرب منه والتجأ إلى الخليفة في سنة ثمان وستمائة، ورجع أيدغمش في هذه السنة إلى جهة همذان، فقتل واستقل منكلي بالملك. وفي هذه السنة في شعبان، توفي ملك المغرب محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف ابن عبد المؤمن، وكانت مدة مملكته نحو ست عشرة سنة، وكان أشقر أسيل الخد، دائم الإطراق، كثير الصمت، للثغة كانت في لسانه، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة خمس وتسعين وخمسمائة. ولما مات محمد الناصر المذكور، ملك بعده ولده يوسف، وتلقب بالمستنصر أمير المؤمنين بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، وكنيته أبو يعقوب. وفيها، وقيل في السنة التي قبلها، توفي علي بن محمد بن علي، المعروف بابن خروف النحوي الأندلسي الإشبيلي، شرح كتاب سيبويه شرحاً جيداً، وشرح الجمل للزجاجي. وفيها توفي عيسى بن عبد العزيز المجزولي، بمراكش، وكان إماماً في النحو، صنف مقدمته الجزولية، وسماها القانون، أتى فيها بالعجائب، واعتنى بها جماعة من الفضلاء، وأكثر النحاة يعترفون بقصور إفهامهم عن إدراك مراده منها، فإنها كلها رموز وإشارات، قدم الجزولي المذكور إلى ديار مصر، على ابن بري النحوي، ثم عاد إلى الغرب، والجزولي - بضم الجيم - منسوب إلى جزولة، وهي بطن من البربر، ويقال لها كزولة أيضاً، وشرح مقدمته في مجلد كبير أتى فيه بغرائب وفوائد. ثم دخلت سنة إحدى عشر وستمائة في هذه السنة توفي دلدرم بن ياررق، صاحب تل باشر، وولي تل باشر بعده ابنه فتح الدين. وفيها توفي الشيخ علي بن أبي بكر الهروي وله التربة المعروفة شمالي حلب، وكان عارفاً بأنواع الحيل والشعبذة والسيماوية، تقدم عند الملك الظاهر غازي صاحب حلب،

وله أشعار كثيرة، وتغرب في البلاد، ودار غالب المعمورة. وفيها أسرت التركمان ملك الأشكري، وهو قاتل غياث الدين كيخسرو، فحمل إلى ابنه كيكاؤوس بن كيخسرو، فأراد قتله، فبذل له في نفسه أموالاً عظيمة، وسلم إلى كيكاؤوس قلاعاً وبلاد لم يملكها المسلمون قط. وفيها عافى الملك العادل من الشام إلى مصر. وفيها توفي الدكز عبد السلام بن عبد الوهاب ابن عبد القادر الجبلي ببغداد، ولي عدة ولايات، وكان يتهم بمذهب الفلاسفة، اعتقل قبل موته، وأظهرت كتبه وفيها الكفريات، مثل مخاطبة زحل وغيره بالإلهية، وأحرقت، ثم شفع فيه أبوه، فأفرج عنه وعاد إلى أعماله. وفيها توفي في شوال عبد العزيز بن محمود بن الأخضر، وله سبع وثمانون سنة، وهو من فضلاء المحدثين. ثم دخلت سنة اثنتي عشر وستمائة. ذكر استيلاء الملك المسعود ابن الملك الكامل ابن الملك العادل على اليمن قد تقدم ذكر استيلاء سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، في سنة تسع وتسعين وخمسمائة على اليمن، وأنه ملأها ظلماً وجوراً، وأنه أطرح زوجته التي ملكته، فلما جاءت هذه السنة، بعث الملك الكامل ابن الملك العادل، ابنه الملك المسعود يوسف، المعروف بأقسيس، إلى اليمن، ومعه جيش، فاستولى الملك المسعود على اليمن، وظفر بسليمان المذكور صاحب اليمن، وبحث به معتقلاً إلى مصر، فأجرى له الملك الكامل ما يقوم به، ولم يزل سليمان المذكور مقيماً بالقاهرة إلى سنة سبع وأربعين وستمائة، فخرج إلى المنصورة غازياً، فقتل شهيداً. وفي هذه السن توفي الأمير علي بن الإمام الناصر، ووجد عليه الخليفة وجداً عظيماً، وأكثر الشعراء من المراثي فيه. وفي هذه السنة تجمعت العساكر من بغداد وغيرها، وقصدوا منكلي صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، فانهزم وفتل في ساوه، وتولى موضعه أغلمش، أحد المماليك البهلوانية أيضاً. وفيها في شعبان ملك خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش مدينة غزنة وأعمالها، وأخذها من يلدز مملوك شهاب الدين الغوري، فهرب يلدز إلى لهاوور من الهند، واستولى عليها، ثم سار يلدز عن لهاوور واستولى على بعض بلاد الهند الداخلة تحت حكم قطب الدين أيبك، خشداش يلدز المذكور، فجرى بينه وبين عسكر قطب الدين أيبك مصاف، فقتل فيه يلدز، وكان يلدز حسن السيرة في الرعية، كثير الإحسان إليهم. وفيها توفي الوجيه المبارك بن أبي الأزهر سعيد بن الدهان، النحوي لضرير، وكان فاضلاً قرأ على ابن الأنباري وغيره، وكان حنبلياً، فصار حنفياً، ثم صار شافعياً، فقال فيه أبو البركات يزيد التكريتي: ألا مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل

تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وفارقته إذ أعوزتك المآكل وما اخترت رأي الشافعي تديناً ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فافطن بما أنا قائل ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة: ذكر وفاة الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب ولما كانت صبيحة يوم السبت، وهو الخامس والعشرون من جمادى الأولى، من هذه السنة، ابتدأ بالملك الظاهر المذكور حمى حادة، ولما اشتد مرضه، أحضر القضاة والأكابر، وكتب نسخة يمين أن يكون الملك بعده لولده الصغير، الملك العزيز، ثم بعده لولده الكبير، الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن غازي، وبعدهما لابن عمهما الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين. وحلف الأمراء والأكابر على ذلك، وجعل الحكم في الأموال والقلاع إلى شهاب الدين ظغريل الخادم، وأعذق به جميع أمور الدولة، وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة، أقطع الملك الظافر خضر، المعروف بالمستمر، كفر سودا، وأخرج من حلب في ليلته بالتوكيل، وأخرج علم الدين قيصر، مملوك الملك الظاهر إلى حارم نائباً. وفي خامس عشر جمادى الآخرة اشتد مرض الملك الظاهر، ومنع الناس الدخول إليه، وتوفي في ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة، وكان مولده بمصر في نصف رمضان، سنة ثمان وستين وخمسمائة، فكان عمره أربعاً وأربعين سنة وشهوراً، وكانت مدة ملكه لحلب من حين وهبها له أبوه، إحدى وثلاثين سنة. وكان فيه بطش وإقدام على سفك الدماء، ثم أقصر عنه، وهو الذي جمع شمل البيت الناصري الصلاحي، وكان ذكياً فطناً، وترتب الملك العزيز في المملكة، ورجع الأمور كلها إلى شهاب الدين طغريل الخادم، فدبر الأمور، وأحسن السياسة، وكان عمر الملك العزيز لما قرر في المملكة سنتين وأشهراً، وعمر أخيه الملك الصالح نحو اثنتي عشر سنة. وفي هذه السنة توفي تاج الدين زيد بن الحسين بن زيد الكندي. وكان إماماً في النحو واللغة، وله الإسناد العالي في الحديث، وكان ذا فنون كثيرة في أنواع العلم، وهو بغدادي المولد والمنشأ، وانتقل وأقام بدمشق. ثم دخلت سنة أربع عشرة وستمائة والسلطان الملك العادل بالديار المصرية، وقد اجتمعت الفرنج من داخل البحر، ووصلوا إلى عكا في جمع عظيم، ولما بلغ الملك العادل ذلك خرج بعساكر مصر وسار حتى نزل على نابلس، فسارت الفرنج إليه، ولم يكن معه من العساكر ما يقدر به على مقاتلتهم، فاندفع قدامهم إلى عقبة أفيق، فأغاروا على بلاد المسلمين، ووصلت غارتهم إلى نوى من بلد السواد، ونهبوا ما بين بيسان ونابلس، وبثوا سراياهم فقتلوا وغنموا من

المسلمين ما يفوت الحصر، وعادوا إلى مرج عكا، وكان قوة هذا النهب ما بين منتصف رمضان وعيد الفطر من هذه السنة، وأقام الملك العادل بمرج الصفر، وسارت الفرنج وحصروا حصن الطور، وهو الذي بناه الملك العادل على ما تقدم ذكره، ثم رحلوا عنه وانقضت السنة، والفرنج بجموعهم في عكا. ذكر غير ذلك في هذه السنة سار خوارزم شاه علاء الدين حمد بن تكش إلى بلاد الجبل وغيرها فملكها، فمنها ساوه، وقزوين، وزنجان، وأبهر، وهمذان، وأصفهان، وقم، وقاشان. ودخل أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وآران في طاعة خوارزم شاه؛ وخطب له ببلاده. ثم عزم خوارزم شاه على المسير إلى بغداد للاستيلاء عليها، وقدم بعض العسكر بين يديه، وسار خوارزم شاه في إثرهم عن همذان يومين أو ثلاثة فسقط عليهم من الثلج مالم يسمع بمثله، فهلكت دوابهم، وخاف من حركة التتر على بلاده، فولى على البلاد التي استولى عليها وعاد إلى خراسان، وقطع خطبة الخليفة الإمام الناصر في بلاد خراسان في سنة خمس عشرة وستمائة، وكذلك قطعت خطبة الخليفة من بلاد ما وراء النهر، وبقيت خوارزم وسمرقند وهراة لم يقطع الخطبة منها، فإن أهل هذه البلاد كانوا لا يلتزمون بمثل هذا، بل يخطبون لمن يختارون ويفعلون نحو ذلك. ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة والملك العادل بمرج الصفر، وجموع الفرنج بمرج عكا، ثم ساروا منها إلى الديار المصرية ونزلوا على دمياط، وسار الملك الكامل ابن الملك العادل من مصر ونزل قبالتهم واستمر الحال كذلك أربعة أشهر، وأرسل الملك العادل العساكر التي عنده إلى عند ابنه الملك الكامل، فوصلت إليه أولاً فأولاً، ولما اجتمعت العساكر عند الملك الكامل، أخذ في قتال الفرنج، ودفعهم عن دمياط. ذكر وفاة الملك القاهر صاحب الموصل في هذه السنة توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، صاحب الموصل، وكانت وفاته لثلاث بقين من ربيع الأول، وكانت مدة ملكه سبع سنين وتسعة أشهر، وانقرض بموته ملك البيت الأتابكي، وخلف ولدين، أكبرهما اسمه أرسلان شاه، وكان عمره حينئذ نحو عشر سنين، فأوصى بالملك له، وأن يقوم بتدبير مملكته بدر الدين لؤلؤ، فنصب بدر الدين لؤلؤ في المملكة، وجعل. الخطبة والسكة باسمه، وقام لؤلؤ بتدبر المملكة أحسن قيام.

ذكر قصد كيكاؤوس بن كيخسرو صاحب بلاد الروم حلب ولما مات الملك الظاهر صاحب حلب وأجلس ابنه العزيز في المملكة، وكان طفلاً، طمع صاحب بلاد الروم كيكاؤوس في الاستيلاء على حلب، فاستدعى الملك الأفضل صاحب سميساط، واتفق معه كيكاؤوس أن يفتح حلب وبلادها، ويسلمها إلى الملك الأفضل، ثم يفتح البلاد الشرقية التي بيد الملك الأشرف ابن الملك العادل، ويتسلمها كيكاؤوس، وتحالفا على ذلك. وسار كيكاؤوس إلى جهة حلب معه الملك الأفضل، روصلا إلى رعبان، واستولى عليها كيكاؤوس، وسلمها إلى الملك الأفضل، فمالت إليه قلوب أهل البلاد لذلك، ثم سار إلى تل باشر وبها ابن دلدرم، ففتحها ولم يسلمها إلى الملك الأفضل، وأخذها كيكاؤوس لنفسه، فنفر خاطر الملك الأفضل وخواطر أهل البلاد بسبب ذلك، ووصل الملك الأشرف ابن الملك العادل إلى حلب لدفع كيكاؤوس عن البلاد، ووصل إليه بها الأمير مانع بن حديثه أمير العرب في جمع عظيم، وكان قد سار كيكاؤوس إلى منبج وتسلمها بنفسه أيضاً، وسار الملك الأشرف بالجموع التي معه ونزل وادي بزاعا واتقع بعض عسكره مع مقدمة عسكر كيكاؤوس، فانهزمت مقدمة عسكر كيكاؤوس، وأخذ من عسكر كيكاؤوس عدة أسرى فأرسلوا إلى حلب، ودقت البشائر لها، ولما بلغ ذلك كيكاؤوس وهو بمنبج ولى منهزماً مرعوباً، وتبعه الملك الأشرف يتخطف أطراف عسكره، ثم حاصر الأشرف تل باشر واسترجعها، كذلك استرجع رعبان وغيرها، وتوجه الملك الأفضل إلى سميساط ولم يتحرك بعدها في طلب ملك إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وستمائة على وما سنذكره إن شاء الله تعالى، وعاد الملك الأشرف إلى حلب وقد بلغه وفاة أبيه. ذكر وفاة السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب كان الملك العادل نازلاً بمرج الصفر، وقد أرسل العساكر إلى ولده الملك الكامل بالديار المصرية، ثم رحل للملك العادل من مرج الصفر إلى عالقين، وهي عند عقبة أقبق، فنزل بها ومرض واشتد مرضه، ثم توفي هناك إلى رحمة الله تعالى سابع جمادى الآخرة، من هذه السنة، أعني سنة خمس عشرة وستمائة، وكان مولده سنة أربعين وخمسمائة، وكان عمره خمساً وسبعين سنة، وكانت مدة ملكه لدمشق ثلاثاً وعشرين سنة، وكانت مدة ملكه لمصر نحو تسع عشرة سنة، وكان الملك العادل رحمه الله تعالى، حازماً متيقظاً، غزير العقل، سديد الآراء، ذا مكر وخديعة، وصبوراً حليماً لسمع ما يكره، ويغضي عنه، وأتته السعادة واتسع ملكه، وكثرت أولاده، ورأى فيهم ما يحب، ولم ير أحد من الملوك الذين اشتهرت أخبارهم، في أولاده، من الملك والظفر ما رآه الملك العادل في أولاده، ولقد أجاد شرف الدين بن عنين في قصيدته التي مدح بها الملك العادل التي مطلعها:

ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى ومنها: العادل الملك الذي أسماؤه ... في كل ناحية تشرف منبرا ما في أبي بكر لمعتقد الهدى ... شك يريب بأنه خير الورى بين الملوك الغابرين وبينه ... في الفضل ما بين الثريا والثرى نسخت خلائقه الحميدة ما أتى ... في الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا ومنها في وصف أولاده: لا تسمعن حديث ملك غيره ... يروى فكل الصيد في جوف الفرا وله الملوك بكل أرض منهم ... ملك يجر إلى الأعادي عسكرا من كل وضاح الجبين تخاله ... بدراً فإن شهد الوغى فغضنفرا وخلف الملك العادل ستة عشر ولداً ذكراً غير البنات، ولما توفي الملك العادل لم يكن عنده أحد من أولاده حاضراً، فحضر إليه ابنه الملك المعظم عيسى، وكان بنابلس بعد وفاته، وكتم موته وأخذه ميتاً في محفة وعاد به إلى دمشق، واحتوى الملك المعظم على جميع ما كان مع أبيه من الجواهر والسلاح والخيول وغير ذلك. ولما وصل دمشق، حلف جميع الناس له، وأظهر موت أبيه، وجلس للعزاء وكتب إلى الملوك من أخوته وغيرهم يخبرهم بموته، وكان في خزانة الملك العادل لما توفي سبع ألف دينار عيناً، ولما بلغ الملك الكامل موت أبيه وهو في قتال الفرنج، عظم عليه ذلك جداً، واختلفت العسكر عليه، فتأخر عن منزلته، وطمعت الفرنج ونهبت بعض أثقال المسلمين، وكان في العسكر عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي ابن أحمد المشطوب، وكان مقدماً عظيماً في الأكراد الهكارية، فعزم على خلع الملك الكامل من السلطنة، وحصل في العسكر اختلاف كثير، حتى عزم الملك الكامل على مفارقة البلاد واللحوق باليمن، وبلغ الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل ذلك، فرحل من الشام، ووصل إلى أخيه الملك الكامل، وأخرج عماد الدين بن المشطوب ونفاه من العسكر إلى الشام، فانتظم أمر السلطان الملك الكامل، وقوى مضايقة الفرنج لدمياط، وضعف أهلها بسبب ما ذكرناه من الفتنة التي حصلت في عسكر الملك الكامل، من ابن المشطوب. ذكر استيلاء عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي أقسنفر على بعض القلاع المضافة إلى مملكة الموصل قد تقدم في سنة سبع وستمائة أن أرسلان شاه عند وفاته، جعل مملكة الموصل لولده

القاهر مسعود، وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي المذكور قلعتي العقر وشوش، فلما مات أخوه القاهر، وأجلس ولده أرسلان شاه بن القاهر في المملكة، وكان به قروح، وأمراض، تحرك عمه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه وقصد العمادية واستولى عليها، ثم استولى على قلاع الهكارية والروران، فاستنجد بدر الدين لؤلؤ المستولي على ملك الموصل وتدبير أرسلان شاه، بالملك الأشرف ابن الملك العادل، ودخل في طاعته، فأنجده الملك الأشرف بعسكر، وساروا إلى زنكي بن أرسلان شاه فهزموه، وكان زنكي المذكور من وجا ببنت مظفر الدين كوكبوري صاحب أربل، وأم البنت ربيعة خاتون بنت أيوب، أخت السلطان الملك العادل، زوجة مظفر الدين، فكان مظفر الدين لا يترك ممكناً في نجدة صهره زنكي المذكور، ويبالغ في عداوة بدر الدين لؤلؤ لأجل صهره. وفي هذه السنة توفي علي بن نصر بن هرون النحوي الحلي، الملقب بالحجة، قرأ على ابن الخشاب وغيره. وفيها توفي محمد، وقيل أحمد بن محمد ابن محمد العميدي، الفقيه الحنفي، السمرقندي، الملقب ركن الدين، كان إماماً في فن الخلاف، خصوصاً الحسب، وله فيه طريقة مشهورة، وصنف الإرشاد، واعتنى بشرح طريقته جماعة، منهم القاضي شمس الدين أحمد بن خليل بن سعادة الشافعي الجويني، قاضي دمشق. وبدر الدين المراغي المعروف بالطويل، واشتغل على العميدي خلق كثير، وانتفعوا به، منهم نظام الدين أحمد بن محمود بن أحمد الحنفي المعروف بالحصيري، ونظام الدين الحصيري المذكور، قتله التتر بنيسابور عند أول خروجهم في سنة ست عشرة وستمائة، ولم يقع لنا هذه النسبة، أعني العميدي إلى ماذا. ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة والملك الأشرف مقيم بظاهر حلب يدبر أمر جندها وإقطاعاتها، والملك الكامل بمصر في مقابلة الفرنج، وهم محدقون محاصرون لثغر دمياط، وكتب الملك الكامل متواصلة إلى إخوته في طلب النجدة. ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل وفي هذه السنة توفي نور الدين أرسلان شاه ابن الملك القاهر مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، وكان لا يزال مريضاً، فأقام بدر الدين لؤلؤ في الملك بعده، أخاه ناصر الدين محمود ابن الملك القاهر، وكان عمره يومئذ نحو ثلاث سنين، وهو آخر من خطب له من بيت أتابك، بالسلطنة، وكان أبو القاهر آخر من كان له استقلال بالملك منهم، ثم إن هذا الصبي مات بعد مدة، واستقل بدر الدين لؤلؤ بالملك، وأتته السعادة، وطالت مدة ملكه إلى أن توفي بالموصل، بعد أخذ التتر بغداد، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر وفاه صاحب سنجار وقد تقدم ذكر ولايته في سنة أربع وتسعين وخمسمائة. وفي هذه السنة توفي قطب الدين محمد ابن عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب سنجار، فملك سنجار بعده ولده عماد الدين شاهنشاه بن محمد، وكان قطب الدين حسن السيرة في رعيته، وبقي عماد الدين شاهنشاه في الملك شهوراً، ثم وثب عليه أخوه محمود بن محمد فذبحه وملك سنجار، وهذا محمود هو آخر من ملك سنجار من البيت الأتابكي. ذكر تخريب القدس وفي هذه السنة أرسل الملك المعظم عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق الحجارين، والنقابين إلى القدس، فخرب سواره، وكانت قد حصنت إلى الغاية، فانتقل منه عالم عظيم، وكان سبب ذلك أن الملك المعظم لما رأى قوة الفرنج تغلبهم على دمياط خشي أن يقصدوا القدس، فلا يقدر على منعهم، فخربه لذلك. ذكر استيلاء الفرنج على دمياط ولم تزل الفرنج يضايقون دمياط حتى هجموها في هذه السنة عاشر رمضان، وقتلوا وأسروا من بها، وجعلوا الجامع كنيسة، واشتد طمع الفرنج في الديار المصرية، وحين أخذت دمياط ابتنى الملك الكامل مدينة وسماها المنصورة، عند مفترق البحرين الآخذ أحدهما إلى دمياط والآخر إلى أشمون طناخ، ونزل فيها بعساكره. ذكر ظهور التتر وفي هذه السنة كان ظهور التتر، وقتلهم في المسلمين، ولم ينكب المسلمون بأعظم مما نكبوا في هذه السنة، فمن ذلك ما كان من تمكن الفرنج بملكهم دمياط، وقتلهم أهلها، وأسرهم. ومنه المصيبة الكبرى، وهو ظهور التتر وتملكهم في المدة القريبة أكثر بلاد الإسلام، وسفك دمائهم، وسبي حريمهم وذراريهم، ولم تفجع المسلمون مذ ظهر دين الإسلام بمثل هذه الفجيعة. وفي هذه السنة خرجوا على علاء الدين محمد خوارزم شاه بن تكش، وعبروا نهر جيحون، ومعهم ملكهم جنكزخان، لعنه الله تعالى، فاستولوا على بخارى رابع ذي الحجة من هذه السنة بالأمان، وعصت عليهم القلعة فحاصروها وملكوها، وقتلوا كل من بها. ثم قتلوا أهل البلد عن آخرهم. من تاريخ ظهور التتر تأليف محمد بن أحمد بن علي المنشي النسوي كاتب إنشاء جلال الدين قال: إن مملكة الصين مملكة متسعة، دورها ستة أشهر، وقد انقسمت من قديم الزمان ستة أجزاء، كل جزء منها مسيرة شهر، يتولى أمره

خان، وهو الملك بلغتهم، نيابة عن خانهم الأعظم، وكان خانهم الكبير الذي عاصر خوارزم شاه محمد بن تكش، يقال له الطون خان، وقد توارث الخانية كابراً عن كابر، بل كافراً عن كافر، ومن عادة خانهم الأعظم الإقامة بطوغاج، وهي واسطة الصين، وكان من زمرتهم في عصر المذكور شخص يسمى دوشي خان، وهو أحد الخانات المتولي أحد الأجزاء الستة، وكان مزوجاً بعمة جنكزخان اللعين، وقبيلة جنكزخان اللعين هي المعروفة بقبيلة التمرجي، سكان البراري، ومشتاهم موضع يسمى أرغون، وهم المشهورون بين التتر بالشر والغدر، ولم تر ملوك الصين إرخاء عنانهم لطغيانهم، فاتفق أن دوشي خان زوج عمة جنكزخان مات، فحضر جنكزخان إلى عمته زائراً ومعزياً، وكان الخانان المجاوران لعمل دوشي خان المذكور، يقال لأحدهما كشلوخان، وللآخر فلان خان، فكانا يليان ما يتاخم عمل دوشي خان المذكور المتوفي من الجهتين، فأرسلت امرأة دوشي خان إلى كشليخان، والخان الآخر، تنعي إليهما زوجهما دوشي خان، وأنه لم يخلف ولداً، وأنه كان حسن الجوار لهما، وأن ابن أخيها جنكزخان إن أقيم مقامه يحذو حذو المتوفي في معاضدتهما، فأجابها الخانان المذكوران إلى ذلك، وتولى جنكزخان ما كان لدوشي خان المتوفي من الأمور، بمعاضدة الخانين المذكورين، فلما أنهي الأمر إلى الخان الأعظم، الطون خان، أنكر تولية جنكزخان واستحقره، وأنكر على الخانين اللذين فعلا ذلك، فلما جرى ذلك خلعوا طاعة الطون خان، وانضم إليهم كل من هو من عشائرهم، ثم اقتتلوا مع الطون خان، فولى منهزماً، وتمكنوا من بلاده، ثم أرسل الطون خان وطلب منهم الصلح، وأن يبقوه على بعض البلاد، فأجابوه إلى ذلك وبقي جنكزخان والخانان الآخران مشتركين في الأمر، فاتفق موت الخان الواحد، واستقل بالأمر جنكزخان وكشلوخان، ثم مات كشلوخان، وقام ابنه ولقب بكشلوخان أيضاً، مقامه، فاستضعف جنكزخان جانب كشلوخان بن كشلوخان لصغره وحداثة سنه، وأخل بالقواعد التي كانت مقررة بينه وبين أبيه، فانفرد كشلوخان عن جنكزخان وفارقه لذلك، ووقع بينهما الحرب، فجرد جنكزخان جيشاً مع ولده دوشي خان بن جنكزخان، فسار دوشي خان واقتتل مع كشلوخان، فانتصر دوشي خان وانهزم كشلوخان وتبعه دوشي خان وقتله، وعاد إلى جنكزخان برأسه، فانفرد جنكزخان بالمملكة. ثم إن جنكزخان راسل خوارزم شاه محمد بن تكش في الصلح، فلم ينتظم، فجمع جنكزخان عساكره والتقى مع خوارزم شاه محمد، فانهزم خوارزم شاه فاستولى جنكزخان على بلاد ما وراء النهر، ثم تبع خوارزم شاه محمداً، وهو هارب بين يديه، حتى دخل بحر طبرستان، ثم استولى جنكزخان على البلاد، ثم كان من خوارزم شاه ومن جنكزخان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر توجه الملك المظفر محمود ابن صاحب حماة إلى مصر وموت والدته في هذه السنة حلف الملك المنصور، صاحب حماة، الناس، لولده الملك المظفر محمود، وجعله ولي عهده، وجرد معه عسكراً، والطواشي مرشد المنصوري، نجدة إلى الملك الكامل بديار مصر، فسار إليه، ولما وصل إلى الملك الكامل أكرمه وأنزله في ميمنة عسكره، وهي منزلة أبيه وجده في الأيام الناصرية الصلاحية. وبعد توجه الملك المظفر ماتت والدته ملكة خاتون، بنت الملك العادل، قال القاضي جمال الدين، مؤلف مفرج الكروب: وحضرت العزاء وعمري اثنتا عشرة سنة، ورأيت الملك المنصور وهو لابس الحداد على زوجته المذكورة، وهو ثوب أزرق وعمامة زرقاء، وأنشدته الشعراء المراثي، فمن ذلك قصيدة قالها حسام الدين خشترين، وهو جندي كردي، مطلعها. الطرف في لجة، والقلب في سعر ... له دخان زفير طار بالشرر ومنها في لبس الملك المنصور الحداد عليها: ما كنت أعلم أن الشمس قد غربت ... حتى رأيت الدجى ملقى على القمر لو كان من مات يفدى قبلها لفدى ... أم المظفر آلاف من البشر ذكر وفاة كيكاؤوس وملك أخيه كيقباذ في هذه السنة توفي الملك الغالب عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود ابن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة سبع وستمائة، وكان قد تعلق به مرض السل، واشتد مرضه ومات. فملك بعده أخوه كيقباذ بن كيخسرو، وكان كيقباذ محبوساً، قد حبسه أخوه كيكاؤوس، فأخرجه لجند وملكوه. ذكر غير ذلك وفي هذه السنة توفي أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري، الضرير النحوي الحاسب اللغوي، وكان حنبلياً، صحب ابن الخشاب النحوي وغيره. وفيها توفي أبو الحسن علي بن القاسم بن علي بن الحسن الدمشقي، الحافظ بن الحافظ بن الحافظ، المعروف بابن عساكر، وكان قد قصد خراسان وسمع بها الحديث، فأكثر وعاد إلى بغداد، وكان قد وقع على القفل الذي هو فيه، في الطريق، حرامية، وجرحوا ابن عساكر المذكور، ووصل على تلك الحال إلى بغداد، وبقي بها حتى توفي في هذه السنة في جمادى الأولى، رحمه الله. ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة والفرنج متملكون على دمياط،

والسلطان الملك الكامل مستقر في المنصورة مرابط للجهاد، والملك الأشرف في حران. وكان الملك الأشرف قد أقطع عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، رأس عين، فخرج على الملك الأشرف، وجمع ابن المشطوب المذكور جمعاً، وحسن لصاحب سنجار محمود بن قطب الدين، الخروج عن طاعة الأشرف أيضاً، فخرج بدر الدين لؤلؤ من الموصل، وحصر ابن المشطوب بتل أعفر، وأخذه بالأمان. ثم قبض عليه وأعلم الملك الأشرف بذلك، فسر به غاية السرور، واستمر عماد الدين أحمد بن سيف الدين بن المشطوب في الحبس. ثم سار الملك الأشرف من حران واستولى على في نيسر، وقصد سنجار، فأتته رسل صاحبها محمود بن قطب الدين، يسأل أن يعطى الرقة عوض سنجار، ليسلم سنجار إلى الملك الأشرف، فأجاب الملك الأشرف إلى ذلك وتسلم سنجار في مستهل جمادى الأولى، وسلم إليه الرقة. وهذا كان من سعادة الملك الأشرف، فإن أباه الملك العادل نازل سنجار في جموع عظيمة، وطال عليها مقامه، فلم يملكها، وملكها ابنه الملك الأشرف بأهون سعي، وبعد أن فرغ الملك الأشرفي من سنجار، سار إلى الموصل ووصل إليها في تاسع عشر جمادى الأولى، وكان يوم وصوله إليها يوماً مشهوداً. وكتب إلى مظفر الدين صاحب إربل يأمره أن يعيد صهره عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي، على بدر الدين لؤلؤ القلاع التي استولى عليها، فأعادها جميعها، وترك في يده منها العمادية، واستقر الصلح بين الملك الأشرف وبين مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل، وعماد الدين زنكي بن أرسلان شاه صاحب العقر، وشوش والعمادية. وكذلك استقر الصلح بينهم وبين صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ. ولما استقر ذلك رحل الملك الأشرف عن الموصل ثاني شهر رمضان من هذه السنة، وعاد إلى سنجار، وسلم بدر الدين لؤلؤ قلعة تلعفر إلى الملك الأشرف، ونقل الملك الأشرف ابن المشطوب من حبس الموصل وحطه مقيداً في جب بمدينة حران حتى مات، سنة تسع عشرة وستمائة، ولقي بغيه وخروجه مرة بعد أخرى. ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حماة وفي هذه السنة توفي الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، بقلعة حماة، في ذي القعدة، وكانت مدة مرضه إحدى وعشرين يوماً، بحمى حادة وورم دماغه. وكان شجاعاً عالماً يحب العلماء، ورد إليه منهم جماعة كثيرة، مثل الشيخ سيف الدين علي الآمدي، وكان في خدمة الملك المنصور قريب مائتي متعمم من النحاة والفقهاء والمشتغلين بغير ذلك، وصنف الملك المنصور عدة مصنفات، مثل: المضمار في التاريخ، وطبقات الشعراء. وكان معتنياً بعمارة بلده، والنظر في مصالحه،

وهو الذي بنى الجسر الذي هو بظاهر حماة خارج باب حمص، واستقر له بعد وفاة والده من البلاد: حماة والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم، ولما فتح بارين وكانت بيد إبراهيم بن المقدم، ألزمه عمه السلطان الملك العادل أن يردها عليه، فأجاب إلى تسليم منبج وقلعة نجم عوضاً عنها، وهما خير من بارين بكثير، واختار ذلك لقرب بارين من بلده، وجرت له حروب مع الفرنج، وانتصر فيها، وكان ينظم الشعر. ذكر استيلاء الملك الناصر ابن الملك المنصور على حماة ولما توفي الملك المنصور، كان ولده الملك المظفر المعهود إليه بالسلطنة، عند خاله الملك الكامل لديار مصر، في مقابلة الفرنج، وكان ولده الآخر الملك الناصر صلاح الدين قليج أرسلان، عند خاله الآخر الملك المعظم صاحب في دمشق، وهو في الساحل في الجهاد، وقد فتح قيسارية وهدمها، وسار إلى عثليث ونازلها، وكان الوزير بحماة زين الدينا بن فريج، فاتفق هو والكبراء على استدعاء الملك الناصر، لعلمهم بلين عريكته، وشدة بأس الملك المظفر، فأرسلوا إلى الملك الناصر وهو مع الملك المعظم كما ذكرنا، فمنعه الملك المعظم من التوجه إلا بتقرير مال عليه، يحمله إلى الملك المعظم في كل سنة، قيل أن مبلغه أربعمائة ألف درهم، فلما جاب الملك الناصر إلى ذلك، وحلف عليه، أطلقه الملك المعظم، فقدم الملك الناصر إلى حماة واجتمع بالوزير زين الدين بن فريج، والجماعة الذين كاتبوه، فاستحلفوه على ما أرادوا وأصعدوه إلى القلعة، ثم ركب من القلعة بالسناجق السلطانية، وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة، لأن مولده سنة ستمائة. ولما استقر الملك الناصر في ملك حماة، وبلغ أخاه الملك المظفر ذلك، استأذن الملك الكامل في المضي إلى حماة، ظناً منه أنه إذا وصل إليها يسلمونها إليه بحكم الأيمان التي كانت له في أعناقهم، فأعطاه الملك الكامل الدستور، وسار الملك المظفر حتى وصل إلى الغور، فوجد خاله الملك المعظم صاحب دمشق هناك، فأخبره أن أخاه الملك الناصر قد ملك حماة، ويخشى عليه أنه إن وصل إليه يعتقله، فسار الملك المظفر إلى دمشق وأقام بداره المعروفة بالزنجيلي، وكتب الملك المعظم والملك المظفر إلى أكابر حماة في تسليمها إلى الملك المظفر، فلم يحصل منهم إجابة، فعاد الملك المظفر إلى مصر وأقام في خدمة الملك الكامل، وأقطعه إقطاعاً بمصر إلى أن كان ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر استيلاء الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل على خلاط وميافارقين كان قد استقر بيد الملك المظفر المذكور، الرها وسروج، وكانت ميافارقين وخلاط بيد

الملك الأشرف، ولم يكن للملك الأشرف ولد، فجعل أخاه الملك المظفر غازي ولي عهده، وأعطاه ميافارقين وخلاط وبلادها، وهي إقليم عظيم يضاهي ديار مصر، وأخذ الملك الأشرف منه الرها وسروج. وفي هذه السنة توفي بالموصل الشيخ صدر الدين محمد بن عمر بن حمويه، شيخ الشيوخ بمصر والشام، وكان فقيهاً فاضلاً من بيت كبير بخراسان، وخلف أربعة بنين عرفوا بأولاد الشيخ، تقدموا عند السلطان الملك الكامل، وسنذكر بعض أخبارهم في موضعها إن شاء الله تعالى، وكان الشيخ صدر الدين المذكور، قد توجه رسولاً إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، فمات هناك. ذكر مسير التتر إلى خوارزم شاه وانهزامه وموته لما ملك التتر سمرقند، أرسل جنكزخان، لعنه الله، عشرين ألف فارس في أثر خوارزم شاه محمد بن تكش، وهذه الطائفة يسميها التتر المغربة، لأنها سارت نحو غرب خراسان، فوصلوا إلى موضع يقال له بنح آو وعبروا هناك نهر جيحون وصاروا مع خوارزم شاه في بر واحد، فلم يشعر خوارزم شاه وعسكره إلا والتتر معه، فتفرق عسكره وذهبوا أيدي سبا، ورحل خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش لا يلوى على شيء في نفر من خواصه، ووصل إلى نيسابور والتتر في إثره، فلما قربوا منه رحل خوارزم شاه إلى مازندران. والتتر في إثره لا يلتفتون إلى شيء من البلاد، ولا إلى غير ذلك، بل قصدهم إدراك خوارزم شاه. وسار من مازندران إلى مرسى من بحر طبرستان تعرف باسكون، وله هناك قلعة في البحر، فعبر هو وأصحابه إليها، فوقف التتر على ساحل البحر وأيسوا من اللحاق بخوارزم شاه. ولما استقر خوارزم شاه بهذه القلعة، توفي فيها، وهو علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش ابن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوشتكين غرشه، وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهوراً، واتسع ملكه وغم محله، ملك من حد العراق إلى تركستان، وملك بلاد غزنة وبعض الهند، وملك سجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس، وكان فاضلاً عالماً بالفقه والأصول وغيرهما، وكان صبوراً على التعب وإدمان السير، وسنذكر شيئاً من أخباره عند ذكر مقتل ولده جلال الدين. ولما أيس التتر من إدراك خوارزم شاه عادوا إلى مازندران، ففتحوها وقتلوا أهلها، ثم ساروا إلى الري وهمذان ففعلوا كذلك من الفتك والسبي، ثم ملكوا مراغة، في صفر سنة ثمان عشرة وستمائة، ثم ساروا إلى حران واستولوا عليها، ونازلوا خوارزم، وقاتلهم أهلها مدة أشد قتال، ثم فتحوها، وكان لها سد في نهر جيحون ففتحوه، وركب خوارزم الماء فغرقها، وفعلوا في هذه البلاد جميعها من قتل أهلها وسبي ذراريهم وقتل العلماء والصلحاء والزهاد والعباد، وتخريب الجوامع، وتحريق

المصاحف، ما لم يسمع بمثله في تاريخ قبل الإسلام، ولا بعده، فإن واقعة بخت نصر مع بني إسرائيل لا تنسب إلى بعض ما فعله هؤلاء، فإن كل واحدة من المدن التي أخربوها أعظم من القدس بكثير، وكل أمة قتلوهم من المسلمين أضعاف بني إسرائيل الذين قتلهم بخت نصر. ولما فرغ التتر من خراسان عادوا إلى ملكهم، فجهز جيشاً كثيفاً إلى غزنة، وبها جلال الدين منكبرني بن علاء الدين محمد خوارزم شاه المذكور مالكاً لها، وقد اجتمع إليه جمع كثير من عسكر أبيه، قيل كانوا ستين ألف مقاتل، وكان الجيش الذي سار إليهم من التتر اثني عشر ألفاً، فالتقوا مع جلال الذين واقتتلوا قتالاً شديداً، وأنزل الله نصره على المسلمين، وانهزمت التتر، وتبعهم المسلمون يقتلونهم كيف شاؤوا. ثم أرسل جنكزخان لعنه الله عسكراً أكثر من أول مع بعض أولاده، ووصلوا إلى كابل، وتصافف معهم المسلمون، فانهزم التتر ثانياً وقتل المسلمون فيهم وغنموا شيئاً كثيراً، وكان في عسكر جلال الدين أمير كبير مقدام، هو الذي كسر التتر على الحقيقة، يقال له بغراق، وقع بينه وبين أمير كبير يقال له ملكخان، وهو صاحب هراة، وله نسب إلى خوارزم شاه، فتنة بسبب المكسب، قتل فيها أخو بغراق، فغضب بغراق وفارق جلال الدين وسار إلى الهند، وتبعه ثلاثون ألف فارس، ولحقه جلال الدين منكبرني واستعطفه، فلم يرجع، فضعف عسكر جلال الدين بسبب ذلك، ثم وصل جنكزخان اللعين بنفسه في جيوشه، وقد ضعف جلال الدين بما نقص من جيوشه بسبب بغراق، فلم يكن له بجنكزخان قدرة، فترك جلال الدين البلاد وسار إلى الهند، وتبعه جنكزخان حتى أدركه على ماء عظيم، وهو نهرالسند، ولم يلحق جلال الدين ومن معه أن يعبروا النهر، فاضطروا إلى القتال، وجرى بينهم وبين جنكزخان قتال عظيم لم يسمع بمثله، وصبر الفريقان، ثم تأخر كل منهما عن صاحبه، فعبر جلال الدين ذلك النهر إلى جهة الهند، وعاد جنكزخان فاستولى على غزنة وقتلوا أهلها ونهبوا أموالهم. وكان قد سار من التتر فرقة عظيمة إلى جهة القفجاق واقتتلوا معهم، فهزمهم التتر واستولوا على مدينة القفجاق العظمى، وتسمى سوادق، وكذلك فعلوا بقوم يقال لهم اللكزي، بلادهم قرب دربند شروان، ثم سار التتر إلى الروس، وانضم إلى الروس القفجاق، وجرى بينهم وبين التتر قتال عظيم انتصر فيه التتر عليهم، وشردوهم قتلاً وهرباً في البلاد. وفيها في شوال توفي رضي الدين المؤيد بن محمد بن علي الطوسي الأصل النيسابوري الدار، المحدث، وكان أعلى المتأخرين إسناداً، سمع كتاب مسلم من الفقيه أبي عبد الله محمد بن الفضل القراوي، وكان القراوي فاضلاً قرأ الأصول على إمام الحرمين، وسمع القراوي المذكور صحيح مسلم على عبد الغافر الفارسي، وكان عبد الغافر إماماً في الحديث، صنف شرح مسلم وغيره، وتوفي محمد بن الفضل

القراوي سنة ثلاثين وخمسمائة، وتوفي عبد الغافر في سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وكانت ولادة رضي الدين المؤيد المذكور في سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ظناً. ثم دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة: ذكر عود دمياط إلى المسلمين وفي هذه السنة قوي طمع الفرنج المتملكين دمياط في ملك الديار المصرية، وتقدموا عن دمياط إلى جهة مصر، ووصلوا إلى المنصورة، واشتد القتال بين الفريقين براً وبحراً، وكتب السلطان الملك الكامل متواترة إلى إخوته وأهل بيته يستحثهم على إنجاده، فسار الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل صاحب دمشق إلى أخيه الملك الأشرف، وهو ببلاده الشرقية، واستنجده وطلب منه المسير إلى أخيهما الملك الكامل، فجمع الملك الأشرف عساكره واستصحب عسكر حلب، وكذلك استصحب معه الملك الناصر قليج أرسلان ابن الملك المنصور صاحب حماة، وكان الملك الناصر خائفاً من السلطان، الملك الكامل، أن ينتزع حماة منه ويسلمها إلى أخيه الملك المظفر، فحلف الملك الأشرف للملك الناصر صاحب حماة أنه ما يمكن أخاه السلطان الملك الكامل من التعرض إليه، فسار معه بعسكر حماة، وكذلك سار صحبة الملك الأشرف كل من صاحب بعلبك الملك الأمجد، بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب، وصاحب حمص الملك المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي، وسار الملك المعظم عيسى بعسكر دمشق، ووصلوا إلى الملك الكامل وهو في قتال الفرنج على المنصورة، فركب والتقى أخويه ومن في صحبتهما من الملوك، وأكرمهم، وقويت نفوس المسلمين، وضعفت نفس الفرنج بما شاهدوه من كثرة عساكر الإسلام وتحملهم، واشتد القتال بين الفريقين، ورسل الملك كامل وأخويه مترددة إلى الفرنج في الصلح، وبذل المسلمون لهم تسليم القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة، وجميع ما فتحه السلطان صلاح الدين من الساحل، مما عدا الكرك والشوبك، على أن يجيبوا إلى الصلح ويسلموا دمياط إلى المسلمين، فلم يرض الفرنج بذلك، وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار، عوضاً عن تخريب أسوار القدس، فإن الملك المعظم عيسى خربها كما تقدم ذكره، وقالوا لا بد من تسليم الكرك والشوبك. وبينما الأمر متردد في الصلح، والفرنج ممتنعون من الصلح، إذ عبر جماعة من عسكر المسلمين في بحر المحلة، إلى الأرض التي عليها الفرنج من بر دمياط، ففجروا فجرة عظيمة من النيل، وكان ذلك في قوة زيادته، والفرنج لا خبرة لهم بأمر النيل، فركب الماء تلك الأرض وصار حائلاً بين الفرنج وبين دمياط، وانقطع عنهم الميرة والمدد، فهلكوا جوعاً، وبعثوا يطلبون الأمان، على أن ينزلوا عن جميع ما بذله المسلمون لهم ويسلموا دمياط ويعقدوا مدة للصلح، وكان فيهم

عدة ملوك كبار، نحو عشرين ملكاً، فاختلفت الآراء بين يدي السلطان الملك الكامل في أمرهم، فبعضهم قال: لا نعطيهم أماناً، ونأخذهم ونتسلم بهم ما بقي بأيديهم من الساحل، مثل عكا وغيرها، ثم اتفقت آراؤهم على إجابتهم إلى الأمان، لطول مدة البيكار، وتضجر العساكر لأنهم كان لهم ثلاث سنين وشهور في القتال معهم، فأجابهم الملك الكامل إلى ذلك، وطلب الفرنج رهينة من الملك الكامل، فبعث ابنه الملك الصالح أيوب، وعمره يومئذ خمس عشرة سنة إلى الفرنج رهينة، وحضر من الفرنج رهينة على ذلك ملك عكا، ونائب البابا صاحب رومية الكبرى، وكندريس، وغيرهم من الملوك، وكان ذلك سابع رجب من هذه السنة. واستحضر الملك الكامل ملوك الفرنج المذكورين، وجلس لهم مجلساً عظيماً، ووقف بين يديه الملوك من إخوته وأهل بيته جميعهم، وسلمت دمياط إلى المسلمين تاسع عشر رجب من هذه السنة، وقد حصنها الفرنج إلى غاية ما يكون، وولاها السلطان الملك الكامل، الأمير شجاع الدين جلدك التقوي، وهو من مماليك الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وهنت الشعراء الملك الكامل بهذا الفتح العظيم، ثم سار السلطان الملك الكامل ودخل دمياط ومعه إخوته وأهل بيته، وكان يوماً مشهوداً، ثم توجه إلى القاهرة وأذن للملوك في الرجوع إلى بلادهم، فتوجه الملك الأشرف إلى الشرق، وانتزع الرقة من محمود، وقيل اسمه عمر بن قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر، ولقي بغيه على أخيه، فإنا ذكرنا كيف وثب على أخيه وقتله وأخذ سنجار، ثم أقام الملك الأشرف بالرقة، وورد إليه، الملك الناصر صاحب حماة فأقام عنده مدة، ثم عاد إلى بلده. ذكر وفاة صاحب آمد وفي هذه السنة توفي الملك الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب آمد وحصن كيفا بالقولنج، وقام في الملك بعده ولده الملك المسعود، وهو الذي انتزع منه الملك الكامل آمد، وكان الملك الصالح المذكور قبيح السيرة، وقد أورد ابن الأثير وفاته في سنة تسع عشرة. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة في جمادى الآخرة، خنق قتادة بن إرديس العلوي الحسني أمير مكة وعمره نحو تسعين سنة، وكانت ولايته قد اتسعت إلى نواحي اليمن، وكان حسن السيرة في مبتدأ أمره، ثم أساء السيرة وجدد المظالم والمكوس، وصورة ما جرى له أن قتادة كان مريضاً، فأرسل عسكراً مع أخيه ومع ابنه الحسن بن قتادة للاستيلاء على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذها من صاحبها، فوثب الحسن بن قتادة في أثناء الطريق

على عمه فقتله، وعاد إلى أبيه قتادة بمكة فخنقه، وكان له أخ نائباً، بقلعة ينبع، عن أبيه، فأرسل إليه الحسن فحضر إلى مكة فقتله أيضاً، وارتكب الحسن أمراً عظيماً، قتل عمه وأباه وأخاه في أيام يسيرة، واستقر في ملك مكة، وقيل إن قتادة كان يقول الشعر، وطولب أن يحضر إلى أمير الحاج العراقي فامتنع، وعوتب من بغداد، فأجاب بأبيات شعر منها: ولي كف ضرغام أصول ببطشها ... وأشري بها بين الورى وأبيع تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وفي بطنها للمجد بين ربيع أأجعلها تحت الرحى ثم أبتغي ... خلاصاً لها، إني إذاً لرقيع وما أنا إلا المسك في كل بلدة ... يضوع، وأما عندكم فيضيع وفيها توفي جلال الدين الحسن صاحب الألموت ومقدم الإسماعيلية، وولي بعده ابنه علاء الدين محمد. ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة وفي هذه السنة استقل بدر الدين لؤلؤ بملك الموصل، وتوفي الطفل الذي كان قد نصبه في المملكة، وهو ناصر الدين محمود ابن الملك القاهر مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، وسمى لؤلؤ نفسه الملك الرحيم، وكان قد اعتضد بالملك الأشرف ابن الملك العادل، فدافع عنه ونصره، وقلع لؤلؤ البيت الأتابكي بالكلية، واستمر مالكاً للموصل نيفاً وأربعين سنة، سوى ما تقدم له من الاستيلاء والتحكم في أيام أستاذه نور الدين أرسلان شاه، وابنه الملك القاهر مسعود. وفي هذه السنة سار الملك الأشرف إلى خدمة أخيه الملك الكامل، وأقام عنده بمصر منزهاً إلى أن خرجت هذه السنة. وفي هذه السنة فوض الأتابك طغريل الخادم مدير مملكة حلب، إلى الملك الصالح أحمد بن الظاهر آمر الشغر وبكاس، فسار الملك الصالح من حلب واستولى عليهما، وأضاف إليه الروج ومعرة ومصرين. وفي هذه السنة قصد الملك المعظم عيسى صاحب دمشق حماة، لأن الملك الناصر صاحب حماة كان قد التزم له بمال يحمله إليه إذا ملك حماة، فلم يف له، فقصد الملك المعظم حماة ونزل بقيرين، وغلقت أبواب حماة، فقصدها الملك المعظم وجرى بينهم قتال قليل، ثم ارتحل الملك المعظم إلى سلمية فاستولى على حواصلها، وولي عليها، ثم توجه إلى المعرة فاستولى عليها وأقام فيها والياً من جهته، وقرر أمورها، ثم عاد إلى سلمية فأقام بها حتى خرجت هذه السنة على قصد منازلة حماة. وفي هذه السنة حج من اليمن الملك المسعود يوسف، الملقب أطسز، وهو اسم تركي، والعامة تسميه أقسيس، وكان قد استولى على اليمن سنة اثنتي عشرة وستمائة، وقبض على سليمان شاه بن شاهنشاه بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وحج في هذه السنة، فلما وقف الملك المسعود في هذه السنة بعرفة، وتقدمت

أعلام الخليفة الإمام الناصر لترفع على الجبل، تقدم الملك المسعود بعساكره ومنع من ذلك، وأمر بتقديم أعلام أبيه السلطان الملك الكامل على أعلام الخليفة، فلم يقدر أصحاب الخليفة على منعه من ذلك، ثم عاد الملك المسعود إلى اليمن، وبلغ ذلك الخليفة، فعظم عليه، وأرسل يشكو إلى الملك الكامل، فاعتذر عن ذلك فقبل عذره، وأقام الملك المسعود في اليمن مدة يسيرة ثم عاد إلى مكة ليستولي عليها، فقاتله الحسن بن قتادة، فانتصر الملك المسعود وانهزم الحسن بن قتادة، واستقرت مكة في ملك الملك المسعود، وولي عليها، وذلك في ربيع الأول من سنة عشرين وستمائة، ثم عاد إلى اليمن. وفيها توفي الشيخ يونس بن يوسف بن مساعد شيخ الفقراء المعروفة باليونسية، وكان رجلاً صالحاً وله كرامات، وكانت وفاته بقرية القنبة من أعمال دارا، وقد ناهز تسعين سنة، وقبره مشهور هناك. ثم دخلت سنة عشرين وستمائة والأشرف بديار مصر عند أخيه الملك الكامل، وأخوهما الملك المعظم بسلمية مستول عليها، وعلى المعرة، عازم على حصار حماة، وبلغ الملك الأشرف ما فعله أخوه المعظم بصاحب حماة، فعظم عليه ذلك، واتفق مع أخيه الكامل على الإنكار على الملك المعظم، وترحيله، فأرسل إليه الملك الكامل ناصح الدين الفارسي، فوصل إلى الملك المعظم وهو بسلمية وقال له: السلطان يأمرك بالرحيل فقال: السمع والطاعة، وكانت أطماعه قد قويت على الاستيلاء على حماة، فرحل مغضباً على أخويه الكامل والأشرف، ورجعت المعرة وسلمية للناصر، وكان الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، مقيماً عند الملك الكامل بالديار المصرية كما تقدم ذكره، وكان الملك الكامل يؤثر تمليكه حماة، لكن الملك الأشرف غير مجيب إلى ذلك لانتماء الناصر الملك صاحب حماه إليه، وجرى بين الكامل والأشرف في ذلك مراجعات كثيرة، آخرها أنهما اتفقا على نزع سلمية من يد الناصر قليج أرسلان وتسليمها إلى أخيه الملك المظفر، فتسلمها الملك المظفر وأرسل إليها وهو بمصر نائباً من جهته، حسام الدين أبا علي بن محمد بن علي الهذباني، واستقر بيد الملك الناصر حماة والمعرة وبعرين،، ثم سار الأشرف من مصر واصطحب معه خلعة وسناجق سلطانية من أخيه الملك الكامل، للملك العزيز صاحب حلب، وعمره يومئذ عشر سنين، ووصل الأشرف بذلك إلى حلب، وأركب الملك العزيز في دست السلطنة، وفي هذه السنة لما وصل الملك الأشرف بالخلعة المذكورة إلى حلب، اتفق مع الملك الأشرف كبراء الدولة الحلبية على تخريب قلعة اللاذقية، فأرسلوا عسكراً وهدموها إلى الأرض. ذكر أحوال غياث الدين أخي جلال الدين ابني خوارزم شاه محمد كان لجلال الدين منكبرني أخ يقال له غياث الدين تيزشاه، وكان قد ملك غياث الدين

المذكور كرمان، فلما توجه جلال الدين منكبرني إلى الهند كما تقدم ذكره في سنة سبع عشرة، تغلب غياث الدين على الري وأصفهان وهمذان وغير ذلك من عراق العجم، وهي البلاد المعروفة ببلاد الجبل، فخرج على غياث الدين خاله يعيان طابسي، وكان أكبر أمرائه وأقربهم إليه فاقتتل مع غياث الدين يعيان طابسي ومن معه، وأقام غياث الدين في بلاده مؤيداً منصور. ذكر حادثة غريبة كان أهل مملكة الكرج قد مات ملكهم، ولم يبق من بيت الملك غير امرأة، فملكوها، وطلبوا لها رجلاً يتزوجها ويقوم بالملك، ويكون من أهل بيت المملكة، فلم يجدوا فيهم أحداً يصلح لذلك، وكان صاحب أرزن الروم، مغيث الدين طغريل شاه بن قليج أرسلان السلجوقي، من بيت كبير مشهور، فأرسل يخطب الملكة لولده ليتزوجها، فامتنعوا من إجابته، إلا أن يتنصر، فأمر ولده فتنصر وسار إلى الكرج وتزوج ملكتهم وكانت هذه الملكة تهوى مملوكاً لها، ويعلم ابن طغريل شاه بذلك، وتكامن، فدخل يوماً إلى البيت فوجد المملوك نائماً معها في الفراش فلم يصبر المذكور على ذلك، فأنكر عليها، فأخذته زوجته واعتقلته في بعض القلاع، ثم أحضرت رجلين كانا قد وصفا لها بحسن الصورة، فتزوجت أحدهما ثم فارقته، وأحضرت إنساناً من كنجة، مسلماً وهويته وسألته أن يتنصر لتتزوج به، فلم يجب إلى ذلك، وترددت الرسل بينهما في ذلك مدة، فلم يجبها إلى التنصر. ذكر وفاة ملك الغرب في هذه السنة توفي يوسف المستنصر ملك الغرب، ابن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة عشر وستمائة، وكان يوسف المذكور منهمكاً في اللذات، فدخل الوهن على الدولة بسبب ذلك، ولم يخلف يوسف المذكور ولداً، فاجتمع كبراء الدولة وأقاموا عم أبيه لكبر سنه، وهو عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن، ولقبوه المستضيء، وكان عبد الواحد المذكور قد صار فقيراً بمراكش، وقاسى الدهر، فلما تولى اشتغل باللذات والتنعم في المآكل والملابس من غير أن يشرب خمراً، ثم خلع عبد الواحد المذكور بعد تسعة أشهر من ولايته وقتل، وملك بعده ابن أخيه عبد الله، وتلقب بالعادل، وهو عبد الله بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن. ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة في هذه السنة وصل التتر إلى قرب تبريز، وأرسلوا إلى صاحبها أزبك بن البهلوان يقولون له: إن كنت في طاعتنا فأرسل من عندك من الخوارزمية إلينا، فأوقع أزبك بمن عنده من الخوارزمية، وقتل بعضهم، وأسر الباقين وأرسلهم إلى التتر مع تقدمة عظيمة، فكفوا عن

بلاد أزبك وعادوا إلى بلاد خراسان. وفيها استولى غياث الدين تيزشاه أخو جلال الدين بن خوارزم شاه على غالب مملكة فارس، وكان صاحب فارس يقال له الأتابك سعد بن دكلا، وأقام غياث الدين بشيراز، وهي كرسي مملكة فارس، ولم يبق مع الأتابك سعد من فارس غير الحصون المنيعة، ثم اصطلح غياث مع الأتابك سعد، على أن يكون لسعد بعض بلاد فارس، ولغياث الدين الباقي. ذكر عصيان المظفر غازي ابن الملك العادل على أخيه الملك الأشرف كان الملك الأشرف قد أنعم على أخيه الملك المظفر غازي بخلاط، وهي مملكة عظيمة، وهي إقليم أرمينية، وكان قد حصل بين الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، وبين أخويه الكامل والأشرف وحشة، بسبب ترحيله عن حماة، كما قدمنا ذكره. فأرسل المعظم وحسن لأخيه المظفر غازي صاحب خلاط العصيان على أخيه الملك الأشرف. فأجاب الملك المظفر إلى ذلك وخالف أخاه الملك الأشرف، وكان قد اتفق مع المعظم والمظفر غازي صاحب إربل مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كجك، وكان بدر الدين لؤلؤ منتمياً إلى الملك الأشرف، فسار مظفر الدين صاحب إربل وحصر الموصل عشرة أيام، وكان نزوله على الموصل ثالث شهر جمادى الآخرة من هذه السنة، ليشغل الملك الأشرف عن قصد أخيه بخلاط، ثم رحل مظفر الدين عن الموصل لحصانتها، فلم يلتفت الملك الأشرف إلى محاصر الموصل وسار إلى خلاط، وحصر أخاه شهاب الدين غازي، فسلمت إليه مدينة خلاط، وانحصر أخوه غازي بقلعتها إلى الليل، فنزل من القلعة إلى أخيه الملك الأشرف واعتذر إليه، فقبل عذره وعفا عنه وأقره على ميافارقين، وارتجع باقي البلاد منه، وكان استيلاء الملك الأشرف على خلاط وأخذها من أخيه في جمادى الآخرة من هذه السنة. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة: ذكر وصول جلال الدين من الهند إلى البلاد قد تقدم في سنة سبع عشرة وستمائة ذكر هروب جلال الدين من غزنة، لما قصده جنكزخان، وأنه دخل بلاد الهند، فلما كانت هذه السنة، قدم من الهند إلى كرمان ثم إلى أصفهان واستولى عليها وعلى باقي عراق العجم، ثم سار إلى فارس وانتزعها من أخيه غياث الدين تيزشاه بن محمد، وأعادها إلى صاحبها أتابك سعد بن دكلا صاحب بلاد فارس، وصار أتابك سعد المذكور، وغياث الدين تيزشاه أخو جلال الدين، تحت حكم جلال الدين وفي طاعته، ثم استولى جلال الدين على خورستان، وكاتب الخليفة الإمام الناصر. ثم سار جلال الدين حتى قارب بغداد ووصل إلى يعقوبا، وخاف أهل بغداد منه واستعدوا للحصار، ونهبت الخوارزمية البلاد، وامتلأت أيديهم من الغنائم، وقوي أمر جلال الدين وجميع عسكره

الخوارزمية، ثم سار إلى قريب إربل، فصالحه صاحبها مظفر الدين ودخل في طاعته، ثم سار جلال الدين إلى أذربيجان وكرسي مملكتها تبريز، فاستولى على تبريز، وهرب صاحب أذربيجان، وهو مظفر الدين أزبك بن البهلوان بن الدكز، وكان أزبك المذكور قد قوي أمره لما قتل طغريل آخر الملوك السلجوقية ببلاد العجم، فاستقل أزبك المذكور في المملكة، وكان أزبك المذكور لا يزال مشغولاً بشرب الخمر، وليس له التفات إلى تدبير المملكة، فلما استولى جلال الدين على تبريز، هرب أزبك إلى كنجة، وهي من بلاد آران، قرب بردعة، ومتاخمة لبلاد الكرج، واستقل السلطان جلال الدين بملك أذربيجان، وكثرت عساكره واستفحل أمره، ثم جرى بين جلال الدين وبين الكرج قتال شديد، انهزم فيه الكرج، وتبعهم الخوارزمية يقتلونهم كيف شاؤوا، واتفق أنه ثبت على قاضي تبريز وقوع الطلاق من أزبك بن البهلوان بن الدكز، على زوجته بنت السلطان طغريل آخر الملوك السلجوقية، المقدم ذكره، فتزوج جلال الدين ببنت طغريل المذكور، وأرسل جيشاً إلى مدينة كنجة ففتحوها، فهرب مظفر الدين أزبك بن محمد البهلوان من كنجة إلى قلعة هناك، ثم هلك وتلاشى أمره. ذكر وفاة الملك الأفضل نور الدين علي ابن السلطان صلاح الدين يوسف في هذه السنة توفي الملك الأفضل المذكور، وليس بيده غير سميساط فقط، وكان موته فجأة، وعمره سبع وخمسون سنة، وكان الملك الأفضل فاضلاً حسن السيرة، وتجمع فيه الفضائل والأخلاق الحسنة، وكان مع ذلك قليل الحظ، وله الأشعار الحسنة، فمنها يعرض إلى سوء حظه قوله: يا من يسود شعره بخضابه ... لعساه من أهل الشبيبة يحصل ها فاختضب بسواد حظي مرة ... ولك الأمان بأنه لا ينصل ولما أخذت منه دمشق، كتب إلى بعض أصحابه كتاباً منه: أما أصحابنا لدمشق فلا علم لي بأحد منهم. وسبب ذلك: أي صديق سألت عنه ففي ... الذل وتحت الخمول في الوطن وأي ضد سألت حالته ... سمعت ما لا تحبه أذني ذكر وفاة الإمام الناصر وفي أول شوال من هذه السنة، توفي الخليفة الناصر لدين الله، وكانت مدة خلافته نحو سبع وأربعين سنة، وعمي في آخر عمره، وكان موته بالدوسنطاريا، وهو الإمام الناصر لدين الله، أبو العباس أحمد، بن المستضيء حسن بن المستنجد يوسف بن المقتفي محمد بن

خلافة الظاهر

المستظهر أحمد بن المقتدي عبد الله بن الأمير ذخيرة الدين محمد بن القائم عبد الله بن القادر أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر جعفر بن المكتفي علي بن المعتضد أحمد بن الأمير الموفق. وقيل اسمه طلحة، وقيل محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن رشيد هارون بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، العباس بن عبد المطلب بن هاشم. وكان عمر الإمام الناصر نحو سبعين سنة، وكان قبيح السيرة في رعيته، ظالماً لهم، خرب في أيامه العراق، تفرق أهله في البلاد، وكان يتشيع، وكان منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور المناسيب، ويلبس سراويلات الفتوة، ومنع رمي البندق إلا من ينسب إليه، فأجابه الناس إلى ذلك إلا إنساناً واحداً يقال له ابن السفت وهرب من بغداد إلى الشام، وقد نسب الإمام الناصر أنه هو الذي كاتب التتر وأطمعهم في البلاد، بسبب ما كان بينه ين خوارزم شاه محمد بن تكش من العداوة، ليشغل خوارزم شاه بهم عن قصد العراق. خلافة الظاهر وهو خامس ثلاثينهم، ولما توفي الإمام الناصر بويع ولده الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد، فأظهر العدل، وأزال المكوس، وأخرج المحبوسين، وظهر للناس، وكان الناصر ومن قبله لا يظهرون إلا نادراً، ولم تطل مدته في الخلافة، غير تسعة أشهر. ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة فيها سار الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل صاحب دمشق ونازل حمص، وكان قد اتفق مع جلال الدين بن خوارزم شاه، ومع مظفر الدين صاحب إربل، على أن يكونوا يداً واحدة، وكان الملك الأشرف ببلاده الشرقية، ثم رحل المعظم عن حمص إلى دمشق بسبب كثرة ما مات من خيله وخيل عسكره، وورد عليه أخوه الملك الأشرف طلباً للصلح، وقطعاً للفتن، فبقي مكرماً ظاهراً، وهو في الباطن كالأسير معه، وأقام الملك الأشرف عند أخيه المعظم إلى أن انقضت هذه السنة، وأما الملك الكامل فإنه كان بمصر، وقد تخيل من بعض عسكره، فما أمكنه الخروج عنها. وفي هذه السنة فتح السلطان جلال الدين تفليس من الكرج، وهي من المدن العظام. وفي هذه السنة سار جلال الدين ونازل خلاط، وهي منازلته الأولى، فطال القتال بينهم، وكان نائب الأشرف بخلاط، الحاجب حسام الدين علي الموصلي، وكان نزوله عليها ثالث عشر ذي القعدة، ورحل عنها لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة، بسبب كثرة الثلوج. ذكر وفاة الخليفة الظاهر بأمر الله وفي رابع عشر رجب من هذه السنة، توفي الخليفة الظاهر بأمر الله محمد ابن الناصر لدين الله، وكان متواضعاً محسناً إلى الرعية جداً، وأبطل عدة مظالم منها: أنه كان بخزانة

خلافة المستنصر

الخليفة صنجة زائدة يقبضون بها المال، ويعطون بالصنجة التي يتعامل بها الناس، وكان زيادة الصنجة في كل دينار حبة، فخرج توقيع الظاهر بإبطال ذلك، وأوله. " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " المطففين: 1، 2، 3. وعمل صنجة المخزن مثل صنجة المسلمين، وكان مضاداً لأبيه الناصر في كثير من أحواله، منها: أن مدة خلافة أبيه كانت طويلة، ومدة خلافته كانت قصيرة، وكان أبوه متشيعاً، وكان الظاهر سنياً، وكان أبوه ظالماً جماعاً للمال، وكان الظاهر في غاية العدل وبذل الأموال للمحبوسين على الديون وللعلماء. خلافة المستنصر وهو سادس ثلاثينهم، ولما توفي الظاهر، ولي الخلافة بعده ولده الأكبر المستنصر بالله أبو جعفر المنصور، وكان للظاهر ولد آخر يقال له الخفاجي، في غاية الشجاعة، وبقي حياً حتى أخذت التتر بغداد، وقتل، ولما تولى المستنصر الخلافة سلك في العدل والإحسان مسلك أبيه الظاهر. ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة سار علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم إلى بلاد الملك المسعود الأرتكي صاحب آمد، فنزل كيقباذ بملطية، وهي من بلاد كيقباذ، وأرسل عسكراً ففتحوا حصن منصور وحصن الكختا، وكانا لصاحب آمد المذكور. وفيها في خامس عشر ذي الحجة نازل جلال الدين مدينة خلاط، وهي للملك الأشرف وبها نائبه حسام الدين علي الحاجب، وهي منازلته الثانية، وجرى بينهم قتال شديد، وأدركه البرد فرحل عنها في السنة المذكورة. ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة والملك الكامل بديار مصر، وجلال الدين خوارزم شاه مالك أذربيجان وآران وبعض بلاد الكرج وعراق العجم وغيرها، وهو موافق الملك المعظم على حرب أخويه الكامل والأشرف، والرسل لا تنقطع بين المعظم وجلال الدين، والملك الأشرف مقيم كالأسير عند أخيه الملك المعظم، ولما رأى الملك الأشرف حاله مع أخيه المعظم، وأنه لا خلاص له منه إلا بإجابته إلى ما يريد، أجابه كالمكره إلى ما طلبه منه، وحلف له أن يعاضده ويكون معه على أخيهما الملك الكامل، وأن يكون معه على صاحبي حماة وحمص، فلما حلف له على ذلك أطلقه الملك المعظم، فرحل الملك الأشرف في جمادى الآخرة من هذه السنة، فكانت مدة مقامه مع المعظم نحو عشرة أشهر. ولما استقر الملك الأشرف ببلاده، رجع عن جميع ما تقرر بينه وبين أخيه الملك المعظم، وتأول في أيمانه التي حلفها أنه مكره، ولما تحقق الملك الكامل اعتضاد أخيه الملك المعظم بجلال الدين،

وأخبار الذين تملكوا بعده

خاف من ذلك وكاتب الإمبراطور ملك الفرنج في أن يقدم إلى عكا ليشغل سر أخيه المعظم عما هو فيه، ووعد الإمبراطور بأن يعطيه القدس، فسار الإمبراطور إلى عكا، فبلغ المعظم ذلك، فكاتب أخاه الأشرف واستعطفه. وفي هذه السنة انتزع الأتابك طغريل، الشغر وبكاس من الملك الصالح أحمد ابن. الملك الظاهر، وعوضه عنها بعينتاب والراوندان. وفيها سار الحاجب حسام الدين علي، نائب الملك الأشرف بخلاط، بعساكر الملك الأشرف إلى بلاد جلال الدين، واستولى على خوى وسلماس ونقجوان. ذكر وفاة الملك المعظم صاحب دمشق في هذه السنة في ذي القعدة، توفي الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أيي بكر بن أيوب بقلعة دمشق، بالدوسنطاريا، وعمره تسع وأربعون سنة، وكانت مدة ملكه دمشق تسع سنين وشهوراً وكان شجاعاً، وكان عسكره في غاية التجمل، وكان يجامل أخاه الملك الكامل ويخطب له ببلاده، ولا يذكر اسمه معه، وكان الملك المعظم قليل التكلف جداً، في غالب الأوقات لا يركب بالسناجق السلطانية، وكان يركب وعلى رأسه كلوته صفراء، بلا شاش، ويتخرق الأسواق من غير أن يطرق بين يديه كما جرت عادة الملوك، ولما كثر مثل هذا منه، صار، الإنسان إذا فعل أمراً لا يتكلف له، يقال قد فعله بالمعظمي، وكان عالماً فاضلاً في الفقه والنحو وكان شيخه في النحو تاج الدين زيد بن الحسن الكندي، وفي الفقه جمال الدين الحصيري، وكان حنفياً متعصباً لمذهبه، وخالف جميع أهل بيته فإنهم كانوا شافعية، ولما توفي الملك المعظم ترتب في مملكته وأعمالها بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، وقام بتدبير مملكته مملوك والده وأستاذ داره الأمير عز الدين أيبك المعظمي، وكان لأيبك المذكور صرخد. ذكر وفاة ملك المغرب وأخبار الذين تملكوا بعده وفي هذه السنة خلع العادل عبد الله بن يعقوب، المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، وقد تقدم ذكر ولايته في سنة عشرين وستمائة، بعد خلع عبد الواحد وقتله. وفي أيام العادل عبد الله المذكور، كانت الوقعة بين المسلمين والفرنج بالأندلس على طليطلة، انهزمت فيها المسلمون هزيمة قبيحة، وهذه الوقعة هي التي هدت دعائم الإسلام بالأندلس، ولما خلع عبد الله العادل المذكور، حبس ثم خنق، ونهب المصموديون قصره بمراكش، واستباحوا حرمه. ثم ملك بعده يحيى بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، ويحيى يومئذ ما خط عذاره، ولما تمت بيعة يحيى وصل الخبر أنه قد قام بإشبيلية إدريس بن يعقوب المنصور، وهو أخو العادل عبد الله، وتلقب إدريس بالمأمون، وجميعهم كانوا يتلقبون بأمير المؤمنين، وتعقد البيعة لهم بالخلافة، ولما استقر أمر إدريس المأمون المذكور في إشبيلية،

ثارت جماعة من أهل مراكش، وانضم إليهم العرب ووثبوا على يحيى بن محمد الناصر بمراكش، فهرب يحيى إلى الجبل، ثم اتصل بعرب المعقلي فغدروا به وقتلوه، وخطب للمأمون إدريس في مراكش، واستقر أمره في الخلافة بالبرين، بر الأندلس وبر العدوة. ثم خرج على المأمون إدريس المذكور بشرق الأندلس، المتوكل بن هود، واستولى على الأندلس، ففارق إدريس الأندلس وسار من إشبيلية وعبر البحر ووصل إلى مراكش، وخرجت الأندلس حينئذ عن ملك بني عبد المؤمن، ولما استقر المأمون إدريس في ملك مراكش تتبع الخارجين على من تقدمه من الخلفاء، فقتلهم عن آخرهم، وسفك دماء كثيرة، حتى سموه لذلك حجاج المغرب، وكان المأمون إدريس المذكور فصيحاً عالماً بالأصول والفروع، ناظماً ناثراً، أمر بإسقاط اسم مهديهم ابن تومرت من الخطبة على المنابر، وعمل في ذلك رسالة طويلة، أفصح فيها بتكذيب مهديهم المذكور، وضلاله، ثم ثار على إدريس المذكور أخوه، بسبتة، فسار إدريس من مراكش إليه وحصره بسبتة، ثم بلغ إدريس وهو محاصر سبتة أن بعض أولاد محمد الناصر بن يعقوب المنصور قد دخل إلى مراكش، فرحل إدريس عن سبتة وسار إلى مراكش فمات في الطريق، بين سبتة ومراكش. ولما مات المأمون إدريس، ملك بعده ابنه عبد الواحد بن المأمون إدريس، وتلقب المذكور بالرشيد، ثم توفي الرشيد عبد الواحد بن المأمون إدريس بن يعقوب المنصور ابن يوسف بن عبد المؤمن غريقاً في صهريج بستان له، بحضرة مراكش، في سنة أربعين وستمائة، وكان الرشيد عبد الواحد المذكور حسن السياسة، وكان أبوه إدريس قد أبطل اسم مهديهم من الخطبة، فأعاده عبد الواحد المذكور، وقمع العرب، إلا أنه تخلى للذاته لما استقر أمره، ولم يخطب للرشيد عبد الواحد المذكور بإفريقية، ولا بالمغرب الأوسط. ولما مات الرشيد عبد الواحد المذكور، ملك بعده أخوه علي بن إدريس، وتلقب بالمعتضد أمير المؤمنين، وكان أسود اللون، وكان مدحوضاً في حياة والده، وسجنه في بعض الأوقات، وقدم عليه أخاه الصغير عبد الواحد المذكور، واستمر المعتضد علي بن إدريس المذكور حتى قتل وهو محاصر قلعة بالقرب من تلمسان، في صفر من سنة ست وأربعين وستمائة. ثم ملك بعد المعتضد الأسود المذكور، أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم بن يوسف، في شهر ربيع الآخر من سنة ست وأربعين وستمائة، وتلقب بالمرتضي، وفي الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وستين وستمائة، دخل الواثق أبو العلا إدريس المعروف بأبي دبوس مراكش، وهرب المرتضي إلى أزمور من نواحي مراكش فقبض عليه عامله بها، وبعث إلى الواثق بذلك، فأمره الواثق بقتله، فقتله في العشر الأخير من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وستين وستمائة، بموضع يقال له كتامة، بعده عن مراكش ثلاثة أيام. وأقام الواثق أبو دبوس ثلاث سنين وقتل في

الحروب التي كانت بينه وبين بني مرين ملوك تلمسان، وانقرضت دولة بني عبد المؤمن، وكان قتل الواثق أبي دبوس المذكور في المحرم سنة ثمان وستين وستمائة بموضع بينه وبين مراكش مسيرة ثلاثة أيام في جهتها الشمالية، واستولى بنو مرين على ملكهم، وقد حصل الاختلاف في نسب أبي دبوس فإني وجدت في بعض الكتب المؤلفة في هذا الفن، أن أبا دبوس، هو ابن إدريس المأمون، ثم وجدت نسبه في وفيات الأعيان أنه هو نفسه اسمه إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة في هذه السنة أرسل الملك الكامل صاحب مصر، يطلب من ابن أخيه الملك الناصر داود ابن الملك المعظم صاحب دمشق، حصن الشوبك، فلم يعطه الملك الناصر ذلك، ولا أجابه إليه، فسار الملك الكامل من مصر في هذه السنة في رمضان إلى الشام، ونزل على تل العجول بظاهر غزة، وولى على نابلس والقدس وغيرهما من بلاد ابن أخيه الملك الناصر داود المذكور، صاحب دمشق حينئذ، وكان صحبة الملك الكامل الملك المظفر محمود ابن السلطان الملك المنصور صاحب حماة، وهو موعود من الملك الكامل أنه ينتزع حماة من أخيه الناصر قليج أرسلان ابن الملك المنصور، ويسلمها إليه، ولما قصد الملك الكامل انتزاع بلاد الملك الناصر ابن المعظم صاحب دمشق، استنجد الناصر داود بعمه الملك الأشرف، وأرسل إليه وهو ببلاده الشرقية، فقدم الملك الأشرف إلى دمشق ودخل هو والناصر داود إلى قلعة دمشق راكبين، قال القاضي جمال الدين بن واصل: كنت إذ ذاك حاضراً بدمشق، ورأيت الملك الأشرف راكباً مع ابن أخيه، وعلى رأس الملك الأشرف شاش علم كبير، ووسطه مشدود بمنديل، وكان وصول الأشرف إلى دمشق في العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، ووصل إلى خدمته بدمشق الملك المجاهد شركوه، فإنه كان من المنتمين إلى الملك الأشرف، ثم وقع الاتفاق أن يسير الناصر داود وشيركوه مع الملك الأشرف إلى نابلس، فيقيم الناصر داود بنابلس، ويتوجه الملك الأشرف إلى أخيه الكامل إلى غزة شافعاً في ابن أخيهما الناصر داود، ففعلوا ذلك، ولما وصل الملك الأشرف إلى أخيه الكامل، وقع اتفاقهما في الباطن على أخذ دمشق من ابن أخيهما الناصر داود، وتعويضه عنها بحران والرها والرقة من بلاد الملك الأشرف، وأن تستقر دمشق للملك الأشرف، ويكون له إلى عقبة أفيق وما عدا ذلك من بلاد دمشق، يكون للملك الكامل، وأن ينتزع حماة من الملك الناصر قليج أرسلان، ويعطي الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور، وأن ينتزع سلمية من المظفر محمود، وكانت إقطاعه، لما كان مقيماً بمصر عند الملك الكامل، ويعطي لشيركوه صاحب حمص، وخرجت السنة والأشرف عند

ذكر غير ذلك

أخيه الكامل بظاهر غزة، وقد اتفقا على ذلك. ذكر غير ذلك وفي هذه السنة عاود التتر إلى قصد البلاد التي بيد جلال الدين بن خوارزم شاه، وجرت بينه وبينهم حروب كثيرة، كان في أكثرها الظفر للتتر. وفيها قدم الإمبراطور إلى عكا بجموعه، وكان الملك الكامل قد أرسل إليه فخر الدين ابن الشيخ يستدعيه إلى قصد الشام، بسبب أخيه المعظم، فوصل الإمبراطور وقد مات المعظم، فنشب به الملك الكامل، ولما وصل الإمبراطور استولى على صيدا، وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج، وسورها خراب، فعمر الفرنج سورها واستولوا عليها، والإمبراطور معناه: ملك الأمراء بالفرنجية. وإنما اسم الإمبراطور المذكور، فرديك. وكان صاحب. جزيرة صقلية، ومن البر الطويل بلاد أنبولية والأنبردية. قال القاضي جمال الدين بن واصل: لقد رأيت تلك البلاد لما توجهت رسولاً من الملك الظاهر بيبرس الصالحي إلى الإمبراطور ملك تلك البلاد. قال: وكان الإمبراطور من بين ملوك الفرنج فاضلاً، محباً للحكمة والمنطق والطب، مائلاً إلى المسلمين، لأن منشأه بجزيرة صقلية، وغالب أهلها مسلمون، وترددت الرسل بين الملك الكامل وبين الإمبراطور إلى أن خرجت هذه السنة. وفي هذه السنة بعد فراغ جلال الدين من التتر، قصد جلال الدين المذكور بلاد خلاط، ونهب القرى وقتل وخرب البلاد وفعل الأفعال القبيحة. وفيها خاف غياث الدين تيزشاه من أخيه جلال الدين ففارقه واستجار بالإسماعيلية. ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة ولما جرى بين السلطان الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف الاتفاق على نزع دمشق من الناصر داود، بلغ الناصر داود ذلك، وهو بنابلس، فرحل إلى دمشق، وكان قد لحقه بالغور عمه الملك الأشرف، وعرفه ما أمر به عمه الملك الكامل، وأنه لا يمكنه الخروج عن مرسومه، فلم يلتفت الناصر داود إلى ذلك وسار إلى دمشق، وسار الأشرف في إثره وحصره بدمشق، والملك الكامل مشتغل بمراسلة الإمبراطور، ولما طال الأمر ولم يجد الملك الكامل بداً من المهادنة، أجاب الإمبراطور إلى تسليم القدس إليه، على أن تستمر أسواره خراباً ولا يعمرها الفرنج، ولا يتعرضوا إلى قبة الصخرة، ولا إلى الجامع الأقصى، ويكون الحكم في الرساتيق إلى والي المسلمين، ويكون لهم من القرايا ما هو على الطريق من عكا إلى القدس، ووقع الاتفاق على ذلك، وتحالفا عليه، وتسلم الإمبراطور القدس في هذه السنة في ربيع الآخر على هذه القاعدة التي ذكرناها، وكان ذلك، والملك الناصر محصور بدمشق، وعمه الأشرف محاصره بأمر الملك الكامل، فأخذ الناصر داود في التشنيع على عمه بذلك، وكان بدمشق الشيخ شمس الدين يوسف سبط

صاحب اليمن ابن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب:

أبي الفرج ابن الجوزي، وكان واعظاً وله قبول عند الناس، فأمره الناصر داود بعمل مجلس وعظ، يذكر فيه فضائل بيت المقدس، وما حل بالمسلمين من تسليمه إلى الفرنج، ففعل ذلك، وكان مجلساً عظيماً، ومن جملة ما أنشد قصيدة تائية ضمنها بيت دعبل الخزاعي وهو: مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات فارتفع بكاء الناس وضجيجهم. ذكر انتزاع دمشق ولما عقد الملك الكامل الهدنة مع الإمبراطور، وخلا سره من جهة الفرنج، سار إلى دمشق، ووصل إليها في جمادى الأولى من هذه السنة، واشتد الحصار على دمشق، ووصل إلى الملك الكامل رسول الملك العزيز صاحب حلب، وخطب بنت الملك الكامل، فزوجه بنته فاطمة خاتون، التي هي من الست السوداء أم ولده أبي بكر العادل ابن الملك الكامل، ثم استولى الملك الكامل على دمشق، وعوض الناصر داود عنها بالكرك والبلقاء والصلت والأغوار والشوبك، وأخذ الملك الكامل لنفسه البلاد الشرقية التي كانت عينت للناصر، وهي حران والرها وغيرهما، التي كانت بيد الملك الأشرف، ثم نزل الناصر داود عن الشوبك، وسأل عمه الكامل في قبولها فقبلها، وتسلم دمشق الملك الأشرف، وتسلم الكامل من الأشرف البلاد الشرقية المذكورة. ذكر وفاة الملك المسعود صاحب اليمن ابن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب: في هذه السنة توفي الملك المسعود يوسف، الملقب أطسز، المعروف باقسيس. وكان قد مرض باليمن، فكره المقام بها وعزم على مفارقة اليمن، وسار إلى مكة وهي له كما تقدم ذكره، فتوفي بمكة ودفن بالمعلى، وعمره ست وعشرون سنة، وكانت مدة ملكه اليمن أربع عشرة سنة، وكان الملك المسعود لما سار من اليمن، قد استخلف على اليمن علي بن رسلول، وسنذكر بقية أخباره إن شاء الله تعالى، ووصل الخبر بوفاة الملك المسعود إلى أبيه الملك الكامل، وهو على حصار دمشق، فجلس للعزاء، وخلف الملك المسعود ولداً صغيراً اسمه أيضاً يوسف، وبقي يوسف المذكور حتى مات في سلطنة عمه الملك الصالح أيوب صاحب مصر، وخلف يوسف ولداً صغيراً اسمه موسى، ولقب الملك الأشرف وهو الذي أقامه الترك في مملكة مصر بعد قتل الملك المعظم ابن الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

نائب الملك الأشرف بخلاط وقتله:

ذكر القبض على الحاجب علي نائب الملك الأشرف بخلاط وقتله: وفي هذه السنة أرسل الملك الأشرف مملوكه عز الدين أيبك الأشرفي، وهو أكبر أمير عنده إلى خلاط، فقبض على الحاجب علي الموصلي وحبسه، ثم قتله، وكان حسام الدين علي الحاجب المذكور، من أهل الموصل، وخدم الملك الأشرف، فجعله نائبه بخلاط، فأحسن إلى الرعية وحفظ البلد، واستولى على عدة بلاد من أذربيجان، مثل نقجوان وغيرها، على ما تقدم ذكره، فقبض عليه الملك الأشرف وقتله، قيل أن ذلك لذنب منه، لم يطلع عليه الناس، وأطلع عليه الملك الكامل والملك الأشرف، وهذا الحاجب حسام الدين المذكور، كان كثير الخير والمعروف، بنى الخان الذي بين حران ونصيبين وبنى الخان الذي بين حمص ودمشق وهو الخان المعروف بخان بريح العطش، وهرب مملوك لحسام الدين الحاجب المذكور، لما قتل أستاذه، ولحق بجلال الدين، فلما ملك جلال الدين خلاط على ما سنذكره، قبض على أيبك المذكور وسلمه إلى المذكور فقتله وأخذ بثأر أستاذه. الاستيلاء على حماة ذكر استيلاء الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد على حماة: ولما سلم الملك الكامل دمشق إلى أخيه الملك الأشرف، سار من دمشق، ونزل على مجمع المروج، ثم نزل سلمية، وأرسل عسكراً نازلوا حماة وبها صاحبها الملك الناصر قليج أرسلان، وكان فيه جبن، ولو عصى بحماة وطلب عنها عوضاً كثيراً لأجابه الملك الكامل إليه، ولكنه خاف، وكان في العسكر الذين نازلوه شيركوه صاحب حمص، فأرسل الناصر صاحب حماة يقول لشيركوه، إني أريد أن أخرج إليك بالليل لتحضرني عند السلطان الملك الكامل، وخرج الملك الناصر قليج أرسلان ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب المذكور إلى شيركوه، في العشر الأخير من رمضان هذه السنة، وأخذه شيركوه ومضى به إلى الملك الكامل وهو نازل على سلمية، فحين رأى الملك الكامل قليج أرسلان المذكور شتمه وأمر باعتقاله، وأن يتقدم إلى نوابه بحماة بتسليمها إلى الملك الكامل، فأرسل الناصر قليج أرسلان علامته إلى نوابه بحماة أن يسلموها إلى عسكر السلطان الملك الكامل، فامتنع من ذلك الطواشيان بشر ومرشد المنصوريان، وكان بقلعة حماة أخ للملك الناصر يلقب الملك المعز ابن الملك المنصور صاحب حماة، فملكوه حماة وقالوا للملك الكامل: لا نسلم حماة لغير أحد من أولاد تقي الدين، فأرسل الملك الكامل يقول للملك المظفر محمود ابن الملك المنصور صاحب حماة، اتفق مع غلمان أيبك وتسلم حماة، وكان الملك المظفر نازلاً على حماة من جملة العسكر الكاملي، فراسل الملك المظفر الحكام حماة، فحلفوا له وواعدوا الملك المظفر أن يحضر بجماعته خاصة وقت السحر إلى باب النصر ليفتحوه له، فحضر الملك المظفر سحر الليلة التي عينوها، ففتحوا له باب النصر،

ودخل الملك المظفر ومضى إلى دار الوزير المعروفة بدار الأكرم داخل باب المغار، وهي الآن مدرسة تعرف بالخاتونية، وقفتها عمتي مؤنسة خاتون بنت الملك المظفر المذكور، وحضر أهل حماة وهنوا الملك المظفر بملك حماة، وكان ذلك في العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، وكان مدة ملك الملك الناصر قليج أرسلان حماة تسع سنين إلا نحو شهرين، وأقام الملك المظفر في دار الأكرم يومين وصعد في اليوم الثالث إلى القلعة، وتسلمها، وجاء عيد الفطر من هذه السنة والملك المظفر مالك حماة، وعمره يومئذ نحو سبع وعشرين سنة، لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمسمائة. وكان أخوه الملك الناصر قليج أرسلان أصغر منه بسنة، ولما ملك الملك المظفر حماة، فوض تدبير أمورها، صغيرها وكبيرها، إلى الأمير سيف الدين علي الهدباني، وكان سيف الدين علي بن أبي علي المذكور، قد خدم الملك المظفر بعد ابن عمه حسام الدين ابن أبي علي الذي كان نائب الملك المظفر بسلمية، لما سلمت إليه، وهو بمصر عند الملك الكامل. ثم حصل بين الملك المظفر وبين حسام الدين بن أبي علي وحشة، ففارقه حسام الدين المذكور واتصل بخدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، وحظي عنده وصار أستاذ داره، وخدم ابن عمه سيف الدين علي المذكور الملك المظفر، وكان يقول له: أشتهي أن أراك صاحب حماة، وأكون بعين واحدة، فأصيبت عين سيف الدين علي على حصار حماة، لما نازلها عسكر الملك الكامل، وبقي بفرد عين، فحظي عند الملك المظفر لذلك، ولكفاية سيف الدين المذكور، وحسن تدبيره. ولما استقر الملك المظفر في ملك حماة، انتزع الملك الكامل سلمية منه، وسلمها إلى شيركوه صاحب حمص، على ما كان وقع عليه الاتفاق من قبل ذلك، ثم إن الملك الكامل رسم للملك المظفر أن يعطي أخاه الملك الناصر قليج أرسلان بارين بكمالها، فامتثل لذلك وسلم قلعة بارين إلى أخيه الملك الناصر، ولم يبق بيد الملك المظفر غير حماة والمعرة، وكان بحماة تقدير أربعمائة ألف درهم للملك الناصر، وكان قد رسم الملك الكامل للملك المظفر أن يعطي المال المذكور أخاه الملك الناصر، فماطل المظفر في ذلك، ولم يحصل للملك الناصر من ذلك شيء، ولما استقر الملك المظفر بحماة مدحه الشيخ شرف الدين عبد العزيز محمد بن عبد المحسن الأنصاري الدمشقي بقصيدة، من جملتها: تناهى إليك الملك واشتد كاهله ... وحل بك الراجي فحطت رواحله ترحلت عن مصر فأمحل ربعها ... ولما حللت الشام روض ما حله وعزت حماة في حمى أنت غابه ... بصولته تحمى كليب ووائله وقد طال ما ظلت بتدبير أهوج ... يخيب مرجيه ويحرم سائله

ولما استقر الملك المظفر في ملك حماة، رحل الملك الكامل عن سلمية إلى البلاد الشرقية التي أخذها من أخيه الملك الأشرف عوضاً عن دمشق، فنظر في مصالحها، ثم سافر الملك المظفر من حماة ولحق الملك الكامل، وهو بالشرق، عقد له الملك الكامل العقد هناك على ابنته غازية خاتون بنت الملك الكامل، وهي شقيقة الملك المسعود صاحب اليمن، وهي والدة الملك المنصور صاحب حماة، وأخيه الملك الأفضل نور الدين علي، ابني الملك المظفر محمود، ثم عاد الملك المظفر إلى حماة وقد قضيت أمانيه بملك حماة، ووصلته بخاله الملك الكامل، كان يتمنى ذلك لما كان بالديار المصرية، وكان يصحبه وهو بمصر رجل من أهلها يقال له الزكي القومصي، فاتفق وهما بمصر، وقد جرى ذكر ملك الملك المظفر حماة وزواجه بنت خاله الملك الكامل، فأنشده الزكي القومصي: متى أراك كما أهوى وأنت ومن ... تهوى كأنكما روحان في بدن هناك أنشد والأقدار مصغية ... هنيت بالملك والأحباب والوطن فقال له الملك المظفر: إن صار ذلك يا زكي أعطيتك ألف دينار مصرية، فلما ملك الملك المظفر حماة أعطى الزكي ما وعده به، ولما فرغ الملك الكامل من تقرير أمر البلاد الشرقية وهي حران وما معها من البلاد، مثل رأس عين والرها وغير ذلك، عاد إلى الديار المصرية. وفي هذه السنة أرسل الملك الأشرف أخاه صاحب بصرى، الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل، بعسكر، فنازل بعلبك وبها صاحبها الملك الأمجد بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب، واستمر الحصار عليه. وفيها سار جلال الدين ملك الخوارزمية وحاصر خلاط، وبها أيبك نائب الملك الأشرف، إلى أن خرجت هذه السنة. ثم دخلت سنة سبع وعشرين وستمائة. ذكر عمارة شميميش في هذه، السنة شرع صاحب حمص شيركوه في عمارة قلعة شميميش، وكان لما سلم إليه الملك الكامل سلمية، قد استأذنه في عمارة تل شميميش قلعة، فأذن له بذلك، ولما أراد شيركوه عمارته، أراد الملك المظفر صاحب

حماة منعه من ذلك، ثم لم يمكنه ذلك لكونه بأمر الملك الكامل. ذكر استيلاء الملك الأشرف على بعلبك وفي هذه السنة سلم الملك الأمجد بهرام شاه لن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب بعلبك، إلى الملك الأشرف، أطول الحصار عليه، وعوضه الملك الأشرف عنها الزبداني وقصير دمشق، الذي هو شماليها، ومواضع أخر، وتوجه الملك الأمجد وأقام بداره التي داخل باب النصر بدمشق، المعروفة بدار السعادة، وهي التي ينزلها النواب.

ذكر مقتل الملك الأمجد لما أخذت منه بعلبك ونزل بداره المذكورة، كان قد حبس بعض مماليكه في مرقد عنده بالدار، وجلس الملك الأمجد قدام باب المرقد يلعب بالنرد، ففتح المملوك المذكور الباب ومعه سيف، وضرب به أستاذه الملك الأمجد فقتله، ثم طلع المملوك إلى سطح الدار وألقى نفسه إلى وسطها فمات، ودفن الملك الأمجد بمدرسة والده التي على الشرف، وكانت مدة ملكه بعلبك تسعاً وأبعين سنة، لأن عم أبيه السلطان الملك " الناصر صلاح الدين ملكه بعلبك، سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، لما مات أبوه فرخشاه، وانتزعت منه هذه السنة، فذلك خمسون سنة إلا سنة، وكان الملك الأمجد أشعر بني أيوب، وشعره مشهور. ذكر ملك جلال الدين خلاط في هذه السنة، لما طال حصار جلال الدين على خلاط، واشتد مضايقتها، هجمها بالسيف، وفعل في أهلها ما يفعلونه التتر من القتل والاسترقاق والنهب، ثم قبض على نائب الملك الأشرف بها، وهو مملوكه أيبك، وسلمه إلى مملوك حسام الدين الحاجب، علي الموصلي، فقتله وأخذ بثأر أستاذه. ذكر كسرة جلال الدين من الملك الأشرف ولما جرى من جلال الدين ما جرى، من أخذ خلاط، اتفق صاحب الروم كيقباذ بن كيخسرو ابن قليج أرسلان، والملك الأشرف ابن الملك العادل، فجمع الملك الأشرف عساكر الشام وسار إلى سيواس، واجتمع فيها بملك بلاد الروم علاء الدين كيقباذ المذكور، وسار إلى جهة خلاط، والتقى الفريقان في التاسع والعشرين من رمضان من هذه السنة، فولى الخوارزميون وجلال الدين منهزمين، وهلك غالب عسكره قتلاً وتردياً من رؤوس جبال كانت في طريقهم، وضعف جلال الدين بعدها، وقويت عليه التتر، وارتجع الملك الأشرف خلاط وهي خراب يباب، ثم وقعت المراسلة بين الملك الأشرف وكيقباذ وجلال الدين وتصالحوا، وتحالفوا على ما بأيديهم، وأن لا يتعرض أحد منهم إلى ما بيد الآخر. وفي هذه السنة استولى الملك المظفر غازي ابن الملك العادل على أرزن من ديار بكر، وهي غير أرزن الروم، وكان صاحب أرزن ديار بكر يقال له حسام الدين، من بيت قديم في الملك، فأخذها منه الملك المظفر غازي المذكور، وعوضه عن أرزن بمدينة حاني، وهذا حسام الدين من بيت كبير يقال لهم بيت الأحدب، وأرزن لم تزل بأيديهم من أيام السلطان ملك شاه السلجوقي إلى الآن، فسبحان من لا يزول ملكه. وفيها جمعت الفرنج من حصن الأكراد وقصدوا حماة، فخرج إليهم الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور صاحب حماة، والتقاهم عند قرية بين حماة وبارين يقال لها أفيون، وكسرهم كسرة عظيمة، ودخل الملك المظفر محمود حماة مؤيداً منصوراً. وفيهما ولد الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب، ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة، والسلطان الملك الكامل بديار مصر، وأخوه الملك الأشرف بدمشق في ملاذه، وقد تخلى عن البلاد الشرقية، فإن حران وما معها صارت لأخيه الملك الكامل، وخلاط صارت خرابا يباباً، ولم يكن للملك الأشرف ابن ذكر، فاقتنع بدمشق واشتغل باللهو والملاذ. وفيها سار الملك الأشرف من دمشق إلى عند أخيه الملك الكامل وأقام عنده بالديار المصرية متنزهاً. ذكر قصد التتر بلاد الإسلام وفي هذه السنة عاودت التتر قصد بلاد الإسلام، وسفكوا وخربوا مثلما تقدم ذكره، وكان قد ضعف جلال الدين لقبح سيرته وسوء تدبيره، ولم يترك له صديقاً من ملوك الأطراف، وعادى الجميع، وانضاف إلى ذلك أن عسكره اختلف عليه لما حصل لجلال الدين من فساد عقله، وسببه أنه كان له مملوك يحبه محبة شديدة، واتفق موت ذلك المملوك، فحزن عليه حزناً شديداً لم يسمع بمثله، وأمر أهل توريز بالخروج والنواح واللطم عليه، ثم أنه لم يدفنه، وبقي يستصحب ذلك المملوك الميت معه حيث سار وهو يلطم ويبكي، وكان إذا قدم إليه الطعام يرسل منه إلى المملوك الميت، ولا يتجاسر أحد أن يتفوه أنه ميت، فكانوا يحملون إليه الطعام ويقولون أنه يقبل الأرض وهو يقول: إني الآن أصلح مما كنت، فأنف أمراؤه من ذلك، وخرج بعضهم عن طاعته، فضعف أمر جلال الدين لذلك، ولكسرته من الملك الأشرف، فتمكنت التتر من البلاد واستولوا على مراغة، وهو استيلاؤهم الثاني. ذكر قتل جلال الدين ولما تمكن التتر من بلاد أذربيجان، سار جلال الدين يريد ديار بكر، ليسير إلى الخليفة ويلتجئ إليه ويعتضد بملوك الأطراف على التتر، ويخوفهم عاقبة أمرهم، فنزل بالقرب من آمد، فلم يشعر إلا والتتر قد كبسوه ليلاً وخالطوا مخيسه، فهرب جلال الدين وقتل على ما نشرحه إن شاء الله تعالى. ولما قتل تمكنت التتر من البلاد وساقوا حتى وصلوا في هذه السنة إلى الفرات، واضطرب الشام بسبب وصولهم إلى الفرات، ثم شنوا الغارات في ديار بكر والجزيرة، وفعلوا من القتل والتخريب مثلما تقدم. ومن تاريخ ظهور التتر تصنيف كاتب إنشاء جلال الدين النسوي المنشئ المقدم الذكر، في سنة ست عشرة وستمائة ما اخترناه وأثبتناه من أخبار خوارزم شاه محمد وابنه جلال الدين، لملازمة النسوي المذكور جلال الدين في جميع سفراته وغزواته، إلى أن كبس التتر جلال الدين

والمنشئ المذكور، كان معه، فلذلك كان أخبر بأحوال جلال الدين ووالده من غيره. قال محمد المنشئ المذكور: إن خوارزم شاه محمد بن تكش، عظم شأنه واتسع ملكه، وكان له أربعة أولاد، قسم البلاد بينهم، أكبرهم جلال الدين منكبرني، وفوض إليه ملك غزنة، وباميان، والغور، وبست، وتكاباد، وزميزداور، وما يليها من الهند. وفوض خوارزم، وخراسان، ومازندران، إلى ولده قطب الدين زلاغ شاه، وجعله ولي عهده، ثم في آخر وقت عزله عن ولاية العهد، وفوضها إلى جلال الدين منكبرني وفوض كرمان، وكبش، ومكران، إلى ولده غياث الدين تبز شاه، وقد تقدمت أخباره. وفوض العراق إلى ولده ركن الدين غورشاه يحيى، وكان أحسن أولاده خلقاً وخلقاً، وقتل المذكور التتر بعد موت أبيه، وضرب لكل واحد منهم النوب الخمس في أوقات الصلوات، على عادة الملوك السلجوقية، وانفرد أبوهم خوارزم شاه محمد بنوبة ذي القرنين، وأنها تضرب وقتي طلوع الشمس وغروبها، وكانت دبادبه سبعاً وعشرين دبدبة من الذهب، قد رصعت بأنواع الجوهر، وكذا باقي الآلات النوبتية، وجعل سبعة وعشرين ملكاً يضربونها في أول يوم قرعت، وكانوا من أكابر الملوك، أولاد السلاطين، منهم: طغريل بن أرسلان السلجوقي، وأولاد غياث الدين صاحب الغور، والملك علاء الدين صاحب باميان، والملك تاج الدين صاحب بلخ، وولده الملك الأعظم صاحب ترمذ، والملك سنجر صاحب بخارا، وأشباههم، وكانت أم خوارزم شاه محمد تركان خاتون، من قبيلة بباووت، وهي فرع من فروع يمسك، وكانت بنت ملك من ملوكهم، تزوج بها تكش بن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوشتكين غرشه، فلما صار الملك إلى ولده محمد بن تكش، قدم إلى والدته تركان خاتون قبائل يمسك من الترك، فعظم شأن ابنها السلطان محمد بهم، وتحكمت أيضاً بسببهم، تركان خاتون في الملك، فلم يملك ابنها إقليماً إلا وأفرد لخاصها منه ناحية جليلة، وكانت ذات مهابة ورأي، وكانت تنتصف للمظلوم من الظالم، وكانت جسورة على القتل، وعظم شأنها بحيث أنه إذا ورد توقيعان عنها وعن السلطان ابنها ينظر إلى تاريخهما، فيعمل بالأخير منهما، وكان طغر توقيعهما عصمة الدنيا والدين، آلغ تركان، ملكة نساء العالمين، وعلامتها اعتصمت بالله وحده، وكانت تكتبها بقلم غليظ، وتجود الكتابة. قال المؤلف المذكور: ثم إن خوارزم شاه محمد، لما هرب من التتر بما وراء النهر وعبر جيحون، ثم سار إلى خراسان والتتر تتبعه، ثم هرب من خراسان ووصل إلى عراق العجم، ونزل عند بسطام، أحضر عشرة صناديق، ثم قال إنها كلها جواهر لا تعلم قيمتها، ثم أشار إلى صندوقين منها وقال: إن فيهما من الجواهر ما يساوي خراج الأرض بجملتها، ثم أمر بحملها إلى قلعة أزدهن، وهي من أحصن قلاع الأرض، وأخذ خط النائب بها بوصول الصناديق المذكورة مختومة، فلما استولى جنكزخان على تلك البلاد، حملت إليه الصناديق

المذكورة بختومها، ثم إن التتر أدركوا السلطان محمد المذكور، فهرب وركب في المركب ولحقه التتر ورموه بالنشاب، ونجا السلطان منهم، وقد حصل له مرض ذات الجنب، قال: ووصل إلى جزيرة في البحر وأقام بها فريداً طريداً، لا يملك طارفاً ولا تليداً، والمرض يزداد، وكان في أهل مازدران أناس يتقربون إليه بالمأكول وما يشتهيه، فقال في بعض الأيام: أشتهي أن يكون عندي فرس يرعى حول خيمتي، وقد ضربت له خيمة صغيرة، فأهدي إليه فرس أصفر، وكان للسلطان محمد المذكور ثلاثون ألف جشار من الخيل، وكان إذا أهدى إليه أحد شيئاً وهو على تلك الحالة في الجزيرة من مأكول وغيره، يطلق لذلك الشخص شيئاً، ولم يكن عنده من يكتب التواقيع، فيتولى ذلك الرجل كتابة توقيعه بنفسه، وكان يعطي مثل السكين والمنديل علامة بإطلاق البلاد والأموال، فلما تولى ابنه جلال الدين، أمضى جميع ما أطلقه والده بالتواقيع والعلائم، ثم أدركت السلطان محمد المنية وهو بالجزيرة على تلك الحالة، فغسله شمس الدين محمود بن بلاغ الجاويش، ومقرب الدين، مقدم الفراشين، ولم يكن عنده ما يكفن به فكفن بقميصه ودفن بالجزيرة في سنة سبع عشرة وستمائة، بعد أن كان بابه، مزدحم ملوك الأرض وعظمائها يشتدون بجنابه، ويتفاخرون بلثم ترابه. ورقى إلى درجة الملوكية جماعة من مماليكه وحاشيته، فصار طشتداره، وركبداره وسلحداره، وجنداره، وغيرهم من أرباب الوظائف، كلهم ملوكاً، وكان في أعلامهم علامات سود يعرفون بها، فعلامة الدوادار الدواه، والسلحدار القوس، وعلامة الطشتدار المسينة، والحمدار النفجة، وعلامة أميراخور النعل، وعلامة الجاويشية قبة ذهب، وكان يمد السماط بين يديه، ويأكل الناس، ويرفع من الطعام الذي في صدر السماط إلى بين يدي الأكابر إذا قعدوا على السماط للأكل، وكانت الزبادي كلها ذهبية وفضية، وكان السلطان محمد المذكور يختص بأمور لا يشاركه فيها أحد منها. المجتر منشوراً على رأسه إذا ركب، ومنها اللكح، وهي أنبوبة تتخذ من الذهب الأحمر بين أذني مركوب السلطان، يخرج منها المعرفة، وتشد إلى طرف اللجام، ومنها الأعلام السود والسروج السود، والنفج السود، محمولة على أكتاف الجمدارية، ولا تحمل لغيره على الكتف، ومنها ن جنايبه كانت تجر قدامه، وجنايب غيره من الملوك كانت تجر وراءهم، ومنها أن أذناب خيله تلف من أوساطها مقدار شبرين، ومنها الجلوس بين يديه على الركبتين لمن يريد مخاطبته. قال المؤلف المذكور: ثم سار جلال الدين بعد موت أبيه السلطان محمد من الجزيرة إلى خوارزم، ثم هرب من التتر ولحق بغزنة وجرى بينه وبين التتر من القتال ما تقدم ذكره. وسار إليه جنكزخان فهرب جلال الدين من غزنة إلى الهند فلحقه جنكزخان على ماء السند، وتصاففا صبيحة يوم الأربعاء لثمان خلون من شوال، سنة ثمان عشرة وستمائة، وكانت الكرة أولاً على جنكزخان، ثم عادت على جلال الدين وحال بينهما الليل وولى جلال الدين منهزماً وأسر ولد جلال

الدين وهو ابن سبع أو ثمان سنين، وقتل بين يدي جنكزخان صبراً. ولما عاد جلال الدين إلى حافة ماء السند كسيراً، رأى والدته وأم ولده وجماعة من حرمه يصحن بالله عليك اقتلنا أو خلصنا من الأسر، فأمر بهن فغرقن، وهذه من عجايب البلايا ونوادر المصائب والرزايا. ثم اقتحم جلال الدين وعسكره ذلك النهر العظيم، فنجا منهم إلى ذلك البر تقدير أربعة آلاف رجل حفاة عراة، ورمى الموج جلال الدين مع ثلاثة عن خواصه إلى موضع بعيد، وفقده أصحابه ثلاثة أيام، وبقي أصحابه لفقده حائرين، وفي تيه الفكر، سائرين إلى أن اتصل بهم جلال الدين فاعتدوا بمقدمه عيداً، وظنوا أنهم انشواً خلفاً جديداً، ثم جرى بين جلال الدين وبين أهل تلك البلاد وقائع انتصر فيها جلال الدين، ووصل إلى لهاوور من الهند، ولما عزم جلال الدين على العود إلى جهة العراق، استناب بهلوان أزبك على ما كان يملكه من بلاد الهند، واستناب معه حسن قراق، ولقبه وفاء ملك، وفي سنة سبع وعشرين وستمائة، طرد وفاء ملك بهلوان أزبك، واستولى وفاء ملك على ما كان يليه البهلوان من بلاد الهند. ثم إن جلال الدين عاد من الهند ووصل إلى كرمان في سنة إحدى وعشرين وستمائة، وقاسى هو وعسكره في البراري القاطعة بين كرمان والهند شدائد، ووصل معه أربعة آلاف رجل، بعضهم ركاب أبقار وبعضهم ركاب حمير، ثم سار جلال الدين إلى خورستان واستولى عليها، ثم استولى على أذربيجان، ثم استولى على كنجة وسائر بلاد آران، ثم إن جلال الدين نقل أباه من الجزيرة إلى قلعة أزدهن ودفنه بها، ولما استولى التتر على القلعة المذكورة نبشوه وأحرقوه، وهذا كان فملهم في، كل ملك عرفوا قبره، فإنهم نبشوا محمود بن سبكتكين من غزنة وأحرقوا عظامه، ثم ذكر ما تقدمت الإشارة إليه من استيلاء جلال الدين على خلاط وغير ذلك، ثم ذكر له على جسر قريب آمد وإرساله يستنجد الملك الأشرف ابن الملك العادل فلم ينجده، وعزم جلال الدين على المسير إلى أصفهان، ثم انثنى عزمه عنه وبات بمنزله، وشرب تلك الليلة فسكر سكراً خماره دوار الرأس، وتقطع الأنفاس، وأحاط التتر به وبعسكره مصبحين. فساهم وبسطهم حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب ومن في كفه منهم قناة ... كمن في كفه منهم خضاب وأحاطت أطلاب التتر بخركاة جلال الدين وهو نائم سكران، فحمل بعض عسكره وهو أرخان، وكشف التتر عن الخركاة، ودخل بعض الخواص وأخذ بيد جلال الدين وأخرجه وعليه طاقية بيضاء، فأركبه الفرس وساق أرخان مع جلال الدين وتبعه التتر، فقال جلال الدين لأرخان انفرد عني بحيث تشتغل التتر يتبع سوادك، وكان ذلك خطأ منه، فإن أرخان تبعه جماعة من العسكر وصاروا تقدير أربعة آلاف فارس، وقصد أصفهان واستولى عليها مدة، ولما

ذكر غير ذلك

انفرد جلال الدين عن أرخان ساق إلى باسورة آمد، فلم يمكن من الدخول إلى آمد، فسار إلى قرية من قرى ميافارقين طالباً شهاب الدين غازي بن الملك العادل صاحب ميافارقين، ثم لحقه التتر في تلك القرية، فهرب جلال الدين إلى جبل هناك وبه أكراد يتخطفون الناس، فأخذوه وشلحوه وأرادوا قتله. فقال جلال الدين لأحدهم إني أنا السلطان، فاستبقني أجعلك ملكاً، فأخذه الكردي وأتى به إلى امرأته، وجعله عندها، ومضى الكردي إلى الجبل لإحضار ما له هناك، فحضر شخص كردي ومعه حربة وقال للامرأة، لم لا تقتلون هذا الخوارزمي؟ فقالت المرأة: لا سبيل إلى ذلك، فقد أمنه زوجي. فقال الكردي: إنه السلطان، وقد قتل لي أخاً بخلاط خيراً منه، وضربه بالحربة فقتله. وكان جلال الدين أسمر قصيراً تركي السارة والعبارة، وكان يتكلم بالفارسية أيضاً، ويكاتب الخليفة على مبدأ الأمر على ما كان يكاتبه به أبوه خوارزم شاه محمد، فكان يكتب خادمه المطواع منكبرني، ثم بعد أخذ خلاط كاتبه بعبده، وكان يكتب إلى ملك الروم وملوك مصر والشام اسمه واسم أبيه، ولم يرض أن يكتب لأحد منهم خادمه أو أخوه أو غير ذلك، وكانت علامته على تواقيعه النصرة من الله وحده، وكان إذا كاتب صاحب الموصل أو أشباهه يكتب له هذه العلامة تعظيماً عن ذكر اسمه، وكان يكتب العلامة بقلم غليظ وكان جلال الدين يخاطب بخذاوند عالم، أي صاحب العالم، وكان مقتله في منتصف شوال من هذه السنة، أعني سنة ثمان وعشرين وستمائة، وهذا ما نقلناه من تاريخ محمد المنشئ، وهو ممن كان في خدمة جلال الدين إلى أن قتل، وكان كاتب الإنشاء الذي له، وكان محظياً متقدماً عنده. ذكر غير ذلك وفي هذه السنة انتهى التاريخ الكامل تأليف الشيخ عز الدين علي المعروف بابن الأثير الجزري، المنقول غالب هذا المختصر منه، فإنه ألفه من هبوط آدم إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، وتوفي عز الدين ابن الأثير المذكور في سنة ثلاثين وستمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى بعد آخر تاريخه بسنتين. وفيها في ذي القعدة توفي بالقاهرة أبو الحسن يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي النحوي الحنفي، كان أحد أئمة عصره في النحو واللغة، وسكن دمشق زماناً طويلاً، وصنف تصانيف مفيدة منها: منظومتة الألفية المشهورة، وكان مولده سنة أربع وستين وخمسمائة، والزواوي منسوب إلى زواوة، وهي قبيلة كبيرة بظاهر بجاية من أعمال إفريقية. ثم دخلت سنة تسع وعشرين وستمائة والسلطانان الكامل والأشرف بالديار المصرية، والملك المظفر بحماة مالكها، ومعها المعرة، وأخوه الملك الناصر قليج أرسلان. ببارين مالكها، والعزيز محمد ابن الظاهر غازي قد استقل بملك حلب، والتتر قد استولوا على بلاد العجم كلها، والخليفة المستنصر بالعراق. ثم ارتحل في هذه السنة

ذكر استيلاء الملك العزيز محمد بن الظاهر صاحب حلب على شيزر

الملك الكامل وأخوه الملك الأشرف من ديار مصر، وسارا إلى البلاد الشرقية، فسار الملك الكامل إلى الشوبك، واحتفل له الملك الناصر داود ابن المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، احتفالاً عظيماً، بالضيافات والإقامات والتقادم، وحصل بينهما الاتحاد التام، وكان نزول الملك الكامل باللجون قرب الكرك، وهي منزله الحجاج في العشر الأخير من شعبان هذه السنة، ووصل إليه باللجون صاحب حماة الملك المظفر محمود، ملتقياً، وسافر الناصر داود مع الملك الكامل بعسكره إلى دمشق، واستصحب الملك الكامل معه ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعل نائبه بمصر ولده وولي عهده الملك العادل سيف الدين أبا بكر ابن الملك الكامل ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. ثم سار الملك الكامل ونزل سلمية، واجتمع معه ملوك أهل بيته في جمع عظيم، ثم سار بهم إلى آمد وحصرها وتسلمها من صاحبها الملك المسعود ابن الملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، ومحمد بن قرا أرسلان المذكور، هو الذي ملكه السلطان صلاح الدين آمد بعد انتزاعها من ابن نيسان، وكان سبب انتزاع الملك الكامل آمد من الملك المسعود المذكور، لسوء سيرة الملك المسعود، وتعرضه لحريم الناس، وكان له عجوز قوادة يقال لها الأزا، كانت تؤلف بينه وبين نساء الناس الأكابر، ونساء الملوك، ولما نزل الملك المسعود إلى خدمة الملك الكامل وسلم آمد وبلادها إليه، ومن جملة معاقلها حصن كيفا، وهو في غاية الحصانة، أحسن الملك الكامل إلى الملك المسعود وأعطاه إقطاعاً جليلاً بديار مصر، ثم بدت منه أمور اعتقله الملك الكامل بسببها. ولم يزل الملك المسعود معتقلاً إلى أن مات الملك الكامل، فخرج من الاعتقال واتصل بحماة، فأحسن إليه الملك المظفر محمود صاحب حماة، ثم سافر الملك المسعود المذكور إلى الشرق واتصل بالتتر فقتلوه، ولما تسلم الملك الكامل آمد وبلادها رتب فيها النواب من جهته وجعل فيها ولده الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، وجعل معه شمس الدين صواب العادلي، وخرجت هذه السنة والملك الكامل بالشرق، ولما خرج الملك الكامل من مصر في هذه السنة، خرج صحبته بنتاه فاطمة خاتون زوجة الملك العزيز صاحب حلب، وغازية خاتون زوجة الملك المظفر صاحب حماة، بنتا الملك الكامل، وحملت كل منهما إلى بعلها، واحتفل لدخولهما بحماة وحلب. وفي هذه السنة ظناً توفي علي بن رسول النائب على اليمن، واستقر مكانه ولده عمر بن علي. ثم دخلت سنة ثلاثين وستمائة في هذه السنة رجع السلطان الملك الكامل من البلاد الشرقية بعد ترتيب أمورها وسار إلى ديار مصر، ورجع كل ملك إلى بلده. الاستيلاء على شيزر ذكر استيلاء الملك العزيز محمد بن الظاهر صاحب حلب على شيزر وكانت شيزر بيد شهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين عثمان ابن الداية، وكان

غير ذلك من الحوادث:

سابق الدين عثمان ابن الداية المذكور وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي، ثم اعتقل الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد، سابق الدين عثمان ابن الداية، وشمس الدين أخاه، فأنكر السلطان صلاح الدين عليه ذلك، وجعله حجة لقصد الشام وانتزعه من الملك الصالح إسماعيل فاتصل أولاد الداية بخدمة السلطان صلاح الدين وصاروا من أكبر أمرائه وكانت شيزر إقطاع سابق الدين المذكور، فأقره السلطان صلاح الدين عليها وزاده أبا قبيس، لما قتل صاحبها خمار دكن، ثم ملك شيزر بعده ولده مسعود بن عثمان حتى مات، وصارت لولده شهاب الدين يوسف المذكور إلى هذه السنة، فسار الملك العزيز صاحب حلب بأمر لملك الكامل وحاصر شيزر، وقدم إليه وهو على حصارها الملك المظفر محمود صاحب حماة مساعداً له، فسلم شهاب الدين يوسف شيزر إلى الملك العزيز ونزل إلي خدمته فتسلمها في هذه السنة، وهنأ الملك العزيز يحيى بن خالد بن قيسراني بقوله: يا مالكاً عم أهل الأرض نائله ... وخص إحسانه الداني مع القاصي لما رأت شيزر آيات نصرك في ... أرجائها ألقت العاصي إلى العاصي ثم ولي الملك العزيز على شيزر وأحسن إلى الملك المظفر محمود صاحب حماة، ورحل كل منهما إلى بلده. وفي هذه السنة استأذن الملك المظفر محمود صاحب حماة الملك الكامل في انتزاع بارين من أخيه قليج أرسلان، لأنه خشي أن يسلمها إلى الفرنج لضعف قليج أرسلان عن مقاومتهم، فأذن الملك الكامل له في ذلك فسار الملك المظفر من حماة وحاصر بارين وانتزعها من أخيه قليج أرسلان ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ولما نزل قليج أرسلان إلى أخيه الملك المظفر أحسن إليه وسأله في الإقامة عنده بحماة، فامتنع وسار إلى مصر، فبذل له الملك الكامل إقطاعاً جليلاً وأطلق له أملاك جده بدمشق ثم بدا منه ما لا يليق من الكلام، فاعتقله الملك الكامل إلى أن مات قليج أرسلان المذكور في الحبس سنة خمس وثلاثين وستمائة، قبل موت الملك الكامل بأيام. غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة توفي مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كجك. وقد تقدم ذكر ملكه أربل بعد موت أخيه نور الدين يوسف بن زين الدين علي في سنة ست وثمانين وخمسمائة، لما كانا في خدمة السلطان صلاح الدين في الجهاد بالساحل، فبقي مالكها من تلك السنة إلى هذه السنة، ولما مات مظفر الدين المذكور، لم يكن له ولد، فوصى بأربل وبلادها للخليفة المستنصر، فتسلمها الخليفة بعد موت مظفر الدين المذكور، وكان مظفر الدين ملكاً شجاعاً، وفيه عسف في استخراج الأموال من الرعية، وكان يحتفل بمولد النبي

ملك بلاد الروم:

صلى الله عليه وسلم وينفق فيه الأموال الجليلة. وفيها في شعبان توفي الشيخ عز الدين علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري، ولد بجزيرة ابن عمر في رابع جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ونشأ بها ثم صار إلى الموصل مع والده وإخوته، وسمع بها من أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي، ومن في طبقته، وقدم بغداد مراراً، حاجاً ورسولاً من صاحب الموصل، وسمع من الشيخين يعيش بن صدقة، وعبد الوهاب بن علي الصوفي، وغيرهما، ثم رحل إلى الشام والقدس وسمع هناك من جماعة، ثم عاد إلى الموصل وانقطع في بيته للتوفير على العلم، وكان إماماً في علم الحديث، وحافظاً للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، وخبيراً بأنساب العرب وأخبارهم، وصنف في التاريخ كتاباً كبيراً سماه الكامل، وهو المنقول منه غالب هذا المختصر، ابتدأ فيه من أول الزمان إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، وله كتاب أخبار الصحابة في ست مجلدات، واختصر كتاب الأنساب للسمعاني، وهو الموجود في أيدي الناس، دون كتاب السمعاني، وورث إلى حلب في سنة ست وعشرين وستمائة، ثم سافر ونزل عند الطواشي طغريل الأتابك بحلب، فأكرمه، إكراماً زائداً، ثم سافر إلى دمشق سنة سبع وعشرين، ثم عاد إلى حلب في سنة ثمان وعشرين، ثم توجه إلى الموصل فتوفي بها في التاريخ المذكور، ونسبة الجزيرة إلى ابن عمر، وهو رجل من أهل برقعيد من أعمال الموصل، اسمه عبد العزيز بن عمر، بنى هذه المدينة فأضيفت إليه. ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة في هذه السنة في المحرم توفي شهاب الدين طغريل الأتابك بحلب. مسير السلطان الملك الكامل من مصر إلى قتال كيقباذ ملك بلاد الروم: في هذه السنة وقع من كيقباذ بن كيخسرو ملك بلاد الروم، التعرض إلى بلاد خلاط، فرحل الملك الكامل بعساكره من مصر، واجتمعت عليه الملوك من أهل بيته، ونزل شمالي سلمية في شهر رمضان من هذه السنة، ثم سار بجموعه ونزل على النهر الأزرق في حدود بلد الروم، وقد ضرب في عسكره ستة عشر دهليزاً، لستة عشر ملكاً في خدمته، منهم إخوته الملك الأشرف موسى صاحب دمشق، والملك المظفر غازي صاحب ميافارقين، والملك الحافظ أرسلان شاه صاحب قلعة جعبر، والصالح إسماعيل أولاد الملك العادل، والملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، كان قد أرسله ابن أخيه الملك العزيز صاحب حلب مقدماً على عسكر حلب، إلى خدمة السلطان الملك الكامل، والملك الزاهر صاحب البيرة، داود ابن السلطان صلاح الدين، وأخوه الملك الأفضل موسى صاحب صميصات، ابن السلطان صلاح الدين، وكان قد ملكها بعد أخيه الملك الأفضل علي، والملك المظفر محمود صاحب حماة، ابن

الملك المنصور محمد، والملك الصالح أحمد صاحب عينتاب ابن الملك الظاهر صاحب حلب والملك الناصر داود صاحب الكرك ابن الملك المعظم عيسى، ابن الملك العادل، والملك المجاهد شيركوه صاحب حمص، ابن محمد بن شيركوه. وكان قد حفظ كيقباذ عك بلاد الروم، الدربندات بالرجال والمقاتلة، فلم يتمكن السلطان من الدخول إلى بلاد الروم من جهة النهر الأزرق، وأرسل بعض العسكر إلى حصن منصور وهو من بلاد كيقباذ، فهدموه، ورحل السلطان وقطع الفرات وسار إلى السويداء، وقدم جاسته تقدير ألفين وخمسمائة فارس مع الملك المظفر صاحب حماة، فسار الملك المظفر بهم إلى خرتبرت، وسار كيقباذ ملك الروم إليهم، واقتتلوا، فانهزم العسكر الكاملي، وانحصر الملك المظفر صاحب حماة في خرتبرت مع جملة من العسكر، وجد كيقباذ في حصارهم والملك الكامل بالسويداء، وقد أحس من الملوك الذين في خدمته بالمخامرة والتقاعد، فإن شيركوه صاحب حمص سعى إليهم وقال: إن السلطان ذكر أنه متى، ملك بلاد الروم فرقه على الملوك من أهل بيته عوض ما بأيديهم من الشام، ويأخذ الشام جميعه لينفرد بملك الشام ومصر، فتقاعدوا عن القتال وفسدت نياتهم، وعلم الملك الكامل بذلك، فأمكنه التحرك إلى قتال كيقباذ، لذلك، ودام الحصار على الملك المظفر صاحب حماة، فطلب الأمان فأمنه كيقباذ، ونزل إليه الملك المظفر، فأكرمه كيقباذ وخلع عليه ونادمه، وتسلم كيقباذ خرتبرت وأخذها من صاحبها، وكان من الأرتقية، قرايب أصحاب ماردين، وكان قد دخل في طاعة الملك الكامل، وصارت خرتبرت من بلاد كيقباذ، وكان نزول المظفر صاحب حماة من خرتبرت يوم الأحد لسبع من ذي القعدة، وأقام عند كيقباذ يومين ثم أطلقه، وسار من عنده لخمس بقين من ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة إحدى وثلاثين وستمائة ووصل بمن معه إلى الملك الكامل وهو بالسويداء من بلاد آمد، ففرح به وقوى نفرة السلطان الملك الكامل يومئذ من الناصر داود صاحب الكرك، فألزمه بطلاق بنته، فطلقها الناصر في داود، وأثبت الملك الكامل طلاقها منه. وفي هذه السنة استتم بناء قلعة المعرة، وكان قد أشار سيف الدين علي بن أبي علي الهذباني، على الملك المظفر صاحب حماة ببنائها، فبناها، وتمت الآن، وشحنها بالرجال والسلاح، ولم يكن ذلك مصلحة، لأن الحلبيين حاصروها فيما بعد، وأخذوها، وخرجت المعرة بسببها. وفي هذه السنة توفي سيف الدين الآمدي، وكان فاضلاً في العلوم العقلية، والأصولين وغيرها، واسمه علي بن أبي محمد بن سالم الثعلبي، وكان في مبتدأ أمره حنبلياً، ثم انتقل وصار فقيهاً شافعياً، واشتغل بالأصول، وصنف في أصول الفقه، وأصول الدين، والمعقولات عدة مصنفات، وأقام بمصر مدة، وتصدر في الجامع وفي المدرسة الملاصقة لتربة الشافعي، وتحامل عليه الفقهاء الفضلاء، وعملوا محضراً ونسبوه فيه إلى انحلال العقيدة

ومذهب الفلاسفة، وحملوا المحضر إلى بعض الفقهاء الفضلاء، ليكتب خطه حسبما وضعوا خطوطهم به فكتب: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم ولما جرى ذلك استتر الآمدي المذكور وسار إلى حماة، وأقام فيها مدة، ثم عاد إلى دمشق حتى توفي بها في هذه السنة، وكانت ولادته في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. وفيها توفي الصلاح الأربلي، وكان فاضلاً شاعراً أميراً محظياً عند الملكين الكامل والأشرف ابني الملك العادل. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة والملك الكامل بالبلاد الشرقية، وقد انثنى عزمه عن قصد بلاد الروم، للتخاذل الذي حصل في عسكره، ثم رحل وعاد إلى مصر، وعاد كل واحد من الملوك إلى بلده. وفيها توفي الملك الزاهر داود صاحب البيرة ابن السلطان صلاح الدين، وكان قد مرض في العسكر الكاملي فحمل إلى البيرة مريضاً وتوفي بها، وملك البيرة بعده ابن أخيه الملك العزيز محمد صاحب حلب، وكان الزاهر المذكور شقيق الظاهر صاحب حلب. وفيها توفي القاضي بهاء الدين بن شداد، في صفر وكان عمره نحو ثلاث وتسعين سنة، وصحب السلطان صلاح الدين، وكان قاضي عسكره، ولما توفي صلاح الدين كان عمر القاضي المذكور نحو خمسين سنة، ونال القاضي بهاء الدين المذكور من المنزلة عند أولاد صلاح الدين، وعند الأتابك طغريل، ما لم ينلها أحد ولم يكن في أيامه من اسمه شداد، بل لعل ذلك في نسب أمه فاشتهر به وغلب عليه، وأصله من الموصل، وكان فاضلاً ديناً، وكان إقطاعه على الملك العزيز ما يزيد على مائة ألف درهم في السنة. وفيها لما سارت الملوك إلى بلادهم من خدمة الملك الكامل، وصل الملك المظفر صاحب حماة ودخلها، لخمس بقين من ربيع الأول من هذه السنة، واتفق مولد ولده المنصور محمد بعد مقدمه بيومين في الساعة الخامسة من يوم الخميس، لليلتين بقيتا من ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، فتضاعف السرور بقدوم الوالد والولد. قال الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد قصيدة طويلة في ذلك، فمنها: غدا الملك محروس الذرى والقواعد ... بأشرف مولود لأشرف والد حبينا به يوم الخميس كأنه ... خميس بدا للناس في شخص واحد وسميته باسم النبي محمد ... وجديه فاستوفى جميع المحامد أي باسم جديه الملك الكامل محمد، والد والدته، والملك المنصور محمد صاحب حماة، والد والده، ومنها: كأني به في سدة الملك جالساً ... وقد ساد في أوصافه كل سائد ووافاك من أبنائه وبنيهم ... بأنجم سعد نورها غير خامد

ألا أيها الملك المظفر دعوتي ... ستوري بها زندي ويشتد ساعدي هضيئاً لك الملك الذي بقدومه ... ترحل عنا كل هم معاود وفيها لما تفرقت العساكر الكاملية، قصد كيقباذ كيخسرو صاحب بلاد الروم حران والرها، وحاصرهما، واستولى عليهما، وكانا للسلطان الملك الكامل. وفيها توفي بالقاهرة القاسم بن عمر بن علي الحموي، المصري الدار، المعروف بابن الفارض، وله أشعار جيدة، منها قصيدته التي عملها على طريقة الفقراء، وهي مقدار ستمائة بيت. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة في هذه السنة سار الناصر داود من الكرك إلى بغداد، ملتجئاً إلى الخليفة المستنصر، لما حصل عنده من الخوف من عمه الملك الكامل، وقدم إلى الخليفة تحفاً عظيمة، وجواهر نفيسة، فأكرمه الخليفة المستنصر وخلع عليه، وعلى أصحابه، وكان الناصر داود يظن أن الخليفة يستحضره في ملأ من الناس كما استحضر مظفر الدين صاحب إربل، فلم يحصل له ذلك، وألح في طلب ذلك من الخليفة فلم يجبه، فعمل الناصر المذكور قصيدة يمدح المستنصر فيها ويعرض بصاحب إربل واستحضاره، ويطلب الأسوة به وهي قصيدة طويلة منها: فأنت الإمام العدل والمفرق الذي ... به شرفت أنسابه ومناصبه جمعت شتيت المجد بعد افتراقه ... وفرقت جمع المال فانهال كاتبه ألا يا أمير المؤمنين ومن غدت ... على كاهل الجوزاء تعلو مراتبه أيحسن في شرع المعالي ودينها ... وأنت الذي تعزى إليك مذاهبه بأني أخوض الدو والدو مقفر ... سآريبه مغبرة وسباسبه وقد رصد الأعداء لي كل مرصد ... فكلهم نحوي تدب عقاربه منها: وتسمح لي بالمال والجاه بغبتي ... وما الجاه إلا بعض ما أنت واهبه ويأتيك غيري من بلاد قريبة ... له الأمن فيها صاحب لا يجانبه فيلقى دنواً منك لم ألق مثله ... ويحص وما أحظى بما أنا طالبه وينظر من لألآء قدسك نظرة ... فيرجع والنور الإمامي صاحبه ولو كان يعلوني بنفس ورتبة ... وصدق ولاء لست فيه أصاقبه لكنت أسلي النفس عما أرومه ... وكنت أذود العين عما يراقبه ولكنه مثلي ولو قلت أنني ... أزيد عليه لم يعب ذاك عايبه وما أنا ممن يملأ المال عينه ... ولا بسوى التقريب تقضى مآربه وكان الخليفة متوقفاً على استحضار الناصر داود، رعاية لخاطر الملك الكامل، فجمع بين

المصلحتين واستحضره ليلاً، ثم عاد الملك الناصر إلى الكرك. وفي هذه السنة سار السلطان الملك الكامل من مصر إلى البلاد الشرقية، واسترجع حران والرها من يد كيقباذ صاحب بلاد الروم، وأمسك أجناد كيقباذ ونوابه الذين كانوا بهما، وقيدهم وأرسلهم إلى مصر، فلم يستحسن ذلك منه، ثم عاد الملك الكامل إلى دمشق وأقام عند أخيه الملك الأشرف حتى خرجت هذه السنة. وفي هذه السنة توفي شرف الدين محمد بن نصر بن عنين الزرعي، الشاعر المشهور، وكان شاعراً مفلقاً، وكان يكثر هجو الناس، عمل قصيدة خمسمائة بيت سماها مقراض الأعراض، لم يسلم منها أحد من أهل دمشق، ونفاه السلطان صلاح الدين إلى اليمن، فمدح صاحبها طغتكين بن أيوب، وحصل له منه أموال كثيرة، عمل بها ابن عنين متجراً وقدم به إلى مصر، وصاحبها حينئذ العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين، فلما أخذت من ابن عنين زكاة ما معه على عادة التجار، قال في العزيز: ما كل من يتسمى بالعزيز لها ... أهل ولا كل برق سحبه غدقه بين العزيزين بون في فعالهما ... فذاك يعطي وهذا يأخذ الصدقه ثم سار ابن عنين المذكور إلى دمشق، ولازم الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، وبقي عنده. وتوفي بدمشق في هذه السنة، وديوانه مشهور. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة فيها عاد السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية. ذكر وفاة الملك العزيز صاحب حلب وفي هذه السنة كان قد خرج الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى حارم للصيد ورمى البندق، واغتسل بماء بارد، فحم، ودخل إلى حلب، وقد قويت به الحمى واشتد مرضه، وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة وكان عمره ثلاثاً وعشرين سنة وشهوراً، وكان حسن السيرة في رعيته، ولما توفي تقرر في الملك بعده ولده الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد، وعمره نحو سبع سنين، وقام بتدبير الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني، وعز الدين عمر بن مجلي، وجمال الدولة إقبال الخاتوني، والمرجع في الأمور إلى والدة الملك العزيز، ضيفة خاتون بنت الملك العادل. وفي هذه السنة توفي علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو صاحب بلاد الروم، وملك بعده ابنه غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان ابن قطلمش بن أرسلان بن سلجوق. وفي هذه السنة قويت الوحشة بين الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف، وكان ابتداؤها ما فعله شيركوه صاحب حمص، لما قصد الملك الكامل بلاد الروم، فاتفق الملك الأشرف مع صاحبة حلب ضيفة خاتون

أخت الملك الكامل، ومع باقي الملوك على خلاف الملك الكامل، خلا الملك المظفر صاحب حماة، فلما امتنع تهدده الملك الأشرف بقصد بلاده وانتزاعها منه فقدم خوفاً من ذلك إلى دمشق وحلف للملك الأشرف ووافقه على قتال الملك الكامل، وكاتب الملك الأشرف كيخسرو صاحب بلاد الروم، واتفق معه على قتال أخيه الملك الكامل إن خرج من مصر، وأرسل الملك الأشرف يقول للناصر داود صاحب الكرك إن وافقتني جعلتك ولي عهدي، وأوصيت لك بدمشق، وزوجتك بابنتي، فلم يوافقه الناصر على ذلك لسوء حظه، ورحل إلى الديار المصرية إلى خدمة الملك الكامل، وصار معه على ملوك الشام، فسر به الملك الكامل وجدد عقده على ابنته عاشوراء التي طلقها منه، وأركب الناصر داود بسناجق السلطنة، ووعده أنه ينتزع دمشق من الملك الأشرف أخيه ويعطيه إياها، وأمر الملك الكامل أمراء مصر وولده الملك العادل أبا بكر ابن الملك الكامل، فحملوا الغاشية بين يدي الملك الناصر داود، وبالغ في إكرامه. وفي هذه السنة توجه عسكر حلب مع الملك المعظم توران شاه عم الملك العزيز، فحاصروا بغراس وكان قد عمرها الداويه، بعد ما فتحها السلطان صلاح الدين وخربها، وأشرف عسكر حلب على أخذها، ثم رحلوا عنها بسبب الهدنة مع صاحب أنطاكية، ثم إن الفرنج أغاروا على ربض دربساك وهي حينئذ لصاحب حلب، فوقع بهم عسكر حلب وولى الفرنج منهزمين، وكثر فيهم القتل والأسر، وعاد عسكر حلب بالأسرى ورؤوس الفرنج وكانت هذه الوقعة من أجل الوقائع. وفي هذه السنة استخدم الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، وهو بالبلاد الشرقية، وهي آمد وحصن كيفا وحران وغيرها، نائباً عن أبيه، الخوارزمية، عسكر جلال الدين منكبرني، فإنهم بعد قتله ساروا إلى كيقباذ ملك بلاد الروم، وخدموا عنده، وكان فيهم عدة مقدمين، مثل بركب خان، وكشلوخان وصاروخان، وفرخان، وبردي خان، فلما مات كيقباذ وتولى ابنه كيخسرو وقبض على بركب خان وهو أكبر مقدميهم، ففارقت الخوارزمية حينئذ خدمته، وساروا عن الروم، ونهبوا ما كان على طريقهم، فاستمالهم الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، واستأذن أباه في استخدامهم، فأذن له واستخدمهم. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وستمائة وقد استحكمت الوحشة بين الأخوين الكامل والأشرف، وقد لحق الملك الأشرف الذرب، وضعف بسببه، وعهد بالملك إلى أخيه الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل صاحب بصرى. ذكر وفاة الملك الأشرف وفي هذه السنة توفي الملك الأشرف، مظفر الدين موسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد مرض بالذرب، واشتد به حتى توفي في المحرم من هذه السنة، وتملك دمشق أخوه الصالح إسماعيل بعهد منه، وكان مدة ملك الأشرف دمشق ثمان سنين

ووفاته، وما يتعلق بذلك:

وشهوراً، وعمره نحو ستين سنة، وكان مفرط السخاء يطلق الأموال الجليلة النفيسة، وكان ميمون النقيبة، لم تنهزم له راية، وكان سعيداً، ويتفق له أشياء خارقة للعقل، وكان حسن العقيدة، وبنى بدمشق قصوراً ومنتزهات حسنة، وكان منهمكاً في اللذات وسماع الأغاني فلما مرض أقلع عن ذلك، وأقبل على الاستغفار إلى أن توفي، ودفن في تربته بجانب الجامع، ولم يخلف من الأولاد إلا بنتاً واحدة، توجها الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل. وكان سبب الوحشة بينه وبين أخيه الملك الكامل بعد ما كان بينهما من المصافات، أن الملك الأشرف لم يبق بيده غير دمشق وبلادها وكانت لا تفي بما يحتاجه وما يبذله وقت أخيه الملك الكامل إلى دمشق، وأيضاً لما فتح الملك الكامل آمد وبلادها لم يزده منها شيئاً، وأيضاً بلغه أن الملك الكامل يريد أن ينفرد بمصر والشام، وينتزع دمشق منه، فتغير بسبب ذلك، ولما استقر الملك الصالح إسماعيل في ملك دمشق، كتب إلى الملوك من أهله إلى كيخسرو صاحب بلاد الروم في اتفاقهم معه على أخيه الملك الكامل، فوافقوه على ذلك إلا الملك المظفر صاحب حماة، وأرسل الملك المظفر رسولاً إلى الملك الكامل يعرفه انتماءه إليه، أنه إنما وافق الملك الأشرف خوفاً منه، فقبل الملك الكامل عذره، وتحقق صدق ولائه ووعده بانتزاع سلمية من صاحب حمص وتسليمها إليه. ذكر مسير السلطان الملك الكامل إلى دمشق واستيلائه عليها ووفاته، وما يتعلق بذلك: لما بلغ الملك الكامل وفاة أخيه الملك الأشرف، سار إلى دمشق ومعه الناصر داود صاحب الكرك، وهو لا يشك أن الملك الكامل يسلم إليه دمشق، لما كان قد تقرر بينهما، وأما الملك الصالح إسماعيل، فإنه استعد للحصار، ووصل إليه نجدة الحلبيين وصاحب حمص، ونازل الملك الكامل دمشق، وأخرج الملك الصالح إسماعيل النفاطين، فأحرق العقيبة جميعها وما بها من خانات وأسواق، وفي مدة حصار، وصل من عند صاحب حمص رجالة يزيدون على خمسين راجلاً، نجدة للصالح إسماعيل، وظفر بهم الملك الكامل، فشنقهم بين البساتين عن آخرهم، وحال نزول الملك الكامل على دمشق أرسل توقيعاً للملك المظفر صاحب حماة بسلمية، فتسلمها الملك المظفر واستقرت نوابه بها، وكان نزول الملك الكامل على دمشق في جمادى الأولى من هذه السنة، في قوة الشتاء. ثم سلم الملك الصالح إسماعيل دمشق إلى أخيه الملك الكامل، وتعرض عنها بعلبك والبقاع، مضافاً إلى بصرى، وكان قد ورد من الخليفة المستنصر محي الدين يوسف ابن الشيخ جمال الدين ابن الجوزي، رسولاً للتوفيق بين الملوك، فتسلم الملك الكامل دمشق لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وكان الملك الكامل شديد الحنق على شيركوه صاحب حمص،

فأمر العسكر فبرزوا لقصد حمص، وأرسل إلى صاحب حماة وأمره بالمسير إليها، فبرز الملك المظفر من حماة ونزل على الرستن، واشتد خوف شيركوه صاحب حمص، وتخضع للملك الكامل، وأرسل إليه نساءه، ودخلن على الملك الكامل، فلم يلتفت إلى ذلك، ثم بعد استقرار الملك الكامل، في دمشق، لم يلبث غير أيام حتى مرض واشتد مرضه، وكان سببه، أنه لما دخل قلعة دمشق أصابه زكام، فدخل الحمام وسكب عليه ماء شديد الحرارة، فاندفعت النزلة إلى معدته وتورمت منها، وحصل له حمى، ونهاه الأطباء عن القيء، وخوفوه منه فلم يقبل، وتقيأ فمات لوقته، وعمره نحو ستين سنة، وكانت وفاته لتسع بقين من رجب من هذه السنة، أعني سنة خمس وثلاثين وستمائة، وكان بين موته وموت أخيه الملك الأشرف نحو ستة أشهر، وكانت مدة ملكه لمصر من حين مات أبوه عشرين سنة، وكان بها نائباً قبل ذلك قريباً من عشرين سنة، فحكم في مصر نائباً وملكاً نحو أربعين سنة، وأشبه حاله حال معاوية بن أبي سفيان، فإنه حكم في الشام نائباً نحو عشرين، وملكاً نحو عشرين. وكان الملك الكامل ملكاً جليلاً مهيباً حازماً، حسن التدبير، أمنت الطرق في أيامه، وكان يباشر تدبير المملكة بنفسه، واستوزر في أول ملكه وزير أبيه صفي الدين بن شكر، فلما مات ابن شكر لم يستوزر أحداً بعده، وكان يخرج الملك الكامل بنفسه فينظر في أمور الجسور عند زيادة النيل، وإصلاحها، فعمرت في أيامه ديار مصر أتم العمارة، وكان محباً للعلماء ومجالستهم، وكانت عنده مسائل غريبة في الفقه والنحو يمتحن بها الفضلاء، إذا حضروا في خدمته، وكان كثير السماع للأحاديث النبوية، تقدم عنده بسببها الشيخ عمر بن دحية، وبنى له دار الحديث بين القصرين، في الجانب الغربي، وكانت سوق الآداب والعلوم عنده نافقة رحمه الله تعالى، وكان أولاد الشيخ صدر الدين بن حمويه من أكابر دولته، وهم الأمير فخر الدين ابن الشيخ، وإخوته عماد الدين، وكمال الدين، ومعين الدين، أولاد الشيخ المذكور، وكل من أولاد الشيخ المذكور حاز فضيلتي السيف والقلم، فكان يباشر التدريس، ويتقدم على الجيش، ولما مات السلطان الملك الكامل بدمشق، كان معه بها الملك الناصر داود صاحب الكرك فاتفق آراء الأمراء على تحليف العسكر للملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل، وهو حينئذ نائب أبيه بمصر، فحلف له جميع العسكر، وأقاموا في دمشق الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل أبو بكر ابن أيوب، نائباً عن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل، وتقدمت الأمراء إلى الملك الناصر داود بالرحيل عن دمشق، وهددوه إن أقام، فرحل الملك الناصر داود إلى الكرك، وتفرقت العساكر، فسار أكثرهم إلى مصر، وتأخر مع الجواد يونس بعض العسكر، ومقدمهم عماد الدين ابن الشيخ، وبقي يباشر الأمور مع الملك الجواد، ولما بلغ شيركوه صاحب

حمص وفاة الملك الكامل فرح فرحاً عظيماً، وأتاه فرج ما كان يطمع نفسه به، وأظهر سروراً عظيماً، ولعب بالكرة على خلاف العادة، وهو في عشر السبعين، وأما الملك المظفر صاحب حماة، فإنه حزن لذلك حزناً عظيماً ورحل من الرستن وعاد إلى حماة وأقام فيها للعزاء، وأرسل صاحب حمص وارتجع سلمية من نواب الملك المظفر وقطع القناة الواصلة من سلمية إلى حماة، فيبست بساتينها، ثم عزم على قطع النهر العاصي عن حماة، فسد مخرجه من بحيرة قدس التي بظاهر حمص، فبطلت نواعير حماة والطواحين، وذهب ماء العاصي في أودية بجوانب البحيرة، ثم لما لم يجد له الماء مسلكاً عاد فهدم ما عمله صاحب حمص، وجرى كما كان أولاً، وكذلك كان قد حصل لصاحب حلب ولعسكرها، الخوف من الملك الكامل، فلما بلغهم موته أمنوا من ذلك. ذكر استيلاء الحلبيين على المعرة وحصارهم حماة ولما بلغ الحلبيين موت الكامل، اتفقت آراؤهم على أخذ المعرة، ثم أخذ حماة من الملك المظفر صاحب حماة لموافقته الملك الكامل على قصدهم، ووصل عسكر حلب إلى المعرة وانتزعوها من يد الملك المظفر صاحب حماة، وحاصروا قلعتها، وخرجت المعرة حينئذ عن ملك الملك المظفر صاحب حماة، ثم سار عسكر حلب ومقدمهم المعظم توران شاه بن صلاح الدين إلى حماة، بعد استيلائهم على المعرة، ونازلوا حماة وبها صاحبها الملك المظفر، ونهب العسكر الحلبي بلاد حماة، واستمر الحصار على حماة حتى خرجت هذه السنة. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، عقد لسلطان الروم غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو، العقد على غازية خاتون بنت الملك العزيز محمد، صاحب حلب وهي صغيرة حينئذ، وتولى القبول عن ملك بلاد الروم قاضي دوقات، ثم عقد للملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب، العقد على أخت كيخسرو، وهي ملكة خاتون بنت كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان، وأم ملكة خاتون المذكورة، بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد زوجها الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، بكيقباذ المذكور، وخطب لغياث الدين كيخسرو بحلب. وفيها خرجت الخوارزمية عن طاعة الملك الصالح أيوب بعد موت أبيه الملك الكامل، ونهبوا البلاد. وفيها سار لؤلؤ صاحب الموصل وحاصر الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل بسنجار، فأرسل الملك الصالح واسترضى الخوارزمية وبذل لهم حران والرها، فعادوا إلى طاعته، واتقع مع بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، فانهزم لؤلؤ وعسكره هزيمة قبيحة، وغنم عسكر الملك الصالح منهم شيئاً كثيراً. وفي هذه السنة جرى بين الملك الناصر داوود صاحب الكرك، وبين الملك الجواد يونس، المتولي على

دمشق، مصاف، بين جينين ونابلس، انتصر فيه الملك الجواد يونس، وانهزم الملك الناصر داود هزيمة قبيحة، وقوى الملك الجواد بسبب هذه الوقعة وتمكن من دمشق، ونهب عسكر الملك الناس وأثقاله. وفي أواخر هذه السنة ولد والدي الملك الأفضل نور الدين علي ابن الملك المظفر صاحب حماة. ثم دخلت سنة ست وثلاثين وستمائة. في هذه السنة رحل عسكر حلب المحاصرة لحماة بعد مولد الملك الأفضل، وكان قد طالت مدة حصارهم لحماة، وضجروا فتقدمت إليهم ضيفة خاتون صاحبة حلب بنت الملك العادل بالرحيل عنها، فرحلوا، وضاق الأمر على الملك المظفر في هذا الحصار، وأنفق فيه أموالاً كثيرة، واستمرت المعرة في يد الحلبيين، وسلمية في يد صاحب حمص، ولم يبق بيد الملك المظفر غير حماة وبعرين، ولما جرى ذلك خاف الملك المظفر أن تخرج بعرين بسبب قلعتها، فتقدم بهدمها، فهدمت إلى الأرض في هذه السنة. ذكر استيلاء الملك الصالح أيوب على دمشق وفي هذه السنة في جمادى الآخرة، استولى الملك الصالح أيوب ابن السلطان لملك الكامل على دمشق وأعمالها، بتسليم الملك الجواد يونس، وأخذ العوض كنها سنجار والرقة وعانة، وكان سبب ذلك أن الملك العادل ابن الملك الكامل صاحب مصر، لما علم باستيلاء الملك الجواد على دمشق، أرسل إليه عماد الدين ابن الشيخ لينتزع دمشق منه، وأن يعوض عنها إقطاعاً بمصر، فمال الجواد يونس إلى تسليمها إلى الملك الصالح حسبما ذكرناه، وجهز على عماد الدين ابن الشيخ من وقف له بقصة، فلما أخذها عماد الدين منه ضربه ذلك الرجل بسكين فقتله، ولما وصل الملك الصالح أيوب إلى دمشق، وصل معه الملك المظفر صاحب حماة معاضداً له، وكان قد لاقاه إلى أثناء الطريق، واستقر الملك الصالح أيوب المذكور في ملك دمشق، وسار الجواد يونس إلى البلاد الشرقية المذكورة، فتسلمها، ولما استقر ملك الملك الصالح بدمشق، وردت عليه كتب المصريين يستدعونه إلى مصر ليملكها، وسأله الملك المظفر صاحب حماة في منازلة حمص وأخذها من شيركوه، فبرز إلى الثنية، وكان قد نازلت الخوارزمية وصاحب حماة، حمص، فأرسل شيركوه مالاً كثيراً وفرقه في الخوارزمية، فرحلوا عنه إلى البلاد الشرقية، ورحل صاحب حماة إلى حماة، ثم كر الملك الصالح عائداً إلى دمشق، طالباً مصر، وسار من دمشق إلى خربة اللصوص، وعيد بها عيد رمضان، ووصل إليه بعض عساكر مصر مقفزين، ولما خرج الملك الصالح من دمشق، جعل نائبه فيها ولده الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الصالح، وشرع الملك الصالح يكاتب عمه الصالح إسماعيل صاحب بعلبك، ويستدعيه إليه، وعمه إسماعيل المذكور، يتحجج ويعتذر عن الحضور،

ويظهر له أنه معه، وهو يعمل في الباطن على ملك دمشق وأخذها من الصالح أيوب، وكان قد سافر الملك الناصر صاحب الكرك إلى مصر واتفق مع الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل على قتال الملك الصالح أيوب. ووصل أيضاً في هذه السنة محي الدين ابن الجوزي رسولاً من الخليفة ليصلح بين الأخوين العادل صاحب مصر، والصالح أيوب المستولي على دمشق، وهذا محي الدين هو الذي حضر ليصلح بين الكامل والأشرف، فاتفق أنه مات في حضوره في سنة أربع وثلاثين وخمس وثلاثين أربعة من السلاطين العظماء، وهم الملك الكامل صاحب مصر، وأخوه الأشرف صاحب دمشق، والعزيز صاحب حلب، وكيقباذ صاحب بلاد الروم. فقال في ذلك ابن المسجف أحد شعراء دمشق: يا إمام الهدى أبا جعفر المن ... صور يا من له الفخار الأثيل ما جرى من رسولك الآن محي الدين ... في هذه البلاد قليل جاء والأرض بالسلاطين تزهى ... وغدا والديار منهم طلول أقفر الروم والشآم ومصر ... أفهذا مغسل أم رسول ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة في هذه السنة في صفر سار الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك، ومعه شيركوه صاحب حمص، بجموعهما، وهجموا دمشق، وحصروا القلعة، وتسلمها الصالح إسماعيل، وقبض على المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الصالح أيوب. وكان الملك الصالح أيوب بنابلس لقصد الاستيلاء على ديار مصر، وكان قد بلغه سعي عمه إسماعيل في الباطن. وكان للصالح أيوب طبيب يثق به يقال له الحكيم سعد الدين الدمشقي، فأرسله الصالح أيوب إلى بعلبك، ومعه قفص من حمام نابلس: ليطلعه بأخبار الصلح صاحب بعلبك وحال وصول الحكيم المذكور، علم به صاحب بعلبك، فاستحضره وأكرمه وسرق الحمام التي لنابلس، وجعل موضعها حمام بعلبك، ولم يشعر الطبيب المذكور بذلك، فصار الطبيب المذكور يكتب أن عمك إسماعيل قد جمع، وهو في نية قصد دمشق، ويطبق فيقعد الطير ببعلبك، فيأخذ الصالح إسماعيل البطاقة ويزور على الحكيم، أن عمك إسماعيل قد جمع ليعاضدك، وهو واصل إليك ويسرجه على حمام نابلس، فيعتمد الصالح أيوب على بطاقة الحكيم ويترك ما يرد إليه من غيره من الأخبار. واتفق أيضاً أن الملك المظفر صاحب حماة، علم بسعي الصالح إسماعيل صاحب بعلبك في أخذ دمشق، مع خلوها ممن يحفظها، فجهز نائبه سيف الدين علي بن أبي علي، ومعه جماعة من عسكر حماة وغيرهم، وجهز معه من السلاح والمال شيئاً كثيراً، ليصل إلى دمشق ويحفظها لصاحبها، وأظهر الملك المظفر وابن أبي علي أنهما قد اختصما، وأن ابن أبي

ذكر غير ذلك

علي قد غضب واجتمع معه هذه الجماعة، وقد قصدوا فراق صاحب حماة، لأنه يريد أن يسلم حماة للفرنج، كل ذلك خوفاً من صاحب حمص شيركوه لئلا يقصد ابن أبي علي ويمنعه، فلم تخف عن شيركوه هذه الحيلة، ولما وصل ابن أبي جملي إلى بحيرة حمص، قصده شيركوه وأظهر أنه مصدقه، فيما ذكر، وسأله الدخول إلى حمص ليضيفه، وأخذ ابن أبي علي معه، وأرسل من استدعى باقي أصحاب ابن أبي علي إلى الضيافة، فمنهم من سمع ودخل إلى حمص ومنهم من هرب فسلم، فلما حصلوا عنده بحمص، قبض على ابن أبي علي، وعلى جميع من دخل حمص من الحمويين، واستولى على جميع ما كان معهم من السلاح والخزانة، وبقي يعذبهم ويطلب منهم أموالهم حتى امتصفاها ومات ابن أبي علي، وغيره في حبسه بحمص، والذي سلم وبقي إلى بعد موت شيركوه خلص ولما جرى ذلك ضعف الملك المظفر صاحب حماة ضعفاً كثيراً. وأما الملك الصالح أيوب فلما بلغه قصد عمه إسماعيل دمشق رحل من نابلس إلىالغور فبلغه استيلاء عمه على قلعة دمشق واعتقال ولده المغيث عمر، ففسدت نيات عساكره عليه، وشرعت الأمراء ومن معه من الملوك يحركون فقاراتهم ويرحلون، مفارقين الصالح أيوب إلى الصالح إسماعيل بدمشق، فلم يبق عند الصالح أيوب بالغور غير مماليكه، وأستاذ داره حسام الدين بن أبي علي، وأصبح الملك الصالح أيوب لا يدري ما يفعل ولا له موضع يقصده، فقصد نابلس ونزل بها بمن بقي معه، وسمع الناصر داود بذلك، وكان قد وصل من مصر إلى الكرك فنزل بعسكره وأمسك الملك الصالح أيوب وأرسله إلى: الكرك واعتقله بها، وأمر بالقيام في خدمته بكل ما يختاره، ولما اعتقل الصالح أيوب بالكرك، تفرق عنه باقي أصحابه ومماليكه، ولم يبق منهم معه غير عمدة يسيرة، ولما جرى ذلك، أرسل أخو الصالح الملك العادل أبو بكر صاحب مصر يطلبه من. الملك الناصر داود، فلم يسلمه الناصر داود، فأرسل الملك العادل وتهدد الملك الناصر بأخذه بلاده، فلم يلتفت إلى ذلك. ذكر غير ذلك وفي هذه السنة بعد اعتقال الملك الصالح بالكرك، قصد الناصر داود القدس، وكان الفرنج قد عمروا قلعتها بعد موت الملك الكامل، فحاصرها وفتحها وخرب القلعة، وخرب برج داود أيضاً، فإنه لما خربت القدس أولاً، لم يخرب برج داود، فخربه في هذه، المرة. وفي هذه السنة توفي الملك المجاهد شيركوه صاحب حمص ابن ناصر الدين محمد بن شيركوه ابن شاذي وكانت مدة ملكه بحمص نحو ست وخمسين سنة، لأن صلاح الدين ملكه حمص سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، بعد موت أبيه محمد بن شيركوه، وكان عمره يومئذ نحو اثنتي عشرة سنة، وكان شيركوه المذكور عسوفاً لرعيته، وملك حمص

والقبض على أخيه الملك العادل صاحب مصر، وملك الملك الصالح أيوب ديار

بعده ولده الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه. وفي هذه السنة استولى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على سنجار، وأخذها من الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل. ذكر خروج الملك الصالح أيوب من الاعتقال والقبض على أخيه الملك العادل صاحب مصر، وملك الملك الصالح أيوب ديار مصر: وفي هذه السنة في أواخر رمضان، أفرج الملك الناصر داود صاحب الكرك عن ابن عمه الملك الصالح أيوب، واجتمعت عليه مماليكه، وكاتبه إليها زهير، وسار الناصر داود وصحبته الصالح أيوب إلى قبة الصخرة، وتحالفا بها، على أن تكون ديار مصر للصالح، ودمشق والبلاد الشرقية للناصر داود، ولما تملك الصالح أيوب، لم يف للناصر بذلك، وكان يتأول في يمينه أنه كان مكرهاً، ثم سار إلى غزة، فلما بلغ العادل صاحب مصر ظهور أمر أخيه الصالح، عظم عليه. وعلى والدته ذلك، وبرز بعسكر مصر ونزل على بلبيس لقصد الناصر داود، والصالح أخيه، وأرسل إلى عمه الصالح إسماعيل المستولي على دمشق أن يبرز ويقصدهما من جهة الشام، وأن يستأصلهما. فسار الصالح إسماعيل بعساكر دمشق ونزل الفوار، فبينما الناصر داود والصالح أيوب في هذه الشدة، وهما بين عسكرين، قد أحاط بهما، إذ ركبت جماعة من المماليك الأشرفية ومقدمهم أيبك الأسمر، وأحاطوا بدهليز الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل، وقبضوا عليه، وجعلوه في خيمة صغيرة، وعليه من يحفظه، وأرسلوا إلى الملك الصالح أيوب يستدعونه، فأتاه فرج لم يسمع بمثله. وسار الملك الصالح أيوب، والملك الناصر داود إلى مصر، وبقي في كل يوم يلتقي الملك الصالح فوج بعد فوج من الأمراء والعسكر، وكان القبض على الملك العادل ليلة الجمعة، ثامن ذي القعدة من هذه السنة، فكانت مدة ملكه نحو سنتين، ودخل الملك الصالح أيوب إلى قلعة الجبل بكرة الأحد، لست بقين من الشهر المذكور، وزينت له البلاد، وفرح الناس بمقدمه، وحصل للملك المظفر صاحب حماة من السرور والفرح بملك الملك الصالح بمصر، ما لا يمكن شرحه، فإنه مازال على ولائه، حتى أنه لما أمسك بالكرك، كان يخطب له بحماة وبلادها، ولما استقر الملك الصالح أيوب في ملك مصر، وصحبته الناصر داود، حصل عند كل واحد منهما إشعار من صاحبه، وخاف الناصر داود أن يقبض عليه، فطلب دستوراً وتوجه إلى بلاده، الكرك وغيرها. ذكر وفاة صاحب ماردين في هذه السنة وقيل في سنة ست وثلاثين، توفي ناصر الدين أرتق أرسلان بن أيلغازي

بن إلبي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان يلقب الملك المنصور، وملك المذكور ماردين بعد أخيه حسام الدين بولق رسلان، حسبما تقدم ذكره في سنة ثمانين وخمسمائة وبقي أرتق أرسلان متغلباً عليه مملوك والده البقش، حتى قتله أرتق أرسلان في سنة إحدى وستمائة، واستقل أرتق أرسلان بملك ماردين حتى توفي في هذه السنة. ولما مات الملك المنصور أرتق أرسلان، ملك بعده ابنه الملك السعيد نجم الدين غازي بن أرتق أرسلان المذكور حتى توفي في سنة ثلاث وخمسين وستمائة ظناً، ثم ملك بعده في السنة المذكورة ابنه الملك المظفر قرا أرسلان بن غازي بن أرتق أرسلان، وكانت وفاة المظفر قرا أرسلان المذكور، سنة إحدى وتسعين وستمائة ظناً، ثم ملك بعده ولده الأكبر شمس الدين داود ابن قرا أرسلان، سنة وتسعة أشهر. ثم توفي وملك بعده أخوه الملك المنصور نجم الدين غازي بن قرا أرسلان في سنة ثلاث وتسعين وستمائة ظناً، ونقلت وفيات المذكورين حسبما هو مشروح، من تقويم حل ماردين، ذكر فيه تواريخ بني أرتق، ولم أتحقق صحة ذلك، وسنذكر في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وفاة الملك المنصور غازي المذكور في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة في هذه السنة قبض الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل بعد استقراره في ملك مصر، على أيبك الأسمر مقدم المماليك الأشرفية، وعلى غيره من الأمراء والمماليك الذين قبضوا على أخيه، وأودعهم الحبوس، وأخذ في إنشاء مماليكه، وشرع الملك الصالح أيوب المذكور من هذه السنة في بناء قلعة الجزيرة، واتخذها مسكناً لنفسه. وفيها نزل الملك الحافظ أرسلان شاه ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب عن قلعة جعبر، وبالس، وسلمهما إلى أخته ضيفة خاتون صاحبة حلب، وتسلم عوض ذلك إعزاز وبلاداً معها تساوي ما نزل عنه، وكان سبب ذلك أن الملك الحافظ المذكور، أصابه فالج، وخشي من أولاده، وتغلبهم عليه ففعل ذلك لأنه كان ببلاد قريبة إلى حلب لا يمكنهم التعرض إليه. وفي هذه السنة كثر عبث الخوارزمية وفسادهم، بعد مفارقة الملك الصالح أيوب البلاد الشرقية، وساروا إلى قرب حلب، فخرج إليهم عسكر حلب مع الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين، ووقع بينهم القتال، فانهزم الحلبيون هزيمة قبيحة، وقتل منهم خلق كثير، منهم الملك الصالح ابن الملك الأفضل ابن السلطان صلاح الدين، وأسر مقدم الجيش الملك المعظم المذكور، واستولى الخوارزميون على ثقال الحلبيين، وأسروا منهم عدة كثيرة، ثم كانوا يقتلون بعضهم ليشتري غيره نفسه منهم بماله، فأخذوا بذلك شيئاً كثيراً، ثم نزل الخوارزمية بعد ذلك على جبلان، وكثر عبثهم وفسادهم ونهبهم في بلاد حلب، وجفل أهل الحواضر والبلاد، ودخلوا مدينة حلب، واستعد أهلها للحصار، وارتكب الخوارزمية من الزنا والفواحش والقتل ما ارتكبه التتر، ثم سارت الخوارزمية إلى منبج،

وغيرها

وهجموها بالسيف يوم الخميس، لتسع بقين من ربيع الأول من هذه السنة، وفعلوا من القتل والنهب مثلما تقدم ذكره، ثم رجعوا إلى بلادهم، وهي حران، وما معها، بعد أن أخربوا بلد حلب. ذكر عود الخوارزمية إلى بلد حلب وغيرها ثم إن الخوارزمية رحلوا من حران وقطعوا الفرات من الرقة، ووصلوا إلى الجبول، ثم إلى تل إعزاز، ثم إلى سرمين، ثم إلى تل المعرة، وهم ينهبون ما يجدونه، فإن الناس جفلوا من بين أيديهم، وكان قد وصل الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص ومعه عسكر من عسكر الصالح إسماعيل المستولي على دمشق، نجدة للحلبيين، فاجتمع الحلبيون مع صاحب حمص المذكور، وقصدوا الخوارزمية، واستمرت الخوارزمية على ما هم عليه من النهب حتى نزلوا على شيزر، ونزل عسكر حلب على تل السلطان، ثم رحلت الخوارزمية إلى جهة حماة، ولم يتعرضوا إلى نهب، لانتماء صاحبها الملك المظفر إلى الملك الصالح أيوب، ثم سارت الخوارزمية إلى سلمية، ثم إلى الرصافة طالبين الرقة، وسار عسكر حلب من تل السلطان إليهم، ولحقتهم العرب، فأرمت الخوارزمية ما كان معهم من المكاسب، وسيبوا الأسرى، ووصلت الخوارزمية إلى الفرات في أواخر شعبان في هذه السنة. ولحقهم عسكر حلب وصاحب حمص إبراهيم قاطع صفين، فعمل لهم الخوارزمية ستائر، ووقع القتال بينهم في الليل، فقطع الخوارزمية الفرات وساروا إلى حران، فسار عسكر حلب إلى البيرة، وقطعوا الفرات منها، وقصدوا الخوارزمية، واتقعوا قريب الرها لتسع بقين من رمضان هذه السنة، فولى الخوارزمية منهزمين، وركب صاحب حمص وعسكر حلب أقفيتهم يقتلون ويأسرون إلى أن حال الليل بينهم، ثم سار عسكر حلب إلى حران فاستولوا عليها، وهربت الخوارزمية إلى بلد عانة، وبادر بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى نصيبين ودارا، وكانتا للخوارزمية، فاستولى عليهما، وخلص من كان بهما من الأسرى، وكان منهم الملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، أسيراً في بلدة دارا من حين سوه في كسرة الحلبيين، فحمله بدر الدين لؤلؤ إلى الموصل، وقدم له ثياباً وتحفاً، وبعث به إلى عسكر حلب، واستولى عسكر حلب على الرقة والرها وسروج ورأس عين، وما مع ذلك، واستولى صاحب حمص المنصور إبراهيم على بلد الخابور، ثم سار عسكر حلب ووصل إليهم نجدة من الروم، وحاصروا الملك المعظم ابن الملك الصالح أيوب بآمد وتسلموها منه، وتركوا له حصن كيفا وقلعة الهيثم، ولم يزل ذلك بيده حتى توفي أبوه الملك الصالح أيوب بمصر، وسار إليها المعظم المذكور على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وبقي ولد المعظم وهو للملك الموحد عبد الله ابن المعظم توران شاه ابن الصالح أيوب ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب،

مالكاً لحصن كيفا إلى أيام التتر، وطالت مدته بها. ذكر ما كان من الملك الجواد يونس في هذه السنة كان هلاك الملك الجواد يونس بن مودود ابن الملك العادل، وصورة ما جرى له أنه كان قد استولى بعد ملك دمشق على سنجار وعانة، فباع عانة من الخليفة المستنصر بمال تسلمه منه، وسار لؤلؤ صاحب الموصل وحاصر سنجار ويونس المذكور غائب عنها، واستولى عليها، ولم يبق بيد يونس من البلاد شيء فصار على البرية إلى غزة، وأرسل إلى الملك الصالح أيوب صاحب مصر يسأله في المسير إليه، فلم يجبه إلى ذلك، فسار يونس حينئذ ودخل إلى عكا وأقام مع الفرنج، فأرسل الصالح إسماعيل صاحب دمشق حينئذ وبذل مالاً للفرنج، وتسلم الملك لجواد يونس المذكور من الفرنج واعتقله ثم خنقه. وفي هذه السنة ولى الملك الصالح أيوب، الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام القضاء بمصر، والوجه القبلي، وكان عز الدين المذكور بدمشق، فلما قوي خوف الصالح إسماعيل صاحب دمشق من ابن أخيه الصالح أيوب صاحب مصر، سلم الصالح إسماعيل صفد والشقيف إلى الفرنج ليعضدوه، ويكونوا معه على ابن أخيه الصالح أيوب، فعظم ذلك على المسلمين، وأكثر الشيخ عز الدين بن عبد السلام التشنيع على الصالح إسماعيل بسبب ذلك، وكذلك جمال الدين أبو عمرو ابن الحاجب، ثم خافا من الصالح إسماعيل فسار عز الدين بن عبد السلام إلى مصر وتولى بها القضاء كرهاً، وسار جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب إلى الكرك، وأقام عند الملك الناصر داود صاحب الكرك، ونظم له مقدمته الكافية في النحو، ثم بعد ذلك سافر ابن الحاجب إلى الديار المصرية. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة والصالح إسماعيل صاحب دمشق، والمنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، وصاحب حلب، متفقون على عداوة الملك الصالح أيوب، صاحب مصر، ولم يوافقهم صاحب حماة على ذلك، وأخلص في الانتماء إلى صاحب مصر. وفي هذه السنة اتقعت الخوارزمية مع الملك المظفر غازي صاحب ميافارقين ابن الملك العادل. وفيها في شعبان أصاب جد الملك المظفر صاحب حماة الفالج وهو جالس بين أصحابه في قلعة حماة، وبقي أياماً لا يتكلم ولا يتحرك، وكان ذلك في أواخر فصل الشتاء، وأرجف الناس بموته، وقام بتدبير المملكة مملوكه وأستاذ داره سيف الدين طغريل، ثم خف مرض الملك المظفر وفتح عينيه وصار يتكلم باللفظة واللفظتين، لا يكاد يفهم، وكان العاطب، الجانب الأيمن منه، وبعث إليه الصالح صاحب مصر طبيباً حاذقاً نصرانياً، يقال له النفيس بن طليب، فلم تنجع فيه المداواة، واستمر على ذلك إلى أن توفي بعد سنتين وكسر على ما سنذكر إن شاء الله تعالى. وفي هذه السنة في ذي الحجة توفي الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه ابن الملك العادل بن أيوب بإعزاز

وهي التي تعوضها عن قلعة جعبر، ونقل إلى حلب فدفن في الفردوس، وتسلم نواب الملك الناصر يوسف صاحب حلب، قلعة إعزاز وأعمالها. وفيها في شعبان توفي الشيخ العلامة كمال الدين موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك الفقيه الشافعي، كان إمام وقته في مذهب الشافعي وغيره، وكان يشتغل الحنفيون عليه في مذهب أبي حنيفة، ويحل الجامع الكبير في مذهب أبي حنيفة وكان متقنا علم المنطق والطبيعي والإلهي، وكان إماماً مبرزاً في العلم الرياضي، وأتقن المجسطي وأقليدس والموسيقى والحساب بأنواعه، وكان أهل الذمة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل، وشرح لهم هذه الكتابين شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون من يوضح لهم مثله، وكان إماماً في العربية والتصريف، وكان يقرئ كتاب سيبويه والمفصل وغيرهما، وكذلك كان إماماً في التفسير والحديث، وقدم الشيخ أثير الدين الأبهري واسمه المفضل بن عمر بن المفضل إلى الموصل، واشتغل على الشيخ كمال الدين المذكور، وكان الشيخ أثير الدين الأبهري المذكور حينئذ إماماً مبرزاً في العلوم، ومع ذلك يأخذ الكتاب ويجلس بين يديه ويقرأ عليه. قال القاضي شمس الدين بن خلكان: ولقد شاهدت بعيني أثير الدين الأبهري وهو يقرأ المجسطي على الشيخ كمال الدين بن يونس المذكور، واستمر سنين عديدة يشتغل عليه، وكان الأثير إذ ذاك صاحب تصانيف، يشتغل فيها الناس، وقصد تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن، المعروف بابن الصلاح، الفقيه الشافعي، الشيخ كمال الدين المذكور، وسأله في أن يقرئه المنطق سراً، وتردد ابن الصلاح إلى الشيخ كمال الدين مدة يقرأ عليه المنطق ولا يفهمه، فقال له ابن يونس المذكور: يا فقيه، المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن. فقال له ابن الصلاح: ولم ذلك؟ فقال: لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقائدهم فيك، ولا يصح لك من هذا الفن شيء، فقبل ابن الصلاح إشارته، وترك قراءته، وكان الشيخ كمال الدين بن يونس المذكور يتهم في دينه، لكون العلوم العقلية غالبة عليه، وكانت تعتريه غفلة لاستيلاء الفكرة عليه، فعمل فيه بعضهم. أجدك إن قد جاد بعد التعبس ... غزال بوصل لي وأصبح مؤنسي وعاطيته صهباء من فيه مزجها ... كرقة شعري أو كدين ابن يونس وكانت ولادته في صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة بالموصل، وبها توفي في التاريخ المذكور رحمه الله تعالى. ثم دخلت سنة أربعين وستمائة. وفي هذه السنة كان بين الخوارزمية، ومعهم الملك المظفر غازي صاحب ميافارقين، وبين عسكر حلب، ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص، مصاف، قريب الخابور عند المجدل، في يوم الخميس لثلاث بقين من صفر هذه السنة، فولى ظفر غازي والخوارزمية منهزمين أقبح هزيمة، ونهب منهم عسكر حلب

وهي والدة الملك العزيز:

شيئاً كثيراً، ونهبت وطاقات الخوارزمية ونساؤهم أيضاً، ونزل الملك المنصور إبراهيم في خيمة الملك المظفر غازي، واحتوى على خزانته ووطاقه، ووصل عسكر حلب وصاحب حمص إلى حلب، في مستهل جمادى الأولى مؤيدين منصورين. ذكر وفاة الملكة ضيفة خاتون صاحبة حلب وهي والدة الملك العزيز: وفي هذه السنة، في ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى توفيت ضيفة خاتون بنت الملك خاتون بنت الملك العادل أبي بكر أيوب وكان مرضها قرحة في مراق البطن، وحمى، ودفنت بقلعة حلب، وكان مولدها سنة إحدى أو اثنتين وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب، حين كانت حلب لأبيها الملك العادل قبل أن ينتزعها منه أخوه السلطان صلاح الدين، ويعطيها ابنه الظاهر غازي، فاتفق مولدها ووفاتها بقلعة حلب، ولما ولدت كان عند أبيها الملك العادل ضيف، فسماها ضيفة، فكانت مدة عمرها نحو تسع وخمسين سنة. وكان الملك الظاهر صاحب حلب قد تزوج قبل ضيفة خاتون بأختها غازية، وتوفيت، فلما توفيت غازية تزوج بأختها ضيفة خاتون المذكورة، وكانت ضيفة خاتون قد ملكت حلب بعد وفاة ابنها الملك العزيز، وتصرفت في الملك تصرف السلاطين، وقامت بالملك أحسن قيام، وكانت مدة ملكها نحو ست سنين، ولما توفيت كان عمر ابن ابنها الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز نحو ثلاث عشرة سنة، فأشهد عليه أنه بلغ، وحكم واستقل بمملكة حلب، وما هو مضاف إليها، والمرجع في الأمور إلى جمال الدين إقبال الأسود الخصي الخاتوني. ذكر وفاة المستنصر بالله وفي هذه السنة توفي المستنصر بالله أبو جعفر المنصور ابن الظاهر محمد ابن الإمام الناصر أحمد، بكرة الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة إلا شهراً، وكان حسن السيرة، عادلاً في الرعية، وهو الذي بنى المدرسة ببغداد، المسماة بالمستنصرية على شط دجلة من الجانب الشرقي، مما يلي دار الخلافة، وجعل لها أوقافاً جليلة على أنواع البر. المستعصم بالله ولما مات المستنصر اتفقت آراء أرباب الدولة، مثل الدوادار، والشرابي، على تقليد الخلافة ولده عبد الله، ولقبوه المستعصم بالله، وهو سابع ثلاثينهم، وآخرهم، وكنيته أبو أحمد بن المستنصر بالله منصور، وكان عبد الله المستعصم ضعيف الرأي، فاستبد كبراء دولته بالأمر، وحسنوا له قطع الأجناد وجمع المال، ومداراة التتر، ففعل ذلك وقطع أكثر العساكر. ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وستمائة في هذه السنة قصدت التتر بلاد غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم فأرسل واستنجد بالحلبيين، فأرسلوا إليه نجدة مع ناصح الدين الفارسي، وجمع العساكر من كل جهة، والتقى مع التتر، فانهزمت عساكر الروم هزيمة قبيحة، وقتل التتر وأسروا منهم

خلقاً كثيراً، وتحكمت التتر وأسروا منهم خلقاً كثيراً، وتحكمت التتر في البلاد، واستولوا أيضاً على خلاط وآمد وبلادهما، وهرب غياث الدين كيخسرو إلى بعض المعاقل، ثم أرسل إلى التترر وطلب الأمان، ودخل في طاعتهم، ثم توفي غياث الدين كيخسرو المذكور بعد ذلك في سنة، أربع وخمسين وستمائة حسبما نذكره إن شاء الله تعالى. وخلف صغيرين، وهما ركن الدين، وعز الدين، ثم هرب عز الدين إلى قسطنطينية، وبقي ركن الدين في الملك تحت حكم " التتر، والحاكم البرواناه معين الدين سليمان، والبرواناه لقبه، وهو اسم الحاجب بالعجمي، ثم إن. البرواناه قتل ركن الدين وأقام في الملك ولداً له صغيراً. وفيها كانت المراسلة بين الصالح أيوب صاحب مصر والصالح إسماعيل صاحب دمشق، في الصلح، وأن يطلق الصالح إسماعيل المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الصالح أيوب، وحسام الدين بن أبي علي الهذباني، وكانا معتقلين عند الملك الصالح إسماعيل فأطلق حسام الدين بن أبي علي وجهزه إلى مصر، واستمر الملك المغيث، بن الصالح أيوب في الاعتقال، واتفق الصالح إسماعيل مع الناصر داود صاحب الكرك، واعتضد بالفرنج، وسلما أيضاً إلى الفرنج عسقلاق وطبرية، فعمر الفرنج قلعتيهما، وسلما أيضاً إليهم القدس بما فيه من المزارات. قال القاضي جمال الدين بن واصل: ومررت إذ ذاك بالقدس متوجهاً إلى مصر، ورأيت القسوس وقد جعلوا على الصخرة قناني الخمر للقربان. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وستمائة. ذكر المصاف الذي كان بين عسكر مصر وعسكر الشام ومعهم الخوارزمية وبين عسكر دمشق ومعهم الفرنج وصاحب حمص: في هذه السنة وصلت الخوارزمية إلى غزة باستدعاء الملك الصالح أيوب، لنصرته على عمه الصالح إسماعيل، وكان مسيرهم على حارم والروج إلى أطراف بلاد دمشق، حتى وصلوا. إلى غزة،. ووصل: إليهم عدة كثيرة من العساكر المصرية مع ركن الدين بيبرس، مملوك الملك الصالح أيوب، وكان من أكبر مماليكه، وهو الذي دخل معه الحبس لما حبس في الكرك، وأرسل الملك الصالح إسماعيل عسكر دمشق مع الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، وسار صاحب حمص جريدة، ودخل عكا، فاستدعى الفرنج على ما كان قد وقع عليه اتفاقهم، ووعدهم بجزء من بلاد مصر فخرجت الفرنج بالفارس والراجل، واجتمعوا، أيضاً بصاحب حمص وعسكر دمشق والكرك، ولم يحضر الناصر داود ذلك، والتقى الفريقان بظاهر غزة، فولى عسكر دمشق وصاحب حمص إبراهيم، والفرنج منهزمين، وتبعهم عسكر مصر والخوارزمية، فقتلوا منهم خلقاً عظيماً، 7 واستولى الملك الصالح أيوب صاحب مصر على غزة والسواحل والقدس، ووصلت الأسرى والرؤوس إلى مصر، ودقت بها البشائر عدة أيام، ثم أرسل الملك الصالح صاحب مصر باقي عسكر مصر مع معين

الدين ابن الشيخ، واجتمع إليه من بالشام من عسكر مصر والخوارزمية، وساروا إلى دمشق وحاصروها، وبها صاحبها الملك الصالح إسماعيل، وإبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، وخرجت هذه السنة وهم محاصروها. ذكر وفاة صاحب حماة في هذه السنة توفي جد الملك المظفر صاحب حماة، تقي الدين محسن ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ابن أيوب، يوم السبت ثامن جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وكانت مدة مملكته لحماة خمس عشرة سنة وسبعة أشهر وعشرة أيام، كان منها مريضاً بالفالج سنتين وتسعة أشهر وأياماً، وكانت وفاته وهو مفلوج بحمى حادة عرضت له وكان عمره ثلاثاً وأربعين سنة، لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وكان شهماً شجاعاً فطناً ذكياً، وكان يحب أهل الفضائل والعلوم، واستخدم الشيخ علم الدين قيصر، المعروف بتعاسيف، وكان مهندساً فاضلاً في العلوم الرياضية، فبنى للملك المظفر المذكور أبراجاً بحماة، وطاحوناً على نهر العاصي، وعمل له كرة من الخشب مدهونة، رسم فيها جميع، الكواكب المرصودة، وعملت هذه الكرة بحماة. قال القاضي جمال الدين بن واصل: وساعدت الشيخ علم الدين على عملها، وكان الملك المظفر يحضر ونحن نرسمها، ويسألنا عن مواضع دقيقة فيها. ولما مات الملك المظفر صاحب حماة، ملك بعده ولده الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر محمود المذكور، وعمره حينئذ عشر سنين وشهر واحد وثلاثة عشر يوماً، والقائم بتدبير المملكة، سيف الدين طغريل مملوك الملك المظفر، ومشاركة الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد، المعروف بشيخ الشيوخ، والطواشي مرشد والوزير بهاء الدين بن التاج، ومرجع الجميع إلى والدة الملك المنصور، غازية خاتون، بنت الملك الكامل. وفيها بلغ الملك الصالح نجم الدين أيوب وفاة ابنه الملك المغيث، فتح الدين عمر، في حبس الصالح إسماعيل صاحب دمشق، فاشتد حزن الصالح أيوب عليه، وحنقه على الصالح إسماعيل. وفي هذه السنة توفي الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب ميافارقين، واستمر بعده في ملكه ولده الملك الكامل ناصر الدين محمد بن غازي. وفيها سير من حماة الشيخ تاج الدين أحمد بن محمد بن نصر الله، المعروف بيته ببني المغيرك، رسولاً إلى الخليفة ببغداد، وصحبته تقدمة من السلطان الملك المنصور صاحب حماة. وفيها توفي القاضي شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن علي بن محمد الشافعي عرف بابن أبي الدم، قاضي حماة، وكان قد توجه في الرسلية إلى بغداد، فمرض في المعرة، وعاد إلى حماة مريضاً فتوفي بها، وهو الذي ألف التاريخ الكبير المظفري وغيره. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين

ذكر غير ذلك من الحوادث

وستمائة فيها سير الصالح إسماعيل وزيره أمين الدولة الذي كان سامرياً، وأسلم إلى العراق، مستشفعاً بالخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه، فلم يجب الخليفة إلى ذلك، وكان أمين الدولة غالباً على الملك الصالح إسماعيل المذكور، بحيث لا يخرج عن رأيه. ذكر استيلاء الملك الصالح أيوب على دمشق وفيها تسلم عسكر الملك الصالح أيوب، ومقدمهم معين الدين ابن الشيخ، دمشق، من الصالح إسماعيل ابن الملك العادل، وكان محصوراً معه بدمشق إبراهيم ابن شيركوه صاحب حمص، فتسلم دمشق على أن يستقر بيد الصالح إسماعيل بعلبك وبصرى والسواد، ويستقر بيد صاحب حمص، حمص وما هو مضاف إليها. فأجابهما معين الدين ابن الشيخ إلى ذلك، ووصل إلى دمشق حسام الدين بن أبي علي، بمن كان معه من العسكر المصري، واتفق بعد تسليم دمشق، أن معين الدين ابن الشيخ مرض، وتوفي بها، وبقي حسام الدين بن أبي علي نائباً بدمشق للملك الصالح أيوب. ثم إن الخوارزمية خرجوا عن طاعة الملك الصالح أيوب، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم إذا كسروا الصالح إسماعيل وفتحوا دمشق، يحصل لهم من البلاد والإقطاعات ما يرضي خاطرهم، فلما لم يحصل لهم ذلك، خرجوا عن طاعة الملك الصالح أيوب وصاروا مع الملك الصالح إسماعيل، وانضم إليهم الناصر داود صاحب الكرك، وساروا إلى دمشق وحصروها، وغلت بها الأقوات، وقاسى أهلها شدة عظيمة، لم يسمع بمثلها، وقام حسام الدين بن أبي علي الهذباني في حفظ دمشق أتم قيام، وخرجت السنة والأمر على ذلك. ذكر غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة قصدت التتر بغداد، وخرجت عساكر بغداد للقائهم، ولم يكن للتتر بهم طاقة، فولى التتر منهزمين على أعقابهم تحت الليل. وفي هذه السنة توفيت ربيعة خاتون بنت أيوب، أخت السلطان صلاح الدين بدمشق، بدار العقيقي، وكانت قد جاوزت ثمانين سنة، وبنت مدرسة الحنابلة بجبل الصالحية. وفيهما توفي الشيخ تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن الصلاح، الفقيه المحدث. وفيها توفي علم الدين علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي، شرح قصيدة الشاطبي في القراءآت، وشرح المفصل للزمخشري، وسمى شرحه المفضل في شرح المفصل، وله مجموع سماه كتاب سفر السعادة وسفير الإفادة، ذكر فيها مسائل، مشكلة في النحو، وعدة من أبيات المعاني ولغة غريبة. وفي هذه السنة لما تسلم دمشق الملك الصالح أيوب، تسلمت نواب الملك المنصور صاحب حماة سلمية، وانتزعوها من صاحب حمص، واستقرت سلمية في هذه السنة في ملك الملك المنصور صاحب حماة. وفيها توفي الشيخ موفق الدين أبو البقاء يعيش بن محمد بن علي الموصلي الأصل، الحلبي المولد والمنشأ، النحوي، ويعرف بابن الصائغ، وكان ظريفاً حسن المحاضرة،

على القصب واستيلاء الصالح أيوب على بعلبك:

شرح المفصل شرحاً مستوفى ليس في الشروح مثله، وله غير ذلك، وولد في رمضان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة بحلب، وتوفي بها في التاريخ المذكور، ودفن بالمقام. ثم دخلت سنة أربع وأربعين وستمائة. ذكر كسرة الخوارزمية على القصب واستيلاء الصالح أيوب على بعلبك: كنا قد ذكرنا اتفاق الخوارزمية مع الصالح إسماعيل والناصر داود، ومحاصرتهم دمشق، وبها حسام الدين بن أبي علي، ولما وقع ذلك، اتفق الحلبيون والملك المنصور إبراهيم صاحب حمص، وصاروا مع الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل، وقصدوا الخوارزمية، فرحلت الخوارزمية عن دمشق، وساروا إلى نحو الحلبيين وصاحب حمص، والتقوا على القصب في هذه السنة، فانهزمت الخوارزمية هزيمة قبيحة، تشتت شملهم بعدها، وقتل مقدمهم حسام الدين بركة خان، وحمل رأسه إلى حلب، ومضت طائفة من الخوارزميين مع مقدمهم كشلوخان الخوارزمي، فلحقوا بالتتر وصاروا معهم، وانقطع منهم جماعة وتفرقوا في الشام، وخدموا به، وكفا الله الناس شرهم. ولما وصل خبر كسرتهم إلى الملك الصالح أيوب بديار مصر، فرح فرحاً عظيماً، ودقت البشائر بمصر، وزال ما كان عنده من الغيظ على إبراهيم صاحب حمص، وحصل بينهما التصافي بسبب ذلك، وأما الصالح إسماعيل فإنه سار إلى الملك الناصر يوسف صاحب حلب واستجار به، وأرسل الصالح أيوب يطلبه فلم يسلمه الملك الناصر إليه، ولما جرى ذلك، رحل حسام الدين بن أبي علي الهذباني بمن عنده من العسكر بدمشق، ونازل بعلبك وبها أولاد الصالح إسماعيل وحاصرها، وتسلمها بالأمان، وحمل أولاد الصالح إسماعيل إلى الملك الصالح أيوب بديار مصر، فاعتقلوا هناك، وكذلك بعث بأمين الدولة وزير الملك الصالح إسماعيل، وأستاذ داره ناصر الدين يغمور، فاعتقلا بمصر أيضاً، وزينت القاهرة ومصر، ودقت البشائر بهما لفتح بعلبك، واتفق في هذه الأيام وفاة صاحب عجلون، وهو سيف الدين بن قليج،: فتسلم الملك الصالح أيوب عجلون أيضاً، ولما جرى ما ذكرناه أرسل الملك الصالح أيوب عسكراً مع الأمير فخر الدين يوسف ابن الشيخ، وكان فخر الدين ابن الشيخ قد اعتقله الملك العادل أبو بكر ابن الملك الكامل، ثم لما ملك الملك الصالح أيوب مصر أفرج عنه، وأمره بملازمة بيته، فلازمه مدة، ثم قدمه في هذه السنة على العسكر، وجهزه إلى حرب الملك الناصر داود صاحب الكرك، فسار فخر الدين المذكور واستولى على جميع بلاد الملك الناصر، وولي عليها وسار إلى الكرك وحاصرها، وخرب ضياعها، وضعف الملك الناصر ضعفاً بالغاً، ولم يبق بيده غير الكرك وحدها.

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة حبس الصالح أيوب مملوكه بيبرس، وهو الذي كان معه لما اعتقل في الكرك، وسببه أن بيبرس المذكور مال إلى الخوارزمية، وإلى الناصر داود، وصار معهم على أستاذه، لما جرده إلى غزة، كما تقدم ذكره، فأرسل أستاذه الصالح أيوب واستماله، فوصل إليه فاعتقله في هذه السنة، وكان آخر العهد به. وفيها أرسل الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص بن شيركوه، وطلب دستوراً من الملك الصالح أيوب ليصل إلى بابه، وينتظم في سلك خدمته، وكان قد حصل بإبراهيم المذكور السل، وسار على تلك الحالة من حمص متوجهاً إلى الديار المصرية، ووصل إلى دمشق فقوي به المرض، وتوفي في دمشق، فنقل إلى حمص ودفن بها، وملك بعده ولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك المنصور إبراهيم المذكور. وفي هذه السنة بعد فتوح دمشق وبعلبك، استدعى الملك الصالح أيوب خدمة حسام الدين بن أبي علي إلى مصر، وأرسل موضعه نائباً بدمشق، الأمير جمال الدين بن مطروح، ولما وصل حسام الدين بن أبي علي إلى مصر، استنابه الملك الصالح بها، وسار الملك الصالح أيوب إلى دمشق، ثم سار منها إلى بعلبك، ثم عاد إلى دمشق، ووصل إلى خدمة الملك الصالح أيوب بدمشق، الملك المنصور محمد صاحب حماة، والملك الأشرف موسى صاحب حمص، فأكرمهما وقربهما ثم أعطاهما الدستور فعادا إلى بلادهما، واستمر الملك الصالح بالشام حتى خرجت هذه السنة. وفي هذه السنة توفي عماد الدين داود بن موشك بالكرك، وكان جامعاً لمكارم الأخلاق. ثم دخلت سنة خمس وأربعين وستمائة وفيها عاد الملك الصالح نجم الدين أيوب من الشام إلى الديار المصرية. وفيها فتح فخر الدين ابن الشيخ قلعتي عسقلان وطبرية، والملك الصالح بالشام، بعد محاصرتهما مدة، وكنا قد ذكرنا تسليمهما إلى الفرنج في سنة إحدى وأربعين وستمائة، فعمروهما، واستمرتا بأيدي الفرنج حتى فتحتا في هذه السنة. وفيها سلم الأشرف صاحب حمص شميميس للملك الصالح أيوب، فعظم ذلك على الحلبيين لئلا يحصل الطمع للملك الصالح في ملك باقي الشام. وفيها توفي الملك العادل أبو بكر ابن السلطان الملك الكامل بالحبس، وأمه الست السوداء تعرف ببنت الفقيه نصر، وكان مسجوناً من حين قبض عليه ببلبيس إلى هذه الغاية، فكان مدة مقامه بالسجن نحو ثمان سنين، وكان عمره نحو ثلاثين سنة، وخلف ولداً صغيراً، وهو الملك المغيث فتح الدين عمر، وهو الذي ملك الكرك فيما بعد، ثم قتله الملك الظاهر بيبرس على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفي هذه السنة توجه الطواشي مرشد المنصوري، ومجاهد الدين أمير جندار، من حماه إلى حلب، وأحضرا بنت الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر صاحب حلب، وهي عائشة خاتون، زوج الملك المنصور

صاحب حماة، وحضرت معها أمها فاطمة خاتون، بنت السلطان الملك الكامل ابن الملك العادل، ووصلت إلى حماة في العشر الأوسط من رمضان من هذه السنة، أعني سنة خمس وأربعين وستمائة، ووصلت في تجمل عظيم، واحتفل للقائها بحماة احتفالاً عظيماً. وفي هذه السنة توفي علاء الدين قراسنقر الساقي العادلي، أحد مماليك الملك العادل بن أيوب، وصارت مماليكه بالولاء للملك الصالح أيوب، ومنهم سيف الدين قلاوون الصالحي، الذي صار له ملك مصر والشام، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها توفي عمر بن محمد بن عبد الله المعروف بالشلوبيني بإشبيلية، كان فاضلاً إماماً في النحو، شرح الجزولية، وصنف في النحو غير ذلك، وكان فيه مع هذه الفضيلة التامة، بله وغفلة، وكنيته أبو علي، والشلوبيني نسبة إلى شلوبين، وهو حصن منيع من حصون الأندلس، من معاملة سواحل غرناطة، على بحر الروم. منه عمر الشلوبيني المذكور. هذا ما نص عليه ابن سعيد المغربي في كتابه الكبير، المسمى " بالمغرب في أخبار أهل المغرب "، في المجلدة الخامسة عشرة، بعد ذكر غرناطة، قال: وقد وصف حصن شلوبين المذكور، ومنه الشيخ أبو علي عمر الشلوبيني قال: وقرأت عليه النحو، وكان إمام نحاة أهل المغرب، وكان في طبقة أبي علي الفارسي، ومن هنا يتحقق أن الذي نقله القاضي شمس الدين بن خلكان ومن تابعه، أن الشلوبين هو الأبيض الأشقر بلغة أهل الأندلس، وهم محض. لعدم وقوفهم على كتاب " المغرب في حلي أهل المغرب " المذكور. ثم دخلت سنة ست وأربعين وستمائة فيها أرسل الملك الناصر صاحب حلب عسكراً مع شمس الدين لؤلؤ الأرمني، فحاصروا الملك الأشرف موسى بحمص مدة شهرين، فسلم إليهم حمص، وتعوض عنها بتل باشر، مضافاً إلى ما بيده من تدمر والرحبة، ولما بلغ الملك الصالح نجم الدين أيوب ذلك، شق عليه وسار إلى الشام لارتجاع حمص من الحلبيين، وكان قد حصل له مرض وورم في مأبطه، ثم فتح وحصل منه ناصور، ووصل الملك الصالح إلى دمشق، وأرسل عسكراً إلى حمص مع حسام الدين بن أبي على، فخر الدين ابن الشيخ، فنازلوا حمص وحصروها، ونصبوا عليها منجنيقاً مغربياً، يرمي بحجر زنتها مائة وأربعون رطلاً بالشامي، مع عدة منجنيقات أخر، وكان الشتاء والبرد قوياً، واستمر عليها الحصار، واتفق حينئذ وصول الخبر إلى الملك الصالح وهو بدمشق، بوصول الفرنج إلى جهة دمياط، وكان أيضاً قد قوي مرضه، ووصل أيضا نجم الدين الباذراي، رسول الخليفة، وسعى في الصلح بين الملك الصالح والحلبيين، وأن تستقر حمص بيد الحلبيين، فأجاب الملك الصالح إلى ذلك، وأمر العسكر فرحلوا عن حمص بعد أن أشرفوا على أخذها. ثم رحل الملك الصالح عن دمشق في محفة لقوة مرضه، واستناب بدمشق جمال الدين بن يغمور، وعزل ابن مطروح، وأرسل حسام الدين بن أبي علي قدامه ليسبقه إلى مصر، وينوب عنه بها.

ونزول الملك الصالح أشمون طناخ:

وفيها في يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من السنة المذكورة، أعني سنة ست وأربعين وستمائة، توفي أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، المعروف بابن الحاجب، الملقب جمال الدين، وكان والده عمر حاجباً للأمير عز الدين بن موسك الصلاحي، وكان كردياً، واشتغل ولده أبو عمرو المذكور في صغره بالقرآن والفقه، على مذهب مالك بن أنس، وبالعربية، وبرع في علومه وأتقنها، ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها، وأكب الخلق على الاشتغال عليه، ثم عاد إلى القاهرة، ثم انتقل إلى الإسكندرية فتوفي بها. وكان مولد الشيخ أبي عمرو المذكور، في أواخر سنة سبعين وخمسمائة، بأسنا " بليدة بالصعيد "، وكان الشيخ أبو عمرو المذكور متفنناً في علوم شتى، وكان الأغلب عليه علم العربية، وأصول الفقه، صنف في العربية مقدمته الكافية، واختصر كتاب الأحكام للآمدي، في أصول الفقه، فطبق ذكر هذين الكتابين، أعني الكافية ومختصره في أصول الفقه، جميع البلاد، خصوصاً بلاد العجم، واكب الناس على الاشتغال بهما إلى زماننا هذا، وله غيرهما عدة مصنفات. وفيها أعني في سنة ست وأربعين وستمائة، توفي عز الدين أيبك المعظمي في محبسه بالقاهرة، وكان المذكور قد ملك صرخد، في سنة ثمان وستمائة حسبما تقدم ذكره في السنة المذكورة، وقال ابن خلكان: أنه ملك صرخد في سنة إحدى عشرة وستمائة. قال: لأن أستاذه الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. حج في السنة المذكورة، وأخذ صرخد من صاحبها ابن قراجا، وأعطاها مملوكه أيبك المذكور، والظاهر أن الأول أصح، واستمرت في يد أيبك إلى سنة أربع وأربعين وستمائة، فأخذها الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل من أيبك المذكور، وأمسك أيبك في السنة المذكورة وحمله إلى القاهرة وحبسه في دار الطواشي، صواب، واستمر، معتقلاً بها حتى توفي معتقلاً في هذه السنة، في أوائل جمادى الأولى، ودفن خارج باب النصر في تربة شمس الدولة، ثم نقل إلى الشام ودفن في تربة كان قد أنشأها بظاهر دمشق، على الشرف الأعلى، مطلة على الميدان الأخضر الكبير، رحمه الله تعالى، هكذا نقلت ذلك من وفيات الأعيان. ثم دخلت سنة سبع وأربعين وستمائة. ذكر ملك الفرنج دمياط ونزول الملك الصالح أشمون طناخ: وفي هذه السنة سار ريد إفرنس، وهو من أعظم ملوك الفرنج، وريد بلغتهم هو الملك، أي ملك إفرنس، وإفرنس أمة عظيمة من أمم الفرنج، وكان جمع ريد إفرنس نحو خمسين ألف مقاتل، وشتى في جزيرة قبرس، ثم سار ووصل في هذه السنة إلى دمياط، وكان قد شحنها الملك الصالح بآلات عظيمة، وذخائر وافرة، وجعل فيها بني كنانة، وهم مشهورون بالشجاعة، وكان قد أرسل الملك الصالح فخر الدين ابن الشيخ بجماعة كثيرة من العسكر،

ليكونوا قبالة الفرنج بظاهر دمياط، ولما وصلت الفرنج، عبر فخر الدكن ابن الشيخ من البر الغربي إلى البر الشرقي، ووصل الفرنج إلى البر الغربي لتسع بقين من صفر هذه السنة، ولما جرى ذلك هربت بنو كنانة وأهل دمياط منها، وأخلوا دمياط وتركوا أبوابها مفتحة، فتملكها الفرنج بغير قتال، واستولوا على ما بها من الذخائر والسلاحات، وكان هذا من أعظم المصائب، وعظم ذلك على الملك الصالح، وأمر بشنق بني كنانة، فشنقوا عن آخرهم. ووصل الملك الصالح إلى المنصورة، ونزل بها يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر هذه السنة، وقد اشتد مرضه، وهو السل والقرحة، التي كانت به، وقد أيس منه. ذكر استيلاء الملك الصالح أيوب على الكرك وفي هذه السنة سار الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، من الكرك إلى حلب، لما ضاقت عليه الأمور، مستجيراً بالملك الناصر صاحب حلب، وكان قد بقي عند الناصر داود من الجوهر مقدار كثير، قال: كان يساوى مائة ألف دينار، إذا بيع بالهوان، فلما وصل إلى حلب، سير الجوهر المذكور إلى بغداد وأودعه عند الخليفة المستعصم، ووصل إليه خط الخليفة بتسليمه، فلم تقع عينه عليه بعد ذلك، ولما سار الناصر داود عن الكرك، استناب عليها ابنه عيسى ولقبه الملك المعظم، وكان له ولدان آخران، أكبر من عيسى المذكور، هما الأمجد حسن، والظاهر شاذي، فغضب الأخوان المذكوران من تقديم أخيهما عيسى عليهما، وبعد سفر أبيهما قبضا على أخيهما عيسى، وتوجه الأمجد حسن إلى الملك الصالح أيوب وهو مريض، على المنصورة، وبذل له تسليم الكرك، على إقطاع له ولأخيه بديار مصر، فأحسن إليه الصالح أيوب وأعطاهما إقطاعاً أرضاهما، وأرسل إلى الكرك وتسلمها يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة من هذه السنة، وفرح الملك الصالح بالكرك فرحاً عظيماً، مع ما هو فيه من المرض، لما كان في خاطره من صاحبها. ذكر وفاة الملك الصالح أيوب وفي هذه السنة توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب، ابن الملك الكامل محمد، ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، في ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة مضت من شعبان هذه السنة، أعني سنة سبع وأربعين وستمائة، وكانت مدة مملكته للديار المصرية تسع سنين وثمانية أشهر وعشرين يوماً، وكان عمره نحو أربع وأربعين سنة، وكان مهيباً عالي الهمة، عفيفاً طاهر اللسان والذيل، شديد الوقار، كثير الصمت، وجمع من المماليك الترك ما لم يجتمع لغيره من أهل بيته، حتى كان أكثر أمراء عسكره مماليكه، ورتب جماعة من المماليك الترك حول دهليزه، وسماهم البحرية، وكان لا يجسر أن يخاطبه أحد إلا جواباً، ولا يتكلم أحد بحضرته، ابتداء،

وكانت القصص توضع بين يديه مع الخدام، فيكتب بيده عليها وتخرج للموقعين، وكان لا يستقل أحد من أهل دولته بأمر من الأمور إلا بعد مشاورته بالقصص، وكان غاوياً بالعمارة، بنى قلعة الجزيرة، وبنى الصالحية، وهي بلدة بالسائح، وبنى له بها قصوراً للتصيد، وبنى قصراً عظيماً بين مصر والقاهرة، يسمى بالكبش. وكانت أم الملك الصالح أيوب المذكور، جارية سوداء تسمى ورد المنى، غشيها السلطان الملك الكامل، فحملت بالملك الصالح، وكان للملك الصالح ثلاثة أولاد، أحدهم فتح الدين عمر، توفي في حبس الصالح إسماعيل، وكان قد توفي ولده الآخر قبله، ولم يكن قد بقي له غير المعظم توران شاه، بحصن كيفا، ومات الملك الصالح ولم يوص بالملك إلى أحد، فلما توفي أحضرت شجرة الدر، وهي جارية الملك الصالح، فخر الدين ابن الشيخ، والطواشي جمال الدين محسناً، وعرفتهما بموت السلطان، فكتموا ذلك خوفاً من الفرنج، وجمعت شجر الدر الأمراء، وقالت لهم: السلطان يأمركم أن تحلفوا له، ثم من بعده لولده الملك المعظم توران شاه، المقيم بحصن كيفا، وللأمير فخر الدين ابن الشيخ بأتابكية العسكر، وكتب إلى حسام الدين ابن أبي علي، وهو النائب بمصر بمثل ذلك، فحلفت الأمراء والأجناد والكبراء بالعسكر وبمصر وبالقاهرة على ذلك، في العشر الأوسط من شعبان هذه السنة، وكان بعد ذلك تخرج الكتب، المراسم وعليها علامة الملك الصالح، وكان يكتبها خادم يقال له السهيلي، فلا يشك أحد في أنه خط السلطان، فأرسل فخر الدين ابن الشيخ قاصداً لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا، ولما جرى ذلك، شاع بين الناس موت السلطان، ولكن أرباب الدولة لا يجسرون أن يتفوهوا بذلك، وتقدم الفرنج عن دمياط إلى المنصورة، وجرى بينهم وبين المسلمين في مستهل رمضان من هذه السنة وقعة عظيمة، استشهد فيها جماعة من كبار المسلمين، ونزلت الفرنج بحر مساح، ثم قربوا من المسلمين، ثم إن الفرنج كبسوا المسلمين على المنصورة بكرة الثلاثاء لخمس مضين من ذي القعدة، وكان فخر الدين يوسف ابن الشيخ صدر الدين ابن حمويه في الحمام بالمنصورة، فركب مسرعاً، وصادفه جماعة من الفرنج فقتلوه، وكان سعيداً في الدنيا، ومات شهيداً. ثم حملت المسلمون والترك البحرية على الفرنج، فردوهم على أعقابهم، واستمرت بهم الهزيمة، وأما الملك المعظم توران شاه، فإنه سار من حصن كيفا ووصل إلى دمشق، في رمضان من هذه السنة، وعّيد بها عيد الفطر، ووصل إلى المنصورة يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة سبع وأربعين وستمائة، ثم اشتد القتال بين المسلمين والفرنج براً وبحراً، ووقعت مراكب المسلمين على الفرنج، وأخذوا منهم اثنين وثلاثين مركباً، منها تسع شواني، فضعفت الفرنج لذلك، وأرسلوا يطلبون القدس وبعض الساحل، وأن يسلموا دمياط إلى المسلمين، فلم تقع الإجابة إلى ذلك.

ذكر غير ذلك

ذكر غير ذلك وفي هذه السنة وقع الحرب بين صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، وبين الملك الناصر صاحب حلب، فأرسل إليه الملك الناصر عسكراً، والتقوا مع المواصلة بظاهر نصيبين، فانهزمت المواصلة هزيمة قبيحة، واستولى الحلبيون على أثقال لؤلؤ صاحب الموصل وخيمه، وتسلم الحلبيون نصيبين وأخذوها من صاحب الموصل، ثم ساروا إلى دارا فنازلوها وتسلموها وخربوها بعد حصار ثلاثة أشهر، ثم تسلموا قرقيسيا وعادوا إلى حلب. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة. ذكر هزيمة الفرنج وأسر ملكهم لما أقام الفرنج قبالة المسلمين بالمنصورة، فنيت أزوادهم وانقطع عنهم المدد من دمياط، فإن المسلمين قطعوا الطريق الواصل من دمياط إليهم، فلم يبق لهم صبراً على المقام، فرحلوا ليلة الأربعاء، لثلاث مضين من المحرم، متوجهين إلى دمياط، وركب المسلمون أكتافهم، ولما استقر صباح الأربعاء خالطهم المسلمون وبذلوا فيهم السيف، فلم يسلم منهم إلا القليل، وبلغت عدة القتلى من الفرنج ثلاثين ألفا على ما قيل، وانحاز ريد إفرنس ومن معه من الملوك إلى بلد هناك، وطلبوا الأمان، فأمنهم الطواشي محسن الصالحي، ثم احتيط عليهم وأحضروا إلى المنصورة، وقيد ريد إفرنس، وجعل في الدار التي كان ينزلها كاتب الإنشاء، فخر الدين بن لقمان، ووكل به الطواشي صبيح المعظمي، ولما جرى ذلك رحل، الملك المعظم بالعساكر من المنصورة ونزل بفار سكور، ونصب بها برج خشب للملك المعظم. ذكر مقتل الملك المعظم وفي هذه السنة يوم الاثنين، لليلة بقيت من المحرم، قتل الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، وسبب ذلك: أن المذكور، أطرح جانب أمراء أبيه ومماليكه، وكل منهم بلغه عنه من التهديد والوعيد ما نفر قلبه منه، واعتمد على بطانته الذين وصلوا معه من حصن كيفا، وكانوا أطرافاً أراذل، فاجتمعت البحرية على قتله بعد نزوله بفارسكور، وهجموا عليه بالسيوف، وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس، الذي صار سلطاناً فيما بعد، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، فهرب الملك المعظم منهم إلى البرج الخشب الذي نصب له بفارسكور على ما تقدم ذكره، فأطلقوا في البرج النار، فخرج الملك المعظم من البرج هارباً، طالباً البحر ليركب في حراقته، فحالوا بينه وبينها بالنشاب، فطرح نفسه في البحر، فأدركوه وأتموا قتله في نهار الإثنين المذكور، وكانت مدة إقامته في المملكة من حين وصوله إلى الديار المصرية، شهرين

وأياماً. ولما جرى ذلك، اجتمعت الأمراء واتفقوا على أن يقيموا شجرة الدر زوجة الملك الصالح في المملكة، وأن يكون عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي، المعروف بالتركماني، أتابك العسكر، وحلفوا على ذلك، وخطب لشجرة الدر على المنابر، وضربت السكة باسمها، وكان نقش السكة المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة الملك المنصور خليل، وكانت شجرة الدر قد ولدت من الملك الصالح ولداً ومات صغيراً، وكان اسمه خليل، فسميت والدة خليل، وكانت صورة علامتها على المناشير والتواقيع، والدة خليل، ولما استقر ذلك، وقع الحديث مع ريد إفرنس في تسليم دمياط بالإفراج عنه، فتقدم ريد إفرنس إلى من بها من نوابه في تسليمها، فسلموها، وصعد إليها العلم السلطاني يوم الجمعة، لثلاث مضين من صفر من هذه السنة، أعني سنة ثمان وأربعين وستمائة، وأطلق ريد إفرنس، فركب في البحر بمن سلم معه نهار السبت، غد الجمعة المذكورة وأقلعوا إلى عكا، ووردت البشرى بهذا الفتح العظيم إلى سائر الأقطار، وفي واقعة ريد إفرنس المذكورة، يقول جمال الدين يحيى بن مطروح أبياتاً منها: قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق عن قؤول نصيح أتيت مصراً تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر يا طبل ريح وكل أصحابك أوردتهم ... بحصن تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفاً لا يرى منهم ... غير قتيل أو أسير جريح وقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثار أو لقصد صحيح دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باقي والطواشي صبيح ثم عادت العساكر ودخلت القاهرة يوم الخميس، تاسع صفر من الشهر المذكور، وأرسل المصريون رسولاً إلى الأمراء الذين بدمشق، في موافقتهم على ذلك، فلم يجيبوا إليه وكان الملك السعيد ابن الملك العزيز عثمان ابن الملك العادل صاحب الصبيبة، قد سلمها إلى الملك الصالح أيوب، فلما جرى ذلك، قصد قلعة الصبيبة، فسلمت إليه، وكان من الملك السعيد ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ملك الملك المغيث الكرك كان الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، قد أرسله الملك المعظم توران شاه، لما وصل إلى الديار المصرية، إلى الشوبك، واعتقله بها، وكان النائب على الكرك والشوبك بدر الدين الصوابي الصالحي، فلما جرى ما ذكرناه من قتل الملك المعظم، وما استقر عليه الحال، بادر بدر الدين الصوابي المذكور، فأفرج عن المغيث وملكه القلعتين، الكرك والشوبك، وقام

في خدمته أتم قيام. ذكر استيلاء الملك الناصر صاحب حلب على دمشق ولما جرى ما ذكرناه، ولم يجب أمراء دمشق إلى ذلك، كاتب الأمراء القيميرية الذين بها الملك الناصر يوسف صاحب حلب، ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين، فسار إليهم وملك دمشق ودخلها في يوم السبت، لثمان مضين من ربيع الآخر من هذه السنة، ولما استقر الناصر المذكور في ملك دمشق، خلع على جمال الدين بن يغمور، وعلى الأمراء القيمرية به، وأحسن اليهم، واعتقل جماعة من الأمراء مماليك الملك الصالح، وعصت عليه بعلبك وعجلون وشميميس مدة مديدة، ثم سلمت جميعها إليه، ولما ورد الخبر بذلك إلى مصر قبضوا على من عندهم من القيمرية، وعلى كل من اتهم بالميل إلى الحلبيين. ذكر سلطنة أيبك التركماني ثم إن كبراء الدولة اتفقوا على إقامة عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي في السلطنة، لأنه إذا استقر أمر المملكة في امرأة، على ما هو عليه الحال، تفسد الأمور، فأقاموا أيبك المذكور، وركب بالسناجق السلطانية، وحملت الغاشية بين يديه يوم السبت آخر ربيع الآخر من هذه السنة، ولقب الملك المعز، وأبطلت السكة والخطبة التي كانت باسم شجرة الدر. ذكر عقد السلطنة للملك الأشرف موسى بن يوسف صاحب اليمن، المعروف باقسيس: ابن الملك الكامل محمد، ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، ثم اجتمعت الأمراء واتفقوا على أنه لا بد من إقامة شخص من بني أيوب في السلطنة، واجتمعوا على إقامة موسى المذكور، ولقبوه الملك الأشرف، وأن يكون أيبك التركماني أتابكه، وأجلس الأشرف موسى المذكور في دست السلطنة، وحضرت الأمراء في خدمته يوم السبت، لخمس مضين من جمادى الأولى من هذه السنة، وكان بغزة حينئذ جماعة من عسكر مصر مقدمهم خاص ترك، فسار إليهم عسكر دمشق، فاندفعوا من غزة إلى الصالحية بالسائح، واتفقوا على طاعة المغيث صاحب الكرك، وخطبوا له بالصالحية يوم الجمعة، لأربع مضين من جمادى الآخرة من هذه السنة، ولما جرى ذلك، اتفق كبراء الدولة بمصر، ونادوا بالقاهرة ومصر، أن البلاد للخليفة المستعصم، ثم جددت الأيمان للملك الأشرف موسى بالسلطنة، ولأيبك التركماني بالأتابكية، وفي يوم الأحد لخمس مضين من رجب، رحل فارس الدين أقطاي الصالحي الجمدار، متوجهاً إلى جهة غزة، ومعه تقدير ألفي فارس، وكان أقطاي المذكور، مقدم البحرية،

ذكر مسير السلطان الملك الناصر يوسف صاحب الشام إلى الديار المصرية

فلما وصل إلى غزة، اندفع من كان بها من جهة الناصر بين يديه. ذكر تخريب دمياط وفي هذه السنة، اتفق آراء أكابر الدولة، وهدموا سور دمياط، في العشر الأخير من شعبان هذه السنة، لما حصل للمسلمين عليها من الشدة مرة بعد أخرى، وبنوا مدينة بالقرب منها في البر، وسموها المنشية، وأسوار دمياط التي هدمت من عمارة المتوكل الخليفة العباسي. ذكر القبض على الناصر داود وفي هذه السنة مستهل شعبان، قبض الناصر يوسف، صاحب دمشق وحلب، علي الناصر داود، الذي كان صاحب الكرك، وبعث به إلى حمص، فاعتقل بها، وذلك لأشياء بلغت الناصر يوسف عن المذكور، خاف منها. مسير الملك الناصر يوسف إلى الديار المصرية ذكر مسير السلطان الملك الناصر يوسف صاحب الشام إلى الديار المصرية وكسرته: وفي هذه السنة سار الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز، بعساكره من دمشق، وصحبته من ملوك أهل بيته، الصالح إسماعيل بن العادل بن أيوب، والأشرف موسى صاحب حمص، وهو حينئذ صاحب تل باشر والرحبة وتدمر والمعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، وأخو المعظم المذكور نصرة الدين، والأمجد حسن، والظاهر شاذي ابنا الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن العادل ابن أيوب، وتقي الدين عباس ابن الملك العادل بن أيوب، ومقدم الجيش شمس الدين لؤلؤ الأرمني، وإليه تدبير المملكة، فرحلوا من دمشق يوم الأحد منتصف رمضان من هذه السنة، ولما بلغ المصريين ذلك، اهتموا لقتاله ودفعه، وبرزوا إلى السائح وتركوا الأشرف المسمى بالسلطان بقلعة الجبل، وأفرج أيبك التركماني حينئذ عن ولدي الصالح إسماعيل، وهما المنصور إبراهيم، والملك السعيد عبد الملك، ابنا الصالح إسماعيل، وكانا معتقلين من حين استيلاء الملك الصالح أيوب على بعلبك، وخلع عليهما ليتوهم الناصر يوسف صاحب دمشق، من أبيهما الصالح إسماعيل، والتقى العسكران المصري والشامي بالقرب من العباسة، في يوم الخميس عاشر ذي العقدة من هذه السنة، فكانت الكسرة أولاً على عسكر مصر، فخامر جماعة من المماليك الترك العزيزية، على الملك الناصر صاحب دمشق، وثبت المعز أيبك التركماني في جماعة قليلة من البحرية، فانضاف جماعة من العزيزية مماليك والد الملك الناصر إلى أيبك التركماني، ولما انكسر المصريون وتبعتهم العساكر الشامية، ولم يشكوا في النصر، بقي الملك الناصر تحت السناجق السلطانية مع جماعة يسيرة من المتعممين لا يتحرك من موضعه، فحمل المعز التركماني بمن معه عليه، فولى الملك الناصر

منهزماً طالباً جهة الشام، ثم حمل أيبك التركماني المذكور على طلب شمس الدين لؤلؤ، فهزمهم وأخذ شمس الدين لؤلؤ أسيراً، فضربت عنقه بين يديه، وكذلك أسر الأمير ضياء الدين القيمري، فضربت عنقه، وأسر يومئذ الملك الصالح إسماعيل، والأشرف صاحب حمص، والمعظم توران شاه بن صلاح الدين بن أيوب، وأخوه نصرة الدين، ووصل عسكر الملك الناصر في إثر المنهزمين إلى العباسة، وضربوا بها دهليز الملك الناصر، وهم لا يشكون أن الهزيمة تمت على المصريين، فلما بلغهم هروب الملك الناصر، اختلفت آراؤهم، فمنهم من أشار بالدخول إلى القاهرة وتملكها، ولو فعلوه لما كان بقي مع أيبك التركماني من يقاتلهم به، وكان هرب، فإن غالب المصريين المنهزمين وصلوا إلى الصعيد، ومنهم من أشار بالرجوع إلى الشام، وكان معهم تاج الملوك ابن المعظم، وهو مجروح، وكانت الواقعة يوم الخميس، ووصل المنهزمون من المصريين إلى القاهرة في غد الوقعة نهار الجمعة، فلم يشك أهل مصر في ملك الملك الناصر ديار مصر، وخطب له في الجمعة المذكورة بقلعة الجبل، وبمصر، وأما القاهرة فلم يقم فيها في ذلك النهار خطبة لأحد، ثم وردت إليهم البشرى بانتصار البحرية، ودخل أيبك التركماني والبحرية إلى القاهرة يوم السبت ثاني عشر ذي القعدة، ومعه الصالح إسماعيل تحت الاحتياط، وغيره من المعتقلين، فحبسوا بقلعة الجبل، وعقيب ذلك أخرج أيبك التركماني أمين الدولة، وزير الصالح إسماعيل، وأستاذ داره يغمور، وكانا معتقلين من حين استيلاء الصالح أيوب على بعلبك، فشنقهما على باب قلعة الجبل رابع عشر ذي القعدة، وفي ليلة الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة، هجم جماعة على الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك العادل بن أيوب، وهو يمص قصب سكر، وأخرجوه إلى ظاهر قلعة الجبل من جهة القرافة، فقتلوه ودفن هناك، وعمره قريب من خمسين سنة، وكانت أمه رومية من خطايا الملك العادل. وفي هذه السنة بعد هزيمة الملك الناصر صاحب الشام، سار فارس الدين أقطاي بثلاثة آلاف فارس إلى غزة، فاستولى عليها ثم عاد إلى الديار المصرية. ذكر قتل صاحب اليمن وفي هذه السنة، وثب على الملك المنصور عمر صاحب اليمن، جماعة من مماليكه فقتلوه، وهو عمر بن علي بن رسول، وكان والده علي بن رسول، أستاذ دار الملك المسعود ابن السلطان الملك الكامل، فلما سار الملك المسعود قاصداً الشام ومات بمكة على ما تقدم ذكره، استناب أستاذ داره علي بن رسول المذكور باليمن، فاستقر نائباً بها لبني أيوب، وكان لعلي المذكور إخوة، فأحضروا إلى مصر وأخذوا رهائن خوفاً من تغلب علي بن رسول على اليمن، واستمر المذكور نائباً باليمن حتى مات، قبل سنة ثلاثين

وستمائة، واستولى على اليمن بعده ولده عمر بن علي لمذكور، على ما كان عليه أبوه من النيابة، فأرسل من مصر أعمامه ليعزلوه ويكونوا نواباً موضعه، فلما وصلوا إلى اليمن، قبض عمر المذكور عليهم واعتقلهم، واستقل عمر المذكور بملك اليمن يومئذ، وتلقب بالملك المنصور، واستكثر من المماليك الترك، فقتلوه في هذه السنة أعني سنة ثمان وأربعين وستمائة. واستقر بعده في ملك اليمن ابنه يوسف بن عمر، وتلقب بالملك المظفر، وصفا له ملك اليمن، وطالت أيام مملكته على ما سنعلمه إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة تسع وأربعين وستمائة. فيها توفي الصاحب محي الدين بن مطروح، وكان متقدماً عند الملك الصالح أيوب، كان يتولى له لما كان الصالح بالشرق ينظر الجيش، ثم استعمله على دمشق، ثم عزله وولى ابن يغمور، وكان ابن مطروح المذكور فاضلاً في النثر والنظم، فمن شعره: عانقته فسكرت من طيب الشذا غصن رطيب بالنسيم قد اغتذا نشوان ما شرب المدام وإنما ... أضحى بخمر رضابه متنبذا جاء العذول يلومني من بعدما ... أخذ الغرام علي فيه مأخذا لا أرعوي لا أنثني لا أنتهي ... عن حبه فليهذ فيه من هذى إن عشت عشت على الغرام وإن أمت ... وجداً به وصبابة يا حبذا وفيها جهز الملك الناصر يوسف صاحب الشام عسكراً إلى غزة، وخرج المصريون إلى السائح، وأقاموا كذلك حتى خرجت هذه السنة. وفيها توفي علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر، الفقيه الحنفي المقرئ المعروف بتعاسيف، وكان إماماً في العلوم الرياضية، اشتغل بالديار المصرية والشام، ثم سار إلى الموصل، وقرأ على الشيخ كمال الدين موسى بن يونس علم الموسيقى، ثم عاد إلى الشام وتوفي بدمشق في شهر رجب من السنة المذكورة، ومولده سنة أربع وسبعين وخمسمائة بأصفون، من شرقي صعيد مصر. ثم دخلت سنة خمسين وستمائة ولم يقع لنا فيها ما يصلح أن يؤرخ. ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وستمائة فيها استقر الصلح بين الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وبين البحرية بمصر، على أن يكون للمصريين إلى نهر الأردن، وللملك الناصر ما وراء ذلك، وكان نجم الدين البادراي رسول الخليفة، هو الذي حضر من جهة الخليفة، وأصلح بينهم على ذلك، ورجع كل منهم إلى مقره. وفيها قطع أيبك التركماني خبر حسام الدين بن أبي علي الهذباني، فطلب دستوراً، فأعطيه، وسار إلى الشام، فاستخدمه الملك الناصر يوسف بدمشق. ذكر أحوال الناصر صاحب الكرك وفيها أفرج الملك الناصر يوسف، عن الملك الناصر داود ابن المعظم، الذي كان صاحب

الكرك، وكان قد اعتقله بقلعة حمص، وذلك بشفاعة الخليفة المستعصم فيه، فأفرج عنه وأمره أن لا يسكن في بلاده، فرحل الناصر داود المذكور إلى جهة بغداد، فلم يمكنوه من الوصول إليها وطلب وديعته الجوهر، فمنعوه إياها، وكتب الملك الناصر يوسف إلى ملوك الأطراف أنهم لا يأووه ولا يميروه، فبقي الناصر داود في جهات عانة والحديثة، وضاقت به الأحوال وبمن معه، وانضم إليه جماعة من غزيه، فبقوا يرحلون وينزلون جميعاً، ثم لما قوي عليهم الحر، ولم يبق بالبرية عشب، قصدوا أزوار الفرات يقاسون بن الليل وهواجر النهار، وكان معه أولاده، وكان لولده الظاهر شافي، فهد، فكان يتصيد في النهار ما يزيد على عشرة غزلان، وكان يمضي للملك الناصر داود وأصحابه أياماً لا يطعمون غير لحوم الغزلان، واتفق أن الأشرف صاحب تل باشر وتدمر والرحبة يومئذ، أرسل إلى الناصر داود مركبين موسقين دقيقاً وشعيراً، فأرسل صاحب دمشق وتهدده على ذلك، ثم إن ناصر داود قصد مكاناً للشرابي واستجار به، فرتب له الشرابي شيئاً دون كفايته، وأذن له في النزول بالأنبار، وبينها وبين بغداد ثلاثة أيام، والناصر في داود مع ذلك يتضرع إلى الخليفة المستعصم فلا يجيب ضراعته، ويطلب وديعته فلا يرد لهفته ولا يجيبه إلا بالمماطلة، والمطاولة، وكانت مدة مقامه متنقلاً في الصحاري مع غزيه، قريب ثلاثة أشهر، ثم بعد ذلك أرسل الخليفة وشفع فيه عند الملك الناصر، فأذن له في العود إلى دمشق، ورتب له مائة ألف درهم على بحيرة فامية وغيرها، فلم يتحصل من ذلك إلا دون ثلاثين ألف درهم. وفي هذه السنة وصلت الأخبار من مكة بأن ناراً ظهرت من عدن وبعض جبالها، بحيث كانت تظهر في الليل، ويرتفع منها في النهار دخان عظيم. ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وستمائة. ذكر دولة الحفصيين ملوك تونس وإنما ذكرناها في هذه السنة، لأنها كالمتوسطة لمدة ملكهم، وهو ما نقلناه من الشيخ الفاضل ركن الدين بن قوبع التونسي قال: والحفصيون، أولهم أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي، وهنتاتة - بتائين مثناتين من فوقهما - قبيلة من المصامدة، ويزعمون أنهم قرشيون من بني عدي بن كعب، رهط عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أبو حفص المذكور، من أكبر أصحاب ابن تومرت، بعد عبد المؤمن، وتولى عبد الواحد بن أبي حفص إفريقية نيابة عن بني عبد المؤمن، في سنة ثلاث وستمائة، ومات سلخ ذي الحجة، سنة ثمان عشرة وستمائة، فتولى أبو العلاء من بني عبد المؤمن، ثم توفي، فعادت إفريقية إلى ولاية الحفصيين، وتولى منهم عبد الله بن عبد الواحد بن أبي حفص في سنة ثلاث وعشرين وستمائة. ولما تولى، ولى أخاه أبا زكريا يحيى قابس، وأخاه أبا إبراهيم إسحاق بلاد

الجريد، ثم خرج على عبد الله وهو على قابس، أصحابه، ورجموه وطردوه وولوا موضعه أخاه أبا زكريا بن عبد الواحد، سنة اثنتين وستين، فنقم بنو عبد المؤمن على أبي زكريا ذلك، فأسقط أبو زكريا اسم عبد المؤمن من الخطبة، وبقي اسم المهدي، وخلع طاعة بني عبد المؤمن، وتملك إفريقية، وخطب لنفسه بالأمير المرتضى واتسعت مملكته وفتح تلمسان والغرب الأوسط وبلاد الجريد، والزاب، وبقي كذلك حتى توفي على بونة، سنة سبع وأربعين وستمائة. وأنشأ في تونس بنايات عظيمة شامخة، وكان عالماً بالأدب، وخلف أربعة بنين وهم: أبو عبد الله محمد، وأبو إسحاق إبراهيم، وأبو حفص عمر، وأبو بكر وكنيته أبو يحيى، وخلف أخوين وهما: أبو إبراهيم إسحاق، ومحمد اللحياني، ابني عبد الواحد بن أبي حفص. وكان محمد اللحياني المذكور صالحاً، منقطعاً يتبرك به، ثم تولى بعده ابنه أبو عبد الله محمد بن أبي زكريا، ثم سعى عمه أبو إبراهيم في خلعه فخلع، وبايع لأخيه محمد اللحياني الزاهد على كره منه لذلك، فجمع أبو عبد الله محمد المخلوع أصحابه، في يوم خلعه، وشد على عميه فقهرهما وقتلهما، واستقر في ملكه، وتلقب وخطب لنفسه بالمستنصر بالله، أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد ابن الأمراء الراشدين. وفي أيامه، في سنة ثمان وستين وستمائة، وصل الفرنسيس إلى إفريقية بجموع الفرنج، وأشرفت إفريقية على الذهاب، فقصمه الله، ومات الفرنسيس، وتفرقت تلك الجموع. وفي أيامه خافه أخوه أبو إسحاق إبراهيم بن أبي زكريا، فهرب ثم أقام بتلمسان، وبقي المستنصر المذكور كذلك حتى توفي ليلة حادي عشر ذي الحجة سنة خمس وسبعين وستمائة. فملك ابنه يحيى بن محمد بن أبي زكريا، وتلقب بالواثق بالله أمير المؤمنين، وكان ضعيف الرأي، فتحرك عليه عمه أبو إسحاق إبراهيم الذي هرب وأقام بتلمسان، وغلب على الواثق، فخلع نفسه، واستقر أبو إسحاق إبراهيم في المملكة في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وستمائة، وخطب لنفسه بالأمير المجاهد، وترك زي الحفصيين وأقام على زي زناتة، وعكف على الشرب، وفرق المملكة على أولاده، فوثبت أولاده على الواثق المخلوع وذبحوه، وذبحوا معه ولديه الفضل والطيب، ابن يحيى الواثق المذكور، وسلم للواثق ابن صغير تلقب أبا عصيدة، لأنهم يصنعون للنفساء عصيدة، فيها أدوية، ويهدى، منها للجيران، وعلمت أم الصبي ذلك، فلقب ولدها بأبي عصيدة، ثم ظهر إنسان ادعى أنه الفضل بن الواثق الذي ذبح مع ابنه، واجتمعت عليه الناس، وقصد أبا إسحاق إبراهيم وقهره، فهرب أبو إسحاق إلى بجاية، وبها ابنه أبو فارس عبد العزيز بن إبراهيم، فترك أبو فارس أباه ببجاية وسار بأخويه وجمعه إلى الداعي بتونس، والتقى الجمعان، فانهزم عسكر بجاية، وقتل أبو فارس وثلاثة من إخوته وأنجاله، أخ اسمه يحيى بن إبراهيم، وعمه أبو حفص عمر بن أبي زكريا. ولما هزم الداعي عسكر

بجاية وقتل المذكورين، أرسل إلى بجاية من قتل أبا إسحاق إبراهيم، وجاء برأسه، ثم تحدث الناس بدعوة الداعي، واجتمعت العرب على عمر بن أبي زكريا بعد هروبه من المعركة، وقوي أمره، وقصد الداعي ثانياً بتونس وقهره، واستتر الداعي في دور بعض التجار بتونس، ثم أحضر واعترف بنسبه، وضربت عنقه. فكان الداعي المذكور من أهل بجاية، واسمه أحمد بن مرزوق بن أبي عمار، وكان أبوه يتجر إلى بلاد السودان، وكان الداعي المذكور محارفاً قصيفاً، وسار إلى ديار مصر ونزل بدار الحديث الكاملية، ثم عاد إلى المغرب، فلما مر على طرابلس كان هناك شخص أسود يسمى نصيراً، كان خصيصاً بالواثق المخلوع، قد هرب لما جرى للواثق ما جرى، وكان في أحمد الداعي بعض الشبه من الفضل بن الواثق، فدبر مع نصير المذكور الأمر، فشهد له أنه الفضل بن الواثق، فاجتمعت عليه العرب، وكان منه ما ذكرناه حتى قتل، وكان الداعي يخطب له بالخليفة الإمام المنصور بالله، القائم بحق الله، أمير المؤمنين، ابن أمير المؤمنين أبي العباس الفضل. ولما استقر أبو حفص عمر في المملكة وقتل الداعي، تلقب بالمستنصر بالله أمير المؤمنين، وهو المستنصر الثاني، ولما استقر في المملكة سار ابن أخيه يحيى ابن إبراهيم بن أبي زكريا الذي سلم من المعركة إلى بجاية، وملكها وتلقب بالمنتخب لإحياء دين الله، أمير المؤمنين، واستمر المستنصر الثاني أبو حفص عمر ابن أبي زكريا في مملكته حتى توفي، وفي أوائل المحرم سنة خمس وتسعين وستمائة، ولما اشتد مرضه بايع لابن له صغير، فاجتمعت الفقهاء وقالوا له: أنت صائر إلى الله، وتولية مثل هذا لا يحل فأبطل بيعته، وأخرج ولد الواثق المخلوع، الذي كان صغيراً وسلم من الذبح، الملقب بأبي عصيدة، وبويع صبيحة موت أبي حفص عمر الملقب بالمستنصر. وكان اسم أبي عصيدة المذكور، أبا عبد الله محمد، وتلقب أبو عصيدة بالمستنصر، أيضاً، وهو المستنصر الثالث، وتوفي في أيامه صاحب بجاية المنتخب، يحيى بن إبراهيم بن أبي زكريا، وملك بعده بجاية ابنه خالد بن يحيى، وبقي أبو عصيدة لذلك حتى توفي سنة تسع وسبعمائة. فملك بعده شخص من الحفصيين يقال له أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر ابن أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص، صاحب ابن تومرت، وأقام في الملك ثمانية عشر يوماً، ثم وصل خالد بن المنتخب صاحب بجاية، ودخل تونس، وقتل أبا بكر المذكور في سنة تسع وسبعمائة. ولما جرى ذلك، كان زكريا اللحياني بمصر، فسار مع عسكر السلطان الملك الناصر، خلد الله ملكه، إلى طرابلس الغرب، وبايعه العرب، وسار إلى تونس فخلع خالد بن المنتخب وحبس، ثم قتل قصاصاً بأبي بكر ابن عبد الرحمن المقدم الذكر، واستقر اللحياني في ملك إفريقية، وهو ابن يحيى زكريا بن أحمد بن محمد الزاهد اللحياني بن عبد الواحد بن أبي

حفص، صاحب ابن تومرت. ثم تحرك على اللحياني أخو خالد، وهو أبو بكر بن يحيى المنتخب، فهرب اللحياني إلى ديار مصر وأقام بالإسكندرية، وملك أبو بكر المذكور تونس وما معها، خلا طرابلس والمهدية، فإنه بعد هروب اللحياني، بايع ابنه محمد بن اللحياني لنفسه، واقتتل مع أبي بكر، فهزمه أبو بكر، واستقر محمد بن اللحياني بالمهدية، وله معها طرابلس، وكان استيلاء أبي بكر وهروب اللحياني إلى ديار مصر، في سنة تسع وعشرة وسبعمائة. وأقام اللحياني في الإسكندرية، ثم وردت عليه مكاتبات من تونس في ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة إلى الإسكندرية، يذكرون فيها أن أبا بكر متملك تونس المذكور، قد هرب وترك البلاد، وأن الناس قد اجتمعوا على طاعة اللحياني وبايعوا نائبه، وهو محمد بن أبي بكر، من الحفصيين، وهو صهر زكريا اللحياني المذكور، وهم في انتظار وصول اللحياني إلى مملكته، أقول وقد بقيت مملكة إفريقية، فهرب منها لضعفها بسبب استيلاء العرب عليها. ذكر مقتل أقطاي في هذه السنة اغتال الملك المعز أيبك التركماني المستولى على مصر، خوشداشه أقطاي الجمدار، وأوقف له في بعض دهاليز الدور التي بقلعة الجبل ثلاثة مماليك، وهم قطز، وبهادر، وسنجر الغتمي، فلما مر بهم فارس الدين أقطاي ضربوه بسيوفهم فقتلوه، ولما علمت البحرية بذلك هربوا من ديار مصر إلى الشام، وكان الفارس أقطاي يمنع أيبك من الاستقلال بالسلطنة، وكان الاسم للملك الأشرف موسى بن يوسف بن يوسف ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. فلما قتل أقطاي استقل المعز التركماني بالسلطنة، وأبطل الأشرف موسى المذكور منها بالكلية، وبعث به إلى عماته القطبيات، وموسى المذكور آخر من خطب له من بيت أيوب بالسلطنة في مصر، وكان انقضاء دولتهم من الديار المصرية في هذه السنة على ما شرحناه، ووصلت البحرية إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وأطمعوه في ملك مصر، فرحل من دمشق بعسكر ونزل عمقاً من الغور، وأرسل إلى غزة عسكراً فنزلوا بها، وبرز المعز أيبك صاحب مصر إلى العباسة، وخرجت السنة وهم على ذلك. وفيها قدمت ملكة خاتون بنت كيقباذ ملك بلاد الروم إلى زوجها الملك الناصر يوسف صاحب الشام. وفيها ولي الملك المنصور صاحب حماة، قضاء حماة للقاضي شمس الدين إبراهيم بن هبة الله بن البارزي، بعد عزل القاضي المحيي حمزة بن محمد. ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وستمائة فيها عزمت العزيزية المقيمون مع المعز أيبك على القبض عليه، وعلم بذلك، واستعد لهم، فهربوا من مخيمهم على العباسة على حمية، واحتيط على وطاقاتهم جميعها. وفي هذه السنة مشى نجم الدين الباذراي في الصلح بين المصريين والشاميين، واتفق الحال أن

ذكر غير ذلك

يكون للملك الناصر الشام جميعه إلى العريش، ويكون الحد بين القاضي، وهو بين الورادة والعريش، وبيد المعز أيبك الديار المصرية، وانفصل الحال على ذلك ورجع كل إلى بلده. وفي هذه السنة أو التي قبلها تزوج المعز أيبك شجرة الدر أم خليل، التي خطب لها بالسلطنة في ديار مصر. وفيها طلب الملك الناصر داود من الملك الناصر يوسف دستوراً إلى العراق، بسبب طلب وديعته من الخليفة، وهي الجوهر الذي تقدم ذكره، وأن يمضي إلى الحج، فأذن له الناصر يوسف في ذلك، فسار الناصر داود إلى كربلاء، ثم مضى منها إلى الحج، ولما رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، تعلق في أستار الحجرة الشريفة بحضور الناس وقال: اشهدوا أن هذا مقامي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، داخلاً عليه، مستشفعاً به إلى ابن عمه المستعصم، في أن يرد علي وديعتي، فأعظم الناس ذلك، وجرت عبراتهم، وارتفع بكاؤهم، وكتب بصورة ما جرى مشروح، ورفع إلى أمير الحاج كيخسرو، وذلك يوم السبت الثامن والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وتوجه الناصر داود مع الحاج العراقي وأقام ببغداد. ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة فيها مات كيخسرو ملك بلاد الروم، وأقيم في السلطنة ولداه الصغيران عز الدين كيكاؤوس وركن الدين قليج أرسلان. وفيها توجه كمال الدين المعروف بابن العديم، رسولاً من الملك الناصر يوسف صاحب الشام، إلى الخليفة المستعصم، وصحبته تقدمة جليلة، وطلب خلعة من الخليفة لمخدومه، ووصل من جهة المعز أيبك صاحب مصر، شمس الدين سنقر الأقرع، وهو من مماليك المظفر غازي صاحب ميافارقين، إلى بغداد، بتقدمة جليلة، وسعى في تعطيل خلعة الناصر يوسف صاحب دمشق، فبقي الخليفة متحيراً، ثم إنه أحضر سكيناً من اليسم كبيرة، وقال الخليفة لوزيره: أعط هذه السكين رسول صاحب الشام، علامة مني في أن له خلعة عندي في وقت آخر، وأما في هذا الوقت فلا يمكني، فأخذ كمال الدين ابن العديم السكين، وعاد إلى الناصر يوسف بغير خلعة. ذكر غير ذلك فيها جرى للناصر داود مع الخليفة ما صورته، أنه لما أقام ببغداد بعد وصوله مع الحجاج، واستشفاعه بالنبي صلى الله عليه وسلم في رده وديعته، أرسل الخليفة المستعصم من حاسب الناصر داود المذكور، على ما وصله في ترداده إلى بغداد من المضيف، مثل اللحم والخبز والحطب والعليف والتبن وغير ذلك، وثمن عليه ذلك بأغلى الأثمان، وأرسل إليه شيئاً نزراً، وألزمه أن يكتب خطه بقبض وديعته، وأنه ما بقي يستحق عند الخليفة شيئاً، فكتب خطه بذلك كرهاً، وسار عن بغداد وأقام مع العرب. ثم أرسل إليه الناصر يوسف بن العزيز بن غازي بن يوسف صاحب الشام، فطيب قلبه وحلف له، فقدم الناصر داود إلى دمشق

صاحب الشام ابن الملك العزيز:

ونزل بالصالحية. وفي هذه السنة يوم الأحد ثالث شوال، توفي سيف الدين طغريل مملوك الملك المظفر محمود، صاحب حماة، وكان قد زوجه المظفر المذكور بأخته، وقام بتدبير مملكة حماة بعد وفاة الملك المظفر، حتى توفي في التاريخ المذكور. ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة. ذكر قتل المعز أيبك التركماني وفي هذه السنة في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، قتل الملك المعز أيبك التركماني الجاشنكير الصالحي، قتلته امرأته شجرة الدر، التي كانت امرأة أستاذه الملك الصالح أيوب، وهي التي خطب لها بالسلطنة في ديار مصر، وكان سبب ذلك: أنه بلغها أن المعز أيبك المذكور، قد خطب بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، ويريد أن يتزوجها، فقتلته في الحمام بعد عوده من لعب الكرة في النهار المذكور، وكان الذي قتله، سنجر الجوجري، مملوك الطواشي محسن، والخدام، حسبما اتفقت معهم عليه شجر الدر، وأرسلت في تلك الليلة إصبع المعز أيبك وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير، وطلبت منه أن يقوم بالأمر، فلم يجسر على ذلك، ولما، ظهر الخبر، أراد مماليك المعز أيبك قتل شجرة الدر، فحماها المماليك الصالحية، فاتفقت الكلمة على إقامة نور الدين علي ابن الملك المعز أيبك، ولقبوه الملك المنصور، وعمره يومئذ خمس عشرة سنة. ونقلت شجرة الدر من دار السلطنة إلى البرج الأحمر، وصلبوا الخدام الذين اتفقوا معها على قتل المعز أيبك، وهرب سنجر الجوجري، ثم ظفروا به وصلبوه، واحتيط على الصاحب بهاء الدين علي بن جنا، لكونه وزير شجرة الدر، وأخذ خطة بستين ألف دينار، وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر من هذه السنة، اتفقت مماليك المعز أيبك مثل سيف الدين قطز، وسنجر الغتمي،. وبهادر، وقبضوا على علم الدين سنجر الحلبي، وكان قد صار أتابكاً للملك المنصور نور الدين ابن الملك علي المعز أيبك ورتبوا في أتابكية المذكور أقطاي المستعرب الصالحي. وفي سادس عشر ربيع الآخر من السنة المذكورة، قتلت شجرة الدر، وألقيت خارج البرج، فحملت إلى تربة قد عملتها، فدفنت فيها، وكانت تركية الجنس، وقيل كانت أرمنية، وكانت مع الملك الصالح في الاعتقال بالكرك، وولدت منه ولداً اسمه خليل، مات صغيراً، وبعد أيام من ذلك خنق شرف الدين الفائزي. ذكر مفارقة البحرية الملك الناصر يوسف صاحب الشام ابن الملك العزيز: في هذه السنة، نقل إلى الناصر يوسف، أن البحرية يريدون أن يفتكوا به، فاستوحش

ذكر غير ذلك من الحوادث

خاطره منهم، وتقدم إليهم بالانتزاح عن دمشق، فساروا إلى غزة، وانضموا إلى الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل، وانزعج أهل مصر لقدوم البحرية إلى غزة، وبرزوا إلى العباسة، ووصل من البحرية جماعة مقفزين إلى القاهرة، منهم عز الدين الأثرم، فأكرموهم وأفرجوا عن أملاك الأثرم. ولما فارق البحرية الناصر صاحب الشام، أرسل عسكراً في إثرهم، فكبس البحرية ذلك العسكر ونالوا منه، ثم إن عسكر الناصر بعد الكبسة، كسروا البحرية، فانهزموا إلى البلقاء وإلى زعز، ملتجين إلى الملك المغيث صاحب الكرك، فأنفق فيهم المغيث أموالاً جليلة، وأطمعوه في ملك مصر، فجهزهم بما احتاجوه، وسارت البحرية إلى جهة مصر، وخرجت عساكر مصر لقتالهم، والتقى المصريون مع البحرية وعسكر المغيث بكرة السبت، منتصف ذي القعدة من هذه السنة، فانهزم عسكر المغيث والبحرية، وفيهم بيبرس البند قداري، المسمى بعد ذلك بالملك الظاهر، إلى جهة الكرك. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة وصل من الخليفة المستعصم، الخلعة والطوق والتقليد، إلى الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز. وفيها استجار الناصر داود بنجم الدين الباذراي، في أن يتوجه صحبته إلى بغداد، فأخذه صحبته، وتوصل الناصر يوسف صاحب دمشق إلى منعه عن ذلك، فلم يتهيأ له، وسار الناصر داود مع الباذراي إلى قرقيسيا، فأخره الباذراي ليشاور عليه، فأقام الناصر داود في قرقيسيا ينتظر الإذن بالقدوم إلى بغداد فلم يؤذن له، وطال مقامه، فسافر إلى البرية وقصد تيه بني إسرائيل، وأقام مع عرب تلك البلاد. وفي هذه السنة أو التي قبلها، ظهرت نار بالحرة، عند مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لها بالليل ضوء عظيم، يظهر من مسافة بعيدة جداً، ولعلها النار التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة، فقال " نار تظهر بالحجاز تضيء منها أعناق الإبل ببصرى " ثم اتفق أن الخدام بحرم النبي صلى الله عليه وسلم، وقع منهم في بعض الليالي تفريط، فاشتعلت النار في المسجد الشريف، واحترقت سقوفه، ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتألم الناس لذلك. ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة. ذكر استيلاء التتر على بغداد وانقراض الدولة العباسية: في أول هذه السنة قصد هولاكو ملك التتر بغداد وملكها، في العشرين من المحرم، وقتل الخليفة المستعصم بالله، وسبب ذلك أن وزير الخليفة مؤيد الدين ابن العلقمي، كان رافضياً، وكان أهل الكرخ أيضاً روافض، فجرت فتنة بين السنية والشيعة ببغداد، على جاري عادتهم، فأمر أبو بكر ابن الخليفة، وركن الدين الدوادار، العسكر، فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء، وركبوا منهن الفواحش، فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي، وكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد،

وكان عسكر بغداد يبلغ مائة ألف فارس، فقطعهم المستعصم ليحمل إلى التتر متحصل إقطاعاتهم، وصار عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس، وأرسل ابن العلقمي إلى التتر أخاه، يستدعيهم، فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم، وخرج عسكر الخليفة لقتالهم، ومقدمه ركن الدين الدوادار، والتقوا على مرحلتين من بغداد، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر الخليفة، ودخل بعضهم بغداد، وسار بعضهم إلى جهة الشام، ونزل هولاكو على بغداد من الجانب الشرقي ونزل باجو، وهو مقدم كبير، في الجانب الغربي، على قرية، قبالة دار الخلافة، وخرج مؤيد الدين الوزير ابن العلقمي إلى هولاكو فتوثق منه لنفسه، وعاد إلى الخليفة المستعصم وقال إن هولاكو يبقيك في الخلافة كما فعل بسلطان الروم، ويريد أن يزوج ابنته من ابنك أبي بكر، وحسن له الخروج إلى هولاكو، فخرج إليه المستعصم في جمع من أكابر أصحابه، فأنزل في خيمة، ثم استدعى الوزير الفقهاء والأماثل فاجتمع هناك جميع سادات بغداد والمدرسون، وكان منهم محي الدين ابن الجوزي وأولاده، وكذلك بقي يخرج إلى التتر طائفة بعد طائفة، فلما تكاملوا، قتلهم التتر عن آخرهم، ثم مدوا الجسر، وعدى باجو ومن معه، وبذلوا السيف في بغداد، وهجموا دار الخلافة، وقتلوا كل من كان فيها من الأشراف، ولم يسلم إلا من كان صغيراً، فأخذ أسيراً، ودام القتل والنهب في بغداد نحو أربعين يوماً، ثم نودي بالأمان. وأما الخليفة فإنهم قتلوه، ولم يقع الاطلاع على كيفية قتله، فقيل خنق، وقيل وضع في عدل ورفسوه حتى مات، وقيل غرق في دجلة، والله أعلم بحقيقة ذلك. وكان هذا المستعصم، وهو عبد الله أبو أحمد بن المستنصر أبي جعفر، منصور بن محمد الطاهر ابن الإمام الناصر أحمد. وقد تقدم ذكر باقي نسبه عند ذكر وفاة الإمام الناصر. كان ضعيف الرأي، قد غلب عليه أمراء دولته لسوء تدبيره، تولى الخلافة بعد موت أبيه المستنصر، في سنة أربعين وستمائة، وكانت مدة خلافته نحو ست عشرة سنة تقريباً، وهو آخر الخلفاء العباسيين، وكان ابتداء دولتهم في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وهي السنة التي بويع فيها السفاح بالخلافة، وقتل فيها مروان الحمّار، آخر خلفاء بني أمية، وكانت مدة ملكهم خمس مائة سنة، وأربعاً وعشرين سنة تقريباً، وعدة خلفائهم، سبعة وثلاثون خليفة، حكى القاضي جمال الدين ابن واصل قال: لقد أخبرني من أثق به، أنه وقف على كتاب عتيق، فيه ما صورته أن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، بلغ بعض خلفاء بني أمية عنه، أنه يقول: إن الخلافة تصير إلى ولده، فأمر الأموي بعلي بن عبد الله، فحمل على جمل وطيف به وضرب، وكان يقال عند ضربه: هذا جزاء من يفتري ويقول: إن الخلافة تكون في ولده. فكان علي بن عبد الله المذكور رحمه الله، يقول: أي والله لتكونن الخلافة في ولدي، لا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم، فوقع

الدولة الإسلامية بعد بني العباس ذكر الوقعة بين المغيث صاحب الكرك وعسكر مصر

مصداق ذلك، وهو ورود هولاكو وإزالته ملك بني العباس. الدولة الإسلامية بعد بني العباس ذكر الوقعة بين المغيث صاحب الكرك وعسكر مصر كان قد انضمت البحرية إلى المغيث ابن العادل ابن الكامل، ونزل من الكرك وخيم بغزة، وجمع الجموع، وسار إلى مصر في دست السلطنة، وخرجت عساكر مصر مع مماليك الملك المعز أيبك، وأكبرهم سيف الدين قطز، الذي صار صاحب مصر، والغتمي وبهادر، والتقى الفريقان، فكانت الكسرة على المغيث ومن معه، فولى منهزماً إلى الكرك في أسوأ حال، ونهبت أثقاله ودهليزه. ذكر وفاة الناصر داود وفي هذه السنة، أعني سنة ست وخمسين وستمائة، في ليلة السبت السادس والعشرين من جمادى الأولى، توفي الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، بظاهر دمشق، في قرية يقال لها البويضا، ومولده سنة ثلاث وستمائة، فكان عمره نحو ثلاث وخمسين سنة، وكنا قد ذكرنا أخباره في سنة خمس وخمسين، وأنه توجه إلى تيه بني إسرائيل، وصار مع عرب تلك البلاد وبلغ المغيث صاحب الكرك وصوله إلى تلك الجهة، فخشي منه، وأرسل إليه فقبض عليه، وحمله إلى بلد الشوبك، وأمر بحفر مطمورة ليحبسه فيها، وبقي الملك الناصر المذكور ممسوكاً، والمطمورة تحفر قدامه ليحبس فيها، فبينما هو على تلك الحال، إذ ورد رسول الخليفة المستعصم يطلبه من بغداد، لما قصده التتر، ليقدمه على بعض العساكر لملتقى التتر، فلما ورد رسول الخليفة إلى دمشق، جهزوه إلى المغيث صاحب الكرك، ووصل الرسول إلى موضع الملك الناصر قبل أن يتم المطمورة، فأخذه وسار به إلى جهة دمشق، فبلغ الرسول استيلاء التتر على بغداد، وقتل الخليفة، فتركه الرسول ومضى لشأنه، فسار الناصر داود إلى البويضا، وهي قرية شرقي دمشق، وأقام بها، ولحق الناس في الشام في تلك المدة طاعون، مات منه الناصر داود المذكور في التاريخ المذكور، وخرج الملك الناصر يوسف صاحب دمشق إلى البويضا، وأظهر عليه الحزن، والتأسف، ونقله ودفنه بالصالحية في تربة والده المعظم، وكان الناصر داود فاضلاً ناظماً ناثراً، وقرأ العلوم العقلية على الشيخ شمس الدين عبد الحميد الخسروشاهي، تلميذ الإمام فخر الدين الرازي، وللناصر داود المذكور أشعار جيدة، قد تقدم ذكر بعضها، ومن شعره أيضاً: عيون عن السحر المبين تبين ... لها عند تحريك القلوب سكون تصول ببيض وهي سود فرندها ... ذبول فتور والمجفون جفون إذا ما رأت قلباً خلياً من الهوى ... تقول له كن مغرماً فيكون

ذكر وفاة الصاحبة غازية خاتون والدة الملك المنصور صاحب حماة:

وله أيضاً: طوفي وقلبي قاتل وشهيد ... ودمي على خديك منه شهود أما وحبك لست أضمر سلوة ... عن صبوتي ودع الفؤاد يبيد مني بطيفك بعد ما منع الكرى ... عن ناظري البعد والتسهيد ومن العجائب أن قلبك لم يلن ... لي والحديد ألانه داود ومما كتب به في أثناء مكاتبته إلى الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، وكان قد أغارت الفرنج على نابلس في أيام الملك الصالح أيوب صاحب مصر: أيا ليت أمي أيم طول عمرها ... فلم يقضها ربي لمولى ولا بعل ويا ليتها لما قضاها لسيد ... لبيب أريب طيب الفرع والأصل قضاها من اللاتي خلقن عواقراً ... فما بشرت يوماً بأنثى ولا فحل ويا ليتها لما غدت بي حاملاً ... أصيبت بما احتفت عليه من الحمل ويا ليتني لما ولدت وأصبحت تشد إلي الشدقيات بالرحل لحقت بأسلافي فكنت ضجيعهم ... ولم أر في الإسلام ما فيه من خل ذكر وفاة الصاحبة غازية خاتون والدة الملك المنصور صاحب حماة: وفي هذه السنة في ذي القعدة، توفيت الصاحبة غازية خاتون، بنت السلطان الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، بقلعة حماة، رحمها الله تعالى. وكان قدومها إلى حماة في سنة تسع وعشرين وستمائة، وولد لها من الملك المظفر محمود صاحب حماة، ثلاث بنين، مات أحدهم صغيراً، وكان اسمه عمر، وبقي الملك المنصور محمد صاحب حماة، وأخوه والد الملك الأفضل علي، وولد لها منه ثلاث بنات أيضاً، فتوفيت الكبرى منهن، وكان اسمها ملكة خاتون، قبل وفاة والدتها بقليل، وتوفيت الصغرى، وهي دنيا خاتون، بعد وفاة أخيها الملك المنصور، وسنذكر وفاة الباقين في مواضعها إن شاء الله تعالى. وكانت الصاحبة غازية خاتون المذكورة، من أحسن النساء سيرة، وزهداً، وعبادة وحفظت الملك لولدها الملك المنصور حتى كبر، وسلمته إليه قبل وفاتها، رحمها الله تعالى. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، قصدت التتر ميافارقين بعد استيلائهم على بغداد، وكان صاحب ميافارقين حينئذ، الملك الكامل محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد ملكها بعد وفاة أبيه في سنة اثنتين وأربعين وستمائة،

فحاصره التتر وضايقوا ميافارقين مضايقة شديدة، وصبر أهل ميافارقين مع الكامل محمد المذكور على الجوع الشديد، ودام ذلك حتى كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها اشتد الوباء بالشام، خصوصاً بدمشق، حتى لم يوجد مغسل للموتى. وفيها أرسل الملك الناصر يوسف صاحب دمشق، ولده الملك العزيز محمد، وصحبته زين الدين محمد، المعروف بالحافظي، وهو من أهل قرية عقربا من بلد دمشق، بتحف وتقادم إلى هولاكو ملك التتر، وصانعه لعلمه بعجزه عن ملتقى التتر. وفيها توفي الصاحب بهاء الدين زهير بن محمد بن علي بن يحيى المهلبي، كاتب إنشاء الملك الصالح أيوب، ومولد البهاء زهير بوادي نخلة من مكة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وفي آخر عمره انكشف حاله وباع موجوده، وكتبه، وأقام في ببيته في القاهرة حتى أدركته وفاته، بسبب الوباء العام، في يوم الأحد رابع ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة ست وخمسين وستمائة، ودفن بالقرافة الصغرى، وكان كريم الطباع غزير المروءة فاضلاً، حسن النظم، وشعره مشهور كثير، فمن شعره وهو وزن مخترع لبس بخرجة العروض، أبيات ومنها: يا من لعبت به شمول ... ما ألطف هذه الشمائل مولاي يحق لي بأني ... عن حبك في الهوى أقاتل ها عبدك واقفاً ذليلاً ... بالباب يمد كف سائل من وصلك بالقليل يرضى ... والطل من الحبيب وابل وفي هذه السنة توفي بمصر الشيخ ركن الدين عبد العظيم شيخ دار الحديث، وكان من أئمة الحديث المشهورين. وفيها توفي الشيخ شمس الدين يوسف، سبط جمال الدين ابن الجوزي، كان من الوعاظ الفضلاء، ألف تاريخاً جامعاً سماه مرآة الزمان، وفيها توفي سيف الدين علي بن سابق الدين قزل، المعروف بابن المشد وكان أميراً مقدماً في دولة الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وله شعر حسن، منه: باكر كؤوس المدام واشرب ... واستجل وجه الحبيب واطرب ولا تخف للهموم داء ... فهي دواء له مجرب من يد ساق له رضاب ... كشهد لكن جناه أعذب وفيها كان بين البحرية بعد هزيمتهم من المصريين، وبين عسكر الملك الناصر يوسف صاحب دمشق، ومقدمهم الأمير مجير الدين بن أبي زكري، مصاف بظاهر غزة، انهزم فيه عسكر الناصر يوسف وأسر مجير الدين المذكور، وقوي أمر حرية بعد هذه الكسرة، وأكثروا العبث والفساد. ثم دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة فيها سار عز الدين كيكاؤوس، وركن الدين قليج أرسلان، ابنا كيخسرو بن كيقباذ، إلى خدمة

ذكر وفاة بدر الدين صاحب الموصل

هولاكو، وأقاما معه مدة ثم عادا إلى بلادهما. ذكر وفاة بدر الدين صاحب الموصل في هذه السنة توفي بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان لقب الملك الرحيم، وكان عمره قد جاوز ثمانين سنة، ولما مات ملك بعده الموصل ولده الملك الصالح بن لؤلؤ، وملك سنجار ولده الآخر علاء الدين بن لؤلؤ، وكان بدر الدين قد صانع هولاكو ودخل في طاعته، وحمل إليه الأموال، ووصل إلى خدمة هولاكو بعد أخذ بغداد ببلاد أذربيجان، وكان صحبة لؤلؤ، الشريف العلوي بن صلايا، فقيل إن لؤلؤ سعى به إلى هولاكو، فقتل الشريف المذكور، ولما عاد لؤلؤ إلى الموصل لم يطل مقامه بها، حتى مات، وطالت أيام بدر الدين لؤلؤ في ملك الموصل، فإنه كان القائم بأمور أستاذه أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، وقام بتدبير ولده الملك القاهر بن أرسلان شاه، ولما توفي الملك القاهر بن أرسلان شاه، في سنة خمس عشرة وستمائة، انفرد لؤلؤ بتدبير المملكة، وأقام ولدي القاهر الصغيرين، واحد بعد واحد، واستبد بملك الموصل وبلادها ثلاثاً وأربعين سنة تقريباً، ولم يزل في ملكه سعيداً، لم تطرقه آفة ولم يختل لملكه نظام. منازلة الملك الناصر يوسف صاحب الشام والكرك وفي هذه السنة لما جرى من البحرية ما ذكرناه، من كسر عسكر الناصر يوسف، سار الناصر المذكور من دمشق بنفسه وعساكره، وسار في صحبته الملك المنصور صاحب حماة، بعسكره، إلى جهة الكرك، وأقام على بركة زيزا، محاصراً للملك المغيث صاحب الكرك، بسبب حمايته للبحرية، ووصل إلى الملك الناصر رسل الملك المغيث صاحب الكرك، والقطبية بنت الملك المفضل قطب الدين ابن الملك العادل، يتضرعون إلى الملك الناصر ويطلبون رضاه عن الملك المغيث، فلم يجب إلى ذلك إلا بشرط أن يقبض المغيث على من عنده من البحرية، فأجاب المغيث إلى ذلك وعلم بالحال ركن الدين بيبرس البندقداري، فهرب في جماعة من البحرية ووصل بهم إلى الملك الناصر يوسف، فأحسن إليهم، وقبض المغيث على من بقي عنده من البحرية، ومن جملتهم سنقر الأشقر، وسكر، وبرامق، وأرسلهم على الجمال إلى الملك الناصر، فبعث بهم إلى حلب، فاعتقلوا بها، واستقر الصلح بين الملك الناصر وبين الملك المغيث صاحب الكرك، وكان مدة مقام الملك الناصر بالعساكر على بركة زيزا، ما يزيد على شهرين بقليل، ثم عاد إلى دمشق وأعطى للملك المنصور صاحب حماة دستوراً، فعاد إلى بلده.

ذكر سلطنة قطز

ذكر سلطنة قطز وفي أواخر هذه السنة، أعني سنة سبع وخمسين وستمائة، في أوائل ذي الحجة، قبض سيف الدين قطز على ولد أستاذه الملك المنصور، نور الدين علي بن المعز أيبك، وخلعه من السلطنة، وكان علم الدين الغتمي، وسيف الدين بهادر، وهما من كبار المعزية، غائبين في رمي البندق، فانتهز قطز الفرصة في غيبتهما وفعل ذلك، ولما قدم الغتمي وبهادر المذكور، أن قبض عليهما قطز أيضاً، واستقر قطز في ملك الديار: المصرية، وتلقب بالملك المظفر، وكان رسول الملك الناصر يوسف صاحب الشام، وهو كمال الدين، المعروف بابن العديم، قد قدم إلى مصر في أيام الملك المنصور علي بن أيبك، مستنجداً على التتر، واتفق خلع علي المذكور وولاية قطز بحضرة كمال الدين ابن العديم، ولما استقر قطز في السلطنة، أعاد جواب الملك الناصر يوسف، أنه ينجده، ولا يقعد عن نصرته، وعاد ابن العديم بذلك. ذكر مولد الملك المظفر محمود بن الملك المنصور صاحب حماة: وفي هذه السنة، أعني سنة سبع وخمسين وستمائة، في الساعة العاشرة من ليلة الأحد خامس عشر المحرم، وثاني عشر كانون الثاني، ولد محمود ابن الملك منصور محمد ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ولقبوه الملك المظفر، بلقب جده، وأم الملك المظفر محمود المذكور، عائشة خاتون بنت الملك العزيز محمد، صاحب حلب، ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح المدين يوسف بن أيوب، وهنأ الشيخ شرف الدين عبد العزيز، المعروف بشيخ الشيوخ، الملك المنصور صاحب حماة بقصيدة طويلة منها: أبشر على رغم العدى والحسد ... بأجل مولود وأكرم مولد بالنعمة الغراء بل بالدولة ... الزهراء بل بالمفخر المتجدد وافاك بدراً كاملاً في ليلة ... طلعت عليك نجومها بالأسعد ما بين محمود المظفر أسفرت ... عنه وما بين العزيز محمد ذكر قصد هولاكو الشام وفي هذه السنة قدم هولاكو إلى البلاد التي شرقي الفرات، ونازل حران وملكها، واستولى على البلاد الجزرية، وأرسل ولده سموط بن هولاكو إلى الشام، فوصل إلى ظاهر حلب في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة سبع وخمسين وستمائة، وكان الحاكم في حلب، الملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين، نائباً عن

ذكر ما كان من الملك الناصر عند قصد التتر حلب

ابن أخيه الملك الناصر يوسف، فخرج عسكر حلب لقتالهم، وخرج الملك المعظم، ولم يكن من رأيه الخروج إليهم، وأكمن لهم التتر في الباب المعروف بباب الله، وتقاتلوا عند بانقوسا، فاندفع التتر قدامهم حتى خرجوا عن البلد، ثم عادوا عليهم، وهرب المسلمون طالبين المدينة، والتتر يقتلون فيهم حتى دخلوا البلد، واختنق في أبواب البلد جماعة من المنهزمين، ثم رحل التتر إلى إعزاز فتسلموها بالأمان. ثم دخلت سنة ثمان وخمسينوستمائة. ذكر ما كان من الملك الناصر عند قصد التتر حلب ولما بلغ الملك الناصر يوسف صاحب الشام قصد التتر حلب، برز من دمشق إلى برزة في أواخر السنة الماضية، وجفل الناس من بين يدي التتر، وسار من حماة إلى دمشق الملك المنصور صاحب حماة، ونزل معه ببرزة، وكان هناك مع الناصر يوسف بيبرس البندقداري، من حين هرب من الكرك والتجأ إلى الناصر، فاجتمع عند الملك الناصر عند برزة أمم عظيمة من العساكر، والجفال، ولما دخلت هذه السنة، والملك الناصر ببرزة، بلغه أن جماعة من مماليكه قد عزموا على اغتياله، والفتك به، فهرب الملك الناصر من الدهليز إلى قلعة دمشق، وبلغ مماليكه الذين قصدوا ذلك علمه بهم، فهربوا على حمية، إلى جهة غزة، وكذلك سار بيبرس البندقداري إلى جهة عزة، وأشاع المماليك الناصرية أنهم لم يقصدوا قتل الملك الناصر، وإنما كان قصدهم أن يقبضوا عليه، ويسلطنوا أخاه الملك الظاهر غازي ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين، لشهامته، ولما جرى ذلك، هرب الملك الظاهر المذكور خوفاً من أخيه الملك الناصر، وكان الظاهر المذكور شقيق الناصر، أمهما أم ولد تركية، ووصل الملك الظاهر غازي إلى غزة، واجتمع عليه من بها من العسكر، وأقاموه سلطاناً، ولما جرى ذلك، كاتب بيبرس البندقداري الملك المظفر قظز، صاحب مصر، فبذل له الأمان، ووعده الوعود الجميلة، ففارق بيبرس البندقداري الشاميين وسار إلى مصر، في جماعة من أصحابه، فأقبل عليه الملك المظفر قطز وأنزله في دار الوزارة، وأقطعه قليوب وأعمالها. ذكر استيلاء التتر على حلب وعلى الشام جميعه ومسير الملك الناصر عن دمشق، ووصول عساكره إلى مصر، وانفراد الملك الناصر عنهم: في هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، في يوم الأحد تاسع صفر، كان استيلاء التتر على حلب، وسببه أن هولاكو عبر الفرات بجموعه، ونازل حلب، وأرسل هولاكو إلى الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين نائب السلطنة بحلب، يقول له: إنكم تضعفون عن لقاء المغل، ونحن قصدنا الملك الناصر والعساكر، فاجعلوا لنا عندكم بحلب

ذكر غير ذلك من أحوال حماة وأحوال الملك الناصر بعد أخذ حلب:

شحنة، وبالقلعة شحنة، ونتوجه نحن إلى العسكر، فإن كانت الكسرة على عسكر الإسلام، كانت البلاد لنا وتكونون قد حقنتم دماء المسلمين، وإن كانت الكسرة علينا، كنتم مخيرين في الشحنتين، إن شئتم طردتموهما، وإن شئتم قتلتموهما، فلم يجب الملك المعظم إلى ذلك وقال: ليس لكم عندنا إلا السيف، وكان رسول هولاكو إليهم في ذلك صاحب أرزن الروم، نتعجب من هذا الجواب، وتألم لما علم من هلاك أهل حلب بسبب ذلك، وأحاط التتر بحلب ثاني صفر، وهجموا النواثر في غد ذلك اليوم، وقتل من المسلمين جماعة كثيرة، وممن قتل أسد الدين ابن الملك الزاهر بن صلاح الدين، واشتدت مضايقة التتر للبلد، وهجموه من عند حمام حمدان في ذيل قلعة الشريف، في يوم الأحد تاسع صفر، وبذلوا السيف في المسلمين، وصعد إلى القلعة خلق عظيم، ودام القتل والنهب من نهار الأحد المذكور إلى الجمعة رابع عشر صفر المذكور، فأمر هولاكو برفع السيف، ونؤدي بالأمان، ولم يسلم من أهل حلب إلا من التجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون، ودار نجم الدين أخي مردكين، وداد البازياد، ودار علم الدين قيصر الموصلي، والخانكاه التي فيها زين الدين الصوفي، وكنيسة اليهود، وذلك لفرمانات كانت بأيديهم، وقيل أنه سلم بهذه الأماكن ما يزيد على خمسين ألف نفس، ونازل التتر القلعة وحاصروها وبها الملك المعظم، ومن التجأ إليها من العسكر، واستمر الحصار عليها، وكان من ذلك ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر غير ذلك من أحوال حماة وأحوال الملك الناصر بعد أخذ حلب: كان قد تأخر بحماة الطواشي مرشد، لما سار صاحب حماة إلى دمشق، فلما بلغ أهل حماة فتح حلب، توجه الطواشي مرشد من حماة إلى عند الملك المنصور صاحب حماة بدمشق، ووصل كبراء حماة إلى حلب، ومعهم مفاتيح حماة، وحملوها إلى هولاكو، وطلبوا منه الأمان لأهل حماة، وشحنه يكون عندهم، فأمنهم هولاكو وأرسل إلى حماة شحنة، رجلاً أعجمياً كان يدعي أنه من ذرية خالد بن الوليد، يقال له خسروشاه، فقدم خسروشاه، إلى حماة وتولاها، وأمن الرعية، وكان بقلعة حماة مجاهد الدين قيماز أمير جندار، فسلم القلعة إليه، ودخل في طاعة التتر ولما بلغ الملك الناصر بدمشق، أخذ حلب رحل من دمشق، بمن بقي معه من العسكر إلى جهة الديار المصرية، وفي صحبته الملك المنصور صاحب حماة، وأقام بنابلس أياماً، ورحل عنها وترك فيها الأمير مجير الدين بن أبي زكري، والأمير علي بن شجاع، ومعهما جماعة من العسكر، ثم سار الملك الناصر إلى غزة فانضم إليه مماليكه الذين كانوا أرادوا قتله، وكذلك اصطلح معه أخوه الملك الظاهر غازي، وانضم إليه. وبعد مسير الملك الناصر عن نابلس، وصل التتر إليها وكبسوا العسكر الذين بها، وقتلوا مجير الدين، والأمير

ذكر استيلاء التتر على قلعة حلب والمتجددات بالشام:

علي بن شجاع، وكانا أميرين جليلين فاضلين، وكان البحرية قد قبضوا عليهما واعتقلوهما بالكرك، وأفرج عنهما المغيث. لما وقع الصلح بينه وبين الناصر، ولما بلغ الملك الناصر وهو بغزة ما جرى من كبسة التتر لنابلس، رحل من غزة إلى العريش، وسير القاضي برهان الدين أبن الخضر رسولاً إلى الملك المظفر قطز صاحب مصر، يطلب منه المعاضدة، ثم سار الملك الناصر والملك المنصور صاحب حماة، والعسكر، ووصلوا إلى قطية، فجرى بها فتنة بين التركماني والأكراد الشهرزورية، ووقع نهب في الجفال، وخاف الملك الناصر أن يدخل مصر، فيقبض عليه، فتأخر في قطية، ورحلت العساكر والملك المنصور صاحب حماة إلى مصر، وتأخر مع الملك الناصر جماعة يسيرة، منهم أخوه الملك الظاهر غازي، والملك الصالح بن شيركوه صاحب حمص، وشهاب الدين القيمري، ثم سار الملك الناصر بمن تأخر معه من قطية إلى جهة تيه بني إسرائيل، ولما وصلت العساكر إلى مصر، التقاهم الملك المظفر قطز بالصالحية، وطيب قلوبهم، وأرسل إلى الملك المنصور صاحب حماة سنجقاً، والتقاه ملتقاً حسناً وطيب قلبه، ودخل القاهرة، وأما التتر فإنهم استولوا على دمشق، وعلى سائر الشام إلى غزة، واستقرت شحائنهم بهذه البلاد. ذكر استيلاء التتر على قلعة حلب والمتجددات بالشام: أما قلعة حلب، فوثب جماعة من أهلها في مدة الحصار على صفي الدين بن طرزة، رئيس حلب، وعلى نجم الدين أحمد بن عبد العزيز بن أحمد ابن القاضي نجم الدين بن أبي عصرون، فقتلوهما، لأنهم اتهموهما بمواطأة التتر، واستمر الحصار على القلعة، واشتدت مضايقة التتر لها نحو شهر، ثم سلمت بالأمان في يوم الاثنين، الحادي عشر من ربيع الأول، من هذه السنة، ولما نزل أهلها بالأمان، وكان فيها جماعة من البحرية الذين حبسهم الملك الناصر، فمنهم سكز، وبرامق، وسنقر الأشقر فسلمهم هولاكوهم وباقي الترك إلى رجل من التتر يقال له سلطان حق، وهو رجل من أكابر القبجاق، هرب من التتر لما غلبت على القبجاق، وقدم إلى حلب، فأحسن إليه الملك الناصر، فلم تطب له تلك البلاد، فعاد إلى التتر، وأما العوام والغرباء فنزلوا إلى أماكن الحمى التي قدمنا ذكرها، وأمر هولاكو أن يمضي كل من سلم إلى داره، وملكه، وأن لا يعارض، وجعل النائب بحلب عماد الدين القزويني، ووصل إلى هولاكو على حلب الملك الأشرف صاحب حمص، موسى بن إبراهيم بن شيركوه، وكان قد انفرد الأشرف المذكور عن المسلمين، لما توجه الملك الناصر إلى جهة مصر، ووصل إلى هولاكو بحلب، فأكرمه هولاكو وأعاد عليه حمص، وكان قد أخذها منه الملك الناصر صاحب حلب في سنة ست وأربعين وستمائة، وعوضه عنها تل باشر على ما تقدم ذكره، فعادت إليه في هذه السنة، واستقر ملكه بها، وقدم أيضاً إلى هولاكو، وهو نازل إلى حلب، محي الدين ابن الزكي

ذكر استيلاء التتر على ميافارقين وقتل الملك الكامل صاحبها:

من دمشق، فأقبل عليه هولاكو خلع عليه وولاه قضاء الشام، ولما عاد ابن الزكي المذكور إلى دمشق، لبس خلعة هولاكو، وكانت مذهبة، وجمع الفقهاء وغيرهم من أكابر دمشق، وقرأ عليهم تقليد هولاكو، واستقر في القضاء، ثم رحل هولاكو إلى حارم، وطلب تسليمها، فامتنعوا أن يسلموها لغير فخر الدين، والي قلعة حلب، فأحضره هولاكو وسلموها إليه، فغضب هولاكو من ذلك وأمر بهم، فقتل أهل حارم عن آخرهم، وسبي النساء، ثم حل هولاكو بعد ذلك وعاد إلى الشرق، وأمر عماد الدين القزويني بالرحيل إلى بغداد، فسار إليها وجعل مكانه بحلب رجلاً أعجمياً، وأمر هولاكو بخراب أسورار قلعة حلب، وأسوار المدينة، فخربت عن آخرها، وأعطى هولاكو الأشرف موسى صاحب حمص الدستور، ففارقه ووصل إلى حماة، ونزل في الدار المبارز، وأخذ في خراب سور قلعة حماة بتقدم هولاكو إليه بذلك، فخربت أسوارها وأحرقت زردخانتها، وبيعت الكتب التي كانت بدار السلطنة بقلعة حماة بأبخس الأثمان، وأما أسوار مدينة حماة فلم تخرب، لأنه كان بحماة رجل يقال له إبراهيم بن الإفرنجية، ضامن الجهة المفردة، بذل لخسروشاه جملة كثيرة من المال، وقال. الفرنج قريب منا بحصن الأكراد، ومتى خربت أسوار المدينة لا يقدر أهلها على المقام فيها، فأخذ منه المال ولم يتعرض الخراب أسوار المدينة، وكان قد أمر هولاكو والأشرف موسى صاحب حمص بخراب قلعة حمص أيضاً، فلم يخرب منها إلا شيئاً قليلاً، لأنها مدينته، وأما دمشق فإنهم لما ملكوا المدينة بالأمان، لم يتعرضوا إلى قتل ولا نهب، وعصت قلعة دمشق عليهم، فحاصرها التتر، وجرى على أهل دمشق بسبب عصيان القلعة شدة عظيمة، وضايقوا القلعة وأقاموا عليها المجانيق، ثم تسلموها بالأمان في منتصف جمادى الأولى من هذه السنة، ونهبوا جميع ما فيها وجدوا في خراب أسوار القلعة، وإعدام ما بها من الزردخانات والآلات، ثم توجهوا إلى بعلبك ونازلوا قلعتها. ذكر استيلاء التتر على ميافارقين وقتل الملك الكامل صاحبها: وفي هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، استولى التتر على ميافارقين، وقد تقدم ذكر نزولهم عليها ومحاصرتها، في سنة ست وخمسين، واستمر الحصار عليهم مدة سنتين، حتى فنيت أزوادهم، وفني أهلها بالوباء، وبالقتل، وصاحبها الملك الكامل محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، مصابراً ثابتاً، وضعف من عنده عن القتال، فاستولى التتر عليهما، وقتلوا صاحبها الملك الكامل المذكور، وحملوا رأسه على رمح، وطيف به في البلاد، ومروا به على حلب وحماة، ووصلوا به إلى دمشق في سابع عشرين جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، وطافوا به في دمشق بالمغاني والطبول، وعلق رأس المذكور في شبكة بسور باب الفراديس إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين، فدفن بمشهد الحسين داخل باب الفردايس، وفيه يقول الشيخ شهاب الدين

ذكر اتصال الملك الناصر بالتتر واستيلائهم على عجلون وغيرها من قلاع الشام:

ابن أبي شامة أبياتاً منها: ابن غازي غزى وجاهد قوماً ... أثخنوا في العراق والمشرفين طاهراً عالياً ومات شهيداً ... بعد صبر عليهم عامين لم يشنه إذا طيف بالرأس منه ... وله أسوة برأس الحسين ثم واروا في مشهد الرأس ذاك الرأس واستعجبوا من الحالين. ذكر اتصال الملك الناصر بالتتر واستيلائهم على عجلون وغيرها من قلاع الشام: أما الملك الناصر يوسف فإنه لما انفرد عن العسكر من قطية، وسار إلى تيه بني إسرائيل، بقي متحيراً إلى أين يتوجه، وعزم على التوجه إلى الحجاز، وكان له طبر دار كردي اسمه حسين، فحسن له المضي إلى التتر وقصد هولاكو، فاغتر بقوله ونزل ببركة زيرا وسار حسين الكردي إلى كتبغا نائب هولاكو، وعرفه بموضع الملك الناصر، فأرسل كتبغا إليه وقبض عليه، وأحضره إلى عجلون، وكانت بعد عاصية، فأمره الملك الناصر بتسليمها، فسلمت إليهم فهدموها. وكنا قد ذكرنا حصار التتر لبعلبك، فتسلموها قبيل تسليم عجلون، وخربوا قلعتها أيضاً، وكان بالصبية صاحبها الملك السعيد ابن الملك العزيز ابن الملك العادل فسلم الصبية إليهم، وصار الملك السعيد المذكور معهم، وأعلن بالفسق والفجور وسفك دماء المسلمين، وأما الملك الناصر يوسف، فإن كتبغا بعث به إلى هولاكو، فوصل إلى دمشق، ثم إلى حماة، وبها الأشرف صاحب حمص، فخرج إلى لقائه هو وخسروشاه النائب بحماة، ثم سار إلى حلب، فلما عاينها الملك الناصر وما قد حل بها وبأهلها تضاعف تألمه وأنشد: يعز علينا أن نرى ربعكم يبلى ... وكانت به آيات حسنكم تتلى ثم سار إلى الأردن، فأقبل عليه هولاكو ووعده برده إلى مملكته، وكان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر غير ذلك وفي خامس عشر شعبان من هذه السنة، أخرج التتر من الاعتقال نقيب قلعة دمشق، وواليها، وضربوا أعناقهما بداريا، واشتهر عند أهل دمشق خروج العساكر من مصر لقتال التتر، فأوقعوا بالنصارى، وكانوا قد استطالوا على المسلمين بدق النواقيس، وإدخال الخمر إلى الجامع، فنهبهم المسلمون في سابع عشرين رمضان من هذه السنة، وأخربوا كنيسة مريم، وكانت كنيسة عظيمة، وكانت كنيسة مريم في جانب دمشق الذي فتحه خالد بن الوليد بالسيف، فبقيت بيد المسلمين، وكان ملاصق الجامع كنيسة، وهي من الجانب الذي فتحه أبو

ذكر هزيمة التتر وقتل كتبغا

عبيدة بالأمان، فبقيت بأيدي النصارى، فلما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة خرب الكنيسة الملاصقة للجامع، وأضافها إليه، ولم يعوض النصارى عنها، فلما ولي عمر بن عبد العزيز عوضهم بكنيسة مريم عن تلك الكنيسة، فعمروها عمارة عظيمة، وبقيت كذلك حتى خربها المسلمون في التاريخ المذكور. ذكر هزيمة التتر وقتل كتبغا وفي هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، كانت هزيمة التتر في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، على عين جالوت، وكان من حديثها، أنه لما اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر، عزم الملك المظفر قطز، مملوك المعز أيبك، على الخروج إلى الشام لقتال التتر، وسار من مصر بالعساكر الإسلامية، وصحبته الملك المنصور محمد صاحب حماة، وأخوه الملك الأفضل علي، وكان مسيره من الديار المصرية في أوائل رمضان من هذه السنة، ولما بلغ كتبغا وهو نائب هولاكو على الشام، ومقدم التتر، مسير العساكر الإسلامية إليه، صحبة الملك المظفر قطز، جمع من في الشام من التتر وسار إلى لقاء المسلمين، وكان الملك السعيد صاحب الصبيبة ابن الملك العزيز ابن الملك العادل بن أيوب صحبة كتبغا، وتقارب الجمعان في الغرر، والتقوا يوم الجمعة المذكور، فانهزمت التتر هزيمة قبيحة وأخذتهم سيوف المسلمين، وقتل مقدمهم كتبغا،، واستؤسر ابنه، وتعلق من سلم من التتر برؤوس الجبال، وتبعتهم المسلمون فأفنوهم، وهرب من سلم منهم إلى الشرق، وجرد قطز ركن الدين بيبرس البندقداري في إثرهم، فتبعتهم المسلمون إلى أطراف البلاد الشرقية، وكان أيضاً في صحبة التتر الملك الأشرف موسى صاحب حمص، فنازلهم وطلب الأمان من المظفر قطز، فأمنه ووصل إليه فأكرمه وأقره على ما بيده وهو حمص، ومضافاتها، وأما الملك السعيد صاحب الصبيبة، فإنه أمسك أسيراً وأحضر بين يدي الملك المظفر قطز، فأمر به، فضربت عنقه بسبب ما كان المذكور قد اعتمده من السفك والفسق. ولما انقضى أمر المصاف، أحسن المظفر قطز إلى الملك المنصور صاحب حماة، وأقره على حماة وبارين، وأعاد إليه المعرة، وكانت في أيدي الحلبيين من حين استولوا عليها في سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأخذ سلمية معه وأعطاها أمير العرب، وأتم الملك المظفر السير بالعساكر وصحبته الملك المنصور صاحب حماة، حتى دخل دمشق، وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر، لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام، ولأنهم ما قصدوا إقليماً إلا فتحوه، ولا عسكراً إلا هزمره، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر قطز إلى الشام، وفي يوم دخوله دمشق، أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر، فشنقوا وكان من جملتهم حسين الكردي، طيردار الملك الناصر يوسف، وهو الذكي أوقع الملك الناصر في أيدي التتر،

وفي هذه النصرة وقدوم قطز إلى الشام، يقول بعض الشعراء: هلك الكفر في الشآم جميعاً ... واستجد الإسلام بعدد حوضه بالمليك المظفر الملك الأر ... وع سيف الإسلام عند نهوضه ملك جاءنا بعزم وحزم ... فاعتززنا بسمره وببيضه أوجب الله شكر ذاك علينا ... دائما مثل واجبات فروضه ثم أعطى الملك المظفر قطز، صاحب حماة الملك المنصور، الدستور، فقدم الملك المنصور قدامه مملوكه ونائبه مبارز الدين أقوش المنصور إلى حماة، ثم سار الملك المنصور وأخوه الملك الأفضل ووصلا إلى حماة، ولما استقر الملك المنصور بحماة، قبض على جماعة كانوا مع التتر واعتقلهم، وهنأ الشيخ شرف الدين شيخ الشيوخ المنصور بهذا النصر العظيم، وبعود المعرة بقصيدة منها: رعت العدى فضمنت ثل عروشها ... ولقيتها فأخذت تل جيوشها نازلت أملاك التتار فأنزلت ... عن فحلها قسراً وعن أكديشها فغدا لسيفك في رقاب كماتها ... حصد المناجل في يبيس حشيشها فقت الملوك ببذل ما تحويه إذ ... ختمت خزائنها على منقوشها ومنها: وطويت عن مصر فسيح مراحل ... ما بين بركتها وبين عريشها حتى حفظت على العباد بلادها ... من رومها الأقصى إلى إحبوشها فرشت حماة لوطيء نعلك خدها ... فوطئت عين الشمس من مفروشها وضربت سكتها التي أخلصتها ... عما يشوب النقد من مغشوشها وكذا المعرة إذا ملكت قيادها ... دهشت سروراً سار في مدهوشها طربت برجعتها إليك كأنما ... سكرت بخمرة حاسها أو حيشها لا زلت تنعش بالنوال فقيرها ... وتنال أقصى الأجر من منعوشها وكان خسروشاه قد سافر من حماة إلى جهة الشرق لما بلغه كسرة التتر، ثم جهز الملك المظفر قطز عسكراً إلى حلب لحفظها، ورتب أيضاً شمس الدين أقوش البرلي العزيزي أميراً بالسواحل وغزة، ورتب معه جماعة من العزيزية، وكان البرلي المذكور من مماليك الملك العزيز محمد صاحب حلب، وسار في جملة العزيزية مع ولده الملك الناصر يوسف إلى قتال المصريين، وخامر البرلي وجماعة من العزيزية على ابن أستاذهم الملك الناصر، وصاروا مع أيبك التركماني صاحب مصر، ثم إنهم قصدوا اغتيال المعز أيبك التركماني المذكور، وعلم بهم فقبض على بعضهم، وهرب بعضهم، وكان البرلي المذكور من جملة من سلم وهرب إلى الشام،

ذكر عود الملك المظفر قطز إلى جهة الديار المصرية مقتله:

فلما وصل إلى الملك الناصر اعتقله بقلعة عجلون، فلما توجه الملك الناصر بالعسكر إلى الغور مندفعاً من بين يدي التتر، أخرج البرلي من حبس عجلون وطيب خاطره، فلما هرب الملك الناصر من قطية، دخل شمس الدين أقوش البرلي المذكور مع العساكر إلى مصر، فأحسن إليه الملك المظفر قطز، وولاه الآن السواحل وغزة، فلما استقر بدمشق على ما ذكرناه، وكان مقر البرلي لما تولى هذه الأعمال بنابلس تارة، وبيت جبرين أخرى، ثم إن الملك المظفر قطز، فرض نيابة السلطنة بدمشق إلى الأمير علم الدين سنجر الحلبي، وهو الذي كان أتابكاً لعلي بن المعز أيبك، وفوض نيابة السلطنة بحلب إلى الملك السعيد بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان المذكور قد وصل إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام، ودخل مع العساكر إلى مصر، وصار مع المظفر قطز، ففوض إليه نيابة السلطنة بحلب، وكان سببه أن أخاه الملك الصالح بن لؤلؤ قد صار صاحب الموصل بعد أبيه، فولاه حلب ليكاتبه أخوه بأخبار التتر، ولما استقر السعيد المذكور في نيابة حلب، سار سيرة رديئة، وكان دأبه التحيل على أخذ مال الرعية. ذكر عود الملك المظفر قطز إلى جهة الديار المصرية مقتله: ولما قرر الملك المظفر قطز المعزي المذكور أمر الشام، على ما شرحناه، سار من دمشق إلى جهة البلاد المصرية، وكان قد اتفق بيبرس البندقداري الصالحي مع أنص مملوك نجم الدين الرومي الصالحي، والهاروني، وعلم الدين صغن أغلي، على قتل المظفر قطز، وساروا معه يتوقعون الفرصة، فلما وصل قطز إلى القصير بطرف الرمل، وبينه وبين الصالحية مرحلة، وقد سبق الدهليز والعسكر إلى الصالحية، فبينما قطز يسير إذ قامت أرنب بين يديه فساق عليها، وساق هؤلاء المذكورون معه، فلما بعدوا، تقدم إليه أنص وشفع عند الملك المظفر قطز في إنسان، فأجابه إلى ذلك، فأهوى لتقبيل يده وقبض عليها، فحمل عليه بيبرس البندقداري الصالحي حينئذ وضربه بالسيف، واجتمعوا عليه ورموه عن فرسه ثم قتلوه بالنشاب، وذلك في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة، فكانت مدة ملكه أحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً، وساق بيبرس وأولئك المذكورون بعد مقتله حتى وصلوا إلى الدهليز بالصالحية. ذكر سلطنة بيبرس البندقداري المذكور ولما وصل ركن الدين بيبرس المذكور هو والجماعة الذين قتلوا الملك المظفر قطز إلي الدهليز كما ذكرناه، وكان عند الدهليز نائب السلطنة فارس الدين أقطاي المستعرب، وهو الذي صارا أتابكاً لعلي بن المعز أيبك بعد الحلبي، فلما تسلطن قطز أقره على نيابة السلطنة، فلما وصل بيبرس البندقداري مع الجماعة الذين قتلوا قطز إلى الدهليز، سألهم أقطاي المستعرب المذكور وقال: من قتله منكم؟ فقال له بيبرس أنا. قال له أقطاي: يا خوند اجلس في

ذكر إعادة عمارة قلعة دمشق

مرتبة السلطنة. فجلس، واستدعيت العساكر للتحليف، فحلفوا له في اليوم الذي قتل فيه قطز، وهو سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة. واستقر بيبرس في السلطنة، وتلقب بالملك القاهر ركن الدين بيبرس الصالحي، ثم بعد ذلك غير لقبه عن الملك القاهر، وتلقب بالملك الظاهر لأنه بلغه أن القاهر لقب غير مبارك، ما تلقب به أحد فطالت مدته، وكان الملك الظاهر المذكور، قد سأل من قطز النيابة بحلب، فلم يجبه إليها، ليكون ما قدره الله تعالى، ولما حلف الناس للملك الظاهر المذكور بالصالحية، ساق في جماعة من أصحابه وسبق العسكر إلى قلعة الجبل، ففتحت له ودخلها، واستقرت قدمه في المملكة، وكان قد زينت مصر والقاهرة لمقدم قطز، فاستمرت الزينة لسلطنة بيبرس المذكور، وكان مقتل قطز وسلطنة بيبرس في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة. ذكر إعادة عمارة قلعة دمشق وفي هذه السنة في العشر الأخير من ذي القعدة، شرع الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائب السلطنة بدمشق، في عمارة قلعة دمشق، وجمع لها الصناع وكبراء الدولة والناس، وعملوا فيها، حتى النساء أيضاً، وكان عند الناس بذلك سرور عظيم. ذكر سلطنة الحلبي بدمشق كان علم الدين سنجر الحلبي، وقد استنابه الملك المظفر قطز بدمشق على ما تقدم ذكره. فلما جرى ما ذكرناه من قتل قطز، وسلطنة الملك الظاهر، جمع الحلبي الناس وحلفهم لنفسه بالسلطنة، وذلك في العشر الأول من ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، فأجابه الناس إلى ذلك وحلفوا له، ولم يتأخر عنه أحد، ولقب نفسه الملك المجاهد، وخطب له بالسلطنة، وضربت السكة باسمه، وكاتب الملك المنصور صاحب حماة في ذلك، فلم يجبه، وقال صاحب حماة: أنا مع من يملك الديار المصرية كائناً من كان. ذكر قبض عسكر حلب على الملك السعيد ابن صاحب الموصل وعود التتر إلى الشام: وكان الملك السعيد قد قرره قطز بحلب، وجرد معه جماعة من العزيزية والناصرية، وكان رديء السيرة، وقد أبغضه العسكر، وبلغ الملك السعيد المذكور مسير التتر إلى البيرة، فجرد إلى جهتهم جماعة قليلة من العسكر، وقدم عليهم سابق الدين أمير مجلس الناصري، فأشار عليه كبراء العزيزية والناصرية، بأن هذا ما هو مصلحه، وأن هؤلاء قليلون، فيحصل الطمع بسببهم في البلاد، فلم يلتفت إلى ذلك، وأصر على مسيرهم، فسار سابق الدين أمير المجلس بمن معه حتى قاربوا البيرة، فوقع عليهم التتر، فهرب منهم ودخل البيرة، بعد أن قتل غالب من كان

ذكر كسرة التتر على حمص

معه، فازداد غيظ الأمراء على الملك السعيد بسبب ذلك، فاجتمعوا وقبضوا عليه ونهبوا وطاقه، وكان قد برز إلى الباب المعروف بباب الله، ولما استولوا على خزانته لم يجدوا فيها مالاً طائلاً، فهددوه، بالعذاب إن لم يقر لهم بماله، فنبش من تحت أشجار حائط دار ببابلي، جملة من المال، قيل كانت خمسين ألف دينار مصرية، ففرقت في الأمراء، وحمل الملك السعيد المذكور إلى الشغر وبكاس معتقلاً، ثم لما اندفع العسكر من بين يدي التتر على ما سنذكره، أفرجوا عنه، ولما جرى ذلك اتفقت العزيزية والناصرية وقدموا عليهم الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي، ثم سارت التتر إلى حلب، فاندفع حسام الدين الجوكندار والعسكر الذين معه بين أيديهم إلى جهة حماة، ووصل التتر إلى حلب في أواخر هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة، وملكوها وأخرجوا أهلها إلى قرنبيا، واسمها مقر الأنبياء فسماه العامة قرنبيا، ولما اجتمع المسلمون بقرنبيا بذل التتر فيهم السيف، فأفنوا غالبهم، وسلم القليل منهم، ووصل حسام الدين الجوكندار ومن معه إلى حماة، فضيفهم الملك المنصور محمد صاحب حماة، وهو مستشعر خائف من غدرهم، ثم رحلوا من حماة إلى حمص، فلما قارب التتر حماة، خرج منها الملك المنصور صاحبها وصحبته أخوه الملك الأفضل علي، والأمير مبارز الدين، باقي العسكر، واجتمعوا بحمص مع باقي العساكر إلى أن خرجت هذه السنة. ثم دخلت سنة تسع وخمسينوستمائة. ذكر كسرة التتر على حمص وفي يوم الجمعة خامس المحرم عن هذه السنة، كانت كسرة التتر على حمص، وكان من حديثها أن التتر لما قدموا في آخر السنة الماضية إلى الشام، اندفعت العزيزية والناصرية من بين أيديهم، وكذلك الملك المنصور صاحب حماة، ووصلوا إلى حمص، واجتمع بهم الملك الأشرف صاحب حمص، ووقع اتفاقهم على ملثقى التتر، وسارت التتر إليهم والتقوا بظاهر حمص في نهار الجمعة المذكور، وكان التتر أكثر من المسلمين بكثير، ففتح الله تعالى على المسلمين بالنصر، وولى التتر منهزمين، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون منهم كيف شاؤوا، ووصل الملك المنصور إلى حماة بعد هذه الوقعة، وانضم من سلم من التتر إلى باقي جماعتهم، وكانوا نازلين قرب سلمية، واجتمعوا ونزلوا على حماة وبها صاحبها الملك المنصور، وأخوه الملك الأفضل والعسكر، وأقام التتر على حماة يوماً واحداً، ثم رحلوا عن حماة، وأراد الملك المنصور بعد رحيل التتر المسير إلى دمشق، فمنعه العامة من ذلك حتى استوثقوا منه أنه يعود إليهم عن قريب، فسافر هو وأخوه الملك الأفضل في جماعة قليلة، وبقي الطواشي مرشد في باقي العسكر بحماة، ووصل المنصور بمن معه إلى دمشق، وكذلك توجه الملك الأشرف صاحب حمص إلى دمشق، وأما حسام الدين الجوكندار العزيزي، فتوجه أيضاً بمن في صحبته، ولم

ذكر القبض على سنجر الحلبي الملقب بالملك المجاهد

يدخل دمشق، ونزل بالمرج، ثم سار إلى مصر، وأقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق في دورهما، والحاكم بها يومئذ سنجر الحلبي الملقب بالسلطان الملك المجاهد، وقد اضطرب أمره. ولذلك أقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق، ولم يدخلا في طاعته لضعفه، وتلاشي أمره، وأما التتر فساروا عن حماة إلى فامية، وكان قد وصل إلى فامية سيف الدين الدنبلي الأشرفي، ومعه جماعة، فأقام بقلعة فامية، وبقي يغير على التتر، فرحلوا عن فامية وتوجهوا إلى الشرق. ذكر القبض على سنجر الحلبي الملقب بالملك المجاهد وفي هذه السنة، جهز الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر عسكراً، مع علاء الدين البندقدار، وهو أستاذ الملك الظاهر، لقتال علم الدين سنجر الحلبي المستولي على دمشق، فوصلوا إلى دمشق في ثالث عشر صفر من هذه السنة، ولما وصل عسكر مصر إلى دمشق، خرج إليهم الحلبي لقتالهم، وكان صاحب حماة وصاحب حمص قيمين بدمشق، لم يخرجا مع الحلبي لقتالهم، ولا أطاعاه لاضطراب أمر الحلبي، واقتتل معهم بظاهر دمشق في ثالث عشر صفر من هذه السنة، أعني سنة تسع خمسين وستمائة، فولى الحلبي وأصحابه منهزمين، ودخل إلى قلعة دمشق، إلى أن جنه الليل فهرب من قلعة دمشق إلى جهة بعلبك، فتبعه العسكر وقبضوا عليه، وحمل إلى الديار المصرية، فاعتقل ثم أطلق، واستقرت دمشق في ملك الملك الظاهر بيبرس، وأقيمت له الخطبة بها بغيرها من الشام، مثل حماة وحلب وحمص وغيرها، واستقر أيدكين البندقدار الصالحي في دمشق لتدبير أمورها، ولما استقر الحال على ذلك، رحل الملك المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص، وعادا إلى بلادهما واستقر بها. ذكر خروج البرلي عن طاعة الملك الظاهر بيبرس واستيلائه على حلب: وفي هذه السنة بعد استقرار علاء الدين أيدكين البندقدار في دمشق، ورد عليه مرسوم الملك الظاهر بيبرس بالقبض على بهاء الدين بغدي الأشرفي وعلى شمس الدين أقوش البرلي، وغيرهما من العزيزية والناصرية، وبقي علاء الدين أيدكين متوقعاً ذلك، فتوجه بغدي إلى علاء الدين أيدكين، فحال دخوله عليه قبض على بغدي المذكور، فاجتمعت العزيزية والناصرية إلى أقوش البرلي، وخرجوا من دمشق ليلاً على حمية، ونزلوا بالمرج، وكان أقوش البرلي قد ولاّه المظفر قطز غزة والسواحل على ما قدمنا ذكره، فلما جهز الملك الظاهر أستاذه البندقدار إلى قتال الحلبي، أرسل إلى البرلي وأمره أن ينضم إليه، فسار البرلي مع البندقدار وأقام بدمشق، فلما قبض على بغدي، خرج البرلي إلى المرج وأرسل علاء الدين أيدكين البندقدار إلى البرلي يطيب قلبه، ويحلف له، فلم يلتفت إلى ذلك، وسار البرلي إلى حمص وطلب من صاحبها الأشرف موسى أن يوافقه على العصيان، فلم يجبه إلى ذلك، ثم توجه إلى حماة وأرسل يقول للملك المنصور صاحب حماة، أنه لم يبق من البيت الأيوبي غيرك، وقم لنصير معك ونملكك البلاد، فلم يلتفت الملك المنصور إلى ذلك، ورده رداً قبيحاً، فاغتاظ البرلي ونزل على حماة وأحرق زرع بيدر العشر، وسار إلى شيزر ثم إلى جهة حلب، وكان علاء الدين

ذكر مقتل الملك الناصر يوسف

أيدكين البندقدار لما استقر بدمشق، قد جهز عسكراً صحبة فخر الدين الحمصي، للكشف عن البيرة، فإن التتر كانوا قد نازلوها، فلما قدم البرلي إلى حلب، كان بها فخر الدين الحمصي المذكور، فقال له البرلي نحن في طاعة الملك الظاهر، فتمضي إلى السلطان وتسأله أن يتركني ومن في صحبتي مقيمين بهذا الطرف، ونكون تحت طاعته من غير أن يكلفني وطء بساطه، فسار الحمصي إلى جهة مصر ليؤدي هذه الرسالة، فلما سار عن حلب، تمكن البرلي واحتاط على ما في حلب من الحواصل، واستبد بالأمر، وجمع العرب والتركمان، واستعد لقتال عسكر مصر، ولما توجه فخر الدين الحمصي لذلك، التقى في الرمل جمال الدين المحمدي الصالحي متوجهاً بمن معه من عسكر مصر لقتال البرلي وإمساكه، فأرسل الحمصي عرف الملك الظاهر بما طلبه البرلي، فأرسل الملك الظاهر ينكر على فخر الدين الحمصي المذكور ويأمره بالإنضمام إلى المحمدي، والمسير إلى قتال البرلي، فعاد من وقته، ثم رضي الملك الظاهر عن علم الدين سنجر الحلبي، وجهزه وراء المحمدي في جمع من العسكر، ثم أردفه بعز الدين الدمياطي في جمع آخر، وسار الجميع إلى جهة البرلي وساروا إلى حلب، وطردوه عنها، وانقضت السنة والأمر على ذلك. ذكر مقتل الملك الناصر يوسف وفي هذه السنة، ورد الخبر بمقتل الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعقد عزاه بجامع دمشق، في سابع جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة تسع وخمسين وستمائة، وصورة الحال في قتله، أنه لما وصل إلى هولاكو على ما قدمنا ذكره، وعده برده إلى ملكه، وأقام عند هولاكو مدة، فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره بعين جالوت، وقتل كتبغا، ثم كسرة عسكره على حمص ثانياً، غضب من ذلك وأحضر الملك الناصر المذكور، وأخاه الملك الظاهر غازي وقال له: أنت قلت أن عسكر الشام في طاعتك، فغدرت بي وقتلت المغل. فقال الملك الناصر: لو كنت بالشام ما ضرب أحد في وجه عسكرك بالسيف، ومن يكون ببلاد توريز كيف يحكم على بلاد الشام، فاستوفي هولاكو لعنه الله ناصجاً وضربه به. فقال الملك الناصر: يا خوند الصنيعة، فنهاه أخوه الظاهر وقال: قد حضرت، ثم رماه

ذكر مبايعة شخص بالخلافة وإثبات نسبه

بفرده ثانية فقتله، ثم أمر بضرب رقاب الباقين، فقتلوا الظاهر أخا الملك الناصر، والملك الصالح ابن صاحب حمص، والجماعة الذين كانوا معهم، واستبقوا الملك العزيز ابن الملك الناصر، لأنه كان صغيراً، فبقي عندهم مدة طويلة، وأحسنوا إليه، ثم مات وكان قد تولى الملك الناصر المذكور مملكة حلب بعد موت أبيه العزيز، وعمره سبع سنين، وأقامت جدته ضيفة خاتون بنت الملك العادل بتدبير مملكته، واستقل بالملك بعد وفاتها في سنة أربعين وستمائة، وعمره ثلاث عشرة سنة، وزاد ملكه على ملك أبيه وجده، فإنه ملك مثل حران والرها والرقة ورأس عين، وما مع ذلك من البلاد، وملك حمص، ثم ملك دمشق وبعلبك والأغوار والسواحل إلى غزة، وعظم شأنه، وكسر عساكر مصر، وخطب له بمصر وبقلعة الجبل، على الوجه الذي تقدم ذكره، وكان قد غلب على الديار المصرية لولا هزيمته، وقتل مدبر دولته شمس الدين لؤلؤ الأرمني، ومخامرة مماليك أبيه العزيزية، وكان يذبح في مطبخه كل يوم أربعمائة رأس غنم، وكانت سماطاته وتجمله في الغاية القصوى، وكان حليماً وتجاوز به الحلم إلى حد أضر بالمملكة، فإنه لما أمنت قطاع الطريق في أيام مملكته من القتل والقطع، تجاوزوا الحد في الفساد بالمملكة، وانقطعت الطرق في أيامه، وبقي لا يقدر المسافر على السفر من دمشق إلى حماة وغيرها، الا برفقة من العسكر وكثر طمع العرب والتركمان في أيامه، وكثرت الحرامية، وكانوا يكبسون الدور، ومع ذلك إذا أحضر القاتل إلى بين يدي الملك الناصر المذكور يقول: الحي خير من الميت، ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية والمفسدين، وكان على ذهن الناصر المذكور شيء كثير من الأدب والشعر، ويروى له أشعار كثيرة منها: فوالله لو قطعت قلبي تأسفاً ... وجرعتني كاسات دمعي دماً صرفا لما زادني إلا هوى ومحبة ... ولا اتخذت روحي سواك لها إلفا وبنى بدمشق مدرسة قريب الجامع تعرف بالناصرية، ووقف عليها وقفاً جليلاً وبني بالصالحية تربة غرم عليها جملاً مستكثرة، فدفن فيها كرمون، وهو بعض أمراء التتر، وكانت منية الملك الناصر ببلاد العجم، وكان مولد الناصر المذكور في سنة سبع وعشرين وستمائة، فيكون عمره اثنتين وثلاثين سنة تقريباً. ذكر مبايعة شخص بالخلافة وإثبات نسبه وفي هذه السنة في رجب، قدم إلى مصر جماعة من العرب، ومعهم شخص أسود اللون، اسمه أحمد، زعموا أنه ابن الإمام الظاهر بالله، محمد ابن الإمام الناصر، وأنه خرج من دار الخلافة ببغداد لما ملكها التتر، فعقد الملك الظاهر بيبرس مجلساً حضر فيه جماعة من الأكابر، منهم الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، والقاضي تاج الدين

عبد الوهاب بن خلف، المعروف بابن بنت الأعز، فشهد أولئك العرب أن هذا الشخص المذكور هو ابن الظاهر محمد ابن الإمام الناصر، فيكون عم المستعصم، وأقام القاضي جماعة من الشهود، اجتمعوا بأولئك العرب، وسمعوا شهاداتهم، ثم شهدوا بالنسب بحكم الاستفاضة، فأثبت القاضي تاج الدين نسب أحمد المذكور، ولقب المستنصر بالله، أبا القاسم أحمد ابن الظاهر بالله محمد، وبايعه الملك الظاهر والناس بالخلافة، واهتم الملك الظاهر بأمره وعمل له الدهاليز والجمدارية وآلات الخلافة، واستخدم له عسكراً، وغرم على تجهيزه جملاً طائلة. قيل إن قدر ما غرمه عليه ألف ألف دينار، وكانت العامة تلقب الخليفة المذكور بالزرابيني، وبرز الملك الظاهر والخليفة الأسود المذكور في رمضان من هذه السنة، وتوجها إلى دمشق، وكان في كل منزلة يمضي الملك الظاهر الى دهليزه الخاص به، ولما وصلا إلى دمشق، نزل الملك الظاهر بالقلعة، ونزل الخليفة في جبل الصالحية، ونزل حول الخليفة أمراؤه وأجناده. ثم جهز الخليفة عسكره إلى جهة بغداد، طمعاً في أنه يستولي على بغداد، ويجتمع عليه الناس، فسار الخليفة الأسود بعسكره من دمشق، وركب الملك الظاهر وودعه ووصاه بالتأني في الأمور، ثم عاد الملك الظاهر إلى دمشق من توديع الخليفة، ثم سار إلى الديار المصرية ودخلها في سابع عشر ذي الحجة من هذه السنة، ووصلت إليه كتب الخليفة بالديار المصرية، أنه قد استولى على عانة والحديثة، وولى عليهما، وأن كتب أهل العراق وصلت إليه يستحثونه على الوصول إليهم، ثم قبل، أن يصل إلى بغداد، وصلت إليه التتر وقتلوا الخليفة المذكور، وقتلوا غالب أصحابه، ونهبوا ما كان معه وجاءت الأخبار بذلك. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، لما سار الملك الظاهر إلى الشام، أمر القاضي شمس الدين ابن خلكان فسافر في صحبته من مصر إلى الشام، فعزل عن قضاء دمشق نجم الدين ابن صدر الدين بن سنا الدولة، وكان قطز قد عزل المحي ابن الزكي الذي ولاه هولاكو القضاء، وولى ابن سنا الدولة، فعزله الملك الظاهر في هذه السنة وولى القضاء شمس الدين بن خلكان. وفيها قدم أولاد صاحب الموصل، وهم الملك الصالح إسماعيل، ثم أخوه الملك المجاهد إسحاق صاحب جزيرة ابن عمر، ثم أخوهما الملك المظفر علي صاحب سنجار، أولاد لؤلؤ، فأحسن الملك الظاهر إليهم، وأعطاهم الإقطاعات الجليلة بالديار المصرية، واستمروا في أرغد عيش في طول مدة الملك الظاهر. وفيها في ربيع الآخر وردت الأخبار من ناحية عكا، أن سبع جزائر في البحر خسف بها وبأهلها، وبقي أهل عكا لابسين السواد وهم يبكون ويستغفرون من الذنوب بزعمهم. وفيها جهز الملك الظاهر بيبرس

بدر الدين الأيدمري، فتسلم الشوبك في سلخ ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة تسع وخمسين وستمائة، وأخذها من الملك المغيث صاحب الكرك. ثم دخلت سنة ستين وستمائة في هذه السنة في نصف رجب، وردت جماعة من مماليك الخليفة المستعصم البغاددة، وكانوا قد تأخروا في العراق بعد استيلاء التتر على بغداد، وقتل الخليفة، وكان مقدمهم يقال له شمس الدين سلار، فأحسن الملك الظاهر بيبرس ملتقاهم، وعين لهم الإقطاعات بالديار المصرية. وفيها في رجب أيضاً، وصل إلى خدمة الملك الظاهر بيبرس بالديار المصرية، عماد الدين بن مظفر الدين، صاحب صهيون، رسولاً من أخيه سيف الدين صاحب صهيون، وصحبته هدية جليلة، فقبلها الملك الظاهر وأحسن إليه. وفيها جهز الملك الظاهر عسكراً إلى حلب، وكان مقدمهم شمس الدين سنقر الرومي، فأمنت بلاد حلب وعادت إلى الصلاح، ثم تقدم الملك الظاهر بيبرس إلى سنقر الرومي إلى صاحب حماة الملك المنصور، وإلى صاحب حمص الملك الأشرف موسى أن يسيروا إلى أنطاكية وبلادها، للإغارة عليها، فساروا إليها ونهبوا بلادها وضايقوها، ثم عادوا، فتوجهت العساكر المصرية صحبة سنقر الرومي إلى مصر، ووصلوا إليها في تاسع عشرين رمضان من هذه السنة، ومعهم ما ينوف عن ثلاثمائة أسير، فقابلهم الملك الظاهر بالأحسان والإنعام. وفيها لما ضاقت على أقوش البرلي البلاد، وأخذت منه حلب، ولم يبق بيده غير البيرة، دخل في طاعه الملك الظاهر وسار إليه، فكتب الملك الظاهر إلى النواب بالإحسان إليه وترتيب الإقامات له في الطرقات، حتى وصل إلى الديار المصرية، في ثاني ذي الحجة من هذه السنة، أعنب سنة ستين، فتلقاه الملك الظاهر وبالغ في الإحسان إليه، وأكثر له العطاء، فسأله أقوش البرلي من الملك الظاهر أن يقبل منه البيرة، فلم يفعل، وما زال يعاوده حتى قبلها، وبقي أقوش البرلي العزيز المذكور مع الملك المظاهر إلى أن تغير عليه، وقبضه في رجب سنة إحدى وستين وستمائة، فكان آخر العهد به. وفيها في ذي القعدة، قبض الملك الظاهر على نائبه بدمشق، وهو علاء الدين طيبرس الوزيري، وكان قد تولى دمشق، بعد مسير علاء الدين أيدكين البندقدار عنها، وسبب القبض عليه، أنه بلغ الملك الظاهر عنه أمور كرهها، فأرسل إليه عسكراً مع عز الدين الدمياطي وغيره من الأمراء، لما وصلوا إلى دمشق، خرج طيبرس لتلقيهم، فقبضوا عليه وقيدوه وأرسلوه إلى مصر، فحبسه الملك الظاهر، واستمر الحاج طيبرس في الحبس سنة وشهراً، وكانت مدة ولايته بدمشق سنة وشهراً أيضاً، وكان طيبرس المذكور رديء السيرة في أهل دمشق، حتى نزح عنها جماعة كثيرة من ظلمه، وحكم في دمشق بعد قبض طيبرس المذكور، علاء الدين أيدغدي الحاج الركني، ثم استناب الملك الظاهر على دمشق الأمير جمال الدين أقوش النجيبي

الصالحي. وفيها في يوم الخميس في أواخر ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة ستين وستمائة، جلس الملك الظاهر مجلساً عاماً، وأحضر شخصاً كان مد قدم إلى الديار المصرية في سنة تسع وخمسين وستمائة، من نسل بني العباس، يسمى أحمد، بعد أن أثبت نسبه، وبايعه بالخلافة، ولقب أحمد المذكور الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، وقد اختلف في نسبه، فالذي هو مشهور بمصر عند نسابة مصر، أنه أحمد بن حسن بن أبي بكر ابن الأمير أبي علي القبى ابن الأمير حسن ابن الراشد ابن المسترشد ابن المستظهر، وقد مر نسب المستظهر مع جملة خلفاء بني العباس، وأما عند الشرفاء العباسيين السلمانيين في درج نسبهم الثابت فقالوا: هو أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر أحمد ابن الإمام المسترشد الفضل ابن المستظهر. ولما أثبت الملك الظاهر نسب المذكور، نزله في برج محترزاً عليه، وأشرك له الدعاء في الخطبة لا غير ذلك. وفيها جهز الملك المنصور صاحب حماة، شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري رسولاً إلى الملك الظاهر، ووصل شيخ الشيوخ المذكور، فوجد الملك الظاهر عاتباً على صاحب حماة، لاشتغاله عن مصالح المسلمين باللهو، وأنكر الملك الظاهر على الشيخ شرف الدين ذلك، ثم انصلح خاطره، وحمله ما طيب به قلب صاحبه الملك المنصور، ثم عاد إلى حماة. وفيها توفي الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي الإمام في مذهب الشافعي، وله مصنفات جليلة في المذهب، وكانت وفاته بمصر رحمه الله تعالى. وفيها في ذي الحجة، توفي الصاحب كمال الدين عمر بن عبد العزيز المعروف بابن العديم، انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة، وكان فاضلاً كبير القدر، ألف تاريخ حلب، وغيره من المصنفات، وكان قد قدم إلى مصر لما جفل الناس من التتر، ثم عاد بعد خراب حلب إليها، فلما نظر ما فعله التتر من خراب حلب، وقتل أهلها بعد تلك العمارة، قال في ذلك قصيدة طويلة منها: هو الدهر ما تبنيه كفاك يهدم ... وإن رمت إنصافاً لديه فتظلم أباد ملوك الفرس جمعاً وقيصراً ... وأصمت لدى فرسانها منه أسهم وأفنى بني أيوب مع كثر جمعهم ... وما منهم إلا مليك معظم وملك بني العباس زال ولم يدع ... لهم أثراً من بعدهم وهم هم وأعتابهم أضحت تداس وعهدها ... تباس بأفواه الملوك وتلثم وعن حلب ما شئت قل من عجائب ... أحل بها يا صاح إن كنت تعلم ومنها: فيا لك من يوم شديد لغامه ... قد أصبحت فيه المساجد تهدم وقد درست تلك المدارس وارتمت ... مصاحفها فوق الثرى وهي ضخم

ذكر مسير الملك الظاهر إلى الشام

وهي طويلة وآخرها: ولكنما لله في ذا مشيئة ... فيفعل فينا ما يشاء ويحكم ثم دخلت سنة إحدى وستين وستمائة. ذكر مسير الملك الظاهر إلى الشام في هذه السنة، في حادي عشر ربيع الآخر، سار الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام، فلاقته والدة الملك المغيث عمر صاحب الكرك بغزة، وتوثقت لابنها الملك المغيث من الملك الظاهر بالأمان، وأحسن إليها، ثم توجهت إلى الكرك، وتوجه صحبتها شرف الدين الجاكي المهمندار، يرسم حمل الإقامات إلى الطرقات، برسم الملك المغيث، ثم سار الملك الظاهر من غزة ووصل إلى الطور، في ثاني عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ووصل إليه على الطور الأشرف موسى صاحب حمص، في نصف الشهر المذكور، فأحسن إليه الملك الظاهر وأكرمه. ذكر حضور الملك المغيث صاحب الكرك وقتله واستيلاء الملك الظاهر بيبرس على الكرك: وفي هذه السنة كان مقتل الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب الكرك، وسببه أنه كان في قلب الملك الظاهر بيبرس منه غيظ عظيم، لأمور كانت بينهما، قيل إن المغيث المذكور أكره امرأة الملك الظاهر بيبرس، لما قبض المغيث على البحرية. وأرسلهم إلى الناصر يوسف صاحب دمشق، وهرب الملك الظاهر بيبرس المذكور، وبقيت امرأته في الكرك، والله أعلم بحقيقة ذلك، وكان من حديث مقتله، أن الملك الظاهر بيبرس مازال يجتهد على حضور المغيث المذكور، وحلف لوالدته على غزة كما تقدم ذكره، وكان عند المغيث شخص يسمى الأمجد، وكان يبعثه في الرسالة إلى الملك الظاهر، فكان الظاهر يبالغ في إكرامه وتقريبه، فاغتر الأمجد بذلك، وما زال على مخدومه الملك المغيث، حتى أحضره إلى الملك الظاهر. حكى لي شرف الدين بن مزهر، وكان ابن مزهر المذكور، ناظر خزانة المغيث. قال: لما عزم المغيث على التوجه إلى خدمة الملك الظاهر، لم يكن قد بقي بخزانته شيء من المال، ولا القماش، وكان لوالدته حواصل بالبلاد، فبعناها بأربعة وعشرين ألف درهم، واشترينا باثني عشر ألف درهم خلعاً من دمشق، وجعلنا في صناديق الخزانة، الاثني عشر الألف الأخرى، ونزل المغيث من الكرك وأنا والأمجد وجماعة من أصحابه معه، في خدمته. قال: وشرعت البريدية تصل إلى الملك المغيث في

ذكر الإغارة على عكا وغيرها

كل يوم بمكاتبات الملك الظاهر، ويرسل صحبتهم مثل غزلان ونحوها، والمغيث يخلع عليهم، حتى نفد ما كان بالخزنة من الخلع، ومن جملة ما كتب إليه في بعض المكاتبات، المملوك ينشد في قدوم مولانا: خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبد قال: وكان الخوف في قلب المغيث شديداً من الملك الظاهر. قال ابن مزهر المذكور: ففاتحني في شيء من ذلك بالليل. فقلت له: احلف إلي أنك لا تقول للأمجد ما أقوله لك حتى أنصحك، فحلف لي. فقلت له: اخرج الساعة من تحت الخام، واركب حجرتك النجيلة، ولا يصبح لك الصباح إلا وأنت قد وصلت إلى الكرك، فتعصى فيه، ولا تفكر بأحد. وقال ابن مزهر: فغافلني وتحدث مع الأمجد في شيء من ذلك. فقال له الأمجد: هذا رأى ابن مزهر إياك من ذلك. وسار المغيث حتى وصل إلى بيسان، فركب الملك الظاهر بعساكره والتقاه في يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة، فلما شاهد المغيث الملك الظاهر، ترجل، فمنعه الملك الظاهر وأركبه وساق إلى جانبه، وقد تغير وجه الملك الظاهر، فلما قارب الدهليز، أفرد الملك المغيث عنه وأنزله في خيمة وقبض عليه، وأرسله معتقلاً إلى مصر، فكان آخر العهد به. قيل أنه حمل إلى امرأة الملك الظاهر بيبرس بقلعة الجبل، فأمرت جواريها فقتلته بالقباقيب، ثم قبض الملك الظاهر على جميع أصحاب المغيث، ومن جملتهم ابن مزهر المذكور، ثم بعد ذلك أفرج عنهم، انتهى كلام ابن مزهر. ولما التقى الملك الظاهر ببيرس الملك المغيث المذكور وقبض عليه، أحضر الفقهاء والقضاة وأوقفهم على مكاتبات من التتر إلى الملك المغيث، أجوبة عن ما كتب إليهم به في أطماعهم في ملك مصر والشام، وكتب بذلك مشروح، وأثبت على الحكام، وكان للملك المغيث المذكور ولداً يقال له الملك العزيز، أعطاه الملك الظاهر إقطاعاً بديار مصر، وأحسن إليه، ثم جهز الملك الظاهر بدر الدين البيسري الشمسي، وعز الدين أستاذ الدار إلى الكرك، فتسلماها في يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، أعني سنة إحدى وستين وستمائة، ثم سار الملك الظاهر ووصل إلى الكرك، ورتب أمورها، ثم عاد إلى الديار المصرية، فوصل إليها في سابع عشر رجب من هذه السنة. ذكر الإغارة على عكا وغيرها وفي هذه السنة لما كان الملك الظاهر نازلاً على الطور، أرسل عسكراً هدموا كنيسة الناصرة، وهي من أكبر مواطن عبادات النصارى، لأن منها خرج دين النصرانية، وأغاروا على عكا وبلادها، فغنموا وعادوا، ثم ركب الملك الظاهر بنفسه وجماعة اختارهم،

ذكر القبض على من يذكر

وأغار ثانياً على عكا وبلادها وهدم برجاً كان خارج البلد، وذلك عقيب إغارة عسكره وهدم الكنيسة الناصرة. ذكر القبض على من يذكر وفيها بعد وصول الملك الظاهر بيبرس إلى مصر واستقراره في ملكه، في رجب، قبض على الرشيدي، ثم قبض في ثاني يوم على الدمياطي والبرلي، وقد تقدمت أخبار البرلي المذكور. ذكر وفاة الأشرف صاحب حمص وفي هذه السنة بعد عود الملك الأشرف صاحب حمص موسى ابن الملك المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد شيركوه بن ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شاذي، من خدمة الملك الظاهر بيبرس إلى حمص، مرض واشتد به المرض، وتوفي إلى رحمة الله تعالى، وأرسل الملك الظاهر وتسلم حمص في ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة إحدى وستين وستمائة، وهذا الملك الأشرف موسى هو آخر من ملك حمص من بيت شيركوه، وقد تقدمت أخبار الأشرف موسى المذكور، وأخذ الملك الناصر يوسف صاحب حلب منه حمص، بسبب تسليمه شميميس للملك الصالح أيوب، صاحب مصر وأنه يعوض عن حمص تل باشر، ثم أعاد هولاكو عليه حمص، فبقيت في يده حتى توفي في أواخر هذه السنة، وانتقلت حمص إلى مملكة الملك الظاهر بيبرس في ذي القعدة حسبما ذكره، وكان جملة من ملك حمص منهم خمسة ملوك، أولهم شيركوه بن شاذي، ملكه إياها نور الدين الشهيد، ثم ملكها من بعده ابنه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ثم ملكها بعده ابنه شيركوه بن محمد، وتلقب بالملك المجاهد، ثم ملكها بعده ابنه إبراهيم بن شيركوه، وتلقب بالملك المنصور، ثم ملكها بعده ابنه موسى بن إبراهيم، وتلقب بالملك الأشرف حتى توفي هذه السنة، وانقرض بموته ملك المذكورين. ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة في هذه السنة قبض الأشكري صاحب قسطنطينية على عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو بن كيقباذ صاحب بلد الروم، وسببه أن عز الدين كيكاؤوس المذكور، كان قد وقع بينه وبين أخيه، فاستظهر أخوه علية، فهرب كيكاؤوس وبقي أخوه ركن الدين قليج أرسلان في سلطنة بلاد الروم، ثم سار كيكاؤوس المذكور إلى قسطنطينية، فأحسن إليه الأشكري صاحب قسطنطينية. وإلى من معه من الأمراء، واستمروا كذلك مدة، فعزمت الأمراء والجماعة الذين كانوا مع عز الدين المذكور على اغتيال الأشكري وقتله، والتغلب على قسطنطينية، وبلغ ذلك الأشكري، فقبض عليهم، واعتقل عز الدين كيكاؤوس ابن كيخسرو في بعض القلاع، وكحل الأمراء والجماعة الذين كانوا عزموا على ذلك، فأعمى عيونهم،

وقد تقدم ذكر كيكاؤوس المذكور وأخيه قليج أرسلان في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. وفيها في ثامن رمضان توفي الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري، المعروف بشيخ الشيوخ بحماة، وكان مولده في جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. وكان ديناً فاضلاً متقدماً عند الملوك، وله النثر البديع والنظم الفائق، وكان غزير العقل، عارفاً بتدبير المملكة، فمن حسن تدبيره. أن الملك الأفضل علي ابن الملك المظفر محمود، لما ماتت والدته غازية خاتون بنت الملك الكامل رحمهما الله تعالى، حصل عند الملك الأفضل المذكور استشعار من أخيه الملك المنصور محمد صاحب حماة، فعزم على أن ينتزح من حماة ويفارق أخاه الملك المنصور، وأذن له أخوه الملك المنصور في ذلك، فاجتمع الشيخ شرف الدين المذكور بالملك الأفضل، وعرفه ما تعمده من السلوك مع أخيه الملك المنصور، ثم اجتمع بالملك المنصور وقبح عنده مفارقة أخيه، وما برح بينهما حتى أزال ما كان في خواطرهما، وصار للملك الأفضل في خاطر أخيه الملك المنصور من المحبة والمكانة ما يفوق الوصف، وكان ذلك من بركة شرف الدين المذكور، وللشيخ شرف الدين المذكور أشعار فائقة، قد تقدم ذكر بعضها، وكان مرة مع الملك الناصر يوسف صاحب الشام بعمان، فعمل الشيخ شرف الدين. أفدي حبيباً منذ واجهته ... عن وجه بدر التم أغناني في وجهه خالان لولاهما ... ما بت مفتوناً بعمان وأنشدهما للملك الناصر، فأعجبته إلى الغاية، وجعل يردد إنشادهما، وقال لكاتبه كمال الدين بن العجمي، هكذا تكون الفضيلة، فقال ابن العجمي أن التورية لا تخدم هنا، لأن عمان مجرورة في النظم، فلا تخدمه في التورية، فقال الملك الناصر للشيخ شرف الدين ما قاله، فقال شرف الدين إن هذا جائز وهو أن يكون المثنى في حالة الجر على صورة الرفع، واستشهد شرف الدين بقول الشاعر: فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغاً لناباه الشجاع لصمما واستشهد بغير ذلك فتحقق الملك الناصر فضيلته. ثم دخلت سنة ثلاث وستين وستمائة.

ذكر فتوح قيسارية

ذكر فتوح قيسارية في هذه السنة، سار الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية بعساكره المتوافرة، إلى جهاد الفرنج بالساحل، ونازل قيسارية الشام، في تاسع جمادى الأولى، وضايقها وفتحها بعد ستة أيام من نزوله، وذلك في منتصف الشهر المذكور، وأمر بها فهدمت، ثم سار إلى أرسوف ونازلها وفتحها في جمادى الآخرة في هذه السنة. ذكر موت هولاكو في هذه السنة، في تاسع عشر ربيع الآخر، مات هولاكو ملك التتر، لعنه الله تعالى. وهو هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وكانت وفاته بالقرب من كورة مراغة، وكانت مدة ملكه

ذكر فتوح صفد وغيرها

البلاد التي سنصفها، نحو عشر سنين، وخلف خمسة عشر ولداً ذكراً، ولما مات، جلس في الملك بعده ولده أبغا بن هولاكو، واستقرت له البلاد التي كانت بيد والده حال وفاته، وهي: إقليم خراسان، وكرسيه نيسابور، وإقليم عراق العجم، وهو الذي يعرف ببلاد الجبل، وكرسيه أصفهان، وإقليم عراق العرب، وكرسيه بغداد، وإقليم أذربيجان وكرسيه تبريز، وإقليم خورستان وكرسيه تستر، التي تسميها العامة تشتر، وإقليم فارس وكرسيه شيراز، وإقليم ديار بكر وكرسيه الموصل، وإقليم الروم وكرسيه قونية، وغير ذلك من البلاد التي ليست في الشهرة. مثل هذه الأقاليم العظيمة. ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة أو التي بعدها، أمسك الملك الظاهر بيبرس، زامل بن علي، أمير العرب، بمكاتبة عيسى بن مهنا في حقه. وفيها في رمضان، استولى النائب بالرحبة على قرقيسيا، وهي حصن الزباء التي تقدم خبرها مع جذيمة الأبرش في أوائل الكتاب، وفيه خلاف. وفيها قبض الملك الظاهر بيبرس على سنقر الرومي. وفيها توفي قاضي القضاة بمصر، بدر الدين يوسف بن حسن علي السنجاري. ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة. ذكر فتوح صفد وغيرها في هذه السنة خرج الملك الظاهر بعساكره المتوافرة من الديار المصرية، وسار، الشام، وجهز عسكراً إلى ساحل طرابلس، ففتحوا القليعات وحلباً وعرقاً، ونزل الملك الظاهر على صفد، ثامن شعبان، وضايقها بالزحف وآلات الحصار، وقدم إليه وهو على صفد، الملك المنصور صاحب حماة، ولاصق الجند القلعة، وكثر القتل والجراح في المسلمين، وفتحها في تاسع عشر شعبان المذكور بالأمان، ثم قتل أهلها عن آخرهم. ذكر دخول العساكر إلى بلاد الأرمن وفي هذه السنة بعد فراغ الملك الظاهر من فتوح صفد، سار إلى دمشق، فلما دخلها واستقر فيها، جرد عسكراً ضخماً، وقدم عليهم الملك المنصور صاحب حماة، وأمرهم بالمسير إلى بلاد الأرمن، فسارت العساكر صحبة الملك المنصور المذكور، ووصلوا إلى بلاد سيس في ذي القعدة من هذه السنة، وكان صاحب سيس إذ ذاك، هيثوم بن قسطنطين بن باسيل، قد حصن الدربندات بالرجالة والمناجنيق، وجعل عسكره مع ولديه على الدربندات، لقتال العسكر الإسلامي ومنعه، فداستهم العساكر الإسلامية، وأفنوهم قتلاً وأسراً، وقتل ابن صاحب سيس الواحد، وأسر ابنه الآخر، وهو ليفون بن هيثوم المذكور، وانتشرت العساكر الإسلامية في بلاد سيس، وفتحوا قلعة العامودين. وقتلوا أهلها، ثم عادت العساكر وقد امتلأت أيديهم من الغنائم، ولما وصل خبر هذا الفتح العظيم إلى الملك الظاهر بيبرس،

ذكر قتل أهل قارا ونهبهم

رحل من دمشق ووصل إلى حماة، ثم إلى فامية، فالتقى عساكره وقد عادت منصورة وأمر بتسليم الأسرى، وفيهم ليفون بن صاحب سيس، وكان المذكور لما أسر، سلمه الملك المنصور إلى أخيه الملك الأفضل، فاحترز عليه وحفظه حتى: حضره بين يدي السلطان، ثم عاد إلى الديار المصرية على طريق الكرك، فتقنطر بالملك الظاهر المذكور فرسه، عند بركة زيزا، وانكسرت فخذه، وحمل في محفة إلى قلعة الجبل. ذكر قتل أهل قارا ونهبهم وفي هذه السنة، عند توجه الملك الظاهر من دمشق، لملتقى عساكره العائدة من غزوة بلاد سيس، لما نزل على قارا بين دمشق وحمص، أمر بنهب أهلها وقتل كبارهم، فنهبوا وقتل منهم جماعة لأنهم كانوا نصارى، وكانوا يسرقون المسلمين ويبيعونهم بالخفية إلى الفرنج، وأخذت صبيانهم مماليك، فتربوا بين الترك في الديار المصرية، فصار منهم أجناد وأمراء. ثم دخلت سنة خمس وستين وستمائة فيها وصل الملك المنصور محمد صاحب حماة إلى خدمة الملك الظاهر بيبرس بالديار المصرية، ثم طلب المنصور من الملك الظاهر مرسوماً بالتوجه إلى الإسكندرية، ليراها ويتفرج فيها، فرسم له بذلك وأمر أهل إسكندرية بإكرامه واحترامه، وفرش الشقق بين يدي فرسه. فتوجه الملك المنصور إلى الإسكندرية، وعاد للديار المصرية مكرماً محترماً، ثم خلع عليه الملك الظاهر، وأحسن إليه على جاري عادته، ورسم له بالدستور فعاد إلى بلده. وفيها توجه الملك الظاهر بيبرس إلى الشام، فنظر في مصالح صفد، ووصل إلى دمشق، وأقام بها خمسة أيام، وقوي الأرجاف بوصول التتر إلى الشام، ثم وردت الأخبار بعودهم على عقبهم، فعاد الملك الظاهر إلى ديار مصر. ذكر موت ملك التتر بالبلاد الشمالية وفي هذه السنة، مات بركه بن باطوخان بن دوشي خان بن جنكزخان، أعظم ملوك التتر، وكرسي مملكته مدينة صراي، وكان قد مال إلى دين الإسلام، ولما مات، جلس في الملك بعده ابن عمه منكوتمر بن طغان بن باطر بن دوشي خان بن جنكزخان. ثم دخلت سنة ست وستينوستمائة. ذكر مسير الملك الظاهر إلى الشام وفتح أنطاكية وغيرها: في هذه السنة، في مستهل جمادى الآخرة، توجه الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام، وفتح يافا في العشر الأوسط من الشهر المذكور، وأخذها من الفرنج، ثم سار إلى أنطاكية ونازلها مستهل رمضان، وزحفت العساكر الإسلامية على أنطاكية، فملكوها بالسيف، في يوم السبت رابع شهر رمضان من هذه السنة، وقتلوا أهلها وسبوا ذراريهم،

وغنموا منهم أموالاً جليلة، وكانت أنطاكية للبرنس بيمند بن بيمند، وله معها طرابلس، وكان مقيماً بطرابلس، لما فتحت أنطاكية وفيها في ثالث عشر رمضان، استولى الملك الظاهر على بغراس، وسبب ذلك أنه لما فتح أنطاكية، هرب أهل بغراس منها وتركوا الحصن خالياً، فأرسل من استولى عليها في التاريخ المذكور، وشحنه بالرجال والعدد، وصار من الحصون الإسلامية، وقد تقدم ذكر فتح صلاح الدين للحصن المذكور وتخريبه، ثم عمارة الفرنج له بعد صلاح الدين، ثم حصار عسكر حلب له ورحيلهم عنه بعد أن أشرفوا على أخذه. وفيها في شوال، وقع الصلح بين الملك الظاهر وبين هيثوم صاحب سيس، على أنه إذا أحضر صاحب سيس، سنقر الأشقر من التتر، وكانوا قد أخذوه من قلعة حلب لما ملكها هولاكو، كما تقدم ذكره. وسلم مع ذلك، بهسنا ودربساك ومرزبان ورعبان، وشيح الحديد، يطلق له ابنه ليفون، فدخل صاحب سيس على أبغا ملك التتر، وطلب منه سنقر الأشقر، فأعطاه إياه، ووصل سنقر الأشقر إلى خدمة الملك الظاهر، وكذلك سلم دربساك وغيرها من المواضع المذكورة، خلا بهسنا، وأطلق الملك الظاهر ابن صاحب سيس، ليفون بن هيثوم، وتوجه إلى والده، ثم عاد الملك الظاهر إلى الديار المصرية، ووصل إليها في ذي الحجة من هذه السنة. وفيها اتفق معين الدين سليمان البرواناه، مع التتر المقيمين معه ببلاد الروم، على قتل ركن الدين قليج أرسلان بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان يبغو بن سلجوق، سلطان الروم، فخنق التتر ركن الدين المذكور، بوتر، وأقام البرواناه مقامه ولده غياث الدين بن ركن الدين قليج أرسلان المذكور، وله من العمر ربع سنين. ثم دخلت سنة سبع وستينوستمائة. وفي هذه السنة، خرج الملك الظاهر إلى الشام وخيم في خربة اللصوص، وتوجه إلى مصر بالخفية، ووصل إليها بغتة، وأهل مصر والنائب بها لا يعلمون بذلك إلا بعد أن صار بينهم، ثم عاد إلى الشام. وفيها تسلم الملك الظاهر بلاطنس من عز الدين عثمان صاحب صهيون. وفيها توجه الملك الظاهر بيبرس إلى الحجاز الشريف، وكان رحيله من الفوار في الخامس والعشرين من شوال، ووصل إلى الكرك وأقام به أياماً، وتوجه من الكرك في سادس ذي العقدة إلى الشوبك، ورحل من الشوبك في الحادي عشر من الشهر المذكور، ووصل إلى المدينة النبوية في خامس وعشرينه ووصل إلى مكة في خامس ذي الحجة، ووصل إلى الكرك في سلخ ذي الحجة. ثم دخلت سنة ثمان وستينوستمائة. فيها توجه الملك الظاهر بيبرس من الكرك، مستهل المحرم، عند عوده من الحج، فوصل إلى دمشق بغتة، وتوجه في يومه. ووصل إلى حماة في خامس المحرم، وتوجه من ساعته إلى حلب، ولم يعلم به العسكر إلا وهو في الموكب معهم، وعاد إلى دمشق في ثالث عشر

ذكر فتح حصن الأكراد وحصن عكار والقرين

المحرم المذكور، ثم توجه إلى القدس، ثم إلى القاهرة، فوصل إليها في ثالث صفر من هذه السنة. وفيها عاد الملك الظاهر إلى الشام وأغار على عكا، وتوجه إلى دمشق، ثم إلى حماة. وفيها جهز الملك الظاهر عسكراً إلى بلاد الإسماعيلية، فتسلموا مصياف في العشر الأوسط من رجب من هذه السنة، وعاد الملك الظاهر من حماة إلى جهة دمشق، فدخلها في الثامن والعشرين من رجب، ثم عاد إلى مقر ملكه بمصر. وفيها حصل بين منكوتمر بن طغان ملك التتر بالبلاد الشمالية، وبين الأشكري صاحب قسطنطينية وحشة، فجهز منكوتمر إلى قسطنطينية جيشاً من التتر، فوصلوا إليها وعاثوا في بلادها، ومرواً بالقلعة التي فيها عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو ملك بلاد الروم محبوساً، كما قدمنا ذكره في سنة اثنتين وستين وستمائة، فحمله التتر بأهله إلى منكوتمر، فأحسن منكوتمر إلى عز الدين المذكور، وزوجه، وأقام معه إلى أن توفي عز الدين المذكور في منة سبع وسبعين وستمائة، فسار ابنه مسعود بن عز الدين المذكور إلى بلاد الروم، وسار سلطان الروم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها أعني سنة ثمان وستين وستمائة، قتل أبو دبوس، آخر الملوك من بني عبد المؤمن، وانقرضت بموته دولتهم، وقد تقدم ذكر ذلك في سنة أربع وعشرين وستمائة، وملكت بلادهم بعدهم بنو مرين، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى في سنة اثنتين وسبعين وستمائة. ثم دخلت سنة تسع وستين وستمائة. ذكر فتح حصن الأكراد وحصن عكار والقرين في هذه السنة توجه الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام، ونازل حصن الأكراد في تاسع شعبان هذه السنة، وجد في حصاره، واشتد القتال عليه، وملكه بالأمان في الرابع والعشرين من شعبان المذكور، ثم رحل إلى حصن عكار ونازله في سابع عشر رمضان من هذه السنة، وجد في قتاله، وملكه بالأمان سلخ رمضان المذكور، وعيد الملك الظاهر عليه عيد الفطر، فقال محي الدين بن عبد الظاهر مهنئاً له بفتوح عكار: يا مليك الأرض بشرا ... ك فقد نلت الاراده إن عكار يقيناً ... هو عكار زياده وفيها في شوال، تسلم الملك الظاهر قلعة العليقة وبلادها من الإسماعيلية. وفيها توجه الملك الظاهر إلى دمشق، وسار منها في العشر الأخير من شوال إلى حصن القرين، ونازله في ثاني ذي القعدة، وزحف عليه وتسلمه بالأمان، وأمر به فهدم، ثم عاد إلى مصر. وفيها جهز الملك الظاهر ما يزيد على عشرة شواني لغزو قبرس، فتكسرت في مرسى اليميسوس، وأسر الفرنج من كان بتلك الشواني من المسلمين، فاهتم السلطان بعمارة شوان آخر، فعمل في المدة اليسيرة ضعف ما عدم. وفيها توفي هيثوم بن قسطنطين صاحب سيس، وملك

ذكر ملك يعقوب المريني مدينة سبتة وابتداء ملكهم:

بعده ابنه ليفون، الذي أسره المسلمون حسبما تقدم ذكره. وفيها قبض الملك الظاهر على عز الدين بغان المعروف باسم الموت، وعلي المحمدي وغيرهما. وفيها توفي القاضي شمس الدين بن البارزي، قاضي القضاة بحماة. وفيها توفي الطواشي، شجاع الدين مرشد، الخادم المنصوري، رحمه الله تعالى، وكان كثيرالمعروف، وتولى تدبير مملكة حماة مدة، وكان يعتمد عليه الملك الظاهر ويستشيره. ثم دخلت سنة سبعينوستمائة. فيها توجه الملك الظاهر إلى الشام، وعزل جمال الدين أقوش النجمي عن نيابة السلطنة بدمشق وولى فيها علاء الدين أيدكين الفخري الأسندار، في مستهل ربيع الأول، ثم توجه الملك الظاهر إلى حمص، ثم إلى حصن الأكراد، ثم عاد إلى دمشق. وفيها والملك الظاهر بدمشق، أغارت التتر على عينتاب، وعلى الروج وقميطون إلى قرب فامية، ثم عادوا واستدعى الملك الظاهر عسكراً من مصر، فوصلوا إليه صحبة بدر الدين البيسري، فتوجه الملك الظاهر بهم إلى حلب، ثم عاد إلى الديار المصرية، فوصل إليها في الثالث والعشرين من جمادى الأولى. وفيها في شوال عاد الملك الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام، فوصل إلى دمشق في ثالث صفر. وفيها توفي سيف الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكبرس، صاحب صهيون، فسلم ولداه سابق الدين، وفخر الدين، صهيون، إلى الملك الظاهر، وقدما إلى خدمته، وأحسن إليهما، وأعطى سابق الدين أمرة طملخاناة، وفيها نازل التتر البيرة، ونصبوا عليها المناجنيق وضايقوها، وسار إليهم الملك الظاهر وأراد عبور سفرات إلى بر البيرة، فقاتله التتر على المخاضة، فاقتحم الفرات وهزم التتر، فرحلوا عن البيرة وتركوا آلات الحصار بحالها، فصارت للمسلمين. ثم عاد الملك الظاهر فوصل إلى الديار المصرية في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وفيها أفرج عن الدمياطي من الاعتقال. وفيها تسلمت نواب الملك الظاهر ما تأخر من حصون الإسماعيلية، وهي الكهف والمينقة وقدموس، وفيها اعتقل الملك الظاهر، الشيخ خضر، وكان قد بلغ المذكور عند الملك الظاهر أرفع منزلة، وانبسطت يده، وأنفذ أمره في الشام مصر، فاعتقله في قاعة بقلعة الجبل، مكرماً حتى مات. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وستمائة. ذكر ملك يعقوب المريني مدينة سبتة وابتداء ملكهم: وفي هذه السنة ملك يعقوب بن عبد الحق بن محبو بن حمامة المريني مدينة سبتة، وبنو مرين ملوك بلاد المغرب، بعد بني عبد المؤمن، وكان آخر من ملك من بني عبد المؤمن، أبو دبوس، وقد ذكرنا ما وقع لنا من أخبار أبي دبوس المذكور، مع ما فيه من الاختلاف، في سنة أربع وعشرين وستمائة، وأن المذكور قتل في سنة ثمان وستين وستمائة، وانقرضت حينئذ دولة بني عبد المؤمن. وملك بعدهم بنو مرين، وهذه القبيلة، أعني بني

مرين، يقال لهم حمامة، من بين قبائل العرب بالمغرب، وكان مقامهم بالريف القبلي من إقليم تازة، وأول أمرهم أنهم خرجوا عن طاعة بني عبد المؤمن المعروفين بالموحدين، لما اختل أمرهم، وتابعوا الغارات عليهم حتى ملكوا مدينة فاس، واقتلعوها من الموحدين، في سنة سبع وثلاثين وستمائة، واستمرت فاس وغيرها في أيديهم في أيام الموحدين. وأول من اشتهر من بني مرين، أبو بكر بن عبد الحق بن محبو بن حمامة المريني، وبعد ملكه فاس، سار إلى جهة مراكش، وضايق بني عبد المؤمن، وبقي كذلك حتى توفي أبو بكر المذكور في سنة ثلاث وخمسين وستمائة. وملك بعده أخوه يعقوب بن عبد الحق بن محبو، وقوى أمره، وحاصر أبا دبوس في مراكش، وملكها يعقوب المريني المذكور، وأزال ملك بني عبد المؤمن من حينئذ، واستقرت قدم يعقوب المريني المذكور في الملك، وبقي يعقوب مستمراً في الملك حتى ملك سبتة في هذه السنة، ثم توفي ولم يقع لي تاريخ وفاته. وملك بعده ولده يوسف ابن يعقوب بن عبد الحق بن محبو، وكنية يوسف المذكور أبو يعقوب، واستمر يوسف المذكور في الملك حتى قتل سنة ست وسبعمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها وصل الملك الظاهر بعساكره إلى دمشق، وفيها عاد عمر بن مخلول أحد أمراء العربان إلى الحبس بعجلون، وكان من حديثه، أن الملك الظاهر حبسه بعجلون مقيداً، فهرب من الحبس المذكور إلى بلاد التتر، ثم أرسل يطلب الأمان، فقال الملك الظاهر ما أؤمنه إلا أن يعود إلى عجلون، وبضع القيد في رجله كما كان، فعاد عمر إلى عجلون وجعل القيد في رجله، فعفى عنه الملك الظاهر عند ذلك. وفيها قويت أخبار التتر لقصد الشام، فجفل الناس، وفيها في جمادى الأولى، كانت ولادة العبد الفقير مؤلف هذا المختصر، إسماعيل بن علي بن محمود ابن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، بدار ابن الرنجيلي بدمشق المحروسة، فان أهلنا كانوا قد جفلوا من حماة إلى دمشق، بسبب أخبار التتر. وفيها توفي الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني النحوي، وله في النحو واللغة مصنفات كثيرة مشهورة، وفيها في ذي القعدة، توفي الأمير مبارز الدين أقوش المنصوري، مملوك الملك المنصور صاحب حماة، ونائب سلطنته، وكان أميراً جليلاً عاقلاً شجاعاً، وهو قبجاقي الجنس. وفيها في يوم الاثنين ثامن عشر ذي الحجة، توفي الشيخ العلامة نصير الدين الطوسي، واسمه محمد بن محمد بن الحسين، الإمام المشهور، وكان يخدم صاحب الألموت، ثم خدم هولاكو، وحظي عنده، وعمل لهولاكو رصداً بمراغة وزيجا، وله مصنفات عديدة كلها نفيسة، منها إقليدس، تضمن اختلاط الأوضاع، وكذلك المجسطي، وتذكرة في الهيئة، لم يصنف في فنها مثلها، وشرح الإشارات، وأجاب عن غالب إيرادات فخر الدين الرازي عليها، وكانت ولادته في حادي عشر جمادى لأولى، سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وكانت وفاته ببغداد، ودفن في مشهد موسى الجواد. ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وستمائة

ذكر دخول الملك الظاهر إلى بلاد الروم

فيها توجه الملك الظاهر بيبرس إلى بلاد سيس، فدخلها بعساكره المتوافرة، وغنموا ثم عادوا إلى دمشق حتى خرجت هذه السنة. ثم دخلت سنة أربع وسبعين وستمائة فيها نازلت التتر البيرة، وكان اسم مقدمهم أقطاي، وكان الملك الظاهر بدمشق، فتوجه إلى جهة البيرة، فرحل التتر عنها، ولاقى الملك الظاهر الخبر برحيلهم وهو بالقطيفة فأتم السير إلى حلب، ثم عاد إلى مصر. وفيها بعد وصول الملك الظاهر إلى مصر، جهز جيشاً مع أقسنقر الفارقاني، ومعه عز الدين أيبك الأفرم، إلى النوبة، فساروا إليها ونهبوا وقتلوا وعادوا بالغنائم. وفيها كان زواج الملك السعيد بركة ابن الظاهر بيبرس، بابنة الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي، غازية خاتون. وفيها في أواخر السنة المذكورة، عاد الملك الظاهر إلى الشام. ثم دخلت سنة خمس وسبعينوستمائة. فيها في المحرم، وصل الملك الظاهر بيبرس إلى دمشق، وكان فد خرج من مصر في أواخر سنة أربع وسبعين، وبلغه وصول الأمراء الروميين الوافدين، وهم بيجار الرومي، وبهادر ولده، وأحمد بن بهادر، وغيرهم، فسار الملك الظاهر إلى جهة حلب والتقاهم وأكرمهم ثم عاد إلى الديار المصرية. ذكر دخول الملك الظاهر إلى بلاد الروم وفي هذه السنة عاد الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام، وكان خروجه من مصر في يوم الخميس، لعشرين من رمضان هذه السنة، ووصل إلى حلب، ثم إلى النهر الأزرق، ثم سار إلى أبلستين، فوصل إليها في ذي القعدة، والتقى بها جمعا من التتر مقدمهم تناون، وكانوا نقاوة المغل، فالتقى الفريقان في أرض أبلستين يوم الجمعة عاشر ذي القعدة من هذه السنة، فانهزم التتر وأخذتهم سيوف المسلمين، وقتل مقدمهم تناون، وغالب كبرائهم، وأسر منهم جماعة كثيرة، صاروا أمراء، وكان من جملة المأسورين في هذه الموقعة، سيف الدين قبجق، وسيف الدين أرسلان، وسنذكر أخبارهما إن شاء الله تعالى. ثم سار الملك الظاهر بعد فراغه من هذه الوقعة إلى قيسارية، واستولى عليها، وكان الحاكم بالروم يومئذ، معين الدين سليمان البرواناه، وكان يكاتب الملك الظاهر في الباطن، وكان يظن الملك الظاهر أنه إذا وصل إلى قيسارية، يصل إليه البرواناه، على ما كان قد اتفق معه في الباطن، فلم يحضر البرواناه لما أراده الله من هلاكه، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وأقام الملك الظاهر على قيسارية سبعة أيام في انتظار البرواناه، وخطب له على منابرها، ثم رحل عن قيسارية في الثاني والعشرين من ذي القعدة، وحصل للعسكر شدة عظيمة، من نفاذ القوت والعلف، وعدمت غالب خيولهم ووصلوا إلى عمق حارم، وأقاموا به شهراً، ولما بلغ أبغا بن هولاكو، ساق في جموع المغل حتى وصل إلى الأبلستين، وشاهد عسكره صرعى، ولم يشاهد أحداً من عسكر الروم مقتولاً، فاستشاط غضباً وأمر بنهب الروم، وقتل من مر به من المسلمين، كنهب وقتل

ذكر وفاة الملك الظاهر بيبرس

منهم جماعة، ثم سار أبغا إلى الأردو، وصحبته معين الدين البرواناه، فلما استقر بالأردو، أمر بقتل البرواناه، فقتل، وقتلوا معه نيفاً وثلاثين نفساً من مماليكه وخواصه، واسم البرواناه المذكور، سليمان، والبرواناه لقب، وهو. الحاجب بالعجمي، وكان مقتله بالأطاغ، وكان البرواناه حازماً بتدبير المملكة، ذا مكر ودهاء. وفي هذه السنة توفي الشهاب محمد بن يوسف بن زائدة التلعفري الشاعر. وفيها مات الشيخ خضر في حبس الملك الظاهر. وفيها عاد الملك الظاهر من عمق حارم وتوجه إلى دمشق. ثم دخلت سنة ست وسبعين وستمائة فيها في خامس المحرم، وصل الملك الظاهر بيبرس إلى دمشق، ونزل بالقصر الأبلق، وكان قد رحل من عمق حارم في أواخر سنة خمس وسبعين. ذكر وفاة الملك الظاهر بيبرس فيها، في يوم الخميس، السابع والعشرين من المحرم، توفي السلطان الملك الظاهر أبو الفتح بيبرس، الصالحي النجمي بدمشق، وقت الزوال، رحمه الله تعالى، عقب وصوله من بلاد الروم إلى دمشق، على ما تقدم ذكره، وقد اختلف في سبب موته، فقيل إنه انكسف القمر كسوفاً كلياً، وشاع بين الناس أن ذلك سبب موت رجل جليل القدر، فأراد الملك الظاهر أن يصرف التأويل إلى غيره، فاستدعى بشخص من أولاد الملوك الأيوبية يقال له الملك القاهر، من ولد الملك الناصر داود بن المعظم عيسى، وأحضر قمزاً مسموماً، وأمر الساقي فسقى الملك القاهر المذكور، فشرب الملك الظاهر ناسياً بذلك النهاء على أثر شرب الملك القاهر، فمات الملك القاهر عقيب ذلك، وأما الملك الظاهر فحصلت له حمى محرقة، وتوفي في التاريخ المذكور، وكتم نائبه ومملوكه بدر الدين تتليك، المعروف بالخزندار، موته، وصبره وتركه في قلعة دمشق إلى أن استوت تربته بدمشق، قرب الجامع، فدفن فيها، وهي مشهورة معروفة، وارتحل بدر الدين تتليك بالعساكر ومعهم المحفة، مظهراً أن الملك الظاهر فيها، وأنه مريض، وسار إلى ديار مصر، وكان الملك الظاهر قد حلف العسكر لولده بركة بن بيبرس، ولقبه الملك السعيد، وجعله لي عهده، فوصل تتليك الخزندار بالخزائن والعسكر إلى الملك السعيد بقلعة جبل، وعند ذلك أظهر موت الملك الظاهر، وجلس ابنه الملك السعيد للعزاء، استقر في السلطنة، وكانت مدة مملكة الملك الظاهر نحو سبع عشرة سنة وشهرين عشرة أيام، لأنه ملك في سابع عشر ذي القعدة، سنة ثمان وخمسين وستمائة، توفي في السابع والعشرين من محرم، من سنة ست وسبعين وستمائة، وكان ملكاً جليلاً شجاعاً عاقلاً مهيباً، ملك الديار المصرية والشام، وأرسل جيشاً فاستولوا على النوبة، وفتح الفتوحات الجليلة، مثل صفد، وحصن الأكراد، وأنطاكية، وغيرها على، ما تقدم ذكره. وأصله مملوك قبجاقي الجنس، وسمعت أنه برجعلي، وكان أسمر أزرق العينين، جهوري الصوت، حضر هو ومملوك آخر مع تاجر

ذكر مسير الملك السعيد بركة إلى الشام والإغارة على سيس وخلاف عسكره عليه:

إلى حماة، فاستحضرهما الملك المنصور محمد ليشتريهما، فلم يعجبه واحد منهما، وكان دكين البندقدار الصالحي، مملوك الملك الصالح أيوب صاحب مصر، قد غضب عليه الملك الصالح المذكور، وكان قد توجه أيدكين إلى جهة حماة، فأرسل الملك الصالح وقبض على أيدكين المذكور، واعتقله بقلعة حماة، فتركه الملك المنصور صاحب حماة في جامع قلعة حماة، واتفق ذلك عند حضور الملك الظاهر مع التاجر، فلما قلبه الملك المنصور ولم يشتره، أرسل أيدكين البندقدار وهو معتقل، فاشتراه، وبقي عنده، ثم أفرج الملك الصالح عن البندقدار، فسار من حماة وصحبته الملك الظاهر، وبقي مع أستاذه البندقدار المذكور مدة، ثم أخذه الملك الصالح من البندقدار، فانتسب إلى الملك الصالح دون أستاذه، وكان يخطب له، وينقش على الدراهم والدنانير بيبرس الصالحي. وكان استقرار الملك السعيد بركة ابن الملك الظاهر في مملكة مصر والشام في أوائل ربيع الأول من هذه السنة، أعني سنة ست وسبعين وستمائة، واستقر بدر الدين تتليك الخزندار في نيابة السلطنة، على ما كان عليه مع والده، واستمرت الأمور على أحسن نظام، فلم تطل أيام تتليك الخزندار، ومات بعد ذلك في مدة يسيرة، قيل حتف أنفه، وقيل بل سم، والله أعلم، وتولى نيابة السلطنة بعده شمس الدين الفارقاني، ثم إن الملك السعيد خبط وأراد تقديم الأصاغر، وأبعد الأمراء الأكابر، وقبض على سنقر الأشقر، والبيسري، ثم أفرج عنهما بعد أيام يسيرة، ففسدت نيات الأمراء الكبار عليه، وبقي الأمر كذلك حتى خرجت هذه السنة. ثم دخلت سنة سبع وسبعينوستمائة. ذكر مسير الملك السعيد بركة إلى الشام والإغارة على سيس وخلاف عسكره عليه: في أثناء هذه السنة، سار الملك السعيد بركة إلى الشام وصحبته العساكر، ووصل إلى دمشق، وجرد منها العسكر صحبة الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي، وجرد أيضاً صاحب حماة، فساروا ودخلوا إلى بلاد سيسى، وشنوا الإغارة عليها، وغنموا، ثم عادوا إلى جهة دمشق، واتفقوا على الخلاف على الملك السعيد المذكور، وخلعه من السلطنة، لسوء تدبيره، وعبروا على دمشق ولم يدخلوها، فأرسل إليهم الملك السعيد واستعطفهم ودخل عليهم بوالدته، فلم يلتفتوا إلى ذلك، وأتموا السير، فركب الملك السعيد وساق وسبقهم إلى مصر، وطلع إلى قلعة الجبل، وسارت العساكر في إثره، وخرجت هذه السنة والأمر كذلك. وفيها توفي عز الدين كيكاؤوس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق، عند منكوتمر ملك التتر، بمدينة صراي، وكيكاؤوس المذكور، هو الذي كان محبوساً بقسطنطينية حسبما تقدم ذكر القبض عليه، في سنة اثنين وستين، وذكر خلاصه واتصاله بملك التتر في سنة ثمان وستين،

ذكر خلع الملك السعيد بركة ابن الملك الظاهر

وخلف عز الدين المذكور ولداً اسمه مسعود، وقصد منكوتمر أن يزوجه بزوجة ابنه عز الدين كيكاؤوس، فهرب مسعود واتصل ببلاد الروم، فحمل إلى أبغا، فأحسن إليه أبغا وأعطاه سيواس وأرزن الروم، وأرزنكان، واستقرت هذه البلاد لمسعود المذكور، ثم بعد ذلك جعلت سلطنة الروم باسم مسعود المذكور، وافتقر جداً، وانكشف حاله، وهو آخر من سمي سلطاناً من السلجوقية بالروم. ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وستمائة. ذكر خلع الملك السعيد بركة ابن الملك الظاهر في هذه السنة وصلت العساكر الخارجون عن طاعة بركة المذكور إلى الديار المصرية، في ربيع الأول، وحصروا الملك السعيد بركة بقلعة الجبل، فخامر على السعيد بركة، غالب من كان معه من الأمراء، مثل لاجين الزيني وغيره، وبقي يهرب واحد بعد واحد من القلعة، وينضم إلى العسكر المحاصر للقلعة، فلما رأى الملك السعيد بركة ذلك، أجابهم إلى الانخلاع من السلطنة، وأن يعطى الكرك، فأجابوه إلى ذلك، وأنزلوه من القلعة، وخلعوه في ربيع الأول من هذه السنة. أعني سنة ثمان وسبعين وستمائة، وسفروه من وقته إلى الكرك، صحبة بيد عان الركني، وجماعة معه، فوصل إليها وتسلمها بما فيها من الأموال وكان شيئاً كثيراً. إقامة سلامش ابن الملك الظاهر بيبرس في المملكة وفي هذه السنة، لما جرى ما ذكرناه من خلع الملك السعيد بركة، وإعطائه الكرك، اتفق أكابر الأمراء الذين فعلوا ذلك، مثل بدر الدين البيسري الشمسي، وأيتمش السعدي، وبكتاش الفخري، أمير سلاح، وغيرهم، على إقامة بدر الدين سلامش ابن الملك الظاهر بيبرس في المملكة، ولقبوه الملك العادل، وعمره إذ ذاك سبع سنين وشهور، وخطب له، وضربت السكة باسمه، وذلك في شهر ربيع الأول من هذه السنة، وصار الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي، أتابك العسكر، ولما استقر ذلك، جهز أتابك العسكر المذكور، الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى دمشق، جعله نائب السلطنة بالشام، وكان العسكر لما خافوا السعيد بركة، قد قبضوا على عز الدين أيدمر نائب السلطنة بدمشق، وتولى تدبير دمشق بعد أيدمر، أقوش الشمسي نائب السلطنة بحلب، فسار وتولاها، واستمر الحال على ذلك مدة يسيرة. ذكر سلطنة الملك المنصور قلاوون الصالحي وفي هذه السنة أعني سنة ثمان وسبعين وستمائة، في يوم الأحد، الثاني والعشرين من رجب، كان جلوس السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي في السلطنة، بعد خلع الصبي

ذكر خروج سنفر الأشقر عن الطاعة وسلطنته بالشام:

سلامش، وعزله، ولما تولى السلطان الملك المنصور، أقام منار العدل، وأحسن سياسة الملك، وقام بتدبير المملكة أحسن قيام. ذكر خروج سنفر الأشقر عن الطاعة وسلطنته بالشام: وفي هذه السنة، في الرابع والعشرين من ذي القعدة، جلس سنقر الأشقر بدمشق في السلطنة، وحلف له الأمراء والعسكر الذين عنده بدمشق، وتلقب بالملك الكامل شمس الدين سنقر. وفي هذه السنة توفي الملك السعيد بركة، ابن الملك الظاهر بيبرس في الكرك، بعد وصوله إليها في مدة يسيرة، وكان سبب موته، أنه لعب بالكرة في ميدان الكرك، فتقنطر به فرسه، فحصل له بسبب ذلك حمى شديدة، وبقي كذلك أياماً يسيرة وتوفي، وحمل إلى دمشق ودفن بتربة أبيه، ولما توفي الملك السعيد، اتفق من بالكرك وأقاموا موضعه أخاه نجم الدين خضر، واستقر في الكرك، ولقبوه الملك المسعود. ثم دخلت سنة تسع وسبعينوستمائة. ذكر كسرة سنقر الأشقر في هذه السنة، في التاسع عشر من صفر، كانت كسرة سنقر الأشقر المتولي على الشام، الملقب بالملك الكامل، وكان من حديث هذه الكسرة، أن السلطان الملك المنصور قلاوون، جهز عساكر ديار مصر، مع علم الدين سنجر الحلبي، الذي تقدم ذكر سلطنته بدمشق، عقيب قتل قطز، وكان أيضاً من مقدمي العسكر المصري المذكور، بدر الدين بكتاش، وبدر الدين الأيدرمري وعز الدين الأفرم، فسارت العساكر المذكورة إلى الشام، وبرز سنقر الأشقر بعساكر الشام إلى ظاهر دمشق، والتقى الفريقان في تاسع عشر صفر المذكور، فولى الشاميون وسنقر الأشقر منهزمين، ونهبت العساكر المصرية أثقالهم. وكان السلطان الملك المنصور قلاوون، قد جعل مملوكه حسام الدين لاجين السلحدار نائباً بقلعة دمشق، فلما هرب سنقر الأشقر، أفرج عن حسام الدين لاجين المذكور، وكذلك كان سنقر الأشقر قد اعتقل بيبرس، المعروف بالجالق، لأنه لم بحلف له، فأفرج عنه أيضاً، وكتب الحلبي إلى السلطان الملك المنصور بالنصر، استقر الأمير لاجين المنصوري المذكور نائب السلطنة بالشام، وأما سنقر الأشقر، فإنه هرب إلى الرحبة، وكاتب أبغا بن هولاكو ملك التتر وأطمعه في البلاد، وكان عيسى بن مهنا، ملك العرب، مع سنقر الأشقر، وقاتل معه، وكتب بذلك إلى أبغا أيضاً، موافقة له، ثم سار سنقر الأشقر من الرحبة إلى صهيون في جمادى الأولى من هذه السنة، واستولى عليها، وعلى برزنة، وبلاطنس، والشغر، وبكاس، وعكار، شيزر، وفامية، وصارت هذه الأماكن لسنقر الأشقر. وفيها توفي أقوش الشمسي نائب السلطنة بحلب، وولى السلطان الملك المنصور قلاوون على حلب، علم الدين سنجر الباشغردي. وفيها قويت أخبار التتر،

ذكر الوقعة العظيمة مع التتر على حمص

وأنهم واصلون إلى البلاد الإسلامية بجموعهم. وفيها جعل السلطان الملك المنصور قلاوون ولده الملك الصالح علاء الدين علي، ولي عهده وسلطنته، وركب بشعار السلطنة. وفيها سار السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي من الديار المصرية، ووصل إلى غزة، وكان التتر قد وصلوا إلى حلب، فعاثوا، ثم عادوا فعاد السلطان إلى مصر في جمادى الآخرة من هذه السنة. وفيها استأذن سيف الدين بلبان الطباخي، أحد مماليك الملك المنصور، وكان نائب السلطنة بحصن الأكراد، في الإغارة على بلد المرقب، لما اعتمده أهله من الفساد عند وصول التتر إلى حلب، فأذن له السلطان في ذلك، فجمع بلبان الطباخي المذكور عساكر الحصون، وسار إلى المرقب، فاتفق هروب المسلمين ونزل الفرنج من المرقب، وقتلوا وأسروا من المسلمين جماعة. وفيها في مستهل ذي الحجة، حرج السلطان الملك المنصور قلاوون من مصر، وسار عائداً إلى الشام، وخرجت هذه السنة. ثم دخلت سنة ثمانين وستمائة والسلطان الملك المنصور بالروحاء وأقام هناك مدة، ثم سار إلى بيسان، وقبض على جماعة من الظاهرية، ودخل دمشق وأعدم منهم جماعة، مثل كوندك، وأيدغمش الحلبي، وبيبرس الرشيدي، وأرسل عسكراً إلى شيزر، وهي لسنقر الأشقر، وجرى بينهم مناوشة، ثم إنه ترددت الرسل بين السلطان وبين سنقر الأشقر، واحتاج السلطان إلى مصالحته لقوة أخبار التتر، ووقع بينهم الصلح، على أن يسلم شيزر إلى السلطان، ويتسلم سنقر الأشقر الشغر وبكاس، وكانتا قد ارتجعتا سه، فتسلم نواب السلطان شيزر، وتسلم الشغر وبكاس سنقر الأشقر، وحلفا على ذلك، واستقر الصلح بينهما. وفيها أيضاً استقر الصلح بين السلطان الملك المنصور قلاوون، وبين الملك خضر ابن الملك الظاهر بيبرس، صاحب الكرك. ذكر الوقعة العظيمة مع التتر على حمص في هذه السنة، أعني سنة ثمانين وستمائة، في شهر رجب، كان المصاف العظيم بين المسلمين وبين التتر بظاهر حمص، فنصر الله تعالى فيه المسلمين، بعد ما كانوا قد أيقنوا بالبوار، وكان من حديث هذا المصاف العظيم، أن أبغا بن هولاكو، حشد وجمع وسار بهذه الحشود طالباً الشام، ثم انفرد أبغا المذكور عنهم، وغنم وسار إلى الرحبة، وسير جيوشه وجموعه إلى الشام، وقدم عليهم أخاه منكوتمر ابن هولاكو، وسار إلى جهة حمص، وسار السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي بالجيوش الإسلامية من دمشق إلى جهة حمص أيضاً، وأرسل إلى سنقر يستدعيه بمن عنده من الأمراء والعسكر، بحكم ما استقر بينهما من الصلح واليمين، فسار سنقر الأشقر من صهيون، فلما نزل السلطان بظاهر حمص، وصل إليه الملك المنصور صاحب حماة بعسكره، ثم وصل سنقر الأشقر وصحبته

أيتمش السعدي، والحاج أزدمر، وعلم الدين الدويداري، وجماعة من الظاهرية. ورتب السلطان عسكره ميمنة وميسرة، وكان رأس الميمنة الملك المنصور محمد صاحب حماة بعسكره، ثم بدر الدين البيسري دونه، ثم علاء الدين طيبرس الوزيري، ثم أيبك الأفرم، ثم جماعة من العسكر المصري، ثم عسكر الشام، ومقدمهم حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام. وكان رأس الميسرة سنقر الأشقر ومن معه، ثم بدر الدين تنليك الأيدمري، ثم بدر الدين بكتاش أمير سلاح. وكان بر الميمنة العرب، وبر الميسرة التركمان. وكان ساليش القلب، حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة، ومن أضيف إليه من الأمراء والعساكر، والتقى الفريقان بظاهر حمص في الساعة الرابعة من يوم الخميس، رابع عشر رجب الفرد، من هذه السنة، أعني سنة ثمانين وستمائة، وأنزل الله نصرته إلى القلب والميمنة، فهزموا من كان قبالتهم من التتر، وركبوا قفاهم يقتلونهم، وكان منكوتمر قبالة القلب، فانهزم أيضاً، وأما ميسرة المسلمين فإنها انكشفت عن مواقفها، وتم ببعضهم الهزيمة إلى دمشق، وساق التتر في إثر المنهزمين حتى وصلوا إلى تحت حمص، ووقعوا في السوقية، وغلمان العسكر والعوام، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ثم علموا بنصرة المسلمين وهزيمة جيشهم، فولى المذكورون أيضاً منهزمين على أعقابهم، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون. وكانت عدة التتر ثمانين ألف فارس، منهم خمسون ألفا من المغل، والباقي حشود وجموع من أجناس مختلفة، مثل الكرج والأرمن والعجم وغيرهم، ولما وصل خبر هذه الكسرة إلى أبغا وهو على الرحبة يحاصرها، رحل عنها على عقبه منهزماً، وكتب بهذا الفتح العظيم إلى سائر البلاد الاسلامية، فزينت لذلك، ثم إن السلطان الملك المنصور قلاوون، أعطى الدستور للعساكر الشامية، فرجع الملك المنصور محمد صاحب حماة إلى بلده، ورجع سنقر الأشقر وجماعته إلى صهيون، وسار عسكر حلب إليها، وعاد السلطان إلى دمشق، والأسرى والروس بين يديه. وفيها عاد السلطان الملك المنصور قلاوون إلى الديار المصرية مؤيداً منصوراً. وفيها عند وصوله إلى مستقر ملكه، قدمت إليه هدية من صاحب اليمن المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن علي بن رسول، وطلب أماناً من السلطان، فقبل السلطان هديته، وكانت من طرائف اليمن، مثل العود والعنبر والصيني ورماح القنا، وغير ذلك، وكتب له السلطان أماناً صدرة " هذا أمان الله تعالى، وأمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأماننا، لأخينا السلطان الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر صاحب اليمن، إننا راعون له ولأولاده، مسالمون من سالمهم، معادون من عاداهم " ونحو ذلك. وكان ذلك في العشر الأول من رمضان هذه السنة، وأرسل السلطان إليه هدية من أسلاب التتر وخيولهم، وعادت رسله بذلك مكرمين. وفيها مات منكوتمر بن هولاكو بن طلو بن

ذكر موت أبغا

جنكزخان بجزيرة ابن عمر، مكموداً، عقيب كسرته على حمص، وكان موته من جملة هذا الفتح العظيم. وفيها توفي علاء الدين عطاء ملك بن محمد الجويني، وكان صاحب الديوان ببغداد، فنقب عليه أبغا نسبه إلى مواطاة المسلمين، وقبض عليه، وأخذ أمواله، وكان صدراً كبيراً فاضلاً، له شعر حسن، فمنه في تركية: أبادية الأعراب عني فإنني ... بحاضرة الأتراك نيطت علائقي وأهلك يا نجل العيون فإنني ... جننت بهذا الناظر المتضايق وكانت وفاته بعراق العجم، وولي بغداد بعده ابن أخيه هارون بن محمد الجويني. ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وستمائة فيها ولي السلطان مملوكه شمس الدين قرا سنقر نيابة السلطنة بحلب، فسار إليها واستقر. ذكر موت أبغا وفيها في المحرم، مات أبغا بن هولاكو بن جنكزخان، ملك التتر، قيل إنه مات مسموماً. وكان موته ببلاد همذان، وكانت مدة ملكه نحو سبعة عشر سنة وكسوراً، وخلف من الولد، أرغون، وكيختو ابناً أبغا، ولما مات أبغا، ملك بعده أخوه أحمد بن هولاكو، واسم أحمد المذكور، بيكدار، فلما جلس في الملك، أظهر دين الإسلام، وتسمى بأحمد سلطان. وفيها وصلت رسل أحمد بن هولاكو ملك التتر المذكور، إلى السلطان الملك المنصور قلاوون، وكان كبير الرسل المذكورين، الشيخ المتقن قطب الدين محمود الشيرازي، وكان إذ ذاك قاضي سيواس، فاحترز عليهم السلطان، ولم يمكن أحداً من الاجتماع بهم، وكان مضمون رسالتهم إعلام السلطان بإسلام أحمد المذكور، وطلب الصلح بين المسلمين والتتر، فلم ينتظم ذلك. ثم عادت رسله إليه بالجواب. وفيها توفي منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، ملك التتر، بالبلاد الشمالية، وملك بعده أخو متدان منكو بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، وجلس على كرسي التتر بصراي، وقيل إن ذلك كان في سنة ثمانين. وفيها عقد الملك الصالح علاء الدين علي ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، على بنت سيف الدين بكيه، ثم تزوج أخوه الملك الأشرف بأختها الأخرى، وكان بكيه معتقلاً بالإسكندرية، فلما عزم السلطان على ذلك، أخرجه من الحبس، وأحسن إليه، وزوج ابنيه واحداً بعد الآخر ببنتي بكيه المذكور. وفيها توفي القاضي الفاضل المحقق، شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان البرمكي، وكان فاضلاً عالماً، تولى القضاء بمصر والشام، وله مصنفات جليلة، مثل: وفيات الأعيان في التاريخ وغيره. وكان مولده يوم الخميس بعد صلاة العصر، حادي عشر ربيع الآخر، سنة ثمان وستمائة، بمدينة إربل، بمدرسة سلطانها مظفر الدين صاحب إربل. نقلت ذلك من تاريخه في

ترجمة زينب، في آخر حرف الزاء. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وستمائة في أوائل هذه السنة، قدم الملك المنصور محمد صاحب حماة، وصحبته الملك الأفضل علي، إلى خدمة السلطان الملك المنصور قلاوون بالديار المصرية، فبالغ السلطان في إكرام صاحب حماة، والإحسان إليه، وأنزله بالكبش، وأركبه بالسناجق السلطانية، والجفتا والغاشية، وسأله عن حوائجه، فقال الملك المنصور حاجتي أن أعفى من هذا اللقب فإنه ما بقي يصلح لي أن ألقب بالملك المنصور؛ وقد صار هذا لقب مولانا السلطان الأعظم، فأجابه السلطان بأبي ما تلقيت بهذا الاسم، إلا لمحبتي فيك، ولو كان لقبك غير ذلك كنت تلقبت به، فشيء فعلته محبة لاسمك، كيف أمكن من تغييره، وطلع السلطان بالعسكر المصري لحفر الخليج الذي بجهة البحيرة، وسار صاحب حماة في خدمته إلى الحفير، ثم أعطى بعد ذلك الدستور لصاحب حماة، فعاد مكرماً مغموراً بالصدقات السلطانية. وفيها رمى السلطان الملك الصالح علاء الدين علي ابن السلطان، بجعاً بجهة العباسة بالبندق، وأرسله للملك المنصور محمد صاحب حماة، فقبله وبالغ في إظهار السرور والفرح بذلك، وأرسل إليه تقدمة جليلة. وفيها خرج أرغون بن أبغا بخراسان على عمه بيكدار، المسمى بأحمد سلطان، وسار إليه واقتتلا، فانهزم أرغون، وأخذه أحمد أسيراً، وسأل الخواتين في إطلاق أرغون وإقراره على خراسان، فلم يجب إلى ذلك، وكانت خواطر المغل قد تغيرت على أحمد، بسبب إسلامه وإلزامه لهم بالإسلام، فاتفقوا على قتله، وقصدوا أرغون بالموضع الذي هو معتقل فيه، وأطلقوه وكبسوا الناق نائب أحمد فقتلوه، ثم قصدوا الأردو، فأحس بهم السلطان أحمد، فركب وهرب، فتبعوه وقتلوه، وملكوا أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وذلك في جمادى الأولى من هذه السنة. وفيها قتل أرغون الصبي، سلطان الروم، الذي أقامه البرواناه بعد قتله أباه، حسبما تقدم ذكره في سنة ست وستين وستمائة، وكان اسم الصبي المذكور، غياث الدين كيخسرو بن ركن الدين قليج أرسلان بن كيخسرو بن قليج أرسلان، وفوض اسم سلطنة الروم إلى مسعود بن عز الدين كيكاؤوس، وهذا مسعود هو الذي هرب من منكوتمر ملك التتر بصراي، وأبوه عز الدين كيكاؤوس، هو الذي جرى له مع الأشكري صاحب قسطنطينية على ما قدمنا ذكره في سنة اثنتين وستين وستمائة، واستمرت سلطنة الروم باسم مسعود المذكور إلى سنة ثمان وسبعمائة، وهو مسعود ابن كيكاؤوس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن قطلومش، من السلجوقية ببلاد الروم. وافتقر مسعود المذكور، وانكشف حاله جداً، حتى قيل إنه تناول سماً فمات، من كثرة المطالبة من أرباب الدين والتتر. وفيها ولى أرغون، سعد الدولة اليهودي، وعظمه ومكنه، وكان سعد الدولة المذكور، في مبدأ أمره، دلالاً بسوق الصناعة بالموصل، فحكم في سائر البلاد التي

ذكر وفاه الملك المنصور صاحب حماة

بأيدي التتر. وفيها قرر أرغون ولديه قازان وخربنده بخراسان، وجعل أتابكهما أميراً كبيراً من أصحابه، اسمه نورود. وفيها مات الأشكري صاحب قسطنطينية، واسمه ميخائل، وملك بعده ابنه ماندس، وتلقب بالدوقس. وفيها كاتب الحكام بقلعة الكحنا قراسنقر، نائب السلطنة بحلب، وسلموا الكحنا إلى السلطان، فجهز قراسنقر عسكراً فتسلموها، وقرر السلطان فيها نوابه، وحصنها، وصارت من أعظم الثغور الإسلامية نفعاً. وفيها في رجب، قدم السلطان إلى دمشق، وكان قد سار من مصر، في جمادى الآخرة. وفيها كان السيل العظيم بدمشق في العشر الأول من شعبان، والسلطان الملك المنصور قلاوون بدمشق، وأخذ ما مر به من العمارات وغيرها، واقتلع الأشجار، وأهلك خلقاً كثيراً، وذهب للعسكر النازلين على جوانب بردى من الخيل والجمال والخيم ما لا يحصى، وتوجه السلطان عقيبه إلى الديار المصرية، ووصل إلى قلعة الجبل في ثامن عشر رمضان من هذه السنة. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانينوستمائة. فيها سار السلطان الملك المنصور قلاوون إلى دمشق، وحضر الملك المنصور صاحب حماة إلى خدمته إلى دمشق، ثم عاد كل منهما إلى مقر ملكه. ذكر وفاه الملك المنصور صاحب حماة في هذه السنة في شوال، توفي السلطان الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي أحمد ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر عمر بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب حماة، رحمه الله تعالى. ابتدأ فيه المرض في أوائل شعبان، بعد عوده من خدمة السلطان من دمشق، وكان مرضه حمى صفراوية داخل العروق، ثم صلح مزاجه بعض الصلاح، فأشار الأطباء بدخوله الحمام، فدخلها، فعاوده المرض، وأحضر له الأطباء من دمشق، مع من كان في خدمته منهم، واشتد به ذات الجنب، وعالجوه بما يصلح لذلك، فلم يفد شيئاً. وفي مدة مرضه عتق مماليكه، وتاب توبة نصوحاً، وكتب إلى السلطان الملك المنصور قلاوون يسأله في إقرار ابنه الملك المظفر محمود في مملكته، على قاعدته، واشتد به مرضه حتى توفي بكرة حادي عشر شوال من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وثمانين وستمائة. وكانت ولادته في الساعة الخامسة من يوم الخميس، لليلتين بقيتا من ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. فيكون عمره إحدى وخمسين سنة وستة أشهر وأربعة عشر يوماً، وملك حماة يوم السبت ثامن جمادى الأولى، سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وهو اليوم الذي توفي فيه والده الملك المظفر محمود، فيكون مدة ملكه إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر وأربعة أيام، وكان أكبر أمانيه، أن يعيش إلى أن يسمع جوابه من السلطان، فيما سأله من إقرار حماة على ولده الملك المظفر محمود، فاتفق وفاته قبل وصول الجواب، وكان قد أرسل في ذلك على البريد مملوكه سنقر، أمير أخور، فوصل بالجواب بعد موت الملك المنصور بستة أيام، ونسخة الجواب من

ذكر ملك الملك المظفر حماة

السلطان بعد البسملة: " المملوك قلاوون، أعز الله أنصار المقام العالي المولوي السلطاني الملكي المنصوري الناصري، ولا عدمه الإسلام ولا فقدته السيوف والأقلام، وحماه، من أذى داء، وعود عواد، وإلمام آلام المملوك يجدد الخدمة التي كان يود تجديدها، شفاهاً ويصف ما عنده من الألم لما ألم بمزاجه الكريم، حتى أنه لم يكد يفتح بالحديث فاهاً. ولما وقفنا على الكتاب المولوي المتضمن بمرض الجد المحروس، وما انتهى إليه الحال، كادت القلوب تنشق، والنفوس تذوب حزناً، والرجاء من الله أن يتداركه بلطفه، وأن يمن بعافيته التي رفع في مسألتها يديه، وبسط كفيه، وهو يرجو من كرم الله، معاجلة الشفاء، ومداركة العافية، الموردة بعد الكدر، مورد الصفاء، وإن الله يفسح في أجل المولى ويهبه العمر الطويل، وأما الإشارة الكريمة إلى ما ذكره من حقوق يوجبها الإقرار، وعهود أنت بدورها من السرار، ونحن بحمد الله، فعندنا تلك العهود ملحوظة، وتلك المودات محفوظة، فالمولى يعيش قرير العين، فما تم إلا ما يسره من إقامة ولده مقامه، لا يحول ولا يزول، ولا يرى على ذلك ذلة ولا ذهول، ويكون المولى طيب النفس، مستديم الأنس، بصدق العهد القديم، وبكل ما يؤثر من خير مقيم ". ولما وصل الكتاب، اجتمع لقراءته الملك الأفضل والملك المظفر وعلم الدين سنجر، المعروف بأبي خرص، وقرئ عليهم، وتضاعف سرورهم بذلك، وكان الملك المنصور محمد صاحب حماة المذكور، ملكاً ذكياً فطناً، محبوب الصورة، وكان له قبول عظيم عند ملوك الترك، وكان حليماً إلى الغاية، يتجاوز عما يكره ويكتمه، ولا يفضح قائله، من ذلك أن الملك الظاهر بيبرس قدم إلى حماة، ونزل بالدار المعروفة الآن بدار المبارز، فرفع إليه أهل حماة عدة قصص يشكون فيها من الملك المنصور، فأمر الملك الظاهر دواداره سيف الدين بلبان، أن يجمع القصص ولا يقرأها، ويضعها في منديل، ويحملها إلى الملك المنصور صاحب حماة، فحملها الدوادار المذكور، وأحضرها إلى الملك المنصور وقال: إنه والله دعاء الملك المنصور لصداقة الملك الظاهر، وخلع على الدوادار، وأخذ القصص، وقال بعض الجماعة: سوف نرى من تكلم بشيء لا ينبغي، وتكلموا بمثل ذلك، فأمر الملك المنصور بإحضار نار، وحرق تلك القصص، ولم يقف على شيء منها لئلا يتغير خاطره على رافعها، وله مثل ذلك كثير، رحمه الله تعالى. ذكر ملك الملك المظفر حماة ولما بلغ السلطان الأعظم الملك المنصور، وفاة الملك المنصور صاحب حماة، قر ابنه الملك المظفر محموداً ابن الملك المنصور محمد في ملك حماة، على قاعدة والده، وأوصل إليه إلى عمه الملك الأفضل، إلى أولاده، التشاريف، ومكاتبة إلى الملك المظفر بذلك، ووصلت التشاريف ولبسناها في العشر الأخير من شوال من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وثمانين وستمائة.

ونسخة الكتاب الواصل من السلطان بعد البسملة: " المملوك قلاوون، أعر الله نصرة المقام العالي المولوي السلطاني الملكي المظفري التقوي، ونزع عنه لباس البأس، وألبسه حلل السعد المجلوة على أعين الناس، وهو يخدم خدمة بولاء، قد تبجست عيونه، وتأسست مبانيه، وتبابست ظنونه، وحلت رهونه، وحلت ديونه، وأثمرت غصونه، وزهت أفنانه وفنونه، ومنها: وقد سيرنا المجلس السامي جمال الدين أقوش الموصلي الحاجب، وأصحبناه من الملبوس الشريف، ما يغير به لباس الحزن، وينجلي في مطلعه ضياء وجه الحسن، وينجلي بذلك غيوم تلك الغموم، وأرسلنا: أيضاً صحبته ما يلبسه هو وذووه، كما يبدو البدر بين النجوم ". وآخر الكتاب، وكتب في عشرين شوال سنه ثلاث وثمانين وستمائة. وكان قد وقع الاتفاق عند موت الملك المنصور، على إرسال علم الدين سنجر أبي خرص الحموي، لأجل هذا المهم، فلاقى سنجر المذكور، جمال الدين الموصلي بالخلع في أثناء الطريق، فأتم سنجر أبو خرص السير، ووصل إلى الأبواب الشريفة السلطانية، فتلقاه السلطان بالقبول، وأعاده بكل ما يحب ويختار، وقال: نحن واصلون إلى الشام، ونفعل مع الملك المظفر فوق ما في نفسه، فعاد علم الدين سنجر أبو خرص إلى حماة، ومعه الجواب بنحو ذلك. ثم دخلت سنة أربع وثمانين وستمائة - ذكر ركوب الملك المظفر صاحب حماة بشعار السلطنة - في هذه السنة في صفر، كان ركوب السلطان الملك المظفر محمود صاحب حماة، بشعار السلطنة بدمشق المحروسة، وصورة ما جرى في ذلك، من السلطان الملك المنصور قلاوون، وصل في هذه السنة في أواخر المحرم، بعساكره المتوافرة، إلى دمشق المحروسة، وسار الملك المظفر صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل، ووصلا إليه إلى دمشق، فأكرمهما السلطان إكراماً كثيراً، وأرسل إلى الملك المظفر في اليوم الثالث من وصوله، التقليد بسلطنة حماة، والمعرة، وبارين، والتشريف، وهو أطلس أحمر فوقاني، بطراز زركش وسنجاب، ودائرة قندس، وقباً أطلس أصفر تحتاني، وشاش تساعي، وكلوته زركش، وخياصة ذهب، وسيف محلى بالذهب، وتلكش، وعنبر بناً، وثوب بطرز مذهبة، ولباس. وأرسل شعار السلطنة، وهو سنجق بعصائب سلطانية، وفرس بسرج ذهب، ورقبة وكبوش، وأرسل الغاشية السلطانية. فلبس الملك المظفر ذلك، وركب بشعار السلطنة، وحضرت أمراء السلطان، ومقدموا العسكر، وساروا معه من الموضع الذي كان فيه، وهو داره المعروفة بالحافظية، داخل باب الفراديس بدمشق المحروسة، إلى أن وصل الى قلعة دمشق، ومشت الأمراء في خدمته، ودخل الملك المظفر إلى عند السلطان، فأكرمه وأجلسه إلى جانبه على الطراحة، وطيب خاطره وقال له: " أنت ولدي، وأعر من الملك الصالح عندي، فتوجه إلى بلادك وتأهب لهذه الغراة المباركة، فأنتم من بيت مبارك، ما حضرتم في مكان إلا

ذكر فتوح المرقب

وكان النصر معكم " فعاد الملك المظفر وعمه الملك الأفضل إلى حماة، وعملا أشغالهما، وكذلك باقي العسكر الحموي، وتأهبوا للمسير إلى خدمة السلطان ثانيا. ذكر فتوح المرقب وفي هذه السنة، سار السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون، بعد وصوله إلى دمشق، بالعساكر المصرية والشامية، ونازل حصن المرقب، في أوائل ربيع الأول من هذه السنة، وهو حصن للاستبار، في غاية العلو والحصانة، لم يطمع أحد من الملوك الماضين في فتحه. فلما زحف العسكر عليه، أخذ الحجارون فيه النقوب، ونصبت عليه عدة مجانيق، كباراً وصغاراً. يقول العبد الفقير مؤلف هذا المختصر: إنني حضرت حصار الحصن المذكور، وعمري إذ ذاك نحو اثنتي عشرة سنة، وهو أول قتال رأيته، وكنت مع والدي. ولما تمكنت النقوب من أسوار القلعة، طلب أهله الأمان، فأجابهم السلطان، رغبة في إبقاء عمارته، فإنه لو أخذه بالسيف وهدمه، كان حصل التعب في إعادة عمارته. فأعطى أهله الأمان، على أن يتوجهوا بما يقدرون على حمله، غير السلاح، وصعدت السناجق السلطانية على حصن المرقب المذكور، وتسلمه في الساعة الثامنة من نهار الجمعة، تاسع عشر ربيع الأول عن هذه السنة، أعني سنة أربع وثمانين وستمائة. وكان يوماً مشهوداً، أخذ فيه الثأر من بيت الاستبار، ومحيت آية الليل بآية النهار، فأمر السلطان فحمل أهل المرقب إلى مأمنهم، ولما ملكه، قرر أمره، ورحل عنه إلى الوطاة بالساحل، وأقام بمروج بالقرب من موضع يقال له برج القرفيص، ثم سار السلطان ونزل تحت حصن الأكراد، ثم سار ونزل على بحيرة حمص، وفي بحيرة قدس. ذكر مولد مولانا السلطان الأعظم مولد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد، ابن السلطان الملك المنصور، سيف الدنيا والدين، قلاوون الصالحي: وفي هذه السنة، ولد مولانا السلطان الأعظم المذكور، من زوجة السلطان، وهي بنت سكتاي بن قراجين بن جنعان. وسكتاي المذكور، ورد إلى الديار المصرية هو وأخوه قرمشي، سنة خمس وسبعين وستمائة، صحبة بيجار الرومي في الدولة الظاهرية، فتزوج السلطان الملك المنصور قلاوون، ابنة سكتاي المذكور، في سنة ثمانين وستمائة، بعد موت أبيها المذكور، بولاية عمها قرمشي، ووردت البشائر بمولده إلى السلطان وهو نازل على بحيرة حمص، عند عوده من فتح المرقب، فتضاعف سروره، وضربت البشائر فرحاً بمولده السعيد. وفيها عاد السلطان إلى الديار المصرية، وأعطى الملك المظفر عند رحيله عن حمص الدستور، فعاد إلى حماة. ثم دخلت سنة خمس وثمانين وستمائة. فيها أرسل

العرب المستعربة

القبائل المنتسبة إلى عمرو بن سبأ جذام وهو أخو لخم، وجميع جذام من ابنيه حزام وجشم ابني جذام، وكان في بني حزام العدد والشرف، ومن بطون جشم بن جذام عثيب بن أسلم. بني أشعر بن سبأ وأما بنو الأشعر، فيقال لهم الأشعريون، وهم رهط أبي موسى الأشعري، واسم أبي موسى الأشعري عبد الله بن قس بني عاملة وأمّا بنو عاملة، هم أيضاً من القبائل اليمانية التي خرجت إلى الشام عند سيل العرم، ونزلوا بالقرب من دمشق في جبل هناك يعرف بجبل عاملة، فمن عاملة: عدي ابن الرقاع الشاعر، انتهى ذكر أولاد سبأ وهم عرب اليمن. العرب المستعربة وهم ولد إِسماعيل بن إبراهيم الخليل صلوات الله عليهما، وقيل لهم العرب المستعربة لأن إِسماعيل لم تكن لغته عربية، بل عبرانية، ثم دخل في العربية، فلذلك سمي ولده العرب المستعربة، وقد تقدم عند ذكر إِبراهيم الخليل عليه السلام، سبب سكنى إِسماعيل وأمه هاجر مكة، وأن ذلك كان بسبب غيرة سارة رضي الله عنها من هاجر وابنها إسماعيل. وأنّ الله تعالى أمره أن يطيع سارة، وأن يخرج إِسماعيل عنها، وأن الله تعالى يتكفله، فخرج إِبراهيم من الشام بإِسماعيل وأمه هاجر، وقدم بهما إِلى مكة وأنزلهما بموضع الحجر وقال: " رب إِني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع " " إبراهيم: 37 " وأنزلهما إِبراهيم هناك وعاد إِلى الشام، من كتب اليهود وكان عمر إسماعيل إِذ ذاك نحو أربع عشرة سنة، وذلك لمضي مائة سنة من عمر إِبراهيم الخليل عليه السلام، فمن سكنى إِسماعيل عليه السلام مكة إِلى الهجرة ألفان وسبعمائة وثلاث وتسعون سنة. وكان هناك قبائل جرهم، فتزوج إِسماعيل منهم امرأة، وولدت له اثني عشر ولداً ذكراً، منهم: قيذار وماتت هاجر ودفنت بالحجر، ثم لما مات ابنها إِسماعيل بمكة دفن معها بالحجر أيضاً. وقد اختلف المؤرخون اختلافاً كثيراً في أمر الملك على الحجاز بين جرهم وبين إِسماعيل، فمن قائل كان الملك على الحجاز في جرهم، ومفتاح الكعبة وسدانتها في يد ولد إِسماعيل، ومن قائِل إِن قيذار توجته أخواله جرهم، وعقدوا له الملك عليهم بالحجاز، وأما سدانة البيت الحرام ومفاتيحه فكانت مع بني إِسماعيل بغير خلاف حتى انتهى ذلك إِلى نابت من ولد إِسماعيل، فصارت السدانة بعده لجرهم، ويدل على ذلك قول عامر بن الحارث الجرهمي

ذكر فتوح طرابلس

ذكر فتوح طرابلس في هذه السنة، في أول ربيع الآخر، فتحت طرابلس الشام. وصورة ما جرى: أن السلطان الملك المنصور، خرج بالعساكر المصرية في المحرم من هذه السنة، وصار إلى الشام، ثم سار بالعساكر المصرية والشامية، ونازل مدينة طرابلس الشام، يوم الجمعة مستهل ربيع الأول من هذه السنة، ويحيط البحر بغالب هذه المدينة، وليس عليها قتال في البر إلا من جهة الشرق، وهو مقدار قليل. ولما نازلها السلطان، نصب عليها عدة كثيرة من المجانيق الكبار والصغار، ولازمها بالحصار، واشتد عليها القتال حتى فتحها، يوم الثلاثاء رابع ربيع الآخر من هذه السنة بالسيف، ودخلها العسكر عنوة، فهرب أهلها إلى الميناء، فنجى أقلهم في المراكب، وقتل غالب رجالها، وسبيت ذراريهم، وغنم منهم المسلمون غنيمة عظيمة. وحصار طرابلس هو أيضاً مما شاهدته، وكنت حاضراً فيه، مع والدي الملك الأفضل، وابن عمي الملك المظفر صاحب حماة، ولما فرغ المسلمون من قتل أهل طرابلس ونهبهم، أمر السلطان فهدمت، ودكت إلى الأرض، وكان في البحر قريباً من طرابلس جزيرة، وفيها كنيسة تسمى كنيسة سنطماس، وبينها وبين طرابلس الميناء، فلما أخذت طرابلس، هرب إلى الجزيرة المذكورة وإلى الكنيسة التي فيها عالم عظيم من الفرنج والنساء، فاقتحم العسكر الإسلامي البحر، وعبروا بخيولهم ساحة إلى الجزيرة المذكورة، فقتلوا جميع من فيها من الرجال، وغنموا ما بها من النساء والصغار، وهذه الجزيرة بعد فراغ الناس من النهب، عبرت إليها في مركب، فوجدتها ملأى من القتلى، بحيث لا يستطيع الإنسان الوقوف فيها من نتن القتلى. ولما فرغ السلطان من فتح طرابلس وهدمها، عاد إلى الديار المصرية، وأعطى صاحب حماة الدستور، فعاد إلى بلده، وكان الفرنج قد استولوا على طرابلس في سنة ثلاث وخمسمائة، في حادي عشر ذي الحجة، فبقيت بأيديهم إلى أوائل هذه السنة، أعني سنة ثمان وثمانين وستمائة، فيكون مدة لبعثها مع الفرنج، نحو مائة سنة وخمس وثمانين سنة وشهور. وفيها: مات قتلاي خان بن طلو بن جنكز خان ملك التتر بالصين، وهو أعظم الخانات، والحاكم على كرسي مملكة جنكزخان، وكان قد طالت مدته، ولما مات قتلاي خان، جلس بعده ولده شهون. ثم دخلت سنة تسع وثمانينوستمائة. ذكر وفاة السلطان الملك المنصور قلاوون سيف الدنيا والدين قلاوون الصالحي في هذه السنة، في سادس ذي القعدة، توفي الملك المنصور المذكور، وصورة وفاته، أنه خرج من الديار المصرية بالعساكر المتوافرة، على عزم غزو عكا وفتحها، وبرز إلى مسجد التيرز، فابتدأ مرضه في العشر الأخير من شوال، بعد نزوله بالدهليز، في المكان المذكور، وأخذ مرضه يتزايد حتى توفي يوم السبت، سادس ذي القعدة، بالدهليز، وكان جلوسه في

ذكر سلطنة والده الملك الأشرف

الملك يوم الأحد الثاني والعشرين من رجب، سنة ثمان وسبعين وستمائة، فيكون مدة ملكه نحو إحدى عشر سنة وثلاثة أشهر وأياماً، وخلف ولدين، هما الملك الأشرف صلاح الدين خليل، والسلطان الأعظم الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد، وكان السلطان الملك المنصور المشار إليه، ملكاً مهيباً حليماً، قليل سفك الدماء، كثير العفو، شجاعاً. فتح الفتوحات الجليلة، مثل: المرقب، وطرابلس التي لم يجسر أحد من الملوك مثل صلاح الدين وغيره على التعرض إليهما، لحصانتهما، وكسر جيش التتر على حمص، وكانوا في جمع عظيم، لم يطرق الشام قبله مثله، ولا يحتمل هذا المختصر ذكر فضائله رحمه الله تعالى ورضي عنه. ذكر سلطنة والده الملك الأشرف ولما توفي السلطان، وجلس في الملك بعده، ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور قلاوون المذكور، وكان جلوسه في سابع ذي القعدة من هذه السنة، صبيحة اليوم الذي توفي فيه والده، ولما استقر السلطان الملك الأشرف في المملكة، قبض على حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة، في يوم الجمعة ثاني عشر ذي القعدة، فكان آخر العهد به، وفوض نيابة السلطنة إلى بدر الدين بيدرا، والوزارة إلى شمس الدين محمد بن السلعوس. ثم دخلت سنة تسعين وستمائة. ذكر فتوح عكا في هذه السنة، في جمادى الآخرة، فتحت عكا، وسبب ذلك، أن السلطان الملك الأشرف، سار بالعساكر المصرية إلى عكا، وأرسل إلى العساكر الشامية، وأمرهم بالحضور، وأن يحضروا صحبتهم المجانيق، فتوجه الملك المظفر صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل، وسائر عسكر حماة صحبته، إلى حصن الأكراد، وتسلمنا منه منجنيقاً عظيماً يسمى المنصوري، حمل مائة عجلة، ففرقت في العسكر الحموي، وكان المسلم إلي منه عجلة واحدة، لأني كنت إذ ذاك أمير عشرة، وكان مسيرنا بالعجل، في أواخر فصل الشتاء، فاتفق وقوع الأمطار والثلوج علينا بين حصن الأكراد ودمشق، فقاسينا من ذلك بسبب جر العجل، وضعف البقر وموتها بسبب البرد، شدة عظيمة، وسرنا بسبب العجل من حصن الأكراد إلى عكا شهراً. وذلك مسير نحو ثمانية أيام للخيل على العادة، وكذلك أمر السلطان الملك الأشرف بجر المجانيق الكبار والصغار، ما لم يجتمع على غيرها، وكان نزول العساكر الإسلامية عليها في أوائل جمادى الأولى من هذه السنة، واشتد عليها القتال، ولم يغلق الفرنج غالب أبوابها، بل كانت مفتحة، وهم يقاتلون فيها، وكانت منزلة الحمويين برأس الميمنة، على عادتهم، فكنا على جانب البحر، والبحر عن يميننا إذا واجهنا عكا، وكان يحضر إلينا

ذكر فتوح عدة حصون ومدن

مراكب مقبية بالخشب الملبس جلود الجواميس، وكانوا يرموننا بالنشاب والجروخ، وكان القتال من قدامنا من جهة المدينة، ومن جهة يميننا من البحر، وأحضروا بطسة فيها منجنيق يرمي علينا، وعلى خيمنا من جهة البحر، فكنا منه في شدة، حتى اتفق في بعض الليالي هبوب رياح قوية، فارتفع المركب وانحط بسبب الموج، وانكسر المنجنيق الذي فيه، بحيث أنه انحطم، ولم ينصب بعد ذلك. وخرج الفرنج في أثناء مدة الحصار بالليل، وكبسوا العسكر، وهزموا اليزكية، واتصلوا إلى الخيام، وتعلقوا بالأطناب، ووقع منهم فارس في جورة مستراح بعض الأمراء فقتل هناك، وتكاثرت عليهم العساكر فولى الفرنج منهزمين إلى البلد، وقتل عسكر حماة عدة منهم، فلما أصبح الصباح، علق الملك المظفر صاحب حماة، عدة من رؤوس الفرنج في رقاب خيلهم التي كسبها العسكر منهم، وأحضر ذلك إلى السلطان الملك الأشرف، واشتدت مضايقة العسكر لعكا حتى فتحها الله تعالى لهم، في يوم المجمعة السابع عشر من جمادى الآخرة بالسيف، ولما هجمها المسلمون، هرب جماعة من أهلها في المراكب، وكان في داخل البلد عدة أبرجة عاصية، بمنزلة قلاع، دخلها عالم عظيم من الفرنج وتحصنوا بها، وقتل المسلمون وغنموا من عكا شيئاً يفوت الحصر من كثرته، ثم استنزل السلطان جميع من عصى بالأبرجة، ولم يتأخر منهم أحد، فأمر بهم فضربت أعناقهم عن آخرهم حول عكا، ثم أمر بمدينة عكا فهدمت إلى الأرض، ودكت دكاً، ومن عجائب الاتفاق. أن الفرنج استولوا على عكا وأخذوها من صلاح الدين، ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة، سنة سبع وثمانين وخمسمائة، واستولوا على من بها من المسلمين، ثم قتلوهم، فقدر الله عز وجل في سابق علمه، أنها تفتح في هذه السنة في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة على يد السلطان الملك الأشرف صلاح الدين، فكان فتوحها مثل اليوم الذي ملكها الفرنج فيه، وكذلك لقب السلطانين. ذكر فتوح عدة حصون ومدن لما فتحت عكا، ألقى الله تعالى الرعب في قلوب الفرنج الذين بساحل الشام، فأخلوا صيدا وبيروت، وتسلمها الشجاعي في أواخر رجب، وكذلك هرب أهل مدينة صور، فأرسل السلطان وتسلمها، ثم تسلم عثليث في مستهل شعبان، ثم تسلم أنطرطرس في خامس شعبان. جميع ذلك في هذه السنة، أعني سنة تسعين وستمائة. واتفق لهذا السلطان من السعادة، ما لم يتفق لغيره، من فتح هذه البلاد العظيمة، الحصينة، بغير قتال ولا تعب، وأمر بها فخربت عن آخرها، وتكاملت بهذه الفتوحات، جميع البلاد الساحلية الإسلامية، وكان أمراً لا يطمع فيه ولا يرام، وتطهر الشام والسواحل من الفرنج، بعد أن كانوا قد أشرفوا على أخذ الديار المصرية، وعلى ملك دمشق، وغيرها من الشام، فلله الحمد والمنة على ذلك، ولما تكاملت هذه

ذكر فتوح قلعة الروم

الفتوحات العظيمة، رحل السلطان الملك الأشرف، ودخل دمشق وأقام مدة، ثم عاد إلى الديار المصرية ودخلها في هذه السنة. وفيها لما كان السلطان محاصر لعكا، سعى علم الدين سنجر الحموي المعروف بأبي خرص، بين السلطان وبين حسام الدين نائب السطنة بدمشق، فخاف حسام الدين لاجين، وقصد أن يهرب، وعلم به السلطان فقبض عليه، وعلى أبي خرص، وقيدهما وأرسلهما فحبسا. وفيها ولى السلطان، علم الدين، سنجر الشجاعي نيابة السلطنة بالشام موضع حسام الدين لاجين. وفيها في ربيع الأول، مات أرغون ملك التتر بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وكانت مدة مملكته نحو سبع سنين، ولما مات، ملك بعده أخوه كيختو بن أبغا، وخلف أرغون ولدين هما فازان، وخربندا، وكانا بخراسان، ولما تولى كيختو أفحش في الفسق واللواط بأبناء المغل، فأبغضوه على ذلك وفسدت نياتهم فيه. وفيها قتل تلابغا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، وقد تقدم ذكر ملكه في سنة ست وثمانين وستمائة، قتله نغية، وجلس بعده في الملك طقطغا بن منكوتمر بن طغان أخو تلابغا المذكور، ورتب نغية إخوة طقطغا معه، وهم برلك، وصراي بغا، وتدان، وفي أوائل هذه السنة، أعني سنة تسعين وستمائة، تكملت عمارة قلعة حلب، وكان قد شرع قراسنقر في عمارتها في أيام السلطان الملك المنصور، فتمت في أيام الملك الأشرف، فكتب عليها اسمه، وكان قد خربها هولاكو لما استولى على حلب في سنة ثمان وخمسين، وستمائة، فكان لبثها على التخريب نحو ثلاث وثلاثين سنة بالتقريب. ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وستمائة. ذكر فتوح قلعة الروم في هذه السنة سار السلطان الملك الأشرف من مصر إلى الشام، وجمع عساكره المصرية والشامية، وسار الملك المظفر محمود، وعمه الملك الأفضل، إلى خدمته، والتقياه بدمشق، وسارا في خدمته وسبقاه إلى حماة، فاهتم الملك المظفر صاحب حماة في أمر الضيافة والإقامة والتقدمة، ووصل السلطان إلى حماة وضرب دهليزه في شماليها، عند ساقية سلمية، ومد له الملك المظفر سماطاً عظيماً بالميدان، ونصب خيماً تليق بنزول السلطان، فنزل السلطان الملك الأشرف بالميدان، وبسط بين يدي فرسه عدة كثيرة من الشقق الفاخرة، ثم دخل السلطان إلى دار الملك المظفر بحماة، فبسط الملك المظفر بين يدي فرسه بسطاً ثانياً، وقعد السلطان بالدار، ثم دخل الحمام، وخرج وجلس على جانب العاصي، ثم راح إلى الطيارة التي على سور باب النقفي، المعروفة بالطيارة الحمراء، فقعد فيها، ثم توجه من حماة، وصاحب حماة وعمه في خدمته إلى المشهد، ثم إلى الحمام والزرقا، بالبرية، فصاد شيئاً كثيراً من الغزلان وحمير الوحش، وأما العساكر فسارت على السكة إلى حلب، ثم وصل السلطان إلى حلب وتوجه منها إلى قلعة

الروم، ونازلها في العشر الأول من جمادى الآخرة من هذه السنة، وهي حصن على جانب الفرات في غاية الحصانة، ونصب عليه المجانيق، وهذا الحصار أيضاً من جملة الحصارات التي شاهدتها، وكانت منزلة الحمويين، على رأس الجبل المطل على القلعة من شرقها، كنا نشاهد أحوال أهلها في مشيهم وسعيهم في القتال وغير ذلك، واشتدت مضايقتها، ودام حصارها، وفتحت بالسيف في يوم السبت حادي عشر رجب، من هذه السنة، وقتل أهلها ونهب ذراريهم، واعتصم كينا غيلو خليفة الأرمن المقيم بها في القلة، وكذلك اجتمع بها من هرب من القلعة، وكان منجنيق الحمويين على رأس جبل المطل على القلة، فتقدم مرسوم السلطان إلى صاحب حماة، أن يرمي عليهم بالمنجنيق، فلما وترناه لنرمي عليهم، طلبوا الأمان من السلطان، فلم يؤمنهم إلا على أرواحهم خاصة، وأن يكونوا أسرى، فأجابوا إلى ذلك، وأخذ كينا غيلوس، وجميع من كان بقلة القلعة، أسرى عن آخرهم، ورتب السلطان علم الدين سنجر الشجاعي لتحصين القلعة، وإصلاح ما خرب منها، وجرد معه لذلك جماعة من العسكر، وأقام الشجاعي وعمرها وحضنها إلى الغاية القصوى، ورجع السلطان إلى حلب، ثم إلى حماة، وقام الملك المظفر بوظائف خدمته، ثم توجه السلطان إلى دمشق، وأعطى الملك المظفر الدستور، فأقام ببلده، وسار السلطان إلى دمشق، وصام بها رمضان وعيد بها، ثم سار إلى الديار المصرية. ذكر غير ذلك من الحوادث فيها هرب حسام الدين لاجين، الذي كان نائباً بالشام، من دمشق، لما وصل السلطان إلى دمشق عائداً من قلعة الروم، وكان حسام الدين المذكور، قد اعتقله السلطان وهو نازل على حصار عكا، ثم أفرج عنه في أوائل هذه السنة، أعني سنة إحدى وتسعين، وسار مع السلطان إلى قلعة الروم، وعاد معه إلى دمشق، فلما وصل إليها، استوحش من السلطان وهرب منه إلى جهة الغرب، فقبضوه وأحضروه إلى السلطان، فبعث به إلى قلعة الجبل بديار مصر، فحبس بها. وفيها استناب السلطان بدمشق، عز الدين أيبك الحموي، وعزل علم الدين سنجر الشجاعي. وفيها عند عود السلطان إلى حلب من قلعة الروم، عزل قراسنقر المنصوري عن نيابة السلطنة بحلب، واستصحبه معه، وولى موضعه على حلب، سيف الدين بلبان، المعروف بالطباخي، وكان المذكور نائباً بالفتوحات، وكان مقامه بحصن الأكراد، فعزله وولاه موضع قراسنقر في نيابة السلطنة بحلب، وولى الفتوحات والحصون طغريل الإيغاني، موضع الطباخي، ثم عزله بعد مدة وولى موضعه عز الدين أيبك الخزندار المنصوري. وفيها بعد وصول السلطان إلى مصر، قبض على شمس الدين سنقر الأشقر، وجرمك، وكان قد قبض على طقصو، بدمشق، وكان آخر العهد بهم. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وستمائة.

ذكر إحضار صاحب حماة البريد إلى مصر وعمه علي، البريد إلى مصر ثم مسيرهما من مصر مع السلطان الملك الأشرف إلى

ذكر إحضار صاحب حماة البريد إلى مصر وعمه علي، البريد إلى مصر ثم مسيرهما من مصر مع السلطان الملك الأشرف إلى الشام، والقبض على أولاد عيسى: وفي هذه السنة في جمادى الأولى، أرسل السلطان الملك الأشرف، وأحضر الملك المظفر محمود صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل علي، على البريد إلى الديار المصرية، فتوجها من حماة وعندهما الخوف، بسبب طلبهما على البريد، ووصلا إلى قلعة الجبل في اليوم الثامن من خروجهما من حماة، فحال وصولهما، شملتهما صدقات السلطان، وأمر بهما فأدخلا الحمام بقلعة الجبل،، وأنعم عليهما بملبوس يليق بهما، وأقاما في الخدمة أياماً. ثم خرج السلطان على الهجن إلى جهة الكرك، وسارت العساكر على الطريق إلى دمشق، وأركب صاحب حماة وعمه الهجن صحجته، لأنهما حضرا إلى مصر على البريد، ولم يكن معهما خيل ولا غلمان، فرسم السلطان لهما ما يليق بهما من الهجن والغلمان، ورتب لهما المأكول والمشروب وما يحتاجان إليه، وسارا في خدمته إلى الكرك، ولاقتهما تقادمهما إلى بركة زيزا، فقدماها، وقبلها السلطان، وأنعم عليهما، وسار السلطان ودخل دمشق. ثم سار السلطان من دمشق على البرية متصيداً، ووصل إلى الفرقلس، وهو جفار في طرف بلد حمص من الشرق، ونزل عليه وحضر إلى الخدمة هناك مهنا بن عيسى أمير العرب، وأخواه محمد، وفضل، وولده موسى بن مهنا، فقبض السلطان على الجميع وأرسلهم إلى مصر، فحبسوا في قلعة الجبل، ووصل السلطان إلى القصب، وأعطى صاحب حماة الدستور، فحضر إلى بلده، وأما عمه الملك الأفضل، فإنه كان قد حصل له تشويش، لما كان السلطان بحنيجل وما حواليها، فأعطاه السلطان الدستور، وأرسل والدي الملك الأفضل المذكور تقدمة ثانية معي إلى السلطان، ولم يقدر والدي على الحضور بسبب مرضه، فأحضرت التقدمة إلى السلطان الملك الأشرف، وهو نازل على القصب، فقبلها وارتحل وعاد إلى مصر، فوصل إليها في رجب من هذه السنة. ذكر مسير العساكر إلى حلب وفى هذه السنة بعد وصول السلطان إلى مصر، كان قد أخر بعض العسكر المصري على حمص، فتقدم إليهم وإلى صاحب حماة وعمه الملك الأفضل بالمسير إلى حلب، والمقام بها، لما في ذلك من إرهاب العدو، فسارت العساكر إليها، وخرج الملك المظفر محمود صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل، معهم، من حماة، يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان هذه السنة، ودخلوا حلب يوم الثلاثاء التاسع من سلخ شعبان إلى أوائل ذي القعدة، دخل تشرين، وآن وقت الصيد، وصل مرسوم.

ذكر مسير الملك الأفضل إلى دمشق ووفاته بها

ذكر مسير الملك الأفضل إلى دمشق ووفاته بها وفي هذه السنة في ذي القعدة، سار والدي الملك الأفضل، نور الدين علي ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب، من حلب إلى دمشق، وتوفي بها في أوائل ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة اثنتين وتسعين وستمائة، وكان مولده في أواخر سنة خمس وثلاثين وستمائة. وكان سبب مسير الملك الأفضل إلى دمشق، أنه لما كان هو والملك المظفر في صحبة السلطان، لما سار من مصر إلى الكرك في أوائل هذه السنة، حسبما ذكرناه، صار السلطان ينفرد للصيد بفهوده، ولا يستصحب معه إلا بعض من يختاره من الخاصكية، ووالدي الملك الأفضل المذكور خاصة، دون ابن أخيه صاحب حماة، وأعجب السلطان حديث الملك الأفضل المذكور، وخبرته بأمر الفهود والصيد، فقال السلطان في تلك الأيام للملك الأفضل المذكور: يا علاء الدين، ما تحضر إلى ديار مصر في أيام الصيد، لتكون معي في صيودي، فقد حصل الأنس بك، فقبل الملك الأفضل الأرض، ودعى للسلطان على تأهيله لذلك، فلما سار الملك المظفر محمود صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل إلى حلب، وأقاما بها، من سلخ شعبان إلى أوائل ذي القعدة، ودخل تشرين، وآن وقت الصيد، وصل مرسوم السلطان إلى والدي الملك الأفضل يطلبه إلى الأبواب الشريفة بالديار المصرية، فسار الملك الأفضل من حلب في ذي القعدة، ولم يستصحب أحداً من أولاده معه، وكنا ثلاثة مجردين مع ابن عمنا الملك المظفر صاحب حماة، وتوجه والدنا بمفرده، فمرض في أثناء الطريق، ووصل إلى دمشق وقد اشتد به المرض، وفصد، فضعفت قوته، واشتد المرض به حتى توفي، ونقل إلى حماة ودفن بها، ووصلنا الخبر ونحن بحلب، فعملنا عزاه، واشتمل الملك المظفر علينا، وأحسن إلينا. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أفرج السلطان الملك الأشرف، عن بدر الدين البيسري، وكان له في الاعتقال نحو ثلاث عشرة سنة. وفيها أفرج عن حسام الدين لاجين المنصوري، الذي كان نائباً بالشام. وفيها أعطيت العساكر الدستور، فعدنا إلى حماة، وأعطاني الملك المظفر ابن عمي إمرة طبلخاناه، وأربعين فارساً. ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وستمائة. ذكر مقتل السلطان الملك الأشرف وفي هذه السنة، في أوائل المحرم، قتل السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، وسبب ذلك: أنه سار من قلعة الجبل إلى الصيد، ووصل إلى تروجة ونصب الدهليز عليها، وركب في نفر يسير من خواصه

ذكر مقتل بيدرا

للصيد، فقصده مماليك والده، وهم: بيدرا نائب السلطنة، ولاجين الذي كان عزله السلطان عن نيابة السلطنة بدمشق، واعتقله مرة بعد أخرى، وقراسنقر الذي عزله عن نيابة السلطنة بحلب، وانضم إليهم بهادر، رأس النوبة، وجماعة من الأمراء، ولما قاربوا السلطان، أرسل إليهم أميراً يقال له كرت، أمير أخور، ليكشف خبرهم، فحال وصوله إليهم أمسكوه ولم يمكنوه من العود إلى السلطان، وقاربوا السلطان، وكان بينهم مخاضة، فخاضوها ووصلوا إليه، فأول من ضربه بالسيف بيدرا، ثم لاجين، حتى فارق، وتركوه مرمياً على الأرض، فحمله أيدمر الفخري والي تروجة إلى القاص، فدفن في تربته، رحمه الله تعالى، ولا جرم، إن الله تعالى انتقم من قاتليه المذكورين معجلاً ومؤجلاً، على ما سنذكره. ذكر مقتل بيدرا ولما قتل السلطان على ما ذكرناه، اتفق الجماعة الذين قتلوه على سلطنة بيدرا، وتلقب بالملك القاهر، وسار نحو قلعة الجبل ليملكها، واجتمعت مماليك السلطان الملك الأشرف وانضموا إلى زين الدين كتبغا المنصوري، وساروا في إثر بيدرا ومن معه، فلحقوهم على الطرانة في خامس عشر المحرم من هذه السنة، واقتتلوا، وانهزم بيدرا وأصحابه وتفرقوا في الأقطار، وتبعوا بيدرا وقتلوه، ورفعوا رأسه على رمح، واستتر لاجين، وقرا سنقر، ولم يطلع لهما على خبر. ذكر سلطنة مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر ولما جرى ما جرى من قتل السلطان الملك الأشرف، ثم قتل بيدرا، ووصول زين الدين كتبغا والمماليك والسلطانية إلى قلعة الجبل، وبها علم الدين سنجر الشجاعي نائباً، اتفقوا على سلطنة مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر ولد مولانا السلطان الملك المنصور، فأجلسوه على سرير السلطنة في باقي العشر الأوسط من المحرم من هذه السنة، وتقرر أن يكون الأمير زين الدين كتبغا المنصوري نائب السلطنة، وعلم الدين سنجر الشجاعي وزيراً، وركن الدين بيبرس البرجي الجاشنكير أستاذ الدار، وتتبعوا الأمراء الذين اتفقوا مع بيدرا على ذلك، فظفروا أولاً ببهادر رأس النوبة، وأقوش الموصلي الحاجب، فضربت رقابهما، وأحرقت جثثهما، ثم ظفروا بطرنطاي الساقي، والناق ونغية، وأروس السلحدارية، ومحمد خواجا، والطنبغا الجمدار، وأقسنقر الحسامي، فاعتقلوا بخزانة البنود أياماً، ثم قطعت أيديهم وأرجلهم، وصلبوا على الجمال، وطيف بهم، وأيديهم معلقة في أعناقهم جزاء بما كسبوا، ثم وقع قجقار الساقي فشنق.

ذكر القبض على الوزير ابن السلعوس وقتله

ذكر القبض على الوزير ابن السلعوس وقتله وفي هذه السنة اتفق زين الدين كتبغا والشجاعي، على القبض على شمس الدين محمد بن السلعوس وزير السلطان الملك الأشرف، فقبضا عليه، وتولاه الشجاعي فعاقبه واستصفى ماله وقتله، وكان ابن السلعوس المذكور، قد بلغ عند السلطان منزلة عظيمة، وتمكن في الدولة، وصارت الأمور كلها معذوقة به، وكان لابن السلعوس المذكور أقارب وأهل بدمشق، فلما صار في هذه المنزلة، أرسل وأحضر أقاربه من دمشق إلى عنده بالديار المصرية، فحضروا إلا شخصاً منهم، فإنه استمر مقيماً بدمشق، وكتب إلى ابن السلعوس: تنبه يا وزير الأرض واعلم ... بأنك قد وطئت على الأفاعي وكن بالله معتصماً فإني ... أخاف عليك من نهش الشجاعي ذكر قتل الشجاعي وفي صفر من هذه السنة، حصلت الوحشة بين الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة، وبين علم الدين سنجر الشجاعي الوزير، وصار مع كل منهما جماعة من الأمراء، ولما جرى ذلك، نزل كتبغا ومن معه من القلعة، واستمر الشجاعي وأصحابه بها، وحصره كتبغا، وغلب عليه، وقتل الشجاعي المذكور وقطع رأسه، وطيف به في البلد. وفيها ظهر حسام الدين لاجين، وشمس الدين قراسنقر من الاستتار، وأخذ لهما خوشداشهما، الأمير زين الدين كتبغا، الأمان من السلطان، وقرر لهما الإقطاعات الجليلة، وأعز جانبهما. ثم دخلت سنة أربع وتسعين وستمائة. ذكر استيلاء زين الدين كتبغا على المملكة في هذه السنة في يوم الأربعاء تاسع المحرم، جلس الأمير زين الدين كتبغا المنصوري على سرير المملكة، ولقب نفسه الملك العادل زين الدين كتبغا، واستحلف الناس على ذلك، وخطب له بمصر والشام، ونقشت السكة باسمه، وجعل مولانا السلطان الملك الناصر في قاعة بقلعة الجبل، وحجب عنه الناس، ولما تملك زين الدين كتبغا المذكور، جعل نائبه في السلطنة، حسام الدين لاجين، الذي كان مستتراً بسبب قتل السلطان الملك الأشرف، على ما تقدم ذكره، واستقر الحال على ذلك. ذكر قتل كيختو ملك التتر وملك بيدو في هذه السنة، في ربيع الآخر، قتل كيختو بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان. وسبب ذلك: أنه لما أفحش كيختو المذكور بالفسق في أبناء المغل، وشكوا ذلك إلى ابن عمه بيدو بن طرغية بن هولاكو، فاتفق معهم على قتل كيختو المذكور،

ذكر مقتل بيدو وتملك قازان

وقصدوا كبسه وقتله، فعلم كيختو وهرب، فتبعوه ولحقوه بسلاسلار، من أعمال موغان، وقتلوه بها، في الشهر المذكور، ولما قتل كيختو، ملك بعده ابن عمه بيدو بن طرغية بن هولاكو المذكور، وجلس على سرير الملك في جمادى الأولى من هذه السنة. وكان قازان بخراسان، فلما بلغه ملك بيدو، جمع من أطاعه من المغل وأهل تلك البلاد، وسار إلى قتال بيدو، ولما بلغ بيدو مسير قازان إليه، جمع وسار إلى جهة قازان، وكان مع قازان أتابكه نيروز، وهو الذي جمع الناس على طاعة قازان، فلما تقارب الجمعان، علم قازان أنه لا طاقة له ببيدو، فراسله واصطلحا، وعاد قازان إلى خراسان، وأمر بيدو أن يقيم نيروز عنده، خوفاً من أن يجمع العسكر على قازان مره ثانية، فرجع قازان إلى خراسان، وأقام نيروز عند بيدو، وأخذ نيروز في استمالة المغل إلى قازان، وإفسادهم على بيدو في الباطن. ذكر مقتل بيدو وتملك قازان ولما استوثق نيروز من المغل في الباطن، كتب إلى قازان بخراسان وأمره بالحركة، فتحرك قازان، وبلغ بيدو ذلك، فتحدث مع نيروز في ذلك فقال نيروز لبيدو: أرسلني إلى قازان لأفرق جمعه، وأرسله إليك مربوطاً، فاستحلف بيدو نيروز على ذلك وأرسله، فسار نيروز إلى قازان وأعلمه بمن معه من المغل، وعمد نيروز إلى قدر، فوضعها في جولق وربطه، وأرسل بذلك إلى بيدو وقال: وفيت بيميني، حيث ربطت قازان وبعثته إليك، وقازان اسم القدر بالتتري، فلما بلغ بيدو دلك، جمع عساكره وسار إلى جهة قازان، والتقى الجمعان بنواحي همذان، فخامر أصحاب بيدو عليه وصاروا مع قازان، فولى بيدو هارباً، وتبعه عسكر قازان فأدركوه عن قريب بنواحي همذان، وقتلوه في ذي الحجة من هذه السنة، فكانت مدة مملكة بيدو نحو ثمانية أشهر، ولما قتل استقر قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان في المملكة، في ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة أربع وتسعين وستمائة، بعد مقتل بيدو، ولما استقر قازان في المملكة، جعل نيروز نائب مملكته، ورتب أخاه خربندا بن أرغون بخراسان. ذكر أخبار ملوك اليمن ووفاة صاحبها وفي هذه السنة، توفي صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور عمر بن علي بن رسول، بقلعة تعز، وقد تقدم ذكر ملكه اليمن بعد قتل أبيه في سنة ثمان وأربعين وستمائة، فكانت مدة ملكه نحو سبع وأربعين سنة، وخلف عدة من الأولاد الذكور، فملك بعده ولده الأكبر، الملك الأشرف عمر بن يرسف، وكان أخو عمر المذكور، الملك المؤيد داود، بالشحر، عند موت والده، لأن أباه كان قد أعطى داود المذكور الشحر، وأبعده إليها، فلما مات والده وملك آخره الملك الأشرف، تحرك

الملك المؤيد داود المذكور وسار إلى عدن واستولى عليها، فأرسل أخوه الملك الأشرف عسكراً واقتتلوا مع الملك المؤيد داود المذكور، فانتصروا عليه وأخذوه أسيراً وأحضروه إلى الملك الأشرف، فقيده واعتقله، وكان عمر الملك الأشرف لما تملك نحو سبعين سنة، وأقام في الملك عشرين شهراً، وتوفي والملك المؤيد داود في الاعتقال مقيداً، فاتفق كبراء الدولة في ذلك الوقت، وأخرجوه من الحبس، وملكوا الملك المؤيد داود بن يوسف المذكور، واستمر مالكاً لليمن إلى يومنا هذا، وهو سنة ثمان عشرة وسبعمائة. ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة أرسل الملك العادل زين الدين كتبغا، وقبض على خشداشه عز الدين أيبك الخزندار، وعزله عن الحصون والسواحل بالشام، ثم أفرج عنه واستناب موضعه عز الدين أيبك الموصلي. وفيها قصر النيل تقصيراً عظيماً، وتبعه غلاء، وأعقبه وباء وفناء عظيم. وفيها في أوائل هذه السنة، لما جلس في السلطنة زين الدين كتبغا، أفرج عن مهنا بن عيسى وإخوته، وأعادهم إلى منزلتهم. ثم دخلت سنة خمس وتسعين وستمائة. في هذه السنة قدم من التتر نحو عشرة آلاف إنسان وافد ين إلى الإسلام، خوفاً من قازان، وكان مقدمهم يقال له طرغيه، من أكبر أمراء المغل، كان مزوجاً ببنت منكوتمر بن هولاكو، الذي انكسر جيشه على حمص، ويقال لهذه الطائفة الوافدين العويراتية، وكان سبب قدومهم أن مقدمهم طرغية، هو الذي اتفق مع بيدو على قتل كيختو بن أبغا، فلما ملك قازان، قصد الإمساك على طرغيه وقتله، أخذا بثأر عمه كيختو، فهرب طرغيه وجماعته المذكورون بسبب ذلك، ولما قدموا إلى الإسلام، أرسل الملك العادل كتبغا أميراً لمقالهم، وأكرمهم وأنزلهم بالساحل قريب قاقون، وأدر عليهم الأرزاق، وأحضر كبراءهم عنده إلى الديار المصرية، وأعطاهم الإقطاعات الجليلة، وواصلهم بالخلع، وقدمهم على غيرهم. وفيها في شوال، خرج الملك العادل كتبغا من الديار المصرية وسار إلى الشام، ووصل إلى دمشق، وحضر إليه بدمشق الملك المظفر محمود صاحب حماة، حماة ثم سار الملك العادل من دمشق إلى جهة حمص، وسار على البرية متصيداً، ووصل إلى حمص، وقدم إلى جوسية، وهي قرية على درب بعلبك من حمص، وكانت خراباً، فاشتراها وعمرها، فوصل إليها ورآها، ثم عاد إلى، دمشق وأعطى صاحب حماة الدستور، فعاد إلى بلده، ولما استقر العادل بدمشق، عزل عز الدين أيبك الحموي عن نيابة السلطنة بالشام، وولى موضعه، سيف الدين غرلو مملوك الملك العادل كتبغا المذكور، وخرجت هذه السنة والملك العادل بدمشق. ثم دخلت سنة ست وتسعين وستمائة.

ذكر مسير العادل كتبغا من دمشق وخلعه واستيلاء لاجين على السلطنة:

ذكر مسير العادل كتبغا من دمشق وخلعه واستيلاء لاجين على السلطنة: لما دخلت هذه السنة، سار العادل كتبغا المنصور في أوائل المحرم من دمشق بالعساكر متوجهاً إلى مصر، فلما وصل إلى نهر العوجا واستقر بدهليزه، وتفرقت مماليكه وغيرهم إلى خيامهم، ركب حسام الدين لاجين المنصوري، نائب الملك العادل كتبغا المذكور، بسنجق ونقاره، وانضم إلى لاجين المذكور، بدر الدين البيسري، وقراسنقر المنصوري، وسيف الدين قبجاق المنصوري والحاج بهادر الظاهري، وغيرهم من الأمراء المتفقين مع حسام الدين لاجين، وقصدوا الملك العادل وبغتوه عند الظهر في دهليزه بالمنزلة المذكورة، فلم يلحق أن يجمع أصحابه، ركب في نفر قليل، فحمل عليه نائبه لاجين المذكور، وقتل بكتوت الأزرق، وبتخاص، وكانا أكبر مماليك العادل، فولى العادل كتبغا المذكور هارباً راجعاً إلى دمشق، لأنه فيها مملوكه غرلو، ووصل إلى دمشق، فركب مملوكه غرلو والتقاه، دخل إلى قلعة دمشق، واهتم في جمع العسكر والتأهب لقتال لاجين، فلم يوافقه عسكر دمشق، وأرسل إلى حسام الدين لاجين يطلب منه الأمان وموضعاً يأوي إليه، فأعطاه صرخد، فسار العادل كتبغا المذكور إليها واستقر فيها إلى أن كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وأما حسام الدين لاجين، فإنه لما هزم العادل كتبغا على ما ذكرناه، نزل بدهليزه على نهر العوجا، واجتمع معه الأمراء الذين وافقوه على ذلك، وشرطوا عليه شروطاً فالتزمها، منها: أن لا ينفرد عنهم برأي، ولا يسلط مماليكه عليهم كما فعل بهم كتبغا، فأجابهم لاجين إلى ذلك وحلف لهم عليه، فعند ذلك حلفوا له وبايعوه بالسلطنة، ولقب بالملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري، وذلك في شهر المحرم من هذه السنة، أعني سنة ست وتسعين وستمائة، ثم رحل بالعساكر إلى الديار المصرية، ووصل إليها واستقر بقلعة الجبل. ولما استقر بمصر، أعطى للعادل كتبغا صرخد، وأرسل إلى دمشق سيف الدين قبجق المنصوري، وجعله نائب السلطنة بالشام. ذكر غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة أرسل حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور، مولانا السلطان الملك الناصر، من القاعة التي كان فيها بقلعة الجبل، إلى الكرك، وسار معه سلار، فأوصله إليها، ثم عاد سلار إلى حسام الدين لاجين. وفيها أفرج الملك المنصور لاجين عن بيبرس الجاشنكير، وعن عدة أمراء كان العادل كتبغا قد قبض عليهم وسجنهم في أيام سلطنته. وفيها أعطى المنصور لاجين المذكور جماعة من مماليكه إمرة طبلخاناه، مثل منكوتمر، وأيد غدي شقير، وبهادر المعزي وغيرهم. ثم دخلت سنة سبع وتسعين وستمائة.

ذكر تجريد العساكر إلى حلب ودخولهم إلى بلاد سيس وعودهم إلى حلب، ثم دخلولهم ثانيا، وما فتحوه:

ذكر تجريد العساكر إلى حلب ودخولهم إلى بلاد سيس وعودهم إلى حلب، ثم دخلولهم ثانياً، وما فتحوه: في هذه السنة جرد حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور، جيشاً كثيفاً من الديار المصرية مع بدر الدين بكناش الفخري، المعروف بأمير سلاح، ومع علم الدين سنجر الدواداري، ومع شمس الدين كريته، ومع حسام الدين لاجين الرومي، المعروف بالحسام، أستاذ دار. فساروا إلى الشام، ورسم لاجين المذكور بمسير عساكر الشام، فسار البكي الظاهري نائب السلطنة بصفد، ثم بعد مدة سار سيف الدين قبجق نائب للسلطنة بالشام، وأقام قبجق ببعض العسكر بحمص، وسارت العساكر إلى حلب، وسار الملك المظفر محمود صاحب حماة بعسكره، ووصل المذكورون إلى حلب يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، وسابع نيسان، ثم ساروا إلى بلاد سيس، فعبر صاحب حماة، والدواداري، ومن معهما من العساكر، من دربندمري، وعبر باقي العساكر من جهة بغراس، من باب إسكندرونة، واجتمعوا على نهر جيحان، وشنوا الغارات على بلاد سيس في العشر الأوسط من رجب، وكسبوا وغنموا، وعادوا فخرجوا من دربند بغراس إلى مرج أنطاكية، في الحادي والعشرين من رجب من هذه السنة، الموافق لرابع أيار. وسار صاحب حماة الملك المظفر إلى جهة حماة حتى وصل إلى قصطون، فورد مرسوم لاجين بعود العساكر، واجتماعهم بحلب، ودخلوهم إلى بلاد سيس ثانياً. وهذه الغزوة من الغزوات التي حضرتها وشاهدتها من أولها إلى آخرها، فعدنا إلى حلب ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من رجب، وأقمنا، ثم رحلنا من حلب ثالث رمضان إلى بلاد سيس، ودخلنا من باب إسكندرونة، نزلنا على حموص يوم الجمعة تاسع رمضان من هذه السنة، الموافق للعشرين من حزيران، وأقام حموص، بدر الدين بكناش أمير سلاح، والملك المظفر صاحب حماة، ومن انضم إليهما من عسكر دمشق، مثل ركن الدين بيبرس العجمي، المعروف بالجالق، ومضافيه من عسكر دمشق، وحاصرنا حموص وضايقناها، وأما باقي العسكر فإنهم نزلوا أسفل من حموص، في الوطاة، واستمر الحال على ذلك، وقل الماء في حموص واشتد بهم العطش، وكان قد اجتمع فيها من الأرمن عالم عظيم ليعتصموا بها، وكذلك اجتمع فيها من الدواب شيء كثير، فهلك غالبهم بالعطش، ولما اشتد بهم الحال وهلكت النساء والأطفال، أخرج أهل حموص في الخامس والعشرين من رمضان، وهو سابع عشر يوماً من نزولنا عليها، من نسائهم نحو ألف ومائتين من النساء والصبيان، فتقاسمهم العسكر وغنموهم، فكان قسمي جاريتين ومملوكاً، وأصابنا ونحن نازلون على حموص في العشر الأوسط من شهر تموز، ضباب قوي، ومطر، وحصل للملك المظفر وهو

ذكر فتح حموص وغيرها من قلاع بلاد الأرمن

نازل على حموص قليل مرض، ولم يكن صحبته طبيبه، فاقتصر على ما كنت أصفه له وأعالجه به، فشفاه الله تعالى وعاد إلى العافية، وأنعم علي وأحسن إلي على جاري عادته، وكانت خيمته المنصوبة على حموص، خيمة ظاهرها أحمر، قد عملها من أكسية مغربية، وداخلهما منقوش بالخام الرفيع المصبغ، وكانت الأمراء الذين لم ينازلوا حموص، وهم مقيمون في الوطاة، إذا عرض لهم ما يقتضى المشاورة، يطلعون إلى الجبل ويجتمعون في خيمة الملك المظفر، وبين يديه يتشاورون على ما فيه المصلحة، واستمر الحال على ذلك إلى أن فتح حموص وغيرها على ما سنذكره. ذكر فتح حموص وغيرها من قلاع بلاد الأرمن ولما كان فتوح ذلك متوقفاً على ملك دندين بن ليفون، احتجنا نذكر كيفية ملكه بلاد الأرمن، وتسليمه البلاد إلى المسلمين، فنقول: إنه تقدم في سنة أربع وستين وستمائة أسر ليفون بن هيتوم، لما دخلت العسكر صحبة الملك المنصور صاحب حماة، في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي، وتقدم كيفية خلاص ليفون، وما افتداه أبوه هيتوم به حتى عاد إلى أبيه صاحب سيس، ثم إن ليفون المذكور ملك بعد موت أبيه هيتوم، وبقي في الملك مدة، ثم مات ليفون المذكور، وخلف عدة من الأولاد الذكور، أكبرهم هيتوم، ثم تروس، ثم سنباط، ثم دندين، ثم أوشين. فلما مات ليفون، ملك بعده ابنه الأكبر هيتوم بن ليفون بن هيتوم، وبقي في الملك مدة، فجمع أخوه سنباط جماعة ووثب على أخيه هيتوم المذكور، وقبض عليه وسمله، فعميت عين هيتوم الواحدة وسلمت له الأخرى، واستمر في الحبس. وكذلك قبض سنباط المذكور على أخيه تروس ثم قتله، وخلف تروس المذكور ولداً صغيراً، واستقر سنباط المذكور في الملك، واتفق دخول العساكر إلى بلاد سيس ومنازلة حموص في أيام مملكة سنباط، فضاقت على الأرمن البلاد بما رحبت، وهلكوا من كثرة ما قتل وغنم منهم المسلمون، فنسبوا ذلك إلى سوء تدبير سنباط وعدم مصانعته للمسلمين، فكرهوه واتفقوا على إقامة أخيه دندين بن ليفون في المملكة، والقبض على سنباط، واجتمع الأرمن على دندين، فأحس سنباط بذلك فهرب إلى جهة قسطنطينية، وتملك دندين، ويقال له كسيندين أيضاً. فلما تملك دندين المذكور، أرسل إلى العساكر المقيمة في بلاد سيس على حموص وعلى غيرها، وبذل لهم الطاعة والإجابة إلى ما يرسم به سلطان الإسلام، وأنه نائب السلطان بهذه البلاد، فطلب منه العسكر أن يكون نهر جيحان حداً بين المسلمين والأرمن، وأن تسلم كل ما هو جنوبي نهر جيحان من الحصون والبلاد، فأجاب دندين المذكور، إلى ذلك، وسلم جميع البلاد التي جنوبي نهر جيحان المذكور إلى المسلمين، فمنها: حموص، وتل حمدون، وكويرا، والنفير،

وحجر شغلان، وسرفندكار، ومرعش، وهذه جميعها حصون منيعة ما ترام، وكذلك سلم غيرها من البلاد، وكان تسليم حموص يوم الجمعة تاسع عشر شوال من هذه السنة، أعني سنة سبع وتسعين وستمائة، ووافق ذلك ثامن شهر آب، وسلمت تل حمدون بعدها، ثم سلمت باقي الحصون والبلاد المذكورة. وأمر حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور باستمرار عمارة هذه البلاد، وكان ذاك رأياً فاسداً، على ما سيظهر من عود هذه البلاد إلى الأرمن، عند دخول قازان البلاد، ولما استقرت هذه البلاد للمسلمين، جعل فيها حسام الدين لاجين بعض الأمراء نائباً، ثم عزله وولى عليها سيف الدين أسندمر نائباً، وجرد معه عسكراً، وكان مقام أسندمر المذكور بتل حمدون، وبعد تسليم تل حمدون رحل الملك المظفر محمود صاحب حماة عنها، مستهل ذي القعدة من هذه السنة، وسارت العساكر وخرجت من الدربند، وسرنا جميعاً ودخلنا حلب يوم الإثنين تاسع ذي القعدة، الموافق لعاشر آب عن هذه السنة، أعني سنة سبع وتسعين وستمائة. فلما أقمنا بحلب، ورد مرسوم حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور، إلى سيف الدين بلبان الطباخي، بالقبض على جماعة من الأمراء المجردين مع العسكر، فعلموا بذلك، وكان قبجق مقيماً بحمص، مستشعراً خائفاً من لاجين المذكور، فهرب من حلب فارس الدين البكي نائب السلطنة بصفد، وكان من جملة العسكر المجردين على حلب. وكذلك هرب بكتمر السلحدار، وبورلار، وعزاز، ووصلوا إلى حمص، واتفقوا مع سيف الدين قبجق على العصيان. ذكر غير ذلك من الحوادث في أوائل هذه السنة، قبل تجريد العساكر إلى سيس، قبض حسام الدين لاجين على نائبه في السلطنة شمس الدين قراسنقر واعتقله، وولى نيابة السلطنة مملوكه منكوتمر الحسامي، فأظهر منكوتمر المذكور من الحماقة والكبرياء ما غير به خواطر العسكر عليه، وعلى أستاذه، وكذلك قبض لاجين المذكور على بدر الدين البيسري، وعلى عز الدين أيبك الحموي، وعلى الحاج بهادر أمير حاجب، وغيرهم من الأمراء. وفيها أوقع قازان ملك التتر بأتابكه نيروز وقتله، لأنه نسبه إلى مكاتبة المسلمين، ورتب موضع نيروز قطلوشاه. وفيها وفد سلامش، وهو مقدم ثمان من المغل، وكان ببلاد الروم، وبلغه أن قازان يريد قتله، فهرب وقدم على الملك المنصور حسام الدين لاجين، فأكرمه، فطلب سلامش نجدة من الملك المنصور لاجين ليعود إلى الروم، طمعاً في اجتماع أهل الروم عليه، فجرد معه من حلب عسكراً مقدمهم سيف الدين بكتمر الجلمي، وساروا مع سلامش حتى تجاوزوا بلد سيس، فخرجت عليهم التتر واقتتلوا معهم، فقتل الجلمي وجماعة من العسكر الإسلامي، وهرب الباقون، وأما سلامش فهرب إلى قلعة من بلاد الروم واعتصم بها، ثم أرسل إليه قازان

واستنزله وحصر سلامش، وقتله شر قتله. وفيها اجتمع رأي حسام الدين لاجين، ونائبه منكوتمر، على روك الإقطاعات بالديار المصرية، فريكت جميع البلاد المصرية، وكتب بما استقر عليه الحال مثالات، وفرقت على أربابها فقبلوها طوعاً أو كرهاً. وفيها توفي عز الدين أيبك الموصلي نائب الفتوحات وغيرها، وولى موضعه سيف الدين كرد أمير أخور. وفيها في أواخر ذي القعدة من هذه السنة، هرب قبجق، والبكي، وبكتمر السلحدار، ومن انضم إليهم من حمص، وساق خلفهم أيدغدي شقير مملوك حسام الدين لاجين من حلب، مع جماعة من العسكر المجردين، ليقطعوا عليهم الطريق. ففاتهم قبجق ومن معه وعبروا الفرات، واتصلوا بقازان ملك التتر، فأحسن إليهم وأقاموا عنده حتى كان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها في أواخر ذي القعدة، وصل من حسام الدين لاجين دستوراً للملك المظفر صاحب حماة بالحضور من حلب إلى حماة، فسار الملك المظفر ووصل إلى حماة، واستمرت العساكر مقيمين بحلب إلى أن خرجت هذه السنة. وفي الثامن والعشرين من شوال هذه السنة، أعني سنة سبع وتسعين وستمائة، توفي الشيخ العلامة جمال الدين محمد بن سالم بن واصل، قاضي القضاة الشافعي بحماة المحروسة، وكان مولده في سنة أربع وستمائة. وكان فاضلاً إماماً مبرزاً في علوم كثيرة، مثل المنطق والهندسة وأصول الدين والفقه والهيئة والتاريخ، وله مصنفات حسنة منها: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، ومنها الأنبروزية في المنطق، صنفها للأنبروز ملك الفرنج صاحب صقلية، لما توجه القاضي جمال الدين المذكور رسولاً إليه في أيام الملك الظاهر بيبرس الصالحي، واختصر الأغاني اختصاراً حسناً، وله غير ذلك من المصنفات. ولقد ترددت إليه بحماة مراراً كثيرة، وكنت أعرض عليه ما أحله من أشكال كتاب إقليدس، وأستفيد منه، وكذلك قرأت عليه شرحه لمنظومة ابن الحاجب في العروض، فإن جمال الدين صنف لهذه المنظومة شرحاً حسناً مطولاً، فقرأته عليه، وصحت أسماء من له ترجمة في كتاب الأغاني، فرحمه الله ورضي الله عنه. وكان توجه إلى الإمبراطور رسولاً من جهة الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر والشام، في سنة تسع وخمسين وستمائة، ومعنى الإمبراطور بالإفرنجية، ملك الأمراء، ومملكته جزيرة صقلية، ومن البر الطويل بلاد أنبولية والأنبردية، قال جمال الدين: ووالد الإمبراطور الذي رأيته، كان يسمى فردريك، وكان مصافياً للسلطان الملك الكامل، ثم مات فردريك المذكور في سنة ثمان وأربعين وستمائة. وملك صقلية وغيرها من البر الطويل بعده، ولده كرا بن فردريك، ثبم مات كرا، وملك بعده أخوه منفريد بن فردريك، وكل من ملك منهم يسمى إمبراطور، وكان الإمبراطور من بين ملوك الفرنج مصافياً للمسلمين، ويحب العلوم. قال: فلما وصلت إلى الإمبراطور منفريد المذكور أكرمني، وأقمت عنده في مدينة من

ذكر قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين صاحب مصر والشام:

مدائن البر الطويل المتصل بالأندلس، من مدائن أنبولية، واجتمعت به مراراً، ووجدته متميزاً ومحباً للعلوم العقلية، يحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس. قال: وبالقرب من البلد الذي كنت فيه، مدينة تسمى لوجاره، أهلها كلهم مسلمون من أهل جزيرة صقلية، يقام فيها الجمعة، ويعلن بشعار الإسلام. قال: ووجدت أكبر أصحاب الإمبراطور منفريد المذكور مسلمين، ويعلن في معسكره بالأذان والصلاة، وبين البلد الذي كنت فيه وبين رومية مسيرة خمسة أيام. قال: وبعد توجهي من عند الإمبراطور اتفق البابا خليفة الفرنج، وريدافرنس، على قصد الإمبراطور وقتاله، وكان البابا قد حرمه كل ذلك، بسبب ميل الإمبراطور المذكور إلى المسلمين، وكذلك كان أخوه كرا، ووالده فردريك محرمين من جهة البابا برومية، لميلهم إلى الإسلام. قال: ولقد حكى لي لما كنت عنده، أن مرتبة الإمبراطور كانت قبل فردريك لوالده، ولما مات والد فردريك المذكور، كان فردريك شاباً، أول ما ترعرع، وأنه طمع في الإمبراطورية جماعة من ملوك الفرنج، وكل منهم رجا أن يفوضها البابا إليه، وكان فردريك شاباً ماكراً، وجنسه من الألمانية، فاجتمع بكل واحد من الملوك الذين قد طمعوا في أخذ الإمبراطورية بانفراده. وقال له: إني لا أصلح لهذه المرتبة، وليس لي فيها غرض، فإذا اجتمعنا عند البابا، فقل ينبغي أن يتقلد الحديث في هذا الأمر ابن الإمبراطور المتوفي، ومن رضي بتقليده الإمبراطورية، فأنا راض به، فإن البابا إذا د الاختيار إلي في ذلك، اخترتك، ولا أختار غيرك، وقصدي الانتماء إليك. ولما قال هذه المقالة، لكل واحد من الملوك المذكورين بانفراد، وصدقه في ذلك، ووثق به واعتقد صدقه، فلما اجتمعوا عند البابا بمدينة رومية، ومعهم فردريك المذكور، قال البابا للملوك المذكورين: ما ترون في أمر هذه المرتبة، ومن هو الأحق بها؟ ووضع تاج الملك بين أيديهم، فكل واحد منهم قال: قد حكمت فردريك في ذلك، فإنه ولد الإمبراطور وأحق الجماعة بأن يسمع قوله في ذلك، فقام فردريك وقال: أنا ابن الإمبراطور، وأنا أحق بتاجه ومرتبته، والجماعة كلهم قد رضوا بي، ووضع التاج على رأسه، فأبلسوا كلهم، وخرج مسرعاً والتاج على رأسه، وكان قد حصل جماعة من أصحابه الألمانية الشجعان راكبين مستعدين، وركب واجتمعت عليه أصحابه الألمانية، وسار بهم على حمية إلى بلاده. قال القاضي جمال الدين: واستمر الإمبراطور منفريد بن فردريك المذكور في مملكته، وقصده البابا، وريدافرنس بجموعهما، واقتتلوا معه وهزموه وقبضوا عليه، وتقدم البابا يذبحه، فذبح منفريد المذكور، وملك بلاده بعده أخو ريدافرنس، وذلك في سنة ثلاث وستين وستمائة في غالب ظني. ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة. ذكر قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين صاحب مصر والشام: في هذه السنة، وثب على لاجين المذكور جماعة من المماليك الصبيان، الذين اصطفاهم لنفسه،

ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الآخر، في أوائل الليل، فقتلوه وهو يلعب بالشطرنج، وأول من ضربه شخص منهم يقال له سيف الدين كرجي، بالسيف، وضربه الباقون بعده، حتى قتلوا لاجين المذكور، وطلعوا ليقتلوا مملوكه ونائبه منكوتمر، فاستجار بسيف الدين طغجي الأشرفي، وكان طغجي مقدم هؤلاء المماليك الذين قتلوا لاجين، فأجاره طغجي وبعث بمنكوتمر المذكور إلى الجب، فحبسه فيه، ثم بعد استقراره في الجب توجه كرجي ومعه جماعة فأخرجوا منكوتمر وذبحوه على رأس الجب، ولما أصبح الصباح عن ذلك، جلس طغجي في موضع النيابة وأمر ونهى، وهنالك جماعه من الأمراء أكبر منه، مثل الحسام أستاذ الدار، وسلار وبيبرس الجاشنكير، وغيرهم، فاتفقت آراؤهم على الوقيعة بطغجي، وإعادة الملك إلى مولانا السلطان الملك الناصر المقيم بالكرك، واتفق بعد ذلك وصول بعض العسكر المجردين على حلب، فوصل أمير سلاح، وغيره، وأشار الأمراء المذكورون على طغجي بالركوب، وتلقى أمير سلاح، فامتنع، وعاودوه فأجاب، وركب طغجي من قلعة الجبل، وجعل نائبه بها كرجي الذي قتل لاجين، فعندما اجتمعت الأمراء بالأمير سلاح، تحدثوا فيما فعله الصبيان من قتل السلطان، وأنكرت الأمراء وقوع مثل ذلك، وقالوا إن طغجي هو الذي فعل ذلك، فحطوا عليه بالسيوف، وهرب منهم، فأدركوه وقتلوه، وقصدوا كرجي بقلعة الجبل فهرب، واتبعوه فقتلوه أيضاً. وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة، وكانت مدة مملكة حسام الدين لاجين، الملقب بالملك المنصور المذكور، سنتين وثلاثة أشهر. عودة مولانا السلطان الملك الناصر إلى سلطنته وفي هذه السنة عاد مولانا السلطان الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد ابن مولانا السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون إلى مملكته. فانه لما جرى ما ذكرناه من قتل لاجين، ثم قتل طغجي، اتفقت الأمراء على إعادة مولانا السلطان الملك الناصر إلى مملكته، فتوجه سيف الدين ابن الملك وعلم الدين الجاولي إلى الكرك، وأحضراه إلى الديار المصرية، فصعد إلى قلعة الجبل، واستقر على سرير ملكه في يوم السبت، رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة، وهي سلطنته الثانية. فلما استقر السلطان الملك الناصر بالقلعة، اتفق معه الأمراء على أن يكون سيف الدين سلار، نائب السلطنة، ويكون بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، وأن يكون بكتمر الجوكندار أمير جاندار. فلما استقر ذلك، فوض نيابة السلطنة بالشام إلى جمال الدين أقوش الأفرم، وأفرجوا عن شمس الدين قراسنقر من الاعتقال، وكان له فيه نحو سنة وشهرين، ثم بعثوا به إلى الصبيبة وكتب تقليد الملك المظفر محمود صاحب حماة ببلاده على عادته، وبعث به إليه في جمادى الأولى من هذه السنة.

ذكر تجريد العسكر الحموي إلى حلب

ذكر تجريد العسكر الحموي إلى حلب وفي هذه السنة في رمضان، الموافق لحزيران من شهور الروم، جرد الملك المظفر عسكر حماة إلى حلب، بسبب حركة التتر إلى جهة الشام، فسرنا من حماة إلى المعرة، وورد كتاب سيف الدين بلبان الطباخي بتراخي الأخبار، فعدنا من المعرة إلى حماة، فورد كتابه بطلبنا، فأعادنا الملك المظفر من حماة في يوم وصولنا إليها، وهو يوم الأربعاء سابع عشر رمضان، وحزيران، فسرنا ودخلنا حلب في الثاني والعشرين من رمضان من هذه السنة، ثم أرسل الملك المظفر وطلبني من نائب السلطنة بمفردي، فأعطاني سيف الدين بلبان الطباخي دستوراً، فسرت إلى حماة إلى خدمة ابن عمي الملك المظفر، واستمر أخواي وغيرهما من الأمراء والعسكر مقيمين بحلب، وأقمت أنا عند الملك المظفر بحماة. ذكر وفاة الملك المظفر صاحب حماة وخروج حماة حينئذ عن البيت التقوي الأيوبي: وفي هذه السنة، أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة، يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة، توفي صاحب حماة، السلطان الملك المظفر، تقي الدين محمود ابن السلطان الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك تقي الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب، رحمه الله تعالى، ومولده في ليلة الأحد خامس عشر المحرم سنة سبع وخمسين وستمائة، فيكون عمره إحدى وأربعين سنة وعشرة أشهر وسبعة أيام، وملك حماة من حين توفي والده في حادي عشر شوال سنة ثلاث وثمانين وستمائة، فيكون مدة ملكه خمس عشرة سنة وشهراً ويوماً واحداً، وكان مرضه حمى محرقة، وكان سبب ذلك مع فراغ العمر، أنه كان غاوياً برمي البندق، واتفق له فيه صروعات حسنة، فأراد أن يرمي النسر من طيور الواجب، فقصد جبل علاروز، وهو جبل مطل على قسطون، وكان ذلك في شدة الحر، وقتل حماراً وتركه على موضع بذلك الجبل، وعمل من أغصان الشجر كوخاً وكان يجلس في الكوخ وأنا معه، ومملوك له، ومن يشاهده في رمي البندق وكان يدخل إلى الكوخ في السحر ويظل فيه إلى الظهر، ولا يتكلم انتظاراً لنزول النسر على جيفة الحمار، وكنا نشم نتن تلك الجيفة، واتفق نزول النسر في تلك الحالة، ولم يقدر له رمية، ثم عدنا إلى حماة، فابتدأ بنا المرض، وبلغت الموت، وفي مدة مرضي، مرض الملك المظفر، وعادني وهو قد ابتدأ به المرض، ثم بعد بضع عشر يوماً توفي في التاريخ المذكور، وأنا منقطع عنه بسبب مرضي، وكذلك مرض المملوك الذي كان معنا بذلك المكان، وكان عسكر حماة بحلب على ما قد ذكرنا، وكان قد اتفق حضور الأمير صارم الدين أزبك المنصوري إلى حماة، بسبب تشويش زوجته، فلحق الملك المظفر قبل وفاته، كان حاضراً

ذكر وصول قراسنقر إلى حماة الجوكندار إلى حماة نائبا بها:

وفاته، وأما أخواي أسد الدين عمر، وبدر الدين حسن، ابنا الملك الأفضل، فإنهما حضرا إلى حماة من حلب بعد وفاة الملك المظفر، ولما اجتمع مذكورون، اختلفوا فيمن يكون صاحب حماة، ولم ينتظم في ذلك حال. ذكر وصول قراسنقر إلى حماة الجوكندار إلى حماة نائباً بها: ولما توفي الملك المظفر، كان قراسنقر قد أخرج من السجن، وأرسل إلى الصبيبة، وهي مكان وخم، فأرسل قراسنقر إلى الحكام بمصر يتضور من المقام بالصبيبة، فاتفق عند ذلك وصول الخبر إلى مصر بموت صاحب حماة، فأعطى قراسنقر نيابة السلطنة بحماة، وسار من الصبيبة ووصل إلى حماة، واستقر في النيابة، بها في أوائل ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة، ونزل بدار ملك المظفر صاحب حماة، وقمنا بوظائف خدمته وأخذ من تركة صاحب حماة ومنا أشياء كثيرة، حتى أجحف بنا، ووصلت المناشير من مصر إلى أمراء حماة وجندها باستقرارهم على ما بأيديهم من الإقطاعات، فاستمرينا على ما بأيدينا. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، أرسل سيف الدين بلبان الطباخي عسكراً إلى ماردين، فنهبوا ربض ماردين، حتى نهبوا الجامع، وعملوا الأفعال الشنيعة، وذلك كان حجة لقازان في قصد البلاد على ما سنذكره. وفيها توفي بدر الدين بيسري في محبسه من حين حبسه لاجين. وفيها سار مولانا السلطان الملك الناصر من الديار المصرية بعساكر مصر إلى بلاد غزة، وأقام بها حتى خرجت هذه السنة، واتفق قراسنقر وأخواي، وأرسلوا معي قماشاً وخيلاً، من خيل الملك المظفر صاحب حماة. وقماشه، فسرت أنا وصارم الدين أزبك المنصوري الحموي، وقدمت ذلك لمولانا السلطان وهو نازل بالساحل، قرب عسقلان، فقبله وتصدق علي بخلعة وحياصة ذهب، ورسم بزيادة إقطاعي وإقطاع أخي بدر الدين حسن، فزادونا نقداً من ديوان حماة. وفي هذه السنة توفي شمس الدين كربته، أحد المقدمين الذين دخلوا إلى بلاد سيس، وفتحوا ما تقدم ذكره. ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة. ذكر المصاف العظيم الذي كان بين المصلين والتتر وهزيمة المسلمين واستيلاء التتر على الشام: في هذه السنة سار قازان بن أرغون بجموع عظيمة من المغل والكرج والمزندة وغيرهم، وعبر الفرات ووصل بجموعه إلى حلب، ثم إلى حماة ثم سار ونزل على وادي مجمع المروج، وسارت العساكر الإسلامية صحبة مولانا السلطان الملك الناصر حتى وصلوا بظاهر حمص، ثم

ذكر المتجددات بعد الكسرة

ساروا إلى جهة المجمع، وكان سلار والجاشنكير هما المتغلبان على المملكة، فداخل الأمراء الطمع، ولم يكملوا عدة جندهم، فنقص العسكر كثيراً مع سوء التدبير، ونحو ذلك من الأمور الفاسدة التي أوجبت هزيمة العسكر، ثم ساروا والتقوا عند العصر من نهار الأربعاء، السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، الموافق للثالث والعشرين من كانون الأول من شهور الروم، بالقرب من مجمع المروج في شرقي حمص، على نحو نصف مرحلة من حمص، فولت ميمنة المسلمين، ثم الميسرة، وثبت القلب، واحتاطت به التتر وجرى بينهم قتال عظيم، وتأخر السلطان إلى جهة حمص حتى أدركه الليل، فولت العساكر الإسلامية تبتدر الطريق، وتمت بهم الهزيمة إلى ديار مصر المحروسة، وتبعهم التتر واستولوا على دمشق، وساقوا في إثر الجفال إلى غزة والقدس وبلاد الكرك، وكسبوا وغنموا من المسلمين الجفال شيئاً عظيمة. ذكر المتجددات بعد الكسرة وكان قبجق وبكتمر السلحدار والبكي مع قازان، من حين هربوا من حمص على ما قدمنا ذكره في سنة سبع وتسعين وستمائة، فلما استولى قازان على دمشق، أخذ سيف الدين قبجق الأمان لأهل دمشق ولغيرهم، من قازان ملك التتر، واستولى قازان على مدينة دمشق، وعصت عليه القلعة، وأمر بحصارها، فحوصرت، وكان النائب بها الأمير سيف الدين أرحواش المنصوري، فقام في حفظها أتم قيام، وصبر على الحصار ولم يسلمها، وأحرق الدور التي حوالي القلعة والمدارس، فاحترقت دار السعادة التي كانت مقر نواب السلطنة، وكذلك احترق غيرها من الأماكن الجليلة، وأما عسكر مصر فإنهم لما وصلوا إلى مصر، رسم لهم بالنفقة، فأنفق فيهم أموال جليلة، وأصلحوا أحوالهم، وجددوا عدتهم وخيولهم، وأقام قازان بمرج دمشق المعروف بمرج الزنبقة، ثم عاد إلى بلاده الشرقية، وقرر في دمشق قبجق، وجرد صحبته عدة من المغل. فلما بلغ العساكر المصرية مسير قازان عن الشام، خرجوا من مصر في العشر الأول من شهر رجب من هذه السنة، وخرج السلطان إلى الصالحية، ثم اتفق الحال على مقام السلطان بالديار المصرية، ومسير سلار، وبيبرس الجاشنكير بالعساكر إلى الشام، فسار المذكوران بالعساكر، وكان قبجق وبكتمر السلحدار، والألبكي، قد كاتبوا المسلمين في الباطن وصاروا معهم، فلما خرجت العساكر من مصر، هرب قبجق ومن معه من دمشق وفارقوا التتر، وساروا إلى جهة ديار مصر، وبلغ ذلك التتر المجردين بدمشق، فخافوا وساروا من وقتهم إلى البلاد الشرقية، وخلا الشام منهم، ووصل قبجق والألبكي وبكتمر السلحدار إلى الأبواب السلطانية، فأحسن إليهم سلطان، ووصل سلار وبيبرس الجاشنكير إلى دمشق، وقررا أمور الشام، ورتبا في

ذكر غير ذلك من الحوادث

نيابة السلطنة بدمشق الأمير جمال الدين أقوش الأفرم، على عادته، ورتبا قراسنقر في نيابة السلطنة بحلب بعد عزل سيف الدين بلبان الطباخي عنها، وإعطائه إقطاعاً بديار صر، ورتبا قطلوبك في نيابة السلطنة بالساحل والحصون، عوض سيف الدين كرد، إنه استشهد في الوقعة، ورتبا في نيابة السلطنة بحماة، الأمير زين الدين كتبغا المنصوري الذي كان سلطاناً، ثم خلع وأعطي صرخد، واستمر بصرخد حتى استولى قازان على الشام، ثم سار إلى مصر والتتر بالشام، ثم سار مع سلار والجاشنكير إلى الشام، فرتباه في نيابة السلطنة بحماة بعد قراسنقر، فسار كتبغا المذكور ووصل إلى حماة في الرابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، أعني سنة تسع وتسعين وستمائة، واستقر بحماة وأقام بدار صاحب حماة الملك المظفر، وسار قراسنقر إلى حلب، ثم عاد سلار والجاشنكير بالعساكر إلى الديار المصرية. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة كان بين طقطغا بن منكوتمر، وبين نغيه، حروب كثيرة، قتل فيها نغيه، وقام مقامه ابنه جكا. وفيها في مدة استيلاء التتر على الشام، استولى على حماة شخص من الرجالة الذين كانوا فيها لحفظ القلعة، يسمى عثمان السبيتاري، وحكم في البلد والقلعة، واستباح الحريم وأموال أهل حماة، وسفك دم جماعة منهم الفارس أرلندمشد حماة، وبعض أهل الباب الغربي، وكان يشارك عثمان المذكور في الحكم رفيقه إسماعيل، فغدر عثمان برفيقه إسماعيل وقتله، وانفرد عثمان بالحكم في حماة، وقيل إنه تلقب بالملك الرحيم، وبقي على تلك الحال إلى أن طلعت العساكر الإسلامية من مصر، واستولوا على الشام، وأرسلوا صارم الدين أزبك الحموي إلى حماة، ليكون فيها إلى أن يحضر إليها زين الدين كتبغا المنصوري النائب، فعصي عثمان المذكور بالقلعة المذكورة، ثم فارقه أصحابه وتخلوا عنه، وأمسك عثمان المذكور واعتقل، وكان المذكور من جندارية قراسنقر، فلما وصل قراسنقر إلى حماة متوجها إلى حلب، نزل على تل صفرون، وتسلم عثمان المذكور وأطلقه، فحضر أهل حماة وشكوا ما فعله فيهم عثمان المذكور، من نهب أموالهم، وهتك الحريم، وسفك الدماء، فتبرطل قراسنقر من عثمان المذكور ما أخذه من أموال أهل حماة، واستصحب عثمان معه وأحسن إليه، ومنع الناس حقهم، ولم يمكن أحداً منه بعد أن حكم القاضي بسفك دم عثمان المذكور، وبقي عثمان عند قراسنقر مكرماً إلى أن هرب قراسنقر إلى التتر، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. فاختفى عثمان المذكور ولم يظهر، وكان أصله من بلاد الشوبك، فلما تصدق علي السلطان بحماة، تتبعت عثمان المذكور وطلبته من نائب السلطنة بالشام، وهو المقر

ذكر مسير التتر إلى الشام ومسير السلطان والعساكر الإسلامية إلى العوجا، ورجوعهم:

السيفي تنكيز، فأمسك عثمان المذكور من بلاد عجلون، وأرسله إلي معتقلاً إلى حماة، فضربت عنقه في سوق الخيل بحضرة العسكر، في يوم الاثنين رابع عشر شعبان سنة ست عشرة وسبعمائة. وفيها لما وصل قازان بجموع المغل إلى الشام، طمع الأرمن في البلاد التي افتتحها المسلمون منهم، وعجز المسلمون عن حفظها، فتركها الذين بها من العسكر والرجالة وأخلوها، فاستولى الأرمن عليها، وارتجعوا حموص، وتل حمدون، وكوير، وسرفند كار، والنقير، وغيرها، ولم يبق مع المسلمين من جميع تلك القلاع غير قلعة حجر شغلان، واستولى الأرمن على غيرها من الحصون والبلاد التي كانت جنوبي نهر جيحان. وفيها أو في السنة التي قبلها، لما ملك دندين بلاد الأرمن، أفرج عن أخيه هيتوم بن ليفون، وجعله الملك، وصار دندين بين يديه، وكان هيتوم قد بقي أعور من حين سمله أخوه سنباط، على ما قدمنا ذكره، واستمر هيتوم ودندين على ذلك مدة يسيرة، ثم غدر هيتوم بدندين وجازاه أقبح جزاء، وأراد القبض عليه، فهرب دندين إلى جهة قسطنطينية، واستقر هيتوم في مملكة سيس، ولما استقر هيتوم في مالك سير، كان لأخيه تروس الذي قتله أخوه سنباط على ما ذكرناه، ولد صغير، فأقام هيتوم المذكور، الصغير ذلك ابن تروس في الملك، وجعل هيتوم نفسه أتابكاً لذلك الصغير، وبقي كذلك حتى قتلهما برلغي مقدم المغل الذين ببلاد الروم، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة سبعمائة. ذكر مسير التتر إلى الشام ومسير السلطان والعساكر الإسلامية إلى العوجا، ورجوعهم: في هذه السنة عادت التتر قصد الشام، وعبروا الفرات في ربيع الآخر، وجفلت المسلمون منهم وخلت بلاد حلب، وسار قراسنقر بعسكر حلب إلى حماة، وبرز زين الدين كتبغا عساكر حماة إلى ظاهر حماة، في الثاني والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، وسادس كانون الأول، وكذلك وصلت العساكر من دمشق واجتمعوا حماة، وأقامت التتر ببلاد سرمين، والمعرة، وتيزين، والعمق، وغيرها، ينهبون يقتلون، وسار السلطان بالعساكر الإسلامية ووصل إلى العوجا، واتفق في تلك المدة تدارك الأمطار إلى الغاية، واشتدت الوحول حتى انقطعت الطرقات، وتعذرت الأقوات، وعجزت العساكر عن المقام عن تلك الحال، فرحل السلطان والعساكر وعادوا إلى الديار المصرية. فوصل إليها في عاشر جمادى الأولى من هذه السنة، وأما التتر فانهم أقاموا يتنقلون في بلاد حلب نحو ثلاثة أشهر، ثم إن الله تعالى تدارك المسلمين بلطفه، ورد التتر على أعقابهم بقدرته، فعادوا إلى بلادهم وعبروا الفرات، أواخر جمادى الآخرة من هذه السنة، الموافق

ذكر غير ذلك من الحوادث

لأوائل آذار من شهور الروم، ورجع عسكر حلب مع قراسنقر إلى حلب، وتراجعت الجفال إلى أماكنهم. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة لما وردت الأخبار بعود التتر إلى الشام، استخرج عن غالب الأغنياء بمصر والشام ثلث أموالهم، لاستخدام المقاتلة. وفيها لما خرجت العساكر من مصر، توفي سيف الدين بلبان الطباخي الذي كان نائباً بحلب، ودفن بأرض الرملة، وورثه السلطان بالولاء. وفيها عزل كراي المنصوري الذي كان نائباً بصفد، وولى موضعه بتخاص. وفيها عزل قطلوبك عن نيابة السلطنة بالحصون والسواحل، ونقل إلى دمشق، فصار من أكبر الأمراء بها، وولى موضعه على الحصون والسواحل سيف الدين أسندمر الكرجي. وفيها التزمت الذمة بلبس الغيار، فلبس اليهود عمائم صفراء، والنصارى عمائم زرقاء، والسمرة عمائم حمراء. وفيها وصلت رسل قازان ملك التتر، وكان مضمون رسالتهم التهديد والوعيد، فأعيد جوابه على مقتضى ذلك. وفيها ولى البكئي الظاهري الذي قفز إلى التتر، وعاد على ما ذكرناه نيابة السلطنة بحمص، وكذلك أعطي قبجق الشوبك إقطاعاً، وأرسل إليها فأقام بها. وفيها قتل جكا بن نغيه أخاه تكا. وفيها جرى بين جكا ونائبه طنغوز قتال، فانتصر فيه طنغوز على جكا، ثم انتصر جكا، ثم استنجد طنغوز بطقطغا، فلم يكن لجكا به قبل فهرب إلى الأولاق، وأمسك جكا واعتقله بقلعة طرفو، ثم قتله وبعث برأسه إلى القرم، وصارت مملكة نغيه لطقطغا. ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة. ذكر وفاة الخليفة وفي هذه السنة توفي أبو العباس أحمد، الملقب بالحاكم بأمر الله، المنصوب في الخلافة، وقد تقدم ذكر ولايته ونسبه في سنة ستين وستمائة، والخلاف في ذلك، ولما توفي الحاكم المذكور، قرر في الخلافة بعده ولده سليمان بن أحمد، وكنيته أبو الربيع، ولقب بالمستكفي بالله. ذكر الإغارة على بلاد سيس وفي هذه السنة جرد من مصر بدر الدين بكتاش أمير سلاح، وأيبك الخزندار معهما العساكر، فساروا إلى حماة، وورد الأمر إلى زين الدين كتبغا نائب السلطنة بحماة، أن يسير بالعساكر إلى بلاد سيس، فخرج كتبغا المذكور من حماة، وخرجنا صحبته في يوم السبت الخامس والعشرين من شوال في هذه السنة، الموافق للثالث والعشرين

ذكر فتح جزيرة أرواد

من حزيران من شهور الروم، وسار العسكر صحبة زين الدين المذكور، ودخلنا حلب يوم الخميس مستهل ذي العقدة، ورحلنا من حلب ثالث ذي القعدة، ودخلنا دربند بغراس سابع القعدة من الشهر المذكور، وانتشرت العساكر في بلاد سيس، فحرقت الزروع ونهبت ما وجدت، ونزلنا على سيس وزحفنا عليها وأخذنا من سفح قلعتها شيئاً كثيراً من جفال الأرمن، وعدنا فخرجنا من الدربند إلى مرج أنطاكية، ووصلنا إلى حلب يوم الاثنين تاسع عشر ذي القعدة من هذه السنة، وسرنا إلى حماة ودخلناها يوم الثلاثاء السابع والعشرين من الشهر المذكور، الموافق للرابع والعشرين من تموز من شهور الروم، ودخل زين الدين كتبغا المذكور حماة وقد ابتدأ به المرض. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة مات قبجي بن ردنو بن دوشي خان بن جنكزخان، صاحب غزنة وباميان وغيرهما من تلك النواحي، وخلف من الأولاد بيان، وكبلك، وطقطمر، وبغاتمر، ومنغطاي، وصاصي. فاختلفوا بعده واقتتلوا، ثم انتصر فيما بعد بيان بن قنجي واستقر ملك غزنة على ما سنذكره. وفيها توفي صاحب مكة الشريف أبو نمي محمد بن أبي سعد بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي ابن الحسين بن علي رضي الله عنهم، واختلفت أولاده وهم: رميثة، وحميضة، وأبو الغيث، وعطيفة. وتغلب رميثة وحميضة على مكة، شرفها الله تعالى، ثم قبض بيبرس الجاشنكير على رميثة وحميضة في هذه السنة، وكان قد حج وتولى أبو الغيث على مكة، ثم بعد سنين أطلق حميضة ورميثة فغلبا على مكة، وهرب عنها أبو الغيث، ثم اقتتل حميضة ورميثة، فانتصر حميضة واستقر في مكة حرسها الله تعالى، ثم كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعمائة. ذكر فتح جزيرة أرواد وفي محرم من هذه السنة، فتحت جزيرة أرواد، وهي جزيرة في بحر الروم قبالة أنطرطوس، قريباً من الساحل، اجتمع فيها جمع كثير من الفرنج، وبنوا فيها سوراً وتحصنوا في هذه الجزيرة، وكانوا يطلعون منها ويقطعون الطريق على المسلمين، المترددين في ذلك الساحل، وكان النائب على الساحل إذ ذاك سيف الدين أسندمر الكرجي، فسأل إرسال أسطول إليها، فعمرت الشواني وسارت إليها من الديار المصرية في بحر الروم، ووصلت إليها في المحرم من هذه السنة، وجرى بينهم قتال شديد، ونصر الله المسلمين وملكوا الجزيرة المذكورة، وقتلوا وأسروا جميع أهلها، وخربوا أسوارها، وعادوا إلى الديار المصرية بالأسرى والغنائم.

ذكر دخول التتر إلى الشام وكسرتهم مرة بعد أخرى:

ذكر دخول التتر إلى الشام وكسرتهم مرة بعد أخرى: وفي هذه السنة عاودت التتر قصد الشام، وساروا إلى الفرات، وأقاموا عليها مدة في أزوارها، وصارت منهم طائفة، تقدر عشرة آلاف فارس، وأغاروا على القريتين وتلك النواحي، وكانت العساكر قد اجتمعت بحماة عند زين الدين كتبغا النائب بحماة، الملقب بالملك العادل، وكان مريضاً من حين عاد من بلاد سيس، كما تقدم ذكره، واسترخت أعضاؤه، فلما اجتمعت العساكر عنده، وقع الاتفاق على إرسال جماعة من العسكر، إلى التتر الذين أغاروا على القريتين، فجردوا أسندمر الكرجي نائب السلطنة بالساحل، وجردوا صحبته جماعة من عسكر حلب، وجماعة من عسكر حماة، وجردوني أيضاً من جملتهم، فسرنا من حماه سابع شعبان من هذه السنة، واتقعنا مع التتر على موضع يقال له الكرم، قريباً من عرض، واقتتلنا معهم يوم السبت عاشر شعبان من هذه السنة، الموافق لسلخ آذار، وصبر الفريقان، ثم نصر الله المسلمين وولى التتر منهزمين، وترحل منهم جماعة كثيرة عن خيلهم، وأحاط المسلمون بهم بعد فراغهم من الوقعة، وبذلوا لهم الأمان فلم يقبلوا، وقاتلوا بالنشاب، وعملوا سروج الخيل ستائر لهم، وناوشهم العسكر القتال، من الضحى إلى انفراك الظهر، ثم حملوا عليهم فقتلوهم عن آخرهم، وكان هذا النصر عنوان النصر الثاني على ما نذكره، ثم عدنا مؤيدين منصورين، ووصلنا إلى حماة يوم الثلاثاء ثالث عشر شعبان المذكور، الموافق لثاني نيسان. ذكر المصاف الثاني والنصرة العظيمة وفي هذه السنة، سار التتر بجموعهم العظيمة، صحبة قطلوشاه نائب قزان، بعد كسرتهم على الكوم، ووصلوا إلى حماة، فاندفعت العساكر الذين كانوا بها بين أيديهم، وسار زين الدين كتبغا في محفة، وأخرني بحماة لكشف التتر، فوصل التتر إلى حماة في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان من هذه السنة، فلما شاهدت جموعهم ونزولهم بظاهر حماة، وكنت واقفاً على العليليات، سرت من وقتي ولحقت زين الدين كتبغا بالقطيفة، وأعلمته بالحال، وسارت العساكر الإسلامية إلى دمشق، ووصلت أوائل العساكر الإسلامية من ديار مصر صحبة بيبرس الجاشنكير، واجتمعوا بمرج الزنبقية بظاهر دمشق، ثم ساروا إلى مرج الصفر لما قاربهم التتر، وبقي العسكر منتظرين وصول السلطان الأعظم الملك الناصر، وسارت التتر وعبروا على دمشق طالبين العسكر، ووصلوا إليهم عند شقحب بطرف مرج الصفر، واتفق أن ساعة وصول التتر إلى الجيش، وصل مولانا السلطان بباقي العساكر الإسلامية، والتقى فريقان بعد العصر من نهار السبت، ثاني رمضان من هذه السنة، أعني سنة اثنتين سبعمائة، وكان ذلك في العشرين من نيسان، واشتد القتال

ذكر وفاة زين الدين كتبغا وولاية قبجق حماة

بينهم، وتكردست التتر على الميمنة، فاستشهد من المسلمين خلق كثير، منهم الحسام أستاذ الدار، وكان رأس الميمنة، وكان برأس الميمنة أيضاً سيف الدين قبجق، فاندفع هو وباقي الميمنة بين أيدي التتر، وأنزل الله نصره على القلب والميسرة، فهزمت التتر وأكثر القتل فيهم، فولى بعض التتر مع توليه منهزمين لا يلوون، وتأخر بعضهم مع جوبان، وحال الليل بين الفريقين، فنزل التتر على جبل هناك بطرف مرج الصفر، وأشعلوا النيران وأحاطت المسلمون بهم، وأصبح الصباح وشاهد التتر كثرة المسلمين، فانحدروا من الجبل يبتدرون الهرب، وتبعهم المسلمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وكان في طريقهم أرض متوحلة، فتوحل فيها عالم كثير عن التتر، فأخذ بعضهم أسرى، وقتل بعضهم، وجرد من العسكر الإسلامي جمعاً كثيراً مع سلار، وساقوا في إثر التتر المنهزمين إلى القريتين، ووصل التتر إلى الفرات، وهي في قوة زيادتها، فلم يقدروا على العبور، والذي عبر فيها وهلك، فساروا على جانبها إلى جهة بغداد، فانقطع أثرهم على شاطئ الفرات وهلك من الجوع،، وأخذ منهم العرب جماعة كثيرة، وأخلف الله تعالى بهذه الوقعة ما جرى على المسلمين في المصاف، الذي كان ببلد حمص، قرب مجمع المروج في سنة تسع وتسعين وستمائة، ولما حصل هذا النصر العظيم، واجتمعت العساكر بدمشق، أعطاهم السلطان الدستور، فسارت العساكر الحلبية والحموية والساحلية إلى بلادهم، فدخلنا حماة مؤيدين منصورين، في يوم السبت سادس عشر رمضان من هذه السنة، الموافق لرابع أيار من شهور الروم. ذكر وفاة زين الدين كتبغا وولاية قبجق حماة وفي هذه السنة، أعني سنة اثنين وسبعمائة في ليلة الجمعة، عاشر ذي الحجة، توفي زين الدين كتبغا المنصوري، ونائب السلطنة بحماة، والمذكور كان من مماليك السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، فترقى حتى تسلطن، وتلقب بالملك العادل، وملك ديار مصر والشام في سنة أربع وتسعين وستمائة، ثم خلعه نائبه لاجين، وأعطاه صرخد، على ما تقدم ذكره في سنة ست وتسعين وستمائة، واستمر مقيماً بصرخد من السنة المذكورة إلى أن اندفعت المسلمون من التتر على حمص، في سنة تسع وتسعين وستمائة، فوصل كتبغا المذكور من صرخد إلى مصر، وخرج مع سلار والجاشنكير إلى الشام، فقرره نائبا بحماة على ما تقدم ذكره، في سنة تسع وتسعين وستمائة، ثم أغار على بلادسيس، فلما عاد إلى حماة مرض، قبل دخوله إلى حماة؛ وطال مرضه، ثم حصل له استرخاء، وبقي لا يستطيع أن يحرك يديه ولا رجليه، وبقي كذلك مدة، وسار من حماة إلى قريب مصر جافلاً بين يدي التتر، لما كان المصاف على مرج الصفر، ثم عاد إلى حماة وأقام بها مدة يسيرة، وتوفي في التاريخ المذكور من هذه السنة. ولما توفي

ذكر وفاة قازان ملك التتر

أرسلت أعرض على الآراء الشريفة السلطانية إقامتي في حماة، على قاعدة أصحابها من أهلي، فوجد قاصدي الأمر قد فات، وقررت حماة لسيف الدين قبجق المقيم بالشوبك، وكتب تقليده بها في هذه السنة، وحصل إلي من الصدقات السلطانية الوعود الجميلة الصادقة بحماة، وتطييب الخاطر، والاعتذار بأن كتابي وصل بعد خروج حماة لقجبق، ووصل قجبق إلى حماة في السنة المقابلة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي فارس الدين البلي الظاهري، نائب السلطنة بحمص. وفيها توفي القاضي تقي الدين محمد بن دقيق العيد، قاضي القضاة الشافعية بالديار المصرية، وكان إماماً فاضلاً، وولي موضعه القاضي بدر الدين محمد الحموي، المعروف بابن جماعة. وفيها كانت زلزلة عظيمة هدمت بعض أسوار قلعة حماة، وغيرها من الأماكن بالبلاد، وهدمت بالديار المصرية أماكن كثيرة، وهلك خلق كثير تحت الهدم، وخربت من أسوار إسكندرية ستاً وأربعين بدنة. ثم دخلت سنة ثلاث وسبعمائة. ذكر وفاة قازان ملك التتر في هذه السنة توفي قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، بنواحي الري، في أواخر هذه السنة، وكان قد ملك في أواخر سنة أربع وتسعين وسبعمائة، فيكون مدة مملكته ثمان سنين وعشرة أشهر، وكان قد اشتد همه بسبب هزيمة عسكره وكسرتهم على مرج الصفر، فلحقه حمى حادة ومات مكموداً، ولما مات قازان، ملك أخوه خربند بن أرغون، وكان جلوسه في الملك في الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وتلقب الجنبو سلطان. ذكر قدوم قبجق إلى حماة قد تقدم في سنة اثنتبن وسبعمائة، ذكر وفاة زين الدين كتبغا نائب السلطنة بحماة، وأنه رتب موضعه سيف الدين قبجق، وكانت الشوبك إقطاع قبجق، وكان مقيماً بها، فلما أعطي نيابة السلطنة بحماة وارتجعت منه الشوبك، أقام بها حتى جهز أشغاله، وسار من الشوبك في ثالث صفر من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وسبعمائة، ولما قارب حماة خرجنا لملتقاه إلى العنثر، وعملنا له الضيافات، وقدمنا له التقادم، وسرنا معه ودخلنا حماة في صبيحة يوم السبت، وهو الثالث والعشرين من صفر من هذه السنة، والموافق السادس تشرين الأول من شهور الروم، ونزل بدار الملك المظفر صاحب حماة، واستقر قدمه بحماة.

ذكر غير ذلك

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، بعد العصر من نهار الأحد، خامس جمادى الأولى، وخامس عشر كانون الأول، توفيت عمتي مؤنسة خاتون، بنت الملك المظفر محمود ابن ملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وأمها غازية خاتون، بنت السلطان الملك الكامل، وكان مولد مؤنسة خاتون المذكورة في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكانت كثيرة الصدقات والمعروف، عملت مدرسة بمدينة حماة تعرف بالخاتونية، ووقفت عليها وقفاً جليلاً، رحمها الله تعالى، ورضي عنها، وهي آخر من كان قد بقي من أولاد الملك المظفر صاحب حماة. وفيها كثر الموت في الخيل، فهلك منها ما لا يحصى، حتى خلت غالب اسطبلات الأمراء والجند. وفيها توفي عزالدين أيبك الحموى نائب حمص. وفيها توفي إلى الحجاز الشريف لقضاء حجة الفرض، ووجدت سلار قد حج من جهة مصر، وصحبته عدة كثيرة من الأمراء، ووقفنا الإثنين والثلاثاء للشك في أول الشهر وعدنا إلى البلاد، وخرجت هذه السنة ونحن قد برزنا من مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم. وفي أواخر هذه السنة، جردت العساكر من مصر، وسيف الدين قبجق بعسكر حماة، وقراستفر بعسكر حلب، ودخلوا إلى بلاد سيس، وحاصروا تل حمدون، وفتحوها بالأمان، وارتجعوها من الأرمن، وهدموها إلى الأرض، ولم أحضر هذه الغزاة لأني كنت بالحجاز الشريف حسبما ذكر. ثم دخلت سنة أربع وسبعمائة وفي هذه السنة وصل من المغرب ركب كبير، وصحبتهم رسول من أبي يعقوب يوسف بن يعقوب المريني ملك المغرب، ووصل صحبته إلى ديار مصر هدية عظيمة من الخيول والبغال، ما يقارب خمسمائة رأس من الخيل العربية، بالسروج واللجم والركب المكفنة بالذهب المصري. وفيها وصل إلى مصر صاحب دنقلة، وهو عبد أسود اسمه أياي، ووصل صحبته هدية كثيرة في الرقيق والهجن والأبقار والنمور والشب والسنباذج، وطلب نجدة من السلطان، فجرد معه جماعة من العسكر، وقدم عليهم طقصبا نائب السلطنة بقوص. وفيها أعيد رميثة وحميضة، ابنا أبي نمي لما ملك مكة حرسها الله تعالى. وفيها توفي جماز بن شيحة صاحب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وملك بعده ابنه منصور بن جماز. وفيها وصلت إلى حماة في يوم السبت عاشر صفر، عائداً من الحجاز الشريف، بعد زيارة القدس الشريف والخليل صلوات الله عليه وسلامه. ثم دخلت سنة خمس وسبعمائة. ذكر إغارة عسكر حلب على بلاد سيس في أوائل المحرم من هذه السنة، الموافق للعشر الأخير من تموز، أرسل قرا سنقر نائب

ذكر من ملك في هذه السنة بلاد المغرب من بني مرين

السلطنة بحلب، مع قشتمر مملوكه، عسكر حلب للإغارة على بلاد سيس، فدخلوها في أول الشهر المذكور، وكان قشتمر المذكور ضعيف العقل، قليل التدبير، مشتغلاً بالخمر، ففرط في حفظ العسكر، ولم يكشف أخبار العدو، واستهان بهم، فجمع صاحب سيس جموعاً كثيرة من التتر، وانضمت إليهم الأرمن والفرنج، ووصلوا على غرة إلى قشتمر المذكور، ومن معه من الأمراء وعسكر حلب، والتقوا بالقرب من إياس، فلم يكن للحلبيين قدرة بمن جاءهم، فتولوا يبتدرون الطريق، وتمكنت التتر والأرمن منهم، فقتلوا وأسموا غالبهم، واختفى من سلم في تلك الجبال، ولم يصل إلى حلب منهم إلا القليل، عرايا بغير خيل، وكان صاحب سيس في هذه السنة، هيتوم بن ليفون بن هيتوم، وهو الذي أمسكه أخوه سنباط وسمله، فذهبت عينه الواحدة وبقي أعور حسبما تقدم ذكره في سنة تسع وتسعين وستمائة. ذكر غير ذلك في هذه السنة قطع خبر بدر الدين بكتاش، أمير سلاح، لكبره وعجزه عن الحركة. وفيها أفرج عن الحاج بهادر الظاهري، وكان قد اعتقله حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور. وفيها هلك قطلوشاه نائب خربندا، قتله أهل كيلان، لأنهم عصوا، وسار قطلوشاه لقتلهم، فكبسوه وقتلوه، وقتل معه جماعة من المغل. وفيها سار جمال الدين أقوش الأفرم بعسكر دمشق وغيره من عساكر الشام، إلى جبال الظنينين، وكانوا عصاة مارقين من الدين، فأحاطت العساكر الإسلامية بتلك الجبال المنيعة، وترجلوا عن خيولهم، وصعدوا في تلك الجبال من كل الجهات، وقتلوا وأسروا جميع من بها من النصيرية والظنينين وغيرهم من المارقين، وطفرت تلك الجبال منهم، وهي جبال شاهقة بين دمشق وطرابلس، وأمنت الطرق بعد ذلك، فإنهم كانوا يقطعون الطريق ويتخطفون المسلمين، ويبيعونهم للكفار. وفيها استدعي تقي الدين أحمد بن تيمية من دمشق إلى مصر، وعقد له مجلس، وأمسك وأودع الاعتقال، بسبب عقيدته، فإنه كان يقول بالتجسيم على ما هو منسوب إلى ابن حنبل. ثم دخلت سنة ست وسبعمائة. ذكر من ملك في هذه السنة بلاد المغرب من بني مرين قد تقدم ذكر بني مرين في سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وأنه استقر في الملك منهم يعقوب، ثم ابنه يوسف، ولما كان في هذه السنة قتل أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو ابن حمامة المريني، ملك المغرب، وهو محاصر تلمسان، وكان قد أقام على حصارها سنين كثيرة، ونفدت أقوات أهل تلمسان، ولم يبق عندهم ما يكفيهم شهراً، وأيقنوا بالعطب، ففرج الله عنهم بقتل المريني المذكور، وسبب قتله أنه اتهم وزيره بتعرضه إلى حرمه، واتهم زمام داره، وكان اسمه عنبر، بمواطاة الوزير على ذلك، وأمر بحبس الوزير، وأمر

ذكر وفاة عامر ملك المغرب وذكر من تملك بعده:

بقتل زمام داره عنبر، ولما أخرج عنبر ليقتل مر بالخدام فقالوا: ما الخبر؟ فقال: أمر بقتلي، وسيقتلكم كلكم بعدي، فهجم بعض الخدام بسكين على أبي يعقوب المذكور، وقد خضب أبو يعقوب لحيته بحناء وهو نائم على قفاه، فضربه الخادم بالسكين في جوفه، وهرب عنه، وأغلق الباب عليه، وكان هناك امرأة لخدمة أبي يعقوب، فصاحت، فدخل أصحابه عليه وبه بعض الرمق، فأوصى إلى ابنه أبي سالم بن أبي يعقوب، ومات، ولما مات أبو يعقوب المذكور جلس في الملك بعده ولده أبو سالم بن يوسف المذكور. ولما ملك أبو سالم، قصده ابن عمه أبو ثابت، عامر بن عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق، وقيل إن أبا ثابت، هو عامر بن عبد الله بن يوسف ابن أبي يعقوب، فيكون ابن أخي أبي سالم، لا ابن عمه، وانضم مع أبي ثابت يحيى بن يعقوب، عم أبي سالم، فلما قارباه، هرب أبو سالم بن يوسف منهما، فأرسلا في إثره من تبعه وقتله، وحمل رأس أبي سالم المذكور إلى أبي ثابت، عامر المذكور. ولما قتل أبو سالم، استقر أبو ثابت عامر في المملكة، وكان جلوسه في الملك في منتصف هذه السنة، أعني سنة ست وسبعمائة. ولما استقر، أمر بقتل الخادم الذي قتل عمه يوسف، فقتل، ثم أمر بقتل الخدام عن آخرهم، فقتلوا وأضرمت لهم النيران وألقوا فيها، ولم يترك أبو ثابت بمملكته خادماً خصياً حتى أباده، ثم إن أبا ثابت المذكور، وثب على عمه يحيى فقتله في ثاني يوم استقراره في الملك، ثم سار أبو ثابت إلى فاس، وأرسل مستحفظاً من بني عمه اسمه يوسف بن أبي عباد إلى مراكش ثم إن يوسف المذكور بعد استمراره في مراكش، خلع طاعة أبي ثابت عامر المذكور، وكان منه ما سنذكره. ذكر غير ذلك من الحوادث وفي، هذه السنة، توفي الأمير بدر الدين بكتاش الفخري، المعروف بأمير سلاح، وكان بين قطع خبره ووفاته دون أربعة أشهر. ثم دخلت سنة سبع وسبعمائة: ذكر وفاة عامر ملك المغرب وذكر من تملك بعده: في أواخر هذه السنة، توفي أبو ثابت عامر بن عبد الله بن يوسف، أبي يعقوب بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن حمامة، ملك المغرب، وكانت مدة ملكه سنة وثلاثة أشهر وأياماً، وقيل سنة ونصفاً، وتوفي بطنجة فإنه لما عصى عليه ابن عمه يوسف بن أبي عباد بمراكش، سار إليه أبو ثابت المذكور، فاقتتل معه يوسف، فانتصر أبو ثابت، وولى يوسف مهزماً، فأخذ أسيراً، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، واستقامت مراكش لأبي ثابت، ثم عاد أبو ثابت المذكور إلى طنجة لقتال قوم بها من الأعراب، فأدركته منيته بها. ولما مات أبو ثابت، جلس في الملك بعده ابن عمه على بن يوسف، ثم خلعه الوزير

ذكر قتل صاحب سيس وقتل ابن أخيه

وجماعة من العسكر بعد يومين من جلوسه، وأقاموا في الملك سليمان بن عبد الله بن يوسف بن يعقوب ابن عبد الحق بن محيو، وبايعوه، فاستمال الناس وأنفق فيهم الأموال، وزاد في عطيات بني مرين، وأطلق المكوس، وأحسن إلى الرعية، وقبض على علي بن يوسف المخلوع واعتقله بطنجة، واستقرت قدم سليمان في الملك واستقامت له الأمور. ذكر قتل صاحب سيس وقتل ابن أخيه وفي هذه السنة قتل برلغي، وهو مقدم المغل المقيمين ببلاد الروم، صاحب سيس، هيتوم بن ليفون بن هيتوم المقدم ذكره، بعد أن ذبح ابن أخيه تروس الصغير على صدره، واستقر في ملك سيس وبلاد أوشين بن ليفون، أخو هيتوم المذكور، ولما قتله برلغي، مضى أخو هيتوم المذكور، الناق بن ليفون صحبة برلغي، وشكا إلى خربندا، فأمر خربندا ببرلغي فقتل بالسيف. وفيها عزم سلام على المسير إلى اليمن والاستيلاء عليه، وعينت العساكر للمسير صحبته، وجهزت الآلات في المراكب من عيذاب، ثم أنهى عزمه عن ذلك. وفيها نزل سيف الدين كراي المنصوري عن إقطاعه بديار مصر، واستقال من الإمرة فأقيل، وبقي بطالاً حتى اتهم عليه مولانا السلطان فيما بعد بإقطاع، وأعطاه نيابة السلطنة بدمشق على ما سنذكره. وفيها توفي ركن الدين بيبرس العجمي الصالحي، المعروف بالجالق، أحد البحرية، وكان آخر البحرية، وكان قد أسن. ثم دخلت سنة ثمان وسبعمائة: ذكر مسير السلطان إلى الكرك واستيلاء بيبرس الجاشنكير على المملكة وفي هذه السنة، في يوم السبت، الخامس والعشرين من شهر رمضان، خرج مولانا السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، محمد بن قلاوون الصالحي، من الديار المصرية متوجهاً إلى الحجاز الشريف، وسار في خدمته جماعة من الأمراء، منهم الأمير عز الدين أيدمر الخطيري، والأمير حسام الدين قرالاجين، والأمير سيف الدين آل ملك، وغيرهم، ووصل إلى الصالحية وعيد بها عيد الفطر ثم سار إلى الكرك، فوصل إليها في عاشر شوال، وكان النائب بها جمال الدين أبقوش الأشرفي، فعمل سماطاً واحتفل به، وعبر السلطان إلى المدينة، ثم إلى القلعة، ولما عبر السلطان على الجسر إلى القلعة والأمراء ماشون بين يديه، والمماليك حول فرسه، وخلفه، سقط بهم جسر قلعة الكرك، وقد حصرت يد فرس مولانا السلطان وهو راكبه، داخل عتبة الباب، فلما أحس الفرس بسقوط الجسر، أسرع حتى كاد أن يدوس الأمراء الماشين بين يديه، وسقط من

على ذلك

مماليك مولانا السلطان خمس وثلاثون إلى الخندق، وسقط غيرهم من أهل الكرك، ولم يهلك من المماليك غير شخص واحد، لم يكن من الخواص، ونزل في الوقت مولانا السلطان، خلد الله تعالى ملكه، عند الباب، وأحضر الجنوبات والجبال، ورفع الذين وقعوا عن آخرهم، وأمر بمداواتهم، فصلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه في مدة يسيرة، وكان ذلك من عنوان سعادة مولانا، جعلها الله تعالى خارقة للعوائد. فإن ارتفاع الجسر الذي سقطوا منه إلى الخندق، يقارب خمسين ذراعاً. ولما استقر مولانا السلطان بقلعة الكرك، أمر جمال الدين أقوش، نائب السلطنة بها، والأمراء الذين حضروا في خدمته، بالمسير إلى الديار المصرية، وأعلمهم أنه جعل السفر إلى الحجاز وسيلة إلى المقام بالكرك، وكان سبب ذلك استيلاء سلار وبيرس الجاشنكير على المملكة، واستبدادهما بالأمور، وتجاوز الحد في الانفراد بالأموال، والأمر والنهي، ولم يتركا لمولانا السلطان غير الاسم، مع ما كان منهما من محاصرة مولانا السلطان في القلعة، وغير ذلك مما لا تنكمش النفس منه، فأنف مولانا السلطان خلد الله ملكه من ذلك، وترك الديار المصرية وأقام بالكرك، ولما وصلت الأمراء إلى الديار المصرية، وأعلموا من بها بإقامة السلطان بالكرك، وفراقه الديار المصرية، اشتوروا فيما بينهم، واتفقوا على أن تكون السلطنة لبيبرس الجاشنكير، وأن يكون سلار مستمراً على نيابة السلطنة كما كان عليه، وحلفوا على ذلك، وركب بيبرس الجاشنكير من داره بشعار السلطنة إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وجلس على سرير الملك في يوم السبت الثالث والعشرين من شوال هذه السنة، أعني سنة ثمان وسبعمائة، وتلقب بالملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوري، وأرسل إلى نواب السلطنة بالشام فحلفوا له عن آخرهم، وكتب تقليداً لمولانا السلطان بالكرك، ومنشوراً بما عينه له من الإقطاع بزعمه، وأرسلهما إليه، واستقر الحال على ذلك حتى خرجت هذه السنة. وفيها ملك الفرنج الاستبتار جزيرة رودس، وأخذتها من الأشكري صاحب قسطنطينية، وصعب بسبب ذلك على التجار الوصول في البحر إلى هذه الديار، لمنع الاستبتار من يصل إلى بلاد الإسلام. وفيها أرسل صاحب تونس أبو حفص عمر، أسطولاً وعسكر إلى جزيرة جربة، وهي جزيرة في البحر الرومي، ومسيرتها من قابس يوم واحد، ولهذه الجزيرة مخاضة إلى البر، ودور هذه الجزيرة ستة وسبعون يوماً، وكانت بأيدي المسلمين، فتغلب عليها الفرنج وملكوها في سنة ثمانين وستمائة، فلما كانت هذه السنة، أرسل إليهم صاحب تونس عسكراً وقاتلهم، فاستنجد أهل هذه الجزيرة بفرنج صقلية، فلما وصل أسطول صقلية إليهم، عاد أسطول صاحب تونس إليه، ولم يتمكنوا من فتحها. وفيها مات الأمير خضر ابن الملك الظاهر بيبرس، بباب القنطرة، وكان المذكور قد جهزه السلطان الملك الأشرف خليل ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، إلى

ذكر تجريد العساكر إلى حلب وما ترتب

القسطنطينية، فبقي فيها. هو وأخوه وأهله مدة، وتوفي سلامش أخوه هناك، ثم عاد خضر المذكور إلى القاهرة وأقام عند باب القنطرة، وتوفي في هذه السنة. ثم دخلت سنة تسع وسبعمائة. ذكر تجريد العساكر إلى حلب وما ترتب على ذلك وفي هذه السنة وصل من مصر الأمير جمال الدين أقوش الموصل، المعروف بقتال السبع، وأصله من مماليك بدر الدين لؤلؤ، صاحب الموصل، وكذلك وصل لاجين الجاشنكير، المعروف بالزرتاج وصحبتهما تقدير ألفي فارس من عسكر مصر، وجردني الأمير سيف الدين قبجق نائب السلطنة بحماة، وجرد معي جماعة من عسكر حماة، فسرنا ودخلنا حلب يوم الخميس تاسع عشر ربيع الآخر من هذه السنة، الموافق للخامس والعشرين من أيلول، وكان نائب السلطنة بحلب قراسنقر المنصوري، ووصل أيضاً جماعة من عسكر دمشق، مع الحاج بهادور الظاهري، فأخذ قراسنقر في الباطن يستميل الناس إلى طاعة مولانا السلطان، ويقبح عندهم طاعة بيبرس الجاشنكير، الملقب بالملك المظفر. ذكر مسير مولانا السلطان من الكرك وعوده إليها وفي هذه السنة سار جماعة من المماليك، على حمية من الديار المصرية، مفارقين طاعة بيبرس الجاشنكير، الملقب بالملك المظفر، ووصلوا إلى السلطان بالكرك، وأعلموه بما الناس عليه من طاعته ومحبته، فأعاد السلطان خطبته بالكرك، ووصلت إليه مكاتبات عسكر دمشق يستدعونه، وأنهم باقون في طاعته، وكذلك وصلت إليه من حلب المكاتبات، فسار السلطان بمن معه من الكرك في جمادى الآخرة من هذه السنة، ووصل إلى حمان، وهي قرية قريب من رأس الماء، فعمل جمال الدين أقوش عليه الحيلة، وأرسل إليه قرابغا مملوك قراسنقر برسالة، كذبها على قراسنقر، وكان قرابغا سار إلى الأفرم بمكاتبة تتعلق به بمفرده، فأرسله الأفرم إلى السلطان، فسار من دمشق ولاقى السلطان بحمان، فأنهى قرابغا المذكور ما حمله الأفرم من الكذب، مما يقتضي رجوع مولانا السلطان، فلما سمع مولانا السلطان قرابغا ظنه حقاً، ورجع إلى الكرك، واستمرت العساكر على طاعة مولانا السلطان واستدعائه ثانياً، وانحلت دولة بيبرس الجاشنكير، وجاهره الناس بالخلاف، ولما جرى ذلك، وبلغ العساكر المقيمين بحلب، ساروا من حلب من غير دستور، وسرت أنا بمن معي من عسكر حماة، ودخلت حماة يوم الثلاثاء التاسع عشر من رجب، والثالث والعشرين من كانون الأول. ذكر مسير مولانا السلطان إلى دمشق واستقرار ملكه بها ولما تحقق مولانا السلطان الملك الناصر صدق طاعة العساكر الشامية، وبقائهم على طاعته

ذكر مسير مولانا السلطان إلى ديار مصر واستقراره في سلطنته

ومحبته، عاود المسير إلى دمشق، وخرج من الكرك وخرجت عساكر دمشق إلى طاعته، وتلقوه، وأما أقوش الأفرم نائب السلطنة بدمشق، فإنه هرب، ووصل السلطان إلى دمشق في يوم الثلاثاء عاشر شعبان من هذه السنة، الموافق لعشرين من كانون الثاني، وهيئت له قلعة دمشق، فلم ينزل بها، ونزل بالقصر الأبلق، وأرسل الأفرم وطلب الأمان من السلطان، فأمنه، فقدم إلى طاعته إلى دمشق، وسار قبجق من حماة، وسار العسكر الحموي صحبته، وكذلك سار أسندمر بعسكر الساحل، ووصل قبجق وأسندمر ومن معهما من العساكر إلى خدمة السلطان بدمشق، في يوم الاثنين الرابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، وقدمت تقدمتي، ومن جملتها مملوكي طقزتمر، في يوم الأربعاء السادس والعشرين من شعبان المذكور، فحصل من مولانا السلطان القبول والصدقة، والمواعيد الصادقة، بالتصدق علي بحماة، على عادة أهلي وأقاربي، ثم وصل قراسنقر إلى دمشق بعسكر حلب يوم الجمعة الثامن والعشرين من شعبان، وكان وصل قبل ذلك سيف الدين بكتمر، المعروف بأمير جاندار، من صفد، ولما تكاملت للسلطان عساكر الشام، أمرهم بالتجهيز للمسير إلى ديار مصر. ذكر مسير مولانا السلطان إلى ديار مصر واستقراره في سلطنته وفي هذه السنة، لما تكاملت العساكر الشامية عند السلطان بدمشق، أرسل إلى الكرك وأحضر ما كان بها من الحواصل، وأنفق في العسكر، وسار بهم من دمشق في يوم الثلاثاء تاسع رمضان من هذه السنة، الموافق لعاشر شباط، ولما بلغ بيبرس الجاشنكير ونائبه ذلك، جرداً عسكراً ضخماً مع برلغي وغيره من المقدمين، فساروا إلى الصالحية، وأقاموا بها، وكان برلغي من أكبر أصحاب الجاشنكير، وكأن الشاعر أراده بقوله: فكان الذي استنصحت أول خائن ... وكان الذي استصفيت من أعظم العدى وسارت العساكر في خدمة السلطان، وكان الفصل شتاءً والخوف شديداً من الأمطار وتوحل الأرض، وقدر الله تعالى لنا بالصحو والدفء، وعدم الأمطار، واستمر ذلك حتى وصلنا في خدمته إلى غزة، في يوم الجمعة تاسع عشر رمضان من هذه السنة، ولما وصل السلطان إلى غرة، قدم إلى طاعته عسكر مصر أولاً فأولاً، وكان ممن قدم أيضاً برلغي وغيره من المقدمين، ومعهم عدة كثيرة من العسكر، ثم تتابعت الأطلاب، وكان يلتقي مولانا السلطان في كل يوم وهو سائر طلب بعد طلب من الأمراء والمماليك والأجناد، ويقبلون الأرض ويسيرون صحبة الركاب الشريف ولما تحقق بيبرس الجاشنكير ذلك، خلع نفسه من السلطنة، وأرسل مع ركن الدين بيبرس الدواداري، ومع بهادراص يطلب الأمان من مولانا السلطان، وأن يتصدق عليه ويعطيه إما الكرك أو حماة، أو صهيون، وأن يكون معه ثلاثمائة مملوك من مماليكه، فوقعت إجابة السلطان إلى مائة مملوك، وأن يعطيه صهيون، وأتم مولانا السير، وهرب

ذكر القبض على بيبرس الجاشنكير الملقب بالملك المظفر

الجاشنكير من قلعة الجبل إلى جهة الصعيد وخرج سلار إلى طاعة مولانا السلطان، والتقاه يوم الاثنين الثامن والعشرين من رمضان، قاطع بركة الحجاج، وقتل الأرض وضرب لمولانا السلطان الدهليز بالبركة في النهار المذكور، وأقام بها يوم الثلاثاء سلخ رمضان، وعيد يوم الأربعاء بالبركة، ورحل السلطان في نهاره والعساكر الشامية والمصرية سائرون في خدمته وعلى رأسه الجتر ووصل إلى قلعة الجبل وسار إليها واستقر على سرير ملكه بعد العصر من نهار الأربعاء، مستهل شوال من هذه السنة، أعني سنة تسع وسبعمائة، الموافق لرابع آذار من شهور الروم، وهي سلطنته الثالثة، وفي يوم الجمعة ثالث شوال، وهو اليوم الثالث من وصول مولانا السلطان، سار سلار من قلعة الجبل إلى الشوبك بحكم أن السلطان أنعم بها عليه، وقطع خبزه من الديار المصرية، وأعطى السلطان نيابة السلطنة بحلب سيف الدين قبجق، وارتجع منه حماة، وسار قبجق من مصر يوم الخميس تاسع شوال، ورسم لعسكر حماة بالمسير معه، وتصدق علي وطيب خاطري بأنه لا بد من إنجاز ما وعدني به من ملك حماة، وإنما أخر ذلك لما بين يديه من المهمات والأشغال المعوقة من ذلك، فسرنا مع قبجق من مصر متوجهين إلى الشام، في التاريخ المذكور ووصلنا إلى حماة يوم الخميس خامس عشر ذي القعدة من هذه السنة، ثم رسم السلطان للأمير جمال الدين أقوش الأفرم بصرخد، فسار إليها، وقرر نيابة السلطنة بالشام لشمس الدين قراسنقر، وقرر حماة للحاج بهادر الظاهري، ثم ارتجعها منه وقرره في نيابة السلطنة بالحصون والفتوحات، بعد عزل أسندمر عنها، وكان قد حصلت بيني وبين أسندمر عداوة مستحكمة، بسبب ميله إلى أخيه، فقصد أن يعدل بحماة عني إليه، فلم يوافقه السلطان إلى ذلك، فلما رأى أن السلطان يتصدق بحماة علي، طلبها أسندمر لنفسه، فما أمكن السلطان منعه منها، فرسم السلطان بحماة لأسندمر، وتأخر حضوره لأمور اقتضت ذلك، وقرر السلطان الأمير سيف الدين بكتمر الجوكاندار في نيابة السلطنة بديار مصر. ذكر القبض على بيبرس الجاشنكير الملقب بالملك المظفر كان المذكور قد هرب من قلعة الجبل، عند وصول مولانا السلطان إلى الصالحية، وأخذ منها جملاً كثيرة من الأموال والخيول، وتوجه إلى جهة الصعيد، فلما استقر مولانا السلطان بقلعة الجبل، أرسل إليه وارتجع منه ما أخذه من الخزائن بغير حق، ثم إن بيبرس المذكور قصد المسير إلى صهيون، حسبما كان قد سأله، فبرز من أطفيح إلى السويس، وسار إلى الصالحية، ثم سار منها حتى وصل إلى موضع بأطراف بلاد غزة يسمى العنصر، قريب الداروم، وكان قراسنقر متوجهاً إلى دمشق نائباً بها، على ما استقر عليه الحال، فوصل إليه المرسوم بالقبض على بيبرس الجاشنكير، فركب قراسنقر وكبسه بالمكان المذكور، وقبض عليه به

ذكر وصول أسندمر إلى دمشق متوجها إلى حماة

وسار به إلى جهة مصر، حتى وصل إلى الخطارة، فوصل من الأبواب الشريفة السلطانية أسندمر الكرجي، وتسلم بيبرس الجاشنكير من قراسنمر، وأمر قراسنقر بالعود، فعاد إلى الشام، فوصل أسندمر بيبرس الجاشنكير، فحال وصوله إلى قلعة الجبل، اعتقل، يوم الخميس رابع عشر ذي القعدة من هذه السنة، فكان آخر العهد به، وكانت مدة سلطنة بيبرس المذكور الملقب بالملك المظفر أحد عشر شهراً: تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل وفيها غلب ببان بن قبجي على مملكة أخيه، فاستنجد وطرده عنها، واتفق موت كبلك عقيب ذلك، وخلف ولداً اسمه قشتمر بن كبلك، فاستنجد قشتمر وطرد عمه ببان، واستقر في ملك أبيه كبلك، وقيل إن الذي طرده ببان هو أخو منغطاي بن قبجي. وفيها وردت الأخبار بأن الفرنج قصدت ملك غرناطة بالأندلس، وهو نصر ابن محمد بن الأحمر، فاستنجد بسليمان المريني صاحب مراكش، واتقع ابن الأحمر مع الفرنج. وفيها تزوج خربندا ملك التتر ببنت صاحب ماردين، الملك المنصور غازي ابن قرا أرسلان، وحملت إليه إلى الأردو. وفيها في يوم الأربعاء خامس ذي الحجة، حضر مهنا بن عيسى إلى حماة، وطلب توفيق الحال بيني وبين أخي، بسبب حماة، فلم يتفق حال. وفيها في ثامن عشر ذي الحجة، حضر بدر الدين تتليك السديدي إلى حماة، وحكم فيها نيابة عن أسندمر، وحضر صحبته من السلطان أسندمر، وبقي الانتظار حاصلاً لقدوم أسندمر إلى حماة. وفيها في يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة خرجت من حماة مظهراً أني متوجه إلى دمشق، لملتقى أسندمر، فأرسلت في الباطن أسأل من صدقات مولانا السلطان، أن يمكني من المقام بدمشق، ومفارقة حماة، فإنه قد كان استحكم في خاطر أسندمر من عداوتي، فخشيت من المقام بحماة تحت حكم المذكور، فتركتها وسرت إلى دمشق، ودخلتها في يوم الجمعة الثامن والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، ووصل أسنبغا مملوكي من الأبواب الشريفة يوم الأربعاء رابع المحرم، من سنه عشر وسبعمائة، بمقامي بدمشق، وتصدق علي السلطان بخلعة كرودوحش، وكلوته رزنش، ورسم لي بغلة من حواصل دمشق، وأن أقيم بدمشق، ويكون خبزي بحماة مستقراً علي، وكذلك أجنادي، وأمرني فاستقريت بدمشق ونزحت عن حماة. ثم دخلت سنة عشر وسبعمائة. ذكر وصول أسندمر إلى دمشق متوجهاً إلى حماة في هذه السنة في يوم الثلاثاء العاشر من المحرم، وصل أسندمر من الأبواب الشريفة متوجهاً إلى حماة، نائباً بها، وكنت حينئذ مقيماً بدمشق، كما ذكرنا، فخرجت إلى الكسوة والتقيته، ووجدت عنده لمقامي بدمشق وخروجي عن حكمه أمراً عظيماً، وأخذ يخدعني

ذكر القبض على سلار

ويستميلني، ويطيب خاطري ويسألني المسير معه إلى حماة، فلم أجبه إلى ذلك، فدخل إلى قراسنقر وسأله في إرسالي صحبته طوعاً أو كرهاً، فأجابه أن السلطان رسم بمقامه بدمشق، فلا يمكن خلاف ذلك، فأقام أسندمر بدمشق أياماً قلائل، وتوجه إلى حماة ودخلها في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من المحرم من هذه السنة. ذكر القبض على سلار كان سلار بالشوبك، وقد عزم على الهروب منها، فأرسل السلطان إليه واستدعاه بعد أن عرض عليه المسير إلى حماة، ويكون نائباً بها، ورسم لأسندمر فسار من حماة إلى دمشق، وأخلى حماة لأجل سلار، وترددت المراسلات إليه، فحضر سلار إلى الأبواب الشريفة بديار مصر، في سلخ ربيع الآخر من هذه السنة، وقبض على سلار المذكور، فكان آخر العهد به، واحتيط على غالب موجوده لبيت المال، وكان شيئاً كثيراً. ذكر استقراري بحماة وعودها إلى البيت التقوي وما يتعلق بذلك: وفي هذه السنة، توفي الحاج بهادر النائب بالسواحل الشامية، في يوم الثلاثاء لعشرين من ربيع الآخر، ووصل مهنا بن عيسى إلى دمشق، وتوجه منها إلى مصر في يوم السبت، ومستهل جمادى الأولى، وكان السلطان حريصاً إلى إنجاز ما وعده بأن يقيمني بحماة، وتأخر ذلك بسبب مداراته لأسندمر وغيره، فلما اتفق موت الحاج بهادر، ووصول مهنا بن عيسى إلى الأبواب الشريفة، أعطى مولانا السلطان نيابة السلطنة بالسواحل والفتوحات لأسندمر، وتصدق علي بحماة والمعرة وبارين، وأرسل تقليد أسندمر بالسواحل مع منكوتمر الطباخي، فوصل إلى دمشق في يوم الأحد الثالث والعشرين من جمادى الأولى، وسار إلى حماة، فلم يجب أسندمر إلى المسير إلى الساحل، وامتنع من قبول التقليد والخلعة، ورد التقليد صحبة منكوتمر المذكور، فعاد به إلى دمشق، واتفق عند ذلك موت سيف الدين قبجق نائب السلطنة بحلب، في يوم السبت سلخ جمادى الأولى، فلما وصل خبر موته إلى الأبواب الشريفة، أنعم السلطان بنيابة السلطنة بحلب على أسندمر موضع سيف الدين قبجق، وأنعم على جمال الدين أقوش الأفرم بنيابة السلطنة بالفتوحات، ونقله من صرخد إليها، واستقرت حماة للعبد الفقير إلى الله تعالى إسماعيل بن علي، مؤلف هذا الكتاب، ووصل إلي بدمشق التقليد الشريف بحماة، صحبة الأمير سيف الدين، جلس الناصري السلمدار، وأعطيت حماة في هذه المرة على قاعدة النواب، وكان تاريخ التقليد في ثامن عشر جمادى الأولى سنة عشر وسبعمائة، حسب المرسوم الشريف، وخرجت من دمشق متوجهاً إلى حماة، وصحبتي الأمير سيف الدين قجلس، المذكور، في يوم الأربعاء الثامن عشر من جمادى الآخرة، وأسندمر مقيم بحماة، وهو في أشد ما يكون من الغضب، بسبب فراق حماة، وكوني

قد شملتني الصدقات الشريفة السلطانية، حتى أنه عزم أن يقاتلني ويدفعني عنها، وكان قد طلع جميع العسكر الحموي إلى لقائي، والتقوني قاطع حمص، ووصل إلى أسندمر مملوكه سنقر من الأبواب الشريفة، وخوفه من عاقبة فعله، فتوجه أسندمر من حماة ضحى يوم الاثنين المذكور، ودخلت إلى حماة عقيب خروجه منها في النهار المذكور، وكان استقراري في دار ابن عمي الملك المظفر بحماة، بعد الظهر من نهار الاثنين، الثالث والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، أعني سنة عشر وسبعمائة، الموافق السادس عشر كانون الثاني، وكان خروج حماة عن البيت التقوي الأيوبي عند موت السلطان الملك المظفر صاحب حماة، في يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة، من سنة ثمان وتسعين وستمائة، وعودها في تاريخ التقليد، وهو ثامن عشر جمادى الأولى، سنة عشر وسبعمائة، فيكون مدة خروجها من البيت التقوى إلى أن عادت إليه، إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوماً. ولنذكر جملة من أخبار حماة، وقد ذكرت في أخبار داود وسليمان، في الكتب الأربعة والعشرين التي مع اليهود، ثم صارت بلدة صغيرة حتى صارت من الأعمال، ثم إن اسطيتينوس ملك الروم بنى أسوار حماة، في أول سنة من ملكه، وفرغ منها في سنتين، وبقيت مع الروم حتى فتحها أبو عبيدة بن الجراح بالأمان، بعد فتوح حمص، وبقيت مضافة إلى حمص، وتواردت عمال الخلفاء الراشدين على حمص، حتى ملكت بنو أمية، وأقاموا بدمشق، فتواردت عمالهم عليها ثم لما صارت الدولة لبني العباس، تواردت عمالهم على حمص أيضاً، وعلى حماة وغيرها، ثم استولت القرامطة على حماة، وقتلوا فيها مقتلة كبيرة من أهلها، ثم صارت لصالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب، ثم صارت للأمير سهم الدولة خليفة بن جيهان الكردي، ثم صارت لشجاع الدولة جعفر بن كلند والي حمص، وفي سنة سبع وسبعين وأربعمائة، تقدم خلف بن ملاعب صاحب حمص قلعة حماة، ثم أقطع السلطان ملكشاه حماة لأقسنقر، مضافة إلى حلب، وبقيت له إلى أن قتله تنش، ثم صارت حماة لمحمود بن علي بن قراجا، وكان ظالماً، ثم صارت حماة لطغتكين صاحب دمشق، ثم صارت للبرسقي، ثم لولده عز الدين مسعود بن أقسنقرالبرسقي، ثم صارت لبهاء الدين سونج بن بوري بن طغتكين، ثم صارت لعماد الدين زنكي بن أقسنقر، ثم ارتجعها منه شمس الملوك إسماعيل بن بوري بن طغتكين، ثم استولى عليها عماد الدين زنكي، ثم صارت حماة لنور الدين محمود بن زنكي، ثم صارت لولده الملك الصالح إسماعيل بن محمود، ثم صارت لصلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم أعطاها لخاله شهاب الدين محمود الحارمي بن تكش، ثم صارت للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ثم صارت لولده الملك المنصور محمد بن عمر، ثم صارت لولده الملك

ذكر ملوك الغرب

الناصر قليج أرسلان بن محمد، ثم صارت لأخيه الملك المظفر محمود بن محمد، ثم صارت لولده الملك المنصور محمد بن محمود، ثم صارت لولده الملك المظفر محمود، ثم خرجت عنهم فتولى فيها قراسنقر زين الدين كتبغا، ثم سيف الدين قبجق، ثم سيف الدين أسندمر، ثم صارت لمؤلف هذا الكتاب، إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب. ولنرجع إلى بقية حوادث هذه السنة، أعني سنة عشر وسبعمائة. ولما قاربت حماة ونزلت الرستن، ألبسني الأمير سيف الدين قجليس التشريف السلطاني، وهو أطلس أحمر بطراز زركش فوقاني، وتحته أطلس أصفر، وكلوته زركش وشاش رقم، ومنطقة ذهب مصري، وسيف محلى بذهب مصري، وأركبني حصاناً برقياً بسرجه ولجامه، ودخلت حماة بذلك، وقرئ التقليد الشريف بحضور الناس، وأعطيت الأمير سيف الدين المذكور أربعين ألف درهم، وأوصلته بالخلع والخيول، وتوجه من حماة في يوم الأحد التاسع والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، واتفق لي شيء عجيب، وهو أن مولدي بدمشق في جمادى، ووصلني تقليد حماة بدمشق في جمادى، وأقمت بحماة، وحصلت التقدمة على جاري عادة أهلي، وأرسلت سألت من صدقات السلطان دستوراً بالتوجه إلى الأبواب الشريفة، فرسم لي بذلك، فخرجت من حماة في مستهل شوال من شهور هذه السنة، ودخلت مصر وحضرت بين يدي المواقف الشريفة يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة من هذه السنة، وقدمت التقدمة في غد ذلك اليوم، فشملتني الصدقات بقول ذلك، ثم أفاض علي وعلى جميع من كان في صحبتي الخلع، وتصدق علي بالمركوب والنفقة، وأعادني إلى بلدي بحبور الحبور، فوصلت إلى حماة في يوم الثلاثاء السابع ذي الحجة من هذه السنة، الموافق للسابع والعشرين من نيسان. ذكر ملوك الغرب توفي أبو الربيع سليمان بن عبد الله بن أبي يعقوب يوسف، في منتصف هذه السنة، وجلس في الملك بعده عم أبيه، أبو سعيد عثمان بن أبي يوسف، يعقوب ابن عبد الحق، في شهر رجب من هذه السنة، واستقرت قدمه في الملك. ذكر القبض على أسندمر نائب السلطنة بحلب كان السلطان قد جرد عسكراً مع كراي المنصوري، وشمس الدين سنقر الكمالي، فساروا وأقاموا بحمص، ولما وصلت إلى حماة عائداً من الأبواب الشريفة ركبوا من حمص وساقوا ليكبسوا أسندمر بحلب، ويبغتوه بها، فإنه كان مستشعراً لما كان قد فعله من الجرائم، وأرسل كراي المذكور إلي يعلمني بمسيرهم، وأن أسير بالعسكر الحموي واجتمع بهم، لهذا المهم، فخرجت من حماة يوم الخميس، تاسع ذي الحجة من هذه السنة، وهو ثالث يوم من وصولي من الأبواب الشريفة، ونزلت بالعبادي، وسقنا نهار الجمعة وبعض الليل، ووصلنا إلى حلب بعد

ذكر وفاة طقطغا وملك أزبك

مضي ثلثي الليلة المسفرة عن نهار السبت، حادي عشر ذي الحجة، واحتطنا بدار النيابة التي فيها أسندمر، تحت قلعة حلب، وأمسكناه بكرة السبت، واعتقل بقلعة حلب، وجهز إلى مصر مقيداً في يوم الأحد ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة، ووصل إلى مصر فاعتقل بها، ثم نقل إلى الكرك، وكان آخر العهد به، واحتيط على موجوده من الخيل والقماش والسلاح، وكان شيئاً كثيراً، وحمل جميع ذلك إلى بيت المال، واستمر كراي والكمالي ومن معهما من العساكر، والعبد الفقير إسماعيل بن علي، مقيمين بحلب حتى خرجت هذه السنة. وفيها توفي نجم الدين أحمد بن رفعة بديار مصر، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية، وشرح التنبيه في نحو عشرين مجلد، ونقل عليه شرح الوجيز الذي للرافعي. وفيها في يوم الأحد سابع عشر رمضان، توفي بتبريز القاضي قطب الدين محمود بن مسعود، وكان مولده بمدينة شيزر، في صفر سنة، أربع وثلاثين وستمائة، فيكون مدة عمره ستاً وسبعين سنة وسبعة أشهر، وكان إماماً مبرزاً في عدة علوم مثل العلم الرياضي والمنطق، وفنون الحكمة، والطب، والأصوليين. وله عدة مصنفات منها: نهاية الإدراك في الهيئة، وتحفة السامي في الهيئة أيضاً، وشرح مختصر ابن الحاجب في الفقه، ومصنفاته وفضائله مشهورة. ثم دخلت سنة إحدى عشرة وسبعمائة. ذكر وفاة طقطغا وملك أزبك في هذه السنة ظناً، أعني سنة عشر، أو سنة إحدى عشرة وسبعمائة، توفي طقطغا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، ملك التتر بالبلاد الشمالية، التي كرسي ملكها صراي، وقد تقدم ذكر ملكه في سنة تسعين وستمائة، ولما مات طقطغا المذكور ملك بعده أزبك بن طغريشاه بن منكوتمر بن طغان بن ياطوخان بن دوشي خان بن جنكزخان، واستقر أزبك المذكور ملكاً بتلك الجهات. ذكر نفل قراسنقر من نيابة السلطنة بدمشق إلى حلب وولاية كريه المنصوري دمشق وإعطاء العساكر الذين بحلب الدستور: في هذه السنة، لما قبض على أسندمر، سأل قراسنقر نائب السلطنة بدمشق، من مولانا السلطان أن ينقله إلى نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية، لأنه كان قد طال مقامه بها، وألف سكنى حلب، فرسم له بذلك، وحضر تقليده بولاية حلب مع الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصري، وسار في صحبته من دمشق متوجهاً إلى حلب، وحصل عند قراسنقر استشعار من العسكر المقيمين بحلب، لئلا يقبضوا عليه، وبقي المقر السيفي أرغون الدوادار الناصري المذكور، يطيب خاطر قراسنقر ويحلف له على عدم توهمه، ويسكنه ويثبت

ذكر مسير قراسنقر إلى الحجاز وعوده من أثناء الطريق وهربه

جأشه، حتى وصل إلى حلب، وركبت العساكر المقيمون بحلب لملتقاه، فالتقيناه، ودخل حلب في يوم الاثنين ثامن عشر المحرم من هذه السنة، واستقر في نيابة السلطنة بحلب، وأعطي المقر السيفي أرغون الناصري عطاء جزيلاً، وسفّره، وسار المقر السيفي أرغون المذكور من حلب، يوم الأربعاء، لعشرين من المحرم، وتوجه إلى الديار المصرية. فأقمنا بعد ذلك مدة، ثم ورد الدستور إلى العساكر المقيمة بحلب، فسرنا منها في يوم الجمعة الحادي والعشرين من صفر، عائدين إلى أوطاننا، ودخلت حماة في يوم الاثنين الرابع والعشرين من صفر، من هذه السنة، الموافق الثاني عشر تموز، وأتمت العساكر المصرية والدمشقية المسير إلى بلادهم، ولما انتقل قراسنقر من دمشق إلى حلب، أنعم السلطان بنيابة السلطنة بالشام، على سيف الدين كريه المنصوري، ووصل إليه التقليد بذلك، فاستقر فيها. ثم بعد مدة قبض على كريه المنصوري، ورتب في نيابة السلطنة بالشام، أقرش الذي كان نائباً بالكرك. ذكر مسير قراسنقر إلى الحجاز وعوده من أثناء الطريق وهربه وفيها سأل قراسنقر دستوراً إلى الحجاز الشريف، لقضاء حجة الفرض، فرسم له السلطان بذلك، فعمل شغله وسار من حلب في أوائل شوال، من هذه السنة، ولم يسر على الطريق، وسار على طرف البلاد من شرقيها، حتى وصل إلى بركة زيزا، فحصل عنده النخيل والخوف من الركب المصري، لئلا يقبضوا عليه في الحجاز، فعاد من بركة زيزا على البرية، وسار على البر إلى أركة والسخنة ثم إلى بر حلب واجتمع مع مهنا بن عيسى أمير العرب، واتفقا على المشاققة والعصيان، وقصد قراسنقر حلب ليستولي عليها، فاجتمع العسكر والأمراء الذين بها ومنعوه من الدخول إليها، ووصل من صدقات السلطان إلى قراسنقر، ومهنا ما يطيب خاطرهما، فلم يرجعا عن ضلالهما، وأصرا على ذلك، فجرد السلطان عسكراً مع المقر السيفي أرغون الدوادار الكردي، ومع الأمير حسام الدين قرالاجين، بسبب قراسنقر المذكور، بحيث إن رجع عن الشقاق والنفاق يقرر أمره في مكان يختاره، وإن لم يرجع عن ذلك يقصده العسكر حيث كان، ووصل العسكر المذكور إلى حماة في يوم السبت، سادس ذي الحجة من هذه السنة، الموافق لنصف نيسان. وسرت بصحبتهم في عسكر حماة، وتوجهنا إلى البرية ونزلنا بالحمام، بالقرب من الزرقاء في يوم الخميس الحادي عشر من ذي الحجة من هذه السنة، فاندفع قراسنقر إلى الفرات وأقام هناك، وافترقت مماليكه، فبعضهم سار إلى التتر، وبعضهم قدم إلى الطاعة، ثم توجه قراسنقر إلى جهة مهنا، فعادت العساكر من الخام إلى حلب، وكان دخولنا إلى حلب في يوم الأحد رابع عشر ذي الحجة من هذه السنة. ثم كان ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وفي جمادى الاولى من هذه السنة، قبض على سيف الدين بكتو الجوكندار، نائب السلطنة، وأقام مولانا السلطان مقامه في نيابة السلطنة، الأمير

ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري. وفيها حضرت رسل سيس بالأرزاق المقدرة عليهم في كل سنة، وأحضروا لنواب الشام التقادم على جاري العادة، وأحضروا لي بغلاً وقماشاً، وخرجت هذه السنة والحكام فيها على ما أصفه مولانا السلطان الأعظم، الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي، سلطان الإسلام بمصر والشام، وما هو مضاف إليهما، والحجاز، ونائب السلطنة ركن الدين بيبرس الدوادار، صاحب التاريخ المسمى بزبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، والنائب بالشام جمال الدين أقوش، الذي كان نائباً بالكرك، وقراسنقر قد أظهر الشقاق وانضم إلى مهنا بن عيسى أمير العرب، وهو متردد في البراري على شاطئ الفرات، والحكم بحلب إلى المشدين والنظار، وليس بها نائب، وقطلوبك بصفد. فإن النائب بصفد كان بكتمر الجوكندار، انتقل إلى مصر على ما تقدم ذكره، فولى السلطان صفد سيف الدين قطلوبك، وإسماعيل مؤلف هذا الكتاب بحماة، وما هو مضاف إليها، وهو المعرة، وبارين، وباقي الأطراف، مثل: البيرة، والرحبة، وغزة، وحمص، وقلعة الروم، وغيرها من مواطن النيابة، جميعها فيها مماليك السلطان، أو مماليك والده، أو مماليك مماليك والده، وجميعهم مرتبون من الأبواب الشريفة، على ما تقتضيه آراؤه العالية، وأما الأطراف البعيدة، فصاحب ماردين الملك المنصور نجم الدين غازي ابن الملك المظفر قرا أرسلان ابن الملك السعيد نجم الدين غازي ابن الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن قطب الدين أيلغازي بن إلبي بن حسام الدين تمر تاش بن نجم الدين أيلغازي بن أرتق. وقد تقدم أخبار ملوك ماردين مساقة إلى سنة ثمانين وخمسمائة، ثم ذكرنا أخبارهم في سنة سبع وثلاثين وستمائة، وصاحب اليمن الملك المؤيد شرف الدين داود بن يوسف بن عمر بن علي بن رسول، وملك التتر بالعراقين وكرمان وخراسان وديار بكر والروم وأذربيجان وغيرها، خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ابن طلو بن جنكزخان، وسار قبجي ملك تركستان بما وراء النهر، وصاحب التخت بالصين، القائم مقام جنكزخان سرقين بن منغلاي بن قبلاي بن طلو بن جنكزخان، وملك التتر ببلاد الشمال، التي كرسي ملكها صراي، أزبك بن طغريشاه بن منكوتمر ابن طغان، وملك التتر بغزنة، وباميان، منطغاي بن قبجي بن أردنو بن دوشي خان بن جنكزخان، وملك المغرب أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المربني، وملك غرناطة بالأندلس، أبو الجيوش نصر بن محمد بن الأحمر، وصاحب تونس، أبو البقاء خالد بن زكريا بن يحيى بن أبي حفص. والأشكري ملك قسطنطينية، أندر ونيقوس، وملك سيس، أوشين بن ليفون بن هيتوم. ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وسبعمائة:

ذكر هروب الأفرم واجتماعه بقراسنقر، ثم مسيرهما إلى خربندا:

ذكر هروب الأفرم واجتماعه بقراسنقر، ثم مسيرهما إلى خربندا: وفي هذه السنة، قصد أقوش الأفرم، نائب السلطنة بالفتوحات، أن يحدث خلافاً، وأن يجمع الناس عليه، فهرب إليه حموه أيدمر الزردكاش من دمشق، وانضم إليه من لايق به، وسار من دمشق واجتمع بالأفرم بالساحل، وقصدوا من عسكر الساحل ومن غيرهم الموافقة لهم على ضلالهم، فلم يوافقهم أحد، فلما رأى الأفرم ذلك، هرب من الساحل، وخرج على حمية، وعبر على الغولة، بين دمشق وحمص. وسار في البرية واجتمع بقراسنقر في شهر المحرم من هذه السنة، وكان بعض العساكر مع الأمير سيف الدين أركتمر على حمص، فساق خلف الأفرم فلم يلحقه، وكان على حلب العسكر المقدم ذكره في السنة الماضية، صحبة الأمير سيف الدين أرغون الدوادار، فلما بلغنا هروب الأفرم واجتماعه بقراسنقر، وهم قريب سلمية، وقع آراء الأمراء على الرحيل من حلب والمسير إلى جهة حمص وسلمية، فرحل الأمير سيف الدين أرغون الكردي، والأمير حسام الدين قرا لاجين، ومؤلف هذا المختصر بعسكر حماة من حلب، وسرنا ووصلنا إلى حماة في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، ووصلت باقي العساكر، وسرنا من حماة في يوم الثلاثاء خامس عشر المحرم الموافق للثامن والعشرين من أيار، ونزلنا بظاهر سلمية، وقصد قرابشقر والأفرم كبس العسكر بالليل لظنهما أن فيهم مخامرين، وأنهم يوافقونهم على ذلك، فلم يوافقهم أحد على ذلك، فرجعوا عن ذلك، وسار قراسنقر والأفرم ومن معهما إلى جهة الرحبة فاتفق آراء الأمراء على تجريد عسكر في إثرهم، فجردوا العبد الفقير إسماعيل بن علم بعسكر حماة، وكذلك جردوا من المصريين الأمير سيف الدين قلي، بمقدمته وغيره من المقدمين المصريين، والمقدمين الدماشقة، فسرنا من سلمية في يوم الخميس سابع عشر المحرم من هذه السنة، إلى القسطل، ثم إلى قديم، ثم إلى عرض، ثم إلى قباقب، ثم إلى الرحبة، ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من المحرم، فلما وصلنا إلى الرحبة، اندفع قراسنقر ومن معه إلى جهة رومان، قريب عانة، والحديثة، فما أمكنا المضي خلفه إلى تلك البلاد بغير مرسوم، فأقمنا بالرحبة، ثم رحلنا منها عائدين في مستهل صفر الموافق لثامن حزيران من هذه السنة، وسرنا إلى المقر السيفي أرغون الدوادار، وكان قد سار من سلمية إلى حمص، فوصلنا إلى حمص في يوم الخميس ثامن صفر من هذه السنة، ثم إن المقر السيفي رأى أن حماة قريبة، وليس بمقامي بعسكر حماة على حمص فائدة، فاقتضى رأيه سيري إلى حماة، فسرت إلى حماة ودخلتها يوم الاثنين، ثاني عشر صفر واستمر العسكر مقيمين بحمص، ثم إن قراسنقر والأفرم طال عليهما الحال، وكثر ترداد الرسل إليهما في إطابة خواطرهما، وهما لا يزدادان إلا عتواً ونفوراً، حتى سارا إلى التتر واتصلا بخربندا في ربيع الأول من هذه

ذكر وصول الدستور إلى العسكر

السنة، وكذلك أيدمر الزردكاش، ومن انضم إليهم. ذكر وصول الدستور إلى العسكر ولما اتصل بالعلوم الشريفة السلطانية ما اتفق من الأمر، تقدم مرسومه إلى العساكر بالمسير إلى أماكنهم، فسار من حمص في يوم الاثنين السادس والعشرين من صفر من هذه السنة، الموافق لثالث تموز، وعادوا إلى أوطانهم. ذكر وفاة صاحب ماردين في هذه السنة يوم الأحد، ثامن ربيع الآخر، توفي صاحب ماردين، ومن عقيب مسيرة قراسنقر من عنده إلى الأردو، وهو الملك المنصور نجم الدين غازي ابن الملك المظفر قرا أرسلان ابن السعيد نجم الدين غازي بن المنصور بن أرتق أرسلان بن قطب الدين أيلغازي بن إلبي بن تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين، وملك ماردين بعده ابنه الألبي، الملك العادل عماد الدين علي بن غازي، نحو ثلاثة عشر يوماً، ثم ملك أخوه شمس الدين صالح، وتلقب بالملك الصالح ابن غازي المذكور. ذكر وصول النائب إلى حلب وفيها قرر السلطان، سيف الدين سودي الجمدار الأشرفي، ثم الكردي، في نيابة السلطنة بحلب المحروسة، موضع قراسنقر، فوصل سودي المذكور إلى حلب في ثامن أو تاسع ربيع الأول من هذه السنة، واستقر في نيابة السلطنة بحلب. ذكر مسيري إلى مصر وفي هذه السنة توجهت إلى الأبواب الشريفة، وخرجت من حماة يوم الاثنين، ثامن عشر ربيع الأول من هذه السنة، الموافق للرابع والعشرين من تموز، وسقت من أثناء الطريق على البريد، ووصلت إلى قلعة الجبل، وحضرت بين يدي المواقف الشريفة السلطانية، في يوم الاثنين العاشر من ربيع الآخر، الموافق للرابع عشر من آب، ثم وصلت صبياني، وقدمت التقدمة في يوم الجمعة خامس عشر ربيع الآخر، وكان قبل وصولي، قد قبض على بيبرس الدوادار نائب السلطنة، وعلى جماعة من الأمراء، مثل الكمالي، فحال حضوري بين يديه، أفاض علي التشريف السلطاني الأطلس المزركش، على عوائد صدقاته، وأمر بنزولي في الكبش، فأقمت به، فاتفق بعد أيام يسيرة، أن النيل وفي ونشر الخلع، في يوم الأحد، الثالث والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة، الموافق للسابع والعشرين من آب، من شهور الروم، ورابع أيام النسيء بعد مسيري من شهور القبط، واتفق في أيام حضوري بين أيدي المواقف الشريفة، إقامة المقر السيفي أرغون الدوادار في نيابة السلطنة، وقلده

وأعطاه السيف، وألبسه الخلعة، ولما لم يبق لي شغل، تصدق السلطان وأفاض علي وعلى أصحابي الخلع، وشرفني بمركوب بسرجه ولجامه، ثم تصدق علي بثلاثين ألف درهم، وخمسين قطعة من القماش، ورسم أن يكتب لي التقليد بمملكة حماة، والمعرة، وبارين، تمليكاً ولولا خوف التطويل، لأوردنا التقليد عن آخره. لكنا نذكر منه فصولاً يحصل بها الغرض، طلباً للاختصار. فمنه: بعد البسملة، الحمد لله الذي عضد الملك الشريف بعماده، وأورث الجد السعيد سعادة أجداده، وبلغ ولينا من تباهى ببابه، ملوك بني الأيام غاية مراده، ومنه: فأصبح جامع شملها، ورافع لواء فضلها، وناشر جناح عدلها. ومنه: يحمد على أنه صان بنا الملك وحماه، وكف بكف بأسنا المتطاول على استباحة حماه. ومنه: ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أما بعد: فإن أولى من عقد له لواء الولاء، وتشرفت باسمه أسرة الملوك وذوي المنابر، وتصرفت أحكامه في ما يشاء من نواه وأوامر، وتجلى في سماء السلطنة شمسه، فقام في دستها مقام من سلف، وأخلف في أيامنا الزاهرة درج من أسلافه، إذ هو ببقائنا إن شاء الله خير خلف، من ورث السلطنة لا عن كلالة، واستحقهما بالأصالة والإثالة والجلالة، وأشرقت الأيام بغرة وجهه المنير، وتشرفت به صدور المحافل، وتشوق إليه بطن السرير، ومن أصبح لسماء المملكة الحموية، وهو زين أملاكها، ومطلع أفلاكها، وهو المقام العالي العمادي ابن الملك الأفضل، نور الدين علي، ابن السلطان الملك المظفر، تقي الدين ولد السلطان الملك المنصور، ولد السلطان الملك المظفر تقي الدين أعطاها شاهنشاه بن أيوب وهو الذي ما برحت عيوق مملكته إليه متشوفة، ولسان الحال يتلو ضمن الغيب، قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، إلى أن أظهر الله ما في غيبه المكنون، وأنجز له في أيامنا الوعود، وصدق الظنون، وشيد الله منه الملك بأرفع عماد، ووصل ملكه بملك أسلافه، وسيبقى في عقبه إن شاء الله إلى يوم التناد، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري الباهري، لا زالت المماليك مغمورة من عطائه، والملوك تسري من ظل كنفه، تحت مسبول غطائه، أن يستقر في يد المقام العالي العمادي المشار إليه، جميع المملكة الحموية، وبلادها، وأعمالها، وما هو منسوب إليها، ومباشرها التي يعرضها قلمه وقسمه، ومنابرها التي يذكر فيها اسم الله تعالى واسمه، وكثيرها وقليلها، وحقيرها وجليلها، على عادة الشهيد الملك المظفر تقي الدين محمود، إلى حين وفاته. ومنه: وقلدناه ذلك تقليداً، يضمن للنعمة تخليداً، وللسعادة تجديداً. ومنه: في آخره والله تعالى يؤهل بالنصر مغناه، ويجمل ببقائه صورة دهر هو معناه، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه. وكتب في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، حسب المرسوم الشريف، والحمد لله وحده، وصلواته على محمد وآله وصحبه

ذكر تجريد العسكر إلى حلب ووصول العدو ومنازلة الرحبة

وسلم. ثم رسم لي بالعود إلى بلدي، فخرجت من القاهرة يوم الثلاثاء الثاني من جمادى الأولى من هذه السنة، وسرت إلى دمشق، وكان قد وصل إليها الأمير سيف الدين تنكز الناصري نائباً، واستقر في نيابة السلطنة بها، بعد جمال الدين أقوش الذي كان نائباً بالكرك، وأحسن الأمير المذكور إلي وتلقاني بالإكرام، ووصلت إلى حماة، واجتمع الناس، وقرئ التقليد الشريف عليهم، في يوم الاثنين، الثاني والعشرين من جمادى الأولى، الموافق للخامس والعشرين من أيلول. ولما وصلت إلى حماة، كان قد سافر الأمراء الغرباء إلى حلب، فإني لما كنت بالأبواب الشريفة، استخبرني مولانا السلطان عن أحوالي وما أشكو منه فلم أفصح له بشيء، فاطلع بعلمه الشريف، وحدة ذهنه، وقوة فراسته، على تقلقي من الأمراء المماليك السلطانية المقيمين بحماة، فإنهم استجدوا بحماة لما خرجت من البيت التقوي الأيوبي، فاطلع السلطان على تعبي معهم وأنهم ربما لا يكونون وفق غرضي، فاقتضى مرسومه الشريف نقلهم إلى حلب، واستمرار إقطاعاتهم التي كانت لهم بحماة عليهم، إلى أن يتجلى ما يعوضهم به، فتقدم مرسومه إليهم بذلك، ووصل إليهم المرسوم على البريد بتوجههم إلى حلب، قبل وصولي إلى حماة بأيام يسيرة، فحال وصول المرسوم خرجوا من حماة عن آخرهم، ولم يبيتوا بها، وانتقلوا بأهلهم وجندهم، وكانوا نحو أربعة عشر أميراً، بعضهم بطبلخاناه، وبعضم أمراء عشرات، ووصلت إلى حماة ولم يبق غير من اخترت مقامه عندي، وكان هذا من أعظم النفقة والصدقة. ذكر تجريد العسكر إلى حلب ووصول العدو ومنازلة الرحبة وفي هذه السنة، في يوم السبت سابع عشر رجب، خرجت من حماة بعساكر حماة، ودخلت حلب في يوم السبت الآخر، الرابع والعشرين من رجب المذكور، وأقمت بها، وكان النائب بها الأمير سيف الدين سودي، ثم وصل بعض عسكر دمشق مع سيف الدين بهادراص، وقويت أخبار التتر، وجفل أهل حلب وبلادها، ثم وصلت التتر إلى بلاد سيس، وكذلك وصلوا إلى الفرات، فعندها رحل الأمير سيف الدين سودي وجميع العساكر المجردة من حلب، في يوم الخميس ثامن رمضان، في هذه السنة، ووصلنا إلى حماة في يوم السبت سابع عشر رمضان المذكور، وكان خربندا نازل الرحبة بجموع المغل، في آخر شعبان من هذه السنة، الموافق لأواخر كانون الأول، وأقام سيف الدين سودي بعسكر حلب وغيره من العساكر المجردة بظاهر حلب، ونزل بعضهم في الخانات، وكان البرد شديداً والجفال قد ملأه المدينة، واستمرينا مقيمين بحماة، وكشافتنا تصل إلى عرض والسخنة، وتعود إلينا بأخبار المخذول، واستمر خربندا محاصراً للرحبة، وأقام عليها المجانيق، وأخذ فيها النقوب، ومعه قراسنقر والأفرم، ومن معهما، وكانا قد

ذكر مسير السلطان بالعساكر الإسلامية إلى الشام ثم توجهه إلى الحجاز:

أطمعا خربندا أنه ربما يسلم إليه النائب بالرحبة قلعة الرحبة، وهو بدر الدين بن أركشي الكردي، لأن الأفرم هو الذي كان قد سعى للمذكور في نيابة السلطنة بالرحبة، وأخذ له إمرة الطبلخاناه، فطمع الأفرم بسبب تقدم إحسانه إلى المذكور أن يسلم إليه الرحبة، وحفظ المذكور دينه، وما في عنقه من الإيمان للسلطان، وقام بحفظ القلعة أحسن قيام، وصبر على الحصار، وقاتل أشد قتال، ولما طال مقام خربندا على الرحبة بجموعه، وقع في عسكره الغلاء والفناء، وتعذرت عليه الأقوات، وكثرت منه المقفزون إلى الطاعة الشريفة، وضجروا من الحصار، ولم ينالوا شيئاً، ولا وجد خربندا لما أطمعه به قراسنقر والأفرم صحة، فرحل خربندا عن الرحبة راجعاً على عقبه، في السادس والعشرين من رمضان من هذه السنة، بعد حصار نحو شهر، وتركوا المجانيق وآلات الحصار على حالها، فنزلت أهل الرحبة واستولوا عليها ونقلوها إلى الرحبة، ولما جرى ذلك، رحل سودي وعسكر حلب من حماة وعادوا إلى حلب، واستمر بهادراص ومن معه من عسكر دمشق مقيماً بحماة مدة، ثم ورد لهم الدستور، فساروا إلى دمشق. ذكر مسير السلطان بالعساكر الإسلامية إلى الشام ثم توجهه إلى الحجاز: في هذه السنة سار مولانا السلطان بالعساكر الإسلامية من ديار مصر، وكان مسيره بسبب نزول التتر على الرحبة حسبما ذكرنا، ووصل إلى دمشق يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شوال من هذه السنة، أعني سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، بعد رحيل العدو عن الرحبة وعودهم على أعقابهم، فلما لم يبق في البلاد عدو، عزم على الحجاز الشريف لأداء حجة الفرض، فرتب العساكر بالشام، وأمر بعضهم بالمقام باللجون وسواحل عكا وقاقون، وجرد بعضهم على حمى حمص، وترك نائب السلطنة المقر السيفي أرغون، ونائب السلطنة بالشام الأمير سيف الدين تنكز، مقيمين بدمشق، وعندهما باقي العساكر، واستجار السلطان بالله تعالى وخرج من دمشق متوجهاً إلى الحجاز الشريف، في يوم الخميس الثاني من ذي القعدة الموافق لأول آذار، وأتم المسير ووصل إلى عرفات، وأكمل مناسك الحج، وعاد مسرعاً فوصل إلى الكرك سلخ هذه السنة، ثم كان ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفيها ولد ولدى محمد بن إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر ابن شاهنشا بن أيوب، وكانت ولادته في إقامة الساعة الثانية من نهار الخميس، مستهل رجب، الفرد من هذه السنة، أعني سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، الموافق الثاني يوم من تشرين الثاني من شهور الروم. وفيها انخسف القمر مرتين، مرة في صفر، ومرة في شعبان. وفيها كانت الأمطار قليلة حتى خرج فصل الشتاء، ثم تدارك الأمطار

ذكر وصول السلطان من الحجاز الشريف

في فصل الربيع، إلى أن زادت الأنهر زيادة عظيمة في آخر نيسان على خلاف ما عهد. وفيها قوي استيحاش الأمير مهنا بن عيسى أمير العرب لما اعتمد من مساعدة قراسنقر، ولغير ذلك من الأمور، وكاتب خربندا، ثم أخذ منه إقطاعاً بالعراق، وهو مدينة الحلة، وغيرها، واستمر إقطاعه من السلطان بالشام وهو مدينة سرمين، وغيرها على حاله، وعامله السلطان بالتجاوز ولم يؤاخذه بما بدى منه، وحلف على ذلك مراراً فلم يرجع عما هو عليه، وجعل مهنا ولده سليمان بن مهنا منقطعاً إلى خدمة خربندا، ومتردداً إليه واستمر ابنه موسى بن مهنا في صدقة السلطان ومتردداً إلى الخدمة، واستمر مهنا على ذلك أخذ الإقطاعين بالشام والعراق، ويصل إليه الرسل من الفريقين وخلعهما وإنعامهما، وهو مقيم بالبرية ينتقل إلى شط الفرات من منازله، لا يروح إلى أحد الفئتين، وهذا أمر لم يعهد مثله، ولا جرى نظيره، فإن كلاً من الطائفتين لو اطلعوا على أجد منهم أنه يكتب إلى الطائفة الأخرى سطراً قتلوه لساعته، ولا يمهلونه ساعة، ووافق مهنا في ذلك سعادة خارقة. ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة. ذكر وصول السلطان من الحجاز الشريف وفي هذه السنة وصل مولانا السلطان إلى دمشق في يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم، عائداً من الحجاز الشريف، بعد أن أقام بالكرك أياماً وجمع الله له بذلك سعادة الدنيا والآخرة، وتوجهت إلى خدمته من حماة، وحضرت بين يديه بدمشق المحروسة في يوم الخميس، الثالث عشر من المحرم، من هذه السنة الموافق لعاشر أيار، وهنيته بقدومه إلى مملكته وعبيده وقدمت ما أحضرته من الخيول والقماش والمصاغ فقابله بالقبول، وشملني إحسانه بالخلع والإكرام على جاري عوائد صدقاته، وأرسل إلي هدية الحجاز حجراً أشقر وطاقات طائفي مع الأمير طاشمر الخاصكي. ذكر خروج المعرة عن حماة وفي هذه السنة في المحرم خرجت المعرة عن حماة، وأضيفت إلى حلب، واستقر بيدي حماة وبارين، وسبب ذلك أن الأمراء الذين كانوا بحماة، ثم انتقلوا إلى حلب حسبما ذكرنا في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، واستقرت إقطاعاتهم بحماة، لعدم إقطاعات محلولة تفي بجملة ما لهم، فصعب عليهم نقلتهم إلى حلب جداً، فأخذوا في التعنت والشكوى علي بسبب إقطاعاتهم ونقودهم المرتبة بحماة، وانضم إلى ذلك أنه صار يتغير بعض إقطاعاتهم، ويدخل فيها شيء من بلاد حلب بحكم تنقل أو زيادة، ترد المناشير الشريفة بذلك، وتخلط بلاد المملكة الحموية ببلاد المملكة الحلبية وغيرها من الممالك السلطانية وصارت أطماعهم معلقة بالعودة إلى حماة، وهم مجتهدون على ذلك تارة بالتثقيل على السلطان

بالشفائع، وتارة بالسعي في ذهاب حماة مني، فلم أجد لذلك ما يحسمه إلا بتعيين المعرة وبلادها للأمراء المذكورين، وإضافتها إلى حلب، وانفرادي بحماة وبارين منفصلة عن الممالك الشريفة السلطانية، وسألت صدقات السلطان في ذلك، وقال لي أيا عماد الدين، ما أرضى لك بدون ما كان في يد عمك وابن عمك وجدك، وكيف أنقصك عنهم المعرة، فعاودت السؤال وأبديت التضرر الزائد، فأجابني على كره لذلك، صدقة علي وإجابة إلى سؤالي، وكتب بصورة ما استقر عليه الحال مرسوماً شريفاً، ذكرنا بعضه طلباً للاختصار. فمنه أفلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري، أن يستقر بيده حماة وبارين بجميع حدودها، وما هو منسوب إليها من بلاد وضياع وقرايا، وجهات وأموال ومعاملات، وغير ذلك، من كل ما ينسب إلى هذين الإقليمين ويدخل في حكمهما، يتصرف في الجميع كيف شاء من تولية، وإقطاع إقطاعات الأمراء والجند وغيرهم من المستخدمين من أرباب الوظائف، وترتيب القضاة والخطباء وغيرهما، ويكتب بذلك مناشير وتواقيع من جهته، ويجري ذلك على عادة الملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة، ويقيم على هاتين الجهتين خمسمائة فارس بالعدة الكاملة من غير نقص، ويبطل حكم ما عليهما من المناشير والتواقيع الشريفة والمسامحات والمحسوب، وكل ما هو مرتب عليهما للأمراء والجند والعرب والتركمان وغيرهم، بحكم الإنعام بهما على المشار إليه، على قاعدة الملك المظفر صاحب حماة، وتعويض الجميع عن ذلك بالمعرة، وإفرادها عن حماة وبارين، فليستقر جميع ما ذكر بيده العالية، استقرار الدرر في أملاكها، والدراري في أفلاكها، ينصرف في أحوالها بين العالمين بنهيه وأمره، ويجري أموالها بين المستوجبين بإنعامه وبرة، ولا يمضي فيها أمر بغير منشوره الكريم، ولا يجري معلوم ولا رسم إلا بمرسومه الجاري على سنن سلفه القديم، وليفعل في ذلك بجميع ما أراد كيف أراد، ويتصرف على ما يختار فيما تحت حكمه الكريم، وبحكمة من مصالح العباد والبلاد، والله تعالى يعلي بمفاخر عماده، ويجعل التأييد والنصر قرين إصداره وإيراده، والخط الشريف حجة بمضمونه إن شاء الله تعالى، كتب في تاسع عشر المحرم سنة ثلاث عشرة وسبعمائة. ثم تصدق بخلعه ثانية، وأنعم علي بسنجق بعصائب سلطانية، يحمل على رأسي في المواكب وغيرها، وهذا مما يختص به السلطان، ولا يسوغ لأحد غيره حمله، ثم رسم بالدستور، فسرت من دمشق في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من المحرم، وكذلك توجه السلطان عائداً إلى الديار المصرية، فوصل إليها واستقر في مقر ملكه، ودخلت، أنا حماة في يوم الإثنين مستهل صفر من هذه السنة، الموافق للثامن والعشرين من أيار من شهور الروم.

ذكر مسيري إلى الحجاز الشريف

ذكر مسيري إلى الحجاز الشريف وفي هذه السنة أرسلت طلبت دستوراً من مولانا السلطان بالتوجه إلى الحجاز الشريف، فرسم لي بالدستور، وجهزت شغلي وقدمت الهجن إلى الكرك، وجهزت ولدي والثقل مع الركب الشامي، ووصلني من صدقات السلطان ألف دينار عيناً برسم النفقة، ووصلني منه مراسم شريفة بإخراج السوقية من سائر البلاد إلى الركب الحموي، وأن تسير جمالي حيث شئت قدام المحمل السلطاني أو بعده، على ما أراه، فقابلت هذه الصدقات بمزيد الدعاء، وخرجت من حماة في يوم الجمعة رابع عشر شوال من هذه السنة الموافق لأول شباط، وسرت بالخيل إلى الكرك، وركبت الهجن من هناك، ورجعت الخيل والبغال إلى حماة، واستصحبت معي ستة أرؤس من الخيل نجائب، وسار في صحبتي عدة مماليك بالقسي والنشاب، وسبقت الركب إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ووصلت إليها في يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة، وتمكنت من الزيارة خلوة، وأقمت حتى لحقني الركب، ثم سبقتهم ووصلت إلى مكة في يوم السبت، خامس ذي الحجة، وأقمت بها، ثم خرجنا إلى عرفات ووقفنا يوم الأربعاء، ثم عدنا إلى منى وقضينا مناسك الحج، ثم اعتمرت لأني حججت هذه الحجة مفرداً على ما هو المختار عند الشافعي وكنت في الحجة الأولى قارناً، ثم عدنا إلى البلاد، وسبقت الحجاج من بطن مر، وسرت منه يوم الثلاثاء خامس عشر ذي الحجة، الموافق لثامن نيسان، وسرت حتى خرجت هذه السنة، واستهل المحرم سنة أربع عشرة وسبعمائة، وأني قد عديت تبوك ووصلت إلى حماة، حادي عشر المحرم سنة أربع عشرة، وكان مسيري من مكة إلى حماة نحو خمسة وعشرين يوماً، أقمت من ذلك في المدينة، وفي العلا، وفي بركة زيزا ودمشق، ما يزيد على ثلاثة أيام، وكان خالص مسيري من مكة إلى حماة، دون اثنين وعشرين يوماً، وكان مسيري على الهجن، وكان صحبتي فرس وبغل، ولم يقف عني شيء منها، وهذه هي حجتي الثانية، وحججت الحجة الأولى في سنة ثلاث وسبعمائة. وفيها جرد السلطان من مصر إلى مكة عسكراً وأمراء من عسكر دمشق، وأرسل معهم أبا الغيث بن أبي نمي ليقروه في مكة، ويقبضوا أو يطردوا أخاه حميضة ابن أيي نمي، لأنه كان قد ملك مكة وأساء السيرة فيها، وكان مقدم العسكر المجرد على ذلك، سيف الدين طقصبا الحسامي، فلما اجتمعت به في مكة، أوصلني مثالاً من مولانا السلطان، يتضمن أني أساعدهم على إمساك حميضة بالرجال، والرأي فلما قربنا من مكة حرسها الله تعالى، تركها حميضة وهرب إلى البرية، فقررنا أبا الغيث بمكة، واستغلها وأخذ ما يصل مع الركبان من اليمن وغيره إلى صاحبها، وكذلك استهدى الضرائب من التجار، واستقرت قدمه فيها، ثم كان منه ما سنذكره إن شاء الله

ذكر فتوح ملطية

تعالى، وأقام العسكر المجرد عند أبي الغيث بمكة خوفاً من معاودة حميضة، ثم إن أبا الغيث أعطى العسكر دستوراً بعد إقامتهم بنحو شهرين، فعادوا إلى الديار المصرية. وفيها اجتمع جماعة من بني لام، من عربان الحجاز، وقصدوا قطع الطريق على سوقة الركب، الذين يلاقونهم من البلاد إلى تبوك عند عود الحاج، وساروا إلى ذات حج واتقعوا مع السرقة، فقتل من السوقية تقدير عشرين نفساً، وأكثر. ثم انتصروا على بني لام وهزموهم، وأخذوا منهم تقدير ثمانين هجيناً، وعادت بنولام بخفي حنين. ثم دخلت سنة أربع عشرة وسبعمائة فيها وصلت إلى حماة، عائداً من الحجاز الشريف، في حادي عشر المحرم. وفيها في أواخر جمادى الآخرة، حصل لي مرض حاد، أيقنت منه بالموت، ووصيت وتأهبت لذلك، ثم إن الله تعالى تصدق علي بالعافية. وفيها جردت العساكر إلى حلب، فجردت جميع عسكر حماة، أقمت بسبب التشويش. وفيها في رجب، توفي الأمير سيف الدين سودي نائب السلطنة بحلب، فولى السلطان نيابة السلطنة بحلب، الأمير علاء الدين الطنبغا الحاجب، ووصل إلى حلب واستقر بها نائباً بموضع سودي، في أوائل شعبان من هذه السنة. وفيها في ذي الحجة، جمع حميضة بن أبي نمي وقصد أخاه أبا الغيث بن أبي نمي صاحب مكة، وكان أبو الغيث منتظراً وصول الحجاج ليعتضد بهم، فابتدره حميضة قبل وصول الحجاج، واقتتل معه، فانتصر حميضة وأمسك أخاه أبا الغيث وذبحه، ثم هرب حميضة لقرب الحجاج منه، فلما قضى الحجاج مناسكهم وعادوا إلى البلاد، عاد حميضة إلى مكة، واستولى عليها. ثم دخلت سنة خمس عشرة وسبعمائة. ذكر فتوح ملطية في هذه السنة في يوم الأحد، الثاني والعشرين من المحرم، فتحت ملطية وسبب ذلك أن المسلمين الذين كانوا بها، اختلطوا بالنصارى، حتى أنهم زوجوا الرجل النصراني بالمسلمة، وكانوا يعدون الإقامة بالتتر ويعرفونهم بأخبار المسلمين، وكانت الأجناد والرجالة الذين بالحصون مثل قلعة الروم وبهنسا وكختا وكركر وغيرها، لا ينقطعون عن الإغارة على بلاد العدو، مثل بلاد الروم وغيرها، وكانت طريقهم في غالب الأوقات تكون قريب ملطية، فاتفق أن أهل ملطية ظفروا ببعض الغياره المذكورين، فأسروهم وقتلوا جماعة من المسلمين، فلما جرى ذلك، أرسل السلطان عسكراً ضخماً من الديار المصرية مع الأمير سيف الدين بكتمر الأبوبكري، ومع سيف الدين قلي، وسيف الدين أوول تمر، فساروا إلى دمشق، ورسم السلطان لجميع عساكر الشام المسير معهم، وجعل مقدماً على الكل الأمير سيف الدين تنكز الناصري نائب السلطنة بدمشق، وتقدمت مراسم السلطان إلي أولاً، بأن أجهز عسكر حماة صحبتهم وأن أقيم أنا بمفردي بحماة، ثم رأى

المصلحة بتوجهي بعسكر حماة، فتوجهت أنا والعساكر المذكورة، ودخلنا إلى حلب في يوم الخميس والجمعة، ثالث عشر المحرم، لكثرة العساكر، فأبحرت في يومين، ثم سرنا من حلب إلى عين تاب، ثم إلى نهر مرزبان، ثم إلى رعبان، ثم إلى النهر الأزرق، وعبرنا على قنطرة عليه رومية، معمولة بالحجر النحيت لم أشاهد مثلها في سعتها، وسرنا وجعلنا حصن منصور يميننا، وصار منا في جهة الشمال، ووصلنا إلى ذيل الجبل ونزلنا عند خان هناك يقال له خان قمر الدين، وعبرنا الدربند، ويسمى ذلك الدربند بلغة أهل تلك البلاد بند طجق درا بضم الطاء المهملة والجيم وسكون القاف وفتح الدال والراء المهملتين ثم ألف، وبقي العسكر ينجر في الدربند يومين وليلتين لضيقه وحرجه، ثم سرنا إلى زبطرة، وهي مدينة صغيرة خراب، ثم نزلنا على ملطية بكرة الأحد المذكور، أعني الثاني والعشرين من المحرم، الموافق للسابع والعشرين من نيسان وطلبت العساكر ميمنة وميسرة، وأحدقنا بها، وفي حال الوقت خرج منها الحاكم فيها، ويسمى جمال الدين الخضر، وهو من بيت بعض أمراء الروم، وكان والده وجده حاكماً في ملطية أيضاً، ويعرف خضر المذكور بمزامير، ومعناه الأمير الكبير بلغة نصارى تلك البلاد، وفتح باب ملطية القبلي وخرج معه قاضيها وغيرهما من أكابرها، وطلبوا منا الأمان، فأمنهم الأمير سيف الدين تنكز مقدم العسكر، واتفق أن الباب القبلي الذي فتح، كان قبالة موقفي بعسكر حماة، فأرسلت الأمير صارم الدين أزبك الحموي وجماعة معه، وأمرته بحفظ الباب، فإني خفت من طمع العسكر، لثلا ينهبوا ملطية، وليس معنا أمر بذلك، وحفظ الباب حتى حضر الأمير سيف الدين تنكز، وكان موقفه في الجانب الآخر، فلما حضر، وأقام جماعة من الأمراء بحفظ باب المدينة، ثم إن العسكر والطماعة هجموا مدينة ملطية من الباب المذكور، وكذلك هجمها جماعة من العسكر من الجانب الآخر، وأراد سيف الدين تنكز منعهم عن ذلك، فخرج الأمر عن الضبط لكثرة العساكر الطماعة، فنهبوا جميع مفيها من أموال المسلمين والنصارى، حتى لم يدعوفيها إلا ما كان مطموراً، ولم يعلموا به، وكذلك استرقوا جميع أهلها من المسلمين والنصارى، ثم بعد ذلك حصل الإنكار التام على من يسترق مسلماً أو مسلمة، وعرضوا الجميع، فأطلق جميع المسلمين من الرجال والنساء، وأما أموالهم فإنها ذهبت، واستمر النصارى في الرق عن آخرهم، وأسر منها ابن كربغا شحنة التتر بتلك البلاد، وكذلك أسر منها الشيخ مندو، وهو صاحب حصن أركني، وكان مندو المذكور قعيداً لقصاد التتر، وكان يتبع قصاد المسلمين ويمسكهم، وكان من أضر الناس على المسلمين، ولما أمسك، سلم إلى الأمير سيف الدين قلى، وسلمه المذكور إلى بعض مماليكه التتر، فهرب مندو المذكور، وهرب معه المملوك الذي كان مرسماً عليه، ثم لما

كان من نهب ملطية ما ذكرناه، ألقى العسكر فيها النار، فاحترق غالبها، وكذلك خربنا ما مكننا من أسوارها أن نخربه، وأقمنا عليها نهاراً واحداً وليلة. ثم ارتحلنا عائدين إلى البلاد، حتى وصلنا إلى مرج دابق في يوم الخميس، ثالث صفر من هذه السنة، وأقمنا به مدة، وكان ببلاد الروم جوبان، وهو نائب خربندا، ومعه جمع كثير، وكنا مستعدين فلم يقدم علينا، ولا جاء إلى ملطية إلا بعد رحيلنا عنها بمدة، فاستمرينا مقيمين بمرج دابق، وترددت الرسل إلى أوشين بن ليفون صاحب بلاد سيس في إعادة البلاد التي جنوبي جيحان، وزيادة القطيعة التي هي الأتاوة، فزاد القطيعة حتى جعلها نحو ألف ألف درهم، وبعد ذلك ورد الدستور، سرنا من مرج دابق في يوم الخميس ثاني ربيع الأول، ووصلنا إلى حماة في يوم الخميس تاسع ربيع الأول، وبعد يومين من وصولي، وصل الأمير سيف الدين تنكز بباقي العساكر، وعملت له ضيافة بداري التي بمدينة حماة، فمضى هو والأمراء في يوم الأحد، ثاني عشر ربيع الأول، ثم سافر في النهار المذكور إلى دمشق. وفيها في مدة مقامي بمرج دابق، قبض بمصر على أيد غدي شقير الحسامي، وكان من شرار الناس، وعلى بكتمر الحاجب، وعلى بهادر الحسامي المغربي. وفيها جهزت خيل التقدمة إلى الأبواب الشريفة، صحبة مملوكي أستبغا، فحصل قبولها والإحسان علي أولاً بحصان برقي بسرجه، ولجامه، ثم بخلعه أطلس أحمر بطرز زركش، وكلوته زركش، وشاش تساعي، وهو شاش منسوج جميعه بالحرير والذهب، وقبا أطلس أصفر تحتاني، وحياصة ذهب بجامة مجوهرة بفصوص بلخش ولؤلؤ، وثلاثين ألف درهم، وخمسين قطعة من القماش السكندراني، وسيف، ودلكش أطلس أصفر، فلبست التشريف السلطاني المذكور، وركبت في الموكب به في يوم الخميس ثاني رجب الفرد، الموافق لثاني تشرين الأول، أيضاً وشملتني الصدقات السلطانية بتوقيع شريف، أن لا تكون بحماة وبلادها حماية للدعوة الإسماعيلية، أهل مصياف، بل يتساوون مع رعية حماة في أداء الحقوق والضرائب الديوانية وغير ذلك. وفيها قبض على تمر الساقي، نائب السلطنة بالفتوحات، وعلى بهادراص. وفيها سار الملك الصالح، واسمه صالح ابن الملك المنصور غازي ابن الملك المظفر قرا أرسلان، صاحب ماردين، إلى خدمة خربندا ملك التتر، بالتقادم على عادة والده، فأحسن إليه خربندا، ثم عاد الملك الصالح المذكور إلى ماردين في جمادى الآخرة من هذه السنة. وفي أثناء هذه السنة ورد إلى الأبواب الشريفة، رميثة بن أبي نمي من مكة، وهو أخو حميضة الأكبر، مستنجداً على أخيه حميضة صاحب مكة حينئذ، فجهز السلطان مع رميثة عسكراً من العساكر المصرية، وجهزهم بما يحتاجون إليه، فسار بهم رميثة إلى مكة، وكان مقدم العسكر تمرخان بن قرمان أمير طبلخاناه، وأمير آخر يقال له

طيدمر، وكان العسكر مائتين فارس من نقاوة عسكر مصر، فجمع حميضة ما يقارب اثني عشر ألف مقاتل، وتعبى العسكر المصري، وكان رميثة في القلب، وابن قرمان ميمنة، وطيدمر ميسرة، والتقوا واقتتلوا في عيد الفطر من هذه السنة، وراء مكة إلى جهة اليمن بمراحل، ورمى العسكر بالنشاب، فولى جماعة حميضة منهزمين لا يلوون، وكان لحميضة حصن إلى جهة اليمن، فهرب إليه وانحصر به، فأحاط به العسكر وحاصروه، فنزل حميضة برقبته مع ثلاثة أو أربعة أنفس، وهرب خفية، واحتاط العسكر على ماله وحريمه، وغنموا من ذلك شيئاً كثيراً، قيل إنه حصل للفارس من عسكر مصر ما يقارب عشرة آلاف درهم، وكان في الغنيمة من العنبر الخام وأمثاله ما يفوق الحصر، فأطلق السلطان ذلك جميعه للعسكر، واستقر رميثة صاحب مكة. وفيها أفرج السلطان عن جمال الدين أقوش الذي كان نائباً بالكرك، ثم صار نائباً بدمشق، وأحسن إليه وعلى منزلته. وفيها وصل قراسنقر إلى بغداد في رمضان هذه السنة، وتقدم مرسوم إلى التتر الذين ببغداد وديار بكر وتلك الأطراف، بالركوب مع قراسنقر إذا قصد الإغارة على بلاد الشام، وكان خربندا مقيماً بجهة موغان، وأقام قراسنقر وقدم عليه بها فدوى، وسلم قراسنقر، ولما دخلت سنة ست عشرة، توجه قراسنقر في مستهل المحرم من بغداد إلى جهة خربندا. وفيها في ذي القعدة، ولد للسلطان ولد ذكر، ودقت البشائر لمولده في ديار مصر والشام، ثم توفي المولود المذكور بعد مدة يسيرة، وجهزت تقدمة لطيفة بسبب المولود المذكور صحبة طيدمر، فقدمها وحصل قبولها. وفيها في جمادى الأولى وصل إلي من صدقات السلطان، حصان برقي أحمر بسرجه، ولجامه، صحبة عز الدين أيبك أمير اخور، فأعطيته خلعة طرد، وحشن بكلوته زركش، وفرساً بسرجه ولجامه، وخمسة آلاف درهم. وفيها في أواخر ذي القعدة أغار سليمان بن مهنا بن عيسى، بجماعة من التتر والعرب على التراكمين والعرب النازلين قريب تدمر، ونهبهم وأخذ لهم أغناماً كثيرة، ووصل في إغارته إلى قرب البيضا بين القريتين، وتدمر، وعاد بما غنمه إلى الشرق. وفي هذه السنة، أعني سنة خمس عشرة وسبعمائة توفي نجاد بن أحمد بن حجي بن بزيد بن شبل أمير آل مرا، وكانت وفاته في أواخر هذه السنة، واستقر بعده في أمر آل مرا، ثابت بن عساف بن أحمد بن حجي المذكور، وبقي ثابت المذكور، وتوبة بن سليمان بن أحمد، يتنازعان في الأمرة. وفيها توفي بدمشق ابن الأركشي الذي كان نائباً بالرحبة لما حصرها خربندا، وكان قد عزل في تلك السنة، وأعطي أمرة بدمشق، وتولى الرحبة مكانه بكتوت القرماني، ثم عزل وولي على الرحبة بعده طغر بك الأنصاري.

ذكر أخبار أبي سعيد ملك المغرب

ذكر أخبار أبي سعيد ملك المغرب وفي هذه السنة، أعني سنة خمس عشرة وسبع مائة، اجتمع العسكر على عمر ولد أبي سعيد عثمان، ملك المغرب، وبقي والده خائفاً من العسكر، واقتتل عمر المذكور مع والده أبي سعيد عثمان، وانتصر عمر، وهرب أبوه أبو سعيد إلى تازة، فسار ولده عمر وحصره بها، ثم وقع الاتفاق بينهما على أن يسلم أبو سعيد الأمر إلى ولده عمر المذكور، وأشهد عليه بذلك، وبقي أبو سعيد في تازة، وسار عمر بالجيوش إلى جهة فاس، فلحق عمر بعد أيام يسيرة مرض شديد، فكاتب عسكره أباه بمدينة فاس، وعنده بيوت الأموال والسلاح، فحصره أبوه أبو سعيد نحو تسعة أشهر، ثم وقع الاتفاق بينهما على جانب طائل من المال يتسلمه عمر المذكور، وأن تكون له سجلماسة، فتسلم عمر ذلك وسار من فاس إلى سجلماسة، وتسلمها واستقر أبوه أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق في المملكة على ما كان عليه، وكان لعمر المذكور حينئذ من العمر نحو عشرين سنة. وفيها توفي السيد ركن الدين وكان إماماً مبرزاً في العلوم المعقولات والمنقولات وشرح الحاوي الصغير، ومختصر ابن الحاجب في الفقه وفضائله مشهورة. ثم دخلت سنة ست عشرة وسبعمائة فيها في العشر الأخير من المحرم، الموافق لأواخر العشر الأوسط من نيسان، وترادفت الأمطار، فحصل سيول عظيمة في بلاد حلب وحماة وحمص، وغرق أهل ضيعة من بلاد حمص مما يلي جهة جوسية. وفيها في الثاني والعشرين من ربيع الأول الموافق لرابع عشر حزيران، وصل إلى حماه من ديار مصر، الأمير بهاء الدين أرسلان الدواداري، وأوقع الوصية على أخبار آل عيسى، ثم استقرت بالوصية على خبر مهنا ومحمد ابني عيسى وأحمد وفياض ابني مهنا المذكور، وركب الأمير بهاء الدين المذكور من عندي للجنا، وسار عليها إلى مهنا، واجتمع به على مربعة، وهي منزلة تكون يوماً تقريباً من السنة، يوم الاثنين سلخ ربيع الأول من السنة المذكورة، وتحدث معه في انقطاعه عن التتر، ولم ينتظم حال، فعاد الأمير بهاء الدين المذكور إلى دمشق، ثم عاد إلى موسى بن مهنا بالقرب من سلمية، ثم عاد إلى دمشق وتوجه هو وفضل بن عيسى إلى الأبواب الشريفة، واستقر فضل أميراً موضع أخيه مهنا، ووصل إلى بيوته بتل أعدا، في أوائل جمادى الأولى من هذه السنة. ذكر مسيري إلى مصر وعود المعرة: في هذه السنة حصلت تقدمتي على جاري العادة، من الخيول والقماش والمصاغ، وسألت دستوراً لأتوجه بنفسي إلى الأبواب الشريفة، فورد الدستور الشريف، وسرت من حماة آخر نهار الجمعة، الخامس والعشرين من ربيع الآخر، الموافق لسادس عشر تموز، وكانت خيلي قد تقدمتني، فلحقتهم على خيل البريد بدمشق، وخرجت من دمشق

في نهار وصولي إليها. وهو يوم الاثنين الثامن والعشرين من ربيع الآخر المذكور، ووصلت إلى القاهرة عشية نهار الأحد ثامن عشر جمادى الأولى، وأنزلت في الكبش، وحضرت بين يدي المواقف الشريفة السلطانية بكرة الاثنين تاسع عشر جمادى المذكورة، وشملني من الصدقات السلطانية ما يفوت الحصر من ترتيب الإقامات في الطرقات من حماة إلى مصر، ومن كثرة الرواتب مدة مقامي بالكبش، ومن الخلع لي ولكل من في صحبتي ووصلني بحصانين بسروجهما ولجمهما، أحدهما كان سرجه محلى ذهباً مصرياً، واتفق عند وصولي زيادة النيل على خلاف العادة، ووفى ماء السلطان وكسر بحضوري في نهار الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى، الموافق لثاني عشر آب، وتاسع عشر مسري، وهذا شيء لم يعهد في جيلنا وأقمت في الصدقات السلطانية، ووصلني بثلاث خلع، أحدها أطلس تحتاني أصفر وفوقاني أحمر بطرز زركش، وكلوته زركش، وشاس تساعي. والأخرى قبا منسوج بالذهب، وطراز زركش يزيد عن مائة مثقال من الذهب المصري بفرو قاقم والخلعة الثالثة عند مسيري، قباً ثالثاً بالشرج، وتصدق علي بمدينة المعرة وقصبتها زيادة على ما بيدي، وكتب لي بها تقليد يشبه ما كتب لي حماة، ومدحني شهاب الدين محمود كاتب الإنشاء الحلبي بقصيدة، ذكر فيها صدقات السلطان وعود المعرة أضر بنا عن غالبها خوف التطويل فمنها: بك تزهى مواكب وآسرة ... ولك الشمس والقواضب آسره وبأيامك التي هي روض ... للأماني تجتني ثمار المسره بك كل الدنيا تهني ويضحي ... قدرها عالياً وكيف المعره وتوجهت من الأبواب الشريفة وأنا مغمور محبور بأنواع الصدقات السلطانية، وسرت من الكبش بعد العشاء الآخرة، من الليلة المسفرة عن نهار الجمعة، رابع عشر جمادى الآخرة، وقدمت مملوكي طيدمر الدوادار مبشراً على البريد لأهلي بحماة، ثم حقني إلى سريا قوش الأمير سيف الدين كجري أمير شكار، بسنقور، وكذك وصلني أحمال من الحلاوة والسكر والشمع زائداً عن الإقامات المرتبة في الطرقات، كذلك وصلني سيف محلى بالذهب المصري، وأتممت السير وتوجهت عن غزة زيارة، فزرت الخليل، ثم القدس، وسرت من القدس يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، ودخلت دمشق يوم الأحد مستهل رجب، ولما أصبحت، سرت ما ودخلت حماة نصف الليلة المسفرة عن نهار الخميس خامس رجب الموافق للثالث والعشرين من أيلول، فإني قصدت في ذلك عدم التثقيل على الناس، فإنهم كانوا قد زينوا حماة واحتفلوا بالبسط لقدومي، فدخلت بغتة ليلاً لذلك ولم يكن عسكر حماة فيها، فإني جردتهم إلى حلب حسب المرسوم الشريف،

ذكر ما جرى لحميضة والدرفندي

وساروا من حماة إلى حلب يوم خروجي من حماة إلى الديار المصرية، فأقاموا بحلب، ثم جردهم نائب حلب إلى عين تاب ثم إلى الكختا، ثم عادوا إلى حماة في أول شعبان بعد قدومي بقريب شهر. وفيها مرض الأمير سيف الدين كستاي نائب السلطنة بطرابلس والقلاع في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الآخر، الموافق لثامن أيلول، فولى السلطان موضعه الأمير شهاب الدين قرطاي أحد أمراء دمشق حينئذ. وفيها في جمادى الآخرة، سار مهنا بن عيسى، وكان نازلاً بالقرب من عانة، إلى خربندا، واجتمع به بالقرب من قنغرلان، ثم عاد إلى بيوته. وفيها في ثاني عيد الفطر الموافق لتاسع عشر كانون الأول، وقع بحماة والبلاد التي حواليها ثلوج عظيمة، ودامت أياماً، وبقي على الأرض ذراع، ودام على الأرض أياماً وانقطعت الطرق بسببه وكان ثلجاً لم أعهد مثله، وكان البرد والجليد شديداً عاماً في البلاد، حتى جلد الماء في الديار المصرية، ووقعت الثلوج باللاذقية والسواحل. وفيها جهزت صحبة لاجين المشد، تقدمة لطيفة، ومملوكاً يسمى يلدز، إلى المواقف الشريفة، فوصل بذلك وقدمه فقبله وشملتني صدقات السلطان صحبة لاجين المذكور، بمسامحات ما علي بضائع أجهزها مع كافة التجار في جميع البلاد، وكذلك زادني على المعرة بجملة غلال بلادها، وضاعف علي صدقاته، وكان وصول لاجين بذلك إلى حماة بالسابع والعشرين من شوال من هذه السنة أعني سنة ست عشرة وسبعمائة. وفيها قصد حميضة بن أبي نمي خربندا مستنصراً في إعادته إلى ملك مكة، ودفع أخيه رميثة فجرد خربندا مع حميضة الدرفندي، وهو النائب على البصرة، وجرد معه جماعة من التتر وعرب خفاجة. وفيها في ذي القعدة خرجت المعرة عني، وسبب ذلك أن محمد بن عيسى طلبها ليحضر إلى الطاعة، فأجيب إلى ذلك؛ وتسلمها نواب المذكور، وكتب إلى السلطان بما طيب خاطري من جهتها. وفيها بلغ السلطان أن حميضة قد جهزه خربندا بعسكره وخزانة، صحبة الدرفندي، ليملكه مكة، فجهز السلطان نائبه في السلطنة، وهو المقر الأشرف السيفي أرغون الدوادار، فحج وحج العسكر صحبته، وعادوا سالمين وأما حميضة والدرفندي، فكان من أمرهما ما سنذكره. وفيها لما قدم عسكر مصر إلى مدينة الرسول، كان مقدمهم المقر السيفي أرغون، فحضر إليه منصور بن حماد الحسيني صاحب مدينة الرسول فطلع معه يودعه إلى عيون حمزة، فخلع نائب السلطنة على منصور المذكور، وعلى ولده كبش بن منصور، وأعادهما إلى المدينة، فلما حضر المحمل المصري وصحبته العسكر خرج إليهم منصور فقبضوا عليه، وأحضر معتقلاً إلى بين يدي السلطان إلى ديار مصر، فتصدق عليه السلطان وأفرج عنه، وأمره بالعود إلى بلده. وفي هذه السنة أعني سنة ست عشرة وسبعمائة في السابع والعشرين من رمضان مات خربندا أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وكان جلوسه في الملك في أواخر في الحجة سنة ثلاث وسبعمائة، ومات بالمدينة الجديدة التي سماها السلطانية، وكان اسم بقعتها قنغرلان، فلما مات خطب بالسلطنة لولده أبي سعيد بن خربندا، وكان عمره نحو عشر سنين، واستولى على الأمر جوبان ابن الملك ابن تناون. ذكر ما جرى لحميضة والدرفندي وكان خربندا قد جهز حميضة وجهز معه الدرفندي نائب السلطانة بالبصرة، وجهز معه عسكراً وخزانة، ليسير الدرفندي بالعسكر مع حميضه ويقاتل عسكر المسلمين الواصلين إلى الحج. ويملك حميضة بدل أخيه رميثة. فصار الدرفندي وحميضة ومن معهما من عسكر التتر والعرب، حتى جاوزوا البصرة، فبلغهم موت خربندا فتفرقت تلك الجموع، ولم يبق مع الدرفندي غير ثلاثمائة من التتر، وأربعمائة من عقيل عرب البصرة، وكان قد استولى على البصرة ابن السوايكي، فأرسل استوحى محمد بن عيسى على الدرفندي، فجمع محمد بن عيسى عربه عن خفاجة، وعرب إخوته وأولاد إخوته، وسار إلى الدرفندكط، فأحرز له بالقرب من البصرة واتقع معه، في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة

ست عشرة وسبعمائة، فانهزم الدرفندي في بضع وثلاثين نفساً من أزلامه، وانهزم حميضة برقبته، وأخذ حريم حميضة وما كان معه من الأموال، وكذلك الخيم والأثقال والجمال وكان ذلك شيئاً عظيماً، وفيها هرب التراكمين الكنجاوية إلى طاعة السلطان وفارقوا التتر. فسارت التتر في طلبهم، فأنجد الكنجاويين عسكر البيرة واتقعوا مع التتر، فانهزم التتر هزيمة قبيحة، وأسر منهم نحو خمسين من المغل، وقتل منهم جماعة، ووصل الكنجاوية سالمين بذواتهم وحريمهم إلى البلاد الإسلامية. ثم دخلت سنة سبع عشرة وسبعمائة ولما دخلت هذه السنة، كان الصبي ابن خرابندا، واسمه أبو سعيد، قد حضر من خراسان صحبة سونج، وغيره من الأمراء إلى ظاهر السلطانية، واجتمعوا مع جوبان، ونزلوا جميعهم بظاهر السلطانية مع ذيل الجبل، ومضى من أول هذه السنة عدة أشهر، ولم يجلس هذا الصبي على سرير الملك، بل اسم السلطنة للصبي، والحاكم جوبان، وفي الباطن بينه وبين سونج الوحشة. وكل من سونج وجوبان يختار أن يكون هو الذي يجلس الصبي ويكون نائبه فتأخر جلوسه لذلك. ثم إنهم اتفقوا وأخرجوا استقطلو عنهم، وجهزوه إلى خراسان، وكان قد تحرك على خراسان التتر الذين بخوارزم وما وراء النهر، وقيل إن ملكهم ياشور. وفيها في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من صفر الموافق لعاشر أيار من شهور الروم، كان السيل الذي خرب بعلبك. فإنه جاء من شرقيها بين الظهر والعصر، فسكره السور، وقوي السيل وقلع

برجاً وبعض التنأتين اللتين على يمين البرج وشماله، وسار بالبرج صحيحاً يخرب بالبلد، ويخرب ما يمر به من الدور مسافة بعيدة، قيل إنها خمسمائة ذراع، ودخل السيل الجامع وغرق به جماعة، ورمى المنبر وخرب بعض حيطان الجامع، وبلغ السيل إلى رؤوس العمد، وكذلك دخل السيل المذكور الحمامات، وغرق فيها جماعة، وذهب للناس بذلك أموال عظيمة، وخرب دوراً كثيرة، وأسواقاً وغرق عدة كثيرة من الرجال والنساء والأطفال، وأتلف كتب الحديث والمصاحف وكانت مضرته عظيمة. وفيها في ربيع الآخر، كانت الإغارة على آمد وسبب ذلك أن نائب السلطنة بحلب، جهز عدة كثيرة من عسكر حلب، وغيرهم من التراكمين والعربان والطماعة، ومدم عليهم شخصاً تركمانياً من أمراء حلب يقال ابن جاجا، وكان عدة المجتمعين المذكورين ما يزيد على عشرة آلاف فارس، فساروا إلى آمد وبغتوها ودخلوها ونهبوا أهلها المسلمين والنصارى، ثم بعد ذلك أمر بإطلاق من كان مسلماً، فأطلقوا بعد أن ذهبت أموالهم، وبالغ المجتمعون المذكورون في النهب، حتى نهبوا الجامع، وأخذوا بسطه وقناديله، وفعلوا بالمسلمين كل فعل قبيح، وعادوا سالمين وقد امتلأت أيديهم من الكسوبات الحرام التي لا تحل ولا تجوز شرعاً، وخلت آمد من أهلها، وصارت كأنها لم تغن بالأمس. وفيها في الثاني والعشرين من ربيع الآخر وصلني من صدقات السلطان حصان برقي بسرجه ولجامه، صحبة موسى أحد أمراء خورية، فوصلته بالخلع والدراهم وقابلت الصدقات بمزيد الدعاء. وفيها خرج السلطان الملك الناصر خلد الله ملكه من الديار المصرية في رابع جمادى الأولى، الموافق لرابع عشر تموز إلى حسبان من البلقاء، ووصل إليها في سادس عشر جمادى الأولى، ووصل إليه في حسبان المقر السيفي تنكز نائب السلطنة بالشام، ووصل إليه صحبته جماعة من الأمراء، وكنت طلبت دستوراً بالحضور؛ فرسم بتجهيز خيل التقدمة ومقامي بحماة، فجهزتها وأقمت وقدمت خيلي؛ يوم نزوله على حسبان يوم الثلاثاء سادس عشر جمادى الأولى، وكنت قد جهزتها صحبة طيدمر الدوادار، فقبلت وتصدق السلطان وأرسل إلى صحبة طيدمر تشريفاً كاملاً على جاري العادة من الأطلس الأحمر والأصفر والكلوته الزركش والطرز الزركش بالذهب المصري، وكذلك تصدق بثلاثين ألف درهم وخمسين قطعة وقماش، وركبت بالتشريف المذكور الموكب بحماة نهار الإثنين سادس جمادى الثانية من هذه السنة، أعني سنة سبع عشرة وسبعمائة، ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية من الشوبك ولم يصل في خرجته هذه إلى دمشق، بل رجع من بلاد البلقاء. فيها وصل مثال السلطان بالبشارة بالنيل وأن الخليج كسر في رابع جمادى الأولى وسلخ أبيب، قبل دخول مسرى، وهذا مما لا يعهد، فإنه تقدم عن عادته شهراً. وفيها بعد رحيل

السلطان عن الكرك أفرج عن الأمير سيف الدين بهادراص. ووصل بهادراص إلى دمشق، وأتم السلطان السير ودخل مصر يوم الأربعاء منتصف جمادى الآخرة من هذه السنة. وفيها في أثناء ذي الحجة ظهر في جبال بلاطنس إنسان من بعض النصيرية، وادعى أنه محمد ابن الحسن العسكري، ثاني عشر الأئمة عند الإمامية، الذي دخل السرداب المقدم ذكره فاتبع هذا الخارجي الملعون من النصيرية جماعة كثيرة، تقدير ثلاثة آلاف نفر، وهجم مدينة جبلة، في يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، والناس في صلاة الجمعة ونهبت أموال أهل جبلة، وسلبهم ما عليهم. وجرد إليه عسكر من طرابلس، فلما قاربوه تفرق جمعه وهرب واختفى في تلك الجبال،، فتتبع وقتل لعنه الله، وباد جمعه وتفرقوا، ولم يعد لهم ذكر. ثم دخلت سنة ثمان عشرة وسبعمائة في أوائل هذه السنة سار فضل بن عيسى إلى ابن خربندا وجوبان إلى بغداد واجتمع بهما، وأحضر لهما تقدمة من الخيول العربية، فأقبل جوبان عليه وأعطى فضل المذكور البصرة، واستمرت له إقطاعاته التي كانت له بالشام بيده مع البصرة، وأقام فضل عندهما مدة، واجتمع بقراسنقر هناك، ثم عاد إلى بيوته، وبعد مسير فضل عنهما، سار جوبان وابن خربندا عن بغداد إلى قنغرلان وهي المدينة الجديدة المسماة بالسلطانية، وفي هذه السنة توجهت من حماة إلى الديار المصرية، وخرجت الخيل قدامي من حماة في نهار السبت، منتصف جمادى الأولى، الموافق لنصف تموز أيضاً، وتأخرت أنا بحماة ثم خرجت من حماة وركبت خيل البريد، في نهار الاثنين، الرابع والعشرين من جمادى الأولى والرابع والعشرين من تموز، ولحقت خيلي وثقلي بغزة نهار الأحد، غرة جمادى الآخرة وهو اليوم الثلاثون من تموز، وسرت بهم جميعاً ووصلت إلى قلعة الجبل، وحضرت بين يدي مولانا السلطان الملك الناصر خلد الله ملكه بها، في نهار الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة، الموافق لعاشر آب الرومي، وشملتني صدقاته بالتنزيل في الكبش، وترتيب الرواتب الكثيرة، بعد ما كان رتب لي في جميع المنازل من حماة إلى الديار المصرية، الرواتب الزائدة عن كفايتي وكفاية كل من هو في صحبتي من الأغنام والخبز والسكر وحوائج الطعام والشعير. وألبسني تشريفاً في حال قدومي من الأطلس بطرز الزركش والكلوته على العادة، وأركبني حصاناً بسرج محلى بالذهب، وأقمت تحت صدقاته في الكبش، على أجمل حال. ثم إنه عن لي أن أرى مدينة الإسكندرية، فسألت ذلك، وحصلت الصدقات السلطانية بإجابتي لذلك، وتقدمت المراسيم أنني أسير إليها في المراكب، وأعود في السير على الخيل، فسرت أنا ومن في صحبتي في حراقتين، وتوجهت من الكبش في يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، وهو الموافق للحادي والعشرين من آب، وسرت في النيل إلى أن وصلت إلى

فوه، وسرنا منها في الخليج الناصري، ووصلت الإسكندرية في بكرة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، ووصلني بها من صدقات السلطان مائة قطعة قماش من عمل إسكندرية، وأقمت بها حتى صليت الجمعة، وخرجت من إسكندرية وركبت الخيل وبت في تروجة، ووصلت إلى الكبش بكرة الاثنين الثلاثين من جمادى الآخرة وأقمت به، وكسر الخليج بحضوري في يوم الأربعاء ثاني رجب، الموافق للثلاثين من آب وأول يوم من توت، من شهور القبط. ثم شملتني الصدقات السلطانية بزيادة عدة قرايا من بلد المعرة، على ما هو مستقر بيدي، وأفاض علي وعلى من هو في صحبتي بالتشاريف، وأمرني بالعود إلى بلدي، فخرجت من بين يديه من الميدان، في نهار السبت ثاني عشر رجب من هذه السنة، الموافق لثامن من أيلول، ووصلت إلي حماة نهار الخميس مستهل شعبان الموافق للثامن والعشرين من أيلول، واستقريت فيها. وفي هذه السنة أعني سنة ثمان عشرة، عند توجه الحاج من مصر، أرسل السلطان الأمير بدر الدين ابن التركماني، وكان المذكور مشد الدواوين بديار مصر، فأرسله السلطان مع الحجاج إلى مكة بعسكر، وسار المذكور حتى وصل ووقف الوقفة، وفي أيام التشريف، أرسل رميثة صاحب مكة حسبما أمر به مولانا السلطان، بحكم تقصيره ومواطاته في الباطن لأخيه حميضة، وأرسله معتقلاً إلى ديار مصر، واستقر بدر الدين ابن التركماني المذكور نائباً وحاكما في مكة، ولما دخلت سنة تسع عشرة وسبعمائة، أرسل السلطان عطيفة، وهو من إخوة حميضة، وكان عطيفة المذكور مقيماً بمصر، فأرسله السلطان ليقيم بها مع بدر الدين ابن التركماني المذكور. وفي أواخر هذه السنة، أعني سنة ثماني عشرة وسبعمائة حالفت عقيل عرب الإحساء والقطيف، على مهنا بن عيسى وطردوا أخاه فضلاً عن البصرة، فجمع مهنا العرب وقصد عقيل، والتقى الجمعان وافترقا على غير قتال ولا طيبة، بعد أن أخذت عقيل أباعر كثيرة تزيد على عشرة آلاف من عرب مهنا المذكور، وعاد كل من الجمعين إلى أماكنهما، وكانت هذه البرية وغالب بلاد الإسلام مجدبة لقلة الأمطار، وهلك العرب، وضرب دواب تفوت الحصر. وفيها قريباً من منتصف هذه السنة، خرج اللحياني، وهو أبو زكريا يحيى الحفصي من ملك تونس، وكان اللحياني المذكور قد ملك إفريقية، حسبما سقنا وقدمنا ذكره مع جملة الحفصيين في سنة اثنتين وخمسين وستمائة، فلما كانت هذه السنة، جمع أخو خالد الذي مات في حبس اللحياني، فقصد اللحياني فهرب منه إلى طرابلس وتملك أخو خالد تونس، ولم يقع لي اسم أخي خالد المذكور. وكان للحياني ولد شهم، وكان اللحياني المذكور يخاف منه، فاعتقل ولده المذكور. فلما استولى أخو خالد المذكور على تونس، وطرد اللحياني عن المملكة، أخرج اللحياني ولده من الاعتقال، وجمع إليه الجموع؛ والتقى مع أخي خالد، فانتصر أخو خالد وقتل ابن اللحياني، واستقر اللحياني بطرابلس

ذكر الوقعة العظيمة التي كانت بالأندلس

الغرب كالمحصور بها. ثم إن اللحياني أيس من البلاد، وهرب بأهله ومن تبعه، وقدم بهم إلى الديار المصرية في سنة تسع عشرة، وقصد الحج وتوجه مع الحجاج فمرض ورجع من أثناء الطريق. ثم إنه قصد الإقامة بالإسكندرية فسار إليها وأقام بها. ثم دخلت سنة تسع عشرة وسبعمائة في هذه السنة في أواخر ربيع الآخر، هرب رميثة بن أبي نمي الذي كان صاحب مكة، وكان المذكور أفرج عنه وأكرم غاية الإكرام فسولت له نفسه الهروب إلى الحجاز، فهرب وأركب السلطان خلفه جماعة، وتبعوه وأمسكوه بالقرب من عقبة إيله، على طريق حاج مصر وأحضروه فاعتقل بقلعة الجبل. ذكر الوقعة العظيمة التي كانت بالأندلس وفي هذه السنة، اجتمعت الفرنج في جمع عظيم، واجتمعت فيه عدة من ملوكهم، وكان أكبرهم ملك قشتيلية، واسمه جوان، وقصد ابن الأحمر ملك غرناطة، فبذل له قطيعة، في كل يوم مائة دينار وفي كل أسبوع ألف دينار، فأبى الفرنج أن يقبلوا ذلك، فخرج المسلمون من غرناطة بعد أن تعاهدوا على الموت، واقتتلوا معهم، فأعطاهم الله النصر، وركبوا قفاء الفرنج يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا، وقتل جوان المذكور وأسرت امرأته، وحصل للمسلمين من الغنائم ما يفوق الحصر، حتى قيل كان فيها مائة وأربعون قنطاراً من الذهب والفضة، وأما الأسرى فتفرق الحصر. ذكر مسيري إلى مصر ثم الحجاز الشريف وفي هذه السنة، حج السلطان من الديار المصرية، ولما قرب أوان الحج، أرسل جمال الدين عبد الله البريدي ورسم إلى أن أحضر إلى الأبواب الشريفة، فركبت خيل البريد وأخذت في صحبتي أربعة من مماليكي، وخرجت من حماة يوم الجمعة، سادس عشر شوال، الموافق، لسلخ تشرين الثاني، وسرت حتى وصلت إلى مصر من شوال الموافق الثامن كانون الأول، ونزلت بالقاهرة بدار القاضي كريم الدين، وأقمت حتى خرجت صحبة الركاب السلطاني. ذكر خروج السلطان وتوجهه إلى الحجاز وفي هذه السنة، في يوم السبت، ثاني ذي القعدة خرج السلطان إلى الدهليز المنصوب، وكان قد نصب له لرب العش، وخرج من قلعة الجبل بكرة السبت المذكور، وتصيد في طريقه الكراكي، وكنت بين يديه فتفرج على الصيد، وصاد عدة من الكراكي من السقاقر وغيرها، ونزل بالدهليز المنصوب وأقام به يتصيد في كل نهار ببلاد الحوف، ورحل من المنزلة المذكورة بكرة الخميس سابع ذي القعدة، الموافق لعشرين من كانون الأول، وسار على درب الحاج المصري على السويس وأبلة، وسرت في صدقاته حتى وصلنا رابغ

ذكر قدوم السلطان إلى مقر ملكه

في يوم الاثنين، ثاني ذي الحجة، الموافق لرابع عشر كانون الثاني وأحرم من رابغ وسار منها في يوم الثلاثاء غد النهار المذكور. واتفق من جملة سعادته وتأييده طيب الوقت، فإنه كان في وسط الأربعينيات، ولم نجد برداً نشكو منه مدة الإحرام، وسار حتى دخل مكة بكرة السبت سابع ذي الحجة، ثم سار إلى منى، ثم إلى مسجد إبراهيم، وأقام هناك حتى صلى به الظهر وجمع إليها العصر، ووقف بعرفات راكباً تجاه الصخرات في يوم الاثنين، ثم أفاض وقدم إلى منى وأكمل مناسك حجه، وكان في خدمته القاضي بدر الدين جماعة قاضي قضاة ديار مصر الشافعي، وواظب المسلطان في جميع أوقات المناسك، بحيث إن السلطان حافظ على الأركان والواجبات والسنن، محافظة لم أرها من أحد، ولما كمل مناسك حجه، سار عائداً إلى مقر ملكه بالديار المصرية. وخرجت هذه السنة، أعني سنة تسع عشرة، وهو بين ينبع وإيلة، بمنزلة يقال لها القصب، وهي إلى إيلة أقرب. ولقد شاهدت من جزيل صدقاته في هذه الحجة ما لم أقدر أن أحصره، وإنما أذكر نبذة منه، وهو أنه سار في خدمته ما يزيد على ستين أمير أصحاب طبلخانات، وكان لكل منهم في كل يوم في الذهاب والإياب ما يكفيه، من عليف الخيل والماء والحلوى والسكر والبقسماط، وكذلك لجميع العسكر الذين ساروا في خدمته، وكان يفرق فيهم في كل يوم في تلك المفاوز وغيرها، ما يقارب أربعة آلاف عليفة شعير، ومن البقسماط الحلوى والسكر ما يناسب ذلك، وكان في جملة ما كان في الصحبة الشريفة أربعون جملاً تحمل محاير الخضراوات مزروعة، وكان في كل منزلة يحصد من تلك الخضراوات ما يقدم صحبة الطعام بين يديه، وفرق في منزلة رابغ على جميع من في الصحبة من الأمراء والأجناد وغيرهم، جملاً عظيمة من الدراهم، بحيث كان أقل نصيب فرق في الأجناد ثلاثمائة درهم، وما فوق ذلك إلى خمسمائة درهم، ونصيب أمراء العشرات ثلاثة آلاف درهم؛ وأما الأمراء أصحاب الطبلخانات فوصل بعضهم بعشرين ألف درهم؛ وبعضهم بأقل من ذلك؛ فكان شيئاً كثيراً، وأما التشاريف فأكثر من أن تحصر، ثم كان ما سنذكره في سنة عشرين وسبعمائة إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة عشرين وسبعمائة. ذكر قدوم السلطان إلى مقر ملكه استهل السلطان غرة المحرم من هذه السنة في القصب، وهي منزلة عن إيلة على تقدير أربعة مراحل، وسار السلطان منها ونزل بإيلة، وأقام بها ثلاثة أيام ينتظر وصول خيل وخزانة كانت له بالكرك، وبعد وصول ذلك، رحل السلطان وسار حتى دخل قلعة الجبل، بكرة نهار السبت، ثاني عشر المحرم من هذه السنة، الموافق للثالث والعشرين من شباط، وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً ركب جميع الجيش وقبلوا الأرض بين يديه، ولما صار

ذكر ما أولاني من عميم الصدقات وجزيل التطولات

على تقدير أربعة آلاف ذراع من القلعة أخذت الأمراء في بسط الشقق الفاخرة بين يدي فرسه، فبسطوا واستمر البسط إلى أن دخل القلعة المنصورة في أسعد وقت من ضحى يوم السبت المذكور. ذكر ما أولاني من عميم الصدقات وجزيل التطولات سرت من حماة على البريد، ولم يصحبني مركوب لي ولا شيء من أدوات المسافر، فتصدق علي وأنزلني عند القاضي كريم الدين، فكان يبالغ في الإحسان إلي بأنواع الأمور من الملابس والمراكيب والأكل، وكان ينصب لي خادماً مختصاً بي يكفي بجميع ما احتاجه من الفرش للنوم والمأكل والغلمان المختصة بي، وكان مع ذلك لم تنقطع التشاريف على اختلاف أنواعها، لأخلعها على من أختار، وكان السلطان في طول الطريق، في الرواح والعود، يتصيد الغزلان بالصقور، وأنا في صدقاته أتفرج، ويرسل إلي من الغزلان التي يصيدها، وتقدم مرسومه إلي ونحن نسير أنني إذا وصلت إلى ديار مصر أسلطنك، وتتوجه إلى بلدك وأنت سلطان، واستعفيت عن ذلك واستقللته، وتألمت منه استصغاراً لنفسي وتعظيماً لاسمه الشريف أن يشارك فيه، وبقي الأمر في ذلك كالمتردد إلى أن وصل إلى مقر ملكه حسبما ذكرناه، ونزلت أنا عند القاضي كريم الدين بداره داخل باب زريلة، بالقرب إلى بين القصرين، وأقمت هناك، وتقدم مرسوم السلطان بإرسال شعار السلطنة إلي، فحضرت الموالي والأمراء؛ وهم سيف الدين الماس أمير حاجب، وسيف الدين قجليس، والأمير علاء الدين أيدغمش، أمير أخور. والأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي، والأمير سيف الدين طيبال؛ أمير حاجب أيضاً، وحضر من الأمراء الخاصكية تقدير عشرين أميراً، وحضر صحبتهم التشريف الأطلس، الكامل المزركش، والنمجا الشريفة السلطانية والغاشية المنسوجة بالذهب المصري، وعليها القبة والطير وثلاثة سناجق، وعصائب وتقليد يتضمن السلطنة، والجمدارية السلطانية، وسلحدار بسيفين معلقين على كتفه، والشاويشية، وحضر جميع ذلك إلى المدرسة المنصورية بين القصرين، وقدم لي حصان كامل العدة، فركبته بكرة الخميس سابع عشر المحرم الموافق للثامن والعشرين من شباط بالشعار المذكور، ومشت الأمراء إلى أثناء الطريق وركبوا، ولما قاربت قلعة الجبل نزلوا جميعهم، واستمريت حتى وصلت إلى قرب باب القلعة، ونزلت وقبلت الأرض للسلطان إلى جهة القلعة، وقبلت التقليد الشريف، ثم أعدت قبيل الأرض مراراً، ثم طلعت صحبة النائب، وهو المقر السيفي أرغون الدوادار إلى قلعة، وحضرت بين يدي السلطان في ضحوة النهار المذكور، فقبلت الأرض فأولاني من الصدقة ما لا يفعله الوالد مع ولده، وعند ذلك أمرني بالمسير إلى حماة، وقال أيا فلان لك مدة غائب؛ فتوجه إلى بلدك. فقبلت الأرض وودعته، وركبت

ذكر الإغارة على سيسر وبلادها

خيل البريد عند العصر من نهار الخميس المذكور، وشعار السلطنة صحبتي على فرس يد، وسرت حتى قاربت حماة، وخرج من بها من الأمراء والقضاة، وتلقوني، وركبت بالشعار المذكور، ودخلت حماة ضحوة نهار السبت، السادس والعشرين المحرم من هذه السنة الموافق لثامن آذار بعد أن قرئ تقليد السلطنة بنقيرين في خام كان قد نصب هناك، ولولا مخافة التطويل كنا ذكرنا نسخته. ذكر الإغارة على سيسر وبلادها في هذه السنة تقدمت مراسيم السلطان بإغارة العساكر على بلاد سيس، ورسم لمن عينه من العساكر الإسلامية الشامية، فسار من دمشق تقدير ألفي فارس وسار الأمير شهاب الدين قرطاي بعساكر الساحل، وجردت من حماة أمراء الطبلخانات الذين بها، وسارت العساكر المذكورة من حماة في العشر الأول من ربيع الأول من هذه السنة، ووصلوا إلى حلب، ثم خرجت عساكر حلب صحبة المقر العلاى الطنبغا، نائب السلطنة بحلب، وسارت العساكر المذكورة عن آخرهم، ونزلوا بعمق حارم، وأقاموا به مدة، ثم رحلوا ودخلوا إلى بلاد سيس في منتصف ربيع الآخر من هذه السنة، الموافق للرابع والعشرين، من أيار، وساروا حتى وصلوا إلى نهر جيحان، وكان زائداً، فاقتحموه ودخلوا فيه؛ فغرق من العساكر جماعة كثيرة، وكان غالب من غرق من التراكمين الذين من عسكر الساحل، وبعد أن قطعوا جيحان المذكور، ساروا ونازلوا قلعة سيس، وزحفت العساكر عليها حتى بلغوا السور، وغنموا منها وأتلفوا البلاد والزراعات وساقوا المواشي، وكانت شيئاً كثيراً، وأقاموا ينهبون ويخربون، ثم عادوا وقطعوا جيحان وكان قد انحط فلم ينضر أحد به، ووصلوا إلى بغراس في نهار السبت التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر المذكور، ثم ساروا إلى حلب وأقاموا بها مدة يسيرة، حتى وصل إليهم الدستور فسار كل عسكر إلى بلده. وفي هذه السنة في أثناء ربيع الأول وصلت الجهة في البحر إلى الديار المصرية، وكان في خدمتها ما يقارب ثلاثة آلاف نفر من رجال ونساء، واحتفل بهم إلى غاية ما يكون، وأدرت عليهم الإنعامات والصلات. ذكر قطع أخبار آل عيسى وطردهم عن الشام في هذه السنة تقدمت مراسم السلطان بقطع أخبار المذكورين؛ وطردهم بسبب سوء صنيعهم، فقطعت أخبارهم، ورحلوا عن بلاد سلمية في يوم الاثنين ثاني جمادى الأولى من هذه السنة، الموافق لعاشر حزيران، وساروا إلى جهات عانة والحديثة على شاطئ الفرات. وفيها عند رحيل المذكورين، وصل الأمير سيف الدين قجليس، وسار بجمع عظيم من العساكر الشامية والعرب في إثر المذكورين، حتى وصل إلى الرحبة،

ذكر هلاك صاحب سيس

ثم سار منها حتى وصل إلى عانة، ولما وصل المذكور هناك، هرب آل عيسى إلى وراء الكبيسات، وعيسى المذكور هو أعيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن عصبة بن فضل بن ربيعة، وأقام السلطان موضع مهنا؛ محمد بن أبي بكر بن علي بن حديثة بن عصبة المذكور، ولما جرى ذلك، عاد الأمير سيف الدين المذكور وأقام بالرحبة حتى نجزت مغلاتها وحملت إلى القلعة، ثم سار منها ونزل على سلمية في يوم الخميس منتصف رجب من السنة المذكورة، الموافق للحادي والعشرين من آب، واستمر مقيماً على سلمية حتى وصل إليه الدستور، فسمار منها إلى الديار المصرية في يوم الاثنين تاسع شهر رمضان من السنة المذكورة، الموافق لثالث عشر تشرين الأول، وأتم سيره حتى وصل إلى مصر. ذكر هلاك صاحب سيس في هذه السنة مات صاحب سيس، أرشين بن ليفون، عقيب الإغارة على بلده، وكان المذكور مريضاً لما دخلت العساكر إلى بلاده، وشاهد حريق بلاده وخراب أماكنه، وقتل رعيته وسوق دوابهم، فتضاعفت أحلامه وهلك في جمادى الأولى من هذه السنة، وخلف ولداً صغيراً دون البلوغ فأقيم مكانه، وتولى تدبير أمره جماعة من كبار الأرمن. ذكر مقتل حميضة ولما جرى من حميضة ما تقدم ذكره، واستمر وصول العساكر من الديار المصرية إلى مكة لحفظها من المذكور رأى المذكور عجزه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فعزم على الحضور إلى مقدم العسكر المقيم بمكة، وهو الأمير ركن الدين بيبرس أمير أخور، ودخوله في الطاعة، وكان قد هرب من بعض المماليك السلطانية من منى، لما حج السلطان، ثلاثة مماليك، يقال لأحدهم أيدغدي والتجأوا إلى حميضة في برية الحجاز، فآواهم وأكرم مثواهم، فلما عزم حميضة على الحضور إلى الطاعة، اتفقوا على قتله واغتياله، وكان حميضة قد نزل على القرب من وادي نخلة، فلما كان وقت القيلولة، ذهب إلى تحت شجرة ونام، فقتله أيدغدي المذكور بالسيف، وقطع رأس حميضة وأحضره إلى مقدم العسكر بمكة، فحمل إلى جن يدي السلطان بالديار المصرية، وكفى الله شر حميضة المذكور ولقاه عاقبة بغيه. وكان حميضة المذكور قد ذبح أخاه أبا الغيث فاقتص الله منه، وكان مقتله في يوم الخميس سابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، الموافق للرابع والعشرين من تموز، بالقرب من وادي نخلة. وفيها تصدق السلطان على ولدي محمد، وأرسل له تشريفاً، أطلس أحمر بطرز زركش، وقندس، وتحتاني أطلس أصفر، وشربوش مزركش، ومكلل باللؤلؤ، وأمر له بأمرية وستين فارساً لخدمته طبلخاناه، فركب محمد بالتشريف المذكور بحماة، يوم الاثنين الخامس من رجب الموافق لحادي عشر آب، وكان

عمره حينئذ نحو تسع سنين. وفيها حج المقر السيفي أرغون الدوادار، وكان السلطان قد عفى عن رميثة وأفرج عنه، وأرسله صحبة المقر السيفي إلى مكة، ورسم لرميثة المذكور بنصف متحصل مكة، ويكون النصف الآخر لعطيفة أخيه، فسافر المقر السيفي وقرر رميثة بمكة حسبما رسم به السلطان. وفيها في يوم الاثنين، تاسع ذي الحجة وصل المجد إسماعيل السلامي رسولاً من جهة أبي سعيد، ملك التتر، ومن جهة جوبان، وعلى شاه، بهدايا جليلة، وتحف ومماليك وجواري، مما يقارب قيمته خمسين تماناً، والتمان هو البدرة، وهي عشرة آلاف درهم، وسار بذلك إلى السلطان. وفيها في شوال، الموافق لتشرين الثاني، شرعت في عمارة القبة، وعمل المربع والحمام، على ساقية نخيلة بظاهر حماة، وفرغت العمارة في المحرم من سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، وجاء ذلك من أنزه الأماكن. وفيها أو في أواخر سنة تسع عشرة وسبعمائة، جرى بين الفرنج الجنويين قتال شديد، وذلك بين قبيلتين منهم، يقال لإحدى القبيلتين إسبينيا، وللأخرى دوريا، حتى قتل منهم ما ينيف عن خمسين ألف نفر، وكان إحدى القبيلتين أصحاب داخل جنوة، والأخرى أصحاب خارج البلد إسبينيا - بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر الباء الموحدة من تحتها وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر النون وفتح ياء مثناة من تحتها. وفي آخرها ألف مقصورة - ودويار - بضم الدال المهملة وسكون الواو وكسر الراء المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وفي آخرها ألف والله أعلم. ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وسبعمائة. فيها في مستهل جمادى الأولى توفيت بحماة فاطمة خاتون بنت الملك المنصور صاحب حماة، وكانت كثيرة الإحسان. وفيها عدى مهنا بن عيسى الفرات، وتوجه إلى أبي سعيد ملك التتر مستنصراً به على المسلمين، وأخذ معه تقدمة برسم التتر، سبعمائة بعير وسبعين فرساً وعدة من الفهود. وفيها حضر رسول تمرتاش بن جوبان المستولي على بلاد الروم، بتقدمة إلى الأبواب الشريفة بديار مصر. وفيها ورد مرسوم السلطان على مؤلف الأصل، يأمره الحضور ليسير معه في صيوده، قال أفسرت من حماة على البريد، وسبقت تقدمتي وحضرت لدى المواقف الشريفة، وهو نازل بالقرب من قليوب فبالغ في إدرار الصدقات علي. وفيها رحل السلطان من الأهرام، وسار في البرية متصيداً حتى وصل إلى الحمامات وهي غربي الإسكندرية على مقدار يومين، ثم عاد إلى القاهرة. وفيها دخل تمرتاش المذكور بعسكره إلى بلاد سيس، وأغار وقتل؛ فهرب صاحب سيس إلى قلعة إياس التي في البحر، وأقام تمرتاش ينهب ويخرب نحو شهر، ثم عاد إلى بلاد الروم. وفيها عاد مؤلف الأصل من الخدمة الشريفة إلى حماة. وفيها توجه نائب الشام تنكز إلى الحجاز

ذكر وفاة صاحب اليمن

الشريف، وكان قد توجه من الديار المصرية الأدر السلطانية إلى الحج بتجمل وعظمة لم يعهد مثلها. ذكر وفاة صاحب اليمن وفيها ليلة الثلاثاء في ذي الحجة، توفي بمرض ذات الجنب بتعز، الملك لمؤيد هزبر الدين داود بن المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول، فاتفق أرباب الدولة وأقاموا ولده علي، ولقب الملك المجاهد بسيف الإسلام بن داود المذكور، وهو إذ ذاك أول ما قد بلغ، ثم خرج عليه عمه الملك المنصور أيوب، ولقبه زين الدين، أخو عاود، في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، فملك اليمن واعتقل ابن أخيه سيف الإسلام، وقعد المنصور في مملكة اليمن دون ثلاثة أشهر، ثم هجم جماعة من العسكر وأخرجوا سيف الإسلام وأعادوه إلى ملك اليمن، واعتقلوا عمه المنصور أيوب، وبقي أمر مملكة اليمن مضطرباً غير منتظم الأحوال. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة فيها وصل الأمير فضل بن عيسى صحبة الأدر السلطانية من الحجاز، داخلاً عليهم مستشفعاً بهم، فرضي عنه السلطان وأقره على إمرة العرب موضع محمد بن أبي بكر، أمير آل عيسى. ذكر فتوح إياس فبها وصل بعض العساكر المصرية والشامية والساحلية، وسار صحبتهم غالب عسكر حماة إلى حلب المحروسة، وانضم إليهم عسكرها، وتقدم عليهم نائب حلب الطنبغا. وأتموا السير حتى نازلوا إياس من بلاد سيس، وحاصروها وملكوها بالسيف، وعصت عليهم القلعة التي في البحر، فأقاموا عليها منجنيقاً عظيماً، وركب المسلمون إليها طريقين في البحر؛ إلى أن قاربوا القلعة، فهربت الأرمن منها، وأخلوها ولاقوا في القلعة ناراً، وملك المسلمون القلعة نهار الأحد الحادي والعشرين من ربيع الآخر، وهدموا ما قدروا على هدمه، وعاد كل عسكر إلى بلده. وفيها توجه أتامش الناصري رسولاً إلى أبي سعيد ملك التتر، وعاد إلى القاهرة بانتظام الأمر واتفاق الكلمة. وفيها وصل مؤلف الأصل تغمده الله برحمته، إلى خدمة السلطان، قال أوسرت في خدمة السلطان، إلى الأهرام، وحضر هناك رسول صاحب برشلونة وهو أحد ملوك الفرنج بجهات الأندلس، فقبل السلطان هديتهم وأنعم عليه أضعاف ذلك، ثم رحل من الأهرام وتوجه إلى الصعيد الأعلى وأنا معه، إلى أن وصلنا دندرة، وهي عن قوص مسيرة يوم، وعدنا إلى القاهرة. ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة فيها عاد الملك المؤيد إلى حماة من خدمة السلطان؛ بعد أن غمره بالأنعام والعطايا.

ذكر السنة الحمراء

ذكر السنة الحمراء فيها جدبت الأرض بالشام، من دمشق إلى حلب، وانحبس القطر، ولم ينبت شيء من الزراعات إلا القليل النادر، واستسقى الناس في هذه البلاد، فلم يسقوا، وأما السواحل التي من طرابلس إلى اللاذقية وجبل اللكام، فإن الأمطار مازالت تقع في هذه النواحي فاستوت زراعاتهم. وفيها مات قاضي القضاة الشافعي بدمشق المعروف بابن صقر وهو نجم الدين أحمد، وولى مكانه جمال الدين المعروف بالزرعي. وفيها عزل السلطان كريم الدين بن عبد الكريم عن منصبه، واستعاد منه ما كان عنده من الأموال، وأرسله إلى الشوبك، فأقام بها، وولى مكانه أمين الملك عبد الله. وفيها رسم السلطان لمؤلف الأصل أن لا يرسل قوده، نظراً في حاله، بسبب محل البلاد، فأرسلت عدة يسيرة من الخيل التي كنت حصلتها، فتصدق علي بتشريف كامل على عادتي، وستين قطعة إسكندري، وخمسين ألف درهم، وألف مكوك حنطة. وفيهما حضرت رسل أبي سعيد ملك التتر، ورسل نائبه جوبان، وتوجهوا إلى الأبواب الشريفة بالقاهرة، ثم عادوا إلى بلادهم. وفيها وصلت الملكة بنت أبغا؛ واسمها قطلو؛ وفي خدمتها عدة كثيرة من التتر، وتوجهت إلى الحج ورسم السلطان ورتب لها في الطرقات الإقامات الوافرة. ثم دخلت سنة أربع وعشرين وسبعمائة فيها تقدم السلطان بإبطال المكوس والضرائب عن سائر أصناف الغلة بجميع الشام فأبطل، وكان ذلك جملة تخرج عن الإحصاء. ذكر المتجددات في بلاد الروم كان ببلاد الروم تمرتاش بن جوبان، فاستولى عليها، واستكثر من المماليك، قطع ما كان يحمل منها إلى الأردو والخواتين، وصار كلما جاءه رسول لطلب المال يهينه، ويعيده بغير زبدة، فلما كثر ذلك منه، سار إليه أبوه جوبان، فعزم تمرتاش على شال أبيه، واتفق في عسكره ومماليكه، فلما قرب جوبان منه، فارقه عسكره وصاروا مع جوبان، فلما رأى تمرتاش ذلك، حضر مستسلماً إلى أبيه جوبان، فتقدم جوبان بإمساكه وأخذه معه معتقلاً إلى الأردو، وذلك بعد أن أقام ببلاد الروم شخصاً من التتر موضع تمرتاش. ذكر المتجددات باليمن في هذه السنة، لم يبق، في يد الملك المجاهد علي بن داود غير حصن تعز، خرج باقي ملك اليمن عنه، وصار بيد ابن عمه صاحب الدملوة، وتلقب بالملك الظاهر. وفيها نزل الأمير مهنا ابن عيسى بظاهر سلمية من بلاد حمص، عند تل أعدا، وكان له ما يزيد عن عشر سنين لم ينزل بأهله هناك، وكان الأمر والنهي إليه في العرب، وخبز الإمرة لأخيه

ذكر عمارة القصور بقرية سرياقوس والخانقاه

فضل بن عيسى. وفيها ورد مرسوم السلطان إلى صاحب حماة بالمسير إلى خدمته، فسار وأخذ معه ولده محمداً وأهله، قال أوحضرت بين يدي السلطان بقلعة الجبل مستهل الحجة، فبالغ في أنواع الصدقات علي، وعلى من كان معي، وعلى ولدي، ووصل وأنا هناك رسل أبي سعيد ملك التتر، ويقال لكبيرهم طوغان، وهو من جهة، أبي سعبد، والذي من بعده حمزة وهو من جهة جوبان، وصحبتهما الطواشي ريحان خزندار أبي سعيد، وكان مسلماً ما كان صحبتهم من الهدايا، وحضر المذكورون بين. يدي السلطان بقلعة الجبل، وكان يوماً مشهوراً لبس فيه جميع الأمراء والمقدمون، لمماليك السلطانية وغيرهم الكلوتات المزركشات، والطرز الذهب، ولم يبق من لم يلبس ذلك غير الملك الناصر، وأحضر المذكورون التقدمة، وأنا حاضر، وهي ثلاثة أكاديش بثلاثة سروج ذهب مصري مرصعة بأنواع الجواهر، وثلاث حوائص ذهب مجوهرة وسيف، وجميعها بطرز زركش ذهب، وشاشاً فيه قبضات عدة زركش ذهب، وإحدى عشر بختياً مزينة، أحمالها صناديق، ملؤها قماش من معمول تلك البلاد، وعدتها سبعمائة شقة قد نقش عليها ألقاب السلطان، فقبل ذلك منهم وغمر الرسل بأنواع التشاريف والأنعام. وكان عيد الأضحى بعد ذلك بيومين، واحتفل السلطان للعيد احتفالاً عظيماً يطول شرحه، وأقام رسل التتر ينظرون إلى ذلك، ثم أحضرهم وخلع عليهم نائباً وأوصلهم مناطق من الذهب، ومبالغاً تزيد على مائة ألف درهم، وأمرهم بالعود إلى بلادهم، ثم بعد ذلك عبر السلطان النيل ونزل بالجيزة، ثالث عشر الحجة، وكان قد طلع النيل وزاد على ثمانية عشر ذراعاً، ووصل إلى قريب الذراع التاسع عشر، وطال مكثه على البلاد، فأقام بالجيزة حتى جفت البلاد لأجل الصيد، ثم رحل وسار إلى الصيد وأنا بين يديه الشريفتين. وفيها مات علي شاه وزير ملك التتر، وكان المذكور قد بلغ منزلاً عظيماً من أبي سعيد وغيره، وأنشأ بتبريز الجامع الذي لم يعهد مثله، ومات قبل إتمامه، وهو الذي نسج المودة بين الإسلام والتتر رحمه الله تعالى. ثم دخلت سنة خمس وعشرين وسبعمائة فيها عاد الملك الناصر إلى القاهرة، وأعطى لصاحب حماه الدستور بعد ما غمره بالصدقات، ورسم له بألفي مثقال ذهب؛ وثلاثين ألف درهم؛ ومائة شقة من أفخر القماش الإسكندري، ووصل إلى حماة شاكراً ناشراً. ذكر عمارة القصور بقرية سرياقوس والخانقاه في هذه السنة تكملت القصور والبساتين بسرياقوس، وهي قرية في جهة الشمال. عن القاهرة، على مرحلة خفيفة، وعمر السلطان على طريق الجادة الآخذة إلى الشام، بالقرب من العش، خانقاه، وأنزل جماعة من الصوفية بها، ورتب لهم الرواتب الجليلة،

ذكر إرسال السلطان العسكر إلى اليمن

وأرسل صاحب حماة هدية تليق الخانقاه المذكورة مثل كتب وبسط وغير ذلك. ذكر إرسال السلطان العسكر إلى اليمن وفيها بلغ السلطان اضطراب حال اليمن وفساد أحوال الرعية، فأرسل إليهما جيشاً، وقدم على الجيش الأمير ركن الدين بيبرس، الذي كان أمير أخور، ثم أمير حاجب، والأمير سيف الدين طينال الجاجب حينئذ، وكان توجه العسكر المذكور من الديار المصرية، في شهر ربيع الأول من هذه السنة، ووصلوا إلى اليمن وخرج إليهم الملك المجاهد ابن الملك المؤيد صاحب اليمن، وهو إذ ذاك شاب جاهل ليس له معرفة بما يجب عليه، فقصر في حق العسكر، ثم إنه لتقصيره في حقهم، استوحش منهم، ودخل قلعة تعز وعصى بها، ولم يكن مع العسكر مرسوم بملك اليمن، بل بمساعدة المذكور وتقرير أمر ولايته، ووجدوا في طريقهم مشقة عظيمة من العطش والجوع، ووصلوا إلى مصر في شوال من هذه السنة، فلم يعجب السلطان ما صدر منهم، وأنكر عليهم، واعتقل المقدم بيبرس المذكور. وفي هذه السنة أحضر علاء الدين الطبنغا بحلب إلى حماة متوجهاً إلى خدمة السلطان، وتوجه من حماة ثالث في القعدة من هذه السنة، الموافق لثاني عشر تشرين الأول، ثم عاد وعبر على حماة وتوجه إلى حلب، تاسع وعشرين ذي القعدة المذكورة. ثم دخلت سنة ست وعشرين وسبعمائة أوكان أول محرم يوم الأحد وهو الموافق لثامن كانون الأول. وفيها في منصف ربيع الآخر، الموافق لحادي وعشرين آذار، خرجت بعسكر حماة ووصلت إلى القناة الواصلة من سلمية إلى حماة، وقسمتها على الأمراء والعسكر لينظفوها، فإنها كانت قد آلت إلى التلف؛ بسبب ما اجتمع فيها من الطين، فحرروها في نحو أسبوع؛ ثم عدت إلى حماة. وفيها وصل الأمير سيف الدين أتامش متوجهاً رسولاً إلى أبي سعيد وجوبان وكان صحبته تقدمة جليلة للمذكورين وكان عبوره على حماة، وتوجهه إلى البلاد الشرقية منها في سادس جمادى الأولى وتاسع أيار. وفيها في أوائل جمادى الآخرة عزل السلطان الأمير شهاب الدين قرطاي من نيابة السلطنة بالسواحل، وولى مكانه الأمير سيف الدين طينال الحاجب، وكان وصول طينال إلى تلك الجهة في سادس وعشرين الشهر المذكور. وفيها يوم الاثنين سادس عشر جمادى الآخرة، وتاسع عشر أيار، وكانت وفاة مملوكي طيدمر، وكان المذكور قد صار أميراً كبيراً عندي، وكان مريضاً بالسل مدة طويلة، وجرى علي لفقده أمر عظيم، رحمه الله تعالى. وفيها وصل رسول جوبان وصحبته طاي بضا، قرابة السلطان وكان عبوره على حماة في منتصف جمادى الآخرة. وفيها في ثامن عشر شعبان، عاد سيف الدين من الأردو، وعبر على حماة وتوجه إلى الأبواب الشريفة. وفيها في شعبان حضر نجم

ذكر وفاة أخي بدر الدين حسن رحمه الله تعالى:

الدين صاحب حصن كيفا متوجهاً إلى الحجاز ثم بطل المسير إلى الحجاز وسار إلى عند السلطان إلى مصر، فأنعم عليه السلطان وأعاده، فعبر على حماة وتوجه إلى حصن كيفا. وفيها حال وصوله إليها قتله أخوه، وكان أخوه مقيماً هناك، وملك أخوه الحصن، والمذكوران من ولد تورانشاه ابن الملك الصالح أيوب ابن الكامل ابن العادل ابن أيوب. وفيها أمر السلطان بطرد مهنا وعربه، وأمرني بإرسال عسكر إلى الرحبة لحفظ زرعها من المذكورين، فجردت إليها أخي بدر الدين ومحموداً ابن أخي، واسنبغا مملوكي، فساروا إليها بمن في صحبتهم في مستهل شهر رمضان، ووصلوا وأقاموا بها وعادوا إلى حماة في حادي وعشرين ذي القعدة من السنة المذكورة، الموافق لتاسع عشر تشرين الأول. ذكر وفاة أخي بدر الدين حسن رحمه الله تعالى: في هذه السنة مرض أخي حسن عند وصوله من الرحبة، واشتد مرضه، وكاد مرضه حمى بلغمية، وتوفي نهار الثلاثاء مستهل ذي الحجة، وكان عمره يوم وفاته سبعاً وخمسين سنة، وكان أكبر مني بثلاث سنين، وخلف ابنين طفلين وبنتين، وأعطيت أمريته لابنه الطفل وعمره نحو ثلاث سنين، وأقمت لهم نواباً يباشرون أمورهم، ثم مرض محمود ابن أخي أسد الدين عمر، وابتدأ مرضه يوم موت أخي حسن، وقوي مرضه حتى توفي محمود المذكور يوم الأحد ثالث عشر ذي الحجة من السنة المذكورة، وكان بينه وبين وفاة عمه بدر الدين حسن المذكور ثلاثة عشر يوماً، وكان عمر محمود عند وفاته نحو ست وثلاثين سنة. ثم دخلت سنة سبع وعشرين وسبعمائة فيها عزل السلطان نائبه المقر السيفي أرغون من نيابة السلطنة بمصر، وأرسله إلى حلب نائباً بها بعد عزل الطنبغا منها، وكان عبور المقر السيفي أرغون المذكور على حماة يوم الثلاثاء سادس وعشرين المحرم، الموافق لثامن وعشرين كانون الأول، وكانت الأمطار في هذه السنة وفيها تصدق السلطان وأرسل لي حصانين من خيل برقة، أحدهما بسرج ذهب لي؛ والآخر بسرج فضة لابني محمد، ووصل بهما أمير آخور دقماق، وركبناهما يوم الخميس ثالث عشر رجب الفرد، الموافق لرابع حزيران. وفيها في يوم السبت ثالث عشر شعبان حضر من الأبواب الشريفة الأمير علاء الدين قطلوبغا، المعروف بالمغربي، وصحبته رسولا جوبان، وهما أسندمر وحمزة، وتوجه بهما وصلهما إلى البيرة مكرمين، ثم عاد قطلوبغا المغربي المذكور إلى حماة، وتوجه إلى الأبواب الشريفة، وتوفي عند وصوله. وفيها بعد وصول المقر السيفي أرغون إلى حلب، وتوفي ابنه الكبير ناصر الدين محمد بن أرغون؛ وكان أميراً كبيراً في الدولة، وكان وفاته يوم الأربعاء سابع عشر شعبان المذكور.

ذكر أخبار أبي سعيد وجوبان

ذكر أخبار أبي سعيد وجوبان وكان أبو سعيد ملك التتر صبيا عند موت أبيه خربندا، فقام بتدبير المملكة جوبان، ولم يكن لأبي سعيد معه من الأمر شيء حسبما تقدم ذكره، ولما كبر أبو سعيد ووجد أن الأمر مستبد به جوبان، وليس له معه حكم، أضمر لجوبان السوء، وكن جوبان قد سلم الأردو لابنه خواجا دمشق، فحكم خواجا دمشق على أبي سعيد، فاتفق في هذه السنة أن جوبان سار بالعساكر إلى خراسان، واستمر ابنه خواجا دشق حاكماً في الأردو، وكان الأردو إذ ذاك بظاهر السلطانية، وكان خواجا دمشق يروح سراً بالليل إلى بعض خواتين خربندا، فلما خرج شهر رمضان من هذه السنة، ودخل شوال، وتوجه خواجا دمشق في الليل ودخل القلعة ونام عند تلك الخاتون، وكان هناك امرأة أخرى عيناً لأبي سعيد عليها، فأرسلت تلك المرأة وخيرت أبا سعيد بالخبر، واسم المرأة التي هي عين أحجل. ولقلعة السلطانية بابان، فأرسل أبو سعيد عسكراً، ووقفوا على الباب، وأحس خواجا دمشق بذلك، فحمل وخرج من الباب الواحد، فضربوه وأمسكوه وقصدوا إحضاره ممسوكاً بين يدي أبي سعيد، فأرسل أبو سعيد وقال لهم اقطعوا رأسه وأحضروه، فقطعوا رأس خواجا دمشق المذكور، وأحضروه إلى بين يدي أبي سعيد، وبقي المغل يرفسون رأسه، وجمع أبو سعيد كل من قدر عليه، وخاف من جوبان، وأرسل إلى العسكر الذي مع جوبان فيهم بأنه قد عادى جوبان، ولما بلغ جوبان ذلك، سار من خراسان بمن معه من العسكر طالباً أبا سعيد، وسار أبو سعيد إلى جهته، حتى تقارب الجمعان عند مكان يسمى صاري قماش، أي القصب الأصفر، وذلك على مراحل يسيرة من الري، ولما تقارب الجمعان فارقت العساكر عن آخرها جوبان، ورحلوا عنه إلى طاعة أبي سعيد، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة، فلم يبق مع جوبان غير عدة يسيرة، فابتدر جوبان الهرب وقصد نواحي هراة، واختفى خبره، ثم ظهر في السنة الأخرى ثم عدم قيل إنه قتل بهراة، قتله صاحبها، وقيل غير ذلك، وتتبع أبو سعيد كل من كان في المملكة من أولاده والزامه فأعدمهم، واستقرت قدم أبي سعيد في المملكة، وكان أبو سعيد يهوى بنت جوبان واسمها بغداد، وكانت مزوجة للأمير حسن بن أقبغا، وهو من أكبر أمراء المغلة، فطلقها أبو سعيد منه وتزوجها أبو سعيد، وبقيت عند أبي سعيد في منزلة عظيمة جداً. ذكر سفري إلى الأبواب الشريفة في هذه السنة، رسم السلطان لي بالحضور إلى أبوابه الشريفة، لأكون في خدمته في صبوده، فخرجت من حماة يوم الاثنين رابع ذي القعدة، الموافق للحادي والعشرين من أيلول، وأتممت السير أنا وابني محمد حتى وصلنا إلى بلبيس ونزلنا على عيثة، وهي قرية

ذكر خروج السلطان إلى عند الأهرام

خارج بلبيس من جهتها الجنوبية، فمرض ابني محمد المذكور مرضاً شديداً، وأرسل السلطان إلي خيلاً بسروجها لي ولابني ووصلني ذلك إلى بير البيضا، وأنا في شدة عظيمة من الخوف على ولدي، واستمر مرضه يتزايد، والتقيت بالسلطان وقبلت الأرض بين يديه يوم السبت، مستهل ذي الحجة بظاهر سرياقرس، ونزلنا بسرياقوس والسلطان يبالغ في الصدقة بأنواع التشاريف والخيول والمآكل، وأنا مشغول الخاطر، وأقمنا بسرياقوس بالعمائر التي أنشأها السلطان هناك، وأرسل السلطان أحضر رئيس الأطباء إذ ذلك. وهو جمال الدين إبراهيم بن أبي الربيع المغربي، فحضر إلى سرياقوس وبقي يساعدني على العلاج، ثم رحل السلطان من سرياقوس ودخل القلعة، وأرسل إلي حراقة، فركبت أنا وابني محمد فيها، وكان إذ ذاك يوم بحرانة يعني سابع أيام الرض، وهو يوم الخميس، سادس ذي الحجة، ونزلت بدار طقزتمر على بركة الفيل، وأصبح يوم الجمعة المرض منحطاً ولله الحمد، فإنه أفسح بالبحران المذكور، وأقمت تحت ظل صدقات السلطان وبقي يحصل لي عوائق عن ملازمة خدمة السلطان بسبب مرض الولد، فإن الحمى بقيت تعاوده بعد كل قليل، والسلطان يتصدق ويعذرني في انقطاعي ويرسم لي بذلك رحمة منه وشفقة علي، وبقي عنده من مرض ابني أمر عظيم، وبقيت أتردد مع السلطان في هذه النوبة في الصيف في أراضي الجيزة، وأراضي المنوفية، حتى خرجت هذه السنة. ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وكان أول المحرم من هذه السنة يوم الاثنين وكنا بالقاهرة كما تقدم، وخلع علي السلطان في هذا اليوم قباً مذهباً بطرز ذهب مصري، لم يعمل مثله في كبره وحسنه. ذكر خروج السلطان إلى عند الأهرام واستحضار رسل أبي سعيد ثم عدى السلطان إلى الجيزة ونزل عند الأهرام، واستحضر هناك رسل أبي سعيد، ووصلوا مبشرين بهروب جوبان ونصرة أبي سعيد عليه، واستقراره في الملك، وأنه مقيم على الصلح والمحبة، وقصدوا من السلطان استمرارالصلح، فاستحضر السلطان الرسل عند الأهرام في الدهليز الشريف وكان الدهليز جميعه جتره، وشقته من أطلس معدني ونخ مذهب عال، وكان ذلك يوم الأحد ثامن وعشرين لمحرم وثلاث عشر كانون الأول، وكان الرسل ثلاثة نفر، كبيرهم شيخ كأنه كردي الأصل يسمى أرش بغا، والثاني أياجي، والثالث برجا قرابة الأمير بدر الدين جنيكي، وكان يوماً مشهوداً، وأنزل السلطان الرسل في خيمة أعدها السلطان لهم، وأدر السلطان عليهم الإنعامات الوافرة، وبالغ في الإحسان إليهم، ثم إنه سفرهم وأنعم على كل من في صحبتهم من أتباعهم، وكانوا نحو مائة نفر، وسافر الرسل المذكورون من تحت الأهرام يوم الأربعاء مستهل صفر، ودخلوا القاهرة وتوجهوا منها عائدين إلى أبي سعيد، وهم مغمورون بصدقات السلطان، ثم إن السلطان دخل إلى القلعة

ذكر أخبار تمرتاش بن جوبان

يوم الأحد ثاني عشر صفر، وكانت غيبته نحو خمسة وثلاثين يوماً، ثم خرجنا إلى سرياقوس يوم الخميس سلخ صفر، وفي يوم الجمعة غد النهار المذكور، خلع علي وعلى ابني محمد تشاريف حسنة فوق العادة، وكذلك أوصلنا بالحوائص الذهب المجوهرة، وبالقماش الفاخر مما يعمل للخاص الشريف بدار الطراز بالإسكندرية، ووصلني من الصناقر والصقور والشواهين عدة كثير، ثم وصلني بعد ذلك كله بثلاثة آلاف دينار مصرية، ورسم لي بالدستور والعود إلى بلادي، فودعته عند بحر ابن منجا يوم السبت ثاني ربيع الأول، وسرت حتى دخلت حماة يوم الجمعة بعد الصلاة، ثاني وعشرين ربيع الأول من هذه السنة، الموافق الخامس شباط. وفيها قبل دخولي حماة توفيت والدتي رحمها الله تعالى، يوم الخميس حادي وعشرين ربيع الأول، ورابع شباط، وكنت إذ ذاك قريب حمص، فلم يقدر الله لي أن أراها ولا حضرت وفاتها، وكانت من العبادة على قدم كبير. وفيها بعد وصولي إلى حماة بمدة يسيرة أرسلت وطلبت من السلطان دستوراً لزيارة القدس الشريف، فرسم لي بالتوجه إليه، فخرجت من حماة يوم الثلاثاء سلخ جمادى الأولى الموافق لثاني عشر نيسان، وتوجهت على بلد بارين إلى بعلبك إلى كرك نوح، وانحدرت منها إلى الساحل، ونزلت ببيروت وسرت منها إلى صيدا وصور ثم إلى عكا ثم إلى القدس، وسرت إلى الخليل صلوات الله عليه، ثم عدت إلى حماة ودخلتها يوم السبت خامس وعشرين جمادى الآخرة. وفيها بعد وصولي من القدس وصلني من صدقات السلطان على العادة في كل سنة، من الحصن البرقية اثنان بالعدة الكاملة، لي ولابني، صحبة علاء الدين أيدغدي أمير أخور، وركبناهما بالعسكر على العادة يوم ثاني عشر رجب من هذه السنة. وفيها أرسلت التقدمة من الخيل وغيرها على عادتي في ذلك كل سنة، صحبة لاجين، وكان خروجه بها من حماة يوم السبت ثاني شعبان. وفيها عبر على حماة سيف الدين أروج رسولاً من السلطان، وتوجه إلى أبي سعيد، وكان ذلك في أواخر ربيع الأول، ثم عاد بعد أن أدى الرسالة وعبر على حماة في سادس عشر شعبان من هذه السنة، متوجهاً إلى الأبواب الشريفة. ذكر أخبار تمرتاش بن جوبان كان تمرتاش المذكور في حياة أبيه جوبان قد صار صاحب بلاد الروم، واستولى على جميع بلادها من قونية إلى قيسارية وغيرهما من البلاد المذكورة، فلما انقهر أبوه وهرب كما ذكرناه، ضاقت بتمرتاش المذكور الأرض، ففارق بلاده وسار في جمع يسير نحو مائتي فارس أو أقل أو أكثر إلى الشام، ثم سار منها إلى مصر إلى صدقات السطان، وكانت نفس المذكور كبيرة جداً بسبب كبر أصله في مغل وكبر منصبه، ولم يكن له عقل يرشده إلى أن يجعل نفسه حيث جعله الله تعالى، ووصل المذكور إلى

ذكر أخبار الصبي صاحب سيس

صدقات السلطان بالديار المصرية في العشر الأول من ربيع الأول، فتصدق عليه السلطان وانعم عليه الإنعامات الجليلة، وأعرض عليه إمرية كبيرة وإقطاعاً جليلاً، فأبى أن يقبل ذلك، وأن يسلك ما ينبغي، واتفق أن الصلح قد انتظم بين السلطان وبين أبي سعيد، وكان أبو سعيد يكاتب ويطلب تمرتاش المذكور بحكم الصلح وما استقر عليه القواعد، فرأى السلطان من المصلحة إمساك تمرتاش المذكور، وانضم إلى ذلك ما بلغ السلطان عنده أنه أخذ أموال أهل بلاد الروم وظلمهم الظلم الفاحش، فأمسكه السلطان واعتقله في أواخر شعبان من هذه السنة، ثم حضر أباجي رسول أبي سعيد، فبالغ في طلب تمرتاش المذكور، فاقتضت المصلحة إعدامه، فأعدم تمرتاش المذكور في رابع شوال من هذه السنة بحضرة أباجي رسول أبي سعيد. وفيها وصل أباجي رسول أبي سعيد وعبر على حماة في أواخر شعبان، وصحبته أرلان قرائب والدة السلطان وتوجه إلى الأبواب الشريفة بسبب تمرتاش، وكان من أمره ما شرح، وعاد أباجي رسول المذكور من الأبواب الشريفة، وعبر على حماة في التاسع عشر من شوال وتوجه إلى جهة أبي سعيد. وفيها يوم الأحد تاسع عشر ذي القعدة توفي مملوكي أسنبغا، وكان قد بقي من أكبر أمراء عسكر حماة رحمه الله. ثم دخلت سنة تسع وعشرين وسبعمائة وكانت غرة المحرم من هذه السنة، يوم الجمعة رابع تشرين الثاني، ولم يبلغني في أوائلها ما يليق أن يؤرخ والله أعلم. ذكر أخبار الصبي صاحب سيس في هذه السنة اشتد الصبي صاحب سيس، وهو ليفون بن أوشين، وكان الحاكم عليه صاحب الكرك - بكافين الأولى مفتوحة وبينهما راء مهملة ساكنة - وهي قليعة قريب البحر، في أطراف بلد سيس من جهة الغرب والشمال، وهي تتاخم بلاد ابن قرمان، وكان صاحب الكرك المذكور قد استولى على مملكة صاحب سيس، بحكم صغر الصبي المذكور، فلما كانت هذه السنة قوي الصبي وقتل صاحب الكرك وأخاه بعده، وأرسل رأس صاحب الكرك إلى السلطان فأرسل السلطان تشريفاً وسيفاً وفرساً بسرجه ولجامه، مع الأمير شهاب الدين أحمد المهمندار بالأبواب الشريفة، فتوجه شهاب الدين بذلك إلى الصبي صاحب سيس فلبى صاحب سيس الخلعة، وشذ السيف وقبل الأرض، وركب الفرس المتصدق به عليه، وقويت نفسه بذلك، وأوصل شهاب الدين المهمندار المذكور أنعاماً كثيراً وعماد شهاب الدين إلى الأبواب الشريفة، وعبر على حماة متوجهاً إلى الأبواب الشريفة يوم الخميس، ثاني عشر جمادى الآخرة. وفي هذه السنة وصلني من صدقات السلطان من الحصن البرقية اثنان بالعدة الكاملة صحبة، علاء الدين أيدغي أمير أخور، لي ولابني محمد، وركبنا

الموكب بهما نهار الاثنين، سابع رجب، وفي هذه السنة أرسل السلطان إلى المقر السيفي أرغون النائب بحلب، وأمره بالحضور إلى الأبواب الشريفة، فسار المذكور من حلب وتوجه إلى الديار المصرية، وحضر بين يدي السلطان وشمله بأنواع الصدقات والتشاريف، وبقي مقيماً في الخدمة الشريفة نحو نصف شهر، وما يزيد على ذلك، ثم أمره بالعود إلى النيابة بالمملكة الحلبية، فعاد إليها وعبر على حماة يوم الخميس حادي عشر رجب، وكنت قد خرجت إلى تلقيه، ولقيته بين حمص والرستن وبت عنده يوم الخميس بالرستن، ودخل حماة يوم الجمعة، وصلى وسافر إلى حلب. وفي هذه السنة في الليلة المسفرة عن نهار الاثنين الثالث والعشرين من رجب وتاسع عشر أيار ولد لولدي محمد ولداً ذكراً وكان ذلك وقت المسبح من الليلة المذكورة، وسميته عمر بن محمد. وفي هذه السنة كان قد توجه على الرحبة رسول أبي سعيد، وهو رسول كبير يسمى تمر بغا، وحضر بين يدي السلطان وكان حضوره بسبب أن أبا سعيد سأل الاتصال بالسلطان وأن يشرفه السلطان بأن يزوجه ببعض بناته، ووصل مع الرسول المذكور ذهب كثيراً لعمل مأكول وغيره، يوم العقد، فأجابه السلطان بجواب حسن، وإن اللاتي عنده صغار، ومتى كبرن يحصل المقصود وعاد تمر بغا الرسول بذلك، وعبر على حماة يوم الجمعة عاشر شعبان من هذه السنة. وفيها توفي بدمشق قاضي قضاتها وهو علاء الدين القزويني، وكان فاضلاً في العلوم العقلية والنقلية، وعلم التصوف، وله مصنفات مفيدة رحمه الله تعالى. ثم دخلت سنة ثلاثين وسبعمائة. فيها في المحرم، توفي القاضي علاء الدين علي بن الأثير، كان كاتب السر بمصر، ثم فلج وانقطع فولى مكانه القاضي محي الدين بن فضل الله وفيه مات الشيخ فتح الدين بن قرناص الحموي ولي نظر جامع حماه وله نظم. وفيه قدم قاضي القضاة علم الدين محمد بن أبي بكر الأخنائي، صحبة نائب الشام، عوضاً عن القونوي. وفيه توفي الوزير الزاهد العالم أبو القاسم محمد بن الوزير الأزدي الغرناطي بالقاهرة، قافلاً من الحج، بلغ من الجاه ببلده إلى أنه كان يولي في الملك ويعزل، وكان ورعاً شريف النفس عاقلاً، أوصى أن تبع ثيابه وكتبه ويتصدق بها. وفيها في صفر، مات بدمشق سيف الدين بهادر المنصوري بداره، وشيعه النائب والأعيان. وفيه مات مسند العصر، شهاب الدين أحمد بن أبي طالب الصالحي الحجازي ابن شحنة الصالحية، توفي بعد السماع عليه بنحو من ساعتين، كان ذا دين وهمة وعقل، وإليه المنتهى في الثبات وعدم النعاس، وحصلت له للرواية خلع ودراهم وذهب وإكرام، وشيعه الخلق والقضاة ونزل الناس بموته درجة. وفيه توفي قاضي القضاة فخر الدين عثمان بن كمال الدين محمد بن البارزي الحموي الجهني، قاضي حلب، فجأة بعد أن توضأ وجلس بمجلس الحكم ينتظر إقامة العصر، حج غير مرة، وكان يعرف الحاوي في الفقه. وشرحه في ست مجلدات، وكان

يعرف الحاجبية والتصريف، وكان فيه دين وصداقة رحمه الله تعالى. وفيها في ربيع الآخر، تولى قضاء القضاة بحلب، القاضي شمس الدين محمد بن النقيب، نقل من طرابلس وولي طرابلس كعده شمس الدين محمد بن المجد عيسى البعلي، سار من دمشق إليها. وفيها في جمادى الأولى، أنشأ الأمير سيف الدين مغلطاي الناصري مدرسة حنفية بالقاهرة ومكتب أيتام. وفيها في جمادى الآخرة مات الأمير العالم سيف الدين أبو بكر محمد بن صلاح الدين بن صاحب الكرك بالجبل، وكان فاضلاً شاعراً. وفيه وصل الخبر بعافية السلطان من كسر يده، فزينت دمشق وخلع على الأمراء والأطباء. وفيه مات بمكة قاضيها الإمام نجم الدين أبو حامد. وفيه مات الشيخ إبراهيم الهدمة، وله كرامات وشهرة. وفيه حضرت رسل الفرنج يطلبون بعض البلاد، فقال السلطان ألولا أن الرسل لا يقتلون لضربت أعناقكم، ثم سفروا. وفيها في رجب ماتت زوجة تنكز، وعمل لها تربة حسنة قرب باب الخواصين، ورباط. وفيها في رمضان مات قاضي طرابلس شمس الدين محمد بن مجد الدين عيسى الشافعي البعلي وكان صاحب فنون قلت: لقد عاش دهراً يخدم العلم جهده ... وكان قليل المثل في العلم والود فلما تولى الحكم ما عاش طائلاً ... فما هنئ ابن المجد والله بالمجد وفيه أنشأ الأمير سيف الدين قوصون الناصري جامعاً عند جامع طولون، عند دار قتال السابع، فخطب به أول يوم قاضي القضاة جلال الدين بحضور السلطان وقرر لخطابته القاضي فخر الدين محمد بن شكر. وفيها في شوال مات رئيس الكحالين نور الدين علي بمصر. وفيها احترقت الكنيسة المعلقة بمصر، وبقيت كوماً. وفيها قدم رسول صاحب اليمن بهدية، فقيد وسجن، لأن صاحب الهند بعث إلى السلطان بهدايا فأخذها صاحب اليمن، وقتل بعض من كان معها وحبس بعضهم. وفيها في ذي القعدة مات الأمير علاء الدين قلبرس ابن الأمير علاء الدين طبرس بدمشق بالسهم، وكان مقدم ألف، وله معروف، وخلف أموالاً. ومات الأمير جف الدين كوليجار المحمدي. وفيها بدمشق في ذي الحجة، مات المعمر المسند زين الدين أيوب بن نعمة، وكانت لحيته شعرات يسيرة وكان كحالاً. ومات بها أيضاً الصالح الزاهد الشيخ حسن المؤذن بالمأذنة الشرقية بالجامع، وكان مجاوراً به. ومات بدر الدين محمد بن الموفق إبراهيم بن داود بن العطار، أخو الشيخ علاء الدين، ببستانه، وصلاح الدين يوسف بن شيخ السلامية صهر الصاحب، وشيعه الخلق وفجع به أبواه وكان شاباً متميزاً من أبناء الدنيا المتنعمين. ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة. فيها وردت كتب الحجاج بما جرى بمكة، شرفها الله تعالى، حول البيت من ثورة عبيد مكة، ساعة الجمعة بالوفد، من النهب والجراحة وقتل جماعة من الحجاج، وقتل أمير

مصري، وهو أيدمر أمير جندار وابنه، ولما بلغ السلطان ذلك غضب، وجرد جيشاً من مصر والشام للانتقام من فاعل ذلك. وفيها في المحرم أيضاً مات الأمير الكبير شهاب الدين طغان بن مقدم الجيوش سنقر الأشقر، ودفن بالقرافة، جاوز الستين، وكان حسن الشكل ومات الصالح كمال الدين محمد ابن الشيخ تاج الدين القسطلاني بمصر، سمع ابن الدهان وابن علاق والنجيب، وحدث وكان صوفياً. وفيها في صفر، مات قاضي القضاة عز الدين محمد ابن قاضي القضاة عز الدين سليمان بن حمزة الحنبلي، بدمشق بالدير، ومولده في ربيع الآخر سنة خمس وستين، سمع من الشيخ وابن النجاري وأبي بكر الهروي وطائفة، وأجاز له ابن عبد الدائم، وكان عاقلاً، ولي القضاء بعد ابن مسلم، وحج ثلاث مرات. وماتت أم الحسن فاطمة بنت الشيخ علم الدين البرزالي، سمعت الكثير، من خلق، وحدثت وكتبت ربعة وأحكام ابن تيمية والصحيح، وحجت، وكانت تجتهد يوم الحمام أن لا تدخل حتى تصلي الظهر، وتحرص في الخروج لإدراك العصر، رحمها الله تعالى. وفيها في صفر أيضاً وصل نهر الساجور إلى نهر قويق، وانصبا إلى حلب، بعد غرامة أموال عظيمة، وتعب من العسكر والرعايا. بتولية الأمير فخر الدين طمان. وفيها في ربيع الأول مات بحلب الأمير سيف الدين أرغون الناصري نائبها، وخرجت جنازته بلا تابوت، وعلى النعش كساء بالفقيري. من غير ندب ولا نياحة، ولا قطع شعر، ولا لبس جل، ولا تحويل سرج، حسبما أوصى به، ودفن بسوق الخيل تحت القلعة، وعملت عليه تربة حسنة، ولم يجعل على قبره سقف ولا حجرة بل التراب لا غير، وكان متقناً لحفظ القران، مواظباً على التلاوة عنده فقه وعلم، ويرد أحكام الناس إلى الشرع الشريف، حتى كان بعض الجهال ينكر عليه ذلك، وكتب صحيح البخاري بخطه بعد ما سمعه من الحجاز، واقتنى كتباً نفيسة، وكان عاقلاً وفيه ديانة رحمه الله. وفيها في صفر أيضاً ولي قضاء الحنابلة بدمشق الشيخ شرف الدين ابن الحافظ، واستناب ابن أخيه القاضي تقي الدين عبد الله بن أحمد، ومات القاضي الفقيه الأديب ضياء الدين علي بن سليم بن ربيعة الأذرعي الشافعي بالرملة، ناب عن القاضي عز الدين بن الصائغ، وناب بدمشق عن القونوي، نظم التنبيه في الفقه في ستة عشر ألف بيت وشعره كثير. مات الرئيس زين الدين يوسف بن محمد بن النصبي بحلب، سمع من شيخ الشيوخ عز الدين، مسند العشرة، وحدث، قارب الثمانين وفيها في ربيع الآخر مات الأمير سيف الدين طرشي الناصري بمصر، أمير مائة، حج غير مرة، وفيه ديانة. ومات الشيخ علاء الدين ابن صاحب الجزيرة، الملك المجاهد إسحاق ابن صاحب الموصل لؤلؤ بمصر، سمع جزء ابن عرفة من النجيب، والجمعة من ابن علاق، وكان جندياً له ميرة. ومات بحلب نور الدين حسن ابن الشيخ المقري جمال الدين الفاضلي، روى عن زينب بنت مكي وكان

كاتباً بحلب. ومات الأمير علم الدين سنجر البرواني بمصر فجأة، وكان أمير خمسين من الشجعان. ومات الصالح المسند شرف الدين أحمد بن عبد المحسن بن الرفعة العدوي، سمع وحدث. ومات ليلة الجمعة تاسع وعشرين ربيع الآخر بدر الدين محمد بن ناهض إمام الفردوس بحلب، سمع عوالي الغيلانيات الكبير، على القطب ابن عصرون، وحدث وله نظم. ومات رئيس المؤذنين بجامع الحاكم نجم الدين أيوب بن علي الصوفي، وكان بارعاً في فنه، له، أوضاع عجيبة وآلات غريبة. وفيها في جمادى الأولى، عاد الأمير علاء الدكن التنبغا إلى نيابة حلب، وفرح الناس وأظهروا السرور. وفيها حضر بمكة الأمير رميثة بن أبي نمي الحسني وقريء تقليده ولبس الخلعة بولاية مكة، وحلف مقدم العسكر الذين وصلوا إليه والأمراء له بالكعبة الشريفة، وكان كوما مشهوداً وكان وصول الجيش إلى مكة في سابع عشر ربيع الآخر. وفيه مات الإمام الورع موفق الدين أبو الفتح الجعفري المالكي، وشيعه خلق إلى القرافة، وقارب السبعين، ولم يحدث. ومات العدل السر برهان الدين إبراهيم بن عبد الكريم العنبري، باشر الصدقات والأيتام والمساجد وهو خال ابن الزملكاني. ومات القاضي تاج الدين بن النظام المالكي بالقاهرة ومات أبو دبوس المغربي بمصر، قيل إنه ولي مملكة قابس، ثم أخذت منه فترح؛ فأعطي إقطاعاً في الحلقة. وفيها في جمادى الآخرة، مات القاضي التاج أبو إسحاق عبد الوهاب بن عبد الكريم وكيل السلطان، وناظر الخواص بمصر. وفيه وصل إلى دمشق العسكر المجرد إلى مكة، ومقدمهم الجي بغا، غابوا خمسة أشهر سوى أربعة أيام، وأقاموا بمكة شهراً ويوماً، وحصل بهم الرعب، في قلوب العرب، وهرب من بين أيديهم عطيفة والأشراف بأهلهم، وثقلهم، وعوض عن عطيفة بأخيه رميثة، وقهر مكانه. ومات الأمير حسام الدين طرنطاي العادلي الدوانداري بمصر، وكان ديناً وله سماع. ومات المجد بن اللغينة ناظر الدواوين بالقاهرة. ومات الرئيس تاج الدين بن الدماملي، كبير الكرامية بمصر، قيل ترك مائة ألف دينار. - ووصل الحاج عمر بن جامع السلامي إلى دمشق من إصلاح عين تبوك، جمع لها من التجار دون عشرين ألفا وأحكمت. وفيها في رجب مات بمصر العلامة فخر الدين عثمان لن إبراهيم التركماني، سمع من الأبرقوهي، وشرح الجامع الكبير، وألقاه في المنصورية دروساً، وكان حسن الأخلاق فصيحاً، ودرس بها بعده ابنه. ومات بمصر القاضي جمال الدين بن عمر البوزنجي المالكي معيد المنصورية. وفيها في شعبان كان بدمشق ريح عاصفة حطمت الأشجار ثم وقع في تاسعه برد عظيم قدر البندق. وفيه جاء من الكرك، الملك أحمد ابن مولانا السلطان الملك الناصر، وختن بعد ذلك بأيام، وأنفذ إلى الكرك أخ له اسمه إبراهيم. ومات سيف الدين كشتمر الطباخي الناصري بمصر، كهلاً، تفقه لأبي حنيفة،

وكان ديناً، وأحدثت بالمدرسة المعزية على شاطئ النيل الخطبة، وخطب عز الدين عبد الرحيم ابن الفرات حين رتب ذلك، سيف الدين طقز دمر، أمير الجيش. وفيها في رمضان قدم دمشق العلامة تاج الدين عمر بن علي اللخمي بن الفاكهاني المالكي، من الإسكندرية لزيارة القدس، والحج، فحدث ببعض تصانيفه، وسمع الشفاء وجامع الترمذي من ابن طرخان، وصنف جزءاً في أن عمل المولد في ربيع الأول بدعة. وفيها في ذي القعدة مات الصاحب تقي الدين بن السلعوس بالقاهرة فجأة، حج وسمع من القارون. ومات القاضي جمال الدين أحمد بن محمد القانسي التميمي، درس بالأمينية والظاهرية، وعمل الإنشاء بدمشق. وفيها في ذي الحجة مات الأمير نجم الدين البطاحي، ولى أستاذ دارية السلطنة، ومات أمين الدين بن البص، أنفق أموالاً في بناء خان المزيرب، وفي بناء مسجد الذباب، والمأذنة، قيل أنفق في وجوه البر مائتي ألف وخمسين ألفا. ومات بدمشق الأمير ركن الدين عمر بن بهادر، وكان مليح الشكل، وجاء التقليد بمناصب جمال الدين ابن القلانسي لأخيه. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة. في المحرم منها، توفي الشيخ الكبير العابد المقري، أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي محمد بن سلطان القرامزي الحنبلي، بجوبر ودفن بتربة له جوار قبة القلندرية بدمشق، وكان مشهوراً بالمشيخة، يتردد إليه الناس، سمع من ابن أبي يسر، وابن عساكر، وحدث بدمشق ومصر، وقرأ بالروايات على الشيخ حسن صقلي. ومات الأمير الكبير علم الدين الدميثري، ولي نيابة قلعة دمشق مدة. وحصل بحمص سيل عظيم هلك به خلائق، ومات بحمام تنكز بها نحو مائتي، امرأة وصغير وصغيرة، وجماعة رجال دخلوا ليخلصوا النساء، وهلك بعض متفرجين بالجزيرة، وانهدمت دار المستوفي، وهلك ابنه، وصاروا يخرجون الموتى من بواليع الحمام والقمين، وكان بالحمام عروس، فلهذا أكثر النساء الحمام. ومات بمصر الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، وزر ببصر، وحج بالمصريين. ومات السلطان الملك المؤيد إسماعيل ابن الملك الأفضل علي، صاحب حماة، مؤلف هذا التاريخ وله تصانيف حسنة مشهورة، منها أصل هذا الكتاب ونظيم الحاوي، وشرحه شيخنا قاضي القضاة شرف الدين ابن البارزي شرحاً حسناً، وله كتاب تقويم البلدان، وهو حسن في بابه، تسلطن بحماة في أول سنة عشرين بعد نيابتها، رحمه الله تعالى، وكان سخياً محباً للعلم والعلماء، متقناً يعرف علوماً، ولقد رأيت جماعة من ذوى الفضل يزعمون أنه ليس في الملوك بعد المأمون أفضل منه، رحمه الله تعالى. وفيها في صفر مات قاضي الجزيرة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن نصر الشافعي، وكان له تعلق بالدولة، ومكاتبة من بلده، ثم تحول إلى دمشق. وفيه أتملك حماة السلطان الملك الأفضل ناصر الدين محمد ابن الملك المؤيد على قاعدة أبيه، وهو ابن عشرين سنة. وفيها في ربيع الأول مات بالقاهرة القاضي الإمام المحدث، تاج الدين أبو القاسم عبد الغفار بن محمد بن عبد الكافي بن عوض السعدي

سعد خدام الشافعي، ولد سنة خمسين تفقه وقرأ النحو على الأمين المحلي، وسمع من ابن عزون، وابن علان، وجماعة وارتحل فلقى بالثغر عثمان ابن عوف، وعمل معجمه في ثلاث مجلدات، وأجاز له ابن عبد الدائم، وروى الكثير، وخرج أربعين تساعيات، وأربعين مسلسلات، وكان حسن الخط والضبط، متقناً، ولي مشيخة الحديث بالصاحبية، وأفتى، وذكر أنه كتب بخطه أزيد من خمسمائة مجلد. ومات بدمشق العلامة رضى الدين إبراهيم بن سليمان الرومي الحنفي، المعروف المنطقي، بدمشق بالنورية، وكان ديناً متواضعاً محسناً إلى تلامذته، حج سبع مرات. ومات الأمير علاء الدين طنبغا السلحدار، عمل نيابة حمص، ثم نيابة غزة وبها مات، وحج بالشاميين سنة إحدى عشرة وسبعمائة نيابة. ومات بمكة خطيبها الإمام بهاء الدين محمد ابن الخطيب تقي الدين عبد الله ابن الشيخ المحب الطبري، له نظم ونثر وخطب، وفيه كرم ومروءة وفصاحة، وخطب بعده أخوه التاج علي. وفيها في ربيع الآخر، ركب بشعار السلطنة، الملك الأفضل الحموي بالقاهرة، وبين يديه الغاشية، ونشرت العصائب السلطانية والخليفية على رأسه، وبين يديه الحجاب، وجماعة من الأمراء، وفرسه بالرقبة وبالشبابة، وصعد القلعة هكذا. وفيها في جمادى الأولى، مات قاضي القضاة بدمشق، شرف الدين أبو محمد عبد الله ابن الإمام شرف الدين حسن ابن الحافظ أبي موسى ابن الحافظ الكبير عبد الغني المقدسي الحنبلي فجأة، كان شيخاً مباركاً. ومات فخر الدين علي بن سليمان بن طالب بن كثيرات بدمشق. ومات بالإسكندرية الصالح، القدوة، الشيخ ياقوت الحبشي الإسكندري الشاذلي، وكانت جنازته مشهورة، وقد جاوز الثمانين، كان من أصحاب أبي العباس المرسي. وفيها في رجب مات الإمام الصالح. عز الدين عبد الرحمن ابن الشيخ العز إبراهيم بن عبد الله ابن أبي عمر المقدسي الحنبلي، سمع أباه وابن عبد الدائم وجماعة، وكان خيراً بشوشاً، رأساً في الفرائض. ومات بدمشق الناصح محمد بن عبد الرحيم بن قاسم الدمشقي النقيب الجنائزي، وكان خبيراً بألقاب الناس، يحصل الدراهم والخلع، ويتقيه الناس، عفا الله عنه. ومات بمصر فخر الدين بن محمد بن فضل الله، كاتب المماليك ناظر الجيوش المصرية كان له بر، وعدمه الناس، وعرفوا قدره بوفاته، فإنه كان يشير على السلطان بالخيرات، ويرد عن الناس أموراً معظمات قلت: وكم أمور حدثت بعده ... حتى بكت حزناً عليه الرتوت لو لم يمت ما عرفوا قدره ... ما يعرف الإنسان حتى يموت سمع من ابن الأبرقوهي واحتيط على حواصله. ومات شيخ القراء شهاب الدين أحمد بن محمد بن يحيى بن أبي الحزم، سبط السلعوس النابلسي، ثم الدمشقي، بستانه ببيت لهيا وكان ساكناً وقوراً. ومات بمصر الأمير سيف الدين أبجية الدواتدار، الناصري، الفقيه

الحنفي، كهلاً وولي المنصب بعده الأمير صلاح الدين يوسف بن الأسعد، ثم عزل بعد مدة. وفيها في شعبان، كان عرس الملك محمد ابن السلطان على زوجته بنت بكتمر الساقي، وسوارها ألف ألف دينار مصرية، وذبح خيل وجمال وبقر وغنم وإوز ودجاج، فوق عشرين ألف رأس، وحمل له ألف قنطار شمع، وعقد له ثمانية عشر ألف قنطار حلوى سكرية، وأنفق على هذا العرس أشياء لا تحصى. ومات بالقاهرة، جمال الدين محمد بن بدر الدين محمد بن جمال الدين محمد بن مالك الطائي الجياني، بلغ الخمسين، وسمع من ابن النجاري جزءاً، خرجه له عمه، وله نظم جيد، ولم يحدث. ومات الأمير سيف الدين ساطي، صهر سلار، من العقلاء، وفيه ديانة، وله حرمة وافرة. ومات بدمشق أمين الدين سليمان بن داود، الطبيب، تلميذ العماد الدنيسري، كان سعيداً في علاجه، وحصل أموالاً، قلت: مات سليمان الطبيب الذي ... أعده الناس لسوء المزاج لم يفده طب ولم يغنه ... علم ولم ينفعه حسن العلاج كان مقدماً على المداواة، ودرس بالدخوارية مدة، وعاش نحو سبعين سنة. وفيه طغى ماء الفرات وارتفع ووصل إلى الرحبة، وتلفت زروع، وانكسر السكر بدير بسير، كسراً ذرعه اثنان وسبعون ذراعاً، وحصل تألم عظيم، وعملوا السكر فلما قارب الفراغ انكسر منه جانب، وغلت الأسعار بهذا السبب، وتعب الناس بصعوبة هذا العمل. وفيها في رمضان، أمر بدمشق، الأمير علي ابن نائب دمشق، سيف الدين تنكز، ولبس الخلعة عند قبر نور الدين الشهيد، المشهور بإجابة الدعاء عنده، ومشى الأمراء في خدمته إلى العتبة السلطانية فقبلها، وفيه نقل من دمشق إلى كتابة السر بالأبواب السلطانية القاضي شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشيخ شهاب الدين محمود، ونقل إلى دمشق القاضي محي الدين بن فضل الله ولده. ومات بدمشق فجأة الأمير سيف الدين بلبان العنقاري الزراق، الساكن بالسبعة، وقد جاوز السبعين، من أمراء الأربعين. ومات شيخ القراء ذو الفنون، برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري الشافعي، بالخليل، ومولده سنة أربعين وستمائة وتصانيفه كثيرة، اشتغل ببغداد، وقرأ التعجيز على مصنفه بالموصل، وأقام شيخاً أربعين سنة. ومات بمصر الأمير سيف الدين سلامش الظاهري أمير خمسين، وقد قارب التسعين، وكان ديناً صالحاً. وفيها في شوال، توجه السلطان للحج بأهله ومعظم أمرائه، في حشمة عظيمة. ومات الإمام شهاب الدين أبو أحمد عبد الرحمن بن محمد بن عسكر المالكي، مدرس المستنصرية ببغداد، وله مصنفات في الفقه، وكان حسن الأخلاق، ولد في سنة أربع وأربعين بباب الأزج. وفيها في ذي القعدة مات قاضي القضاة، علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي المصري ابن الأحناني، بالعادلية بدمشق، ودفن بسفح قاسيون،

كان من شهود الخزانة بمصر، ثم جعل حاكماً بالإسكندرية، ثم بدمشق، وكتب الحكم لابن دقيق العيد، ولازم الدمياطي مدة، وسمع من أبي بكر بن الأنماطي وجماعة، ومولده عاشر رجب، سنة أربع وستين، وكان عفيفاً فاضلاً عاقلاً نزهاً متديناً محباً للحديث والعلم شرح بعض كتاب البخاري. وفيه وفي النيل، قبل النيروز بثلاثة وعشرين يوماً، وبلغ أحد عشر من تسعة عشر وهذا لم يعهد من ستين سنة، وغرق أماكن، وأتلف للناس من القصب ما يزيد على ألف ألف دينار، وثبت على البلاد أربعة أشهر. وفيها في ذي الحجة، مات قطب الدين موسى بن أحمد بن حسان ابن شيخ اللامية، وكان ناظر الجيش الشامي، ومرة المصري، ودفن بتربة أنشأها بجنب جامع الأفرم، وعاش اثنتين وسبعين، ورثاه علاء الدين بن غانم. ومات الشيخ الصالح المقرئ شمس الدين محمد بن النجم أبي تغلب بن أحمد بن أبي تغلب الفاروثي، ويعرف بالمربي، جاوز الثمانين، كان معلماً في صنعة الإقباع، ويقرئ صبيانه، ويتلو كثيراً، قرأ بالسبع على الكمال المحلي قديماً. ومات العلامة الخطب جمال الدين يوسف بن محمد بن مظفر بن حماد الحموي الشافعي خطيب جامع حماة، كان عالماً ديناً سمع جزء الأنصاري من مؤمل البالسي، والمقداد القيسي، وحدث، واشتغل وأفتى، وكان على قدم من العبادة والإفادة، رحمه الله تعالى. ومات العلامة شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن بن قاضي القضاة، الحافظ سعد الدين مسعود ابن أحمد الحارثي، بالقاهرة، تصدر للإقراء، وحج مرات، وجاور وسمع من العز الحراني وجماعة، وكان ذا تعبد وتصون وجلالة، قرأ النحو على ابن النحاس والأصول على ابن دقيق العيد، ومولده سنة إحدى وسبعين، وولي بعده تدريس المنصورية، قاضي القضاة، تقي الدين. ومات كبير أمراء سيف الدين، بكتمر الناصري الساقي، بعد قضاء حجه، وابنه الأمير أحمد أيضاً، وخلف ما لا يحصى كثرة، ماتا بعيون القصيب. بطريق مكة، ونقلا إلى تربتهما بالقرافة. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة. فيها في المحرم أطلق الصاحب شمس الدين غبريال. بعد مصادرة كثيرة. ومات بدمشق نقيب الأشراف، شرف الدين عدنان الحسين ولي النقابة على الأشراف بعد موت أبيه، واستمر بها تسع عشرة سنة، وهم بيت تشيع. وفيها في صفر، وصل الخبر بموت محدث بغداد، تقي الدين محمود بن علي بن محمود بن مقبل الدفوقي، كان يحضر مجلسه خلق كثير لفصاحته وحسن آدابه، وله نظم وولي مشيخة المستنصرية، وحدث عن الشيخ عبد الصمد وجماعة وكان يعظ، وحمل نعشه على الرؤوس، وما خلف درهماً. وفيه قدم أمين الملك، عبد الله الصاحب، على نظر دمشق، وهو سبط السديد الشاعر. ومات بدمشق، الشيخ كمال الدين عمر بن إلياس المراغي كان عالماً عابداً سمع منهاج البيضاوي من مصنفه. وفيها في ربيع الأول ولي القضاء بدمشق، العلامة

جمال الدين يوسف جملة، بعد الإخنائي. وفيها في ربيع الآخر، توجه القاضي محي الدين بن فضل الله وابنه إلى الباب الشريف، وتحول إلى موضعه بدمشق، القاضي شرف الدين أبو بكر بن محمد ابن الشهاب محمود، وولي نقابة الأشراف بدمشق عماد الدين موسى بن عدنان. وفي خامس عشر شعبان من سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، دخل الأمير بدر الدين لؤلؤ القندشي إلى حلب، شاداً على المملكة، وعلى يده تذاكر، وصادر المباشرين وغيرهم، ومنهم النقيب بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني، القاضي جمال الدين سليمان بن ريان ناظر الجيش، وناصر الدين محمد بن قرناص عامل الجيش، وعمه المحبي عبد القادر عامل المحلولات، والحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي، والحاج علي بن السقاء، وغيرهم. واشتد به الخطب وانزعج الناس كلهم، حتى البريئون، وقنت الناس في الصلوات وقلت في ذلك: قلبي لعمر الله معلول ... بما جرى للناس مع لولو يا رب قد شرد عنا الكرا ... سيف على العالم مسلول وما لهذا السيف من مغمد ... سواك يا من لطفه السول كان هذا لؤلؤ مملوكاً لقندش ضامن المكوس بحلب، ثم ضمن هو بعد أستاذه المذكور، ثم صار ضامن العداد، ثم صار أمير عشرة، ثم أمير طبلخانات، ثم صار ما صار، ثم أنه عزل ونقل إلى مصر، وأراح الله أهل حلب منه، فعمل بمصر أقبح عمله بحلب، وتمكن وعاقب حتى نساء مخدرات، وصادر خلقاً. وفيها في جمادى الأولى مات عز القضاة فخر الدين بن المنير المالكي، من العلماء ذوى النظم والنثر، وألف تفسيراً وأرجوزة في السبع. ومات قاضي المجدل، بدر الدين محمد بن تاج الدين الجعبري. ومات قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الكناني الحموي بمصر، له معرفة بفنون، وعدة مصنفات، حسن المجموع، كان ينطوي على دين وتعبد، وتصون وتصوف، وعقل ووقار، وجلالة وتواضع، درس بدمشق، ثم ولي قضاء القدس، ثم قضاء الديار المصرية، ثم قضاء الشام، ثم قضاء مصر، وولي مشيخة الحديث بالكاملية، ومشيخة الشيوخ، وحمدت سيرته ورزق القبول من الخاص والعام، وحج مرات وتنزه عن معلوم القضاء لغناه مدة، وقل سمعه في الآخر قليلاً فعزل نفسه، ومحاسنه كثيرة ومن شعره: لم أطلب العلم للدنيا التي ابتغيت ... من المناصب أو للجاه والمال لكن متابعة الأسلاف فيه كما ... كانوا فقدر ما قد كان عن حالي وفيها في جمادى الآخرة، مات الرئيس تاج الدين طاولت بن نصير الدين ابن الوجيه بن سويد بدمشق، حدث عن عمر القواس، وعاشق خمسين سنة، وهو سبط

الصاحب جمال الدين بن صصري، وكان فيه دين وبر، وله أموال. ومات العلامة مفتي المسلمين شهاب بن أحمد بن جهبل الشافعي بدمشق، درس بالصلاحية، وولي مشيخة الظاهرية، ثم تدريس الباذرائية وله محاسن وفضائل. ومات الأمير علم الدين طرقشي المشد بدمشق. وفيها في رجب مات الشيخ الإمام القدوة تاج الدين بن محمود الفارقي بدمشق، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة، وكان عابداً عاقلاً فقيهاً، عفيف النفس، كبير القدر، ملازماً للجامع، عالج الصرف مدة، ثم ترك وأتجر في البضائع، وحدث عن عمر بن القواس وغيره. ومات صاحبنا الأمير شهاب الدين أحمد بن بدر الدين حسن بن المرواني نائب بعلبك، ثم والي البر بدمشق، وكان فيه دين كثير التلاوة محباً للفضل والفضلاء، ولي ولده النيابة بقصير أنطاكية طويلاً وبها مات. وفيها في شعبان مات الخطيب بالجامع الأزهر، علاء الدين بن عبد المحسن ابن قاضي العسكر، المدرس بالظاهرية والأشرفية، بالديار المصرية. وفيه دخل القاضي تاج الدين محمد ابن الزين حلب، متولياً كتابة السر، ولبس الخلعة وباشر وأبان عن تعفف عن هدايا الناس. وفيها في رمضان، مات بدمشق الأمير علاء الدين أوران الحاجب، وكان ينطوي على ظلم من أولاد الأكراد. ومات بحماة زين الدين عبد الرحمن بن علي بن إسماعيل بن البارزي المعروف بابن الولي، كان وكيل بيت المال بها، وبنى بها جامعاً، وكانت له مكانة ومروءة ومنزلة عند صاحب حماة. ومات مسند الشام المعمر تاج الدين أبو العباس أحمد بن المحدث تقي الدين إدريس كان فيه خير وديانة. ومات بحماة شيخ الشيوخ فخر الدين عبد الله بن التاج، كان صواماً عابداً، ذا سكينة، سمع من والده. ومات الإمام المؤرخ شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب الشافعي بالقاهرة، وله تاريخ في ثلاثين مجلداً، كان ينسخ في اليوم ثلاثة كراريس، وفضيلته تامة، عاش خمسين سنة. ومات الإمام جمال الدين حسين بن محمود الربعي البالسي بالقاهرة، قرأ بالروايات، وكان شيخ القراء، وله وظائف كثيرة، أمّ بالشجاعي، ثم أمّ بالسلطان نيفاً وثلاثين سنة، وكان عالماً كثير التهجد. وفيها في ذي القعدة، أخذ حاجب العرب بدمشق، علي بن مقلد، فضرب وحبس، وأخذ ماله وقطع لسانه، وعزل ناصر الدين الدواتدار، وضرب وصودر، وأخذ منه مال جزيل، وأبعد إلى القدس، ثم قطع لسان ابن مقلد مرة ثانية، فمات آخر اليوم. قلت: أوصيك فإن قبلت مني ... أفلحت ونلت ما تحب لا تدن من الملوك يوماً ... فالبعد من الملوك قرب ومات بحلب أمين الدين عبد الرحمن الفقيه الشافعي المواقيتي، سبط الأبهري، وكان له يد طولى في الرياضة، والوقت والعمليات، ومشاركة في فنون، وكان عنده لعب، فنفق عند

الملك المؤيد بحماة، وتقدم، ثم بعده تأخر وتحول إلى حلب، ومات بها. قلت وأهل حماة يطعنون في عقيدته. ويعجبني بيتان، الثاني منهما مضمن لا لكونهما فيه، فإن سريرته عند الله، بل لحسن صناعتهما وهما: إلى حلب خذ عن حماة رسالة ... أراك قبلت الأبهري المنجما فقولي له ارحل لا تقيمن عندنا وإلا فكن في السر والجهر مسلما ومات الزاهد الولي أبو الحسن الواسطي العابد محرماً ببدر، قيل إنه حج وله ثمان عشرة سنة، ثم لازم الحج وجاور مرات وكان عظيم القدر، منقبضاً عن الناس. وفيها في ذي الحجة مات الأمير الكبير مغلطاي كان مقدم ألف

بدمشق، وماتت الشيخة المسندة الجليلة أم محمد أسماء بنت محمد بن صصري، أخت قاضي القضاة، نجم الدين، سمعت وحدثت وكانت مباركة، كثيرة البر، وججت مرات، وكانت تتلو في المصحف وتتعبد قلت: كذلك فلتكن أخت ابن صصرى ... تفوق على النساء صبي وشيبا طراز القوم أنثى مثل هذي ... وما التأنيث لاسم الشمس عيبا ومات أيضاً بد مشق، عز الدين إبراهيم بن القواس بالعقيبة، ووقف داره مدرسة، وأمسك حاجب مصر سيف الدين إلماس، وأخوه قره تمر، ووجد لهما مال عظيم. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وسبعمائة. في أول المحرم منها، أفرج عن الأمير بدر الدين القرماني، والأمير سيف الدين إسلام، وأخيه وخلع عليهم، وتوفي بالقدس خطيبه وقاضيه، الشيخ عماد الدين عمر النابلسي. وفيها في صفر، مات قاضي القضاة جمال الدين أبو الربيع سليمان الأذرعي الشافعي، ويكنى أبا داود، أيضاً بالسكتة، ولي القضاء بمصر، ثم بالشام مدة، وكان عليه سكينة ووقار. وأحضر ناصر الدين الدواتدار إلى مخدومه سيف الدين تنز، فضرب وأهين، وكمل عليه مال يقوم به. وحصلت صقعة أتلفت الكروم والخضراوات بغوطة دمشق، ومات الأمير سيف الدين صلعنة الناصري، وكان ديناً يبدأ الناس بالسلام في الطرقات. ومات بطرابلس نائبها الأمير رحمه الله تعالى. ومات بحماه قاضي القضاة، نجم الدين أبو القاسم عمر بن الصاحب كمال الدين العقيلي الحنفي، المعروف بابن العديم، وكان له فنون وأدب، وخط وشعر، ومروءة غزيرة وعصبية، لم تحفظ عليه أنه شتم أحداً مدة ولايته، ولا خيب قاصده. قلت: قد كان نجم الدين شمساً أشرقت ... بحماة للداني بها والقاضي عدمت ضياء ابن العديم فأنشدت ... مات المطيع فيا هلاك العاصي وفيها في ربيع الأول، توفي الأمير سيف الدين طرنا الناصري، أمير مائة، مقدم ألف، بدمشق. ومات جمال الدين فرج بن شمس الدين قره سنقر المنصوري. ورسم تنكز نائب السلطنة بعمارة باب توما وإصلاحه، فغمر عمارة حسنة ورفع نحو عشرة أذرع، ووسع وجدد بابه. وفيها في ربيع الآخر، وصل جمال الدين أقوش نائب الكرك إلى طرابلس نائباً بها، عوضا عن قرطاي. رحمه الله تعالى، ووصل سيل إلى ظاهر دمشق، وهدم بعض المساكن، وخاف الناس منه، ثم نقص في يومه، ولطف الله تعالى. وتوفيت أم الخير خديجة، المدعوة ضوء الصباح، وكانت تكتب بخطها في الإجازات ودفنت بالقرافة. وفيها في جمادى الأولى، توفي الفاضل بدر الدين محمد بن شرف الدين أبي بكر الحموي المعروف بابن السمين، بحماة، وكان أبوه من فصحاء القراء رحمهما الله تعالى. وفيها في جمادى الآخرة، توفي بحلب، شرف الدين أبو طالب عبد الرحمن ابن القاضي عماد الدين بن العجمي، سمع الشمائل على والده، وحدث وأقام مع والده بمكة في صباه، أربع سنين، وكان شيخاً محترماً من أعيان العدول، وعنده سلامة صدر، رحمة الله تعالى. ومات الأمير شمس الدين محمد بن الصيمري بن واقف المارستان بالصالحية. وفيها في رجب، وصل كتاب من المدينة النبوية، يذكر فيه أن وادي العقيق سال من صفر وإلى الآن، ودخل السيل قبة حمزة رضي الله عنه، وبقي الناس عشرين يوماً ما يصلون إلى القبة، وأخذ نخلاً كثيراً وخرب أماكن. ومات الأمير عز الدين نقيب العساكر المصرية، ودفن بالقرافة. ومات الأمين ناصر الدين بن سويد التكريتي، سمع على جماعة من أصحاب ابن طبرزد، وحدث وكان له بر وصدقات، وحج مرات، وجاور بمكة، ومات الشيخ العالم الرباني الزاهد، بقية السلف، نجم الدين اللخمي القبابي الحنبلي بحماة، وكانت جنازته عظيمة، وحمل على الرؤوس. سمع مسند الدارمي، وحدث وكان فاضلاً فقيهاً فرضياً جليل القدر، وفضائله وتقلله من الدنيا، وزهده معروف، نفعنا الله ببركته، والقباب المنسوب إليها قرية من قرى أشموم الرمان متصلة بثغر دمياط. قلت وقدم مرة إلى الفوعة وأنا بها، فسألني عن الأكدرية إذا كان بدل الأخت خنثى، فأجبت: إنها بتقدير الأنوثة تصح من سبعة وعشرين وبتقدير الذكورة تصح من ستة. والأنوثة تضر الزوج والأم، والذكورة تضر الجد والأخت، وبين المسألتين موافقة بالثلث، فيضرب ثلث السبعة والعشرين، وهو تسعة في الستة، تبلغ أربعة وخمسين، ومنها تصح المسألتان، للزوج ثمانية عشر. وللأم اثنا عشر، وللجد تسعة، ولا يصرف إلى الخنثى شيء والموقوف خمسة عشر، وفي طريقها طول ليس هذا موضعه، فأعجب الشيخ، رحمه الله تعالى بذلك. وفيها في شعبان مات فجأة، الإمام الحافظ أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد ابن سيد الناس اليعمري. أخذ علم الحديث عن ابن دقيق العيد، والدمياطي،

وكان أحد الأذكياء الحفاظ، له النظم والنثر والبلاغة والتصانيف المتقنة، وكان شيخ الظاهرية، وخطيب جامع الخندق. وفيها يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر رمضان، انفصل القاضي جمال الدين يوسف بن جملة الحجي الشافعي من قضاء دمشق، وعقد له مجلس عند نائب السلطنة تنكز، وحكم بعزله، لكونه عزر الشيخ الظهير الرومي فجاوز في تعزيره الحد، ورسم على القاضي المذكور بالعذراوية ثم نقل إلى القلعة، فإن القاضي المالكي حكم بحبسه، وطولع السلطان بذلك فأمر بتنفيذه. قلت وأعجب بعض الناس حبسه أولاً، ثم رجع الناس إلى أنفسهم فأكبروا مثل ذلك، ومما قلت فيه: دمشق لازال ربعها خضر ... بعدلها اليوم يضرب المثل فضا من المكس مطلق فرح ... فيها وقاضي القضاة معتقل ونفي الشيخ إلى بلاد المشرق، وكانت مدة ولاية القاضي المذكور سنة ونصفاً سوى أيام، فكان الناس يرون أن حادثة القاضي، وحبسه بالقلعة بقيامه على ابن تيمية جزاء وفاقاً. ومات الشيخ سيف الدين يحيى بن أحمد بن أبي نصر محمد بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي بحماة، وكان شهماً سخياً رحمه الله تعالى. وفي منتصف الشهر وجد بالقاهرة يهودي مع مسلمة من بنات الترك، فرجم اليهودي وأحرق وأخذ ماله كله، وكان متمولاً وحبست المرأة. قلت: هذا تعدى طوره فناله ما ناله ... فأعدموه عرضه وروحه وماله وحكى لي عدل، أنه أخذ منه ألف ألف درهم وثلاث صواني زمرد وعزل الأمير سيف الدين بلبان عن ثغر دمياط، وأخذ منه مال وحبس. وفيها في شوال، توفي الصاحب شمس الدين غبريال، وكان قد أخذ منه ألفا ألف درهم، وكان حسن التدبير في الدنيويات، وأسلم سنة إحدى وسبعمائة، هو وأمين الملك معاً. وفيه بالقاهرة، خصي عبد أسود كان تعرض إلى أولاد الناس، فمات قلت: يعجبني وفاة من فيه فساد وأذى ... لا حبذا حياته وإن يمت فحبذا ومات الإمام شمس الدين محمد بن عثمان الأصفهاني المعروف بابن العجمي الحنفي، كان مدرساً بالإقبالية، وحدث بالمدينة النبوية ودرس أيضاً بالمدرسة الشريفة النبوية، وحدث بدمشق، وكان فاضلاً وجمع منسكاً على المذاهب، ومات الشيخ الزاهد ناصر الدين محمد ابن الشرف صالح بحماة، أقام أكثر من ثلاثين سنة لا يأكل الفاكهة ولا اللحم، وكان ملازماً للصوم لا يقبل من أحد شيئاً قلت: زرته مرتين والحمد لل ... هـ فعاينت خير تلك الزياره كان فيه تواضع وسكون ... وصلاح باد وحسن عباره

وفيه كتب بدمشق محضر بأن الصاحب غبريال، كان احتاط على بيت المال. واشترى أملاكاً ووقفها. وليس له ذلك فشهد بذلك جماعة، منهم ابن الشيرازي وابن أخيه عماد وابن مراجل، وأثبت عند برهان الدين الزرعي، ونفذوه وامتنع المحتسب عز الدين بن الغلانيس من الشهادة بذلك فرسم عليه وعزل من الحسبة. قلت: فديت امرءاً قد راقب الله ربه ... وأفسد دنياه لإصلاح دينه وعزل الفتى في الله أكبر منصب ... يقيه الذي يخشى بحسن يقينه وفيها في ذي القعدة، تولى قضاء قضاة الشافعية بدمشق، شهاب الدين محمد ابن المجد عبد الله ابن الحسين، درس وأفتى قديماً وضاهى الكبار، وتنقلت به الأحوال، وهو على ما فيه غزير المروءة سخي النفس متطلع إلى قضاء حوائج الناس. واستمر قاضياً إلى أن كان ما سنذكر، وتوجه مهنا بن عيسى أمير العرب إلى طاعة السلطان بعد النفرة العظيمة عنه سنين، ومعه صاحب حماة الملك. الأفضل، فأقبل السلطان على مهنا وخلع عليه، وعلى أصحاب مائة وستين خلعة، ورسم له بمال كثير الذهب والفضة والقماش، وأقطعه عدة قرى، وعاد إلى أهله مكرماً. ومات المجود الأديب بدر الدين حسن بن علي بن عدنان الحمداني ابن المحدث. وفيها أظن ذي الحجة مات القاضي مجد الدين حرمي بن قاسم الفاقوسي الشافعي، وكيل بيت المال، ومدرس قبة الشافعي وكان معمراً. وألزمت النصارى واليهود ببغداد بالغيار، ثم نقضت كنائسهم ودياراتهم، وأسلم منهم ومن أعيانهم خلق كثير، منهم سديد الدولة، وكان ركناً لليهود، عمر في زمن يهوديته مدفناً له، خسر عليه مالاً طائلاً، فخرب مع الكنائس، وجعل بعض الكنائس معبداً للمسلمين، وشرع في عمارة جامع بدرب دينار، وكانت بيعة كبيرة جداً، واشتهر عن جماعة من الشيعة في قرية بتي بالعراق، وأنهم دخلوا على مريض منهم، فجعل يصيح أخذ في المغول، خلصوني منهم، وكرر ذلك فاختلس من بينهم حياً فكان آخر عهدهم به، وكان الرجل من فقهاء الشيعة، يتولى عقود أنكحتهم، إن في ذلك لعبرة. وأطلق ببغداد مكس الغزل وضمان الخمر، والفاحشة، وأعطيت المواريث لذوي الأرحام دون بيت المال، وخفف كثير من المكوس، ولله الحمد. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في المحرم منها، رجع حسام الدين مهنا من مصر مكرماً ومات الأمير بدر الدين كيكليدي، عتيق شمس الدين الأعسر بد مشق، وخلف أولاداً وأملاكاً، ومات الأمير بكتمر الحسامي بمصر. وجدد جامع قلعة مصر، ومات الملك العزيز ابن الملك المغيث ابن السلطان الملك العادل ابن الكامل، كتب الكثير وعمر. وفيها في صفر، وصل إلى دمشق كاتب السر، القاضي جمال الدين عبد الله ابن القاضي كمال الدين ابن الأثير، صاحب ديوان الإنشاء، بدلاً عن شرف الدين حفيد الشهاب محمود. ومات شيخ

المؤذنين وأنداهم صوتاً برهان الدين إبراهيم الواني، سمع من ابن عبد الدائم وجماعة، وحدث. ومات بدمشق المسند المعمر، بدر الدين عبد الله بن أبي العيش الشاهد، وقد جاوز التسعين، سمع من مكي بن قيس بن علان، وكان يطلب على السماع وتفرد بأشياء. ومات بدمشق تقي الدين عبد الرحمن بن الفويرة الحنفي. وفيها في صفر أمر السلطان بتسمير رجل ساحر اسمه إبراهيم. وفيها في ربيع الأول، مات الشيخ أبو بكر بن غانم بالقدس، وكان له مكارم ونظم. ومات المحدث أمين الدين محمد بن إبراهيم الواني، روى عن الشرف ابن عساكر وغيره، وكان ذا همة ورحلة. وحج ومجاورة، وكانت جنازته مشهودة، وطاب الثناء عليه. ومات نظام الدين حسن، ابن عم العلامة كمال الدين بن الزملكاني، وقد جاوز الخمسين، وكان مليح الشكل لطيف الكلام، ناظراً بديوان البر. ومات كبير المجودين، الخطب بهاء الدين محمود بن خطيب بعلبك السلمي بالعقبة، وتأسف الناس عليه لدينه وتواضعه، وحسن شكله، وبراعة خطه، وعفته، وتصونه، كتب عليه خلق، وكتب صحيح البخاري بخطه. وعمر الأمير حمزة بدمشق حماماً عند القنوات، وأدير فيه أربعة وعشرون جاناً، وأوجر كل يوم بأربعين درهماً وعظم حمزة، وأقبل عليه تنكز بعد الدواتدار، ثم طغى وتجبر وظلم، وعظم الخطب به فضربه تنكز وحبسه، ونقل إلى القلعة، ثم حبس بحبس باب الصغير، ثم أطلق أياماً وصودر، ثم أهلك سراً بالبقاع، قيل غرق وقطع لسانه من أصله، وهو الذي اتلف أمر الدواتدار، وابن مقلد بن جملة، وله حكايات في ظلمه، ورفع فيه يوم أمسك تسعمائة قصة، وبولغ في ضربه ورمي بالبندق في جسده، وما رق عليه أحد. قلت: لو يفطن العاتي الظلوم لحاله ... لبكى عليها فهي بئس الحال يكفيه شؤم وفاته وقبيح ما ... يثنى عليه وبعد ذا أهوال وفيها في ربيع الآخر، توفي الفقير الصالح الملازم لمجالس الحديث، أبو بكر بن هارون الشيباني الجزري، روى عن ابن البخاري. وقدم على نيابة طرابلس سيف الدين طينال الناصري عوضاً عن أفوش الكركي، وحبس الكركي بقلعة دمشق، ثم نقل إلى الإسكندرية. وفيها في جمادى الأولى مات علاء الدين علي بن سلعوس التنوخي، وقد باشر صحابة الديوان لدمشق، ثم ترك واحتيط بمصر على دار الأمير بكتمر الحاجب لامي، ونبشت فأخذ منها شيء عظيم. وفيها في جمادى الآخرة مات مشددار الطراز، سيف الدين علي بن عمر بن قزل سبط الملك الحافظ، ووقف على كرسي وسيع بالجامع. ومات ببعلبك الفقيه أبو طاهر، سمع من التاج عبد الخالق وعدة، وكتب وحدث، وعمل ستر ديباج منقوش على المصحف العثماني بدمشق بأربعة آلاف درهم وخمسمائة. قلت:

ستروا المكرم بالحرير وستره ... بالدر والياقوت غير كثير ستروه وهو من الغواية سترنا ... عجبي لهذا الساتر المستور ومات فجأة التاجر علاء الدين علي السنجاري بالقاهرة، وهو الذي أنشأ دار القرآن بباب الناطفانيين قلت: ما مات من هذي صفاته ... فوفاة ذا عندي حياته إن مات هذا صورة ... أحيت معنى سالفاته ومات بمصر، الواعظ شمس الدين حسين، وهو آخر أصحاب الحافظ المنذري، سمع من جماعة، وكان عالماً حسن الشكل. ومات الفاضل الأديب زكي الدين المأمون الحميري المصري المالكي بمصر، ولي نظر الكرك والشوبك، وعمر نحو تسعين سنة. وفيها في رجب مات الفقيه محمد بن محي الدين محمد ابن القاضي شمس الدين ابن الزكي العماني، شابا درس مدة بدمشق. ومات الحافظ قطب الدين الكلبي بالحسينية حفظ الألفية والشاطبية، وسمع من القاضي شمس الدين بن العماد وغيره، وحج مرات وصنف وكان كيساً حسن الأخلاق؛ مطرحاً للتكلف؛ طاهر اللسان مضبوط الأوقات، شرح معظم البخاري، وعمل تاريخاً لمصر لم يتمه، ودرس الحديث بجامع الحاكم، وخلف تسعة أولاد، ودفن عند خاله الشيخ نصر المنبجي. وفيه أخرج السلطان من حبس الإسكندرية ثلاثة عشر نفراً منهم تمر الساقي الذي ناب بطرابلس، وبيبرس الحاجب وخلع على الجميع، وفيه طلب قاضي الإسكندرية فخر الدين بن سكين وعزل بسبب فرنجي. وفيها في شعبان مات المفتي بدر الدين محمد بن الفويرة الحنفي سمع وحدث. ومات القاضي زين الدين عبد الكافي بن علي بن تمام، روى عن الأنماطي وأخذ عنه ابن رافع وغيره. ومات عز الدين يوسف الحنفي بمصر، حدث عن إبراهيم، وناب في الحكم. وفيها في رمضان مات صاحبنا شمس الدين محمد بن يوسف التدمري، خطيب حمص، كان يفتي ويدرس. وتولى قضاء الإسكندرية العماد محمد بن إسحاق الصوفي. وفيها في شوال قدم عسكر حلب، والنائب من غزاة بلد سيس، وقد خربوا في بلد أذنة وطرسوس، وأحرقوا الزروع واستاقوا المواشي، وأتوا بمائتين وأربعين أسيراً، وما عدم من المسلمين سوى شخص واحد، غرق في النهر، وكان العسكر عشرة آلاف سوى من تبعهم، فلما علم أهل إياس بذلك أحاطوا بمن عندهم من المسلمين التجار وغيرهم، وحبسوهم في خان ثم أحرقوه، فقل من نجا، فعلوا ذلك بنحو ألفي رجل من التجار البغاددة وغيرهم في يوم عيد الفطر فلله الأمر. واحترق في حماة مائتان وخمسون حانوتاً، وذهبت الأموال واهتم الملك بعمارة ذلك وكان الحريق عند الفجر إلى طلوع الشمس، وذكر أن شخصاً رأى ملائكة يسوقون النار، فجعل ينادي

أمسكوا يا عباد الله، لا ترسلوا، فقالوا أبهذا أمرنا ثم إن رجل توفي لساعته. وناب بدمشق في القضاء، شهاب الدين أحمد بن شرف الزرعي الشافعي. قاضي حصن الأكراد. وورد الخبر بحريق أنطاكية قبل رجوع العسكر، فلم يبق بها إلا القليل، ولم يعلم سبب ذلك. وفيها في ذي القعدة توفيت زينب بنت الخطيب يحيى ابن الإمام عز الدين بن عبد السلام السلمي، سمعت من جماعة، وكان فيها عبادة وخير وحدثت. ومات الطبيب جمال الدين عبد الله بن عبد السيد، ودفن في قبر أعده لنفسه، وكان من أطباء المارستان النوري بدمشق، وأسلم مع والده الذبان سنة إحدى وسبعمائة. ومات حسام الدين مهنا بن عيسى أمير العرب، وحزن عليه آله، وأقاموا مأتماً بليغاً ولبسوا السواد، أناف على الثمانين. وله معروف، من ذلك مارستان جيد بسرمين، ولقد أحسن برجوعه إلى طاعة سلطان الإسلام قبل وفاته، وكانت وفاته بالقرب من سلمية. ومات المحدث الرئيس العالم شمس الدين محمد بن أبي بكر بن طرخان الحنبلي سمع من ابن عبد الدائم وغيره، وكان بديع الخط، وكتب الطباق، وله نظم. وفيها في ذي الحجة مات الفقيه الزاهد شرف الدين فضل بن عيسى بن قنديل العجلوني الحنبلي بالمسمارية، كان له اشتغال وفهم ويد في التعبير، وتعفف وقوة نفس، عرض عليه خزن المصحف العثماني فامتنع، رحمه الله تعالى. وفيها وصل الأمير سيف الدين أبو بكر الباشري إلى حلب، وصحب معه، الرجال والصناع، وتوجه إلى قلعة جعبر، وشرع في عمارتها، وكانت خراباً من زمن هولاكو، وهي من أمنع القلاع، تسبب في عمارتها الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام، ولحق المملكة الحلبية وغيرها بسبب عمارتها ونفوذ ماء الفرات إلى أسفل منها كلفة كثيرة. ثم دخلت سنة ست وثلاثين وسبعمائة. فيها في المحرم، باشر السيد النقيب الشريف بدر الدين محمد ابن السيد شمس الدين بن زهرة الحسيني، وكالة بيت المال بحلب، مكان شيخنا القاضي فخر الدين أبي عمرو وعثمان بن الخطيب زين الدين علي الجبريني. وفيها في المحرم نزل نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز بعسكر الشام إلى قلعة جعبر وتفقدها، وقرر قواعدها وتصيد حولها، ثم رحل فنزل بمرج بزاعا، ومد له نائب حلب الأمير علاء الدين الطنبغا به سماطاً، ثم سافر إلى جهة دمشق. وفيها في صفر طلب من البلاد الحلبية رجال للعمل في نهر قلعة جعبر، ورسم أن يخرج من كل قرية نصف أهلها، وجلا كثير من الضياع بسبب ذلك، ثم طلب من أسواق حلب أيضاً رجال، واستخرجت أموال، وتوجه النائب بحلب إلى قلعة جعبر بمن حصل من الرجال، وهم نحو عشرين ألفاً. وفيها في جمادى الآخرة، وصل البريد إلى حلب بعزل القاضي شمس الدين محمد بن بدر الدين أبي بكر بن إبراهيم ابن النقيب، عن القضاء بالمملكة الحلبية، وبتولية شيخنا قاضي القضاة فخر الدين أبي عمر وعثمان بن خطيب

جبرين مكانه، ولبس الخلعة وحكم من ساعته، واستعفيته من مباشرة الحكم بالبر في الحال، فأعفاني وكذلك أخي بعد مدة، فأنشدته ارتجالاً: جنبتني وأخي تكاليف القضاء ... وكفيتنا مرضين مختلفين يا حي عالمنا لقد أنصفتنا ... فلك التصرف في دم الأخوين وفيه أعني ذي الحجة، توجه الأمير عز الدين أزدمر النوري، نائب بهسني، لمحاصرة قلعة درندة بمن عنده من الأمراء والتركمان، وفتحت بالأمان في منتصف المحرم سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. وفيها أعني سنة ست وثلاثين وسبعمائة، توفي الشيخ العارف الزاهد، مهنا ابن الشيخ إبراهيم ابن القدوة مهنا الفوعي، بالفوعة في خامس عشر شوال ورثيته بقصيدة أولها: أسأل الفوعة الشديدة حزناً ... عن مهنأ هيهات أين مهنا أين من كان أبهج الناس وجهاً ... فهو أسمى من البدور وأسنى ومنها: أين شيخي وقدوتي وصديقي ... وحبيبي وكل ما أتمنى كيف لا يعظم المصاب لصدر ... نحن منه مودة وهو منا جعفري السلوك والوضع حتى ... قال عبس عنه مهنا مهنا أي قلب به ولو كان صخراً ... ليس يحكي الخنساء نوحاً وحزناً أذكرتنا وفاته بأبيه ... وأخيه أيام كانوا وكنا وهي طويلة. كان جده مهنا الكبير، من عباد الأمة، ترك أكل اللحم زماناً طويلاً لما رأى اختلاط الحيوانات في أيام هولاكو، لعنه الله، وكان قومه على غير سنة، فهدى الله الشيخ مهنا من بينهم، وأقام مع التركمان راعياً ببرية حران، فبورك للتركمان في مواشيهم ببركته، وعرفوا بركته، وحصل له نصيب من الشيخ حياة بن قيس بحران، وهو في قبره، وجرت له معه كرامات، فرجع مهنا إلى الفوعة وصحب شيخنا تاج الدين جعفراً السراج الحلبي، وتلمذ له وانتفع به، وصرفه مهنا في ماله، وخلفه على السجادة بعد وفاته، ودعا إلى الله تعالى، وجرت له وقائع مع الشيعة، وقاسى معهم شدائد، وبعد صيته، وقصد بالزيارة من البعد، وجاور بمكة شرفها الله تعالى سنين، ثم بالمدينة، على سكانها أفضل الصلاة والسلام، وجرت له هناك كرامات مشهورة بين أصحابه وغيرهم، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم، رد عليه السلام من الحجرة وقال: وعليك السلام يا مهنا، ثم عاد إلى الفوعة وأقام بها إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى، في المحرم، سنة أربع وثمانين وستمائة. وجلس بعده على سجادته ابنه الشيخ إبراهيم، فسار أحسن سير، ودعا إلى الله تعالى على قاعدة والده،

ورجع من أهل بلد سرمين خلق إلى السنة، وقاسى من الشيعة شدائد، وسببه قتل ملك الأمراء بحلب، يومئذ سيف الدين قبجق، الشيخ الزنديق منصوراً، من تار، وجرت بسبب قتله فتن في بلد سرمين، ولم يزل الشيخ إبراهيم على أحسن سيرة، وأصدق سريرة، إلى أن توفي إلى رحمه الله تعالى، في ذي الحجة سنة ست عشرة وسبعمائة. وجلس بعده على سجادته، ابنه الشيخ الصالح إسماعيل ابن الشيخ إبراهيم ابن القدوة مهنا، فسار أحسن سير، وقاسى من الشيعة غبوناً، ولم يزل على أحسن طريقة إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى، في ثامن صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة. وجلس بعده على السجادة أخوه لأبويه، الشيخ الصالح مهنا بن إبراهيم مهنا، إلى أن توفي في خامس عشر شوال سنة ست وثلاثين وسبعمائة، كما مر، وتأسف الناس لموته، فإنه كان كثير العبادة، حسن الطريقة، عارفاً. وجلس بعده على السجادة أخوه لأبيه، الشيخ حسن، وكان شيخنا عبس يحب مهنا هذا محبة عظيمة، ويعظمه ويقول عنه: مهنا مهنا، يعني أنه يشبه في الصلاح والخير جده، وهم اليوم ولله الحمد بالفوعة جماعة كثيرة، وكلهم على خير وديانة، وقد أجزل الله عليهم المنة، وجعلهم بتلك الأرض ملجأ لأهل السنة، ولو ذكرت تفاصيل سيرة الشيخ مهنا الكبير وأولاده وأصحابه وكراماتهم، لطال القول والله تعالى أعلم. وفيها مات القان أبو سعيد بن خربنده بن أرغون بن أبغا بن هولاكو، صاحب الشرق، ودفن بالمدينة السلطانية، وله بضع وثلاثون سنة، وكانت دولته عشرين سنة، وكان فيه دين وعقل وعدل، وكتب خطاً منسوباً، وأجاد ضرب العود. وباشتغال التتار بوفاته، تمكنا من عمارة قلعة جعبر؛ بعد أن كانت هي وبلدها داثرة من أيام هولاكو، فلله الحمد. وفيها توفي بدمشق الإمامان، مدرس الناصرية، كمال الدين أحمد بن محمد بن الشيرازي، وله ست وستون سنة، وقد ذكر لقضاء دمشق، ومدرس الأمينية، قاضي العسكر عز الدين علي بن محمد بن القلانسي، وله ثلاث وستون سنة، وناظر الخزانة عز الدين أحمد بن محمد العقلي بن القلانسي المحتسب بها. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. وفيها في ربيع الأول، توفي الأمير الشاب الحسن جمال الدين خضر ابن ملك الأمراء علاء الدين الطنبغا بحلب، ودفن بالمقام، ثم عمل له والده تربة حسنة عند جامعه خارج حلب، ونقل إليها، وكان حسن السيرة، ليس من إعجاب أولاد النواب في شيء، ومما قلت فيه تضميناً: أيبست أفئدة بالحزن يا خضر ... فالدمع يسقيك إن لم يسقك المطر منها خلقت فلم يسمح زمانك أن ... يشين حسنك فيه الشيب والكبر فإن رددت فما في الرد منقصة ... عليك قد رد موسى قبل والخضر وإن كان يضمن هذا التضمين القول بموت الخضر عليه السلام. وفيه باشر تاج

الدين محمد بن عبد الكريم، أخو الصاحب شرف الدين يعقوب ناظر الجيوش المنصورة بحلب، فما هنئ بذلك، واعترته الأمراض حتى مات، رحمه الله في سابع جمادى الآخرة من السنة المذكورة، قلت: ما الدهر إلا عجب فاعتبر ... أسرار تصريفاته واعجب كم باذل في منصب ماله ... مات وما هنيء بالمنصب وباشر مكانه في شعبان منها، القاضي جمال الدين سليمان بن ريان. وفيه في رمضان المعظم، وصل إلى حلب من مصر عسكر حسن الهيئة، قدمه الحاج أرقطاي، وعسكر من دمشق مقدمهم قطلبغا الفخري، وعسكر من طرابلس مقدمه بهادر عبد الله، وعسكر من حماة مقدمه الأمير صارم الدين أزبك، المقدم على الكل ملك الأمراء بحلب علاء الدين الطنبغا، ورحل بهم إلى بلاد الأرمن في ثاني شوال منها، ونزل على ميناء إياس، وحاصرها ثلاثة أيام، ثم قدم سول الأرمن من دمشق ومعه كتاب نائب الشام بالكف عنهم، على أن يسلموا البلاد والقلاع التي شرقي نهر جهان، فتسلموا منهم ذلك، وهو ملك كبير، وبلاد كثيرة، كالمصيصة، وكويرا، والهارونية، وسرفندكار، وآياس، وباناس، وبخيمة، والنقبر التي قدم ذكر تخريبها، وغير ذلك. فخرب المسلمون برج آياس الذي في البحر، استنابوا بالبلاد المذكورة نواباً، وعادوا في ذي الحجة منها والحمد لله. قلت: وهذا فتح اشتمل على فتوح، وترك ملك الأرمن جسداً بلا روح، خائفاً على ما بقي بيده على الإطلاق، وكيف لا؛ ومن خصائص ديننا سرابة الأعناق، فيا له فتحاً كسر صلب الصليب، وقطع يد الزنار، وحكم على كبير أنامهم المزمل في بجاده، بالخفض على الجوار، والله أعلم. وفيها في ذي الحجة، توفي الأمير العابد الزاهد صارم الدين أزبك المنصور الحموي، بمنزلة نزلها مع العسكر عند آياس، وحمل إلى حماة فدفن بتربته، كان من المعمرين في الإمارة، ومن ذوي العبادة، والمعروف، وبنى خاناً للسبيل بمعرة النعمان، شرقيها، وعمل عنده مسجداً وسبيلاً للماء، وله غير ذلك رحمه الله، ذكر لي جماعة بحلب، وهو مسافر إلى بلاد الأرمن، أنه رؤي له بحماة منام يدل على موته في الجهاد، وحمله إلى حماة وحوله الملائكة. قلت: ولقد تجمل لهذا الجهاد، وتحمل وتكلف لمهمة، وتكفل حتى كأنه توهم فترة سلاحه عن الكفاح، فرسم أن تحد السيوف، وتعتقل الرماح، فلاح على حركاته الفلاح وسيحمد سراه عند الصباح، والله أعلم. وفيها وقف الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدواتدار، داره النفيسة بحلب المعروفة أولاً بدار ابن العديم، مدرسة على المذاهب الأربعة، وشرط أن يكون القاضي الشافعي والقاضي الحنفي بحلب مدريسها، وذلك عند عوده من بلد سيس صحبة العسكر، منصرفاً إلى منزله بطرابلس. قلت: ولقد كانت الدار

المذكورة باكية لعدم بني العديم، فصارت راضية بالحديث عن القديم، نزع الله عنها لباس البأس والحزن، وعوضها بحلة يوسف عن شقة الكفن، فكمل رخامها وذهبها، وجعل ثمال اليتامى عصمة للأرامل مكتبها، وكملها بالفروع الموصلة، والأصول المفرعة، وجملها بالمرابع المذهبة، والمذاهب الأربعة، وبالجملة فقد كتبها صلاح الدنيا في صلاح الدين إلى يوم العرض، وتلا لسان حسنها اليوسفي، وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، ولما وقف الأمير صلاح الدين المذكور على هذه الترجمة، تهلل وجهه وقال ما معناه يا ليتك زدتنا من هذا. وفيها توفي الشيخ الكبير الشهير المتزهد، محمد بن عبد الله بن المجد المرشدي بقريته من عمل مصر، له أحوال وطعام يتجاوز الوصف، ويقال إنه كان مخدوماً قيل إنه أنفق في ثلاث ليال، ما يساوي خمسة وعشرين ألفاً، رحمه الله تعالى ونفعنا به. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. فيها في المحرم، توفي ناصر الدين محمد بن مجد الدين محمد بن قرناص، دخل بلاد سيس لكشف الفتوحات الجهائية، فتوفي هناك رحمه الله تعالى، ودفن بتربة هناك للمسلمين. وفيها في صفر، توفي بدر الدين محمد بن إبراهيم بن الدقاق الدمشقي، ناظر الوقف بحلب، وفي أيام نظره فتح الباب المسدود الذي بالجامع بحلب، شرقي المحراب الكبير، لأنه سمع أن بالمكان المذكور رأس زكريا النبي، صلى الله على نبينا وعليه وسلم، فارتاب في ذلك، فأقدم على فتح الباب المذكور بعد أن نهى عن ذلك، فوجد باباً عليه تأزير رخام أبيض، ووجد في ذلك تابوت رخام أبيض، فوقه رخامة بيضاء مربعة، فرقعت الرخامة عن التابوت، فإذا فيها بعض جمجمة، فهرب الحاضرون هيبة لها، ثم رد التابوت وعليه غطاؤه إلى موضعه، وسد عليه الباب، ووضعت خزانة المصحف العزيز على الباب، وما أنجح الناظر المذكور بعد هذه الحركة، وابتلي بالصرع، إلى أن عض لسانه فقطعه ومات. نسأل الله أن يلهمنا حسن الأدب. وفيها في أواخر ربيع الأول، قدم إلى حلب العلامة القاضي فخر الدين محمد بن علي المصري الشافعي، المعروف بابن كاتب قطلوبك، واحتفل به الحلبيون، وحصل لنا في البحث معه فوائد. منها قولهم إذا طلب الشافعي من القاضي الحنفي شفعة الجار، لم يمنع على الصحيح، لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف. قال: وهذا مشكل. فإن حكم الحاكم ينفذ ظاهراً، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أقطع له قطعة من نار، وأما كون القاضي لا ينقض هذا الحكم، فتلك سياسة حكيمة. ومنها قولهم: يقضي الشافعي الصلاة إذا اقتدى بالحنفي، علم أنه ترك واجباً كالبسملة، يعني على صحيح، ولا يقضي المقتدي بحنفي افتصد، ولم يتوضأ. قال: وهذا مشكل، فإن الحنفي إذا اقتصد ولم يتوضأ وصلى، فهو متلاعب على اعتقاده، فينبغي أن يقضي الشافعي المقتدى به، وإذا ترك البسملة، فصلاته صحيحة. عنده، فينبغي أن لا يقضي الشافعي المقتدى به، وفيه نظر.

ومنها قولهم في الصداق، أن قيمة النصف غير نصف القيمة، هذا معروف. ولكنه قال قول الشافعي وغيره، أن الزوج في مسائل التشطير يغرمها نصف القيمة، لا قيمة النصف مشكل وكانوا بدمشق لا يساعدونني على استشكاله حتى رأيته لإمام الحرمين، وذلك لأن القيمة خلف لما تلف، وإنما يستحق نصف الصداق فليغرمها قيمة النصف لا نصف القيمة. ومنها: أنه ذكر أن الشيخ صدر الدين، لما قدم من مصر قال: لقد سألني ابن دقيق العيد عن مسألة أسهرته ليلتين، وصورتها: رجل قال لزوجته: إن ظننت بي كذا فأنت طالق، فظنت به ذلك، قالوا أتطلق ومعلوم أن الظنى لا ينتج قطيعاً فكيف انتج هنا القطعي؟. قال العلامة فخر الدين، كنت يومئذ صبياً، فقلت: ليس هذا من ذلك، فإن المعنى إن حصل لك الظن بكذا فأنت طالق، والحصول قطعي، فينتج قطعياً، فقال صدر الدين بهذا أجبته. ومنها قولهم: إذا ادعي على امرأة في حبالة، رجل أنها زوجته، فقالت طلقتني تجعل زوجته، ويحلف أنه لم يطلق. رأى في هذه المسألة ما يراه شيخنا قاضي القضاة شرف الدين بن البارزي. وهو أن المراد بذلك امرأة مبهمة الحال. ومنها: إنما انعقد السلم بجميع ألفاظ البيع، ولم ينعقد البيع بلفظ السلم، لأن البيع يشمل بيع الأعيان، وبيع ما في الذمة، فصدق البيع عليهما صدق الحيوان على الإنسان والفرس، فإن الحيوان جنى لهذين النوعين، وكذلك البيع جنس لهذين النوعين، بخلاف السلم، فانه بيع ما في الذمة، فلا يصدق على بيع العين، كالنوع لا يصدق على الجنس، ولذلك تسمعهم يقولون: الجنس يصدق على النوع ولا عكس. ومنها قولهم: يسجد للسهو بنقل ركن ذكري، إن أريد به أنه ترك الفاتحة مثلاً، في القيام، وقرأها في التشهد سهواً، فهذا يطرح غير المنظوم، وإن فعل ذلك عمداً بطلت صلاته. وإن أريد غير ذلك فما صورته؟ فأجاب إن صورة المسألة أن يقرأ الفاتحة في القيام، ثم يقرأها في التشهد مثلاً، فوافق ذلك جوابنا فيها. ومنها أنهم قالوا خمس رضعات تحرم، بشرط كون اللبن المحلوب في خمس مرات على الصحيح، ثم ذكروا قطرة اللبن تقع في الحب، وهذا التناقض. فقال: لا تناقض، فالمراد بقطرة اللبن في الحب إذا وقعت تتمة لما قبلها، وهذا حسن مهم، فإن شيخنا لفراره من مثل ذلك، شرط أن يكون اللبن المغلوب بما شيب به، قدراً يمكن أن يسقى منه خمس دفعات، لو انفرد عن الخليط، ولا شك أن هذا قول ضعيف، والصحيح عند الرافعي: أن هذا لا يشترط، والتناقض يندفع بما تقدم من جواب العلامة فخر الدين. وفيها وأظنه في ربيع الآخر، ورد الخبر إلى حلب بأن نائب الشام تنكز قبض على علم الدين كاتب السر القبطي الأصل بدمشق، وولى موضعه القاضي شهاب الدين يحيى ابن القاضي عماد الدين إسماعيل بن القيسراني الخالدي، وعذب النائب العلم المذكور وعاقبه، وصادره، وبينه وبين العلامة فخر الدين

المصري قرابة، فلحقه شؤمه، ولفحه سمومه، وسافر من حلب خائفاً من نائب الشام، فلما وصل دمشق، رسم عليه مدة وعزل عن مدارسه وجهاته، ثم فك الترسيم عنه، وبعد موت تنكز عادت إليه جهاته، وحسنت حاله ولله الحمد. وفيها في رجب ورد الخبر بوفاة القاضي شهاب الدين محمد ابن المجد عبد الله، قاضي القضاة الشافعي بدمشق، صدمت بغلته به حائطاً فمات بعد أيام، وخلق الناس موضع الصدمة من ذلك الحائط بالخوق ومن لطف الله به أن السلطان عزله بمصر يوم موته بدمشق، وعزل القاضي جلال الدين محمد القزوبني عن قضاء الشافعية بمصر، ونقله إلى القضاء بالشام، موضع ابن المجد، ورسم بمصادرة ابن المجد، فلما مات صودر أهله، وكان ابن المجد فيه خير وشر، ودهاء، ومروءة قلت: لا ييأسن مخلط ... من رحمة الله العفو دليل هذا قوله ... وآخرون اعترفوا وولي بعد جلال الدين قضاء الديار المصرية، قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وأحسن السيرة، وعزل القاضي برهان الدين بن عبد الحق أيضاً عن قضاء الحنفية بالديار المصرية، وولى مكانه القاضي حسام الدين الغوري قاضي القضاة ببغداد، كان الوافد إلى مصر عقيب الفتن الكائنة بالمشرق، لموت أبي سعيد. وفيها في رجب أيضاً باشر القاضي بهاء الدين حسن ابن القاضي جمال الدين سليمان بن ريان، مكان والده، نظر الجيوش بحلب، في حياة والده وبسعيه له. وفيها في رجب مات بحلب فاضل الحنفية بها الشيخ شهاب الدين أحمد بن البرهان إبراهيم بن داود ولي قضاء عزاز، ثم نيابة القضاء بحلب مدة، ثم انقطع إلى العلم، وله مصنفات، وولى ابنه داود جهاته. وفيها في رمضان، توفي القاضي محي الدين يحيى بن فضل الله، كاتب السر بمصر، وقد ناف على التسعين، وله نظم ونثر. وفيها أخرج الخليفة، أبو الربيع سليمان المستكفي بالله من مكانه بمصر عنفاً إلى قوص، وقلت في ذلك مضمناً من القصيدة المشهورة لأبي العلاء بيتاً، وبعض بيت: أخرجوكم إلى الصعيد لعذر ... غير مجد في ملتي واعتقادي لا يغيركم الصعيد وكونوا ... فيه مثل السيوف في الأغماد وفيها في رمضان أيضاً، ورد الخبر إلى حلب بوفاة العلامة زين الدين محمد ابن أخي الشيخ صدر الدين ابن الوكيل، المعروف بابن المرحل، من أكابر الفقهاء المفتين المدرسين الأعيان المتأهلين للقضاء بدمشق. أدينة تندب أم سمته ... أم عقله الوافر أم عمله فاق على الأقران في جده ... فمن رآه خاله عمه

وتولى تدريس الشامية البرانية مكانه، القاضي جمال الدين يوسف بن جملة، فمات ابن جملة. قيل إنه ما ألقى فيها إلا درساً أو درسين، لاشتغاله بالمرض. ووليها بعده القاضي شمس الدين محمد بان النقيب، بعد أن نزل عن العادلية. وفيها في ثالث شوال، ورد الخبر بوفاة العلامة شيخ الإسلام زين الدين محمد ابن الكناني، علم الشافعية بمصر، وصلي عليه بحلب صلاة الغائب، كان مقدماً في الفقه والأصول، معظماً في المحافل، متضلعاً من المنقول، ولولا انجذابه عن علماء عصره، وتبهه على فضلاء دهره، لبكى على فقده أعلامهم، وكسرت له محابرهم وأقلامهم، ولكن طول لسانه عليهم هون فقده لديهم. قلت: فجعت بكتبانها مصر ... فمثله لا يسمح الدهر يا زين مذهبه كفى أسفاً ... إن الصدور بموتك انسروا ما كان من بأس لو أنك بال ... علماء برأيها البحر وفيها في شوال أيضاً، رسم ملك الأمراء بحلب، الطنبغا، بتوسيع الطرق التي في الأسواق، اقتداء بنائب الشام تنكز، فيما فعله في أسواق دمشق، كما مر، ولعمري قد توقعت عزله عن حلب لما فعل ذلك؛ فقلت حينئذ: رأى حلبا بلداً داثراً ... فزاد لإصلاحها حرصه وقاد الجيوش لفتح البلاد ... ودق لقهر العدا فحصه وما بعد هذا سوى عزله ... إذا أتم أمر بدا نقصه وفيها في عاشر شوال، ورد الخبر بوفاة الفاضل المفتي الشيخ بدر الدين محمد ابن قاضي بارين الشافعي بحماة، كان عارفاً بالحاوي الصغير، ويعرف نحواً وأصولاً، وعنده ديانة وتقشف، وبيني وبينه صحبة قديمة، في الاشتغال على شيخنا قاضي القضاة شرف الدين ابن البارزي، وسافر مرة إلى اليمن، رحمه الله ونفعنا ببركته قلت: فجعت حماة ببدرها بل صدرها ... بل بحرها بل حبرها الغواص الله أكبر كيف حال مدينة ... مات المطيع بها ويبقى العاصي وفيه ولي قضاء الحنفية بحماة، جمال الدين عبد الله بن القاضي نجم الدين عمر بن العديم، وكان شاباً أمرد. بعد عزل القاضي تقي الدين بن الحكيم، فإن صاحب حماة، آثر أن لا ينقطع هذا الأمر من هذا البيت بحماة، لما حصل لأهل حماة من التأسف على والده القاضي نجم الدين وفضائله وعفته وحسن سيرته، رحمه الله تعالى، وجهز قاضي القضاة ناصر الدين محمد ابن قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم، صاحبنا شهاب الدين أحمد بن المهاجر إلى حماة، نائباً عن القاضي جمال الدين المذكور إلى حين يستقل بالأحكام، وخلع صاحب حماة عليهما في يوم واحد. وفيه ورد الخبر أن الأمير سيف الدين أبا بكر

النابيري قدم من الديار المصرية على ولاية بر دمشق. وفيها في ذي القعدة، توفي بدمشق العلامة القاضي جمال الدين يوسف بن جملة الشافعي، معزولاً عن الحكم من سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، كان جم الفضائل، غزير المادة، صحيح الاعتقاد، عنده صداقة في الأحكام، وتقديم للمستحقين، وكان قد عطف عليه النائب وولاه تدريس مدارس بدمشق. قلت: بكت المجالس والمدارس جملة ... لك يا ابن جملة حين فاجأك الردى فاصعد إلى درج العلى واسعد فمن ... خدم العلوم جزاؤه أن يصعدا وفيها في ذي القعدة، توفي شيخي المحسن إلي، ومعلمي المتفضل علي، قاضي القضاة، شرف الدين أبو القاسم هبة الله ابن قاضي القضاة نجم الدين أبي حمد عبد الرحيم ابن قاضي القضاة شمس الدين أبي الطاهر إبراهيم بن هبة الله بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد بن منصور بن أحمد بن البارزي الجهني الحموي الشافعي، علم الأئمة، وعلامة الأمة، تعين عليه القضاء بحماة، فقبله، وتورع لذلك عن معلوم الحكم من بيت المال، فما أكله، بل فرش خده لخدمة الناس ووضعه، ولم يتخذ عمره درة ولا مهمازاً، ولا مقرعة، ولا عزر أحداً بضرب، ولا خراق، ولا أسقط شاهداً على الإطلاق، هذا مع نفوذ أحكامه وقبول كلامه، والمهابة الوافرة، والجلالة الظاهرة، والوجه البهي الأبيض المشرب بحمره، واللحية الحسنة التي تملأ صدره، والقامة إقامة، والمكارم العامة، والمحبة العظيمة للصالحين، والتواضع الزائد للفقراء والمساكين، أفنى شبيبته في المجاهدة والتقشف والأوراد، وأنفق كهولته في تحقيق العلوم والإرشاد، وقضى شيخوخته في تصنيف الكتب الجياد، وخطب مرات لقاء الديار المصرية، فأبى وقنع بمصيره، واجتمع له من الكتب ما لم يجتمع لأهل عصره، وكف بصره في آخر عمره، فولى ابن ابنه مكانه، وتفرع للعلوم والتصرف والديانة، وصار كلما علت سنه لطف فكره وجاد ذهنه، وشدت الرحال إليه، وسار المعول في الفتاوى عليه، واشتهرت مصنفاته في حياته بخلاف العادة، ورزق في تصانيفه وتآليفه السعادة. فمنها في التفسير: كتاب البستان في تفسير القران، مجلدان. وكتاب روضات جنات المحبين اثنا عشر مجلداً. ومنها في الحديث: كتاب المجتبى مختصر جامع الأصول، وكتاب المجتبى، وكتاب الوفا في أحاديث المصطفى، وكتاب المجرد من السند، وكتاب المنضد شرح المجرد، أربع مجلدات. ومنها في الفقه: كتاب شرح الحاوي، المسمى بإظهار الفتاوى من أعوار الحاوي، وكتاب تيسير الفتاوي من تحرير الحاوي، وهما أشهر تصانيفه، وكتاب شرح نظم الحاوي، أربع مجلدات. وكتاب المغنى مختصر التنبيه، وكتاب تمييز التعجيز. ومنها في غير ذلك: كتاب توثيق عرى الإيمان في تفضيل حبيب الرحمن، والسرعة في قراءات السبعة، والدراية لأحكام الرعاية للمحاسبي، وغير ذلك. حدثني رحمه

الله تعالى في ذي القعدة، سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، قال: رأيت الشيخ محي الدين النوري بعد موته في المنام، فقلت له أما تختار في صوم الدهر؟ فقال: فيه اثنا عشر قولاً للعلماء، فظهر لشيخنا أن الأمر كما قال، وإن لم تكن الأقوال مجموعة في كتاب واحد، وذلك أن في صوم الدهر في حق من لم ينذر، ولم يتضرر به أربعة أقوال: الاستحباب، وهو اختيار الغزالي وأكثر الأصحاب. والكراهة، وهو اختيار البغوي صاحب التهذيب والإباحة، وهو ظاهر نص الشافعي، لأنه قال: لا بأس به. والتحريم، وهو اختيار أهل الظاهر، حملاً لقوله صلى الله عليه وسلم فيمن صام الدهر لا صام ولا أفطر، على أنه دعاء عليه. وفي حق من نذر ولم يتضرر به خمسة أقوال: الوجوب، وهو اختيار أكثر الأصحاب. والاستحباب، والإباحة، والكراهة، والتحريم. وفي حق من يتضرر بأن تفوته السنن أو الاجتماع بالأهل ثلاثة أقوال: التحريم، والكراهة والإباحة، ولا يجيء الوجوب ولا الاستحباب، فهذه اثنا عشر قولاً في صوم الدهر، وهذا المنام من كرامات الشيخ محي الدين، والقاضي شرف الدين، رضي الله عنهما، والله أعلم. وأخبرني حين أجازني، أنه أخذ الفقه من طريق العراقيين، عن والده وجده أبي الطاهر إبراهيم، وهو عن القاضي عبد الله بن إبراهيم الحموي، عن القاضي أبي سعد ابن أبي عصرون الموصلي، عن القاضي أبي علي الفارقي، عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، عن القاضي أبي الطيب الطبري، عن أبي الحسن الماسرجسي، عن أبي الحسن المروزي. ومن طريق الخراسانيين، عن جده المذكور، عن الشيخ فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر الدمشقي، عن الشيخ مطب الدين مسعود النيسابوري، عن عمر بن سهل الدامغاني، عن حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، عن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، عن والده أبي محمد الجويني، عن الإمام أبي بكر القفال المروزى، عن أبي إسحاق المروزي المذكور، عن القاضي أبي العباس بن شريح، عن أبي القاسم الأنماطي، عن أبي إسماعيل المزني والربيع المرادي، كلاهما عن الإمام الأعظم أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وهو أخذ عن إمام حرم الله مسلم بن خالد المزني، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، رضي الله عنهم، وعن إمام حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك، عن نافع، عن ابن عمر وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، عن نبينا سيد المرسلين، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أفضل صلواته، عدد معلوماته، وله نظم قليل، فمنه ما كتب به إلى صاحب حماة يدعوه إلى وليمة: طعام العرس مندوب إليه ... وبعض الناس صرح بالوجوب فجبراً بالتناول منه جرياً ... على المعهود في جبر القلوب

ومن نثره الذي يقرأ طرداً وعكساً قوله: " سور حماة بربها محروس " ولما بلغني خبر وفاته، كتبت كتاباً إلى ابن ابنه القاضي نجم الدين عبد الرحيم ابن القاضي شمس الدين إبراهيم ابن قاضي القضاة شرف الدين المذكور. صورته وينهي أنه بلغ المملوك وفاة الحبر الراسخ، بل انهداد الطود الشامخ، وزوال الجبل الباذخ، الذي بكته السماء والأرض، وقابلت فيه المكروه بالندب، وذلك فرض، فشرقت أجفان المملوك بالدموع، واحترق قلبه بين الضلوع، وساواه في الحزن الصادر والوارد، واجتمعت القلوب لما تم لمأتم واحد، فالعلوم تبكيه، والمحاسن تعزى فيه، والحكم ينعاه، والبر يتفداه، والأقلام تمشي على الرؤوس لفقده، والمصنفات تلبس حداد المداد من بعده. ولما صلي عليه يوم الجمعة صلاة الغائب بحلب، اشتد الضجيج، وارتفع النشيج، وعلت الأصوات، فلا خاص إلا حزن قلبه، ولا عام إلا طار لبه، فإنه مصاب زلزل الأرض، وهدم الكرم المحض، وسلب الأبدان قواها، ومنع عيون الأعيان كراها، ولكن عزى الناس لفقده، كون مولانا الخليفة من بعده، فإنه بحمد الله خلف عظيم، لسلف كريم، وهو أول من قابل هذا الفادح القادح بالرضا، وسلم إلى الله سبحانه فيما قضى، فإنه سبحانه يحيي ما كانت الحياة أصلح، ويميت إذا كانت الوفاة أروح، وقد نظم المملوك فيه مرثية أعجزه عن تحريرها اضطرام صدره، وحمله على تسطيرها انتهاب صبره، وها هي: برغمي أن بينكم يضام ... ويبعد عنكم القاضي الإمام سراج للعلوم أضاء دهراً ... على الدنيا لغيبته ظلام تعطلت المكارم والمعالي ... ومات العلم وارتفع الطغام عجبت لفكرتي سمحت بنظم ... أيسعدني على شيخي نظام وأرثيه رثاء مستقيماً ... ويمكنني القوافي والكلام ولو أنصفته لقضيت نحبي ... ففي عنقي له نعم جسام حشا أذني دراً ساقطته ... عيوني يوم حم له الحمام لقد لؤم الحمام فإن رضينا ... بما يجني فنحن إذاً لئام ألا يا عامنا لا كنت عاماً ... فمثلك ما مضى في الدهر عائم أتفجعنا بكتاني مصر ... وكان به لساكنها اعتصام وتفتك بابن جملة في دمشق ... ويعلوها لمصرعه القتام وكان ابن المرحل حين يبكي ... لخوف الله تبتسم الشآم وحبر حماة تجعله ختاماً ... أذاب قلوبنا هذا الختام ولما قام ناعيه استطارت ... عقول الناس واضطرب الأنام

ولو يبقى سلونا من سواه ... فإن بموته مات الكرام أألهو بعدهم وأقر عينا ... حلال اللهو بعدهم حرام فيا قاضي القضاة دعاء صب ... برغمى أن يغيرك الرغام ويا شرف الفتاوى والدعاوى ... على الدنيا لغيبتك السلام ويا ابن البارزي إذا برزنا ... بثوب الحزن فيك فلا نلام سقى قبراً حللت به غمام ... من الأجفان إن بخل الغمام إلى من ترحل الطلاب يوماً ... وهل يرجى لذي نقص تمام ومن للمشكلات وللفتاوى ... وفصل الأمر إن عظم الخصام وكان خليفة في كل فن ... وعيناً للخليفة لا تنام ألا يا بابه لا زلت قصداً ... لأهل العلم يغشاك الزحام فإن حفيد شيخ العصر باق ... يقل به على الدهر الملام أنجم الدين مثلك من تسلى ... إذ افدحت من النوب العظام وفي بقياك عن ماض عزاء ... قيامك بعده نعم القيام إذا ولى لبيتكم إمام ... عديم المثل يخلفه إمام وفي خير الأنام لكم عزاء ... وليس لساكن الدنيا دوام أنا تلميذ بيتكم قديماً ... بكم فخري إذا افتخر الأنام وإن كنتم بخير كنت فيه ... ويرضيني رضاكم والسلام لكم مني الدعاء بكل أرض ... ونشر الذكر ما ناح الحمام ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وسبعمائة. فيها في المحرم، توفي بمصر شيخنا قاضي القضاة فخر الدين عثمان بن زين الدين علي بن عثمان، المعروف بابن خطيب جبرين، قاضي حلب، وابنه كمال الدين محمد، وذلك أن الشناعات كثرت عليه، فطلبه السلطان على البريد إليه، فحضر عنده، وقد طار لبه، وخرج وقد انقطع قلبه، وتمرض بمصر مدة، وأراحه الله بالموت من تلك الشدة، وحسب المنايا أن يكنّ أمانياً ولقد كان رحمه الله فاضلاً في الفقه والأصول، والنحو والتصريف، والقراءات، مشاركاً في المنطق والبيان، وغيرهما، وله الشرح الشامل الصغير، ويدل حله إياه على ذكاء مفرط، وله شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، وشرح البديع لابن الساعاتي في الأصول أيضاً، وفرائض نظم، وفرائض نثر، ومجموع صغير في اللغة، وغير ذلك، كان رحمه الله سريع الغضب، سريع الرضا، كثير الذكر لله تعالى. قلت: من هو فخر الدين عثمان في ... مراحم الله وإحسانه

مات غريباً خائفاً نازحاً ... عن أنس أهليه وأوطانه وبعض هذي فيه ما يرتجى ... له به رحمة ديّانه فقل لشانيه ترفق ففي ... شانك ما يغنيك عن شانه ورأيت مكتوباً بخطه هذه الكلمات، وكنت سمعتها من لفظه قبل ذلك، وهي: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، فمن جعل السبب موجباً فقد أخطأ، ومن محاه ولم يجعل له أثراً فقد أخطأ، ومن جعل السبب سبباً والمسبب هو الفاعل فقد أصاب. ومولده رحمه الله بمصر في العشر الأواخر من شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وستين وستمائة. وفيها في العشر الأوسط من ربيع الآخر، توفي السيد الشريف بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني، نقيب الأشراف، وكيل بيت المال بحلب، ومن الاتفاق أنه مات يوم ورود الخبر بعزل ملك الأمراء علاء الدين الطنبغا عن نيابة حلب، وكان بينهما شحناء في الباطن. قلت: قد كان كل منهما ... يرجو شفا أضغانه فصاركل واحد ... مشتغلاً بشانه كان السيد، رحمه الله، حسن الشكل، وافر النعمة، معظماً عند الناس، شهماً ذكياً. وجده الشريف أبو إبراهيم، هو ممدوح أبي العلاء المعري، كتب إلى أبي العلاء القصيدة التي أولها: غير مستحسن وصال الغواني ... بعد ستين حجة وثمان ومنها: كل علم مفرق في البرايا ... جمعته معرة النعمان فأجابه أبو العلاء بالقصيدة التي أولها: عللاني فإن بيض الأماني ... فنيت والظلام ليس يفاني أو منها: يا أبا إبراهيم قصر عنك ال ... شعر لما وصفت بالقرآن وفيها في العشر الأول من جمادى الأولى، قدم الأمير سيف الدين طرغاي إلى حلب نائباً بها، وسر الناس بقدومه، وأظهروا الزينة، وصحبته القاضي شهاب الدين أحمد بن القطب، كاتب السر، مكان تاج الدين ابن الزين خضر، المتوجه إلى مصر صحبة الأمير علاء الدين الطنبغا، وكان رنك المنفصل جوكانين، ورنك المتصل خونجا، فقال بعض الناس في ذلك: كم أتى الدهر بطرد ... وبعكس وببدع راح عنا رنك ضرب ... وأتانا رنك بلع وفيها في السابع والعشرين من جمادى الأولى، ورد الخبر إلى حلب بوفاة قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني، قاضي دمشق، بها كان رحمه الله إمام

في علم المعاني والبيان له فيه مصنفات جامعة متقنة، وله يد في الأصولين، ويحل الحاوي، وكان كبير القدر، واسع الصدر، ولي أولاً خطابة دمشق، ثم قضاءها، ثم قضاء مصر، ثم قضاء دمشق حتى مات بها، سامحه الله تعالى. وبلغني أن بينه وبين الإمام الرافعي قرابة، وقرب العهد بسيرته يغني عن الإطالة، وبنى على النيل دارا قيل بما يزيد على ألف الف درهم، فأخذت منه، ثم أخرج إلى دمشق قاضياً كما تقدم. وفيها في جمادى الآخرة، ورد الخبر إلى حلب بوفاة الشيخ بدر الدين أبي اليسر محمد ابن القاضي عز الدين محمد ابن الصائغ الدمشقي بها، كان نفعنا الله به، عالماً فاضلاً متقللاً من الدنيا، زاهداً، جاءته الخلعة والتقليد بقضاء دمشق، امتنع أتم امتناع، واستعفى بصدق إلى أن أعفي، فمن يومئذ حسن ظن الناس به، وفطن أهل القلم وأهل السيف لجلالة قدره. قلت: ما قضاء الشام إلا شرف ... ولمن يتركه أعلى شرف يا أبا اليسر لقد أذكرنا ... فعلك المشكور أفعال السلف وفيه ورد الخبر أن الأمير علاء الدين الطنبغا وصل من مصر إلى غزة نائباً بها، سبحان من يرفع ويضع الإله الخالق والآمر. جرت بينه وبين نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز شحناء، اقتضت نقلته من حلب، وتوليته بعدها غزة، فإن نائب الشام متمكن عند السلطان رفيع المنزلة. وفيها في أوائل رجب، توفي بمعرة النعمان ابن شيخنا العابد إبراهيم بن عيسى بن عبد السلام، كان من عباد الأمة، ويعرف الشاطبية والقراءات، وله يد طولى في التفسير، وزهادته مشهورة، كان أولاً يحترف بالنساجة، ثم تركها وأقبل على العبادة والصيام والقيام، ونسخ كتب الرقائق وغيرها، فأكثر ووقف كتبه على زوايا وأماكن، وهو من أصحاب الشيخ القدوة مهنا الفوعي، نفعنا الله ببركتهما، وكان داعياً إلى السنة بتلك البلاد، وتوفي بعده بأيام، الشرف حسين بن داود بن يعقوب الفوعي، بالفوعة، وكان داعياً إلى التشيع بتلك البلاد. قلت: وقام لنصر مذهبه عظيماً ... وحدد ظفره وأطال نابه تبارك من أراح الدين منه ... وخلص منه أعراض الصحابه وفيه ورد الخبر بوفاة الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله، المعروف بابن المهاجر الحنفي بحماة، نائباً عن قاضيها جمال الدين عبد الله بن العديم، حسبما تقدم ذكره، كان فاضلاً في النحو والعروض، وله نظم حسن، ولهج في آخر وقته بمدائح الرسول صلى الله عليه وسلم. وفيه ورد الخبر إلى حلب أن الشيخ تقي الدين علي بن السبكي تولى قضاء القضاة الشافعية بدمشق المحروسة، بعد أن حدث لخطيب بدر الدين محمد ابن القاضي جلال الدين نفسه بذلك، وجزم به، وقبل الهناء، فقال فيه بعض أهل دمشق:

قد سبك السبكي قلب الخطيب ... فعيشه من بعدها ما يطيب وفيه طلب القاضي جمال الدين سليمان بن ريان على البريد، من حلب إلى دمشق، لمباشرة نظر الجيوش بالشام واستمر بدمشق إلى أن نكب تنكز، كما سيأتي، فعزل بالتاج إسحاق، ثم حضر إلى حلب وأقام بداره بالمقام وفيها في شعبان، قدم الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف الدواتدار، شاداً بالمملكة الحلبية. وفيها في رمضان، ورد الخبر أن الأمير سيف الدين أبا بكر البانيري، باشر النيابة بقلعة الرحبة، وهو الذي كان تولى تجديد عمارة جعبر كما تقدم، فقال فيه بعض الناس: يا باذلاً في جعبر جهده ... ما خيب السلطان مسعاكا عوضك الرحبة عن ضيق ما ... قاسيت قد أفرحنا ذاكا فضاجع البق وناموسها ... ولولا ضجيعاك لزرناكا وفيه شرع نائب الشام تنكز في الرجوع من متصيده بالمملكة الحلبية، وكان قد حضر إليها من شعبان، ومعه صاحب حماة الملك الأفضل، وحريم وحظايا وحشم وحمام، ولحق الفلاحين والرعية بذلك كلفة وضرر كبير، واجتمع نائب الشام وصاحب حماة على إعادة بذر الدين محمد بن علي، المعروف بابن الحمص، رامي البندق المشهور إلى منزلته من الرماية، بعد أن كان قد أسقط على عادتهم، وأسقطوا من كان أسقطه، واجتمعت أنا بابن الحمص المذكور بحلب، مسألته أن يريني شيئاً من حذقة في البندق، فرمى إلى حائط، فكتب عليه بالبندق ما صورته، محمد بن علي، بخط جيد، ثم أمر غلامه، فصار الغلام يرمي بندقاً إلى الجو، وهو يتلقاه، فيصيبه في سرعة على التوالي، فجاء من ذلك بالعجب العجيب. وفيه نادى مناد في جامع حلب وأسواقها، وقدامه شاد الوقف، بدر الدين بتليك الأسندمري، من أمراء العشرات، بما صورته " معاشر الفقهاء والمدرسين والمؤذنين، وأرباب وظائف الدين، قد برز المرسوم العالي إن كل من انقطع منكم عن وظيفته، وغمز عليه، يستأهل ما يجرى عليه، فانكسرت لذلك قلوب الخاص والعام، وعظم به تألم الأنام، وطهر مشد الوقف المذكور عن بغض وعناد، لأهل العلم والذين، فوقع منه يوم عيد الفطر كلمة قبيحة، أقامت عليه الناس أجمعين، وعقد له بدار العدل يوم العيد مجلس مشهود، وأفتينا بتجديد إسلامه، وعزله، وضربه، وهو ممدود. ونودي عليه في الملأ جزاء وفاقاً، وقطعنا أن لحوم العلماء مسمومة اتفاقاً، ولولا شفاعة الشافعي فيه، لدخل نار مالك بما خرج من فيه، ولو كان براً لما خاض هذا البحر، ولجمع قلبه ومذبحه بين الفطر والنحر، وبالجملة فقد ذاق مرارة القهر والقسر، فإن نداءه الذي انكسر به القلب انقلب به الكسر ". وفيها في تاسع شوال، وصل إلى حلب قاضي القضاة زين الدين عمر بن شرف الدين محمد بن البلقيائي المصري الشافعي، وباشر الحكم

من يومه، وخرج النائب والأكابر لتلقيه، وسر به الناس لما سمعوا من ديانته، بعد شغور المنصب نحو عشرة أشهر من حاكم شافعي. وفيها حج الأمير سيف الدين بشتك الناصري من مصر، وأنفق في الحج أموالاً عظيمة، وكان صحبته على ما بلغنا، ستمائة راوية، تكلم الناس في القبض عليه عند عوده بمدينة الكرك، فما أمكن ذلك، ودخل مصر وصعد القلعة، فتلقاه السلطان بالحسنى. ثم دخلت سنة أربعين وسبعمائة. فيها في المحرم، ورد الخبر بوفاة الشيخ علم الدين أبي محمد القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي، المحدث الدمشقي، بخليص، مريداً للحج، رحمه الله تعالى، كان حسن الأخلاق، كثير الموافاة للناس، محبوباً إليهم، وله تصانيف في الحديث والتاريخ، والشروط، وكان حسن الأداء، كثير البكاء. في حال قراءة الحديث، فصيحاً، رحمه الله تعالى. وفيها في المحرم، بلغنا شنق ابن المؤيد شرف الدين أبي بكر الواعظ المحتسب، نائب الوكالة باللاذقية، خافوا بطرابلس من طول لسانه، واتصاله بأعيان المصريين، وقامت عليه بينة بألفاظ تقتضي انحلال العقيدة، فحملوا عبد العزيز المالكي قاضي القدموس على الحكم بقتله، وشارك في واقعته القاضي جلال الدين عبد الحق المالكي، قاضي اللاذقية، فتعب القاضيان بجريرته وقاسيا شدائد. وفيها في صفر، وردت البشارة بقبض الملك الناصر على النشو شرف الدين، القبطي الأصل، وأنه وأخاه رزق الله تحت العقوبة، ثم قتل أخوه نفسه، وأوقدت لهلاكهما الشموع بالقاهرة، كان النشو قد قهر أهل القاهرة، وبالغ في الطرح والمصادرة، فعظمت به المصيبة، وقتل خلقاً تحت العقوبة، فأتى الناس في هلاكه بيوت المسألة من أبوابها، وبنت الأوتاد نظم الدعوات على أسبابها، وطلبوا لبحر ظلمه المديد من الله خبناً وبتراً، فدارت الدوائر عليه بهذه الفاصلة الكبرى. قلت: النشو لا عدل ولا معرفه ... قد آن للأقدار أن تصرفه من أتلف الناس وأموالهم ... يحق للسلطان أن يتلفه وفيه قدم الأمير المكاس الغشوم - لؤلؤ القندشي - إلى حلب، منفياً من مصر بلا إقطاع. وفيه عزل قاضي القضاة بحلب زين الدين عمر البلفيائي عنها، لوحشة جرت بينه وبين طرغاي نائب حلب، فكاتب فيه فعزل، وهو فقيه كبير مقتصد في المأكل والملبس. قلت: كان والله عفيفاً نزهاً ... وله عرض عريض ما اتهم وهو لا يدري مداراة الورى ... ومداراة الهوى أمر مهم وفيها في ربيع الأول، غزل الأمير صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدواتدار، عن الشد على المال، والوقف بحلب، ونقل إلى طرابلس، فضاق طرغاي من جبرته، فعمل عليه، وكان قد عزم على تحرير الأوقاف بحلب، فما قدر قلت:

لقد قالت لنا حلب مقالاً ... وقد عزم المشد على الرواح إذا عم الفساد جميع وقفي ... فكيف أكون قابلة الصلاح وفيها في جمادى الآخرة ولي القاضي برهان الدين إبراهيم بن خليل بن إبراهيم الرسعني قضاء الشافعية بحلب، بذل لطرغاي نائبها مالاً، فكاتب في ولايته، وهو أول من بذل في زماننا على القضاء بحلب، وكان القضاة قبله يخطبون ويعطون من بيت المال، حتى بلوا، ولذلك لم يصادف راحة في ولايته، ويعجبني قول القائل: فلان لا تحزن إذا ... نكبت واعرف ما السبب فما تولى حاكم ... بفضة إلا ذهب وفيها توفي طقتمر الخازن نائب قلعة حلب، كانت تصدر منه في الدين ألفاظ منكرة، واشترى قبل وفاته داراً عند مدرسة الشاذبخت، وعمل فيها تصاوير، وكثر الطعن عليه بسببها. قلت: ما حل فيها زحل ... إلا لنحس المشتري فانعدمت صورته ... من شؤم تلك الصور وخلف مالاً طائلاً. وفيها في شعبان، توفي الخليفة أبو الربيع سليمان المستكفي بالله، في قوص، وقد أخرج إلى الصعيد سنة ثمان وثلاثين، وخلافته تسع وثلاثون سنة؛ ولله قولي على لسانه: مثلي يعيش بالموت، ويبلغ المنى بالفوت، إلى كم لهم العيشة الرطبة، ولي مجرد الخطبة، فلهم الملك الصريح، ولسليمان الريح: أحمد الله الذي جنبني ... كلف الملك وأمراً صعباً لم أجد للملك ماء صافياً ... فتيممت صعيداً طيباً وفيها بعد موت المستكفي، بويع بالخلافة أبو إسحاق إبراهيم ابن أخي المستكفي. وفيها كان الحريق بدمشق، وذهبت فيه أموال ونفوس، واحترقت المنارة الشرقية، والدهشة، وقيسارية القواسين، وتكرر، وأفرت طائفة من النصارى بدمشق بفعله، فصلب تنكز منهم أحد عشر رجلاً، ثم وسطوا بعد أن أخذ منهم ألف ألف درهم، وأسلم ناس منهم، وبيعت بنت الملين بمال كثير، فاشتراها تنكز، وعملت المقامة الدمشقية في هذا المعنى، وسميتها صفو الرحيق، في وصف الحريق. وختمتها بقولي: وعادت دمشق فوق ما كان حسنها ... وأمست عروساً في جمال مجدد وقالت لأهل الكفر موتوا بغيظكم ... فما أنا إلا للنبي محمد ولا تذكروا عندي معابد دينكم ... فما قصبات السبق إلا لمعبد وفيها في ذي الحجة، باشر القاضي ناصر الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين يعقوب،

كتابة السر بحلب، وسررنا به. وفيه قبض على تنكز نائب للشام، وأهلك بمصر. رسم السلطان لطشتمر حمص أخضر، وكان نائباً بصفد، أن يأتيه من حيث لا يحتسب، ويقبض عليه، ما أشبه تمكنه عند السلطان الملك الناصر إلا بجعفر عند الرشيد، والرشيد أضمر إهلاك جعفر ست سنين حتى قتله، والملك الناصر أضمر إهلاك تنكز عشر سنين وهو يخوله ويعظمه وينعم عليه، وفي قلبه له ما فيه، حتى قبض عليه، وكان تنكز عظيم السطوة، شديد الغضب، قتل خلقاً منهم: عماد الدين إسماعيل بن مزروع الغوعي، نائب فحليس بدمشق، وعلي بن مقلد حاجب العرب، والأمير حمزة رماه بالبندق، ثم أهلكه سراً، وغيرهم. وله بدمشق والقدس وغيرهما آثار حسنة، وأوقاف، وقتل أكثر الكلاب بدمشق، ثم حبس الباقي، وحال بين إناثها وذكورها، ولما استوحش من السلطان، عزم على نكثه من جهة التتر، وأخذ السلطان من أمواله ما يفرق الحصر، زعم بعضهم أنه يقارب مال قارون، وكان قبل ذلك قد تبرم من نقيق الضفادع، فأخرجها من الماء، فقال بعض الناس فيه: تنكر تنكز بدمشق تيهاً ... وذلك قد يدل على الذهاب وقالوا للضفادع ألف بشرى ... بميتته فقلت وللكلاب وتولى دمشق بعده الطنبغا، الحاجب الصالحي، كان تنكز قد سعى عليه حتى نقل من نيابة حلب إلى نيابة غزة، فأورثه الله أرضه ودياره. وفيها بعد حادثة تنكز، عوقب أمين الملك، عبد الله الصاحب بدمشق، واستصفي ماله، ومات تحت العقوبة، قبطي الأصل، وكان فيه خير وشر، ووزر بمصر ثلاث مرات، وفيه يقول صاحبنا الشيخ جمال الدين ابن نباتة المصري: لله كم حال امرئ مقتر ... قصيت في القدس بتنفيسه كم درهم ولى ولكنه ... قد أخذ الأجر على كيسه وقال فيه أيضاً: روت عنك أخبار المعالي محاسن ... كفت بلسان الحال عن السن الحمد فوجهك عن بشر وكفك عن عطا ... وخلقك عن سهل ورأيك عن سعد ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. فيها في المحرم، وسط بدمشق - طغية وجنغية - من أصحاب تنكز، وكانا ظالمين. وفيها غزل طرغاي عن حلب، وكان على طمعه يصلي ويتلو كثيراً. وفيها توفي الشيخ محمد بن أحمد بن تمام، زاهد الوقت بدمشق. وتوفي الملك الوك ابن الملك الناصر وكان عظيم الشكل. وفيها ضربت رقبة عثمان الزنديق بدمشق على الإلحاد، والباجر بقية، سمع منه من الزندقة ما لم يسمع من غيره، لعنه الله. وتوفي الأمير صلاح الدين يوسف ابن الملك الأوحد، وكان من أكابر أمراء دمشق، ومن

بقايا أجواد بني شيركوه، وكان تنكز على شممة بدمشق ينزل إلى صيافته كل سنة، فينفق على ضيافة تنكز نحو ستين ألف درهم. وفيها توفي السلطان الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي، رحمه الله تعالى، وله ستون سنة، بعد أن خطب له ببغداد والعراق وديار بكر والموصل والروم، وضرب الدينار والدرهم هناك باسمه، كما يضرب له بالشام ومصر، وحج مرات، وحصل لقلوب الناس بوفاته ألم عظيم، فإنه أبطل مكوساً، وكان يستحيي أن يخيب قاصديه، وأيامه أيام أمن وسكينة، وبنى جوامع وغيرها، لولا تسليط لؤلؤ والنشر على الناس في آخر وقته، وعهد لولده السلطان الملك المنصور أبي بكر، فجلس على الكرسي قبل موت والده، وضربت له البشائر في البلاد. ولي من تهنئة وتعزية في ذلك: ما أساء الدهر حتى أحسنا ... رق فاستدرك حزناً بهنا بينما البأساء عمت من هنا ... وإذا النعماء عمت من هنا فبحق أن يسمى محزناً ... وبصدق حين يدعى محسنا فلئن أوحشنا بدر السما ... فلقد آنسنا شمس السنا علماً أبدله من علم ... ظاهر الإعراب مرفوع البنا فجزى الله بخير من نأى ... ووقى من كل ضبر من دنا أجل والله، لقد أساء الدهر وأحسن، وأهزل وأسمن، وأحزن وسر، وعق وبر، إذ أصبح الملك وباغه بفقد الناصر قاصراً قد ضعفت أركانه، ومات سلطانه، فماله من قوة ولا ناصر، فأمسى بحمد الله وقد ملأ القصور بالمنصور سروراً، وأطاعه الدهر وأهله، فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً. وفيها ورد إلى حلب زائراً صاحبنا التاج اليماني عبد الباقي بن عبد المجيد بن عبد الله النحوي اللغوي، الكاتب العروضي، الشاعر المنشئ، وجرت معه بحوث، منها مسألة نفسية، وهي: ما لو قال له: عندي اثنا عشر درهماً وسدساً، كم يلزمه؟ فاستبهمت هذه المسألة على الجماعة، فيسر الله لي حلها فقلت: يلزمه سبعة دراهم، إذ المعنى اثنا عشر دراهم وأسداساً، فيكون النصف دراهم؛ وهي ستة دراهم، والنصف أسداساً وهي ستة أسداس بدرهم، فهذه سبعة. ولو قال اثنا عشر درهما وربعاً لزمه سبعة ونصف. ولو قال اثنا عشر درهما وثلثاً، لزمه ثمانية، أو ونصفا فتسعة، وهكذا. ومما أنشدني لنفسه قوله: تجنب أن تذم بك الليالي ... وحاول أن يذم لك الزمان ولا تحفل إذا كملت ذاتاً ... أصبت العز أم حصل الهوان بخلت لواحظ من أتانا مقبلاً ... بسلامها ورموزهن سلام

فعذرت نرجس مقلتيه لأنها ... تخشى العذار فإنه نمام وفيها نقل طشتمر حمص أخضر، من نيابة صفد إلى نيابة حلب. وفيها في ذي الحجة، وصل إلى حلب الفيل والزرافة، جهزهما الملك الناصر قبل وفاته لصاحب ماردين. وفيها فتح علاء الدين أيدغدي الزراق، ومعه بعض عسكر حلب، قلعة خندروس، من الروم كانت عاصية وبها أرمن وتتر يقطعون الطرقات. وفيها صلي بحلب صلاة الغائب على الشيخ عز الدين عبد المؤمن بن قطب الدين عبد الرحمن ابن العجمي الحلبي، توفي بمصر، وكان عنده تزهد وكتب المنسوب. وفيها توفي بإياس نائبها الأمير علاء الدين مغلطاي الغزي، تقدمت له نكاية في الأرمن، ونقل إلى تربته بحلب. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. في المحرم منها، بايع السلطان الملك المنصور أبو بكر، الملك الناصر الخليفة الحاكم بأمر الله أبا العباس أحمد ابن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان، كان قد عهد إليه والده بالخلافة، فلم يبايع في حياة الملك الناصر، فلما ولي المنصور، بايعه، وجلس معه على كرسي الملك، وبايعه القضاة وغيرهم. وفيها في صفر، توفي شيخ الإسلام، الحافظ جمال الدين يوسف ابن الزكي عبد الرحمن بن المزي الدمشقي بها، منقطع القرين في معرفة أسماء الرجال، مشاركاً في علوم، وتولى مشيخة دار الحديث بعده قاضي القضاة تقي الدين السبكي. وفيها في صفر خلع السلطان الملك المنصور أبو بكر ابن الملك، واحتج عليه قوصون الناصري، ولي نعمة أبيه. بحجج، ونسب إليه أموراً وأخرجه إلى قوص، إلى الدار التي أخرج الملك الناصر، والده الخليفة المستكفي إليها، جزاءً وفاقاً، ثم أمر قوصون والي قوص فقتله بها، وأقام في الملك أخاه الملك الأشرف كجك، وهو ابن ثمان سنين فقلت في ذلك: سلطاننا اليوم طفل والأكابر في ... خلف وبينهم الشيطان قد نزغا وكيف يطمع من مسته مظلمة ... أن يبلغ السؤل والسلطان ما بلغا وفيها في جمادى الآخرة، جهز قوصون مع الأمير قطلبغا الفخري الناصري عسكراً لحصار السلطان أحمد ابن الملك الناصر بالكرك، وسار الطنبغا نائب دمشق، والحاج أرقطاي نائب طرابلس، بإشارة قوصون، إلى قتال طشتمر بحلب، لكون طشتمر أنكر على قوصون ما اعتمده في حق أخيه المنصور أبي بكر، ونهب الطنبغا بحلب مال طشتمر، وهرب طشتمر إلى الروم، واجتمع بصاحب الروم أرتنا، ثم إن الفخري عاد عن الكرك إلى دمشق بعد محاصرة أحمد بها أياماً، وبعد أن استمال الناصر، أحمد الفخري، فبايعه، ولما وصل الفخري إلى دمشق، بايع للناصر من بقي من عسكر دمشق المتأخرين عن المضي إلى حلب، صحبة الطنبغا. هذا كله والطنبغا ومن معه بالمملكة الحلبية. ثم سار الفخري إلى ثنية العقاب، وأخذ من مخزن الأيتام بدمشق أربعمائة ألف درهم، وكان الطنبغا قد استدان منه مائتي

ألف درهم، وهو الذي فتح هذا الباب، ولما بلغ الطنبغا ما جرى بدمشق، رجع على عقبه، فلما قرب من دمشق، أرسل الفخري إليه القضاة، وطلب الكف عن القتال في رجب، فقويت نفس الطبنغا وأبى ذلك، وطال الأمر على العسكر، فلما تقاربوا بعضهم من بعض، لحقت ميسرة الطنبغا بالفخري، ثم الميمنة، وبقي الطنبغا والحاج أرقطاي والمرقبي وابن الأبي بكري في قليل من العسكر، فهرب الطنبغا وهؤلاء إلى جهة مصر، فجهز الفخري وأعلم الناصر بالكرك. وخطب للناصر أحمد بدمشق وغزة والقدس، فلما وصل الطنبغا مصر، وهو قوي النفس بقوصون، قدر الله سبحانه تغير أمر قوصون، وكان قد غلب على الأمر لصغر الأشرف، فاتفق أيدغمش الناصري أمير أخور، ويلبغا الناصري وغيرهما، وقبضوا على قوصون، ونهبت دياره، واختطف الحرافيش وغيرهم من دياره، وخزائنه من الذهب والفضة والجواهر والزركش، والحشر والسروج والآلات ما لا يحصى، لأن قوصون كان قد انتقى عيون ذخائر بيت المال، واستغنى من دار قوصون خلق كثير، وقتل على ذلك خلق، وأرسلوا قوصون إلى الإسكندرية، وأهلك بها. وقبضوا على الطنبغا وحبسوه بمصر، ولما بلغ طشتمر بالروم ما جرى، رجع من الروم إلى دمشق، فتلقاه الفخري والقضاة، ثم رحل الفخري وطشتمر إلى مصر بمن معهما. وفيها في شهر رمضان، سافر الملك الناصر أحمد من الكرك، فوصل مصر، وعمل أعزية لوالده وأخيه، وأمر بتسمير والي قوص لقتله المنصور. وخلع الأشرف كجك الصغير، وجلس الناصر على الكرسي، هو والخليفة، وعقد بيعته قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ثم أعدم الطنبغا والمرقبي. وفيها كسر حسن بن ممرتاش بن جوبان من التتر، طغاي بن سوتاي في الشرق، وتبعه إلى بلد قلعة الروم، فاستشعر الناس لذلك. وفيها عزل الملك الأفضل محمد ابن السلطان الملك المؤيد، صاحب حماة والمعرة وبارين وبلادهن، ونقل إلى دمشق من جملة أمرائها. تغيرت سيرة الأفضل وما كان فيه من التزهد قبل عزله، وحبس التاج ابن العز طاهر بن قرناص بين حائطين حتى مات، وقطع أشجار بستانه، وظهر في الليل من بعض أعقاب أشجار البستان التي لمعت نور، فما أفلح بعد ذلك. وتولى نيابة حماة بعده، مملوك أبيه سيف الدين طقزتمر. وفيها عزل عن قضاء الحنفية بحماة، القاضي جمال الدين عبد الله بن القاضي نجم الدين بن العديم، وتولى مكانه القاضي تقي الدين محمود بن الحكم. وفيها أهلك طاجار الدواتدار، وكان مسرفاً على نفسه. وفيها توفي الأفضل صاحب حماة بدمشق، معزولاً، ونقل إلى تربته بحماة، فخرج نائبها للقاء تابوته، وحزن عليه وحلف أنه ما تولى حماة إلا رجاء أن يردها إلى الأفضل، مكافأة لإحسان أبيه. وفيها في جمادى الأولى، توفي القاضي برهان الدين إبراهيم الرسعني، قاضي الشافعية بحلب،

وكان متعففاً، ويعرف فرائض، رحمه الله تعالى. وفيها في جمادى الأولى أيضاً، عوقب لؤلؤ القندشى، بدار العدل بحلب حتى مات، واستصفى ماله، وشمت به الناس. قلت: يا لؤلؤ قد ظلمت الناس لكن ... بقدر طلوعك اتفق النزول كبرت فكنت في تاج فلما ... صغرت سحقت منه كل لولو وفيها توفي الأمير بدر الدين محمد بن الحاج أبي بكر، أحد الأمراء بحلب، كان من رجال الدنيا، وله مارستان بطرابلس، وارتفع به الدهر وانخفض، ودفن بتربة جامع أنشأه بحلب بباب أنطاكية. وفيها توفي الخطيب بدر الدين محمد ابن القاضي جلال الدين القزويني، خطيب دمشق، وتولى السبكي الخطابة، وجرى بينه وبين تاج الدين عبد الرحيم أخي الخطيب المتوفي وقائع، وفي آخر الأمر تعصبت الدماشقة مع تاج الدين، فاستمر خطيباً. وفيها في شهر رمضان، وصل القاضي علاء الدين علي بن عثمان الزرعي، المعروف بالقرع، إلى حلب، قاضي القضاة، ولاه الطاغية الفخري بالبذل، فاجتمع الناس وحملوا المصحف وتضرروا من ولاية مثله، فرفعت يده عن الحكم، فسافر أياماً ثم عاد بكتب، فما التفتوا إليها، فسافر إلى مصر، وحلب خالية عن قاضي شافعي. وفيها في شوال عم الشام ومصر جراد عظيم، وكان أذاه قليلاً. وفيها في ذي الحجة، وصل أيدغمش الناصري إلى حلب نائباً بها، في حشمه عظيمة، وأحسن وعدل وخلع على كثير من الناس، وأقام بحلب إلى صفر، ثم نقل إلى نيابة دمشق، وتأسف الحلبيون لانتقاله عنهم. قلت: يعرف من تقبله أرضنا ... من لزم الأوسط من فعله لا تقبل المسرف في جوره ... كلا ولا المسرف في عدله ونقل طقزتمر من حماة إلى حلب، مكان أيدغمش، ودخلها في عشري صفر، وتولى نيابة حماة مكانه الأمير العالم علم الدين الجاولي، ثم نقل الجاولي إلى نيابة غزة، وولي نيابة حماة مكانه آل ملك، ثم بعده الطنبغا المارداني، كل هذا في مدة يسيرة، وجرى في هذه السنة من تقلبات الملوك والنواب، واضطرابهم، ما لم يجر في مئات السنين. قلت: عجائب عامنا عظمت وجلت ... أعاماً كان أم مائتين عاما تصول على الملوك صيال قاض ... قليل الدين في مال اليتامى وفيها في ذي الحجة، وصل إلى حلب القاضي حسام الدين الغوري، قاضي الحنفية بمصر، الوافد إليها من قضاء بغداد، منفياً من القاهرة، لما اعتمده في الأحكام، ولمعاضدته لقوصون، ولسوء سيرته، فإنه قاضي تتر. ولي بيتان في ذم حمام هما: حمامكم في كل أوصافه ... يشبه شخصاً غير مذكور

شديد برد وسخ موحش ... قليل ماء فاقد النور فغيرهما بعض الناس فجعل البيت الأول كذا: حمامكم في كل أوصافه ... يشبه وجه الحاكم الغوري وتممه بالبيت الثاني على حاله. وفيها في ذي الحجة، سافر السلطان الناصر أحمد إلى الكرك، وأخذ من ذخائر بيت المال بمصر ما لا يحصى، وصحب طشتمر والفخري مقيدين، فقتلهما بالكرك قتلة شنيعة، وبطول الشرح في وصف جراءة الفخري وإقدامه على الفواحش. حتى في رمضان، ومصادرته للناس، حتى أنه جهز من صادر أهل حلب، فأراح الله العالم منه، وحصن الناصر الكرك، واتخذها مقاماً له. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة. فيها في المحرم، انقلب عسكر الشام على الملك الناصر أحمد وهو بالكرك، وكاتبوا إلى مصر، فخلع الناصر وأجلس أخوه السلطان الملك الصالح إسماعيل على كرسي بقلعة الجبل، واستناب آل ملك. وفيها في ربيع الآخر، حوصر السلطان أحمد بالكرك، واحتج عليه أخوه الصالح بما أخذه من أموال بيت المال، وحصل بنواحي الكرك غلاء لذلك. وفيها في جمادى الآخرة، توفي نائب دمشق أيدغمش، ودفن بالقبيبات، ويقال إن دمشق لم يمت بها من قديم الزمان إلى الآن نائب سواه، وتولاها مكانه طقزتمر نائب حلب. وفيها في رجب، وصل الأمير علاء الدين الطنبغا المارداني نائباً إلى حلب. وفيها في شهر رمضان، توفي الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليماني، الأديب، وقد أناف على الستين، وتقدم ذكر وفوده إلى حلب، رحمه الله تعالى، وزر باليمن، وتنقلت به الأحوال، وله نظم ونثر كثير، وتصانيف. وفيها في شوال، خرج الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي من مصر، بعسكر لحصار الكرك، وكذلك من دمشق، فحاصروا الناصر بها بالنفط والمجانيق، وبلغ الخبز أوقية بدرهم، وغلت دمشق لذلك، حتى أكلوا خبز الشعير. وفيها وصل علاء الدين القرع إلى حلب، قاضياً للشافعية، وأول درس القاه بالمدرسة قال فيه: كتاب الطهارة باب الميات، فأبدل الهاء بالتاء، فقلت أنا للحاضرين: لو كان باب الميات لما وصل القرع إليه، ولكنه باب الألوف. ثم قال: قال الله تعالى " وجعلها كلمة باقية في عنقه، مكان في عقبه " فقلت أنا: لا والله، ولكنها في عنق الذي ولاه. فاشتهرت عني هاتان التنديدتان في الآفاق. وفيها في ربيع الآخر، عزل الأمير سليمان بن مهنا بن عيسى عن إمارة العرب، ووليها مكانه الأمير عيسى بن فضل بن عيسى، وذلك بعد القبض على فياض ين مهنا بمصر، وكان سليمان قد ظلم وصادر أهل سرمين، وربط بعض النساء في الجنازير، وهجم عبيده على المخدرات، فأغاثهم الله في وسط الشدة، ثم أعيد بعد مدة قريبة إلى

الإمارة. وفيها توفي بحلب الأمير الطاعن في السن، سيف الدين يلبصطي التركماني الأصل، رأس الميمنة بها، وكان قليل الأذى، مجموع الخاطر. وفيها توفي بحلب طنبغا حجي، كان جهزه الفخري إليها نائباً عنه في أيام خروجه بدمشق، وهو الذي جبى أموالاً من أهل حلب، وحملها إلى الفخري، وأخذ لنفسه بعضها وباء بإثم ذلك. وفيها توفي بحلب، الشيخ كمال الدين المهمازي، كان له قبول عند الملك الناصر محمد، ووقف عليه حمام السلطان بحلب، وسلم إليه تربة ابن قراسنقر بها، وكان عنده تصون ومروءة. قلت: لوفاة الكمال في العجم وهن ... فلقد أكثروا عليه التعازي قل لهم لو يكون فيكم جواد ... كان في غنية عن المهمازي وفيها في رجب، اعتقل القرع بقلعة حلب معزولاً، ثم فك عنه الترسيم وسافر إلى جهة مصر. وفيها في رجب، توفي بطرابلس نائبها، ملك تمر الحجازي، ووليها مكانه طرغاي، وفيه تولى نيابة حماة يلبغا التجباوي. وفيها في شعبان، وصل القاضي بدر الدين إبراهيم بن الخشاب على قضاء الشافعية بحلب، فأحسن السيرة. وفيها توفي بحلب الحاج علي بن معتوق الدبيسري، وهو الذي عمر الجامع بطرف بانقوسا، ودفن بتربته بجانب الجامع. وفيها توفي بهادر التمرتاشي بالقاهرة، وكان بعد وفاة الملك الناصر، الأمراء الغالبين على الأمر. ثم دخلت سنة أربع وأربعين وسبعمائة. فيها أغارت التركمان مرات على بلاد سيس، فقتلوا ونهبوا وأسروا وشفوا الغليل، بما فتكت الأرمن ببلاد قرمان. وفيها في صفر، توفي الأمير علاء الدين الطنبغا المارداني نائب حلب رد خارج باب المقام، وله بمصر جامع عظيم، وكان شاباً حسناً عاقلاً ذا سكينة. وفيها مزقنا كتاب فصوص الحكم، بالمدرسة العصرونية بحلب، غقيب الدرس، وغسلناه، وهو من تصانيف ابن عربي تنبيهاً على تحريم قنيته ومطالعته وقلت فيه: هذي فصوص لم تكن ... بنفيسة في نفسها أنا قد قرأت نقوشها ... فصوابها في عكسها وفيها توفي بحلب، الأمير سيف الدين بهادر، المعروف بحلاوة، أحد الأمراء بها، وله أثر عظيم في القبض على تنكز، وكان عنده ظلم، وتوعد أهل حلب بشر كبير، فأراحهم الله منه. قلت: حلاوة مر فما ... أملحه أن يدمنا إلى البلى مسيرا ... وفي الثرى مكفنا فيها في صفر، بلغنا أنه توفي الشيخ شهاب الدين أحمد بن المرحل النحوي، الحراني الأصل، المصري الدار، والوفاة، كان متضلعاً من العربية، وعنده تواضع وديانة، نقلت له مرة

وهو بحلب، أن أبا العباس ثعلباً أجاز الضم في المنادى صاف والشبيه به، الصالحين للألف واللام، فاستغرب ذلك وأنكره جداً، ثم طالع كتبه فرآه كما نقلت؛ فاستحيى من إنكار ذلك، مع دعواه كثرة الاطلاع. فقلت: من بعد يومك هذا ... لا تنقل النقل تغلب لو أنك ابن خروف ... ما كنت عندي كثعلب وفيها في ربيع الأول، وصل يلبغا التجباوي إلى حلب نائباً، وهو شاب حسن، كان الملك الناصر يميل إليه، وأعطاه مرة أربعمائة ألف درهم، ومرة مائة فرس مسومة، وغالب مال تنكز، وتولى نيابة حماة مكانه سيف الدين طقزتمر الأحمدي، وعنده عقل وعدل، وعند يلبغا عفاف عن مال الرعية، وسطوة وحسن أخلاق في الخلوة. وفيه سافر قاضي القضاة بحلب، بدر الدين إبراهيم بن الخشاب إلى مصر، ذاهباً بنفسه عن مساواة القرع، وذلك حين بلغه تطلب القرع بحلب، ولابن الخشاب يد طولى في الأحكام وفن القضاء، متوسط الفقه. وفيه توفي سليمان بن مهنا أمير العرب، وفرح أهل إقطاعه بوفاته. والقاضي شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشهاب محمود الحلبي، كاتب السر وكيل بيت المال بدمشق، توفي بالقدس الشريف، كتب السر بالقاهرة للملك الناصر محمد، أولاً. وفيه وصل عسكران من حماة وطرابلس، للدخول إلى بلاد سيس. لتمرد صاحبها كند اصطنيل الفرنجي، ولمنعه الحمل، ومقدم عسكر طرابلس، الأمير صلاح الدين يوسف الدواتدار، أنشدني بحلب في سفرته هذين البيتين للإمام الشافعي، قيل إنهما ينفعان لحفظ البصر: يا ناظري؛ بيعقوب أعيذ كما ... بما استعاذ به إذ خانه البصر قميص يوسف ألقاه على بصري ... بشير يوسف فاذهب أيها الضرر فأنشدت بيتين لي، ينفعان إن شاء الله تعالى، لحفظ النفس والدين والأهل والمال، وهما: أمررت كفا سبحت فيها الحصى ... وروت الركب بماء طاهر على معاشي ومعادي وعلى ... ذريتي وباطني وظاهري وفيها في جمادى الأولى، عاد العسكر المجهز إلى بلد سيس، وما ظفروا بطائل، وكانوا قد أشرفوا على أخذ أذنة، وفيها خلق عظيم وأموال عظيمة، وجفال من الأرمن، فتبرطل أقسنقر مقدم عسكر حلب من الأرمن، وثبط الجيش عن فتحها، واحتج بأن السلطان ما رسم بأخذها، وتوفي أقسنقر المذكور بعد مدة يسيرة بحلب مذموماً، وأبى الله أن يتوفاه ببلاد سيس، مغازياً. وفيها نقلت جثة تنكز من ديار مصر إلى تربته بدمشق، وتلقاها الناس ليلاً بالشمع والمصاحف والبكاء، ورقوا له، ووقع بدمشق عقيب ذلك مطراً، فعدوا

ذلك من بركة القدوم بجثته. وفيها في جمادى الأولى، توفي بدمشق، الإمام العلامة شمس الدين محمد بن عبد الهادي، كان بحراً زاخراً في العلم. وفيه قتل الزنديق إبراهيم بن يوسف المقساتي بدمشق، لسبه الصحابة، وقذفه عائشة رضي الله عنهم، ووقوعه في حق جبريل عليه السلام. وفيها في العشرين من شهر وجب، توفي بجبرين الشيخ محمد ابن الشيخ نبهان، كان له القبول التام عند الخاص والعام، وناهيك أن طشتمر حمص أخضر، على قوة نفسه وشمعه، وقف على زاويته بجبرين، وحصة من قرية حريثان، لها مغل جيد، وبالجملة فكأنما ماتت بموته مكارم الأخلاق، وكاد الشام يخلو من المشهورين على الإطلاق: قلت: وكنت إذا قابلت جبرين زائراً ... يكون لقلبي بالمقابلة الجبر كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر زرته قبل وفاته، رحمه الله، فحكى لي قال: حضرت عند الشيخ عبس السرجاوي وأنا شاب وهو لا يعرفني، فحين رآني دمعت عينه وقال: مرحباً بشعار نبهان وأنشد: وما أنت إلا من سليمى لأنني ... أرى شبهاً منها عليك يلوح وحكى لي مرة أخرى قال أحضرت بالفوعة غسل الشيخ إبراهيم ابن الشيخ لما مات، وقرأنا عنده سورة البقرة وهو يغسل، فلما وصلنا إلى قوله تعالى " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " رفعنا أيدينا للدعاء، فرفع الشيخ إبراهيم يديه معنا للدعاء وهو ميت على المغتسل، ومحاسن الشيخ محمد، وتلقيه للناس، وتواضعه به ومكاشفاته، كثيرة ومشهورة، رحمه الله ورحمنا به آمين. وفيها في منتصف شعبان، وقعت الزلزلة العظيمة، وخربت بحلب وبلادها أماكن، ولا سيما منبج، فإنها أقلت ساكنها، وأزالت محاسنها، وكذلك قلعة الرواندان، وعملت أنا في ذلك رسالة، أولها نعوذ بالله من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها، ونستعينه في طيب الإقامة بها، وحسن الرحلة عنها، نعم نستعيذ بالله ونستعين من سم هذه السنة، فهي أم أربعة وأربعين، وختمتها بقولي: منبج أهلها حكوا دود قز ... عندهم تجعل البيوت قبورا رب نعمهم فقد ألفوا من ... شجر التوت جنة وحريرا والله أعلم، وصارت الزلازل تعاود حلب وغيرها سنة وبعض أخرى، وفي الحديث أن كثرة الزلازل من أشراط الساعة. وفيها توفي طرغاي نائب طرابلس. وفيها بلغنا أن أرتنا صاحب الروم، سليمان خان، ملك التتر، قصده بالتتر إلى الروم، فانكسر كسرة شنيعة، ثم إن الشيخ حسن بن تمرتاش بن جوبان قتل، وهذا من سعادة الإسلام، فان المذكور كان فاسد النية، لكون الملك الناصر محمد قتل أباه وأخذ ماله كما تقدم.

وفيها قطع فياض بن مهنا بن عيسى، فقطع ونهب. وفيها في شهر رمضان، وصل إلى حلب قاضي القضاة نور الدين محمد بن الصائغ، على قضاء الشافعية، وهو قاض عفيف حسن السيرة عابد. وفيها في شوال، حاصر يلبغا النائب بحلب، زين الدين قراخا بن دلغادر التركماني، بجبل الدلدل، وهو عسر إلى جانب جيحان، فاعتصم منه بالجبل، وقتل في العسكر، وأسر وجرح، وما نالوا منه طائلاً، فكبر قدره بذلك، واشتهر اسمه، وعظم على الناس شره، وكانت هذه حركة رديئة من يلبغا. وفيها توفي

كمال الدين عمر بن شهاب الدين محمد بن العجمي الحلبي، كان قد تفنن وعرف أصولاً وفقهاً، وبحث على شرح الشافية الكافية في النحو مرة، وبعض أخرى، ودفن ببستانه، رحمه الله، وما خرج من بني العجمي مثله. ثم دخلت سنة خمس وأربعين وسبعمائة. فيها في صفر، حوصرت الكرك، ونقبت، وأخذ الملك الناصر أحمد، وحمل إلى أخيه الملك الصالح بمصر، فكان آخر العهد به. وفيها وصل إلى ابن دلغارد أمان من السلطان، وأفرج عن حريمه، وكن بحلب، واستقر في الأبلستين. وفيها في ربيع الآخر، بلغنا وفاة الشيخ أثير الدين، أبي حيان النحوي المغربي بالقاهرة، كان بحراً زاخراً في النحو، وهو فيه ظاهري، وكان يستهزئ بالفضلاء من أهل القاهرة، ويحتملونه لحقوق اشتغالهم عليه، وكان يقول عن نفسه: أنا أبو حيات - بالتاء - يعني بذلك تلاميذه، وله مصنفات جليلة منها: تفسير القرآن العظيم، وشرح التسهيل، وارتشاف الضرب من ألسنة العرب مجلد كبير جامع، ومختصرات في النحو، وله نظم ليس على قدر فضيلته، فمن أحسنه قوله: وقابلني في الدرس أبيض ناعم ... وأسمر لدن أورثا جسمي الردى فذا هز من عطفيه رمحاً مثففاً ... وذال سل من جفنيه عضباً مهندا وفيها في جمادى الأولى، توفي بحلب، الحاج محمد بن سلمان الحلبي المعزم، كان عنده ديانة وإيثار، وله مع المصروعين وقائع وعجائب. وفيه توفي بطرابلس الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدواتدار، أحد الأمراء بطرابلس، وهو واقف المدرسة الصلاحية بحلب كما تقدم، وكان من أكمل الأمراء، ذكياً فطناً معظماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حسن الخط، وله نظم، كان كاتباً، ثم صار دواتدار قبجق بحماة، ثم شاد الدواوين بحلب، ثم حاجباً بها، ثم دواتدار الملك الناصر، ثم نائباً بالإسكندرية، ثم أميراً بحلب، وشاد المال والوقف، ثم أميراً بطرابلس رحمه الله تعالى. وفيها في شعبان، بلغنا وفاة الشيخ نجم الدين القحفيزي بدمشق، فاضل في العربية والأصلين، ظريف حسن الأخلاق، ومن ذلك أنه أنشد مرة قول الشاعر: أيا نخلتي سلمى إلخ. فقال له بعض التلامذة: يا سيدي وما تيس الماء؟ فقال الشيخ: إن شئت أن تنظره فانظر في الخابية تره. وفيها توفي بدمشق قاضي القضاة جلال الدين الحنفي الأطروش. وفيها توفي الأمير علاء الدين أيدغدي الزراق، أتابك عسكر حلب، مسناً، وله سماع، وحكى لي أنه حر الأصل من أولاد المسلمين، وهو فاتح قلعة خندروس كما تقدم. وتوفي كندغدي، العمري نائب البيرة مسناً، عزل عنها قبل موته بأيام، وعزموا على الكشف عليه، فستره الله بالوفاة، ببركة. محبتة للعلماء والفقراء. وسيف الدين بلبان جركس، نائب قلعة المسلمين، طال مقامه بها وخلف مالاً كثيراً لبيت المال. وفيها في شهر رمضان، اتفق سيل عظيم بطرابلس، وهلك فيه خلق منهم ابنا القاضي تاج الدين محمد بن البارنباري، كاتب سرها، وكان أحد الابنين الغريقين ناظر الجيش بها، والآخر موقع الدست، ورق الناس لأبيهما، فقلت وفيه تضمين واهتدام: وارحمتاه له فإن مصابه ... بابن يبرحه فكيف ابنان ما أنصفته الحادثات رمينه ... بمودعين وما له قلبان وزاد نهر حماة وغرق دوراً كثيرة، ولطم العاصي خرطلة شيزر فأخذها، وتلفت بساتين البلد لذلك، ويحتاج إعادتها إلى كلفة كبيرة. وفيها في ذي القعدة، توفي بدمشق القاضي شمس الدين محمد بن النقيب الشافعي، وتولى تدريس الشامية مكانه، تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي، ثم تولاها السبكي بنفسه، خوفاً عليها، كان ابن النقيب بقية الناس، ومن أهل الإيثار، وأقام حرمة المنصب لما كان قاضي حلب فقيهاً كبيراً محدثاً أصولياً متواضعاً مع الضعفاء، شديداً على النواب. قال رحمه الله: دخلت وأنا صبي أشتغل على الشيخ محي الدين النووي، فقال لي: أهلاً بقاضي القضاة، فنظرت فلم أجد عنده أحداً غيري، فقال: اجلس يا مدرس الشامية وهذا من جملة كشف الشيخ محي الدين. وابن النقيب حكى هذا بحلب قبل توليته الشامية. وحكى لي يوماً، وإن كنت قد وقفت عليه في مواضع من الكتب، أنه رفع إلى أبي يوسف، صاحب أبي حنيفة، رضي الله عنهما، مسلم قتل كافراً، فحكم عليه بالقود، فأتاه رجل برقعة ألقاها إليه. فيها: يا قاتل المسلم بالكافر ... جرت وما العادل كالجائر يا من ببغداد وأعمالها ... من علماء الناس أو شاعر استرجعوا وابكوا على دينكم ... واصطبروا فالأجر للصابر فبلغ الرشيد ذلك، فقال لأبي يوسف: تدارك هذا الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة. فطالب أبو يوسف أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يأتوا بها، فأسقط القود. وحكى لنا يوماً في بعض دروسه بحلب، أن مسألة ألقيت على المدرسين والفقهاء بدمشق، فما حلها إلا عامل المدرسة، وهي: رجل صلى الخمس بخمسة وضوءات، وبعد ذلك علم أنه ترك مسح

الرأس في أحد الوضوءات، فتوضأ خمس وضوءات، وصلى الخمس، ثم تيقن أيضاً أنه ترك مسح الرأس في أحد الوضوءات الجواب: يتوضأ ويصلي العشاء، فيخرج عن العهدة بيقين، لأن الصلاة المتروكة المسح أولاً، إن كانت العشاء، فقد صحت الصلوات الأربع قبلها، وهذه العشاء المأمور بفعلها خاتمة الخمس، وإن كانت غير العشاء، فالعشاء الأولى والصلوات الخمس المعادة، والعشاء الثالثة صحيحة، غايته ترك مسح في تجديد وضوء ولهذا يجب أن يشترط عدم الحدث إلى أن يصلي الخمس. ثانياً قلت: التحقيق أن الوضوء ثانياً كان يغنيه عنه مسح الرأس وغسل الرجلين، لأن الشرط أنه لم يحدث إلى أن يصلي الخمس ثانياً، وكذلك كان ينبغي للمجيب أن يقول له: إن كنت لم تحدث إلى الآن، فامسح رأسك واغسل رجليك وصل العشاء، إذ الجديد عدم وجوب التتابع، وإن كنت محدثاً الآن، فلا بد من الوضوء كما قال. وفيها استرجع السلطان الملك الصالح ما باعه الملك المؤيد وابنه الأفضل بحماه والمعرة وبلادهما، من أملاك بيت المال، وهو بأموال عظيمة، وكان غالب الملك، قد طرح على الناس غصباً، وقد اشتريت به تقادم إلى الملك الناصر، فقال بعض المعربين في ذلك: طرحوا علينا الملك طرح مصادر ... ثم استردوه بلا أثمان وإذا يد السلطان طالت واعتدت ... فيد الإله على يد السلطان وكأنما كاشف هذا القائل، فإن مدة السلطان لم تطل بعد ذلك. ثم دخلت سنة ست وأربعين وسبعمائة. والتتار مختلفون مقتتلون من حين مات القان أبو سعيد، وبلاد الشرق والعجم في غلاء ونهب، وجور، بسبب الخلف، من حين وفاته إلى هذه السنة. وفيها في ربيع الآخر، توفي السلطان الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، بوجع المفاصل والقولنج، وكان فيه ديانة، ويقرأ القرآن، آخر يوم موته، جلس مكانه أخوه السلطان الملك الكامل شعبان، وأخرج آل ملك نائب أخيه إلى نيابة صفد، وقماري إلى نيابة طرابلس. وفيها في ربيع الآخر، نقل يلبغا الناصري من نيابة. حلب إلى نيابة دمشق، مكان طقزتمر وسافر طقزتمر إلى مصر بعد المبالغة في امتناعه من النقلة من الدمشق، فما أجيب إلى ذلك، وتوفي طقزتمر بمصر بعد مدة يسيرة، وكان عنده ديانة. وفيه وصل الأمير سيف الدين أرقطاي إلى حلب، نائباً. وأبطل الخمور والفجور بعد اشتهارها، ورفع عن القرى الطرح وكثيراً من المظالم، ورخص السعر، وسررنا به. وفيها عزل سيف بن فضل بن عيسى عن إمارة العرب، ووليها أحمد بن مهنا، وأعيد إقطاع فياض بن مهنا إليه ورضي عنه، واستعيد من أيدي العرب من الإقطاعات والملك شيء كثير، وجعل خاصاً لبيت المال. وفيها في جمادى الأولى

صلي بحلب صلاة الغائب على القاضي عز الدين بن المنجا الحنبلي، قاضي دمشق، وهو معري الأصل. وفيها في شهر رمضان وصل القاضي بهاء الدين حسن بن جمال الدين سليمان بن ريان إلى حلب، ناظراً على الجيش على عادته، عوضاً عن القاضي بدر الدين محمد ابن الشهاب محمود الحلبي، ثم ما مضى شهر حتى أعيد بدر الدين عوضاً عن بهاء الدين، وهكذا صارت المناصب كلها بحلب قصيرة المدة كثيرة الكلفة. قلت: ساكني مصر أين ذاك التأني ... والتأني وما لكم عنه عذر يخسر الشخص ماله ويقاسي ... تعب الدهر والولاية شهر وفيها كتب على باب قلعة حلب وغيرها من القلاع، نقراً في الحجر، ما مضمونه مسامحة الجند بما كان يؤخذ منهم لبيت المال، بعد وفاة الجندي والأمير، وذلك أحد عشر يوماً وبعض يوم في كل سنة، وهذا القدر هو التفاوت بين السنة الشمسية والقمرية، وهذه مسامحة بمال عظيم. وفيها قتلت الأرمن ملكهم كنداصطبل الفرنجي، كان علجاً لا يداري المسلمين، فخربت بلادهم وملكوا مكانه. وفيها في أواخرها، ملكت التركمان قلعة كابان وربضها بالحيلة، وهي من أمنع قلاع سيس مما يلي الروم، وقتلوا رجالها، وسبوا النساء والأطفال، فبادر صاحب سيس الجديد لاستنقاذها، فصادفه ابن دلغادر، فأوقع بالأرمن وقتل منهم خلقاً، وانهزم الباقون. قلت: صاحب سيس الجديد نادى ... كابان عندي عديل روحي قلنا تأهب لغير هذا ... فذا فتوح على الفتوح وبعد فتحها، قصد النائب بحلب أن يستنيب فيها من جهة السلطان، فعتا ابن دلغادر عن ذلك، فجهزوا عسكراً لهدمها، ثم أخذتها الأرمن منه بشؤم مخالفته لولي الأمر، وذلك في رجب سنة سبع وأربعين وسبعمائة. وفيها في ذي الحجة قبض على قماري الناصرية نائب طرابلس، وعلى آل ملك نائب صفد، وولي طرابلس بيدمر البدري، وصفد أرغون الناصري. ثم دخلت سنة سبع وأربعين وسبعمائة. والتتار مختلفون كما كانوا. وفيها في المحرم طلب الحاج أرقطاي نائب حلب إلى مصر، وارتفع شأنه وصار رأس مشورة مكان حسنكلي بن البابا، فإنه توفي قبل ذلك بأيام، وفيه أقبل إلى حلب وبلادها من جهة الشرق جراد عظيم، فكان أذاه قليلاً بحمد الله. قلت: رجل جراد صدها ... عن الفساد الصمد فكم وكم للطفه ... في هذا الرجل يد وفيها في ربيع الأول، وصل إلى حلب الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي نائباً، نقل إليها من حماة، وولي حماة مكانه أسندمر العمري. وفيها في جمادى الأولى، سافر

القاضي ناصر الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين يعقوب، وولي كتابة السر بدمشق، وتولى كتابة السر بحلب مكانه، القاضي جمال الدين إبراهيم ابن الشهاب محمود الحلبي. وفيها في جمادى الأولى، بلغنا أن نائب الشام يلبغا خرج إلى ظاهر دمشق، خوفاً من القبض عليه، وشق العصا وعاضد أمراء مصر، حتى خلع السلطان الملك الكامل شعبان، وأجلسوا مكانه أخاه السلطان الملك المظفر أمير حاج، وسلموا إليه أخاه الكامل، فكان آخر العهد به، وناب عن المظفر بمصر الحاج أرقطاي المنصور، ولما تم هذا الأمر تصدق يلبغا في المملكة الحلبية وغيرها بمال كثير ذهب وفضة، شكراً لله تعالى، وكان هذا الملك الكامل سيء التصرف، يولي المناصب غير أهلها بالبذل، ويعزلهم عن قريب ببذل غيرهم، وكان يقول عن نفسه أنا ثعبان لا شعبان. وفيها في رجب، توفي بحلب الأمير شهاب الدين قرطاي الأسندمري، من مقدمي الألوف، أمير عفيف الذيل متصون. وفيها في مستهل رجب، سافر طقتمر الأحمدي نائب حلب إلى الديار المصرية، وسببه وحشة بينه وبين نائب الشام، فإنه ما ساعده على خلع الكامل وحفظ أيمانه. وفيها وقع الوباء ببلاد أزبك، وخلت قرى ومدن من الناس، ثم اتصل الوباء بالقرم، حتى صار يخرج منها في اليوم ألف جنازة، أو نحو ذلك، حكى لي ذلك من أثق به من التجار، ثم اتصل الوباء بالروم، وهلك منهم خلق، وأخبرني تاجر من أهل بلدنا قدم من تلك البلاد، أن قاضي القرم قال: أحصينا من مات بالوباء، فكانوا خمسة وثمانين ألف، غير من لا نعرفه، والوباء اليوم بقبرس، والغلاء العظيم أيضاً. وفيها في شعبان، وصل إلى حلب الأمير سيف الدين بيدمر البدري، نقل إليها من طرابلس، وولي طرابلس مكانه، وهذا البدري عنده حدة، وفيه بدرة، ويكتب على كثير من القصص بخطه، وهو خط قوي. وفيها توفي بطرابلس قاضيها شهاب الدين أحمد بن شرف الزرعي، وتولى مكانه القاضي شهاب الدين أحمد بن عبد اللطيف الحموي. وفيها في ذي الحجة، صدرت بحلب واقعة غريبة، وهي أن بنتاً بكراً من أولاد أولاد عمرو التيزيني، كرهت زوجها ابن المقصوص، فلقنت كلمة الكفر لينفسخ نكاحها قبل الدخول، فقالتها وهي لا تعلم معناها، فأحضرها البدري بدار العدل بحلب، وأمر فقطعت أذناها وشعرها، علق ذلك في عنقها، وشق أنفها، وطيف بها على دابة بحلب وبتيزين، وهي من أجمل البنات وأحياهن، فشق ذلك على الناس، وعمل النساء عليها عزاء في كل ناحية بحلب، حتى نساء اليهود، وأنكرت القلوب قبح ذلك، وما أفلح البدري بعدها. قلت: وضج الناس من بدر منير ... يطوف مشرعاً بين الرجال ذكرت ولا سواء بها السبايا ... وقد طافوا بهن على الجمال

وفيه ورد البريد بتوليه السيد علاء الدين علي بن زهرة الحسيني نقابة الأشراف بحلب، مكان ابن عمه الأمير شمس الدين حسن بن السيد بدر الدين محمد بن زهرة، وأعطي هذا إمارة طبلخانات بحلب. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. والتتار مختلفون. وفيها في ثالث المحرم، وصل إلى حلب القاضي شهاب الدين بن أحمد بن الرياحي على قضاء المالكية بحلب، وهو أول مالكي استقضى بحلب، ولا بد لها من قاض حنبلي بعد مدة، لتكمل به العدة، إسوة مصر ودمشق. وفي السنة التي قبلها تجدد بطرابلس قاض حنفي مع الشافعي. وفيها في المحرم، صلي بحلب صلاة الغائب على القاضي شرف الدين محمد بن أبي بكر بن ظافر الهمذاني المالكي، قاضي المالكية بدمشق، وقد أناف على الثمانين، كان ديناً خيراً متجملاً في الملبس، وهو الذي عاضد تنكز على نكبة قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن جملة، وها هم قد التقوا عند الله تعالى. وفيه ظهر بين منبج والباب جراد عظيم صغير، من بزر السنة الماضية، فخرج عسكر من حلب وخلق من فلاحي النواحي الحلبية، نحو أربعة آلاف نفس، لقتله ودفنه، وقامت عندهم أسواق، وصرفت عليهم من الرعية أموال، وهذه سنة ابتدأ بها الطنبغا الحاجب من قبلهم. قلت: قصد الشام جراد ... سن للغلات سنا فتصالحنا عليه ... وحفرنا ودفنا وفيها في المحرم، سافر الأمير ناصر الدين بن المحسني بعسكر من حلب، لتسكين فتنة ببلد شيزر بين العرب والأكراد، قتل فيها من الأكراد نحو خمسمائة نفس، ونهبت أموال، ودواب. وفيها في المحرم، عزمت الأرمن على نكبة لا بأس، فأوقع بهم أمير إياس، حسام الدين محمود بن داود الشيباني، وقتل من الأرمن خلقاً، وأسر خلقاً، وأحضرت الرؤوس والأسرى إلى حلب في يوم مشهود، فلله الحمد. وفيها منتصف ربيع الأول، سافر بيدمر البدري نائب حلب إلى مصر معزولاً، أنكروا عليه ما اعتمده في حق البنت من تيزين، المقدم ذكرها، وندم على ذلك حيث لا ينفعه الندم. وفيه وصل إلى حلب نائبها أرغون شاه الناصري في حشمة عظيمة، نقل إليها من صفد، وفيه قطعت الطرق وأخيفت السبل، بسبب الفتنة بين العرب، لخروج إمرة العرب عن أحمد بن مهنا إلى سيف بن فضل بن عيسى. قلت: تريد لأهل مصر كل خير ... وقصدهم لنا حتف وحيف وهل يسمو لأهل الشام رمح ... إذا استولى على العربان سيف وفيها في ربيع الآخر، قدم على كركر والختا وما يليها عصافير كالجراد منتشر، فتنازع الناس إلى شيل الغلات بداراً، وهذا مما لم يسمع بمثله وفيه وصل تقليد القاضي شرف الدين موسى بن فياض الحنبلي بقضاء حنابلة بحلب، فصار القضاة أربعة، ولما بلغ

بعض الظرفاء أن حلب تجدد بها قاضيان، مالكي وحنبلي أنشد قول الحريري في الملحة: ثم كلا النوعين جاء فضله ... منكراً بعد تمام الجملة وفيها في جمادى الأولى، هرب يلبغا من دمشق بأمواله وذخائره التي تكاد تفوت الحصر، خشية من القبض عليه، وقصد البر؛ فخانه الدليل وخذله أصحابه، تناوبته العربان من كل جانب، وألزمه أصحابه قهراً بقصد حماة، ملقياً للسلاح، فلقيه نائب حمص مستشعراً منه، أدخله حماة، ثم حضر من تسلمه من جهة السلطان، وساروا به إلى جهة مصر، فقتلوه بقاقون ودفن بها، وهذا من لطف الله بالإسلام، فإنه لو دخل بلاد التتار أتعب الناس، ورسم السلطان بإكمال جامعه الذي أنشأه بدمشق، وأطلق له ما وقفه عليه، وهو جامع حسن بوقف كثير، وكان يلبغا خيراً للناس من حاشيته بكثير، وكان عفيفاً عن أموال الرعية، وما علمنا أن أحداً من الترك ببلادنا حصل له ما حصل ليلبغا، جمع شمله بأبيه وأمه وإخوته، وكل منهم أمير، إلى أن قضى نحبه، رحمه الله تعالى. وفيها في جمادى الآخرة نقل أرغون شاه من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، فسافر عاشر الشهر وبلغنا أنه وسّط في طريقه مسلمين، وهذا أرغون شاه في غاية السطوة، مقدم على سفك الدم بلا تثبت، قتل بحلب خلقاً ووسط وسمر وقطع بدوياً سبع قطع، بمجرد الظن بحضرته. وغضب على فرس له قيمة كثيرة، مرح بالعلافة، فضربه حتى سقط، ثم قام فضربه حتى سقط، وهكذا مرات، حتى عجز عن القيام، فبكى الحاضرون على هذا الفرس فقيل فيه: عقلت طرفك حتى ... أظهرت للناس عقلك لا كان دهر يولي ... على بني الناس مثلك وفيه اقتتل سيف بن فضل أمير العرب وأتباعه، أحمد وفياض. في جمع عظيم قرب سلمية، فانكسر سيف ونهبت جماله وماله، ونجا بعد اللتيا والتي في عشرين فارساً، وجرى على بلد المعرة وحماة وغيرهما في هذه السنة، بل في هذا الشهر، من العرب، أصحاب سيف وأحمد وفياض من النهب وقطع الطرق، ورعي الكروم، والزروع، والقطن، والمقاتي، ما لا يوصف. وفيه انكسر الملك الأستر بن تمرتاش ببلاد الشرق كسرة شنيعة، ثم شربوا من نهر مسموم فمات أكثرهم، ومزقهم الله كل ممزق، وكان هذا المذكور رديء النية، فذاق وبال أمره. وفيها في أواخرها، وصل إلى حلب نائباً فخر الدين أياز نقل إليها من صفد. وفيها في رمضان، قتل السلطان الملك المظفر أمير حاج ابن الملك الناصر بن قلاوون بمصر، وأقيم مكانه أخوه السلطان الملك الناصر حسن، كان الملك المظفر قد أعدم أخاه الأشرف كجك، وفتك بالأمراء، وقتل من أعيانهم نحو أربعين أميراً، مثل بيدمر البدري نائب حلب، ويلبغا نائب الشام، وطقتمر النجمي الدواتدار، وأقسنقر

الذي كان نائب طرابلس، ثم صار الغالب على الأمر بمصر أرغون العلائي، والكتمر، الحجازي، وتتمش عبد الغني، أمير مائة، مقدم ألف، وشجاع الدين غرلو، وهو أظلمهم، ونجم الدين محمود بن شروين وزير بغداد، ثم وزير مصر، وهو أجودهم وأكثرهم براً ومعروفاً، حكى لنا أن النور شوهد على قبره بغزة، وكان المظفر قد رسم لعبد أسود صورة أن يأخذ على كل رأس غنم تباع بحلب وحماة ودمشق نصف درهم، فيوم وصول الأسود إلى حلب، وصل الخبر بقتل السلطان، فسر الناس بخيبة الأسود. وفيها في شوال طلب السلطان فخر الدين أياز نائب حلب، إلى مصر، وخافت الأمراء أن يهرب، فركبوا من أول الليل وأحاطوا به، فخرج من دار العدل وسلم نفسه إليهم، فأودعوه القلعة، ثم حمل إلى مصر، فحبس، وهو أحد الساعين في نكبة يلبغا، وأيضاً فإنه من الجركس، وهو أضداد الجنس التتار بمصر، وكان المظفر قد مال عن جنس التتار إلى الجركس ونحوهم، فكان ذلك أحد ذنوبه عندهم، فانظر إلى هذه الدول القصار، التي ما سمع بمثلها في الإعصار قلت: هذي أمور عظام ... من بعضها القلب ذائب ما حال قطر يليه ... في كل شهرين نائب وفيها في ذي الحجة، وصل إلى حلب الحاج أرقطاي، نائباً، بعد أن خطبوه إلى السلطنة. والجلوس على الكرسي بمصر، فأبى، وخطبوا قبله إلى ذلك الخليفة الحاكم بأمر الله، فامتنع، كل هذا خوفاً من القتل، فلما جلس الملك الناصر حسن على الكرسي، طلب الحاج أرقطاي منه نيابة حلب فأجيب، وأعفى الناس من زينة الأسواق بحلب، لأنها تكررت حتى سمجت قلت: كم ملك جاءوكم نائب ... يا زينة الأسواق حتى متى قد كرروا الزينة حتى اللحى ... ما بقيت تلحق أن تنبتا وفيه بلغنا أن السلطان أبا الحسن المريني صاحب المغرب، انتقل من المغرب الجواني من فاس، إلى مدينة تونس، وهي أقرب إلينا من فاس بثلاثة أشهر، وذلك بعد موت ملكها أبي بكر من الحفصيين بالفالج، وبعد أن أجلس أبو الحسن ابنه على الكرسي بالغرب الجواني، وقد أوجس المصريون من ذلك خيفة، فإن بعض الأمراء المصريين الأذكياء، أخبرني أن الملك الناصر محمداً كان يقول: رأيت في بعض الملاحم أن المغاربة تملك مصر، وتبيع أولاد الترك في سويقة مازن، وهذا السلطان أبو الحسن ملك عالم مجاهد عادل، كتب من مدة قريبة بخطه ثلاثة مصاحف، ووقفها على الحرمين، وعلى حرم القدس، وجهز معها عشرة آلاف دينار، اشترى بها أملاكاً بالشام، وووقفت على القراء والخزنة للمصاحف المذكورة. ووقفت على نسخة توقيع بمسامحة الأوقاف المذكورة، بمؤن وكلف وأحكار، أنشأه

صاحبنا الشيخ جمال الدين بن نباته المصري، أحد الموقعين الآن بدمشق، أوله: الحمد لله الذي أرهف لعزائم الموحدين غرباً، وأطلعهم بهممهم حتى في مطالع الغرب شهباً، وعرف بين قلوب المؤمنين حتى كان البعد قرباً، وكان القلبان قلباً، وأيد بولاء هذا البيت الناصري ملوك الأرض، وعبيد الحق سلماً وحرباً، وعضد ببقائه كل ملك إذا نزل البر أنبته يوم الكفاح أسلاً، ويوم السماح عشباً، وإذا ركب البحر لنهب الأعداء، كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً، وإذا بعث هداياه المتنوعة، كانت عراباً تصحب عرباً ورياضاً تسحب سحباً، وإذا وقف أوقاف البر، سمعت الآفاق من خط يده قرآناً عجباً، واهتزت بذكراه عجباً. ومنها: وذو الولاء قريب وإن نأت داره، ودان بالمحبة وإن شط شط بحره ومزاره، وهو بأخباره النيرة محبوب، كالجنة قبل أن ترى، موصوف كوصف المشاهد، وإن حالت عن الاكتحال بطلعته أميال السرى، ولما كان السلطان أبو الحسن سر الله ببقائه الإسلام والمسلمين، وسره بما كتب من اسمه في أصحاب اليمين وما أدراك ما أصحاب اليمين، هو الذي مد اليمين بالسيف والقلم، فكتب في أصحابها، وسطر الختمات الشريفة، فنصر الله حزبه بما سطر من أحزابها، ومد الرماح أرشية فاشتقت من قلوب الأعداء قليباً، والأقلام أروية فشفت ضعف البصائر، وحسبك بالذكر الحكيم طبياً. ومنها ثم وصلت ختمات شريفة كتبها بقلمه المجيد المجدي، وخط سطورها بالعربي، وطالما خط في صفوف الأعداء بالهندي. ومنها وأمر بترتيب خزنة وقراء على مطالع أفقها، ووقف أوقافها، تجري أقلام الحسنات في أطلاقها وطلقها، وحبس أملاكاً شامية تحدث بنعم الأملاك التي سرت من مغرب الشمس إلى مشرقها، ورغب في المسامحة على تلك الأملاك، من أحكار ومؤونات وأوضاع ديوانية، وضع بها خط المسامحة في دواوين الحسنات المسطرات، فأجيب على البعد داعيه، وقوبل بالإسعاف والإسعاد وقفه ومساعيه، وختمها بقوله: والله تعالى يمتع من وقف هذه الجهات بما سطر له في أكرم الصحائف وينفع الجالس من ولاة الأمور في تقريرها، ويتقبل من الواقف. وفيه صلي بحلب صلاة الغائب على الشيخ شمس الدين بن محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي الدمشقي، منقطع القرين في معرفة أسماء الرجال، محدث كبير، مؤرخ، من مصنفاته كتاب تاريخ الإسلام، وكتاب الموت وما بعده، وكف بصره في آخر عمره، ومولده سنه ثلاث وسبعين وستمائة، واستعجل قبل موته فترجم في تواريخه الأحياء المشهورين بدمشق وغيرها، واعتمد في ذكر سير الناس على أحداث يجتمعون به، وكان في أنفسهم من الناس، فآذى بهذا السبب في مصنفاته أعراض خلق من المشهورين. وفيها كان الغلاء بمصر ودمشق وحلب وبلادهن، والأمر بدمشق أشد، حتى انكشفت فيه أحوال خلق، وجلا كثيرون منها إلى حلب وغيرها، وأخبرني بعض

بني تيمية، أن الغرارة وصلت بدمشق إلى ثلاثمائة، وبيع البيض كل خمسة بيضات بدرهم، واللحم رطل بخمسة وأكثر، والزيت رطل بستة أو سبعة. وفيها في ذي الحجة، قيد الأمير شهاب الدين أحمد ابن الحاج مغلطاي القره سنقري، وحمل إلى دمشق، فسجن بالقلعة، وكان مشد الوقف بحلب، وحاجباً، وكان قبل هذه الحادثة، قد سعى في بعض القضاة، وقصد له إهانة بدار العدل، فسلم الله القاضي، وأصيب الساعي المذكور، وربما كان طلبه من مصر يوم سعيد في القاضي، ثم خلص بعد ذلك وأعيد إلى حلب، وصلح حاله. وفيها توفي بدمشق ابن علوي، أوصى بثلاثين ألف درهم، تفرق صدقة، وبمائتي ألف وخمسين ألفاً تشترى بها أملاك وتوقف على البر، فاجتمع خلق من الحرافيش والضعفاء لتفريق الثلاثين ألفاً، ونهبوا خبزاً من قدام الخبازين، فقطع أرغون شاه نائب دمشق منهم أيدي خلق، وسمر خلقاً بسبب ذلك، فخرج منهم خلق من دمشق وتفرقوا ببلاد الشمال. وفيها في ذي الحجة، ضرب نيرون - بالنون - نائب قلعة المسلمين، قاضيها برهان الدين إبراهيم بن محمد بن ممدود، واعتقله ظلماً وتجبراً، فبعد أيام قليلة طلب النائب إلى مصر معزولاً، ويغلب على ظني أنه طلب يوم تعرضه للقاضي، فسبحان رب الأرض والسماء الذي لا يمهل من استطال على العلماء. قلت: قل لأهل الحياة مهما ... رمتم عزاً وطاعه لا تهينوا أهل علم ... فإذا هم سم ساعه وفيه في العشر الأوسط من آذار، وقع بحلب وبلادها ثلج عظيم، وتكرر، أغاث الله به البلاد، واطمأنت به قلوب العباد، وجاء عقيب غلاء أسعار، وقلة أمطار. قلت: ثلج بآذار أم الكافور في ... مزاجه ولونه والمطعم لولاه سالت بالغلاء دماؤنا ... من عادة الكافور إمساك الدم وفيها جاءت ريح عظيمة قلعت أشجاراً كثيرة، وكانت مراكب للفرنج قد لججت للوثوب على سواحل المسلمين، فغرقت بهذه الريح، وكفى الله المؤمنين القتال. قلت: قل للفرنج تأدبوا وتجنبوا ... فالريح جند نبينا اجماعا إن قلعت في البر أشجاراً فكم ... في البحر يوماً شجرت أقلاعا وفيها توفي الحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي بعزاز، كان له منزلة عند الطنبغا الحاجب نائب حلب، وبنى بعزاز مدرسة حسنة، وساق إليها القناة الحلوة، وانتفع الجامع وكثير من المساجد بهذه القناة، وله آثار حسنة غير ذلك، رحمه الله تعالى. ثم دخلت سنة تسع وأربعين وسبعمائة. وقراجا بن دلغادر التركماني وجمائعه قد شغبوا، واستطالوا ونهبوا، وتسمى بالملك القاهر، وأبان عن فجور وحمق ظاهر، ودلاه بغروره

الشيطان، حتى طلب من صاحب سيس الحمل الذي يحمل إلى السلطان. وفيها في شهر رجب، وصل الوباء إلى حلب، كفانا الله شره، وهذا الوباء قيل لنا إنه ابتدأ من الظلمات، من خمس عشرة سنة متقدمة، على تاريخه، وعملت فيه رسالة سميتها، النبا عن الوبا. فمنها: اللهم صل على سيدنا محمد وسلم، ونجنا بجاهه من طغيان الطاعون وسلم، طاعون روع وأمات، وابتدأ خبره من الظلمات، فواهاً له من زائر، من خمس عشرة سنة دائر، ما صين عنه الصين، ولا منع منه حصن حصين، سل هندياً في الهند، واشتد على السند، وقبض بكفيه وشبك، على بلاد أزبك، وكم قصم من ظهر، فيما وراء النهر، ثم ارتفع ونجم، وهجم على العجم، وأوسع الخطا، إلى أرض الخطا، وقرم القرم، ورمى الروم بجمر مضطرم، وجر الجرائر، إلى قبرس والجزائر، ثم قهر خلقاً بالقاهرة، وتنبهت عينه لمصر فإذا هم بالساهرة، وأسكن حركة الإسكندرية، فعمل شغل الفقراء مع الحريرية. ومنها: إسكندرية ذا الوباء ... سبع يمد إليك ضبعه صبراً لقسمته التي ... تركت من السبعين سبعه ثم تيمم الصعيد الطيب، وأبرق على برقة منه صيب، ثم غزا غزة، وهز عسقلان هزة، وعك إلى عكا، واستشهد بالقدس وزكى، فلحق من النهار بين الأقصى بقلب كالصخرة، ولولا فتح باب الرحمة لقامت القيامة في مرة، ثم طوى المراحل، ونوى أن يحلق الساحل، فصاد صيداً، وبغت بيروت كيداً، ثم صدد الرشق، إلى جهة دمشق، فتربع ثم وتميد، وفتك كل يوم بألف وأزيد، فأقل الكثرة، وقتل خلقاً ببثرة. ومنها: أصلح الله دمشقاً ... وحماها من مسبه نفسها خست إلى أن ... تقتل النفس بحبه ثم أمر المزه، وبرز إلى برزة، وركب تركيب مزج على بعلبك، وأنضد في قارة قفا نبك، ورمى حمص بجلل، وصرفها مع علمه أن فيها ثلاث علل، ثم طلق الكنة في حماة، فبردت أطراف عاصيها من حماة: يا أيها الطاعون إن حماة من ... خير البلاد ومن أعز حصونها لا كنت حين شممتها فسممتها ... ولثمت فاها آخذاً بقرونها ثم دخل معرة النعمان، فقال لها أنت مني في أمان، حماة تكفيك، فلا حاجة لي فيك: رأى المعرة عيناً زانها حور ... لكن حاجبها بالجور مقرون ماذا الذي يصنع الطاعون في بلد ... في كل يوم له بالظلم طاعون ثم سرى إلى سرمين والفوعة، فشعث عن السنة والشيعة، فسن للسنة أسنته شرعاً،

وشيع في منازل الشيعة مصرعاً، ثم أنطى أنطاكية بعض نصيب، ورحل عنه حياء من نسيانه ذكرى حبيب، ثم قال لشيزر وحارم لا تخافا مني، فأنتما من قبل ومن بعد في غنى عني، فالأمكنة الردية، تصح في الأزمنة الردية، ثم أذل عزاز وكلزه، وأصبح في بيوتها الحارث ولا أغنى ابن حلزة، وأخذ من أهل الباب، أهل الألباب، وباشر تل باشر، ودلك دلوك وحاشر، وقصد الوهاد والتلاع، وقلع خلقاً من القلاع، ثم طلب حلب، ولكنه ما غلب. ومنها ومن الأقدار، أنه يتتبع أهل الدار، فمتى بصق أحد منهم دماً، تحققوا كلهم عدماً، ثم يسكن الباصق الأجداث، بعد ليلتين أو ثلاث. سألت بارئ النسم، في دفع طاعون صدم، فمن أحس بلع دم، فقد أحس بالعدم، ومنها: حلب والله يكفي ... شرها أرض مشقه أصبحت حية سوء ... تقتل الناس ببزقه فلقد كثرت فيها أرزاق الجنائزية فلا رزقوا، وعاشوا بهذا الموسم وعرقوا، من الحمل فلا عاشوا ولا عرفوا، فهم يلهون ويلعبون، ويتقاعدون على الزبون: اسودت الشهباء في ... عيني من وهم وغش كادت بنو نعش بها ... أن يلحقوا ببنات نعش ومما أغضب الإسلام، وأوجب الآلام، أن أهل سيس الملاعين، مسرورون لبلادنا بالطواعين: سكان سيس يسرهم ما ساءنا ... وكذا العوائد من عدو الدين فالله ينقله إليهم عاجلاً ... ليمزق الطاغوت بالطاعون ومنها فإن قال قائل هو يعدي ويبيد، قلت بل الله يبدي ويعيد، فإن جادل الكاذب في دعوى العدوى وتأول، قلنا فقد قال الصادق صلى الله عليه وسلم فمن أعدى الأول، استرسل ثعبانه وانساب، وسمى طاعون الأنساب، وهو سادس طاعون وقع في الإسلام، وعندي أنه الموتان الذي أنذر به نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام. كان وكان: أعوذ بالله ربي من شر طاعون النسب ... باروده المستعلي قد طار في الأقطار دولاب دهاشانه ساعي لصارخ ما رثى ... ولا فدا بذخيره فناشه الطيار يدخل إلى الدار يحلف ما أخرج إلا بأهلها ... معي كتاب القاضي بكل من في الدار وفي هذا كفاية، ففي الرسالة طول. وفيها أسقط القاضي المالكي الرياحي بحلب تسعة من الشهود ضربة وحدة، فاستهجن منه ذلك، وأعيدوا إلى عدالتهم ووظائفهم. وفيها قتل بحلب زنديقان أعجميان، كانا مقيمين بدلوك. وفيها بلغنا وفاة القاضي زين الدين عمر البلقيائي بصفد بالوباء، والشيخ ناصر الدين العطار بطرابلس بالوباء، وهو واقف الجامع المعروف به، بها وفيها توفي القاضي جمال الدين سليمان بن ريان الطائي

بحلب، منقطعاً تاركاً للخدم، ملازماً للتلاوة. وفيها بلغنا أن أرغون شاه، وسط بدمشق كثيراً من الكلاب. وفيها توفي الأمير أحمد بن مهنا أمير العرب، وفتّ ذلك في أعضاد آل مهنا، وتوجه أخوه فياض الغشوم القاطع للطرق، الظالم للرعية إلى مصر، ليتولى الإمارة على العرب، مكان أخيه أحمد، فأجيب إلى ذلك، فشكا عليه رجل شريف، أنه قطع عليه الطريق، وأخذ ماله، وتعرض إلى حريمه، فرسم السلطان بإنصافه منه، فأغلظ فياض في القول طمعاً بصغر سن السلطان، فقبضوا عليه قبضاً شنيعاً. وفيها في سلخ شوال، توفي قاضي القضاة نور الدين محمد بن الصائغ بحلب، وكان صالحاً عفيفاً ديناً، لم يكسر قلب أحد، ولكنه لخيريته طمع قضاة السوء في المناصب، وصار المناحيس يطلعون إلى مصر ويتولون القضاء في النواحي بالبذل، وحصل بذلك وهن في الأحكام الشرعية. قلت: مريد قضا بلدة ... له حلب قاعده فيطلع في ألفه ... وينزل في واحده وكان رحمه الله من أكبر أصحاب ابن تيمية، وكان حامل رايته في وقعة الكسروان المشهورة. وفيها في عاشر ذي القعدة، توفي بحلب صاحبنا الشيخ الصالح زين الدين عبد الرحمن بن هبة الله المعري، المعروف بإمام الزجاجية، من أهل القرآن والفقه والحديث، عزب منقطع عن الناس، كان له بحلب دويرات، وقفهن على بني عمه، وظهر له بعد موته كرامات، منها أنه لما وضع في الجامع ليصلى عليه بعد العصر، ظهر من جنازته نور، شاهده الحاضرون، ولما حمل لم يجد حاملوه عليهم منه ثقلاً، حتى كأنه محمول عنهم، فتعجبوا لذلك، ولما دفن وجلسنا نقرأ عنده سورة الأنعام، شممنا من قبره رائحة طيبة، تغلب رائحة المسك والعنبر، وتكرر ذلك، فتواجد الناس وبكوا، وغلبتهم العبرة، وله محاسن كثيرة رحمه الله، ورحمنا به آمين، ومكاشفاته معروفة عند أصحابه. وفي العشر الأوسط منه، توفي أخي الشقيق وشيخي الشفيق، القاضي جمال الدين يوسف، ترك في آخر عمره الحكم، وأقبل على التدريس والإفتاء، وكان من كثرة الفقه والكرم وسعة النفس وسلامة الصدر بالمحل الرفيع، رحمة الله تعالى، ودفن بمقابر الصالحين قبلي المقام بحلب. قلت: أخ أبقي ببذل المال ذكراً ... وإن لاموه فيه ووبخوه أزال فراقه لذات عبشى ... وكل أخ مفارقه أخوه وفيه توفي الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن القدوة نبهان الجبريني بجبرين، وجلس على السجادة ابنه الشيخ محمد الصوفي، كان الشيخ علي بحراً في الكرم، رحمه الله ورحمنا بهم آمين. وفي الثامن والعشرين من ذي القعدة، ورد البريد من مصر بتولية قاضي القضاة نجم الدين عبد القاهر بن أبي السفاح، قضاء الشافعية بالمملكة الحلبية، وسررنا بذلك ولله الحمد. وفيه ظهر بمنبج على قبر النبي متى، وقبر حنظلة بن خويلد أخي خديجة،

رضى الله عنها، وهذان القبران بمشهد النور خارج منبج، وعلى قبر الشيخ عقيل المنبجي، وعلى قبر الشيخ ينبوب، وهما داخل منبج، وعلى قبر الشيخ علي، وعلى مشهد المسيحات شمالي منبج، أنوار عظيمة، وصارت الأنوار تنتقل من قبر بعضهم إلى قبر بعض، وتجتمع وتتراكم، ودام ذلك إلى ربع الليل، حتى انبهر لذلك أهل منبج، وكتب ماضيهم بذلك محضراً وجهزه إلى دار العدل بحلب، ثم أخبرني القاضي بمشاهدة ذلك أكابر وأعيان من أهل منبج أيضاً، وهؤلاء السادة هم خفراء الشام، ونرجوا من الله تعالى ارتفاع هذا الوباء الذي كاد يفني العالم ببركتهم، إن شاء الله تعالى. قلت: اشفعوا يا رجال منبج فينا ... لارتفاع الوباء عن البلدان نزل النور في الظلام عليكم ... إن هذا يزيذ في الأيمان وفيها في ذي الحجة، بلغنا وفاة القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري بدمشق، بالطاعون، منزلته في الإنشاء معروفه، وفضيلته في النظم والنثر موصوفه، كتب السر للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بالقاهرة، بعد أبيه محي الدين، ثم عزل بأخيه القاضي علاء الدين، وكتب السر بدمشق، ثم عزل وتفرغ للتأليف والتصنيف، حتى مات عن نعمة وافرة، دخل رحمه الله قبل وفاته بمدة معرة النعمان، فنزل بالمدرسة التي أنشأتها، ففرح لي بها، وأنشد فيها ببتين أرسلهما إلى بخطه وهما: وفي بلد المعرة دار علم ... بني الوردي منها كل مجد هي الوردية الحلواء حسناً ... وماء البئر منها ماء ورد فأجبته بقولي: أمولانا شهاب الدين إني ... حمدت الله إذ بك تم مجدي جميع الناس عندكم نزول ... وأنت جبرتني ونزلت عندي قد تم بعون الله تعالى تاريخ العلامة الملك المؤيد إسماعيل أبي الفداء.

§1/1