المختار من شعر شعراء الأندلس

علي بن منجب

بسم الله الرحمن الرحيم

المختار من شعر شعراء الأندلس بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ أبو القاسم علي بن منجب الصيرفي ابن سليمان: الحمد لله على سابغ نعمته، وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله. ودراسة البلاغة تنقسم إلى نظم ونثر، وقد اختلف الناس في التفضيل بينهما، والذي نرغب أن يكون مذكراً وبمحاسنه محاضراً له منه على ما يسمعه. والعناية بما يعلقه ويجمعه، ومن جعل الحق مقصوده، والإنصاف مطلوبه، علم أن الفضائل ليست مخصوصة ببعض الأمكنة، ولا مقصورة على قديم الأزمنة، على أن الإقليم الرابع وإن كان أفضل من غيره، فذلك لا يوجب سلب الفضيلة مما سواه، ولا عدم الحسنة فيما عداه، فكل زمان لا يخلو من أفكار تستنبط، وقرائح تؤلف، وهذا لمن تأمله واضح، ولمن تدبره جلي. ولقد وقفت للعصرين من شعراء الأندلس على ما لا عذر في جحد إحسانه، ولا حجة في ترك استحسانه، فرأيت أن أعلق في هذا الجزء ما تيسر لي: (وقال ابن عباذ وقد أمره أبوه أن يصف مجناً فيه كواكب فضة:)

مجنٌ حكى صانعوه السماء ... لتقصر عنه طوال الرماح وقد صوروا فيه شبه الثريا ... كواكب تقضي له بالنجاح وقال في شمعة: وشمعةٍ تنفي ظلام الدجى ... نفي أذى العدم عن الناس ساهرتها والكأس يسعى بها ... من ريقه أشهى من الكاس ضياؤها لاشك من وجهه ... وحرها من حر أنفاسي وقال في وصف قصيدة: إليك روضة فكر جاد منبتها ... ندى يمينك لا طل ولا مطر جعلت ذكرك في أرجائها زهرا ... فكل أوقاتها للمجتني ثمر وقال يستدعي عوداً للغناء: غلب الكرى ودنت مطايا الراح ... واشتقن شدو حداتها النصاح فابعث نشاط سؤومها وحسيرها ... بغناء حاديها أخي الإفصاح ليقيم ذاك العود من رسم السرى ... ويعود في الأجسام بالأرواح فنسير في طوق السرور ونهتدي ... لخفيهن بأنجم الأقداح وقال في توديع بعض جواريه:

ساريتهم والليل غفلٌ ثوبه ... حتى تبدى للنواظر معلما فوقفت ثم مودعاً وتسلت ... مني يد الإصباح تلك الأنجما ولم تزل أيام المعتمد صافية من الكدر، محميةً من الغير إلى أن دهي من يوسف بن تاشفين بداهية خلعته عن سلطانه، وأزعجته عن أوطانه، فعاد من كان يمدحه راثياً له ناعياً، ومن كان يرجوه منتجعاً عليه باكياً. ومن سر أهل الأرض ثم بكى أسى ... بكى بعيونٍ سرها وقلوب قال أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة: كنت بين يدي الرشيد بن المعتمد في مجلس أنسه، فورد الخبر بأخذ غرناطة في رجب

سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، فتفجع وتلهف، واسترجع وتأسف، وذكر قصر غرناطة، فدعونا لقصره بالدوام، ولملكه بتراخي الأيام، وأمر ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء فغنى: يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد فاستحالت مسرته، وتجمعت أسرته، وأمر بالغناء من ستارته، فغنى: إن شئت أن لا ترى صبراً لمصطبر ... فانظر على أي حالٍ أصبح الطلل فتأكد تطيره، واشتد اربداد وجهه وتغيره، وأمر مغنية أخرى بالغناء فغنت: يا لهف نفسي على مالٍ أفرقه ... على المقلين من أهل المروات إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما لست أملك من إحدى المصيبات قال: فتلافيت الحال بأن قمت فقلت: محل مكرمةٍ لا هد مبناه ... وشمل مأثرةٍ لا شته الله البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفاً ... أن الرشيد مع المعتد ركناه ثاوٍ على أنجم الجوزاء مقعده ... وراحلٌ في سبيل السعد مسراه حتمٌ على الملك أن يقوى وقد وصلت ... بالشرق والغرب يمناه ويسراه بأسٌ توقد فاحمرت لواحظه ... ونائلٌ شب فاخضرت عذاراه فلعمري لقد بسطت من نفسه، وأعدت عليه بعض أنسه، على أني وقعت فيما وقع فيه الكل، لقولي: البيت كالبيت، وأمر اثر ذلك بالغناء أبا بكر، فغنى: ولما قضينا من منىً كل حاجةٍ ... ولم يبق إلا أن تزم الركائب فأيقنا أن هذه الطير تعقب الغير.

وقد كان المعتضد عباد حين تصرمت أيامه، وتدانى حمامه استحضر مغنياً يغنيه، ليجعل ما يبدأ به فالاً، وكان المغني السوسي فأول شعر قاله: نطوي المنازل علماً أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واسقينا فمات بعد خمسة أيام، وكان الغناء من هذا الشعر في خمسة أبيات. قال ابن اللبانة في كتاب"نظم السلوك في مواعظ الملوك في أخبار الدولة العبادية" أن طائفة من أصحاب المعتمد خامرت عليه، فأعلم باعتقادها وكشف له عن مرادها، وحض على هتك حرمها، وأغري بسفك دمها، فأبى ذلك مجده الأثيل، ومذهبه الجميل، وما خصه الله به من حسن اليقين وصحة الدين، إلى أن أمكنتهم الغرة، فانتصروا ببغاث مستنسر، وقاموا بجمع غير مستبصر، فبرز من قصره متلافيا لأمره، عليه غلالة ترف على جسده، وسيفه يتلظى في يده: وذاك السيف راق وراع حتى ... كأن عليه شيمة منتضيه

كأن الموت أودع فيه سراً ... ليرفعه إلى يومٍ كريه فلقي على باب من أبواب المدينة فارساً مشهوراً بنجدة، فرماه الفارس برمح التوى في غلالته، وعصمه الله تعالى منه، وصب هو سيفه على عاتق الفارس فشقه إلى أضلاعه، فخر صريعاً سريعاً، فرأيت القائمين عندما تسنموا الأسوار تساقطوا منها، وبعد ما أمسكوا الأبواب تخلوا عنها، وأخذوا على غير طريق، وهوت بهم ريح الهيبة في كمان سحيق، فظننا أن البلد من أقذائه قد صفا، وثوب العصمة علينا قد ضفا، إلى أن كان يوم الأحد الحادي والعشرون من رجب، فعظم الخطب في الأمر الواقع، واتسع الخرق فيه على الراقع، ودخل البلد من جهة واديه، وأصيب حاضره بعادية بادية، بعد أن ظهر من دفاع المعتمد وبأسه وتراميه على الموت بنفسه، بما لا مزيد عليه، ولا تناهى خلق من خلق الله إليه، فشنت الغارة في البلد، ولم يبق فيه على سبد لأحد ولا لبد، وخرج الناس عن منازلهم، يسترون عوراتهم بأناملهم، وكشف وجوه المخدرات العذارى، ورأيت الناس سكارى وما هم بسكارى ورحل بالمعتمد وآله، بعد استئصال جميع ماله، لم يصحب منه بلغة زاد، ولا بغية مراد، فأمضيت عزيمتي في أتباعه، فوصلت إليه بأغمات عقب ثقاف، استنقذه الله منه، فذكرت به شعراً كان لي في صديق اتفق له مثل ذلك في الشهر بعينه من العام الماضي وهو الأمير أبو عبد الله بن الصفار وهو: لم نقل في الثقاف كان ثقافاً ... كنت قلباً به وكان شغافا يمكث الزهر في الكمام ولكن ... بعد مكث الكمام يدنو قطافا وإذا ما الهلال غاب بغيمٍ ... لم يكن ذلك المغيب انكسافا إنما أنت درةٌ للمعالي ... ركب الدهر فوقها أصدافا

حجب البيت منك شخصاً كريماً ... مثلما تحجب الدنان السلافا أنت للفضل كعبةٌ ولو أني ... كنت استطيع لاستطعت الطوافا وقال أبو بكر: وجرت بيني وبينه مخاطبات ألد من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدل على السماح من فجر على صباح. ما أخرج من شعره في مدة أسره، قال من قطعة: أبى الدهر أن يفني الحياء ويندما ... وأن يمحو الذنب الذي قد تقدما فان يتلقى وجه عتبي وجهه ... بعذرٍ فغشى صفحتيه التذمما ستعلم بعدي من تكون سيوفه ... إلى كل صعبٍ من مراقيك سلما سترجع إن حاولت دوني فتكةً ... بأخجل من خد المبارز احجما وقال: سلت علي يد الخطوب سيوفها ... فجذذن من جلدي الحصيف الأمتنا ضربت بها أيدي الصروف وإنما ... ضربت رقاب الآملين بها المنى يا آملي العادات من نفحاتنا ... كفوا فإن الدهر كف أكفنا وقال من قصيدة يصف فيها الكبل: تعطف في ساقي تعطف أرقم ... يساورها عضاً بأنياب ضيغم وإني من كان الرجال بسيبه ... ومن سيفه في جنةٍ وجهنم

وطلب خباء من أهل يوسف يسافر به، فوعد بذلك، ثم أخلف عند حركته فقال: هم أوقدوا بين جنبيك نارا ... أطالوا لها في حشاك استعارا أما يخجل المجد أن رحلوك ... ولم يصحبوك خباءً معارا تراهم نسوا حين جبت القفارا ... حنيناً إليهم وخضت البحارا بعهد لزومٍ لسبل الوفاء ... إذا حاد من حاد عنها وجارا وقلبٍ نزوعٍ إلى يوسفٍ ... فلولا الضلوع عليه لطارا ويوم العروبة ذدت العدى ... وحطت الهدى وأبيت الفرارا فررت هناك وإن القلو ... ب بين الضلوع لتأبى الفرارا كأنك تحسبها نرجساً ... تدير الدماء عليها عقارا وقال: قبح الدهر فماذا صنعا ... كلما أعطى نفيساً نزعا قد هوى ظلماً بمن عاداته ... أن ينادي كل من يهوى لعا من إذا قيل الخنا صمّ وإن ... نطق العافون همساً سمعا قل لمن يطمع في نائله ... قد أزال اليأس ذاك الطمعا راح لا يملك إلا دعوة ... جبر الله العفاة الضيعا وقال:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... أسرك العيد في أغمات مأسورا؟ قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً ... فردك الدهر منهياً ومأمورا من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا وتعرض له قوم من ملحفي أهل الكرية فقال: سألوا اليسير من الأسير وإنه ... بسؤالهم لأحق منهم فاعجب لولا الحياء وعزةٌ لخميةٌ ... طي الحشا لحكاهم في المطلب وكان قد أبلى بلاءً حسناً عند خلعه، فأشار عليه وزراؤه بالخضوع والاستعطاف فقال: قالوا الخضوع سياسةٌ ... فليبد منك لهم خضوع إن يسلب القوم العدى ... ملكي ويسلمني الجموع فالقلب بين ضلوعه ... لم تسلم القلب الضلوع كم رمت يوم نزالهم ... ألا تحصنني الدروع ما سرت قط إلى القتا ... ل فكان من أملي الرجوع شيم الألى أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع قوله: ما سرت قط إلى القتال من باب ما تمثل به أحد الخوارج في وقعة قديد أيام مروان بن محمد الجعدي.

وخارج أخرجه حب الطمع ... فر من الموت وفي الموت وقع من كان ينوي أهله فلا رجع وقال يرثي ولديه الفتح ويزيد: يقولون صبراً لا سبيل إلى الصبر ... سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري أفتح لقد فتحت لي باب رحمةٍ ... كما بيزيد الله قد زاد في ذخري هوى بكما المقدار عني ولم أمت ... فأدعى وفياً قد نكصت إلى الغدر ولو عدتما لاخترتما العود في الثرى ... إذا أنتما أبصرتماني في الأسر أبا خالدٍ أورثتني البث خالداً ... أبا النصر مذ ودعت ودعني نصري وقال من قطعة يرثي بها سعداً ابنه: إذا كان قد أودى الزمان بمثله ... ولم يبق في عودٍ له طمعٌ بعد فلا بترت بترٌ ولا قنيت قنى ... ولا زأرت أسدٌ ولا صهلت جرد ولا زال ملدوغاً على سيد الحشا ... ولا انفك ملطوماً على ملكٍ خد

وقال من قطعة: نارٌ وماءٌ صميم القلب أصلهما ... متى حوى القلب نيراناً وطوفانا ضدان ألف صرف الدهر بينهما ... لقد تلون في الدهر ألوانا وقال ابن اللبانة: كنت مع المعتمد بأغمات فلما قارب الصدر، وأزمعت السفر، صرف حياه، واستنفذ ما قبله، وبعث إلي مع شرف الدولة ولده -وهذا من بنيه أحسن الناس سمتاً، وأكثرهم صمتاً، تخجله اللفظة، وتجرحه اللحظة، حريص على طلب الأدب، مسارع في اقتناء الكتب، مثابر على نسخ الدواوين، مفتح من خطه فيها زهر البساتين- بعشرين مثقالاً مرابطية، وثوبين غير مخيطين، وكتب معها أبياتاً منها: إليك النزر من كف الأسير ... وإن تقنع فكن عين الشكور تقبل ما يذوب له حياءً ... وإن عذرته حالات الفقير فامتنعت من ذلك عليه، وأجبته بأبيات منها: تركت هواك وهو شقيق ديني ... لئن شقت برودي عن غدور ولا كنت الطليق من الرزايا ... إذا أصبحت أجحف بالأسير جذيمة أنت والزباء خانت ... وما أنا من يقصر عن قصير تصرف في الندى حيل المعالي ... فتسمح من قليلٍ بالكثير وأعجب منك أنك في ظلامٍ ... وترفع للعداة منار نور رويدك سوف تسعدني سروراً ... إذا عاد ارتقاؤك للسرير وسوف تحلني رتب المعالي ... غداة تحل في تلك القصور

تزيد على ابن مروانٍ عطاءً ... بها وأزيد ثم على جرير تأهب أن تعود إلى طلوعٍ ... فليس الخسف ملتزم البدور وأتبعتها أبياتاً منها: حاش لله أن أجيح كريماً ... يشتكى فقراً وكم سد فقرا وكفاني كلامك الرطب نيلاً ... كيف ألفي دراً وأطلب تبرا لم تمت إنما المكارم ماتت ... لا سقى الله بعدك الأرض قطرا ما أخرج مما قيل فيه بعد نكبته، قال أبو بكر محمد بن عيسى الداني يندب المعتمد عملها بأغمات في سنة خمس وثمانين وأربعمائة: أفكر في عهدٍ مضى لك مشرقٍ ... فيرجع ضوء الشمس عندي مظلما لئن عظمت فيك الرزية إننا ... وجدناك منها في المزية أعظما قناةٌ سعت للطعن حتى تقصدت ... وسيف أطال الضرب حتى تثلما وطودٌ غريبٌ في الشواهق أفره ... بنى ظلةً من فوقنا وتهدما صباحهم كنا به نحمد السرى ... فلما عدمناه سرينا على عمى وكنا رعينا العز حول حماهم ... فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى قصورٌ خلت من ساكنيها فما بها ... سوى الأدم تمشي حول واقفة الدمى يجيب بها الهام الصدى ولطالما ... أجاب القيان الطائر المترنما كأن لم يكن فيها أنيس ولا التقى ... بها الوفد جمعاً والخميس عرمرما

ولا جر فيها صعدة الرمح خلفه ... فتاها فقلنا: الصل اتبع ضيغما ولم يصدع النقع المثار سنانه ... كما صدع الظلماء برقٌ تضرما ولا صورت في جسمه الدرع شكلها ... فأشبه مما صورت فيه أرقما جرى القدر الجاري إلى نقض أمره ... فعاد سحيلاً منه ما كان مبرما مصابٌ هوى بالنيرات من العلى ... ولم يبق في أرض المكارم معلما حكيت وقد فارقت ملكك مالكاً ... ومن ولهي أحكي عليك متمما ندبتك حتى لم يخل لي الأسى ... دموعاً بها أبكي عليك ولا دما بكاك الحيا والريح شقت جيوبها ... عليك وناح الرعد باسمك معلما وحار ابنك الإصباح وجداً فما اهتدى ... وغاض أخوك البحر غيظاً فما طما قضى الله أن حطوك عن متن أشقر ... أشم وإن أمطوك أسأم أدهما قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت ... قيودك منهم بالمكارم أرحما عجبت لأن لان الحديد وأن قسوا ... لقد كان منهم بالسريرة أعلما سينجيك من نجى الجب يوسفاً ... ويؤويك من آوى المسيح بن مريما وقال من أخرى: تبكي السماء بدمعٍ رائح غادي ... على البهاليل من أبناء عباد عريسةٌ دخلتها النائبات على ... أساودٍ منهم فينا وآساد

وكعبةٌ كانت الآمال تعمرها ... فاليوم لا عاكف فيها ولا بادي كم من دراري سعدٍ قد هوت ووهت ... منهم وكم دررٍ للمجد أفراد نورٌ ونورٌ فهذا بعد نضرته ... ذوى وذاك خباً من بعد إيقاد يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ ... في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد ويا مؤمل واديهم لتسكنه ... خف القطين وجف الزرع بالوادي ضللت سبل الندى يا ابن السبيل ... فسر لغير قصدٍ فما يهديك من هادي إن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا ... وقد خلت قبل حمصٍ أرض بغداد ذلوا وكانت لهم في العز مرتبةٌ ... تحط مرتبتي عادٍ وشداد سارت سفائنهم والنوح يتبعها ... كأنها إبلٌ يحدو بها الحادي وقال من أخرى: لكل شيءٍ من الأشياء ميقات ... وللمنى من مناياهن عايات والدهر في صبغة الحرباء منغمسٌ ... ألوان حالاته فيها استحالات ونحن من لعب الشطرنج في يده ... وربما قمرت بالبيدق الشاة انفض يديك من الدنيا وساكنها ... فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا وقل لعالمها الأرضي قد كتمت ... سريرة العالم العلوي أغمات وطوت مظلتها لا بل مذلتها ... من لم يزل فوقه للعز رايات وكان ملء عيان العين تبصره ... وللأماني في مرآه مرآة رماه من حيث لم تستره سلبغةٌ ... دهرٌ مصيباته نبلٌ مصيبات

له المهاباة بالأرواح آخذةٌ ... وإن تكن أخذت منه المهابات وبدر سبعٍ وسبعٍ تستنير به الس ... بع الأقاليم والسبع السماوات له وإن كان أخفاه السرار سنى ... مثل الصباح به تجلى الدجنات لهفي على آل عبادٍ فإنهم ... أهلةٌ ما لها في الأفق هالات تمسكت بعرى اللذات ذاتهم ... يا بئسما جنت اللذات والذات ومنها: فجعت منها بإخوانٍ ذوي ثقةٍ ... فاتوا، وللدهر في الإخوان آفات واعتضدت في آخر الصحراء طائفةً ... لغاتهم من جميع الكتب ملغاة بمغرب العدوة القصوى دجا أملي ... فهل له بديار الشرق مشكاة وقال من أخرى: ابكوا المؤيد بالنجيع فما قضى ... حق المعالي من بكاه بدمعه كتابه في روض عزً مثمرٍ ... نجني الأماني غضةً من ينعه والآن لا حظٌ لنا فكأنما ... وقفت مجاري الرزق ساعة خلعه وقال ابن حمديس:

جرى بك جدٌ بالكرام عثور ... وجار زمانٌ كنت منه تجير لقد أصبحت بيض الظبا في غمودها ... إناثاً بترك الضرب وهي ذكور ولما رحلتم بالندى في أكفكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير قال ابن اللبانة: كان أبو الإصبع بن الأعلم وزير الرشيد ومدبر أمره، فاغتبط، وولي الوزارة بعده من لم يسد مسده، رجل قصير باع المعرفة، قبيح المنظر والمخبر والصفة، ولقد يقال بأنه ولعله كذب ورور ما يقال عليه. وكتب ابن اللبانة إلى المعتمد جواباً عن أبيات أنفذها إليه وذلك بعد خلعه: بروق الأماني دون لقياك خلب ... ومشرق أفق لم تلح فيه مغرب عدمت مرادي منك لا الماء نافعٌ ... ولا الظل ممدودٌ ولا الروض مخصب ولا أنا في تلك الحديقة زهرةٌ ... ولا أنا في تلك المجرة كوكب سقى الله عهداً كنت صيب عهده ... بمثل الذي قد كنت تسقي وتشرب زمانٌ بماء المكرمات مفضضٌ ... لديك ومن نار الكؤوس مذهب لئن فلت الأيام منك فإنما ... يفل من الأسياف ما كان يضرب بعثت بها يا واحد الدهر قطعةً ... هي الماء إلا أنها تتلهب وجئت بها في الحسن ورماء أيكةٍ ... ولكنها في العدم عنقاء معزب رأى ابن اللبانة أحد أبناء المعتمد وقد جلس في السوق يتعلم الصياغة فقال:

صرفت في آلة الصباغ أنملةً ... لم تدر إلا الندى والسيف والقلما يدٌ عهدتك للتقبيل تبسطها ... فتستقل الثريا أن تكون فما النفخ في الصور هولٌ ما حكاه سوى ... هولٌ رأيتك فيه تنفخ الفحما وددت إذ نظرت عيني إليك به ... لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى ما حطك الدهر لما حط عن شرفٍ ... ولا تحيف من أخلاقك الكرما لح في العلا كوكباً إن لم تلح قمراً ... وقم بها ربوةً إن لم تقم علما واصبر فربتها أحمدت عاقبةً ... من يلزم الصبر يحمد غب ما لزما والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت ... ولو وفي لك دمع الغيث لانسجما ولعبد الجليل بن وهبون من قصيدة يصف فيها ركوبه البحر لوقت إخراجه: كأنما البحر عين أنت ناظرها ... وكل خطٍ بأشخاص الورى سفر كان الراضي يزيد بن محمد بن عباد لا يشرب النبيذ، وبلغه أن أخاه عبيد الله الرشيد شرب به سروراً به، فكتب إليه: أتاني ما تأبى لمجدك غيره ... فدب له في كل جارحةٍ شكر

لئن كان لي فضلٌ فمنك استفدته ... ولولا ضياء الشمس ما بهر البدر أتشرب في ودي المدامة سيدي ... وينساغ لي في تركها أبداً عذر سأشربها شكراً لما ظلت موليا ... وفي مثل ذاك الود يستسهل الوعر وقال من أبيات يشكو فيها نكداً.. هي الدار غادرةٌ بالرجال ... وقاطعةٌ لحبال الوصال نفجع منها بغير اللذيذ ... ونشرق منها بغير الزلال ونزداد مع ذاك عشقاً لها ... ألا إنما سعينا في ضلال كمعشوقةٍ ودها لا يدوم ... وعاشقها أبداً غير سال وقال يخاطب أباه وقد دعاه مؤنساً له بعد وحشة تقدمت من أبيات: دعوت فطار بقلبي السرور ... إليك وإن كان منك الوجل فما يستطيرك حب الوغى ... إليها وفيها الظبا والأسل وليس لأنك قاسي الفؤاد ... ولكن لأن اجترامي جلل فمثلك وهو الذي لم نجده ... يعود بحلمٍ على من جهل وقد وعدتني سحاب الرضى ... بولبلها حين جادت بطل وقال من قصيدة في أبيه وذكر الروم: فإن أتته فمن جبنٍ ومن خورٍ ... قد ينهض العير نحو الضيغم الضاري ومن أنصاف الأبيات التي جاءت أمثالاً قوله: ومن عجبٍ شكوى الجريح إلى النصل

ابن زيدون

وقوله: على العذب لا الملح نخش الأسن ابن زيدون هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن زيدون القرطبي وزير آل عباد، وشاعر تلك الطبقة، والمتقدم منهم، فمن شعره في الغزل: ما للمداما تديرها عيناك ... فيميل من نشواتها عطفاك هلا مزجت لعاشقيك سلافها ... ببرود ظلمك أو بعذب لماك بل ما عليك وقد محضت لك الهوى ... في أن أفوز بحظوة الوسواك ناهيك ظلماً أن أضر بي الصدى ... برحا ونال الري عود أراك إن تألفي سنة النؤوم خليةً ... فلطالما نافرت في كراك أو تحتبي بالهجر في نادي القلى ... فلكم حللت إلى الوصال خباك أما منى نفسي فأنت جميعها ... يا ليتني أصبحت بعض مناك يدنو بوصلك حين شط مزاره ... وهمٌ أكاد به أقبل فاك وقال: ما بال خدك لا يزال مضرجاً ... بدمٍ ولحظك لا يزال مريبا لو شئت ما عذبت مهجة عاشقٍ ... مستعذب في حبك التعذيبا

ولزرته بل عدته إن الهوى ... مرضٌ يكون له الوصال طبيبا وقد تقدم قول المعتمد لأبيه مما أحسن فيه غاية الإحسان وهو: سخطك قد زادني سقاما ... فابعث إليه الرضا مسيحا ولا أدري أيهما أخذ من صاحبه، وقال أبو الوليد: متى أخف الغرام يصفه جسمي ... بألسنة الضنى الخرس الفصاح فلو أن الثياب نزعن عني ... خفيت خفاء خصرك في الوشاح وقال: يا قمراً مطلعه المغرب ... قد ضاق بي في حبك المذهب وإن من أعجب ما مر بي ... أن عذابي فيك مستعذب ألزمتني الذنب الذي جئته ... صدقت فاصفح أيها المذنب وقال: وبنفسي وإن أضر بنفسي ... قمرٌ لا ينال منه السرار جال ماء النعيم منه بخدٍ ... فيه للمستشف نورٌ ونار متجنٍ يحلو تجنيه عندي ... فهو يجني ومني الاعتذار وقال: يا قاطعاً صلتي من غير ما سببٍ=تالله إنك عن روحي لمسؤول ما شئت فاصنعه كل منك محتملٌ ... والذنب مغتفرٌ العذر مقبول

لو كنت حظي لم أطلب به بدلاً ... أو نلت منك الرضا لم يبق مأمول وقال: كم نظرةٍ لك في عيني علمت بها ... يوم الزيارة أن القلب قد ذابا قلبٌ يطيل معاصاتي لطاعتكم ... فإن أكلفه عنكم سلوةً يابى ما توبتي بنصوحٍ في محبتكم ... لا عذب الله إلا عاشقاً تابا وقال: ودع الصبر محبٌ ودعك ... ضائعٌ من سره ما استودعك إن يظل بعدك ليلي فبما ... كنت أشكو قصر الليل معك وقال: بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سرٌ إذا ذاعت الأسرار لم يذع يا بائعاً حظه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع ته، أحتمل، واستطل، أصبر، وعز، أهن ... وول، أقبل، وقل، أسمع، ومر، أطع هذا أحسن ما سمعته في هذا الباب لما فيه من ذكر الجواب. ولأبي الفرج الأصبهاني: يا فرجة الهم بعد اليأس من فرج ... يا فرحة الأمن بعد الروع والوهل

اسلم، ودم، وابق، واملك، وانم، واسم، وزد ... واعط، وامنع، وضر، وانفع، وصل، وصل وكان الأصل في ذلك قول أبي العميثل في عبد الله بن طاهر: يا من يحاول أن تكون صفاته ... كصفات عبد الله انصت واسمع اصدق وعف وجد وأنصف واحتمل ... واصفح وكاف ودار واحلم وأشجع ومن شعر أبي الوليد في المديح والعتاب والشكر والاستعطاف وغير ذلك ما كتب إلى المعتمد: وطاعة أمرك فرضٌ أرا ... هـ من كل مفترض أوكدا هي الشرع أصبح دين الضمير ... فلو قد عصاك لقد ألحدا وقال من أبيات كتب بها إليه أيضاً: يا ندى يمنى أبي القاسم عم ... يا سنا بشر المحيا أشمس

وارتشف معسول ثغرٍ أشنبٍ ... بحبيب من عجاج ألعس وقال من أبيات: مهما امتدحت سواك قبل فإنما ... مدحي إلى مدحي لك استطراد تغشى الميادين الفوارس حقبةً ... كيما يعلمها النزال طراد وقال من أبيات إلى محمد بن جهور: هو الدهر مهما أحسن الفعل مرةً ... فمن خطأ لكن إساءته عمد حذارك أن تغتر منه بجانبٍ ... ففي كل وادٍ من نوائبه سعد ولولا السراة الصيد من آل جهورٍ ... لأعوز من يعدى عليه متى يعدو هم النفر البيض الذين وجوههم ... تروق فتستشفي بها الأعين الرمد أمثلي غفلٌ خامل الذكر ضائعٌ ... ضياع الحسام العضب أصدأه الغمد أنا السيف لا ينبو مع الضرب غربه ... إذا ما نبا السيف الذي طبع الهند لعرك مل للمال أسعى وإنما ... يرى المال أسنى حظه الطبع الوغد ولكن لحال إن لبست جمالها ... كسوتك ثوب النصح أعلامه الحمد وقال في وصف خالع الطاعة: ضلالاً لمفتونٍ سموت بحاله ... إلى أن بدت بين الفراقد فرقدا رأى حطها أولى به فأحلها ... حضيضاً بكفران الصنيعة أو هدا

فذل وقد أمطيته شبح السها ... وضل وقد لقيته قبس الهدى فما آثر الأولى ولا قلد الحجى ... ولا شكر النعمى ولا حفظ اليدا رأى أنه أضحى هزبراً مصمماً ... فلم يعد أن أمسى ظليماً مشرداً يود إذا ما جنه الليل أنه ... أقام عليه آخر الدهر سرمدا ذكر أبو عامر بن شهيد في كتابه المعروف"بحانوت عطار"الكتاب الذي أنشئ عند الظفر بعبد الله بن المنصور وقتله لما خرج على أبيه، فمنه: "وإن عبد الله استوطأ مركب الخلاف والعقوق، وأضاع ما ألزمه الله عز وجل من الحقوق، ولا غزو فقد يسري عرق الخال، وينام عرق العم، وربما أفسد الرسل وعاؤه، وغير الماء سقاؤه، فلولا غلبة بعض الأمشاج على النطفة المخلوقة حتى يكون الشبه الغالب فيها، لما ولد الطيب خبيثاً، والخبيث طيباً، ولا الفاجر براً، ولا البر فاجراً، حتى إنني ألقيت عليه محبتي، وألحفته جناح رأفتي، وصيرته

بنجوة من العزة، وبحبوحة من الأمن، وفي عيشٍ رقيقٍ الحواش، وحالٍ تجاوز طامح الأماني، والنعم أطواق إذا شكرت، وأغلال إذا كفرت، والشكر لها زيادة فيها، وأمان من الغير عليها، ولو أساعد هوى وأجانبه تقى، لعطفنني عليه الأواصر العاطفة، والأرحام الشابكة، والشقي من عدل به الهوى عن الحق، وأورده النار، وبئس الورد المورود" وذكر أنه أنشئ في معين منافق عصى، وشق العصا، واستند إلى الروم، وكان أبوه على الطاعة، فتولى قتاله إلى أن ظفر به وقتله، ولما كفر فلان النعمة مباينا، ونابذ الإسلام متاركاً، واتخذ الدير داراً، والنصارى أنصاراً، شمرت له عن ساق الحزم، وحسرت له عن ساعد العزم، ولطفت إليه من مسلك الحيلة، واستعنت عليه بصادق النية، فلم أزل أدني إليه بعيد الأجل، فاقطع به في وجه الأمل، وافتح عليه باب الطلب، وأسد أبواب الهرب، حتى افترسه فرسه، وجنى عليه مجنه واعتقله معقله، فقاده الذنب، وساقه الجبن منحوس الحظ ممنوع اللفظ، قد شدت يده بالجزيرة، وسد فم توبته بحجز الكبيرة، وأمرت بثوبه فكشف، وبطيب النفاق فاخترط، وقد صارت القربى بعدا، والرحمة ضدا، فما كان إلا كلا، ولا حتى شحط في أوساخه، وحيزت لأمير المؤمنين أم فراخه، وعطفت على كل قرينٍ له وصاحب، فأعدت جميعهم كأمس الذاهب، وأبلوا بلاهم، فجوزوا جزاهم، كذلك (جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا، أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض) ومملوكك يا أمير المؤمنين فيقسم بالله العظيم، لو عصتك يمناه لأعدى عليه يسراه، ويعيد القسم، لو كان له ألف ولد، كل منهم أدهى من قتيبة، وأشجع من عتيبة، وأوفى من عيينة، وأذكى من عروة بن أذينة، لتخلى لطاعتك عنهم، وتبرأ لبيعتك منهم، وأعذر عند نعمك فيهم، ولئن كان الفائق ولد الراتق، والعاصي نجل الطائع، فقد تكون الصاعقة من الصيب، ويخرج الله الخبيث من الطيب.

وقال ابن زيدون من أبيات: تحييني بريحان التحفي ... وتصبحني معتقة السماح فها أنا قد ثملت من الأيادي ... إذا اتصل اغتباقي باصطباح وقال المتنبي: كفل الثناء له برد حياته ... لما انطوى فكأنه منشور قال ابن جني: فكأنه أخذه من قول التيمي: ردت صنائعه عليه حياته ... لما انطوى فكأنه منشور ولموسى بن عمران البصري: ظوته المنايا والثناء كفيله ... برد حياةٍ ليس يخلقها الدهر ولمهيار: أفنى الثراء على الثناء لعلمه ... أن الفناء مع الثناء خلود

ولابن القمي: مات الكرام فأحيتهم فواضله ... كأن مبعث أهل الجود مولده وكتب المعتمد إلى أبيه: مولاي أشكو إليك داءً ... أصبح قلبي به قريحا سخطك قد زادني سقاماً ... فابعث إلي الرضا مسيحا وقوله مسيحاً من القوافي التي يتحدى بها، وأحسن ما سمعت في ذلك قول عبد الله بن المعتز في وصف الطير الهدى: ورب يومٍ ظلن خائفات ... فيه من الصقور والبزاة والقوس والبندق والرماة ... وإن سقطن مترددات فمسرعاتٌ غير لابثات ... فلم تزل كذاك دائبات حتى عرفن البرج بالآيات ... يلوح للناظر من هيهات فانظر إلى هذه القافية، وهي قوله هيهات ما أصعبها على من رامها وأعلاها على من استامها. وقال ابن المعتز أيضاً في فرسين تباريا في السرعة: وكم قد غدوت على سابحٍ ... جواد المحثة وثابها تباريه جرداء خيفانةٌ ... إذا كاد يسبق كدنا بها

وقال عروة بن أذينة الليثي: منعت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها فدنا وقال: لعلها معذورةٌ ... في بعض رقبتها فقلت: لعلها ومن هذا الباب قول مهيار: صحا القلب لكن صبوةٌ وحنين ... وأقصر إلا أن يخف قطين وقالوا: يكون البين والمرء رابطٌ ... حشاه بفضل الحزم قلت: يكون!! وقال الأعشى: وكأساً شربت على لذةٍ ... وأخرى تداويت منها بها وقالت علية بنت المهدي:

ومغتربٍ بالمرج يبكي لشجوه ... وقد بان منه المسعدون على الحب إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تنفس يستشفي برائحة القرب تأمل كيف أنزلت الركب عن هذه القافية، وقد كان له منها موضع، ولكن القرب أحق به. ومن ذلك قول الصنوبري في مرثيته: ثوى الثرى رابحاً لما ثويت به ... وآب من عن مثواك مغبونا وافت منيته الستين وا أسفي ... إذ لم يكن عمره ستين ستينا ولابن نيقيا البغدادي: لله أي مواقفٍ رقت لها ... فيها الرسائل والقلوب غلاظ عهدي بظلك والشباب يزيله ... أيام ربعك للمسان عكاظ وكتب ابن عباد إلى أبيه يشكره على فرس أصدى بعثه إليه: لقد جدت بالعلق الذي لو أباعه ... بذلت ولم أغبن به العيشة الرغدا جوادٌ أتاني من جوادٍ تطابقا ... فيا كرم المهدي ويا كرم المهدى بعثت به مثل الشهاب وإنما ... بعثت إلى قلب المحب به بردا وكم من يدٍ أوليت موقعها ندٍ ... لدي ولكن أين من موقع الأصدا

لعلي يوماً أن أوفيه حقه ... فأنعله ممن عصى أمرك الخدا وكتب إلى أبيه جواباً عن تحفه: يا ملكاً أصبحت كفه ... ساخرةً بالعارض الهاطل قد أقحمتني منه مثلها ... يضيق القول على القائل وإن أكن قصرت في وصفها ... فحسنها عن وصفها شاغلي ومن خطه ما كتبه إلى أبي بكر بن عمار وزيره: لما نأيت نأى الكرى عن ناظري ... ورددته لما انصرفت عليه طلب البشير بشارةً يجزى بها ... فوهبت قلبي واعتذرت إليه واستحسن قول أبي فراس لسيف الدولة: نفسي فداؤك قد بعثت ... بعهدتي بيد الرسول أهديت نفسي إنما ... يهدى الجليل إلى الجليل وجعلت ما ملكت يدي ... صلة المبشر بالقبول وكتب ابن عباد من قصر بقرطبة إلى أصحاب له اصطحبوا بالزهراء يدعوهم إلى الاغتباق عنده: حسد القصر فيكم الزهراء ... ولعمري وعمركم ما أساء قد طلعتم به شموساً صباحاً ... فاطلعوا عندنا بدوراً مساء وكتب إلى أبي بكر محمد بن عمار: قد زارنا النرجس الذكي ... وحان من يومنا العشي ونحن في مجلسٍ أنيقٍ ... وقد ظمئنا وفيه ري

ولي صديق غدا سميي ... يا ليته ساعد السمي فحضر أبو بكر باب القصر وكتب إليه رقعة فيها: لبيك لبيك من منادٍ ... له الندى الرحب والندي ها أنا بالباب عبد قن ... قبلته وجهك السني شرفه والداه باسمٍ ... شرفته أنت والنبي ومن شعره في الغزل قال من قصيدة كتب بها إلى أبي بكر بن عمار: وكم ليلةٍ قد بت أنعم جنحها ... بمخصبة الأرداف مجدبة الخصر وبيضٍ وسودٍ فاعلاتٍ بمهجتي ... فعال الصفاح البيض والأسل السمر وباتت تسقيني المرام بلحظها ... ومن كأسها حيناً وحيناً من الثغر وتطربني أوتارها فكأنني ... سمعت بأوتار الطلى نغم البتر وقال: فتكت مقلتاه بالقلب مني ... وبكت مقلتاي شوقاً إليه فحكى لحظه لنا سيف عبا ... دٍ ولحظي له سحاب يديه وقال: كتبت وعندي من فراقك ما عندي ... وفي كبدي ما فيه من لوعة الوجد ولولا طلاب المجد زرتك طيه ... عميداً كما زار الندى ورق الورد وما خطت الأقلام إلا وأدمعي ... تخط سطور الشوق في صفحة الخد

فقبلت ما تحت اللثام من اللمى ... وعانقت ما فوق الوشاح من العقد عمر بن أبي ربيعة: واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناه ولا زاجر وقال وهو عليل وقد زارته جاريته"سحر": سأسأل ربي أن تدوم بي الشكوى ... فقد قربت من مضجعي الرشأ الأحوى إذا علةٌ كانت لقربك علةً ... تمنيت أن تبقى بجسمي وأن تقوى شكوت وسحرٌ قد أغبت زيارتي ... فجاءت بها النعمى التي سميت بلوى وقال في جارية يحبها وهي بين يديه يوماً تسقيه، والكأس في يدها إذ لمع البرق فارتاعت: روعها البرق وفي كفها ... برقٌ من القهوة لماع يا ليت شعري وهي شمس الضحى ... كيف من الأنوار ترتاع؟

ومن نوادر الخواطر أن ابن عباد أنشد عبد الجليل بن وهبون البيت الأول وأمره أن يذيله فقال: ولن ترى أعجب من آنس ... من مثل ما يمسك يرتاع وأكثر ما يكون هذا التوارد إذا اتفق للناظمين أو الناثرين طلب معنى واحد في قافية واحدة، أو سجع واحد، فإن ذلك يقتاد إلى الاتفاق أو ما يقارب الاتفاق، قال محمد بن شرف القيرواني: أمرني المعتز بن باديس وأمر حسن بن رشيق قي وقت واحد أن نصنع شعراً نصف فيه الموز على حرف الغين، فصنعنا للوقت، ولم يقف أحدنا على ما صنع الآخر، وكان الذي لي: يا حبذا الموز وإسعاده ... من قبل أن يمضغه الماضغ لان إلى أن لا مجس له ... فالفم ملآن به فارغ سيان قلنا مأكلٌ طيبٌ ... فيه وإلا مشربٌ سائغ أحلى مذاقاً من دماء العدى ... مكن فيها أسدٌ والغ والذي لابن رشيق: موزٌ سريعٌ سوغه ... من قبل مضغ الماضغ مأكله لآكل ... ومشربٌ لسائغ

فالفم من لينٍ به ... ملآن مثل فارغ يخال وهو بالغٌ ... للحلق غير بالغ ثم أمرنا للوقت أن نعمل فيه أيضاً على قافية الذال، فعملنا ولم ير أحد منا ما عمل صاحبه، والذي عملته أنا: هل لك في موزٍ إذا ... ذقناه قلنا حبذا فيه شرابٌ وغذا ... يريك كالماء القذى لو مات من تلذذا ... به لقيل ذا بذا والذي عمله ابن رشيق: لله موزٌ لذيذ ... يعيذه المستعيذ فواكهٌ وشرابٌ ... به يفيق الوقيذ ترى القذى العين فيه ... كما يراها النبيذ فأنت ترى هذا الاتفاق لما كانت القافية واحدة والقصد واحداً، ولقد قال من حضر ذلك اليوم: ما ندري مم نتعجب؟ أمن البديهة؟ أم من غرابة القافية؟ أم من هذا الاتفاق؟ قال ابن شرف واستخلانا المعز يوماً فقال: أنا أحب أن تصنعا لي شعراً تمدحان فيه الشعر الرقيق الخفي الذي ربما كان في ساقي بعض النساء فإني استحسنه، وقد عاب بعض الضرائر بعض من هذا فيه به، وكلهن قارئات كاتبات، فأحب أن أريهن هذا، وأدعي لهن أنه قديم، لأحتج به على من عابه وأسر به من عيب عليه. فانفرد كل منا، وأتممنا الشعرين في الوقت وكان الذي صنعت أنا: وبلقيسيةٍ زينت بشعرٍ ... يسيرٍ مثل ما يهب الشحيح

دقيقٍ في خدلجةٍ رداح ... خفيفٍ مثل جسمٍ فيه روح حكى زغب الخدود وكل خدٍ ... به زغبٌ فمعشوقٌ مليح فإن يك صرح بلقيسٍ زجاجاً ... فمن حدق العيون لها صروح وصنع ابن رشيق: يعيبون بلقيسيةً أن رأوا بها ... كما قد رأى من تلك من نصب الصرحا وقد زادها التزغيب ملحاً كمثل ما ... يزيد خدود المرد تزغيبها ملحا فعاب المعز على ابن رشيق قوله: يعيبون بلقيسية، وقال: قد أوجدت خصمها حجة أ، بعض الناس قد عاب هذا، وهو نقد ما كنت فطنت له. وقال ابن عباد: تظن بنا أم الربيع سآمةً ... إلا غفر الرحمن ذنباً تواقعه أأهجر ظبياً في فؤادي كناسه ... وبدر تمامٍ في خفوقٍ مطالعه اذن هجرت كفي نوالاً تفيضه ... على معتفيها أو عدواً تقارعه وقال: داوى ثلاثته بلطف ثلاثةٍ ... فثنى بذاك رقيبه لم يشعر

أسراره بتسترٍ وأواره ... بتصبرٍ وخباله بتوقر وقال: يا معرضاً عني ولم أجن ما ... يوجب إعراضاً ولا هجرا قد طال ليل الصد فاجعل لنا ... بالوصل في آخره فجرا وقال: أكثرت هجري غير أنك ربما ... عطفتك أحياناً علي أمور فكأنما زمن التهاجر بيننا ... ليلٌ وساعات الوصال بدور وقال في غلام اسمه سيف: سميت سيفاً وفي عينيك سيفان ... هذا لقتلي مسلولٌ وهذان أما كفت فتكةٌ بالسيف واحدةٌ ... حتى أتيح من العينين ثنتان أسرته وثناني غنج مقلته ... أسيره فكلانا آسرٌ عاني يا سيف أمسك بمعروفٍ أخا ثقةٍ ... لا يبتغي منك تسريحاً بإحسان وكانت له جارية تسمى جوهرة، وكان يحبها فجرى بينهما عتاب"ورأى" أن كتب إليها يسترضيها، فأجابته برقعة لم تعنونها باسمها، فقال: لم تصف لي بعد وإلا فلم ... لم أر في عنوانها جوهره درت بأني عاشقٌ لاسمها ... فلم ترد للغيظ أن تذكره

قالت إذا أبصره ثابتاً ... قبله والله لا أبصر وقال في هذه الجارية: سرورنا بعدكم ناقص ... والعيش لا صافٍ ولا خالص والسعد إن طالعنا نجمه ... وغبت فهو الآفل الناكص سموك بالجوهر مظلومةٌ ... مثلك لا يدركه غائص وقال فيها أيضاً: جوهر قد عذبني ... منك تماري الغضب فزفرتي في صعدٍ ... وعبرتي في صبب يا كوكب الحسن الذي ... أزرى بزهر الشهب مسكنك القلب فلا ... ترضي له بالوصب وأحسن ما سمعته في سكن المحبوب القلب قول أبي نصر ابن النحاس الحلبي: ملكت قلبي مسترقاً له ... وكان حراً غير مستبعد سكنت فرداً فيه حتى لقد ... خفتك تشكو وحشة المفرد قلو تنازعنا إلى حاكم ... قضى لك استحقاقه باليد وقال ابن عباد في جارية اسمها وداد: اشرب الكأس في وداد ودادك ... وتأنس بذكرها في انفرادك

قمرٌ غاب عن جفونك مرآ ... هـ وسكناه في سواد فؤادك وأنشد أبو عبد الله محمد بن بركات النحوي لنفسه في أبيات: يا عنق الأبريق من فضةٍ ... ويا قوام الغصن الرطب هبك تجافيت فأقصيتني ... تقدر أن تخرج من قلبي وقال ابن عباد: لحاظك طول الدهر حربٌ لمهجتي ... ألا رحمةٌ تثنيك يوماً إلى سلمي وقال: لج الفؤاد فما عسى أن أصنعا ... ولقد نصحت فلم أرد أن اسمعا أسفي أود ولا أود وأغتذي ... وأروح أحفظ عهد من قد ضيعا ما كان ظني أن أجود بمهجتي ... حبا وأقنع بالسلام فأمنعا يا ها (جرين) قد اشتفيتم فارتقوا ... وهبوا لعثرة عاشقٍ لكم لعا ردوا بردكم السلام حشاشةً ... لم تبق لولا أن فيكم مطمعا وقال من أبيات: قلت متى ترحمني ... قال ولا طول الأبد قلت فقد أيأستني ... من الحياة قال: قد

ذكرت بهذه القافية ما أنشده أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: قالت سليمى ليت لي بعلاً بمن ... يغسل جلدي وينسيني الحزن وحاجةٌ ما أن لها عندي ثمن ... مستورةٌ قضاؤها منه وهن قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيراً معدماً قالت: وإن ولأبي إسحاق الصابي في قاضي ايذج: يا رب علجٍ أملج ... مثل البعير أهوج ذي فيشةٍ عظيمةٍ ... إن دخلت لم تخرج رأيته مطلعاً ... من خلف باب مرتج وتحته دنيةٌ ... تذهب طوراً وتجي فقلت: قاضي ايذج؟ ... فقال: قاضي ايذج ولابن الهبارية في أبي الفتح بن الخشاب: أبا الفتح أبا الفتح ... تعلمت من القوم وأعرضت فعرضت ... حمى عرضك للوم من اليوم تغيرت ... علينا ومن اليوم وقال ابن عباد: حكمه في مهجتي حسنه ... فظل لا يعدل في حكمه

أفديه لا ينفك لي ظالماً ... يا رب لا يجز على ظلمه وقال من أبيات: بكينا دماً حتى كأن عيوننا ... لجري الدموع الحمر منها جراحات ومن هذا الباب قول الآخر: بكيت دماً حتى لقد قال قائلٌ ... أهذا الفتى من جفن عينيه يرعف ومن أوصافه وملحه: ورب ساقٍ مهفهفٍ غنج ... قام ليسقي فجاء بالعجب أبدى لنا من لطيف حكمته ... في جامد الماء ذائب الذهب وقد أكثر الشعراء في وصفها بذوب الجامد، ووصف كأسها بجامد الذائب، فمن قوله: لاح وفاحت روائح الند ... مهتصر الخصر أهيف القد وكم (سقاني والليل معتكرٌ ... في جامد الماء ذائب الورد) وقال بعض الشعراء يمدح رجلاً يطعن الناس في نسبه: سألت عن أصلك فيما جنى ... أبنا سبعين وقد نيفوا فكلهم يخبرني أنه ... مهذبٌ جوهره يعرف "فأمر به الممدوح". وقال أعرابي يصف ليلة: "خرجنا في ليلة حندس قد ألقت على الأرض أركاعها، فمحت صور الأبدان، فما كدنا نتعارف إلا

بالآذان. فألم ببعض هذا أحمد بن دراج"، فأحسن في قوله: فأدبر الليل مشمطاً ذوائبه ... وأقبل الصبح موشياً أركاعه فجعل ذوائب الليل شمطة من ممازجة الصبح، وجعل أركاع الصبح موشية الصبح من مقاديمه، وهي المتصلة بآخر الليل، وأصاب في الإشارة إلى التشبيه، لأنه أومأ إلى الصبح، إنه كالثور الوحشي وهو أبيض، والثيران الوحشية كلها بيض، وأركاعها موشية خاصة، وهذا لا يحسنه غير ابن دراج. ومن المعاني التي أخذها بعض الشعراء فمنهم من زاد على صاحبه، ومنهم من قصر عنه. قال الأفوه الأودي وهو أول من نطق بهذا المعنى: وترى الطير على آثارنا ... رأي عينٍ ثقةً أن ستمار فأخذه النابغة الذبياني فقال: جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب إذا ما غزا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب لهن عليهم عادةٌ قد عرفنها ... إذا عرض الخطي فوق الكتائب

فأخذه أبو نواس الحكمي فقال: تتأبى الطير غدوته ... ثقةً بالشبع من جزره فأخذه مسلم بن الوليد فقال: قد عود الطير عاداتٍ وثقن بها ... فهن يتبعنه في كل مرتحل فأخذه أبو تمام حبيب فقال: وقد ظللت عقبان أعلامه ضحىً ... بعقبان طيرٍ في الدماء نواهل أقامت مع الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل فكلهم قصر عن النابغة لأنه زاد في المعنى وأحسن التركيب ودل على أن الطير إنما أكلت أعداء الممدوح، وكلامهم كلهم مشترك يحتمل ضد ما نواه الشاعر، وإن كان أبو تمام قد زاد في المعنى على أن الطير إذا شبعت ما تسأل أي القبيلين الغالب، وقد أحسن أبو الطيب المتنبي في قوله: له عسكرا خيلٍ وطيرٍ إذا رمى ... بها عسكراً لم يبق إلا جماجمه ويتوجه عليه أن هذا الطير لأي معنى عافت الجماجم دون عظام السوق والأذرع والعصائص والفقرات، وقال أبو عامر: وتدري سباع الطير أن كماته ... إذا لقيت صيد الكماة سباع

قال أبو تمام: تطير جياعاً فوقه فيردها ... ظباه إلى الأوكار وهي شباع وقد أخذ هذا المعنى مروان بن أبي الجنوب، فقال يمدح المعتصم: لا يشبع الطير إلا في وقائعه ... فأينما سار سارت خلفه زمرا عوارفاً أنه في كل معتركٍ ... لا يعمل السيف حتى يكثر الجزرا فأخذه بكر بن النطاح، فقال: وترى السباع من الجوار ... ح حول عسكرنا جوانح ثقةً بأنا لا نزا ... ل نمير ساغبها الذبائح فأخذه ابن جهور، فقال: ترى جوارح طير الجو فوقهم ... بين الأسنة والرايات تختنق فأخذه آخر فقال: ولست ترى الطير الحوائم وقعاً ... من الأرض إلا حيث كانت وقائعه

ومنه قول الكميت بن معروف: وقد سترت أسنته المواضي ... حدي الجو والخم السغاب ومنه قول ابن قيس الرقيات: والطير إن سارت فوق موكبه ... عوارفاً أنه يسطو فيقريها فأخذه عباس بن الخياط، فقال: يا مطعم الطير لحوم العدى ... فكلها تثني على بأسه ومنه قول حميد بن ثور الهلالي في وصف ذئب: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع إذا ما غدا يوماً رأيت غيايةً ... من الطير ينظرن الذي هو صانع وقال أبو نصر عبد العزيز بن تباتة:

إذا حومت فوق الرماح نسوره ... أطار إليها الضرب ما تتقرب وقال: إذا رفعت فوق الجموع عقابه ... تباشر عقبانٌ بها ونسور حواجل أو ربدج الظهور قشاعمٌ ... قوانصها للدارعين قبور وقال: إذا يئست عقبانها من حصيلةٍ ... رفعت إليها الدارعين على القنا وقال ابن اللبانة: تهوى قناك الطير فهي وراءها ... تهوي لتبصر حين يطعن تطعم وأبدع من هذا قول المتنبي: يطمع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تقع قال ابن شهيد من اعتمد معنى قد سبقه إليه غيره، فأحسن تركيبه، وأرق حاشيته، فليضرب عنه جملة، فأن لم يكن بد، ففي غير العروض التي تقدم إليها ذلك المحسن، ألا ترى امرأ القيس لما قال: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال وأخذ ابن ربيعة هذا المعنى فأساء وما أحسن:

وقال أبو عامر بن شهيد

ونفضت عني النوم، أقبلت مشية ال ... حباب وركني خشية القوم أزور ولو جاء في هذا العروض لملح، ألا ترى إلى قول الآخر: لما تسامى النجم في أفقه ... ولاحت الجوزاء والمرزم أقبلت والوطء خفي كما ... ينساب من مكمنه الأرقم وقال أبو عامر بن شهيد: ولما تملأ من سكره ... فنام وملت عيون العسس دنوت إليه على بعده ... دنو رقيقٍ درى ما التمس أدب إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سمو النفس وبت به ليلتي ناعماً ... إلى أن تبسم ثغر الغلس أقبل منه بياض الطلى ... وأرشف منه سواد اللعسر وقال: ومن تحت حضني أبيض ذو شقائقٍ ... وفي الكف من عسالة الخط أسمر هما صاحباي من لدن كنت يافعا ... مقيلان من جد الفتى حين يعير فذا جدولٌ في الغمد تسقي به المنى ... وذا غصنٌ في الكف يجنى ويثمر وقال أبو الطيب:

وأترك الغيث في غمدي وأنتجع وقال: ترك الحوادث معلماً عن ثأره ... فجرت دماء الخطب في مأثوره ورأى الزمان يحيد عن تأميره ... فسقي سهام المجد من تامور وله أول خطبة نكاحية: "الحمد لله الذي أمن من الحيرة، وجعل الحلال جادعاً أنف الغيرة". وقال أبو الفضل بن العميد من كتاب إلى من زوج أمه: "الحمد لله الذي كشف عنا ستر الحيرة، وهدانا لستر العورة، وجدع بما شرع من الحلال أنف الغيرة ومنع من عضل الأمهات كما منع من وأد البنات". وفي كل شيء استحسنوا اللطف وحنوا إلى الصغر، إلا في السرة والضرة، الخطوط خلفاء الألسنة، وخطباء العقول، والمداد ماء القريحة، والطرس ستر الصناعة وعرض العمل. وقال في حمام من أبيات: انعم أبا عامر بلذته ... واعجب لأمرين فيه قد جمعا نيرانه من زنادكم قدحت ... وماؤه من بنانكم نبعا وقال يهنئ بعيد وافق فصح النصارى:

جمعت بطاعة حبك الأضداد ... فتآلف الأفصاح والأعياد وحلا زمانك وجهه متطلعاً ... فكأنه بعد الممات معاد قد يرى الشعر فضي البشرة وهو رصاصي المكسر. وقال: إن الكريم إذا نالته مخمصةٌ ... أبدى إلى الناس شبعاً وهو غرثان يحني الضلوع على مثل اللظى حرقاً ... فالوجه غمرٌ بماء البشر ملآن وقال: أحن للبرق من تلقاء أرضهم ... ولي فؤادٌ إلى الآلاف حنان محله النضر فيهم أينما قطنوا ... ومنزل الروح فيهم حيثما كانوا وقال في وصف الفرس: وكأنني لما انحططت به ... أرمى الفلاة بكوكب طلق وكأنني لما طلبت به ... وحش الفلاة على مطاً برق وقال من أبيات: وإني إلى ما هاج صدري وغاظني ... ليأمنني من كان عندي له سر

وأنشد لأبي عبد الله محمد بن قاضي ميلة، شاعر بني أبي الحسين، من أبيات يصف فيها مركبا للروم أوقع به المسلمون، وذكر العلج: إذا طفا أبصر الصمصام يرقبه ... أو غاص في الماء من خوف الردى شرقا وأي عيشٍ لوقوفٍ على تلفٍ ... براقب الميتتين: السيف والغرق وأنشد لأحمد بن محمد بن عبد ربه: وكأنما غاض الأسى بجفونها ... حتى أتاك بلؤلؤٍ منثور وقال ابن شهيد: وقالوا أصاب الموت نفساً كريمةً ... فقلت لنفسي هذه نفس صالح وهو من قول دريد بن الصمة: تنادوا فقالوا أردت الخيل فارساً ... فقلت أعبد الله ذلكم الردي

وقال أبو الحسن مهيار يرثي الشريف الرضي: بكر النعي فقال: أردي خيرها ... إن كان يصدق فالرضي هو الردي "ومن الناس من هو أخف من شرره، وأشبه اختلاطاً من غيره، لقد صحبت قوماً أخذوا من الثريا اجتماعها، ومن الجوزاء شعاعها وارتفاعها". وقال من قصيدة: لرممت فينا بالسماك ضحى ... وأبحت لبدك صهوة الردف ومن كلامه: "إذا شكا الصديق إلى صديقه خطب هوى دهمه، وأمر محبة فاجأه، فلا بد للمساعدة، والترك للائمة في صدر الكلف، وحميا الشغف". وقال في قصيدة في المعتلي بالله: فريق العدا من حد عزمك يفرق ... وبالدهر مما خاف بطشك أولق تيممته والنصر حولك جحفلٌ ... ونازعته والسعد دونك خندق فيا أيها الباغي (المغذ أمامه) ... هو الموت فاعلم أنه سوف يلحق

وقال ابن خفاجة

عجبت لمن يعتد دونك جنةً ... وسهمك حتفٌ والقضاء يفرق (وقال ابن خفاجة يرثي صديقاً له) : فأن أقفرت منه العيون فإنه ... تعوض منها بالقلوب بديلا ولم أر أنساً قبله عاد وحشة ... وبرداً على الأكباد عاد غليلا ومن تك أيام السرور قصيرة ... به كان ليل الحزن فيه طويلا وكتب إلى ابن دراج النحوي جواباً عن كتاب كتبه إليه، وجعل في ظهر الكتاب: ومعرض لي بالهجاء وهجره ... جاوبته عن شعره في ظهره فلئن نكن بالأمس قد لطنا به ... فاليوم أشعاري تلوط بشعره وقال في أسود وجهه في حاجة فأبطأ: قبحت من أسود غبي ... لا يفهم الوحي حين نوحي أبطأ في سعيه فحاكى ... في حالتيه غراب نوح وقال في تفضيل أخ على أخ:

تفوت نجلا أبي جعفر ... فمن متعالٍ ومن مستفل فهذا يمينٌ بها أكله ... وهذا شمالٌ بها يغتسل ومثله: قل لأبي القاسم المرجي ... قابلك الدهر بالعجائب مات لك ابنٌ وكان زيناً ... وعاش ذو الشين والمعائب حياة هذا كموت هذا ... فلست تخلو من المصائب وقال راشد بن عريف: جمع في مجلسي ندامى ... تحسدني فيهم النجوم فقال لي منهم ظريف ... مالي إذا قمت لا تقوم فقلت إن قمت كل حينٍ ... فإن حظي بكم عظيم فليس عندي إذن ندامى ... بل عندي المقعد المقيم وقال: يا حاسد الأقوام فضل يسارهم ... لا ترض رأياً لم يزل ممقوتا في المصر ألفٌ فوق رزقك رزقهم ... وبه ألوفٌ ليس تملك قوتا لو قسمت أرزاقهم بسويةٍ ... لم تعط إلا دون ما أعطيتا أحمد بن علي الفرسقي قال يهنئ ابن صمادح بقدومه من بعض سفاره:

إيابك رد الشباب القشيبا ... وأحن مسوده أن يشيبا تبين وتدنو كما تفعل الشم ... س حيناً طلوعاً وحيناً غروبا قال أبو الحسن الشاغتني الراعي: إلام أمني النفس ما اليأس دونه ... كمنخدعٍ يأوي إلى شر خادع قضى زمني أني له سن نادم ... لتقرعني منه صنوف القوارع فإن يك ذا غيظٍ فإني بنانه ... يسيل دماً من عضه المتتابع وقال محمد بن شرف: غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم رجع إلى الأبيات السابقة". وإن كان حظي من زماني ما أرى ... فيا شؤم ميلادي ويا شؤم طالعي ووا أسفي من شوط عمر قطعته ... وسرت عليه مزعجاً غير وادع ألا رب ليلٍ بت ألبس جنحه ... على ظهر عزمٍ للمفاوز قاطع ولم أك مثل الطيف إن رام وجهةً ... مضى آخذاً إذن العيون الهواجع وهيهات إدراك المنى ووسائلي ... من الأدب المجفو فيها موانعي قال ابن المعلى البرياني من قصيدة:

أمعتنق الصعيد وكان يغدو ... عليه وهو معتقل الصعاد أرى لبس الحداد عليك مما ... يشق على المهندة الحداد وقال أبو محمد عبد الله بن هند: لما رأيت سهام لحظك أقصدت ... قلبي وسخطك سد باب رضاك لم أدر أي معذبيك يميتني ... أسقيم جفنك أم صحيح جفاك قال أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري:

كم من أخٍ قد كان عندي شهده ... حتى بلوت المر من أخلاقه كالملح يحسب سكراً في لونه ... ومجسه ويحول عند ذواقه وقال في غلام اسمه هارون: يا غزالاً فتن ... الناس فتونا أنت هاروت ولكن ... صحفوا تاءك نونا وقال يرثي المعتضد عباد أبا المعتمد محمداً: مات عبادٌ ولكن ... بقي الفرع الكريم فكأن الميت حيٌ ... غير أن الضاد ميم وقال: وشاعر من شعراء الزمان ... يفخر عندي بالمعاني الحسان وإنما أطيب أشعاره ... يضف خراسان أو القيروان وقال أبو الحسن عبد الكريم بن فضال الحلواني:

ولما تدانو لرحيل وقربت ... عتاق المطايا والركاب تسير وضعت على قلبي يدي مبادراً ... فقالوا محبٌ للعناق يشير فقلت: ومن لي بالعناق وإنما ... تداركت قلبي حين كاد يطير وقال: قالوا غدا رمضان فاستعد تقىً ... وبت على الصوم والهجران للكاس إن الهلال يرى حتماً فقلت لهم ... حتمتم بشتاتٍ بين جلاس فقال لي الغيم لا تحفل بقولهم ... علي سترته فاشرب بلا باس فقمت أعثر في ذيل المجون إلى ... جمع المسرة بين الكاس والطاس وقال: ويختال بك الطرف ... كما يختال نشوان تراه وهو لا يدري ... درى أنك سلطان وقال: إذا كنت تهوى حده وهو روضةٌ ... به الورد غضٌ والأقاحي مفلج فزد كلفاً فيه وفرط صبابةٍ ... فقد زيد فيه من عذارٍ بنفسج وقال أبو علي كاتب مؤنس: تقوس بعد طول العمر ظهري ... وداستني الليالي أي دوس

فأمشي والعصا تمشي أمامي ... كأن قوامها وترٌ لقوسي تم كتاب المختار من شعر شعراء أهل الأندلس. تأليف الإمام الأديب أبي القاسم علي بن منجب الكاتب. على يد مالكه العبد الفقير الأزهري عبد الله بن عبد الرحمن الدنوشري، غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه، آمين.

§1/1