المختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد

مدحت آل فراج

مقدمة المختصر

مقدمة المختصر الحمد لله القائل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، والحمد لله الذي سنّ: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17]، والحمد لله الذي لم يجعل: {لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]، والحمد لله الذي أوحى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بأنه: «لا يزال ناس من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون» (¬1)، والحمد لله الذي قضى: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم» (¬2)، والحمد لله الذي غرس في أوليائه معنى: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله عز وجل» (¬3)، والحمد لله: «الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرونه بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس أحيوه، وكم ضالٍ تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله: تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا: ألوية البدع، وأطلقوا أعقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، ¬

(¬1) صحيح البخاري، من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -. (¬2) متفق عليه، من حديث عروة البارقي - رضي الله عنه -. (¬3) رواه أبو داود بإسناد جيد، من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -، انظر رياض الصالحين، كتاب الجهاد.

يقولون على الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين» (¬1). فالحمد لله، حمدًا، طيبًا، كثيرًا، مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضي، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فلله الفضل والمنة، وأسأله سبحانه البركة والمثوبة، فبعد أن أخذ كتاب «فتاوى الأئمة النجدية حول قضايا الأمة المصيرية» دوره ومكانه في المكتبة الإسلامية، وبعد أن حقق المراد منه، من إظهار شمولية دعوة الإمام المجدد: محمد بن عبد الوهاب، مع القيام بعرضها كمنهج متكامل، وتسليط الضوء على كافة أصولها وقواعدها، لئلا يتمكن أعداء الدعوة المباركة، من تنفيذ مخطط اختزالها في صورة مطموسة المعالم، لا تستطيع بها منازلة أعداء الملة، ولا مجاهدة خصوم الأمة وبعد أن كثر - بفضل الله الواحد المنان - الثناء على هذا الكتاب، من كثير من المشايخ والعلماء، وطلبة العلم، رأيت، ورأى كثير من الناصحين - جزاهم الله خيرًا - ضرورة القيام بعمل مختصر للكتاب، لعلّ أن تكون هذه الخطوة سببًا في اتساع رقعة المستفيدين من هذا التراث العظيم، والجامعة الكبرى، التي ما زالت قادرة على تخريج أجيال من الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، التي هى بحق وقود الصراع الدائم المشتعل، بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان. عملي في هذا المختصر: أبقيت على جميع الأبواب، والفصول كاملة، وعامة مباحث الكتاب إلا ¬

(¬1) الرد علي الجهمية: (15 - 16) لإمام أهل السنة، الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق د/ أحمد بكير محمود، دار قتيبة (بيروت - دمشق) الطبعة الأولي 1411 هـ - 1990 م.

ما شعرت منه تكرارًا، لا يفيد المراد من الاختصار، وهو قليل جدًا، ثم قمت بانتقاء أدق النقول الدالة على المراد من المسائل التي جاءت في عناوين المباحث. ولقد حذفت من الكتاب الملخص لكل فصل، المعنون بـ «بكلمات منتقاة مضيئة»، وكذلك الهوامش الجانبية، ووضعت بدلاً منهما: تلخيصًا دقيقًا لكل باب، يتمثل في أهم النقاط الرئيسة، التي يدور حولها، ويتمحور عليها. وأخيرًا أسأل الله سبحانه أن يجعل كل أعمالنا صالحة، وأن يجعلها له خالصة، وأن لا يجعل فيها لأحد من دونه من شيء. أخوكم أَبُو يُوسُف مدحت بن الْحسن آل فراج الرياض 11472، ص. ب: 7612 - جوال: 0506237685 [email protected]

المقدمة

المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهْدِه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: لقد أظلتنا سحابة الفتن، وأمواج المحن، وظلمات البلاء، وطالت علينا ليالي الفساد، حتى عاد الدين غريبًا كما بدأ، وخرجت فئام وجماعات من الناس عن جوهره وحقيقته أفواجًا كما دخلوا فيهما من قبل أفواجًا. ولقد تكالبت علينا الأعداء على اختلاف عقائدهم ومناهلهم وتوجهاتهم، وصالوا وجالوا بالفساد خلال ديارنا، بعدما ضربوا صفحًا من الذكر، عمَّا بينهم من مباينات واختلافات وتحزُّبات، ريثما يتم لهم القضاء على الإسلام وأهله. وأمسك الحاقدون قوسًا واحدة، بيد واحدة، يحركها قلب واحد، ليضربوا بها سهام الغدر والمكر والخبث والدهاء. ولقد صرخ شيطان الكفر في شيعته قائلاً: صوِّبوا سهامكم تجاه القلوب والعقول والمراكز الحساسة حتى

نصيبهم بالشلل التام، والغيبوبة القاتلة لئلا تكون لهم رجعة، وينقطع نسلهم من الوجود. وأرض المعركة مشتعلة، وسماؤها ملبَّدة بالغيوم، وجوَّها ممتلئ بالسموم، وطيورها تدعو بالويل والثبور، ودخان الغدر يفوح، ورائحة الخيانة قد أزكمت الأنوف. وفصيل الكفر قد جاء مرصوص الصفوف، مترجلين بعدما قاموا بعقر خيولهم، وكسر أغمدة سيوفهم، ونصب سهامهم، وتصويب رماحهم، مصطحبين معهم نساءهم وذراريهم، حتى يستحيل الفرار، ويُدْبِر الهروب؛ وعزموا على الحرب التي لا تعرف إلاَّ الدمار والخراب والاستئصال دون العمار والبناء والوجود. وأما فصيل المسلمين فقد جاء بصفوف يواجه بعضها بعضًا، وقد سرحوا خيولهم، وأخمدوا سيوفهم في غمادها، إلاَّ أنهم صوَّبوا سهامهم ورماحهم، لكن تجاه العلماء الربانيين، والدعاة المخلصين، والمجاهدين المناضلين ... ، منشدين بذلك السلام والأمان من عدو لدود لا يعرف إلاَّ الكيد، ولا يرضى بغير الكفر. ووسط هذا الزخم الشديد والخضم الهائل من الفتن المائجة، أصبح حال أمتنا المرير كصيد ثمين بين جماعة من النسور الضارية، كل واحد منها ينهش منه كل ما لذَّ له وطاب، وقت ما شاء، ومتي ما أراد. وإزاء هذا العداء السافر نجد حال أمتنا الأليم، يموج بصراعاته موجًا، ويمور بتجزباته مورًا. وفي كل يوم، أو بالأحرى في كل ساعة، تأتي بليَّة عظيمة، وداهية فظيعة، وتتوالى علينا الفتن العمياء الصماء البكماء، التي يرقق بعضها بعضًا، حتى إذا رأى المؤمن إحداها قال: هذه مهلكتي، فإذا أدبرت وجاءت الأخري قال: هذه هذه ... اللَّهمَّ إنا نشكو إليك: ضعفنا وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس، ونشكو

إليك ظلم الطواغيت، وزندقة المنافقين، وكل لسان مسموم، وقلم مأجور ونشكو إليك كل محرف ومبدل، وكل ساكت عن الحق، أو متكلم بالباطل، حتى يُمرَّر بهم كيد الأعداء ومخططاتهم على أمتنا الإسلامية، لتظل ضاربة في غفلتها، وتغط في نومها، وتستمر مغيبة عن دورها وهدفها وعلة وجودها. حال طوائف الأمة الحالي: وإن تنظر تجد عجبًا لا ينقضي من حال معظم فصائل الأمة تجاه هذا الكيد الشرس، الذي لا يرقب أصحابه فينا إلاً ولا ذمة، بل ولا يعرفون إلاَّ طمس الحقائق، وتلبيس المفاهيم، واختلاط الأوراق، التي من شأنها أن تجعل المسلم دومًا في حيرة من أمره، غير محدد المعالم والحدود والهوية، هكذا أرادوا. فنجد: طائفة من الأمة قد جعلت أصابعها في آذانها، واستغشت ثيابها، غير آبهة بشيء من الكيد والعدوان. ومنها: (طائفة) رفعت لواء التلبيس والتحريف تارةً، والتبجح بالباطل تارةً، والسكوت المزري المشين عن إبطاله أخرى، كل ذلك لتبقيى الأمة ضاربة في الظلمات بلا دليل، وشاردة في جنبات الوجود بلا زمام. ومنها: (طائفة) غرقت في أنهار البدع، وبحار الخرافات والمخالفات العقدية والعملية، تارةً لثقل تكاليف المشروع، وأحيانًا لحب التجديد ترويحًا على النفوس، وكثيرًا بسبب جهامة الإلف، والعادة، وتقديس دين الأباء الخارج عن سلطان العلم، ومرجعية الوحي. ومنها: (طائفة) سبحت في بحار الشهوات، وغاصت في وحل الهوى، وكأن الدين شأن غيرهم. ومنها: (طائفة) أرادت أن تفصِّل ثوبًا لأصول السنَّة والمنهجية السلفية، جاعلة من أهم وأدق أوصافه أن يحقق لأصحابه تلبية نداء الفطرة، وأنهم بحق

حماة الدين دون غيرهم، ولكن بشرط أن لا يدخلهم في حلبة الصراع الحقيقي، بل في هامشه، والأولى أن يخرجهم عن دائرته وحدوده ومعالمه بالكلية. ومنها: (طائفة) عقدت بينها وبين أنفسها عهدًا على الالتزام بأي شعيرة من شعائر الإسلام، لكن بشرط - غير مقروء ولا مكتوب ولا مسموع - أن لا يترتب عليه أي حرج في دنياها، وقد تجد لديها توخيًا شديدًا لتحري الحلال، واجتناب الحرام، والمداومة المستمرة على عبادة الله، لكن المهم والمراد أن تبقى منزوعة المواقف، لا ولاء، ولا براء، لا سيما في الأمور التي تنبني عليها التكاليف العظام، وتكون بحق مفرق طريق بين الحق والطغيان. ومنها: (طائفة) أخذت على عاتقها نشر فكر الإرجاء الخبيث، وبث آثاره السيئة، الذي من شأنه أن يخرِّج دومًا أجيالاً لا تعرف إلاَّ التميع، وسياسة الترقيع والاستسلام والذلة والمهانة، مع محاولة تذويب الفواصل والحدود بين الحق والباطل، من أجل التقابل بينهما في منتصف الطريق، وهيهات هيهات لما يريدون ويؤملون. ومنها: (طائفة) لم تتبن سياسة الفعل، ولكن تبنَّت سياسة ردّ الفعل؛ فقامت متعطشة لسفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وترويع الآمنين، وأخذت سلطانًا من تلقاء أنفسها تجري به أحكام: الردَّة والتكفير والتبديع والتفسيق، لكل مارق عن هديها أو خارج عن إطار جماعتها، وقدمت للعالم كله كافة افتراءاتها على أنها أصل الإسلام، وأساس العقيدة الصحيحة المنضبطة، الذي لا يسع طالب الحق إلاَّ اتباعها، والمضي قدمًا على سننها هكذا زعموا! ومنها: (طائفة) أعطت ولاءها الكامل للنظام القائم ولرايته المرفوعة، أيًا كانت وجهتها المعلنة، سواءً كانت راية إسلامية أو علمانية، أو قومية، أو بعثية، أو راية مخلطة ... المهم لديها أن الولاء يعطي خالصًا للراية

المرفوعة، وكذلك قامت بإعلان البراءة من كل الرايات التي لم تحن الفرصة بعد لرفعها، وذلك لعظيم جهلها، وكبير غفلتها. ومنها: (طائفة) أرادت عزل الدين ومقوماته، وشرائعه وأصوله، عن سياسة دنيا الأمة، وترسيم منهج حياتها، وتحديد مجالات علاقتها بين مختلف مناحي قطاعاتها الداخلية من جانب، وبين كل من حولها من أصحاب الأديان والملل والنحل من جانب آخر. وأرادت أن تقصر دور الدين، وتحصره بين العبد وربه في بعض الطقوس التعبُّدية وذلك إلى حين، فإذا تمكنت من مخططها العفن وكيدها الخبيث، قامت بالخطوة الثانية المتمثلة في إنهاء دور الدين بالكلية، وأعلنت التمرُّد الواضح على كافة تعاليم الأديان، والردَّة - التي لا تعرف العودة - عن سائر الشعائر والشرائع. ومنها: (طائفة) ثارت على كل ما هو باطل، ومنكر، وقامت تسبح ضد تيار عاتٍ، لتحدي سيل الطغيان الجارف، ولم تبخل في سبيل ذلك بشيء من دمائها وأموالها، بل وقدمت نفسها قربانًا لرضا الرب سبحانه، وفدية لنصرة دينه، وإقامة شريعته، وسطرت بدقائق حياتها وقطرات دمائها الزكية أروع ألوان البطولة والفداء، وأبت إلاَّ الانطلاق من حمى الإخلاص لبارئها سبحانه، حتى تعيد الأمة لطريقها، وتثبت قواعد دينها الرباني الحنيف. ونراها على قلَّة عددها، وضعف عدَّتها، إلاَّ أن الله سبحانه قد اصطفاها من الناس ليصنع بها قدره، وينفذ بها وعده، وقد ألقى لها الرعب في قلوب أعدائها. ولكن بنظرة متأنية خالية من العواطف، نجد أن نقطة الضعف الغائرة في جسد هذه الطائفة يكمن في عدم قيامها وانطلاقها من منهج شامل متكامل متأصل بالبراهين والدلائل، حتى تستطيع من خلاله: تحديد أطر البدايات، ومستلزمات كل مرحلة من مراحل الصراع، والتخلص من عشوائية

القرارات، وإشاكلية تداخل أطوال العمل المنهجي لعودة هذا الدين، ومن ثم تتمكن من القيام بعرض واقع الأزمة الراهنة بكل أبعاده الحقيقية، مع بيان مردود فعله الخطير على كافة أبناء الأمة، ليتجلى بذلك لب الصراع، وحقيقة المعركة الهائلة والحاسمة، التي ينبغي أن تخوضها الأمة شاءت ذلك أم أبت. وبعد ما قمنا بتقليب الطرف في أحوال أمتنا، يتجلى لنا بوضوح بيِّن: وجوب البحث الحثيث، والتنقيب الدائم المستمر عن منهج أصيل، يتميز بالشمولية، ويتَّسم بالمرجعية الصحيحة المنضبطة، قد التحم فيه جانبه العقدي بجانبه العملي، وشقه النظري بشقه الواقعي، ومن ثم نستطيع أن نقدمه لأمتنا على أنه الطريق الوحيد، والسبيل الفريد للخروج من أزمتها الحالية، والعبور بها من ذلة التبعية إلى عزة الريادة، وبالتالي حشد كل الطاقات، وتجنيد كافة الإمكانات للسير به وخلفه وتحت لوائه، حتى يتسنى لنا أن نستعيد زمام البشرية من يد ألدّ أعدائها، ونخرج لديننا الحنيف من غربته الثانية إلى ظهوره وعلوه وتمكينه الثاني، كما خرج به الصحابة من غربته الأولى إلى ظهوره وعلوه وتمكينه الأول. أعود فأقول: كم نحن اليوم في مسيس الحاجة إلى منهج رباني، ننطلق منه، ونعود إليه، ونستظل به، ونحن نصارع ونصارَع من قبل كافة الملل والنحل المارقة عن حقيقة الوجود، والخارجة عن علة الخلق والإيجاد، والضاربة في عطن الفساد ومستنقع الإلحاد. كم يفقد المسلمون الغالي والثمين، من دمائهم، وأنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، ومقدساتهم، وأراضيهم، وذراريهم ... عندما يخوضون جولة من جولات الصراع مع أعدائهم، في أثناء غياب منهج شمولي متكامل أصيل مدروس. وكم تزداد المحن قوة، والفتن ظلمة والشبهات التباسًا،

والحق ضياعًا واندراسًا حينما تفقد الأمة الإسلامية وسائل الارتباط بمنهجها المنضبط القويم - المتصل سندًا بجميع الرسل والنبيين صلوات الله وسلامه عليهم - حال الصراع والنزال. وعندنا نقلب صفحات التاريخ الخالدة - المليئة بالدروس والعبر -، نجد أن الأمة الإسلامة قد مر عليها كثيرٌ من المحن والرزايا، التي تحمل من الكيد والدهاء والخبث، ما الله به عليم، حتى كاد بعضها أن يكسر الإسلام، ويقصم ظهر أمته، ويستأصل وجود أبنائه، إلاَّ أن الأمة ما تلبث أن تفيء من سكرتها، وتستيقظ من غفلتها إلى منهجها القويم لتصطبغ به، فتخرج منه وبه أمة أبيَّة على المكر، عصيَّة على العداء، داحرة لكل ظالم وطاغٍ وباغٍ، وتنتهي بذلك إحدى جولات الصراع - التي لا تنتهي ما بقي زمان التكليف - بين الإسلام والكفر، لصالح الحق، ولعز المسلمين. ودائمًا كنا نرى في هجمات أهل الكفر الشرسة على أهل ملتنا: تكاتف العلماء والأمراء، ومن ورائهم كافة طبقات الأمة، وتتعانق الأيدي والقلوب، وترص الصفوف، وتعبأ كل الطاقات لمواجهة هذا الكيد السافر، حتى ينجلي مكرهم، ويُرد كيدهم في نحرهم. أما يومنا الطويل الأسى، البالغ من الحسرة مداه، فللأسف الشديد، نرى: تفككًا وخورًا شديدًا، مع فقدان للثقة بين كثير من فصائل الأمة، وهذا التفكك قد ورثنا: الذلة والمهانة، واستمراء الدنية، واستمرار التبعية، وورث أعداءنا بدوره: استعلاءً، وشموخًا، وعلوًا، وسفورًا في العداء. وهذا مما يبرهن ويؤكد على حاجة الأمة الضرورية إلى منهج شامل منضبط صحيح، تلوح فيه بجلاء: البدايات والنهايات، والقواعد والأصول والنتائج، والوسائل والأهداف والغايات.

وانطلاقًا من إيجاد حل للمصائب العظام والدواهي الكبار، التي تحيط بأمتنا، وتهدد بحق وجودها وبقائها، بدأت البحث الحثيث، والتنقيب الدائم المستمر عن منهج أصيل منضبط، يصلح أن يقدم لأمتنا على أنه العلاج الناجح الوحيد، الذي ينبغي أن تنجرعه لتخرج به من أزمتها الراهنة، وتثبت قدماها على طريق التحدي الرهيب. وقد وقع اختياري على تراث الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وطيب مثواه، وذلك لعمق منهجه، وأصالته، وقوته، وشموليَّته، وكذا قرب عهده منَّا، ومشابهة ظروف وأوضاع نشأته لظروفنا وأوضاعنا الحالية، فقد كانت الأمة الإسلامية تمر إلى حدٍّ كبير بذات الأزمة التي تمرُّ بها في فترتنا الآنية، وكذلك واجهت حركته - رحمه الله تعالى - ذات الطواغيت والمنافقين ومرتزقة الأقلام والكلمات، التي نصارعها ونواجهها في جولتنا الحالية. فلما تشابهت علل النشأة، وأحوال المرحلة، وطبيعة العداء وحجم الصراع، رأيت أنه قد تعين وتوجَّب علىّ، الغوص العميق في ثنايا هذا التراث، لاستخراج كنوزه، واغتنام ثرواته، فقمت - مستعينًا بالله العليم الخبير - بتبويت هذا التراث المتناثر، تبويبًا منهجيًا شموليًا، مبتدئًا فيه بالمقدمات والأصول، ومارًا بالنواقض والعوائق، ومنتهيًا بالنتائج والعواقب. والقصد من وراء هذا العمل: أن تظهر بوضوح حقيقة تلك الدعوة، وينجلي شمولها العميق، ومن ثم يستحيل اختزالها المراد لها من قبل أعدائها في بعض جوانبها فقط، لئلا تكون قادرة على محاربة الطغيان، ومنازلة الفساد، ومقارعة الخارجين عن شريعة الله وعبوديته، التي ما خلقت الخليقة إلاَّ لتعبده وحده لا شريك له، وتستظل بشريعته في كل جوانب حياتها، حتى تلقاه سبحانه على ذلك غير مفرطة، ولا عادلة، ولا مبدلة.

مميزات هذا المنهج: لقد اتصف هذا المنهج المبارك - إن شاء الله تعالى - بخصال طيبة، وصفات حسنة، ومميزات أصيلة، قلّ أن توجد مجتمعة لغيره، منها: - شموليَّته، وتطوُّره الطبيعي، مع الأحداث والوقائع ومتطلبات كل مرحلة من مراحل الصراع، مع مراعاة حدود وطاقات وإمكانيات المسلمين الراهنة. - تأصيله بالبراهين المتواترة سندًا ومعنى، والحشد الدائم لآحاد الأدلة - مع مراعاة روح ومقاصد التشريع - لكل مسألة من مسائله، حتى يتسنى اليقين بكل جزئية من جزئياته، ومن ثمّ الجزم والقطع بكلياته وقواعده. - الحرص الشديد على وجوب اتباع السلف الصالح، لا سيما أصحاب القرون الثلاثة الأولى المفضلة، قرون الاتباع والاقتداء. - عدم تقديس أي أحد، مهما علت مرتبته وارتفع سهمه في العلم والمكانة، وتجويز الخطأ عليه، مع بيانه إن وقع، ثم الاعتذار عنه بحسب الحاجة الداعية إليه. - بيان قضية التوحيد - التي هى أصل الأصول الإيمانية - وجلاء أركانها، وحشد النصوص الدالة عليها والمؤيدة لها، مع دحض وإخماد كافة ألوان الشرك وأصوله ومواده وذرائعه ووسائله. ولا غرو في ذلك، فإن قضية التوحيد هي بحق مفرق الطريق الوحيد، ومحل الصراع الأبدي الدائم بين المسلمين، وأعدائهم من كافة الملل والنحل المارقة عن فطرة الوجود. - الالتحام المصيري بين الجانب العقائدي، والجانب العملي، دون انفصام بينهما، بل ولقد قام أئمة الدعوة - رحمهم الله تعالى - بكل ما قالوه وسطروه وأصلوه، دون مهادنة أو مواربة، وهذا بلا شك يبعث على الطمأنينة،

واليقين في نفوس أتباعهم، وأنهم بحق على جادة الطريق، وكذا يجعل الجاد في دينه - في كل عصر ومصر - يستطيع أن يرى صورة الصراع كاملة وبأبعادها الحقيقية، وأن يبصر معالم الطريق واضحة، ومن ثم يستطيع القيام بتحديد دوره، والإحاطة بمتطلبات مرحلته الراهنة بوضوح تام ورؤية شاملة. - الجرأة في عرض الحق، وقبول الصراع، والتحدي عليه، ومن أجله. - عدم الخوف والانزعاج من النتائج المنبثقة من تجريد عرض الحقائق، ذلك الخوف الذي قد يسبب نوعًا من تمييع الأصول، وعدم الترتيب المنطقي للأدلة، وذلك يوقع لا محالة في الفصل بين العلل وأحكامها، والجمع بين المتناقضات، والتفريق بين المتماثلات في الأحكام والغايات. - عدم القبول بأنصاف الحلول، ورفض فكرة الالتقاء في وسط الطريق بين أهل الحق وأهل الباطل، لأن هذه السياسة العقيمة - فضلاً عن بطلانها شرعًا - من شأنها دومًا، أن تعمل على طمس هوية أهل الحق، وتمييع دورهم، وتفريغ هدفهم من محتواه الحقيقي، والقضاء على قضيتهم، والنتيجة المتحتمة والمترتبة على ذلك، هى عجز وقصور أهل الحق عن جهاد أهل الباطل، وإبطال قضاياهم المنحرفة، والتدليل على عدم مشروعيتها، وهذا من أعظم ما يؤمله أهل الضلال ويريدونه. - اتباع سياسة حكيمة راشدة في إخماد البدع، ومحاربة محدثات الأمور، لا سيما بدعة الإرجاء الخبيثة بدركاتها المختلفة، وما تمخض عنها، من تحلل عن الشرائع، وانغماس مزري في وحل الكفر والفسوق والعصيان، وكذا إصباغ الشرعية على كل قوى الطغيان، بدعوى أن أصحابها يقولون: «لا إله إلاَّ الله»؛ والإيمان العاصم للدماء والأموال - في زعمهم - لا يكون

إلاَّ بمجرد نطقها، مع التصديق الكامل بها!!! وها نحن نرى اليوم ربيب الإرجاء الخبيث، الذي نما وترعرع في حضانته، وتحصن بحصنه - الغير حصين - ألا وهو العلمانية الخبيثة ذات الظلال العفنة والظلمات المتراكمة. وكل ذلك كان بسبب عدم مواجهة الحركة الإسلامية لآثار الإرجاء العقيمة، ومقارعة أقطابه، وبيان فساد منهجه، وخطورة ردود أفعاله على الإسلام والمسلمين. - الحرص الشديد على التسلح بالدليل، ومنازلة الحجة بالحجة، ومقارعة البرهان بالبرهان، مع رفض التقليد، وإباء الاتباع المذموم، ومن ثمّ خرَّجت هذه الدعوة - بفضل الله سبحانه - العامي الراسخ في دينه، والذي يغلي بحق ألفًا من علماء المشركين، ناهيك عن العلماء والحفاظ والدعاة وطلبة العلم، الذين خرجوا وما زالوا يتخرجون من جامعة هذا التراث. - هذه الدعوة تمثل امتدادًا ضاربًا في أعماق التاريخ، لمدرسة العالم الرباني، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية الحراني الدمشقي، ومن ورائه تلميذه الإمام العلاَّمة ابن قيم الجوزية. وبأدنى نظر في تراث شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نجد أن كل، أو جل مسائله، ودلائله وردوده، وتقريراته، مستقاة كاملة، أو شبه كاملة من تراث شيخ الإسلام إمام الأئمة، جهبذ الجهابذة، أحمد ابن تيمية رحمهما الله تعالى، ولقد صدقت كلمة أحد المستشرقين حيث قال: لقد ترك شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ألغامًا، فجر بعضها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، نسأل الله أن يعين العلماء الربانيين، والدعاء المخلصين على تفجير ينابيع الحكمة، وأنوار الهدى، الساطعة من تراثه الطاهر.

منهجي في البحث: لقد كان نصب عيني منذ الوهلة الأولى للشروع في هذا الكتاب، أن تعرض أصوله، وقواعده، وردوده، ونتائجه دون أدني شائبة تَدَخُّل، أو وصاية على ما قرره هؤلاء الأئمة الأعلام، من أحكام وتقريرات، لتبقى بصماتهم، عالية وكاملة وظاهرة عليها؛ لأني على قناعة تامة، بحاجة الأمة الضرورية، إلى ما قررته أئمتها الأعلام، وعلماؤها الربانيون، لكن بشرط عزيز، وهو أن تعرض كاملة، وواضحة، ومركزة، وبأمانة تامة، دون أي حذف، أو شطب، أو اختزال لشيء غير مراد من تراثهم، وما سطرته أيديهم. ولذلك فقد كان همي الأكبر في هذا المقام، أن يقدم هذا الإرث الطاهر للأمة الإسلامية في صورة منهج أصيل متكامل كما كان في حس صاحبه ومؤسسه الإمام محمد بن عبد الوهاب، وأحفاده وتلاميذه رحمهم الله جميعًا. ولقد قمت بتقسيم الكتاب إلى ثلاثة أبواب، الباب الأول جاء في: أصول التوحيد والإسلام والإيمان؛ والباب الثاني في: الشرك والمشركين؛ والباب الثالث في: الأحكام المترتبة على مفهوم التوحيد والشرك. وإفرادي للأحكام المترتبة على مفهوم التوحيد والشرك في جزء منفرد عن جزئي التوحيد والشرك، من أجل أن يتم الفصل التام بين القيام بالتوحيد مع البراءة من الشرك، كعقيدة يجب القيام بها، ليتحقق بذلك أصل الدين، ويكون المرء به مسلمًا، وبين إجراء الأحكام المنبثق من تصور حَدَّي التوحيد والشرك، وطبيعة العلاقة بينهما، حتى لا يأتي الخلط، ويتم الدمج بين تحقيق أصل الدين من جهة وإجراء الأحكام من جهة أخرى، ووضعهما معًا في سلة واحدة، من حيث التأصيل، والتدليل، ودرجة المشروعية، ومن ثم تحل الطامة العظمى، والداهية الكبرى المتمثلة في الغلو المذموم في التكفير

وإخراج السواد الأعظم لجمهور المسلمين من دينهم وملتهم، بلا دليل ولا برهان، اللَّهم إلاَّ الزعم بأن إجراء الأحكام على المشركين والمرتدين من صلب وماهية أصل الدين، تلك الدعوى المفتراة التي لم يقم عليه صحتها دليل صحيح صريح من الكتاب، أو السنَّة، بفهم أصحاب الثلاثة القرون الأولى المفضلة، ولا إجماعهم المعصوم، الواجب الاتباع. وعندنا نقرر هذا، فينبغي أن نقرر ونعلن في مقابله: أن العلماء قد عدّوا عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح مذهبهم، ناقضًا من نواقض الإسلام، المبيحة للدم والمال، ولكن هناك فرقًا كبيرًا، وبونًا شاسعًا، بين أن يكون إجراء الأحكام على المشركين بإطلاق أصلاً من أصول الدين، وبين أن يكون في بعض مناطاته وصوره، ناقضًا من نواقض الإسلام، يخضع في ذلك لتوفر شروط التكفير، وانتفاء موانعه، التي قررها الصحابة والتابعون، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم، لا أهل الإرجاء والتجهم الحديث والمعاصر، الذين يريدون غلق هذا الباب، وطي هذا الملف، حتى تمنى كثير منهم عدم الخوض في هذه القضية، أو الحديث عنها، أو سماعها، لئلا تقسو القلوب، وتزل الأقدام في الوقوع في المحذور، هكذا زعموا! ولا يفوتني في هذا المقام، أن أعلن البراءة من كلٍ من منهجي الخوارج والمرجئة، والتحذير المتكرر للأمة من عاقبة شؤم بدعتهما، وآثارهما السيئة، ولكن انطلاقًا من معالم منهج أهل السنَّة والجماعة، الذي يريد الخير الدائم لكل الناس، ينبغي علينا دومًا أن نرفع أكف الضراعة لله الهادي إلى سواء الصراط أن يهدينا وسائر إخواننا - المغالين والمفرطين - للصواب، وأن يجنبنا جميعًا الكفر، والزلل، والبدع، ومحدثات الأمور. * * *

التقسيم الموضوعي للكتاب: لقد جاء الكتاب مقسمًا إلى ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أصول التوحيد والإسلام والإيمان وفيه مقدمة، وتسعة فصول: المقدمة في: أحوال المشركين بين التبديل والتغيير. الفصل الأول: حقيقة الإسلام وشروط قبوله. الفصل الثاني: حقيقة التوحيد، وأركانه، ومقتضياته، وأنواعه. الفصل الثالث: كيفية الإيمان بالرسالة، وتحقيق أركانها ومقتضياتها. الفصل الرابع: أصول الإيمان، ومقتضياته، ولوازمه. الفصل الخامس: الطاغوت، وصفة الكفر به. الفصل السادس: الحكم لله وحده لا شريك له، وحكم من بدل شرائع الإسلام، أو حكم بغير ما أنزل الله. الفصل السابع: حقيقة الولاء والبراء. الفصل الثامن: الأسماء والصفات، ومنهج السلف في الإيمان بها. الفصل التاسع: القضاء والقدر، ومنهج السلف في الإيمان به. * * * الباب الثاني: الشرك والمشركون وفيه ثمانية فصول: الفصل الأول: حد الشرك، ودرجاته، وأنواعه وأحكامه، مع بيان علة عدم مغفرته، ووجوب الحذر منه. الفصل الثاني: العلم سبيل النجاة من الشرك، وإلاَّ وقع بالجهل، والتلبيس وتغيير الحقائق.

الفصل الثالث: الفتنة بالقبور، والمفاسد المترتبة عليها، مع الرد على أشهر شبهات أهلها. الفصل الرابع: الشفاعة، وأنواعها، وشروطها، وأسباب تحصيلها، والحرمان منها. الفصل الخامس: المشرك مغبون في دينه لإخلاله بكل قيود الكلمة العاصمة، إلاَّ مجرد التلفظ بها. الفصل السادس: أشهر شبهات المشركين وعلمائهم، مع سهام الردود عليها. الفصل السابع: الأدلة الجلية من الشريعة الربانية، على كفر من عبد غير الله تعالى. الفصل الثامن: علة قتال المشركين، ووجوب البراءة منهم، وحكم الدار إذا غلبت عليها أحكام الشرك. * * * الباب الثالث: الأحكام المترتبة على مفهوم التوحيد والشرك وفيه تسعة فصول: الفصل الأول: شروط عصمة الدم والمال. الفصل الثاني: حكم الشك في كفر الكافر، وصوره. الفصل الثالث: العذر بالجهل. الفصل الرابع: العلاقة بين إقامة الحجة، والكفر وأحكامه. الفصل الخامس: أنواع الكفر، وحكم تكفير المعين. الفصل السادس: أحكام الديار. الفصل السابع: أحكام القتال، ومشروعية الجهاد.

الفصل الثامن: نواقض الإسلام، وأحكام الردة والمرتدين. الفصل التاسع: أشهر الشبهات المثارة على أئمة الدعوة، والردّ الوافر عليها. * * * ولقد كانت الفكرة السائدة في هذا الكتاب من أوله إلى آخره، تكمن في تقسيم كل فصل من فصوله إلى عدة مباحث، يبدأ كل واحد منها بعنوان، يبين المراد منه، وحرصت على أن يكون معناه مستنبطًا من الأفكار الأساسية، والقواعد المنهجية التي جاءت ضمن النقول، تحت هذا المبحث، وإذا قمت بإيراد نقل مطول، لتقرير أي مسألة من المسائل، فعندئذ أقوم بإدخال عنوان جانبي، بين معكوفتين ()، مرة، أو عدة مرات، بحسب الحاجة الداعية إليه، من أجل سهولة الاستفادة، ودوام التركيز للقارئ النجيب، لكل فقرة من فقرات النقل. وأود التنويه إلى أن المقصود بالأصالة في هذا الكتاب، هو بيان معتقد أئمة الدعوة، في كل مسألة من مسائله، وتقرير من تقريراته، ودائمًا ما كنت آتي بالتبع في ختام كل فصل، ـ بنقل، أو عدة نقول، عن الأئمة المعاصرين، من أمثال: أعضاء اللجنة الدائمة، وهيئة كبار العلماء، وأعضاء الإفتاء، حتى يتضح اتحاد الطريق، واستمرارية المسير في تقرير المسائل العلمية، الحاكمة على المسائل العملية، والقائدة لها. * * *

ترجمة الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى -

ترجمة الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى، وأسكنه فسيح جناته في ترجمة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وأبنائه وأحفاده وأتباعه - رحمهم الله جميعًا -، وفي التعريف بحقيقة دعوة الشيخ، وحجم الصراع بينه وبين خصومه، مع بيان أسبابه الحقيقية، فقال رحمه الله تعالى: «الحمد لله رب العالمين، وصلَّي الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه. أما بعد: أيها الإخوان الفضلاء، أيها الأبناء الأعزاء، هذه المحاضرة الموجزة أتقدم بها بين أيديكم تنويرًا للأفكار، وإيضاحًا للحقائق، ونصحًا لله ولعباده، وأداء لبعض ما يجب عليَّ من الحق نحو المحاضَرِ عنه، وهذه المحاضرة عنوانها: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، دعوته وسيرته ... رأيت أن أتحدث إليكم عن رجل عظيم، ومصلح كبير، وداعية غيور، ألا وهو الشيخ المجدد للإسلام في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية، وهو الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن على التميمي الحنبلي. لقد عرف الناس هذا الإمام ولا سيما علماؤهم ورؤساؤهم، وكبراؤهم وأعيانهم في الجزيرة العربية وفي خارجها، ولقد كتب الناس عنه كتابات كثيرة ما بين موجز وما بين مطول، ولقد أفرده كثير من الناس بكتابات، حتى المستشرقون كتبوا عنه كتابات كثيرة، وكتب عنه آخرون في أثناء كتاباتهم عن المصلحين، وفي أثناء كتاباتهم في التأريخ، وصفه المنصفون منهم بأنه

مصلح عظيم، وبأنه مجدد للإسلام، وبأنه على هدى ونور من ربه، وإن تعدادهم يشق كثيرًا. ومن جملتهم المؤلف الكبير أبو بكر الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، فقد كتب عن هذا الشيخ فأجاد وأفاد، وذكر سيرته وذكر غزواته، وأطنب في ذلك وكتب كثيرًا من رسائله، واستنباطاته من كتاب الله عز وجل، ومنهم أيضًا الشيخ عثمان بن بشر في كتابه «عنوان المجد»، فقد كتب عن هذا الشيخ أيضًا، وعن دعوته، وعن سيرته، وعن تأريخ حياته، وعن غزواته وجهاده. ومنهم خارج الجزيرة: الدكتور أحمد أمين في كتابه «زعماء الإصلاح» فقد كتب عنه وأنصف، ومنهم الشيخ الكبير مسعود الندوي، فقد كتب عنه وسماه: «المصلح المظلوم»، وكتب عن سيرته وأجاد في ذلك. وكتب عنه أيضًا آخرون، منهم الشيخ الكبير الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني، فقد كان في زمانه، وقد كان على دعوته، فلما بلغه دعوة الشيخ سرَّ بها وحمد الله عليها، وكذلك كتب عنه العلامة الكبير الشيخ محمد بن على الشوكاني، صاحب نيل الأوطار، ورثاه بمرثية عظيمة، وكتب عنه جمع غير هؤلاء يعرفهم القراء والعلماء ... ولد هذا الإمام في عام 1115 هـ، هذا هو المشهور في مولده رحمة الله عليه، وقيل: في عام 1111 هـ، والمعروف الأول: أنه ولد في عام 1115 هـ على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل التحية، وتعلم على أبيه في بلدة العيينة، وهذه البلدة هى مسقط رأسه رحمة الله عليه، وهى قرية معلومة في اليمامة في نجد، شمال غرب مدينة الرياض، بينها وبين الرياض مسيرة سبعين كيلو متر. ولد فيها رحمة الله عليه، ونشأ نشأة صالحة، وقرأ القرآن مبكرًا، واجتهد في الدراسة والتفقه على أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان، وكان فقيهًا

كبيرًا، وكان عالمًا قديرًا، وكان قاضيًا في بلدة العيينة، ثم بعد بلوغ الحلم حج وقصد بيت الله الحرام، وأخذ عن بعض علماء الحرم الشريف، ثم توجه إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فاجتمع بعلمائها، وأقام فيها مدة، وأخذ من عالمين كبيرين مشهورين في المدينة ذلك الوقت، هما: الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي، أصله من المجمعة، وهو والد الشيخ إبراهيم بن عبد الله صاحب العذب الفائض في علم الفرائض، وأخذ أيضًا عن الشيخ الكبير محمد حياة السندي بالمدينة، هذان العالمان ممن اشتهر أخذ الشيخ عنهما بالمدينة، ولعله أخذ عن غيرهما ممن لا نعرف. ورحل الشيخ لطلب العلم إلى العراق، فقصد البصرة واجتمع بعلمائها، وأخذ عنهم ما شاء الله من العلم، وأظهر الدعوة هناك إلى توحيد الله، ودعا الناس إلى السنة، وأظهر للناس أن الواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا دينهم عن كتاب الله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وناقش وذاكر في ذلك، وناظر من هنالك من العلماء، واشتهر من مشايخه هناك شخص يقال له: الشيخ محمد المجموعي، وقد ثار عليه بعض علماء السوء بالبصرة، وحصل عليه وعلى شيخه المذكور بعض الأذى، فخرج من أجل ذلك، وكان من نيته أن يقصد الشام، فلم يقدر على ذلك لعدم وجود النفقة الكافية، فخرج من البصرة إلى الزبير، وتوجه من الزبير إلى الأحساء، واجتمع بعلمائها وذاكرهم في أشياء من أصول الدين، ثم توجه إلى بلدة حريملاء وذلك - والله أعلم - في العقد الخامس من القرن الثاني عشر؛ لأن أباه كان قاضيًا في العيينة، وصار بينه وبين أميرها نزاع، فانتقل عنها إلى حريملاء بعد انتقاله إليها سنة 1139 هـ، فقدم الشيخ محمد على أبيه في حريملاء بعد انتقاله إليها سنة 1139 هـ، فيكون قدومه حريملاء في عام 1140 هـ أو ما

بعدها، واستقر هناك، ولم يزل مشتغلاً بالعلم والتعليم والدعوة في حريملاء حتى مات والده عام 1153 هـ، فحصل من بعض أهل حريملاء شر عليه، وهمَّ بعض السفلة بها أن يفتك به، وقيل إن بعضهم تسوَّر عليه الجدار، فعلم بهم بعض الناس فهربوا، وبعد ذلك ارتحل الشيخ إلى العيينة رحمة الله عليه. وأسباب غضب هؤلاء السفلة عليه أنه كان آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، وكان يحث الأمراء على تعزير المجرمين، الذين يعتدون على الناس بالسلب والنهب والإيذاء، هؤلاء السفلة الذين يقال لهم العبيد هناك، ولما عرفوا من الشيخ أنه ضدهم، وأنه لا يرضى بأفعالهم، وأنه يحرض الأمراء على عقوباتهم، والحد من شرهم؛ غضبوا عليه وهموا أن يفتكوا به، فصانه الله وحماه. (وتكلم الشيخ عن محن الإمام وتنقله من بلد إلى أخرى داعيًا ومجاهدًا حتى جمعه الله بالأمير محمد بن سعود فقال): فبلغ محمد بن سعود خبر الشيخ محمد، ويقال إن الذي أخبره زوجته، جاء إليها بعض الصالحين، وقال لها: أخبري محمدًا بهذا الرجل، وشجعيه على قبول دعوته، وحرضيه على مؤازرته ومساعدته، وكانت امرأة صالحة طيبة، فلما دخل عليها محمد بن سعود أمير الدرعية وملحقاتها، قالت له: أبشر بهذه الغنيمة العظيمة! هذه غنيمة ساقها الله إليك، رجل داعية يدعو إلى دين الله، يدعو إلى كتاب الله، يدعو إلى سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يا لها من غنيمة! بادر بقبوله، وبادر بنصرته، ولا تقف في ذلك أبدًا. فقبل الأمير مشورتها، ثم تردَّد هل يذهب إليه أو يدعوه إليه؟! فأشير عليه، ويقال إن المرأة أيضًا هى التي أشارت عليه مع جماعة من الصالحين، وقالوا له: لا ينبغي أن تدعوه إليك، بل ينبغي أن تقصده في منزله وأن

تقصده أنت، وأن تعظم العلم والداعي إلى الخير. فأجاب إلى ذلك لما كتب الله له من السعادة والخير رحمة الله عليه، وأكرم مثواه، فذهب إلى الشيخ في بيت محمد بن سويلم وقصده وسلم عليه وتحدث معه، وقال له: يا شيخ محمد، أبشر بالنصرة، وأبشر بالأمن، وأبشر بالمساعدة، فقال له الشيخ: وأنت أبشر بالنصرة أيضًا، والتمكين والعاقبة الحميدة، هذا دين الله من نصره نصره الله، ومن أيده أيده الله، وسوف نجد آثار ذلك سريعًا، فقال: يا شيخ، سأبايعك على دين الله ورسوله، وعلى الجهاد في سبيل الله، ولكنني أخشى إذا أيدناك ونصرناك وأظهرك الله على أعداء الإسلام أن تبتغي غير أرضنا، وأن تنقل عنا إلى أرض أخرى، فقال: لا؛ أبايعك على هذا، أبايعك على أن الدم بالدم، والهدم بالهدم، لا أخرج عن بلادك أبدًا. (وتحدث الشيخ عن دعوة الإمام وجهاده حتى وفاته - رحمه الله تعالى - إلى أن قال): ثم بعد وفاة الشيخ رحمة الله عليه، استمر أبناؤه وأحفاده، وتلاميذه وأنصاره في الدعوة والجهاد، وعلى رأس أبنائه الشيخ الإمام عبد الله بن محمد، والشيخ حسين بن محمد، والشيخ علي بن محمد، والشيخ إبراهيم بن محمد، ومن أحفاده الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ علي بن حسن، والشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد، وجماعة آخرون، ومن تلاميذه أيضًا الشيخ حمد ابن ناصر بن معمر، وجمع غفير من علماء الدرعية وغيرهم، واستمروا في الدعوة والجهاد، ونشروا دين الله تعالى، وكتابة الرسائل وتأليف المؤلفات، وجهاد أعداء الدين، وليس بين هؤلاء الدعاة وخصومهم شيء، إلاَّ أن هؤلاء دعوا إلى توحيد الله وإخلاص العبادة لله عزَّ وجلّ،

والاستقامة على ذلك، وهدم المساجد والقباب التي على القبور، ودعوا إلى تحكيم الشريعة والاستقامة عليها، ودعوا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود الشرعية، هذه أسباب النزاع بينهم وبين الناس» (¬1). هذا آخر ما تيسر كتابته في هذه المقدمة؛ والآن نفسح المجال للقارئ العزيز للدخول بخطى ثابتة ومتأنية وراسخة، لفهم وإدراك: أصول وقواعد وأهداف وغايات هذا التراث. * * * ¬

(¬1) الإمام محمد بن عبد الوهاب دعوته وسيرته (5 - 34).

الباب الأول أصول الإسلام والتوحيد والإيمان

الباب الأول أصول الإسلام والتوحيد والإيمان وفيه مقدِّمة وتسعة فصول: المقدِّمة: أحوال المشركين بين التبديل والتغيير. الفصل الأول: حقيقة الإسلام وشروط قبوله. الفصل الثاني: حقيقة التوحيد وأركانه ومقتضياته وأنواعه. الفصل الثالث: كيفية الإيمان بالرسالة، وتحقيق أركانها ومقتضاتها. الفصل الرابع: أصول الإيمان ومقتضياته ولوازمه. الفصل الخامس: الطاغوت وصفة الكفر به. الفصل السادس: الحكم لله وحده لا شريك له. الفصل السابع: حقيقة الولاء والبراء. الفصل الثامن: الأسماء والصفات ومنهج السلف في الإيمان بها. الفصل التاسع: القضاء والقدر ومنهج السلف في الإيمان به.

مقدمة أحوال المشركين بين التبديل والتغيير

مقدمة أحوال المشركين بين التبديل والتغيير (مدخل ضروري وهام لفهم وبيان قضية التوحيد) وفيه مبحثان: المبحث الأول: لقد ملأ الشرك الأرض قاصيها ودانيها، وللشيطان ما يبذل من أهله، وليس للرحمن من ذلك نصيب. المبحث الثاني: لقد دار الناس مع أسماء قد خلت من حقائقها ومدلولاتها، ولم يقفوا مع المعاني التي تعلَّقت بها الأحكام، فعاد بذلك الشرك والتنديد، واستغنى أهله به عن الإخلاص والتوحيد.

المأمول من هذه المقدمة

المأمول من هذه المقدّمة أن تقف الأمة بعلمائها ودعاتها ومفكريها وعبَّادها وعوامها، على المصيبة العظمى والداهية الكبرى للتردِّي المزري المشين الذي يصيب الأمة حال انتشار الشرك بين أرجائها وفورانه بين جنباتها ومن ثم ولا بد تأتي النتيجة المتمثلة في غياب التوحيد، وطمس معالمه وردم حدوده. فانتشار الشرك مؤذن بضياع هوية الأمة، لأن الهوية الوحيدة التي تجمعنا وترتب صفوفنا، ويدور حولها ولاؤنا وبراؤنا، هى قضية التوحيد. «فالتوحيد» حل محلّ: العصبية الجاهلية، والقومية العربية، والوحدة الوطنية ... وكافة شعائر الكفر، وأعلام الشرك، ونجوم الزندقة. فإذا ضاع التوحيد، أصبح نهارنا كليلنا، ونورنا كظلماتنا. ولا رجعة لنا من التيه الذي ضرب بأطنابه حولنا، إلاَّ بالرجوع المنشود للمَعين الصافي، الذي يتمثل في: الكتاب، والسنَّة، مع الترجمة العملية لهما من أصحاب الثلاثة القرون الأولى، ننهل منها عقائدنا، ونستمد شريعة وجودنا، ونستلهم معالم طريقنا، وحدود قضيتنا، وكيفية إعادة بناء صفوفنا، حتى نستطيع الانطلاق الصحيح الحثيث على ضوء ديننا الحنيف، وعلى هدي رعيلنا الأول، للقيام بدورنا أولاً تجاه أنفسنا، وثانيًا حيال البشرية كلها من حولنا. وأول أعلام الطريق، ومنارات السبيل، هو القيام بالإخلاص والتوحيد، والقضاء على الشرك والتنديد. وإليكم الدليل والبرهان على كل ما تقدم من الآمال والآلام.

المبحث الأول لقد ملأ الشرك الأرض، قاصيها ودانيها، وللشيطان ما يبذل من أهله، وليس للرحمن من ذلك نصيب

المبحث الأول لقد ملأ الشرك الأرض، قاصيها ودانيها، وللشيطان ما يبذل من أهله، وليس للرحمن من ذلك نصيب قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في بيان أحوال الأمة، وما أصابها من الشرك الذي ضرب بأطنابه وجذوره في كافة بلدان المسلمين، قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب رحمهم الله جميعًا. «كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان، قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملَّة الحنيفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد، والإعراض عن السنَّة والقرآن، وشبَّ الصغير، وهو لا يعرف من الدين إلاَّ ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة؛ ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهَّان، والطواغيت، مقبولة غير مردودة، ولا مدفوعة، قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدُّوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق على غير الله، من الأولياء، والصالحين، والأوثان، والأصنام، والشياطين ... (حالة بلاد نجد) فأما بلاد نجد: فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجدَّ، وكانوا ينتابون: قبر زيد بن الخطاب، ويدعونه رغبًا ورهبًا، بفصيح الخطاب، ويزعمون أنه

يقضي لهم الحوائج، ويرونه من أكبر الوسائل والولائج، وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر: ضرار بن الأزور، وذلك كذب ظاهر، وبهتان مزرو (¬1) ... (حالة بلاد الحرمين آنذاك) حتى بلاد الحرمين الشريفين! فمن ذلك: ما يفعل عند قبر محجوب؛ وقبَّة أبى طالب، فيأتون قبره بالشماعات والعلامات، للاستغاثة عند نزول المصائب، وحلول النواكب، وكانوا له في غاية التعظيم، وما لا يجب عند البيت الكريم! فلو دخل سارق، أو غاصب، أو ظالم قبر أحدهما، لم يتعرض له أحد، لما يرون له من وجوب التعظيم، والاحترام، والمكارم ... (حالة بلاد الطائف) وفي الطائف: قبر ابن عباس رضي الله عنهما، يفعل عنده من الأمور الشركية التى تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكره قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية، وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين، منها: وقوف السائل عند القبر متضرِّعًا مستغيثًا، وإبداء الفاقة إلى معبودهم، مستكينًا مستعينًا، وصرف خالص المحبة التى هى محبة العبودية، والنذر والذبح لمن تحت ذاك المشهد، والبنية. وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالأسواق: اليوم على الله وعليك يا ابن عباس، فيستمدون منه الرزق، والغوث، وكشف الضر، والبأس ... كذلك ما يفعل بالمدينة المشرَّفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، هو من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل، وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حدَّه، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حوّاء؛ وضعه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام، ¬

(¬1) هكذا في الأصل، ولعلها (مزوَّر).

وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد عليه أفصل الصلاة والسلام، من النهي عن تعظيم القبور، والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام ... (حالة بلاد مصر) وأما بلاد مصر، وصعيدها، وفيُّومها، وأعمالها، فقد جمعت من الأمور الشركية، والعبادات الوثنية، والدعاوى الفرعونية، ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد: أحمد البدوي، وأمثاله من المعتقَدين المعبودين، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم؛ وجمهورهم يرى: من تدبير الربوبية، والتصريف في الكون بالمشيئة، والقدرة العامة، ما لم ينقل مثله عن أحد من الفراعنة والنماردة ... (حالة أهل اليمن) كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن؛ ففي صنعاء، وبرع، والمخا، وغيرها من تلك البلاد، ما يتنزَّه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه؛ ناهيك بقوم: استخفَّهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن، إلى عبادة القبور والشيطان؛ فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم. وفي حضرموت، والشحر، وعدن، ويافع، ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس! شيء لله يا محيي النفوس! وفي أرض نجران، من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان، ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن، كذلك رئيسهم المسمَّى: بالسيد، لقد أتوا من طاعته وتعظيمه، وتقديمه وتصديره، والغلو فيه، بما أفضى بهم إلى مفارقة الملَّة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان والأصنام: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا

لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. (حالة بلاد الشام والعراق) وكذلك، حلب، ودمشق، وسائر بلاد الشام، فيها من تلك المشاهد، والنُّصب، والأعلام، ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام، من أتباع سيد الأنام، وهى: تقارب ما ذكرنا من الكفريات المصرية، والتلطخ بتلك الأحوال الوثنية الشركية. وكذلك: الموصل، وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد؛ وفي العراق: من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان، وعندهم المشهد الحسيني، قد اتخذه الرافضة وثنًا، بل ربًا مدبِّرًا، وخالقًا ميسِّرًا، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية ... وكذلك جميع قرى الشط؛ والمجرة، على غاية من الجهل، وفي القطيف، والبحرين، من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملَّة الحنيفية» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 387 - 386).

المبحث الثاني لقد دار الناس مع أسماء، قد خلت من حقائقها ومدلولاتها ولم يقفوا مع المعاني التي تعلقت بها الأحكام فعاد بذلك: الشرك والتنديد، واستغنى أهله به عن الإخلاص والتوحيد

المبحث الثاني لقد دار الناس مع أسماء، قد خلت من حقائقها ومدلولاتها ولم يقفوا مع المعاني التي تعلقت بها الأحكام فعاد بذلك: الشرك والتنديد، واستغنى أهله به عن الإخلاص والتوحيد قال عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: «وتلطف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين، بأن دسَّ عليهم تغيير الأسماء والحدود الشرعية، والألفاظ اللغوية، فسموا الشرك وعبادة الصالحين: توسُّلاً ونداء، وحسن اعتقاد في الأولياء، وتشفعًا بهم، واستظهارًا بأرواحهم الشريفة؛ فاستجاب له صبيان العقول، وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء، ولم يقفوا مع الحقائق. فعادت عبادة الأولياء والصالحين، ودعاء الأوثان والشياطين، كما كانت قبل النبوة، وفي زمان الفترة حذو النعل بالنعل، وحذو القذَّة بالقذَّة، وهذا من أعلام النبوة، كما ذكره غير واحد، ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد، حتى عمَّ ضرره، وبلغ شرره الحاضر والباد» (¬1). وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين - رحمه الله تعالى -: «فإذا علم الإنسان، وتحقق معنى الإله وأنه: المعبود، وعرف حقيقة العبادة، تبين له أن من جعل شيئًا من العبادة لغير الله فقد عبده واتخذه إلهًا، وإن فرّ من تسميته معبودًا أو إلهًا، وسمى ذلك: توسلاً وتشفعًا والتجاء ¬

(¬1) «الدرر السنية في الأجوبة النجدية»: (12/ 283).

ونحو ذلك. فالمشرك مشرك شاء أم أبى؛ كما أن المرابي مراب شاء أم أبى؛ وإن لم يسم ما فعله ربا؛ وشارب الخمر شارب للخمر، وإن سماها بغير اسمها» (¬1). (لقد بلغ المشركون حدًا في شركهم، يربو على شرك أهل الجاهلية الأولى) قال عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: ونذكر لك هنا طرفًا من معتقد عباد القبور والصالحين، وحقيقة ما هم عليه من الدين، وليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن، إن كان الواقف ممن اختصه الله بالفضل والمنّ، ولئلا يلتبس الأمر بتسميتهم لكفرهم ومحالهم: تشفُّعًا وتوسُّلاً واستظهارًا، مع ما في التسمية من الهلاك المتناهي عند من عقل الحقائق. من ذلك محبتهم مع الله محبة تأله وخضوع ورجاء، ودعاؤهم مع الله في المهمَّات والملمَّات والحوادث التي لا يكشفها ولا يجيب الدعاء فيها إلاَّ فاطر الأرض والسماوات والعكوف حول أجداثهم، وتقبيل أعتابهم، والتمسح بآثارهم، طلبًا للغوث، واستجابة للدعوات وإظهارًا للفاقة، وإبداء للفقر والضراعة، واستنزالاً للغوث والأمطار، وطلبًا للسلامة من شدائد البر والبحار، وسؤالهم تزويجهم الأرامل والأيامى، واللطف بالضعفاء واليتامى، والاعتماد عليهم في المطالب العالية، وتأهيلهم لمغفرة الذنوب والنجاة من الهاوية، وإعطاء تلك المراتب السامية» (¬2). هذه هي بإيجاز أحوال المشركين في عصر الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وما دهاهم من التردِّي المشين في أوحال الشرك الوخيم. ¬

(¬1) «عقيدة الموحدين» - رسالة الانتصار لحزب الله الموحدين ـ: (ص 12). (¬2) «منهاج التأسيس والتقديس»: (50 - 51).

ولقد آثرت هذه البداية، لتتجلى بها قضية التوحيد - لأنه بالضد تعرف الأشياء -، وليدرك العلماء والدعاة والمربون: خطورة الموقف وعظم المقام، عندما يُغيّب التوحيد، ويحل محله الشرك والتنديد برب العالمين، ومن ثمّ تعلو راية الشرك خفاقة، وينجم علم الزندقة فوق رءوس الأمة، ويلوح بهما في وجه الموحِّدين نكاية بهم، وضربة موجعة لكيانهم وصفوفهم ... والحاصل أن ما تقدم ينبئ بحاجة الأمة الماسَّة لمعرفة التوحيد، والحد الحقيقي من الديانة، الذي ينبغي القيام به حتى تتحقق النجاة الحقيقية ويتسنى للأمة القيام بدورها المناط بها، والمراد لها. ولهذا ولغيره الكثير سوَّد علماء وأئمة الأمة كتبهم في جلاء قضية التوحيد، لبناء حائط الصدر الشامخ، الذي يقي الأمة الضربات المتلاحقة من قبل أعدائها، ويضمن لها استمرارية البقاء في حلبة الصراع، عن طريق الجهاد الحثيث، المتواصل، للحفاظ على عقيدة المسلمين صافية، من زيف وبطلان دعاوى أهل الشرك والإلحاد. * * *

الفصل الأول حقيقة الإسلام وشروط قبوله

الفصل الأول حقيقة الإسلام وشروط قبوله وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: حقيقة الإسلام الفارقة بين الموحِّدين المسلمين، والمشركين الكافرين المبحث الثاني: شروط صحة الإسلام وقَبوله. المبحث الثالث: البراءة من الشرك وأهله، شرط في صحة الإسلام وقَبوله بالإجماع.

المبحث الأول حقيقة الإسلام الفارقة بين الموحدين المسلمين والمشركين الكافرين

المبحث الأول حقيقة الإسلام الفارقة بين الموحدين المسلمين والمشركين الكافرين قال الإمام محمد بن عبد الوهاب معرِّفًا الإسلام: «هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله» (¬1). وقال أيضًا - رحمه الله -: «وأصله - أي الإسلام - وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والموالاة فيه، وتكفير من تركه؛ والإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله» (¬2). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله تعالى -: «لا يصح لأحد إسلام إلاَّ بمعرفة ما دلَّت عليه هذه الكلمة - أي كلمة التوحيد - من نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه وممن فعله ومعاداته، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والموالاة في ذلك» (¬3). وقال عبد الله وإبراهيم ابنا عبد اللطيف، وسليمان بن سمحان - رحم الله الجميع -: حقيقة الإسلام التي بعث الله بها رسله الكرام، ودعوا إليها تتمثل في: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له، وأن لا يشرك في ¬

(¬1) «الدرر السنية في الأجوبة النجدية»: (1/ 129). (¬2) «الدرر السنية»: (2/ 153). (¬3) «مجموع الرسائل والمسائل»: (5/ 547).

واجب حقه أحد من خلقه، وأن يوصف بما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال. فمن خالف ما جاءوا به، ونفاه وأبطله، فهو كافر ضال، وإن قال: لا إله إلاَّ الله، وزعم أنه مسلم، لأن ما قام به من الشرك يناقض ما تكلَّم به من كلمة التوحيد، فلا ينفعه التلفظ بقول: لا إله إلاَّ الله، لأنه تكلَّم بما لم يعمل به، ولم يعتقد ما دلّ عليه» (¬1). اهـ. وقال إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن - رحمهم الله تعالى -: «قال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: ومجرَّد الإتيان بلفظ الشهادة، من غير علم بمعناها، ولا عمل بمقتضاها، لا يكون به المكلَّف مسلمًا؛ بل هو حجة على ابن آدم، خلافًا لمن زعم أن الإيمان مجرَّد: الإقرار» (¬2). وقال الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، مفتي الديار النجدية في وقته - رحمه الله تعالى -: «فإن كثيرًا من الناس ينتسبون إلي الإسلام، وينطقون بالشهادتين، ويؤدُّون أركان الإسلام الظاهرة، ولا يُكتفى بذلك في الحكم بإسلامهم، ولا تحل ذكاتهم لشركهم بالله في العبادة بدعاء الأنبياء والصالحين، والاستغاثة بهم وغير ذلك من أسباب الردة عن الإسلام. وهذا التفريق بين المنتسبين إلى الإسلام، أمر معلوم بالأدلة من الكتاب والسنَّة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها» (¬3). * * * ¬

(¬1) «عقيدة الموحِّدين»: (ص 451) بتصرف. (¬2) «الدرر السنية»: (1/ 522 - 523). (¬3) «عقيدة الموحِّدين»: (ص 392).

المبحث الثاني شروط صحة الإسلام وقبوله

المبحث الثاني شروط صحة الإسلام وقبوله قال الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى -: اعلم رحمك الله: أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد، وبالحب والبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر، فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث، كفر وارتدَّ. مثال عمل القلب: أن يظن أن هذا الذي عليه أكثر الناس من الاعتقاد في الأحياء والأموات حق، ويستدل بكون أكثر الناس عليه، فهو كافر مكذِّب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يتكلَّم بلسانه، ولم يعمل إلاَّ بالتوحيد، وكذلك إذا شط، لا يدري من الحق معه، فهذا لو لم يكذب فهو لم يصدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو يقول عسى الله أن يبيِّن الحق، فهو في شك، فهو مرتد ولو لم يتكلَّم إلاَّ بالتوحيد. ومثال اللسان: أن يؤمن بالحق ويحبه، ويكفر بالباطل ويبغضه، ولكنه تكلَّم مداراة لأهل الأحساء، ولأهل مكة أو غيرهم بوجوههم، خوفًا من شرِّهم؛ وإما أن يكتب لهم كلامًا يصرِّح لهم بمدح ما هم عليه، أو بذكر أنه ترك ما هو عليه، ويظن أنه ماكر بهم، وقلبه موقن أنه لا يضره، وهذا أيضًا لغروره. وهو معنى قول الله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}، إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل: 106، 107]، فقط لا لتغير عقائدهم.

فمن عرف هذا، عرف أن الخطر، خطر عظيم شديد، وعرف شدة الحاجة للتعلم والمذاكرة، وهذا معنى قوله في الإقناع في الردة، نطقًا أو اعتقادًا أو شكًا أو فعلاً، والله أعلم» (¬1). وقال عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين - رحمه الله تعالى -: «الإقرار بتوحيد الربوبية، وهو أنَّ الله سبحانه خالق كل شيء ومليكه ومدبِّره، فهذا يُقرُّ به المسلم والكافر ولا بد منه، لكن لا يصير الإنسان به مسلمًا حتى يأتي بتوحيد الألوهية الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وبه يتميَّز المسلم من المشرك، وأهل الجنة من أهل النار» (¬2). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله - رحمهما الله تعالى -: «فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك، ولو قال: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله وصلَّى وصام، إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين: أن لا يعبد إلاَّ الله، فمن أتى بالشهادتين، وعبد غير الله، فما أتى بهما حقيقة، وإن تلفظ بهما، كاليهود الذين يقولون: لا إله إلا الله وهم مشركون. ومجرد التلفظ بالشهادتين لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناها، واعتقادها إجماعًا» (¬3). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله تعالى -: «فلا إله إلاَّ الله، هي: كلمة الإسلام لا يصح إسلام أحد إلاَّ بمعرفة ما ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 87، 88). (¬2) «عقيدة الموحدين والرد على الضلاَّل والمبتدعين» رسالة الانتصار لحزب الله الموحِّدين: (ص 11). (¬3) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 154، 155).

وضعت له، ودلَّت عليه، وقَبوله، والانقياد للعمل به، وهي كلمة الإخلاص المنافي للشرك، وكلمة التقوى» (¬1). وسُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء «فتوى رقم 10684»: س: ما هو الحدُّ الفاصل بين الكفر والإسلام، وهل من ينطق بالشهادتين ثم يأتي بأفعال تناقضهما يدخل في عداد المسلمين رغم صلاته وحياته؟ ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد: الحد بين الكفر والإسلام النطق بالشهادتين مع الصدق والإخلاص والعمل بمقتضاهما، فمن تحقق فيه ذلك فهو مسلم مؤمن. أما من نافق فلم يصدق ولم يخلص فليس بمؤمن، وكذا من نطق بهما وأتى بما يناقضهما من الشرك، مثل من يستغيث بالأموات في الشدَّة أو الرخاء، ومن يؤثر الحكم بالقوانين الوضعية على الحكم بما أنزل الله تعالى، ومن يهزأ بالقرآن أو ما ثبت من سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا كافر وإن نطق بالشهادتين وصلَّى وصام. وبالله التوفيق وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز (¬2) * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 246). (¬2) «فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء»: (2/ 45، 46).

المبحث الثالث البراءة من الشرك وأهله شرط في صحة الإسلام وقبوله بالإجماع

المبحث الثالث البراءة من الشرك وأهله شرط في صحة الإسلام وقبوله بالإجماع قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى -: «لا يصح دين الإسلام إلاَّ بالبراءة من هؤلاء - أي الطواغيت المعبودة من دون الله - وتكفيرهم، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256]» (¬1). وقال عبد الرحمن بن حسن: «أجمع العلماء سلفًا وخلفًا من الصحابة، والتابعين، والأئمة، وجميع أهل السنَّة، أن المرء لا يكون مسلمًا، إلاَّ بالتجرُّد من الشرك الأكبر، والبراءة منه وممن فعله، وبغضهم ومعاداتهم بحسب الطاقة والقدرة، وإخلاص الأعمال كلها لله، كما في حديث معاذ الذي في الصحيحين: «فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» (¬2). وقال عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: «إن أصل الإسلام وقاعدته هي: عبادة الله وحده لا شريك له، وإفراده بالقصد والطلب، وأن توحيد الربوبية واعتقاد الفاعلية له تعالى، لا يكفي في السعادة والنجاة، ولا يكون به المرء مسلمًا حتى يعبد الله وحده، ويتبرأ مما سواه من الأنداد والآلهة» (¬3). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 53). (¬2) «الدرر السنية»: (11/ 545). (¬3) «الدرر السنية»: (12/ 197، 198).

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وأنت يا من منَّ الله عليه بالإسلام، وعرف أن ما من إله إلاَّ الله؛ لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق، وأنا تارك ما سواه، لكن لا أتعرض للمشركين، ولا أقول فيهم شيئًا، لا تظن أنَّ ذلك يحصل لك بك الدخول في الإسلام، بل لا بدَّ من بغضهم، وبغض من يحبهم، ومسبتهم، ومعاداتهم؛ كما قال أبوك إبراهيم، والذين معه: {إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. ولو يقول رجل: أنا أتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على الحق، لكن لا أتعرَّض اللاَّت، والعُزَّى، ولا أتعرض أبا جهل وأمثاله، ما علىّ منهم؛ لم يصح إسلامه» (¬1). وقال أيضًا - رحمه الله -: ومعنى الكفر بالطاغوت: أن تبرأ من كل ما يعتقد فيه غير الله، من جني، أو إنسي، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك، وتشهد عليه الكفر والضلال، وتبغضه، ولو كان أنه أبوك أو أخوك، فأما من قال: أنا لا أعبد إلاَّ الله، وأنا لا أتعرض السادة والقباب على القبور وأمثال ذلك، فهذا كاذب في قول لا إله إلاَّ الله، ولم يؤمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت» (¬2). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 109). (¬2) «الدرر السنية»: (2/ 121).

وقال حسين وعبد الله ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله جميعًا -: إن الرجل لا يكون مسلمًا إلاَّ إذا عرف التوحيد ودان به، وعمل بموجبه، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به، وأطاعه فيما نهى عنه وأمر به، وآمن به وبما جاء به. فمن قال لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال لا أتعرض أهل لا إله إلاَّ الله ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين الله، أو قال لا أتعرض للقباب، فهذا لا يكون مسلمًا بل هو ممن قال الله فيهم: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 150، 151] (¬1). * * * ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل»: (1/ 38).

الفصل الثاني حقيقة التوحيد وأركانه ومقتضياته وأنواعه

الفصل الثاني حقيقة التوحيد وأركانه ومقتضياته وأنواعه وفيه ثمانية مباحث: المبحث الأول: معنى الإله الذي ينبغي معرفته والعمل بموجبه لتحقيق التوحيد مع الانخلاع من الشرك والتنديد. المبحث الثاني: حدّ العبادة وكيفية القيام بها. المبحث الثالث: من شروط صحة العبادة: الكفر بالطاغوت، والانخلاع من الشرك مع البراءة من المشركين. المبحث الرابع: حقيقة التوحيد وأنواعه وحدود العلاقة بينهما. المبحث الخامس: كمال الله المطلق من جميع الوجوه أوجب له سبحانه: وحدانيته في ربوبيته وألوهيته، وبه جزم الموحِّدون ببطلان كل ما يعبد من دونه، ووجوب ذلك ثابت بالعقل والفطرة والنقل. المبحث السادس: أصول التوحيد العاصمة من الشرك والتنديد، قد اتفقت عليها الرسالات، وتطابقت عليها النبوَّات، ومن ثم فلا يسع أي عبد فيها إلاَّ الاتباع دون الابتداع والاجتهاد. المبحث السابع: شروط وأركان «لا إله إلاَّ الله» مع بيان أن المقصود الأعظم منها: تحقيق معناها في القلب، فالنطق بها باللسان، فالقيام بمقتضاها بالجوارح. المبحث الثامن: أحوال وأصناف الناطقين بكلمة التوحيد.

مدخل مفيد لفهم قضية التوحيد

مدخل مفيد لفهم قضية التوحيد لقد انعقد إجماع الصحابة، ومن ورائهم أهل السنَّة - السائرين على أصول دربهم - في كل عصر ومصر من عصورهم وأمصارهم على أنَّ معنى «لا إله إلاَّ الله» هو: لا معبود بحق إلاَّ الله. ومن ثمَّ تحتَّم على كل عبد: العلم بمدلول كلمتي «الإله» و «العبادة»، حتى يتسنَّى له معرفة معاني ومقتضيات ولوازم ومبطلات الكلمة العاصمة، كلمة التوحيد. ولا يفوتني التذكير هنا بأن تحقيق التوحيد علمًا واعتقادًا ونطقًا وعملاً، هو نقطة الانطلاق الأولى لتحقيق مشروعية وجود الأمة، وهو السبيل الوحيد العاصم من كيد الكفار ومخططات الإلحاد. وبه نستطيع أن نفيء من غفلتنا وسباتنا العميق لنتسلَّم زمام أمرنا من أيدي أعدائنا، لنقود قافلة أمتنا بحكم ربنا وهدي نبينا - صلى الله عليه وسلم -. ومن ثم نستطيع القيام بالدور الريادي المُناط بنا وهو قيادة البشرية وهدايتها لعلة خلقها والحكمة من وجودها وهي: إفراد الله سبحانه بالعبادة، مع الكفر والبراءة من كل ما يعبد من دونه. * * *

المبحث الأول معنى الإله الذي ينبغي معرفته، والعمل بموجبه، لتحقيق التوحيد مع الانحلاع من الشرك والتنديد

المبحث الأول معنى الإله الذي ينبغي معرفته، والعمل بموجبه، لتحقيق التوحيد مع الانحلاع من الشرك والتنديد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «فاعلم أن الإله هو: المعبود. هذا هو تفسير هذه اللفظة بإجماع أهل العلم، فمن عبد شيئًا فقد اتخذه إلهًا من دون الله، وجميع ذلك باطل، إلاَّ إله واحد، وهو الله وحده تبارك وتعالى علوًا كبيرًا» (¬1). وقال عبد الرحمن بن حسن: وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره «لا إله إلا الله»، أي: لا معبود إلا هو. وقال الزمخشري: «الإله» من أسماء الأجناس. كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق. وقال شيخ الإسلام: «الإله» هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد. وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع. قال: فإن الإله المحبوب المعبود الذي تألَهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهمَّاتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلاَّ لله وحده» (¬2). ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (4/ 16). (¬2) «فتح المجيد»: (/41).

المبحث الثاني حد العبادة وكيفية القيام بها

المبحث الثاني حدُّ العبادة وكيفية القيام بها قال سليمان بن عبد الله رحمه الله في شرحه على كتاب التوحيد: «قال شيخ الإسلام: (العبادة) هي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل. وقال أيضًا: (العبادة) اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. وقال ابن القيم: ومدارها على خمس عشرة قاعدة، من كمَّلها كمل مراتب العبودية، وبيان ذلك: أن العبادة منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح. وهنَّ لكل واحد من القلب واللسان والجوارح. وقال القرطبي: أصل (العبادة) التذلل والخضوع، وسمِّيت وظائف الشرع على المكلفين عبادات، لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذلِّلين لله تعالى. وقال ابن كثير: (العبادة) في اللغة من الذلة، يقال: طريق معبَّد وغير معبَّد، أي: مذلَّل، وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وهكذا ذكر غيرهم من العلماء» (¬1). وقال محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله تعالى: «قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومعنى يعبدون: يوحِّدون، والعبادة هي: التوحيد، لأن الخصومة بين الرسل ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (31 - 32).

وأممهم فيه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]» (¬1). وقال بعض علماء نجد الأعلام في رسالتهم المسمَّاة: «تنزيه الذات والصفات من دَرن الإلحاد والشبهات»: «والعبادة أنواع: اعتقادية: - وهي أساسها - وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له، ولا يشفع عنده أحد إلاَّ بإذنه، وأنه لا معبود بحق إلاَّ هو، وغير ذلك مما يجب له من لوازم الإلهية. ومنها لفظية: وهي النطق بكلمة التوحيد، فمن اعتقد ما ذكر ولم ينطق بها لم يحقن دمه ولا ماله. وكان كإبليس، فإنه يعتقد التوحيد بل ويقر به ولم يمتثل أمر الله بالسجود فكفر، ومن نطق ولم يعتقد حقن ماله ودمه وحسابه على الله وحكمه حكم المنافقين. وبدنية: كالقيام والركوع والسجود في الصلاة، ومنها الصوم وأفعال الحج والطواف. ومالية: كإخراج جزء من المال امتثالاً لما أمر الله تعالى به. وأنواع الواجبات والمندوبات في الأبدان والأموال والأفعال والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها» (¬2). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 567). (¬2) «مجموعة الرسائل والمسائل»: (5/ 672 - 673).

المبحث الثالث من شروط صحة العبادة: الكفر بالطاغوت، والانخلاع من الشرك، مع البراءة من المشركين

المبحث الثالث من شروط صحة العبادة: الكفر بالطاغوت، والانخلاع من الشرك، مع البراءة من المشركين قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «فاعلم أن العبادة لا تسمَّى عبادة إلاَّ مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمَّى صلاة إلاَّ مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17]. فإذا عرفت: أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها، وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار، عرفت أن أهم ما عليك معرفة ذلك لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة وهي الشرك بالله» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد: «المسألة السابعة: المسألة الكبيرة: أن عبادة الله لا تحصل إلاَّ بالكفر بالطاغوت، ففيه معنى قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256]. وقال عبد الرحمن بن حسن: «وفي الباب - أي الباب الأول من كتاب التوحيد -: الحث على إخلاص العبادة لله، وأنها لا تنفع مع الشرك، بل لا تسمَّى عبادة» (¬2). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 23). (¬2) «فتح المجيد»: (ص 33).

وقال سلمان بن عبد الله: «إن التجرد من الشرك لا بدَّ منه في العبادة، وإلاَّ فلا يكون العبد آتيًا بعبادة الله بل مشرك» (¬1). وقال أبو بطين: أما تعريف العبادة، فقد عرَّفها شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في فوائده على كتابه، كتاب التوحيد، بأن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه، وأن من لم يأت به لم يعبد الله؛ فدلَّ على أنَّ التجرد من الشرك لا بدَّ منه في العبادة، وإلاَّ فلا يسمَّى عبادة» (¬2). وقال عبد الرحمن بن حسن: وقول الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] الآية. وهذه الآية تبين العبادة التي خُلقوا لها أيضًا، فإنه تعالى قرن الأمر بالعبادة التي فرضها بالنهي عن الشرك الذي حرمه وهو الشرك في العبادة، فدلَّت هذه الآية على: أن اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة، فلا تصح بدونه أصلاً، كما قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]» (¬3). * * * ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 34). (¬2) «الدرر السنية»: (2/ 303). (¬3) «قرة عيون الموحِّدين»: (ص 6).

المبحث الرابع حقيقة التوحيد، وأنواعه، وحدود العلاقة بينها

المبحث الرابع حقيقة التوحيد، وأنواعه، وحدود العلاقة بينها قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «التوحيد: مصدر وحَّد يُوحِّد توحيدًا، أي: جعله واحدًا، وسمِّي دين الإسلام توحيدًا، لأن مبناه على أنَّ الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له، وإلى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا به من عند الله، وهي متلازمة، كل نوع منها لا ينفك عن الآخر، فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر، فما ذاك إلاَّ أنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب ... النوع الأول: توحيد الربوبية والملك، وهو الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه، وأنه المحيي المميت النافع الضار المتفرِّد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء، ليس له في ذلك شريك، ويدخل في ذلك الإيمان بالقدر، وهذا التوحيد لا يكفي العبد في حصول الإسلام، بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الإلهية، لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده، قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس: 31] وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء

مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63]، وقال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]. فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين، بل قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، قال مجاهد في الآية: إيمانهم بالله قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك. فتبين أن الكفار يعرفون الله، ويعرفون ربوبيته، وملكه، وقهره، وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعًا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك، ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم - عليه السلام -، فأنزل الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، وبعضهم يؤمن البعث والحساب، وبعضهم يؤمن بالقدر. كما قال زهير: يؤخر فيوضع في كتاب فيدَّخر ... ليوم الحساب أو يعجَّل فينقم وقال عنترة: يا عبل أين من المنية مهرب ... إن كان ربي في السماء قضاها ومثل هذا يوجد في أشعارهم، فوجب على كل من عقل عن الله تعالى أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم، وسبي نسائهم، وإباحة أموالهم، مع هذا الإقرار والمعرفة، وما ذاك إلاَّ لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلاَّ الله.

النوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات، وهو الإقرار بأن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، له المشيئة النافذة، والحكمة البالغة، وأنه سميع بصير، رءوف رحيم، على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون، إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى، والصفات العلى. وهذا أيضًا لا يكفي في حصول الإسلام، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه، من توحيد الربوبية والإلهية ... النوع الثالث: توحيد الإلهية المبني على إخلاص التأله لله تعالى، من المحبة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، والدعاء لله وحده، وينبني على ذلك: إخلاص العبادات كلها ظاهرها وباطنها لله وحده لا شريك له، لا يجعل فيها شيئًا لغيره، لا لملك: مقرَّب، ولا لنبي مرسل، فضلاً عن غيرهما. وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ... وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلاَّ الله. فإن الإله هو: المألوه المعبود بالمحبة، والخشية، والإجلال، والتعظيم، وجميع أنواع العبادة، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار» (¬1). * * * ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد»: (21 - 24).

المبحث الخامس كمال الله المطلق من جميع الوجوه أوجب له سبحانه وحدانيته في ربوبيته وألوهيته، وبه جزم الموحدون ببطلان تأله كل ما يعبد من دونه، ووجوب ذلك ثابت بالعقل والفطرة والشرع

المبحث الخامس كمال الله المطلق من جميع الوجوه أوجب له سبحانه وحدانيته في ربوبيَّته وألوهيَّته، وبه جزم الموحدون ببطلان تأله كل ما يعبد من دونه، ووجوب (¬1) ذلك ثابت بالعقل والفطرة والشرع قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله تعالى: «وهو سبحانه ينعم عليك ويحسن إليك بنفسه، فإن ذلك موجب ما تسمَّى به ووصف به نفسه، إذ هو الرحمن الرحيم، الودود المجيد، وهو قادر بنفسه، وقدرته من لوازم ذاته، وكذلك رحمته وعلمه وحكمته، لا يحتاج إلى خلقه بوجه من الوجوه، بل هو الغني عن العالمين: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]. فالرب سبحانه غني بنفسه، وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه، واجب له من لوازم ذاته، لا يفتقر في شيء من ذلك إلى غيره، ففعله وإحسانه وجوده من كماله، لا يفعل شيئًا لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه، بل كل ما يريد فعله فإنه فعَّال لمَا يريد. وهو سبحانه بالغ أمره، فكل ما يطلبه فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده ولا يعينه أحد، ولا يعوقه أحد، لا يحتاج في شيء من أموره إلى معين، وما له من المخلوقين من ظهير، وليس له ولي من الذل، قاله شيخ الإسلام» (¬2). ¬

(¬1) المقصود بالوجوب العقلي والفطري: استحالة قَبولهما لغير التوحيد، والبراءة من كل ما يعبد من دون الله. والوجوب الشرعي: الثواب والعقاب القائمان على فعل التوحيد، وعلى اقتراف الشرك. (¬2) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 33).

ونقل عبد اللطيف بن عبد الرحمن عن ابن القيم قوله: «ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه. الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستغاثة، وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك يجب: عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره. فمن جعل شيئًا من ذلك لغيره فقد شبَّه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدَّة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه وتعالى عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة. ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل. هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبَّهه به في خالص حقَّه. وهذا من المحال أن تجيء به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرَّت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت لهم من الله الحسنى، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم. فازدادوا بذلك نورًا على نورهم، يهدي الله لنوره من يشاء» (¬1). * * * ¬

(¬1) «منهاج التأسيس والتقديس»: (ص 285، 286).

المبحث السادس أصول التوحيد العاصمة من الشرك والتنديد قد اتفقت عليها الرسالات، وتطابقت عليها النبوات، ومن ثم فلا يسع أي عبد فيها إلا الإتباع دون الابتداع والاجتهاد

المبحث السادس أصول التوحيد العاصمة من الشرك والتنديد قد اتفقت عليها الرسالات، وتطابقت عليها النبوَّات، ومن ثمَّ فلا يسع أي عبد فيها إلا الإتباع دون الابتداع والاجتهاد قال عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «ومسائل معرفة الله ووجوب توحيده، وإسلام الوجه له وحده لا شريك له، ومسائل ربوبيته واختصاصه بالخلق والإيجاد والتدبير، ونحو ذلك، مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام، كصَمَدِيَّته تعالى، ونفي الكفء والصاحبة والولد، وغناه بذاته ومباينته لمخلوقاته، وعموم قدرته وإحاطة سمعه وبصره وعلمه بجميع المعلومات والمبصرات والمسموعات، ونحو ذلك من أصول الدين. فكل الرسل متفقون عليه، وجميع الكتب داعية إليه والعقول الصحيحة حاكمة به، فكل اجتهاد خالفه فباطل مردود لا يسوغ العمل به في شريعة من الشرائع، ولا عند عالم من العلماء ولا فقيه من الفقهاء. والعراقي (¬1) أجنبي عن هذه المباحث والعلوم، ولا يدري الفرق بين مسائل الاجتهاد وغيرها، وكأن الرجل من أهل الفترات لم يأنس بشيء مما جاءت به النبوَّات. قال شمس الدين في هدايته: بل جميع النبوَّات من أولها إلى آخرها متفقة على أصول. ¬

(¬1) العراقي هذا: من أشد المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - التى هي دعوة التوحيد، وزبدة رسالة الرسل والنبيين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -.

(أصول التوحيد التي اتفقت عليها جميع الرسل) أحدها: أن الله تعالى قديم واحد لا شريك له في ملكه، ولا ندَّ ولا ضدَّ، ولا وزير ولا مشير ولا ظهير، ولا شافع إلاَّ من بعد إذنه. الثاني: أنه لا والد له ولا ولد، ولا كفء ولا نظير ولا نسب بوجه من الوجوه، ولا زوجة. الثالث: أنه غني بذاته، فلا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه. الرابع: أنه لا يتغير ولا تعرض له الآفات، من: الهرم والمرض والسنَة والنوم والنسيان والندم، والخوف والهمِّ والحزن، ونحو ذلك. الخامس: أنه لا يماثله شيء من مخلوقاته، بل ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. السادس: أنه لا يحل بشيء من مخلوقاته، ولا يحل في ذاته شيء منها، بل هو بائن، عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه. السابع: أنه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وعال على كل شيء، وليس فوقه شيء البتة. الثامن: أنه قادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء يريده، بل هو فعَّال لما يريد. التاسع: أنه عالم بكل شيء، يعلم السرَّ وأخفى، ويعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وما تسقط من ورقة إلاَّ يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، ولا متحرِّك ولا ساكن إلاَّ وهو يعلمه على حقيقته. العاشر: أنه سميع بصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات

على تفنن الحاجات، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، قد أحاط سمعه بجميع المسموعات، وبصره بجميع المبصرات، وعلمه بجميع المعلومات، وقدرته بجميع المقدورات، ونفذت مشيئته في جميع البريات، وعمَّت رحمته جميع المخلوقات ووسع كرسيه الأرض والسماوات. الحادي عشر: أنه الشاهد الذي لا يغيب، ولا يستخلف أحدًا على ملكه، ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه أو يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم. الثاني عشر: أنه الأبدي الباقي الذي لا يضمحل ولا يتلاشى ولا يعدم ولا يموت. الثالث عشر: أنه المتكلِّم الآمر الناهي، قائل الحق، وهادي السبيل، مرسل الرسل، ومنزل الكتب، قائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر، ومجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. الرابع عشر: أنه الصادق في وعده وخبره، فلا أصدق منه قيلاً، ولا أصدق منه حديثًا، وهو لا يخلف الميعاد. الخامس عشر: أنه تعالى صمد بجميع معاني الصمدية، يستحيل عليه ما يناقض صمديته. السادس عشر: أنه قدُّوس سلام، فهو المبرَّأ من كل عيب وآفة ونقص. السابع عشر: أنه الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه. الثامن عشر: أنه العدل الذي لا يجور ولا يظلم، ولا يخاف عباده منه ظلمًا. وهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل، وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه، ولا يخبر بشيء بخلافه. فتركت المثلِّثة عبَّاد الصليب هذا كله، وتمسَّكوا بالمتشابه من المعاني،

والمجمل من الألفاظ، وأقوال من قد ضلُّوا من قبل وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عن سواء السبيل، وأصول المثلِّثة ومقالاتهم في رب العالمين تخالف هذا كله وتباينه أشد المخالفة والمباينة. انتهى. فقف وتأمل الأصول وأولها، وهو أنه تعالى لا شريك له ولا ندَّ ولا شافع إلاَّ من بعد إذنه، ووازن بينه وبين قول العراقي: إنَّ هذه المسائل (¬1) التي لا تعلم يعذر العلماء في جهلها أحدًا، وهل يقول من يعقل إنَّ هذه المسائل من المسائل الاجتهادية. فإن كان هذا القول صحيحًا فليهن النصارى عبَّاد الصليب اجتهادهم المنجي عند هذا العراقي، وكذا عبَّاد الأوثان، والجهمية المعطلة، والقدرية النفاة، والقدرة المجبرة، والرافضة المارقة، فإنهم قالوا بتلك الأقوال الضالة، واعتقدوها عن رأي لهم واجتهاد وشبهة تصوروها، كما قال هذا الشيخ: فترك المثلِّثة عبَّاد الصليب هذا كله وتمسَّكوا بالمتشابه. قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} [الكهف: 103]. وقال تعالى: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} [الرعد: 33]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [الأنعام: 137]. وقال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108]. والتزين: يتناول ما تمسَّكوا به من الشبه والمتشابه واعتقاد حُسنه، وأنه لا ينكر ولا يلزم بسواه. ثم هذا مخالف للإجماع، ولو في فروع الدين، فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على الإنكار على المخطئ المخالف للنص في مسائل كثيرة، منها: ما وقع من قدامة بن مظعون وأصحابه لما استحلُّوا الخمر باجتهاد ¬

(¬1) أي مسائل التوحيد الواجبة بالعقل والفطرة وكافة الشرائع.

تأويل وفهم انفردوا به، في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} [المائدة: 93] الآية. والصحابة أنكروا على من رأى أن دفع الزكاة لا يجب لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقاتلوا على ذلك واستباحوا الدماء عليه، وإن لم ينكر من قاتلوه غير ذلك من الدين. وقد بعث - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى رجل تزوج امرأة أبيه فقتلوه وغنموا ماله، وسار فيه بسيرته في المرتدين. فكيف يقال: إنَّ من دعا الأولياء والصالحين واستغاث بهم وذبح لقبورهم وخافهم ورجاهم مع الله لا ينكر عليه؟ لأن الإنكار محل الاجتهاد؟ سبحانك هذا بهتان عظيم» (¬1). * * * ¬

(¬1) «منهاج التأسيس والتقديس»: (ص 80 - 83).

المبحث السابع شروط وأركان كلمة «لا إله إلا الله»

المبحث السابع شروط وأركان كلمة «لا إله إلا الله» مع بيان أن المقصود الأعظم منها: تحقيق معناها في القلب، فالنطق بها باللسان، فالقيام بمقتضاها بالجوارح، ولا أدلّ على ذلك: من إجماع السلف على أن من نطق بالشهادة، ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها، فإنه لا يكون مسلما، ويقاتل على ذلك، حتى يعمل بما دلَّت عليه من النفي والإثبات قال عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى في شرحه على كتاب التوحيد: «قوله (من شهد أن لا إله إلاَّ الله) (¬1)، أي: من تكلَّم بها عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها، باطنًا وظاهرًا، فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولهما، كما قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد: 19]. وقوله: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح فغير نافع بالإجماع» (¬2). وقال سليمان بن عبد الله: «قوله (من شهد أن لا إله إلاَّ الله)، أي: من تكلَّم بهذه الكلمة عارفًا ¬

(¬1) هذاه إشارة إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» متفق عليه. (¬2) «فتح المجيد»: (39 - 41).

لمعناها، عاملاً بمقتضاها باطنًا وظاهرًا، كما دلَّ عليه قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد: 19] وقوله: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها، فإن ذلك غير نافع بالإجماع. وفي الحديث ما يدلّ على هذا، وهو قوله: «من شهد» إذ كيف يشهد وهو لا يعلم، ومجرد النطق بشيء لا يسمَّى شهادة به ... وقد دخل في الإلهية جميع أنواع العبادة الصادرة عن تأله القلب لله بالحب والخضوع والانقياد له وحده لا شريك له، فيجب إفراد الله تعالى بها، كالدعاء والخوف والمحبة، والتوكل والإنابة، والتوبة، والذبح، والنذر، والسجود، وجميع أنواع العبادة، فيجب صرف جميع ذلك لله وحده لا شريك له، فمن صرف شيئًا مما لا يصلح إلاَّ لله من العبادات لغير الله، فهو مشرك ولو نطق بـ لا إله إلاَّ الله، إذ لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص» (¬1). وقال عبد الرحمن بن حسن في شرحه لكتاب التوحيد رحمه الله تعالى: قوله: «وَلَهُما» أي البخاري ومسلم، وهذا حديث طويل اختصره المصنف وذكر منه ما يناسب الترجمة وهو قوله: «من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله»، وهذا هو حقيقة معناها الذي دلَّت عليه هذه الكلمة من الإخلاص ونفي الشرك، والصدق والإخلاص متلازمان لا يوجد أحدهما بدون الآخر، فإن من لم يكن مخلصًا فهو مشرك، ومن لم يكن صادقًا فهو منافق، والمخلص أن يقولها: مخلصًا الإلهية لمن لا يستحقها غيره وهو الله تعالى، وهذا التوحيد هو أساس الإسلام ... وهذا بخلاف من يقولها، وهو يدعو غير الله ويستغيث به من ميت أو غائب لا ينفع ولا يضر، كما ترى عليه أكثر الخلق فهؤلاء وإن قالوها، فقد تلبسوا ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (51 - 53).

بما يناقضها فلا تنفع قائلها إلاَّ بالعلم بمدلولها نفيًا وإثباتًا، والجاهل بمعناها وإن قالها لا تنفعه لجهله بما وضعت له الوضع العربي الذي أريد منها من نفي الشرك، وكذلك إذا عرف معناها بغير تيقن له، فإذا انتفى اليقين وقع الشك. ومما قيدت به في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: «غَيرَ شاكٍّ» فَلا تَنْفَعُ إلاَّ من قالها بعلم ويقين لِقَوْلِهِ صِدْقًا مِنْ قَلبِهِ خالِصًا مِنْ قَلبِهِ، وكذلك من قالها غير صادق في قوله، فإنها لا تنفعه لمخالفة القلب اللسان، كحال المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وكذلك حال المشركين فلا تقبل من مشرك لمنافاة الشرك للإخلاص، ولما دلَّت عليه هذه الكلمة مطابقة، فإنَّها دلَّت على نفي الشرك والبراءة منه، والإخلاص لله وحده لا شريك له مطابقة، ومن لم يكن كذلك لم ينفعه قوله: لا إله إلاَّ الله، كما هو حال كثير من عبدة الأوثان يقولون: لا إله إلاَّ الله وينكرون ما دلَّت عليه من الإخلاص، ويعادون أهله وينصرون الشرك وأهله، وقد قال الخليل - عليه السلام - لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 26 - 28]، وهي: لا إله إلا الله» (¬1). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، في بيان معاني ومقتضيات النفي والإثبات لكلمة التوحيد: «أعلم رحمك الله، أن معنى لا إله إلاَّ الله نفي وإثبات، تنفي أربعة أنواع وتثبت أربعة أنواع: تنفي الإلهية، والطواغيت، والأنداد، والأرباب. فالإلهية: ما قصدته بشيء من جاب خير أو دفع ضر فأنت متَّخذه إلهًا. والطواغيت: من عبد وهو راض أو رشح للعبادة، مثل السمان أو تاج أو أبي حديدة. ¬

(¬1) «قرة عيون الموحدين»: (18، 19).

والأنداد: ما جذبك عن دين الإسلام من أهل أو مسكن أو عشيرة أو مال، فهو ند لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165]. والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق وأطعته، مصداقًا لقوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. وتثبت أربعة أنواع: القصد، وهو كونك ما تقصد إلاَّ الله، والتعظيم والمحبة لقوله عزَّ وجلّ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة: 165]، والخوف والرجاء لقوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] (¬1). وقال عبد الرحمن بن حسن: «وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «وكفر بما يعبد من دون الله» فهذا: شرط عظيم، لا يصح قول: لا إله إلاَّ الله إلاَّ بوجوده، وإن لم يوجد، لم يكن من قال لا إله إلاَّ الله معصوم الدم والمال، لأن هذا هو معنى لا إله إلاَّ الله، فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دلَّت عليه، من ترك الشرك والبراءة منه وممن فعله، فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله، وتبرأ منه، وعادى من فعل ذلك: صار مسلمًا، معصوم الدم والمال، وهذا معنى قول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. وقد قيدت لا إله إلاَّ الله، في الأحاديث الصحيحة بقيود ثقال، لا بدّ من الإتيان بجميعها، قولاً واعتقادًا وعملاً» (¬2). ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل»: (4/ 34، 35). (¬2) «الدرر السنية»: (2/ 234).

المبحث الثامن أحوال وأصناف الناطقين بكلمة التوحيد

المبحث الثامن أحوال وأصناف الناطقين بكلمة التوحيد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قال لا إله إلاَّ الله، وكفر بما يعبد من دون الله حُرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل). والحديث يفصح: أن لا إله إلاَّ الله لها: لفظ ومعنى. ولكن الناس فيها ثلاث فرق، فرقة نطقوا بها وحقَّقوها، وعلموا أن لها معنى وعملوا به، ولها نواقض فاجتنبوها. وفرقة: نطقوا بها في الظاهر، فزيَّنوا ظواهرهم بالقول، واستبطنوا الكفر والشك. وفرقة نطقوا بها، ولم يعملوا بمعناها، وعملوا بنواقضها، فهؤلاء {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] (¬1). فالفرقة الأولى هي: لناجية، وهم المؤمنون حقًا، والثانية هم: المنافقون، والثالثة هم: المشركون. فلا إله إلاَّ الله: حصن، ولكن نصبوا عليه منجنيق التكذيب، ورموه بحجارة التخريب، فدخل عليهم العدوّ، فسلبهم المعنى، وتركهم مع الصورة، وفي الحديث: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». سلبوا معنى: لا إله إلاَّ الله، فبقي معهم: لقلقة باللسان وقعقعة بالحروف، وهو ذكر الحصن لا مع الحصن، فما أن ذكر النار لا يحرق، وذكر الماء لا يغرق، وذكر الخبز لا يشبع، وذكر السيف لا يقطع، ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 112، 113).

فكذلك ذكر الحصن لا يمنع. فإن القول: قشر، والمعنى: لبّ، والقول: صدف، والمعنى: درّ، ماذا يصنع بالقشر مع فقدان اللب؟! وماذا يصنع بالصدف مع فقدان الجوهر؟! لا إله إلاَّ الله، مع معناها، بمنزلة الروح من الجسد، لا ينتفع بالجسد دون الروح، فكذلك لا ينتفع بهذه الكلمة دون معناها» (¬1). وقال أيضًا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه. الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. والمخالفون في ذلك أنواع: فأشدهم مخالفة: من خالف في الجميع. ومن الناس من عبد الله وحده، ولم ينكر الشرك، ولم يعاد أهله. ومنهم: من عاداهم، ولم يكفرهم. ومنهم: من لم يحب التوحيد، ولم يبغضه. ومنهم: من كفرهم، وزعم أنه مسبَّة للصالحين. ومنهم: من لم يبغض الشرك، ولم يحبه. ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 22).

ومنهم: من لم يعرف الشرك، ولم ينكره. ومنهم: من لم يعرف التوحيد، ولم ينكره. ومنهم: وهو أشد الأنواع خطرًا، من عمل بالتوحيد لكن لم يعرف قدره، ولم يبغض من تركه، ولم يكفرهم. ومنهم من ترك الشرك وكرهه، ولم يعرف قدره، ولم يعاد أهله ولم يكفرهم، وهؤلاء: قد خالفوا ما جاءت به الأنبياء من دين الله سبحانه وتعالى، والله أعلم» (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بعد أن تكلم عن التوحيد: والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام: إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته، ويدعو الناس إلى عبادته. أو طاغوت يدعو الناس إلى عبادة الأوثان. أو مشرك يدعو غير الله ويتقرَّب إليه بأنواع العبادة أو بعضها. أو شاكّ في التوحيد: أهو حق، أم يجوز أن يجعل لله شريك في عبادته؟ أو جاهل يعتقد: أن الشرك دين يقرب إلى الله. وهذا هو الغالب على أكثر العوام لجهلهم وتقليدهم مَن قبلهم، لما اشتدت غربة الدين، ونسي العلم بدين المرسلين» (¬2). * * * ¬

(¬1) «فتح المجيد»: (ص 357، 358). (¬2) «فتح المجيد»: (ص 357، 358).

الفصل الثالث كيفية الإيمان بالرسالة وتحقيق أركانها ومقتضياتها

الفصل الثالث كيفية الإيمان بالرسالة وتحقيق أركانها ومقتضياتها وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: نعمة بعثة الرسل، وحاجة الناس الماسة إليها. المبحث الثاني: علة بعثته ودلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم -. المبحث الثالث: مقتضيات الشهادة بالنبوة ولوازمها. المبحث الرابع: الإيمان بوحدانية الله في ربوبيته وألوهيته يستلزم الإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - مع إفراده بالطاعة والاتباع، والحكم في كافة المنازعات. المبحث الخامس: كيف بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - التوحيد، وصان جنابه من أيّ حدث دخيل عليه. المبحث السادس: حكم من سب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو استهزأ بحكم من أحكامه، أو دفع شيئًا مما جاء به، أو سوَّغ لواحد من البشر الخروج عن شريعته.

المبحث الأول نعمة بعثة الرسل، وحاجة الناس الماسة إليها

المبحث الأول نعمة بعثة الرسل، وحاجة الناس الماسة إليها قال الشيخ صالح الفوزان: «وبَعْث الرسل نعمة من الله على البشرية؛ لأن حاجة البشرية إليهم ضرورية؛ فلا تنتظم لهم حال، ولا يستقيم لهم دين؛ إلاَّ بهم، فهم يحتاجون إلى الرسل أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين خلقه، في تعريفهم بالله وبما ينفعهم وما يضرهم، وفي تفصيل الشرائع، والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه؛ فلا سبيل إلى معرفة ذلك إلاَّ من جهة الرسل؛ فإن العقل لا يهتدي إلى تفصيل هذه الأمور، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة. قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} [البقرة: 213]. وحاجة العباد إلى الرسالات: أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطبيب؛ فإن غاية ما يحصل بعدم وجود الطبيب: تضرر البدن، والذي يحصل من عدم الرسالة: تضرر القلوب، ولا بقاء لأهل الأرض إلاَّ ما دامت آثار الرسالة موجودة فيهم، فإذا ذهبت آثار الرسالة من الأرض؛ أقام الله القيامة» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد»: (/196).

المبحث الثاني علة بعثته، ودلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم -

المبحث الثاني علة بعثته، ودلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب: ولما أراد سبحانه إظهار توحيده، وإكمال دينه، وأن تكون كملته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، بعث محمدًا خاتم النبيين، وحبيب رب العالمين، وما زال في كل جيل مشهورًا، وفي توراة موسى وإنجيل عيسى مذكورًا، إلى أن أخرج الله تلك الدرة، بين بني كنانة وبني زهرة، فأرسله على حين فترة من الرسل، وهداه إلى أقوم السبل، فكان له - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الدالة على نبوته قبل مبعثه ما يعجز أهل عصرها. فمن ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نور أضاءت له بُصرى من أرض الشام». (آيات مولده - صلى الله عليه وسلم -) وولد - صلى الله عليه وسلم - ليلة الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل، وانشق إيوان كسرى ليلة مولده حتى سمع انشقاقه وسقط أربع عشر شرفة (¬1) وهو باقٍ إلى اليوم آية من آيات الله، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك، وغاضت بحيرة ساوة، وكانت بحيرة عظيمة في مملكة العراق عراق العجم وهمدان تسير فيها السفن وهي أكثر من ستة فراسخ، فأصبحت ليلة مولده يابسة ناشفة كأن لم يكن بها ماء، واستمرت على ذلك، حتى بني مكانها مدينة ¬

(¬1) كذا في الأصل، ولا بدَّ أن يكون صوابه: أربع عشرة شرفة منه، أو من شرفاته. قال الشيخ محمد رشيد رضا محقِّق الكتاب محل النقل.

ساوة وهي باقية إلى اليوم، وأرسلت الشهب على الشياطين كما أخبر الله بقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [الجن: 9] الآية. وأنبته الله نباتًا حسنًا، وكان أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقًا وأعزهم جوارًا وأعظمهم حلمًا وأصدقهم حديثًا، حتى سمَّاه قومه «الأمين»؛ لِمَا جعل الله فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية. ووصل بُصرى من أرض الشام مرتين، فرآه بحيرى الراهب فعرفه وأخبر عمَّه أنه رسول الله، ونصحه أن يرده، فردَّه مع غلمانه وقال لعمه: احتفظ به فلم نجد قدمًا أشبه بالقدم الذي بالمقام من قدمه. واستمرت كفالة أبي طالب له كما هو مشهور. وبّغِّض إليه الأوثان ودين قومه فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك. (الأدلة العقلية والنقلية على صحة نبوِّته - صلى الله عليه وسلم -) والدليل على أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العقل والنقل. فأما النقل فواضح. وأما العقل فنَّبه عليه القرآن. من ذلك: أن ترك الله خلقه بلا أمر ولا نهي لا يناسب في حق الله، ونبَّه عليه في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. ومنه: أن قول الرجل: إني رسول الله إما أن يكون خير الناس، وإما أن يكون شرهم وأكذبهم. والتمييز بين ذلك سهل يعرف بأمور كثيرة، ونبه على ذلك بقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221، 222] الآيات.

ومنه: شهادة الله بقوله: {كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]. ومنها: شهادة أهل الكتاب بما في كتبهم كما في هذه الآية. ومنها - وهي أعظم الآيات العقلية -: هذا القرآن الذي تحدَّاهم بسورة من مثله، ونحن إن لم نعلم وجه ذلك من جهة العربية، فنحن نعلمه من معرفتنا بشدة عداوة أهل الأرض له، علمائهم وفصحائهم، وتكريره هذا واستعجازهم به، ولم يتعرضوا لذلك على شدة حرصهم على تكذيبه وإدخال الشبهة على الناس. ومنها: تمام ما ذكرنا وهو إخباره سبحانه أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسورة مثله إلى يوم القيامة، فكان كما ذكر، مع كثرة أعدائه في كل عصر، وما أعطوا من الفصاحة والكمال والعلوم. ومنها: نصرة من اتبعه ولو كانوا أضعف الناس. ومنها: خذلان من عاداه وعقوبته في الدنيا ولو كانوا أكثر الناس وأقواهم. ومنها: أنه رجل أمِّي لا يخط ولا يقرأ الخط، ولا أخذ عن العلماء ولا ادعى ذلك أحد من أعدائه، مع كثرة كذبهم وبهتانهم، ومع هذا أتى بالعلم الذي في الكتب الأولى كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]» (¬1). * * * ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (4/ 28، 29).

المبحث الثالث مقتضيات الشهادة بالنبوة ولوازمها

المبحث الثالث مقتضيات الشهادة بالنبوة ولوازمها قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى في شرحه لكتاب التوحيد: «وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (وأن محمدًا عبده ورسوله)، أي: وشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أي: بصدق ويقين، وذلك يقتضي: اتباعه، وتعظيم أمره ونهيه، ولزوم سنته - صلى الله عليه وسلم -؛ وأن لا تعارض بقول أحد، لأن غيره - صلى الله عليه وسلم - يجوز عليه الخطأ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عصمه الله تعالى وأمرنا بطاعته والتأسِّي به، والوعيد على ترك طاعته بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. وقال الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك. لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك» (¬1). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله - رحمه الله تعالى -: «قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} [النساء: 64]. قال ابن كثير: أي: إنما فرضت طاعته على من أرسله إليهم؛ وقال ابن القيم: هذا تنبيه على جلالة منصب الرسالة، وعظم شأنها، وأنه سبحانه لم يرسل رسله عليهم الصلاة والسلام إلاَّ ليطاعوا بإذنه، فتكون الطاعة لهم لا لغيرهم، لأن طاعتهم، طاعة مرسلهم، وفي ضمنه أن من كذب رسوله محمدًا ¬

(¬1) «قرة عيون الموحِّدين»: (ص 15، 16).

- صلى الله عليه وسلم -، فقد كذَّب الرسل. والمعنى أنك واحد منهم تجب طاعتك، وتتعيَّن عليهم كما وجبت طاعة من قبلك من المرسلين، فإن كانوا قد أطاعوهم كما زعموا وآمنوا بهم، فما لهم لا يطيعونك، ويؤمنون بك؟! والإذن ههنا هو: الإذن الأمري لا الكوني، إذ لو كان إذنًا كونيًا قدريًا لما تخلَّفت طاعتهم، وفي ذكره نكتة وهي أنه بنفس إرساله تتعيَّن طاعته، وإرساله نفسه إذن في طاعته، فلا تتوقف على نص آخر سوى الإرسال بأمر فيه بالطاعة بل متى تحققت رسالته وجبت طاعته، فرسالته نفسها متضمنة للإذن في الطاعة، ويصح أن يكون الإذن ههنا: إذنًا كونيًا قدريًا، ويكون المعنى: ليطاع بتوفيق الله وهدايته، فتضمنت الآية الأمرين الشرع والقدر، ويكون فيها دليل على أن أحدًا لا يطيع رسله إلاَّ بتوفيقه وإرشاده وهدايته، وهذا حسن جدًا. والمقصود أن الغاية من الرسل هي طاعتهم ومتابعتهم، فإذا كانت الطاعة والمتابعة لغيرهم، لم تحصل الفائدة المقصودة من إرسالهم» (¬1). * * * ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 380).

المبحث الرابع الإيمان بوحدانية الله في ربوبيته وألوهيته يستلزم الإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم -، مع إفراده بالطاعة والاتباع والحكم في كافة المنازعات

المبحث الرابع الإيمان بوحدانية الله في ربوبيته وألوهيته يستلزم الإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم -، مع إفراده بالطاعة والاتباع والحكم في كافة المنازعات قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى في شرحه لكتاب التوحيد: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 60]. لما كان التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، مشتملاً على الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، مستلزمًا له، وذلك هو الشهادتان، ولهذا جعلهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ركنًا واحدًا في قوله: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت مَن استطاع إليه سبيلاً»، نبَّه في هذا الباب على ما تضمَّنه التوحيد، واستلزمه من تحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في موارد النزاع، إذ هذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، ولازمها الذي لا بدَّ منه لكل مؤمن، فإن من عرف أن لا إله إلاَّ الله، فلا بد من الانقياد لحكم الله والتسليم لأمره الذي جاء من عنده على يد رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ... (إن التحاكم في موارد النزاع إلى غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، دلالة صارخة على النفاق وأهله) إذا تبين هذا فمعنى الآية المترجم لها: أن الله تبارك وتعالى أنكر على

من يدَّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله، وعلى الأنبياء قبله، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر المصنف في سبب نزولها. قال ابن القيم: والطاغوت: كل من تعدَّى به حدَّه من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، فكل ما تحاكم إليه متنازعان غير كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو طاغوت إذ قد تعدَّى به حدَّه. ومن هذا، كل من عبد شيئًا دون الله فإنما عبد الطاغوت، وجاوز بمعبوده حدّه فأعطاه العبادة التي لا تنبغي له، كما أن من دعا إلى تحكيم غير الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد دعا إلى تحكيم الطاغوت. وتعلل تصديره سبحانه الآية منكرًا لهذا التحكيم على من زعم أنه قد آمن بما أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى من قبله ثم هو مع ذلك يدعو إلى تحكيم غير الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويتحاكم إليه عند النزاع، وفي ضمن قوله: {يَزْعُمُونَ} نفي لما زعموه من الإيمان، ولهذا لم يقل: «ألم تر إلى الذين آمنوا»، فإنهم لو كانوا من أهل الإيمان حقيقة لم يريدوا أن يتحاكموا إلى غير الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل فيهم «يزعمون»، فإن هذا إنما يقال غالبًا لمن ادّعى دعوى هو فيها كاذب، أو منزل منزلة الكاذب، لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها: قال ابن كثير: والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ههنا» (¬1). وقال الشيخ عبد الله بن حميد: «وقد تكفلَّت الشريعة بحل جميع المشاكل وتبيينها وإيضاحها، قال ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 376، 377).

تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. ففي هذه الآية أن القرآن فيه البيان لكل شيء، وأن فيه الاهتداء التام، وأن فيه الرحمة الشاملة، وأن فيه البشارة الصادقة للمتمسِّكين به الخاضعين لأحكامه ... فكيف يجترئ من يدَّعي الإيمان مع هذا البيان الواضح والآيات البينات والأحاديث الصحيحة على الرضا بالتحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن شريعة الله، والله قد نفى الإيمان عمَّن لم يحكم الرسول فيما وقع بينهم من التشاجر، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]» (¬1). * * * ¬

(¬1) فتاوى ورسائل الشيخ عبد الله بن حميد، رسالة كمال الشريعة: (/330 - 331).

المبحث الخامس كيف بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - التوحيد وصان جنابه من أي حدث دخيل عليه؟

المبحث الخامس كيف بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - التوحيد وصان جنابه من أي حدث دخيل عليه؟ قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «ولمَّا بلغ أربعين سنة بعثه الله بشيرًا ونذيرًا {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 46]، ولما أتى قومه بلا إله إلاَّ الله قالت قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] .... ولما أمره الله بالهجرة هاجر وأظهر الله دينه على الدين كله، وقاتل جميع المشركين ولم يميز بين من اعتقد في نبي ولا ولي ولا شجر ولا حجر، وما زال يعلِّم الناس التوحيد، ويقمع من دعاة الشرك كل شيطان مريد، حتى أزال الله الجهل والجهال وبان للناس من التوحيد ساطع الجمال. وعن أنس قال: قال أناس: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجل»، وعن عبد الله بن الشخير قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أنت سيدنا، فقال: «السيد الله»، وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله». وما زال - صلى الله عليه وسلم - معلِّمًا لأصحابه هذا التوحيد، ومحذرًا من الشرك حتى أتاهم مرة وهم يتذكرون الدجَّال فقال: «ألا أخبركم بما هو أخوف ما أخاف عليكم من المسيح الدجال»؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «الشرك الخفي.

يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل»، وحتى قال: «لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله في شيء»، وحتى قال: «لا يقول أحدكم ما شاء الله وشاء فلان»، وحتى قال: «لا تقولوا لولا الله وفلان»، وحتى قال: «لا يقول أحدكم عبدي وَأَمَتي»، وحتى قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر» (¬1). وقال سليمان بن عبد الله في شرحه على كتاب التوحيد: «باب ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك». الجناب: هو الجانب. واعلم أن في الأبواب المتقدمة شيئًا من حمايته - صلى الله عليه وسلم - لجناب التوحيد، ولكن أراد المصنف هنا بيان حمايته الخاصة، ولقد بالغ - صلى الله عليه وسلم -، وحذر وأنذر، وأبدأ وأعاد، وخصَّ وعمَّ في حماية الحنيفية السمحة التي بعثه الله بها، فهي حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، قال بعض العلماء: هي أشد الشرائع في التوحيد والإبعاد عن الشرك، وأسمح الشرائع في العمل» (¬2). * * * ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (4/ 30، 31). (¬2) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 234).

المبحث السادس حكم من سب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو استهزأ بحكم من أحكامه، أو دفع شيئا مما جاء به، أو سوغ لواحد من البشر الخروج عن شريعته

المبحث السادس حكم من سب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو استهزأ بحكم من أحكامه، أو دفع شيئًا مما جاء به، أو سوّغ لواحد من البشر الخروج عن شريعته قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «وقال الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب (الصارم المسلول، على شاتم الرسول): قال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة يعدل بالشافعي وأحمد: أجمع المسلمون أن من سبَّ الله أو رسوله أو دفع شيئًا مما أنزل الله أنه كافر بذلك، وإن كان مقرًا بكل ما أنزل الله. وقال محمد بن سحنون أحد الأئمة من أصحاب مالك: أجمع العلماء على أن شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كافر، وحكمه عند الأئمة القتل، ومن شك في كفره كفر. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم أن على من سبَّه: القتل، وقال الإمام أحمد فيمن سبَّه: يقتل، قيل: فيه أحاديث؟ قال: نعم، منها: حديث الأعمى الذي قتل المرأة، وقول ابن عمر: «من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل، وعمر بن عبد العزيز يقول: يقتل، وقال في رواية عبد الله: لا يستتاب، إن خالد بن الوليد قتل رجلاً شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يستتبه. انتهى. فتأمل رحمك الله تعالى كلام إسحاق بن راهويه ونقله الإجماع على أن من سبَّ الله أو سبَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو دفع شيئًا مما أنزل الله فهو كافر - وإن كان مقرًا بكل ما أنزل الله - يتبين لك: أن من تلفَّظ بلسانه بسبِّ الله تعالى، أو بسبِّ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهو كافر مرتد عن الإسلام، وإن أقر بجميع ما أنزل الله، وإن كان هازلاً بذلك لم يقصد معناه بقلبه، كما قال الشافعي رضي الله

عنه من هزل بشيء من آيات الله فهو كافر، فكيف بمن هزل بسبِّ الله تعالى، أو بسبِّ رسوله - صلى الله عليه وسلم -» (¬1). ولقد جاء في نواقض الإسلام العشرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: الناقض السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو ثوابه، أو عقابه كفر، وذلك لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]. الناقض التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر، لقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]» (¬2). وقال سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى في شرحه على كتاب التوحيد: «(باب من هزل بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن، أو الرسول)، أي: يكفر بذلك لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد. ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئًا من ذلك، فمن استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله، أو بدينه، كفر ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعًا. قال: وقول الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] .... قال شيخ الإسلام: فقد أمره أن يقول: كفرتم بعد إيمانكم. وقول من يقول: إنهم قد كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم لا يصح، لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد: إنكم ¬

(¬1) «عقيدة الموحِّدين»، رسالة الكلمات النافعة في المكفِّرات الواقعة: (ص 238). (¬2) «عقيدة الموحِّدين»: (ص 456، 457).

أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان فهم لم يظهروا ذلك إلاَّ لخواصهم، وهم مع خوضهم ما زالوا هكذا، بل لمَّا نافقوا وحذروا أن تنزل عليهم سورة تبيِّن ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء، أي: صاروا كافرين بعد إيمانهم. ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين إلى أن قال: قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65]، ولهذا قيل: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} [التوبة: 66]، فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرًا، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر. فتبين أن الاستهزاء بآيات الله ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفرًا، وكان كفرًا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه. وفي الآية دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ولم يعلم أنه كفر لا يعذر بذلك، بل يكفر، وعلى أن الشاك كافر بطريق الأولى نبه عليه شيخ الإسلام» (¬1). * * * ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (419 - 420).

الفصل الرابع أصول الإيمان ومقتضياته ولوازمه

الفصل الرابع أصول الإيمان ومقتضياته ولوازمه وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. المبحث الثاني: الإسلام والإيمان وحدود العلاقة بينهما. المبحث الثالث: أصل الإيمان الذي لا يصح إلاَّ بتحقيقه. المبحث الرابع: وجوب التباين بين أصل الإيمان وشعبه، وأصل الكفر وشعبه، ثابت بالكتاب والسنة. المبحث الخامس: حكم الاستثناء في الإيمان. المبحث السادس: كلما عظم الإيمان، اشتد الخوف من الكفر والنفاق.

تمهيد هام لسبر أغوار قضية الإيمان

تمهيد هام لسبر أغوار قضية الإيمان لقد أجمع علماء أهل السنَّة، جيلاً بعد جيل على أنَّ الإيمان: قول وعمل، وتمسك بالكتاب والسنَّة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، بل وعدُّوا ذلك أصلاً من أصولهم، التي من باين واحدًا منها صار خارجًا عن صراطهم، وداخلاً في سبل أهل الأهواء والبدع. ولقد انعقد الإجماع القديم على أن: الإيمان محله القلب والجوارح معًا؛ خلافًا لفرق المرجئة التي قصرته طائفة منهم على القلب، وبعضهم على اللسان، وبعضهم على القلب واللسان معًا دون بقية الجوارح. وكون الإيمان محله القلب والجوارح، فالمقصود به: الإيمان المطلق، وكذا مطلق الإيمان، أي: الإيمان بكل درجاته ودوائره. فالإيمان المطلق هو: القيام بعبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من الشرك، مع القيام بالواجبات والانتهاء عن المحرَّمات. وهذا الإيمان يستوجب لصاحبه دخول الجنات، والنجاة من النيران والعذاب. ومطلق الإيمان هو: القيام بالتوحيد، والبراءة من الشرك، مع القيام ببعض الواجبات وترك بعضها، بشرط أن لا يكون في فرض، يلزم من تركه فساد الإيمان بالكلية، كترك الصلاة كسلاً، عند من يعدها كفرًا من علماء السلف والخلف. وهذا الإيمان يجعل صاحبه في المشيئة الإلهية، ويحرم عليه الخلود في النيران.

ومما تقدَّم، نستطيع الوقوف على: الحد البين الواضح المفرق بين أهل السنَّة والخوارج في قضية الإيمان، فكلاهما نصَّ: على أنَّ الإيمان محله القلب والجوارح، لكن أهل السنَّة فرَّقوا في هذا المقام بين الإيمان المطلق، ومطلق الإيمان. فإذا اقترف العبد كبيرة من كبائر الذنوب، خرج بها من الإيمان المطلق إلى مطلق الإيمان، ولا يبطل إيمانه بالكلية إلاَّ بفعل ناقض من نواقض الإسلام. أما الخوارج فقد اشترطت الإيمان المطلق لكل عبد حتى يصح إسلامه، فإذا نقضه بفعل كبيرة، أو ترك فريضة، فقد بطل إيمانه وفسد بكل درجاته ودوائره. وبهذا انعقد إجماع أهل السنَّة على أن العاصي من الموحدين لا يخلد في النار، كما تواترت بذلك الآثار، خلافًا للخوارج والمعتزلة، وقد يدخلها بسبب ذنوبه، إن لم تدركه رحمة ربه تبارك وتعالى، ويمكث فيها ما شاء الله له ثم يخرج منها، وذلك خلافًا للغلاة من المرجئة التي نصبت راية النجاة من العذاب لكل العصاة من الموحدين زاعمة أن المعصية لا تضر مع الإيمان، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وعليه فإن إيمان العصاة من أهل القبلة، كإيمان الملائكة والنبِّيين والصدِّيقين ... ولقد دوّر السلف دائرة للإسلام، ودوَّروا داخلها دائرة للإيمان، ونصُّوا: على أن فعل الكبيرة يخرج صاحبه من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلاَّ الكفر المبين والردَّة عن الدين. * * *

المبحث الأول الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية

المبحث الأول الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: قال السائل: تفكَّرت في الإيمان وقوته وضعفه، وأن محلَّه القلب، وأن التقوى ثمرته ومركبة عليه، فبقوته تقوى، وبضعفه تضعف. فأجاب: قولك إن الإيمان محله القلب؛ فالإيمان بإجماع السلف محله القلب والجوارح جميعًا، كما ذكر الله في سورة الأنفال وغيرها؛ وأما كون الذي في القلب والذي في الجوارح، يزيد وينقص، فذلك شيء معلوم، والسلف يخافون على الإنسان إذا كان ضعيف الإيمان من النفاق، أو سلب الإيمان كله» (¬1). وقال الشيخ حسن ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد رحمهم الله تعالى: قال ابن القيم رحمه الله: ونحن نحكي إجماعهم، كما حكاه حرب، صاحب الإمام أحمد، بلفظه، قال في مسائله المشهورة، هذا مذهب أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنَّة المتمسِّكين بها، المقتدى بهم فيها، من لدن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء الحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مخالف مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن مذهب أهل السنَّة وسبيل الحق. قال: وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم، وعبد الله بن مخلد، ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 187).

وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا، وأخذنا عنهم العلم، فكان من قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية، وتمسك بالكتاب والسنَّة؛ والإيمان: يزيد وينقص، ويستثنى في الإيمان غير أن لا يكون شكًا، إنما هي سنة ماضية عند العلماء، وإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، ويقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. (أقوال الفرق في الإيمان) ومن زعم: أن الإيمان قول بلا عمل، فهو مرجئ؛ ومن زعم: أن الإيمان هو القول، والأعمال شرائع، فهو مرجئ، ومن زعم: أن الإيمان يزيد، ولا ينقص فقد قال بقوله المرجئة؛ ومن لم ير الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ؛ ومن زعم أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة، فهو مرجئ؛ ومن زعم أن المعرفة تقع في القلب، وإن لم يتكلم بها، فهو مرجئ» (¬1). وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى عن معنى أبيات من الشعر، قيلت في التوحيد فأجاب: «... الثالثة: هل يشترط في الواجب، النطق بالشهادتين؟ أو يصير مسلمًا بالمعرفة، فذكر (¬2): أنه لا يصير مسلمًا إلاَّ بالنطق للقادر عليه، والمخالف في ذلك جهم ومن تبعه؛ وقد أفتى الإمام أحمد، وغيره من السلف، بكفر من قال: إنه يصير مسلمًا بالمعرفة، وتفرع على هذه مسائل؛ منها: من دعي إلى الصلاة فأبى مع الإقرار بوجوبها، هل يقتل كفرًا أو حدًا؟ ومن قال: يقتل حدًا، من رأى أن هذا أصل المسألة. الرابعة: أن ابن كرَّام، وأتباعه، يقولون: إن الإيمان، قول باللسان، من ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 345، 346). (¬2) أي: صاحب الأبيات الشعرية.

غير عقيدة القلب، مع أنهم يوافقون أهل السنَّة، أنه مخلد في النار، فذكر أنه: لا بد مع النطق بتصديق القلب» (¬1). وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله تعالى: «ومذهب الأشاعرة: أن الإيمان مجرَّد التصديق، ولا يدخلون فيه أعمال الجوارح، قالوا: وإن سُمِّيت الأعمال في الأحاديث إيمانًا، فعلى المجاز، لا الحقيقة» (¬2). وقال أيضًا رحمه الله تعالى: «وأما المعتزلة: فهم الذين يقولون بالمنزلة بين المنزلتين؛ يعنون: أن مرتكب الكبيرة، يصير في منزلة بين الكفر والإسلام، فليس هو بمسلم، ولا كافر؛ ويقولون: إنه يخلد في النار، ومن دخل النار لم يخرج منها بشفاعة، ولا غيرها. وأول من اشتهر عنه ذلك: عمرو بن عبيد، وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين الجماعة، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة، وهم كانوا بالبصرة بعد موت الحسن البصري، وضم المعتزلة إلى ذلك: التكذيب بالقدر؛ ثم ضمُّوا إلى ذلك نفي الصفات؛ فيثبتون الاسم دون الصفة؛ فيقولون: عليم بلا علم؛ سميع بلا سمع؛ بصير بلا بصر؛ وهكذا سائر الصفات؛ فهم قدرية جهمية، وامتازوا (¬3): بالمنزلة بين المنزلتين، وخلود عصاة الموحدين في النار. وأما الخوارج: فهم الذين خرجوا على علي - رضي الله عنه -؛ وقبل ذلك: قتلوا ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 110، 111). (¬2) «الدرر السنية»: (1/ 364). (¬3) الحق أن المعتزلة لم تتميز بقول عن بقية الفرق، إلاَّ: بالمنزلة بين المنزلتين، وأما خلود عصاة الموحدين في النار، فقد شاركتهم فيه الخوارج.

عثمان - رضي الله عنه -؛ وكفروا عثمان، وعليًا، وطلحة، والزبير، ومعاوية، وطائفتي علي ومعاوية، واستحلوا دماءهم. وأصل مذهبهم: الغلو الذي نهى الله عنه، وحذر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكفروا من ارتكب كبيرة؛ وبعضهم: يكفر بالصغائر: وكفروا عليًا وأصحابه بغير ذنب، فكفَّروهم بتحكيم الحكمين: عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري، وقالوا: لا حكم إلاَّ لله. واستدلوا على قولهم بالتكفير بالذنوب، بعمومات أخطئوا فيها، وذلك كقوله سبحانه: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]. وقوله: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14]. وقوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]، وغير ذلك من الآيات. وأجمع أهل السنَّة والجماعة أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار إذا ماتوا على التوحيد؛ وأن من دخل النار منهم بذنبه يخرج منها، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأيضًا: فلو كان الزاني، وشارب الخمر، والقاذف، والسارق، ونحوهم: كفارًا مرتدين، لكان حكمهم في الدنيا القتل، الذي هو حكم الله في المرتدين؛ فلما حكم الله على الزاني البكر الجلد، وعلى السارق بالقطع، وعلى الشارب والقاذف بالجلد، دلَّنا حكم الله فيهم بذلك: أنهم لم يكفروا بهذه الذنوب، كما تزعمه الخوارج» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 360 - 363).

المبحث الثاني الإسلام والإيمان وحدود العلاقة بينهما

المبحث الثاني الإسلام والإيمان وحدود العلاقة بينهما سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله، عن الفرق بين الإسلام والإيمان، فأجاب: قد فسَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام والإيمان في حديث جبرائيل، وفسَّر الإسلام في حديث ابن عمر، وكلاهما في الصحيح، فقال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً»، وقال: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»، وقال في حديث ابن عمر: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت»، وفي رواية: «والحج، وصوم رمضان». قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام، فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنًا، ولا كل مسلم مؤمنًا، كما دلت عليه الأحاديث. انتهى كلامه. فإن قيل: قد فرَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبرائيل بين الإسلام والإيمان، والمشهور عن السلف وأئمة الحديث: أن الإيمان قول، وعمل، ونيَّة، وأنَّ الأعمال كلها داخلة في مسمَّى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم؟

فالجواب: أنَّ الأمر كذلك، وقد دلَّ على دخول الأعمال في الإيمان: الكتاب والسنَّة: أما الكتاب فكقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، وأما الحديث فكقوله في حديث أبي هريرة المتفق عليه: «الإيمان بضع وسبعون شُعبة، أعلاها قول لا إله إلاَّ الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان» وغير ذلك. فمن زعم: أن إطلاق الإيمان على الأعمال الظاهرة مجاز، فقد خالف الصحابة، والتابعين، والأئمة. إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه يجمع بين الأحاديث: بأن أعمال الإسلام داخلة في مسمَّى الإيمان، شاملاً لها، ففسرت بالإسلام، وهي جزء مسمَّى الإيمان، لكون الإيمان مثالاً لها ولغيرها، من الأعمال الباطنة والظاهرة، فإذا أفرد الإيمان في آية أو حديث، دخل فيه الإسلام، وإذا قرن بينهما فسر الإسلام بالأركان الخمسة، كما في حديث جبريل، وفسَّر الإيمان بأعمال القلب، لأنها أصل الإيمان ومعظمه، وقوته وضعفه: ناشئ عن قوة ما في القلب، من هذه الأعمال أو ضعفها. وقد يضعف ما في القلب، من الإيمان بالأصول الستة، حتى يكون وزن ذرة، كما في الحديث الصحيح: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان». فبقدر ما في القلب من الإيمان، تكون الأعمال الظاهرة، التي هي داخلة في مسمَّاه، وتسمَّى إسلامًا وإيمانًا، كما في حديث وفد عبد القيس، حين قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خُمس ما غنمتم»، فهذه

الأعمال الظاهرة والباطنة، فمن ترك شيئًا من الواجبات، أو فعل شيئًا من المحرَّمات، نقص إيمانه بحسب ذلك، وهو دليل على نقصان أصل الإيمان، وهو إيمان القلب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، في الكلام على الإسلام والإيمان والإحسان، وما بين الثلاثة من العموم والخصوص: أما الإحسان: فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان: أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام. فالإحسان: يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون: أخص من المؤمنين، والمؤمنون: أخص من المسلمين. انتهى. وهذا يبيِّن ما قرَّرنا. فحينئذ يتبين الإيمان الكامل، الذي صاحبه يستحق عليه دخول الجنة. والنجاة من النار، هو: فعل الواجبات، وترك المحرَّمات، وهو: الذي يطلق على من كان كذلك بلا قيد، وهو الإيمان: الذي يسميه العلماء: الإيمان المطلق. وأما من لم يكن كذلك، بل فرَّط في بعض الواجبات، أو فعل بعض المحرَّمات، فإنه لا يطلق عليه الإيمان إلاَّ بقيد، فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو يقال: مؤمن ناقص الإيمان، لكونه ترك بعض واجبات الإيمان، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»، أي: ليس موصوفًا بالإيمان الواجب، الذي يستحق صاحبه الوعد بالجنة، والمغفرة والنجاة من النار، بل هو تحت المشيئة: إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه على ترك ما وجب عليه من الإيمان، وارتكابه الكبيرة. وقيل: هذا يوصف بالإسلام دون الإيمان، ولا يسمَّى مؤمنًا إلاَّ بقيد، وهذا الذي يسميه العلماء مطلق الإيمان، أي: أنه أتى بالأركان الخمسة، وعمل بها باطنًا وظاهرًا، وهذا الذي قلنا من معنى الإسلام والإيمان، هو

مذهب الإمام أحمد، وطائفة من السلف والمحققين، وذهب طائفة من أهل السنَّة أيضًا إلى أنَّ الإسلام والإيمان شيء واحد، وهو الدين، فيسمَّى إسلامًا وإيمانًا، فهما اسمان لمسمَّى واحد، والأول أصح، وهو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتبه، فلا تلتفت إلى ما يخالف هذين القولين، والله أعلم (¬1). * * * من المعلوم من الدين بالضرورة: أنه يجب الإيمان بكل ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالإيمان بالشريعة كلٌّ لا يتجزأ، ومن ثمَّ من وقع في ردّ أي حكم من أحكامها، يكون كافرًا، ولو كان مقرًا بكل ما أنزل الله فيها. والإيمان والكفر، ضدان لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولكل منهما أصل وشُعب. فأصل الإيمان: التوحيد، وشُعبه: الطاعات، وأصل الكفر: الشرك، وشُعبه: المعاصي. فالضد من أصل الإيمان وشُعبه، يستحيل أن يجتمع مع ضده من أصل الكفر وشُعبه. فالعبد إذا قامت به شُعبة من شُعب الكفر دون أصله، لا يكون كافرًا، وكذلك إذا قامت به شُعبة من شُعب الإيمان دون أصله، لا يصير مؤمنًا. فحكم الكفر لا ينحل عن صاحبه، حتى يحقق أصل الإيمان لا شُعبه، وكذلك حكم الإيمان لا يفارق صاحبه، حتى يقوم به أصل الكفر لا شُعبه، وبعبارة أخرى: إن الإيمان لا يثبت لكافر، حتى ينخلع من أصل الكفر، لا شُعبه، كما أن الكفر لا يثبت على مؤمن، حتى يذهب عنه أصل الإيمان لا شُعبه. والحاصل: أن للإيمان أصل، لا يتم ولا يصح الإسلام والإيمان إلاَّ به إجماعًا. ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 334 - 337).

فأصل الإسلام والإيمان: القيام بمعنى (لا إله إلاَّ الله) إقرارًا وعلمًا وعملاً، ومدلول ذلك يتمثل في: عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بكل ما يُعبد من دونه، مع الإقرار والقبول لكافة أحكام الله تعالى. وللإسلام والإيمان، علاقة وطيدة تربط بينهما، وعلى ضوء قواعدها، نستطيع الوقوف على أسماء وأحكام الكفر والإيمان. فالإسلام قد يفسر بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة، إلاَّ أنه لا يصح قبول أي واحد منهما بمعزل عن الآخر. فالإسلام بدون إيمان نفاق أكبر، والإيمان بدون إسلام دعوى لا حقيقة لها؛ ومن ثمَّ كانت المؤثرات السلبية والإيجابية الظاهرة واحدة على كل منهما. فإذا قام دليل صحيح منضبط على فساد الظاهر أو الباطن، قطعنا بفساد الإسلام والإيمان، هذا مع قولنا: إن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو الأعمال الباطنة فينبغي التفطن لهذا الموضع فإنه نافع جدًا، وبه نعلم حقيقة العلاقة الصحيحة المنضبطة بين الإسلام والإيمان. والناس يتفاضلون في الإسلام والإيمان تفاضلاً عظيمًا، ويكونون فيه على درجات متفاوتة، بحسب ما قام في قلوبهم من: الصدق واليقين والإخلاص، وعلى جوارحهم من: الانقياد والطاعة والقبول والإذعان. وبهذا يعلو جليًا: الفرق البين الواضح، بين الإيمان والكفر، والإسلام والشرك، والطاعة والمعصية، وأحكام كل واحد منهم. والحاصل: أنَّ من سوَّى بين أصل الإيمان وشُعبه، وأصل الكفر وشُعبه، في الأسماء والأحكام، يكون قد خالف الكتاب والسَّنة وإجماع سلف الأمة، وأحلّ بنفسه البدعة، ودخلها من أوسع أبوابها، مترديًا في أودية هلاكها.

المبحث الثالث أصل الإيمان الذي لا يصح إلا بتحقيقه

المبحث الثالث أصل الإيمان الذي لا يصح إلا بتحقيقه قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن في أثناء كلام له عن تقرير الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لقضية التوحيد والأدلة عليها: «قال: الشيخ رحمه الله يوضح ذلك أنَّ أصل الإسلام وقاعدته شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل لا بدَّ فيه من العلم والعمل والإقرار، بإجماع المسلمين» (¬1). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فرض الإيمان بما جاء به كله، لا تفريق فيه، فمن آمن ببعض، وكفر ببعض، فهو كافر حقًا، بل لا بد من الإيمان بالكتاب كله. فإذا عرفت أنَّ من الناس من يصلي ويصوم، ويترك كثيرًا من المحرمات، لكن لا يروثون المرأة، ويزعمون أن ذلك هو الذي ينبغي اتباعه، بل لو يورثها أحد عندهم، ويخلف عادتهم، أنكرت قلوبهم ذلك، أو ينكر عدة المرأة في بيت زوجها، مع علمه بقول الله تعالى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] ويزعم أن تركها في بيت زوجها لا يصلح، وأن إخراجها عنه، هو الذي ينبغي فعله، وأنكر التحية بالسلام، مع معرفة أن الله شرعه، حبًا لتحية الجاهلية لما ألفها، فهذا يكفر، لأنه آمن ببعض وكفر ببعض، بخلاف من عمل المعصية، أو ترك الفرض، مثل فعل الزنا، وترك بر الوالدين، مع اعترافه أنه مخطئ، وأن أمر الله، هو الصواب» (¬2). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 518). (¬2) «الدرر السنية»: (1/ 123).

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: «أما النطق بلا إله إلاَّ الله، من غير معرفة لمعناها، ولا يقين، ولا عمل بما تقتضيه من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل، قول القلب وقول اللسان، وعمل القلب والجوارح، فغير نافع بالإجماع» (¬1). وقال أيضا رحمه الله تعالى: «والإيمان بالله وحده، هو: البراءة مما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان وإخلاص العبادة لله، لا يرتاب في هذا مسلم. فمن شك في أن هذا هو معنى لا إله إلاَّ الله، فليس معه من الإسلام ما يزن حبة خردل» (¬2). وقال أيضًا رحمه الله تعالى: «إن الكفر بالطاغوت: ركن التوحيد، كما في آية البقرة أي قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256]، فإذا لم يحصل هذا الركن، لم يكن موحِّدًا، والتوحيد: هو أساس الإيمان، الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه. اهـ» (¬3). وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله تعالى: «وأصل الإيمان بالله وحده: هو عبادته وحده لا شريك له، وقد فسَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في حديث (وفد عبد القيس). هذا هو الإيمان الذي اختصَّ به المؤمنون، وجحده المشركون، وفيه وقع النزاع، وله شرع الجهاد، وانقسم العباد» (¬4). ¬

(¬1) «فتح المجيد»: (ص 39). (¬2) «مجموعة الرسائل»: (4/ 322). (¬3) «فتح المجيد» (ص 380)، بتصرف بسيط. (¬4) «مجموعة الرسائل والمسائل»: (3/ 225، 226).

المبحث الرابع وجوب التباين بين أصل الإيمان وشعبه وأصل الكفر وشعبه، ثابت بالكتاب والسنة

المبحث الرابع وجوب التباين بين أصل الإيمان وشعبه وأصل الكفر وشعبه، ثابت بالكتاب والسنة لقد أصل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن أصولاً ذهبية في قضية الإيمان - قد استقاها من الإمام العلامة ابن قيم الجوزية - لا يمكن الاستغناء عنها لمن أراد الوقوف على علل وأحكام الإيمان والكفر، فقال رحمه الله: «وهنا أصول، أحدهما: أن السنة والأحاديث النبوية، هي المبينة للأحكام القرآنية، وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله، في: باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن، والكافر، والمشرك، والموحِّد، والفاجر، والبر، والظالم، والتقي، وما يراد بالموالاة، والتولي، ونحو ذلك من الحدود .... الأصل الثاني: أن الإيمان أصل، له شُعب متعددة، كل شعبة منها تسمَّى إيمانًا، فأعلاها: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. فمنها: ما يزول الإيمان بزواله إجماعًا، كشعبة الشهادتين، ومنها: ما لا يزول بزواله إجماعًا، كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين شُعب متفاوتة، منها:" ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها: ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق ويكون إليها أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها، مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. وكذلك الكفر أيضًا، ذو أصل وشعب، فكما أنَّ شُعب الإيمان: إيمان، فشُعب الكفر: كفر، والمعاصي كلها من شُعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شُعب الإيمان، ولا يسوَّى بينهما في الأسماء والأحكام، وفرق بين

من ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام، أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف، وبين من يسرق، ويزني، أو يشرب، أو ينهب، أو صدر منه نوع موالاة، كما جرى لحاطب، فمن سوَّى بين شُعب الإيمان في الأسماء والأحكام، أو سوَّى بين شُعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء. الأصل الثالث: أن الإيمان مركب، من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو: اعتقاده. وقول اللسان، وهو: التكلُّم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب وهو: قصده، واختياره، ومحبته، ورضاه، وتصديقه. وعمل الجوارح: كالصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة. فإذا زال تصديق القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية. وإذا زال شيء من الأعمال، كالصلاة، والحج، والجهاد، مع بقاء تصديق القلب وقَبوله، فهذا محل خلاف، هل يزول الإيمان بالكلية، إذا ترك أحد الأركان الإسلامية، كالصلاة، والحج، والزكاة، والصيام، أو لا يزول؟ وهل: يكفر تاركه أو لا يكفر؟ وهل: يفرق بين الصلاة، وغيرها، أو لا يفرق؟ فأهل السنة: مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب، الذي هو: محبته، ورضاه، وانقياده، والمرجئة تقول: يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمنًا، والخلاف في أعمال الجوارح، هل يكفر أو لا يكفر، واقع بين أهل السنة والمعروف عند السلف: تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والقول الثاني: أنه لا يكفر إلاَّ من جحدها.

والثالث: الفرق بين الصلاة وغيرها، وهذه الأقوال، معروفة. وكذلك المعاصي والذنوب التي هي: فعل المحظورات، فرقوا فيها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه، وما دون ذلك، وبين ما سمَّاه الشارع كفرًا وما لم يسمه، هذا ما عليه أهل الأثر، المتمسِّكون بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها. الأصل الرابع: أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو: أن يكفر بما علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء به من عند الله، جحودًا وعنادًا، من: أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، التي أصلها توحيده، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه ... الأصل الخامس: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شُعب الإيمان بالعبد، أن يسمِّى مؤمنًا، ولا يلزم من قيام شعبة من شُعب الكفر، أن يسمَّى كافرًا وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يسمَّى عالمًا، أو طبيبًا، أو فقيهًا، وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها اسم الكفر، كما في الحديث: «اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت»، وحديث: «من حلف بغير الله فقد كفر»، ولكنه لا يستحق اسم الكفر على الإطلاق» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 47 - 485).

المبحث الخامس حكم الاستثناء في الإيمان

المبحث الخامس حكم الاستثناء في الإيمان لقد انقسم المسلمون في حكم الاستثناء في الإيمان إلى الثلاثة أقوال: منهم من يوجبه، ومنهم من يحرِّمه، ومنهم من يجوِّز الأمرين باعتبارين مختلفين، وهذا أصل الأقوال لاستمداد مشروعيته من القواعد الصحيحة المنضبطة لدى سلف الأمة في قضية الإيمان. فالاستثناء في الإيمان لدى أهل السنة يعود إلى الموافاة -، وإلى كماله الواجب، وأما الاستثناء فيه شكًا فقد أجمعوا على حرمته. وإذا قال واحد من السلف: أنا مؤمن من غير استثناء، فقد أراد بذلك: مطلق الإيمان، لا الإيمان المطلق، أو الإيمان المقيد، لا الإيمان الواجب أو المستحب، ولقد صدَّعت الموافاة على الإيمان: قلوب المؤمنين، وكان الواحد منهم، كلما عظم إيمانه، اشتد خوفه من النفاق والكفر، وسوء الخاتمة. سئل الشيخ حمد بن عتيق، عن قول الفقهاء: من قال أنا مؤمن إن شاء الله، إن نوى به في الحال، يكفر، وإن نوى به في المآل، لم يكفر؟! فأجاب: هذا سؤال من لا يحسن السؤال، فإن ظاهره: أن جميع الفقهاء يقولون ذلك، ومن له خبرة بأقوال الفقهاء، تحقق أن هذه مجازفة عليهم وقول بلا علم، فإن كان بعض المتأخرين، من بعض أهل المذاهب قال ذلك، فهو: قول محدث، من أقوال أهل البدع، وأنا أذكر لك من كلام العلماء في الاستثناء في الإيمان، وهو قول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، ليتضح الخطأ

من الصواب، ويعلم مَن الأولى بالحق في هذا الباب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما الاستثناء في الإيمان، بقول الرجل: أما مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال: منهم: من يوجبه. ومنهم: من يحرمه. ومنهم: من يجوِّز الأمرين، باعتبارين. وهذا: أصح الأقوال. فالذين يحرمونه، هم: المرجئة، والجهمية، ونحوهم، ممن يجعل الإيمان شيئًا واحدًا، يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب، ونحو ذلك مما في قلبه، فيقول أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني قرأت الفاتحة، فمن استثنى في إيمانه، فهو شاك فيه عندهم. وأما الذين أوجبوا الاستثناء، فلهم فيه مأخذان، أحدهما: أن الإيمان، هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنًا، وكافرًا باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وهو: مأخذ كثير من المتأخرين، من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما استشهد عليه أهل السنَّة والحديث، من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه، وإنما يشك في المستقبل، وهذا: وإن علل به كثير من المتأخِّرين من أصحاب الحديث، من أصحاب أحمد، ومالك، والشافعي، وغيرهم، فما علمت أحدًا من السلف علَّل به الاستثناء. قلت: فالمرجئة، والجهمية، يحرِّمون الاستثناء، في الحال والمآل، وهؤلاء: يبيحونه في المآل، ويمنعونه في الحال. قال شيخ الإسلام رحمه الله: والمأخذ الثاني في الاستثناء: أن الإيمان المطلق، يتضمن فعل ما أمر الله به كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال

الرجل: أما مؤمن بهذا الاعتبار، فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين، القائمين فعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لها بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، وهذا: مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوَّزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر. وروى الخلال عن أبي طالب قال: سمعت أبا عبد الله، يقول: لا نجد بدًا من الاستثناء، لأنهم إذا قالوا مؤمن، فقد جاءوا بالقول، فإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول، وعن إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن يستثني في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومثل هذا كثير من كلام أحمد، وأمثاله» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 511 - 554).

المبحث السادس كلما عظم الإيمان، اشتد الخوف من الكفر والنفاق

المبحث السادس كلما عظم الإيمان، اشتد الخوف من الكفر والنفاق سئل الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى: هل يجوز للإنسان أن يحدث نفسه بقول: أنا منافق؟ أنا أخشى الكفر؟ هل هذا شك في الدين؟ أم لا؟ الجواب: قال البخاري، في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: «أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبرائيل وميكائيل». وقال ابن القيم: تالله لقد قطع خوف النفاق، قلوب السابقين الأولين، لعلمهم بدقه، وجله، وتفاصيله، وجمله، ساءت ظنونهم بنفوسهم، حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا حذيفة ناشدتك الله، هل سمَّاني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحدًا، يعني: لا أفتح هذا الباب في تزكية الناس، ليس معناه: أنه لم يبرئ من النفاق غيره. وكيف كان ما هو من صفات السابقين الأولين، شكًا في الدين؟ وعن الحسن البصري - في النفاق - ما أمنه إلاَّ منافق، ولا خافه إلاَّ مؤمن. وقال ابن القيم رحمه الله: وبحسب إيمان العبد ومعرفته، يشتد خوفه أن يكون منهم، ولهذا: اشتد خوف سادة الأمة، وسابقيها على أنفسهم، أن يكونوا منهم. انتهى.

فكلما زاد الإيمان، اشتد الخوف من النفاق، وعلى حسب ضعف الإيمان يكون الأمن منه، وأما خوف الكفر فيكفي فيه قول الله تعالى، إخبارًا عن خليله إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وهو يدل على شدة خوفه من هذا الأمر، وفي الدعاء المأثور: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر، وأن أُردّ إلى أرذل العمر». واعلم: أن كون الإنسان، يشتد خوفه من الكفر، والنفاق، ويكثر البحث عن أسبابهما ونحو ذلك، هو أمر غير التلفظ به، وكونه يقول: أنا منافق، فذاك لون، وهذا لون» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 557، 558).

الفصل الخامس الطاغوت وصفة الكفر به

الفصل الخامس الطاغوت وصفة الكفر به وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: معنى الطاغوت وذكر بعض أفراده. المبحث الثاني: رءوس الطواغيت وصفة الكفر بهم. المبحث الثالث: تكفير الطاغوت وشيعته، والبراءة منهم، شرط في صحة الإسلام. المبحث الرابع: الكفر بالطاغوت شطر التوحيد، والتوحيد أساس الإيمان وركنه الأعظم، والتحاكم إلى الطاغوت أو الحكم به، إيمان بالطاغوت وكفر بالله العظيم، ومروق من ملة المسلمين.

المبحث الأول معنى الطاغوت وبعض أفراده

المبحث الأول معنى الطاغوت وبعض أفراده قال عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين: «وأما تعريف الطاغوت: فهو مشتق من طغا، وتقديره طغووت، ثم قلبت الواو ألفًا، قال النحويُّون: وزنه فعلوت، والتاء زائدة، وقال الواحدي: قال جميع أهل اللغة: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، يكون واحدًا وجمعًا، ويذكر ويؤنث، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء: 60]، فهذا في الواحد. وقال تعالى في الجمع: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]. وقال في المؤنث: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17]، قال: ومثله في أسماء الفلك يكون واحدًا وجمعًا ومذكرًا ومؤنثًا. قال: قال الليث وأبو عبيدة والكسائي وجماهير أهل اللغة: الطاغوت كل ما عبد من دون الله، وقال الجوهري: الطاغوت الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقال مالك وغير واحد من السلف والخلف: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وابن عباس رضي الله عنهما وكثير من المفسرين: الطاغوت الشيطان. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهو قول قوي جدًا، فإنه يشتمل كل ما عليه أهل الجاهلية من: عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها. وقال الواحدي عند قول الله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]:

كل معبود من دون الله فهو جبت وطاغوت؛ قال ابن عباس في رواية عطية: الجبت الأصنام، والطاغوت تراجمة الأصنام الذين يكونون بين أيديها يعبرون عنه الكذب ليضلوا الناس، وقال في رواية الوابي: الجبت الكاهن، والطغوت الساحر. وقال بعض السلف في قوله سبحانه: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60]، إنه كعب بن الأشرف. وقال بعضهم: حيّ بن أخطب. وإنما استحقَّا هذا الاسم لكونهما من رءوس الضلال، ولإفراطهما في الطغيان وإغوائهما الناس، ولطاعة اليهود لهما في معصية الله، فكل من كان بهذه الصفة فهو طاغوت. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60]، ولما ذكر ما قيل إنها نزلت فيمن طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف أو إلى حكم الجاهلية وغير ذلك، قال: والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة، لمن عدل عن الكتاب والسنَّة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ههنا. فتحصَّل من مجموع كلامهم رحمهم الله تعالى أن اسم «الطاغوت» يشمل كل معبود من دون الله، وكل رأس في الضلال يدعو إلى الباطل ويحسنه، ويشمل أيضًا كل من نصبه الناس للحكم بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم الله ورسوله، ويشمل أيضًا الكاهن والساحر وسدنة الأوثان إلى عبادة المقبورين وغيرهم بما يكذبون من الحكايات المضلَّة للجهَّال، الموهمة أن المقبور ونحوه يقضي حاجة من توجه إليه وقصده، وأنه فعل كذا وكذا مما هو كذب أو من فعل الشياطين، ليوهموا الناس أن المقبور ونحوه يقضي حاجة من قصده، فيوقعهم في الشرك الأكبر وتوابعه.

وأصل هذه الأنواع كلها وأعظمها الشيطان، فهو الطاغوت الأكبر، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلَّى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا» (¬1). وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: السؤال الثالث من الفتوى رقم (8008): س: ما معنى الطاغوت عمومًا، مع الإشارة إلى تفسير ابن كثير لآية النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 60]. المراد هنا توضيح أمرين: الأول: ما معنى الطاغوت عمومًا، وهل يدخل كما قال ابن كثير طاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه دون الله لكي نصل إلى تفسير الحاكم والمتحاكمين إليه حال كونه لا يحاكم بشرعه سبحانه. الثاني: معنى قوله {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ} قال بعضهم الإرادة هنا لا تحصل إلاَّ بالباطن ولا يعلم أحد به لذا فلا يحكم بكفر المتحاكم إلاَّ بتوافر شرط العلم بالإرادة الباطنية وهو غير حاصل، الإرادة محمولة على المعنى الظاهرة، الاستدلال بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرضا والمتابعة، أي: ذلك صواب. الحمد لله وحده والصلاة والسَّلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد: ج: أولاً: معنى الطاغوت العام: هو كل ما عبد من دون الله مطلقًا، تقربًا إليه بصلاة أو صيام أو نذر أو ذبيحة أو لجوء إليه، فيما هو من شأن الله، لكشف ضر، أو جلب نفع، أو تحكيمًا له بدلاً من كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك. ¬

(¬1) «مجموعة التوحيد»: (ص 498 - 500).

والمراد بالطاغوت في الآية: كل ما عدل عن كتاب الله تعالى وسنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، إلى التحاكم إليه من: نظم وقوانين وضعية، أو تقاليد وعادات متوارثة، أو رؤساء قبائل ليفصل بينهم بذلك، أو بما يراه زعيم الجماعة، أو الكاهن. ومن ذلك يتبين: أن النظم التي وضعت ليتحاكم إليها مضاهاة لتشريع الله داخلة في معنى الطاغوت. لكن من عبد من دون الله وهو غير راض بذلك كالأنبياء والصالحين لا يسمَّى طاغوتًا وإنما الطاغوت الشيطان الذي دعاهم إلى ذلك وزينه لهم من الجن والإنس. ثانيًا: المراد بالإرادة في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ}: ما صحبه فعل، أو قرائن وأمارات تدل على القصد والإرادة، بدليل ما جاء في الآية التي بعد هذه الآية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 61]، ويدل على ذلك أيضًا: سبب النزول الذي ذكره ابن كثير وغيره في تفسير هذه الآية، وكذلك المتاعبة دليل الرضا، وبذلك يزول الإشكال القائل: إن الإرادة أمر باطن فلا يحكم على المريد إلاَّ بعلمها منه وهو غير حاصل. وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز (¬1) * * * ¬

(¬1) «فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء»: (1/ 542، 543).

المبحث الثاني رءوس الطواغيت، وصفة الكفر بها

المبحث الثاني رءوس الطواغيت، وصفة الكفر بها قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «اعلم رحمك الله تعالى أن أوَّل ما فرض الله على ابن آدم: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. فأما صفة الكفر بالطاغوت: فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم. وأما معنى الإيمان بالله: فأن تعتقد أن الله هو الإله المعبود وحده دون من سواه، وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله، وتنفيها من كل معبود سواه، وتحب أهل الإخلاص وتواليهم، وتبغض أهل الشرك وتعاديهم. والطاغوت عام، فكل ما عُبد من دون الله ورضى بالعبادة من معبود أو متبوع أو مطاع في غير الله ورسوله فهو طاغوت. والطواغيت كثيرة، ورءوسهم خمسة: (الأول): الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يس: 60]. (الثاني): الحاكم الجائر المغيِّر لأحكام الله تعالى، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 60].

(الثالث): الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. (الرابع): الذي يدَّعي علم الغيب من دون الله، والدليل قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26، 27] ... (الخامس): الذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة، والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29]. واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمنًا بالله إلاَّ بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]» (¬1). وقال الشيخ سليمان بن سمحان رحمها الله تعالى: هذه كلمات في بيان الطاغوت، ووجوب اجتنابه، قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. فبيَّن تعالى أنَّ المستمسك بالعروة الوثقى، هو الذي يكفر بالطاغوت، وقدم الكفر به على الإيمان بالله، لأنه قد يدعي المدعي أنه يؤمن بالله، وهو لا يجتنب الطاغوت، وتكون دعواه كاذبة ... والمراد من اجتنابه هو: بغضه، وعداوته بالقلب، وسبِّه وتقبيحه باللسان، وإزالته باليد عند القدرة ومفارقته، فمن ادعى اجتناب الطاغوت ولم يفعل ذلك فما صدق. ¬

(¬1) مجموعة التوحيد: (ص 329، 330)، والدرر السنية (1/ 161 - 163).

وأما حقيقته والمراد به، فقد تعددت عبارات السلف عنه، وأحسن ما قيل فيه، كلام ابن القيم رحمه الله تعالى حيث قال: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه، غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه من غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم، إذا تأملتها، وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله، إلى طاعة الطاغوت ومتابعته. انتهى. وحاصله: أن الطاغوت ثلاثة أنواع؛ طاغوت حكم، وطاغوت عبادة، وطاغوت طاعة، ومتابعة، والمقصود في هذه الورقة هو: طاغوت الحكم، فإن كثيرًا من الطوائف المنتسبين إلى الإسلام، قد صاروا يتحاكمون إلى عادات آبائهم، ويسمون ذلك الحق بشرع الرفاقة، كقولهم شرع عجمان، وشرع قحطان، وغير ذلك، وهذا هو الطاغوت بعينه الذي أمر الله باجتنابه. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاجه، وابن كثير في تفسيره: أن من فعل ذلك فهو كافر بالله، زاد ابن كثير يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله» (¬1). قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله تعالى -: «كل من حكم بغير شرع الله فهو: طاغوت» (¬2). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 502 - 505). (¬2) «تيسير الكريم الرحمن»: (1/ 363).

المبحث الثالث تكفير الطاغوت وشيعته، والبراءة منهم، شرط في صحة الإسلام

المبحث الثالث تكفير الطاغوت وشيعته، والبراءة منهم، شرط في صحة الإسلام قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «ومعنى الكفر بالطاغوت: أن تبرأ من كل ما يعتقد فيه غير الله من جني أو إنسي أو شجر أو حجر أو غير ذلك، وتشهد عليه بالكفر والضلال، وتبغضه ولو كان أباك وأخاك. فأما من قال أنا لا أعبد إلاَّ الله وأنا لا أتعرَّض السَّادة والقباب على القبور، وأمثال ذلك، فهذا كاذب في قول لا إله إلاَّ الله، ولم يكفر بالطاغوت» (¬1). وقال رحمه الله: «لا يصح دين الإسلام إلاَّ بالبراءة من الطواغيت وتكفيرهم، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256]» (¬2). اهـ. وقال أيضًا رحمه الله مبينًا الفرق بين الظلم الأكبر، والأصغر: «وأين الظلم الذي إذا تكلَّم الإنسان بكلمة منه، أو مدح الطواغيت، أو جادل عنهم خرج من الإسلام، ولو كان صائمًا قائمًا، من الظلم الذي لا يخرج من الإسلام، بل إما يؤدي إلى صاحبه بالقصاص، وإما أن يغفره الله، فبين الموضعين فرق عظيم» (¬3). وقال أيضًا رحمه الله تعالى: - بعد أن تكلم عن التوحيد وأنواعه وأدلته: «فالله الله إخواني: تمسكوا بأصل دينكم أوله وآخره، أسِّه ورأسه، وهو: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، واعرفوا معناها، وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم، ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (4/ 33، 34). (¬2) «الدرر السنية»: (10/ 53)، بتصرف بسيط. (¬3) «الدرر السنية»: (10/ 55 - 66).

ولو كانوا بعيدين؛ واكفروا بالطواغيت، وعادوهم، وابغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم، أو قال: ما عليَّ منهم، أو قال: ما كلَّفني الله بهم، فقد كذب على الله وافترى، بل كلفه الله بهم، وفرض عليه الكفر بهم، والبراءة منهم، ولو كانوا: إخوانه وأولاده. فالله الله، تمسكوا بأصل دينكم لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئًا. اللَّهُمَّ توفَّنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى: «وأنت يا من منَّ الله عليه بالإسلام، وعرف أن ما من إله إلاَّ الله، لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق، وأنا تارك ما سواه لكن لا أتعرَّض للمشركين، ولا أقول فيهم شيئًا، لا تظن: أن ذلك يحصل لك به الدخول في الإسلام، بل: لا بدّ من بغضهم، وبغض من يحبهم، ومسبَّتهم، ومعاداتهم؛ كما قال أبوك إبراهيم والذين معه: {إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. ولو يقول رجل: أنا أتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على الحق، لكن: لا أتعرَّض اللاَّت، والعزَّى، ولا أتعرَّض أبا جهل، وأمثاله، ما عليّ منهم؛ لم يصح إسلامه» (¬2). وقال عبد الرحمن بن حسن: «مَن عرف معنى لا إله إلاَّ الله، عرف: أن من شك، أو تردَّد في كفر من أشرك مع الله غيره، أنه لم يكفر بالطاغوت» (¬3). اهـ. ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 119، 120). (¬2) «الدرر السنية»: (2/ 109). (¬3) «الدرر السنية»: (11/ 523)، بتصرف بسيط.

المبحث الرابع الكفر بالطاغوت شطر التوحيد، والتوحيد أساس الإيمان وركنه الأعظم، والتحاكم إلى الطاغوت، أو الحكم به، إيمان بالطاغوت وكفر بالله العظيم، ومروق من ملة المسلمين

المبحث الرابع الكفر بالطاغوت شطر التوحيد، والتوحيد أساس الإيمان وركنه الأعظم، والتحاكم إلى الطاغوت، أو الحكم به، إيمان بالطاغوت وكفر بالله العظيم، ومروق من ملة المسلمين قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه على كتاب التوحيد: «باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} [النساء: 60]. قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: والآية ذامَّة لمن عدل عن الكتاب والسنَّة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ههنا. وتقدم ما ذكره العلاَّمة ابن القيم رحمه الله تعالى في حدِّه للطاغوت، وأنه كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد حاكم إلى الطاغوت، الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به. فإنَّ التحاكم ليس إلاَّ إلى كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن كان يحكم بهما، فمن تحاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حدَّه، وخرج عمَّا شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنزله منزلة لا يستحقها. وكذلك من عبد شيئًا دون الله فإنما عبد الطاغوت، فإن كان المعبود صالحًا صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [يونس: 28 - 30].

وكقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ: 40، 41]. وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه، أو كان شجرًا أو حجرًا أو قبرًا، أو غير ذلك مما يتخذه المشركون أصنامًا على صور الصالحين، والملائكة وغير ذلك، فهي من الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده أن يكفروا بعبادته، ويتبرأوا منه، من عبادة كل معبود سوى الله كائنًا من كان، وهذا كله من عمل الشيطان وتسويله، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزيَّنَه لمن فعله، وهذا ينافي التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله. فالتوحيد: هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله، وكما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حدَّه وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه. قال الإمام مالك رحمه الله: «الطاغوت ما عبد من دون الله». وكذلك من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورغب عنه، وجعل لله شريكًا في الطاعة وخالف ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أمره الله تعالى به في قوله: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]. وقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فمن خالف ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل

الله، أو طلب ذلك اتباعًا لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن. فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: {يَزْعُمُونَ} من نفي إيمانهم، فإن يزعمون إنما يقال غالبًا: لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}، لأن الكفر بالطاغوت: ركن التوحيد. كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحدًا، والتوحيد هو: أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه. كما أن ذلك بيّن في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256]، وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت: إيمان به. وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 60]، يبيِّن تعالى في هذه الآية أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزيِّنه لمن أطاعه، ويبيِّن أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله، وأكده بالمصدر، ووصفه بالعبد، فدلَّ على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى. ففي هذه الآية أربعة أمور: الأول: أنه من إرادة الشيطان. الثاني: أنه ضلال. الثالث: تأكيد بالمصدر. الرابع: وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى. فسبحان الله ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه، وما أدله على أنه كلام رب العالمين، أوحاه إلى رسوله الكريم، وبلَّغه عبده الصادق الأمين. صلوات الله وسلامه عليه» (¬1). ¬

(¬1) «فتح المجيد»: (ص 379 - 381).

الفصل السادس الحكم لله وحده وحكم من بدل شرائع الإسلام أو حكم بغير ما أنزل الله

الفصل السادس الحكم لله وحده وحكم من بدل شرائع الإسلام أو حكم بغير ما أنزل الله وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: الطاعة في التحليل والتحريم من أخص خصائص العبادة، ومن ثم كان كل من قبلها من أي عبد فقد اتخذه ربًا وإن لم يصلِّ له ويتقرب إليه. المبحث الثاني: أمر الله المؤمنين برد كل ما تنازعوا فيه من أصول دينهم وفروعه إلى الله ورسوله، ومن لم يفعل دلّ ذلك على كفره برب العالمين ومروقه من دين المسلمين. فحكم الله وحده شقيق عبادة الله وحده، وهما مضمونا الشهادتين، وعلى القيام بهذا المضمون فعلا وتركا، جُرِّدت سيوف الموحدين للجهاد. المبحث الثالث: من أعظم الفساد في الأرض: التحاكم إلى غير الله ورسوله، ومن ثم كان إباء التحاكم إلى الكتاب والسنة، دليلاً قاطعًا على الكفر والنفاق والزندقة. المبحث الرابع: من خرج عن حكم الله، وعدل إلى ما سواه من الأحكام الجاهلية، وجعل ذلك شريعة مقدمة أو مزاحمة لشريعة الله، فهو كافر يجب قتاله حتى يعود إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم في قليل ولا كثير سواه وأي دولة تنتهج هذا النهج، تصبح دولة جاهلية كافرة ظالمة، يجب بغضها ومعاداتها، وتحرم مودتها وموالاتها.

المبحث الخامس: أيما طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنها تقاتل عليها قتال كفر وردَّة عن الإسلام، وإن كانت مقرة بها، وناطقة بالشهادتين، وملتزمة لغيرها من الشرائع. وبهذا نعلم: أن مجرد لاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، بل القتال واجب حتى يكون الدين كله لله.

المبحث الأول الطاعة في التحليل والتحريم من أخص خصائص العبادة، ومن ثم كان كل من قبلها من أي عبد فقد اتخذه ربا، وإن لم يصل له ويتقرب إليه

المبحث الأول الطاعة في التحليل والتحريم من أخص خصائص العبادة، ومن ثم كان كل من قبلها من أي عبد فقد اتخذه ربا، وإن لم يصل له ويتقرب إليه قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرحه على كتاب التوحيد: «(باب) من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلَّ الله، أو تحليل ما حرَّمه الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله» ... والمقصود هنا: الطاعة الخاصة في تحريم الحلال أو تحليل الحرام، فمن أطاع مخلوقًا في ذلك غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - - فإنه لا ينطق عن الهوى - فهو مشرك كما بينه الله تعالى في قوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} [التوبة: 31]، أي علماءهم {أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وفسَّرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بطاعتهم في تحريم الحلال، وتحليل الحرام كما سيأتي في حديث عدي» (¬1). وقال الشيوخ عبد العزيز بن باز، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد الله بن غديان، وعبد الله بن قعود، رحمهم الله جميعًا: ومن أنواع الشرك الأكبر: من يجعل لله ندًا في التشريع، بأن يتخذ مشرعًا له سوى الله، أو شريكًا لله في التشريع، يرتضي حكمه، ويدين به في التحليل والتحريم، عبادة وتقرُّبًا وقضاءً وفصلاً في الخصومات، أو يستحله وإن لم يره دينًا. وفي هذا يقول تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 369).

ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وأمثال هذا من الآيات والأحاديث التي جاءت في: الرضا بحكم سوى حكم الله، أو الإعراض عن التحاكم إلى حكم الله، والعدول. وهذا النوع من الشرك، يرتدُّ به فاعله، أو معتقده عن ملة الإسلام، فلا يصلَّى عليه إذا مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يورث عنه ماله، بل يكون لبيت المسلمين، ولا تؤكل ذبيحته، ويحكم بوجوب قتله، ويتولى ذلك ولي أمر المسلمين، إلاَّ أنه يستتاب قبل قتله، فإن تاب قبلت توبته، ولم يقتل، وعومل معاملة المسلمين (¬1). اهـ. وعرض على هؤلاء الشيوخ الكرام السؤال التالي: س: لعلكم على علم بأن حكومتنا علمانية، لا تهتم بالدين، وهي تحكم البلاد على دستور اشترك في ترتيبه: المسلمون والمسيحيون. هناك يرد السؤال: هل يجوز لنا أن نسمي الحكومة: بحكومة إسلامية، أو نقول إنها: كافرة؟ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد: ج: إذا كانت تحكم بغير ما أنزل الله، فالحكومة غير إسلامية. وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم (¬2). * * * ¬

(¬1) «فتاوى اللجنة الدائمة»: (1/ 516، 517)، بتصرف يسير. (¬2) «فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء»: (1/ 456، 457).

المبحث الثاني أمر الله المؤمنين برد كل ما تناوعوا فيه من أصول دينهم وفروعه إلى الله ورسوله، ومن لم يفعل دل ذلك على كفره برب العالمين ومروقه من دين المرسلين. فحكم الله وحده شقيق عبادة الله وحده، وهما مضمونا الشهادتين، وعلى القيام بهذا المضمون فعلا وتركا، جردت سيوف الموحدين للجهاد

المبحث الثاني أمر الله المؤمنين برد كل ما تناوعوا فيه من أصول دينهم وفروعه إلى الله ورسوله، ومن لم يفعل دل ذلك على كفره برب العالمين ومروقه من دين المرسلين. فحكم الله وحده شقيق عبادة الله وحده، وهما مضمونا الشهادتين، وعلى القيام بهذا المضمون فعلا وتركا، جردت سيوف الموحدين للجهاد قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي معلقًا على قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 58، 59]. ثم أمر بردِّ كل ما تنازع الناس فيه، من أصول الدين وفروعه إلى الله والرسول، أي: إلى كتاب الله وسنَّة رسوله، فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما، أو عمومها، أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه. لأن كتاب الله وسنة رسوله، عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلاَّ بهما. فالرد إليهما، شرط في الإيمان، فلهذا قال: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59]. فدلَّ ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها. (ذلك) أي: الرد إلى الله ورسوله {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، فإن

حكم الله ورسوله، أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس، في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم» (¬1). وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى: «واعتبار شيء من القوانين للحكم بها ولو في أقل قليل، لا شك أنه عدم رضا بحكم الله ورسوله، ونسبة حكم الله ورسوله إلى النقص وعدم القيام بالكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلى أربابها، وحكم القوانين إلى الكمال وكفاية الناس في حل مشاكلهم، واعتقاد هذا كفر ناقل عن الملَّة، والأمر كبير مهم وليس من الأمور الاجتهادية. وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو: المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو: المتبع المحكم ما جاء به فقط، ولا جُرِّدت سيوف الجهاد إلاَّ من أجل ذلك والقيام به فعلاً وتركا وتحكيمًا عند النزاع، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]» (¬2). وقال أيضًا رحمه الله تعالى: «القوانين كفر ناقل عن الملَّة اعتقاد أنها حاكمة وسائغة. وبعضهم يراها أعظم، فهؤلاء نقضوا شهادة أن محمدًا رسول الله، ولا إله إلاَّ الله أيضًا نقضوها، فإن من شهادة أن لا إله إلاَّ الله، لا مطاع غير الله، كما أنهم نقضوها بعبادة غير الله. ¬

(¬1) «تيسير الكريم الرحمن»: (1/ 361، 362). (¬2) «فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم»: (12/ 251).

وأما الذي قيل فيه: كفر دون كفر، إذا حاكم إلى غير الله، مع اعتقاد أنه عاص وأن حكم الله هو الحق، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها. أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر وإن قالوا: أخطأنا وحكم الشرع أعدل. ففرق بين المقرِّر والمثبت والمرجع، جعلوه هو المرجع. فهذا كفر ناقل عن الملَّة (تقرير)» (¬1). وقال الشيخ صالح الفوزان يحفظه الله تعالى: «وكما لا تجوز طاعة العلماء في تحليل الحرام وتحريم الحلال، فكذلك لا تجوز طاعة الأمراء والرؤساء في الحكم بين الناس بغير الشرعة الإسلامية، لأنه يجب التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله في جميع المنازعات والخصومات وشؤون الحياة، لأن هذا هو مقتضى العبودية والتوحيد، لأن التشريع حق لله وحده، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، أي: هو الحَكَم وله الحُكْم، وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. فالتحاكم إلى شرع الله ليس لطلب العدل فقط، وإنما هو في الدرجة الأولى تعبُّد لله، وحق لله وحده، وعقيدة، فمن احتكم إلى غير شرع الله من سائر الأنظمة والقوانين البشرية، فقد اتخذ واضعي تلك القوانين والحاكمين بها شركاء لله في تشريعه، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وقال تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]» (¬2). ¬

(¬1) «مجموع رسائل وفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم»: (12/ 280). (¬2) «الإرشاد إلى تصحيح الاعتقاد»: (ص 87، 88).

المبحث الثالث من أعظم الفساد في الأرض: التحاكم إلى غير الله ورسوله، ومن ثم كان إباء التحاكم إلى الكتاب والسنة، دليلا قاطعا على الكفر والنفاق والزندقة

المبحث الثالث من أعظم الفساد في الأرض: التحاكم إلى غير الله ورسوله، ومن ثم كان إباء التحاكم إلى الكتاب والسنَّة، دليلاً قاطعًا على الكفر والنفاق والزندقة قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه على كتاب التوحيد: «قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 61]: بيَّن تعالى أن هذه صفة المنافقين، وأن من فعل ذلك أو طلبه، وإن زعم أنه مؤمن فإنه في غاية البُعد من الإيمان. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا دليل على أن من دُعي إلى تحكيم الكتاب والسنَّة، فأبى أنَّه من المنافقين» (¬1). وأرسل الشيوخ الفضلاء: محمد بن إبراهيم، وعبد العزيز الشثري، وعبد اللطيف بن إبراهيم، وعمر بن حسن، وعبد العزيز بن باز، وعبد الله بن حميد، وعبد الله بن عقيل، وعبد العزيز بن رشيد، وعبد اللطيف بن محمد، ومحمد بن عودة، ومحمد بن مهيزع، رسالة إلى من يراها من المسلمين، داعين الله أن يسلك بهم جميعًا سبيل عباده المؤمنين، وأن يعيذهم من طريق المغضوب عليهم والضالين، آمين ... ثم قالوا رحمهم الله جميعًا بعد تقديم نصيحة غالية للمسلمين: «وإن من أقبح السيئات وأعظم المنكرات: التحاكم إلى غير شريعة الله من القوانين الوضعية، والنظم البشرية، وعادات الأسلاف والأجداد التي قد وقع فيها الكثير من الناس اليوم، وارتضوها بدلاً من شريعة الله التي بعث بها ¬

(¬1) «فتح المجيد»: (381).

رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. ولا ريب أن ذلك من أعظم النفاق، ومن أكبر شعائر الكفر والظلم والفسوق وأحكام الجاهلية التي أبطلها القرآن، وحذر عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 60، 61]. وقال عزَّ وجلّ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49، 50]. وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. وهذا تحذير شديد من الله سبحانه لجميع العباد من الإعراض عن كتابه وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والتحاكم إلى غيرهما، وحكم صريح من الرب عزَّ وجلّ على من حكم بغير شريعته بأنه كافر وظالم وفاسق ومتخلِّق بأخلاق المنافقين وأهل الجاهلية» (¬1). وقال الشيخ صالح الفوزان يحفظه الله تعالى: وقد نفى الله الإيمان عمَّن تحاكم إلى غير شرعه، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ¬

(¬1) «فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم»: (12/ 257 - 260).

الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء: 60]. إلى قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. (تحكيم القوانين: تحكيم للطاغوت، وإيمان به) فمن دعا إلى الحكيم القوانين البشرية، فقد جعل لله شريكًا في الطاعة والتشريع، ومن حكم بغير ما أنزل الله، يرى أنه أحسن أو مساو لما أنزل الله وشرعه، أو أنه يجوز الحكم بهذا، فهو كافر بالله، وإن زعم أنه مؤمن، لأن الله أنكر على من يريد التحاكم إلى غير شرعه؛ وكذَّبهم في زعمهم الإيمان، لأن قوله: {يَزْعُمُونَ} متضِّمن لنفي إيمانهم، لأن هذه الكلمة تقال غالبًا لمن يدِّعي دعوى هو فيها كاذب، ولأن تحكيم القوانين تحكيم للطاغوت، والله قد أمر بالكفر بالطاغوت، وجعل الكفر بالطاغوت، ركن التوحيد، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256]. فمن حكَّم القوانين، لم يكن موحدًا لأنه اتخذ لله شريكًا في التشريع والطاعة، ولم يكفر بالطاغوت الذي أمر أن يكفر به، وأطاع الشيطان، كما قال تعالى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 60]. وقد أخبر الله عن المنافقين أنهم حينما يدعون إلى التحاكم إلى شرع الله يأبون ويعرضون، فقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 61]. كما أخبر أنهم يردون الفساد صلاحًا، لانتكاس فطرهم، وفساد قلوبهم، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12]، فالتحاكم إلى غير الله من أعمال المنافقين، وهو من أعظم الفساد في الأرض» (¬1). ¬

(¬1) «الإرشاد إلى تصحيح الاعتقاد»: (ص 88، 89).

المبحث الرابع من خرج عن حكم الله، وعدل إلى ما سواه من الأحكام الجاهلية وجعل ذلك شريعة مقدمة، أو مزاحمة لشريعة الله، فهو كافر يجب قتاله حتى يعود إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم في قليل ولا كثير سواه، وأي دولة تنتهج هذا النهج، تصبح دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة، يجب بغضها ومعاداتها، وتحرم مودتها وموالاتها

المبحث الرابع من خرج عن حكم الله، وعدل إلى ما سواه من الأحكام الجاهلية وجعل ذلك شريعة مقدمة، أو مزاحمة لشريعة الله، فهو كافر يجب قتاله حتى يعود إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم في قليل ولا كثير سواه، وأي دولة تنتهج هذا النهج، تصبح دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة، يجب بغضها ومعاداتها، وتحرم مودتها وموالاتها قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله تعالى: «وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]. قال ابن كثير: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى، المشتمل على كل خير وعدل، الناهي عن كل شر، وعدّل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجل بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكزخان، الذي وضع لهم كتابًا مجموعًا من أحكام اقتبسها من شرائع شتى من الملَّة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره، فصار في بنيه شرعًا يقدِّموه على الحكم بالكتاب والسنة، ومن فعل ذلك، فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير» (¬1). وقال الشيخ صالح الفوزان بعد إيراده النقل السابق عن الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: «ومثل القانون الذي ذكره عن التتار وحكم بكفر من جعله بديلاً من ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 384).

الشريعة الإسلامية: القوانين الوضعية التي جعلت اليوم في كثير من الدول هي مصادر الأحكام وألغيت من أجلها الشريعة الإسلامية، إلاَّ فيما يسمُّونه بالأحوال الشخصية. والدليل على كفر من فعل ذلك آيات كثيرة: قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، وقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]. وكما قلنا قريبًا: إنه يجب تحكيم الشريعة عقيدة ودينًا يدان الله به، لا من أجل طلب العدالة فقط» (¬1). وقال أيضًا الشيخ محمد بن إبراهيم في بيان مناطات وأنواع الكفر الأكبر والأصغر، والعلل المؤثرة فيهما، من قضية التشريع والحكم: «إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزول به الروح الأمين، على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عزَّ وجلّ: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] ... (الرّد المطلق إلى الله ورسوله: شرط في صحة الإيمان، وإلاَّ فالكفر والنفاق) وتأمل ما في الآية الأولى وهي قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، كيف ذكر النكرة وهي قوله: {شَيْءٍ} في سياق الشرط وهو قوله ¬

(¬1) «الإرشاد إلى تصحيح الاعتقاد»: (ص 89).

جل شأنه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} المفيد العموم فيما يتصور التنازع فيه جنسًا وقدرًا. ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطًا في: حصول الإيمان بالله واليوم الآخر بقوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، ثم قال جل شأنه: {ذَلِكَ خَيْرٌ}، فشيء يطلق الله عليه أنه خير لا يتطرق إليه شر أبدًا، بل هو خير محض عاجلاً وآجلاً ... وتأمل أيضًا ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، فإن اسم الموصول مع صلته مع صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدر، فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير. وقد نفى الله الإيمان عمَّن أراد التحاكم على غير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 60]. فإن قوله عزَّ وجلّ: {يَزْعُمُونَ} تكذيب لهم فيما ادَّعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الإيمان في قلب عبد أصلاً بل أحدهما ينافي الآخر. و (الطاغوت) مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه، وذلك أنه من حد كل أحد أن يكون: حاكمًا بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط لا بخلافه، كما أنه من حد كل أحد أن يحاكم إلى ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن حكم بخلافه، أو حاكم إلى خلافه فقط طغى

وجاوز حده حكمًا أو تحكيمًا، فصار بذلك طاغوتًا لتجاوزه حده ... (قسمة الحكم ثنائية: إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية) وقد قال تعالى منكرًا على هذا الضرب من الناس، ومقرِّرًا ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحًا أنه لا حكم أحسن من حكمه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، فتأمل هذه الآية الكريمة، وكيف دلت على أن قسمة الحكم ثنائية، وأنه ليس بعد حكم الله تعالى إلاَّ حكم الجاهلية، الموضح أن القانويين في زمرة أهل الجاهلية شاءوا أم أبوا، بل هم أسوأ منهم حالاً، وأكذب منهم مقالاً، ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد ... (أنواع الكفر الأكبر من الحكم بغير ما أنزل الله) وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاوس وغيره يدل: أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر: إما كفر اعتقاد ناقل عن الملَّة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملَّة. أما الأول: هو كفر الاعتقاد فهو أنواع: أحدهما: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم أنَّ من جحد أصلاً من أصول الدين، أو فرعًا مجمعًا عليه، أو أنكر حرفًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - قطعيًا، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملَّة. والثاني: أن لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقًا، لكن اعتقد أن حكم غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحسن من حكمه وأتم وأشمل

لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع: إما مطلقًا، أو بالنسبة إلى ما استجدَّ من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغيُّر الأحوال. وهذا أيضًا لا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان وصرف نحاتة الأفكار على حكم الحكيم الحميد ... الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله. فهذا كالنوعين اللذين قبله في كونه كافرًا الكفر الناقل عن الملَّة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عزَّ وجلّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ونحوها من الآيات الكريمة الدالة على تفرُّد الرب بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه. الرابع: أن لا يعتقد: كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلاً عن أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يصدق عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القطعية تحريمه. (علة كون التشريع من دون الله كفر أكبر، ولو قال صاحبه: أخطأت، وحكم الله أعظم وأفضل) الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادًا وإمدادًا وإرصادًا وتأهيلاً وتفريعًا وتشكيلاً وتنويعًا وحكمًا وإلزامًا ومراجع مستمدَّات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمَدَّات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلهذه المحاكم مراجع هي: القانون الملفَّق من شرائع شتى وقوانين كثيرة: كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون

البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك. فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيَّأة مكملة مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتِّمه عليهم. فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمدًا رسول الله بعد هذه المناقضة؟! ... السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمُّونها «سلومهم» يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به ويحملون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاء على أحكام الجاهلية، وإعراضًا ورغبة عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلاَّ بالله. (مناط كفر دون كفر) وأما «القسم الثاني» من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله وهو الذي لا يخرج عن الملَّة فقد تقدَّم أنَّ تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - لقوله عزَّ وجلّ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله - رضي الله عنه - في الآية: كفر دون كفر، وقوله أيضًا: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه. اهـ. وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى. وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملَّة، فإنه معصية عظمى أكبر من

الكبائر، كالزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس وغيرها، فإن معصية سمَّاها الله في كتابه كفرًا أعظم من معصية لم يسمِّها كفرًا. نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه انقيادًا ورضًا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (طبعت في مجلة لواء الإسلام)» (¬1). (حكم البلدة التي تحكم بالقانون الوضعي) وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهما الله تعالى: س: هل تجب الهجرة من بلاد المسلمين التي يحكم فيها بالقانون؟ ج: البلد التي يحكم فيها بالقانون ليست بلد إسلام، تجب الهجرة منها، وكذلك إذا ظهرت الوثنية من غير نكير ولا غيِّرت فتجب الهجرة. فالكفر: بفشو الكفر وظهوره. هذه بلد كفر. أما إذا كان قد يحكم فيها بعض الأفراد، أو وجود كفريات قليلة لا تظهر فهي بلد إسلام. [تقرير]. ولعلك أن تقول: لو قال من حكم القانون: أنا أعتقد أنه باطل. فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع، كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان، وأعتقد أنها باطل. وإذا قدر على الهجرة من بلاد تقام فيها القوانين وجب ذلك. ... [تقرير]» (¬2). وسئلت اللجنة الدائمة: السؤال الثالث من الفتوى رقم (5236): س: نحن نعيش تحت حكومة غير مسلمة وهي تحكَّم القانون الوضعي. فهل لنا أن نرفع إليها قضايانا؟ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد: ¬

(¬1) «مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم»: (12/ 284 - 291). (¬2) «مجموعة ورسائل وفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم»: (6/ 188، 189).

ج: لا يجوز لمسلم أن يتحاكم إلى حكومة غير مسلمة قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وهذا واضح ولله الحمد. وبالله التوفيق وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز (¬1) وقال الشيخ عبد العزيز بن باز في نقده لوثن القومية العربية: «الوجه الرابع: من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها، يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن، لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكامًا وضعية تخالف حكم القرآن، حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام. وقد صرَّح الكثير منهم بذلك كما سلف، وهذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة، كما قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. وكل دولة لا تحكم بشرع الله ولا تنصاع لحكم الله فهي: دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام ¬

(¬1) «فتاوى اللجنة الدائمة»: (1/ 544، 545).

بغضها ومعاداتها في الله، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها، حتى تؤمن بالله وحدهُ تحكِّم شريعته كما قال عزَّ وجلّ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]» (¬1). * * * ¬

(¬1) «نقد القومية العربية»: (ص 50، 51).

المبحث الخامس أيما طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنها تقاتل عليها: قتال كفر وردة عن الإسلام وإن كانت مقرة بها، وناطقة بالشهادتين، وملتزمة لغيرها من الشرائع. وبهذا نعلم: أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال، بل القتال واجب، حتى يكون الدين كله لله

المبحث الخامس أيما طائفة امتنعت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنها تقاتل عليها: قتال كفر وردة عن الإسلام وإن كانت مقرة بها، وناطقة بالشهادتين، وملتزمة لغيرها من الشرائع. وبهذا نعلم: أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال، بل القتال واجب، حتى يكون الدين كله لله قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: «وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى - لما سُئل عن قتل التتار مع التمسُّك بالشهادتين، ولما زعموا من اتِّباع أصل الإسلام - فقال: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة - رضي الله عنهم - مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، مع سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما، فاتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام عملاً بالكتاب والسنَّة. وكذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم». فعلم: أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى

كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، أو الخمر، أو الزنا، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها، والتي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرِّة بها. وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء، وإنما اختلف العلماء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر، أو الأذان، أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها ... (المبيح لقتال مانعي الزكاة مجرد المنع، لا جحد الوجوب) وقال الشيخ رحمه الله تعالى في آخر كلامه على كفر مانعي الزكاة والصحابة لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الصحابة بحال، بل قال الصدِّيق لعمر رضي الله عنهما: والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. فجعل المبيح للقتال: مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء سيرة واحدة وهي قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسمُّوهم جميعًا: أهل الردة.

وكان من أعظم فضائل الصدِّيق عندهم أنه ثبته الله على قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله. وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة، فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم، وهذه حجة من قال إن قاتلوا الإمام عليها كفروا وإلاَّ فلا، فإن كفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنَّة، بخلاف من لم يقاتل الإمام عليها، فإن في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له: منع ابن جميل فقال: «ما ينقم ابن جميل إلاَّ أنه كان فقيرًا فأغناه الله»، فلم يأمر بقتله ولا حكم بكفره. وفي السنن من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله» الحديث. انتهى. فتأمل كلامه وتصريحه بأن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام أنهم يقاتلون، ويحكم عليهم بالكفر والردَّة عن الإسلام، وتُسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم، وإن أقروا بوجوب الزكاة وصلوا الصلوات الخمس، وفعلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة، وأن ذلك ليس بمسقط للقتال لهم والحكم عليهم بالكفر والردة، وأن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنَّة واتفاق الصحابة - رضي الله عنهم -. والله أعلم» (¬1). * * * ¬

(¬1) «عقيدة الموحِّدين» الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة: (ص 235 - 238).

الفصل السابع حقيقة الولاء والبراء

الفصل السابع حقيقة الولاء والبراء وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: الأدلة الدالة من القرآن والسنة، والسيرة النبوية، وتاريخ المسلمين على وجوب البراءة من الشرك والمشركين. المبحث الثاني: موالاة المسلمين والبراءة من المشركين، أصل من أصول الدين بالإجماع. المبحث الثالث: البراءة من المشركين شرط لصحة التوحيد وقبوله، ومن ثم كانت موالاتهم ناقضة من نواقض التوحيد، وردَّة عن ملة المسلمين. ولقد عد العلماء مظاهرة المشركين، من أعظم أنواع المروق عن الدين، والتي تستوجب جهاد أهلها. المبحث الرابع: موالاة المشركين وصوره المكفِّرة وغير المكفرة. المبحث الخامس: موالاة المشركين المنتسبين للملة، كموالاة المشركين المباينين لها. المبحث السادس: إذا تعذر علو التوحيد، وإظهار البراءة من المشركين في بلد، أصبحت دار كفر وشرك، ووجب على الموحدين الهجرة منها ليتمكنوا من إقامة دينهم، وإظهار البراءة من أعدائهم.

المبحث الأول الأدلة الدالة من القرآن والسنة، والسيرة النبوية وتاريخ المسلمين على وجوب البراءة من الشرك والمشركين

المبحث الأول الأدلة الدالة من القرآن والسنة، والسيرة النبوية وتاريخ المسلمين على وجوب البراءة من الشرك والمشركين قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في بيان الأمور التي تنقض التوحيد: «(الأمر الثالث): موالاة المشرك، والركون إليه، ونصرته، وإعانته باليد، أو اللسان، أو المال، كما قال تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ} [القصص: 86]. وقال: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17]، وقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9]. وهذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين في هذه الأمة، فانظر أيها السامع أين تقع من هذا الخطاب؟ وحكم هذه الآيات. ولما أعانت قريش بني بكر على خزاعة سرًا، وقد دخلوا في صلح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انتقض عهدهم، وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك غضبًا شديدًا، وتجهَّز لحربهم، ولم ينبذ إليهم لما كتب لهم حاطب كتابًا يخبرهم بذلك إخبارًا أنزل الله تعالى في ذلك هذه السورة بكمالها، ابتدأها بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]. ثم أمر تعالى بالتأسِّي بخليله - عليه السلام - وإخوانه من المرسلين بالعمل

بدينه الذي بعثهم به فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4]، أي من إخوانه المرسلين: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. فذكر أمورًا خمسة لا يقوم التوحيد إلاَّ بها علمًا وعملاً، وعند القيام بهذه الخمسة ميَّز الله الناس لما ابتلاهم بعدوهم، كما قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]، وحذَّر تعالى عباده عن توليهم عدوهم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]. وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} [النساء: 138، 139]. وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 80، 81]. فتأمل ما في هذه الآيات وما رتَّب الله سبحانه وتعالى على هذا العمل من سخطه والخلود في عذابه، وسلب الإيمان وغير ذلك. وذكر ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره سورة آل عمران عند قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]. أنه ردة عن الإسلام. وفي سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ *

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد: 25، 26]. والسين حرف تنفيس تفيد: استقبال الفعل، فدل على أنهم وعدوهم ذلك سرًا بدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 26 - 28]. والآيات في هذا المعنى كثيرة. والمقصود: بيان عظم هذا الذنب عند الله، وما رتب عليه من العقوبات عاجلاً وآجلاً. نسأل الله الثبات على الإسلام والإيمان، ونعوذ بالله من الخيبة والخذلان. وقد ذكر شيخنا رحمه الله تعالى في مختصر السيرة له: ذكر الواقدي أن خالد بن الوليد، لما قدم العارض، قدم مائتي فارس، فأخذوا مجَّاعة بن مرارة في ثلاثة عشر رجلاً من قومه بني حنيفة، فقال لهم خالد بن الوليد: ما تقولون في صاحبكم؟ (¬1) فشهدوا أنه رسول الله، فضرب أعناقهم، حتى إذا بقي سارية بن عامر قال: يا خالد إن كنت تريد بأهل اليمامة خيرًا أو شرًا فاستبق مجَّاعة، وكان شريفًا فلم يقتله، وترك سارية أيضًا، فأمر بهما فأوثقا في مجامع من حديد، فكان يدعو مجَّاعة وهو كذلك فيتحدث معه وهو يظن أن خالدًا يقتله، فقال: يا ابن المغيرة إن لي إسلامًا والله ما كفرت. فقال خالد: إن بين القتل والترك منزلة وهي الحبس، حتى يقضي الله في أمرنا ما هو قاض، ودفعه إلى أم متمم زوجته، وأمرها أن تحسن أساره، فظن مجَّاعة أن خالدًا يريد حبسه ليخبره عن عدوه، وقال: يا خالد قد علمت أني قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه بالأمس، فإن يك كذاب قد خرج فينا الله يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. ¬

(¬1) هو مسيلمة الكذاب لعنه الله.

فقال يا مجَّاعة، تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك عنه - وأنت من أعز أهل اليمامة - إقرارًا له ورضا بما جاء به، فهل أبديت عذرًا فتكلَّمت فيمن تكلَّم؟ فقد تكلَّم: ثمامة فرد وأنكر، وتكلم اليشكري، فإن قلت أخاف قومي فهلا عمدت إليَّ أو بعثت إليَّ رسولاً؟ فتأمل كيف جعل خالد سكوت مجَّاعة: رضى بما جاء به مسيلمة وإقرارًا، فأين هذا ممن أظهر الرضا وظاهر وأعان وجدَّ وشمَّر مع أولئك الذين أشركوا مع الله في عبادته وأفسدوا في أرضه؟ فالله المستعان» (¬1). * * * ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (4/ 291 - 293).

المبحث الثاني موالاة المسلمين، والبراءة من المشركين أصل من أصول الدين بالإجماع

المبحث الثاني موالاة المسلمين، والبراءة من المشركين أصل من أصول الدين بالإجماع قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: «قال شيخنا رحمه الله تعالى إمام الدعوة الإسلامية، والداعي إلى الملَّة الحنيفية: أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأمر بعبادة الله وحده، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه، والنهي عن الشرك بالله في عبادته، والتغليظ فيه والمعاداة فيه، وتكفير من فعله» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله: «أجمع العلماء سلفًا وخلفًا، من الصحابة والتابعين، والأئمة، وجميع أهل السنة: أن المرء لا يكون مسلمًا إلاَّ بالتجرد من الشرك الأكبر، والبراءة منه وممن فعله، وبغضهم ومعاداتهم بحسب الطاقة والقدرة، وإخلاص الأعمال كلها لله» (¬2). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «إن الإنسان لا يستقيم له دين، ولو وحد الله وترك الشرك، إلاَّ بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغض» (¬3). وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى: قال الإمام ابن القيم: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلاَّ من جرَّد ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (4/ 289). (¬2) «الدرر السنية»: (11/ 545). (¬3) «الدرر السنية»: (8/ 338).

توحيده لله، وتقرَّب بمقت المشركين إلى الله. فانظر رحمك الله إلى قول الإمام يتبين لك: أنَّ الإسلام لا يستقيم إلاَّ بمعاداة أهل الشرك، فإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعله؟ والله أعلم (¬1). اهـ. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: «وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (وكفر بما يعبد من دون الله)، فهذا شرط عظيم لا يصح قول: لا إله إلاَّ الله إلاَّ بوجوده، وإن لم يوجد لم يكن من قال: لا إله إلاَّ الله معصوم الدم والمال، ولأن هذا هو معنى: لا إله إلاَّ الله، فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دل عليه، من: ترك الشرك، والبراءة منه، وممن فعله. فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله وتبرأ منه وعادى من فعل ذلك، صار مسلمًا معصوم الدم والمال، وهذا معنى قول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]» (¬2). وقال الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى، في أثناء جواب لهما. المسألة الحادية عشرة: رجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن لا يعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: أنا مسلم، ولكن لا أقدر أن أكفر أهل لا إله إلاَّ الله، ولو لم يعرفوا معناها، ورجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن يقول: لا أتعرض للقباب، وأعلم أنها لا تنفع ولا تضر، ولكن ما أتعرضها. ¬

(¬1) «عقيدة الموحِّدين»، رسالة الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة: (ص 234). (¬2) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»، تكملة رسائل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: (2/ 27، 28).

الجواب: أن الرجل لا يكون مسلمًا، إلاَّ إذا عرف التوحيد ودان به، وعمل بموجبه، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به، وأطاعه فيما نهى عنه وأمر به، وآمن به وبما جاء به. فمن قال: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: لا أتعرض أهل لا إله إلاَّ الله، ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين الله، أو قال: لا أتعرض للقباب، فهذا لا يكون مسلمًا، بل هو ممن قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150، 151]» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 139، 140)، و «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (1/ 38).

المبحث الثالث البراءة من المشركين شرط لصحة التوحيد وقبوله, ومن ثم كانت موالاتهم ناقضة من نواقض التوحيد وردة عن ملة المسلمين, ولقد عد العلماء مظاهرة المشركين: من أعظم أنواع المروق عن الدين, والتي تستوجب جهاد أهلها

المبحث الثالث البراءة من المشركين شرط لصحة التوحيد وقبوله, ومن ثم كانت موالاتهم ناقضة من نواقض التوحيد وردَّة عن ملة المسلمين, ولقد عدَّ العلماء مظاهرة المشركين: من أعظم أنواع المروق عن الدين, والتي تستوجب جهاد أهلها قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله تعالى: عمن كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم، ولا فارق أوطانهم؟ فأجاب: هذا السؤال صدر عن عدم التعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به، لأنه لا يتصور أنه يعرف التوحيد ويعمل به، ولا يعادي المشركين، ومن لم يعادهم لا يقال له عرف التوحيد وعمل به، والسؤال متناقض، وحسن السؤال مفتاح العلم. وأظن مقصودك: من لم يظهر العداوة ولم يفارق، ومسألة إظهار العداوة، غير مسألة وجود العداوة، فالأول يعذر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، والثاني لا بد منه، لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي، لا ينفك عنه المؤمن، فمن عصى الله بترك إظهار العداوة، فهو عاص لله. فإذا كان أصل العداوة في قلبه، فله حكم أمثاله من العصاة، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة، فله نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]، لكنه لا يكفر، لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير» (¬1). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (8/ 359).

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في نواقض الإسلام العشرة: «الناقض الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]» (¬1). وتحدث الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن بعض نواقض التوحيد قائلاً: (الأمر الثاني من النواقض): انشراح الصدر لمن أشرك بالله، وموادَّة أعداء الله كما قال تعالى: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل: 107]، فمن فعل ذلك، فقد أبطل توحيده ولو لم يفعل الشرك بنفسه، قال الله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]. قال شيخ الإسلام: أخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرًا، فمن وادّه فليس بمؤمن. قال: والمشابهة مظنة الموادة فتكون محرمة. قال العماد ابن كثير في تفسيره: قيل نزلت في أبي عبيدة حين قتل أباه يوم بدر، {أَوْ أَبْنَاءهُمْ}، في الصديق يومئذٍ همَّ بقتل ابنه عبد الرحمن، {أَوْ إِخْوَانَهُمْ}، في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير، {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} في عمر قتل قريبًا له يومئذٍ أيضًا، وحمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذٍ ... (الأمر الثالث): موالاة المشرك، والركون إليه، ونصرته، وإعانته باليد، أو اللسان، أو المال، كما قال تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ} [القصص: 86]» (¬2). ¬

(¬1) «عقيدة الموحِّدين»: (ص 457). (¬2) «مجموعة الرسائل النجدية»: (4/ 289 - 291).

وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: «قال شيخ الإسلام في اختياراته، من جمز (¬1) إلى معسكر التتار، ولحق بهم، ارتد وحل دمه وماله» (¬2). وقال الشيخ حمد بن عتيق: «قد دلّ القرآن والسنة على أن المسلم إذا حصلت منه موالاة أهل الشرك والانقياد لهم ارتد بذلك عن دينه. فتأمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25]، مع قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وأمعن النظر في قوله تعالى: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140]» (¬3). وتحدث الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن بعض أنواع أعدائه الذين سلّ السيف عليهم، فقال رحمه الله: النوع الثالث: من عرف التوحيد وأحبه واتبعه، وعرف الشرك وتركه، لكن يكره من دخل في التوحيد ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضًا كافر وفيه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]. النوع الرابع: من سلم من هذا كله لكن أهل بلده يصرحون: بعداوة التوحيد واتباع أهل الشرك ويسعون في قتالهم، وعذره أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه، فهذا أيضًا ¬

(¬1) جمز: أي ذهب ... وقد جاء في حديث ماعز - رضي الله عنه -: «فلما أذلقته الحجارة، جمز». أي: أسرع هاربًا من القتل. قاله: ابن منظور في لسان العرب، مادة: (جمز). (¬2) «الدرر السنية»: (8/ 338). (¬3) «مجموع الرسائل والمسائل»: (1/ 745 - 746).

كافر، لأنهم لو أمروه بترك صيام رمضان ولا يمكنه ذلك إلاَّ بفراق وطنه فعل، ولو أمروه أن يتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه مخالفتهم إلاَّ بذلك فعل. وأما موافقته على الجهاد معهم بماله ونفسه مع أنهم يريدون قطع دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فأكبر مما ذكرناه بكثير، فهذا أيضًا كافر ممن قال الله فيهم: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} الآية [النساء: 91]. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلَّى الله على محمد وآله وصحبه وسلم» (¬1). وقد عدّ بعض علماء نجد ثلاثة أمور، كل واحد منها يوجب الجهاد لمن اتصف بها: الأولى: الخروج عن طاعة ولي أمر المسلمين بغير حق. الثانية: عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، لأن ذلك من نواقض الإسلام ومبطلاته، فمن اتصف به فقد كفر، وحلّ دمه وماله، ووجب قتاله حتى يكفر المشركين. - ثم عرضوا الأمر الثالث فقالوا -: «الأمر الثالث: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به، مظاهرة المشركين، وإعانتهم على المسلمين، بيد أو بلسان أو بقلب أو بمال، فهذا كفر مخرج من الإسلام، فمن أعان المشركين على المسلمين، وأمد المشركين من ماله، بما يستعينون به على حرب المسلمين اختيارًا منه، فقد كفر» (¬2). * * * ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (4/ 301). (¬2) «الدرر السنية»: (9/ 289 - 292).

المبحث الرابع موالاة المشركين وصوره المكفرة، والغير مكفرة

المبحث الرابع موالاة المشركين وصوره المكفرة، والغير مكفرة قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله في أثناء رده على سؤال ورد عليه، يريد فيه صاحبه معرفة الحدّ الفاصل بين الولاء للمشركين المكفر، وغير المكفر، فقال رحمه الله: «فالجواب: إن كانت الموالاة مع مساكنتهم في ديارهم، والخروج معهم في قتالهم، ونحو ذلك، فإنه يحكم على صاحبها بالكفر، كما قال تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من جامع المشركين وسكن معهم فإنه مثلهم» وقال: «أنا برئ من مسلم بين أظهر المشركين»، رواهما أبو داود. وإن كانت الموالاة لهم في ديار الإسلام، إذا قدموا إليهم ونحو ذلك، فهذا عاص آثم متعرِّض للوعيد، وإن كانت موالاتهم لأجل دنياهم، يجب عليه من التعزير بالهجر والأدب ونحوه ما يزجر أمثاله، وإن كانت الموالاة لأجل دينهم فهو مثلهم، ومن أحبَّ قومًا حُشر معهم» (¬1). (اعتياد فعل الموالاة المحرمة سبيل الوقوع في الموالاة المكفرة) سُئل الشيخ محمد عبد اللطيف، أقامه الله مناضلاً عن الدين الحنيف: رجلان تنازعا في السلام على الرافضة والمبتدعين، ومن ضاهاهم من المشركين، وفي مواكلتهم ومجالستهم، فقال أحدهما: هو جائز، لقول عالمي: إن أخذت ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (8/ 159، 160).

فقد أخذ الصالحون، وإن رددت فقد رد الصالحون، ووفد على عمر بن عبد العزيز: كثيِّر عزِّة، وهو متَّهم بالتشيُّع، ورسول عمر وفد على جبلة الغساني بعد ردته. وقال الآخر: لا يجوز، لدليل آيات الموالاة، ولقوله تعالى: {وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47]، والسلام على عباد الله الصالحين، وأن ترك السلام على الفاسق وأهل المعاصي سنة، وهؤلاء أشر حالاً وعقيدة منهم. فأجاب: اعلم وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى، أنه لا يستقيم للعبد إسلام ولا دين، إلاَّ بمعاداة أعداء الله ورسوله، وموالاة أولياء الله ورسوله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} [التوبة: 23]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]. وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]. وقال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تميلوا إليهم في المودة ولين الكلام، وقال أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم، وقال بعض العلماء: من مشى إليهم ولم ينكر عليهم، عُدَّ من الراكنين إليهم. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].

فالواجب على من أحب نجاة نفسه، وسلامة دينه، أن يعادي من أمره الله ورسوله بعداوته، ولو كان أقرب قريب، فإن الإيمان لا يستقيم إلاَّ بذلك والقيام له، لأنه من أهم المهمات، وآكد الواجبات. إذا عرفت هذا: فمواكلة الرافضي، والانبساط معه، وتقديمه في المجالس، والسلام عليه، لا يجوز، لأنه موالاة وموادة، والله تعالى قد قطع الموالاة، بين المسلمين والمشركين، بقوله: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]. وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140] ... والآيات في المعنى كثيرة كما تقدَّم. والسلام تحية أهل السلام بينهم، فإذا سلَّم على الرافضة، وأهل البدع، والمجاهرين بالمعاصي، وتلقَّاهم بالإكرام والبشاشة، ألان لهم الكلام، كان ذلك موالاة منه لهم، فإذا وادَّهم وانبسط لهم مع ما تقدَّم، جمع الشر كله، ويزول ما في قلبه من العداوة والبغضاء، لأن إفشاء السلام سبب لجلب المحبة، كما ورد في الحديث: «ألا أدلكم على ما تحابون به»؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «أفشوا السلام بينكم»، فإذا سلَّم على الرافضة والمبتدعين، وفسَّاق المسلمين، خلصت مودته ومحبته في حق أعداء الله ورسوله» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (8/ 437 - 440).

المبحث الخامس موالاة المشركين المنتسبين للملة كموالاة المشركين المباينين لها

المبحث الخامس موالاة المشركين المنتسبين للملة كموالاة المشركين المباينين لها سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الفتوى رقم (2787): س: رجل يعيش في جماعة تستغيث بغير الله، هل يجوز له الصلاة خلفهم، وهل تجب الهجرة عنهم، وهل شركهم شرك غليظ، وهل موالاتهم كموالاة الكفار الحقيقين؟ ج: إذا كانت حال من تعيش بينهم كما ذكرت من استغاثتهم بغير الله، كالاستغاثة بالأموات والغائبين عنهم من الأحياء، أو بالأشجار، أو بالأحجار، أو الكواكب، ونحو ذلك، فهم مشركون شركًا أكبر يخرج من ملَّة الإسلام، لا تجوز موالاتهم كما لا تجوز موالاة الكفار، ولا تصح الصلاة خلفهم، ولا تجوز عشرتهم، ولا الإقامة بين أظهرهم، إلاَّ لمن يدعوهم إلى الحق على بينة، ويرجو أن يستجيبوا له، وأن تصلح حالهم دينيًا على يديه، وإلاَّ وجب عليه: هجرهم، والانضمام إلى جماعة أخرى، يتعاون معها على القيام بأصول الإسلام وفروعه، وإحياء سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يجد اعتزل الفِرَق كلها ولو أصابته شدة، لما ثبت عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: «كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا من شرّ؟ قال: «نعم»، فقلت هل بعد هذا الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنُّون بغير سنتي ويهدون

بغير هديي تعرف منهم وتنكر»، فقلت: فهل بعد ذلك خير من شرّ؟ قال: «نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، فقلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: «نعم هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا»، قلت يا رسول الله فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» متفق عليه. وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز (¬1) السؤال الخامس من الفتوى رقم (6901): س: ما هي حدود الموالاة التي يكفر صاحبها وتخرجه من الملَّة، حيث نسمع أن من أكل مع المشرك، أو جلس معه، أو استضاء بنوره، ولو برى لهم قلمًا، أو قدم لهم محبرة، فهو مشرك، وكثيرًا ما نتعامل مع اليهود والنصارى نتيجة التواجد والمواطنة في مكان واحد. فما هي حدود الموالاة المخرجة من الملَّة، وما هي الكتب الموضحة ذلك بالتفصيل، وهل الموالاة من شروط لا إله إلاَّ الله؟ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد: ج: موالاة الكفار التي يكفر بها من والاهم هي محبتهم ونصرتهم على ¬

(¬1) «فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء»: (1/ 52، 53).

المسلمين، لا مجرد التعامل معهم بالعدل، ولا مخالطتهم لدعوتهم للإسلام، ولا غشيان مجالسهم، والسفر إليهم للبلاغ ونشر الإسلام. وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز (¬1) * * * ¬

(¬1) «فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء»: (2/ 46، 47).

المبحث السادس إذا تعذر علو التوحيد، وإظهار البراءة من المشركين في بلد، أصبحت دار كفر وشرك، ووجب على الموحدين الهجرة منها، ليتمكنوا من إقامة دينهم، وإظهار البراءة من أعدائهم

المبحث السادس إذا تعذر علو التوحيد، وإظهار البراءة من المشركين في بلد، أصبحت دار كفر وشرك، ووجب على الموحدين الهجرة منها، ليتمكنوا من إقامة دينهم، وإظهار البراءة من أعدائهم قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: عما يقال في الهجرة من بين ظهراني المشركين، من البادية والحاضرة، وفضلها؟ وما الواجب منها؟ وما المستحب؟ وهل بين بادية نجد وغيرهم، كعنزة والظفير، ومن والاهم من بادية الشمال والجنوب، إلى ما لا يخفى على المسؤول؟ (حكم الهجرة، وفضلها، ودرجاتها) فأجاب: الهجرة من واجبات الدين، ومن أفضل الأعمال الصالحة، وهي سبب لسلامة دين العبد، وحفظ لإيمانه، وهي أقسام، هجر: المحرمات، التي حرمها الله في كتابه، وحرمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جميع المكلفين، وأخبر أن: «من هجرها فقد هجر ما حرمه الله عليه»، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه». وهذا أمر مجمل شامل لجميع المحرمات، القولية والفعلية. (حكم الإقامة في ديار الكفر) القسم الثاني: الهجرة من كل بلدة، تظهر فيها شعائر الشرك وأعلام الكفر، ويعلن فيها بالمحرمات، والمقيم فيها لا يقدر على إظهار دينه، والتصريح بالبراءة من المشركين وعداوتهم، ومع هذا يعتقد كفرهم، وبطلان ما هم عليه، لكن إنما جلس بين ظهرانيهم، شحًا بالمال والوطن، فهذا

عاص ومرتكب محرمًا، وداخل في حكم الوعيد. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 - 99]. فلم يعذر الله إلاَّ المستضعف، الذي لا يقدر على التخلص من أيدي المشركين ولو قدر ما عرف سلوك الطريق وهدايته، إلى غير ذلك من الأعذار. (حكم الخروج في صفوف المشركين لقتال المسلمين) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله»، فلا يقال إنه بمجرد المجامعة والمساكنة يكون كافرًا، بل المراد: أن من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين، وأخرجوه معهم كرهًا، فحكمه حكمهم في القتل، وأخذ المال لا في الكفر، وأما إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعًا واخيتارًا، أو أعانهم ببدنه وماله، فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر. (الأدلة على حرمة الإقامة بين أظهر المشركين، لا سيما عند العجز عن إقامة الدين) وفي القرآن الكريم والسنَّة النبوية ما يدل - من في قلبه حياة - على المنع من ذلك، وكلام العلماء مرشد إلى ذلك، فإنهم صرَّحوا بالنهي عن إقامة المسلم بين أظهر المشركين من غير إظهار دينه، قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} [هود: 113]، وقال: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [المائدة: 80]، إلى قوله: {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]، إلى

قوله: {وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96]، قال ابن كثير في الكلام على هذه الآية، وهذه الآية: عامة في كل من أقام بين أظهر المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو مرتكب حرامًا بالإجماع، ونص هذه الآية، والآيات في هذا المعنى كثيرة يعرفها من قرأ القرآن وتدبره. وفي الأحاديث المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ما دل عليه القرآن، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تستضيئوا بنار المشركين». وحديث بهز بن حكيم: «أن تفر من شاهق إلى شاهق بدينك». قال ابن كثير معناه: لا تقاربوهم في المنازل، بحيث تكونوا معهم في بلادهم، بل تباعدوهم، وتهاجروا من بلادهم، ولهذا روى أبو داود فقال: «لا تراءى ناراهما». وفي قصة إسلام جرير لما قال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال: «أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين»، وعن عبد الله بن عمرو، أنه قال: من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبَّه بهم حتى يموت، حُشِر معهم يوم القيامة. وكلام العلماء في المنع من الإقامة عند المشركين، وتحريم مجامعتهم، ووجوب مباينتهم، كثير معروف، خصوصًا أئمَّة هذه الدعوة الإسلامية، كالشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأولاده، وأولادهم، وأتباعهم من أهل العلم والدين، ففي كتبهم من ذلك ما يكفي ويشفي من {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]. فمن ذلك ما قال الشيخ: عبد الطيف، في بعض رسائل: إن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك، والكفر، ويظهر فيها دين الإفرنج، والروافض، ونحوهم

من المعطلة للربوبية والألوهية، وترفع فيها شعائرهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان. فالإقامة بين ظهرانيهم - والحالة هذه - لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، فإن الرضا بهذه الأصول الثلاثة قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وذلك يتضمن من محبة الله وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه والانحياز إلى أوليائه، ما يوجب البراءة كل البراءة، والتباعد كل التباعد عمَّن تلك نحلته، وذلك دينه، بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة، لا يجامع هذه المنكرات. انتهى كلامه رحمه الله. وأما السؤال عن حكم المقيم في بلدان المشركين، من المنتسبين إلى الإسلام، فهذا الجنس من الناس مشتركون في فعل ما نهى الله عنه ورسوله، إلاَّ من عذره القرآن في قوله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ} [النساء: 98]، ثم هم مختلفون في المراتب، متفاوتون في الدرجات بحسب أحوالهم، وما يحصل منهم من موالاة المشركين والركون إليهم، فإن ذلك قد يكون كفرًا وقد يكون دونه، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132]» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (8/ 455 - 462).

الفصل الثامن الأسماء والصفات ومنهج السلف في الإيمان بها

الفصل الثامن الأسماء والصفات ومنهج السلف في الإيمان بها وفيه مبحثان: المبحث الأول: منهج السلف الصالح في الإيمان بأسماء الله وصفاته. المبحث الثاني: دلالة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا على أنه المبعود وحده بلا شريك.

المبحث الأول منهج السلف الصالح في الإيمان بأسماء الله وصفاته

المبحث الأول منهج السلف الصالح في الإيمان بأسماء الله وصفاته يجب الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا، وإثباتها على وجه يليق بجلاله وعظمته، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، وهذه القاعدة مطردة في كل صفات الرب سبحانه: نؤمن بألفاظها، ونثبت حقائقها، ونفوض في كيفياتها، لأنه لا يعلم كيف هو إلاَّ هو سبحانه، ولأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما نثبت ذاتًا بلا كيفية فكذلك نثبت صفاتها بلا كيفية. والقول الشامل في هذا: أنا نصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا نتجاوز في ذلك نصوص الكتاب والسنة بفهم وبيان حامليها من الصحابة الكرام، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى في بيان عقيدته لأهل القصيم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: أُشْهِدُ الله ومَن حَضَرني مِن الملائكة، وأُشْهِدكم: أَنِّي أعتقد ما اعتقَدَتْه الفرقة الناجية، أهل السنَّة والجماعة، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أُحرِّف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه، لأنه تعالى لا سمىَّ له، ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه.

فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثًا، فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل، فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182]» (¬1). وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمهما الله تعالى: «ومما تعتقده وندين الله به: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ونؤمن بأسماء الله تعالى وصفاته، ونثبت ذلك على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتًا بلا تمثيل، وننزه الله عما لا يليق بجلاله، تنزيهًا بلا تعطيل، ونعتقد أن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه، عال على خلقه، وعرشه فوق السماوات، وهو بائن عن مخلوقاته، ولا يخلو مكان من علمه، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، فنؤمن باللفظ، ونثبت حقيقة الاستواء، ولا نكيف ولا نمثل، لأنه لا يعلم كيف هو، إلاَّ هو. قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله - وبقوله نقول -، وقد سأله رجل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة: فأثبت مالك رحمه الله الاستواء، ونفى علم الكيفية، وكذلك اعتقادنا في جميع أسماء الرب وصفاته، من الإيمان باللفظ، وإثبات الحقيقة، ونفي علم الكيفية. والقول الشامل في ذلك: أنَّا نصف الله بما وصف به نفسه، ووصف به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا نتجاوز القرآن والحديث، فمن شبَّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ¬

(¬1) الدرر السنية (1/ 29، 30).

وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]. فسبحان من لا سميَّ له، ولا كفو له، وهو أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثًا من خلقه. ونؤمن بما ورد، «من أن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فاغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟» ... وبالجملة: فعقيدتنا في جميع الصفات، الثابتة في الكتاب والسنَّة، عقيدة أهل السنَّة والجماعة، نؤمن بها، ونمرُّها كما جاءت، مع إثبات حقائقها وما دلت عليه، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تعطيل ولا تبديل ولا تأويل» (¬1). وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: «إن مذهبنا في أصول الدين، مذهب أهل السنَّة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف، التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، خلافًا لمن قال طريق الخلف أعلم. وهي: أنما نقرّ آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها، ونكل معناها، مع اعتقاد حقائقها إلى الله تعالى، فإن مالكًا - وهو من أجلِّ علماء السلف - لما سئل عن الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» (¬2). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 571 - 576). (¬2) «الدرر السنية»: (1/ 226).

المبحث الثاني دلالة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا على أنه المعبود وحده بلا شريك

المبحث الثاني دلالة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا على أنه المعبود وحده بلا شريك أسماء الله الحسنى، وصفاته العلا يدلاَّن: على كماله وجلاله وعظمته، وأنه هو المعبود وحده، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأن العبادة لا يصلح منها شيء لملّك مقرَّب، ولا نبيٍّ مرسل فضلاً عمَّن دونها، ومن ثم نستطيع الجزم بأن المشركين لم يقدروا الله حق قدره، لما وقعوا في عبادة غيره، وعدلوا به سواه، مع أن الفرق بين عبادة الخالق وعبادة المخلوق، كالفرق بين الخالق وأسمائه وصفاته، والمخلوق وأسمائه وصفاته. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد، وعبد الرحمن بن حسن رحمهم الله جميعًا في شرحه عليه: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]. [الشرح] قوله: باب قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، أي: من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة. قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: «ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته».

قال مجاهد: نزلت في قريش. وقال السدي: ما عظَّموه حق عظمته. وقال محمد بن كعب: لو قدروه حقَّ قدره ما كذَّبوه. وقال على بن أبي طلحة: ناقلاً عن ابن عباس: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدَّر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدِّر الله حق قدره. وقد ورد أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية، الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف؛ وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف، وذكر حديث ابن مسعود ما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الباب قال: ورواه البخاري في غير موضع من صحيحه، والإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، كلهم من حديث سليمان بن مهران، وهو الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن ابن مسعود بنحوه. قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على أصبع، والسموات على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك؟ فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه لفول الحبر. قال: وأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]». وهكذا رواه البخاري، ومسلم، والنسائي من طرق عن الأعمش به ... (دلالة صفات الله على كماله، وعظمته، وقدرته، ووحدانيته، في ربوبيته وألوهيته) قلت: وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله، وعظيم قدرته، وعظم مخلوقاته.

وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته، وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف وتدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنَّة، وعليه سلف الأمة وأئمتها، ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان. وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه بذكر صفات كماله، على ما يليق بعظمته وجلاله، وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات، التي تدل على عظمته. وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء منها: إن ظاهرها غير مراد، وإنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فلو كان هذا حقًا بلغه أمين أمته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة، فبلّغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين، وتلقَّى الصحابة - رضي الله عنهم - عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله، فآمنوا به وآمنوا بكتاب الله، وما تضمنه من صفات ربهم جلَّ وعلا، كما قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]» (¬1). * * * ¬

(¬1) فتح المجيد (493 - 499).

الفصل التاسع القضاء والقدر

الفصل التاسع القضاء والقدر ومنهج السلف في الإيمان به وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: قواعد السلف الذهبية في الإيمان بالقضاء والقدر. المبحث الثاني: وجوب التسليم لقضاء الله ومقدوراته العامة. المبحث الثالث: ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر.

المبحث الأول قواعد السلف الذهبية في الإيمان بالقضاء والقدر

المبحث الأول قواعد السلف الذهبية في الإيمان بالقضاء والقدر - إن الإيمان بربوبية الله لا يقبل حتى يتم الإيمان بقضائه وقدره. - والله سبحانه قدَّر الإيمان والطاعات وأسبابها وأحبها، والكفر والمعاصي وأسبابها وكرهها. - وقدرة الله الشاملة، وعلمه التام، وخلقه لكل شيء، وحكمته البالغة، أصول الإيمان بالقدر والتسليم له. - والشر في مقدورات الله راجع إلى مفعولاته، لا إلى ذاته المقدسة وصفاته العلا، ويكون بسبب ظلم العبد وبغيه وجهله، ومن ثم يستحيل إضافة الشر إليه سبحانه. - ولا يتم الإيمان بالقدر حتى يتيقن العبد أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، إذ المقادير قد كتبت قبل الخلق بخمسين ألف عام، ثم رفعت الأقلام وجفَّت الصحف. - ولا نجاة من النيران ولا قَبول للطاعات قبل القيام بهذا الأصل، وتحقيقه وفق مراد الرب سبحانه، وبيان رسول - صلى الله عليه وسلم -، بفهم صحابته الكرام نقلة وحيه، وشريعته. - ولا يعني الإيمان بالقدر والتسليم له: القعود عن أخذ الأسباب، وفعل السنن، المؤدية إلى حصول النفع واجتناب الضر، بل ينبغي فعل الأسباب والأخذ بالسنن، مع الاعتماد والتوكل على الله حتى يتم للعبد توحيده وتتحقَّق له عبوديته المخلوق من أجلها.

قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرحه لكتاب التوحيد: «باب ما جاء في منكري القدر [الشرح] أي: من الوعيد. والقدر بالفتح والسكون: ما يقدره الله من القضاء. ولما كان توحيد الربوبية لا يتم إلاَّ بإثبات القدر، قال القرطبي: القدر مصدر قدرت الشيء بتخفيف الدال أقدره وأقدره قدرًا وقدرًا إذا حصلت بمقداره، ويقال فيه: قدرت أقدر تقديرًا مشدد الدال، فإذا قلنا: إن الله تعالى قدر الأشياء، فمعناه: أنه تعالى علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجد على نحو ما سبق في علمه، فلا محدث في العالم العلوي والسفلي، إلاَّ هو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين، الذي دلَّت عليه البراهين. ذكر المصنف ما جاء في الوعيد فيمن أنكره، تنبيهًا على وجوب الإيمان، ولهذا عدّه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أركان الإيمان كما ثبت في حديث جبريل - عليه السلام - لما سئل عن الإيمان، فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»، قال: صدقت. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة»، قال: وعرشه على الماء. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» رواهما مسلم في صحيحه. وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن

بأربع: يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، والبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر»، رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم في مستدركه، والأحاديث في ذلك كثيرة جدًا قد أفردها العلماء بالتصنيف. قال البغوي في «شرح السنَّة»: الإيمان بالقدر فرض لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد خيرها وشرها، كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، فالإيمان والكفر، والطاعة والمعصية كلها بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية وأوعد عليهما بالعقاب ... (أصول أهل السنَّة في كيفية الإيمان بالقضاء والقدر، مع استعراض لمذهب القدرية ولوازمه الفاسدة، وبيان بطلانه) قال شيخ الإسلام: مذهب أهل السنة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنَّة، وكان عليه السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها، من أفعال العباد، وغير أفعال العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلاَّ بمشيئته وقدره، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئًا إلاَّ وهو قادر عليه، وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وكتب ذلك وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان،

وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون. وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهى، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أنُف، أي: مستأنف. وهذا القول أول ما حدث في الإسلام، بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان، في زمن الفتنة، التي كانت بين ابن الزبير وبني أمية، في آخر عصر عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهما من الصحابة. وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة: معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرءوا منهم، وأنكروا مقالتهم، ثم لما كثر خوض الناس في القدر، صار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم، والكتاب السابق، ولكن ينكرون عموم مشيئة الله، وعموم خلقه وقدرته، ويظنون أنه لا معنى لمشيئته إلاَّ أمره، فما شاء فقد أمره به، وما لم يشأ لم يأمر به، فلزمهم أنه قد يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء. وأنكروا أن يكون الله خالقًا لأفعال العباد، أو قادرًا عليها، أو أن يخص بعض عباده من النعم مما يقتضي إيمانهم به، وطاعتهم له. وزعموا أن نعمته التي بما (¬1) يمكن الإيمان والعمل الصالح على الكفار كأبي جهل، وأبي لهب، مثل نعمته بذلك على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، بمنزلة رجل دفع إلى والديه بمال قسمه بينهم بالسوية، ولكن هؤلاء أحدثوا أعمالهم الصالحة، وهؤلاء أحدثوا أعمالهم الفاسدة، من غير نعمة خصَّ الله بها المؤمنين، وهذا قول باطل، وقد قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]. وقال: {كِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ¬

(¬1) هكذا بالأصل ولعلها، بها.

الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7، 8]. وقال ابن القيم ما معناه: مراتب القضاء والقدر أربع مراتب: الأولى: علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها. الثانية: كتابة ذلك عنده في الأزل قبل خلق السموات والأرض. الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن كما لا خروج له عن علمه. الرابعة: خلقه لها وإيجاده وتكوينه، فالله خالق كل شيء، وما سواه مخلوق. قال: وقال ابن عمر، والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» رواه مسلم ... (شبهة وجوابها) فإن قلت: كيف قال: «وتؤمن بالقدر خيره وشره»، وقد قال في الحديث: «والشر ليس إليك». قيل: إثبات الشر في القضاء والقدر إنما هو بالإضافة إلى العبد، والمفعول إن كان مقدرًا عليه، فهو بسب جهله وظلمه وذنوبه، لا إلى الخالق، فله في ذلك من الحِكَم ما تقصر عنه أفهام البشر، لأن الشر إنما هو بالذنوب وعقوباتها في الدنيا والآخرة، فهو شر بالإضافة إلى العبد، أما بالإضافة إلى الرب سبحانه وتعالى، فكله خير وحكمة، فإنه صادر عن حكمه وعلمه، وما كان كذلك فهو خير محض بالنسبة إلى الرب سبحانه وتعالى، إذ هو موجب

أسمائه وصفاته، ولهذا قال: «والشر ليس إليك»، أي: تمتنع إضافته إليك بوجه من الوجوه، فلا يضاف الشر إلى ذاته وصفاته، ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته منزهة عن كل شر، وصفاته كذلك، إذ كلها صفات كمال، ونعوت جلال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى، ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل، لا تخرج عن ذلك ألبتة، وهو المحمود على ذلك كله، فتستحيل إضافة الشر إليه ... وحاصله: أن الشر راجع إلى مفعولاته، لا إلى ذاته وصفاته، ويتبَّين ذلك بمثال - ولله المثل الأعلى -: لو أن ملكًا من ملوك العدل كان معروفًا بقمع المخالفين وأهل الفساد، مقيمًا للحدود والتعزيزات الشرعية على أرباب أصحابها، ولعدُّوا ذلك خيرًا يحمده عليه الملوك، ويمدحه الناس ويشكرونه على ذلك، فهو خير بالنسبة إلى الملوك، يمدح ويثنى به ويشكر عليه، وإن كان شرًا بالنسبة إلى من أقيم عليه، فرب العالمين أولى بذلك، لأن له الكمال المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات. وأيضًا فلولا الشر هل كان يعرف الخير، فإن الضد لا يعرف إلاَّ بضده، فإن لم تحط به خبرًا فاذكر كلام ابن عقيل (¬1) في الباب الذي قبل هذا، وأسلم تسلم، والله أعلم» (¬2). ¬

(¬1) قال ابن عقيل: الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلَّدة بالذهب والفضة، ودارًا مشيَّدة مملوءة بالخدم والزينة؛ قال: انظر إلى إعطائهم مع سوء أفعالهم، ولا يزال يعلنهم ويذم معطيهم حتى يقول: فلان يصلي الجماعات والجمع، ولا يؤذي الذر، ولا يأخذ ما ليس له، ويؤدي الزكاة إذا كان له مال، ويحج ويجاهد، ولا ينال خلة بقلبه، ويظهر الإعجاب، كأنه ينطق: إنه لو كانت الشرائع حقًا، لكان الأمر بخلاف ما ترى، وكان الصالح غنيًا، والفاسق فقيرًا؟. اهـ. (¬2) «تيسير العزيز الحميد»: (462 - 469).

المبحث الثاني وجوب التسليم لقضاء الله، ومقدوراته العامة

المبحث الثاني وجوب التسليم لقضاء الله، ومقدوراته العامة ينبغي: التسليم التام لمقدورات الله سبحانه بكل ما فيها من خير وشر، فالقيام بالشكر لما فيها من النعم، والصبر على ما بها من النقم. وهذا مفرق طريق بين: المؤمنين والمنافقين في اعتقادهم، ومنهجهم، وسلوكهم، وصفاتهم. قال الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب في كتابه التوحيد، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحم الله الجميع، في شرحه عليه: «باب ما جاء في اللَّو» وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154]. [الشرح] قوله باب ما جاء في اللَّو، أي: من الوعيد والنهي عن الأمور المكروهة، كالمصائب إذا جرى بها القدر، لما فيه من الإشعار بعدم الصبر والأسى على ما فات، مما لا يمكن استداركه. فالواجب التسليم للقدر، والقيام بالعبودية الواجبة، وهو الصبر على ما أصاب العبد مما يكره. والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الستة. وأدخل المصنف رحمه الله تعالى أداة التعريف على «لوّ»، وهذه في هذا المقام لا تفيد تعريفًا كنظائرها، لأن المراد هذا اللفظ كما قال الشاعر: رأيت الوليد بن اليزيد مباركًا ... شديدًا بأعباء الخلافة كاهله

وقوله:: وقول الله عزَّ وجلّ: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154]. قاله بعض المنافقين يوم أحد لخوفهم وجزعهم وخورهم. وقوله: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168]. [الشرح] (الفرق بين المؤمن والمنافق ساعة نزول البلاء) قال ابن إسحاق: فحدثني يحيي بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير: «لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم، فما منا رجل إلاَّ ذقنه في صدره، قال: فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلاَّ كالحلم، لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله عزَّ وجلّ: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154]»، لقول معتب: رواه ابن أبي حاتم. قال الله تعالى: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]، أي هذا قدر مقدَّر من الله عزَّ وجلّ، وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه. وقوله: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168]. قال العماد ابن كثير: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168]، أي: لو سمعوا مشورتنا عليهم بالعقود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل. قال الله تعالى: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168]، أي: إذا كان القعود يسلم به الشخص من

القتل والموت، فينبغي لكم أن لا تموتوا، والموت لا بد آت إليكم، ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله: «نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبُي وأصحابه»، يعني أنه هو الذي قال ذلك. وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال: «غشينا النعاس ونحن في مصافِّنا يوم أحد، فجعل يسقط سيفي وآخذه، ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى - المنافقون - ليس لها هم إلاَّ أنفسهم، أجبن قوم، وأرعبه، وأخذله للحق، {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]، إنما هم أهل ريب وشك بالله عزَّ وجل. قوله: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]، يعني: لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]. قال شيخ الإسلام رحمه الله: لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبي في غزوة أحد قال: فلما انخذل يوم أحد، وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان أو كما قال: انخذل معه خلق كثير، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك. فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان، هو الضوء الذي ضرب الله به المثل (¬1). فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق، لماتوا على الإسلام، الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من المؤمنين حقًا، الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين حقًا الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة. وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتلوا بالمحنة ¬

(¬1) يشير شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى قول الله عزَّ وجلّ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} [البقرة: 19، 20].

التي يتضعضع فيها أهل الإيمان؛ بنقص إيمانهم كثيرًا وينافق كثير منهم، ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبًا، وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة. وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسل باطنًا وظاهرًا، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم، وهؤلاء من الذين قالوا آمنا، فقيل لهم: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، أي: الإيمان المطلق، الذي أهله هم المؤمنون حقًا، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى، كما دل عليه الكتاب والسنَّة. فلم يحصل لهم ريب عند المحن، التي تقلقل الإيمان في القلوب. انتهى. قوله: وقد رأينا ورأي غيرنا من هذا ما فيه عبرة. قلت: ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو، من إعانتهم العدو على المسلمين، والطعن في الدين، وإظهار العداوة والشماتة، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام، وذهاب أهله، وغير ذلك مما يطول ذكره. والله المستعان» (¬1). * * * ¬

(¬1) «فتح المجيد»: (/448 - 452).

المبحث الثالث ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر

المبحث الثالث ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه الله: «إن من أعظم ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: صحة إيمان الشخص بتكامل أركانه، لأن الإيمان بذلك من أركان الإيمان الستَّة، التي لا يتحقق إلاَّ بها؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنَّة. ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: طمأنينة القلب وارتياحه، وعدم القلق في هذه الحياة، عندما يتعرض الإنسان لمشاق الحياة؛ لأن العبد إذا علم أن ما يصيبه فهو مقدَّر لا بد منه، ولا رادَّ له، واستشعر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك»؛ فإنه عند ذلك تسكن نفسه ويطمئن باله؛ بخلاف من لا يؤمن بالقضاء والقدر؛ فإنه تأخذه الهموم والأحزان، ويزعجه القلق، حتى يتبرَّم بالحياة، ويحاول الخلاص منها، ولو بالانتحار؛ كما هو مشاهد من كثرة الذين ينتحرون فرارًا من واقعهم، وتشاؤمًا من مستقبلهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالقضاء والقدر؛ فكان تصرفهم ذلك نتيجة حتمية لسوء اعتقادهم ... ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: الثبات عند مواجهة الأزمات، واستقبال مشاق الحياة بقلب ثابت، ويقين صادق، لا تزلزله الأحداث، ولا تهزه الأعاصير؛ لأنه يعلم أن هذه الحياة دار ابتلاء وامتحان وتقلب؛ كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

كم جرى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى صحابته، من المحن والشدائد لكنهم واجهوها بالإيمان الصادق، والعزم الثابت، حتى اجتازوها بنجاح باهر، وما ذاك إلاَّ لإيمانهم بقضاء الله وقدره، واستشعارهم لقوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]. ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: تحويل المحن إلى منح، والمصائب إلى أجر؛ كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]؛ قال علقمة: «هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلِّم» ... ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: أنه يدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج والقوة والشهامة، فالمجاهد في سبيل الله يمضي في جهاده، ولا يهاب الموت؛ لأنه يعلم أن الموت لا بد منه، وأنه إذا جاء لا يؤخر، لا يمنع منه حصون ولا جنود {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]. وهكذا حينما يستشعر المجاهد هذه الدفعات القوية، من الإيمان بالقدر، يمضي في جهاده، حتى يتحقق النصر على الأعداء، وتتوفر القوة للإسلام والمسلمين» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الإرشاد إلى تصحيح الاعتقاد»: (301 - 304).

ملخص مفيد لأهم مسائل، وفوائد الباب الأول

ملخص مفيد لأهم مسائل، وفوائد الباب الأول - «لقد» علا الشرك الأرض، من أقصاها إلى أقصاها، قبيل قيام دعوة الشيخ المجدد الإمام/ محمد بن عبد الوهاب «رحمه الله تعالى». - «من» أعظم أسباب عودة الشرك: دوران الناس مع الألفاظ المجردة، دون الوقوف مع المعاني، التي ترتبت عليها الأحكام، وأناطها بها الشارع الحكيم. - «الإسلام»: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. - «مجرد» الإتيان بلفظ الشهادة، من غير علم بمعناها، ولا عمل بمقتضاها، لا يكون به المكلف مسلمًا بالإجماع. - «الإقرار بتوحيد الربوبية»، لا يكون الإنسان به مسلمًا، حتى يلتزم بتوحيد الألوهية، الذي يتميز به المسلم عن المشرك. - «لا يصح دين الإسلام» إلا بالبراءة من الطواغيت المعبودة من دون الله، وتكفيرهم. * * * - «الإله»: هو المعبود. هذا هو معناه المعروف بإجماع أهل العلم. - «العبادة»: اسم جامع لكل ما يحبه الله، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة. - «العبادة»: هي التوحيد، لأن الخصومة بين الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وأممهم كانت فيه.

- «العبادة» لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، ولا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت، فإذا خالطها الشرك أفسدها، لأن اجتنابه شرط في صحتها. - «من خصائص الإلهية»: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بحال؛ وذلك يقتضي إفراد الله بالعبادة وحده دون ما سواه. - «إفراد الله بالعبادة»، ثابت لله عقلاً، وشرعًا، وفطرة. والشرك: مستقر قبحه في كل فطرة وعقل، ومحال أن تجيء به شريعة من الشرائع. - «أصول التوحيد» العاصمة من الشرك والتنديد، قد اتفقت عليها الرسالات، وتطابقت عليها النبوات، ومن ثمّ فلا يسع أي عبد فيها إلا الاتباع المحض، دون الابتداع والاجتهاد. - «من» عبد غير الله فهو مشرك، ولو نطق بـ «لا إله إلا الله»، لأنه تكلم بما لم يعمل به، ولم يعتقد ما دلّ عليه، ولم يقم بما يقتضيه من التوحيد والإخلاص. - «الصدق والإخلاص متلازمان»، لا يوجد أحدهما بدون الآخر. فمن لم يكن مخلصًا فهو مشرك، ومن لم يكن صادقًا فهو منافق. * * * - «حاجة» الناس إلى الرسل ضرورية، إذ لا يمكن معرفة تفاصيل الأوامر، والنواهي، وعامة الشرائع إلا عن طريقهم. - إذا ذهبت آثار الرسالة من الأرض، أقام الله القيامة. - «الغاية» من إرسال الرسل: إفرادهم وحدهم بالطاعة المطلقة والمتابعة، فإذا كانت الطاعة لغيرهم، لم تحصل الفائدة المقصودة من إرسالهم. - «التوحيد» يتضمن، ويستلزم: تحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل موارد النزاع، وهذا هو مقتضى الشهادتين، ولازمها، الذي لا بد منه.

- «التحاكم» إلى غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - مفسد ومبطل للإيمان به. - «لقد» حسم النبي - صلى الله عليه وسلم - كل وسائل، ومواد الشرك، ليبقى التوحيد خالصًا. - «بُعث» النبي - صلى الله عليه وسلم - بأشد الشرائع في التوحيد، وأسمحها في العمل. - شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كافر بالإجماع، ومن شك في كفره كفر. - «من» أبغض شيئًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفر ولو عمل به. - «من اعتقد»: أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كفر، وخلع ربقة الإسلام عن عنقه. - «أجمع» العلماء: على كفر من استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو بدينه، ولو كان هازلاً، ولم يعتقد حقيقة الاستهزاء. * * * - «الإيمان» قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومحله: القلب والجوارح معًا بإجماع السلف. - «الأعمال» داخلة في مسمى الإيمان، بإجماع الصحابة، والتابعين. - «الأعمال الصالحة» على الجوارح، تكون على قدر ما في القلب من الإيمان. - «الإيمان المطلق»، الذي يستحق صاحبه الجنة، والنجاة من النيران هو: فعل الواجبات وترك المحرمات. - «مطلق الإيمان»: الإتيان بالأركان الخمسة، والعمل بها باطنًا وظاهرًا، مع الإخلال ببعض الواجبات؛ وهذا الإيمان يجعل صاحبه في المشيئة الإلهية. - «التوحيد»: هو أصل الإيمان وأساسه، الذي تصلح به جميع الأعمال، وتفسد بفساده بإجماع المسلمين. وفي هذا الأصل وقع النزاع، وله شرع الجهاد، وبه انقسم العباد إلى مؤمنين وكافرين.

- «الإيمان» له أصل وشعب. فأصله التوحيد. وشعبه: الطاعات. و «الكفر» له أصل وشعب. فأصله: الشرك. وشعبه: المعاصي. - «من» سوى بين أصل الإيمان وشعبه، أو أصل الكفر وشعبه، في الأسماء والأحكام، فهو مخال للكتاب والسنة، وخارج عن سبيل سلف الأمة، وداخل في عموم أهل البدع والأهواء. - «لا يلزم» من قيام شعبة من شعب الإيمان بعبد أن يكون مؤمنًا، حتى يقوم به أصله؛ ولا من قيام شعبة من شعب الكفر أن يكون كافرًا، حتى يقوم به أصله. - «الاستثناء» في الإيمان جائز باعتبارين: باعتبار الموافاة. وباعتبار الإخلال في العمل. - «الاستثناء» في الإيمان شكًا محرم بإجماع المسلمين. - «كلما» ازداد العيد إيمانًا، قوي خوفه من الكفر والنفاق، وعلى حسب ضعفه يكون أمنه من سوء الخاتمة. * * * - «الطاغوت»: ما تجاوز به العبد حدّه، من معبود، أو متبوع، أو مطاع. فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله. - «تحكيم» القوانين الوضعية: تحكيم للطاغوت. - «النظم المخالفة لشرع الله» التي وضعت للتحاكم إليها، مضاهاة لتشريع الله، داخلة في معنى الطاغوت. - «صفة الكفر بالطاغوت»: أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغض

أهلها، وتعاديهم. - «كل» من حكم بغير شرع الله فهو: «طاغوت». - «لا» يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من الطواغيت، وتكفيرهم. - «من» مدح الطواغيت، أو جادل عنهم، خرج من الإسلام، ولو كان صائمًا قائمًا. - «من» عرف معنى «لا إله إلا الله»، عرف: أن من شك، أو تردد في كفر من أشرك مع الله غيره، أنه لم يكفر بالطاغوت. - «التوحيد»: هو الكفر بكل طاغوت معبود من دون الله. - «التحاكم» إلى الطاغوت، إيمان به. - «من» أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرمه الله، فقد اتخذهم أربابًا من دون الله. - «إذا» كانت الحكومة تحكم بغير ما أنزل الله، فهي حكومة غير إسلامية. - «من» لم يرد مسائل النزاع إلى الكتاب والسنة، فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت، لإخلاله بشرط من شروط الإيمان. - «الذين» جعلوا القوانين الوضعية، بترتيب وتخضيع كفار، وإن قالوا: أخطأنا، وحكم الشرع أعدل. - «التشريع» حق لله وحده، فمن احتكم إلى غير شرع الله، من سائر الأنظمة، والقوانين البشرين، فقد اتخذ أصحابها شركاء لله في تشريعه. - «من» دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى، كان من المنافقين. - «من» دعا إلى تحكيم القوانين البشرية، فقد جعل له شريكًا في الطاعة والتشريع. - «من» حكم القوانين البشرية لم يكن موحدًا، لأنه اتخذ شريكًا في الطاعة

والتشريع، ولم يكفر بالطاغوت، بل آمن به. - «من» خرج عن حكم الله، وعدل إلى ما سواه من القوانين الطاغوتية، وجعلها شريعة مقدمة على الكتاب والسنة في الحكم، فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله وحده في القليل والكثير. - «كل» من حكم بغير شرع الله، أو حاكم إلى غيره، فقد حكم بالطاغوت، وحاكم إليه. - «البلد» الذي يحكم فيه بالقانون الوضعي، ليس بلد إسلام، ويجب الهجرة منه على المستطيع. - «من» حكم القانون البشري، وقال: اعتقد أنه باطل، فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع، كمن عبد الأوثان، واعتقد بطلانها. - «كل» دولة لا تحكم بشرع الله، ولا تنصاع لأمره، فهي: دولة جاهلية، كافرة، ظالمة، فاسقة، بنص الآيات المحكمات؛ ويجب على المسلمين بغضها ومعاداتها، ويحرم عليهم مودتها وموالاتها. - «مجرد» الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، بل القتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة. - «اتفق العلماء» بغير خلاف بينهم على أن: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام، الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه. * * * - «من نواقض التوحيد»: موالاة المشرك، والركون إليه، ونصرته، وإعانته باليد، أو اللسان، أو المال. - «أجمع العلماء» سلفًا وخلفًا، من الصحابة، والتابعين، والأئمة، وجميع

أهل السنة: أن المرء لا يكون مسلمًا، إلا بالتجرد من الشرك الأكبر، والبراءة منه، وممن فعله. - «أصل دين الإسلام وقاعدته» أمران: الأمر بعبادة الله وحده، والتحريض على ذلك والموالاة فيه، وتكفير من تركه، والنهي عن الشرك بالله في عبادته، والتغليظ فيه، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. - «ما نجا» من شَرَك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد توحيده له، وتقرب بمقت المشركين إلى الله. - «من قال»: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، فهذا لا يكون مسلمًا. - «مظاهرة المشركين»، ومعاونتهم على المسلمين، من نواقض الإسلام، والردة عن الدين. - «من قاتل» مع المشركين ضد المسلمين كفر، ولو كان موحدًا، وتاركًا للشرك. - «من أعان» المشركين على المسلمين، وأمدهم من ماله، بما يستعينون به على حربهم، فقد كفر. - «محبة المشركين»، ونصرتهم على المسلمين، مكفر مخرج عن الملة. - «كل من أقام بين أظهر المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو مرتكب حرامًا بالإجماع. * * * - «من الإيمان بالله»: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. - «من» شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر.

- «إنا نقر» آيات الصفات، وأحاديثها على ظاهرها، ونكل معناها، مع اعتقاد حقائقها إلى الله تعالى. * * * - «لا يتم» الإيمان بالربوبية إلا بإثبات القدر. - «من» أركان الإيمان: الإيمان بالقضاء والقدر. - الإيمان والكفر، والكطاعة والمعصية، كلها بقضاء الله وقدره ومشيئته وإرادته، غير أنه يرضى الإيمان والكاعة، ووعد عليها الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية، وأوعد عليهما العقاب. - «مراتب» الإيمان بالقضاء والقدر، أربع مراتب: الأولى: علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها. الثانية: كتابة ذلك عنده في الأزل، قبل خلق السماوات والأرض. الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عنها، كما لا خروج له عن علمه. الرابعة: خلقه لها، وإيجاده، وتكوينه. فالله خالق كل شيء، وما سواه مخلوق. - «يستحيل» إضافة الشر إلى الله سبحانه، لموجب أسمائه الحسنى وصفاته العلا، ولأنه المحمود - جل في علاه - على كل حال. * * *

الباب الثاني الشرك والمشركون

الباب الثاني الشرك والمشركون وفيه ثمانية فصول: الفصل الأول: حدُّ الشرك ودرجاته وأنواعه وأحكامه، مع بيان علَّة عدم مغفرته، ووجوب الحذر منه. الفصل الثاني: العلم سبيل النجاة من الشرك، وإلاَّ وقع بالجهل والتلبيس وتغيير الحقائق. الفصل الثالث: الفتنة بالقبور والمفاسد المترتبة عليها، مع الردِّ على أشهر شبُهات أهلها. الفصل الرابع: الشفاعة وأنواعها وشروطها، وأسباب تحصيلها وموانع الحرمان منها. الفصل الخامس: المشرك مغبون في دينه لإخلاله بكل قيود الكلمة العاصمة إلاَّ مجرَّد التلفُّظ بها. الفصل السادس: أشهر شبهات المشركين وعلمائهم، مع سهام الردود عليها. الفصل السابع: الأدلة الجلية من الشريعة الربَّانية على كُفر من عبد غير الله تعالى. الفصل الثامن: علَّة قتال المشركين ووجوب البراءة منهم، وحكم الدار إذا غلبت عليها أحكام الشرك.

الفصل الأول حد الشرك ودرجاته وأنواعه وأحكامه مع بيان علة عدم مغفرته، ووجوب الحذر منه

الفصل الأول حدُّ الشرك ودرجاته وأنواعه وأحكامه مع بيان علَّة عدم مغفرته، ووجوب الحذر منه وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: تعريف الشرك. المبحث الثاني: الشرك أكبر الكبائر، وبيان علة عدم مغفرته. المبحث الثالث: أنواع الشرك ودرجاته وأحكامه. المبحث الرابع: خطر الشرك، ووجوب الحذر منه بتجنُّب أسبابه.

المبحث الأول تعريف الشرك

المبحث الأول تعريف الشرك قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: «والشرك: جعل شريك لله تعالى فيما يستحقه ويختص به من العبادة الباطنة والظاهرة، كالحب والخضوع، والتعظيم والخوف، والرجاء والإنابة، والتوكُّل والنسك والطاعة ... ونحو ذلك من العبادات. فمن أشرك مع الله غيره في شيء من ذلك فهو مشرك بربِّه، قد عدل به سواه، وجعل له ندًا من خلقه، ولا يشترط في ذلك أن يعتقد له شركة في الربوبية، أو استقلالاً بشيء منها» (¬1). وقال بعض علماء نجد: «وكل من دعا من دون الله فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله، فقد أشرك، لأنَّ الدعاء اعتراف بالعبودية، فبدعائه له صيَّره إلهًا» (¬2). وقال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: «فالشرك: هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، كالدعاء، والذبح، والنذر، والاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله» (¬3). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (12/ 205). (¬2) «مجموعة الرسائل والمسائل»: (5/ 678). (¬3) الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والردِّ على أهل الشرك والإلحاد: (43).

المبحث الثاني الشرك أكبر الكبائر، وبيان علة عدم مغفرته

المبحث الثاني الشرك أكبر الكبائر، وبيان علة عدم مغفرته الشرك أكبر الكبائر لمنافاته الحكمة المقصودة من إيجاد الخلق، ويقع مع الجهل، وتخلف قصد السوء، وإرادة التنقُّص بجناب الرب سبحانه، بل وتترتَّب أحكامه عليه، مع زعم التقرُّب به إلى الله زلفى ... فكيف خرج بكل هذا عن حدِّ المغفرة - التي وسعت السماوات والأرض -، وأصبح من أشنع الذنوب التي يُعصى بها الله سبحانه؟ قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن - في معرض الرِّد على مجرم أثيم يستدل محرِّفًا بكلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على التهوين من أمر الشرك والمشركين -: قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ووقعت مسألة؛ وهي أنَّ المشرك إنما قصد تعظيم جناب الرب سبحانه وتعالى، وأنه لعظمته لا ينبغي لمثلي الدخول عليه إلاَّ بالوسائط والشفعاء، كحال الملوك، والمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الرب، وإنما قصد تعظيمه، فلم كان هذا القدر موجبًا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى، ومخلدًا في النار، وموجبًا لسفك دماء أصحابه، واستباحة حريمهم وأموالهم؟. ويترتَّب على هذا سؤال آخر، وهو أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه وتعالى لعباده التقرُّب إليه بالشفعاء والوسائل، ليكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع، أم ذلك قبيح في الفطر والعقول يمتنع أن تأتي به شريعة؟ بل جاءت الشريعة بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح. وأما الشرك في كونه لا يغفر من بين الذنوب، فأجاب عن هذا كله بقوله: فنقول وبالله التوفيق والتأييد، ومنه نستمد العون والتسديد: فإنه من

يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منه. (أنواع الشرك): الشرك: شرك يتعلَّق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه وتعالى لا شريك له في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله. والشرك الأول نوعان: أحدهما: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون، إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، وقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36، 37]. والشرك والتعطيل متلازمان: فكل مشرك معطِّل، وكل معطِّل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقرًا بالحق سبحانه وتعالى وصفاته، ولكنه عطَّل حق التوحيد .... النوع الثاني: شرك من جعل مع الله إلهًا آخر، ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة فجعلوا المسيح إلهًا وأمه إلهًا .... وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا الشرك وأخفّ أمرًا، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلاَّ الله. وأن لا يضرّ وينفع ويعطي ويمنع إلاَّ الله عزَّ وجلّ، وأنه لا إله غيره، ولا ربّ سواه. ولكن لا يخلص لله معاملته وعبوديَّته، بل يعمل لحظ نفسه، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فللَّه تعالى من عمله وسعيه نصيب ... وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور، وأكبر، وأصغر. والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفور.

فمنه: الشرك بالله في المحبة والتعظيم: أن يحب مخلوقًا كما يحب الله، قال سبحانه وتعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم يوم القيامة وقد جمعتهم الجحيم: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98] .... فعدل المشرك مَن خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرَّة في السموات ولا في الأرض، فيا له من عدل تضمَّن أكبر الظلم وأقبحه. ويتبع هذا الشرك: الشرك به سبحانه وتعالى في الأفعال والأقوال، والإرادات والنيات، والشرك في الأفعال: كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعًا لقبره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه في الأرض، أو تقبيل القبور واستلامها، والسجود لها، وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتَّخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي لله تعالى فيها، فكيف بمن اتَّخذها أوثانًا يعبدها من دون الله؟ ... ومن الشرك به سبحانه وتعالى: الشرك في اللفظ، كالحلف بغير الله، كما روى أحمد وأبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بغير الله فقد أشرك»، صحَّحه الحاكم وابن حبان، ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: «أجعلتني لله ندًا؟ قل: ما شاء الله وحده» .... وأما الشرك في الإرادات والنيّات، فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله تعالى، أو نوى شيئًا غير التقرُّب إليه، وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته.

والإخلاص أن يخلص لله في أقوال وأفعاله وإرادته ونيِّته. وهذه هي الحنيفية ملَّة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وهي ملَّة إبراهيم التي مَن رغب عنها فهو أسفه السفهاء. فإذا عرفت هذه المقدمة، انفتَح لك باب الجواب عن السؤال المذكور، فنقول ومن الله تعالى نستمد الصواب: (تعريف الشرك وبيان علة عدم مغفرته) حقيقة الشرك: هو تشبيه المخلوق بالخالق عزَّ وجلّ. وهذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله تعالى بها نفسه، ووصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فعكس من نكس الله قلبه وأعمى عين بصيرته فأركسه بنسبة الأمر، وجعل التوحيد تشبيهًا، والتشبيه تعظيمًا وطاعة. فالشرك: تشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية. فإن من خصائص الإلهية: التفرُّد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع. وذلك يوجب تعلُّق الدعاء والخوف، والرجا والتوكُّل به وحده. فمن علَّق ذلك بمخلوق فقد شبَّهه بالخالق تعالى، وجعل من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فضلاً عن غيره، شبيهًا لمن الأمر كله له. فأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها إليه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد. فمن أقبح التشبيه، تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه

بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكُّل والاستعانة، وغاية الذلّ مع غاية الحب. (الفطرة والعقل، والشرع، يدلُّون على وجوب التوحيد، واستحالة تشريع الشرك) كل ذلك، يجب عقلاً وشرعًا، وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره. فمن جعل شيئًا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا مثل له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدَّة قبحه، وتضمُّنه غاية الظلم، أخبر سبحانه وتعالى عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة. ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين، لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذلّ. هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبّه وذلّه وخضوعه لغير لله فقد شبَّهه به في خالص حقّه، وهذا من المحال أن تجيء به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيَّرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم، واجتالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت لهم من الله الحسنى، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم، فازدادوا بذلك نورًا على نورهم يهدي الله لنوره من يشاء .... (سبب الشرك: سوء الظن بالله وكماله المطلق، وذلك أعظم الذنوب عند الله سبحانه) إذا تبيَّن هذا فهنا أصل عظيم، يكشف سر المسألة، وهو أنّ أعظم

الذنوب عند الله تعالى هو: إساءة الظن به، فإنَّ المسيء به الظن، قد ظنَّ به خلاف كماله المقدَّس، فظنَّ به ما يناقض أسماءه وصفاته، ولهذا توعَّد سبحانه وتعالى الظانِّين به ظن السوء بما لم يتوعَّد به غيرهم، كما قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]. وقد قال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] وقد قال تعالى عن خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 85 - 87]. أي: فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره؟!!، وما ظنكم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟!!، فلو ظننتم به ما هو أهله: من أنَّه بكلِّ شيء عليم، وعلى كلِّ شيء قدير، وأنه غنيٌّ عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه؛ وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، ما اتَّخذتم من دونه أولياء تدعونهم وتتوسَّلون بهم إليه بزعمكم. وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء، فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، ويعينهم على قضاء حوائجهم؛ وإلى من يسترحمهم، ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة، لحاجتهم وعجزهم وضعفهم، وقصور علمهم، فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالِم بكل شيء، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل

شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظنٌّ به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفكر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح ... فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك من أكبر الكبائر عند الله، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه، وأنه يوجب الخلود في النار، وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرَّد النهي عنه، بل يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع عبادة إله غيره، كما يستحيل عليه تناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله. وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك، أو يرضى به؟ تعالى الله عزَّ وجلّ عن ذلك علوًا كبيرًا، انتهى ما نقلته. فقف وتأمَّل كلام الشيخ رحمه الله، فإنه فصَّل وبيَّن أنَّ الشرك شركان: شرك تعطيل لذات الرب ولأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته. وذكر أنَّ هذا أيضًا تعطيل لمعاملته على العبد من حقيقة التوحيد -، ثم ذكر شرك أهل الوحدة، وشرك الملاحدة القائلين بقدم العالم، وشرك الجهمية والقرامطة. ثم ذكر النوع الثاني: وهو شرك من أشرك في العبادة والمعاملة، كشرك النصارى، وشرك المجوس، وشرك القدرية، وشرك الذي حاجَّ إبراهيم في ربه، وشرك من يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها أربًابًا مدبرة، وشرك عباد الشمس، وعباد النار وغيرهم. قلت: ومنه شرك غلاة عبَّاد القبور الذين يزعمون أنَّ أرواح الموتى تدبِّر شيئًا من أمر هذا العالم كما صرَّح به ابن جرجيس قاتله الله» (¬1). ¬

(¬1) «منهاج التأسيس والتقديس»: (276 - 295).

المبحث الثالث أنواع الشرك ودرجاته وأحكامه

المبحث الثالث أنواع الشرك ودرجاته وأحكامه قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى: قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح المنازل في باب التوبة: «وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلاَّ بالتوبة منه، وهو أن يتَّخذ من دون الله ندًا يحبه كما يحب الله، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لتنقُّص معبوديهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين .... ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى والاستعانة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عمَّن استغاث به، أو سأله أن يشفع له إلى الله. وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلاَّ بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، والميت محتاج إلى من بدعو له، كما أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليها، ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقُّص بالأموات، وهم قد تنقَّصوا الخالص بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمِّهم ومعاداتهم، وتنقَّصوا من أشركوا به غاية النقص إذ ظنوا أنه راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل

زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم! ولله در خليله إبراهيم - عليه السلام - حيث قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]. وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلاَّ من جرَّد توحيده لله، وتقرب بمقتهم إلى الله». انتهى كلامه رحمه الله. فتأمل رحمك الله كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن من دعا الموتى وتوجه إليهم واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله فقد فعل الشرك الأكبر الذي بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بإنكاره وتكفير من لم يتب منه وقتاله ومعاداته، وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيّروا دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعادوا أهل التوحيد الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له» (¬1). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله، وهو يتحدث عن حال المشركين مع آلهتهم: «إذا تبين هذا فاعلم: أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة على أنواع التوحيد، وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقًا، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه. القسم الأول: الشرك في الربوبية، وهو نوعان: أحدهما: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون. إذا قال: وما رب العالمين؟ ومن هذا شرك الفلاسفة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدومًا أصلاً، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، يسمُّونها: العقول، والنفوس ... النوع الثاني: شرك من جعل معه إلهًا آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، وشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة. ¬

(¬1) «عقيدة الموحدين»، رسالة الكلمات النافعة في المكَّفرات الواقعة: (ص 232، 234).

ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات، يجعلها مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم. قلت: ويلتحق به من وجه شرك غلاة عبَّاد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت، فيقضون الحاجات، ويفرِّجون الكربات، وينصرون من دعاهم، ويحفظون من التجأ إليهم ولاذ بحماهم، فإن هذه من خصائص الربوبية، كما ذكره بعضهم في هذا النوع. القسم الثاني: الشرك في توحيد الأسماء والصفات، وهو أسهل مما قبله، وهو نوعان: أحدهما: تشبيه الخالق بالمخلوق، كمن يقول: يد كيدي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري، واستواء كاستوائي، وهو شرك المشبِّهة. الثاني: اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق. قال الله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]. قال ابن عباس: يلحدون في أسمائه: يشركون. وعنه: سموا اللات من الإله، والعُزَّى من العزيز. القسم الثالث: الشرك في توحيد الإلهية والعبادة. قال القرطبي: أصل الشرك المحرم اعتقاد شريك لله تعالى في الإلهية، وهو الشرك الأعظم، وهو شرك الجاهلية، ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل، وهو قول من قال: إن موجودًا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده وإن لم يعتقد كونه غلهًا هذا كلام القرطبي. وهو نوعان: أحدهما: أن يجعل لله ندًا يدعوه كما يدعو الله، ويسأله الشفاعة كما يسأل الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويحبه كما يحب الله، ويخشاه كما يخشى الله، وبالجملة فهو أن يجعل الله ندًا يعبده كما يعبد الله، وهذا هو الشرك

الأكبر، وهو الذي قال الله فيه: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]. وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]، والآيات في النهي عن هذا الشرك وبيان بطلانه كثيرة جدًا. الثاني: الشرك الأصغر، كيسير الرياء والتصنُّع للمخلوق، وعدم الإخلاص لله تعالى في العبادة، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب المنزلة والجاه عند الخلق تارة، فله من عمله نصيب، ولغيره منه نصيب، ويتبع هذا النوع الشرك بالله في الألفاظ كالحلف بغير الله وقول: ما شاء الله وشئت، وما لي إلاَّ الله وأنت، وأنا في حسب الله وحسبك، ونحوه. وقد يكون ذلك شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. هذا حاصل كلام ابن القيم وغيره» (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: «ثم اعلم أن ضد التوحيد: الشرك، وهو ثلاثة أنواع: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي، والدليل على الشرك الأكبر قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 116]. {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72]. ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 28 - 30).

وهو أربعة أنواع: النوع الأول: شرك الدعوة. والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]. النوع الثاني: شرك النيَّة والإرادة والقصد. والدليل قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16]. النوع الثالث: شرك الطاعة. والدليل قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وتفسيرها الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم، كما فسَّرها النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم لمَّا سأله فقال: لسنا نعبدهم، فذكر له أن عبادتهم طاعتهم في المعصية. النوع الرابع: شرك المحبة. والدليل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165]. والنوع الثاني: (شرك أصغر) وهو الرياء، والدليل قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. النوع الثالث: (شرك خفي)، والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل» وكفارته قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم» (¬1). ¬

(¬1) «مجموعة التوحيد»: (ص 463).

المبحث الرابع خطر الشرك، ووجوب الحذر منه بتجنب أسبابه

المبحث الرابع خطر الشرك، ووجوب الحذر منه بتجنب أسبابه قال الشيخ صالح الفوزان: «الشرك أعظم الذنوب، لأن الله تعالى أخبر أنه لا مغفرة لمن لم يتب منه، مع أنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وذلك يوجب للعبد شدة الحذر، وشدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه، ويحمله على معرفته لتوقيه؛ لأنه أقبح القبيح، وأظلم الظلم. قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وذلك لأنه تنقُّص لله عزَّ وجلّ ومساواة لغيره به؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]. وقال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، ولأن الشرك مناقض للمقصود بالخلق والأمر من كل وجه؛ فمن أشرك بالله عزَّ وجلّ؛ فقد شبَّه المخلوق بالخالق، وأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات عن جميع المخلوقات .... وإليك بيان الوسائل القولية والفعلية، التي نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنها تفضي إلي الشرك: 1 - نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التلفظ بالألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين خلقه؛ مثل: (ما شاء الله وشئت)، (لولا الله وأنت)، وأمر بأن يقال بدل ذلك: (ما شاء الله ثم شئت)؛ لأن الواو تقتضي التسوية و (ثم) تقتضي الترتيب، وهذه التسوية في اللفظ شرك أصغر، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر.

2 - نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الغلو في تعظيم القبور بالبناء عليها، وإسراجها، وتجصيصها، والكتابة عليها. 3 - نهى عن اتخاذ القبور مساجد للصلاة عندها؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها. 4 - نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لما في ذلك من التشبه بالذين يسجدون لها في هذه الأوقات. 5 - نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة؛ إلاَّ إلى المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى. 6 - نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الغلو في مدحه؛ فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله»، والإطراء: هو المبالغة في المدح. 7 - نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الوفاء بالنذر إذا كان في مكان يُعبد فيه صنم، أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية. كل هذا حذَّر منه، صيانةً للتوحيد، وحفاظًا عليه، وسدًا للوسائل والذرائع التي تفضي إليه. ومع هذا البيان التام من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والاحتياط الشديد الذي يبعد الأمة عن الشرك؛ خالف القبوريون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعصوا أمره، وارتكبوا ما نهاهم عنه؛ فشيَّدوا القباب على القبور، وبنوا عليها المساجد، وزيَّنوها بأنواع الزخارف، وصرفوا لها أنواعًا من العبادة من دون الله» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الإرشاد إلى تصحيح الاعتقاد»: (ص 46 - 49).

الفصل الثاني العلم سبيل النجاة من الشرك وإلا وقع بالجهل والتلبيس وتغيير الحقائق

الفصل الثاني العلم سبيل النجاة من الشرك وإلا وقع بالجهل والتلبيس وتغيير الحقائق وفيه ستة مباحث المبحث الأول: الناس مكلَّفون بمعرفة الشرك حتى تتحقق البراءة منه، فهي أصل الأصول الاعتقادية، ولا يصح إسلام المرء إلاَّ بالقيام بها. المبحث الثاني: كيف دخل الشرك في الأمة؟ المبحث الثالث: الغلو من أعظم أسباب المروق من الإسلام، ولذا فهو أصل شرك الأولين، والآخرين. المبحث الرابع: اتخاذ الوسائط لجلب المنافع ودفع المضار، شرك بالله العظيم، ومروق من ملة المسلمين. المبحث الخامس: ضرورة التحذير من الشرك ووسائله. المبحث السادس: التحذير من ألفاظ، لا ينبغي أن تقال في حق الله سبحانه.

المبحث الأول الناس مكلفون بمعرفة الشرك، حتى تتحقق البراءة منه، فهي أصل الأصول الاعتقادية، ولا يصح إسلام المرء إلا بالقيام بها

المبحث الأول الناس مكلفون بمعرفة الشرك، حتى تتحقق البراءة منه، فهي أصل الأصول الاعتقادية، ولا يصح إسلام المرء إلا بالقيام بها قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين: «ومن العجب أن بعض الناس إذا سمع من يتكلم في معنى هذه الكلمة نفيًا وإثباتًا عاب ذلك وقال: لسنا مكلفين بالناس والقول فيهم. فيقال له: بل أنت مكلَّف بمعرفة التوحيد الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وأرسل جميع الرسل يدعون إليه، ومعرفة ضده وهو الشرك الذي لا يغفر ولا عذر لمكلف في الجهل بذلك، ولا يجوز فيه التقليد لأنه أصل الأصول» (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: «أجمع العلماء سلفًا وخلفًا، من الصحابة والتابعين، والأئمة، وجميع أهل السنة: أن المرء لا يكون مسلمًا إلاَّ بالتجرد من الشرك الأكبر، والبراءة منه وممن فعله، وبغضهم ومعاداتهم بحسب الطاقة، والقدرة، وإخلاص الأعمال كلها لله، كما في حديث معاذ الذي في الصحيحين: «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» (¬2). وقال الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود رحمهم الله تعالى: «وأما مشركو هذا الزمان، فإنهم وإن نطقوا بها، وصلُّوا وزكُّوا، لا يفهمون منها ما فهمته العرب من أن معناها خلع الأنداد، وإفراد الله سبحانه ¬

(¬1) «عقيدة الموحدين» رسالة الانتصار لحزب الله الموحدين: (ص 11). (¬2) «الدرر السنية»: (11/ 545).

بالعبادة وحده لا شريك له، بل يخالفون معناها، فيصرفون التأله لغير الله تعالى، ويعتقدون ذلك قربة إلى الله، فيصرفون خالص حق الله، الذي دلت عليه هذه الكلمة لغيره تعالى، بل أكبهم الجهل إلى الشرك في الربوبية، فلا تنفعهم لا إله إلاَّ الله مع ذلك وإن قالوها، لأن الشرك محبط للعمل، كما قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، وغير ذلك من الآيات الدالة على حبوط عمل المشرك. ومشركو العرب: إنما كان شركهم في الإلهية، فلا تنفع لا إله إلاَّ الله قائلها، إلاَّ إذا التزم ما دلت عليه من خلع الأنداد، وإفراد الله سبحانه بالعبادة، ولذلك لما قالها أهل النفاق واليهود ولم يلتزموا ما دلت عليه لم تنفعهم» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (8/ 498، 499).

المبحث الثاني كيف دخل الشرك في الأمة؟

المبحث الثاني كيف دخل الشرك في الأمة؟ لقد فتح الشيطان بابًا للشرك كان مغلقًا، عندما لبس على الناس دينهم، فزَّين لهم أن الأحكام في الإسلام، دائرة مع الأسماء، وأن الحقائق والمعاني لا دخل لها في تعليل الأحكام، فعاد بذلك كل لون من ألوان الشرك، في اسم غير اسمه، ومقصد غيره مقصده. قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمهما الله تعالى: «وقد دخل كثير من هذه الأمة في الشرك بالله، والتعلق على ما سواه، ويسمُّون ذلك توسلاً، وتشفعًا، وتغيير الأسماء، لا اعتبار به، ولا تزول حقيقة الشيء، ولا حكمه بزوال اسمه، وانتقاله في عرف الناس باسم آخر. (تغيير الأسماء: لا يغيِّر الأحكام المترتبة على معانيها) ولما علم الشيطان: أن النفوس تنفر من تسمية ما يفعله المشركون تألهًا، أخرجه في قالب آخر تقبله النفوس، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليشربن أناس من أمتي الخمر، يسمُّونها بغير اسمها»، وكذلك من زنى، وسمَّى ما فعله: نكاحًا، فتغيير الأسماء، لا يزيل الحقائق، وكذا من ارتكب شيئًا، من الأمور الشركية فهو مشرك، وإن سمى ذلك توسلاً، وتشفعًا. يوضح ذلك: ما ذكر الله في كتابه، عن اليهود، والنصارى، بقوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ...} [التوبة: 31]، وروى الإمام أحمد، والترمذي، وغيرهما: أن عدي بن حاتم، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان قد تنصَّر في الجاهلية، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ

وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ...} [التوبة: 31]، قال: يا رسول الله، إنهم لم يعبدوهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «بلى إنهم حرَّموا عليهم الحلال، وحلَّلوا لهم الحرام، فذاك عبادتهم إياهم». وقال ابن عباس، وحذيفة بن اليمان، في تفسير هذه الآية: إنهم اتبعوهم فيما حلَّلوا وحرَّموا. فهؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية، لم يسموا أحبارهم، ورهبانهم، أربابًا ولا آلهة، ولا كانوا يظنون أن فعلهم هذا معهم عبادة لهم، ولهذا قال عدي: إنهم لم يعبدوهم. وحكم الشيء تابع لحقيقته، لا لاسمه، ولا لاعتقاد فاعله، فهؤلاء كانوا يعتقدون أن طاعتهم في ذلك، ليست بعبادة لهم، فلم يكن ذلك عذرًا لهم، ولا مزيلاً لاسم فعلهم، ولا لحقيقته وحكمه» (¬1). قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: «وتلطف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين، بأن دسَّ عليهم تغيير الأسماء والحدود الشرعية، والألفاظ اللغوية، فسموا الشرك وعبادة الصالحين: توسُّلاً ونداء، وحسن اعتقاد في الأولياء، وتشفعًا بهم، واستظهارًا بأرواحهم الشريفة، فاستجاب له صبيان العقول، وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء، ولم يقفوا مع الحقائق. فعادت عبادة الأولياء والصالحين، ودعاء الأوثان والشياطين، كما كانت قبل النبوَّة، وفي زمان الفترة حذو النعل بالنعل، وحذو القذَّة بالقذَّة، وهذا من أعلام النبوَّة، كما ذكره غير واحد، ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد، حتى عمَّ ضرره، وبلغ شرره الحاضر والباد» (¬2). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 567 - 569). (¬2) «الدرر السنية»: (12/ 283).

وقال الشيخ أبو بطين رحمه الله تعالى: «إن موالاة الله بعبادته، والبراءة من كل معبود سواه، هو معنى: لا إله إلاَّ الله، إذا تبين ذلك، فمن صرف لغير الله شيئًا من أنواع العبادة المتقدم تعريفها، كالحب والتعظيم، والخوف، والرجاء، والدعاء، والتوكل، والذبح، والنذر، وغير ذلك، فقد عبد ذلك الغير، واتخذه إلهًا، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فرَّ من تسمية فعله ذلك تألهًا وعبادة وشركًا. ومعلوم عند كل عاقل: أن حقائق الأشياء، لا تتغير بتغير أسمائها، فلو سمى: الزنا، والربا، والخمر، بغير أسمائها، لم يخرجها تغيير الاسم، عن كونها: زنًا، وربًا، وخمرًا، ونحو ذلك. ومن المعلوم: أن الشرك، إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمنًا مسبَّة الرب وتنقُّصه وتشبيهه بالمخلوقين، فلا تزول هذه المفاسد، بتغيير اسمه، كتسميته: توسلاً، وتشفعًا، وتعظيمًا للصالحين، وتوقيرًا لهم ونحو ذلك، فالمشرك: مشرك، شاء أم أبى، كما أن الزاني: زان، شاء أم أبى، والمرابي: مراب، شاء أم أبى» (¬1). وقال الشيخ أبو بطين أيضًا رحمه الله تعالى: «قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن ذبح للشيطان ودعاه واستعان به، وتقرَّب إليه بما يحبه، فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة، ويسميه استخدامًا من الشيطان له» (¬2). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 298، 299). (¬2) «الدرر السنية»: (12/ 91).

المبحث الثالث الغلو: من أعظم أسباب المروق من الإسلام، ولذا فهو أصل شرك الأولين، والآخرين

المبحث الثالث الغلو: من أعظم أسباب المروق من الإسلام، ولذا فهو أصل شرك الأوَّلين، والآخرين قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: «وقال الشيخ تقي الدين في الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم قال: فإذا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، ممن انتسب إلى الإسلام، من قد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضًا من الإسلام وذلك بأسباب: منها: الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي ابن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلاَّ قتل، فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده لا يجعل معه إله آخر، والذين يدعون من دون الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، ويقولون: {هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18]» (¬1). ¬

(¬1) «عقيدة الموحدين» رسالة الكلمات النافعة في المكفِّرات الواقعة: (229 - 231).

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد، وعبد الرحمن بن حسن في شرحه عليه رحمهما الله تعالى: (باب) ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين وقول الله تعالى عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ} [النساء: 171]. في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]. قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد. حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت». وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوَّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. وعن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» أخرجاه. وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو». ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هلك المتنطعون»، قالها ثلاثًا. [الشرح] قوله: «باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين». وقوله: «تركهم» بالجر عطفًا على المضاف إليه. وأراد المصنف رحمه الله

تعالى بيان ما يؤول إليه الغلو في الصالحين من الشرك بالله في الإلهية، الذي هو أعظم ذنب عصي الله به، وهو ينافي التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص: شهادة أن لا إله إلاَّ الله. قوله: وقوله الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171]. الغلو: هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد، أي: لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزل الله فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلاَّ بالله .... قوله: في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت ... قوله: «حتى إذا هلك أولئك»، أي: الذين صوَّروا تلك الأصنام. قوله: «ونسي العلم» ورواية البخاري: «وينسخ» وللكشميهني: «ونسخ العلم»، أي: درست آثاره بذهاب العلماء، وعم الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك، فوقعوا في الشرك ظنًا منهم أنه ينفعهم عند الله ... قال القرطبي: وإنما صوَّر أوائلهم الصور ليتأسوا بهم، ويتذكروا أفعالهم الصالحة. فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم. ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها. اهـ. قوله: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم

الغلو». هذا الحديث ذكره المصنف بدون ذكر راويه، وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس. وهذا لفظ رواية أحمد: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «غداة جمع: هلم القط لي»، فلقطت له حصيات هن حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: «نعم بأمثال هؤلاء فارموا. وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين». قال شيخ الإسلام: هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار، بناء على أنه أبلغ من الصغار، ثم علَّل بما يقتضي مجانبة هدي من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، فإن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك» (¬1). * * * ¬

(¬1) «فتح المجيد»: (214 - 222).

المبحث الرابع اتخاذ الوسائط لجلب المنافع ودفع المضار شرك بالله العظيم، ومروق من ملة المسلمين

المبحث الرابع اتخاذ الوسائط لجلب المنافع ودفع المضار شرك بالله العظيم، ومروق من ملة المسلمين قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: «وقد قال شيخ الإسلام لما سئل عن رجلين تناظرا، فقال أحدهما، لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله تعالى، فإنا لا نقدر أن نصل إليه بغير ذلك، فما معنى الواسطة؟ وهل التوسط عام في كل شيء يوجبه الله تعالى، أم في ذلك بيان وتفصيل؟ فأجاب رحمه الله ورضي الله عنه بقوله: الحمد لله، إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغ أمر الله تعالى ودينه، فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه وما أمر الله به ونهى عنه، وما أعدَّ لأوليائه من كرامته، وما أوعد به أعداءه من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله من أسمائه الحسنى وصفاته العليا، التى يعجز العقول عن الإحاطة بها إلى أمثال ذلك إلاَّ بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده ... وإن أرادوا بالواسطة: أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونهم ذلك ويرجونهم فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفَّر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء شفعاء يجلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار، لكن الشفاعة لمن يأذن الله تعالى له فيها. قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى

عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]، وقال تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [الأنعام: 51]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23]، وساق - آيات في المعنى - إلى أن قال: وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 79، 80]. فبيَّن سبحانه وتعالى أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط، يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل: أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين. والمقصود هنا: أن من أثبت وسائط بين الله تعالى وبين خلقه، كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان. كانوا يقولون: إنها تماثبل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائط يتقرَّبون بها إلى الله تعالى، وهو من الشرك الذي أنكره الله تعالى على النصارى، حيث قال: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، ثم ذكر آيات في المعنى.

وهذا الذي قاله الشيخ لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنما اشتبه الأمر على هؤلاء الضلال، لما قدم العهد، ونسي العلم، واعتادوا سؤال غير الله فيما يختص به تعالى ونشئوا على ذلك» (¬1). وجاء في نواقض الإسلام العشرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «الناقض الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم، فقد كفر إجماعًا» (¬2). ¬

(¬1) «منهاج التأسيس والتقديس»: (ص 353 - 360). (¬2) «عقيدة الموحدين»: (ص 456).

المبحث الخامس ضرورة التحذير من الشرك ووسائله

المبحث الخامس ضرورة التحذير من الشرك ووسائله إن الشرك دقه وجلّه، صغيره وكبيره، بوسائله وغاياته ... ظلم عظيم وإفك مبين. ولما وقع الكثير من عوام المسلمين، في كثير من الأمور الشركية وذرائعها المؤدية إليها، توجب التنبيه عليها، والتحذير منها لتصح البراءة من الشرك، وتتحقق النجاة من ظلماته. قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه الله: هناك أشياء مترددة بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر، بحسب ما يقوم بقلب فاعلها، وما يصدر عنه من الأفعال والأقوال، ويقع فيها بعض الناس، قد تتنافى مع العقيدة، أو تعكر صفوها، وهي تمارس على المستوى العام، ويقع فيها بعض العوام، تأثرًا بالدجَّالين والمحتالين والمشعوذين، وقد حذر منها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن هذه الأمور: 1 - لبس الحلقة والخيط ونحوهما وبقصد رفع البلاء أو دفعه: وذلك من فعل الجاهلية، وهو من الشرك الأصغر، وقد يترقى إلى درجة الشرك الأكبر، بحسب ما يقوم بقلب لابسها من الاعتقاد بها. فعن عمران بن حصين - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً في يده حلقه من صفر، فقال: «ما هذا؟» قال: من الواهنة، فقال: «انزعها، فإنها لا تزيدك إلاَّ وهنًا، فإنك لو مت وهي عليك، ما أفلحت أبدًا»، رواه أحمد بسند لا بأس به، وصحَّحه ابن حبان والحاكم وأقرَّه الذهبي. 2 - تعليق التمائم: وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها، يتقون بها العين،

ويتلمحون من اسمها أن يتم الله لهم مقصودهم، وقد تكون التمائم من عظام ومن خرز ومن كتابة وغير ذلك، وهذا لا يجوز. وقد يكون المعلق من القرآن، فإذا كان من القرآن، فقد اختلف العلماء في جوازه وعدم جوازه، والراجح عدم جوازه، سدًا للذريعة، فإنه يفضي إلى تعليق غير القرآن، ولأنه لا مخصَّص للنصوص المانعة من تعليق التمائم، كحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يقول: «إن الرقى والتمائم والتِّولة شرك»، رواه أحمد وأبو داود، وعن عقبة بن عامر مرفوعًا: «من علق تميمية، فقد أشرك»، وهذه نصوص عامة لا مخصِّص لها. 3 - التبرُّك بالأشجار والأحجار والآثار والبنايات: والتبرُّك معناه: طلب البركة ورجاؤها واعتقادها في تلك الأشياء. وحكمه أنه شرك أكبر، لأنه تعلُّق على غير الله سبحانه في حصول البركة، وعبَّاد الأوثان إنما كانوا يطلبون البركة منها، فالتبرُّك بقبور الصالحين كالتبرُّك باللاَّت، والتبرُّك بالأشجار والأحجار كالتبرُّك بالعزَّى ومناة. وعن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينطقون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر، إنها السنن، قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، لتركبن سنن من كان قبلكم»، رواه الترمذي وصحَّحه. 4 - السحر: وهو عبارة عما خفي ولطف سببه، سمي سحرًا لأنه يحصل بأمور خفية

لا تدرك بالأبصار، وهو عبارة عن عزائم ورقى وكلام يتكلَّم به وأدوية وتدخينات، ومنه ما يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، وتأثيره بإذن الله الكوني القدري، وهو عمل شيطاني. (كيفية دخول السحر في الشرك) وكثير منه لا يُتوصل إليه إلاَّ بالشرك والتقرُّب إلى الأرواح الخبيثة بشيء مما تحب، والاستعانة بالتحيُّل على استخدامها بالإشراك بها، ولهذا يقرنه الشارع بالشرك، وهو داخل في الشرك من ناحيتين: الأولى: ما فيه من استخدام الشياطين والتعلق بهم، وربما تقرب إليهم بما يحبونه ليقوموا بخدمته. الثانية: ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في ذلك، وهذا كفر وضلال. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} [البقرة: 102]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلاَّ بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». 5 - الكهانة: وهي ادعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع في الأرض، مع الاستناد إلى سبب، هو استراق السمع، يسترق الجني الكلمة من كلام الملائكة، فيلقيها في أذن الكاهن، فيكذب معها مئة كذبة، فيصدقه الناس بسبب تلك الكلمة. والله هو المتفرد بعلم الغيب، فمن ادعى مشاركته في شيء من ذلك بكهانة أو غيرها، أو صدَّق من يدَّعي ذلك، فقد جعل لله شريكًا فيما هو من

خصائصه، وهو مكذب لله ولرسوله. وكثير من الكهانة المتعلِّقة بالشياطين لا تخلو من الشرك والتقرُّب إلى الوسائط التي يستعين بها على دعوى العلوم الغيبية. فالكهانة شرك من جهة دعوى مشاركة الله في علمه الذي اختصَّ به، ومن جهة التقرُّب إلى غير الله. وفي «صحيح مسلم» عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى عرَّافًا، فسأله عن شيء، فصدَّقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يومًا». وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -»، رواه أبو داود ... 6 - التطيُّر: وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع والأشخاص وغير ذلك، فإذا عزم شخص على أمر من أمور الدين أو الدنيا، فرأى أو سمع ما يكره، أثر فيه ذلك أحد أمرين: إما الرجوع عما كان عازمًا عليه تطيرًا وتأثرًا بما رأى أو سمع، فيعلِّقُ قَلْبَه بذلك المكروه، ويؤثر ذلك على إيمانه، ويخل بتوحيده وتوكله على الله، وإما أن لا يرجع عما عزم عليه، ولكن يبقى في قلبه أثر ذلك التطير من الحزن والألم والهمِّ والوساوس والضعف. فيجب على من وجد شيئًا من ذلك في نفسه: أن يجاهدها على دفعه، ويستعين بالله ويتوكل عليه ويمضي في شأنه، ويقول: اللهم لا يأتي بالحسنات إلاَّ أنت ولا يدفع السيئات إلاَّ أنت، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك ... والتطير شرك، لكونه تعلقًا على غير الله، واعتقادًا بحصول الضرر من مخلوق لا يملك لنفسه ضررًا ولا نفعًا، ولكونه من إلقاء الشيطان ووسوسته، ولكونه يصدر عن القلب خوفًا وخشية، وهو ينافي التوكل ....

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ويعجبني الفأل»، ثم بيَّنه - صلى الله عليه وسلم - بأنه الكلمة الطيبة، وإنما أعجبه الفأل لأنه حسن ظن بالله، والعبد مأمور أن يحسن الظن بالله، والطيرة سوء الظن بالله عز وجل، وتوقع البلاء، ومن هنا جاء الفرق بينهما في الحكم، لأن الناس إذا أملوا الخير من الله، علَّقوا قلوبهم به، وتوكَّلوا عليه، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله، كان ذلك من الشر والتعلُّق على غير الله ... وفي الحديث الذي رواه أحمد عن ابن عمر عمرو رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من ردَّته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك»، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: «أن تقول: اللهم لا خير إلاَّ خيرك، ولا طير إلاَّ طيرك، ولا إله غيرك»، فتضمَّن هذا الحديث الشريف أن الطيرة لا تضر من كرهها ومضى في طريقه، وأما من لم يخلص توكله على الله، واسترسل مع الشيطان في ذلك، فقد يعاقب بالوقوع فيما يكرهه، لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله. 7 - التنجيم: وهو كما عرَّفه بعض المحققين: بأنه الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، كأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، أو حدوث الأمراض أو الوفيات، أو السعود والنحوس، وهذا ما يسمى بعلم التأثير. وهو على نوعين: النوع الأول: أن يدَّعي المنجم أن الكواكب فاعلة مختارة، وأن الحوادث تجري بتأثيرها. وهذا كفر بإجماع المسلمين، لأنه اعتقاد أن هناك خالقًا غير الله، وأن أحدًا يتصرف في ملكه بغير مشيئته وتقديره سبحانه وتعالى. والنوع الثاني: الاستدلال بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها على حدوث الحوادث، وهذا لا شك في تحريمه، لأنه من ادعاء علم الغيب وهو

من السحر أيضًا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد» رواه أبو داود، وإسناده صحيح، وصحَّحه النووي والذهبي، ورواه ابن ماجه وأحمد وغيرهما. (المشروع والغير مشروع، من الاستدلال بعلم النجوم) وأما الاستدلال بالنجوم لمعرفة الاتجاه في الأسفار في البر والبحر، فهذا لا بأس به، وهو من نعمة الله عز وجل، حيث يقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97]، أي: لتعرفوا بها جهة قصدكم، وليس المراد أنه يهتدى بها في علم الغيب كما يعتقده المنجمون. قال الخطابي: «وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة، فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة من الأئمة، الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين، ومعرفتهم بها، وصدقهم فيما أخبروا به عنها، مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة، ويشاهدها على حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة، وإدراكنا ذلك بقُبول خبرهم، إذ كانوا عندنا غير متَّهمين في دينهم، ولا مقصرين في معرفتهم» .... (ضرورة الحفاظ على العقيدة الصحيحة الصافية) وبعد، فإن عقيدة المسلم هي أعز شيء عنده، لأن بها نجاته وسعادته، فيجب عليه أن يحرص على تجنُّب ما يسيء إليها أو يمسها من الشركيات والخرافات والبدع، لتبقى صافية مضيئة، وذلك بالتزام الكتاب والسنة وما عليه السلف الصالح، ولا يتم ذلك إلاَّ بتعلم هذه العقيدة، ومعرفة ما يضادها من العقائد المنحرفة، لا سيما وأنه قد كثر اليوم في صفوف المسلمين من

يحترف التدجيل والشعوذة والتعلق بالقبور والأضرحة لطلب الحاجات وتفريج الكربات، كما كان عليه المشركون الأولون أو أشد، إضافة إلى اتخاذ السادة وأصحاب الطرق الصوفية أربابًا من دون الله، يشرعون لأتباعهم من الدين ما لم يأذن به الله، فلا حول ولا قوة إلاَّ بالله. 8 - الاستسقاء بالأنواء: وهو عبارة عن نسبة المطر إلى طلوع النجم أو غروبه، على ما كانت الجاهلية تعتقده من أن طلوع النجم أو سقوطه في المغيب يؤثر في إنزال المطر، فيقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وهم يريدون بذلك النجم، ويعبرون عنه بالنوء، وهو طلوع النجم، من ناء ينوء: إذا نهض وطلع، فيقولون: إذا طلع النجم الفلاني، ينزل المطر .... وحكم الاستسقاء بالأنواء أنه إن كان يعتقد أن له تأثيرًا في إنزال المطر، فهذا شرك وكفر أكبر، وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية، وإن كان لا يعتقد للنجم تأثيرًا، وأن المؤثر هو الله وحده، ولكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، فهذا لا يصل إلى الشرك الأكبر، ويكون من الشرك الأصغر، لأنه يحرم نسبة المطر إلى النجم، ولو على سبيل المجاز، سدًا للذريعة. وقد روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد - رضي الله عنه -، قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال:

مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» .... 9 - نسبة النعم إلى غير الله: سبق الكلام عن حكم نسبة المطر إلى الأنواء والاستسقاء بها، والكلام الآن في حكم نسبة النعم عمومًا إلى غير الله. إن الاعتراف بفضل الله وإنعامه والقيام بشكره من صميم العقيدة، لأن من نسب النعمة إلى غير موليها، وهو الله سبحانه، فقد كفرها، وأشرك بالله بنسبتها إلى غيره. قال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الإرشاد إلى تصحيح الاعتقاد»: (99 - 115).

المبحث السادس التحذير من ألفاظ لا ينبغي أن تقال في حق الله سبحانه

المبحث السادس التحذير من ألفاظ لا ينبغي أن تقال في حق الله سبحانه إن تعظيم الله من أجلِّ وسائل وغايات التوحيد، وضد ذلك من أخطر وسائل وغايات الشرك والتنديد، ولذلك ينبغي أن نراعي تجنب بعض الألفاظ، التي لا يجوز أن تقال في حق الله، تعظيمًا لشأنه سبحانه: قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه الله: «الله جلَّ وعلا عظيم، يجب أن يعظَّم، وهناك ألفاظ لا يجوز أن تقال في حقه سبحانه، تعظيمًا له، وقد ورد النهي عنها. ومن هذه الألفاظ: أنه لا يقال: «السلام على الله»، لأن السلام دعاء للمسلَّم عليه بطلب السلامة له من الشرور، والله سبحانه يُطلب منه ذلك، ولا يطلب له، ويُدعى ولا يُدعى له، لأنه الغني، له ما في السموات والأرض، وهو السالم من كل عيب ونقص، ومانح السلامة ومعطيها، وهو السلام ومنه السلام. وفي «الصحيح» عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: كنا إذا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام»، أي: إن الله سالم من كل نقص .... ومن الألفاظ التي لا تقال في حق الله تعالى: «اللهم اغفر لي إن شئت»، فطلب الحاجة من الله لا يعلَّق على المشيئة، وإنما يجزم به. وفي «الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن

الله لا مكره له»، ولمسلم: «وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه» ... (حرمة التألِّي على الله تعالى) ومن الألفاظ التي لا تقال في حق الله تعالى الإقسام على الله إذا كان على وجه الحجر عليه أن لا يفعل الخير. عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألِّى علىَّ أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرت له وأحبطت عملك» رواه مسلم. والتألِّي من الأليَّة - بتشديد الياء -، وهي اليمين، ومعنى «يتألى»: يحلف، وقوله: «من ذا الذي»: استفهام إنكار. وهذا الرجل أساء الأدب مع الله، وحكم عليه، وقطع أنه لا يغفر لهذا المذنب، فكأنه حكم على الله سبحانه، وهذا من جهله بمقام الربوبية، واغتراره بنفسه وبعلمه، وإدلاله بذلك، فعومل بنقيض قصده، وغفر لهذا المذنب بسببه، وأحبط عمله بسبب هذه الكلمة السيئة التي قالها، مع أنه كان عابدًا. قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: «تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته» .... (وجوب دراسة العقيدة، ومعرفة ما يصحِّحها وما يخل بها) ومما سبق يتبيَّن أنه يجب التحفظ في الألفاظ، والابتعاد عن اللفظ الذي فيه سوء أدب مع الله سبحانه، لأن هذا يخل بالعقيدة، وينقص التوحيد، فلا يقال: السلام على الله، لأنه هو السلام سبحانه، ولأن السلام على أحد دعاء له بالسلامة، والله سبحانه يُدعى ولا يُدعى له، ولا يقال: اللهم اغفر لي وارحمني إن شئت ... ونحو ذلك، بل كل دعاء يؤتى به على سبيل الجزم بلا تعليق بالمشيئة، لأن الله يفعل ما يشاء، ولا مكره له، وإنه لا يقسم على الله أن لا يرحم فلانًا أو يغفر لفلان، لأن هذا حظر ومنع لرحمة الله وسوء

ظن بالله عز وجل، كما أنه لا يجوز أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان، وإنما يقال: ما شاء الله ثم شاء فلان، لأن العطف بالواو يقتضي المشاركة، ولا أحد يشارك الله سبحانه ويساويه في أمر من الأمور، وأما العطف بـ (ثم)، فإنه يقتضي الترتيب والتبعية، فتكون مشيئة المخلوق تابعة لمشيئة الله سبحانه وحاصلة بعدها، وليست مشاركة لها. وكل هذا مما يؤكد على المسلم وجوب دراسة العقيدة، ومعرفة ما يصحِّحها وما يخل بها، حتى يكون على بيِّنة من أمره وحتى لا يقع في المحذور وهو لا يشعر. وفَّق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح (¬1). * * * ¬

(¬1) «الإرشاد إلى تصحيح الاعتقاد»: (ص 128 - 141).

الفصل الثالث الفتنة بالقبور، والمفاسد المترتبة عليها، مع الرد على أشهر شبهات أهلها

الفصل الثالث الفتنة بالقبور، والمفاسد المترتبة عليها، مع الرد على أشهر شبهات أهلها وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: تعظيم القبور من أعظم أسباب الشرك، وعبادة الأوثان. المبحث الثاني: لا يجوز تخصيص القبور بنوع من عبادة الله سبحانه، فكيف بعبادتها وعبادة أصحابها؟ المبحث الثالث: حرمة اتخاذ القبور مساجد ووجوب هدمها، معلوم بالاضطرار من الدين. المبحث الرابع: أشهر شبهات أهل القبور، والرد الباهر عليها.

المبحث الأول تعظيم القبور من أعظم أسباب الشرك، وعبادة الأوثان

المبحث الأول تعظيم القبور من أعظم أسباب الشرك، وعبادة الأوثان قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وكان - صلى الله عليه وسلم - يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال رجل: ما شاء الله وشئت، قال: «أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده» ونهى عن الحلف بغير الله وقال: «من حلف بغير الله فقد أشرك»، وقال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذر ما فعلوا، وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد». ولهذا اتفق العلماء على أن من سلَّم على النبي عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق بيت الخالق» (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى في شرحه على كتاب التوحيد: قوله: «اللَّهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد»، قد استجاب الله دعاءه كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان ودل الحديث على أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لو عُبد لكان وثنًا، ولكن حماه ¬

(¬1) «عقيدة الموحدين» رسالة الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة: (ص 230).

الله تعالى لما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه. ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها. وقد عظمت الفتنة بالقبور لتعظيمها وعبادتها، كما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس يتخذونها سنة، إذا غيرت قيل: غيرت السنَّة. انتهى» (¬1). * * * ¬

(¬1) «فتح المجيد»: (ص 239).

المبحث الثاني لا يجوز تخصيص القبور بنوع من عبادة الله سبحانه فكيف بعبادتها، وعبادة أصحابها؟!

المبحث الثاني لا يجوز تخصيص القبور بنوع من عبادة الله سبحانه فكيف بعبادتها، وعبادة أصحابها؟! قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله تعالى في شرحه على كتاب التوحيد: باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟! أي: عبد القبر أو الرجل الصالح، ولما كان عباد القبور إنما دهوا من حيث ظنوا أنهم محسنون، فرأوا أن أعمالهم القبيحة حسنة، كما قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] الآية ... قال: في «الصحيح» عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله». فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل .... (تحريم بناء المساجد على القبور، وعلة ذلك المنع) قوله: أولئك شرار الخلق عند الله. مقتضى هذا التحريم ما ذكر، لا سيما وقد ثبت اللعن عليه. قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجَّهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا، لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنع المسلمين عن مثل ذلك.

قال القرطبي: وإنما صوَّر أوائلهم الصور ليتأسوا بها، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك سدّا للذريعة المؤدية إلى ذلك. قوله: فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين ... إلى آخره. هذا من كلام شيخ الإسلام ذكره المصنف عنه. يعني أن الذين بنوا هذه الكنيسة جمعوا فيها بين فتنتين، ضل بها كثير من الخلق. الأولى: فتنة القبور، لأنهم افتتنوا بقبور الصالحين، وعظموها تعظيمًا مبتدعًا، فآل بهم إلى الشرك، وهي أعظم الفتنتين، بل هي مبدأ الفتنة. الثانية: وهي فتنة التماثيل، أي: الصور، فإنهم لما افتتنوا بقبور الصالحين وعظموها، وبنوا عليها المساجد، وصوَّروا فيها الصور للقصد الذي ذكره القرطبي، فآل الأمر إلى أن عبدت الصور، ومن هي صورته من دون الله، وهاتان الفتنتان هما سبب عبادة الصالحين، كاللاَّت وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وغيرهم من الصالحين. (الفتنة بالقبور من أخطر الذرائع المؤدية للوقوع في الشرك الأكبر، وتلك هي علة المنع من اتخاذها مساجد) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وهذه العلة هي التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور، وهي التي أوقعت كثيرًا من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت تماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم لكواكب ونحو ذلك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ويخشعون

ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد، فلأجل هذه المفسدة حسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقًا، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد. كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها، لأنها أوقات يقصد المشركون فيها الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذٍ، وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدًا للذريعة. قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركًا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادَّة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله. فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه. وقد صرَّح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنَّة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة. والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم إحسانًا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن فاعله والنهي عنه. قال: ولهما عنها قالت: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود

والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا» أخرجاه. هكذا ثبت في أول هذا الحديث «ولهما» في آخره: «أخرجاه» بخط المصنف، وأحد اللفظين يغني عن الآخر، لأن المراد صاحبا «الصحيحين» .... قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سدِّ الذريعة في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعلوا حيطان تربته، وسدُّوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره - صلى الله عليه وسلم -، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرَّفوهما، حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال، حتى لا يمكن أحد من استقبال قبره. قلت: وفي الحديثين مسائل نبَّه المصنف على بعضها. منها: ما ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيمن بنى مسجدًا يعبد الله فيه على قبر رجل صالح، ولو صحَّت نية الفاعل. ومنها: النهي عن التماثيل بتغليظ الأمر. ومنها: نهيه عن فعله عند قبره، قبل أن يوجد القبر. ومنها: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم. ومنها: لعنه إياهم على ذلك. ومنها: مراده بذلك تحذيره إيانا عن قبره. ومنها: العلة في عدم إبراز قبره. ومنها: ما بلي به - صلى الله عليه وسلم - من شدة النزع. قلت: ومنها التنبيه على علة تحريم ذلك، وعلة لعن من فعله» (¬1). ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 215 - 220).

المبحث الثالث حرمة اتخاذ القبور مساجد ووجوب هدمها معلوم بالاضطرار من الدين

المبحث الثالث حرمة اتخاذ القبور مساجد ووجوب هدمها معلوم بالاضطرار من الدين حرمة اتخاذ القبور مساجد معلومة من الدين بالضرورة، وذلك لئلا تقع الأمة في الشرك، وتلك هي علة المنع، وليست مظنة النجاسة، ومن ثمّ لُعن كل من أعان على تعظيمها خشية أن تقع الأمة في المحذور من حرمتها. قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرحه لكتاب التوحيد: قوله: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد»، إلى آخر الحديث. قال الخلخالي: وإنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - صنيعهم هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لهم. والثاني: أنهم يَجوِّزون الصلاة في مدافن الأنبياء والسجود في مقابرهم، والتوجه إليها حالة الصلاة نظرًا منهم بذلك إلى عبادة الله، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، والأول: هو الشرك الجلي، والثاني: الخفي، فلذلك استحقوا اللعن. قلت: الحديث أعم من ذلك، فيشمل بناء المساجد والقباب عليها .... قال ابن القيم: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقاصده جزم جزمًا لا يحتمل النقيض، أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغته: صيغة «لا تفعلوا» وصيغة «إني أنهاكم» ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقلَّ نصيبه، أو عدم من تحقيق لا إلا إلاَّ الله، فإن هذا وأمثاله من النبي - صلى الله عليه وسلم - صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه

الشرك ويغشاه، وتجريد له، وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلاَّ معصية لأمره وارتكابًا لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا التعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيمًا، وأشد فيهم غلوًا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد. ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل على عبَّاد يغوث ويعوق، ونسر، ودخل على عبَّاد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية، وسلب خصائص الإلهية. قلت: وممن علَّل بخوف الفتنة والشرك: الشافعي، وأبو بكر الأثرم، وأبو محمد المقدسي، وشيخ الإسلام، وغيرهم، وهو الحق ... قال: ولأحمد بسند جيد، عن ابن مسعود مرفوعًا: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» رواه أبو حاتم في «صحيحه». قوله: إن من شرار الناس. هو بكسر الشين جمع شر. قوله: من تدركهم الساعة وهم أحياء. أي: من تقوم عليهم الساعة بحيث ينفخ في الصور وهم أحياء، وهذا كحديثه الآخر الذي في مسلم: «لا تقوم الساعة إلاَّ على شرار الخلق» ... (أجمع العلماء على حرمة الأبنية على القبور، ووجوب هدمها) وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه، لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه، ولا فرق في ذلك بين البناء في مقبرة مسبلة، أو مملوكة، إلاَّ أنه في المملوكة أشد. ولا عبرة بمن شذَّ من المتأخرين فأباح ذلك، إما مطلقًا، وإما في المملوكة.

قال الإمام أبو محمد بن قدامة: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا. ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام: تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها. وقال شيخ الإسلام: أما بناء المساجد على القبور، فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه، متابعة للأحاديث الصحيحة، وصرَّح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه، قال: ولا ريب في القطع بتحريمه، ثم ذكر الأحاديث في ذلك ... إلى أن قال: فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، أو الملوك وغيرهم، تتعين إزالتها بهدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين. وقال ابن القيم: يجب هدم القباب التي على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو حفص: تحرم الحجرة بل تهدم. فإذا كان هذا كلامه في الحجرة فكيف بالقبة؟ وقال الشافعي: أكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس. وقال أيضًا: تسطَّح القبور ولا تبنى ولا ترفع، وتكون على وجه الأرض. وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم: ابن الجميزي، والظهير الترميني، وغيرهما. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن تجصَّص (¬1) القبور، ولا أن يبنى ¬

(¬1) تجصيص القبور: طلاؤها بالجَص، والجَص بالفتح ويمكن كسره عند بعض اللغويين، وهو نوع من الحجارة يبنى به، ويطلى كذلك، قاله عبد السلام بن محمد بن عمر في: الذيل على النهاية في غريب الحديث والأثر للإمام ابن الأثير ص 79، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1417 هـ.

عليها قباب ولا غير قباب، والوصية بها باطلة. وقال الأذرعي: وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وإنفاق الأموال الكثيرة، فلا ريب في تحريمه. قلت: وجزم النووي في «شرح المهذب» بتحريم البناء مطلقًا، وذكر في «شرح مسلم» نحوه أيضًا. وقال القرطبي في حديث جابر: نهى أن يجصَّص القبر أو يبنى عليه، وبظاهر هذا الحديث قال مالك، وكره البناء والجص على القبور وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه .... (المفاسد المترتبة على بناءات القبور): واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلاَّ الله، ما يغضب من أجله كل من في قلبه رائحة إيمان، كما نبَّه عليه ابن القيم وغيره. فمنها: اعتيادها للصلاة عندها، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. ومنها: تحري الدعاء عندها. ويقولون: من دعا الله عند قبر فلان استجاب له، وقبر فلان الترياق المجرَّب، وهذا بدعة منكرة. ومنها: ظنهم أن لها خصوصيات بأنفسها في دفع البلاء وجلب النعماء، ويقولون: إن البلاء يدفع عن أهل البلدان بقبور من فيها من الصالحين، ولا ريب أن هذا مخالف للكتاب والسنَّة والإجماع. فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله، فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم الله به، سلَّط الله عليهم من انتقم منهم. وكذلك أهل المدينة لما تغيروا بعض التغير، جرى عليهم عام الحرَّة من النهب والقتل وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك. وهذا أكثر من أن يحصر. ومنها: الدخول في لعنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باتخاذ المساجد عليها وإيقاد

السرج عليها. ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد، وخراب المساجد كما هو الواقع، ودين الله بضد ذلك. ومنها: اجتماعهم لزيارتها واختلاط النساء بالرجال، وما يقع في ضمن ذلك من الفواحش وترك الصلوات، ويزعمون أن صاحب التربة تحمَّلها عنهم، بل اشتهر أن البغايا يسقطن أجرتهن على البغاء في أيام زيارة المشايخ، كالبدوي وغيره تقربًا إلى الله بذلك، فهل بعد هذا في الكفر غاية؟ ومنها: كسوتها بالثياب النفيسة المنسوجة بالحرير والذهب والفضة ونحو ذلك. ومنها: جعل الخزان والأموال ووقف الوقوف لما يحتاج إليه من ترميمها ونحو ذلك. ومنها: إهداء الأموال ونذر النذور لسدنتها العاكفين عليها، الذين هم أصل كل بلية وكفر، فإنهم الذين يكذبون على الجهال والطغام بأن فلانًا دعا صاحب التربة فأجابه، واستغاثه فأغاثه ومرادهم بذلك تكثير النذر والهدايا لهم. ومنها: جعل السدنة لها كسدنة عباد الأصنام. ومنها: الإقسام على الله في الدعاء بالمدفون فيها. ومنها: أن كثيرًا من الزوَّار إذا رأى البناء الذي على قبر صاحب التربة سجد له. ولا ريب أن هذا كفر بنص الكتاب والسنَّة وإجماع الأمة، بل هذا هو عبادة الأوثان، لأن السجود للقبة عبادة لها، وهو من جنس عبادة النصارى للصور التي في كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل، فإنهم عبدوها ومن هي صورته، وكذلك عباد القبور لما بنوا القباب على القبور آل بهم إلى

أن عُبدت القباب ومن بنيت عليه من دون الله عزَّ وجل. ومنها: النذر للمدفون فيها، وفرض نصيب من المال والولد، وهذا هو الذي قال الله فيه: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام: 136]، بل هذا أبلغ فإن المشركين ما كانوا يبيعون أولادهم لأوثانهم. ومنها: أن المدفون فيها أعظم في قلوب عباد القبور من الله وأخوف، ولهذا لو طلبت من أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبًا أو صادقًا، وإذا طلبت بصاحب التربة لم يقدم إن كان كاذبًا. ولا ريب أن عباد الأوثان ما بلغ شركهم إلى هذا الحد، بل كانوا إذا أرادوا تغليظ اليمين، غلَّظوها بالله كما في قصة القسامة وغيرها (¬1). ¬

(¬1) أخرج الإمام البخاري في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إنَّ أوَّل قَسَامة كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم: كان رجلٌ من بني هاشم استأجره رجُلٌ من قريش من فخذ أخرى فانطلق معهُ في إبله، فمرَّ به رجلٌ من بني هاشم قد انقطعتْ غُروة جُوالقه فقال: أغثْني بعقال أشُدُّ به عُروةَ جُوالقي لا تَنفرِ الإبلُ، فأعطاه عقالاً فشدَّ به عروةَ جُوالقِهِ. فلما نزَلوا عُقِلتً الإبُل إلاَّ بعيرًا واحدًا، فقال الذي استأجرهُ: ما شأن هذا البعير لم يُعقَلْ من بين الإبل؟ قال: ليس له عقال. قال: فأين عِقالُه؟ قال فحذَفَهُ بعصا كان فيها أجله. فمرَّ به رجلٌ من أهل اليمن، فقال: أتشهدُ الموسم؟ قال: ما أشهدُ وربَّما شهِدتُه. قال: هل أنت مُبْلِغٌ عني رسالةً مرةً من الدهر؟ قال: نعم. قال فكتب. إذا أنت شهدتَ الموسم فنادِ يا آل قريش، فإذا أجابوك فنادِ يا آل بني هاشم، فإن أجابوك فاسأل عن أبي طالب فأخَبرْه أنَّ فلانًا قَتَلني في عقال. ومات المستأجر. فلما قدِمَ الذي استأجَرَه أتاهُ أبو طالب فقال: ما فعلَ صاحُبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه، فوليت دفنْه. قال: قد كان أهل ذلك منك. فمكثَ حينًا ثمَّ إن الرجُلَ الذي أوصى إليه أن يُبلغَ عنه وافى الموسمَ فقال: يا آل قريش، قالوا: هذه قريش. قال يا بني هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم. قال أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب. قال أمرَني فلان أن أبلِغَك رسالةً أنَّ فلانًا قتله في عقال .. فأتاه أبو طالب فقال له: اخترَ منَّا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدِّي مائةً من الإبل فإنكَ قَتلتَ صاحَبنا، وإن شئتَ حلف خمسون من قومِك إنك لم تقتُله، وإن أبيت قتلناك به. فأتى قومُه فقالوا نحلفُ. فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منه وَلدَت له فقالت: يا أبا طالب أحبُّ أن تُجيزَ ابني هذا برجُل من الخمسين ولا تُصبِرْ يمينَهُ حيثُ تُصبَرُ الأيمان، ففعل. فأتاه رجلٌ منهم فقال: يا أبا طالب أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان مائة من الإبل، يصيب كل رجلٍ بَعيران، هذان بعيران فاقْبلهما مني ولا تصبرْ يَميني حيث تُصبَرُ الأيمان فقبلهما. وجاء ثمانيةٌ وأربعون فحلفوا. قال ابنُ عبَّاس: فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية وأربعين عينٌ تَطرِف». ارجع فتح الباري ج7 كتاب مناقب الأنصار، باب القسامة في الجاهلية: (ص 190 - 191) تحقيق: محمد الدين الخطيب، الناشر: دار الريان للتراث بالقاهرة.

ومنها: سؤال الميت قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والإخلاص له من دون الله في أكثر الحالات. ومنها: التضرع عند مصارع الأموات، والبكاء بالهيبة والخشوع لمن فيها أعظم مما يفعلونه مع الله في المساجد والصلوات. ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، وهي المساجد، فيعتقدون أن العبادة والعكوف فيه أفضل من العبادة والعكوف في المساجد، وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين، فإنهم يعظمون المسجد الحرام أعظم من بيوت الأصنام يرون فضله عليها، وهؤلاء يرون العكوف في المشاهد أفضل من العكوف في المساجد. ومنها: أن الذي شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة، كما قال: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»، والإحسان إلى المزور بالترحُّم عليه، والدعاء له والاستغفار، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلبَ عبَّاد القبور الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة: الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم ونصرهم على الأعداء ونحو ذلك. فصاروا مسيئين إلى نفوسهم

وإلى الميت، ولو لم يكن إلاَّ بحرمانه بركة ما شرعه الله من الدعاء والترحم عليه والاستغفار له. ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله عباد القبور بها، فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح - عليه السلام - يكره ما يفعله النصارى، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء، يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرءون منهم كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6]. ومنها: محادَّة الله ورسوله، ومناقضة ما شرعه فيها. ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكبير، والإثم العظيم. وكل هذه المفاسد العظيمة وغيرها مما لم يذكر، إنما حدثت بسبب البناء على القبور، ولهذا تجد القبور التي ليس عليها قباب لا يأتيها أحدٌ لا يعتادها لشيء مما ذكر إلاَّ ما شاء الله، وصاحب الشرع أعلم بما يؤول إليه هذا الأمر، فلذلك غلَّط فيه وأبدأ وأعاد، ولعن من فعله، فالخير والهدى في طاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. والعجب ممن يشاهد هذه المفاسد العظيمة عند القبور، ثم يظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة، كما يظنه بعض متأخري الفقهاء، ولو كان ذلك لأجل النجاسة، لكان ذكر المجازر والحشوش، بل ذكر التحرز من البول والغائط أولى. وإنما ذلك لأجل نجاسة الشرك، التي وقعت من عبَّاد القبور، لما خالفوا ذلك، ونبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلاً، فبئس ما يشترون» (¬1). ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 221، 228).

المبحث الرابع أشهر شبهات أهل القبور، والرد الباهر عليها

المبحث الرابع أشهر شبهات أهل القبور، والرد الباهر عليها لقد ظن المشركون في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا قبري عيدًا»، أن المراد: اقصدوه في كل ساعة ووقت، ولا تجعلوه كالعيد الذي، يكون من الحول إلى الحول. قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرحه على كتاب التوحيد: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» رواه أبو داود بإسناد حسن. رواته ثقات. قوله: «ولا تجعلوا قبري عيدًا»، قال شيخ الإسلام: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائدًا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع، أو الشهر، ونحو ذلك، وتقدم ذلك. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: العبد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإن كان اسمًا للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة، أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدًا للحنفاء ومثابة، كما جعل أيام العيد فيها عيدًا، وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوَّض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى، كما عوَّضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر. وقال غيره: هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه،

ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين، فكأنه قال: لا تجعلوه كالعيد الذي يكون من الحول إلى الحول، واقصدوه كل ساعة وكل وقت. قال ابن القيم رحمه الله: وهذا مراغمة ومحادَّة ومناقضة لما قصده الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقلب للحقائق، ونسبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى التلبيس والتدليس بعد التناقض، فقاتل الله أهل الباطل أن يؤفكون. ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته وكثرة انتيابه بقوله: لا تجعلوا عيدًا، فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان، وهكذا غيرت أديان الرسل، ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابِّين عنه، لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله، ولو أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قاله هؤلاء الضلاَّل لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ويلعن فاعل ذلك، فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يعتاد قصدها وانتيابها، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول؟ وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يُعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك؟ «ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدًا»، وكيف يقول: «لا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ حيثما كنتم؟». وكيف لا يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك، ما فهمه هؤلاء الضلال، الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟! وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما، نهى ذلك الرجل أن يتحرَّى الدعاء عند قبره - صلى الله عليه وسلم -، واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنهما، وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدًا. انتهى ....

قال شيخ الإسلام: ما علمت أحدًا، أي: من علماء السلف رخَّص فيه، - أي: قصد الرجل القبر لأجل السلام - لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدًا، ويدل أيضًا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه، لأن ذلك من اتخاذه عيدًا، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك. قال: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها، بل كان الصحابة والتابعون يأتون إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - فيصلون خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنه -، ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا، أو خرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل .... والمقصود أن الصحابة ما كانوا يعتادون الصلاة والسَّلام عليه عند قبره، كما يفعله من بعدهم من الخلوف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه، إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر - رضي الله عنه - يفعل. قال عبيد الله بن عمر عن نافع: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، ثم ينصرف. قال عبيد الله: ما نعلم أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلاَّ ابن عمر. وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير. قال شيخ الإسلام: إن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة، فكان بدعة محضة (¬1). وفي «المبسوط» قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن ليسلم ويمضي. والحكاية التي رواها القاضي عياض بإسناده عن مالك في قصته مع ¬

(¬1) انظر لنص الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لهذه المسألة في الصفحة القادمة.

المنصور، وأنه قال لمالك: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك، ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك. فهذه الرواية ضعيفة، أو موضوعة لأن في إسنادها من يتهم محمد بن حميد، ومن يجهل حاله. ونص أحمد أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، لئلا يستدبره وذلك بعد تحيته والسلام عليه، فظاهر هذا أنه يقف للدعاء بعد السلام. وذكر أصحاب مالك أنه يدعو مستقبلاً القبلة يوليه ظهره. وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وتنازعوا هل يستقبله عند السلام أم لا؟ ومن الحجة في ذلك ما روى ابن زبالة وهو في «أخبار المدينة» عن عمر بن هارون، عن سلمة بن وردان - وهما ساقطان - قال: رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو. (تحريم شد الرحال إلى القبور، لأنه من أعظم أسباب الشرك بها، وبأصحابها) وفي الحديث (¬1) دليل على منع شد الرحال إلى قبره - صلى الله عليه وسلم -، وإلى غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها أعيادًا، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، كما وقع من عبَّاد القبور الذين يشدون إليها الرحال، وينفقون في ذلك الكثير من الأموال، وليس لهم مقصود إلاَّ مجرد الزيارة للقبور تبركًا بتلك القباب والجدران فوقعوا في الشرك. هذه المسألة التي أفتى فيها شيخ الإسلام، أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ومشاهدهم، ونقل فيها اختلاف العلماء في الإباحة ¬

(¬1) أي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا قبري عيدًا».

والمنع، فمن مبيح لذلك كأبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي، ومن منع لذلك كابن بطة وابن عقيل وأبي محمد الجويني والقاضي عياض، وهو قول الجمهور نص عليه مالك، ولم يكن يخالفه أحد من الأئمة وهو الصواب. فقام عليه بعض المعاصرين له كالسبكي ونحوه فنسبه إلى إنكار الزيارة مطلقًا وهو لم ينكر منها إلاَّ ما كان بشد رحل، كما أنكره جمهور العلماء قبله أو الزيارة التي يكون فيها دعاء الأموات، والاستغاثة بهم في الملمات، مع ما ينضم إلى ذلك من أنواع المنكرات. ومما يدل على النهي عن شد الرحل إلى القبور ونحوها، ما أخرجاه في «الصحيحين» عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»، فدخل في ذلك شدهما لزيارة القبور والمشاهد، فإما أن يكون نهيًا، وإما أن يكون نفيًا للاستحباب. وقد جاء في رواية في «الصحيح» بصيغة النهي صريحًا فتعين أن يكون للنهي. ولهذا فهم منه الصحابة المنع، كما في «الموطأ» و «السنن» عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُعمل المطي إلاَّ إلى صلاة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى». وروى الإمام أحمد، وعمر بن شبة في «أخبار المدينة» بإسناد جيد عن قزعة قال: أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور. فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور فلا تأته. وروى أحمد وعمر بن شبة أيضًا، عن شهر بن حوشب قال: سمعت

أبا سعيد وذكر عنده الصلاة في الطور، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»، فأبو سعيد جعل الطور مما نهي عن شد الرحال إليه، مع أن اللفظ الذي ذكر إنما فيه النهي عن شدها إلى المساجد، فدل على أنه علم أنه غير المساجد أولى بالنهي، والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة، وأن الله تعالى سماه الوادي المقدس والبقعة المباركة، وكلَّم الله موسى هناك» (¬1). * * * * لقد ظن عبَّاد القبور: جواز التوجه إلى الله بالأموات قياسًا على جواز التوجه إليه سبحانه بدعاء الأحياء، ثم جعلوا ذلك سُلَّمًا إلى عبادة الأموات، وإلى الشرك والتنديد بربِّ الأرض والسموات. قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرحه على كتاب التوحيد: «ولكن لعباد القبور على هذا (¬2) شبهات، ذكر المصنف كثيرًا منها في «كشف الشبهات» ونحن نذكر هنا ما لم يذكره. فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه الترمذي في «جامعه» حيث قال: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا عثمان بن عمرو، ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: «إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك» قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 236 - 243). (¬2) أي على جواز دعاء الأموات، فيما لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسموات.

توجهت به إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفِّعه فيَّ»، قال: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلاَّ من رواية أبي جعفر، وهو غير الخطمي، هكذا رواه الترمذي، ورواه النسائي، وابن شاهين، والبيهقي كذلك، وفي بعض الروايات «يا محمد إني أتوجه» إلى آخره. وهذه اللفظة هي التي تعلق بها المشركون، وليست عند هؤلاء الأئمة. قالوا: فلو كان دعاء غير الله شركًا لم يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء غير الله. والجواب من وجوه: الأول: أن هذا الحديث من أصله، وإن صححه الترمذي، فإن في ثبوته نظرًا، لأن الترمذي يتساهل في التصحيح كالحاكم، لكن الترمذي أحسن نقدًا، كما نصّ على ذلك الأئمة، ووجه عدم ثبوته أنه قد نص: أنَّ أبا جعفر الذي عليه مدار هذا الحديث هو غير الخطمي، وإذا كان غيره، فهو لا يعرف، ولعل عمدة الترمذي في تصحيحه أن شعبة لا يروي إلاَّ عن ثقة، وهذا فيه نظر، فقد قال عاصم بن علي: سمعت شعبة يقول: لو لم أحدثكم إلاَّ عن ثقة لم أحدثكم إلاَّ عن ثلاثة، وفي نسخة عن ثلاثين، ذكره الحافظ العراقي، وهذا اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره فينظر في حاله، ويتوقف الاحتجاج به على ثبوت صحته. الثاني: أنه في غير محل النزاع، فأين طلب الأعمى من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له، وتوجهه بدعائه مع حضوره، من دعاء الأموات والسجود لهم ولقبورهم، والتوكل عليهم، والالتجاء إليه في الشدائد والنذر والذبح لهم، وخطابهم بالحوائج من الأمكنة البعيدة: يا سيدي يا مولاي افعل بي كذا؟! فحديث الأعمى شيء، ودعاء غير الله تعالى والاستغاثة به شيء آخر،

فليس في حديث الأعمى شيء غير أنه طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له، ويشفع له، فهو توسل بدعائه وشفاعته، ولهذا قال في آخره: «اللهم فشفعه فيَّ» فعلم أنه شفع له. وفي رواية أنه طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له، فدل الحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - شفع له بدعائه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره هو أن يدعو الله ويسأله قبول شفاعته، فهذا من أعظم الأدلة على أن دعاء غير الله شرك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يسأل قبول شفاعته، فدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدعى، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقدر على شفائه إلاَّ بدعاء الله له. فأين هذا من تلك الطوام؟ والكلام إنما هو في سؤال الغائب، أو سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله، أما أن تأتي شخصًا يخاطبك فتسأله أن يدعو لك، فلا إنكار في ذلك، على ما في حديث الأعمى، فالحديث سواء كان صحيحًا أو لا، وسواء ثبت قوله فيه: (يا محمد) أو لا، لا يدل على سؤال الغائب، ولا على سؤال المخلوق، فيما لا يقدر عليه إلا الله بوجه من وجوه الدلالات. ومن ادعى ذلك، فهو مفتر على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه إن كان سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه، فهو لم يسأل منه إلاَّ ما يقدر عليه، وهو أن يدعو له، وهذا لا إنكار فيه وإن كان توجه به من غير سؤال منه نفسه، فهو لم يسأل منه، وإنما سأل من الله به، سواء كان متوجهًا بدعائه، كما هو نص أول الحديث وهو الصحيح، أو كان متوجهًا بذاته على قول ضعيف. (التوجه إلى الخالق بذوات المخلوقين بدعة منكرة، وأجنبية عن الشريعة وفهم حامليها) فإن التوجه بذوات المخلوقين، والإقسام بهم على الله بدعة منكرة، لم تأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، ولا

الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة الدين. قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلاَّ به، وقال أبو يوسف: أكره بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام، وقال القدوري: المسألة بحق المخلوق لا تجوز، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو أنبيائك، ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، واختاره العز بن عبد السلام، إلاَّ في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة إن ثبت الحديث، يشير إلى حديث الأعمى، وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إلاَّ أنه توسل بدعائه لا بذاته» (¬1). * * * * لقد جزم عباد القبور بالتجربة العملية المعتادة، وبأخبار شيعتهم المتواترة: بأن الدعاء عند القبور هو الدواء الشافي لكافة الأدواء الدنيوية والأخروية. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن - رحمهما الله تعالى - نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «ثم أورد (¬2) سؤالاً يورده من يتبرك بالدعاء عند القبور، ويرى فضله. قال فإن قيل: فقد نقل عن بعضهم أنه قال: قبر معروف الترياق المجرب. ويروى عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره. وذكر أبو علي الخرقي في قصص من هجره أحمد: أن بعض هؤلاء المهجورين كان يجيء إلى قبر أحمد، ويتوخى الدعاء عنده، وأظنه ذكر ذلك عن المروزي، ونقل عن جماعات أنهم دعوا عند قبور جماعات من الأنبياء والصالحين، من أهل ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 164 - 167). (¬2) أي: شيخ الإسلام ابن تيمية.

البيت وغيرهم، فاستجيب لهم الدعاء، وعلى هذا عمل كثير من الناس ... وإنما ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق العلم والدين، لأنه غاية ما يتمسَّك به القبوريون. ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله: قلنا الذي ذكرنا كراهته، لا ينقل في استحبابه شيء ثابت عن القرون الثلاثة، التي أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها حيث قال: «خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، مع شدة المقتضى فيهم لذلك، لو كان فيه فضيلة، فعد أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة المقتضى لو كان فيه فضل يوجب القطع بأن لا فضل فيه، وأما من بعد هؤلاء فأكثر ما يفرض أن الأمة اختلفت، فصار كثير من العلماء إلى فعل ذلك، وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك، فإنه لا يمكن أن يقال: قد اجتمعت الأمة على استحباب ذلك، لوجهين: أحدهما: أن كثيرًا من الأمة كره ذلك وأنكره قديمًا وحديثًا. الثاني: أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحباب فعل، لو كان حسنًا لفعله المتقدِّمون، ولم يفعلوه، فإن هذا من باب تناقض الإجماعات، وهي لا تتناقض. وإذا اختلف فيه المتأخرون، فالفاصل بينهم هو الكتاب، أو السنة، وإجماع المتقدمين، نصًا واستنباطًا، فكيف والحمد لله، لم ينقل هذا عن إمام معروف ولا عالم متبع؟ بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذبًا على صاحبه، مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي رحمه الله أنه قال: «إني إذا نزلت بين شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة، فأجاب» أو كلامًا هذا معناه. وهذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار، عند من له معرفة بالنقل، فإن الشافعي لما قدم بغداد، لم يكن ببغداد لأبي حنيفة، ولا غيره قبر ينتاب

للدعاء عنده البتة، بل ولم يكن هذا معروفًا على عهد الشافعي، وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والعراق والشام ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين، من كان أصحابها عنده، وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلاَّ عند أبي حنيفة؟ ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل: أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وطبقتهم، لم يكونوا يتحرُّون الدعاء عند قبر أبي حنيفة ولا غيره. ثم قد تقدم عن الشافعي، ما هو ثابت في كتابه، من كراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه» (¬1). * * * * لقد اعتقد كثير من المشركين: بأن الذي يملك النفع والضر هو الله، وظنوا أن هذا هو لب التوحيد، ومن ثم جعلوا بينهم وبين الله وسائط في عبادته، ليقربوهم إليه زلفى - بزعم أن هذا لا ينقض التوحيد -، وفرقوا في هذا المقام بين التوجه إلى الله بالأصنام والأحجار، والتوجه بالأنبياء والأولياء والصالحين، وبهذا ترسخ الشرك في قلوبهم، وعضُّوا عليه بالنواجذ. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى في إبطال هذا الإفك: «فلا إله إلاَّ الله، نفي، وإثبات الإلهية كلها لله. فمن قصد شيئًا من قبر، أو شجر، أو نجم، أو ملك مقرب، أو نبي مرسل، لجلب نفع، وكشف ضر، فقد اتخذه إلهًا من دون الله، مكذب بلا إله إلاَّ الله، يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل. فإن قال هذا المشرك: لم أقصد إلاَّ التبرك، وإني لأعلم أن الله هو الذي ينفع ويضر، فقل له: إن بني إسرائيل ما أرادوا إلاَّ ما أردت كما أخبر الله عنهم أنهم لما جاوزوا البحر: {فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا ¬

(¬1) «راجع منهاج التأسيس والتقديس»: (ص 148 - 160).

مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، فأجابهم بقوله: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]. وحديث أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] لتركبن سنن من كان قبلكم». وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، وفي الصحيح عن ابن عباس وغيره: كان يلت السويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره. فيرجع هذا المشرك، يقول: هذا في الشجر، والحجر، وأنا اعتقد في أناس صالحين، أنبياء وأولياء، أريد منهم الشفاعة عند الله، كما يشفع ذو الحاجة عند الملوك، وأريد منهم القربة إلى الله، فقل له: هذا دين الكفار بعينه، كما أخبر سبحانه بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18]. وقد ذكر أناسًا يعبدون المسيح وعزيرًا، فقال الله: هؤلاء عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجونها، ويخافون عذابي كما تخافونه، وأنزل الله سبحانه: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} [الإسراء: 56]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ ...} الآيتين [سبأ: 40، 41]. والقرآن، بل والكتب السماوية من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا

الدين، وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسوله، وأنهم أولياء الشيطان، وأنه سبحانه لا يغفر لهم، ولا يقبل عملاً منهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]، وقال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]. قال ابن مسعود وابن عباس: لا تجعلوا له أكْفاء من الرجال، تطيعونهم في معصية الله، وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت، قال: «أجعلتني لله ندًا؟ قل: ما شاء الله وحده»، وقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر»، فسئل عنه فقال: «الرياء». وبالجملة: فأكثر أهل الأرض، مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان، ولم يتخلص من ذلك إلاَّ الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم - عليه السلام -، وعبادتها في الأرض من قبل قوم نوح كما ذكر الله، وهي كلها، ووقوفها، وسدانتها، وحجابتها، والكتب المصنفة في شرائع عبادتها، طبق الأرض، قال إمام الحنفاء: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وقد قصَّ الله ذلك عنهم في القرآن، وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين» (¬1). * * * * وأخيرًا لا آخرًا: قررَّ المشركون أن دينهم قائم على أصل أصيل، وركن ركين، ألا وهو إجماع المسلمين، فالعلماء - بزعمهم - من كافة الأمصار، والأمة من ورائهم تبع - قد استحسنوا دعاء الأموات، ولم يرونه شركًا ولا بدعة، بل ولا منكرًا من القول!!! ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 87 - 89).

وها هو الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين نراه يهدم هذا الأصل الذي ليس أصيلاً، والركن غير الركين، فقد سئل - رحمه الله تعالى - سؤالاً جاء فيه: قال السائل: إن قال قائل، تقرُّون: أن إجماع الأمة حجة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، وأنتم قد خالفتم جميع العلماء، من أهل الأمصار قاطبة، وادعيتم ما لم يدعه غيركم، وأنكرتم ما لم ينكر في جميع الأرض، وافتريتم أمرًا أنكرته جميع علماء الأمة، والإشارة هنا إلى التوحيد، وما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتكفير من أشرك بالله في ألوهيته عند المشاهد وغيرها، فما الجواب لذلك؟ فأجاب قدس الله روحه: أما دعوى هذا المبطل إجماع العلماء، على جواز دعاء أهل القبور والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح، فهذا كذب ظاهر، وشبهته: أن هذه الأمور ظاهرة في جميع الأمصار، ولم يسمعوا أن عالمًا أنكره، فيقال بل: أنكره كثير من علماء هذا الزمان، ووافق عليه خواص من علماء الحرمين واليمن، وسمعنا منهم مشافهة، ولكن الشوكة لغيرهم. وصنَّف فيه جماعة. كالنعمي من أهل اليمن، له مصنف في ذلك حسن، وكذلك الشوكاني، ومحمد بن إسماعيل، وغيرهم، ورأيت مصنفًا لعالم من أهل جبل سليمان في إنكار ذلك، وهذا مصداق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين»، وليس المراد الظهور بالسيف، بل الحجة دائمًا وبالسيف أحيانًا. ولو قال هذا المجادل: إن أكثر الناس على ما يرى، لكان صادقًا، وهذا مصداق الحديث: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ». وأيضًا: فالبناء على القبور وإسراجها وتجصيصها: ظاهر غالب في

الأمصار التي نعرف، مع أن النهي عن ذلك ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنصوص على النهي في جميع المذاهب، فهل يمكن هذا المبطل، أن يقول: إن الأمة مجمعة على جواز ذلك لكونه ظاهرًا في الأمصار؟ والله سبحانه إنما افترض علي الخلق طاعته، وطاعة رسوله، وأمرهم أن يردوا إلى كتابه وسنَّة رسوله، ما تنازعوا فيه، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد والرسالة. فإذا عرف: أن الشرك عبادة غير الله، وعرف معنى العبادة، وعلم كل قول وعمل يحبه الله ويرضاه، ومن أعظم ذلك الدعاء، لأنه مخ العبادة، وعلم ما يفعل عند القبور، من دعاء أصحابها بسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، عرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي هو عبادة غير الله تعالى، فإذا تحقق الإنسان ذلك، عرف الحق، ولم يبال بمخالفة أكثر الناس، ويعتقد أن الأمة لا تجتمع على ذلك، لأنه ضلالة. فإن قال هذا المجادل: إن هذه الأفعال التي تفعل عند القبور، وعلي القبور جائزة شرعًا، فهو محادٌّ لله ولرسوله، وإن قال: هذه الأمور لا تجوز، لكنها ليست شركًا، مع دعواه أن علماء الزمان أجمعوا على ذلك، فيلزمه أن الأمة أجمعت على ضلالة، والإنسان إذا تبيَّن له الحق، لم يستوحش من قلة الموافقين وكثرة المخالفين، لا سيما في آخر هذا الزمان. وقول الجاهل: لو كان هذا حقًا ما خفي على فلان وفلان، هذه دعوى الكفار، في قولهم: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]، {أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، وقد قال علي - رضي الله عنه -: اعرف الحق تعرف أهله. وأما الذي في حَيرة ولبس، فكل شبهة تروج عليه، فلو كان أكثر الناس اليوم على الحق، لم يكن الإسلام غريبًا، وهو والله اليوم في غاية الغربة» (¬1). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 398 - 401).

الفصل الرابع الشفاعة، أنواعها، وشروطها وأسباب تحصيلها، وموانع الحرمان منها

الفصل الرابع الشفاعة، أنواعها، وشروطها وأسباب تحصيلها، وموانع الحرمان منها وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الشفاعة وشروطها. المبحث الثاني: عدم فقه الفرق بين الشفاعة عند الخالق، ولدى المخلوق، ورَّث الشرك وأصله في نفوس أهله. المبحث الثالث: الفرق بين الشفاعة المثبتة والمنفية في القرآن العظيم.

المبحث الأول الشفاعة شروطها وأنواعها

المبحث الأول الشفاعة شروطها وأنواعها إن الله له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهما، وكل ما دونه من الكائنات، مخلوق مربوب فقير مملوك لسيده سبحانه، وهو جلَّ في علاه الغني بذاته المقدسة عن كل ما سواه، وكل مخلوقاته في أشد ما يكونوا حاجة إليه، والله سبحانه ليس له شريك في ملكه، ولا معاون ولا ظهير، ولا يحتاج لأحد من خلقه حتى يشفع عنده بغير إذنه، وذلك لكماله المطلق، وملكه التام، اللذين لا نقص فيهما بوجه من الوجوه، ومن ثم كان لزامًا على كل عاقل لبيب أن يطلب الشفاعة بشروطها من مالكها، ويتضرَّع إليه وحده فيها، ويفوِّض أمره إليه، علَّه يفوز بحظ وافر منها، ويكتب من أهلها. قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه الله تعالى: «الشفاعة لغة: الوسيلة والطلب. وعرفًا: سؤال الخير للغير. وقيل: هي من الشفع الذي هو ضد الوتر، فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له. والشفاعة حق إذا تحققت شروطها، وهي أن تكون بإذن الله تعالى، ورضاه عن المشفوع له، قال الله تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم: 26]. ففي هذه الآية الكريمة أن الشفاعة لا تنفع إلاَّ بشرطين: الأول: إذن الله للشافع أن يشفع، لأن الشفاعة ملكه سبحانه: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]. الثاني: رضاه عن المشفوع فيه بأن يكون من أهل التوحيد، لأن المشرك

لا تنفعه الشفاعة، كما قال تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]. فتبين بهذا بطلان ما عليه القبوريون اليوم، الذين يطلبون الشفاعة من الأموات، ويتقرَّبون إليهم بأنواع القربات، كما قال الله في سلفهم: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18]، وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ * قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43، 44]. وقد أعطي نبينا - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة، فيشفع لمن أذن الله له فيه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث شفاعات: أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يقض بينهم بعد أن تتراجعَ الأنبياءُ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه. وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له. وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصدِّيقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها». وقال رحمه الله: «وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته، فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية، وقال هؤلاء: من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها، وعند هؤلاء ما ثم إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار، ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة، ولا

يجتمع عندهم في الشخص الواحد ثواب وعقاب ...». إلى أن قال: «واحتج هؤلاء المنكرون للشفاعة بقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]، وبقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، وبقوله: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]. وجواب أهل السنة: أن هذا يراد به شيئان: أحدهما: أنها لا تنفع المشركين، كما قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 42 - 48]، فهؤلاء لا تنفعهم شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفارًا. والثاني: أنه يراد بذلك الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك، ومن شابههم، من أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه، كما يشفع الناس في بعضهم عند بعض» (¬1). قال الشيخ سليمان بن عبد الله في أثناء شرحه على كتاب التوحيد: قوله: فنفى أن يكون لغيره ملك، وذلك في قوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} [سبأ: 22]. ومن لا يملك هذا المقدار فليس بأهل أن يُدعى. قوله: أو قسط منه، أي من الملك، والقسط - بكسر القاف - هو النصيب من الشيء، وذلك في قوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} [سبأ: 22]، أي لمن تدعون من الملائكة وغيرها فيها، أي: في السماوات والأرض من ¬

(¬1) «الإرشاد إلى تصحيح الاعتقاد»: (ص 293 - 295).

شرك، ومن ليس بمالك ولا شريك للمالك فكيف يدعى من دون الله؟ قوله: أو أن يكون عونًا لله، وفي ذلك قوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} [سبأ: 22]، أي: ما لله ممن تدعونهم عون. قوله: ولم يبق إلاَّ الشفاعة، فتبين أنها لا تنفع إلاَّ لمن أذن له الرب ... إلخ. جملة الشروط التي لا بد وأن يكون أحدها في المدعو، أربعة حتى يقدر على إجابة من دعاه: الأول: الملك، فنفاه بقوله: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} [سبأ: 22]. الثاني: إذا لم يكن مالكًا فيكون شريكًا للمالك، فنفاه بقوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} [سبأ: 22]. الثالث: إذا لم يكن مالكًا ولا شريكًا للمالك فيكون عونًا ووزيرًا، فنفاه بقوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} [سبأ: 22]. الرابع: إذا لم يكن مالكًا ولا شريكًا ولا عونًا فيكون شفيعًا، فنفى سبحانه وتعالى الشفاعة عنده إلاَّ بإذنه، فهو الذي يأذن للشافع ابتداء فيشفع. فبنفي هذه الأمور بطلت دعوة غير الله، إذ ليس عند غيره من النفع والضر ما يوجب قصده بشيء من العبادة، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا} [الفرقان: 3]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} [يس: 74، 75]» (¬1). * * * ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (4/ 195).

المبحث الثاني عدم فقه الفرق بين الشفاعة عند الخالق ولدى المخلوق، ورث الشرك وأصله في نفوس أهله

المبحث الثاني عدم فقه الفرق بين الشفاعة عند الخالق ولدى المخلوق، ورَّث الشرك وأصله في نفوس أهله الفرق بين الشفاعة عند الله سبحانه، والشفاعة المعهودة لدى بني البشر، كالفرق بين: الخالق، الرب، السيد، المالك، الغني، الذي لا حاجة له إلى أحد من خلقه ... والمخلوق، المربوب، العبد، المملوك، الفقير، المحتاج إلى غيره من كافة الوجوه. ولما لم يفقه المشركون ذلك الفرق، ترسَّخ الشرك في قلوبهم، طلبًا لشفاعة أندادهم عند الله، قياسًا منهم على طلبهم لما لدى المخلوقين بعضهم من بعض أمثالهم. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمهما الله تعالى - مبينًا سر الشرك، وعلته، مع كيفية الردّ الباهر عليه: «أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة: أهل التوحيد الذين جرَّدوا التوحيد وخلَّصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه. قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109]. فأخبر أنه لا تحصل يومئذ شفاعة تنفع إلاَّ بعد رضا قول المشفوع له، وإذنه للشافع، فأما المشرك فإنه لا يرضاه ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علَّقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.

وسر ذلك أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقرَّبون، وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئًا إلاَّ من بعد إذنه لهم، ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه، فإذا أشركهم به المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظنًا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه، وما يجب له ويمتنع عليه، فإن هذا محال ممتنع يشبه قياس الرب سبحانه على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج. (علة عظيمة تبيِّن فساد قياس الخالق على المخلوق في مسألة الشفاعة) وبهذا القياس الفاسد عُبدت الأصنام، واتَّخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي، والفرق بينهما: هو الفرق بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والمملوك، والغني والفقير، والذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره. فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قَبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها، ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم، فتنقص طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم، فلا يجدون بدّا من قبول شفاعتهم على الكره والرضا. فأما الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه لذاته، وكل من في

السماوات والأرض عبيد له مقهورون لقهره، مصرَّفون بمشيئته، لو أهلكهم جميعًا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة .... فمتَّخذ الشفيع لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه ومرجوه ومخوفه، الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رضاه، ويتباعد من سخطه، هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع له، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. فبين سبحانه وتعالى أن متَّخذي الشفعاء: مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم. وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقًا ولا أمرًا ولا إذنًا، بل هو سبب محرك له من خارج كسائر الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المحرك لأجله ما يوافقه، كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع، وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها، وقد يتعارض عنده الأمران فيبقى مترددًا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضي القبول فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح. وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه وتعالى، فإنه ما لم يخلق شفعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده بمجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة

مطيع بامتثال الأمر، فإن أحدًا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلاَّ بمشيئة الله وخلقه. (العلم بالفرق بين الشفاعة عند الخالق ولدى المخلوق، يبيِّن حقيقة الفرق بين التوحيد والشرك). فالرب تعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه ولو كان مملوكه، وعبده، فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله من النفع والضر والمعاونة وغير ذلك. كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله من رزق أو نصر أو غيره، فكل منهما محتاج إلى الآخر. ومن وفَّقه الله لفهم هذا الموضوع، تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله من الشفاعة، وما نفاه وأبطله. ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم علم: أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد، أبعد مما بين المشرق والمغرب، وأنهم على شيء والسلف على شيء، كما قيل: سارت مشرِّقة وسرت مغرِّبًا ... شتان بين مشرِّق ومعرِّب والأمر والله أعظم مما ذكرناه. انتهى. وبه كمل الجواب، والحمد لله الذي هدانا لدينه الذي رضيه لعباده، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وصلَّى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا» (¬1). ¬

(¬1) «مجموع الرسائل والمسائل النجدية»: (4/ 282 - 284).

المبحث الثالث الفرق بين الشفاعة المثبتة، والمنفية في القرآن العظيم

المبحث الثالث الفرق بين الشفاعة المثبتة، والمنفية في القرآن العظيم لقد أثبت القرآن الشفاعة في موضع، ونفاها في آخر، ليتجلَّى بذلك الإثبات والنفي: الفرق بين حقيقة التوحيد والشرك. والشفاعة المثبتة هي شفاعة العبد، المملوك، المربوب، المأمور من قبل سيده أن يشفع فيمن حقَّقوا شروطها، واجتنبوا موانعها. والشفاعة المنفية: هي شفاعة الشريك، والمعاون، والوزير .... لأن الله سبحانه واحد في صفاته، وأفعاله، وربوبيته، وألوهيته، لا سميَّ له، ولا ند، ولا نظير. ومن ثم كان أسعد الناس بالشفاعة: أهل التوحيد الخلص، الذين جرَّدوه من شوائب الشرك ومتعلَّقاته، وأما أهل الشرك والتنديد فليس لهم منها أدنى نصيب: قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: «الشفاعة نوعان: شفاعة منفية في القرآن، وهي الشفاعة للكافر والمشرك. قال تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، وقال: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 38]، وقال: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 48]، ونحو هذه الآيات كقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. يخبر تعالى على أن من اتخذ هؤلاء شفعاء عند الله، أنه لا يعلم أنهم يشفعون له بذلك وما لا يعلمه لا وجود له، فنفى وقوع هذه الشفاعة، وأخبر

أنها شرك بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}، إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]. فأبطل شفاعة من اتخذ شفيعًا يزعم أنه يقرِّبه إلى الله وهو يبعده عنه وعن رحمته ومغفرته، لأنه جعل لله شريكًا يرغب إليه ويرجوه ويتوكل عليه ويحبه، كما يحب الله تعالى أو أعظم. (النوع الثاني): الشفاعة التي أثبتها القرآن، وهي خالصة لأهل الإخلاص وقيَّدها تعالى بأمرين: الأول: إذنه للشافع أن يشفع، كما قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. وإذنه تعالى لا يصدر إلاَّ إذا رحم عبده الموحد المذنب، فإذا رحمه تعالى أذن للشافع أن يشفع له. الأمر الثاني: رضاه عمَّن أذن للشافع أن يشفع فيه، كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. فالإذن بالشفاعة له بعد الرضا، كما في هذه الآية، وهو سبحانه لا يرضى إلاَّ التوحيد» (¬1). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد، وحفيده عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله جميعًا في شرحه عليه أثناء الحديث عن الشفاعة: قال: وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23]. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآيات: وقد قطع الله ¬

(¬1) «قرة عيون الموحِّدين»: (ص 97).

الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلاَّ ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا، فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده. فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفيًا مرتبًا، منتقلاً من الأعلى إلى الأدنى، فنفى: الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا وتجريدًا للتوحيد، وقطعًا لأصل الشرك ومواده لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمُّنه له، ويظنونها في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثًا، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعمر الله، إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك ... وهذا الذي ذكره الإمام في معنى الآية هو حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125]. قوله: قال أبو العباس هذه كنية شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني إمام المسلمين رحمه الله. (نفى الله عما سواه كل علائق المشركين) قوله: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونًا لله. فلم يبق إلاَّ الشفاعة، فبين أنها لا

تنفع إلاَّ لمن أذن له الرب، كما قال تعالى عن الملائكة: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده»، لا يبدأ بالشفاعة أوَّلاً. ثم يقال له: «ارفع رأسك وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع». قال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: «من قال لا إله إلاَّ الله خالصًا من قلبه». فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقتها: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تكون إلاَّ لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى. قوله: وقال أبو هريرة إلى آخره. هذا الحديث رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة ورواه أحمد وصححه ابن حبان وفيه: «وشفاعتي لمن قال لا إله إلاَّ الله مخلصًا، يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه»، وشاهده في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجَّل كل بني دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا». وقد ساق المصنف رحمه الله كلام شيخ الإسلام هنا، فقام مقام الشرح والتفسير لما في هذا الباب من الآيات، وهو كاف واف بتحقيق مع الإيجاز. والله أعلم. وقد عرف الإخلاص بتعريف حسن فقال: «الإخلاص محبة الله وحده

وإرادة وجهه». اهـ. وقال ابن القيم رحمه الله في معنى حديث أبي هريرة: تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم، فقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع. ومن جهل المشرك: اعتقاده أن من اتخذ وليّا أو شفيعًا أنه يشفع له وينفعه عند الله، كما يكون خواص الولاة والملوك تنفع من والاهم، ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلاَّ بإذنه في الشفاعة، ولا يأذن في الشفاعة إلاَّ لمن يرضى قوله وعمله، كما قاله في الفصل الأول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وفي الفصل الثاني: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وبقى فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلاَّ توحيده واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من عقلها ورعاها. اهـ. وذكر أيضًا رحمه الله تعالى أن الشفاعة ستة أنواع: الأول: الشفاعة الكبرى، التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إليه - صلى الله عليه وسلم - فيقول: «أنا لها»، وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف، وهذه شفاعة يختص بها ولا يشركه فيها أحد. الثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخولها. وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه. الثالث: شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم،

فيشفع لهم أن لا يدخلوها. الرابع: شفاعته في العصاة من أهل التوحيد، الذين يدخلون النار بذنوبهم. والأحاديث بها متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة، وبدَّعوا من أنكرها، وصاحوا به من كل جانب، ونادوا عليه بالضلال. الخامس: شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم، وهذه مما لم ينازع فيها أحد. وكلها مختصة بأهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله وليّا ولا شفيعًا، كما قال تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [الأنعام: 51]. السادس: شفاعته في بعض أهله الكفار من أهل النار، حتى يخفَّف عذابه، وهذه خاصة بأبي طالب وحده» (¬1). * * * ¬

(¬1) «فتح المجيد»: (ص 201 - 208).

الفصل الخامس المشرك مغبون في دينه لإخلاله بكل قيود الكلمة العاصمة إلا بمجرد التلفظ بها

الفصل الخامس المشرك مغبون في دينه لإخلاله بكل قيود الكلمة العاصمة إلا بمجرد التلفظ بها وفيه مبحثان: المبحث الأول: يجب إخلاص جميع أنواع العبادة لله وحده، فمن صرف أيًا منها لغيره سبحانه يكون بذلك مشركًا وخارجًا عن ملَّة المسلمين. المبحث الثاني: كل من عبد غير الله، فقد أخلَّ بكل شروط الكلمة العاصمة، إلاَّ مجرَّد التلفظ لها، ولو أتى بعد ذلك بقُراب الأرض طاعة، فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين.

المبحث الأول يجب إخلاص جميع أنواع العبادة لله وحده فمن صرف أيا منها لغيره يكون بذلك مشركا وخارجا عن ملة المسلمين

المبحث الأول يجب إخلاص جميع أنواع العبادة لله وحده فمن صرف أيًا منها لغيره يكون بذلك مشركًا وخارجًا عن ملة المسلمين قال الشيخ سليمان بن عبد الله - بعد أن تكلَّم عن معنى الإسلام، والتوحيد -: وقد تضمن ذلك جميع أنواع العبادة، فيجب إخلاصها لله تعالى، فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في شيء فليس بمسلم. فمنها: المحبة، فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في المحبة التي لا تصلح إلاَّ لله، فهو مشرك. كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165]، إلى قوله تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167]. ومنها: التوكل، فلا يتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، والتوكل على غير الله فيما يقدر عليه شرك أصغر. ومنها: الخوف، فلا يخاف خوف السر إلاَّ من الله، ومعنى خوف السر، هو أن يخاف العبد من غير الله تعالى أن يصيبه مكروه بمشيئته وقدرته وإن لم يباشره، فهذا شرك أكبر، لأنه اعتقاد للنفع والضر في غير الله. قال الله تعالى: {فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51]، وقال تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]، وقال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].

ومنها: الرجاء فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله كمن يدعو الأموات أو غيرهم راجيًا حصول مطلوبه في جهتهم فهذا شرك أكبر. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 218]، وقال علي - رضي الله عنه -: لا يرجونَّ عبد إلاَّ ربه. ومنها: الصلاة والركوع والسجود، قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [الحج: 77]. ومنها: الدعاء فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله، سواء كان طلبًا للشفاعة أو غيرها من المطالب. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14]، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ * قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43، 44]. ومنها: الذبح، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، والنسك: الذبح. ومنها: النذر، قال الله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7].

ومنها: الطواف، فلا يطاف إلاَّ ببيت الله، قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]. ومنها: التوبة فلا يتاب إلاَّ الله. قال الله تعالى: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ} [آل عمران: 135]، وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. ومنها: الاستعاذة فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله، قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]، وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]. ومنها: الاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله، قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]. فمن أشرك بين الله تعالى وبين مخلوق فيما يختص بالخالق تعالى من هذه العبادات أو غيرها، فهو مشرك. وإنما ذكرنا هذه العبادات خاصة، لأن عبَّاد القبور صرفوها للأموات من دون الله تعالى، أو أشركوا بين الله تعالى وبينهم فيها، وإلاَّ فكل نوع من أنواع العبادة، من صرفه لغير الله، أو أشرَك بين الله تعالى وبين غيره فيه، فهو مشرك. قال الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] (¬1). وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهم الله تعالى، مبينًا حقيقة الاعتقاد الذي دان لله به هو وآباؤه رحمهم الله جميعًا: فاعلموا - أن حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو إليه، ونجاهد على التزامه، والعمل به - أنا ندعو إلى دين الإسلام، والتزام أركانه، وأحكامه، الذي أصله وأساسه: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وهذه العبادة مبنية على أصلين: كمال الحب لله، مع كمال ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 26 - 28).

الخضوع والذل له. والعبادة لها أنواع كثيرة، فمن أنواعها: الدعاء، هو من أجلِّ أنواع العبادة، وسماه الله عبادة، في عدة مواضع من كتابه، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، ونظائر هذا في القرآن كثير، وفي الحديث: «الدعاء مخ العبادة». فنقول: لا يدعى إلاَّ الله، ولا يستغاث في الشدائد، وجلب الفوائد إلاَّ به، ولا يذبح القربان إلاَّ له، ولا ينذر إلاَّ له، ولا يخاف خوف السر إلاَّ منه وحده، ولا يتوكل إلاَّ عليه، ولا يستعان ولا يستعاذ إلاَّ به، وليس لأحد من الخلق شيء من ذلك، لا الملائكة، ولا الأنبياء، ولا الأولياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم فلله حق لا يكون لغيره، وحقه تعالى: إفراده بجميع أنواع العبادة، فلا تأله القلوب محبة، وإجلالاً، وتعظيمًا، وخوفًا، ورجاء، إلاَّ الله، فهذه، هي: الحكمة الشرعية الدينية، والأمر المقصود في إيجاد البرية. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومعنى: يعبدون، يوحِّدون، والعبادة هي: التوحيد، لأن الخصومة بين الرسل وأممهم فيه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. فمن دعا غير الله، من ميت، أو غائب، أو استغاث به، فهو مشرك كافر، وإن لم يقصد إلاَّ مجرَّد التقرُّب إلى الله، وطلب الشفاعة عنده».

المبحث الثاني كل من عبد غير الله، فقد أخل بكل شروط الكلمة العاصمة، إلا مجرد التلفظ بها، ولو أتى بعد ذلك بقراب الأرض طاعة، فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين

المبحث الثاني كل من عبد غير الله، فقد أخل بكل شروط الكلمة العاصمة، إلا مجرد التلفظ بها، ولو أتى بعد ذلك بقراب الأرض طاعة، فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165]، فكل من اتخذ ندًا لله، يدعوه من دون الله، ويرغب إليه، ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرُباته - كحال عبَّاد القبور والطواغيت والأصنام - فلا بد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك، فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى ويقولون: «لا إله إلاَّ الله»، ويصلون ويصومون، فقد أشركوا بالله في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره. فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله، يبطل كل قول يقولونه، وكل عمل يعملونه. لأن المشرك لا يقبل منه عمل، ولا يصح منه. وهؤلاء وإن قالوا: «لا إله إلاَّ الله» فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة: من العلم بمدلولها. لأن المشرك جاهل بمعناها، ومن جهله أيضًا بمعناها جعل لله شريكًا في المحبة وغيرها، وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص. ولم يكن صادقًا في قولها، لأنه لم ينف ما نفته من الشرك، ولم يُثبت ما أثبتته من الإخلاص. وترك اليقين أيضًا. لأنه لو عرف معناها، وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه، ولم يقبله وهو الحق.

ولم يكفر بما يعبد من دون الله، كما في الحديث، بل آمن بما يعبد من دون الله باتخاذه الند ومحبته له وعبادته إياه من دون الله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة: 165]، لأنهم أخلصوا له الحب فلم يحبوا إلاَّ إياه، ويحبون من أحب، ويخلصون أعمالهم جميعًا لله، ويكفرون بما عبد من دون الله. فبهذا يتبين لمن وفَّقه الله تعالى لمعرفة الحق وقَبوله دلالة هذه الآيات العظيمة على معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وعلى التوحيد الذي هو معناها، الذي دعا إليه جميع المرسلين. فتدبَّر» (¬1). وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة، من غير علم بمعناها، ولا عمل بمقتضاها، لا يكون به المكلَّف مسلمًا، بل هو حجة على ابن آدم. خلافًا لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار كالكرَّامية، أو مجرد التصديق كالجهمية. وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة وسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات. قال تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، فأكدوا بلفظ الشهادة و «إن» المؤكدة، واللام، والجملة الاسمية، فأكذبهم، وأكد تكذيبهم، بمثل ما أكَّدوا به شهادتهم سواء بسواء، وزاد التصريح باللقب الشنيع والعلم البشيع الفظيع. وبهذا تعلم أن مسمَّى الإيمان لا بد فيه من الصدق والعمل، ومن شهد أن لا إله إلاَّ الله، وعبد غيره معه فلا شهادة له، وإن صلَّى وزكَّى وصام، وأتى بشيء من أعمال الإسلام. قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب وردَّ بعضًا: ¬

(¬1) «فتح المجيد»: (ص 102، 103).

{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [النساء: 150]، وقال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ...} الآية [المؤمنون: 117]. والكفر نوعان: مطلق ومقيد. فالمطلق: أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول. والمقيد: أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول، حتى إن بعض العلماء كفَّر من أنكر فرعًا مجمعًا عليه، كتوريث الجد والأخت وإن صلَّى وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين ويصرف لهم خالص العبادة ولُبَّها؟ وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة، بل كفَّروا ببعض الألفاظ التي تجرى على ألسن بعض الجهال وإن صلَّى وصام من جرت على لسانه. قال رحمه الله: والصحابة كفَّروا من منع الزكاة وقاتلوهم مع إقرارهم بالشهادتين والإتيان بالصلاة والصوم والحج. قال رحمه الله: واجتمعت الأمة على كفر بني عبيد الله القداح مع أنهم كانوا يتكلمون بالشهادتين، ويصلون، ويبنون المساجد في قاهرة مصر وغيرها. وذكر أن ابن الجوزي صنَّف كتابًا في وجوب غزوهم وقتالهم سمَّاه (النصر على مصر) قال: وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين. فشبه عبَّاد القبور بأنهم يصلون ويصومون ويؤمنون بالبعث، مجرد تعمية على العوام، وتلبيس لينفق شركهم، ويقال: بإسلامهم وإيمانهم. ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون» (¬1). ¬

(¬1) «منهاج التأسيس والتقديس»: (ص 60، 71).

وتحدَّث الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى عن حكم المشرك في الآخرة، أثناء شرحه لكتاب التوحيد فقال: «قال المصنف رحمه الله تعالى: ولمسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار» .... قوله: «من لقي الله لا يشرك به شيئًا» قال القرطبي: أي لم يتخذ معه شريكًا في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة. ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة: أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة. وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب ولا تصرُّم آماد. وقال النووي: أما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادًا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به. لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرًا عليها دخل الجنة أولاً، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفا الله عنه دخل الجنة أولاً، وإلاَّ عُذب في النار ثم أخرج من النار وأدخل الجنة» (¬1). * * * ¬

(¬1) «فتح المجيد»: (ص 78، 79).

الفصل السادس أشهر شبهات المشركين وعلمائهم مع سهام الردود عليها

الفصل السادس أشهر شبهات المشركين وعلمائهم مع سهام الردود عليها وفيه مبحثان: المبحث الأول: الرد على أشهر شبهات المشركين. المبحث الثاني: الرد على أشهر شبهات علماء المشركين.

المبحث الأول الرد على أشهر شبهات المشركين

المبحث الأول الرد على أشهر شبهات المشركين * لقد خان المشركون أنفسهم عندما أوهموها بأن الآيات التي نزلت في ذكر الكفار والمشركين، كانت في قوم قد خلوا، ولم يعقبوا وارثًا، وزين لهم ذلك علماء السوء في قلوبهم، فتأصَّل الشرك بذلك في أفئدتهم، وظنوا بالله ظن السوء، وصاروا قومًا بورًا. قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعًا نقلاً عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه، وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} [الإسراء: 56]، وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23]. والقرآن مملوء من أمثال هذه الآية، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا، ولم يعقبوا وارثًا، وهذا هو الذي يحول بين المرء وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية. وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه، وأقره

وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدَّع بتجريد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانًا، فالله المستعان» (¬1). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بعد أن أبان وقرَّر كفر طواغيت عصره: «فإن جادل منافق، بكون الآية نزلت في الكفار، فقولوا له: هل قال أحد من أهل العلم أولهم وآخرهم: إن هذه الآيات لا تعم من عمل بها من المسلمين؟ من قال هذا قبلك؟ وأيضًا فقولوا له: هذا رد على إجماع المسلمين، فإن استدلالهم بالآيات النازلة في الكفار، على من عمل بها ممن انتسب إلى الإسلام، أكثر من أن تذكر» (¬2). وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين: «وأما من يقول: إن الآيات التي نزلت بحكم المشركين الأولين، فلا تتناول من فعل فعلهم، فهذا كفر عظيم، مع أن هذا قول لا يقوله إلاَّ ثور مرتكس في الجهل. فهل يقول: إن الحدود المذكورة في القرآن والسنة لأناس كانوا وانقرضوا، فلا يحد الزاني اليوم، ولا تقطع يد السارق، ونحو ذلك، مع أن هذا قول يستحيا من ذكره. أفيقول هذا - أحد المجادلين عن المشركين -: ¬

(¬1) «عقيدة الموحدين»، الكلمات النافعة: (ص 233). (¬2) «الدرر السنية»: (10/ 58، 59).

إن المخاطبين بالصلاة، والزكاة، وسائر شرائع الإسلام، انقرضوا وبطل حكم القرآن؟» (¬1). * * * * لقد استند المشركون إلى الجهال الذين ظهروا لهم بلباس العلماء والصلحاء، وقرَّروا لهم أن المقصود من التوحيد: مجرد التلفظ بالشهادتين، ولا يضر بعد ذلك فعل شيء، ثم حضروا حفلات شركهم ونوادي إفكهم فحسَّنوها لهم، ومن لم يحسنها لم ينكرها، فاطمئن عبَّاد القبور والمشركون إلى ذلك، وثلجت به صدورهم، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من براهين الموحدين، وحجج المتحنِّفين، فعلَت بذلك رايتهم، وارتفع إفكهم، وساد شركهم. قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر الإمام العلامة رحمه الله في ردِّ هذا الإفك المبين: وأما قوله - أي أحد المجادلين عن المشركين - ومنها: أن كثيرًا من العلماء الكبار فعلوا هذه الأمور، وفعلت بحضرتهم، ولم تنكر، ومن ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور، واتخاذها أعيادًا في الغالب، فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم، يؤتى إليه من النواحي، وقد يحضرهم بعض العلماء فلا ينكر. فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أن يقال: قد افترض الله على الخلق طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر أن من أطاعه فقد أطاع الله، فقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31]، وقال: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]. ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل»: (2/ 130)، رسائل وفتاوى عبد الله أبي بطين.

وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ...} [النساء: 59] الآية. فإذا اختلف الناس في شيء من أمور الدين، هل هو واجب أو محرَّم أو جائز، وجب رد ما وقع فيه الاختلاف إلى الله والرسول، ويجب على المؤمن إذا دعي إلى ذلك أن يقول: سمعًا وطاعة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، فنحن نحاكم من نازعنا في هذه المسألة وغيرها من المسائل، إلى الله والرسول، لا إلى أقوال الرجال وآرائهم. فنقول لمن أجاز بناء القباب على القبور بالجص والآجر، وأسرجها وفرشها بالرخام، وعلَّق عليها قناديل الفضة وبيض النعام، وكساها كما يكسى بيت الله الحرام: هل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا وحثَّ عليه؟ أم نهى عنه وأمر بإزالة مع وضع من ذلك عليه؟. فما أمرنا به ائتمرنا، وما نهانا عنه انتهينا، وسنته هي الحاكمة بيننا وبين خصومنا في محل النزاع. فنقول: قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن لا أدع تمثالاً إلاَّ طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلاَّ سويته». وفي صحيحه أيضًا: عن ثمامة بن شفي الهماني، قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأمر بتسويتها»، وفي صحيحه أيضًا، عن جابر بن عبد الله، قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه». وفي سنن أبي داود، والترمذي، عن جابر - رضي الله عنه -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

نهى أن تجصص القبور، وأن يبنى عليها، ويكتب عليها»، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» رواه الإمام أحمد، وأهل السنن. فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البناء عليها، وأمر بهدمه بعدما يبنى، ونهى عن الكتابة عليها، ولعن من أسرجها، فنحن نأمر بما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تسويتها، وننهى عن البناء عليها، كما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو الذي افترض الله علينا طاعته واتباعه .... (منزلة الصحابة في الاتباع) الوجه الثاني: أن يقال: إذا لم يقنع ولم يطمئن قلبك بما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقلت: العلماء أعلم منا بالسنة، وأطوع لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. فنقول أعلم الناس بما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما نهى عنه أصحابه - رضي الله عنهم -، فهم أعلم الناس بسنته، وأطوعهم لأمره، وهم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ورضي عمَّن اتبعهم بإحسان. وفي حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة». وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خير القرون قرني الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: من كان منكم مستنًا فليستنَّ بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه،

فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم. وقال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: يا معشر القرَّاء، استقيموا وخذوا طريق من قبلكم، فوالله لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتم يمينًا وشمالاً، لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا. فإن احتج أحد علينا بما عليه المتأخرون، قلنا الحجة بما عليه الصحابة والتابعون الذين هم خير القرون، لا بما عليه الخلف، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هل نقل عنهم: أنهم عقدوا القباب على القبور، وأسرجوها وخلَّقوها وكسوها الحرير؟ أم هذا مما حدث بعدهم من المحدثات، التي هي بدع وضلالات. ومعلوم: أن عندهم من قبور الصحابة، الذين ماتوا في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته ما لا يحصى، هل بنوا على قبورهم وعظَّموها، ودعوا عندها، وتمسَّحوا بها فضلاً عن أن يسألوها حوائجهم؟ أو يسألوا الله بأصحابها؟ فمن كان عنده في هذا أثر صحيح أو حسن، فليرشدنا إليه وليدلنا عليه، وأنَّى له بذلك؟ فهذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبور وسنة خلفائه الراشدين» (¬1). * * * * لقد توارثت طوائف المشركين على مختلف العصور والدهور: شبهة الاحتجاج بفعل الآباء للشرك، الذين هم محل الثقة لديهم، ولا يجتمعون - بزعمهم - إلاَّ على هدى ورشاد، ولذا فلزم الاتباع دون الابتداع. وصدق الله إذ يقول: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (11/ 77 - 83).

الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 172 - 174]. قال الشيخ صالح الفوزان رحمه الله تعالى في معرض إيراده لبعض شبه المشركين والرد عليها: إنه بسبب رواج الشبه والحكايات، التي ضل بها أكثر الناس، وعدوها أدلة يستندون إليها في تبرير ضلالتهم وشركهم، استمرؤوا ما هم عليه، فكان لا بد من كشف زيفها، وبيان بطلانها {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]. وهذه الشبهة منها: ما هو قديم أدلى به المشركون من الأمم السابقة، ومنها: ما أدلى به مشركو هذه الأمة. ومن هذه الشبه: أولاً: شبهة تكاد مشتركة بين طوائف المشركين في مختلف الأمم، وهي شبهة الاحتجاج بما كان عليها الآباء والأجداد، وأنهم ورثوا هذه العقيدة خلفًا عن سلف، كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. وهذه حجة يلجأ إليها من يعجز عن إقامة الدليل على دعواه، وهي حجة داحضة، لا يقام لها وزن في سوق المناظرة، فإن هؤلاء الآباء الذين قلَّدوهم ليسوا على هدى، ومن كان كذلك، لا تجوز متابعته والاقتداء به، قال تعالى ردَّا عليهم: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ} [الزخرف: 24]، وقال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، وقال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]. وإنما يكون الاقتداء بالآباء محمودًا إذا كانوا على حق، كما قال تعالى عن يوسف - عليه السلام -، أنه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا

كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ} [يوسف: 38]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]. وشبهة الاحتجاج بما كان عليه الآباء الضالون متغلغلة في نفوس المشركين، يقابلون بها دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: فقوم نوح لما قال لهم نوح: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 23، 24]. فجعلوا ما عليه آباؤهم حجة يعارضون بها ما جاءهم به نبيهم نوح - عليه السلام -. وقوم صالح يقولون له: {أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 62]. وقوم إبراهيم يقولون له: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74]. وفرعون يقول لموسى - عليه السلام -: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51]. ومشركو العرب يقولون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - لما قال لهم: «قولوا لا إله إلاَّ الله»، قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاَقٌ} [ص: 7]» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الإرشاد إلى تصحيح الاعتقاد»: (ص 61 - 64).

المبحث الثاني الرد على أشهر شبهات علماء المشركين

المبحث الثاني الرد على أشهر شبهات علماء المشركين لقد قطع، وقرَّر بعض علماء المشركين بأن دعاء الموتى، والاستغاثة بهم في الشدائد، من أنواع الشرك العملي الأصغر، الذي لا يكفر به صاحبه إلاَّ أن يستحلَّه، هذا من حيث الفعل والقول، وأما بالنظر إليه من حيث الاعتقاد، فهو كالطيرة التي هي من الشرك الأصغر بغير خلاف. قال الإمام العلامة الشيخ حمد بن ناصر رحمه الله تعالى في التصدي لبيان هذا الافتراء العظيم: فيقال لمن أنكر أن يكون دعاء الموتى، والاستغاثة بهم في الشدائد شركًا أكبر: أخبرنا عن هذا الشرك الذي عظمه الله، وأخبر أنه لا يغفره أتظن أن الله يحرمه هذا التحريم، ولا يبينه لنا؟ ومعلوم أن الله سبحانه نزل كتابه تبيانًا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. (الشرك وبيان حرمته من أعظم الأمور وضوحًا في كتاب الله تعالى) وقد أخبر في كتابه: أنه أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا، فكيف يجوز أن يترك بيان الشرك الذي هو أعظم ذنب عصي الله به سبحانه؟! فإذا أصغى الإنسان إلى كتاب الله وتدبره، وجد فيه الهدى والشفاء {وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33]، {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 40]. وقال أيضًا: قد أمرنا الله سبحانه بدعائه وسؤاله، وأخبر أنه يجيب دعوة الداع إذا دعاه، وأمرنا أن ندعوه خوفًا وطمعًا، فإذا سمع الإنسان قوله تعالى:

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقوله: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، وأطاع الله ودعاه، وأنزل به حاجته، وسأله تضرعًا وخفية، فمعلوم أن هذا عبادة، فيقال: فإن دعا في تلك الحاجة نبيًا، أو ملكًا، أو عبدًا صالحًا، هل أشرك في هذه العبادة؟ فلا بد أن يقر بذلك إلاَّ أن يكابر ويعاند. ويقال أيضًا: إذا قال الله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وأطعت الله، ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، فيقال له: فإذا ذبحت لمخلوق نبي أو ملك أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم إلاَّ أن يكابر ويعاند، وكذلك السجود عبادة، فلو سجد لغير الله لكان شركًا. ومعلوم: أن الله سبحانه وتعالى، ذكر في كتابه النهي عن دعاء غيره، وتكاثرت نصوص القرآن على النهي عن ذلك، أعظم مما ورد في النهي عن السجود لغير الله. فإذا كان من سجد لقبر نبي، أو ملك أو عبد صالح، لا يشك أحد في كفره، وكذلك لو ذبح له القربان، لم يشك أحد في كفره، لأنه أشرك في عبادة الله غيره، فيقال: السجود عبادة، وذبح القربان عبادة، والدعاء عبادة، فما الفارق بين السجود والذبح، وبين الدعاء إذ الكل عبادة، والدعاء عبادة؟ وما الدليل على أن السجود لغير الله والذبح لغير الله شرك أكبر، وما الدعاء بما لا يقدر عليه إلاَّ الله شرك أصغر؟ ويقال أيضًا: قد ذكر أهل العلم من أهل كل مذهب، باب حكم المرتد، وذكروا فيه أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفر به الرجل، ويحل دمه وماله، ولم يرد في واحد منها ما ورد في الدعاء، بل لا نعلم نوعًا من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله، بالنهي عنه والتحذير من فعله، والوعيد عليه ....

(الأدلة على كفر من دعا غير الله) وأما كلام العلماء: فنشير إلي قليل من كثير، ونذكر كلام من حكى الإجماع على ذلك، قال في الإقناع وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعًا، لأن هذا كفعل عابدي الأصنام، قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. انتهى. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وقد سئل عن رجلين تناظراـ فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلاَّ بذلك. (يجوز إثبات الواسطة بين الخالق والمخلوق باعتبار ولا يجوز باعتبار آخر) فأجاب بقوله: إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله، فهذا حق. فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه إلاَّ بالرسل، الذين أرسلهم الله إلى عباده، وهذا مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]، ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل. وإن أراد بالواسطة: أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله، في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد، ونصرهم وهداهم، يسألونه ذلك، ويرجعون إليه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار، لكون الشفاعة لم يأذن الله له فيها .... قال تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 80]، فبين الله سبحانه وتعالى أن اتخاذ

الملائكة والنبيين أربابًا كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين .... فمن أثبت الوسائط: بين الله وبين خلقه، كالحجَّاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، بمعنى: أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك حوائج الناس بقربهم منهم، والناس يسألون أدبًا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطلب. فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل، وهؤلاء مشبِّهون شبَّهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادًا، وفي القرآن من الرد على هؤلاء، ما لا تتسع له هذه الفتوى .... وأما قوله الثاني: إن نظر فيه من حيثية القول، فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك وكفر، ثم أوَّلوه بالأصغر، وإن نظر فيه من حيثية الاعتقاد، فهو كالطيرة وهي من الأصغر. (الفرق بين دعاء غير الله، والحلف بغيره سبحانه) فنقول: هذا كلام باطل، وليس يخفى ما بينهما من الفرق، فأي مشابهة بين من وحَّد الله وعبده، ولم يشرك معه أحدًا من خلقه، وأنزل حاجاته كلها بالله، واستغاث به في تفريج كرباته، وإغاثة لهفاته، لكنه حلف بغير الله يمينًا مجردة لم يقصد بها تعظيمه على ربه، ولم يسأله ولم يستغث به، وبين من

استغاث بغير الله، وسأله جلب الفوائد وكشف الشدائد؟! فإن هذا صرف مخ العبادة، الذي هو لبها وخالصها لغير الله، وأشرك مع الله غيره في أجلِّ العبادات وأفضل القربات التي أمرنا الله بها في غير موضع من كتابه، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه هو العبادة، كما تقدم في حديث النعمان بن بشير «أن الدعاء هو العبادة»، وفي حديث أنس «الدعاء مخ العبادة»، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الله يحب الملحِّين فيه، وأن من لم يسأل الله يغضب عليه. ففي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يُسأل». وفيه أيضًا: «إن الله يحب الملحِّين في الدعاء». وفيه أيضًا: «من لم يسأل الله يغضب عليه». وفي الترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء». وأما الحلف: فلم يأمرنا الله به، بل أمرنا بحفظه، فقال: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]، قيل المعنى: لا تحلفوا، وقيل: لا تحنثوا، ولا يرد على هذا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حلف في مواضع، فاليمين تستحب إذا كان فيها مصلحة راجحة، وعلى هذا حمل العلماء ما روي في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو يحلف لمصالح مطلوبة للأمة، كزيادة إيمانهم، وطمأنينة قلوبهم، كما أمره الله بذلك في ثلاثة مواضع من كتابه، وأما الحلف لغير مصلحة فليس مشروعًا، بل يباح إذا كان صادقًا. وأما الدعاء: فهو محبوب مشروع لله، بل سمَّاه الله في كتابه: الدين، وأمر بإخلاصه له، وسمَّاه رسوله - صلى الله عليه وسلم - العبادة، ومخ العبادة، فكيف يقال: هو الحلف (¬1)؟ ¬

(¬1) هكذا في الأصل، ولعلها: كالحلف.

فمن صرف الدعاء لغير الله، فقد أشرك في الدين الذي أمر الله بإخلاصه، وفي العبادة التي أمر الله بها. وأيضًا: فإن الداعي راغب راهب، فالعبد يدعو ربه رغبًا ورهبًا، ويتوكل عليه في حصول مطلوبه، ودفع مرهوبه، فإذا طلب فوائده، وكشف شدائده من غير الله، فقد أشرك مع الله في الرغبة والرهبة، والرجاء والتوكل، فإن هذا من لوازم الدعاء، وهو من العبادة التي أمر الله بها، كقوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8]، وقوله تعالى: {فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51]، وقال: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] .... (الشرك أسبق تحريمًا من الحلف بغير الله) ويقال أيضًا: من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الله تعالى بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى التوحيد، وينهى عن الإشراك، فكان أول آية أرسله الله بها {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5]. فأنذر عن الشرك، وهجر الأوثان، وكبَّر الله، وعظمه بالتوحيد. فاستجاب له من استجاب من المسلمين، وصبروا على الأذى من قومهم، وقاسوا الشدائد العظيمة، فهاجروا وأخرجوا من ديارهم، وأوذوا في الله، وتميز الكافر من المسلم. ومات من المسلمين من استوجب الجنة، ومات من الكفار من استوجب النار، هذا كله قبل النهي عن الحلف بغير الله. فالاستغاثة بأهل القبور، واستنجادهم واستنصارهم، لم يبح في شرائع الرسل كلهم، بل بعث الله جميع رسله بالنهي عن ذلك، والأمر بعبادته وحده لا شريك له. وأما الحلف: فكان الصحابة يحلفون بآبائهم، ويحلفون بالكعبة وغير

ذلك، ولم ينهوا عن ذلك إلاَّ بعد مدة طويلة، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم»، وقال: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت». ومن لا يميز بين دعاء الميت والحلف به، لا يعرف الشرك الذي بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، ينهى عنه، ويقاتل أهله. وأي جامع بين الحلف والاستغاثة؟ فالمستغيث طالب سائل، والحالف لم يطلب ولم يسأل، فإن كان الجامع بينهما عند القائل باتحادهما: أن كلاً منهما قول باللسان. فيقال له: والإنكار والدعوات، وقول الزور وقذف المحصنات، كل ذلك قول باللسان، ولو قال أحد: إنها ألفاظ متقاربة لعُدَّ من المجانين. وإن أراد هذا القائل اتحادهما في المعنى، فهذا باطل كما تقدَّم بيانه، وأي مشابهة بين من جعل لله ندا من خلقه، يدعوه ويرجوه، ويستنصره ويستغيث به، وبين من لا يدعو إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأخلص له في عبادته؟ فالأول: أشرك مع الله في قوله وفعله واعتقاده، بخلاف الحالف، بل لو اعتقد الحالف تعظيم المخلوق على الخالق، لصار مشركًا شركًا أكبر كما تقدم .... (الرد على من سوى بين دعاء غير الله، والطيرة في الحكم) وأما قوله: وإن نظر فيه من جهة الاعتقاد، فهو كالطيرة، فهذا كلام باطل أيضًا، يظهر بطلانه مما تقدم، فيقال: وأين الجامع بين شرك من جعل بينه وبين الله واسطة يدعوه ويسأله قضاء حاجاته، وكشف كرباته، ويقول: هذا وسيلتي إلى الله، وباب حاجتي إليه، وبين من عبد الله وحده لا شريك له، ودعاه خوفًا وطمعًا، وأنزل به حاجاته كلها، وتبرَّأ من عبادة كل معبود سواه

ولكن وقع في قلبه شيء من الطيرة؟ فالأول: هو دين أبي جهل وأصحابه، وهو دين أعداء الرسل، من لدن نوح إلى يومنا هذا» (¬1). * * * * لقد قرر كثير من أساطين الشرك لأتباعهم ومريديهم، وأصَّلوا لهم: أن زبدة الرسالة تتمثل في مجرد التلفظ بكلمة التوحيد، ولا أدلّ على ذلك من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطالب قومه بتحقيق معناها، بل وعلى ذلك الدرب سار صحابته الكرام في فتوحاتهم لبلاد العجم، فقد قنعوا منهم بمجرَّد النطق دون العلم والعمل، هكذا زعموا!!! ومن ثم فمن وقع في حقيقة الكفر، وصريح الشرك، ووالى أصحابه، وذبَّ عنهم ... فما زال مسلمًا معصوم الدم والمال، وذلك لعدم مساسه بحقوق الشهادتين، التي لا حق لها إلاَّ مجرَّد التلفظ بها!!! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كشف هذه الشبهة الخبيثة: «لكن: العجب العُجاب، استدلاله (¬2): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا الناس إلى قول: لا إله إلاَّ الله، ولم يطالبهم بمعناها، وكذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحوا بلاد الأعاجم، وقنعوا منهم بلفظها، إلى آخر كلامه، فهل يقول هذا الكلام من يتصور ما يقول؟! فنقول، أولاً: هو الذي نقض كلامه، وكذبه، بقوله: دعاهم إلى ترك عبادة الأوثان، فإذا كان لم يقنع منهم إلاَّ بترك عبادة الأوثان، تبين أن النطق بها لا ينفع، إلاَّ بالعمل بمقتضاها، وهو: ترك الشرك، وهذا هو المطلوب، ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (11/ 18 - 41). (¬2) «أحد المنافحين عن الشرك والمشركين.

ونحن إنما نهينا عن الأوثان، المجعولة على قبر الزبير وطلحة وغيرهما، في الشام وغيره. فإن قلتم: ليس هذا من الأوثان، وإن دعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم في الشدائد، ليست من الشرك، مع كون المشركين الذين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يخلصون لله في الشدائد، ولا يدعون أوثانهم، فهذا: كفر، وبيننا وبينكم: كلام العلماء، من الأولين، والآخرين، الحنابلة وغيرهم. وإن أقررتم: أن ذلك كفر، وشرك، وتبيَّن أن قول: لا إله إلاَّ الله، لا ينفع إلاَّ مع ترك الشرك، فهذا هو المطلوب، وهو الذي نقول، وهو الذي أكثرتم النكير فيه، وزعمتم أنه لا يخرج إلاَّ من خراسان، وهذا القول، كما في أمثال العامة: لا وجه سمح، ولا بنت رجال، لا أقول صواب، بل خطأ ظاهر، وسب لدين الله وهو أيضًا: متناقض، يكذب بعضه بعضًا، لا يصدر إلاَّ ممن هو أجهل الناس. وأما دعواه: أن الصحابة لم يطلبوا من الأعاجم، إلاَّ مجرد هذه الكلمة، ولم يعرفوهم بمعناها، فهذا قول من لا يفرق بين دين المرسلين، ودين المنافقين، الذين هم في الدرك الأسفل من النار، فإن المؤمنين يقولونها، والمنافقين يقولونها، لكن المؤمنين يقولونها، مع معرفة قلوبهم بمعناها، وعمل جوارحهم بمقتضاها، والمنافقون يقولونها من غير فهم لمعناها، ولا عمل بمقتضاها، فمن أعظم المصائب، وأكبر الجهل من لا يعرف الفرق، بين الصحابة والمنافقين» (¬1). وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن - رحمهما الله تعالى -: «ومجرد التلفظ من غير التزام لما دلت عليه كلمة الشهادة، لا يجدي ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 45 - 47).

شيئًا، والمنافقون يقولونها، وهم في الدرك الأسفل من النار، نعم إذا قالها المشرك ولم يتبين منه ما يخالفها، فهو ممن يكف عنه بمجرد القول، ويحكم بإسلامه. وأما إذا تبين منه وتكرر، عدم التزام ما دلت عليه، من الإيمان بالله وتوحيده، والكفر بما يعبد من دونه، فهذا لا يحكم له بالإسلام، ولا كرامة له، ونصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة يدل على هذا» (¬1). * * * * وقرَّر بعضهم أن الشرك إذا وقع مع الخطأ والتأويل فهو مغفور لصاحبه، ويجب على المسلمين أن ينظموه في سبيل الأخوَّة الإيمانية، لعدم إخلاله بحقوقها: قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: ثم إن الجاهل المرتاب، قال في أوراقه قولاً، قد تقدم الجواب عنه، ولا بد من ذكره، قال: فإذا قال المسلم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. يقصد من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوَّله، أو قال كفرًا، أو فعله، وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان. فأقول: انظر إلى هذا التهافت والتخليط، والتناقض، ولا ريب أن الكفر ينافي الإيمان، ويبطله، ويحبط الأعمال بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، قال الله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]. ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (12/ 273 - 274).

ويقال: وكل كافر قد أخطأ، والمشركون لا بد لهم من تأويلات، ويعتقدون أن شركهم بالصالحين، تعظيم لهم، ينفعهم ويدفع عنهم، فلم يعذروا بذلك الخطأ، ولا بذلك التأويل، بل قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]. وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105]. فأين ذهب عقل هذا عن هذه الآيات، وأمثالها من الآيات المحكمات؟!، والعلماء رحمهم الله تعالى سلكوا منهج الاستقامة، وذكروا باب حكم المرتد، ولم يقل أحد منهم: أنه إذا قال كفرًا، أو فعل كفرًا، وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين، أنه لا يكفر لجهله. وقد بيَّن الله في كتابه: أن بعض المشركين جهال مقلِّدون فلم يدفع عنهم عقاب الله بجهلهم وتقليدهم، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} [الحج: 3]، إلى قوله: {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4]. ثم ذكر الصنف الثاني: وهم المبتدعون، بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [الحج: 8]، فسلبهم العلم والهدى، ومع ذلك فقد اغترَّ بهم الأكثرون، لما عندهم من الشبهات والخيالات، فضلُّوا وأضلوا، كما قال تعالى في آخر السورة: {وَيَعْبُدُونَ مِن

دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [الحج: 71]، وتقرير هذا المقام، قد سلف في كلام العلامة ابن القيم، وكلام شيخ الإسلام» (¬1). ولقد نص أعضاء لجنة الفتوى الدائمة على أن: «المخطئ المعذور: من أخطأ في المسائل النظرية الاجتهادية، لا من أخطأ فيما ثبت بنص صريح، ولا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة. وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم. اللجنة العلمية للبحوث العلمية والإفتاء نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز» (¬2) * * * * وعلَّل بعض علماء المشركين باستحالة وقوع الشرك - لا سيما بين أهل الجزيرة العربية - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب». قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله تعالى في بيان هذا الاشتباه - في أثناء تصديه لبعض المجادلين عن المشركين -: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب» فقد يحتج بهذا الحديث من زعم أن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند القبور، ومع الجن مثل سؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والاستعاذة بهم، والتقرب إليهم بالذبح لهم والنذر لهم، وغير ذلك من أنواع ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (11/ 478، 479). (¬2) «فتاوى اللجنة الدائمة»: (2/ 39).

العبادة، ليست عبادة لهم ولا شركًا. فيقال أولاً: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نسب الإياس إلى الشيطان، ولم يقل: إن الله آيسه، فالإياس الصائر من الشيطان لا يلزم تحقيقه واستمراره، ولكن عدو الله لما رأى ما ساءه من ظهور الإسلام في جزيرة العرب وعلوه، يئس من ترك المسلمين دينهم الذي أكرمهم الله به، ورجوعهم إلى الشرك الأكبر، وهذا كما أخبر الله سبحانه عن الكفار، في قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} [المائدة: 3]. قال المفسرون: لما رأى الكفار ظهور الإسلام في أرض العرب وتمكنه فيها، يئسوا من رجوع المسلمين عن الإسلام إلى الكفر، قال ابن عباس وغيره من المفسرين: يئسوا أن يراجعوا دينهم، قال ابن كثير: وعلى هذا يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»، يعنى: أن إياس الشيطان مثل إياس الكفار، وأن الكل يئس من ارتداد المسلمين وتركهم دينهم، ولا يلزم من ذلك امتناع وجود الكفر في أرض العرب. (الأدلة على وقوع الكفر في جزيرة العرب) ولهذا قال ابن رجب على الحديث: يئس أن تجتمع الأمة على الشرك الأكبر، يوضح ذلك ما حصل من ارتداد أكثر أهل الجزيرة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقتال الصديق والصحابة لهم على اختلاف تنوعهم في الردة، قال أبو هريرة: لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفر من كفر من العرب، وردة بني حنيفة مشهورة. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون»، معناه: أنه يئس أن يطيعه المصلون في الكفر بجميع أنواعه، لأن طاعته في ذلك هي عبادته، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ

مُّبِينٌ} [يس: 60]. ومن استدل بالحديث على امتناع وجود كفر في جزيرة العرب، فهو ضال مضل، فماذا يقول هذا الضال في الذين قاتلهم الصديق - رضي الله عنه - والصحابة من العرب، وسمُّوهم: مرتدين كفارًا؟! فلازم دعوى هذا الضال: أنه لم يكفر أحد من العرب بعد موته - صلى الله عليه وسلم -، وأن الصحابة أخطؤوا في قتالهم، والحكم عليهم بالردة. وقد ثبت في الحديث الصحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تُعبد اللات والعزى» ومكانهما معلوم، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس عند ذي الخلصة» وهو صنم لدوس رهط أبي هريرة، بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرير بن عبد الله البجلي وهدمه، وفي الحديث الصحيح من خبر الدجال: أنه لا يدخل المدينة، بل ينزل بالسبخة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج منها كل كافر ومنافق، فأخبر أن في المدينة إذ ذاك كفارًا ومنافقين» (¬1). * * * * وأخيرًا لا آخرًا، نص جمهورهم على أن من نطق بالشهادتين، مريدًا بهما الإسلام. قد يجوز تكفيره بحال: ورد على الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله تعالى - سؤال جاء فيه: ما حكم من يقول: إن من تكلم بالشهادتين لم يجز تكفيره؟ فأجاب رحمه الله بقوله: «وأما قول، من يقول: إن من تكلَّم بالشهادتين ما يجوز تكفيره، وقائل هذا القول لا بد أن يتناقض، ولا يمكنه طرد قوله في ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (12/ 131 - 133)، ويراجع في هذا المعنى أيضًا رسالة قيمة للشيخ أبي بطين في الدرر السنية: (12/ 113 - 119).

مثل: من أنكر البعث، أو شك فيه مع إتيانه بالشهادتين، أو أنكر نبوة أحد من الأنبياء الذين سماهم الله في كتابه، أو قال: الزنا حلال، أو نحو ذلك، فلا أظن يتوقف في كفر هؤلاء وأمثالهم، إلاَّ من يكابر ويعاند. فإن كابر وعاند وقال: لا يضر شيء من ذلك، ولا يكفر به من أتى بالشهادتين وصلَّى وصام، لا يجوز تكفيره، وإن عبد غير الله فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، لأن قائل هذا القول مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين كما قدمنا، ونصوص الكتاب والسنة في ذلك كثيرة، مع الإجماع القطعي، الذي لا يستريب فيه من له أدنى نظر في كلام العلماء، لكن التقليد والهوى يعمي ويصم {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 40]» (¬1). * * * ¬

(¬1) "الدرر السنية" (10/ 250، 251).

الفصل السابع الأدلة الجلية من الشريعة الربانية على كفر من عبد غير الله تعالى

الفصل السابع الأدلة الجلية من الشريعة الربانية على كفر من عبد غير الله تعالى وفيه مبحثان: المبحث الأول: دلالة الكتاب والسنة والإجماع، بفهم الأئمة العلماء، على كفر من عبد غير الله، وإن صلَّى وصام، وزعم أنه مسلم حرام الدم والمال. المبحث الثاني: فعل الإنسان في الظاهر دليل على عقيدته في الباطن، ومن ثمّ كانت الأقوال والأعمال والأفعال دلائل منضبطة على وجود الكفر والإيمان، وبها تتكيَّف الأحكام سلبًا وإيجابًا.

المبحث الأول دلالة الكتاب، والسنة، والإجماع، بفهم الأئمة العلماء، على كفر من عبد غير الله، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم حرام الدم والمال

المبحث الأول دلالة الكتاب، والسنة، والإجماع، بفهم الأئمة العلماء، على كفر من عبد غير الله، وإن صلَّى وصام، وزعم أنه مسلم حرام الدم والمال قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله تعالى: «فاعلم أن العلماء أجمعوا: على أن من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغير الله، فهو مشرك، ولو قال: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، وصلى، وصام، إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلاَّ الله، فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله فما أتى بهما حقيقة، وإن تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون: لا إله إلاَّ الله وهم مشركون، ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعًا. ذكر شيء من كلام العلماء في ذلك، وإن كنا غنيين بكتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن كل كلام، إلاَّ أنه قد صار بعض أناس منتسبًا إلى طائفة معينة، فلو أتيته بكل آية من كتاب الله وكل سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل حتى تأتيه بشيء من كلام العلماء، أو بشيء من كلام طائفته التي ينتسب إليها. قال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي صاحب كتاب «الفنون» الذي ألَّفه في نحو أربعمائة مجلد، وغيره من التصانيف. قال في الكتاب المذكور: لما صعبت التكاليف على الجهَّال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا،

أو إلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللاَّت والعُزَّى. نقله غير واحد، مقررين له، راضين به، منهم الإمام أبو الفرج بن الجوزي، والإمام ابن مفلح صاحب كتاب «الفروع» وغيرهما. وقال شيخ الإسلام في «الرسالة السنية»: فإذا كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان أيضًا قد يمرق أيضًا من الإسلام وذلك بأسباب: منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح - عليه السلام -، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلاَّ قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يُدعى معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، ويقولون: {هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18]، فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. انتهى. وقد نص الحافظ أبو بكر أحمد بن علي المقريزي صاحب كتاب «الخطط» في كتاب له في التوحيد على أن دعاء غير الله شرك. وقال شيخ الإسلام: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم

يدعوهم ويسألهم، كفر إجماعًا، نقله عنه غير واحد مقررين له، منهم: ابن مفلح في «الفروع»، وصاحب «الإنصاف»، وصاحب «الغاية»، وصاحب «الإقناع» وشارحه وغيرهم، ونقله صاحب «القواطع» في كتابه عن صاحب «الفروع». قلت: وهو إجماع صحيح معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم في باب حكم المرتد، على أن من أشرك بالله فهو كافر، أي: عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادات. وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن دعاء الله عبادة له، فيكون صرفه لغير الله شركًا» (¬1). وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين: «قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: «فصل في بيان ما هو من المقالات كفر» إلى أن قال: والفصل البيِّن في هذا أن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية، أو الوحدانية، أو عبادة غير الله، أو مع الله فهي كفر، إلى أن قال: والذين أشركوا بعبادة الأوثان، أو أحد الملائكة، أو الشياطين، أو الشمس، أو النجوم، أو النار، أو أحد غير الله من مشركي العرب، أو أهل الهند، أو السودان، أو غيرهم، إلى أن قال: أو أن ثمّ للعالم صانعًا سوى الله أو مدبرًا فذلك كله كفر بإجماع المسلمين. فانظر حكاية إجماع المسلمين على كفر من عبد غير الله من الملائكة وغيرهم، وهذا ظاهر ولله الحمد». وقال أيضًا رحمه الله تعالى: «قال رحمه الله تعالى: وأما ما سألت عنه من أنه هل يجوز تعيين إنسان بعينه بالكفر إذا ارتكب شيئًا من المكفرات؟ ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (/155 - 157).

فالأمر الذي دل الكتاب والسنة وإجماع العلماء عليه أنه كفر، مثل الشرك بعبادة غير الله سبحانه، فمن ارتكب شيئًا من هذا النوع، أو حسنه فهذا لا شك في كفره، ولا بأس بمن تحققت منه شيئًا من ذلك أن تقول كفر فلان بهذا الفعل. يبين هذا أن الفقهاء يذكرون في باب حكم المرتد أشياء كثيرة يصير بها المسلم مرتدًا كافرًا، ويستفتحون هذا الباب بقولهم: من أشرك بالله كفر وحكمه أن يستتاب فإن تاب وإلاَّ قتل، والاستتابة إنما تكون مع معين، ولما قال بعض أهل البدع عند الشافعي: أن القرآن مخلوق قال: كفرت بالله العظيم. وكلام العلماء في تكفير المعيَّن كثير. وأعظم أنواع الكفر الشرك بعبادة غير الله، وهو كفر بإجماع المسلمين، ولا مانع من تكفير من اتصف بذلك، كما أن من زنى قيل فلان زان، ومن رابى قيل فلان مراب والله أعلم. (منقولة حرفًا بحرف، وصلَّى الله على محمد وصحبه وسلم)» (¬1). وسئلت اللجنة الدائمة: «السؤال الأول من الفتوى رقم 9336»: س: إذا كان إنسان إمام مسجد ويستغيث بالقبور ويقول: هذه قبور ناس أولياء، ونستغيث بهم من أجل الواسطة بيننا وبين الله، هل يجوز لي أن أصلي خلفه وأنا إنسان أدعو إلى التوحيد، وأرجو منكم توضحوا لي كثيرًا في هذا مواضيع النذر والاستغاثة والتوسل. جـ: من ثبت لديك أنه يستغيث بأصحاب القبور، أو ينذر لهم، فلا يصح أن تصلي خلفه لأنه مشرك، والمشرك لا تصح إمامته، ولا صلاته، ولا يجوز للمسلم أن يصلي خلفه، لقول الله سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (5/ 523).

كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65، 66]. وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز» (¬1) * * * ¬

(¬1) «فتاوى اللجنة الدائمة»: (1/ 63).

المبحث الثاني فعل الإنسان في الظاهر دليل على عقيدته في الباطن، ومن ثم كانت الأقوال والأعمال والأفعال دلائل منضبطة على وجود الكفر والإيمان، وبها تتكيف الأحكام سلبا وإيجابا

المبحث الثاني فعل الإنسان في الظاهر دليل على عقيدته في الباطن، ومن ثمّ كانت الأقوال والأعمال والأفعال دلائل منضبطة على وجود الكفر والإيمان، وبها تتكيف الأحكام سلبًا وإيجابًا قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله تعالى: «فنحن نستدل بفعل الإنسان على عقيدته، فمتى رأينا شخصًا وقف عند قبر إنسان معظَّم في نفسه، وخضع برأسه، وتذلل، وأهطع، وأقنع، وخشع، وخفض صوته، وسكنت جوارحه، وأحضر قلبه ولبه أعظم مما يفعل في الصلاة بين يدي ربه عز وجل، وهتف باسم ذلك المقبور، وناداه نداء من وثق منه بالعطاء، وعلق عليه الرجاء ونحو ذلك، فإنا لا نشك أنه والحالة هذه يعتقد أن يعطيه سؤله، ويدفع عنه السوء، وأنه يستطيع التصرف في أمر الله. ففعله هذا دليل سوء معتقده، فلا حاجة لنا أن نسأله: هل أنت تعتقد أنه يضر وينفع من غير إذن الله؟ فالله تعالى ما كلفنا أن ننقب عن قلوب الناس، وإنما نأخذهم بموجب أفعالهم وأقوالهم الظاهرة، وهذا الشخص قد خالف قول الله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]. وقد رأينا خشوعه وتذلله أمام هذا المخلوق الميت، وذلك هو عين العبادة كما عرفنا، فنحكم عليه بموجب فعله وقوله، بأنه قد أشرك بالله وتأله سواه. فإن الإله: هو الذي تألهه القلوب وتعظمه، وتحبه وترجوه، وتخافه

وتعامله بما لا يصلح إلاَّ لله، ولو لم يسمه الفاعل إلهًا، ولو لم يسم فعله تألهًا وتعبدًا، فإن العبرة بالحقائق وما في نفس الأمر بخلاف الأسماء. فأهل هذا الزمان: لما جهلوا حقيقة العبادة والتأله والدعاء ونحوه - الذي هو من حق الله - ولم يعرفوا معانيها وأصل وضعها صرفوها لغير الله، وسموا: ذلك توسُّلاً واستشفاعًا وتبرُّكًا واحترامًا، وهو عين عبادة ذلك المخلوق، وعين الشرك، الذي توعَّد الله عليه بالنار، وحرمان الجنة» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الكنز الثمين»: (1/ 291، 292).

الفصل الثامن علة قتال المشركين، ووجوب البراءة منهم، وحكم الدار إذا غلبت عليها أحكام الشرك

الفصل الثامن علة قتال المشركين، ووجوب البراءة منهم، وحكم الدار إذا غلبت عليها أحكام الشرك وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: الآثار الوخيمة الناجمة عن الخروج على أصل الولاء والبراء. المبحث الثاني: الإجماع على حرمة التحيز للمشركين، ومجامعتهم إلا لمن قدر على إظهار البراءة منهم ومن شركهم. المبحث الثالث: تعريف دار الشرك، وواجب المسلمين نحوها. المبحث الرابع: وجوب قتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.

المبحث الأول الآثار الوخيمة الناجمة عن الخروج على أصل الولاء والبراء

المبحث الأول الآثار الوخيمة الناجمة عن الخروج على أصل الولاء والبراء أرى - في هذا المقام - أنه من ضرورة البيان، وكمال البلاغ: معاودة التذكير بواجب موالاة المسلمين والبراءة من المشركين، وعقوبة الخروج عن هذا الأصل العظيم، مع بيان آثاره الوخيمة على الإسلام وأهله، حتى نستطيع أن نضع أيدينا على علة وصول الأمة إلى الحالة المزرية من الخيبة والخسار، والانكسار بين يدي الأعداء، جراء التفريط في القيام بحقوق هذا الأصل الأصيل. قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه الله تعالى: «وهذا وبعد انتهائنا من هذا البيان المختصر لأصول العقيدة الإسلامية نشير إلى أنه يجب على كل مسلم يدين بهذه العقيدة أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها، فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم، ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم. وذلك من ملة إبراهيم والذين معه، الذي أمرنا بالاقتداء بهم، حيث يقول سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. وهو من دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]، وهذه في تحريم موالاة أهل

الكتاب خصوصًا. وقال في تحريم موالاة الكفار عمومًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة: 1]. بل لقد حرم الله على المؤمنين موالاة الكفار، ولو كانوا من أقرب الناس إليه نسبًا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23]، وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. وقد جهل كثير من الناس هذا الأصل العظيم، حتى لقد سمعت بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة في إذاعة عربية يقول عن النصارى: إنهم إخواننا! ويا لها من كلمة خطيرة! وكما أن الله سبحانه حرم موالاة الكفار أعداء العقيدة الإسلامية، فقد أوجب سبحانه موالاة المؤمنين ومحبتهم، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55، 56]، وقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. فالمؤمنون إخوة في الدين والعقيدة، وإن تباعدت أنسابهم وأوطانهم وأزمانهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10]. فالمؤمنون من أول الخليقة إلى آخرها مهما تباعدت أوطانهم وامتدت أزمانهم إخوة متحابون، يقتدي آخرهم بأولهم، ويدعو بعضهم لبعض،

ويستغفر بعضهم لبعض. وللولاء والبراء مظاهر تدل عليهما. فمن مظاهر موالاة الكفار: 1 - التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما؛ لأن التشبه بهم في الملبس والكلام وغيرهما يدل على محبة المتشبِّه للمتشبَّه به، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم، فهو منهم»، فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم ومن عاداتهم وعبادتهم وسمتهم وأخلاقهم، كحلق اللحى، وإطالة الشوارب، والرطانة بلغتهم إلاَّ عند الحاجة، وفي هيئة اللباس والأكل والشرب وغير ذلك. 2 - الإقامة في بلادهم، وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين لأجل الفرار بالدين، لأن الهجرة بهذا المعنى ولهذا الغرض واجبة على المسلم. لأن إقامته في بلاد الكفر تدل على موالاة الكافرين، ومن هنا حرم الله إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة .... 3 - ومن مظاهر موالاة الكفار السفر إلى بلادهم لغرض النزهة ومتعة النفس. والسفر إلى بلاد الكفار محرَّم إلا عند الضرورة، كالعلاج، والتجارة، والتعلم للتخصصات النافعة، التي لا يمكن الحصول عليها إلاَّ بالسفر إليهم، فيجوز بقدر الحاجة، وإذا انتهت الحاجة، وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين، ويشترط كذلك لجواز هذا السفر أن يكون مُظْهِرًا لدينه، معتزًا بإسلامه، مبتعدًا عن مواطن الشر، حذرًا من دسائس الأعداء ومكائدهم، وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام. 4 - ومن مظاهر موالاة الكفار إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين، ومدحهم والذب عنهم، وهذا من نواقض الإسلام وأسباب الردة، نعوذ بالله من ذلك.

5 - ومن مظاهر موالاة الكفار: الاستعانة بهم، والثقة بهم، وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين، واتخاذهم بطانة ومستشارين .... 6 - ومن مظاهر موالاة الكفار التأريخ بتأريخهم، خصوصًا التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم، كالتاريخ الميلادي، والذي هو عبارة عن ذكرى مولد المسيح - عليه السلام -، والذي ابتدعوه من أنفسهم، وليس هو من دين المسيح - عليه السلام -، فاستعمال هذا التاريخ فيه مشاركة في إحياء شعارهم وعيدهم .... 7 - ومن مظاهر موالاة الكفار مشاركتهم في أعيادهم، أو مساعدتهم في إقامتها، أو تهنئتهم بمناسبتها، أو حضور إقامتها، وقد فسر قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]، أي: من صفات عباد الرحمن: أنهم لا يحضرون أعياد الكفار. 8 - ومن مظاهر موالاة الكفار: مدحهم، والإشادة بما هم عليه من المدنية والحضارة، والإعجاب بأخلاقهم ومهارتهم، دون نظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد .... 9 - ومن مظاهر موالاة الكفار التسمِّي بأسمائهم، بحيث يسمون أبنائهم وبناتهم بأسماء أجنبية، ويتركون أسماء آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم، والأسماء المعروفة في مجتمعهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن»، وبسبب تغير الأسماء، فقد وجد جيل يحمل أسماء غربية، مما يسب الانفصال بين هذا الجيل والأجيال السابقة، ويقطع التعارف بين الأسر التي كانت تعرف بأسمائها الخاصة. 10 - ومن مظاهر موالاة الكفار الاستغفار لهم والترحم عليهم، وقد حرم الله ذلك بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ

كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]. لأن هذا يتضمن حبهم وتصحيح ما هم عليه (¬1). مظاهر موالاة المؤمنين قد بيَّنها الكتاب والسنة، ومنها: 1 - الهجرة إلى بلاد المسلمين، وهجر بلاد الكافرين، والهجرة هي: الانتقال من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين لأجل الفرار بالدين. والهجرة بهذا المعنى ولأجل هذا الغرض واجبة وباقية إلى طلوع الشمس من مغربها عند قيام الساعة .... 2 - مناصرة المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة: 71]، وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} [الأنفال: 72]. 3 - التألم لألمهمِ والسرور بسرورهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»، وقال أيضًا - عليه الصلاة والسلام -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا (وشبك بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم -). ¬

(¬1) من المعلوم من الدين بالضرورة، والمنقول نقلاً متواترًا: أن الدين عند الله الإسلام، وأن الكافرين به هم أصحاب النار، وأن المشركين لا حظ لهم من مغفرة الله ورحمته. ولقد رأينا وسمعنا، بل ولا زلنا نسمع ونرى من كثير من الأقلام المسمومة، وألسنة الكفر والزندقة والإلحاد: جواز الترحم على أموات اليهود والنصارى والشيوعيين، وما ذاك إلاَّ لإذابة حاجز البغض والمعاداة بين المسلمين والكافرين - من جانب واحد فقط وهم يدركون ذلك جيدًا - ومن ثم تمرير شرعية الأديان الحالية، على أصحاب الملة الحنيفية - دون غيرها من الملل -، وأنها طرق إلى الله كالمذاهب الأربعة في الإسلام، يجوز التعبد بأي واحد منها، فينبغي الحذر الحذر من هذا الشر المستطر، وصدق الله القائل: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].

4 - النصح لهم ومحبة الخير لهم وعدم غشهم وخديعتهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وقال: «المسلم أخو المسلم، لا يحقره، ولا يخذله، ولا يسلمه، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله وعرضه»، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «لا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد»: (ص 307 - 315).

المبحث الثاني الإجماع على حرمة التحيز للمشركين، ومجامعتهم، إلا لمن قدر على إظهار البراءة منهم ومن شركهم

المبحث الثاني الإجماع على حرمة التحيز للمشركين، ومجامعتهم، إلاَّ لمن قدر على إظهار البراءة منهم ومن شركهم قال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق - في الرد على سؤال ورد عليه -: «وأما الانتقال من بلاد الإسلام، إلى بلاد القبوريين، والتحيز إلى جماعة المشركين، وعدم المبالاة في ذلك، فمن المصائب العظام، والدواهي الكبار، التي وقع فيها كثير من الناس وتساهلوا فيها، واستصغروها وخف شأنها عند كثير من الناس، الذين ضعفت بصائرهم في دين الإسلام، وقلَّ نصيبهم من معرفة ما بعث الله به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه الصحابة، ومن تبعهم من الأئمة الأعلام. وما زال الأمر بالناس، حتى صار النهي عن ذلك، والكلام في ذمِّه، وذم من فعله من المستنكر عند الأكثر، وصاروا لا يرون بذلك بأسًا، وينسبون من ينهى عنه وينكره على من فعله، إلى الغلو في الدين، والتشديد على المسلمين. (الأدلة على وجوب البراءة من المشركين، وحرمة التحيز إليهم) وفي القرآن الكريم، والسنة النبوية: ما يدل من في قلبه حياة على المنع من ذلك، وكلام العلماء مرشد إلى ذلك، فإنهم صرَّحوا بالنهي عن إقامة المسلم بين أظهر المشركين، من غير إظهار دينه، قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ...} الآية [هود: 113]، وقال: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [المائدة: 80]، إلى قوله: {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]، إلى قوله: {وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 100].

قال ابن كثير في الكلام على هذه الآية، وهذه الآية: عامة في كل من أقام بين أظهر المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو مرتكب حرامًا بالإجماع، ونص هذه الآية، والآيات في هذا المعنى كثيرة، يعرفها من قرأ القرآن وتدبَّره. وفي الأحاديث المأثورة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ما دل عليه القرآن، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تستضيئوا بنار المشركين»، وحديث بهز بن حكيم: «أن تفر من شاهق إلى شاهق بدينك»، قال ابن كثير معناه: لا تقاربوهم في المنازل، بحيث تكونوا معهم في بلادهم، بل تباعدوهم، وتهاجروا من بلادهم، ولهذا روى أبو داود فقال: «لا تراءى نارهما». وفي قصة إسلام جرير، لما قال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال: «أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين»، وعن عبد الله بن عمرو، أنه قال: من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبَّه بهم حتى يموت، حشر معهم يوم القيامة. وكلام العلماء في المنع من الإقامة عند المشركين، وتحريم مجامعتهم، ووجوب مباينتهم، كثير معروف، خصوصًا أئمة هذه الدعوة الإسلامية، كالشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأولاده، وأتباعهم من أهل العلم والدين، ففي كتبهم من ذلك ما يكفي ويشفي من {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]. (حكم المقيم في دار تعلوها شعائر الشرك، وتهدم فيها شعائر الإسلام) فمن ذلك ما قال الشيخ عبد اللطيف، في بعض رسائله: إن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر فيها دين الإفرنج والروافض، ونحوهم من المعطلة للربوبية والألوهية، وترفع فيها شعائرهم، ويهدم الإسلام والتوحيد،

ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر، وبيعة الرضوان. فالإقامة بين ظهرانيهم - والحالة هذه - لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، فإن الرضا بهذه الأصول الثلاثة، قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وذلك يتضمن من محبة الله وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه والانحياز إلى أوليائه، ما يوجب البراءة كل البراءة، والتباعد كل التباعد، عمن تلك نحلته وذلك دينه، بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة، لا يجامع هذه المنكرات. انتهى كلامه رحمه الله. (حكم المقيم في بلاد المشركين) وأما السؤال عن حكم المقيم في بلدان المشركين، من المنتسبين إلى الإسلام، فهذا الجنس من الناس مشتركون في فعل ما نهى الله عنه ورسوله، إلاَّ من عذره القرآن في قوله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ} [النساء: 98]، ثم هم مختلفون في المراتب، متفاوتون في الدرجات، بحسب أحوالهم، وما يحصل منهم، من موالاة المشركين، والركون إليهم، فإن ذلك قد يكون كفرًا، وقد يكون دونه، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132]» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (8/ 458 - 462).

المبحث الثالث تعريف دار الشرك، وواجب المسلمين نحوها

المبحث الثالث تعريف دار الشرك، وواجب المسلمين نحوها إذا صار الشرك وتوابعه، فاشيًا في بلد، وبات التحاكم والدعوة فيها لغير الكتاب والسنة، أصبحت الدار دار كفر وشرك بإجماع العلماء المستند لقواعد التنزيل. فالقرآن كله دالّ على ذلك، ومن ثمّ توجَّب على أهلها من المسلمين: البراءة والإنكار لمعتقد أهل الكفر والضلال، وإلاَّ فالفرار الفرار (¬1). قال الشيخ حمد بن عتيق في جوابه لمن ناظره في حكم أهل مكة، وما يقال في البلد نفسه؟ فأجاب بقوله: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، جرت المذاكرة في كون مكة بلد كفر، أم بلد إسلام. فنقول وبالله التوفيق: قد بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد الذي هو دين جميع الرسل، وحقيقته: هو مضمون شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وهو أن يكون الله معبود الخلائق، فلا يتعبَّدون لغيره بنوع من أنواع العبادة، ومخ العبادة هو: الدعاء، ومنها: الخوف والرجاء والتوكل والإنابة والذبح والصلاة وأنواع العبادة كثيرة، وهذا الأصل العظيم هو شرط في صحة كل عمل. والأصل الثاني: هو طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمره، وتحكيمه في دقيق الأمور ¬

(¬1) أخي القارئ: نحب أن نلفت نظرك الكريم إلى أن أحكام الديار والقتال، سنفرد لكل منهما فصلاً مفصلاً - إن شاء الله - في كتاب الأحكام المترتبة على التوحيد والشرك. ولكني آثرت ذكرهما ههنا بنوع من الاختصار، حفاظًا على الوحدة الموضوعية، وحتى تكتمل الصورة بوضوح في معنى الشرك، والأحكام المترتبة عليه، بدلاً من أن تخرج باهتة بلا مضمون، ودون واقع عملي محسوس ملموس.

وجليلها، وتعظيم شرعه ودينه، والإذعان لأحكامه في أصول الدين وفروعه. (فالأول): ينافي الشرك ولا يصح مع وجوده. (والثاني): ينافي البدع ولا يستقيم مع حدوثها، فإذا تحقق وجود هذين الأصلين علمًا وعملاً ودعوة، وكان هذا دين أهل البلد، أي بلد كان بأن عملوا به، ودعوا إليه، وكانوا أولياء لمن دان به، ومعادين لمن خالفه فهم موحِّدون. وأما إذا كان الشرك فاشيًا مثل: دعاء الكعبة والمقام والحطيم، ودعاء الأنبياء والصالحين، وإفشاء توابع الشرك مثل: الزنا والربا وأنواع الظلم ونبذ السنن وراء الظهر، وفشو البدع والضلالات، وصار التحاكم إلى الأئمة الظلمة ونواب المشركين، وصارت الدعوة إلى غير القرآن والسنة، وصار هذا معلومًا في أي بلد كان، فلا يشك من له أدنى علم أن هذه البلاد محكوم عليها بأنها: بلاد كفر وشرك، لا سيما إذا كانوا معادين أهل التوحيد، وساعين في إزالة دينهم وفي تخريب بلاد الإسلام. وإذا أردت إقامة الدليل على ذلك وجدت القرآن كله، فيه، وقد أجمع عليه العلماء فهو معلوم بالضرورة عند كل عالم. وأما قول القائل ما ذكرتم من الشرك إنما هو من الأفاقية (¬1)، لا من أهل البلد. فيقال له أولاً: هذا إما مكابرة، وإما عدم علم بالواقع. فمن المتقرر أن أهل الآفاق تبع لأهل تلك البلاد في دعاء الكعبة والمقام والحطيم، كما يسمعه كل سامع ويعرفه كل موحد. ويقال ثانيًا: إذا تقرر وصار هذا معلومًا فذاك كاف في المسألة، ومن الذي فرق في ذلك، ويا لله العجب إذا كنتم تخفون توحيدكم في بلادكم، ولا تقدرون أن تصرِّحوا بدينكم، وتخافتون بصلاتكم لأنكم علمت عداوتهم ¬

(¬1) أي: الذين يأتون إلى مكة المكرمة زائرين، لا أهل البلد الأصليين.

لهذا الدين، وبغضهم لمن دان به، فكيف يقع لعاقل إشكال، أرأيتم لو قال رجل منكم لمن يدعو الكعبة أو المقام أو الحطيم، ويدعو الرسول والصحابة: يا هذا لا تدع غير الله، أو أنت مشرك، هل تراهم يسامحونه أم يكيدونه؟ فليعلم المجادل أنه ليس على توحيد الله، فوالله ما عرف التوحيد ولا تحقق بدين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. أرأيت رجلاً عندهم قائلاً لهؤلاء: راجعوا دينكم أو اهدموا البناءات التي على القبور، ولا يحل لكم دعاء غير الله، هل ترى يكفيهم فيه فعل قريش بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لا والله لا والله. وإذا كانت الدار: دار إسلام - لأي شيء - لِمَ تدعوهم إلى الإسلام وتأمرهم بهدم القباب واجتناب الشرك وتوابعه؟ فإن يكن قد غرَّكم أنهم يصلون أو يحجون أو يصومون ويتصدَّقون، فتأملوا: الأمر من أوله، وهو أن التوحيد قد تقرر في مكة بدعوة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، ومكث أهل مكة عليه مدة من الزمان، ثم إنه فشا فيهم الشرك بسبب عمرو بن لحي، وصاروا مشركين، وصارت البلاد بلاد شرك، مع أنه قد بقي معهم أشياء من الدين، وكما كانوا يحجُّون ويتصدقون على الحاج وغير الحاج. وقد بلغكم شعر عبد المطلب (¬1) الذي أخلص فيه في قصة الفيل، وغير ¬

(¬1) قام عبد المطلب، فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه على أبرهة، فقال عبد المطلب، وهو آخو بحلقة باب الكعبة. يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا فناكا وله شعر آخر في هذا الأمر، لا يدعو فيه إلاَّ الله وحده، ولا يستنصر فيه أحدًا سواه. انظر: الكامل في التاريخ للإمام ابن الأثير: (1/ 343، 344) ذكر أمر الفيل: تحقيق عبد الله القاضي - دار الكتب العلمية - الطبعة الثانية 1415 هـ، 1995 م.

ذلك من البقايا ولم يمنع الزمان - أي: أن وقتهم وقت فترة والله أعلم - ذلك من تكفيرهم وعداوتهم، بل الظاهر عندنا وعند غيرنا أن شركهم اليوم أعظم من ذلك الزمان، بل قبل هذا كله أنه مكث أهل الأرض بعد آدم عشرة قرون على التوحيد، حتى حدث فيهم الغلو في الصالحين فدعوهم مع الله فكفروا، فبعث الله إليهم نوحًا - عليه السلام - يدعو إلى التوحيد. فتأمل ما قص الله عنهم، وكذا ما ذكر الله عن هود - عليه السلام - أنه دعاهم إلى إخلاص العبادة لله لأنهم لم ينازعوه في أصل العبادة، وكذلك إبراهيم دعا قومه إلى إخلاص التوحيد وإلاَّ فقد أقروا لله بالإلهية. وجماع الأمر أنه إذا ظهر في بلد دعاء غير الله، وتوابع بذلك، واستمر أهلها عليه، وقاتلوا عليه، وتقررت عندهم عداوة أهل التوحيد، وأبوا عن الانقياد للدين فكيف لا يحكم عليهما بأنها بلد كفر؟ ولو كانوا لا ينتسبون لأهل الكفر، وأنهم منهم بريئون مع مسبتهم لهم، وتخطئتهم لمن دان به، والحكم عليهم بأنهم خوارج أو كفار، فكيف إذا كانت هذه الأشياء كلها موجودة؟ فهذه مسألة عامة كلية. وأما القضايا الجزئية فنقول: قد دل القرآن والسنَّة على أن المسلم إذا حصلت منه موالاة أهل الشرك، والانقياد لهم، ارتد بذلك عن دينه. فتأمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد: 25، 26]، مع قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وأمعن النظر في قوله تعالى {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140]» (¬1). ¬

(¬1) «مجموع الرسائل والمسائل النجدية»: (1/ 742 - 745).

المبحث الرابع وجوب قتال المشركين حتى يكون الدين كله لله

المبحث الرابع وجوب قتال المشركين حتى يكون الدين كله لله يجب قتال المشركين، حتى ينخلعوا من الشرك، ويُخلصوا أعمالهم لله، ويلتزموا أحكامه، فإن أبوا ذلك، أو بعضه قوتلوا إجماعًا، وعلى ذلك جرد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سيوف الجهاد لقتال المشركين، فالقتال دائر مع الشرك حيث دار، حتى يكون الدين كله لله، ويلنزم العباد دين الله القويم، ويسلكوا صراطه المستقيم. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال: 39]، وقال: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]. أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتُلوا إجماعًا. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقها وحسابهم على الله». وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقها وحسابهم على الله»، وهذان الحديثان تفسير الآيتين: آية الأنفال، وآية براءة.

وقد أجمع العلماء على أن من قال: «لا إله إلاَّ الله»، ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمقتضاها، أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات. قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله في قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله»: معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان، دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: «لا إله إلاَّ الله» ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف. وقال القاضي عياض: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: «لا إله إلاَّ الله» تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في عصمته بقول: «لا إله إلاَّ الله» إذ كان يقولها في كفره. انتهى ملخصًا. وقال النووي: لا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الرواية «ويؤمنوا بي وبما جئت به». وقال شيخ الإسلام، لما سئل عن قتال التتار فقال: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين ببعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة - رضي الله عنه - مانعي الزكاة، وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم. قال: فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال أو الخمر أو الميسر أو، نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة

بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء. قال: وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام. انتهى» (¬1). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «اعلم وفَّقنا الله وإياك للإيمان بالله ورسوله: أن الله سبحانه قال في كتابه: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]. فتأمل هذا الكلام: أن الله أمر بقتلهم وحصرهم، والقعود لهم كل مرصد، إلى أن يتوبوا من الشرك، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وأيضًا فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلاَّ بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى». فهذا كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجمع العلماء عليه من كل مذهب، وخالف ذلك من هؤلاء الجهال، الذين يسمون العلماء، فقالوا: من قال لا إله إلاَّ الله، فهو المسلم حرام الدم والمال، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام من حديث جبريل - لما سأله عن الإسلام - فقال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً» فهذا تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهؤلاء يقولون: إن البدو إسلام، لأنهم يقولون: لا إله إلاَّ الله، فمن سمع كلامهم، وسمع كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا بد له من أحد أمرين، إما أن يصدق الله ورسوله، ويتبرأ منهم ويكذبهم، وإما أن يصدقهم، ويكذب الله ورسوله، فنعوذ بالله من ذلك، والله أعلم .... ¬

(¬1) «فتح المجيد»: (ص 112، 113).

وقال أيضًا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: الذي أقروا أن التوحيد أكبر من كل كبير، واختلفوا هل نقاتل من لم يتركه، وإذا قال لا إله إلاَّ الله وانتسب إلى الملة، فحكم الكتاب بينهم بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال: 39]، وقال الله تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]» (¬1). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله تعالى، مبينًا سبب قتال المشركين في أثناء شرحه على كتاب التوحيد: قوله: «من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله»، اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث علق عصمة والمال والدم بأمرين: الأول: قول لا إله إلاَّ الله. الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها. قلت: وقد أجمع العلماء على معنى ذلك، فلا بد في العصمة من الإتيان بالتوحيد، والتزام أحكامه، وترك الشرك، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال: 39]، والفتنة هنا: الشرك، فدل على أنه إذا وجد الشرك، فالقتال باق بحاله كما قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [الأنفال: 39]. وقال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]. فأمر بقتالهم على فعل التوحيد وترك الشرك، وإقامة شعائر الدين ¬

(¬1) الدرر السنية (9/ 237، 238).

الظاهر، فإذا فعلوها خلي سبيلهم، ومتى أبوا عن فعلها أو فعل شيء منها، فالقتال باق بحاله إجماعًا، ولو قالوا: لا إله إلاَّ الله. وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّق العصمة بما علَّقها الله به في كتابه كما في هذا الحديث. وفي «صحيح مسلم»، عن أبي هريرة مرفوعًا: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقها وحسابهم على الله». وفي «الصحيحين» عنه قال: لما توفي رسول الله وكفر من كفر من العرب، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن اقتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله، فمن قال: لا إله إلاَّ الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلاَّ بحقه وحسابه على الله»؟، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلاَّ أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق. لفظ مسلم. فانظر كيف فهم صدِّيق الأمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد مجرد اللفظ بهما من غير إلزام لمعناها وأحكامها، فكان ذلك هو الصواب، واتفق عليه الصحابة، ولم يختلف فيه منهم اثنان إلاَّ ما كان من عمر حتى رجع إلى الحق. وكان فهم الصديق هو الموافق لنصوص القرآن والسنة» (¬1). * * * ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 99 - 101).

ملخص مفيد لأهم مسائل وفوائد الباب الثاني

ملخص مفيد لأهم مسائل وفوائد الباب الثاني - الشرك الأكبر: تشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية. - الشرك الأكبر: جعل شريك لله تعالى فيما يستحقه، ويختص به من العبادة الباطنة والظاهرة. - شرك التعطيل: هو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون، والشرك ومطلق التعطيل متلازمان. - الشرك في الإرادات والنيات؛ فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلد من ينجو منه. - الشرك الأكبر: قبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ومن المحال أن تأتي به أي شريعة من الشرائع. - الشرك الأكبر: سوء ظن بالله، وهو أعظم الذنوب عند الله تعالى. - الشرك الأكبر: لا يغفره الله بغير توبة، ويوجب الخلود في النيران، وليس تحريمه وقبحه بمجرد النهي عنه فقط، بل يستحيل على الله أن يشرعه لعباده. - ما نجا من شَرَك الشرك الأكبر، إلا من جرّد توحيده لله، وتقرب بمقت المشركين إلى الله. - بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بتكفير من لم يتب من الشرك الأكبر، وقتاله، ومعاداته. - الشرك: ثلاثة أنواع: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي. - الشرك الأكبر: هو الذنب الذي لا يغفر، ولا عذر لمكلف في الجهل به، ولا يجوز فيه التقليد، لأن تركه هو أصل الأصول. - أجمع العلماء: أن المرء لا يكون مسلمًا إلا بالتجرد من الشرك الأكبر، والبراءة منه، وممن فعله.

- مشركو العرب كان شركهم في الإلهية، وأما مشركو هذا الزمان فكان في الإلهية والربوبية. - حكم الشيء تابع لحقيقته، لا لاسمه, ولا لاعتقاد فاعله. فالمشرك مشرك شاء أم أبى، وإن فر من تسمية شركه: تألها، وعبادة، وشركًا. - إنما حرم الشرك لقبحه في نفسه، وكونه متضمنًا: مسبة الرب، وتنقصه، وتشبيهه بالمخلوقين ... وهذه المفاسد لا تزول بتغيير اسم الشرك. - الغلو في الصالحين من أسباب المروق من الدين، والكفر برب العالمين. - الشرك قرين الجهل، والتوحيد قرين العلم. - من جعل الملائكة والأنبياء وسائط، يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، فهو كافر بإجماع المسلمين. - دين المشركين عباد الأوثان قائم على إثبات وسائط بين الله وخلقه، كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية. - لبس الحلقة، والخيط، ونحوهما بقصد رفع البلاء أو دفعه، هو من فعل الجاهلية. - تعليق التمائم غير جائز، ولو كانت من القرآن. - التبرك بقبور الصالحين كالتبرك باللات، والتبرك بالأحجار والأشجار كالتبرك بالعزّى ومناة. - السحر عمل شيطاني، وكثير منه لا يتوصل إليه إلا بالشرك، والتقرب إلى الأرواح الخبيثة. - الكهانة شرك، من ادعاها، أو صدق من يدعيها، فقد جعل لله شريكًا فيما هو من خصائصه.

- التطير من جنس الشرك، لكونه تعلُّق على غير الله. - التنجيم كفر برب العالمين. - الاستسقاء بالأنواء من جنس الشرك. - يجب الابتعاد، والحذر من كل لفظ فيه سوء أدب مع الله، لأن هذا يخل بالعقيدة، وينقص التوحيد. - اتفق العلماء: على المنع من التمسح بحجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعدم تقبيلها. - شرار الخلق عند الله: من يتخذون القبور مساجد، وهو من سنن اليهود والنصارى، ومن أعظم أسباب الشرك، وموجبات اللعنة من الله تعالى. - نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن: تجصيص القبور، والبناء عليها، والكتابة. - أجمع العلماء: على حرمة البناء على القبور، ووجوب هدمه. - التوجه بذات المخلوقين في الدعاء، والإقسام بهم على الله بدعة منكرة، ومحدثة في الدين. - شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الذنوب - دون الشرك الأكبر - من أمته، متفق عليها بين عامة الأمة، ولم ينكرها إلا أهل البدع. - المشركون محرومون من الشفاعة بالإجماع. - أسعد الناس بالشفاعة: أهل التوحيد المجرد من تعلقات الشرك، وشوائبه. - عبدت الأصنام بواسطة الشفاعة الشركية. - الفرق بين الشفاعة المثبتة في القرآن والشفاعة المنفية فيه، كالفرق بين التوحيد والشرك، والإيمان والكفر. - من دعا غير الله - فيما لا يقدر عليه إلا الله - فهو مشرك كافر، وإن لم يقصد إلا مجرد التقرب إلى الله، وطلب الشفاعة عنده.

- المشرك أخل بكل شروط «لا إله إلا الله» إلا مجرد التلفظ بها. - الشرك يحبط كل قول وعمل، ويبطله، ويضاد الإيمان بالكلية، وذلك ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. - يأبى الله، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون أن يقال: بإسلام عباد القبور. - من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعًا. - المشركون مخطئون ومتأولون، إلا أنهم لم يعذروا بالخطأ ولا بالتأويل. - أجمع العلماء: على كفر من عبد غير الله، ولو نطق بالشهادتين، وصلى، وصام. - الشرك: أعظم أنواع الكفر، ويعين فاعله به، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل. - المشرك لا تصح إمامته، ولا صلاته، ولا يجوز للمسلم أن يصلي خلفه. - موالاة المسلمين، والبراءة من المشركين، ركن من أركان هذا الدين. - موالاة المشركين ردة عن الدين، وكفر برب العالمين. - يجب قتال المشركين حتى يتوبوا من الشرك إلى التوحيد، ويلتزموا بأحكام الإسلام، فإن أبوا عن ذلك، أو بعضه قوتلوا إجماعًا. - أجمع العلماء على أن من قال: «لا إله إلا الله»، ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها، أنه يقاتل حتى يعمل بما دلّت عليه من النفي والإثبات. - كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها حتى تلتزم تلك الشرائع، وإن كانت ناطقة بالشهادتين، وملتزمة ببقية الشرائع، وهذا بغير خلاف بين العلماء.

الباب الثالث الأحكام المترتبة على مفهوم التوحيد والشرك

الباب الثالث الأحكام المترتبة على مفهوم التوحيد والشرك وفيه تسعة فصول: الفصل الأول: شروط عصمة الدم والمال. الفصل الثاني: حكم الشك في كفر الكافر وصوره. الفصل الثالث: العذر بالجهل. الفصل الرابع: العلاقة بين إقامة الحجة، والكفر وأحكامه. الفصل الخامس: أنواع الكفر وحكم تكفير المعين. الفصل السادس: أحكام الديار. الفصل السابع: أحكام القتال، ومشروعية الجهاد. الفصل الثامن: نواقض الإسلام، وأحكام الردّة والمرتدِّين. الفصل التاسع: أشهر الشبهات المُثارة على أئمة الدعوة، والردّ الوافر عليها.

الفصل الأول شروط عصمة الدم والمال

الفصل الأول شروط عصمة الدم والمال وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: شروط عصمة الدم والمال بين أهل السنة، والمرجئة والخوارج. المبحث الثاني: اللفظ المجرَّد عن المعنى لا يُدخل صاحبه في الإسلام، ومن ثَمَّ كان قتال المشركين مشروعًا حتى الإتيان بالتوحيد مع الانخلاع من الشرك إجماعًا. المبحث الثالث: اقتران النطق بالشهادتين مع فعل الشرك، لا أثر له. المبحث الرابع: من أتى بالتوحيد، ولم يأت بما ينافيه، والتزم شرائع الإسلام، وجب الكف عنه، والحكم له بالإسلام في الظاهر، والله يتولَّى السرائر.

المبحث الأول شروط عصمة الدم والمال بين أهل السنة، والمرجئة والخوارج

المبحث الأول شروط عصمة الدم والمال بين أهل السنة، والمرجئة والخوارج قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: «فلا إله إلاَّ الله، هي: كلمة الإسلام، لا يصح إسلام أحد إلاَّ بمعرفة ما وضعت له، ودلَّت عليه، وقَبوله، والانقياد للعمل به، وهي: كلمة الإخلاص المنافي للشرك، وكلمة التقوى، التي تقي قائلها من الشرك بالله، فلا تنفع قائلها إلاَّ بشروط سبعة: الأول: العلم بمعناها، نفيًا وإثباتًا. الثاني: اليقين، وهو كمال العلم بها، المنافي للشك والريب. الثالث: الإخلاص المنافي للشرك. الرابع: الصدق المانع من النفاق. الخامس: المحبة لهذه الكلمة ولما دلَّت عليه، والسرور بذلك. السادس: القَبول المنافي للرد، فقد يقولها من يعرفها، لكن لا يقبلها ممن دعاه إليها تعصبًا وتكبرًا، كما قد وقع من كثير. السابع: الانقياد بحقوقها، وهي: الأعمال الواجبة إخلاصًا، وطلبًا لمرضاته» (¬1). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرحه على كتاب التوحيد: «إن النطق بكلمتي الشهادة دليل العصمة لا أنه عصمة، أو يقال: هو العصمة لكن بشرط العمل، يدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 246).

ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ ...} [النساء: 94]، ولو كان النطق بالشهادتين عاصمًا لم يكن للتثبت معنى، يدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا} [التوبة: 11]، أي: عن الشرك وفعلوا التوحيد {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، فدل على أن القتال يكون على هذه الأمور، وفيه أن لله تعالى حقوقًا في الإسلام من لم يأت بها لم يكن مسلمًا، كإخلاص العبادة له والكفر بما يعبد من دونه» (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن الجبرين، مبينًا وشارحًا شروط الشهادتين: «ذكر العلماء لكلمة الإخلاص سبعة شروط، نَظَمَها بعضهم بقوله: علم يقين وإخلاص وصدقك مع ... محبة وانقياد والقبول لها وهذه الشروط مأخوذة بالاستقراء والتتبع للأدلة من الكتاب والسنة، وقد أضاف بعضهم إليها شرطًا ثامنًا، ونظمه بقوله: وزيد ثامنها الكفران منك بما ... سوى الإله من الأنداد قد ألها وأخذ هذا الشرط من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله إلاَّ الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه» رواه مسلم. وذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد ثم قال بعده: وهذا من أعظم ما يبيِّن معنى لا إله إلاَّ الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلاَّ الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه ... إلخ. ومعنى هذا الشرط: أن يعتقد بطلان عبادة من سوى الله، وأن كل من ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (92، 93).

صرف شيئًا من خالص حق الله لغيره فهو ضالٌّ مشرك، وأن كل المعبودات سوى الله من قبور وبقاع وغيرها، نشأت من جهل المشركين وخرافاتهم، فمن أقرَّهم على ذلك، أو تردَّد في صوابهم، أو شك في بطلان ما هم عليه فليس بموحِّد، ولو قال: لا إله إلاَّ الله، ولو لم يعبد غير الله» (¬1). وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: «وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار، وظنوا أن من كفَّر من تلفظ بالشهادتين فهو من الخوارج، وليس كذلك، بل التلفُّظ بالشهادتين لا يكون مانعًا من التكفير إلاَّ لمن عرف معناهما، وعمل بمقتضاهما، وأخلص العبادة لله، ولم يشرك به سواه، فهذا تنفعه الشهادتان. وأما من قالهما، ولم يحصل منه انقياد لمقتضاهما، بل أشرك بالله، واتخذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلاَّ الله، وقرَّب لهم القرابين، وفعل لهم ما يفعله أهل الجاهلية من المشركين، فهذا لا تنفعه الشهادتان، بل هو كاذب في شهادته، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. ومعنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله هو: عبادة الله، وترك عبادة ما سواه، فمن استكبر عن عبادته ولم يعبده، فليس ممن يشهد أن لا إله إلاَّ الله، ومن عبده وعبد معه غيره، فليس هو ممن يشهد أن لا إله إلاَّ الله» (¬2). * * * ¬

(¬1) «الكنز الثمين»: (ص 149، 150). (¬2) «الدرر السنية»: (12/ 263، 264).

المبحث الثاني اللفظ المجرد عن المعنى لا يدخل صاحبه في الإسلام ومن ثم كان قتال المشركين مشروعا حتى الإتيان بالتوحيد مع الانخلاع من الشرك إجماعا

المبحث الثاني اللفظ المجرد عن المعنى لا يدخل صاحبه في الإسلام ومن ثم كان قتال المشركين مشروعًا حتى الإتيان بالتوحيد مع الانخلاع من الشرك إجماعًا اللفظ المجرد عن المعنى لا يدخل صاحبه في الإسلام، إلاَّ عند من ورثوا: إرث أعتى فرق الإرجاء، وأما الذين نهلوا من معين السلف، وانتهجوا نهجهم: قولاً، وعملاً واعتقادًا، فقد تقرَّر لديهم أن الإيمان والتوحيد، قول وعمل، ومن ثم فمن أتى بالقول في أي واحد منهما دون العمل فلا يكون مسلمًا ولا مؤمنًا. ولقد انعقد الإجماع على وجوب الإتيان بالتوحيد، مع الانخلاع من الشرك، والبراءة منه، ومن أهله حتى تتحقق عصمة الدم والمال، وتلك هي غاية قتال المسلمين للمشركين يدور معها حيث دارت. قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها، ولا عمل بمقتضاها، لا يكون به المكلف مسلمًا، بل هو حجة على ابن آدم، خلافًا لمن زعم: أن الإيمان مجرد الإقرار، كالكرَّامية ومجرد التصديق كالجهمية» (¬1). وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: وقرَّر الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «أن مجرَّد الإتيان بلفظ الشهادة مع مخالفة ما دلت عليه من الأصول المقررة، ومع الشرك الأكبر في العبادة لا يدخل المكلف في الإسلام. إذ ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 522، 523).

المقصود من الشهادتين: حقيقة الأعمال التي لا يقوم الإيمان بدونها» (¬1). وقال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه التوحيد، وحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله في شرحه عليه: وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال لا إله إلاَّ الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل». وشرح هذه الترجمة: وما بعدها من الأبواب. [الشرح] قوله: «من قال لا إله إلاَّ الله وكفر بما يعبد من دون الله» اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين: الأول: قول «لا إله إلاَّ الله» عن علم ويقين، كما هو قيد في قولها في غير ما حديث كما تقدم. والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها. قلت: وفيه معنى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]. قال المصنف رحمه الله تعالى: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلاَّ الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلاَّ الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع». انتهى. ¬

(¬1) «منهاج التأسيس والتقديس»: (ص 10).

قلت: وهذا هو الشرط المصحح لقوله «لا إله إلاَّ الله» فلا يصح قولها بدون هذه الخمس التي ذكرها المصنف رحمه الله أصلاً، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال: 39]، وقال: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، أمر بقاتلهم حتى يتوبوا من الشرك ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قُوتلوا إجماعًا ... قوله: «وحسابه على الله»، أي: الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقًا جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقًا عذبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهرًا والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه. قلت: وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول «لا إله إلاَّ الله» ولا يكفر بما يُعبد من دون الله فلم يأت بما يعصم دمه وماله، كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث» (¬1). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرحه على كتاب التوحيد: قوله: «من قال لا إله إلاَّ الله وكفر بما يعبد من دون الله». اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث علق عصمة المال والدم بأمرين: الأول: قول لا إله إلاَّ الله. والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله. فلم يكتف باللفظ لمجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها. قلت: وقد أجمع العلماء على معنى ذلك فلا بد في العصمة من الإتيان بالتوحيد، والتزام أحكامه، وترك الشرك كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ ¬

(¬1) «فتح المجيد»: (ص 111 - 113).

تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال: 39] ... وقد أجمع العلماء: على أن من قال لا إله إلاَّ الله، وهو مشرك أنه يقاتل حتى يأتي بالتوحيد» (¬1). وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله، عمَّن يقول: لا إله إلاَّ الله، ويدعو غير الله، هل يحرم ماله ودمه، بمجرد قولها، أم لا؟ فأجاب: لا إله إلاَّ الله كلمة الإخلاص، وكلمة التقوى، والعروة الوثقى، وهي الحنيفية ملة إبراهيم - عليه السلام -، جعلها كلمة باقية في عقبه، وقد تضمنت ثبوت الإلهية لله تعالى، ونفيها عما سواه، والإله هو: الذي تألهه القلوب، محبة وإنابة وتوكلاً، واستعانة ودعاء، وخوفًا ورجاء، ونحو ذلك ... فمن تحقق بمدلول هذه الكلمة العظيمة، من إخلاص العبادة لله تعالى، والبراءة من عبادة ما سواه؛ بالجَنان والأركان، وعمل بما اقتضته من فرائض الإسلام والإيمان، كان معصوم الدم والمال، ومن لا، فلا. قال الله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، فدلت هذه الآية الكريمة، على أن عصمة الدم والمال، لا تحصل بدون هذه الثلاث، لترتبها عليها ترتب الجزاء على الشرط» (¬2). وقال بعض علماء نجد: فلا يعصم دم العبد وماله حتى يأتي بهذين الأمرين: الأول: قول لا إله إلاَّ الله، والمراد: معناها، لا مجرد لفظها، ومعناها: هو توحيد الله بجميع أنواع العبادة. الأمر الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، والمراد بذلك: تكفير المشركين والبراءة منهم، ومما يعبدون مع الله» (¬3). ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (ص 99 - 100). (¬2) «الدرر السنية»: (9/ 349). (¬3) «الدرر السنية»: (9/ 121).

المبحث الثالث اقتران النطق بالشهادتين مع فعل الشرك، لا أثر له

المبحث الثالث اقتران النطق بالشهادتين مع فعل الشرك، لا أثر له من نطق بالشهادتين وهو مقيم على شركه، أو وقع فيه بعد تلفظه بكلمة التوحيد فلا عصمة لدمه وماله، وإن صلَّى وصام، وزعم الإسلام والإيمان ... لأن ما قام به من الشرك يناقض ما تكلَّم به من كلمة التوحيد، ولأنه تكلم بما لم يعمل به، ولم يعتقد ما دلّ عليه. قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: «وأما المسألة الثانية، فقالوا: من قال لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، ولم يصل، ولم يزك، هل يكون مومنًا؟ فنقول: أما من قال لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، وهو مقيم على شركه، يدعو الموتى، ويسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، فهذا كافر مشرك، حلال الدم والمال، وإن قال: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، وصلَّى وصام، وزعم أنه مسلم، كما تقدم بيانه. وأما: إن وحَّد الله تعالى، ولم يشرك به، ولكنه ترك الصلاة، ومنع الزكاة، فإن كان جاحدًا للوجوب، فهو كافر إجماعًا، وأما إن اقر بالوجوب، ولكنه ترك الصلاة تكاسلاً عنها، فهذا قد اختلف العلماء في كفره» (¬1). وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: «فإن كثيرًا من الناس ينتسبون إلى الإسلام، وينطقون بالشهادتين، ويؤدون أركان الإسلام الظاهرة، ولا يكتفى بذلك في الحكم بإسلامهم، ولا تحل ذكاتهم، لشركهم بالله في العبادة بدعاء الأنبياء والصالحين والاستغاثة ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 303).

بهم، وغير ذلك من أسباب الردة عن الإسلام. وهذا التفريق بين المنتسبين إلى الإسلام أمر معلوم بالأدلة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها» (¬1). وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله تعالى: «فالمقصود من لا إله إلاَّ الله: البراءة من الشرك وعبادة غير الله؛ ومشركو العرب يعرفون المراد منها، لأنهم أهل اللسان؛ فإذا قال أحدهم: لا إله إلاَّ الله، فقد تبرأ من الشرك، وعبادة غير الله. فلو قال: لا إله إلاَّ الله، وهو مصر على عبادة غير الله، لم تعصمه هذه، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، أي: شرك. {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال: 39]، وقوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {فَإِن تَابُواْ}، أي: عن الشرك {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له». وهذا معنى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}، أي الطاعة والعبادة (لله) [البقرة: 193]. وهذا معنى لا إله إلاَّ الله، نسأل الله أن يجعلها آخر كلامنا؛ وصلَّى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين» (¬2). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: «إن التهليل إذا صدر من المشرك، حال استمراره على شركه غير معتبر، فوجوده كعدمه، وإنما ينفع إذا قاله: عالمًا بمعناه، ملتزمًا لمقتضاه كما قال تعالى: {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. قال ابن جرير كغيره: وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به» (¬3). ¬

(¬1) «عقيدة الموحدين»: (ص 392). (¬2) «الدرر السنية»: (12/ 130 - 131). (¬3) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (2/ 12، 13).

المبحث الرابع من أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه والحكم له بالإسلام في الظاهر والله يتولى السرائر

المبحث الرابع من أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه والحكم له بالإسلام في الظاهر والله يتولى السرائر لا يصح الإسلام لأحد، حتى يقوم بكلمة التوحيد: علمًا واعتقادًا وقولاً وعملاً، ويحقق الولاء لأهلها، والبراءة من أعدائها. ولكننا نقرِّر مع هذا ونؤكد: أن من أتى بالتوحيد، ولم يأت بما ينافيه، والتزم شرائع الإسلام، وجب الكف عنه، والحكم له بالإسلام في الظاهر، والله يتولي السرائر، فإذا قام به ناقض من نواقض الشهادتين، ارتد بذلك، وارتفعت عنه العصمة بالكلية. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: «لا يصح لأحد إسلام، إلاَّ بمعرفة مادلَّت عليه هذه الكلمة من: نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه، وممن فعله، ومعاداته، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والموالاة في ذلك» (¬1). وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: «وأهل العلم والإيمان لا يختلفون في أن من صدر منه: قول، أو فعل يقتضي كفره، أو شركه، أو فسقه، أنه يحكم عليه بمقتضى ذلك، وإن كان ممن يقر بالشهادتين ويأتي ببعض الأركان. وإنما يكف عن الكافر الأصلي إذا أتى بهما، ولم يتبين منه خلافهما، ومناقضتهما» (¬2). ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل»: (5/ 547). (¬2) «مجموعة الرسائل والمسائل»: (3/ 225).

وقال بعض علماء نجد: «ومعنى لا إله إلاَّ الله: توحيده في عبادته مع التبري من كل معبود سواه كما أخبر الله عن نبيه إبراهيم - عليه السلام - بقوله تعالى: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26، 27] .... وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله إلاَّ الله وكفر بما يعبد من دونه حرم ماله ودمه وحسابه على الله» رواه مسلم. فحينئذٍ من لا يكفر بكل معبود سوى الله لا يحرم دمه وماله، ولا يكون مسلمًا بمجرد التلفظ بلا إله إلاَّ الله إلاَّ إذا أضاف إليها الكفر بما يعبد من دون الله، ولا بمعرفة معناها مع التلفظ بها، بل ولا كونه لا يدعو إلاَّ الله، ولم يكفر بما يعبد من دون الله، لم يكن مسلمًا بذلك فلا يحرم ماله ودمه. فهذا أصل لا مرية فيما تضمنه ولا شك فيه، وأنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه ويعمل له. فإن قيل: قد أنكر - صلى الله عليه وسلم - على أسامة: قتله لمن قال لا إله إلاَّ الله؟ فالجواب: أنه لا شك أن من قال لا إله إلاَّ الله من الكفار، حقن دمه وماله حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله، ولذا أنزل الله في قصته. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الآية [النساء: 94]. فإن تبين التزامه لمعناها، وهو: إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى، كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. وإن تبيَّن خلافه لم يحقن بمجرد التلفظ ماله ودمه، وهكذا كل من أظهر التوحيد، وجب الكف عنه، إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك» (¬1). * * * ¬

(¬1) «مجموع الرسائل والمسائل النجدية»: (5/ 670، 671).

الفصل الثاني حكم الشك في كفر الكافر، وصوره

الفصل الثاني حكم الشك في كفر الكافر، وصوره وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: تكفير المشركين المستند إلى البرهان والدليل، من أعظم دعائم الدين. المبحث الثاني: حكم الشك في كفر الكافر، وصوره ومناطاته، وبأدنى نظر فيها نجد أنها ليست على رتبة واحدة، وحكم واحد مطرد فيها. المبحث الثالث: متى يعذر الشاك في كفر الكافر حتى تقام عليه الحجة، وتبين له الأدلة؟! المبحث الرابع: عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، يوجب الجهاد لأهله.

المبحث الأول تكفير المشركين المستند إلى البرهان والدليل من أعظم دعائم الدين

المبحث الأول تكفير المشركين المستند إلى البرهان والدليل من أعظم دعائم الدين إن تكفير المشركين، المستند إلى البرهان والدليل من: كتاب الله تعالى، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - من أعظم دعائم الدين. فيه ينقمع الشرك والمشركين، وتعلو وتجلو: أعظم أصول الملة المتمثلة في: الكفر بالطاغوت، والبراءة من الشرك وأهله. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في معرض الحديث عن متى يصح التكفير، ومتى لا يصح: «وأما إن كان: المكفِّر لأحد من هذه الأمة، يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان، من كتاب الله وسنة نبيه، وقد رأى كفرًا بواحًا، كالشرك بالله، وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى، أو بآياته، أو رسله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله، ونحو ذلك، فالمكفر بهذا وأمثاله، مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله .... والتكفير: بترك هذه الأصول، وعدم الإيمان بها، من أعظم دعائم الدين، يعرفه كل من كانت له نهمة، في معرفة دين الإسلام (¬1). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «ومعنى الكفر بالطاغوت: أن تبرأ من كل ما يعتقد فيه غير الله، من جني، أو إنسي، أو شجر أو حجر، أو غير ذلك، وتشهد عليه بالكفر والضلال، وتبغضه، ولو كان أنه أبوك، أو أخوك، فأما من قال: أنا لا أعبد إلاَّ ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 121).

الله، وأنا لا أتعرض السادة والقباب على القبور، وأمثال ذلك، فهذا كاذب في قول لا إله إلاَّ الله، ولم يؤمن بالله ولم يكفر بالطاغوت» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى: «وأنت يا من منَّ الله عليه بالإسلام، وعرف أن ما من إله إلاَّ الله، لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق، وأنا تارك ما سواه، لكن لا أتعرض للمشركين، ولا أقول فيهم شيئًا، لا تظن أن ذلك يحصل لك به الدخول في الإسلام، بل: لا بد من بغضهم، وبغض من يحبهم، ومسبَّتهم، ومعاداتهم، كما قال أبوك إبراهيم، والذين معه: {إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ...} الآية [البقرة: 256]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. ولو يقول رجل: أنا ابتع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على الحق، لكن: لا أتعرض اللات، والعزى، ولا أتعرض أبا جهل وأمثاله ما عليَّ منه، لم يصح إسلامه» (¬2). وقال الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد رحمهم الله تعالى، في أثناء جواب لهما، المسألة الحادية عشرة: رجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن لا يعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: أنا مسلم لكن لا اقدر أن أكفر أهل لا إله إلاَّ الله، ولو لم يعرفوا معناها، ورجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن يقول: لا أتعرض ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 109). (¬2) المصدر السابق.

للقباب، وأعلم أنها لا تنفع ولا تضر، ولكن ما أتعرضها. الجواب: أن الرجل لا يكون مسلمًا، إلاَّ إذا عرف التوحيد، ودان به، وعمل بموجبه، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به، وأطاعه فيما نهى عنه، وأمر به، وآمن به وبما جاء به، فمن قال: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال لا أتعرض أهل لا إله إلاَّ الله، ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين الله، أو قال: لا أتعرض للقباب، فهذا لا يكون مسلمًا، بل هو ممن قال الله فيهم: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150، 151]» (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: «لو عرف العبد معنى: لا إله إلاَّ الله، لعرف أن من شك، أو تردد في كفر من أشرك مع الله غيره، أنه لم يكفر بالطاغوت (¬2). اهـ. وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين: «إن فعل مشركي الزمان عند القبور، من دعاء أهل القبور، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والذبح والنذر لهم، وقولنا: إن هذا شرك أكبر، وأن من فعله فهو كافر، والذين يفعلون هذه العبادات عند القبور كفار بلا شك، وقول الجهال: إنكم تكفرون المسلمين فهذا ما عرف الإسلام، ولا التوحيد. والظاهر: عدم صحة إسلام هذا القائل، فإن لم ينكر هذه الأمور التي يفعلها المشركون اليوم، ولا يراها شيئًا فليس بمسلم» (¬3). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 139 - 140). (¬2) «الدرر السنية»: (11/ 523)، بتصرف بسيط. (¬3) «مجموعة الرسائل والمسائل»: القسم الثالث (1/ 644).

المبحث الثاني حكم الشك في كفر الكافر، وصوره ومناطاته، وبأدنى نظر فيها نجد أنها ليست على رتبة واحدة، وحكم واحد مطرد فيها

المبحث الثاني حكم الشك في كفر الكافر، وصوره ومناطاته، وبأدنى نظر فيها نجد أنها ليست على رتبة واحدة، وحكم واحد مطرد فيها قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى في نواقض الإسلام: «الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحَّح مذهبهم كفر» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى: «إن المرتدين افترقوا في ردَّتهم، فمنهم من كذب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجعوا إلى عبادة الأوثان وقالوا: لو كان نبيًا ما مات؛ ومنهم من ثبت على الشهادتين، ولكن أقرَّ بنبوة مسيلمة، ظنًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشركه في النبوة، لأن مسيلمة أقام شهود زور شهدوا له بذلك، فصدقهم كثير من الناس. ومع هذا: أجمع العلماء أنهم مرتدُّون ولو جهلوا ذلك، ومن شك في ردتهم فهو كافر» (¬2). وقال أيضًا رحمه الله: «وما أحسن ما قاله واحد من البوادي، لما قدم علينا، وسمع شيئًا من الإسلام، قال: أشهد أننا كفار - يعني هو وجميع البوادي - وأشهد أن المطوع الذي يسمينا إسلامًا أنه كافر، وصلَّى الله على سيدنا محمد» (¬3). وقال الشيخ أبو بطين رحمه الله تعالى: «وقد أجمع المسلمون: على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى، أو شك ¬

(¬1) «عقيدة الموحدين»: (ص 456). (¬2) «الدرر السنية»: (8/ 118). (¬3) «الدرر السنية»: (8/ 119).

في كفرهم، ونحن نتيقن أن أكثرهم جهال. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى: من سبَّ الصحابة رضوان الله عليهم، أو واحدًا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليًا إله أو نبي، أو أن جبرائيل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. قال: ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلاَّ نفرًا قليلاً لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر» (¬1). وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال محمد بن سحنون أحد الأئمة من أصحاب مالك: أجمع العلماء على أن شاتم الرسول كافر، وحكمه عند الأئمة القتل، ومن شك في كفره، كفر» (¬2). ونقل أيضًا رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: كفر من لم يكفِّر من دان بغير الإسلام، أو شك في كفرهم (¬3). اهـ. وقال أيضًا رحمه الله تعالى: وأما قول من يقول: إن تكلم بالشهادتين ما يجوز تكفيره، وقائل هذا القول لابد أن يتناقض، ولا يمكنه طرد قوله، في مثل من أنكر البعث، أو شك فيه مع إتيانه بالشهادتين، أو أنكر نبوة أحد من الأنبياء الذين سمَّاهم الله في كتابه، أو قال الزنا حلال، أو نحو ذل، فلا أظن يتوقف في كفر هؤلاء وأمثالهم إلاَّ من يكابر ويعاند ... ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (12/ 69، 70). (¬2) «عقيدة الموحدين»، الكلمات النافعة: (ص 238). (¬3) «المصدر السابق»: (ص 269).

فمن قال: إن التلفظ بالشهادتين لا يضر معهما شيء، أو قال: من أتى بالشهادتين وصلَّى وصام لا يجوز تكفيره، وإن عبد غير الله، فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، لأن قائل هذا القول مكذب لله ورسوله؛ وإجماع المسلمين كما قدمنا، ونصوص الكتاب والسنَّة في ذلك كثيرة، مع الإجماع القطعي، الذي لا يستريب فيه من له أدنى نظر في كلام العلماء، لكن التقليد والهوى يعمي ويصم، {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 40]» (¬1). وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله تعالى: «قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: (فصل في بيان ما هو من المقالات كفر) - إلى أن قال -: والفصل البيِّن في هذا: أن كل مقالة صرَّحت بنفي الربوبية، أو الوحدانية، أو عبادة غير الله، أو مع الله، فهي كفر. إلى أن قال: والذين اشركوا بعبادة الأوثان، أو أحد الملائكة، أو الشياطين، أو الشمس، أو النجوم، أو النار، أو أحد غير الله من: مشركي العرب، أو أهل الهند، أو السودان، أو غيرهم. - على أن قال -: أو أن ثمّ للعالم صانعًا سوى الله، أو مدبِّرًا، فذلك كله كفر بإجماع المسلمين، فانظر حكاية إجماع المسلمين على كفر من عبد غير الله من الملائكة، وغيرهم، وهذا ظاهر ولله الحمد. ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، فمن قال: إن من أتى بالشهادتين، وصلَّى وصام لا يجوز تكفيره، أو عبد غير الله، فهذا كافر، ومن شك في كفره فهو كافر - إلى أن قال ـ (¬2): على هذا القول: فهو مكذب لله ولرسوله وللإجماع القطعي» (¬3). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 250). (¬2) هكذا بالأصل: وليس اختصارًا. (¬3) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (1/ 659، 660).

المبحث الثالث متى يعذر الشاك في كفر الكافر حتى تقام عليه الحجة، وتبين له الأدلة؟!

المبحث الثالث متى يعذر الشاك في كفر الكافر حتى تقام عليه الحجة، وتبين له الأدلة؟! قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: ما ذكرتم من قول الشيخ، كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة؛ وأنكم شاكُّون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة؛ فهذا من العجب، كيف تشكُّون في هذا وقد أوضحته لكم مرارًا؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد الإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف. وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال، أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين، لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع - وقد قامت عليهم -، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج، «أينما لقيتموهم فاقتلوهم»، وقوله: «شرُّ قتلى تحت أديم السماء»، مع كونهم في عصر

الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين، هو: التشدد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها. وكذلك قتل علي - رضي الله عنه - الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم على حق. وكذلك إجماع السلف، على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم، لأجل كونهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا. إذا علمتم ذلك: فإن هذا الذي أنتم فيه: كفر، الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون أنه ليس ردة، لعلَّهم ما فهموا الحجة، كل هذا بيِّن. وأظهر مما تقدم: الذين حرَّقهم علي، فإنه يشابه هذا، وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم، فلا يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم، فإن كان معكم بعض الإشكال، فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم، والسلام» (¬1). قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين: «فالمدعي أن مرتكب الكفر: متأوِّلاً، أو مجتهدًا، أو مخطئًا، أو مقلِّدًا، أو جاهلاً، معذور، مخالف للكتاب والسنَّة والإجماع بلا شك، مع أنه لا بد أن ينقض أصله، فلو طرد أصله، كفر بلا ريب، كما لو توقف في تكفير من شك في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونحو ذلك» (¬2). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 93 - 95). (¬2) «الدرر السنية»: (12/ 72، 73).

وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمهما الله تعالى عن: حكم الأفعال الشركية التي تفعل عند القبور، والأعياد المقامة عليها؟ فأجاب: «الجواب وبالله التوفيق: اعلم أن هذه الأفعال، هي من دين الجاهلية، التي بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإنكارها وإزالتها، ومحو آثارها، لأنها من الشرك الأكبر، التي دلت الآيات المحكمات على تحريمه، وهذه الأعياد، تشبه: أعياد الجاهلية، فمن اعتقد جوازه وحله، وأنه عبادة ودين، فهو من أكفر خلق الله وأضلهم، ومن شك في كفره بعد قيام الحجة عليهم، فهو كافر» (¬1). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله تعالى: «وأما قول السائل: فإن كان ما يقدر من نفسه أن يتلفظ بكفرهم وسبِّهم - أي في أهل بلد مرتدين، وهكذا كان نص السؤال - ما حكمه؟ فالجواب: لا يخلو ذلك عن أن يكون شاكًا في كفرهم أو جاهلاً به، أو يقر بأنهم كفرة هم وأشباههم، ولكن لا يقدر على مواجهتهم وتكفيرهم أو يقول: غير كفار، لا أقول إنهم كفار؛ فإن كان شاكًا في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم، بينت له الأدلة من كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردَّد، فإنه كافر بإجماع العلماء، على أن من شك في كفر الكافر، فهو كافر. وإن كان يقر بكفرهم، ولا يقدر على مواجهتهم بتكفيرهم، فهو مداهن لهم، ويدخل في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، وله حكم أمثاله من أهل الذنوب. وإن كان يقول: أقول غيرهم كفار، ولا أقول هم كفار، فهذا حكم منه بإسلامهم، إذ لا واسطة بين الكفر والإسلام، فإن لم يكونوا كفارًا فهم ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 439، 440).

مسلمون؛ وحينئذ فمن سمى الكفر إسلامًا، أو سمى الكفار مسلمين، فهو كافر فيكون هذا كافرًا» (¬1). وقال أعضاء اللجنة الدائمة بعد أن تكلموا عن أحوال المشركين وأحكامهم، وبيَّنوا أن أصل الدين لا يقبل الاجتهاد فيه، وإنما يقع فيما دونه من الفروع العملية الظنية: «وبذا يعلم أنه لا يجوز لطائفة الموحدين، الذين يعتقدون كفر عباد القبور أن يكفروا إخوانهم الموحدين، الذين توقفوا في كفرهم حتى تقام عليهم الحجة، لأن توقفهم عن تكفيرهم له شبهة، وهي: اعتقادهم أنه لا بد من إقامة الحجة على أولئك القبوريين قبل تكفيرهم، بخلاف من لا شبهة في كفره كاليهود والنصارى والشيوعيين وأشباههم، فهؤلاء لا شبهة في كفرهم ولا في كفر من لم يكفرهم، والله ولي التوفيق. ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يعيذنا وإياهم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن القول على الله سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم إنه ولي ذلك والقادر عليه». اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز (¬2) ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (8/ 160، 161). (¬2) «فتاوى اللجنة الدائمة»: (2/ 99، 100).

المبحث الرابع عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، يوجب الجهاد لأهله

المبحث الرابع عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، يوجب الجهاد لأهله إن مما يوجب الجهاد لمن اتصف به: عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، لأن ذلك من نواقض الإسلام ومبطلاته، ومما تزول به عصمة الدم والمال. ومن ثم كان من أعظم حقوق المسلمين على ولي أمرهم أن يتولى بنفسه: القضاء على فتنة الذين ينهون عن تكفير المشركين، لئلا تتجرأ السفلة من عامة الأمة على الشك، والردة عن أصول الدين، بسبب أمنهم من سيف الشرع المسلول على رءوس المشركين والمرتدين. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى في رسالة بعث بها إلى إمام وقته فيصل بن تركي، يذكره فيها ببعض واجبات الإمامة: «وكذلك يجب على ولي الأمر أن يقدم على من نسب عنه طعن وقدح في شيء من دين الله ورسوله، أو تشبيه على المسلمين في عقائدهم ودينهم، مثل: من ينهى عن تكفير المشركين، ويجعلهم من خير أمة أخرجت للناس لأنهم يدَّعون الإسلام، ويتكلَّمون بالشهادتين. وهذا الجنس ضرره على الإسلام خصوصًا على العوام ضرر عظيم يخشى منه الفتنة، وأكثر الناس لا علم له بالحجج التي تنفي شبه المشبهين وزيغ الزائغين، بل تجده والعياذ بالله سلس القياد لكل من قاده أو دعاه، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا على ركن وثيق أقرب شبهًا بهم: الأنعام السارحة» (¬1). ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»، تكملة رسائل عبد الرحمن ابن حسن: (2/ 7).

وقال بعض علماء نجد في بيان بعض الأمور التي يوجب كل واحد منها جهاد أهله: «الأمر الثاني: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به، عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، فإن ذلك من نواقض الإسلام ومبطلاته، فمن اتصف به فقد كفر، وحل دمه وماله، ووجب قتاله حتى يكفر المشركين. والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله إلاَّ الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه»، فعلق عصمة المال والدم بأمرين: الأمر الأول: قول: لا إله إلاَّ الله. الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله. فلا يعصم دم العبد وماله، حتى يأتي بهذين الأمرين، الأول قوله: لا إله إلاَّ الله، والمراد معناها لا مجرد لفظها، ومعناها: هو توحيد الله بجميع أنواع العبادة؛ الأمر الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، والمراد بذلك تكفير المشركين، والبراءة منهم، ومما يعبدون مع الله. فمن لم يكفر المشركين من الدولة التركية، وعباد القبور، كأهل مكة وغيرهم، ممن عبد الصالحين، وعدل عن توحيد الله إلى الشرك، وبدل سنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالبدع، فهو كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم، ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين؛ فإن الذي لا يكفر المشركين، غير مصدق بالقرآن، فإن القرآن قد كفَّر المشركين، وأمر بتكفيرهم وعداوتهم وقتالهم. قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله في نواقض الإسلام؛ الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحَّح مذهبهم، كفر؛ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من دعا علي بن أبي طالب، فقد كفر، ومن شك في كفره فقد كفر» (¬1). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (9/ 291، 292).

الفصل الثالث العذر بالجهل

الفصل الثالث العذر بالجهل وفيه سبعة مباحث: المبحث الأول: الزمان، زمان فترة. المبحث الثاني: حكم من مات في الفترة مشركًا، ولم تقم عليه حجة البلاغ. المبحث الثالث: من عبد غير الله فليس بمسلم، ولو كان جاهلاً ولم تقم عليه حجة البلاغ، مع استعراض لأحكام الناس قبل ظهور دعوة الشيخ في الدارين. المبحث الرابع: مقتطفات من رسالتين لإمامين من أئمة الدعوة في حكم العذر بالجهل. المبحث الخامس: الأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على ثبوت وصف الشرك، وحكمه لمن وقع في عبادة غير الله، ولو كان جاهلاً أو متأوِّلاً، ولم تقم عليه حجة البلاغ. المبحث السادس: حرمة الشرك الأكبر وفاقية التحريم، وإجماعية المنع والتأثيم، ولا توجد شبهة سائغة عليها تدرأ حكم الكفر عن أصحابها، ومن ثم انتفى العذر بالجهل فيها. المبحث السابع: العذر بالخطأ في الشرك الأكبر، يلزم منه عدم تكفير طوائف من الكفار والزنادقة قد أجمعت الأمة على كفرها، وكفر من شك في كفرها، مع بيان أن الحكم بإسلام المشركين الجاهلين ليس عليه دليل إلا مجرد الدعوى المجردة.

المبحث الأول الزمان، زمان فترة

المبحث الأول الزمان، زمان فترة لقد لحق زمان الإمام محمد بن عبد الوهاب وأحفاده بزمان أهل الفترة، وذلك لبعد العهد، وغربة الدين، وعجمة اللسان، التي حالت دون الفهم والبيان. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في رسالة بعث بها إلى علي بن حمد بن سليمان جاء فيها: «والزمان: زمان فترة، يشبه زمن الجاهلية، وإن كانت الكتب موجودة، فهي لا تغني ما لم يساعدهم التوفيق، وتؤخذ المعاني والحدود والأحكام، من عالم رباني» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى في رسالة بعث بها إلى بعض إخوانه من المسلمين: «وقد منَّ الله عليكم رحمكم الله في هذا الزمن، الذي غلبت فيه الجهالات، وفشت بين أهله الضلالات، والتحق بعصر الفترات، من يجدد لكم أمر هذا الدين، ويدعو إلى ما جاء به الرسول الأمين، من الهدى الواضح المستبين، وهو شيخ الإسلام والمسلمين، ومجدِّد ما اندرس من معالم الملة والدين، الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فبصَّر العدد العديد من العماية، وهدى بما دعا إليه من الضلالة، وأغنى بما فتح عليكم وعليه من العالة، وحصل من العلم ما يستعبد على أمثالكم في العادة، حتى ظهرت الحجة البيضاء، التي كان عليها صدر هذه الأمة وأئمتها» (¬2). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (121/ 370، 137). (¬2) «مجموعة الرسائل والمسائل»: (4/ 437).

المبحث الثاني حكم من مات في الفترة مشركا ولم تقم عليه حجة البلاغ

المبحث الثاني حكم من مات في الفترة مشركًا ولم تقم عليه حجة البلاغ قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين في رسالة بعث بها، إلى عبد الرحمن بن محمد بن نافع: وأما حكم من مات في زمان الفترات ولم تبلغه دعوة رسول، فالله سبحانه أعلم بهم، واسم الفترة لا يختص بأمة دون أمة كما قال الإمام أحمد في خطبة على الزنادقة والجهمية: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، ويروى هذا اللفظ عن عمر - رضي الله عنه -. والكلام في حكم أهل الفترة لسنا مكلفين به، والخلاف في المسألة معروف، لما تكلم في الفروع على حكم أطفال المشركين، وكذا من بلغ منهم مجنونًا، قال: ويتوجه مثلهما من لم تبلغه الدعوة وقاله: شيخنا. وفي الفنون عن أصحابنا: لا يعاقب، وذكر عن ابن حامد يعاقب مطلقًا إلى أن قال القاضي أبو يعلى في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وفي هذا دليل أن عرفة الله لا تجب عقلاً (¬1)، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك لم يقطع عليه بالنار. انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في طبقات المكلفين: الطبقة الرابعة عشر (¬2): قوم لا طاعة لهم ولا معصية ولا كفر ولا إيمان، ¬

(¬1) أي: الوجوب المستحق به العقوبة على المخالفة، وامض إلى آخر كلام القاضي: تجده فيه. (¬2) امتحان المشركين، من أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الدعوة يوم القيامة قبل تحديد مصيرهم، دليل قاطع على كونهم غير مسلمين، إذ لو كانوا كذلك لدخلوا الجنة دون سابق امتحان، وكذلك لم يكونوا كافرين، الكفر المعذب عليه، إذ لو كانوا كذلك، لدخلوا النار، دون عقد امتحان. واعتذارهم عن شركهم، بين يدي علاَّم الغيوب سبحانه، دليل على مخالفتهم لحجة - على الأقل - وإلاَّ فمن أي شيء يكون الاعتذار؟!! أخي الحبيب: اصغ لهذا التفصيل، تجد بفضل العليم الخبير، انسياب الأدلة وتدفقها بسهولة ويسر وسلاسة على موارده، دون منازعة ولا ممناعة. وإن شئت أن ترجع إلى كتابيَّ: العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي، وآثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد، تجد فيهما إن شاء الله الأدلة الواضحة على تلك المسألة. والله ولي التوفيق.

قال: وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع لها بخبر، ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئًا، ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئًا أبدًا، ومنهم أطفال المشركين، الذين ماتوا قبل أن يميِّزوا شيئًا. فاختلفت الأمة في حكم هذه الطبقة اختلافًا كثيرًا، وذكر الأقوال واختار ما اختاره شيخه أنهم يكلفون يوم القيامة، واحتج بما رواه أحمد في مسنده عن الأسود بن سريع مرفوعًا قال: «أربعة يمتحنون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة». أما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وأنا ما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أعقل، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني من رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنَّه، فيرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا»، ثم رواه من حديث أبي هريرة بمثله وزاد في آخره، ومن لم يدخلها رد إليها. انتهى. وذكر ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، قال: وهنا مسألة اختلف الأئمة فيها، وهي مسألة الولدان، الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار، وكذا المجنون والأصم والخرف ومن مات

في الفترة، وقد روي في شأنهم أحاديث أنا ذاكرها بعون الله، وتوفيقه. ثم ذكر في المسألة: عشرة أحاديث افتتحها بالحديث الذي ذكرناه ثم اشار إلى الخلاف. ثم قال: ومن العلماء من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة، فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه، ومن عصى دخل النار وانكشف علم الله فيه، وهذا القول يجمع بين الأدلة. وقد صرَّحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة، الشاهد بعضها لبعض، وهذا قول حكاه الأشعري عن أهل السنة، ثم رد قول من عارض ذلك بأن الآخرة ليست بدار تكليف إلى أن قال: ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة، وقد يتكلم فيها من لا علم عنده، كره جماعة من العلماء الكلام فيها، روي ذلك عن ابن عباس وابن الحنفية والقاسم ابن محمد وغيرهم. قال: وليعلم أن الخلاف في الولدان مخصوص بأولاد المشركين. فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء، حكاه القاضي أبو يعلى الحنبلي عن الإمام أحمد أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة. فأما ما ذكره ابن عبد البر أنهم توقفوا في ذلك، وأن الولدان كلهم تحت المشيئة، وهو يشبه ما رسم مالك في موطَّئِه في أبواب القدر فهذا غريب جدًا، وذكر القرطبي في التذكرة نحوه» (¬1). * * * ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل»: (1/ 211 - 213).

المبحث الثالث من عبد غير الله فليس بمسلم، ولو كان جاهلا ولم تقم عليه حجة البلاغ، مع استعراض لأحكام الناس قبل ظهور دعوة الشيخ في الدارين

المبحث الثالث من عَبَد غير الله فليس بمسلم، ولو كان جاهلاً ولم تقم عليه حجة البلاغ، مع استعراض لأحكام الناس قبل ظهور دعوة الشيخ في الدارين فعل التوحيد وترك الشرك، هو أصل الأصول الاعتقادية، والحجة على الناس فيه قامت بالرسول والقرآن. عبَّاد القبور، وإن كانوا جاهلين ومتأوِّلين، فليسوا بمسلمين عند شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأحفاده، امتدادًا لمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام ابن القيم، ولذلك عندما يطلقون القول بالعذر، فهو مقيد بعبَّاد القبور وأمثالهم من المشركين، لعدم دخولهم في عداد المسلمين لديهم. ولقد كانت أحكام الناس قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، على النحو الآتي: من كان عاملاً بالإسلام، وتاركًا للشرك، فهو مسلم. ومن كان واقعًا في عبادة الله سبحانه، فهذا ظاهره الكفر، ونفوِّض حكمه في الباطن (¬1) إلى الله تعالى، لاحتمال كونه لم تقم عليه حجة البلاغ. فإن مات على ذلك، فلا يتصدق عنه، ولا يضحَّى له، ولا يُستغفر له، ولا يحكم ببراءة ذمته من الطاعات، كالحج مثلاً، إن قام به حال شركه، لأن تحقيق الإسلام شرط من شروط قبول الطاعات، وهو منتف لديه. ومن مات منهم مجهول الحال فلا يحكمون بإسلامه، لأنه لم يكن أصلاً لديهم للحكم به على أقوامهم، وكذا لا يحكمون بكفره، لأنهم يعتقدون ¬

(¬1) المقصود بحكم الباطن هنا: أي الكفر المعذب عليه في الآخرة.

أن الله لم يكلفهم بذلك. فمن كان منهم مسلمًا، أدخل الله الجنة، ومن كان كافرًا في الظاهر والباطن، خلَّده في ناره، ومن لم تقم عليه الحجة، وكان واقعًا في الشرك الأكبر، فحكمه حكم أهل الفترات، وليس بمسلم على أية حال. وكذلك حكم أئمة الدعوة في أموال أهل زمانهم: بحكم أموال الكفار الأصليين، أي: يستحقون التوارث فيما بينهم، ثم من اسلم منهم على شيء من المال فهو له، ولم يقولوا: بردة أقوامهم، لأن المرتد لا يرث، ولا يورث، لأن طرد ذلك القول: يجعل جميع أمول الكفار في زمانهم مستحقة لبيت المال، لأنهم مرتدون، وورثوها عن آبائهم المرتدين، وكذا الأموال التي بأيدي المسلمين، حتى يُثبت أحدهم أن أباه لم يكن مرتدًا. وكذلك سلك أئمة الدعوة مع أقوامهم في الدعوة والقتال: مسلك الكفار الأصليين، الذي لم تقم عليهم حجة البلاغ، فلا يقاتلونهم حتى يبلغوهم إياها، فمن قبلها ودان بالإسلام قاتلوا به من وراءه، ومن أباها، قاتلوه قتال المشركين، ولما تحققوا من ظهور دعوتهم، وبلوغها لمن حولهم من الديار لم يتوجب عليهم الدعوة قبل القتال. ولقد وردت أسئلة على أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحمد ابن ناصر رحمهم الله جميعًا منها جاء فيها: «وأما السؤال الثالث، وهو قولكم ورد: «الإسلام يهدم ما قبله» وفي رواية: «يجبُّ ما قبله»، وفي حديث حجة الوداع: «ألا إن دم الجاهلية كله موضوع» إلخ، وظهر لنا من جوابكم: أن المؤمن بالله ورسوله، إذا قال أو فعل ما يكون كفرًا، جهلاً منه بذلك، فلا تكفرونه حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله، قبل ظهور هذه الدعوة، موضوع أو لا؟

فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك، لجهله، أو عدم من ينبهه، بل لانحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن لا نحكم بأنه مسلم، بل نقول: عمله هذا كفر، يبيح المال والدم، وإن كان لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه، لا يقال إن لم يكن كافرًا فهو مسلم، بل نقول عمله عمل الكفار، وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه، متوقف على بلوغ الحجة الرسالية، وقد ذكر أهل العلم: أن أصحاب الفترات، يمتحنون يوم القيامة في العرصات، ولم يجعلوا حكمه حكم الكفار، ولا حكم الأبرار. وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام جبَّ ما قبله، لأن القاتل قتله في حال كفره، والله سبحانه وتعالى أعلم .... وأما قولكم: وهل ينفع هذا المؤمن المذكور، ما معه من أعمال البر، وأفعال الخير، قبل تحقيق التوحيد؟ فيقال لا يطلق على الرجال المذكور اسم الإسلام، فضلاً عن الإيمان، بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر، أو يعتقده في حال جهله، وعدم من ينبهه، إذا فعل شيئًا من أفعال البر، وأفعال الخير، أثابه الله على ذلك، إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام: «أسلمت على ما أسلفت من خير». وأما الححج الذي فعله في تلك الحالة، فلا نحكم ببراءة ذمته، بل نأمره بإعادة الحج، لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته: الإسلام، فكيف نحكم بصحة حجة وهو يفعل الكفر، أو يعتقده؟ ولكنا لا نكفره إلاَّ بعد قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة وسلك سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج، ليسقط الفرض عنه بيقين» (¬1). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 136 - 138).

وسئل الشيخ حمد بن ناصر رحمه الله تعالى: عن قول الفقهاء، إن المرتد لا يرث ولا يورث، فكفار أهل زماننا هل هم مرتدُّون؟ أن حكمهم حكم عبدة الأوثان، وأنهم مشركون؟ فأجاب: «أما من دخل في دين الإسلام ثم ارتد، فهؤلاء مرتدون، وأمرهم عندك واضح، وأما من لم يدخل في دين الإسلام، بل أدركته الدعوة الإسلامية، وهو على كفره، كعبدة الأوثان، فحكمه حكم الكفار الأصلي، لأنا لا نقول الأصل إسلامهم، والكفر طارئ عليهم. بل نقول: الذين نشؤوا بين الكفار، وأدركوا آباءهم على الشرك بالله، هم كآبائهم، كما دل عليه الحديث الصحيح في قوله «فأبواه يهوِّدانه، أو ينصرِّانه، أو يمجِّسانه»، فإن كان دين آبائهم الشرك بالله، فنشأ هؤلاء واستمروا عليه، فلا نقول الأصل الإسلام والكفر طارئ، بل نقول: هم الكفار الأصليون، ولا يلزمنا على هذا تكفير من مات في الجاهلية قبل ظهور الدين، فإنا لا نكفر الناس بالعموم، كما أنما لا نكفر اليوم بالعموم. بل نقول: من كان من أهل الجاهلية عاملاً بالإسلام، تاركًا للشرك، فهو مسلم. وأما من كان يعبد الأوثان، ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين، فهذا ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنه لم تقم عليه الحجة الرسالية، لجهله وعدم من ينبهه، لأنا نحكم على الظاهر، وأما الحكم على الباطن فذلك إلى الله، والله تعالى لا يعذب أحدًا إلاَّ بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. (حكم مجهول الحال) وأما من مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرض له، ولا نحكم

بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]. فمن كان منهم مسلمًا أدخله الله الجنة، ومن كان كافرًا أدخله الله النار. ومن كان منهم لم تبلغه الدعوة، فأمره إلى الله. وقد علمت الخلاف في أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الحجة الرسالية. وأيضًا: فإنه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا، بما حكم به الفقهاء في المرتد: أنه لا يرث ولا يورث، لأن من قال لا يرث ولا يورث، يجعل ماله فيئًا لبيت مال المسلمين، وطرد هذا القول، أن يقال: جميع أملاك الكفار اليوم بيت مال، لأنهم ورثوها عن أهليهم، وأهلوهم مرتدون لا يورثون، وكذلك الورثة مرتدون لا يرثون، لأن المرتد لا يرث ولا يورث. وأما إذا حكمنا فيهم بحكم الكفار الأصليين، لم يلزم شيء من ذلك، بل يتوارثون، فإذا اسلموا فمن أسلم على شيء فهو له، ولا نتعرض لما مضى منهم في جاهليتهم، لا الموارث ولا غيرها» (¬1). وقال الشيخ حمد بن ناصر، رحمه الله تعالى، بعد أن بيَّن أن الله أرسل الرسل لئلا تكون للناس حجة عليه سبحانه بعد إرسالهم، وأن عبادة الله وحده لا شريك له، معلومة بالضرورة من الدين، وأن الحجة عليها بلوغ القرآن، فقال رحمه الله تعالى: «إذا تقرر هذا، فنقول: إن هؤلاء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية، وظاهر حالاهم الشرك، لا نتعرض لهم، ولا نحكم بكفرهم ولا بإسلامهم، بل نقول: من بلغته هذه الدعوة المحمدية، وانقاد لها، ووحَّد الله، وعبده وحده لا شريك له، والتزم شرائع الإسلام، وعمل بما أمر الله به، ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 335 - 337).

وتجنَّب ما نهاه عنه، فهذا من المسلمين الموعودين بالجنة، في كل زمان وفي كل مكان. وأما من كانت حاله حال أهل الجاهلية، لا يعرف التوحيد الذي بعث الله رسوله يدعو إليه، ولا الشرك الذي بعث الله رسوله ينهى عنه، ويقاتل عليه، فهذا لا يقال إنه مسلم لجهله، بل من كان ظاهر عمله الشرك بالله، فظاهره الكفر، فلا يستغفر له ولا يتصدَّق عنه، ونكل حاله إلى الله الذي يبلو السرائر، ويعلم ما تخفي الصدور. (تكفير المعين: أي: الكفر المعذب عليه، لا يكون إلاَّ بعد إقامة الحجة) ولا نقول: «فلان مات كافرًا، لأنا نفرق بين المعين وغيره، فلا نحكم على معين بكفر، لأنا لا نعلم حقيقة حاله وباطن أمره، بل نكل ذلك إلى الله، ولا نسب الأموات، بل نقول أفضوا إلى ما قدَّموا، وليس هذا من الدين الذي أمرنا الله به، بل الذي أمرنا به أن نعبد الله وحده ولا نشرك به، ونقاتل من أبى عن ذلك، بعد ما ندعوه إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أصرَّ وعاند كفَّرناه، وقاتلناه» (¬1). وقال الشيخان حسين وعبد الله ابنا محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع، في الجواب على مسألة وردت عليهم، ضمن مسائل عدة: (المسألة الثالثة عشرة): فيمن مات قبل هذه الدعوة، ولم يدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم يفعلها، ولم تقم عليه الحجة ما الحكم فيه؟ وهل يلعن أو يسب أو يكف عنه؟ وهل يجوز لابنه الدعاء له؟ وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة، وبين من أدركها، ومات معاديًا لهذا الدين وأهله؟ الجواب: أن من مات من أهل الشرك، قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه أنه إذا كان معروفًا بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك فهذا ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (11/ 75 - 77).

ظاهره أنه مات على الكفر، فلا يدعى له، ولا يضحى له، ولا يتصدق عليه. وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى، فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته، وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى. وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سبُّ الأموات مطلقًا، كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا»، إلاَّ إن كان أحد من أئمة الكفر وقد اغتر الناس به فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية، والله أعلم (¬1). وقال الشيخ عبد العزيز (قاضي الدرعية)، ومن حوله من العلماء، في رسالتهم المسمَّاة: (المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية): وأما السؤال الثالث وهو قولكم: قد ورد: «الإسلام يهدم ما قبله»، وفي رواية: «يجبُّ ما قبله» وفي حديث حجة الوداع: «ألا إن دم الجاهلية كله موضوع» إلخ ... وظهر لنا من جوابكم أن المؤمن بالله ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون كفرًا جهلاً منه بذلك فلا تكفرونه حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله قبل ظهور هذه الدعوة موضوع أو لا؟ فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك لجهله وعدم من ينبهه لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن نحكم بأنه مسلم (¬2)، بل نقول: عمله ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 142). (¬2) هكذا في الأصل، وإن كان السياق يقتضي حتمًا: لكن لا نحكم بأنه مسلم. والدليل على ذلك: قوله بعد هذا: لا يقال إن لم يكن كافرًا فهو مسلم ... ولا أدل على ذلك من هدْر دمه، إذا قوتل في حاله كفره.

هذا كفر يبيح المال والدم. وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه لا يقال: إن لم يكن كافرًا فهو مسلم بل نقول: عمله عمل الكفار وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه متوقف على بلوغ الحجة الرسالية إليه. وقد ذكر أهل العلم أن أصحاب الفترات يُمتحون يوم القيامة في العرَصات، ولم يجعلوا حكمهم حكم الكفار، ولا حكم الأبرار. وأما حكم هذا الشخص إذا قتل ثم أسلم قاتله فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول الإسلام يجبُّ ما قبله؛ لأن القاتل قتله في حال كفره، والله أعلم ... وأما قولكم وهل ينفع هذا المؤمن المذكور ما يصدر منه من أعمال البر وأفعال البر وأفعال الخير قبل تحقيق التوحيد جاهلاً، فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام فضلاً عن الإيمان، بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر، أو يعتقده في حال جهله وعدم من ينبهه، إذا فعل شيئًا من أفعال البر وأفعال الخير أثابه الله على ذلك إذا صحَّح إسلامه وحقَّق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام: «أسلمت على ما أسلفت من خير». وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة فلا نحكم ببراءة ذمته به بل نأمره بإعادة الحج، لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته: الإسلام، فكيف يحكم بصحة حجِّه وهو يفعل الكفر أو يعتقده؟ ولكنا لا نكفِّره لعدم قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة وسلك غير سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج ليسقط الفرض عنه بيقين» (¬1). * * * ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (5/ 574 - 577).

المبحث الرابع مقتطفات من رسالتي لإمامين من أئمة الدعوة في حكم العذر بالجهل

المبحث الرابع مقتطفات من رسالتي لإمامين من أئمة الدعوة في حكم العذر بالجهل وإليكم: بعض مقتطفات من رسائل أئمة الدعوة، التي سطَّروها بأيديهم ليجلوا فيها: حكم من وقع في الشرك الأكبر بجهل وتأويل، ليتقرَّب به إلى الله زلفى في وقت حال فيه: الجهل، وعجمة اللسان، وخفاء العلم، مع شيوع التلبيس والتحريف، عن إقامة الحجة. وقرر هؤلاء الأئمة الأعلام: أن القيام بالتوحيد، والانخلاع من الشرك، هو أصل الأصول الاعتقادية، ولقد قامت الحجة فيه على الناس بالرسول والقرآن. وأن التعريف يكون في: المسائل الخفية دون الجلية. وأن عباد القبور ليسوا بمسلمين، ولا يدخلون في مسمَّى الإسلام، ومن ثم فعندما يطلق الأئمة: النهي عن تكفير المسلمين، فهو مقيد بعبَّاد القبور وأمثالهم من المشركين، لأنهم ليسوا من أهل القبلة، فالشرك الأكبر مناف للتوحيد والإسلام، ومضاد لهما من كل وجه، والعبد يستحيل أن يكون مسلمًا، إلاَّ بفعل التوحيد والتزام أحكامه، مع البراءة والانخلاع من الشرك والمشركين. وأن المشرك الجاهل من هذه الأمة، الذي لم يتمكن من معرفة الحق لعجزه، ولم تقم عليه حجة البلاغ، فحكمه - على أقل الأحوال - حكم أهل الفترات، وليس بمسلم على أية حال. وأن عدم إعذار المشرك بجهله وخروجه من عداد المسلمين، مسألة وفاقية، ولا تشكل إلاَّ على مدخول عليه في اعتقاده. وأنه يلزم من إعذار المشرك بجهله: عدم تكفير اليهود والنصارى. وأن العذاب في الدارين لا يكون إلاَّ بعد بلوغ الحجة.

مقتطفات من الرسالة الأولى (حكم تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة، وفهم الحجة) بقلم: الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلاَّ على الظالمين والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله الأحد الصمد، الذي لا يستغاث في الشدائد ولا يدعى إلاَّ إياه، فمن عبد غيره فهو: المشرك الكفور، بنص القرآن، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، الذي قامت به الحجة على العالمين، فلا نبي بعده ولا رسول، أما بعد: فقد بلغنا وسمعنا من فريق ممن يدَّعي العلم والدين، وممن هو بزعمه مؤتم بالشيخ محمد بن عبد الوهاب: أن من أشرك بالله وعبد الأوثان لا يطلق عليه الكفر والشرك بعينه. ذلك أن بعض من شافهني منهم بذلك سمع من بعض الإخوان أنه أطلق الشرك والكفر على رجل دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - واستغاث به، فقال له الرجل: لا تطلق عليه الكفر حتى تعرفه ... رغبوا عن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - قدَّس الله روحه - ورسائل بنيه، فإنها كفيلة بتبيين جميع هذه الشبه جدًا كما سيمرُّ. ومن له أدنى معرفة إذا رأى حال الناس اليوم، ونزر إلى اعتقاد المشايخ المذكورين تحيَّر جدًا، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله، وذلك أن بعض من أشرنا إليه، بحثته عن هذه المسألة فقال: نقول لأهل هذه القباب الذين يعبدونها ومن فيها: فعلك هذا شرك وليس هو بمشرك، فانظر ترى، واحمد ربك واسأله العافية. فإن هذا

الجواب من بعض أجوبة العراقي (¬1)، التي يرد عليها الشيخ عبد اللطيف. وذكر الذي حدثني عن هذا أنه سأله بعض الطلبة عن ذلك وعن مستدلهم، فقال: نكفر النوع ولا نعين الشخص إلاَّ بعد التعريف، ومستندنا ما رأيناه في بعض رسائل الشيخ محمد - قدَّس الله روحه - على أنه امتنع من تكفير من عبد قبة الكواز وعبد القادر من الجهال لعدم من ينبِّه ... ونحن نقول: الحمد لله وله الثناء، ونسأله المعونة والسداد، ولا نقول إلاَّ كما قال مشايخنا، الشيخ محمد في إفادة المستفيد، وحفيده في رده على العراقي، وكذلك هو قول أئمة الدين قبلهم، ومما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام: أن المرجع في مسائل أصول الدين إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة المعتبر، وهو ما كان عليه الصحابة، وليس المرجع إلى عالم بعينه في ذلك. فمن تقرر عنده هذا الأصل تقريرًا لا يدفعه شبهة وأخذ بشراشير قلبه، هان عليه ما قد يراه من الكلام المشتبه في بعض مصنفات أئمته، إذ لا معصوم إلاَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومسألتنا هذه وهي: عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه، وأن من عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر، الذي ينقل عن الملَّة، هي أصل الأصول، وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن وهكذا تجد الجواب من أئمة الدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله، فإنه يستتاب فإن تاب وإلاَّ قتل، ولا يذكرون التعريف في مسائل الأصول، إنما يذكرون التعريف في المسائل ¬

(¬1) هو داود بن جرجيس، أحد المنافحين عن الشرك وأهله، والمناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وقد ردَّ عليه الشيخان عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين، وعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله جميعًا، وأسكنهم فسيح جناته.

الخفية، التي قد يخفي دليلها على بعض المسلمين، كمسائل نازع بها بعض أهل البدع، كالقدرية والمرجئة، أو في مسألة خفية: كالصرف والعطف. وكيف يعرفون عبَّاد القبور، وهم ليسوا بمسلمين، ولا يدخلون في مسمَّى الإسلام، وهل يبقى مع الشرك عمل والله تعالى يقول: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، «ومن يشرك بالله فقد حبط عمله» (¬1). إلى غير ذلك من الآيات، ولكن هذا المعتقد يلزم منه معتقد قبيح، وهو: أن الحجة لم تقم على هذه الأمة بالرسول والقرآن، نعوذ بالله من سوء الفهم الذي أوجب لهم نسيان الكتاب والرسول. بل أهل الفترة الذين، لم تبلغهم الرسالة والقرآن، وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة ... قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدَّس الله روحه في الرسالة التي كتب إلى أحمد بن عبد الكريم صاحب الأحساء، أحد الصلحاء أولاً، وقبل أن يفتتن، فنذكر منها شيئًا لمشابهة من رددنا عليه كصاحب الرسالة وهذا نصُّها: «من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن عبد الكريم سلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، أما بعد وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت، وتذكر أن عليك إشكال تطلب إزالته، ثم ورد منك رسالة تذكر أنك عثرت على كلام شيخ الإسلام أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام، وعلى أي شيء يدل كلامه على أن من عبد الأوثان عبادة اللاَّت والعزى، وسبَّ دين الرسول بعد ما شهد به، مثل سب أبي جهل، أنه لا يكفر بعينه، بل ¬

(¬1) لا توجد آية في القرآن بهذا الترتيب.

العبارة صريحة واضحة في تفكير مثل: ابن فيروز وصالح بن عبد الله وأمثالهما، كفرًا ظاهرًا ينقل عن الملة فضلاً عن غيرهما، هذا صريح واضح من كلام ابن القيم، وفي كلام الشيخ الذي ذكرت أنه أزال عنك الإشكال في كفر من عبد الوثن، الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخا، وسبَّ دين الرسول، بعدما أقرَّ وشهد به، ودان بعبادة الأوثان بعدما أقرَّ بها ... ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى في تلك الرسالة بعدما ذكر كثرة من ارتد عن الإسلام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كالذين في زمن أبي بكر - رضي الله عنه - حكموا عليهم بالردة بمنع الزكاة، وكأصحاب علي وأهل المسجد الذين بالكوفة، وبنو عبيد القدَّاح، كل هؤلاء حكموا عليهم بالردة بأعيانهم، ثم قال: وأما عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية التي لبسوا بها عليك فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيرًا من المشاهير بأعيانهم فإنه صرح فيها: بأن المعيَّن لا يكفر إلاَّ إذا قامت عليه الحجة، فإذا كان المعيَّن يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم: أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله، مثل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا عن ما يعذر به، فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57]، وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]. (المقالات الخفية، والمسائل الجزئية، هي التي لا يكفر المعيَّن فيها إلاَّ بعد إقامة الحجة) وإذا كان كلام الشيخ ليس في الردة والشرك، بل في المسائل الجزئيات، ثم قال: يوضح ذلك أن المنافقين إذا أظهروا نفاقهم صاروا مرتدين، فأين نسبتك أنه لا يكفر أحدًا بعينه.؟!

وقال أيضًا في كلامه على المتكلمين، ومن شاكلهم، لما ذكر من أئمتهم شيئًا من أنواع الردة، والكفر قال رحمه الله تعالى: وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن يقع في طوائف منهم في هذه الأمور الظاهرة، التي يعلم المشركون واليهود والنصارى أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بعث بها وكفَّر من خالفها، مثل: أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام. ثم تجد كثيرًا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وكثير تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، - إلى أن قال -: وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في الردة، كما صنف: الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين. هذا لفظه بحروفه، فتأمل كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية، وبين ما نحن فيه في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤسائهم فلانًا وفلانًا بأعيانهم وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام، مع كونه من أكابر أئمة الشافعية، هل يناسب هذا من كلامه أن المعين لا يكفر، ولو دعا عبد القادر في الرخا والشدة، ولو أحبَّ عبد الله بن عوف، وزعم أن دينه حسن، مع عبادته لأبي حديدة .... انتهى كلام الشيخ من الرسالة المذكورة بحروفه مع بعض الاختصار، فراجعها من التاريخ فإنه نافعة جدًا .... ومن الدليل على مسألتنا ما كتب الشيخ رحمه الله تعالى إلى عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم، لما سألاه عن قول شيخ الإسلام تقي الدين - قدس الله روحه - من جحد ما جاء به الرسول وقامت عليه الحجة فهو كافر. فأجاب بقوله: إلى الأخوين عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم سلام

عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: ما ذكرتموه من كلام الشيخ كل من جحد كذا وكذا، وأنكم تسألوه عن هؤلاء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليهم الحجة أم لا؟ فهذا من العجب العجاب كيف تشكُّون في هذا، وقد وضحت لكم مرارًا أن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، أو الذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسائل خفية، مثل: الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف. وأما أصول الدين التي وضَّحها الله في كتابه فإن حجة الله هي: القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44]. وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر .... وقد ذكر الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى في شرح التوحيد في مواضع منه: أن من تكلم بكلمة التوحيد وصلَّى وزكى، ولكن خالف ذلك بأفعاله وأقواله من دعاء الصالحين والاستغاثة بهم والذبح لهم، أنه شبيه باليهود والنصارى في تكلمهم بكلمة التوحيد ومخالفتهم. فعلى هذا يلزم من قال: بالتعريف للمشركين أن يقول: بالتعريف باليهود والنصارى، ولا يكفرهم إلاَّ بعد التعريف، وهذا ظاهر بالاعتبار جدًا. وأما كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله تعالى على هذه المسألة فكثير جدًا، فنذكر من ذلك شيئًا يسيرًا لأن المسألة وفاقية، والمقام مقام اختصار، فلنذكر من كلامه ما ينبهك على الشبه، التي استدل بها من ذكرنا في الذي يعبد قبة الكواز، وأن الشيخ توقف في تكفيره، ونذكر أولاً

مساق الجواب وما الذي سيق لأجله وهو: أن الشيخ محمد رحمه الله، ومن حكى عنه هذه القصة يذكرون ذلك معذرة له عن ما يدعيه خصومه عليه من تكفير المسلمين، وإلاَّ فهي نفسها دعوى لا تصلح أن تكون حجة، بل تحتاج لدليل وشاهد من القرآن والسنة، ومن فتح الله بصيرته، وعوفي من التعصب، وكان ممن اعتنى ببيان هذه المسألة بيانًا شافيًا، وجزم بكفر المعين في جميع مصنفاته، ولا يتوقف في شيء منها، ولنرجع إلى مساق الجواب الذي أشرنا إليه. قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله على قول العراقي: قد كفِّرتم الحرمين وأهلها، فذكر كلامه وأجاب عنه إلى أن قال: قال العراقي: ومن المعلوم أن المنع من تكفير المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب وإن أخطأوا، من أحق الأغراض الشرعية، وهو إذا اجتهد فله أجران إن اصاب، وإن أخطأ فله أجر واحد. انتهى كلام العراقي. والجواب أن يقال: هذا الكلام من جنس تحريفه الذي قررناه، وفي هذا تحريفين: أحدهما: أنه أسقط السؤال وفرضه في التكفير، في المسائل التي وقع فيها نزاع وخلاف بين أهل السنة والجماعة والخوارج والروافض، فإنهم كفروا المسلمين وأهل السنة بمخالفتهم فيما ابتدعوه وأصَّلوه ووضعوه وانتحلوه ما سقط (¬1) هذا خوفًا من أن يقال دعا أهل القبور وسؤالهم والاستغاثة بهم من هذا الباب، ولم يتنازع فيها المسلمون، بل هي مجمع على أنها من الشرك المكفر كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وجعلها مما لا خلاف في التكفير بها، فلا يصح حمل كلامه هنا على ما جزم هو بأنه كفر مجمع عليه، ¬

(¬1) هكذا في الأصل، وإن كان السياق يقتضي: وأسقط.

ولو صح حمل هذا العراقي لكان قوله قولاً مختلفًا، وقد نزهه الله وصانه عن هذا، فكلامه متفق يشهد بعضه لبعض. إذا عرفت هذا عرفت تحريف العراقي في إسقاطه بعض الكلام وحذفه، وأيضًا فالحذف لأصل الكلام يخرجه عن وجهه وإرادة المقصود. التحريف الثاني: أن الشيخ رحمه الله قال: أصل التكفير للمسلمين، وعبارات الشيخ أخرجت عبَّاد القبور من مسمَّى المسلمين، كما سننقل من كلامه في الحكم عليهم بأنهم لا يدخلون في المسلمين في مثل هذا الكلام، فذكر كلامًا فيما أخطأ من المسلمين في بعض الفروع - إلى أن قال -: فمن اعتقد في بشر أنه إله، أو دعا ميتًا وطلب منه الرزق والنصر والهداية وتوكل عليه وسجد له، فإنه يستتاب فإن تاب وإلاَّ ضربت عنقه. انتهى. فبطل استدلال العراقي وانهدم من أصله كيف يجعل النهي عن تكفير المسلمين متناولاً لمن يدعو الصالحين، ويستغيث بهم مع الله، ويصرف لهم من العبادات ما لا يستحق إلاَّ الله؟! وهذا باطل بنصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة. ومن عجيب جهل العراقي أنه يحتج على خصمه بنفس الدعوى، والدعوى لا تصلح دليلاً، فإن دعوى العراقي لإسلام عباد القبور تحتاج دليلاً قاطعًا على إسلامهم، فإذا ثبت إسلامهم منع من تكفيرهم، والتفريع ليس مشكلاً .... وقال - أي الإمام محمد بن عبد الوهاب - وقد سئل عن مثل هؤلاء الجهال، فقرر: أن من قامت عليه الحجة وتأهَّل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور، وأما من أخلد إلى الأرض واتبع هواه فلا أردي ما حاله. وقد سبق من كلامه ما فيه كفاية، مع أن العَلاَّمة ابن القيم رحمه الله جزم بكفر المقلدين لمشايخهم في المسائل المكفرة إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته وتأهَّلوا لذلك،

وأعرضوا، ولم يلتفتوا، ومن لم يتمكن، ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل، فهو عنده من جنس أهل الفترة، ممن لم تبلغه دعوة لرسول من الرسل. كلا النوعين لا يحكم بإسلامهم، ولا يدخلون في مسمَّى المسلمين، حتى عند من لم يكفر بعضهم - وسيأتيك كلامه -. وأما الشرك فهو يصدق عليهم، واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله وقاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلاَّ الله .... قلت - أي الشيخ إسحاق صاحب الرسالة -: وهذا من أعظم ما يبين الجواب عن قوله في الجاهل العابد لقبة الكواز، لأنه لم يستثن في ذلك لا جاهلاً ولا غيره، وهذه طريقة القرآن: تكفير من أشرك مطلقًا وتوقفه رحمه الله في بعض الأجوبة، يحمل على أنه لأمر من الأمور، وأيضًا فإنه كما ترى توقف مرة كما في قوله: وأما من أخلد إلى الأرض فلا أدري ما حاله. فيا لله العجب كيف يترك قول الشيخ في جميع المواضع، مع دليل الكتاب والسنة، وأقوال شيخ الإسلام وابن القيم، كما في قوله من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، ويقبل في موضع واحد من الإجمال .... ولنذكر كلامًا لابن القيم ذكره في طبقات المكلفين نقله عنه الشيخ «عبد اللطيف» في رده على العراقي مثل التفسير لما ذكرنا لك، ويجلو عنك بقايا هذه الشبهة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب طبقات المكلفين، لما ذكر رءوس الكفار، الذين صدُّوا عن سبيل الله، وأن عذابهم مضاعف، ثم قال: الطبقة السابعة عشر، طبقة المقلِّدين وجهَّال الكفر وأتباعهم وحميرهم، الذين هم معهم تبع، يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة، ولنا أسوة بهم، ومع هذا فهم مسالمون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساء المحاربين وخدمهم

وأتباعهم، الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاء نور الله، وهدم دينه، وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب، وقد اتفقت الأمة على أنَّ هذه الطبقة كفار، وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤساءهم وأئمتهم، إلاَّ ما يحكى عن بعض أهل البدع، أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد، من أئمة المسلمين ولا الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام. وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من مولد إلاَّ وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»، فأخبر أن أبواه ينقلانه عن الفطرة إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، ولم يعتبر في ذلك غير المربى والمُنشأ على ما عليه الأبوان، وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الجنة لا يدخلها إلاَّ نفس مسلمة»، وهذا المقلد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل لا يخرج عن الإسلام أو الكفر، وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف في تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين، وقد تقدم الكلام عليهم. - قلت: وهذا الصنف أعني من لم تبلغهم الدعوة، هم الذين استثناهم شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقل العراقي، واستثناهم شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. والإسلام: هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسوله واتباعه فيما جاء به. فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافرًا معاندًا، فهو كافر جاهل، فغاية هذه الطبقة أنهم: كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم، لا يخرجهم عن كونهم كفارًا، فإن الكافر: من جحد توحيد الله تعالى، وكذَّب رسوله، إما عنادًا، وإما جهلاً وتقليدًا لأهل العناد.

فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند، فهو متَّبع لأهل العناد. وقد أخبر الله تعالى في القرآن في غير موضع: بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأن الأتباع مع متبوعهم، وأنهم يتحاجُّون في النار (ثم ذكر آيات في هذا وأحاديث ثم قال)، وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما هو: مجرد اتباعهم وتقليدهم. نعم لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين: ملقد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان في الوجود، فالمتمكن والمعرض، مفرط تارك للواجب عليه، لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه، فهم قسمان: أحدهما: مريد للهدى، مؤثر له، محب له، غير قادر عليه، ولا على طلبه لعدم مرشد، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة. الثاني: مُعرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه. فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك دينًا خيرًا مما أنا عليه، لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا اقدر على غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي. والثاني: راض بما عو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته. وكلاهما عاجز، وهذا لا يجب أن يلحق الأول لما بينهما من الفرق، فالأول: كما طلب الدين في الفترة فلم يظفر به، فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزًا وجهلاً، والثاني: كمن لم يطلب بل مات على شركه، ولو كان طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المُعرض. والله يقضي بين عباده يوم القيامة بعدله وحكمته، ولا يعذب إلاَّ من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة

الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وعباده فيه. بل الواجب على العبد أن يعتقد: أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله تعالى لا يعذب أحدًا إلاَّ بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله، وحكمه هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال في هذه المسألة وهو مبني على أربعة أصول: أحدها: أن الله سبحانه لا يعذب أحدًا إلاَّ بعد قيام الحجة عليه كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقال: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وذكر آيات ثم قال: وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]. والظالم: من عرف ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو تمكن من معرفته ثم خالفه وأعرض عنه، وأما من لم يكن عنده من الرسول علم أصلاً، ولا تمكن من معرفته بوجه، وعجز عن ذلك فكيف يقال أنه ظالم. الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بشيئين: أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها. فالأول: كفر إعراض، والثاني: كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها، فهذا هو الذي نفى الله التعذيب عليه حتى تقوم حجته بالرسل. الأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة

والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتميزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه لكونه لا يفهم ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئًا، ولا يتمكن من التفهم وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة، كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما إلى آخره. ثم قال الشيخ (¬1) رحمه الله: فقف هنا وتأمل هذا التفصيل البديع، فإنه رحمه الله لم يستثن إلاَّ من عجز عن إدراك الحق، مع شدة طلبه وإرادته له، فهذا الصنف هو المراد في كلام شيخ الإسلام وابن القيم وأمثالهما من المحققين، وأما العراقي وإخوانه المبطلون فشبهوا بأن الشيخ لا يكفر الجاهل، وأنه يقول هو معذور، وأجملوا القول ولم يفصلوا، وجعلوا هذه الشبهة ترسًا يدفعون به الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وصاحوا على عباد الله الموحدين، كما جرى لأسلافهم من عباد القبور والمشركين. وإلى الله المصير وهو الحاكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون إلى آخر ما ذكر الشيخ رحمه الله. فتأمل إن كنت ممن يطلب الحق بدليله، وإن كنت ممن صمَّم على الباطل، وأراد أن يستدل عليه بما أجمل من كلام العلماء، فلا عجب. وصلَّى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين» (¬2). * * * ¬

(¬1) أي عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. (¬2) «عقيدة الموحدين» الرسالة السادسة حكم تكفير المعين، والفرق بين قيام الحجة، وفهم الحجة: (ص 138 - 163).

مقتطفات من الرسالة الثانية بقلم الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. اعلم: أيها الطالب للحق، الراغب في معرفة الإخلاص والصدق، أنه ورد علينا أوراق صدرت من رجل سوء، تتضمن التحذير من التكفير، من غير تحقيق ولا تحرير، يقول فيها: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في الرد على أهل الرفض من الخوارج والاعنزال .... وهذا الرجل قد أخذ بطريقة من يكفِّر بتجريد التوحيد، فإذا قلنا: لا يعبد إلاَّ الله ولا يدعى إلاَّ هو، ولا يرجى سواه ولا يتوكل إلاَّ عليه، ونحو ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلاَّ لله، وأن من توجه بها لغير الله فهو كافر مشرك، قال: ابتدعتم وكفرتم أمة محمد، أنتم خوارج، أنتم مبتدعة. وأخذ من كلام شيخ الإسلام في أهل البدع، ما كتبه يعرض بأهل التوحيد، ولا يخفى ما قاله شيخ الإسلام: فيمن أشرك بالله. قال رحمه الله تعالى: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم ويتوكل عليهم، كفر إجماعًا .... وقال في «الرسالة السَّنية» وكل من غلا في نبي، أو رجلا صالح، وجعل فيه نوعًا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا

شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلاَّ قتل .... والمقصود: بيان ما كان عليه شيخ الإسلام، وإخوانه من أهل السنَّة والجماعة من إنكار الشرك ألأكبر الواقع في زمانهم، وذكرهم الأدلة من الكتاب والسنَّة على كفر من فعل هذا الشرك أو اعتقده، فإنه بحمد الله يهدم ما بناه - هذا الجاهل المفتري - على شفا جرف هار .... ولا ريب: أن الله تعالى لم يعذر أهل الجاهلية، الذين لا كتاب لهم، بهذا الشرك الأكبر، كما في حديث عياض بن حمار: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلاَّ بقايا من أهل الكتاب»، فكيف يعذر أمة كتاب الله بين أيديهم، يقرؤونه، ويسمعونه، وهو حجة الله على عباده، كما قال تعالى: {هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52]. كذلك سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي بيَّن فيها: افتراق الأمة، إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلاَّ واحدة، وهي الجماعة. ثم يجيء من يموه على الناس، ويفتنهم عن التوحيد، بذكر عبارات لأهل العلم، يزيد فيها وينقص، وحاصلها: الكذب عليهم؛ لأنه في أناس لهم إسلام ودين، وفيهم مقالات كفرهم بها طائفة من أهل العلم، وتوقف بعضهم في تكفيرهم حتى تقوم عليهم الحجة، ولم يذكرهم بعض العلماء في جنس المشركين، وإنما ذكروهم في الفساق، كما ستقف عليه في كلام العلاَّمة ابن القيم، إن شاء الله تعالى ... (الفرق بين: المشرك والمبتدع) وقد سلف الوعد: بأن نذكر ما قاله العلاَّمة ابن القيم.

قال رحمه الله: وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع، الذين يؤمنون بالله ورسوله، واليوم الآخر، ويحرمون ما حرَّمه الله ورسوله، ويوجبون ما أوجبه الله؛ لكن ينفون كثيرًا مما أثبته الله ورسوله، جهلاً وتأويلاً، وتقليدًا للشيوخ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك، وهؤلاء كالخوارج المارقة، وكثير من الروافض، والقدرية، والمعتزلة، وكثير من الجهمية، الذين ليسوا غلاة في التجهم. وأما غالية الجهمية: فكغلاة الرافضة، وليس للطائفتين في الإسلام نصيب؛ ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين وسبعين فرقة وقالوا: هم مباينون للملَّة ... إلى أن قال: فتوبة هؤلاء الفساق، من جهة الاعتقادات الفاسدة، بمحض اتباع السنَّة، ولا يكتفي منهم بذلك أيضًا، حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة، إذ التوبة من كل ذنب هي بفعل ضده. انتهى المقصود. فتأمل كيف جعل أهل هذه البدع في جنس الفساق، لأنهم يؤمنون بالله ورسوله، واليوم الآخر .... وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، في الفتاوى المصرية: قد قال بعض الناس إنه تجوهر، وهذا قول قوم داوموا على الرياضة مدة، فقالوا: لا نبالي بما علمنا (¬1)، وإنما الأمر والنهي رسم العوام، ولو تجوهروا سقط عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة، والمراد منها ضبط العوام، ولسنا من العوام فندخل في التكليف؛ لأنا قد تجوهرنا، وعرفنا الحكمة. فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، بل هم أكفر أهل الأرض، فإن اليهود والنصارى آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وهؤلاء كفروا بالجميع، خارجون عن التزام شيء من الحق؛ ثم قال: ومن جحد بعض الواجبات الظاهرة المتواترة، أو جحد بعض المحرَّمات الظاهرة، كالفواحش والظلم، ¬

(¬1) هكذا في الأصل، ولعلها: «عملنا».

والخمر والزنا والربا، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة، كالخبز واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلاَّ قتل. قلت: ولم يقل شيخ الإسلام: إنهم يعذرون بالجهل، بل كفَّرهم، وقال: إنهم ارتدوا؛ قال: ومن أضمره فهو منافق، لا يستتاب عند أكثر العلماء؛ ومن هؤلاء: من يستحل بعض الفواحش، كمواخات النساء الأجانب، والخلوة بهن، والمباشرة لهن، في عامة أن يحصل لهن البركة، بما يفعله معهن، وإن كان محرَّمًا في الشريعة. وكذلك من يستحل ذلك في المردان، ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم، ومباشرتهم، هو طريق لبعض السالكين، حتى يترقى في محبة المخلوق إلى محبة الخالق، ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى، كما يستحلها من يقول: إن اللواط مباح بملك اليمين، هؤلاء كلهم كفار باتفاق أئمة المسلمين. انتهى. قلت: فنحن - بحمد الله - ننكر هذه الكفريات، ونعادي أهلها، فإن أبى المنحرف، إلاَّ أن يطعن علينا بقوله: كفَّرتم أمة محمد؛ قلنا: معاذ الله، لا نكفر مسلمًا، ولا نجحد ما أعطى الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الفضائل، التي لم يعطها أمة قبلها، وهم الأمة الوسط بنص الكتاب ... (المشرك: أثبت ما نفته لا إله إلا الله، ونفى ما أثبتته، فكيف يكون مسلمًا)؟ وقد اغتر كثير من الناس في أمر الدين، بمجرد التلفظ بلا إله إلاَّ الله، مع الجهل بمدلولها، ومخالفة مضمونها، قولاً وعملاً واعتقادًا، فيثبت ما نفته لا إله إلاَّ الله، ومن الشرك بالله، وينفي ما أثبتته لا إله إلاَّ الله، من إخلاص العبادة لله، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. فإذا دعا غير الله، واستغاث به فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله؛ وقال له الموحِّدون:

لا يعبد إلاَّ الله، والعبادة بجميع أنواعها مقصورة على الله؛ قال: تنقَّصتم الصالحين، وأمثال ذلك من العبارات، المتضمنة للكفر بمعنى لا إله إلاَّ الله، والإنكار على من دعا إلى مضمون لا إله إلاَّ الله، وهو إخلاص العبادة لله، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]. فما أشبه هؤلاء بمن نزلت فيهم هذه الآية .... ثم إن الجاهل المرتاب، قال في أوراقه قولاً، قد تقدَّم الجواب عنه، ولا بد من ذكره، قال: فإذا قال المسلم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. يقصد من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله، أو قال كفرًا، أو فعله، وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان. (الأدلة على عدم العذر بالجهل، أو بالخطأ في الشرك الأكبر) فأقول: انظر إلى هذا التهافت والتخليط، والتناقض، ولا ريب: أن الكفر ينافي الإيمان، ويبطله، ويحبط الأعمال، بالكتاب والسنَّة وإجماع المسلمين، قال الله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]. ويقال: كل كافر قد أخطأ، والمشركون لا بد لهم من تأويلات، ويعتقدون أن شركهم بالصالحين، تعظيم لهم ينفعهم، ويدفع عنهم، فلم يعذروا بذلك الخطأ، ولا بذلك التأويل، بل قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]. وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].

وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105]. فأين ذهب عقل هذا عن هذه الآيات، وأمثالها من الآيات المحكمات؟! والعلماء رحمهم الله تعالى سلكوا منهج الاستقامة، وذكروا باب حكم المرتد، ولم يقل أحد منهم: أنه إذا قال كفرًا، أو فعل كفرًا، وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين، أنه لا يكفر لجهله. وقد بيَّن الله في كتابه: أن بعض المشركين جهال مقلدون، فلم يدفع عنهم عقاب الله بجهلهم وتقليدهم، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} إلى قوله: {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 3 - 4]. ثم ذكر الصنف الثاني: وهم المبتدعون، بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [الحج: 8]. فسلبهم العلم والهدى، ومع ذلك فقد اغترَّ بهم الأكثرون لما عندهم من الشبهات والخيالات، فضلُّوا وأضلُّوا، كما قال تعالى في آخر السورة: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [الحج: 71]. وقد دلت الآيات المحكمات: على كفر من أِشرك بالله غيره في عبادته، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8]. ولها نظائر كثيرة سوى ما تقدَّم، كقوله: {قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأعراف: 37]. ففي هذه الآية من البيان: أن معظم شركهم هو: دعاؤهم، وأنه كفر بالله،

فلا اعتبار بمن أعمى الله بصيرته، عن تدبُّر كتاب الله، وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الجاهل يدَّعي أنه ينقل من «منهاج السنَّة» لشيخ الإسلام، وقد عرفت ما في ذلك من فساد قصده، ووضعه العبارة في غير من هي له، وما قصد بها. وهذا كلام شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، في المنهاج، يطابق ما قد أسلفناه عنه في هذا الجواب. قال رحمه الله تعالى: وأشهر الناس بالردَّة: خصوم أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأتباعه، كمسيلمة الكذاب، وأتباعه، وغيرهم. ومن أظهر الناس ردَّة: الغالية الذين حرَّقهم علي - رضي الله عنه - بالنار، لما ادعوا فيه الإلهية؛ والسبئية أتباع عبد الله بن سبأ، الذي أظهر سب أبي بكر وعمر. وأول من ظهر عنه دعوة النبوة، من المنتسبين إلى الإسلام: المختار بن أبي عبيد، وكان من الشيعة، فعلم: أن أعظم الناس ردة هم الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف؛ ولهذا لا يعرف أسوأ ردة من ردة الغالية، كالنصيرية، ومن ردة الإسماعيلية الباطنية، ونحوهم. انتهى. ومن المعلوم: أن كثيرًا من هؤلاء جهَّال، يظنون أنهم على الحق، ومع ذلك حكم شيخ الإسلام بسوء ردتهم. وقال أيضًا: وأشهر الناس بقتال المرتَّدين، هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر مما في خصوم أبي بكر. انتهى. أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي، أو قال من أمتي، فيجلون عن الحوض؛ فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال: إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري»، وفي رواية: «فَيُحَلَّئُون» (¬1). ¬

(¬1) أي: يطردون، كذا في «فتح الباري»: (11/ 474).

وللبخاري، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بيما أنا قائم على الحوض، إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلمَّ؛ فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله؛ قلت: فما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ؛ فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله؛ قلت: فما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم، ولا أرُاه يخلص منهم إلاَّ مثل هملاء النعم» (¬1). قلت: فدلَّت الأحاديث، على أن في خير قرون الأمة، من قد ارتد عن الإسلام؛ وذكر شيخ الإسلام: أن ذلك وقع في طوائف، وصرَّح به في منهاج السنَّة وغيره. وأخبار هؤلاء الطوائف، وذكر مقالاتهم، وكفرياتهم، مبسوط في كتب العلماء، وتواريخ الإسلام، لا يخفى ذلك إلاَّ على من هو أجهل الناس بالعلم والعلماء، كهذا الجاهل البليد، الذي أخذ عن أشياخه عداوة التوحيد» (¬2). * * * ¬

(¬1) الرواية في البخاري: «همل النعم»، قال الحافظ: والهَمَل بفتحتين: الإبل بلا راع. وقال الخطابي: الهمل ما لا يرعى، ولا يستعمل، ويطلق على الضوال. والمعنى: أنه لا يرده منهم إلاَّ القليل، لأن الهمل في الإبل قليل بالنسبة لغيره. اهـ. «فتح الباري»: (11/ 483). (¬2) «الدرر السنية»: (11/ 446)، ويراجع في هذا المقام - على سبيل المثال لا الحصر ـ: مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد لإمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب، والانتصار لحزب الله الموحدين، وبيان الشرك لأبي بطين ...

المبحث الخامس الأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على ثبوت وصف الشرك وحكمه لمن وقع في عبادة غير الله، وإن كان جاهلا أو متأولا ولم تقم عليه حجة البلاغ

المبحث الخامس الأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على ثبوت وصف الشرك وحكمه لمن وقع في عبادة غير الله، وإن كان جاهلاً أو متأولاً ولم تقم عليه حجة البلاغ قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة، يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل بمعناها، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها، وهو يظن أنها تقرِّبه إلى الله. خصوصًا: إن ألهمك الله ما قصَّ عن قوم موسى، مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]. فحينئذٍ: يعظم خوفك، وحرصك على ما يخلصك من هذا أو أمثاله» (¬1). وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله تعالى: «ومن العجب أن بعض الناس إذا سمع من يتكلم في معنى هذه الكلمة نفيًا وإثباتًا عاب ذلك، وقال: لسنا مكلَّفين بالناس والقول فيهم. فيقال له: بل أنت مكلَّف بمعرفة التوحيد الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وأرسل جميع الرسل يدعون إليه، ومعرفة ضده وهو: الشرك الذي لا يغفر ولا عذر لمكلَّف في الجهل بذلك، ولا يجوز فيه التقليد لأنه أصل الأصول. فمن لم يعرف المعروف وينكر المنكر فهو هالك، لا سيما أعظم المعروف وهو التوحيد، وأكبر المنكرات وهو الشرك» (¬2). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 71). (¬2) «عقيدة الموحدين»، رسالة الانتصار لحزب الله الموحِّدين: (ص 11).

وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين أيضًا رحمه الله: «ومما يبيِّن أن الجهل ليس بعذر في الجملة، قوله - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج ما قال، مع عبادتهم العظيمة. ومن المعلوم: أنه لم يوقعهم ما وقعوا فيه إلاَّ الجهل، وهل صار الجهل عذرًا لهم؟ يوضح ما ذكرنا: أن العلماء من كل مذهب، يذكرون في كتب الفقه: باب حكم «المرتد» وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه. وأول شيء يبدأون به من أنواع الكفر: الشرك، يقولون: من اشرك بالله كفر، لأن الشرك عندهم أعظم أنواع الكفر، ولم يقولوا إن كان مثله لا يجهله، كما قالوا فيما دونه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل: أي الذنب أعظم إثمًا عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك»، فلو كان الجاهل أو المقلد، غير محكوم بردَّته إذا فعل الشرك، لم يغفلوه، وهذا ظاهر. (الأدلة على عدم الإعذار بالجهل في الشرك الأكبر) وقد وصف الله سبحانه أهل النار بالجهل، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. وقال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]. وقال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].

قال ابن جرير (¬1) - عند تفسير هذه الآية - وهذا يدل على أن الجاهل غير معذور. ومن المعلوم: أن أهل البدع الذين كفَّرهم السلف والعلماء بعدهم، أهل علم وعبادة وفهم وزهد. ولم يوقعهم فيما ارتكبوه إلاَّ الجهل. والذين حرَّقهم علي بن أبي طالب بالنار، هل أفنهم إلاَّ الجهل؟ ولو قال إنسان: أنا أشك في البعث بعد الموت، لم يتوقف من له أدنى معرفة في كفره، والشاك جاهل، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]. وقد قال الله تعالى عن النصارى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. قال عدي بن حاتم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما عبدناهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «أليس يحلُّون ما حرم الله فتحلُّونه؟ ويحرِّمونه ما أحل الله فتحرِّمونه؟» قال: بلى، قال: «فتلك عبادتهم» فذمهم الله سبحانه، وسمَّاهم مشركين، مع كونهم لم يعلموا أن فعلهم معهم هذا عبادة لهم، فلم يعذروا بالجهل. ولو قال إنسان عن الرافضة في هذا الزمان: إنهم معذورون في سبِّهم الشيخين وعائشة، لأنهم جهال مقلِّدون، لأنكر عليه الخاص والعام، وما ¬

(¬1) نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله في هذه الآية عن الإمام ابن جرير الطبري قوله وأقره عليه: «وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم: أن الله لا يعذب أحدًا على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلاّ أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها، لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل، وهو يحسب أنه هاد، وفريق الهدى، فرق. وقد فرَّق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية»، وقال الإمام البغوي فيها: «وفيه دليل على أن الكافر، الذي يظن أنه في دينه على الحق، والجااحد، والمعاند، سواء».

تقدم من حكاية شيخ الإسلام رحمه الله، إجماع المسلمين على: أن من جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، أنه كافر مشرك، يتناول الجاهل وغيره. (الشرك التعبدي لا يقع إلاَّ مع الجهل) لأنه من المعلوم: أنه إذا كان إنسان يقر برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويؤمن بالقرآن، ويسمع ما ذكر الله سبحانه في كتابه، من تعظيم أمر الشرك، بأنه لا يغفره، وأن صاحبه مخلد في النار، ثم يقدم عليه وهو يعرف أنه شرك، هذا مما لا يفعله عاقل، وإنما يقع فيه من جهل أنه شرك، وقد قدمنا كلام ابن عقيل في جزمه بكفر الذين وصفهم بالجهل فيما ارتكبوه، من الغلو في القبور، نقله عنه ابن القيم مستحسنًا له. والقرآن يرد على من قال: إن المقلد في الشرك معذور، فقد افترى وكذب على الله، وقد قال الله تعالى عن المقلدين من أهل النار: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67]. وقال سبحانه حاكيًا عن الكفار قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. وفي الآية الأخرى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها، على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد، والرسالة، وأصول الدين، وأن فرضًا على كل مكلف أن يعرف التوحيد بدليله، وكذلك الرسالة، وسائر أصول الدين، لأن أدلة هذه الأصول ظاهرة ولله الحمد، لا يختص بمعرفتها العلماء» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى: «أجمع العلماء: على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد والرسالة» (¬2). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 391 - 394). (¬2) «الدرر السنية»: (10/ 399 - 400).

وقال أيضًا رحمه الله مبيِّنًا الفرق بين أهل السنة والمعنزلة في صحة الإيمان المقلِّد: «وفرض على كل أحد: معرفة التوحيد، وأركان الإسلام بالدليل. ولا يجوز التقليد في ذلك، لكن العامي الذي لا يعرف الأدلة إذا كان يعتقد وحدانية الرب سبحانه، ورسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويؤمن بالبعث بعد الموت، وبالجنة والنار، وأن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند هذه المشاهد، باطلة وضلال، فإذا كان يعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا لا شك فيه، فهو مسلم وإن لم يترجم بالدليل، لأن عامة المسلمين ولو لقنوا الدليل، فإنهم لا يفهمون المعنى غالبًا. ذكر النووي في شرح مسلم، في الكلام على حديث ضمام بن ثعلبة، قال: قال أبو عمرو بن الصلاح، فيه دلالة لما ذهب إليه أئمة العلماء، من أن العوام المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفى منهم بمجرد اعتقاد الحق، جزمًا من غير شك وتزلزل، خلافًا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - قرَّر ضمام (¬1) ¬

(¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: «جاء رجل من أهل البداية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أن الله أرسلك. قال صدق، قال: فمن خلق السماء قال: الله، قال فمن خلق الأرض؟ قال: الله. قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل، قال: الله، قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: صدق. قال: فبالذي أرسلك أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال: صدق، قال: ثم ولَّى. قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لئن صدق ليدخلن الجنة». قال الإمام النووي رحمه الله: «اعلم أن هذا الرجل الذي جاء من أهل البادية، اسمه: ضمام بن ثعلبة بكسر الضاد المعجمة، كذا جاء مسمَّى في رواية البخاري وغيره». صحيح مسلم بشرح النووي: 1/ 169 - 171، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1347 هـ - 1929 م.

على ما اعتمد عليه في معرفة رسالته، وصدقه، ومجرد إخباره إياه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك، ولا قال يجب عليك النظر في معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية. انتهى» (¬1). ولقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى نواقض الإسلام العشرة، ونص على استواء حكم الجاد والهازل والخائف حال الوقوع فيها إلاَّ المكره، ولم يستثن غيره، مثل الجاهل، أو المتأوِّل، أو المخطئ ... فقال رحمه الله تعالى بعد ذكره لها: «ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلاَّ المكره. وبما أنها من أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعًا فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلَّى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم» (¬2). وقال الشيخ سليمان بن سحمان: إن الشرك الأكبر من عبادة غير الله، وصرفها لمن اشركوا به مع الله، من الأنبياء والأولياء والصالحين، فإن هذا لا يعذر أحد في الجهل به، بل معرفته والإيمان به من ضروريات الإسلام (¬3). اهـ. ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 409). (¬2) «عقيدة الموحدين»: (ص 456، 457). من أراد مراجعة النواقض العشرة، فسوف نذكرها مفصلة - إن شاء الله - في الفصل الثامن «نواقض الإسلام، وأحكام الردة والمرتدين» من الباب الثالث. (¬3) «كشف الشبهتين»: (ص 63، 64).

المبحث السادس حرمة الشرك الأكبر وفاقية التحريم، وإجماعية المنع والتأثيم، ولا توجد شبهة سائغة عليها تدرأ حكم الكفر عن أصحابها، ومن ثم انتفى العذر بالجهل فيها

المبحث السادس حرمة الشرك الأكبر وفاقية التحريم، وإجماعية المنع والتأثيم، ولا توجد شبهة سائغة عليها تدرأ حكم الكفر عن أصحابها، ومن ثم انتفى العذر بالجهل فيها إن الغالب على كل مشرك: وقوع شبهة عرضت له، اقتضت كفره وشركه، فلو أطلقنا العنان للعذر بكل شبهة، لما أمكن تكفير مشركي قريش، ولا اليهود والنصارى وأشباههم. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن - رحمهما الله تعالى -: «واحتج العراقي بقول الشيخ: وقد يكون له شبهات يعذره الله فيها. وليس في كلام الشيخ العذر بكل شبهة، ولا العذر بجنس الشبهة، فإن هذا لا يفيده كلام الشيخ، ولا يفهمه منه إلاَّ من لم يمارس شيئًا من العلوم. بل عبارته صريحة في إبطال هذا المفهوم. فإنها تفيد قلة هذا. كما في المسائل التي لا يعرفها إلاَّ الآحاد، بخلاف محل النزاع. فإنه أصل الإسلام وقاعدته، ولو لم يكن من الأدلة إلاَّ ما أقرَّ به من يعبد الأولياء والصالحين من ربوبيته تعالى، وانفراده بالخلق والإيجاد والتدبير لكفى به دليلاً مبطلاً للشبهة، كاشفًا لها، منكرًا لمن أعرض عنه، ولم يعمل بمقتضاه، من عبادة الله وحده لا شريك له. ولذلك حكم على المعينين من المشركين من جاهلية العرب الأميين لوضوح الأدلة، وظهور البراهين. وفي حديث المنتفق: «ما مررت عليه من قبر دوسي أو قرشي فقل له: إن محمدًا يبشرك بالنار». هذا وهم أهل فترة فكيف بمن نشأ من هذه الأمة وهو يسمع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأحكام الفقهية في إيجاب التوحيد والأمر به،

وتحريم الشرك والنهي عنه؟ فإن كان ممن يقرأ القرآن فالأمر أعظم وأطم، لا سيما إن عاند في إباحة الشرك، ودعا إلى عبادة الصالحين والأولياء، وزعم أنها مستحبة، وأن القرآن دل عليها، فهذا كفره أوضح من الشمس في الظهيرة، ولا يتوقف في تكفيره من عرف الإسلام وأحكامه وقواعده وتحريره. والغالب على كل مشرك أنه عرضت له شبهة اقتضت كفره وشركه، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ...} [الأنعام: 148]، وقال: {لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} [النحل: 35]، عرضت لهم شبهة القدرية، فردوا أمره تعالى ودينه وشرعه بمشيئته القدرية الكونية. وعلى إطلاق هذا العراقي وفهمه تكون هذه الشبهة مانعة من تكفير أعيانهم. والنصارى شبهتهم في القول بالنبوة والأقانيم الثلاثة: كون المسيح خلق من غير أب، بل بالكلمة، فاشتبه الأمر عليهم، لأنهم عُرفوا من بين سائر الأمم بالبلادة وعدم الإدراك في المسائل الدينية، ولم يفرقوا بين الخلق والأمر، ولم يعلموا أن الخلق يكون بالكلمة، لا هو نفس الكلمة، وقد أشار تعالى على شبهتهم وردها وأبطلها في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59]، وقوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171]. وأكثر أعداء الرسل عرضت لهم شبهات .... وأما مسألة عبادة القبور ودعائهم مع الله، فهي مسألة وفاقية التحريم، وإجماعية المنع والتأثيم، فلم تدخل في كلام الشيخ لظهور برهانها، ووضوح أدلتها، وعدم اعتبار الشبهة فيها» (¬1). ومن المعلوم بالضرورة من الدين: أن الإسلام، والشرك، نقضيان، لا ¬

(¬1) «منهاج التأسيس والتقديس»: (ص 102 - 105).

يجتمعان، ولا يرتفعان، وعليه يستحيل تحت أي شبهة من الشبه، أن يكون المشرك مسلمًا، لأن ذلك يؤدي إلى اجتماع النقيضين، وقوع المحال. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: «اعلم: أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج وعرف ماهتيه بأوصافها الخاصة، عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده. وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين. ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر، وكم هلك بسبب قصور العلم وعدم معرفة الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة. ومثال ذلك: أن الإسلام والشرك نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. والجهل بالحقيقتين أو إحداهما أوقع كثيرًا من الناس في الشرك وعبادة الصالحين، لعدم معرفة الحقائق وتصورها» (¬1). وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله تعالى: «وقد أخبر الله سبحانه عن الكفار: أنهم في شك مما تدعوهم إليه الرسل، وأنهم في شك من البعث، وقالوا لرسلهم: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم: 9]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110]، وقال تعالى إخبارًا عنهم: {إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] .... وقد ذمَّ الله المقلِّدين، بقوله عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. ومع ذلك كفَّرهم، واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها، على أنه لا يجوز التقليد في معرفة الله والرسالة، وحجة الله ¬

(¬1) «منهاج التأسيس والتقديس»: (12).

سبحانه قائمة بإرساله الرسل، وإن لم يفهموا حجج الله وبيناته. قال الشيخ موفق الدين أبو محمد بن قدامة - رحمه الله تعالى - لما أنجز كلامه: هل كل مجتهد مصيب؟ ورجح قول الجمهور، أنه ليس كل مجتهد مصيبًا، بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين. قال: وزعم الجاحظ: أن من خالف ملة الإسلام، إذا نظر فعجز عن إدراك الحق، فهو معذور غير آثم، إلى أن قال: أما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينًا، وكفر بالله، ورد عليه، وعلى رسوله، فنعلم قطعًا، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر اليهود والنصارى بالإسلام وإتباعه، وذمَّهم على الإصرار، وقاتلهم جميعهم، يقتل البالغ منهم، ونعلم: أن المعاند العارف ممن يقل، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدًا، ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه. والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة، كقوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} [ص: 27]. وقوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ...} [فصلت: 23]، وقوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة: 18]، وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 37]، وقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]. فالمدعي أن مرتكب الكفر: متأوَّلاً، أو مجتهدًا، أو مخطئًا، أو مقلدًا أو جاهلاً، معذور، مخالف للكتاب والسنَّة والإجماع بلا شك، مع أنه لا بد أن ينقض أصله، فلو طرد أصله كفر بلا ريب، كما لو توقف في تكفير من شك في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونحو ذلك» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (12/ 69 - 73).

المبحث السابع العذر بالخطأ في الشرك الأكبر، يلزم منه عدم تكفير طوائف من الكفار والزنادقة، قد أجمعت الأمة على كفرها، وكفر من شك في كفرها، مع بيان أن الحكم بإسلام المشركين الجاهلين ليس عليه دليل إلا مجرد الدعوى المجردة

المبحث السابع العذر بالخطأ في الشرك الأكبر، يلزم منه عدم تكفير طوائف من الكفار والزنادقة، قد أجمعت الأمة على كفرها، وكفر من شكِّ في كفرها، مع بيان أن الحكم بإسلام المشركين الجاهلين ليس عليه دليل إلا مجرد الدعوى المجردة لقد ظن فريق من المنافحين، عن المشركين وإسلامهم المزيف: أن رخصة الخطأ، تدرأ حكم الكفر عمَّن وقع في الشرك جاهلاً، ولم يدر هؤلاء أن لازم هذا الأمر، الهوي في مستنقع عدم تكفير طوائف من الكفار والزنادقة، قد أجمعت الأمة على كفرها، وكفر من شك في كفرها، ولو لم يلتزموه تعذر عليهم أن يقيموا فرقًا بين ما التزموه، وما لم يلتزموه. إذا تمهَّد هذا فنقول: إن رخصة الخطأ لهذه الأمة خاصة بمن كان مؤمنًا موحدًا، تاركًا للشرك على علم وبصيرة، ومن ثمَّ يكون قد حقق وصف الانتساب للقبلة، وحق له التمتع برخص أهلها، من عدم مؤاخذة الجاهل، والمتأوِّل، والمخطئ ... وتارة يدور هذا الفريق من المنافحين دورة أخرى، ويقرروا مقصودهم عن طريق عبارات أئمة الهدى وأعلام الملة التي نصوا فيها: على منع تكفير المسلمين، وإن وقعوا في البدع المغلظة حتى تقوم عليهم الحجة. ولقد نسي هؤلاء القوم، أو تناسوا فيما بينهم: أن عبارات هؤلاء الأئمة قد أخرجت عباد القبور من عداد المسلمين، وعليه فالاستدلال باطل قبل التدليل به، على محل النزاع. فلم يبق لهم بعد ذلك إلاَّ مجرد الدعوى: إن عبَّاد القبور مسلمون لأن عبَّاد القبور مسلمون.

ومن المعلوم بيقين من أوليات كافة العلوم: أن الاحتجاج بمجرد الدعوى على صحتها، دليل على بطلانها، لفقدانها الدليل، لأن الدعوى لا تصلح أن تكون دليلاً، وإلاَّ لكثرت الدعاوي، واستحال إبطال أي منكر مهما طال باعه في الغي والنكران. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في بيان تدليس العراقي أحد المنافحين عن المشركين، وشركهم: «قال العراقي: النقل السادس عشر: قال - أي ابن تيمية - في الفتوى في جواب سؤال ورد من كيلان، في مسألة خلق القرآن: ما نصه، فمسألة تكفير أهل الأهواء والبدع متفرِّعة على هذا الأصل، وفي الأدلة الشرعية ما يوجب أن الله لا يعذب أحدًا من هذه الأمة على خطأ، وإن عذب المخطئ من غيرها - ثم ساق حديث أبي هريرة في الرجل الذي أمر أولاده بتحريقه، وأن يذروه في البحر، وأنه شك في قدرة الله، ومع ذلك غفر الله له لما معه من خوف الله والإيمان به، ثم ذكر كلام الشيخ في الخطأ في الفروع العملية، وأنه قد وقع من بعض السلف - وساق قصة داود وسليمان وحكمهما في الغنم - ثم قال: انظر إلى كلامه وتأمله فإنه أنذر وأعذر، وتحاشى عن تكفير أهل البدع العظام القائلين بنفي قدرة الله أو عدم البعث. هذا كلامه بحروفه، ثم أطال الكلام في قصة داود وسليمان وزعم أنه معنى قوله تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، تصحيح حكم كل منهما. فإن الله أقرِّ حكمهما. والجواب أن يقال: قد أكثر هذا العراقي في التشبيه بعدم تكفير المخطئ وعدم تأثيمه، وقد مرَّ من الجواب عن هذه الشبه ما فيه كفاية، وأكثر كلامه تكرير وإسهاب، يوهم الجهال به أنه قد قرَّر الصواب، وأوضح الخطاب،

ولا يروج هذا إلاَّ على العوام، ومن لا بصيرة له بحقيقة دين الإسلام. وقد قدمنا أن طرد قول العراقي واستدلاله يفيد عدم التأثيم والتكفير في الخطأ في جميع أصول الدين، كالإيمان بوجود الله وربوبيته وإلهيته وقدره وقضائه، والإيمان بصفات كماله الذاتية والفعلية، ومسألة علمه بالحوادث والكائنات قبل كونها، والمنع من التكفير والتأثيم بالخطأ في هذا كله، ردّ على من كفر معطلة الذات، ومعطلة الربوبية، ومعطلة الأسماء والصفات، ومعطلة إفراده تعالى بالإلهية، والقائلين: بأنه لا يعلم الكائنات قبل كونها كغلاة القدرية، ومن قال بإسناد الحوادث إلى الكواكب العلوية، ومن قال بالأصلين النور والظلمة. فإن التزم العراقي هذا كله فهو أكفر وأضل من اليهود والنصارى، وإن زعم أن ثم فارقًا بين هذا وبين مسألة النزاع، التي هي دعاء الأموات والغائبين فيما لا يقدر عليه إلاَّ رب العالمين فليوجدنا هذا الفرق، وليوجدنا دليلاً على صحته. فإن لم يفعل - ولن يفعل - بطل تقريره وتأصيله، وعلم أهل العلم والإيمان أنه مدلس مشبه، ليس من أهل الفقه والدين، ولا ممن يعرف الإسلام والمسلمين، ويفرق بين الموحدين والمشركين، بل هو في ظلمات الطبع والجهل والشرك المبين. (مناطات رخصة الخطأ) وكلام شيخ الإسلام رحمه الله إنما يعرفه ويدريه من مارس كلامه، وعرف أصوله، فإنه قد صرح في غير موضع أن الخطأ قد يغفر لمن لم يبلغه الشرع، ولم تقم عليه الحجة في مسائل مخصوصة، إذا اتقى الله ما استطاع واجتهد بحسب طاقته، وأين التقوى، وأين الاجتهاد الذي يدَّعيه عبَّاد القبور والداعون للموتى وللغائبين؟

وكيف والقرآن يُتلى في المساجد والمدارس والبيوت؟ ونصوص السنة النبوية مجموعة مدونة معلومة الصحة والثبوت؟ والحديث الذي ذكره الشيخ في رجل من أهل الفترات قام به من خشية الله وخوفه والإيمان بثوابه وعقابه ما أوجب له أن أمر أهله بتحريقه، فأين هذا من هؤلاء الضلال الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلوا الشياطين، على دعاء غير الله، والشرك برب العالمين؟ فسحقًا لهذا الجاهل المفتري، وبعدًا لكل ضال غوي. ومن تأمل كلام الشيخ وسياقه عرف مقصوده، وأن الكلام فيمن كفَّر العصاة وأهل الكبائر، وذكر نزاع الناس في ذلك. (مسألة التكفير، متفرِّعة على ضبط حقيقة الإيمان) ثم قال: وأما السلف والأئمة فاتفقوا على أن الإيمان قول وعمل، فيدخل في القول: قول القلب واللسان، وفي العمل: عمل القلب والأركان، قال: وقال المنتصرون لمذهبهم: إنَّ للإيمان أصول وفروع. وهو مشتمل على أركان وواجبات ومستحبَّات، بمنزلة اسم الحج والصلاة، فإن اسم الحج يتناول كل ما يشرع فيه: من فعل وترك. مثل: الإحرام، وترك محظوراته، والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى، والطواف والسعي، ثم الحج مع هذا مشتمل على أركان متى تركت لم يصح الحج، كالوقوف بعرفة، وعلى ترك محظور متى فعل فسد حجه وهو الوطء. ومشتمل على واجبات من فعل وترك، يأثم بتركها عمدًا ويجب لتركها العذر أو غيره كالجبران بدم، كالإحرام من المواقيت، والجمع بين الليل والنهار بعرفة، وكرمي الجمار ونحو ذلك. ومشتمل على مستحبات من فعل وترك، يكمل الحج بها ولا يأثم بتركها،

ولا توجب دمًا مثل رفع الصوت بالإهلال، والإكثار منه، وسوق الهدي، وذكر الله في تلك الموضع، وقلة الكلام إلاَّ في أمر ونهي، فمن فعل ذلك الواجب وترك المحظور فقد تمَّ حجه وعمرته. وهو مقتصد من أصحاب اليمين في هذا العمل. لكن من أتى بالمستحب فهو أكمل وأتم حجًا وعملاً، وهو سابق مقرَّب. ومن ترك المأمور وفعل المحظور لكنه أتى بأركانه وترك مفسداته فحجه ناقص، يثاب على ما فعله من الحج ويعاقب على ما تركه، وقد سقط عنه أصل الفرض. إلى أن قال: فمسألة تكفير أهل الأهواء والبدع متفرعة على هذا الأصل. ثم ذكر مذاهب الأئمة في ذلك وذكر تكفير الإمام أحمد للجهمية، وذكر كلام السلف في تكفيرهم وإخراجهم من الثلاث والسبعين فرقة، وغلَّظ القول فيهم، وذكر الروايتين في تكفير من لم يكفرهم. وذكر أن أصول هذه الفرق، هم الخوارج والشيعة، والمرجئة والقدرية، ثم أطال الكلام في عدم تكفير هذه الأصناف، واحتج بحديث أبي هريرة، ثم قال: وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض المسائل إما أن يلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب، مع مبيانته لهم في عامة أصول الإيمان. فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرَّمات الظاهرة: هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين. وإذا كان لا بد من إلحاق - أي المخطئ - بأحد الصنفين، فإلحاقه بالمؤمنين المخطئين أشد شبهًا من إلحاقه بالمشركين وأهل الكتاب. مع العلم بأن كثيرًا من أهل البدع منافقون النفاق الأكبر، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم من زنادقة منافقين. وأولئك في الدرك الأسفل من النار.

فتبيَّن بهذا مراد الشيخ، وأنه في طوائف مخصوصة، وأن الجهمية غير داخلين، وكذلك المشركين. وأهل الكتاب لم يدخلوا في هذه القاعدة، فإنه منع إلحاق المخطئ بهذه الأصناف، مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، وهذا هو قولنا بعينه. فإنه إذا بقيت معه أصول الإيمان. ولم يقع منه شرك أكبر، وإنما وقع في نوع من البدع فهذا لا نكفره، ولا نخرجه من الملة. وهذا البيان ينفعك فيما يأتي من التشبيه بأن الشيخ لا يكفر المخطئ والمجتهد، وأنه في مسائل مخصوصة، وبين أن الإيمان يزوال بزوال أركانه وقواعده الكبار، كالحج يفسد بترك ركن من أركانه، وهذا عين قولنا. بل هو أبلغ من مسألة النزاع، ومن تأمل كلام الشيخ في هذا الباب عرف المراد، ومن أزاغ الله قلبه فلا حيلة فيه. وحديث الرجل الذي أمر أهله بتحريقه كان موحدًا ليس من أهل الشرك، فقد ثبت من طريق أبي كامل عن حماد عن ثابت عن ابي رافع عن أبي هريرة: «لم يعمل خيرًا قط إلاَّ التوحيد». فبطل الاحتجاج به عن مسألة النزاع. وأما الخطأ في الفروع والمسائل الاجتهادية إذا اتقى المجتهد ما استطاع فلم نقل بتكفير أحد بذلك ولا بتأثيمه. والمسألة ليسة في محل النزاع فإيراد العراقي لها هنا تكثُّر بما ليس له، وتكبير لحجم الكتاب بما لا يغني عنه فتيلاً. وهل أوقع الاتحادية والحلولية فيما هم عليه من الكفر البواح، والشرك العظيم، والتعطيل لحقيقة وجود رب العالمين إلاَّ خطائهم في هذا الباب الذي اجتهدوا فيه، فصلُّوا وأضلُّوا عن سواء السبيل؟ وهل قتل الحلاج - باتفاق أهل الفتوى على قتله - إلاَّ ضلال اجتهاده؟ وهل كفر القرامطة وانتحلوا ما انتحلوه من الفضائح الشنيعة، وخلعوا

ربقة الشريعة إلاَّ باجتهادهم فيما زعموا؟ وهل قالت الرافضة ما قالت، واستباحت، ما استباحت من الكفر والشرك، وعبادة الأئمة الإثنى عشر وغيرهم، ومسبَّة أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، إلاَّ باجتهادهم فيما زعموا؟ وهؤلاء سلف العراقي في قوله: إن كل خطأ مغفور. وهذا لازم له لا محيص عنه هنا. واستصحب ما ذكر هنا في رد ما يأتي، ويمر عليك من نحو هذه الشبهة، وقد تقدم في أول الجواب ما فيه كفاية، وإنما كرَّرنا الجواب لتكرير الشبهة، وإن عادت العقرب فالنعل لها حاضرة» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى في بيان تلبيس العراقي والرد عليه: «ثم قال العراقي: النقل السابع والثلاثون: قال ابن المقري الشافعي في مختصر الروضة: إن من كان من أهل الشهادة لا يكفر ببدعة على إطلاق. وما استند إلى تأويل يلتبس الأمر على مثله، وهو الذي رجحه شيخنا أبو العباس ابن تيمية. والجواب: إن هذه العبارة يحتج بها على العراقي وأمثاله من القائلين: إن عبادة الأولياء والصالحين شرك أصغر أو مستحبة، كما زعمه هذا الضال، وذلك من وجوه: الأول: أن الكلام في البدعة، والبدعة في عرف الشرع: دون الشرك الأكبر والكفر، فكلامه في أهل البدع. والعراقي تأويله في أهل الشرك ولذلك فرق الفقهاء بين المبتدع ومن يدعو غير الله. ويستغيث به، ويتوكل عليه، كما ذكره ابن القيم وغيره من المصنفين في الكبائر، كابن حجر الهيتمي. الوجه الثاني: أن هذا مقيد بمن كان من أهل الشهادة، وهذا القيد يخرج ¬

(¬1) «منهاج التأسيس والتقديس»: (ص 214 - 218).

عبَّاد القبور. لأن المقصود بالشهادة: التوحيد، كما في حديث عبد القيس: «وآمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا من المغنم الخمس». وأهل الشهادة: هم أهل الإيمان باتفاق المسلمين، ومن عداهم ليس من أهل الشهادة، وإن قالها من قالها بلسانه كاليهود والمنافقين. الثالث: إن قوله: على الإطلاق لا ينافي أنه يكفر ببعض البدع المقيدة. الرابع: إن قوله: وما استند إلى تأويل، يلتبس الأمر على مثله: مخرج لعبَّاد القبور وأهل الردَّة، فإنه لا تأويل معهم يلتبس به الأمر. ولهذا لم يعذر أهل الفترة ونحوهم، ممن اتخذ مع الله إلهًا آخر» (¬1). وسئل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى: هل يعذر المسلم إذا فعل شيئًا من الشرك، كالذبح، والنذر لغير الله جاهلاً؟ فأجاب رحمه الله تعالى قوله: الأمور قسمان: قسم يعذر فيه بالجهل، وقسم لا يعذر فيه بالجهل. فإذا كان من أتى ذلك بين المسلمين، وأتى الشرك بالله وعبد غير الله، فإنه لا يعذر لأنه مقصر لم يسأل، ولم يتبصر في دينه فيكون غير معذور في عبادته غير الله من: أموات أو أشجار أو أحجار أو أصنام، لإعراضه وغفلته عن دينه، كما قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3]، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استأذن ربه أن يستغفر لأمه لأنها ماتت في الجاهلية لم يؤذن له ليستغفر لها، لأنها ماتت على دين قومها عبَّاد الأوثان. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لشخص سأله عن أبيه، قال: «هو في النار»، فلما رأى ما في وجهه قال: «إني أبي وأباك في النار»؛ لأنه مات على الشرك بالله، ¬

(¬1) «منهاج التأسيس والتقديس»: (ص 268 - 269).

وعلى عبادة غيره سبحانه وتعالى، فكيف بالذي بين المسلمين وهو يعبد البدوي، أو يعبد الحسين، أو يعبد الشيخ عبد القادر الجيلاني، أو يعبد الرسول محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، أو يعبد عليًا أو يعبد غيرهم؟! فهؤلاء وأِشباههم لا يعذرون من باب أولى، لأنهم أتوا الشرك الأكبر وهم بين المسلمين، والقرآن بين أيديهم، وهكذا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجودة بينهم ولكنهم عن ذلك معرضون. والقسم الثاني: من يعذر بالجهل، كالذي ينشأ في بلاد بعيدة عن الإسلام في أطراف الدنيا أو لأسباب أخرى، كأهل الفترة، ونحوه، ممن لم تبلغهم الرسالة، فهؤلاء معذورون بجهلهم وأمرهم إلى الله عز وجل، والصحيح أنهم يمتحنون يوم القيامة فيؤمرون، فإن أجابوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار لقوله جلَّ وعلا: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، ولأحاديث صحيحة وردت في ذلك (¬1). وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: (السؤال الثاني من الفتوى رقم 4400) س: هناك من يقول: كل من يتقيد برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - واستقبل القبلة بالصلاة، ولو سجد لشيخه لم يكفر، ولم يسمِّه مشركًا حتى قال: إن محمد بن عبد الوهاب الذي يتكلم في المشركين في خلودهم في النار إذا لم يتوبوا قد أخطأ وغلط، وقال: إن المشركين في هذه الأمة يعذبهم ثم يخرجهم إلى الجنة، وقال: إن أمة محمد لم يخلد فيهم أحد في النار. ج: كل من آمن برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وسائر ما جاء به في الشريعة، إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي وصاحب قبر أو شيخ طريق يعتبر كافرًا مرتدًا عن الإسلام مشركًا مع الله غيره في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت ¬

(¬1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» للشيخ ابن باز: (4/ 26، 27).

سجوده؛ لإتيانه بما ينقض قوله من سجوده لغير الله، لكنه قد يعذر لجهله فلا تنزل به العقوبة حتى يعلم، وتقام عليه الحجة، ويمهل ثلاثة أيام إعذارًا إليه ليراجع نفسه عسى أن يتوب، فإن أصرَّ على سجوده لغير الله بعد البيان قتل لردته لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من بدُل دينه فاقتلوه» أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما. فالبيان وإقامة الحجة للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة به، لا ليسمَّى كافرًا بعد البيان، فإنه يسمَّى كافرًا بما حدث منه من سجود لغير الله، أو نذره قربة، أو ذبحه شاة مثلاً لغير الله. وقد دل الكتاب والسنة على أن من مات على الشرك لا يغفر له ويخلد في النار لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]، إلى قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17]. وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز» (¬1) * * * ¬

(¬1) «فتاوى اللجنة الدائمة»: (1/ 220).

الفصل الرابع العلاقة بين إقامة الحجة، والكفر، وأحكامه

الفصل الرابع العلاقة بين إقامة الحجة، والكفر، وأحكامه وفيه مبحثان المبحث الأول: عبادة الله وحده لا شريك له، الحجة عليها بلوغ القرآن، مع بيان أصناف الذين لا يكفرون حتى تقام عليهم الحجة، وكذا الفرق بين قيام الحجة وفهمها. المبحث الثاني: العقوبة والمؤاخذة لا تكون إلاَّ بعد قيام الحجة ووضوح المحجَّة، ويكفي في إقامتها مجرَّد بيان التوحيد بدليله.

المبحث الأول عبادة الله وحده لا شريك له، الحجة عليها بلوغ القرآن مع بيان أصناف الذين لا يكفرون حتى تقام عليهم الحجة وكذا الفرق بين قيام الحجة وفهمها

المبحث الأول عبادة الله وحده لا شريك له، الحجة عليها بلوغ القرآن مع بيان أصناف الذين لا يكفرون حتى تقام عليهم الحجة وكذا الفرق بين قيام الحجة وفهمها إن الذي لم تقم عليه الحجة، هو من كان حديث عهد بالإسلام، أو من نشأ في بادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة من مسائل الدين الخفية، فلا يكفر حتى يعرف. أما أصول الدين الواضحة المحكمة، فإن حجة الله عليها: بلوغ القرآن. وينبغي في هذا المقام: التفريق بين قيام الحجة وفهمها، فقد تقوم الحجة على قوم، مع عدم فقههم لوجه الصواب فيها، ومراد الرب منها. قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: ما ذكرتم من قول الشيخ، كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة، فهذا من العجب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارًا؟ فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف. وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال، أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من

المسلمين، لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44]. وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموها، إن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم» وقوله: «شر قتلى تحت أديم السماء» مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس: أن الذي أخرجهم من الدين، هو التشدد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها. وكذلك قتل علي - رضي الله عنه - الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم على حق. وكذلك إجماع السلف: على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا، إذا علمتم ذلك: فإن هذا الذي أنتم فيه كفر. الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون أنه ليس ردة، لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بيَّن. وأظهر مما تقدم: الذين حرقهم علي، فإنه يشابه هذا، وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم، فلا يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم، فإن كان معكم بعض الإشكال، فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم، والسلام» (¬1). وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى، مفندًا شبهة لأحد المجادلين عن المشركين، يزعم فيها: أن دعاء غير الله شرك أصغر: «أما قوله - أي المجادل عن الشرك والمشركين -: إن سلمنا هذا القول - أي: أن دعاء غير الله شرك أكبر -، وظهر دليله، فالجاهل معذور، لأنه لم ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 93 - 95).

يدر ما الشرك والكفر، ومن مات قبل البيان فليس بكافر، وحكمه حكم المسلمين في الدنيا والآخرة، لأن قصة ذات أنواط، وبني إسرائيل، حين جاوزوا البحر، تدل على ذلك ... إلى آخره. فالجواب أن يقال: إن الله تعالى أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فكل من بلغه القرآن ودعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد قامت عليه الحجة، قال الله تعالى: {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19]. وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. وقد أجمع العلماء على أن من بلغته دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أن حجة الله قائمة عليه، ومعلوم بالاضطرار من الدين: أن الله بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل عليه الكتاب ليعبد وحده ولا يشرك معه غيره، فلا يدعى إلاَّ هو، ولا يذبح إلاَّ له، ولا ينذر إلاَّ له، ولا يتوكل إلاَّ عليه، ولا يخاف خوف الشر إلاَّ منه. والقرآن مملوء من هذا، قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14]، وقال: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} [يونس: 106]، وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وقال: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]، وقال: {وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]. والآيات الواردة في هذا المعنى كثيرة. والله تعالى: لا يعذب خلقه إلاَّ بعد الإعذار إليهم، فأرسل رسله وأنزل كتبه، لئلا يقولوا: {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47].

وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]. وكل من بلغه القرآن فليس بمعذور، فإن الأصول الكبار، التي هي: أصل دين الإسلام،، قد بيَّنها الله تعالى في كتابه، وأوضحها وأقام بها حجته على عباده، وليس المراد بقيام الحجة: أن يفهمها الإنسان فهمًا جليًا، كما يفهمها من هداه الله ووفقه، وانقاد لأمره» (¬1). وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أو بطين: إنه لا عذر في الجهل بأصول التوحيد، والرسالة ونحوها، بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - وبلوغ حجج الله وبيِّناته، وإن لم يفهمها من بلغته، فحجة الله قائمة على عباده ببلوغ الحجة، لا بفهمها، فبلوغ الحجة شيء، وفهمها شيء آخر، ولهذا لم يعذر الله الكفار بعدم فهمهم، بعد أن بلغتهم حجته وبيناته (¬2). اهـ. وقال الشيخ سليمان بن سمحان - رحمه الله تعالى -: فمن بلغته رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، قال الله تعالى: {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19]. وقال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. فلا يعذر أحد في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل، وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهَّال مقلَّدون، ونعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم» (¬3). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (11/ 71 - 74). (¬2) «الدرر السنية»: (10/ 359، 360)، بتصرف بسيط. (¬3) «كشف الشبهتين»: (91 - 94).

المبحث الثاني العقوبة والمؤاخذة لا تكون إلا بعد إقامة الحجة ويكفي في إقامتها مجرد بيان التوحيد بدليله

المبحث الثاني العقوبة والمؤاخذة لا تكون إلا بعد إقامة الحجة ويكفي في إقامتها مجرد بيان التوحيد بدليله إن الحجة تقوم من أجل أن يحيا من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، وتارة تقوم لأداء واجب البيان والبلاغ، وعلى كل حال فالمؤاخذة والعقوبة لا تكون إلاَّ بعد إقامة الحجة ووضوح المحجة. وينبغي الإحاطة في هذا المقام: بأن بيان التوحيد بدليله كاف في إقامة الحجة، وفي هذا الرد الوافر على من يشترط عددًا معينًا لإقامة الحجة، أو تعيين الإمام، أو من يقوم مقامه، حتى تقام على وجهها بزعمه. قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين في أثناء الرد على من زعم أن حجة الله لا تقوم على أصحابها إلا من خلال الإمام أو من يقوم مقامه: «وقولك: حتى تقوم الحجة الرسالية من إمام أو نائبه، معناه: أن الحجة الإسلامية لا تقبل إلاَّ من إمام أو نائبه، وهذا خطأ فاحش، لم يقله أحد من العلماء، بل الواجب على كل أحد قَبول الحق، ممَّن قاله كائنًا من كان. ومقتضى هذا: أن من ارتكب أمرًا محرمًا، شركًا فما دونه بجهل، وبين له من عنده علم بأدلة الشرع: أن ما ارتكبه حرام، وبيَّن له دليله من الكتاب والسنة أنه لا يلزمه قبوله، إلاَّ أن يكون ذلك من إمام أو نائبه، وأن حجة الله لا تقوم عليه، إلاَّ أن يكون ذلك من الإمام أو نائبه. وأظنك: سمعت هذا الكلام من بعض المبطلين، وقلَّدته فيه، ما فطنت لعيبه، وإنما وظيفة الإمام أو نائبه: إقامة الحدود، واستتابة من حكم الشرع بقتله، كالمرتد في بلاد الإسلام.

وأظن هذه العبارة مأخوذة، من قول بعض الفقهاء في تارك الصلاة: أنه لا يقتل حتى يدعوه إمام أو نائبه إلى فعلها، والدعاء إلى فعل شيء، غير بيان الحجة على خطئه أو صوابه، أو كونه حقًا أو باطلاً بأدلة الشرع، فالعالم مثلاً: يقيم الأدلة الشرعية، على وجوب قتل تارك الصلاة، ثم الإمام أو نائبه يدعوه إلى فعلها، ويستتيبه» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 394 - 395).

الفصل الخامس أنواع الكفر وحكم تكفير المعين

الفصل الخامس أنواع الكفر وحكم تكفير المعيّن وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: أنواع الكفر والنفاق الأكبر والأصغر. المبحث الثاني: متى يصح التكفير، وما هي مقوِّمات الحكم به، ومتى لا يصح، مع بيان أن المكفِّر يدور أمره بين الثواب، والعفو، والإثم الشديد. المبحث الثالث: المشرك الجاهل الذي لم تقم عليه حجة البلاغ، لا يكون مسلمًا ولو نطق بالشهادتين واستقبل القبلة وقام ببعض الفرائض، إلاَّ أنه لا يعيَّن بالكفر المستلزم للعقوبة في الدارين إلاَّ بعد إقامة الحجة. المبحث الرابع: فهم وتأويل أئمة الدعوة لموقف الشيخين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، من عدم تكفيرهما للمعيَّن ابتداء حتى تقام الحجة. المبحث الخامس: تكفير لمعيَّنين صادر من أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى.

المبحث الأول أنواع الكفر والنفاق الأكبر والأصغر

المبحث الأول أنواع الكفر والنفاق الأكبر والأصغر قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: «فالكفر كفران: كفر يخرج من الملة وهو خمسة أنواع: (النوع الأول): كفر التكذيب، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]. (النوع الثاني): كفر الإباء والاستكبار مع التصديق. والدليل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]. (النوع الثالث): كفر الشك، وهو كفر الظن، والدليل قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 35 - 38]. (النوع الرابع): كفر الإعراض، والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3]. (النوع الخامس): كفر النفاق، والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]. وكفر أصغر لا يخرج من الملة وهو كفر النعمة، والدليل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ

اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]. وأما النفاق فنوعان: اعتقادي، وعملي. فأما الاعتقادي: فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول، أو بغض الرسول، أو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرَّة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية لانتصار دين الرسول، فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار. وأما العملي: فهو خمسة أنواع، والدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَّب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر». نعوذ بالله من النفاق والشقاق وسوء الأدب، والله أعلم (¬1). * * * ¬

(¬1) «مجموعة التوحيد: (ص 464، 465).

المبحث الثاني متي يصح التكفير وما هي مقومات الحكم به ومتى لا يصح، مع بيان أن المكفر يدور أمره بين الثواب، والعفو، والإثم الشديد

المبحث الثاني متي يصح التكفير وما هي مقومات الحكم به ومتى لا يصح، مع بيان أن المكفر يدور أمره بين الثواب، والعفو، والإثم الشديد قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن - رحمهما الله تعالى -: «إن كان المكفِّر لبعض صلحاء الأمة متأوِّلاً مخطئًا، وهو ممن يسوغ له التأويل، فهذا وأمثاله ممن رفع عنه الحرج والتأثيم، لاجتهاده، وبذل وسعه، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة، فإن عمر - رضي الله عنه - وصفه بالنفاق، واستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». ومع ذلك فلم يعنف عمر، على قوله لحاطب: إنه قد نافق، وقد قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. وقد ثبت: أن الرب تبارك وتعالى، قال بعد نزول هذه الآية، وقراءة المؤمنين لها: «قد فعلت». (التكفير بترك اصول الإيمان، من أعظم دعائم الدين) وأما إن كان المكفِّر لأحد من هذه الأمة، يستند في تكفيره له إلى نصٍّ وبرهان من كتاب الله وسنة نبيِّه، وقد رأى كفرًا بواحًا، كالشرك بالله، وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى، أو بآياته، أو رسله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله، ونحو ذلك، فالمكفِّر بهذا وأمثاله، مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله .... والتكفير بترك هذه الأصول، وعدم الإيمان بها، من أعظم دعائم الدين، يعرفه كل من كانت له نهمة في معرفة دين الإسلام ....

وقد يصدر التكفير لصلحاء الأمة، من أعداء الله ورسوله، أهل الإشراك له به، والإلحاد في أسمائه، فهؤلاء يكفِّرون المؤمنين بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويعيبون أهل الإسلام، ويذمونهم على إخلاص الدين، وتجريد المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل قد يقاتلونهم على ذلك، ويستحلُّون دماءهم وأموالهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10]. فمن كفَّر المسلمين أهل التوحيد، أو فتنهم بالقتال أو التعذيب، فهو من شر أصناف الكفار، ومن: {الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28، 29]. وفي الحديث: «من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما». وأما من أطلق لسانه بالتكفير، لمجرد عداوة، أو هوى، أو لمخالفة في المذهب، كما يقع لكثير من الجهَّال، فهذا من الخطأ البيِّن، والتجاسر على التكفير، أو التفسيق والتضليل، لا يسوغ إلاَّ لمن رأى كفرًا بواحًا، عنده فيه من الله برهان. والمخالفة في المسائل الاجتهادية، التي قد يخفى الحكم فيها على كثير من الناس، لا تقتضي كفرًا ولا فسقًا، وقد يكون الحكم فيها قطعيًا جليًا عند بعض الناس، وعند آخرين يكون الحكم فيها مشتبهًا خفيًا، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها .... وبقي قسم خامس، وهم الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب، كالسرقة والزنا وشرب الخمر، وهؤلاء هم الخوارج، وهم عند أهل السنة ضلاَّل مبتدعة، قاتلهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الحديث قد صح بالأمر بقتالهم والترغيب فيه، وفيه: «أنهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم». وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار، وظنوا أن من كفَّر من

تلفظ بالشهادتين، فهو من الخوارج، وليس كذلك، بل التلفظ بالشهادتين لا يكون مانعًا من التكفير إلاَّ لمن عرف معناهما، وعمل بمقتضاهما، وأخلص العبادة لله، ولم يشرك به سواه، فهذا تنفعه الشهادتان» (¬1). وسئل الشيخ أبو بطين عن الذي يروي: «من كفر مسلمًا فقد كفر»: «فأجاب عفا الله عنه: لا أصل لهذا اللفظ فيما نعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما الحديث المعروف: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» ومن كفر إنسانًا أو فسَّقه، أو نفقه، متأوِّلاً، غضبًا لله تعالى، فيرجى العفو عنه، كما قال عمر - رضي الله عنه - في شأن حاطب بن أبي بلتعة أنه منافق، وكذا جرى من غيره من الصحابة وغيرهم، وأما من كفَّر شخصًا أو نفَّقه غضبًا لنفسه أو بغير تأويل، فهذا يخاف عليه. وأما من جعل سبيل الكفار أهدى من سبيل المؤمنين، فإن كان مراده: حال أهل الزمان اليوم، كأن يقول: إن فعل مشركي الزمان عند القبور وغيرها، أحسن ممن لا يدعو إلاَّ الله ولا يدعو غيره. فهذا كافر بلا شك، وكذا قولنا: إن فعل مشركي الزمان عند القبور من: دعاء أهل القبور، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والذبح، والنذر لهم، وقولنا: إن هذا شرك أكبر، وأن من فعله فهو كافر، والذين يفعلون هذه العبادات عند القبور كفار بلا شك. وقول الجهَّال: إنكم تكفِّرون المسلمين، فهذا ما عرف الإسلام ولا التوحيد. والظاهر: عدم صحة إسلام هذا القائل، فإن لم ينكر هذه الأمور التي يفعلها المشركون اليوم، ولا يراها شيئًا فليس بمسلم» (¬2). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (12/ 260 - 264). (¬2) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»، القسم الثالث (1/ 654، 655).

المبحث الثالث المشرك الجاهل، الذي لم تقم عليه حجة البلاغ لا يكون مسلما، ولو نطق بالشهادتين، واستقبل القبلة، وقام ببعض الفرائض، إلا أنه لا يعين بالكفر المستلزم للعقوبة إلا بعد إقامة الحجة

المبحث الثالث المشرك الجاهل، الذي لم تقم عليه حجة البلاغ لا يكون مسلمًا، ولو نطق بالشهادتين، واستقبل القبلة، وقام ببعض الفرائض، إلا أنه لا يعين بالكفر المستلزم للعقوبة إلا بعد إقامة الحجة إذا وقع العبد في عبادة غير الله جاهلاً، ولم تقم عليه حجة البلاغ، في وقت يقاس فيه أهله بأهل الفترات، فهذا العبد لا يحكم عليه بالكفر حتى تقام عليه الحجة، ولكن هذا لا يستلزم الحكم له بالإسلام، لا وكلا، لأن للإسلام حد، من قام به كان من أهله، ومن لم يقم به تحت أي شبهة من الشبهات فهو خارج من عداد المسلمين، وماثل في عداد المشركين. إذا تمهَّد هذا، فنقول: إن هذا العبد لا يكون كافرًا إلاَّ بعد قيام الحجة، لأن الكفر وصف ومعنى متضمن للرد والإنكار والتكذيب المستلزم للعقوبة، وهذا لا يكون إلاَّ بعد بلوغ الرسالة وإقامة الحجة، وكذلك الحكم بالخلود في النيران لمن مات على الكفر دون توبة منه، فهو أيضًا لا يكون إلاَّ بعد قيام الحجة بالرسل. فالمشرك الجاهل الذي لم تقم عليه حجة البلاغ، لا يكون مسلمًا، وإن نطق بالشهادتين، واستقبل القبلة، وقام ببعض الفرائض. وهذا هو المقصود المتعين من كلام الأئمة: كابن تيمية، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب، وأحفاده. ولذلك عندما يطلق هؤلاء الأئمة: القول بعدم تكفير المعين، من الذين وقعوا في عبادة غير الله، حتى تقام عليه الحجة، فمقصودهم الأكيد في هذا

الشأن هو: الكفر المستلزم للعقوبة في الدنيا، والخلود في النيران في الآخرة. وكما قطع هؤلاء الأئمة بعدم تكفير المعيَّن، الذي وقع في عبادة غير الله، حتى تقام عليه الحجة، فنجدهم قد جزموا أيضًا بعدم إسلامه، وأثبتوا له حكم الشرك ووصفه، ولو لم تقم عليه حجة البلاغ. فهؤلاء المشركون الجاهلون يعاملون، معاملة أهل الفترات، سواء بسواء في الدنيا والآخرة. وبهذا التفصيل، يزول الإشكال في هذه المسألة بالكلية، أما الذين يريدون الدفع: في نحر نصوص الشريعة الواضحة الحاكمة بعكازة قضايا الأعيان، والأدلة والأقوال المطلقة من غير تقييد، فشأنهم وما ارتضوه لأنفسهم، إلاَّ أن هذا ليس من الإسلام في شيء، ونقول لهم: أين المفر ... والإله الطالب قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: «إن كلام الشيخين - أي ابن تيمية وابن القيم - في كل موضع فيه البيان الشافي أن نفي التكفير بالمكفِّرات قولها وفعلها فيما يخفى دليله، ولم تقم الحجة على فاعله، وأن النفي يراد به نفي تكفير الفاعل وعقابه، قبل قيام الحجة، وأن نفي التكفير مخصوص بمسائل النزاع بين الأمة. وأما دعاء الصالحين، والاستغاثة بهم، وقصدهم في الملمَّات والشدائد، فهذا لا ينازع مسلم في تحريمه، أو الحكم بأنه من الشرك الأكبر، وتقدم عن الشيخ أن فاعله يستتاب فإن تاب وإلاَّ قُتل، كما في عبارة الرسالة السنية، وتقدم قوله: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم، كفر إجماعًا، وتقدم قوله في الرد على المتكلمين: وهذا إذا كان في المسائل الخفية، فقد يقال إنه خفي عليهم، ولكنه يقع منهم في مسائل يعلم

الخاصة والعامة أن الرسول قد جاء بها ... إلخ. وهذا عين كلام شيخنا محمد بن عبد الوهاب ضاعف الله لنا وله الثواب، وأدخلنا وإياه الجنة بغير حساب، على رغم كل مبير وكذاب» (¬1). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد بن عبد الوهاب، إلى أحمد بن عبد الكريم، سلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. أما بعد: وصل مكتوبك، تقرِّر المسألة التي ذكرت، وتذكر أن عليك إشكالاً تطلب إزالته، ثم ورد منك مراسلة، تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ، أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام. وعلى أي شيء يدل كلامه، على أن من عبد الأوثان عبادة، أكبر من عبادة اللاَّت والعزَّى، وسبَّ دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعدما شهد به، مثل سبَّ أبي جهل، أنه لا يكفر بعينه. بل العبارة صريحة واضحة في تكفيره مثل ابن فيروز، وصالح بن عبد الله، وأمثالهما، كفرًا ظاهرًا ينقل عن الملة، فضلاً عن غيرهما، هذا صريح واضح، في كلام ابن القيم الذي ذكرت، وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال، في كفر من عبد الوثن، الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء، وسب دين الرسل بعد ما أقرَّ به، ودان بعبادة الأوثان بعد ما أقرَّ بها .... وإن كنت تزعم أن الإنسان، إذا أظهر الإسلام لا يكفر، ولو أظهر عبادة الأوثان، وزعم أنها الدين، وأظهر سبَّ دين الأنبياء، وسمَّاه دين أهل العارض، وأفتى بقتل من أخلص لله الدين، وإحراقه، وحل ماله، فهذه مسألتك وقد ¬

(¬1) «منهاج التأسيس والتقديس»: (ص 315).

قرَّرتها، وذكرت: أن من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا لم يقتلوا أحدًا، ولم يكفِّروه من أهل الملة. (الأدلة الجلية على كفر وقتل من أتى بناقض من أهل القبلة) أما ذكرت: قول الله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}، إلى قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60 - 61]. واذكر قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا} [النساء: 91]، إلى قوله: {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ ...} [النساء: 91]. واذكر قوله في الاعتقاد في الأنبياء: {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 80]. واذكر ما صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه شخص رجلاً معه الراية إلى من تزوج امرأة أبيه، ليقتله ويأخذ ماله. فأي هذين أعظم؟ تزوُّج امرأة الأب؟ أو سب دين الأنبياء بعد معرفته؟ واذكر أنه قد همَّ بغزو المصطلق، لما قيل إنهم منعوا الزكاة، حتى كذَّب الله من نقل ذلك. واذكر قوله في أعبد هذه الأمة، وأشدهم اجتهادًا: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، أينما لقيتموهم فاقتلوها، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة». واذكر قتال الصدِّيق وأصحابه، مانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم. واذكر إجماع الصحابة، على قتل أهل مسجد الكوفة، وكفرهم وردَّتهم، لما قالوا كلمة في تقرير نبوة مسيلمة، ولكن الصحابة اختلفوا في قبول توبتهم لما تابوا، والمسألة في صحيح البخاري وشرحه في الكفالة. واذكر إجماع الصحابة لما استفتاهم عمر، على أن من زعم: أن الخمر

تحل للخواص، مستدلاً بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]، مع كونه من أهل بدر. وأجمع الصحابة على كفر من اعتقد في علي، مثل اعتقاد هؤلاء، في عبد القادر، وردتهم وقتلهم، فأحرقهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهم أحياء، فخالفه ابن عباس في الإحراق، وقال: يقتلون بالسيف، مع كونهم من أهل القرن الأول، أخذوا العلم عن الصحابة. واذكر إجماع أهل العلم من التابعين وغيرهم، على قتل الجعد بن درهم، وأمثاله، قال ابن القيم: شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان ولو ذهبنا نعدِّد من كفَّره العلماء، مع ادعائه الإسلام، وأفتوا بردِّته وقتله، لطال الكلام، لكن من آخر ما جرى قصة بني عبيد، ملوك مصر وطائفتهم، وهم يدعون أنهم من أهل البيت، ويصلُّون الجمعة والجماعة، ونصبوا القضاة والمفتين، وأجمع العلماء على كفرهم وردتهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، يجب قتالهم ولو كانوا مكرهين، مبغضين لهم. واذكر كلامه في الإقناع وشرحه، في الردة، كيف ذكروا أنواعًا كثيرة، موجودة عندكم، ثم قال منصور: وقد عمَّت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرًا من عقائد أهل التوحيد، نسأل الله العفو والعافية، هذا لفظه بحروفه، ثم ذكر قتل الواحد منهم، وحكم ماله. هل قال واحد من هؤلاء من الصحابة، إلى زمن منصور، إن هؤلاء: يكفر أنواعهم لا أعيانهم؟! ... - ثم ذكر كلام ابن تيمية في تكفير من ذبح لغير الله، وحكمه بردة بعض المتكلمين، السابق نقله من قبل كثيرًا، ثم قال -:

فانظر كلامه في التفرقة، بين المقالات الخفية، وبين ما نحن فيه، في كفر المعيَّن، وتأمل تكفيره رءوسهم، فلانًا وفلانًا بأعيانهم، وردتهم ردة صريحة وتأمَّل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام، مع كونه عند علمائكم من الأئمة الأربعة، هل يناسب هذا لما فهمت من كلامه: أن المعيَّن لا يكفر، ولا دعا عبد القادر في الرخاء والشدة، ولو أحب عبد الله بن عون، وزعم أن دينه حسن، مع عبادته أبي حديدة، ولو أبغضك واستنجسك - مع أنك أقرب الناس إليه - لما رآك ملتفتًا بعض الالتفات إلى التوحيد، مع كونك توافقهم على شيء من شرطهم، وكفرهم؟! ... فتأمل كلامه، وأعرضه على ما غرَّك به الشيطان، من الفهم الفاسد، الذي كذبت به الله ورسوله، وإجماع الأمة، وتحيَّزت به على عبادة الطواغيت، فإن فهمت هذا، وإلاَّ أشير عليك أنك تكثر من التضرع والدعاء، إلى من الهداية بيده، فإن الخطر عظيم، فإن الخلود في النار جزاء الردة الصريحة، ما يسوى بضيعة تربح تومان أو نصف تومان» (¬1). ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة، بفهم جمهور أهل العلم على أن: من عبد غير الله يكون مشركًا، ويعيَّن بالكفر إذا قامت الحجة عليه، ولقد قطع أئمة الدعوة بخروجه من الملة ولو لم تقم عليه الحجة، وأما ما دون ذلك من القدر فالردة فيه متوقفة على قيام الحجة ووضوح المحجة. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: «وكيف لا يحكم الشيخان - أي: ابن تيمية وابن القيم - على أحد بالكفر، أو الشرك، وقد حكم به الله ورسوله، وكافة أهل العلم؟ وهذان الشيخان يحكمان: أن من ارتكب ما يوجب الكفر والردة والشرك ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 63، 74).

يحكم عليه بمقتضى ذلك، وبموجب ما اقترف كفرًا أو شركًا أو فسقًا، إلاَّ أن يقوم مانع شرعي يمنع من الإطلاق، وهذا له صور مخصوصة، لا يدخل فيها من عبد صنمًا أو قبرًا أو بشرًا أو مدرًا لظهور البرهان، وقيام الحجة بالرسل» (¬1). وقال عبد الله وإبراهيم، ابنا عبد اللطيف، وسليمان ابن سحمان: وأما قول القائل: نقول بأن القول كفر، ولا نحكم بكفر القائل، فإطلاق هذا جهل صرف، لأن هذه العبارة لا تنطبق إلاَّ على المعين، ومسألة تكفير المعيَّن، مسألة معروفة إذا قال قولاً يكون القول به كفرًا، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين إذا قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة، التي يكفر بها تاركها، وهذا في المسائل الخفية، التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك، فما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أمورًا كفرية، من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفرًا، ولا يحكم على قائله بالكفر لاحتمال وجود مانع كالجهل وعدم العلم بنقض النص أو بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلاَّ بعد بلوغها. ذكر ذلك الله شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، في كثير من كتبه، وذكر أيضًا: تكفير أناس من أعيان المتكلمين، بعد أن قرَّر هذه المسائل، قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية، فقد يقال بعدم التكفير، وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة، فهذا لا يتوقف في كفر قائله (¬2). اهـ. ¬

(¬1) «منهاج التأسيس والتقديس» (ص 320). (¬2) «عقيدة الموحدين»: (ص 451).

(ظاهر الآيات والأحاديث، وكلام جمهور العلماء، يدل على تكفير من عبد مع الله غيره بالتعيين) قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين - رحمه الله تعالى -: نقول في تكفير المعين: ظاهر الآيات، والأحاديث، وكلام جمهور العلماء يدل على كفر من أشرك بالله فعبد معه غيره، ولم تفرق الأدلة بين المعين وغيره. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]. وقال تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وهذا عام في كل واحد من المشركين. وجميع العلماء في كتب الفقه، يذكرون حكم المرتد، وأول ما يذكرون من أنواع الكفر والردة، الشرك، فقالوا: إن من أشرك بالله كفر، ولم يستثنوا الجاهل، ومن زعم لله صاحبة أو ولدًا كفر، ولم يستثنوا الجاهل، ومن قذف عائشة كفر، ومن استهزأ بالله أو رسله أو كتبه، كفر إجماعًا، لقوله تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66]، ويذكرون أنواعًا كثيرة مجمعًا على كفر صاحبها، وَلم يفرِّقوا بين المعين وغيره. ثم يقولون: فمن ارتد عن الإسلام قتل بعد الاستتابة، فحكموا بردته قبل الحكم باستتابته، فالاستتابة بعد الحكم بالردة، والاستتابة إنما تكون لمعين. ويذكرون في هذا الباب: حكم من جحد وجوب واحدة من العبادات الخمس، أو استحلَّ شيئًا من المحرَّمات، كالخمر والخنزير ونحو ذلك، أو شك فيه يكفر، إذا كان مثله لا يجهله. ولم يقولوا ذلك في الشرك (¬1) ونحوه مما ذكرنا بعضه، بل أطلقوا كفره ¬

(¬1) وذلك لأن الشرائع لا تلزم إلاَّ بعد البلاغ، أما التوحيد وترك الشرك، فلن يكون العبد مسلمًا إلاَّ بتحقيقه، بل وأخذ على ذلك الميثاق، وفطر عليه العباد، وركَّز في عقولهم أدلته وحجه وبراهينه، ثم قامت الأدلة الكونية - التي لا يخلو منها الكون في أي بقعة من بقاعه، ولا في أي لحظة من لحظاته - شاهدة على صحة التوحيد، وآمرة به، وعلى قبح الشرك وناهية عنه. ثم جاءت الرسل كلهم، تخاطب من عبد غير الله من أقوامهم بالشرك، وتوجب عليهم التوبة والانخلاع منه، كل هذا قبل أن تقيم الحجة عليهم، وتبين لهم حرمة الشك، ثم تعلمهم أن الدخول في دينهم ليس له إلاَّ طريقًا واحدًا لا ثاني له، وهو: الانخلاع من الشرك إلى الاستقامة على التوحيد، مع إفرادهم عليهم السلام بوحدانية المتابعة، وتحذرهم بأن من مات منهم غير مؤمن برسالته، فمصيره نار جهنم خالدًا فيها أبدًا، وتبشر المؤمنين بهم بجنة عرضها السماوات والأرض، وهكذا كانت القضية واضحة وحاسمة ومتفقة في كل الرسالات وكافة النبوات والشرائع. هذا والله أعلا وأعلم.

ولم يقيِّدوه بالجهل، ولا فرَّقوا بين المعين وغيره، وكما ذكرنا: أن الاستتابة إنما تكون لمعين. وهل يجوز لمسلم أن يشك في كفر من قال إن لله صاحبة أو ولدًا؟ أو أن جبرائيل غلط في الرسالة؟ أو ينكر البعث بعد الموت؟ أو ينكر أحدًا من الأنبياء؟ وهل ويفرق مسلم بين المعين وغيره في ذلك ونحوه؟ وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه»، وهذا يعمُّ المعين وغيره» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 401).

المبحث الرابع فهم وتأويل أئمة الدعوة لموقف الشيخين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب من عدم تكفيرهما للمعين ابتداء، حتى تقام عليه الحجة

المبحث الرابع فهم وتأويل أئمة الدعوة لموقف الشيخين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب من عدم تكفيرهما للمعين ابتداء، حتى تقام عليه الحجة قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى، بعد أن ساق الأدلة الدالة على كفر من عبد غير الله سبحانه: «بقي مسألة حدثت، تكلَّم بها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو: عدم تكفير المعيَّن ابتداء، لسب ذكره رحمه الله تعالى، أوجب له التوقف في تكفيره، قبل إقامة الحجة عليه، قال رحمه الله تعالى: ونحن نعلم بالضرورة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لأحد، أن يدعو أحدًا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميِّت، ولا إلى ميِّت، ونحو ذلك، بل نعلم: أنه نهى عن هذه الأمور كلها، وأنَّ ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن: لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة، في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين ما جاء به الرسول، مما يخالفه. انتهى. قلت: فذكر رحمه الله تعالى، ما أوجب له عدم إطلاق الكفر عليهم، على التعيين خاصة، إلاَّ بعد البيان والإصرار، فإنه قد صار أمة وحده، لأن من العلماء من كفره بنهيه لهم عن الشرك في العبادة، فلا يمكن أن يعاملهم بمثل ما قال، كما جرى لشيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، في ابتداء دعوته، فإنه إذا سمعهم يدعون زيدًا بن الخطاب، قال: الله خير من زيد، تمرينًا لهم على نفي الشرك، بلين الكلام، نظرًا إلى المصلحة، وعدم

النفرة» (¬1). وقال الشيخ عبد الله أبو بطين رحمه الله: «وقولك: إن الشيخ - أي ابن تيمية - يقول، إن من فعل شيئًا من هذه الأمور الشركية، لا يطلق عليه أنه مشرك كافر، حتى تقوم عليه الحجَّة الإسلامية، فهو لم يقل ذلك في الشرك الأكبر، وعبادة غير الله، ونحوه من الكفر، وإنما قال هذا في: المقالات الخفية، كما قدَّمنا من قوله: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، فلم يجزم بعدم كفره، وإنما قال: قد يقال. وقوله: قد يقع ذلك في طوائف منهم، يعلم العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى، يعلمون: أن محمدًا بُعث بها، وكفَّر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام، يعني: فهذا لا يمكن أن يقال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها. والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة غيره، هو ما نحن فيه، قال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]. وقوله رحمه الله: بل اليهود والنصارى يعلمون ذلك، حكي لنا من غير واحد من اليهود في البصرة، أنهم عابوا على المسلمين ما يفعلونه عند القبور، قالوا: إن كان نبيكم أمركم بهذا فليس بنبي، وإن لم يأمركم فقد عصيتموه. وعبادة الله وحده لا شريك له، هي أصل الأصول، الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، أي: يعبدوني وحدي. ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (2/ 210، 211).

وهو الذي أرسل به جميع الرسل، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]» (¬1). وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى: «وقد قال الشيخ - أي ابن تيمية - رحمه الله في جواب له: فمسألة تكفير أهل الأهواء والبدع متفرِّعة على هذا الأصل، ثم ذكر مذاهب الأئمة في ذلك، وذكر تكفير الإمام أحمد للجهمية، وذكر كلام السلف في تكفيرهم، وإخراجهم من الثلاث والسبعين فرقة، وغلَّظَ القول فيهم، وذكر الروايتين في تكفير من لم يكفِّرهم، وذكر أن أصول هذه الفرق هم: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية، ثم أطال الكلام في عدم تكفير هذه الأصناف، واحتج بحديث أبي هريرة. قال: وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض المسائل إما أن يلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرَّمات الظاهرة هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، وإذا كان لا بد من إلحاقه - أي المخطئ - بأحد الصنفين، فإلحاقه بالمؤمنين المخطئين أشد شبهًا من إلحاقه بالمشركين وأهل الكتاب، مع العلم بأن كثيرًا من أهل البدع منافقون النفاق الأكبر، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة، وأولئك في الدرك الأسفل من النار. فتبين بهذا مراد الشيخ، وأن كلامه في طوائف مخصوصة، وأن الجهمية غير داخلين فيه، وكذلك المشركون، وأهل الكتاب لم يدخلوا في هذه القاعدة، فإنه منع إلحاق المخطئ بهذه الأصناف، مع مباينة لهم في عامة ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 389 - 391).

أصول الإيمان. قال شيخنا - أي عبد اللطيف بن عبد الرحمن - رحمه الله: وهذا هو قولنا بعينه، فإنه إذا بقيت معه أصول الإيمان، ولم يقع منه شرك أكبر، وإنما وقع في نوع من البدع فهذا لا نكفره، ولا نخرجه من الملة، وهذا البيان ينفعك فيما يأتي من التشبيه بأن الشيخ لا يكفِّر المخطئ والمجتهد، وأنه مسائل مخصوصة» (¬1). * * * ¬

(¬1) «كشف الشبهتين»: (ص 77، 78).

المبحث الخامس تكفير لمعينين صادر من أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى

المبحث الخامس تكفير لمعينين صادر من أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته إلى عبد الله بن عيسى، وابنه عبد الوهاب جاء فيها: «ولولا أن الناس إلى الآن، ما عرفوا دين الرسول، وأنهم يستنكرون الأمر الذي لم يألفوه، لكان شأن آخر، بل والله الذي لا إله إلاَّ هو، لو يعرف الناس الأمر على وجهه لأفتيت بحلَّ دم ابن سحيم وأمثاله، ووجوب قتلهم، كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم لا أجد في نفسي حرجًا من ذلك» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى: «وما أحسن ما قاله واحد من البوادي، لما قدم علينا وسمع شيئًا من الإسلام، قال: أشهد أننا كفار - يعني: هو وجميع البوادي -، وأشهد أن المطوع الذي يسمِّينا: إسلامًا، أنه كافر» (¬2). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: «وذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن الفخر الرازي، صنَّف «السر المكتوم، في عبادة النجوم»، فصار مرتدًا إلاَّ أن يكون قد تاب بعد ذلك، فقد كفر الرازي بعينه، لما زيَّن الشرك، وقال بعد أن ذكر العلة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، والنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها. قال: فسدُّ الذريعة أن لا يصلَّى في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا ¬

(¬1) «مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب»، القسم الخامس: الرسائل الشخصية: (ص 314، 315). (¬2) «الدرر السنية»: (8/ 119).

يصلي إلاَّ لله، ولا يدعو إلاَّ الله، لئلا يفضي إلى دعائها والصلاة لها، وهذا من أسباب الشرك، الذي ضلَّ به كثيرمن الأولين والآخرين، حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وصنف كتابًا على مذهب المشركين، مثل أبي معشر البلخي، وثابت بن قرة، وأمثالهما ممن دخل في الشرك، وآمن بالجبت والطاغوت، وهم ينتسبون إلى الكتاب، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]. انتهى. فانظر إلى هذا الإمام، الذي نسب عنه من أزاغ الله قلبه، عدم تكفير المعيَّن، كيف ذكر عن الفخر الرازي، وأبي معشر، وغيرهما من المصنفين المشهورين، أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام. وتأمل قوله: حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام لتعلم ما وقع في آخر هذه الأمة من الشرك بالله، وقد ذكر الفخر الرازي في ردِّه على المتكلِّمين، وذكر تصنيفه «السر المكتوم»، وقال: فهذه ردَّة صريحة باتفاق المسلمين» (¬1). وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى: «وقد تقدم كلام الشيخ في الرازي تصنيفه في دين المشركين، وأنها رِدَّة صريحة، وهو معيَّن، وتقدم في كلام الشيخ عبد اللطيف - رحمه الله - حكاية إجماع العلماء على تكفير بشر المريسي، وهو رجل معيَّن، وكذلك الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وكذلك الطوسي نصير الشرك، والتلمساني، وابن سبعين، والفارابي، أئمة الملاحدة، وأهل الوحدة، وأبي معشر البلخي، وغيرهم. وفي إفادة المستفيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في تكفير المعيَّن ما يكفي طالب الحق والهدى» (¬2). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (11/ 452، 453). (¬2) «كشف الشبهتين»: (ص 96).

وجاء في سؤال ورد على المفتي العام، الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى: [فتوى برقم 3548 بتاريخ 18/ 3/1401 هـ]: «السؤال: يقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]. إن ظاهر الآية السابقة يمنع الاستغفار للمشركين ولو كانوا من ذوي القرابة، والكثير منا نحن أعراب البادية من له والدان وأقرباء، وقد اعتادوا الذبح عند القبور، في فكِّ الكربات، وشفاء المرضى، وقد ماتوا على ذلك، ولم يصلهم من يعرفهم معنى التوحيد، ومعنى لا إله إلاَّ الله، ولم يصلهم من يعلمهم أن النذور والدعاء عبادة لا يصح صرفها إلاَّ لله وحده، فهل يصح المشي في جنائزهم، والصلاة عليهم، والدعاء، والاستغفار لهم، وقضاء حجهم والتصدق عليهم؟. الجواب: من مات على الحالة التي وصفت، لا يجوز المشي في جنازته، ولا الصلاة عليه، ولا الدعاء، ولا الاستغفار له، ولا قضاء حجه، ولا التصدق عنه، لأن أعماله المذكورة أعمال شركية وقد قال سبحانه وتعالى في الآية السابقة: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]، ولما ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: «استأذنت ربي في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في زيارة قبرها فأذن لي». وليسوا معذروين بما يقال عنهم: أنهم لم يأتهم من يبين لهم أن هذه الأمور المذكورة التي يرتكبونها شرك، لأن الأدلة عليها في القرآن الكريم واضحة، وأهل العلم موجدون بين أظهرهم، ففي إمكانهم السؤال عما هم عليه من الشرك لكنهم قد أعرضوا، ورضوا بما هم عليه» (¬1). ¬

(¬1) «عقيدة الموحدين»: (ص 462). «فتاوى اللجنة الدائمة»: (1/ 522، 523).

وسئلت اللجنة الدائمة سؤال جاء فيه: س: كنت سألتكم عن حكم صلاة من يصلي مؤتمًا بإمام من المشركين المنتسبين إلى الإسلام مثل: الذين يذبحون للأولياء، ويدعونهم، وينذرون لهم، ويطوفون بالقبور، ويشدون لها الرحال، وغير ذلك. لأنه كان كثيرًا ما نسأل عن هذا السؤال أثناء تجولنا في بعض البلاد الإسلامية، وتكرر السؤال عنه من الإخوان أنصار السنة في السودان لدى زيارتنا للسودان هذه السنة. وقد استحسنتم أن نكتب لكم بهذا السؤال، وها أنا ذا أكتب مذكرًا سماحتكم، راجيًا إصدار الجواب، ونشره مفصلاً، مع التكرم بالكتابة إلينا به، شكر الله مساعيكم وأجزل مثوبتكم. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد: ج: من نذر لغير الله، أو ذبح لغير الله، أو دعا لغير الله فيما وراء الأسباب العادية، كدعائه لشفاء مريض، أو لإعطائه ذرية، أو نداء غائب لتفريج كربة، أو ميت لدفع بلاء، أو طاف بالقبور، أو شدَّ الرحال لشيء من هذه الأمور، أو الاستعانة بالأصنام ونحوها من الجمادات فهو مشرك شركًا أكبر لا تصح صلاته في نفسه فلا يجوز الائتمام به في الصلاة، ولا تصح الصلاة وراءه لشركه. وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز» (¬1) وسئلت اللجنة الدائمة أيضًا: [فتوى رقم 1661] س: إن السائل، وجماعة معه من الحدود الشمالية، مجاورون للمراكز ¬

(¬1) «فتاوى اللجنة الدائمة»: (2/ 264، 465).

العراقية، وهناك جماعة على مذهب الجعفرين، ومنهم من امتنع عن أكل ذبائحهم، ومنهم من أكل، ونقول هل يحل لنا أن نأكل منها علمًا بأنهم يدعون عليًا، والحسن، والحسين، وسائر ساداتهم في الشدة والرخاء؟ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد: ج: إذا كان الأمر كما ذكر السائل، من أن الجماعة الذين لديه من الجعفرية يدعون عليًا، والحسن، والحسين، وسادتهم فهم مشركون مرتدون عن الإسلام والعياذ بالله، لا يحل الأكل من ذبائحهم، لأنها ميتة ولو ذكروا عليها اسم الله. وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز» وسئلت اللجنة أيضًا: السؤال الأول من الفتوى رقم [3008] س: أنا من قبيلة تسكن في الحدود الشمالية، ومختلطين نحن وقبائل من العراق، ومذهبهم شيعة وثنية يعبدون قببًا ويسمونها: بالحسن والحسين وعلي، وإذا قام أحدهم قال يا علي يا حسين، وقد خالطهم البعض من قبائلنا في النكاح، وفي كل الأحوال، وقد وعظتهم ولم يسمعوا وهم في القرايا والمناصيب، وأنا ما عندي أعظهم بعلم، ولكن إني أكره ذلك، ولا أخالطهم، وقد سمعت أن ذبحهم لا يؤكل، وهؤلاء يأكلون ذبحهم، ولم يتقيدوا، نطلب من سماحتكم توضيح الواجب نحو ما ذكرنا؟ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد:

ج: إذا كان الواقع كما ذكرت، من دعائهم عليًا، والحسن، والحسين، ونحوهم فهم مشركون شركًا أكبر يخرج من ملة الإسلام، فلا يحل أن نزوجهم المسلمات، ولا يحل لنا أن نتزوج من نسائهم، ولا يحل لنا أن نأكل من ذبائحهم، قال الله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221]. وبالله التوفيق وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز» (¬1) * * * ¬

(¬1) «فتاوى اللجنة الدائمة»: (2/ 264، 265).

الفصل السادس أحكام الديار

الفصل السادس أحكام الديار وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: تعريف دار الإسلام، ودار الشرك. المبحث الثاني: صفة الدار التي تجب الهجرة منها إلاَّ لمن قدر على إظهار دينه، مع تحرير المراد والمتعيَّن من إظهار الدين. المبحث الثالث: الأدلة الدالة على وجوب التباعد عن المشركين، والردِّ على محاولة إسقاط فرض الهجرة من ديار المشركين. المبحث الرابع: أحكام وأحوال المقيم بين أظهر المشركين.

المبحث الأول تعريف دار الإسلام، ودار الشرك

المبحث الأول تعريف دار الإسلام، ودار الشرك دار الإسلام: هي الدار التي تجري فيها أحكام الإسلام، ولو لم يكن أهلها مسلمين، وما دونها فهي دار الكفر. إذا كان الشرك فاشيًا في بلد، وتوابعه من الانحلال والفجور، وانتشرت به البدع، وصارت الدعوة فيه لغير الكتاب والسنة، فالقرآن كله، والعلم الضروري، مع إجماع العلماء يدلُّون على أن هذا البلد يكون: دار كفر وشرك. قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى مخاطبًا أحد إخوانه، ليدلِّل له على أن بلد الإحساء دار كفر وشرك في وقته فقال رحمه الله: «ومن له مشاركة فيها قرَّره المحققون، قد اطَّلع على أن البلد، إذا ظهر فيها الشرك، وأعلنت فيها المحرَّمات، وعطلِّت فيها معالم الدين، أنها تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم، وقد زاد أهل هذه البلد، بإظهار المسبَّة لله ولدينه، ووضعوا قوانين ينفذونها في الرعية، مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقد علمت أن هذه كافية وحدها، في إخراج من أتى بها من الإسلام» (¬1). وقال الشيخ عبد الله أبو بطين: «قال الأصحاب: الدار داران، دار إسلام ودار كفر، فدار الإسلام: هي التي تجري أحكام الإسلام فيها، وإن لم يكن أهلها مسلمين، وغيرها دار كفر» (¬2). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (9/ 257). (¬2) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»، القسم الثالث من الجزء الأول: (ص 655).

وقال الشيخ حمد بن عتيق في جوابه لمن ناظره في حكم أهل مكة وما يقال في البلد نفسه - بعد أن ذكر وجوب إفراد الله بالعبادة، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمتابعة -: فإذا تحقق وجود هذين الأصلين علمًا وعملاً ودعوة، وكان هذا دين أهل البلد، أي بلد كان، بأن عملوا به، ودعوا إليه، وكانوا أولياء لمن دان به، ومعادين لمن خالفه فهم موحِّدون. وأما إذا كان الشرك فاشيًا مثل: دعاء الكعبة والمقام والحطيم، ودعاء الأنبياء والصالحين، وإفشاء توابع الشرك مثل: الزنا والربا وأنواع المظالم ونبذ السنن وراء الظهر، وفشو البدع والضلالات، وصار التحاكم إلى الأئمة الظلمة، ونواب المشركين، وصارت الدعوة إلى غير القرآن والسنة، وصار هذا معلومًا في أي بلد كان، فلا يشك من له أدنى علم أن هذه البلاد محكوم عليها بأنها بلاد كفر وشرك، لا سيما إذا كانوا معادين أهل التوحيد، وساعين في إزالة دينهم، وتخريب بلاد الإسلام. وإذا أردت إقامة الدليل على ذلك وجدت القرآن كله فيه، وقد أجمع عليه العلماء، فهو معلوم بالضرورة عند كل عالم .... وجماع الأمر أنه إذا ظهر في بلد: دعاء غير الله، وتوابع ذلك، واستمر أهلها عليه، وقاتلوا عليه، وتقرَّرت عندهم عداوة أهل التوحيد، وأبوا عن الانقياد للدين، فكيف لا يحكم عليها بأنها بلد كفر - ولو كانوا لا ينتسبون لأهل الكفر وأنهم منهم بريئون - مع مسبتهم لهم وتخطئتهم لمن دان به، والحكم عليهم بأنهم خوارج أو كفار، فكيف إذا كانت هذه الأشياء كلها موجودة فهذه مسألة عامة كلية» (¬1). ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»، القسم الثالث من الجزء الأول: (ص 742 - 745).

المبحث الثاني صفة الدار التي تجب الهجرة منها إلا لمن قدر على إظهار دينه مع تحرير المراد والمتعين من إظهار الدين

المبحث الثاني صفة الدار التي تجب الهجرة منها إلاَّ لمن قدر على إظهار دينه مع تحرير المراد والمتعين من إظهار الدين لقد دلَّ الكتاب والسنة، مع صريح العقل: على وجوب الهجرة من الديار التي تظهر فيها أعلام الكفر وتعلوها شعائر الشرك، لا سيما لمن لم يستطع فيها على إظهار دينه، والأمن عليه من الفتنة. وإظهار الدين المبيح للإقامة بين أظهر المشركين يعني: إعلان المخالفة لكل طائفة كافرة بما اشتهر عنها من المعتقد، مع التصريح بالعداوة لها. وبمعنى آخر: القيام بالبراءة من المشركين وآلهتهم المزعومة، وإعلامهم بأن حكم ما هم عليه من الشرك والتنديد: كفر صريح، وضلال مبين، وانسلاخ تام من الدين، لا يمكن أن يجتمع بأي حال مع أصل الإيمان والتوحيد. فإذا جلس المسلم بينهم، وآثر دنياه على آخرته، فقد يقع في موالتهم ونصرتهم، وتكثير سوادهم، وتصحيح ما هم عليه من الاعتقادات الباطلة والأعمال الفاسدة، لا سيما مع طول الأمد، وبُعد العهد بينه وبين المسلمين وديارهم. بل وقد تجب الهجرة والفرار من ديار الإسلام إذا علاها الفساد، وعمل فيها بالبدع والمعاصي دون القدرة على تغييرهما، وإحلال السنة والطاعة محلهما. وها هنا علة عظيمة ميمونة مباركة لمشروعية الهجرة، تتمثل في اعتزال أهل المنكر والفساد وتميز أهل الإيمان والصلاح، ومن ثم انتصاب علم الجهاد لقمع أهل الشرك والفساد. ولولا الهجرة لما قام الدين، ولا عُبد رب العالمين، ولا تمَّت البراءة من المشركين ...

وبهذا نقطع: أن الهجرة والجهاد، ماضيان إلى قيام الساعة، لحتمية الصراع، واستمرار النزال، ودوران النضال بين حزب الرحمن، وحزب الشيطان. قال الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله، الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينًا، ونصب الأدلة على صحِّته وبيَّنها تبيينًا، وأعان من أراد هدايته على طاعته، وكفى بربك هاديًا ومُعينًا. من إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: عبد الله آل أحمد، وفقنا الله وإياه لسلوك الطريق الأحمد. أما بعد: فقد كتبت تسألني عن الصواب عندنا، في حكم بلدان المشركين، وهل يجوز السفر إليها لمن أظهر دينه؟ وما إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة؟ وأرسلت إليَّ بما أملاه بعض المنتسبين في إباحة ذلك، وأنه صار عندكم مانع ومجيز، ونعوذ بالله من التفرق والاختلاف .... هذا واعلم: أنه بعد التسليم لحكم السنة والقرآن، ووجوب الرد إليهما على كل فرد من افراد نوع هذا الإنسان، فقد أجمع علماء السنة: أنه إذا تواطأ الكتاب والسنة، وصريح العقل على إثبات حكم، فلا يمكن أن يعارض ثبوته بدليل صحيح صريح ألبتة. بل إن كان المعارض سمعيًا كان كذبًا قطعًا، أو كان المعارض به أخطأ في فهمه، أو عقليًا فكذلك. إذا تقرَّر هذا الأصل، فالسؤال عن حكم الدار، ليترتب عليه ما زعم المجيز: فاسد الاعتبار، من وجهين:

(علة وجوب الهجرة) الأول: أن أهل العلم رتَّبوا حكم الهجرة، على وجود الشرك، والبدع، والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها. ومن المعلوم بالضرورة: أن الشرك بالأموات والغائبين، والتعلق على الأنبياء والصالحين، بل: على المجاذيب والمجانين، قد ظهر في ديارهم شعاره، وتطاير فيها شراره، وثار فيها قتامه وغباره، وعدم فيها للتوحيد أعوانه وأنصاره، مع ما هم عليه من البدع في العبادات والاعتقادات، وأصناف المعاصي، التي تشيب اللمم والنواصي. فالسؤال عن الدار: هل هي دار إسلام أم لا؟ بمعنى أن المقيم فيها، كالمقيم في بلد سالمة من ذلك، خطأ ظاهر، وقد تقرر في عبارات أئمتنا الحنابلة وغيرهم: أنهم يوجبون الهجرة بمشاهدة ما هو دون ذلك، حتى من بلد تظهر فيها عقائد أهل البدع، كالمعتزلة والخوارج والروافض. وقد حكى ابن العربي المالكي، عن ابن القاسم، قال سمعت مالكًا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسب فيها السلف؛ وقال في الإقناع وشرحه - لما ذكرها - فيخرج منها وجوبًا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها، فعلق الحكم: بالوصف الذي هو وجود البدع والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها، إلا بالدار. (حكم الدار منوط بالوصف القائم بها، مع ذكر بعض الأحكام المترتبة عليها) وإذا كان من المعلوم: أن مصر دار إسلام، فتحها عمرو بن العاص زمن الخليفة الراشد: عمر - رضي الله عنه -، فأين إجماع الناس على أنها دار حرب أيام بني عبيد القداح؟! وكذلك جزيرة العرب أيام الردة، مع أن الدار دار إسلام، لا دار كفر أصلي بالإجماع.

لكن لما قام بهم الوصف الذي يبيح الدم والمال، لم يكن لتسميتها دار إسلام حكم، وصار الحكم لهذا الوصف الطارئ، تعريف على محل طاهر تلوث به المحل، وللشيء حكم نظيره، فكيف بما هو اقبح وأشد؟! فبطل ما طرده المجيز من التعلق باسم الدار .... الوجه الثاني: أن المجيز علَّق حكم إباحة الإقامة فيما نقلت عنه، بما إذا لم يمنعوك عن واجبات دينك، مصرِّحًا بأنها هي النطق بالشهادتين، والصلاة، والعبادات البدنية، التي وافقك عليها المشرك في هذا الزمان، فإذا كان كذلك، فالمدَّعى أوسع من الدليل. إذ عدم المنع من العبادات البدنية، والدعاء بداعي الفلاح، موجود في أكثر أقطار الأرض، فالسؤال مطرَّح من أصله، ولعله السائل جعله بئرًا في الطريق، وعلى نفسها تجني براقش، وعلينا أن نقول الحق، لا تأخذنا في الله لومة لائم، وهذا جوابنا على المسألة الأولى. وأما المسألة الثانية، وهي: ما إظهار الدين؟ فالجواب - وبالله التوفيق -: أن إظهار الدين على الوجه المطلوب شرعًا، تباح به الإقامة بقيد أمن الفتنة، ولا تعارض نصوص الهجرة المنوطة بمجرد المساكنة، إذ هي الأصل وإبطال دليل الإباحة، ودليل التحريم ممتنع قطعًا، فيتعين الجمع بما تقرر في الأصول، من أن العام يبنى على الخاص ولا يعارضه. وإذا كان كذلك، فلا بد من ذكر طرف منها قبل الكلام عليها، فأقول: قد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع، مع صريح العقل وأصل الوضع، على وجوب الهجرة من دار الشرك والمعاصي، وتحريم الإقامة فيها. أما الكتاب، فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ...} الآية [النساء: 97]، وهذه الآية نص في وجوب الهجرة بإجماع المفسِّرين،

وفيها ترتب الوعيد على مجرد المقام مع المشرك، والقرآن إذا أناط الحكم بعلة أو وصف، فصرفه عنه من التأويل الذي ردَّه السلف، وقد ذم الله من أعرض عنه، فكيف بمن عارضه؟! وقد قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]. قال أبو جعفر ابن جرير، رحمه الله تعالى: يقول الله تعالى للمؤمنين من عباده، يا عبادي الذين وحَّدوني، وآمنوا برسولي، إن أرضي واسعة لم تضق عليكم فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه، ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله، فلم تقدروا على تغييره، فاهربوا منه .. فمن غلَّب الحقائق وجعلها نصًا في عدم وجوب الهجرة، على من لم يمنع من عبادة ربه التي هي في زعمه: الصلاة، وما يتعلَّق بالبدن، وحمل إظهار الدين على ذلك، وفهم من قوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]، أي: في كل مكان من دار إسلام أو كفر، فقد عكس القضية وأخطأ في فهمه. والحق: أن الحكم فيها منوط بمجرد المقام مع المشركين، ومشاهدة المحرمات، قال ابن كثير رحمه الله تعالى، في تفسيره على قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16]، وإذا فارقتموهم، وخالفتموهم بأدياتكم، في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم، فحينئذٍ هربوا إلى الكهف. وقال في تفسير آية النساء، لما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حرامًا بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]، أي: بترك الهجرة: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} [النساء: 97]، أي لم مكثتم ههنا، وتركتم

الهجرة؟ {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء: 97] الآية. انتهى. والدين كلمة جامعة لخصال الخير، أعلاها وأغلاها التوحيد ولوازمه، فمن قصره على العبادات التي يوافق فيها المشرك، بل يواليك عليها، فقد أخطأ. وأما الأحاديث فكثير جدًا، منها: ما رواه أبو داود والحاكم، عن سمرة مرفوعًا: «من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله»، ولفظ الحاكم: «وساكنهم أو جامعهم فليس منا»، وقال: صحيح على شرط البخاري. ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن جرير بن عبد الله مرفوعًا: «أنا برئ من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما» رواه ابن ماجه أيضًا، ورجال إسناده ثقات، وهو إن صح مرسلاً، فهو حجة من وجوه متعددة، يعرفها علماء أصول الحديث، منها: أن المرسل إذا اعتضد بشاهد واحد، فهو حجة. وقد اعتضد هذا الحديث بأكثر من عشرين شاهدًا، وتشهد له الآيات المحكمات، مع الكليات من الشرع، وأصول يسلمها أهل العلم. ومنها حديث جرير الذي رواه النسائي وغيره: «أنه بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعبد الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويفارق المشركين»، وفي لفظ: «وعلى فراق المشركين»، ولو لم يكن إلاَّ هذا الحديث لكفى، لتأخر إسلام جرير. ومنها: ما روى الطبراني والبيهقي، عن جرير مرفوعًا: «من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة»، قال المناوي: حديث حسن، يقصر عن رتبة الصحيح، وصححه بعضهم. ومنها: ما رواه النسائي وغيره، من حديث بَهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: «لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم أو يفارق المشركين». ومنها: ما رواه النسائي وغيره، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعًا: «لا تنقطع

الهجرة ما قوتل الكفار»، وفي معناه حديث معاوية: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة» الحديث، وما رواه سعيد بن منصور وغيره: «لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد». ففي هذه الأحاديث مع تباين مخارجها، واختلاف طرقها، هيئة اجتماعية يقطع معها بهذا الحكم العظيم، الذي هو من أعظم من مصالح الشريعة. قال أبو عبد الله الحليمي في المجالس، وهو من أجلِّ علماء الشافعية، وأئمة الحديث في وقته، وهو في طبقة الحاكم، لما ذكر بقاء الهجرة قال: إنها انتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن السيئات إلى الحسنات، وهذه الأشياء باقية ما بقي التكليف. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما ذكره الإسماعيلي بلفظ: انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تنقطع ما قوتل الكفار، أي: ما دام في الدنيا دار كفر. انتهى .... وقد بنى العلاَّمة ابن قدامة، وابن أبي عمر وغيرهما، كالحافظ وغيره، حكم الإباحة على مقدمتين: إظهار الدين، وأداء الواجبات، والحكم إذا علِّق بوصفين لم يتم بدونهما، خصوصًا إذا أعيدت الأداة، وتكررت الصيغة، وقد أعيدت الأداة وتكرَّرت، وأعيدت الصيغة، هنا: حيث قالوا: ولا يمكنه إظهار دينه، ولا يمكنه إقامة واجبات دينه، وهذا يدل على أن لكل جملة معنى غير الذي للأخرى .... قال في الإقناع وشرحه: وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه بدار الحرب، وهو ما يغلب عليها حكم الكفر، زاد جماعة وجزم في المنتهى أو بلد بغاة، أو بدع مضلَّة، كالرافضة والخوارج، فيخرج منها إلى دار أهل السنة وجوبًا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها.

فعلم: أن إظهار الدين في عبارة الموفق ومن قبله ومن بعده من الأصحاب، هو: إظهار التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، في بلد يخفى فيه، بل يجعل ضده هو الدين، ومن تكلَّم به هو الوهَّابي الخارجي، صاحب المذهب الخامس، الذي يكفر الأمة. (إظهار الدين يعني: مخالفة كل طائفة عاصية، بما اشتهر عنها، مع التصريح لها بشدة العداوة) وقال الشيخ العلامة حمد بن عتيق: وأما مسألة إظهار الدين، فكثير من الناس قد ظن: أنه إذا قدر أن يتلفظ بالشهادتين، وأن يصلي الصلاة ولا يرد عن المساجد، فقد أظهر دينه، وإن كان ببلد المشركين، وقد غلط في ذلك أقبح الغلط. قال: ولا يكون المسلم مُظهرًا للدين، حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عنها، ويصرِّح لها بعداوته، فمن كان كفره بالشرك فإظهار الدين له، أن يصرح بالتوحيد والنهي عن الشرك، والتحذير منه، ومن كان كفره بجحد الرسالة، فإظهار الدين عنده التصريح عنده، بأن محمدًا رسول الله، ومن كان كفره بترك الصلاة، فإظهار الدين عنده بفعل الصلاة. ومن كان كفره بموالاة المشركين، والدخول في طاعتهم، فإظهار الدين التصريح بعداوته وبراءته منه، ومن المشركين إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى، وقد مرَّ لك هذا صريحًا في كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في المواضع التي نقلها من السيرة، وسمَّاه العلامة عبد اللطيف واجبًا، قال فيه: وأي رجل نقل عنه، ما هو دون هذا الواجب؟! فالحاصل: هو ما قدَّمناه، من أن إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة، هو الامتياز عن عبَّاد الأوثان بإظهار المعتقد، والتصريح بما هم عليه، والبعد

عن الشرك، ووسائله، فمن كان بهذه المثابة إن عرف الدين بدليله وأمن الفتنة، جاز له الإقامة. والله أعلم. بقي مسألة العاجز عن الهجرة: ما يصنع؟ قال الوالد رحمه الله، لما سئل عنه: وأما إذا كان الموحِّد بين ظهراني أناس من المبتدعة والمشركين، ويعجز عن الهجرة، فعليه بتقوى الله، ويعتزلهم ما استطاع، ويعمل بما وجب عليه في نفسه، ومع من يوافقه على دينه، وعليهم أن يصبروا على أذى من يؤذيهم في الدين، ومن قدر على الهجرة وجب عليه، وبالله التوفيق. انتهى جوابه. وبه انتهى الجواب عن المسألة، وبالله التوفيق» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (12/ 393 - 420).

المبحث الثالث الأدلة الدالة على وجوب التباعد عن المشركين والرد على محاولة إسقاط فرض الهجرة من ديار المشركين

المبحث الثالث الأدلة الدالة على وجوب التباعد عن المشركين والرد على محاولة إسقاط فرض الهجرة من ديار المشركين لقد آل الأمر ببعض المنتفعين والمرتزقة، وبعض الجهَّال، إلى محاولة إسقاط فرض الهجرة من ديار المشركين، والطعن في علة الفرار بالدين عند خوف الفتنة عليه، ومن ثم مسخ مشروعيتها، وتوهين الأمر بها. ولقد راج باطل هؤلاء على كثير من عوام المسلمين، بل وأقاموا لهم المعاذير التي تحول دون قيامهم بفرض الهجرة، الذي هو من أعظم شعب الإيمان. فتصدَّى لإفك هؤلاء: أئمة الدعوة فسطَّروا الرسائل النافعة، والأجوبة الباهرة في بيان: أن الإيمان بالله، يستلزم البراءة من المشركين، وأن تكثير سواد المشركين قد يؤول إلى الكفر المبين والانسلاخ من الدين، وساقوا الأدلة والبراهين من الكتاب والسنة، الدالة على وجوب التباعد عن المشركين وعدم مساكنتهم ومجامعتهم، وأبانوا رحمهم الله تعالى: فوائد الهجرة، وعواقبها الطيبة في الدين والدنيا والآخرة، وإبراءً للذمة ونصحًا للأمة، فصَّلوا رحمهم الله تعالى أحكام وأحوال المقيمين بين أظهر المشركين. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى: قال الإمام أبو جعفر: محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2]، قال معناه: أظنَّ الذين جزعوا يا محمد من أصحابك، من

أذى المشركين إياهم أن نتركهم من غير اختبار، ولا ابتلاء وامتحان بأن قالوا: آمنا بك يا محمد، وصدقنك بما جئتنا به من عند الله؟ كلا لنختبرنهم، ليتبين الصادق من الكاذب. وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3]، قال: نزلت من أجل قوم، كانوا قد أظهروا الإسلام بمكة، وتخلَّفوا عن الهجرة. والفتنة التي فتن بها هؤلاء، هي: الهجرة التي امتحنوا بها، ذكر من قال ذلك، ثم ذكر بسنده عن الشعبي، قال: إنها نزلت: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} الآيتين [العنكبوت: 1، 2]، في أناس بمكة، قد أقرُّوا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فتبعهم المشركون فردُّوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزلت فيكم هذه الآية، آية كذا وكذا. فقالوا: نخرج، فإن تبعنا أحد قاتلناه، قال: فخرجوا، فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110]، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ...} إلى آخر الآية [العنكبوت: 10]، قال: نزلت في قوم من أهل الإيمان، كانوا بمكة فخرجوا مهاجرين، فأدركوا وأخذوا، فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوا منهم، ذكر الخبر بذلك. ثم ذكر بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستفتحون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحاب هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ...}

[النساء: 97]. قال: فكتبوا إلى من بقي من المسلمين بمكة بهذه الآية: أن لا عذر لهم، فخرجوا، فلحقم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ ...} إلى آخر الآية [العنكبوت: 10]، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير. ثم نزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110]، فكتبوا إليهم بذلك: أن الله قد جعل لكم مخرجًا، فخرجوا فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل. فانظر قول المسلمين: كان أصحاب هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاسغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ...} الآية [النساء: 97]، وظاهرها أنهم نهوا عن الاستغفار الدعاء، لمن قد مات مع سواد المشركين، ولو كان مسلمًا، فما أعز من يتفطن لهذه المسألة، بل ما أعز من يعتقدها دينًا .... (وجوب تولي المؤمنين، والبراءة من المشركين) وقال ابن كثير أيضًا، في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]. وهذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا، نهى الله نبيه أن يجعلهم كالمهاجرين في المغنم وغير ذلك، مما يقتضي الولاية. ثم قال: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]. لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، وحذَّرهم من توليهم، والقيام بين أظهرهم. ثم ذكر بسنده عن أسامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يتوارث أهل ملَّتين،

ولا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلمًا، ثم قرأ قوله تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]». ثم ذكر عن الزهري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخذ على رجل دخل في الإسلام، فقال: «تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وإنك لا ترى نار مشرك إلاَّ وأنت له حرب»، وهذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلاً من وجه آخر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين، لا تتراءا نارهما». ثم ذكر عن سمُرة بن جندب، أما بعد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله»، وقوله تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]، أي: إن لم تجانبوا المشركين، وتوالوا المؤمنين، وإلاَّ وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المسلم بالكافر، وفي ذلك ضعف للدِّين، وقوة للكافرين. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء} [التوبة: 23]، إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة: 24]. قال: يقول تعالى: لا تتخذوا بطانة وأصدقاء، تفشون إليهم أسراركم، وتؤثرون المقام معهم على الهجرة. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من نفر وبادر، ومنهم من تعلَّق به أهله وأولاده، يقولون له: ننشدك بالله أن لا تضيعنا، فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله هذه الآية، فنهوا عن القيام مع المشركين، وتكثير سوادهم، وأخبر أن إيثار هذه الأصناف الثمانية، على ما أمر الله به من الهجرة، معصية لله ورسوله، فقال: {فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

قلت: ظاهر هذا الخطاب، لمن ثبت إسلامه، ولم يصدر منه ما يناقضه، من الموالاة والنصرة، والإعانة بالنفس والمال، والدلالة على عورات المسلمين، وتمجيد المشركين في المنابر والمحافل، والانحناء، وخضع الرأس عند رؤيتهم، كل هذه الأشياء، أعظم مما نحن فيه، ويحكم على من فعلها بحكم الله فيه» (¬1). وبيَّن الشيخ سليمان بن سحمان: وجوب الهجرة على العبد من ديار المشركين، والبعد عنهم، وعدم مساكنتهم ومجامعتهم، ثم أخذ رحمه الله يصف أحوالاً لكثير من مشركي زمانه، ثم جزم بأن هذه الأوصاف متى علت دارًا من الديار، تكون دار شرك يحرم السفر إليها، ومساكنة أهلها ومجامعتهم، ثم أعقب ذلك بذكر شبهة في هذا الشأن لبعض المنتسبين لطلب العلم، ثم استعرض الردود عليها، فقال رحمه الله: «وقد نقل إلينا عن بعض من ينتسب إلى طلب العلم: أن يبيح السفر مطلقًا إلى من هذا دينه، وهذه نحلته، وهذه حال بلده، مستدلاً بسفر أبي بكر - رضي الله عنه - إلى بُصرى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه سفره، وأن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يكن يظهر دينه، وليس هذا الجهل بغريب ممن لم يعرف كفر هؤلاء، وأن أبا جهل وأشياعه ما وصل كفرهم إلى ساحل هذا الكفر العظيم، ولا عرف أن بلادهم بلاد كفر والحالة هذه. ولكن الذي يعلم به من نصح نفسه، وأراد نجاتها: أن الاستدلال لجواز سفر عوام الناس، الذين لا يعرفون ما أوجب الله عليهم، من معاداة المشركين، ومباداتهم بالعداوة والبغضاء، والتصريح لهم بالبراءة منهم، ومما يعبدون، بسفر أبي بكر - رضي الله عنه -، من دسائس الشيطان، فإن من المعلوم عند الخاص ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (8/ 277 - 291).

والعام، ولا ينكره إلاَّ مكابر مبخوس الحظ: أن الصحابة يظهرون دينهم، وقد بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا تأخذهم في الله لومة لائم، وإنكارهم - رضي الله عنهم - وأرضاهم باللسان، على من أحدث حدثًا أو فعل منكرًا معروف مشهور .... (قيد مهم في الفرق بين السفر إلى ديار المشركين الأصليين، وديار المشركين المرتدين) ومن المعلوم: أن النصارى والمجوس يعلمون أن العرب على غير دينهم، حتى في الجاهلية، والعرب يعلمون أن هؤلاء على غير دين، فالكل منهم متميز عن الآخر بدينه، خصوصًا بعد البعثة، فإنه من المعلوم: أن أهل الإسلام يكفِّرونهم، لا يشك في ذلك أهل الكتاب ولا غيرهم، بخلاف عباد القبور اليوم وأشياعهم. فإنهم ينتسبون إلى الإسلام، ويتلفَّظون بالشهادتين، وغالبهم يصلي ويصوم ويحج، ومن لا يفعل ذلك قد يعظم من يفعل ذلك ويرى فضله، ومع هذا كله، فحالهم كما تقدم قريبًا، من صرفهم خالص حق الله لمعبوداتهم، ولو علموا ممن يسافر إلى ديارهم، أنهم على غير دينهم، وأنهم يكفِّرونهم، لأوقعوا بهم الفتنة، ولآذوهم، فقياس هؤلاء الكفرة على أولئك، من القياس الباطل المردود، مع أن السفر إلى ديار هؤلاء وهؤلاء ممنوع، لكن أهل الكتاب والمجوس، يعلمون أنهم على غير دينهم، بخلاف عباد القبور، فإنهم يظنون أن من سافر إلى بلادهم على دينهم. إذا تبين هذا، وعلمته، فسفر أبي بكر - رضي الله عنه -، كان مع إظهار دينه، ومن أظهر دينه كما ينبغي، فلا مانع من سفره إن أمن على نفسه ودينه» (¬1). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (8/ 467 - 471).

المبحث الرابع أحكام وأحوال المقيم بين أظهر المشركين

المبحث الرابع أحكام وأحوال المقيم بين أظهر المشركين قال الشيخ أبو بطين في جواب سؤال ورد عليه: «وما ذكرت من حال من يكون بين ظهراني المشركين، فإن كان يقدر على إظهار التوحيد، بحيث يظهر لهم القول، بأن هذه الأمور الشركية، التي تفعل عند القبور وغيرها، باطل وضلالة، وأنا بريء منه وممن يفعله، فمثل هذا لا تجب عليه الهجرة، وإن كان لا يقدر على إظهار ذلك، مع اعتقاد بطلانه، وأنه الشرك العظيم، فهذا ترك واجبًا عليه، ولا يكفر بذلك» (¬1). وسئل الشيخان حسين وعبد الله ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعًا عن: رجل دخل الدِّين وأحبه ويحب من دخل فيه، ويبغض الشرك وأهله، ولكن أهل بلده يصرِّحون بعداوة أهل الإسلام، ويقاتلون أهله، ويعتذر أن ترك الوطن يشق عليه، ولم يهاجر عنهم، فهل يكون مسلمًا أو كافرًا؟ وهل يعذر بعدم الهجرة؟ الجواب: أما الرجل الذي عرف التوحيد وآمن به، وأحبه وأحب أهله، وعرف الشرك وأبغضه، وأبغض أهله، ولكن أهل بلده على الكفر والشرك، ولم يهاجر، فهذا فيه تفصيل: فإن كان يقدر على إظهار دينه عندهم، ويتبرأ مما هم عليه من الكفر والشرك، ويظهر لهم كفرهم وعدواتهم، ولا يفتنونه عن دينه، لأجل عشيرته أو ماله، أو غير ذلك، فهذا لا يحكم بكفره، ولكنه إذا قدر على الهجرة ولم يهاجر، ومات بين أظهر المشركين، فيخاف عليه أن يكون قد دخل في أهل ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (8/ 295).

هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]. فلم يعذر الله إلاَّ من لا يستطع حيلة ولا يهتدي سبيلاً، ولكن قلَّ أن يوجد اليوم من هو كذلك، إلاَّ أن يشاء الله، بل الغالب: أن المشركين لا يدعونه بين أظهرهم، بل إما قتلوه، وإما أخرجوه إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وأما إن لم يكن له عذر، وجلس بين أظهرهم، وأظهر لهم أنه منهم، وأن دينهم حق، ودين الإسلام باطل، فهذا كافر مرتد، ولو عرف الدين بقلبه، لأنه يمنعه عن الهجرة محبة الدنيا على الآخرة، ويتكلَّم بكلام الكفر من غير إكراه، فدخل في قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل: 106، 107]» (¬1). وسئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف: «ما يقال في الهجرة من بين ظهراني المشركين من البادية والحاضرة، وفضلها، وما الواجب منها، وما المستحب، وهل بين بادية نجد وغيرهم كعنزة والظفير، ومن والاهم من بادية الشمال ومن جنوب إلى ما لا يخفى على المسؤول. الجواب: الهجرة من واجبات الدين ومن أفضل الأعمال الصالحة، وهي سبب لسلامة دين العبد وحفظ لإيمانه وهي أقسام: الأول: هجر المحرَّمات التي حرَّمها الله في كتابه وحرمها رسوله - صلى الله عليه وسلم - على جميع المكلَّفين، وأخبر أن من هجرها فقد هجر ما حرَّمه الله عليه. وقد ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 140، 141).

أخبر - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، وهذا أمر مجمل شامل لجميع المحرمات القولية والفعلية. القسم الثاني: الهجرة من كل بلد تظهر فيها شعائر الشرك وأعلام الكفر ويعلن فيها بالمحرَّمات، والمقيم فيها لا يقدر على إظهار دينه والتصريح بالبراءة من المشركين وعداوتهم، ومع هذا يعتقد: كفرهم وبطلان ما هم عليه، لكن إنما جلس بين ظهرانيهم شحًا بالمال والوطن فهذا عاص ومرتكب محرمًا وداخل في حكم الوعيد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]. إلى قوله: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99]. فلم يعذر الله إلاَّ المستعضف الذي لا يقدر على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدر ما عرف سلوك الطريق وهدايته إلى غير ذلك من الأعذار. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله» فلا يقال إنه بمجرد المجامعة والمساكنة يكون كافرًا، بل المراد أنه من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين وأخرجوه معهم كرهًا فحكمه حكمهم في القتل وأخذ المال لا في الكفر. وأما إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعًا واختيارًا وأعانهم ببدنه وماله فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر. ومن الهجرة الواجبة أيضًا: الهجرة من بين ظهراني الأعراب المتظاهرين بالكفر والشرك وارتكاب بعض المحرَّمات وهو عاجز عن إظهار دينه ولا قدرة له على الإنكار عليهم، فهذا هجرته فرض إذا قدر عليها، فإن تركها مع قدرته واستطاعته فحكمه حكم من هو في بلدان المشركين المتقدم ذكرهم» (¬1). ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (2/ 134، 135).

الفصل السابع أحكام القتال ومشروعية الجهاد

الفصل السابع أحكام القتال ومشروعية الجهاد وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: القتال في الإسلام منوط بالإصرار على فعل الشرك، ولا ترتفع السيوف المجردة عليه، حتى تتم البراءة منه إلى توحيد الله الخالص. المبحث الثاني: مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم الالتزام بشرائعه، ليس بمسقط للقتال، بل ويقاتل أهله قتال كفر وردة، حتى يكون الدين كله لله. المبحث الثالث: بعض الأسباب الموجبة لقتال أهلها. المبحث الرابع: المراد من إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد أصحابه لقتله مشركًا بعد ما تلفظ بالشهادتين. المبحث الخامس: الجهاد لا يسقط بحال عن الأمة، والقيام به شرط في صحة الإمامة.

المبحث الأول القتال في الإسلام منوط بالإصرار على فعل الشرك ولا ترتفع السيوف المجردة عليه، حتى تتم البراءة منه إلى توحيد الله الخالص

المبحث الأول القتال في الإسلام منوط بالإصرار على فعل الشرك ولا ترتفع السيوف المجردة عليه، حتى تتم البراءة منه إلى توحيد الله الخالص إن عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يُعبد من دونه، هما معنى ومدلول (لا إله إلاَّ الله)، هذه الكلمة التي من أجلها: جرِّدت السيوف، وشرع الجهاد، والهجرة من البلاد، وامتاز الطيب من خبيث العباد، وبها حقنت الدماء وعصمت الأموال، وجعلت مفرق الطريق الوحيد بين المسلمين والمشركين في الدنيا والآخرة. ولقد أجمع العلماء على أن عصمة دماء وأمول الخلائق متوقفة على: الإتيان بالتوحيد، والتزام أحكامه، مع الانخلاع من الشرك، فمتى أبى قوم عن التزام الشرائع، أو بعض منها، فالقتال باق على حاله إجماعًا. وبهذا نعلم: أن مجرَّد الإقرار بالشهادتين، لا يعصم أصحابه على الدوام، إلاَّ مع القيام بحقوقهما. ومن أجل هذا قامت الحروب والفتن بين الإمام المجدِّد وأحفاده مع خصومهم من أجل التوحيد، وفيه كانت الخصومة. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: إن مدلول شهادة أن لا إله إلاَّ الله، هو الالتزام بعبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يُعبد من دون الله، وهذا هو أصل الدين وقاعدته، ولهذا كانت هذه الكلمة، كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، والفارق بين الكافر والمؤمن من الأنام، ولها جردت السيوف، وشرع الجهاد وامتاز الخبيث من طيب

العباد، وبها حقنت الدماء، وعصمت الأموال» (¬1). وقال عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: إن الله أمر بقتال المشركين، حتى يتوبوا من الشرك، ويخلصوا أعمالهم لله تعالى ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا عن ذلك أو بعضه، قوتلوا إجماعًا (¬2). اهـ. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرحه على كتاب التوحيد: قوله: «من قال لا إله إلاَّ الله وكفر بما يعبد من دون الله»، اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث علق عصمة المال والدم بأمرين: الأول: قول لا إله إلاَّ الله. الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله. فلم يكتف باللفظ عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها. قلت: وقد أجمع العلماء على معنى ذلك، فلا بد في العصمة من الإتيان بالتوحيد، والتزام أحكامه، وترك الشرك كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39]، والفتنة هنا: الشرك، فدل على أنه إذا وجد الشرك فالقتال باق بحال، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة: 36]، وقال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5]. فأمر بقتالهم على فعل التوحيد، وترك الشرك، وإقامة شعائر الدين الظاهرة، فإذا فعلوها خلي سبيلهم، ومتى أبوا عن فعلها أو فعل شيء منها، ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (4/ 439)، بتصرف يسير. (¬2) «فتح المجيد: (ص 112)، بتصرف بسيط.

فالقتال باق بحاله إجماعًا، ولو قالوا: لا إله إلاَّ الله .... وفي «الصحيحين» أيضًا عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوه عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقها وحسابهم على الله». فهذا الحديث كآية براءة بيَّن فيه ما يقاتل عليه الناس ابتداء، فإذا فعلوه، وجب الكف عنهم إلاَّ بحقه، فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا الإقرار والدخول في الإسلام، وجب القتال حتى يكون الدين كله لله، بل وأقروا بالأركان الخمسة وفعلوها، وأبوا عن فعل الوضوء للصلاة ونحوه، أو عن تحرِّي بعض محرَّمات الإسلام كالربا أو الزنا أو نحو ذلك، وجب قتالهم إجماعًا، ولم تعصمهم لا إله إلاَّ الله ولا ما فعلوه من الأركان، وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلاَّ الله، وأنه ليس المراد منها مجرد النطق، فإذا كانت لا تعصم من استباح محرَّمًا، أو أبى عن فعل الوضوء مثلاً بل يقاتل على ذلك حتى يفعله، فكيف تعصم من دان بالشرك وفعله وأحبه ومدحه، وأثني على أهله، ووالى عليه، وعادى عليه، وأبغض التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله، وتبرأ منه، وحارب أهله، وكفرهم، وصد عن سبيل الله كما هو شأن عباد القبور. وقد أجمع العلماء على أن من قال: لا إله إلاَّ الله، وهو مشرك أنه يقاتل حتى يأتي بالتوحيد» (¬1). وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمهم الله تعالى: «وقد قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: إذا قال الكافر: لا إله إلاَّ الله، فقد ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد»: (99 - 101).

شرع في العاصم لدمه، فيجب الكف عنه، فإن تمَّم ذلك تحقَّقت العصمة وإلاَّ بطلت، ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال كل حديث في وقت، فقال: «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله»، وليعلم المسلمون: أن الكافر المحارب، إذا قالها كف عنه، وصار دمه وماله معصومًا. ثم بين - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين، فقال: «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة»، فبين: أن تمام العصمة وكمالها إنما يحصل بذلك، ولئلا تقع الشبهة: بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام، كما وقعت لبعض الصحابة، حتى جلاها أبو بكر الصديق، ثم وافقوه (» (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في جواب على سؤال ورد عليه من ابنه عبد اللطيف رحمهم الله جميعًا: «اعلم وفقك الله أن أهل نجد كانوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية فيهم بأَسوأ حال. أما الأعراب فلا يلتفت أحد منهم لشريعة الإسلام، لا في العبادات، ولا في غيرها من الأحكام في الدماء، ولا في الأموال، ولا في النكاح، والطلاق، والمواريث، وغير ذلك، وكانوا في شر عظيم فيما بينهم من الحروب كل طائفة تقاتل الأخرى، وتستحل دماءها وأموالها، والحضر عندهم في غاية الذل يأخذون المال منهم كرهًا. فلمَّا منَّ الله بهذه الدعوة، وقام الجهاد أجلبوا كلهم على محاربة من دعاهم إلى الإسلام، والتزام شرائعه، فحصل التأييد من الله لمن قام بدينه فجاهدوا الأعراب، وغيرهم على طاعة ربهم، والتزام ما شرعه ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 310).

فبقوا على جهاد الأعراب، كلما أسلمت قبيلة جاهدوا بها الأخرى، فما زالوا يجاهدونهم على أن يسلموا، ويصلُّوا، ويزكوا، وأكثرهم ألقى السلم لأهل الإسلام» (¬1). وقال الشيخ أبو بطين رحمه الله تعالى: والشيخ محمد بن عبد الوهاب، قاتل من قاتله، ليس لكونهم بغاة، وإنما قاتلهم على: ترك الشرك، وإزالة المنكرات، وعلى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة» (¬2). * * * ¬

(¬1) «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية»: (3/ 147، 148). (¬2) «الدرر السنية»: (9/ 9).

المبحث الثاني مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم الالتزام بشرائعه ليس بمسقط للقتال، بل ويقاتل أهله قتال كفر وردة حتى يكون الدين كله لله

المبحث الثاني مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم الالتزام بشرائعه ليس بمسقط للقتال، بل ويقاتل أهله قتال كفر وردة حتى يكون الدين كله لله إن الله سبحانه، اشترى من المؤمنين: أموالهم وأنفسهم، وأمرهم ببذلهما في سبيله، حتى يكون الدين كله لله، وتلك بيقين هي علة مشروعية القتال في الإسلام، وعليه: فإذا كان بعض الدين لله، وبعضه لغير الله، وجب القتال إجماعًا، حتى يكون الدين كله لله، ومن ثم كان: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام، الظاهرة المتواترة، فإنها تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وناطقة بالشهادتين، وملتزمة لبقية الشرائع، بغير خلاف بين العلماء. وتقاتل على ذلك: قتال كفر وردة، تغنم أموالها، وتسبى ذراريها. قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: «قال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى - لما سئل عن قتل التتار مع التمسك بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام - فقال: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين ببعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة - رضي الله عنهم - مانعي الزكاة. وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، مع سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما، فاتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام عملاً بالكتاب والسنة. وكذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله: «تحقرون صلاتكم

مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم»، فعلم: أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال، أو الخمر، أو الزنا، أو الميسر، أو نكاح المحارم، أو عن التزام جهاد الكفر، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التى لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها، والتي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء، وإنما اختلف العلماء في الطائفة الممتنعة، إذا أصرَّت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر أو الأذان أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام، بمنزلة مانعي الزكاة، وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ولهذا افترقت سيرته - رضي الله عنه - في قتاله أهل البصرة وأهل الشام، وفي قتاله لأهل النهروان، فكانت سيرته مع البصريين والشاميين سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك، وثبتت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق - رضي الله عنه - لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

فتأمل رحمك الله تعالى تصريح هذا الإمام في هذه الفتوى: بأن من امتنع عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، كالصلوات الخمس، والصيام، والزكاة، أو الحج، أو ترك المحرَّمات كالزنا أو تحريم الدماء والأموال، أو شرب الخمر أو المسكرات، أو غير ذلك، أنه يجب قتل الطائفة الممتنعة عن ذلك حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا جميع شرائع الإسلام، إن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين ببعض شرائع الإسلام، وأن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف، الصحابة فمن بعدهم، وأن ذلك عمل بالكتاب والسنة. فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر وخروج عن الإسلام، كما صرَّح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام، بل هم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة. والله أعلم. وقال الشيخ رحمه الله تعالى في آخر كلامه على كفر مانعي الزكاة: والصحابة لم يقولوا هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الصحابة بحال، بل قال الصدِّيق لعمر رضي الله عنهما: والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. فجعل المبيح للقتال: مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرُّون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة وهي: قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعًا: أهل الردَّة. وكان من أعظم فضائل الصدِّيق عندهم أن ثبته الله على قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله.

وأما قتال المقرِّين بنبوة مسيلمة فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم، وهذه حجة من قال إن قاتلوا الإمام عليها كفروا وإلاَّ فلا، فإن كفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة، بخلاف من لم يقاتل الإمام عليها» (¬1). وقال الشيخ عبد الله أبو بطين رحمه الله تعالى: «وأما من ادعى أن من قال: لا إله إلاَّ الله، فإنه لا يجوز قتله، وإن فعل أي ذنب، ولا قتال الطائفة الممتنعة إذا قالوا هذه الكلمة، فهذا قول مخالف للكتاب والسنة، والإجماع، ولو طرد هذا القائل أصله، لكان كافرًا بلا شك .... (الأدلة على كفر وقتل، من فعل ما يستوجبهما أو واحدًا منهما، ممن انتسب إلى أهل القبلة) ونذكر بعض ما اطلعنا عليه، من كلام فقهاء المذاهب، قال الشيخ الأجهوري المالكي: من ترك فرضًا أخره لبقاء ركعة بسجدتها من الضروري، قتل بالسيف حدًا على المشهور، وقال ابن حبيب وجماعة خارج المذهب: كافرًا، واختاره ابن عبد السلام. وقال في فضل الأذان، قال المازري: في الأذان معنيان: أحدهما: إظهار شعائر الإسلام، والتعريف بأن الدار دار إسلام، وهو فرض كفاية يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه، إن عجز عن قهرهم على إقامته إلاَّ بقتال، والثاني: الدعاء إلى الصلاة والإعلام بوقتها. وقال الآبي في شرح مسلم، والمشهور: أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر، لأنه شعار الإسلام، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يسمع أذانًا ¬

(¬1) «عقيدة الموحدين»، الكلمات النافعة: (235 - 238).

أغار وإلاَّ أمسك، وقول المصنف: يقاتلون عليه، ليس القتال عليه من خصائص القول بالوجوب، لأنه نص عن عياض في قول المصنف: والوتر غير واجب، لأنهم اختلفوا في التمالي على ترك السنن، هل يقاتلون عليها؟ والصحيح قتالهم وإكراههم، لأن في التمالي على تركها إماتتها. انتهى. وقال في فضل صلاة الجماعة: صلاة الجماعة مستحبَّة للرجل في نفسه، فرض كفاية في الجملة، يعني على أهل المصر، قال: ولو تركوها قوتلوا، كما تقدم. انتهى. وقال الشيخ أحمد بن حمدان، الأذرعي الشافعي، في «كتاب قوت المحتاج، في شرح المنهاج»: من ترك الصلاة جاحدًا وجوبها، كفر بالإجماع، وذلك جار في أي جحود كان مجمعًا عليه، معلومًا من الدين بالضرورة، فإن تركها كسلاً قتل حدًا على الصحيح، والمشهور ... وقال ابن حجر الهيثمي في «التحفة»، في باب حكم تارك الصلاة: إن ترك الصلاة جاحدًا وجوبها، كفر بالإجماع، أو تركها كسلاً مع اعتقاد وجوبها، قتل كما قال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله» الحديث، فإنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة: الإسلام، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لكن الزكاة يمكن الإمام أخذها ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا وقاتلوا، فكانت فيها على حقيقتها، بخلافها في الصلاة، فإنه لا يمكنه فعلها بالمقاتلة، فكانت فيها بمعنى القتل» (¬1). اهـ. * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (12/ 121 - 130).

المبحث الثالث بعض الأسباب الموجبة لقتال أهلها

المبحث الثالث بعض الأسباب الموجبة لقتال أهلها ولقد بيَّن العلماء بعض الأسباب الموجبة لقتال أهلها منها: 1 - الوقوع في الشرك الأكبر المناقض للإسلام من كل وجه. 2 - الخروج على إمام مسلم موحِّد مقدِّم لأحكام ربه وشريعته على ما دونهما من الأحكام والشرائع. 3 - عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم. 4 - مظاهرة المشركين، وإعانتهم على المسلمين بيد، أو لسان، أو بمال. 5 - من منع شيئًا من شعائر الإسلام الظاهرة، أو امتنع عن أداء شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة. 6 - إذا ظهر في بلد أعلام الشرك، وأعلنت فيه المحرمات، وعطلت معالم الدين، حتى تصير بلاد كفر وشرك. قال بعض علماء نجد - رحمهم الله تعالى -: أما بعد: فإنه قد بلغني أن بعض الناس، قد أشكل عليه جهاد المسلمين لأهل حايل، هل هو شرعي أم لا؟ فأقول وبالله التوفيق: الجهاد مشروع لأحد أمور، منها: الأمر الأول: الخروج عن طاعة ولي أمر المسلمين، فمن خرج عن طاعته، وجب جهاده على جميع الأمة، ولو كان الخارج مسلمًا، كما جاهد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الخوارج، وهو يعتقد إسلامهم، فإنه سئل عن كفرهم، فقال: من الكفر فرُّوا، وقال مرة أخرى لما سئل عنهم: إخواننا بغوا علينا. والدليل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل، يريد

أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم، فاضربوا عنقه كائنًا من كان». وما زال الأئمة في كل زمان ومكان، يجاهدون من خرج عن طاعة إمام المسلمين، والعلماء يجاهدون معهم ويحضونهم على ذلك، ويصنفون التصانيف في فضل ذلك، وفي فضل من قام فيه، لا يشك أحد منهم في ذلك، إلاَّ أن يأمر الإمام بمعصية الله، فلا تحل طاعته لأحد، بل تحرم طاعة مخلوق في معصية الخالق. وأهل حائل: أمرهم الإمام بالدخول في الطاعة، ولزوم السنة والجماعة، ومنابذة أهل الشرك، وعداوتهم وتكفيرهم، فأبوا ذلك وتبرءوا منه، والإمام يقول - من أول الأمر إلى يومنا هذا - لهم: الشريعة، مقدمة بيني وبينكم، نمشي على ما حكمت به، على العين والرأس، فلم يقبلوا ولم ينقادوا، فوجب قتالهم على جميع المسلمين لخروجهم عن الطاعة، حتى يلتزموا ما أمرهم به الإمام، من طاعة الله تعالى. الأمر الثاني: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به، عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، فإن ذلك من نواقض الإسلام ومبطلاته، فمن اتصف به فقد كفر، وحل دمه وماله، ووجب قتاله حتى يكفر المشركين، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله إلاَّ الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه»، فعلَّق عصمة المال والدم بأمرين: الأول: قول لا إله إلاَّ الله. والثاني: الكفر بما يُعبد من دون الله. الأول: قوله: لا إله إلاَّ الله، والمراد معناها لا مجرَّد لفظها، ومعناها هو توحيد الله بجميع أنواع العبادة. الأمر الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، والمراد بذلك تكفير المشركين، والبراءة منهم ومما يعبدون مع الله. فمن لم يكفِّر المشركين من الدولة التركية، وعبَّاد القبور، كأهل مكة

وغيرهم، ممن عبد الصالحين، وعدل عن توحيد الله إلى الشرك، وبدَّل سنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالبدع، فهو كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم، ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين، فإن الذي لا يكفِّر المشركين، غير مصدِّق بالقرآن، فإن القرآن قد كفر المشركين، وأمر بتكفيرهم، وعداوتهم وقتالهم. قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله في نواقض الإسلام. الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحَّح مذهبهم، كفر. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من دعا علي بن أبي طالب، فقد كفر، ومن شك في كفره، فقد كفر. الأمر الثالث: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به، مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين بيد أو بلسان أو بقلب أو بمال، فهذا كفر مخرج من الإسلام، فمن أعان المشركين على المسلمين، وأمد المشركين من ماله بما يستعينون به على حرب المسلمين اختيارًا منه، فقد كفر. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في نواقض الإسلام، الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، فمن اتصف بشيء من هذه الصفات، مما ينقض الإسلام، أو منع شيئًا من شعائر الإسلام الظاهرة، أو امتنع عن أداء شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، فإنه يجاهد حتى يقر بذلك ويلتزمه. وبهذا يتبيَّن لك، أن جهاد أهل حائل، من أفضل الجهاد، ولكن لا يرى ذلك إلاَّ أهل البصائر، وأما من لا بصيرة عنده، فهو لا يرى الجهاد إلاَّ لأهل الأوثان خاصة، وأما من اقر بالشهادتين، فلا يرى جهاده» (¬1). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (9/ 289 - 292).

وقال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى، لبعض إخوانه: بلغني ما ساءني، وعسى أن يكون كذبًا، وهو: أنك تنكر على من اشترى من أموال أهل الأحساء، التي تؤخذ منهم قهرًا، فإن كان صدقًا فلا أدري ما عرض لك، والذي عندنا أنه لا ينكر مثل هذا، إلاَّ من يعتقد معتقد أهل الضلال، القائلين: أن من قال لا إله إلاَّ الله لا يكفر، وأن ما عليه أكثر الخلق من فعل الشرك وتوابعه، والرضا بذلك، وعدم إنكاره، لا يخرج من الإسلام. وبذلك عارضوا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في أصل هذه الدعوة، ومن له مشاركة فيما قرَّره المحققون، قد اطلع على أن البلد، إذا ظهر فيها الشرك، وأعلنت فيها المحرَّمات، وعطِّلت فيها معالم الدين، أنها تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم، وقد زاد أهل هذه البلد، بإظهار المسبَّة لله ولدينه، ووضعوا قوانين ينفذونها في الرعية، مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقد علمت أن هذه كافية وحدها، في إخراج من أتى بها من الإسلام» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (9/ 256).

المبحث الرابع المراد من إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد أصحابه لقتله مشركا بعد ما تلفظ بالشهادتين

المبحث الرابع المراد من إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد أصحابه لقتله مشركًا بعد ما تلفظ بالشهادتين وأما حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما الذي أنكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: قتله لمشرك بعد ما تلفظ بـ: لا إله إلاَّ الله، فإليكم بيانه والمراد منه، وفق الأصول الكلية، والمقتضيات الشرعية. سئل أبناء الشيخ وحمد بن ناصر، عن المشرك إذا قال لا إله إلاَّ الله حال الحرب؟ فأجابوا: هذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان المشرك لا يتلفظ بها في حال شركه وكفره، كحال المشركين الذين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا إذا قال: لا إله إلاَّ الله، وجب الكف عنه، لأنها دليل على إسلامه وإقراره، لأن المشركين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقولونها، وإذا قالها أحدهم كانت دالة على إسلامه، وهذا معنى الأحاديث التي جاءت في الكف عمن قال لا إله إلاَّ الله. كحديث أبي هريرة المتَّفق عليه: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقها، وحسابهم على الله عز وجل». وكذلك حديث أسامة، لما قتل الرجل في الحرب بعدما قال: لا إله إلاَّ الله، فلما ذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنكر ذلك عليه، وقال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلاَّ الله؟»، فقال: يا رسول الله، إنما قالها تعوُّذًا، وفي رواية: إنما قالها خوفًا من السلاح، فقال: «أفلا شققت عن قلبه». قال العلماء: وفي ذلك أنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ...} [النساء: 94]، فدلَّت

الآية على أنه يجب الكف عن المشرك إذا أظهر الإسلام، ولو ظن أنه إنما قال ذلك خوفًا من السيف، فإن تبين بعد ذلك أنه إنما أظهر الإسلام تعوذًا، قتل، ولهذا قال تعالى: {فَتَبَيَّنُواْ} [النساء: 94]، والتبيُّن هو: التثبت والتأني، حتى يتبين حقيقة الأمر، وأما إذا كان المشرك يتلفظ بلا إله إلاَّ الله، في حال كفره وردَّته، ويفعل من الأفعال ما يوجب كفره وأخذ ماله، فهذا يقتل ويباح دمه وماله، كما قال الصديق - رضي الله عنه -، لعمر - رضي الله عنه -، لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان فيهم طائفة يشهدون أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدًا رسول الله، ويصلون، ولكنهم منعوا الزكاة .... وأما قولك: إن المسلمين إذا أمسكوا أحدًا يشهد أن لا إله إلاَّ الله، أنهم يقتلونه ويأسرونه، فجواب هذه المسألة، نظير الجواب في التي قبلها، ونحن نقول: لا إله إلاَّ الله قول وعمل، فمن قال لا إله إلاَّ الله، ولم يعلم معناها، ولم يعمل بمقتضاها، لم ينفعه ذلك، فإن المنافقين الذين في الدرك الأسفل في النار، يقولون لا إله إلاَّ الله ولم ينفعهم ذلك. وكذلك بنو حنيفة، الذين قاتلهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقولون: لا إله إلاَّ الله، ويؤذِّنون، ويصلَّون، وهم كفار بالإجماع، وقد أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو بني المصطلق لما قيل له إنهم منعوا الزكاة، وهم يقولون: لا إله إلاَّ الله، ويؤذنون ويصلون، وكذلك على حرق الغالية، وهم يقولون: لا إله إلاَّ الله. وكذلك الخوارج الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه، مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم»، وأخبر أنهم شر قتيل تحت أديم السماء، وقاتلهم علي - رضي الله عنه -، وهم يقولون: لا إله إلاَّ الله، ويعملون أعمالاً شاقة» (¬1). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (9/ 239 - 243).

المبحث الخامس الجهاد لا يسقط بحال عن الأمة والقيام به شرط في صحة الإمامة

المبحث الخامس الجهاد لا يسقط بحال عن الأمة والقيام به شرط في صحة الإمامة إن الإمام، لا يكون إمامًا إلاَّ بالجهاد، لأنه ماضي إلى قيام الساعة، والدين لا يقوم إلاَّ به، ويستحيل أن يسقط فرضه على الأمة، لأن قيامها بالعمل المناط بنشأتها وعلة وجودها، متوقف وقائم عليه. وعليه، فأي طائفة، مجتمعه، ولها منعة، فعليها جهاد أعداء الله بقدر ما تستطيع، إما باللسان، وإما باليد، وإما بالقلب، وإما بهم جميعًا، بل ولا يسقط عنها فردها بحال. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى، في ردِّه على أحد المثبطين عن الجهاد: «وأما قولك: ولا وجه لاستدلالك علينا بهذه الآية (¬1)، فإن هذه الآية جهادية مع إمام متبع، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان هناك إمام متبع، فعرِّفنا لعلَّنا نتَّبعه. فأقول: قد بيَّنا خطابك في قولك: أن الآية جهادية، وأنه قول على الله وفي كتابه بلا علم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. ¬

(¬1) هي قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

ويقال: بأي كتاب، أم بأية حجة أن الجهاد لا يجب إلاَّ مع إمام متبع؟! هذا من الفرية في الدين، والعدول عن سبيل المؤمنين، والأدلة على إبطال هذا القول أشهر من أن تذكر، من ذلك عموم الأمر بالجهاد، والترغيب فيه، والوعيد في تركه، قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251]، وقال في سورة الحج: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} [الحج: 40]. وكل من قام بالجهاد في سبيل الله، فقد أطاع الله وأدَّى ما فرضه الله، ولا يكون الإمام إمامًا إلاَّ بالجهاد، لأنه (¬1) لا يكون جهاد إلاَّ بإمام، والحق عكس ما قلته يا رجل، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ...} الآية [سبأ: 46]، وقال: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6]. وفي الحديث: «لا تزال طائفة» الحديث، والطائفة بحمد الله موجودة مجتمعة على الحق، يجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] إلى قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، أي: واسع الفضل والعطاء، عليم بمن يصلح للجهاد. والعبر والأدلة على بطلان ما ألفته، كثير في الكتاب والسنة والسير والأخبار، وأقوال أهل العلم بالأدلة والآثار، لا تكاد تخفى على البليد إذا (¬2) علم بقصة أبي بصير، لما جاء مهاجرًا فطلبت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرده إليهم، بالشرط الذي كان بينهم في صلح الحديبية، فانفلت منهم حين قتل المشركين، اللذين أتيا في طلبه. ¬

(¬1) هكذا في الأصل وإن كان السياق يقتضي: لأنه ... والله تعالى أعلم. (¬2) بياض بالأصل (هكذا في الأصل).

فرجع إلى الساحل لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ويل أمِّه مسعر حرب، لو كان معه غيره»، فتعرَّض لعير قريش - إذا أقبلت من الشام - يأخذ ويقتل، فاستقل بحربهم دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم كانوا معه في صلح - القصة بطولها - فهل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطأتم في قتال قريش، لأنكم لستم مع إمام؟ سبحان الله ما أعظم مضرة الجهل على أهله؟ عياذًا بالله من معارضة الحق بالجهل والباطل، قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13] .... ولا ريب: أن فرض الجهاد باق إلى يوم القيامة، والمخاطب به المؤمنون، فإذا كان هناك طائفة مجتمعة لها منعة، وجب عليها أن تجاهد في سبيل الله بما تقدر عليه، لا يسقط عنها فرضه بحال، ولا عن جميع الطوائف، لما ذكرت من الآيات، وقد تقدم الحديث: «لا تزال طائفة» الحديث. فليس في الكتاب والسنَّة ما يدل على أن الجهاد يسقط في حال دون حال، ولا يجب على أحد دون أحد، إلاَّ ما استثني في سورة براءة (¬1)، وتأمل قوله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40]» (¬2). * * * ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 91، 92]. (¬2) «الدرر السنية»: (8/ 199 - 203).

الفصل الثامن نواقض الإسلام وأحكام الردة والمرتدين

الفصل الثامن نواقض الإسلام وأحكام الردَّة والمرتدين وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريف الردَّة، وأهمية الإحاطة برءوس مسائلها. المبحث الثاني: متعلقات الردَّة، مع ذكر أهم أحكامها.

المبحث الأول تعريف الردة، وأهمية الإحاطة برءوس مسائلها

المبحث الأول تعريف الردة، وأهمية الإحاطة برءوس مسائلها لا نشك في أن العلم بنواقض الإسلام، ومبطلات الإيمان، من افرض الفرائض، وأهم المطالب، ولذا فينبغي على المسلم الإحاطة بها، أو على الأقل بمعاقد فروعها ومسائلها، لئلا يقع في شيء من محذوراتها وهو لا يشعر. وبقدر وضوح هذه النواقض في حسّ المسلمين بقدر ما ستظل الفروق والحدود بين الإسلام والكفر، ظاهرة وبينة وفاصلة، ومن ثمّ يتسنِّى للمؤمنين: القيام بفريضة الولاء والبراء، التي هي عمود من أعمدة الملة، وركن ركين من أركانها. والردة: هي الكفر بعد الإسلام، وتكون بالقول، والفعل والاعتقاد، والشك، وليس من شروطها أن يقول المرتد: ارتددت عن ديني، ولكن إن قالها، اعتبر قوله من أنواع الردة. ولقد كثرت وشاعت نواقض الإسلام، على ألسنة وجوارح كثير من العامة، من غير أن يعلم أكثرهم بكونها ردة مخرجة من الملة، ومحبطة لكل الأعمال الصالحة، فلذا لزم التنبيه، وتوجَّب التحذير، فلعلها إذا بانت لهم واتضحت، سارعوا إلى اجتنابها، لئلا يتعرَّضون لسيف الشرع المشهر فوق رءوس المرتدين في الدنيا، وكذا الهوي في الخلود الأبدي في نار جهنم في الآخرة، أعاذنا الله برحمته جميعًا منها. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب حكم المرتد، الذي يكفر بعد إسلامه، نطقًا أو شكًا أو اعتقادًا أو فعلاً، ولو مميزًا، أو كان هازلاً، لقوله تعالى: {أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ

تَسْتَهْزِؤُونَ} [التوبة: 65]؛ فمن أشرك بالله تعالى كفر بعد إسلامه، ولو (¬1) مكرهًا بحق كفر، أو جحد ربوبيته أو وحدانيته كفر، أو جحد صفة من صفاته، أو ادَّعى النبوة، أو صدَّق من ادَّعاها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو استهزأ بالله أو رسله، أو هزل فيه ذكر الله تعالى» (¬2). وقال أيضًا رحمه الله تعالى: اعلم: أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة. الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116]، ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن، أو القباب. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم الشفاعة، كفر إجماعًا. الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحَّح مذهبهم، كفر إجماعًا. الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه، فهو كافر. الخامس: من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو عمل به، كفر إجماعًا، والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]. السادس: من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه، أو عقابه، كفر، والدليل قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ ¬

(¬1) هكذا في الأصل ولعلها: لا. (¬2) «الدرر السنية»: (1/ 88/89).

كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]. السابع: السحر ومنه الصرف ولعطف، فمن فعله، أو رضي به، كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102]. الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]. التاسع: من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يسعه الخروج من شريعته، كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام، فهو كافر. العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعمل بها، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة: 22]. ولا فرق في جميع هذه النواقض، بين الهازل، والجاد والخائف، إلاَّ المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطرًا، ومن أكثر ما يكون وقوعًا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلَّى الله على محمد» (¬1). وسُئلت اللجنة الدائمة، جزى الله أصحابها عن المسلمين خيرًا: السؤال الثاني والثالث من الفتوى رقم 7150 س: يقال إن الردة قد تكون فعلية أو قولية، فالرجاء أن تبينوا لي باختصار واضح أنواع الردة الفعلية والقولية والاعتقادية؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .... وبعد: ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 91 - 93).

ج: الردة: هي الكفر بعد الإسلام، وتكون بالقول والفعل والاعتقاد والشك. فمن أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، أو صفة من صفاته، أو بعض كتبه، أو رسله، أو سبَّ الله، أو رسوله، أو جحد شيئًا من المحرَّمات المجمع على تحريمها، أو استحله، أو جحد وجوب ركن من أركان الإسلام الخمسة، أو شك في وجوب ذلك، أو في صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو غيره من الأنبياء، أو شك في البعث، أو سجد لصنم، أو كوكب، ونحوه، فقد كفر، وارتد عن دين الإسلام. وعليك بقراءة أبواب حكم الردة من كتب الفقه الإسلامي فقد اعتنوا به رحمهم الله. وبهذا تعلم من الأمثلة السابقة الردة القولية والعملية والاعتقادية وصورة الردة في الشك. س: يقال إن الردة القولية تكون بلفظ كلمة الردة كسبِّ الدين، ويقال أيضًا إن من ارتد بهذا السبب أو ما شابهه فقد بطل ما عمل قبل ذلك من صلاة وصيام وزكاة ... إلخ، أو نذر نذره على نفسه. فهل يجب قضاء ما فات أو ما بطل بذلك السبب أو لا إن كان نعم فهل يتم قضاء الصوم بالتتابع في الأيام أم لا؟ ج: سبق بيان أنواع الردة، وليس من شرط ذلك أن يقول المرتد ارتددت عن ديني، لكن لو قال ذلك اعتبر قوله من أنواع الردة. وليس على المرتد إذا رجع إلى الإسلام أن يقضي ما ترك في حال الردة من صلاة وصوم وزكاة ... إلخ. وما عمله في إسلامه قبل الردة من الأعمال الصالحة لم يبطل بالردة إذا رجع إلى الإسلام، لأن الله سبحانه علق ذلك بموته على الكفر كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ ...}

[البقرة: 161]، الآية من سورة البقرة، وقال سبحانه: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ...} [البقرة: 217]، الآية من سورة البقرة. أما نذره حال إسلامه فهو باق إذا كان النذر طاعة، فعليه أن يوفي به بعد الرجوع إلى الإسلام، وهكذا ما في ذمته من حق لله أو لعبادة قبل أن يرتد فهو باق. وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز (¬1) * * * ¬

(¬1) «فتاوى اللجنة الدائمة»: (2/ 3 - 5).

المبحث الثاني متعلقات الردة، مع ذكر أهم أحكامهما

المبحث الثاني متعلقات الردَّة، مع ذكر أهم أحكامهما لقد مرق من الإسلام بعض أهله، وذلك على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من بعده، مع استقبالهم للقبلة، وما كانوا عليه من العبادة والزهد والورع. فإذا كان كذلك، فليعلم: أن المنتسب للإسلام، بل وللسنَّة، في هذه الأزمان، قد يمرق أيضًا من الدين، ويرتد عن الملَّة، بفعل ناقض من نواقض الشهادتين. والردة قد تتعلق بـ: حق الله سبحانه، أو كتبه، أو أنبيائه، أو ملائكته، أو أحكامه وشريعته وأوامره ونواهيه وأخباره ... والمسلم إذا وقع في ناقض من نواقض الإسلام، ارتد بذلك ونطقه بالشهادتين، وانتسابه للملة، مع عمله ببعض الشرائع، لا يدرأ عنه: الكفر، والردة، والقتل بعد الاستتابة. فإذا أتى الشهادة، بحكم العادة، حال ردته وكفره، ولم تخلعه من الكفر الذي حل فيه، فلا يرتفع عنه حكمه، حتى يدخل تائبًا من الباب الذي خرج منه كافرًا. قطوف من رسالة الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى قال الشيخ بعد أن حمد الله، وصلى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: أما بعد: فهذه فصول وكلمات، نقلتها من كلام العلماء المجتهدين، أصحاب الأئمة الأربعة، الذين هم أئمة أهل السنة والدين، في بيان بعض الأفعال والأقوال المكفِّرة للمسلم، المخرِّجة له من الدين، وأن تلفظه

بالشهادتين، وانتسابه إلى الإسلام، وعمله ببعض شرائع الدين، لا يمنع من تكفيره وقتله، وإلحاقه بالمرتدين ... فنقول: أما كلام الشافعية: فقال ابن حجر في كتاب «الزواجر عن اقتراف الكبائر» الكبيرة الأولى: الكفر والشرك، أعاذنا الله منه، ولما كان الكفر أعظم الذنوب، كان أحق أن يبسط الكلام عليه وعلى أحكامه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116] ... ثم قال: «تنبيهات» منها: بيان الشرك، وذكر جملة من أنواعه، لكثرة وقوعها في الناس، وعلى ألسنة العامة، من غير أن يعلموا أنها كذلك فإذا بانت لهم فلعلهم أن يجتنبوها، لئلا تحبط أعمال مرتكبي ذلك، ويخلدون في أعظم العذاب، وأشد العذاب، ومعرفة ذلك أمر مهم جدًا. (أخطار الردة): فإن من ارتكب مكفرًا تحبط جميع أعماله، ويجب عليه قضاء الواجب منها، عند جماعة من أئمة، كأبي حنيفة، ومع ذلك فقد توسَّع أصحابه في المكفِّرات، وعدوا منها جملاً مستكثرة جدًا وبالغوا في ذلك أكثر من بقية أئمة المذاهب، هذا مع قولهم: إن الردة تحبط جميع الأعمال، وبأن من ارتد بانت منه زوجته، وحرمت عليه، فمع هذا التشديد، بالغوا في الاتساع في المكفِّرات؛ فتعين على كل ذي مسكة في دينه: أن يعرف ما قالوه، حتى يجتنبه، ولا يقع فيه فيحبط عمله، ويلزمه قضاؤه، وتبين منه زوجته عند هؤلاء الأئمة .... فصل: وأما كلام الحنفية، فقال في كتاب تبيين المحارم المذكورة في القرآن، «باب الكفر»، وهو: الستر وجحود الحق، وإنكاره، وهو أول ما ذكره في القرآن العظيم من المعاصي، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6].

وهو أكبر الكبائر على الإطلاق، فلا كبيرة فوق الكفر - إلى أن قال -. (أنواع الكفر): واعلم أنَّ ما يلزم به الكفر أنواع، نوع يتعلَّق بالله سبحانه، ونوع يتعلَّق بالقرآن وسائر الكتب المنزلة، ونوع يتعلق بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء والملائكة والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام. فأما: ما يتعلق بالله سبحانه، إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به، بأن شبه الله سبحانه بشيء من المخلوقات أو نفى صفاته، أو قال بالحلول والاتحاد، أو معه قديم غيره، أو معه مدبِّر مستقل غيره، أو اعتقد أنه سبحانه جسم، أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو كفر باسم من أسمائه، أو أمر من أمره، أو وعيده أو وعده، أو أنكرهما، أو سجد لغير الله. أو سبَّ الله سبحانه، أو ادَّعى أن له ولدًا، أو صاحبة، أو أنه متولد من شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئًا من خلقه، أو افترى على الله سبحانه وتعالى الكذب، بادعاء الإلهية أو الرسالة، أو نفى أن يكون خالقه ربه، وقال ليس لي ربًا، أو قال لذرة من الذرات: هذه خلقت عبثًا وهملاً، وما أشبه ذلك مما لا يليق به، سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا؛ يكفر في هذه الوجوه كلها بالإجماع، سواء فعله عمدًا أو هزلاً، ويقتل إن أصرَّ على ذلك، وإن تاب تاب الله عليه، وسلم من القتل. انتهى كلامه بحروفه. فتأمَّل رحمك الله تصريحه بأن من أشرك في عبادة الله غيره، أنه يكفر بالإجماع، ويقتل إن أصرَّ على ذلك .... فصل: وأما كلام الحنابلة، فقال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذا لم يدخلوا بها تحت أمر

غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداءً بمن عبد اللات والعزى. انتهى كلامه. فتأمل قوله: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، وتشبيهه إياهم بمن عبد اللات والعزى. وقال الشيخ تقي الدين في الرسالة السنية، لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من انتسب إلى الإسلام، من مرق منه من عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان، قد يمرق أيضًا من الإسلام، وذلك بأسباب، منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ...} الآية [النساء: 171] .... وقال رحمه الله تعالى - أي شيخ الإسلام، في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} [البقرة: 173]. ظاهرة: أنه ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقرِّبين به إلى الله، كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له، والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفرًا من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربًا إليه لحرم، وإن قال فيه باسم الله، كما قال فعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ رحمه الله. فتأمل رحمك الله هذا الكلام، وتصريحه فيه: بأن من ذبح لغير الله من

هذه الأمة، فهو كافر مرتد، لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيها مانعان. الأول: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع. الثاني: أنها مما أهل به لغير الله، وقد حرَّم الله ذلك في قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [الأنعام: 145]. وتأمل قوله: ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. والله أعلم .... (حكم ساب النبي - صلى الله عليه وسلم -) وقال الشيخ رحمه الله تعالى في كتاب «الصارم المسلول على شاتم الرسول»: قال الإمام إسحاق بن راهويه، أحد الأئمة، يعدل بالشافعي وأحمد: أجمع المسلمون: أن من سبَّ الله أو رسوله، أو دفع شيئًا مما أنزل الله، أنه كافر بذلك، وإن كان مقرًا بكل ما أنزل الله. وقال محمد بن سحنون - أحد الأئمة من أصحاب مالك - أجمع العلماء على أن شاتم الرسول كافر، وحكمه عند الأئمة القتل، ومن شك في كفره كفر، قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن: على من سبه القتل. وقال الإمام أحمد فيمن سبَّه يقتل، قيل له: فيه أحاديث؟ قال: نعم، منها: حديث الأعمى الذي قتل المرأة، وقول ابن عمر: من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل، وعمر بن عبد العزيز يقول: يقتل، وقال في رواية عبد الله: لا يستتاب، فإن خالد بن الوليد قتل رجلاً شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يستتبه. انتهى. فتأمل رحمك الله: كلام إسحاق بن راهويه، ونقله الإجماع على أن من سبَّ الله، أو سبَّ رسوله، أو دفع شيئًا مما أنزل الله أنه كافر، وإن كان مقرًا بكل ما أنزل الله، يتبين لك: أن من تلفظ بلسانه بسبِّ الله تعالى، أو سبِّ

رسوله فهو كافر مرتد عن الإسلام، وإن أقر بجميع ما أنزل الله، وإن كان هازلاً بذلك لم يقصد معناه بقلبه، كما قال الشافعي: من هزل بشيء من آيات الله فهو كافر، فكيف بمن هزل بسبِّ الله، أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ ولهذا قال الشيخ تقي الدين: قال أصحابنا وغيرهم، من سبَّ الله تعالى كفر، مازحًا أو جادًا، لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ...} [التوبة: 65، 66]. قال: وهذا هو الصواب المقطوع به. انتهى. ومعنى قول إسحاق رحمه الله تعالى: أو دفع شيئًا مما أنزل الله، أن يدفع أو يرد شيئًا مما أنزل الله في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الفرائض، أو الواجبات، أو المسنونات، أو المستحبات، بعد أن يعرف أن الله أنزله في كتابه، أو أمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو نهى عنه، ثم دفعه بعد ذلك، فهو كافر مرتد، وإن كان مقرًا بكل ما أنزل الله في كتابه من الشرع، إلاَّ ما دفعه وأنكره، لمخالفته لهواه أو عادته، أو عادة أهل بلده، وهذا معنى قول العلماء: من أنكر فرعًا مجمعًا عليه كفر، فإذا كان من أنكر النهي عن الأكل بالشمال، أو النهي عن إسبال الثياب، بعد معرفته أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، فهو كافر مرتد، ولو كان من أعبد الناس وأزهدهم .... فصل: قال في الإقناع وشرحه «باب حكم المرتد»، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، نطقًا، أو شكًا، أو فعلاً، ولو مميزًا، فتصح ردته كإسلامه، لا مكرهًا، لقوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، ولو هازلاً، لعموم قوله تعالى: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} [المائدة: 54]، وأجمعوا على وجوب قتل المرتد؛ فمن أشرك بالله تعالى، كفر بعد إسلامه، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116].

أو جحد ربوبيته، أو جحد صفة من صفاته، أو اتخذ له صاحبة أو ولدًا كفر، أو ادَّعى النبوة، أو صدَّق من ادَّعاها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر، لأنه مكذِّب لقوله تعالى: {وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، أو جحد نبيًا، أو كتابًا من كتب الله، أو شيئًا منه، أو جحد الملائكة، أو واحدًا ممن ثبت أنه ملك كفر، لتكذيبه القرآن، أو جحد البعث كفر، أو سبَّ الله ورسوله كفر، أو استهزأ بالله أو كتبه، أو ورسله، لقوله: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ} [التوبة: 65]. قال الشيخ: أو كان مبغضًا لرسوله، أو لما جاء به اتفاقًا، أو جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، كفر إجماعًا، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام، قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. أو أتى بقول، أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين، الذي شرعه الله، كفر، للآية السابقة، أو وجد منه امتهان للقرآن، كفر. وإن أتى بقول يخرجه عن الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني، فهو كافر، أو سخر بوعد الله، أو وعيده، فهو كافر، لأنه كالاستهزاء بالله، أو لم يكفر من دان بغير الإسلام أو شك في كفرهم - إلى أن قال - ومن قال: أنا محتاج إلى محمد، في علم الظاهر، دون علم الباطن، أو قال: من الأولياء من يسعه الخروج عن الشريعة، كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى، فهو كافر. ومن سبَّ الصحابة - رضي الله عنهم -، أو واحدًا منهم، واقترن بسبِّه دعوى أن عليًا إله، وأن جبرائيل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره، وأما من لعن، أو قبَّح مطلقًا، فهذا محل الخلاف، توقف أحمد في تكفيره وقتله» (¬1). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (10/ 149 - 239).

الفصل التاسع أشهر الشبهات المثارة على أئمة الدعوة والرد الوافر عليها

الفصل التاسع أشهر الشبهات المثارة على أئمة الدعوة والرد الوافر عليها وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: الرد على شبهة التنقُّص بمقام الرب سبحانه. المبحث الثاني: الرد على شبهة التنقص بحق النبي - صلى الله عليه وسلم -، والازدراء بمقام الرسالة. المبحث الثالث: الرد على شبهة تكفير المسلمين واعتزالهم. المبحث الرابع: الرد على أشهر الشبهات المثارة في حق إمام الدعوة خاصة رحمه الله تعالى.

المبحث الأول الرد على شبهة التنقص بمقام الرب سبحانه

المبحث الأول الرد على شبهة التنقُص بمقام الرب سبحانه (شبهة التجسيم) تلك الشبهة التي لم يزل أعداء أهل السنة والجماعة يرمونهم بها، وما نقموا منهم إلاَّ أنهم وصفوا ربهم بما وصف به نفسه، ووصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على وجه يليق بجلاله وكماله وعظيم سلطانه، من غير تعطيل، ولا تحريف، ولا تشبيه، متَّبعين في ذلك - لا مبتدعين - صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذين هم أعلم الأمة بربِّها ونبيِّها ودينها، وذلك بإجماع الأمة، شاء أهل الأهواء ذلك أم أبوا. قال أحد المناوئين لدعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: [كتهمة الوهابية للذات العلية يعتقدون بأن لله جسم محدود، مُؤلَّف من أعضاء، يد محسوسة يبطش بها، ورجل يمشي بها، يجلس ويقوم، ويغدو ويروح، وينزل ويرتفع، فأصبحوا كإخوانهم النصارى في الناسوت واللاهوت، لعب إبليس بلحاهم حتى أرداهم وأخرجهم من دائرة الإسلام، لأن المجسِّمة ليسوا من الإسلام في شيء ... إلخ]. قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله تعالى في الرد على هذا الافتراء: والجواب أن يقال: مراده بالوهابية: أتباع أئمة الدعوة السلفية، التي قام بها في نجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدِّد القرن الثاني عشر، وهو وأتباعه رحمهم الله لهم (¬1) مذهب خاص، بل هو في العقيدة على معتقد ¬

(¬1) هكذا في الأصل، ولعلها: ليس لهم ...

السلف الصالح والأئمة الأربعة ومن تبعهم بإحسان، وهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام السنة والحديث، مع أنهم لا يعيبون من تبع مذهب إمام من الأئمة المعتبرين، وإذا تبين لهم الحق والصواب في غير مذهب إمامهم، تبعوه مع من كان، وقد ذكرنا آنفًا أننا متَّبعون للنص والدليل ندور معه حيث دار، ففيما ذكره هذا القائل عدة أخطاء: الأول: تسميته لهم بالوهَابية: بعد أن عرفت أنهم لم يختصوا بشيء ولم يبتدعوا جديدًا، وأن كل ما قالوه: إنهم متبعون للنصوص وللسلف الصالح، ولأن القائم بالدعوة ليس هو عبد الوهاب، وإنما هو ابنه الشيخ محمد، فهم المحمديون أصلاً وفرعًا، ولأن الوهَّاب اسم من أسماء الله تعالى، فهو الذي وهبهم الهداية والعلم والعمل. الثاني: رميه لهم بالتجسيم: فهم لم يقولوا بذلك أبدًا، ولم يستعملوا هذه اللفظة إثباتًا ولا نفيًا، فمن قال: إن الله جسم فهو مبتدع، وكذا من نفى الجسم فهو مبتدع أيضًا، حيث إن هذه اللفظة. لم ترد في النصوص، ولم يستعملها السلف والأئمة، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، مع أنا نثبت الصفات الواردة ونعتقد حقيقتها، وننفي عنها التشبيه والتمثيل، ولا يلزم أن تكون (¬1) مجسمة إذا قلنا: بأن الله فوق عباده على عرشه بائن من خلقه، أو قلنا: إن له يدًا ووجهًا وعينًا كما يشاء، أو قلنا: إنه ينزل ويجيء لفصل القضاء كما يشاء، فإن هذه الصفات ونحوها قد وردت بها النصوص، فنحن نعتقد حقيقتها ولا نمثلها بخصائص المخلوق، ولا نثبت لها كيفية أو مثالاً، فكما لم ندرك كُنْهَ الذات وماهيتها، فهكذا نقول ¬

(¬1) «هكذا في الأصل»، ولعلها: نكون.

في هذه الصفات، فإنا نثبتها إثبات وجود لا إثبات تكيف وتحديد، كما قال ذلك أكابر الأئمة، فكيف يلزم من ذلك أن تكون مجسمة؟! وكذا قوله: (محدود). نفضل ترك الخوض في الحد، مع أنه من المسائل التي أثبتها بعض السلف ونفاها البعض، ولكن الأفضل التوقف، حيث إن البحث في ذلك مُبْتَدَع، وإن اللفظ لم يرد في الأدلة، ومع ذلك فعذر من أثبت الحد ومن نفاه أن لكل منهما مقصدًا ظاهره الصحة. وبالجملة: فلا اختصاص لنا بهذا دون غيرنا، ولكن هذا الكاتب مزجي البضاعة في عقيدة السلف وأقوالهم، وكان الأولى أن يوجه طعنه لومه على علماء السلف وأئمتهم، فإن هذه الأقوال والمذاهب المأثورة عنهم مدونَّة في مؤلفاتهم الموجود المشهور!!» (¬1). ¬

(¬1) «الكنز الثمين»: (ص 264 - 271).

المبحث الثاني الرد على شبهة التنقص بحق النبي - صلى الله عليه وسلم - والازدراء بمقام الرسالة

المبحث الثاني الرد على شبهة التنقص بحق النبي - صلى الله عليه وسلم - والازدراء بمقام الرسالة نفث أحد المجرمين المناوئين للتوحيد والتحنف في رُوع أتباعه من المشركين بأن الوهابية: لم يدركوا طبيعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحقيقية، ووقفوا عند حدود طبيعته البشرية، بل وحكموا بكفر من وصف نبي الله ومصطفاه - صلى الله عليه وسلم - بأنه نور، كيف لا والله يمد بواسطته كل من أراد هدايته بالأنوار والأسرار، ثم جفوا كعادتهم، فحكموا بأن التوسل به - صلى الله عليه وسلم - شرك صريح مخرج من ملته السمحاء. وليت أمرهم وقف عند هذا، بل قاموا بتجريد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كل خصائصه ومزاياه، التي من الله بها عليه، حتى استوى لديهم: التوسل به، والاستشفاع بالأصنام، وجعلوها على حد سواء ... قال أحد المناوئين لدعوة الشيخ المجدد رحمه الله تعالى: [ومن أسف أن الوهابية قالوا: تمجيد الرسول بما يخرجه عن طبيعته البشرية باطل وزور ... إلخ]. وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله تعالى بقوله: جوابه أن يقال: مراده بالوهابية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن انتفع بدعوته السلفية رحمهم الله، وقد علم أنه رحمه الله لم يأت بجديد، وإنما جدَّد للناس ما اندرس من معالم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد .... (المشروع من محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -): فأما الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإننا نمجده ونحبه ونقدِّم محبته على الأنفس

والأموال فإن ذلك شرط لصحة الإيمان، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده والناس أجمعين»، ولكن لا نخرجه بهذه المحبة عن طبيعة البشر فنجعله ربًا، أو إلهًا، أو خالقًا، أو رازقًا، وإنما ميزته الرسالة، حيث فضله الله على جميع البشر، وأنزل عليه الوحي وكلفه بحمل الرسالة وتبليغها إلى جميع الناس، مع أنه لا يزال متصفًا بالبشرية وبالعبودية. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]، بل إن الرسل كلهم لم يخرجوا عن وصف البشرية كما حكى الله عن الرسل قولهم ولأممهم: {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، ولمَّا تعنَّت بعض المشركين وطلبوا منه بعض الآيات التي لا يقدر عليها إلاَّ الله، قال الله تعالى له: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} [الإسراء: 93]. فهل من دليل يفيد أن الرسل ما خرجوا عن طبيعة البشرية، فصاروا يعلمون الغيب ويملكون التصرف في الكون، ويشاركون الرب في الإعطاء والمنع، والضر والنفع، ونحو ذلك؟ أليس قد قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الأحقاف: 9]. بل أمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه هذه الأمور، حيث قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] .... الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو النور والسراج المنير: فأما قوله - أي المناوئ السابق -: [وحكموا بكفر من وصفه بأنه نور، وغاب عن هؤلاء الحمير بأن الله قد وصفه بالسراج المنير بصيغة المبالغة، بمعنى أن الله عز وجل يمد بواسطته كل من أراد هدايته بالأنوار والأسرار ... إلخ].

جوابه أن يقال: متى حكمنا بكفر من وصفه بأنه نور؟! أين نصوص علماء الدعوة في ذلك؟! هذا من الكذب الصريح والبهتان المبين، بل هم متَّبعون لما وصفه الله به من ذلك، كما في قوله تعالى: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة: 15]. قال أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية من سورة المائدة: يعني بالنور: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - الذي أنار الله به الحق وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به يبين الحق، ومن إنارته الحق تبيينه لليهود كثيرًا مما كانوا يخفون من الكتاب. لكن لا يلزم من هذا الوصف أن يًصرف له شيء من حق الله فلا يُدعى مع الله ولا يُعظَّم كتعظيم الله، ولا يوصف بشيء من خصائص الله» (¬1). * * * ¬

(¬1) «الكنز الثمين»: (ص 298 - 306).

المبحث الثالث الرد على شبهة تكفير المسلمين واعتزالهم

المبحث الثالث الرد على شبهة تكفير المسلمين واعتزالهم شبهة تكفير المسلمين: الشبهة الدائمة الدوران بدعاة التوحيد، والمُعَدَّة سلفًا ودومًا من أعدائهم أهل الإرجاء والخنوع والإرجاف، إنهم الخوارج وأهل التكفير ... وقد استباحوا دماء المصلِّين، واستحلوا أعراضهم، وجعلوها بمنزلة الكفار الأصليين من اليهود والنصارى والمشركين. لقد وقف الغلاة من أهل الإرجاء هذا الموقف لأن الشرك والمعصية عندهم على رتبة واحدة، ولا فرق في الأسماء والأحكام، ومن ثم نظروا إلى من يكفرون بالشرك كنظرتهم للذين يكفرون بالمعصية، وظنوا بل قطعوا وقرَّروا: أن الجميع قد خرج من تحت عباءة الخوارج، الذين هم أهل التكفير، سبحانك هذا بهتام عظيم وإفك مبين. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى في بيان هذه الشبهة والرد عليها: «قال العراقي: والخوارج هم كما في البخاري ومسلم وغيرهما من سائر كتب الحديث أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين - وأطال الكلام في الخوارج، وذكر بعض النصوص فيهم مع تصرف وعدم تحقيق ومعرفة للنقل - إلى أن قال - فتبين لك أن علامة الخوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة في الكفار على المؤمنين من أهل القبلة، ولهذا ما ترى أحدًا من أهل السنة يتفوه بذلك ولا يكفر أحدًا. ومنشأ هذه البدعة من سوء الظن واتباع العقل - ثم ذكر حديث اعتراض ذي الخويصرة التميمي على قسمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما قال له، ثم ذكر

قول الخوارج «لا حكم إلاَّ لله» وقال بعده: وكذلك إخوانهم في هذا الزمان يقولون: «لا يعبد إلاَّ الله»، فنقول: صدقتم هذه كلمة حق، ولكن أين الذي يعبد غيره إذا كان مسلمًا ناطقًا بالشهادتين، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج؟ والجواب أن يقال: إن الأحاديث والآثار التي جاءت بها السنة وصحَّت بها الأخبار في شأن الخوارج ووصفهم وذمهم، فهي معروفة مشهورة عند أهل العلم بالحديث والآثار. وقد ساقها مسلم في صحيحه من نحو عشرة أوجه. وهذا العراقي ليس من رجال هذا الشأن ولا يحسن الحكاية والنقل، ولا تمييز له بين مرفوعها وموقوفها، وصحيحها وسقيمها وغيره. يوضحه قوله: والخوارج هم في البخاري ومسلم وغيرهما من سائر كتب الحديث أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. فهذا كلام غبي غوي لا يدري الصناعة ولا يعرف ما في تلك البضاعة، فإن هذا اللفظ ليس مرفوعًا باتفاق. وليس في سائر كتب الحديث والسنن الأربعة، وصحيحي البخاري ومسلم، وليس فيها هذا اللفظ، فكلامه كلام جاهل بصناعة الحديث وروايته ولسنا بصدد بيان جهله وإفلاسه من العلوم، وإنما المراد كشف شبهه وردها. وحاصل مقصوده ونقله: تشبيه أهل الإسلام والتوحيد بالخوارج في تكفيرهم من عبد الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله، لأن عباد القبور عنده أهل سنة وجماعة، وأهل الإسلام من جنس الخوارج. الذين يكفرون أهل القبلة، هذا حاصل إسهابه ومضمون خطابه، لكن أطال بما لا طائل تحته. ونحن نتكلَّم على بدء أمر الخوارج وحقيقة مذهبهم، ثم نتكلم على مذهب عبَّاد القبور وما هم عليه، ثم نتبع ذلك بفصل نافع في بيان حال

الشيخ محمد رحمه الله وتقرير مذهبه، وما كان عليه في المعتقد والدين، ليعلم الواقف على ما قرنناه حقيقة المذاهب، وحاصل العقائد، فيما وقعت فيه الخصومة فنقول: (وأخذ الشيخ يتكلم في بحث نفيس، قلَّ أن يوجد نظيره، بيَّن فيه بداية خروج الخوارج، وحقيقة مذهبهم والأسباب الداعية لخروجهم، إلى أن قال رحمه الله): هذا ملخَّص أمرهم. وقد عرفت شبهتهم التي جزموا لأجلها بكفر علي وشيعته، ومعاوية وأصحابه. وبقي معتقدهم في أناس متفرقين بعد هذه الوقعة، ثم اجتمعت لهم شوكة ودولة فقاتلهم المهلَّب بن أبي صفرة، وقاتلهم الحجاج بن يوسف، وقاتلهم قبله ابن الزبير زمن أخيه عبد الله. وشاع عنهم التكفير بالذنوب، يعني ما دون الشرك، وبهذا تعرف حقيقة الحال، ويزول الإشكال الذي نشأت منه الشبهة. وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم في نونيته: ومن العجائب أنهم قالوا لمن قد دان بالآثار والقرآن أنتم بذا مثل الخوارج إنهم أخذوا الظواهر، ما اهتدوا لمعان وهذا داء قديم في أهل الشرك والتعطيل" من كفَّرهم بعبادتهم غير الله وتعطيل أوصافه وحقائق أسماءه، قالوا له: أنت مثل الخوارج، يكفرون بالذنوب ويأخذون بظواهر الآيات. ومعلوم أن الذنوب تتفاوت وتختلف بحسب منافاتها لأصل الحكمة المقصودة بإيجاد العالم، وخلق الجن والإنس، وبحسب ما يترتب عليها من هضم حقوق الربوبية، وتنقص رتبة الإلهية، وقد كفَّر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بكثير

من جنس الذنوب كالشرك وعبادة الصالحين، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه أكبر الكبائر، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قال قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك. فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ...} [الفرقان: 68]. فمن أنكر التكفير جملة فهو محجوج بالكتاب والسنة. ومن فرق بين ما فرق الله ورسوله بينه من الذنوب، ودان بحكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في الفرق بين الذنوب فقد أنصف، ووافق أهل السنة والجماعة، ونحن لم نكفر أحدًا بذنب دون الشرك الأكبر الذي أجمعت الأمة على كفر فاعله، إذا قامت عليه الحجة، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، كما حكاه في الإعلام لابن حجر الشافعي» (¬1). (شبهة الاعتزال): ولما قام أئمة الدعوة - تحقيقًا لملة إبراهيم الخليل (- بالبراءة من المشركين وآلهتهم التي يعبدونها من دون الله واعتزالهم. صرخ الشيطان في آذان حزبه ومريديه: إن هؤلاء من نسل المعتزلة، وخرجوا من ضئضئي عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء إماما الاعتزال وأهل الكلام {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى في أثناء رده على واحد من المشركين يتهمهم بهذا الإفك والبهتان: «إن هذا الملحد المبهرج، يسمِّي أهل التوحيد والإخلاص النافين للشرك، المعادين لأهله: معتزلة، والمعتزلة طائفة معروفة، ابتدعوا بنفي القدر، فنفوا ¬

(¬1) «انظر: «منهاج التأسيس»: (36 - 49).

ما أثبته الله في كتابه، وما أثبته رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما جرى به القلم بما يكون إلى يوم القيامة، واعتزلوا مجلس الحسن البصري، رحمه الله تعالى، وسمُّوا معتزلة لذلك، فإنهم اعتزلوا أهل السنة، وخالفوهم فيما ذكرنا، وقالوا: بالمنزلة بين المنزلتين، قالوا في صاحب الكبيرة فاسق لا مؤمن ولا كافر، وقالوا: بتخليده في النار. وخالفوا أيضًا ما تواترت به الأحاديث: أن الله يدخل من يشاء من أهل المعاصي النار، ثم يخرجهم منها بما معهم من التوحيد، فإذا جازاهم الله تعالى بإدخالهم النار، ومكثهم فيها على قدر ذنوبهم، أخرجهم بما معهم من التوحيد، فأدخلهم الجنة برحمته، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، فإنهم خالفوا هذه الطائفة وكل مبتدع. ثم إن هؤلاء المعتزلة: وافقوا جهمًا وشيعته، في نفي الصفات، فنفوا ما أثبته الله لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته، من صفات كماله، ونعوت جلاله، على ما يليق بعظمته، ففارقت هذه الطائفة أهل السنة، بهذه البدع وغيرها، فلم يثبتوا الشفاعة لأهل الكبائر أيضًا، فهذا هو الذي تعلق به المبهرج الملحد. فإنه جعل الشرك وما دونه من الكبائر بابًا واحدًا، فظن أن من تعلق بالشفعاء، ورغب إليهم، وسألهم أن يشفعوا له، أن ذلك يوجب له شفاعتهم، فظن هذا الظن، أنه لا ينكر هذا إلاَّ المعتزلة، لأنهم ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر، على مذهبهم، وهذه الشفاعة أبطلها القرآن، فلاحظ فيها لمشرك .... فالمعتزلة الذين تقدم ذكر بدعتهم، لسنا بحمد الله في شيء من مقالاتهم، بل ننكرها عليهم، ونعتقد أنهم خالفوا ما تواترت به النصوص، وتظاهرت عليه أدلة القرآن، الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ

مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] .... (وجوب البراءة من المشركين) فالحنفاء أهل التوحيد، اعتزلوا هؤلاء المشركين، لأن الله أوجب على أهل التوحيد اعتزالهم وتكفيرهم والبراءة منهم، كما قال تعالى عن خليله إبراهيم - عليه السلام -: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 48]، إلى قوله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [مريم: 49]، وقال: {إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وقال عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ...} الآية [الكهف: 16]. فلا يتم لأهل التوحيد توحيدهم، إلاَّ باعتزال أهل الشرك، وعداوتهم وتكفيرهم، فهم معتزلة بهذا الاعتبار، لأنهم اعتزلوا أهل الشرك، كما اعتزلهم الخليل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -» (¬1). * * * ¬

(¬1) الدرر السنية (11/ 430 - 434).

المبحث الرابع الرد على أشهر الشبهات المثارة في حق إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى

المبحث الرابع الرد على أشهر الشبهات المثارة في حق إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ولقد أشاع المشركون عن إمام الدعوة رحمه الله تعالى: أنه ينهى عن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يريد أن يهدم قبته - صلى الله عليه وسلم -، وأن الشيخ يقرِّر: أن الناس منذ ستمائة سنة ليسوا على شيء، وأنه مبطل كتب المذاهب. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في رده على هذه التُرِّهات: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الذي يعلم من وقف عليه من الإخوان، المتبعين محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن ابن صياح: سألني عما ينسب إلي؟ فطلب مني أن أكتب الجواب، فكتبته: الحمد لله رب العالمين، أما بعد: فما ذكره المشركون على أني أنهى عن الصلاة على النبي، أو أني أقول: لو أن لي أمرًا، هدمت قبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أني أتكلم في الصالحين، أو أنهى عن محبتهم، فكل هذا كذب وبهتان، افتراه عليَّ الشياطين، الذين يريدون أن يأكلوا الناس بالباطل، مثل أولاد شمسان، وأولاد إدريس الذين يأمرون الناس ينذرون لهم، وينخونهم (¬1)، ويندبونهم (¬2)، وكذلك فقراء الشيطان، الذين ينتسبون إلى الشيخ عبد القادر رحمه الله، وهو منهم بريء، كبراءة علي بن أبي طالب من الرافضة .... ¬

(¬1) ينخونهم، أي: يعظمونهم، والنخوة: العظمة والكبر والفخر. انظر: لسان العرب - مادة (نخا). (¬2) الندب: فيه تعديد المحاسن، والاستجابة للمندوب راجع: المصدر السابق - مادة (ندب).

والجملة: فالذي أنكره: الاعتقاد في غير الله، مما لا يجوز لغيره، فإن كنت قلته من عندي، فارم به، أو من كتاب لقيته ليس عليه عمل فارم به كذلك، أو نقلته عن أهل مذهبي فارم به، وإن كنت قلته عن أمر الله ورسوله، وعمَّا أجمع عليه العلماء في كل مذهب، فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرض عنه لأجل أهل زمانه، أو أهل بلده، وأن أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه ... فإذا كان من اعتقد في عيسي ابن مريم، مع أنه نبي من الأنبياء وندبه ونخاه فقد كفر، فكيف بمن يعتقدون في الشياطين، كالكلب: أبي حديدة، وعثمان، الذي في الوادي، والكلاب الأخر في الخرج، وغيرهم في سائر البلدان، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله؟!» (¬1). وقال أيضًا رحمه الله تعالى في رسالة بعث بها إلا أهل القصيم جاء فيها: «ثم لا يخفى عليكم: أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم، قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدَّقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى على أمورًا لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي. فمنها قوله: إني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وإني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإني ادَّعي الاجتهاد، وإني خارج عن التقليد، وإني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفر من توسَّل بالصالحين، وإني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق، وإني أقول: لو اقدر على هدم قبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها، وجعلت لها ميزابًا من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإني أنكر ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 74 - 78).

زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر من حلف بغير الله. وإني (¬1) أكفر ¬

(¬1) قول الشيخ رحمه الله تعالى: وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وكذا بعض ما جاء قبله، وبعض ما جاء بعده، لا بد فيه من النظر: بعين الاعتبار والتأمل. ولا يسعنا في ذلك إلاَّ تأويل إمام الدعوة الثاني الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى - وقد مر علينا من قبل - أن هذا الكلام وأمثاله مثل: قوله وإن كنا لا نكفر من عبد الصنم عند قبر فلان بن فلان ... هو من باب السياسة الشرعية القائمة على مراعاة أحوال المدعوين، وحتى يتمكن الإمام من تمرين قومه على نفي الشرك، كيف لا وقد قرر الشيخ عبد الرحمن: أن ابن عربي هو إمام أهل الوحدة الذين هم أكفر أهل الأرض. اهـ. فتح المجيد: (ص 107). وهذا مما يؤكد على أن الدعوة الوهابية قد مرت بفترات متباينة في الجهر بأحكام التكفير، ولا أدل على ذلك من قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن الأمر لو كان مستقيمًا لأفتيت بحل دم ابن سحيم ووجوب قتله. وقد مرَّ علينا من قبل. وأما بالنسبة لكفر إمامي الزندقة ابن عربي وابن الفارض فنكتفي هنا بذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في بحث قل نظيره في بيان كفر الرافضة والاتحادية، قرر فيه الشيخ أن كفرهما أعظم من كفر اليهود والنصارى، بل وقد اتفق عليه سائر أهل الملل، بل ويضيف الشيخ إلى هذا: أن من كان مسلمًا في الباطن، وهو جاهل معظم لقول إمامي الزندقة فهو منهم، وبهذا نقطع أن ظاهر كلام الإمام محمد بن عبد الوهاب غير مراد وأنه من باب المعاريض الممدوحة، ولهذا ختمه بقوله: جوابي عن هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم، فتأمل أخي بعين الإنصاف هذه الجملة تجد ما قررناه صحيحًا منضطبًا بفضل الله تعالى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في النقل المشار إليه سابقًا: «وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادتهم العالمين بحقيقة قولهم، ولا ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من لا يكون في الباطن عالمًا بحقيقة باطنهم، ولا موافقًا لهم على ذلك، فيكون من أتباع الزنادقة المرتدين، الموالي لهم، المناصر لهم، بمنزلة أتباع الاتحادية، الذين يوالونهم ويعظمونهم، وينصرونهم، ولا يعرفون حقيقة قولهم في وحدة الوجود، وأن الخالق هو المخلوق. فمن كان مسلمًا في الباطن، وهو جاهل معظِّم لقول ابن عربي وابن سبعين، وابن الفارض وأمثالهم من أهل الاتحاد فهو منهم، وكذا من كان معظمًا للقائلين بمذهب الحلول والاتحاد، فإن نسبة هؤلاء إلى الجهمية كنسبة أولئك إلى الرافضة والجهمية، ولكن القرامطة أكفر من الاتحادية بكثير، ولهذا كان أحسن عوامهم أن يكونوا رافضة جهمية، وأما الاتحادية ففي عوامهم من ليس برافضي، ولا جهمي صريح، ولكن لا يفهم كلامهم، ويعتقد أن كلامهم كلام الأولياء المحققين، وبسط هذا الجواب له مواضع غير هذا. والله أعلم». انتهى كلامه بحروفه رحمه الله تعالى. «مجموع الفتاوى»: (35/ 144)، ومن أراد الوقوف على هذا البحث فليراجع من هذا الجزء صفحة (120 - 144).

ابن الفارض، وابن عربي، وإني أحرق دلائل الخيرات، وروض الرياحين، وأسميه روض الشياطين. جوابي عن هذه المسائل، أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، وقبله من بهت محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أنه يسبُّ عيسى ابن مريم، ويسب الصالحين، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور، قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 105]، بهتوه - صلى الله عليه وسلم - بأنه يقول: إن الملائكة، وعيسى، وعزيزًا في النار، فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. وأما المسائل الأخر وهي: أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلاَّ الله، وأني أعرف من يأتيني بمعناها، وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله، وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر، والذبيحة حرام، فهذه المسائل حق، وأنما قائل بها، ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقوال العلماء المتبعين، كالأئمة الأربعة، وإذا سهَّل الله تعالى، بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة، إن شاء الله تعالى. ثم اعلموا وتدبَّروا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ ...} الآية [الحجرات: 6]» (¬1). ¬

(¬1) «الدرر السنية»: (1/ 33 - 35).

ملخص مفيد لأهم مسائل وفوائد الباب الثالث

ملخص مفيد لأهم مسائل وفوائد الباب الثالث - لا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما وضع له لفظ الشهادة، ودل عليه، وقبوله، والانقياد للعمل به. - إن النطق بكلمتي الشهادة دليل العصمة لا أنه عصمة، أو يقال: هو العصمة لكن بشرط العمل. - التلفظ بـ «لا إله إلاَّ الله» وحده ليس عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كون المتلفظ بها لا يدعو إلا الله وحده، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك: الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم دمه وماله. - أجمع العلماء: على أن من قال لا إله إلا الله، وهو مشرك أنه يقاتل حتى يأتي بالتوحيد. - من أظهر التوحيد وجب الكف عنه، إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك. - التكفير بترك أصول التوحيد، وعدم الإيمان بها، من أعظم دعائم الدين. - لو عرف العبد معنى: لا إله إلا الله لعرف أن من شك، أو تردد في كفر من أشرك مع الله غيره، أنه لم يكفر بالطاغوت. - من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر. - أجمع العلماء: على أن شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كافر، وحكمه عند الأئمة القتل، ومن شك في كفره كفر. - من قال: من أتى بالشهادتين، وصلى، وصام، لا يجوز تكفيره، وإن عبد غير الله، فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر.

- أصول الدين، التي أوضحها الله، وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله عليها هي القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة. - من دعا علي بن أبي طالب فقد كفر، ومن شك في كفره فقد كفر. - أهل الفترة، الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن، وماتوا على الجاهلية، لا يسمون مسلمين بالإجماع، ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة. - قال محمد بن عبد الوهاب: كلام ابن تيمية في عدم تكفير المعين ليس فى تعذيبهم فى الآخرة. - قال محمد بن عبد الوهاب: كلام ابن تيمية فى تكفير المعين ليس فى الردة والشرك, بل فى المسائل الجزئيات. - الإسلام: هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له, والإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - , واتباعه فيما جاء به. فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم, وإن لم يكن كافرًا معندًا فهو كافر جاهل. - الله سبحانه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه. - قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص. - الله سبحانه لم يعذر أهل الجاهلية، الذين لا كتاب لهم بفعل الشرك الأكبر، فكيف يعذر أمة، كتاب الله بين أيديهم يقرؤونه ويسمعونه. - المشرك نفى ما أثبتته «لا إله إلا الله»، وأثبت ما نفته «لا إله إلا الله». - كل كافر قد أخطأ، والمشركون لا بد لهم من تأويلات، فلم يعذروا بذلك الخطأ، ولا بذلك التأويل. - لم يقل أحد من العلماء في باب المرتد: أنه إذا قال كفرًا، أو فعل كفرًا، وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين، أنه لا يكفر لجهله. - إن الإنسان يكفر بكملة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل

بمعناها، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله. - لا يجوز التقليد في الشرك لأنه تركه هو أصل الأصول، ولا عذر لمكلف في الجهل بحرمته. - المدعي: أن مرتكب الكفر متأولاً، أو مجتهدًا، أو مخطئًا، أو مقلدًا، أو جاهلاً معذور، مخالف للكتاب والسنة والإجماع بلا شك، مع أنه لا بد أن ينقض أصله، فلو طرد اصله كفر فلا ريب. - كل من بلغه القرآن، فليس بمعذور في الأصول الكبار، التي هي أصل دين الإسلام. - عدم تكفير المعين حتى تقام الحجة، لا يكون إلا في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر، والإرجاء، ونحو ذلك. - ظاهر الآيات، والأحاديث، وكلام جمهور العلماء يدل: على كفر من أشرك بالله فعبد معه غيره، ولم تفرق الأدلة بين المعين، وغيره. - لم يستثن العلماء الجاهل من حكم الكفر إذا عبد مع الله غيره، بل وكفروه بعينه، وذلك مبسوط في كتب الفقه في باب المرتد. - من عبد غير الله فهو مشرك شركًا أكبر، لا تصح صلاته في نفسه، فلا يجوز الائتمام به في الصلاة، ولا تصح الصلاة وراءه لشركه. - من دعا غير الله عبادة فهو مشرك مرتد عن الإسلام، لا يحل الأكل من ذبيحته لأنها ميتة، ولو ذكر اسم الله عليها. - البلد الذي يظهر فيه الشرك، ويعلم فيه بالمحرمات، ويعطل فيه مصالح الدين، يكون بلد كفر. - دار الإسلام: هي التي تجري أحكام الإسلام فيها، وإن لم يكن أهلها مسلمين،

وغيرها دار كفر. - قال الإمام مالك: لا يحل لأحد أن يقم بأرض يسب فيها السلف. - قال الإمام ابن كثير: كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حرامًا بالإجماع. - لا يكون المسلم مظهرًا للدين في دار الكفر، حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عنها من الضلال، ويصرح لها بالعداوة. - إذا كان الموحد بين ظهراني أناس من المبتدعة والمشركين، وهو عاجز عن الهجرة، فعليه بتقوى الله، ويعتزلهم ما استطاع، ويعمل بما وجب عليه في نفسه، ومع من يوافقه على دينه، وعليهم الصبر على الأذى حتى يجعل الله لهم مخرجا. - قال ابن كثير: إن لم تجانبوا المشركين، وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المسلم بالكافر، وفي ذلك ضعف للدين، وقوة للكافرين. - من خرج من المشركين مكرهًا لقتال المسلمين، فحكمه حكم الكفار في القتل، وأخذ المال لا في الكفر، وأما إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعًا واختيارًا، وأعانهم ببدنه وماله، فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر. - إن الله أمر بقتال المشركين حتى يتوبوا من الشرك، ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا عن ذلك، أو بعضه، قوتلوا إجماعًا. - قال ابن تيمية في حق التتار: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام

الظاهرة المتواترة، من هؤلاء القوم أو غيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين ببعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة - رضي الله عنهم - مانعي الزكاة؛ وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم. - قال ابن تيمية: إن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. - إن مما يوجب الجهاد لمن اتصف به: عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، فإن ذلك من نواقض الإسلام ومبطلاته، فمن اتصف به فقد كفر، وحلّ دمه وماله. - إن مما يوجب الجهاد لمن اتصف به: مظاهرة المشركين، وإعانتهم على المسلمين، بيد، أو بلسان، أو بقلب، أو بمال، فهذا كفر مخرج من الإسلام. - الردة: هي الكفر بعد الإسلام، وتكون بالقول، والفعل، والاعتقاد، والشك. وليس من شرطها أن يقول المرتد: ارتددت عن ديني، لكن لو قال ذلك، اعتبر قوله من أنواع الردة. - الحنفاء أهل التوحيد: اعتزلوا أهل الشرك، لأن الله أوجب على أهل التوحيد اعتزالهم، وتكفيرهم، والبراءة منهم. * * *

الخاتمة

الخاتمة أسأل الله العلى القدير: أن أكون قد وفقت في عرض وإبانة شمولية منهج أئمة الدعوة - رحمهم الله تعالى - وأن أكون قد ساهمت ولو بقدر ضئيل في تقديم منهج، وسط، مستقيم في الاعتقاد والأحكام، يصلح أن تنتهجه الأمة الإسلامية، وهي تصارِع وتصارَع من قِبَل كافة الملل والنحل، الخارجة عن هدف وجود البشرية، والمرتدة عن فطرة الخليقة، فطرة الله، التي فطر الناس عليها. ولا شك أن وسطية، وخيرية هذا التراث تعود إلى اعتماد أصحابه في الاعتقاد، والمسائل، والدلائل على الكتاب والسنة بفهم أصحاب الثلاثة القرون الأولى، قرون الخيرية والاستقامة. وأريد أن ألفت نظر إخواني الكرام، بعد سؤال كثير منهم عن الكتاب الذي نوهت بذكره في نهاية كتاب «فتاوى الأئمة النجدية»، الخاص «بتقريب تراث شيخ الإسلام ابن تيمية في الاعتقاد والأحكام» أني لظروف معينة اضطررت أن أخرجه في صورة رسائل متسلسلة - إن شاء الله وأعان - وإن كنت أتمنى أن أخرجه كاملاً، ولكنْ الله المستعان، وعليه التكلان. وأتمنى من إخواني أن لا يبخلوا ليّ بالدعاء إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض أن يعينني على التوفيق، والإخلاص والسداد في إخراج هذا الكتاب على الوجه اللائق بتراث شيخ الإسلام ابن تيمية، ذلك العالم الرباني، الذي طالما واجه الطواغيت، والمنافقين، والكفار، والمشركين، والملاحدة، والمبتدعين، حيًا وميتًا.

وأبشركم بأن الرسالة الأولى قد انتهيت منها بفضل الله، وهي تحت الطبع الآن إن شاء الله تعالى. أسأل الله سبحانه أن يجعل هذا العمل صالحًا، ولوجه خالصًا، وأن لا يجعل فيه لأحد من دونه من شيء، وأن يبارك فيه، وأن يجعله ذخرًا طيبًا لي، ولأولادي، ولأهلي في الدنيا، وعتقًا لنا من النيران في الآخرة. أخوكم أَبُو يُوسُف مدحت بن الْحسن آل فراج الرياض 11472، ص. ب: 7612 - جوال: 0506237685 [email protected]

فهرس المراجع والمصادر

فهرس المراجع والمصادر - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان - لعبد الرحمن بن ناصر السعدي - تقديم: محمد زهري النجار، الناشر: دار المدني، سنة الطبع 1408 هـ - 1988 م. - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - مجموعة رسائل ومسائل علماء نجد الأعلام، من عصر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى عصرنا هذا - جمع: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي القحطاني النجدي الحنبلي - الطبعة الخامسة سنة الطبع: 1413 هـ - 1992 م. - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية - لبعض علماء نجد الأعلام - أشرف على إعادة الطبع: عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم - الناشر: دار العاصمة (الرياض) - الطبعة الثانية في عام: 1409 هـ. - مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - قام على تصحيحها وطباعتها: عبد العزيز زيد الرومي، د. محمد بلتاجي، د. سيد حجاب، الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. - مجموعة التوحيد - مجموعة رسائل لابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب وأحفاده - الناشر: دار العليان للنشر والنسخ والتصوير (القصيم - بريدة). - عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين: مكتبة الطرفين (الطائف) - الطبعة الأولى - سنة الطبع: 1411 هـ - 1991 م. - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد - سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - تحقيق: مجدي بن منصور بن سيد الشورى ـ

الناشر: دار الكتب العلمية (بيروت - لبنان) - الطبعة الأولى - سنة الطبع: 1416 هـ - 1996 م. - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد - عبد الرحمن بن حسن بن محمد ابن عبد الوهاب - تحقيق: محمد حامد الفقي - تعليق: عبد العزيز بن عبد الله بن باز - الناشر: مكتبة التراث الإسلامي (القاهرة). - التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين - عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - تحقيق: بشير محمد عون - الناشر: مكتبة المؤيد (الطائف)، ومكتبة دار البيان (دمشق) - الطبعة الأولى - سنة الطبع: 1411 هـ - 1990 م. - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس - للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - الناشر: دار الهداية للطبع والنشر والترجمة (الرياض) - الطبعة الثانية - سنة الطبع: 1407 هـ - 1987 م. - كشف الشبهتين - سليمان بن سحمان النجدي الحنبلي - صححه: عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم - الناشر: دار العاصمة (الرياض) الطبعة الأولى - سنة الطبع: 1408 هـ. - فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم - جمع وتحقيق وترتيب: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم - مطبعة الحكومة بمكة المكرمة - الطبعة الأولى - سنة الطبع: 1399 هـ. - فتاوى عبد الله بن حميد - جمعها: عمر بن محمد بن عبد الرحمن القاسم - الناشر: دار القاسم للنشر (الرياض) - الطبعة الأولى - سنة الطبع: 1418 هـ.

- فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش - الناشر: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (الرياض) - طبع: مكتبة المعارف بالرياض - الطبعة الأولى - سنة الطبع: 1411 هـ. - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة - لعبد العزيز بن عبد الله بن باز - جمع وإشراف: د. محمد بن سعد الشويعر - الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع (الرياض) الطبعة الثانية - سنة الطبع: 1418 هـ - 1997 م. - نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع - عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - الناشر: المكتب الإسلامي - الطبعة السادسة - سنة الطبع: 1408 هـ - 1988 م. - الكنز الثمين: مجموع فتاوى ورسائل عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين - جمع وإعداد: أبو أنس على بن حسن أبو لوز - الناشر: مكتبة الصقر السعودية (الرياض) - الطبعة الأولي - سنة الطبع: 1414 هـ. - مجموع فتاوى ورسائل محمد بن صالح العثيمين - جمع: فهد بن ناصر السليمان - الناشر: دار الوطن للنشر (الرياض) - الطبعة الثالثة - سنة الطبع: 1411 هـ. - الإرشاد إلى تصحيح الاعتقاد - صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان - الناشر: دار ابن الجوزي (الدمام) - الطبعة الرابعة - سنة الطبع: 1420 هـ - 1999 م. * * *

§1/1